شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [1]
التوحيد هو الأمر المطلوب من جميع الخلق، وهو أساس دعوة الرسل، فما من رسول إلا ودعا قومه إلى عبادة الله جل وعلا، ابتداء بنوح عليه السلام وانتهاء بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من أجابهم إلى ذلك ومنهم من أشرك في عبادة الله وتوحيده، وقد توعد الله كل من هذه حاله بالخلود في النار والعياذ بالله.(1/1)
موضوع كتاب التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
أما بعد: فيقول الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في شرح كتاب التوحيد: [وأما كتابه المذكور فموضوعه في بيان ما بعث الله به رسله من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه، وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى، فوضع عليه شرحاً أجاد فيه وأفاد، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد، وسماه "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد"، وحيث أطلق شيخ الإسلام فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، والحافظ فالمراد به أحمد بن حجر العسقلاني].
قال الشارح رحمه الله: [ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع، وفي بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل، ولم يكمله، فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميماً للفائدة، وسميته: "فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد"، وأسأل الله أن ينفع به كل طالب علم ومستفيد، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وموصلاً من سعى فيه إلى جنات النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم].(1/2)
الكلام على البسملة وأحكام الابتداء بها(1/3)
الهدي في ابتداء الكلام
قال الشارح رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم).
ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) أخرجه ابن حبان من طريقين، قال ابن الصلاح: والحديث حسن.
ولـ أبي داود وابن ماجة: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع)، ولـ أحمد: (كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع)، وللدارقطني عن أبي هريرة مرفوعاً: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع)، والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة؛ لأنها من أبلغ الثناء والذكر، وللحديث المتقدم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لـ هرقل عظيم الروم، ووقع لي نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله.
وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبي إضافي، أي: بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءاً به].
إن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، فإذا امتثلوا أمره واتبعوا شرعه فإن الله يكرمهم ويثيبهم، ويعطيهم من العطاء الذي لا يتوقعونه، وفوق ما يتصورون، أما إذا عصوا وتمردوا على الله جل وعلا، فلن يفلتوا من الله ولن يعجزوه، فهم في قبضته، وكل شيء ملك له، وهو رب كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، وإليه مرجع كل أحد.
فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله جل وعلا، وقد أرسل الله جل وعلا الرسل تبين أمره وشرعه للناس، ومن ذلك ما ذكر هنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع)، ومعنى (أقطع): ناقص غير تام؛ لأنه لم يمتثل فيه أمر الله جل وعلا، فيكون منزوع البركة، ممحوقاً فيما يراد به، فالله أمر العباد أن يستعينوا باسمه تعبداً له في كل شيء، والأمر ذي البال: الأمر الذي يكون له قيمة: (كل أمر ذي بال) يعني: له وقع وقيمة عند الإنسان، ومن هذا القبيل أمر الأكل وأمر النوم ودخول المنزل وغير ذلك، وكلها شرع لنا أن نذكر الله جل وعلا في ابتداء ذلك، وهذا وإن لم يكن واجباً متعيناً على الإنسان فهو مستحب ومندوب إليه، وفيه الفضل والخير، وإذا لم يبارك للإنسان في سعيه وعمله وأكله وشربه، لم يزل في خصاب -نسأل الله العافية-، ومن ذلك ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر به ويفعله، تعليماً لأمته، وهداية لهم إلى الحق، فكان في فعله الذي هو أسوة للأمة يذكر اسم الله عند كل أمر مستحق مرغوب فيه، وإذا كان الأمر غير مرغوب فيه تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا معناه داخل في قول الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فهو يدخل في هذا المعنى؛ لأن الإنسان إذا قال عند أكله: (باسم الله)، فقد دعا ربه جل وعلا بهذا الاسم الكريم، وطلب نزول البركة وحصول المقصود والمأمول له ببركة هذا الاسم، فهو عبادة يتعبد الله جل وعلا بها، وكذلك إذا أراد دخول المنزل أو دخول المسجد أو النوم أو غير ذلك، وكذلك إذا أراد الذبح مع أن التسمية عليها واجب، فلو تركها الذابح عمداً لصارت ذبيحته ميتة، فهي محرمة لا يجوز الأكل منها؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وعلى هذا يدخل في ذلك من باب أولى كتابة كتب العلم والتأليف، فهو يقول: أفعل ذلك مستعيناً باسم الله وبالله، ذاكراً اسمه الذي به تحصل البركة، وهذا يصدق عليه كل ذكر لله جل وعلا، كقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)، أو (الحمد لله) وما أشبه ذلك، وإذا جمع بينهما فهو أفضل وأتم، وإذا اقتصر على أحدهما كفى، وقد اقتصر البخاري رحمه الله تعالى كتابه الصحيح على البسملة فقط، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الوحي، باب بدء الوحي، وهذا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يبدأ كتبه التي يرسلها إلى الملوك وغيرهم بالبسملة فقط، كما ذكر هنا أن هذا في كتابه إلى هرقل، وهرقل هو رئيس دولة الروم في ذلك الوقت، فكل رئيس للروم يسمى هرقل من الكفار، وكل رئيس للفرس من الكفار يسمى قيصر، وكل ملك للحبشة من الكفار يسمى النجاشي، وكل ملك للقبط من الكفار يسمى فرعون، فالمقصود أنه كتب صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، فهذا نص كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إليه، ولهذا يقول العلماء: ينبغي أن يقتدى برسول الله فيبدأ المرسل باسمه كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه العلم؛ وذلك لأنه في الدعوة إلى الله وكونه رسول الله، ولهذا وجب على المتشهد الذي يشهد أن لا إله إلا الله، أن يذكر اسمه العلم، "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" وكذلك في الصلاة عندما يصلي عليه.
فالمقصود أنه اقتصر على البسملة، وهنا المعلق اقتدى بذلك فاقتصر على البسملة، وإذا جاء في بعض النسخ ذكر الحمد، فيكون الابتداء الحقيقي بـ (باسم الله)؛ لأنه يبدأ بها قبل كل شيء، وأما الحمد فهو إضافي، أي: للإضافة إلى الكلام الذي يأتي بعده، وإذا جمع بينهما فهو أولى وأفضل.(1/4)
تقدير المحذوف المتعلق بالبسملة
قال الشارح رحمه الله: [والباء في (باسم الله) متعلقة بمحذوف، اختار كثير من المتأخرين: كونه فعلاً خاصاً متأخراً.
أما كونه فعلاً فلأن الأصل في العمل للأفعال.
وأما كونه خاصاً فلأن كل مبتدىء بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأً له.
وأما كونه متأخراً: فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود؛ ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى.
وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله.
ومنها: أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة، فكان الحذف أعم.
انتهى ملخصاً].
الكلام على كونه متعلقاً بمحذوف أو بفعل أو بمعنى الفعل، هذا لأنه في اللغة العربية لا يجوز إلا كذلك؛ لأن الجار والمجرور قبله لا بد أن يكون له عامل يعمل به، وسواء قدر فعلاً كما قدره الكوفيون، أو قدر اسماً كما قدره البصريون، فكله صحيح، وإذا قدر فعلاً فمعناه: بسم الله أؤلف، أو باسم الله آكل، أو باسم الله أدخل، أو باسم الله أنام، وما أشبه ذلك، ودل على هذا قول الله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فجعل الجار والمجرور متعلقاً بفعل، وقدم هنا لأن المقام يقتضيه، أما تأخيره فيما ذكر فلأنه ينبغي أن يكون أول ما يطرق اللسان ويواطئ اللسان عليه القلب ذكر الله تعالى فكان أنسب، وأما تقديره اسماً بمعنى الفعل فقد جاء في قول الله جل وعلا: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود:41]، فـ (مجرى): مصدر، ويأتي بمعنى الفعل، فيصح هذا وهذا، والمقصود أن هذا معروف في لغة العرب، وأنه سواء قدر فعلاً أو اسماً فكلاهما صحيح.(1/5)
دلالة حرف الجر في (باسم الله)
قال الشارح رحمه الله: [وباء (باسم الله) للمصاحبة، وقيل: للاستعانة، فيكون التقدير: باسم الله أؤلف حال كوني مستعيناً بذكره متبركاً به، وأما ظهوره في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وفي {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود:41]؛ فلأن المقام يقتضي ذلك كما لا يخفى، والاسم مشتق من السمو: وهو العلو، وقيل: من الوسم، وهو العلامة؛ لأن كل ما سمي فقد نوه باسمه ووسم].
من دلالات اللغة العربية: أن الاسم هل هو مشتق من السمو وهو الرفعة، أو مشتق من السمة وهي العلامة والوسم الذي يوسم عليه؟ وكلاهما جاءت به الأدلة من اللغة العربية، جاء ما يدل على هذا وهذا، وقد يقال: هما قولان، ويكون كلا القولين تدل عليه الأدلة التي جاءت فيكونان بمعنىً واحد.(1/6)
معنى لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه
قال الشارح رحمه الله: [قوله (الله) قال الكسائي والفراء: أصله (الإله)، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاماً واحدة مشددة مفخمة.
قال ابن القيم رحمه الله: الصحيح أنه مشتق، وأن أصله (الإله)، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى].
الاشتقاق هنا ليس معناه أن له مادة متقدمة عليه اشتق منها، كما توهمه بعضهم، وإنما معناه أنه يلاقي المعنى الذي دل عليه، ويكون معناه مثلما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) ذو الألوهية يعني: الذي تألهه القلوب وتعبده وتحبه، وبين سيبويه أن هذا أصله، فأصله (إله)، وأنه مثل الناس، فأصلهم أناس، فأدخلت (أل) على (إله) ثم أدغمت، فأدغمت اللام في اللام ثم فخم فصار (الله)، وهو علم على الذات الإلهية الكريمة المقدسة، تجري عليه جميع الأسماء، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم، لأنه في جميع الموارد موارد الأسماء يأتي متبوعاً لا تابعاً، وقد جاء في موضع من القرآن تابعاً، ولكن الغالب الكثير أنه يأتي متبوعاً، كقوله جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:22 - 23]، فصارت كلها تتبع هذا الاسم (الله)، لهذا قالوا: إنه هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، وإذا استغيث به أغاث، ولكن هذا في الواقع حسب ما يقوم في قلب الإنسان من العبودية والإخلاص والتذلل لله جل وعلا، أما إذا دعا الإنسان وقلبه ساهٍ أو غافل أو معرض، أو هو متلبس بالمعاصي فهذه من موانع الإجابة، وإن سأل بالاسم الأعظم.
والمقصود أن أسماء الله جل وعلا أسماء وأوصاف، فهذا معنى الاشتقاق، أنها تكون أسماءً أعلاماً عليه، ولكن في معناها الصفات، والأصل أنها مشتقة من الصفات، والصفات هي الأصل، كما قال سيبويه هنا وجماعة من كبار أهل اللغة كـ الخليل بن أحمد: إن أصله (إله) أو (الإله).
وهذا يكون مثلما قالوا في قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] يكون أصلها: (لكن أنا هو الله ربي)، فلما حصل الإدغام -إدغام الحرف في الحرف- صار: (لكنَّا هو الله ربي)، وكما مثلنا في قول سيبويه: إن (الناس) أصله (أناس)، فلما جاءت (أل) التقى ساكنان فحذفت الهمزة وأدغم واحد في الآخر فصار (الناس)، فكذلك (الله)، فهو مأخوذ من (الإله) الذي يؤله، وتألهه القلوب وتحبه وتئوب إليه رغبة ورهبة وخوفاً ورجاءً.
قال الشارح رحمه الله: [والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله.
وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً، ليس معناه: أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة].
يعني أن المصدر يتضمن ما اشتق منه وزيادة، بخلاف الفعل فإنه لا يتضمن ذلك، وهذا سبب الذي جعلوه مشتقاً، وهذا من مباحث النحو.
قال الشارح رحمه الله: [قال أبو جعفر بن جرير: (الله) أصله (الإله)، أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة، وأما تأويل (الله) فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (هو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق)، وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين)].
معنى قول ابن عباس هذا: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) أنه المستحق أن يؤله ويعبد من جميع الخلق، يعني أن هذا أمر واجب عليهم حتم، فإن تركوه عذبوا؛ لأنهم تركوا الألوهية التي تجب عليهم له أن يعبدوه ويتألهوه، والتأله هو محبة القلب، أن يحبه حب عبادة، يقال: أله يألهه، أي: أنه أحبه حباً يتضمن الذل والتعظيم، هذا هو التأله، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون لمخلوق من الخلق، فإن وقع لمخلوق فقد وقع الشرك؛ لأن هذا خالص حق الله جل وعلا، أما العبودية فهي بمعنى الإلهية، ولا يوجد بينهما فرق، فالعبودية والألهية شيء واحد مثل التأله والتعبد لا فرق بينهما.
قال الشارح رحمه الله: [فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلاً في فعِل ويفْعَل قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم، وذكر بيت رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي، ولا شك أن التأله التفعل، من (أله يأله)، وأن معنى أله -إذا نطق به- عبَدَ الله].
ومجرد النطق لا يكفي، وإنما عول عليه هذا الشيء لهذا المعنى، أي: للعبادة.
قال الشارح رحمه الله: [وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بـ (فعِل يفعَل)، بغير زيادة، وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع وساق السند إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، قال: عبادتك ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبد].
هذه قراءة شاذة (ويذرك وإلهتك) يعني: عبادتك التي تعبد؛ لأنه قد كان يُعبد فرعون، أي أن: موسى يذرك وعبادتك التي جعلتها على قومه، فإنه قال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فهو كان يُعبد.
أما القراءة المعروفة السبعية فهي: (ويذرك وآلهتْك)، أي: التي تعبدها، فعلى هذه يكون فرعون له آلهة يعبدها غير الله جل وعلا، أما القراءة الأولى فيكون هو المألوه الذي يؤله، والمقصود أن هذا جاء على أن العرب قد نطقوا به، والقراءة الشاذة تكون دليلاً وإن لم تجز القراءة بها ولا تثبت قراءة في الصلاة، فلا يجوز القراءة بها ولا تكون من القرآن حتى تتواتر وتتفق مع رسم المصحف وتشهد لها اللغة العربية، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة: أن يثبت التواتر، وتتفق مع رسم المصحف العثماني، وتكون صحيحة المعنى في اللغة العربية، وإذا تخلف واحد من هذه الشروط الثلاثة لا يجوز أن تثبت قراءة، ولكن يستدل بها وتكون دليلاً كأخبار الآحاد التي يرويها فرد عن فرد من الناس.
[وذكر مثله عن مجاهد ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا أن أله: (عَبَد)، وأن الإلهة مصدره، وساق حديثاً عن أبى سعيد مرفوعاً أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب (باسم الله) فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة].
هذا حديث لا يثبت فهو ضعيف، فلا يصلح أن يكون حجة، وعيسى نبي كريم علمه الله جل وعلا وهو صبي كما جاء نص القرآن بذلك، ثم جاءت به أمه تحمله إلى قومها وهو رضيع صبي: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:27 - 29]، يعني: قالت: كلموه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، فأقبل عليهم وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] أي: من ذلك الوقت، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31]، فأول ما نطق به قوله: (إني عبد الله) يعني: أعبده، وهذا رد له لما فعلوه ولما سيكون بعد؛ لأنهم قالوا: إنه الله أو إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة، تعالى الله وتقدس عن قولهم، والمقصود أن هذا الحديث لا يثبت ولا يصلح أن يكون دليلاً.(1/7)
خصائص اسم الله المعنوية
قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ساقها ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء، وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر فله ومنه.
فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنياً، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريدٍ إلا آواه.
فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سَعِد من عرفه وقام بحقه، وبه شقي من جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا.
فالخلق به وإليه ولأجله، فما وجد خلق ولا أمر، ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئاً منه ومنتهياً إليه، وذلك موجبه ومقتضاه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى].
ذكر هنا: المعاني التي دل عليها هذا الاسم، ومن المعلوم أن البحث في أسماء الله وطلب معانيها من أعظم ما ينبغي أن يعتني به الإنسان، وهو الفقه الأكبر في الواقع، ليس قريباً من فقه الأحكام وأفعال المكلفين، بل هو أعظم من ذلك بكثير، والناس يتفاوتون عند الله جل وعلا بالدرجات بفقههم، ويتميزون بمعرفتهم لأسماء الله وأوصافه وعبادة الله جل وعلا وطاعته، وهذا الاسم -الذي هو الله- دل على العبادة، والعبادة خلق من أجلها الناس، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأرسلت بها الرسل، كما ذكر الله جل وعلا في القرآن أن كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، قال ذلك نوح، وقاله هود، وقاله صالح، وقاله إبراهيم عليه السلام، وقاله لوط، وقاله شعيب، وقاله موسى وعيسى، وقاله أيضاً خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، وهذا معنى كلام ابن القيم، يعني أنه دل على هذه العبادة -عبادة الله جل وعلا- الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، والعبادة وعدمها خلقت لأجلها الجنة والنار، وكذلك شرع الجهاد، جهاد الكفار، حتى تعلو كلمة الله، فهذا معنى هذا الاسم، حتى يكون عالياً على الأديان، وحتى ترفع درجات من يقاتل في سبيل الله ويقتل من أجل ذلك، وحتى يهلك من هلك، وعلى ذلك يكون الحساب يوم القيامة، وعليه يبعث الناس، وعنه يسأل المقبور في القبر، فإذا وضع في قبره أتاه ملكان يسألانه، أول ما يقولان له: من كنت تعبد؟ من ربك؟ ومعنى (من ربك) هنا: من المعبود من الذي تعبده؟ فإن أجاب وثبت عن اقتناع وإلا عذب في قبره، وكذلك الله جل وعلا أخبر عنه خلق السماوات والأرض بالحق، والحق الذي أخبر أنه هو كون العبادة له وحده، والملك له وحده، والسلطان له، وهو الذي يتصرف في كل شيء، وكل هذا تابع لكونه الإله جل وعلا، كما سيأتي أن أنواع التوحيد متلازمة، يلزم من الإتيان بواحد منها الإتيان بالبقية، فهذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله.(1/8)
اسما (الرحمن الرحيم) وما لهما من خصائص
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين.
وساق بسنده عن أبى سعيد -يعني: الخدري - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم: رحيم الآخرة)].
هذا هو الحديث السابق وقلنا: إنه ضعيف، بل قالوا: إنه موضوع، فهذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً، فقول ابن جرير رحمه الله فيما رواه: (الرحمن بجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين).
هذا روي عن بعض السلف، فيكون الفرق بينهما أن الرحيم أخص، والرحمن أعم، فالرحمن رحمة واسعة تعم الخلق كلهم، والرحيم يكون خاصاً ويختص بالمؤمنين، ولهذا جاء أنه كان بالمؤمنين رحيماً، وما جاء أنه بالمؤمنين رحمن، ولكن يشكل على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65]، فالناس لفظ مطلق يعم جميع الخلق كافرهم ومؤمنهم، فيكون هذا مخالفاً لما سبق، والصواب في هذا أن (الرحمن والرحيم) كلاهما اسمان ووصفان لله جل وعلا، ولكن الرحمن أكثر معنىً للمبالغة ولزيادة البناء؛ فإن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى في اللغة العربية، و (الرحمن) يدل على تعلق الصفة بالرب جل وعلا، و (الرحيم) يدل على قيام الصفة للمرحوم، فـ (الرحمن) يدل على وصفه القائم بذاته جل وعلا، و (الرحيم) يدل على وصفه الذي يفعله، فهذا هو الفرق بينهما الذي لا يشكل عليه ما ذكر، وقد قال بهذا طوائف من العلماء، هذا والله أعلم بالصواب في ذلك؛ لأنه إذا قيل: إنهما اسمان رقيقان كما جاء عن ابن عباس، وجعل لكل واحد معنى الآخر يكون في ذلك تكرار، وليس في كلام الله وفي أسمائه تكرار جل وعلا، بل لكل واحد منهما معنى يخصه.(1/9)
استحباب أن يدعى الله بالأسماء الدالة على المعاني المطلوبة
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: واسمه (الله) تعالى دل على كونه مألوهاً معبوداً يألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً، ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنتين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله.
فصفات الجلال والجمال أخص باسم (الله)، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم (الرب).
وصفات الإحسان، والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم (الرحمن)].
هذه من معاني أسماء الله جل وعلا، فالتأله والعبادة والدوام على ذلك تختص باسم (الله) جل وعلا؛ لأنه مأخوذ من (الإله)، والملك والتصرف والعذاب والانتقام والرزق والإحياء والإماتة وجميع الأفعال تختص باسم (الرب) جل وعلا؛ لأن معنى الرب: المالك والمتصرف، والعطاء والإحسان والعفو عن الإساءة ونحو ذلك من الكرم والجود أخص به اسم (الرحمن) و (الرحيم)، فأسماء الله جل وعلا كل اسم له معانٍ تخصه، ويجب أن يدعى الله به، وإذا طلبت منه تلك المعاني يدعى الله بهذا الاسم الدال عليها، ولا ينبغي أن يدعى بشيء لا يناسب المعنى، فإذا طلب التوبة قال: يا تواب، وإذا طلب الرزق يقول: يا رزاق! وإذا طلب المغفرة يا غفور! وهكذا، وهذا من معنى قوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وأسماء الله جل وعلا كلها حسنى، ومعنى كونها حسنى أنها قد بلغت غاية الحسن، أي أنها كاملة لا يتطرق إليها نقص ولا عيب في المعاني، بخلاف أسماء المخلوقين فإنها وضعت أعلاماً تميز واحداً عن الثاني فقط، وليس لها من المعاني شيء، ولهذا ضل من قال: إن أسماء الله أعلام عليه، ولم يعرف الله جل وعلا حق المعرفة التي تجب عليه.
قال الشارح رحمه الله: [وقال - ابن القيم رحمه الله- أيضاً: الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم.
وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117]، ولم يجيء قط رحمان بهم].
وقد جاء في الحديث: (رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما)، وهذا يناقض ذلك، وكلاهما يدل على صفة تقوم بالله جل وعلا، ولكن هذا يدل على صفة الذات، وهذا يدل على صفة الفعل والعلم لله جل وعلا.(1/10)
أسماء الله هي أسماء ونعوت دالة على صفات الكمال
[إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت؛ فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعاً لاسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، انتهى ملخصاً].
يعني أنه ورد اسم الرحمن وجاء مستقلاً متبوعاً علماً، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأيضاً جاء تابعاً كما في آية سورة الحشر، بل قد جاء اسم (الله) في قراءة تابعاً، في قوله: {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي} [إبراهيم:1 - 2]، فيكون على هذه القراءة تابعا، أما على قراءة الرفع فلا يكون تابعاً، وإنما يكون مستقلاً، ولا يكون في هذا إشكال.(1/11)
الحديث عن الحمد والثناء(1/12)
الحمد والشكر والعلاقة بينهما
قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: (الحمد لله).
معناه: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم، فمورده اللسان والقلب.
والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقاً وأخص منه سبباً؛ لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سبباً وأخص متعلقاً؛ لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة].
معنى ذلك أن الشكر يكون متعلقه عاماً، ولكن سببه خاص؛ لأنه يكون مقابلاً للنعمة فقط، و (متعلقه) يعني أنه يتعلق باللسان وبالجوارح، فيتعلق باللسان بالقول والثناء، ويتعلق بالجوارح بالعمل، كما قال الله جل وعلا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فجعل العمل شكراً، فيكون الذي يصدر منه الشكر أعم، أما سببه الباعث عليه فيكون أخص من الحمد، والحمد يكون أعم سبباً، فسببه عام ومتعلقه أيضاً أخص، وذلك أن الله جل وعلا يحمد على كل شيء، فيحمد على جميع أفعاله، ويحمد على خلقه، ويحمد على جزائه، ويحمد على فعله، ولهذا أخبر جل وعلا أن له الحمد في المبدأ وفي المنتهى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، هذا في المبدأ، أما المنتهى فإنه جل وعلا لما ذكر جزاءه للكفار والأنبياء وحكمه بين الأنبياء والشهداء والمؤمنين والكفار، وأنه أدخلهم النار وأدخل المؤمنين الجنة فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71]، إلى آخر الآيات، ذكر في خاتمة ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، فقوله: (وقيل) يدل على العموم المطلق، فجميع الخلق قالوا هذا القول، حتى أهل النار حمدوه على قضائه بينهم؛ لأنهم لا يستحقون إلا ذلك، ولا يليق بهم إلا ذلك، فهو يحمد على جميع ما يفعله، يحمد على فعله سواء أكان قضاء، أم كان عقاباً، أم كان إثابة وجزاء، أم كان خلقاً وإيجاداً، أم كان حكماً، أم كان شرعاً أم غير ذلك يحمد عليه، فهذا معنى قوله: إنه أعم سبباً، فأسبابه عامة؛ لأن كل ما يصدر من الله جل وعلا يحمد عليه.(1/13)
الحمد والمدح والعلاقة بينهما
يبقى الفرق بين الحمد وبين المدح، فالمدح يكون في ذكر الصفة التي يستحق عليها الثناء، ولكن لا يلزم أن يكون الحب والتعظيم في المدح، أما الحمد فلا بد أن يكون فيه ذلك، محبة مع تعظيم، ولهذا جاء في الأثر حديث: (أعوذ بك من أن يكون لفاجر علي منة فيوده قلبي)؛ لأن المنة يحمد عليها، والحمد يكون إذا ذكر الوصف الذي هو فعل الجميل الاختياري فإنه يتضمن الحب والتعظيم، ثم الحمد يكون على الفعل الذي يفعله مختاراً، أما المدح فيكون على ذلك وعلى غيره، أي: على الشيء الذي لا دخل له فيه وهو من فعل غيره.(1/14)
أحكام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم] قال الشارح رحمه الله: [أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى عن أبى العالية قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة.
وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره في كتابيه (جلاء الأفهام) و (بدائع الفوائد)].
الثناء قد قيل: إنه صلاة الله، أما صلاة الخلق فمعلوم أنها الدعاء، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم، فالصلاة من الخلق الدعاء، أن يدعى الله جل وعلا لهم بالخير والمغفرة أو الهداية، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه آت بزكاته صلى عليه، قال عبد الله بن أبي أوفى جاء أبي بالزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، فقوله: (اللهم صل) دخل فيه أمر الله جل وعلا بأن يصلي عليهم، وبأن يسأل الله له أن يصلي عليه، فالمقصود: أنها من العبد السؤال والدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يصلي على آل أبي أوفى، وكذلك صلاته على الميت تسأل الله أن يغفر له، وكذلك غيره من الخلق.
وكذلك من الملائكة، فهم قد أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخر الدعاء الذي جاء عنهم، وغير ذلك.
وأما الصلاة من الله فلا يجوز أن نقول فيها: الصلاة من الله الدعاء فالله لا يدعو لأحد، فقال قوم: الصلاة من الله الرحمة، ولكن الله جل وعلا فرق بين الصلاة والرحمة، كقوله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:156 - 157]، فجعل الرحمة غير الصلاة، مما يدل على أنها غيرها، فكان الأولى بل الصواب والأصح أن يقال: إن صلاة الله على عباده هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى، أن يثني على عبده عند الملائكة، وإذا أثنى الله جل وعلا على أحد فحسبه ذلك؛ لأنه امتثل أمر ربه وأرضى ربه، فيكون كل شيء راضياً عنه، وكل عباد الله يدعون له، ويسألون له، ويطلبون محبته وموالاته، فهذا من أفضل الأعمال وأعظم الخصائص التي يخص بها ربنا جل وعلا من يشاء من عباده، فإذا قال الإنسان: (اللهم صل على محمد) فمعناه: اذكره مثنياً عليه عند أخص خلقك الذين هم ملائكتك، وهذا يكون أخص من الرحمة، والآية -مثلما قلنا-: دلت على أن الصلاة غير الرحمة.
[قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعاً: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)].
وهذا ليس فيه إشكال؛ لأن هذا من المخلوقين، ولكن الإشكال في الصلاة من الله، هل يقال: الصلاة من الله الرحمة أم الدعاء؟ هذا محل إشكال، والصلاة هي الدعاء من جميع الخلق ملائكة، وأنبياء، ومن المؤمنين، والأصل في الصلاة الدعاء، فالصلاة الشرعية التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم وتشتمل على القراءة والركوع والسجود وغير ذلك أصلها مأخوذة من الدعاء، فهذا هو أصلها.(1/15)
المراد بالآل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وعلى آله) أي: أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله هنا].
هذا هو أرجح أقوال السلف والعلماء، أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أتباعه على دينه؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أنه قال: (ألا إن بني فلان ليسوا لي بآل) وسمى أناساً معينين من الأقرباء نسباً، فمعنى ذلك أنه لما لم يكونوا من أتباعه أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا له بآل، فكذلك جاء أن أتباعه على دينه هم آله بنص ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا ينافي كون آله هم الذين حرمت عليهم الصدقة، أو هم أزواجه، وأزواجه يدخلن في ذلك من باب أولى، ولا ينافي ذلك، ولكن هذا عند الصلاة والدعاء يكون عاماً شاملاً.(1/16)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [2]
توحيد الألوهية هو أحد نوعي التوحيد، ويعرف بتوحيد القصد والنية والإرادة، وهو الذي طلبه الله عز وجل من الإنسان، ولهذا فهو يسمى توحيد العبادة، أما النوع الثاني من التوحيد فهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا التوحيد يعرف بتوحيد المعرفة والإثبات.(2/1)
التوحيد وأقسامه
قال المصنف رحمه الله: [كتاب التوحيد.
كتاب: مصدر: (كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتْباً)، ومدار المادة على الجمع، ومنه: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتاباً لجمعه ما وضع له.
والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة].
ذكر المصادر التي أخذ منها الكتاب، وهذا من باب اللغة، والأصل هو أصل الكلمات، وأخذها أمر معلوم، قال: (كتاب التوحيد) والتوحيد معناه: أن يوحد الله جل وعلا، فيعتقد وحدانيته في كل ما يلزم له، وسمي دين الإسلام توحيداً لأن مبناه على هذا، والتوحيد أقسام ثلاثة، وإن شئت قلت: قسمان: توحيد في العلم والمعرفة، وتوحيد في القصد والإرادة فمعنى التوحيد في العلم والمعرفة: أن توحد الله جل وعلا في إثبات ما له من الصفات وأن توحده في ربوبيته، فهذا كله يدخل في المعرفة والعلم.
والقسم الثاني: توحيد القصد والنية والإرادة فهو الذي يصدر من الإنسان، وهو المطلوب الذي طلبه الله جل وعلا منه، ولهذا سمي توحيد العبادة، وسمي توحيد الإلهية، وسمي توحيد النية والقصد والإرادة؛ لأنه مبني على كون هذه الأمور خالصة لله جل وعلا.
القسم الأول قسم إلى قسمين: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الأسماء والصفات، أما توحيد الربوبية فمعناه: أن يعتقد الإنسان جازماً بأن الله واحد في ملكه، وواحد في تدبيره، لا شريك له في ذلك، وواحد في كونه يختص بالإحياء والإماتة، وكونه يملك كل شيء، وبيده كل شيء، وكونه الرازق لكل أحد، وكونه الذي يدبر أمر الكون كله، وكونه جل وعلا على كل شيء قدير.
وأما توحيد الأسماء والصفات فأن يعتقد جازماً بأن ما سمى الله جل وعلا به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم يختص به، لا يشاركه فيه أحد من خلقه، فهو بكل شيء عليم، وعلمه أزلي لم يستحدث ولا يستجد، ولم يكن له مبدأ، وهو كذلك سميع بصير: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23]، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]، الرءوف الرحيم، وكل ما سمى به نفسه يجب أن نعتقد تفرده به بالمعنى الذي يختص به جل وعلا، ونوحده في ذلك، فيكون واحداً في هذا.(2/2)
مشركو قريش وإقرارهم بتوحيد الربوبية وبعض الأسماء والصفات
وهذان القسمان -توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات- ما كان أحد من الخلق ينكرهما إلا مكابر ومعاند، بل الكفار الذين هم جاهلون وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لدعوتهم كانوا يقرون بهذا، وإذا أنكر شيء من ذلك فهو من باب المعاندة والجحود، كما أنكروا اسم الرحمن عناداً وتكبراً، كقوله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وذلك أنهم أنكروا هذا الاسم اتباعاً لآبائهم وما كانت طريقتهم عليه في كتاباتهم، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة بينه وبينهم يوم الحديبية قال للكاتب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قالوا: لا.
اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)، أما الرحمن فما نعرفه، فأنزل الله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وهذا عناد وتكبر، وإلا فقد جاء في أشعارهم -من أشعار الجاهلية- إثبات ذلك.
وكذلك توحيد الربوبية فأمره ظاهر جداً في كونهم يعرفون هذا، ويؤمنون به ويقرون به، وقد ذكر الله جل وعلا في القرآن آيات كثيرة تدل على هذا، بل جعل هذا جل وعلا دليلاً على وجوب توحيد الإلهية، وألزمهم بهذا، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، يعرفون أن الله هو الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، ولهذا قال في آخر الآية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: يعلمون أن الله هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل السماء بناء، والأرض فراشاً، وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم، يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم، يعلمون هذا تماماً ويقرون به، وأنه لا أحد يشارك الله جل وعلا في ذلك، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: لا تدعوا معه أحداً في العبادة في دعوتكم، وفي العبادة التي تصدر منكم، وفي التأله في القصد والإرادة، وفي النية، لا تجعلوا له نداً في ذلك وأنتم تعلمون أنه المتفرد بما ذكر.
وكذلك ورد في آيات كثيرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38]، يعلمون أن هذه التي يدعونها ما تملك مع الله شيئاً، ولا تنفع ولا تضر، وإنما يقولون: إننا نتوسل بها للتشفع، ويجعلونها وساطة بينهم وبين ربهم، ويقولون: تتوسط لنا فتسأل لنا ربنا، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) وهم يحجون، وكانوا يخلصون في بعض العبادات مثل الحج والصدقة، يخلصونها لله، وأحياناً الدعاء إذا وقعوا في الضر والشدائد، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، يعني: إذا ركبوا في البحر وعصفت بهم العواصف تركوا ما كانوا يعبدون واتجهوا إلى عبادة الله وحده، وإذا كانت معهم أصنام رموها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا يصلح أن ندعوها في مثل هذا المقام، ولكن إذا جاء الرخاء ونجاهم الله جل وعلا عادوا إلى شركهم اقتداء بآبائهم واتباعا لهم.
بل قد جاء أنهم يؤمنون بالحساب، ويؤمنون بالقدر أيضاً، كما قال عنترة في معلقته وهو جاهلي: يا عبل! أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها جاهلي يؤمن بالقضاء والقدر، وكذلك زهير بن أبي سلمى يقول في قصيدته المشهورة: فلا تكتمن الله ما في صدوركم فمهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب سيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم فهو يؤمن بالحساب، ويؤمن بأن الله يعلم، وبأن الله يدخر الأعمال، وهكذا جاء في أشعارهم كثيراً من هذا.(2/3)
الشرك هو الذي أحل دماء المشركين
فإذا كان الأمر هكذا فما الذي جعلهم خالدين في النار؟ وما الذي جعلهم حلال دمهم وأموالهم ونساؤهم؟ لماذا وهم يؤمنون بهذا؟ يؤمنون بأن الله هو المتفرد بالخلق، وأنه يعلم ما في الصدور، وأنه يجازي العباد على أعمالهم، وأنه هو الذي قضى الأشياء، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يتصرف في الكون وحده، ليس معه شريك.
نقول: الذي أحل دماءهم، وجعلهم في النار هو كونهم جعلوا وسائط بينهم وبين ربهم يدعونها، ويطلبون منها أن تقربهم إلى الله زلفى، كما قال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: تتخذونهم وهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، وتجعلونهم شفعاء لكم؟! {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، وكذلك في آيات كثيرة جداً، والواجب على الإنسان أن يتدبر كتاب الله، وأن يتدبر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء، وأن يعرف حكم الله في ذلك، وأن يعرف ما أوجبه الله عليه حتى يخلص من عذاب الله جل وعلا، والله خلق الخلق لهذا الأمر، خلق الجنة والنار لتكون الجنة جزاءً لمن وحد الله وآمن به واتبع أوامره واجتنب نواهيه، وخلق النار لتكون عقاباً لمن لم يفعل ذلك، واتبع هواه، وترك أمر الله وراءه ظهرياً ولم يبال به.
ثم إن الإنسان خلق عبداً فلا بد أن يكون عبداً، لا بد أن يعبد، ولا يمكن أن ينفك عن العبادة، فإن لم يعبد ربه ويتبع الطريقة التي رسمها له الرسول صلى الله عليه وسلم عبد هواه أو شهوته أو رؤساءه أو المظاهر الأخرى من مظاهر الدنيا، فلا بد أن يعبد، وقد قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] (اتخذ إلهه هواه) يعني أنه إذا هوي شيئاً فعله بدون مبالاة وبدون نظر إلى أن الله أمر به أو نهى عنه، بل يقدمه على أمر الله ولا يبالي، وكذلك أخبر الله جل وعلا أن أكثر الناس عبدوا الشيطان، فهل هم يصلون للشيطان ويسجدون له؟ كلا.
ولكنهم اتبعوه فيما سول لهم وزينه لهم، يقول جل وعلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ:20]، فإبليس ظن لما رأى آدم أن ذريته لا تطيع ربه جل وعلا، إنما يطيعه القليل منهم، فصار يجتهد في دعوتهم إلى أن يكونوا معه في جنهم، وللأسف أكثرهم اتبعه، وهو ليس له سلطان عليهم، وليس له حجةً، بل مجرد تسويل ودعوة فقط، لهذا أخبر الله جل وعلا أنه إذا حكم بينهم ووضعهم في جنهم جميعاً هم ورئيسهم ومعبودهم الشيطان يقوم الشيطان خطيباً في جهنم فيقول لما حكى الله تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] أي: ما لي عليكم حجة ولا قوة ولا برهان: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] يعني: مجرد دعوة عارية من الحجة ومن البرهان والقوة والسلطان {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا بمغني عنكم شيئاً، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] كذلك لا تغنون عني شيئاً: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] يعني: كفرت بطاعتكم وتبرأت منها، هكذا يقول لهم وبذلك تزداد حسراتهم ويزداد عذابهم، ولهذا أخبر أن المنافق مثله مثل الشيطان، فالمنافق الذي يعد الآخر وعوداً لا يفي بها ثم يتبرأ منه في آخر لحظة مثله مثل الشيطان، قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، ما يخاف الله رب العالمين، ولكن ليس بيده شيء.
فالمقصود أن الأمر واضح جلي، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمر ظاهر، ومع ذلك إذا أقر به الإنسان وآمن به لا ينفعه ولا يجزي عنه شيئاً حتى يضم إليه توحيد العبادة، وهو أن يخلص الأعمال التي تصدر منه، أن تكون أفعاله خالصة لله جل وعلا، وسمي توحيد عبادة لأنه يصدر من العبد، وسمي (إلهية) لأن مبناه على المحبة وعلى تأله القلب، وسمي توحيد عبادة لأنه مبني على التعبد لله وحده، وسمي توحيد قصد لأن مبناه على أن يكون القصد لله وحده، فيقصد ربه، وسمي كذلك توحيد إرادة لأن النية والإرادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وكل هذا يصدر من العبد، ولهذا قال في الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية: توحيد الربوبية: توحيد الله في أفعاله، أن تجعله واحداً بما يفعله هو، وكذلك تعتقد وحدانيته فيما يتصف به جل وعلا، لا شريك له في ذلك، وأما توحيد العبادة أو توحيد الإلهية فمعناه أن توحد الله بما يصدر منك أنت، فتجعله واحداً، وتجعل عملك واحداً لواحد، كما قال ابن القيم في النونية: كن واحداً لواحد في واحد أعني طريق الحق والإيمان (كن واحداً) يعني: كن عبداً لا تكن متفرقاً تعبد هذا وتعبد هذا، كن عبداً لواحد، كن واحداً جامعاً إرادتك وقصدك وعملك غير متفرق، فلا تجعل شيئاً للمال وشيئاً للدنيا وشيئاً للشيطان، (كن واحداً لواحد) لله جل وعلا فقط، هذا الذي يفيد.
(في واحد) يعني: في نهج واحد، وفي سبيل واحد الذي هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، ولا بد من ذلك وإلا كان الإنسان مبتدعاً، ومتبعاً للآراء أو لغير ذلك من الطرق التي تتوزع، فيجب أن يجمع العبد بين هذه الأنواع كلها.(2/4)
الدليل على أقسام التوحيد الثلاثة
قد يقول قائل مثلا: ما الدليل على هذا التقسيم؟ ومن أين أتى؟ هل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية، أو قاله الصحابة؟ نقول: قاله الله جل وعلا، فالله قسم هذا التقسيم، ولكن الصحابة والسلف من العلماء وغيرهم كان هذا من الأمر الظاهر الجلي عندهم، لا يحتاج إلى الكلام عليه، فهو أمر ظاهر جلي جداً، لا يجهله الصبيان والنساء والعجائز وغيرهم، يعرفونه تمام المعرفة، وإنما جهل لما فسد اللسان، واختلطت اللغة العربية باللغة الأعجمية، فصار الناس لا يعرفون ما يتكلمون به، فصاروا لا يعرفون معنى الإله، ولا يعرفون معنى العبادة، ولا يعرفون معنى (الرب)، ولا يعرفون معنى (الله)، عند ذلك احتاج العلماء إلى إيضاحه وبيانه وتفصيله، يقول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فـ (الله) تقدم لنا أنه مأخوذ من الإله، أي: التأله، والرب معناه غير معنى الله جل وعلا، فإذاً الله له معانٍ، وهو أن يؤله ويعبد، والرب له معانٍ، وهو أن يكون مالكاً متصرفاً مدبراً بيده كل شيء.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] (الحمد لله) هذا توحيد الإلهية، (رب العالمين) توحيد الربوبية، (الرحمن الرحيم) توحيد الأسماء والصفات، ثم قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، الذي يملك اليوم ويوم الدين، ويجازي ويحاسب، وينفع ويضر، ويعاقب إذا لم يفعل أمره، ويعاقب إذا عصي، ويثيب إذا أطيع هو الرب وهو المالك المتصرف (مالك يوم الدين)، وقرئ: (ملك يوم الدين)؛ لأن يوم الدين ليس فيه من يملك إلا الله جل وعلا وحده، أما في الدنيا فهناك من يدعي أنه يملك وإن كان الملك مؤقتاً، وسوف يسلم ملكه، والواقع أن الملك عارية عنده، وإلا الملك كله لله، في الأولى والآخرة، ولكن يوم الدين كل فرد يأتي كيوم ولدته أمه، لا ثياب ولا نعال، ولا مال ولا ولي، ولا ناصر ولا شافع: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، وظاهر ذلك، ولهذا قيل: (مالك يوم الدين).
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] (إياك نعبد): العبادة تصدر من العبد، وهي التأله والذل والخوف كما سيأتي، والاستعانة تكون بالذي يملك ويستطيع أن يعين؛ لأنه بيده الملك، فإذا دعي أجاب، وإذا سئل أعطى، ينفع ويضر، وهذا معنى الرب جل وعلا، وهكذا القرآن مملوء من هذا، كل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التقسيم.
فإذاً علينا أن نتدبر كتاب ربنا جل وعلا، ونتفهم ونعرف الأمر الذي خلقنا له، ونعرف مصيرنا، فالإنسان لا يجوز له أن يجهل لماذا خلق، أو يجهل مهمته في هذه الحياة، أو يجهل نهايته وإلى أين يكون، لا يجوز هذا، والواقع أن الإنسان إذا جهل هذه الأمور فهو مفرط في نفسه، ومسئول عن ذلك، وسوف يندم يوم لا يغنيه الندم ولا ينفعه.(2/5)
توحيد العبادة وأهميته
ثم هذه الأقسام الثلاثة أهمها وأعظمها قسم توحيد العبادة؛ لأنه وقع فيه الشرك، والشرك وقع في بني آدم قديماً، وسبب إرسال الرسل هو وقوع الشرك، وقبل وقوع الشرك ما كان للرسل حاجة، كان الناس على الطريق السوي وعلى الطريق المستقيم، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس بعد آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، ثم طرأ الشرك فأرسل الله جل وعلا أول رسول إلى الأرض وهو نوح عليه السلام) قص الله جل وعلا علينا قصته، فأخبر جل وعلا في قصصه في مواضع متعددة أنه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فما قال: اعتقدوا أن الله متفرد بالكون وبالخلق وبالرزق وبالإحياء وبالإماتة وبالتدبير.
لأن هذا أمر معلوم عندهم لا يجهله أحد، قال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكذلك قال هود الذي جاء بعده، قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وكذلك قال صالح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وسائر الأنبياء كلهم قالوا هذا القول، كما قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] يعني: قائلاً لهم: {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، والطاغوت سيأتي تفسيره ومعناه، وأنه كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، أو كل ما صد عن عبادة الله فهو طاغوت.
وأقول: هو من الطغيان، وهو تجاوز الحد، والخلق كلهم حد لهم حد، وهو أن يكونوا عباداً لله جل وعلا، فإذا تجاوزوا هذا الحد إلى ما هو من خصائص الرب جل وعلا صاروا طواغيت، ثم إن أنواع العبادة كثيرة جداً منها المحبة، وسيأتي بيان ذلك، فيجب أن تكون المحبة التي هي محبة التأله خالصة لله جل وعلا، وسيأتي إن شاء الله أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة مشتركة بين الخلق -وهي أقسام كما سيأتي- مثل محبة المصاحبة والألفة، ومحبة الشفقة، وما أشبه ذلك من المحبة الطبيعية لا لوم على الإنسان في كونها تصدر منه، ولكن المقصود بالمحبة التي يجب أن تكون لله وحده محبة الذل والتعظيم، ولا يجوز أن يكون قلبك خاضعاً ذليلاً معظماً لهذه الأشياء التي تحبهن، هذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا.
قال الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، وهذا يدل على أنهم يحبون الله حباً شديداً، ولكنهم أشركوا بهذه الآلهة التي اتخذوها، وصارت المحبة مفرقة موزعة بين الله وبين هذه الأنداد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:165 - 166]، والأسباب: المودة والمحبة، انقطعت عنهم وزالت، وأصبح بدلها عداوة، وكل واحد يلعن الآخر، العابد يلعن المعبود والمعبود يلعن العابد بعد هذه المحبة.
وإذا وجدت هذه المحبة فالذي يموت عليها يكون ممن لا يخرج من النار، كما في تمام هذه الآيات.
ومن أنواع العبادة الطواف، ولا يجوز للإنسان أن يطوف إلا بالبيت الحرام الذي أمر الله جل وعلا بذلك عبادةله، ولا نطوف بقبر ولا بحجر ولا بشجر ولا بمخلوق ولا بغير ذلك.
ومن ذلك الاعتكاف، فإنه عبادة كما أخبر الله جل وعلا أن العاكفين والراكعين والساجدين يجزيهم ويثيبهم، وقد أمر خليله أن يطهر بيته للعاكفين والراكعين الساجدين.
ومن ذلك الخوف، فيجب أن يكون الخوف الذي يسمى الخوف الغيبي -خوف السر الذي في سرك وفي غيبك- من الله وحده فقط، لا تخاف غائباً عنك إلا الله، فلا تخاف ميتاً، ولا تخاف جنياً، ولا تخاف من هو بعيد عنك وتقول: إنه يمكن أن يعرف ما في نفسي، هذا لا يجوز، كالذي يخاف الأموات، أو يخاف الولي الذي في القبر، يخاف -مثلاً- أنه إذا ما قدم له العبادة أنه يضره، والذي في القبر لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف يملك ذلك لغيره؟! ومنها أيضاً: الذبح، فلا يجوز أن يذبح إلا لله جل وعلا، فإذا ذبح الإنسان لغير الله لجني أو إنسي أو قبر أو غيره فقد وقع في الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في النار.
ومنها النذر، كأن ينذر نذراً لمخلوق أو لميت أو حي، فإن هذا شرك؛ لأن الله جل وعلا مدح الموفين بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، فالنذر عبادة؛ لأن الله لا يمدح ولا يثني إلا على ما هو محبوب له ويكون عبادة، أما الشيء المباح مثل الأكل والشرب والنوم والجلوس ما يمدح الله عليه؛ لأنه أمر مباح ليس عبادة إلا إذا اقترن به نية طيبة تجعله عبادة.
ومن ذلك أيضاً الرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والتوبة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة، كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وسيأتي تفصيل هذا مفرقاً.(2/6)
الشرك
يقابل التوحيد الشرك، والشرك يكون في كل قسم من أقسام التوحيد الثلاثة، يكون الشرك في الربوبية، ويكون الشرك في الأسماء والصفات، ويكون الشرك في العبادة والتأله، وكل شرك من هذه الأقسام ينقسم إلى أكبر وأصغر، فعلى هذا تكون أقسام الشرك ستة أقسام على حسب هذا التقسيم، وفي الأصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام فقط: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي، والواقع أنه ينقسم إلى قسمين؛ لأن الشرك الخفي قد يكون أكبر وقد يكون أصغر وهو شرك النية، ولكن التقسيم إلى ستة حسب أقسام التوحيد.(2/7)
الشرك في الربوبية
الشرك في الربوبية ينقسم إلى قسمين: قسم يسمى شرك التعطيل، وهو أقبح الأقسام وأعظمها جرماً وأخبثها، وهو شرك فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، فعندما جاءه موسى قال: (وما رب العالمين)؟ أي: أنه أنكر وجود الله جل وعلا، وهذا على سبيل المكابرة والتجبر والعناد والإيذاء، وإلا فهو في الواقع مقر بذلك؛ لأن الأمر في هذا واضح وظاهر جداً، لا يخفى على من عنده أدنى عقل.
فلا يخفى أنه لا موجود إلا وله موجِد، ولو نظر الإنسان إلى نفسه فمن الذي أوجده؟ هل أبوه خلقه أو أمه خلقته أو هو خلق نفسه؟ لابد أن يكون له خالق قدير متصرف كامل الإرادة كامل المشيئة تعالى وتقدس، كما قال الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، يعني: هل يمكن أن يوجد هذا المخلوق بدون أن يكون له خالق؟ لا يمكن هذا لا يُعقل، ولا يقر به حتى الأطفال، الطفل الصغير إذا ضربه ضارب وبكى فقلت له: ما ضربك أحد لا يقتنع بهذا؛ لأن كل حدث له محدث، وهذا أمر فطري، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالنظر إلى أنفسنا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يعني: في أنفسكم آيات تفكروا فيها، أفلا تبصرون؟ وأمرنا أن ننظر في أصلنا فقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:17 - 20]، وجاء هذا مكرراً في القرآن كثيراً، يأمرنا ربنا جل وعلا أن ننظر في أصل خلقنا؛ لأنه كان نقطة من ماء، فكيف يخلق منها لحم وعظام وأعصاب، ثم سمع وبصر وعقل وأرجل وأيدٍ، وذكر وأنثى؟ هل أحد يستطيع ذلك؟ لا.
فهو من أكبر الأدلة على وجود الله جل وعلا.
وآيات الله في الأنفس ظاهرة وواضحة، كما أن آياته جل وعلا في الآفاق من حولنا ولما يجري حولنا في السماء والأرض والنجوم والجبال والأنهار وغيرها واضحة جلية، فنقول: إن الشرك في هذا لا يكون إلا عناداً أو إعراضاً، والإعراض هو عدم الاهتمام.
ومن هذا الشرك شرك ملاحدة اليوم الذي يقولون: الحياة مادة، فلا يوجد خالق، ولا توجد إعادة، ولا توجد جنة ولا نار يكفرون بالله جل وعلا وينكرون وجوده، فهم واقعون في الشرك الأعظم، وهم في الواقع لم يستعملوا عقولهم ولا ما حولهم من الآيات ولم يتفكروا في أنفسهم.
ومن ذلك شرك أصحاب وحدة الوجود الذين غلفوا شركهم بشيء من محاسن الإسلام، فخفي أمرهم على خفافيش الأبصار، فجعلوهم من أكابر الأولياء وأكابر الأتقياء والسعداء، وهم من أعظم المجرمين وأكابر الكفار والمشركين، كـ ابن عربي والعفيف التلمساني وابن الفارض والحلاج، ومن أشبه هؤلاء الذين جعلوا الله هو الوجود كله، خنازيره وكلابه وأوادمه وكل شيء، كما يقول رئيسهم: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟ إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب فأنى يكلف؟ ويقول: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه لأنه يعتقد أن النظم كلام الله، والشعر كلام الله، واللحن كلام الله، ونبح الكلاب كلام الله، إلى غير ذلك، وهكذا يقول أصحابه، ثم يأتي قوم ويقولون: هؤلاء من أكابر الأولياء والأتقياء! ومن ذلك شرك النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وكذلك اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
ومنه شرك المجوس الذي جعلوا التصرف إلى إلهين: إله الظلمة وإله النور، وقالوا: إن الإله المحمود المعبود هو إله النور، فهو الخير الذي يحب الخير ويأمر به ويريده؛ ولهذا يعبدون النار لأنها هي أصل النور عندهم، وهذا شرك في الربوبية.
القسم الثاني من شرك الربوبية الشرك الأصغر، مثل شرك الألفاظ، كقول الإنسان: لولا الله وأنت، لولا الله وفلان، وقوله: ما شاء الله وشئت، وكذلك الحلف بغير الله وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك في الربوبية، وقد يكون هذا شركاً أكبر على حسب ما يقوم في قلب القائل وعقيدته، فهذا الشرك في الربوبية.(2/8)
الشرك في الأسماء والصفات
والشرك في الأسماء والصفات نوعان أيضاً: النوع الأول: شرك التشبيه كالذين يقولون: يد الله مثل أيدي الناس، وسمع الله مثل أسماع الناس، وبصره مثل أبصار الناس، وعلمه مثل علوم الناس، وهكذا، فهذا شرك في أسماء الله وصفاته، والواجب أن يعتقد أن الله لا شريك له في خصائصه من الأسماء والصفات، وهذا وإن كان قليلاً فقد جاء ذكره في كتاب الله، يقول الله جل وعلا: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ويقول جل وعلا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، ويقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
فالذي يقول مثل هذا القول يخالف هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة في كتاب الله.
النوع الثاني من أنواع الشرك في الأسماء والصفات: تسمية المخلوق بما هو من خصائص الله جل وعلا، كالذي يسمي المخلوق -مثلا- حكيماً، عليماً، خبيراً، رءوفاً، رحيماً، وما أشبه ذلك، ومنه الإله أو الآلهة أو الرب، أو ما أشبه ذلك مجرد تسمية، أعني أن يشتق من أسماء الله أسماء للمخلوقين، فيشتق للمخلوق اسماً من اسماء الله جل وعلا، كما فعل المشركون، فإنهم سموا أصنامهم آلهة، فهو كذب وزور، وهو اسم وضع على غير مسماه، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23]، يعني: ليس لها من هذه التسمية شيء، فهو مجرد اسم فقط لا حقيقة له.
ومن ذلك أنهم سموا بعض أصنامهم بأسماء اشتقوها وأخذوها من أسماء الله، كمناة أخذوها من المنان، واللات أخذوها من اسم الله، والعزى أخذوها من اسم العزيز، وهكذا، وهذا نوع من أنواع الشرك في الأسماء والصفات.(2/9)
الشرك في العبادة
والشرك في العبادة واسع وكثير جداً، وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شرك أكبر إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في جهنم، وإذا تاب منه فالله يقبل توبته.
القسم الثاني: شرك أصغر، إذا وقع فيه الإنسان يكون قد وقع فيما هو أعظم من الزنا ومن شرب الخمر، ولكنه لا يخرج من الدين الإسلامي، وصاحبه تحت مشيئة الله جل وعلا، إن شاء آخذه وعذبه على ذلك، وإن شاء عفا عنه، ويجب أن نجتبه.
الشرك الأكبر كأن يشرك في المحبة، أو في الخوف، أو في التوكل، أو في الإنابة، أو في الركوع، أو في السجود، أو في الطواف، أو في الذبح والنذر، أو غير ذلك.
فإذا وقع الإنسان في شيء من ذلك كان يذبح دجاجة لجني كان مشركاً شركاً أكبر -نسأل الله العافية-!، وإذا وقع في شيء من هذا يجب عليه أن يتوب، وأن يتخلص من ذلك.
وأما الشرك الأصغر فمثل يسير الرياء، كونه يرائي بعمله الناس ويحب أن ينظروا إليه، أو يزين عمله من أجل رؤية الناس، أما الكثير فهو لا يصدر من مسلم، فكون العمل يبنى على الرياء لا يصدر إلا من المنافقين أو الكفار، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] أخبر أن صلاتهم هي المراءاة، ولكن المسلم قد يعرض له في عمله عارض الشرك الأصغر فهو يعالجه، وإن أعرض عنه واستطاع أن يخلص في عمله لا يضره ذلك، أما إذا لم يستطع ذلك فالرياء إذا خالط عملاً أفسده وأحبطه، ويكون ذلك العمل فاسداً حابطاً، كما جاء في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وجاء أن الله جل وعلا يقول للذين يراءون بأعمالهم يوم القيامة: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون جزاءكم عندهم؟)، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل هذا كله مفرقاً في الكتاب.(2/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [3]
أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك، والقرآن الكريم كله في التوحيد كما بين ذلك أهل العلم، وأصل دعوة الرسل هي الدعوة إلى التوحيد، ولذا يجب معرفة التوحيد لتحقيقه والقيام به، ومعرفة الشرك للحذر منه واجتنابه.(3/1)
أنواع التوحيد(3/2)
توحيد المعرفة والإثبات
قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو: إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، وتكلمه بكتبه، وتعليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك].
هذا كثير في القرآن جداً، وقل آية في القرآن إلا وفيها شيء من أسماء الله وصفاته، إما صفة فعل أو صفة ذات أو غير ذلك، والحكمة في هذا أن الناس كانوا يحتاجون إلى هذا؛ لأن من حكمة الله جل وعلا أن الناس إذا احتاجوا إلى شيء يكون وجوده أكثر، مثل الماء، فالناس يحتاجون إلى الماء فصار وجوده كثيراً، ومثل وجود الهواء، ومثل وجود الملح، ومثل وجود النار وما أشبه ذلك، فكل شيء الحاجة إليه عامة شاملة كان وجوده وتيسيره أكثر للناس، وهذه حكمة من الله ورحمة منه.
ففي زمن الصحابة ما كانوا بحاجة إلى تكثيره إلا من ناحية أن الله يعرفهم بنفسه، هذا هو الأصل، والله تعرف إلى خلقه بذكر أسمائه وأوصافه، وكل اسم له معنى يدل عليه، فعرف المؤمنون ربهم بهذا؛ لأن الله غير مشاهد، وليس له مثيل يقاس عليه تعالى وتقدس، فليس هناك طريق لمعرفته إلا أن يخبر جل وعلا عن نفسه، هذا هو الأصل في الإكثار من ذكر أسماء الله، وبعدما ذهب عصر الصحابة وعصر التابعين وأتباعهم وجاءت الخلوف حدث في الأمة من يكفر بهذا النوع وينكره، وأصل مجيء هذا الإنكار وهذا الكفر من اليهود والنصارى والمجوس الذين يعادون هذا الدين، فأوجدوا المؤسسات والجمعيات الخبيثة التي تحارب العقيدة، وصاروا يبثون سمومهم في أوساط الناس، وربما في الكتب أيضاً، وبدءوا بتشكيك الناس في معبودهم وإلههم، فصاروا ينكرون الأسماء والصفات، ولو جاءوا إلى الناس وقالوا: إن الله لا يتكلم، إن الله لا يسمع، إن الله لا ينزل إلى السماء الدنيا، إن الله لم يستو على عرشه، إن الله ليس فوقنا، وما أشبه ذلك، بدون أن يذكروا مبررات؛ ما قبل منهم ذلك، فأحكموا الخطة وقالوا: إنكم إذا قلتم هذا، قلتم بالكفر والتشبيه، فيجب أن تنزهوا الله عن هذه الأوصاف والأسماء، فجاءوا من هذا القبيل، فقبل قولهم الذين لا يعلمون، فانبرى العلماء للرد عليهم وإبطال كيدهم، فملأوا الدنيا كتباً، وكلها مأخوذة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في الرد على مثل هؤلاء، وكتاب الله مملوء جداً بإبطال كيد هؤلاء، ولكن مع هذا كله انطلى هذا الخبث وهذه الدسائس على كثير من الناس، فأصبحوا إلى اليوم متأثرين بهذه الدعايات، فإلى الآن كثير من المسلمين متأثر بذلك، فأنكروا أن الله جل وعلا مستو على عرشه، وأنكروا أن الله جل وعلا فوق عباده، وأنكروا أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا، وأنكروا أن الله جل وعلا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، وأنكروا أن الله جل وعلا يتكلم ويكلم من يشاء كلاماً حقيقياً، إلى غير ذلك، وهذا كله تأثر بدعاية هؤلاء المبطلين، ولكن الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعصمه الله جل وعلا بذلك.(3/3)
توحيد الطلب والقصد
قال الشارح رحمه الله: [النوع الثاني: ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد شاهدة به داعية إليه.
فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.
انتهى].
سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد في النية والإرادة، وقلنا: إن شئت جعلته قسمين، وإن شئت جعلته ثلاثة أقسام، فمن باب البسط والإيضاح يكون ثلاثة من حيث تعلق التوحيد، فإما أن يتعلق بلفظ الرب جل وعلا فيكون توحيد الصفات والأسماء، أو يتعلق بأفعاله تعالى وتقدس فيكون توحيد الربوبية.
وهذان القسمان يجوز أن نجعلهما قسماً واحداً؛ لأنهما يتعلقان بالرب جل وعلا صفة وفعلاً، فمن العلماء من يجعله قسماً واحداً، ومنهم من يجعله قسمين.
فصفات الله جل وعلا وأسماؤه تثبت بالدليل الذي جاء في كتاب الله جل وعلا، وجاءت به الرسل فقط لا أكثر، ولا دخل للقياس في ذلك، ولا دخل للعقل في هذا، وقلنا: إن السبب في هذا شيئان: أحدهما: أن الله جل وعلا لا مثيل له ولا نظير له فيقاس عليه.
الثاني: أنه تعالى وتقدس غيب ليس يشاهده أحد ولم يره أحد، فليس هناك طريق لمعرفته وتسميته ووصفه إلا الوحي فقط، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال كثير من المفسرين: يؤمنون بالله لأنه غيب، فهو غائب عن كل الخلق، وقد قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22].
فكل هذا يدل على أنه متفرد جل وتقدس، ولهذا اتفق أهل السنة على أن أسماء الله جل وعلا وأوصافه توقيفية، ومعنى (توقيفية): أنه يوقف على النص فيها، فما جاء به النص وجب أن يؤمن به ويعتقد ويقال بمقتضاه، وما لم يأت به النص فلا يجوز أن يشرك بالله شيئاً لم يثبت بنص، والذين ضلوا في هذا الباب لأنهم يعتمدون على عقولهم، فضلوا فيه وتاهوا، فليس هناك طريق يمكن أن يوصل الإنسان إلى الحق إلا الاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله فقط، وهذا في الواقع هو أصل الإيمان، وهو أيضاً أصل دعوة الرسل.
فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بما يذكره من أوصافه وأسمائه، وكذلك بأفعاله تعالى وتقدس، فالمؤمنون لا يعرفون الله جل وعلا إلا عن هذا الطريق، بالإضافة إلى الفطرة، ولكن هذه مشتركة بين الخلق كلهم، كل الخلق فطروا على معرفة الله جل وعلا، ولكن هذا لا يكفي؛ لأن هذا قد يتغير، فالفطرة يغيرها المعلم الذي يتولى تعليم الإنسان وتربيته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما إذا ترك ونفسه فإنه يكون قابلاً للحق بل طالباً له، ولا يكفي كونه قابلا له؛ لأنه مولود على الفطرة، بل لابد أن يكون طالباً له، فإذا جاء الوحي لا يمكن أن يرده؛ لأنه موافق لما في فطرته، ولكن التربية هي التي تغير هذا.
فأقسام التوحيد هي هذه الثلاثة، وليس هناك قسم رابع، كما يقول بعض الناس: توحيد الحاكمية، وبعضهم يأتي بقسم خامس ويقول: توحيد المتابعة، فتكون أقسام التوحيد خمسة: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد المتابعة، فهذا لا معنى له؛ لأن توحيد المتابعة داخل في توحيد الإلهية، وتوحيد الحاكمية داخل في توحيد الربوبية، لأن الرب جل وعلا هو الذي يحكم بين خلقه، وهو الذي يشرع ويأمر وينهى عباده، فإذا انصرف الإنسان إلى شارع آخر ومحكم آخر فإنه أشرك في توحيد الربوبية، والشرك في توحيد الربوبية يستلزم الشرك في توحيد الإلهية.(3/4)
توحيد العلم والعقيدة
المقصود أن أقسام التوحيد ثلاثة أو اثنان إن شئت: فالأول: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد العلم والعقيدة هو الذي يتعلق بالرب جل وعلا، يتعلق بأسمائه وأوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، فيجب على العبد أن يأخذ هذا العلم من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكر ذلك في كتابه حتى يعرف عباده ما يستحق، ويقدرونه القدر الذي يستحق، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، فذكر بعد قوله: (وما قدروا الله حق قدره) الأفعال التي ينفرد بها والتي تقتضي تعظيمه وتمييزه جل وعلا عن سائر الخلق.
وكذلك قوله جل وعلا في قصة نوح: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، وذكر أفعاله بعد هذا، كأنه يقول: إن هذه الأفعال تدعوكم إلى أن تعرفوا قدر الله، وتعظموه العظمة التي يستحقها فتبين بهذا أنه جل وعلا يتعرف إلى عباده بذكر أفعاله وأوصافه، وهذا كثير في القرآن جداً، وهذا هو الطريق إلى الاقتناع بالإيمان بالله جل وعلا، وهو الطريق إلى اليقين الحق الذي من وصل إليه أصبح راسخاً في العلم، وأصبح لا يقبل التشكيك ولا يقبل الارتياب مع توفيق الله جل وعلا، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، إن شاء ثبتها على الحق، وإن شاء أزاغها)، ولكن إذا عرف الإنسان ربه، وخضع وذل له، وعبده؛ فعادته جل وعلا التي جرت في عباده أنه يثبته بالقول الثابت حتى يلقاه.(3/5)
معنى توحيد الإلهية
النوع الثاني -وإن شئت قلت: النوع الثالث- توحيد الإلهية وهذا الذي صارت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم؛ لأنه هو الذي أنكر، وهو الذي دخله الشرك؛ لأن أكثر الخلق اتخذوا وسائط وشفعاء يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويدعون هذه الوسائط لتقربهم إلى الله زلفى لتشفع لهم، ولا يوجد أحد من الخلق زعم أن صنماً من الأصنام أو معبوداً من المعبودات له شركة في خلق السموات والأرض والجبال والأشجار، أو له قدرة على الإحياء والإماتة، لا يوجد أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما زعموا أنهم عباد مقربون، أو أنهم لا ذنوب لهم، وأنهم إذا دعوا الله استجاب لهم، واتخاذهم وسائط أقرب إلى الإجابة وأقرب إلى الطلب من دعاء الله جل وعلا، وأصل هذا بني على تشبيه الرب بالمخلوقين، وليس التشبيه الذي يقوله المتكلمون.
والتشبيه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا كثر جداً في الأمم السابقة، ولا يزال إلى الآن كثيراً في الخلق، فيجعلون المخلوق هو الأصل والخالق فرعاً تعالى وتقدس، فوجه التشبيه هنا أنهم رءوا أن الملوك والكبراء والعظماء لا يطلبهم الإنسان حاجته منهم رأساً، فلابد أن يذهب إلى محبيهم وإلى وزرائهم وإلى المقربين لديهم ويسألهم أن يتوسطوا له عند الرئيس والملك حتى تقضى حاجته، ووجدوا هذا أنجع وأسرع في قضاء الحاجة، بخلاف ما إذا ذهب ودخل عليهم بنفسه أو طلب منهم بنفسه فإنه ربما لا يلتفت إليه، فقاسوا رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء رقيب وشاهد يسمع ولا يخفى عليه شيء قاسوه على المخلوقين، تعالى الله وتقدس، هذا هو أصل الشرك الذي حدث للأمم في هذا الباب.
فاتخذوا الوسائط حسب اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، فمنهم من يتخذ ملكاً من الملائكة إن كانوا ممن يؤمن بالملائكة، ومنهم من يتخذ جنياً، ومنهم من يتخذ نبياً، ومنهم من يتخذ رجلاً صالحاً، ومنهم من يتخذ شجرة أو حجراً أو غير ذلك، وكلها أصلها هذا، وكل رسول كان يأمر قومه أن يخلصوا الدعوة لله فقط، وألا يدعوا معه أحداً، ولا يكون هناك وسائط: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:59] هكذا كل رسول يقول هذه المقالة لأمته: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، والإله هو الذي يألهه القلب بالدعاء والخضوع والذل، فيدعوه ويذل له ويعظمه، فهذا يوجب أن يكون الدعاء لرب العالمين فقط، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق، سواء أكان عاقلاً أم غير عاقل، حاضراً أم غائباً، فمن جعل لمخلوق من المخلوقات شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك الأكبر الذي كانت الرسل تحذر منه وتدعوا قومها إلى الابتعاد عنه وتركه.
القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه أوصاف الرب جل وعلا بأوصاف المخلوقين، كأن يقول مثلاً: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، وكلامه ككلامنا، تعالى وتقدس، وهذا هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويجعله العلماء كفراً يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، وهو الذي كثرت فيه المؤلفات التي ألفت في هذا الباب، والأصل في هذا قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وما أشبه ذلك من الآيات، ولا شك أن التشبيه من أبطل الباطل، والذين قالوا به قلة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وليس من هذه الفرق طائفة تقول بهذا التشبيه، وإنما يوجد بعض الأفراد يقولون بذلك.
ولكن سبب كثرة الكلام في هذا أن كل من قال مقالة واعتقد عقيدة فمن يخالفه في مقالته وفي عقيدته يرميه بالتشبيه، فيقول: أنت مشبه، فكثر الكلام بهذا السبب؛ ولهذا نجد في كتب المقالات وغيرها من الكتب أنهم يعينون أناساً من الأئمة، فيقولون: هناك طائفة يقال لها (المالكية) إمامهم مالك بن أنس مشبهة، وطائفة يقال لها: (الحنبلية) إمامهم أحمد بن حنبل مشبهة، وهكذا، ويجعلون الذي يأخذون الآثار ويعملون بها من أهل الحديث مشبهة.
وهكذا إذا نظرنا إلى الطوائف نفسها، فمثلاً اتباع أبي الحسن الأشعري الذين يسمون الأشعرية، بينهم وبين المعتزلة عداء وخصام، فالمعتزلة يرمون الأشاعرة بالتشبيه؛ لأنهم أثبتوا لله بعض الصفات، والمعتزلة يرون أن من أثبت صفة من الصفات كالسمع والبصر والكلام والإرادة فهو مشبه، فإذا أثبتها قالوا: أنت مشبه، والأشاعرة يجعلون من المشبهة من يثبت النزول لله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، أو يثبت العلو لله على خلقه، وكونه مستوياً على عرشه، أو يثبت الضحك لله، وأن الله يفرح ويحب ويرضى ويسخط، فيجعلونه مشبهاً، ويسمونه مشبهاً، ويقولون: هذا مشبه، وهكذا كل طائفة من الطوائف ترمي الطائفة التي خالفتها بالتشبيه، فهذا سبب كثرة الرمي بالتشبيه، وهذا يكون له مقالات معينة في كتب المقالات، ويسمونها طائفة المشبهة، ولكن لو طلبت طائفة معينة لها إيمان تقول بهذا ولها كتب تدافع عن هذا، وتستدل به لم يوجد ذلك أبداً، فليس لهذا وجود، وإنما التشبيه على حسب اعتقاداتهم، وعلى حسب ما يرون أنه باطل، بخلاف القسم الأول فإنه كثير جداً، ولكن لا يسمونه تشبيهاً، وإلا فالذي يأتي إلى القبر ويسأله أن يمده بالنصر وبالإغاثة وبالرزق وبالعطاء وبالنجاة وأن يتوسط له عند الله هذا هو المشبه حقاً، فقد شبه صاحب القبر برب العالمين في دعوته، وفي الطلب منه، وفي طلب ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين تعالى وتقدس.
ولهذا السبب أخبرنا ربنا جل وعلا عن الذين سموا المعبودات التي يتجهون إليها (آلهة) أن هذا كذب وزور، وأنها مجرد أسماء وضعت على مسماها، فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23] يعني: ليس لها من معنى الإلهية شيء أبداً، إنما هو كذب وزور، فوضعت هذه الأسماء من أجل الكذب والتزوير والاعتقاد الباطل، وهذا في الواقع يختلف باختلاف الدعوات والاتجاهات.(3/6)
وجوب الإخلاص لله
الواجب على الإنسان أن يكون عبداً لله، وأن يخلص العبادة لله جل وعلا، وألا يكون قلبه وعمله مفرقاً بين معبودات شتى، والله لا يقبل من العباد إلا أن يعبدوه وحده، وكل القرآن في هذا المعنى كما ذكر ابن القيم؛ لأن القرآن لا يخلو إما أن يكون في أوصاف الله حتى يدعو ذلك إلى تعظيمه وتوقيره، ويدخل في أوصافه أفعاله تعالى وتقدس، أو يكون الأمر صراحة أن نخلص له العبادة، كقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] في آيات كثيرة، فهذا واضح جداً، أو يكون في الأوامر والنواهي التي هي من حقوق هذا التوحيد، مثل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وفعل الخيرات كلها، وهذا كله من مكملات التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، (إلا بحقها) يعني: بحق (لا إله إلا الله)، فالذي -مثلاً- يمتنع عن الصلاة لم يؤد حقها، ولم يقم بحقها، وهكذا إذا امتنع من الواجبات الواجبة عليه لم يؤد حقها؛ لأنه أخل بها.
أو يكون القرآن في الجزاء وما أعد الله جل وعلا لأهل التوحيد في الجنة، وما وعدهم به من النصر والتأييد في الدنيا، أو يذكر عقاب من خالف هذا التوحيد وتركه، فيذكر عقاب من ترك التوحيد وخالفه وعقابه في الدنيا أو في الآخرة، ويدخل في هذا قصص الأمم، وقصص الأنبياء، ويدخل فيه الوعد والوعيد.
إذاً القرآن كله في التوحيد كما قال ابن القيم رحمه الله، وعلى هذا التفسير إذا تأمل الإنسان كتاب الله جل وعلا وجده لا يخرج عن ذلك.(3/7)
إثبات الإلهية لله وحده
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، وقال عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، وهذا في القرآن كثير].
وقال الله جل وعلا عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، فيجعلون الرسول شاعراً، ويجعلونه مجنوناً، وهذا اضطراب وتناقض، فكيف يكون شاعراً ويكون مجنوناً؟! فالمقصود أن الخلل في هذا أنهم يعرفون معنى (لا إله إلا الله)، فإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، عرفوا أن معنى ذلك إبطال ما هم عليه من الشرك ومن عبادة الأوثان؛ لأن كلمة (لا إله إلا الله) تتضمن الإثبات والنفي، إثبات إله واحد فقط، أن تثبت الإلهية له، وتنفي ذلك عن كل من سواه، نفى ثم حصر المثبت في إله واحد، وهو الله جل وعلا، فهم عرفوا أن معنى ذلك أنه لابد من الكفر بآلهتهم وإبطالها، ولهذا نفروا وأبوا، بخلاف المشركين في وقتنا -وللأسف- فهم يزعمون أنهم مسلمون، بل يظنون أنهم من أفضل الناس، وهم يأتون الشرك الأكبر، وكذلك كثير من الناس يكتفي بقول (لا إله إلا الله) ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) فيأتي بما يناقض هذه الكلمة لأنه لا يعرف معناها، فهو ما عرف معنى الإله، ولا معنى العبادة، ولو عرف ما عرفه المشركون من هذه الكلمة لاجتنب عبادة القبور والأولياء التي يسمونها توسلاً، ويسمونها محبة الصالحين والتوسل بهم، وهم في الواقع يدعونهم، والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: (الدعاء هو العبادة).
فهذا هو السبب الذي أوقعهم في الشرك وجعلهم لا يعرفون معنى هذه الكلمة، وقد علموا أنه لابد لقائل هذه الكلمة من معرفة معناها، وإلا فلا تفيد، فيصبح قوله لها -وهو يعمل هذا العمل- مثل الذي يقولوها وهو سكران، أي: يهذي بها هذياناً لا معنى له، ولا يعرف معناها، ومعلوم أن مثل هذا لا يستفيد من قوله لها، ولو كان قولها ينفع مجرد قول لكان ذلك ينفع اليهود، فاليهود يقولون: (لا إله إلا الله)، ولكنهم كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم من أهل النار، فالذي يقول: (لا إله إلا الله)، وهو يناقضها تماماً ويعبد آلهة أخرى غير الله لا تنفعه، وأي خير في مسلم يكون أبو جهل وأضرابه أعلم منه بكلمة التوحيد؟! ما فيه خير، هذا هو الواقع.
فيجب على المسلم أن يعرف أصل دينه وجوباً، فما هي مسألة اختيار وأن الإنسان مخير في هذا، بل إذا ترك هذا عذب وهلك، فيجب على العاقل أن يهتم بهذا، وذلك أن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116].
فإذا كان هذا الأمر هكذا وأن الله لا يغفر للمشرك فالإنسان قد يقع في الشرك؛ لأنه إذا جهله يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، فيهلك بهذا السبب، وهذا أمر عام (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، وكل الشرك أخبر الله أنه لا يغفره جل وعلا، والذنوب الأخرى ما عدا الشرك جعلها الله تحت مشيئته إذا شاء أن يغفرها غفرها، وأما الشرك فقطع قطعاً أنه غير مغفور.
يقول كثير من الناس اليوم: أنا لا أسلم بأن التوسل بالصالحين والتشفع بهم شرك؛ لأن الشرك السجود للأصنام أو السجود للشمس، أو أن تعتقد أن هذا الذي تدعوه يحيي ويميت، أما إذا اعتقدت أن الذي يتفرد بالأحياء والإماتة هو الله فلا بأس أن تدعو الصالح من الأموات، فتدعوهم وتجعلهم وساطة بينك وبين الله، هكذا يقولون.
فإذا كان إنسان يقول هذا القول وآخر يقول: إن هذا هو عين الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه، وهو الذي جعل الكفار في جهنم خالدين، ولا يوجد أحد يقول: إن أحداً من المخلوقين يحيي ويميت، إن شيئاً من الشجر يحيي ويميت أو من الأصنام التي هي حجر، أو أي شيء مصنوع، ما وجد أحد من العقلاء يقول هذا، فمعنى كلامك هذا أن المشركين كانوا يعتقدون أن الحجر الذي يعبدونه أو الشجر ويحيي ويميت، وهذا باطل، فإذا كان الأمر هكذا فيجب على الإنسان أن يبحث ويتأكد ويحتاط لنفسه، ولا يفرط في نفسه، فالنفس لا تعود، ولا توجد حياة أخرى، وإذا مات الإنسان وتبين له الحق لا يقول: أطلب الرجوع لأني عرفت الحق فأبدأ من جديد، هذا ليس لك، إذا فاتتك حياتك هذه فاتك كل شيء.
فيجب على العبد أن يتعرف على الحق من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن سيرته، ولا يغتر بالكثرة، ولا يغتر بأي قائل يقول خلاف ما دل عليه كتاب الله كائناً من كان، ولا يغتر بأن هذا يوجد في بلاد المسلمين بكثرة، وأنه يوجد علماء معهم أعلى الشهادات يسكتون عنه ولا ينكرونه، ويقولون: هذا من جهل العوام، وهذا لا يدخل في الكفر.
فلا يغتر بمثل هذا، الأمر ليس سهلاً، الله خلق العباد لعبادته وحده فقط، فمن صرف شيئاً من العبادة لغيره وقع في الشرك الأكبر، ثم مما يعين الإنسان على معرفة هذا هذه الآية وأمثالها: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، أي: إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فمقتضاه أننا نترك آلهتنا، إذا قلنا هذه الكلمة يلزمنا أن نترك آلهتنا، وأن نجعل التأله لله وحده، وهذا الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المطلوب من كل إنسان، وهو الذي تقوله الرسل كلها، كل رسول يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فمعنى قولهم: (اعبدوا الله) هو شطر الكلمة: (إلا الله)، وقولهم: (مالكم من إله غيره) هو معنى: (لا إله)، فهذا معنى: (لا إله إلا الله) الذي جاءت به الرسل، وكلهم اتفقوا على هذا، وآخرهم وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ولما سأل هرقل أبا سفيان -وكان مشركاً في ذلك الوقت- ماذا يقول، وما يأمركم به قال: يقول: قولوا: (لا إله إلا الله)، ويأمرنا بعبادة الله، وترك ما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بصلة الأرحام.
والتوحيد أعظم ما أمر الله جل وعلا به، ثم من مقتضى هذا أن يكفر الإنسان بكل معبود عبد من دون الله ويتبرأ منه؛ لأن الذي يعبد من دون الله هو الطاغوت، كما قال الله جل وعلا في هذه الآية: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، ثم استثنى جل وعلا من ذلك ما لا يكون لنا أسوة فيه فقال: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]، ففي هذا لا تتأسوا به، فلا تستغفروا للمشركين، وهذا جاء صريحاً في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:113 - 114]، فالإنسان لا يقول: أنا غير مكلف بمعاداة الناس، بل أنت مكلف بذلك، فالله كلفك أن تعادي أعداء الله؛ لأن الذي يوالي أعداء الله جل وعلا يكون بعيداً عن الله؛ لأن العبادة هي الحب القلبي، حب الخضوع والذل والتعظيم، هذه هي حقيقة العبادة، فكيف تحب عدو الله، هذا لا يمكن؛ ولهذا يقول جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، وسيأتينا تفسير الطاغوت(3/8)
خطأ من يظن أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط
قال الشارح رحمه الله: [وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرف حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
قالت طائفة من السلف: تسألهم: من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84 - 89]].
المتكلمون جعلوا توحيد الربوبية غاية التوحيد، ويستدلون على توحيد الربوبية بالأدلة العقلية التي اتخذها المتكلمون أصلاً في هذا، وبنوا عليها الحكم على الناس، وقالوا: إن أول واجب على العبد النظر في هذا الشيء، يجب عليه أن يتجه للنظر وإثباته بالدليل، فإن لم يفعل هذا فليس بمؤمن.
والواقع أن الذي يقولونه لا يكفي في النجاة؛ لأن النظر الذي أرادوه وقالوه وأثبتوه، كله في إثبات الربوبية؛ لأنهم قالوا: هذه المخلوقات تدل على الخالق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون أوجد نفسه، ولا يمكن أن يكون أوجده موجد مثله، وكل محدث لابد له من محدث، والمحدث يجب أن ينتهي إلى محدث قادر كامل، أول بلا بداية وآخر بلا نهاية؛ لأنه غني بنفسه عن كل ما سواه، وأدى النظر إلى هذا في النظر في المخلوقات وفي أنفسهم وفيما حولهم من المخلوقات وفي الآفاق، وهذا جعلوه هو الغاية في التوحيد، والواقع أن هذا لا يكفي، والفناء الذي يقوله بعض الصوفية المقصود به أن يكون نهاية عمله وغاية مقصده في هذا، يعني أنه يجتهد كل الاجتهاد في هذا، والواقع أنه قد يفنى في هذا وهو مشرك بالله يعبد غيره؛ ولهذا أدى هذا الأمر بكثير منهم إلى الزندقة والخروج من الدين الإسلامي، فيقول مثلاً: أنا أتقلب في طاعة الله دائماً؛ لأني ما أخرج عن إرادته وعن مشيئته، فمثلاً الصلاة مأمور بها شرعاً، فإذا لم يصل يقول: إن الله شاء ذلك مني وأراده، فإذاً: أنا مطيع لإرادة الله الكونية القدرية، فأنا في طاعة، هذه نتائج النظر، وهل المقصود النظر في هذا فقط؟ لا.
يقول ابن إسرائيل الذي يجعلونه من العارفين: أصبحت فعلاً لما يراد بي ففعلي كله طاعات كل فعله طاعات، حتى الكفر يكون طاعة عنده! وكذلك غيره، وهؤلاء المتكلمون يجعلون معنى الإله: القادر على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، ويسمونه القادر على الاختراع، وهذا هو معنى الإله عندهم، وهذا في الواقع كذب على اللغة وعلى الشرع، وليس هذا معناه، وإنما معنى (الإله) المعبود، وليس معناه الرب؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الذي يتصرف في الشيء ويملكه، ويفعل فيه ما يريد، ومعنى الرب غير معنى الله، معنى الله هو الألوهية والعبودية، والله طلب من الخلق أن يعبدوه وأن يوحدوه، فالمقصود أن الذي جعلهم يقولون هذا القول هو كونهم اعتمدوا على عقولهم، والعقول غايتها أن تدل على وجود الله فقط، أما أن تدل على بيان حقوقه، فهذا لا يدل عليه إلا الوحي الذي جاءت به الرسل.
وفي الجملة يلزم من كونه الرب أن تعبده وحده، ولكن من يعرف العبادة؟ العبادة تتوقف على الشرع، فمن العبادة الشرعية الإخلاص في كل عمل يصدر من الإنسان، فيريد به الثواب، والعبادة لابد أن يأتي بها الأمر من الله جل وعلا، وهذا يتوقف على الشرع، وهذا في الواقع وإلا فأقسام التوحيد متلازمة، لا ينفك واحد عن الثاني.
وقولهم: الإله هو القادر على الاختراع، وإن هذا من أخص خصائص الإله يلزم منه أن يوحدوه، وأن يعبدوه وحده، وألا يتجهوا بقصدهم ونياتهم وأفعالهم إلى شيء آخر، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، فألزمهم الله جل وعلا بأن تكون العبادة له وحده؛ لإقرارهم بأنه هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي يرزقهم، ألزمهم بإقرارهم هذا أن يعبدوه وحده، وهكذا في آيات كثيرة يجعل ربنا جل وعلا إقرارهم بتوحيد الربوبية ملزماً لهم بأن يعبدوا وحده، كقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، وهم اتخذوا مع الله آلهة، فالله ينكر عليهم هذا، وهذا في الواقع كثير في القرآن، ولكن الذي جعل المتكلمين يقولون هذا القول هو إعراضهم عن القرآن وعدم تأملهم له، وزعمهم أن في القرآن ظواهر لا تدل على التوحيد، عكس ما كان عليه السلف.
فالحقيقية والواقع أن اليقين هو الذي جاء به القرآن، وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ما دل عليه العقل، وهم يؤصلون في هذا أصولاً يتبنونها، ويقولون: عرفنا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بعقولنا، فالعقل هو الذي ميز بين الساحر والكاهن والمتنبي والنبي، عرفنا ذلك بعقولنا، فإذا كان أصل معرفة الرسول بالعقل فيكون العقل هو الأصل.
فلا يجوز أن يجعل الفرع حاكماً على الأصل، وهذا مبدأ اعتقادهم، هذا من ناحية، وهذا في الواقع ضلال، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]، يعني: هداية الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي جاءه من الله، ولا يمكن لأحد غير الرسول أن يهتدي بغير الوحي، لا يمكن أبداً، فالهدى لا يكون إلا بالوحي، ولكن العقل يكون مساعداً؛ لأن الوحي لا يأتي مخالفاً للعقل.
فالمقصود أن الواجب على العبد أن يتعرف على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن نجاته بها، ولن تكون له نجاة وهو يجعل عقله دليلاً، أو يجعل شيخه هو الذي يعرف الحق فقط ويترسم طريقه، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، وهذا عام شامل في العقائد وفي الأفعال وفيما يحدث من النزاع والشجار بين الخلق وفي كل شئون الحياة، يجب أن يكون الوحي هو الحاكم والمسيطر على عقيدتك وعلى عملك وعلى سلوكك وعلى معاملتك مع الناس، يجب أن يكون هو الحاكم المسيطر على ذلك، وإلا فيكون الإنسان على خطر شديد.(3/9)
إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وشركهم في توحيد الإلهية
قال الشارح رحمه الله: [وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أنداداً، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43 - 44]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]].
قوله تعالى في هذه الآية: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) الذي لا يعلمه الله جل وعلا ليس له وجود أصلاً، فهذا إبطال بليغ لدعوتهم الشفعاء، يعبدون من دون الله الذين يتخذونهم من الأصنام ومن الأشخاص ومن غير ذلك، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقول الله جل وعلا آمراً رسوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)، فهل يمكن أن يكون شيء في السماء أو في الأرض لا يعلمه الله؟ لا يمكن أن يوجد شيء في السماء في الأرض إلا ويعلمه الله، والله جل وعلا لا يعلم آلهة في السماء ولا في الأرض، وأن هناك من يشفع دونه، فمعنى هذا أنه لا وجود له أصلاً.
وقوله في الآية الأولى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يقول المفسرون: كل ما جاء من القرآن (أم) فمعناها: بل، أي: بل اتخذوا من دون الله شفعاء.
يقول جل وعلا: (أم تخذوا من دون الله شفعاء) مع أنهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون؛ لأنهم إما حجر وإما شجر وإما ميت لا يسمع ما يقال نحو ويدعى به، ولو سمع ما استطاع أن يجيب، بل لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذاً دعوتهم ذاهبة في ضلال في الواقع، فكيف يجوز للعاقل أن يسلك هذا المسلك؟ ثم يقول جل وعلا بعدها: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فهذا عموم لا يخرج منه شيء، كل شفاعة تقع يوم القيامة هي لله، والمعنى أنه لا تقع شفاعة عند الله جل وعلا إلا إذا أمر الشافع أن يشفع، والله جل وعلا لا يأمر الأصنام أن تشفع، ولا يأمر المعبودات دونه أن تشفع لأحد.(3/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [4]
خلق الله عز وجل الجن والإنس لعبادته سبحانه، وليس معنى هذا أنه محتاج إليهم، بل هو الغني العزيز، وإنما خلقهم ليبتليهم، فمن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار.
والعبادة لا تكون صحيحة ومقبولة إلا بشرطين أساسيين هما: الإخلاص والمتابعة.(4/1)
الحكمة من خلق الثقلين
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]].
في هذه الآية بيان العلة التي من أجلها خُلق الجن والإنس، وهي أن الله جل وعلا خلقهم ليعبدوه، ولهذا قال بعدها: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، والمعنى أن الله جل وعلا خلقهم للعبادة، وتكفل بما يلزم لحياتهم من الأرزاق والمعافاة في الأبدان وما يصون حياتهم إلى أن يأتي الأجل الذي قدره الله جل وعلا، وليس الرب جل وعلا في خلقه وإيجاده العباد يُقاس على الذين يكتسبون العباد ليكونوا عزاً لهم وقوة أو يتعززون ويتكثرون بهم عند الحاجة، فالله جل وعلا غني بنفسه عن كل ما سواه، وليس هو جل وعلا بحاجة إلى العباد وإلى عبادتهم، وإنما خلقهم ليبتليهم، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، ومن المعلوم أن الله جل وعلا يعلم كل شيء، وعلمه جل وعلا أزلي لا يمكن أن يستجد له علم بعد أن لم يكن، تعالى وتقدس، فعلمه كامل تام في الأزل، وكل الغيوب عنده مثل المشاهدة، وكل ما سيقع قد علمه أزلاً.
يعني أنه علم من يعبد ممن لا يعبد قبل أن يخلقهم، وقد ضل في معنى هذه الآية كثير من المتكلمين الذين يقولون: هذا خبر من الله وقد خالف الواقع، فالله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والواقع أن أكثر الناس لا يعبدون، فأين صدق هذا الخبر؟ فنقول: ليس هذا هو المقصود بالآية، بل الآية معناها أن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلقنا، وأنه خلقنا لعبادته، ولكن وكَّل العبادة إلينا وطلبها منا، وذلك أن الله جل وعلا جعل في المخلوق عقلاً وفكراً واختياراً وقدرة، وكلفه بالشيء الذي يستطيع فعله، وأمره بأوامر محددة، والناس كلهم بالنسبة للأوامر سواء، فلا تمييز بين كافر ومؤمن.
وقد أخبرنا ربنا جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا في أمور خمسة فقط: عبادة الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وهذه الأمور الخمسة الناس ليسوا فيها سواءً أيضاً؛ لأن بعضهم لا تجب عليه كلها.
أما العبادة فلا يخرج منها أحد من الخلق، فما دام الإنسان قد وصل إلى العقل ووجدت عنده المقدرة فإنه يجب أن يلتزم بعبادة الله دائماً وأبداً، وكلما ازداد علم الإنسان بالله جل وعلا زادت العبادة والخشية عنده، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يعني: الخشية التي يستحقها.
وإلا فالخشية توجد من غير العلماء أيضاً، ولكن الخشية الواجبة، فإذا ازداد علم الإنسان ازداد خشية، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله جل وعلا، فالخشية الواجبة لا تنفك عن الإنسان، والعبادة هي كل عمل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، فيجب أن يكون خالصاً لله، كل عمل تفعله تطلب به الثواب وكل شيء تتركه وتخاف أنك لو فعلته لعوقبت فهذا يكون عبادة، فيجب أن تكون العبادة لله وحده، ولا يُشرَك في عبادته شيء لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا أمر يعم الخلق كلهم.
والذين يقولون: إن الإنسان إذا ترقى في العلم ووصل إلى درجة العلم اللدني يسقط عنه التكليف هؤلاء يكونون بهذا القول كفاراً خارجين من الدين الإسلامي باتفاق العلماء، ويستدلون على هذا القول الكفري بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وما أشبه ذلك من التحريفات، ويقولون: اليقين هو العلم اليقيني الذي تصل به إلى درجة أنك تشاهد الأشياء، فتشاهد ربك، وتشاهد الملائكة، وتشاهد الجنة، وتشاهد النار، والواقع أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة فمعنى ذلك أنه يشاهد ربه الذي هو الشيطان، يشاهده على كرسي يجلس بين السماء والأرض أو يجلس على البحر ويزين له أشياء، فيقول له: هذه الجنة وهذه النار، وهذا كذا وكذا، هذا هو الواقع، وأما الآية فمعناها: واعبد ربك حتى يأتيك الموت.
أما بقية الأمور الخمسة فإنه إذا عقل الإنسان وصار مميزاً أمر بالصلاة، وإن كانت لا تجب عليه تدريباً له وتأنيساً، حتى لا ينفر منها ولا تأتيه الأمور بغتة فلا يستطيع القيام بها، وإنما تجب عليه إذا بلغ سن التكليف، ولا تسقط الصلاة بحال إذا وجبت، وما دام عقله موجوداً، فالصلاة واجبة عليه، وهذا يشمل كل إنسان إلا المرأة الحائض والنفساء، والله جل وعلا رحيم، فإذا استطاع الإنسان أن يصلي الصلاة المطلوبة وهو قائم ويركع ويسجد فهذا فرض، وإن لم يستطع صلى وهو جالس، فإن لم يستطع صلى وهو على جنبه، يومئ برأسه إن استطاع أو بعينه بالنية، وإن استطاع أن يتوضأ وجب عليه، وإن لم يستطع تيمم، فما دام عقله موجوداً فالصلاة واجبة عليه.
أما الزكاة فلا تجب إلا على صاحب المال، ولا تجب على المسلمين كلهم، فالذي عنده مال ويبلغ النصاب وحال عليه الحول يجب عليه الزكاة.
وأما الصوم فقد خفف الله جل وعلا عن عباده فجعل الصوم الواجب شهراً في السنة فقط، إلا أن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً من نذر وما أشبه ذلك، ثم هو لا يجب إلا على المكلفين العقلاء، ثم إذا مرض الإنسان فإن الله جل وعلا قد رخص له أن يفطر ويأكل ويتقوى ويصوم أياماً أخر، وكذلك المسافر.
وأما الحج فلا يجب إلا على من يستطيع ببدنه وبماله ويأمن طريقه ويجد النفقة لمن يعولهم حتى يرجع، وإذا تخلف شرط من هذه الشروط فالحج ليس واجباً، ولو مات ولم يحج فليس عليه شيء، ولا يجب أن يُحج عنه، والمرأة تزيد على هذا أن تجد لها محرماً ممن تحرم عليه على التأبيد من ابن أو أخ ونحوهما، وكذلك زوجها، ويشترط أن يذهب معها حتى ترجع، فإذا لم تجد محرماً فلا يجب عليها الحج، ولو ماتت ولم تحج على هذه الحالة فليس عليها حج.
فهذه الأمور الخمسة هي التي رُتب عليها دخول الجنة، فإذا جاء بها الإنسان فقد جاء بالحق الواجب عليه الذي أوجبه الله عليه، وهل هذا صعب؟
الجواب
لا.
بل هو سهل جداً، ولكن على من سهله الله عليه، وهذه الأمور جُعلت للناس عامة لم يُخص بها إنسان دون آخر، فلهذا نقول: إن قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يبين، أن الله خلقهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود بالطريقة التي أخبرنا جل وعلا بها، وطلب منهم العبادة، وأخبرهم أنه خلقهم لعبادته، ونهاهم أن يعبدوا غيره، وتوعدهم إذا عبدوا غيره، وأراهم ما حل بالكافرين الذي يعبدون غيره من العقاب والعذاب، وكذلك قدم إليهم بالوحي على ألسنة الرسل أن من عبد غير الله فإنه يخلد في جهنم ما دامت السماوات والأرض، فبعد هذا لا يكون للإنسان أي عذر في تركه العبادة وقد وكِّل الأمر إليه، فقيل له: هذه الأمور المطلوبة منك افعلها إن شئت أو لا تفعلها، فإن فعلتها أكرمت وأثبت ونعمت في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعلها أهنت وعوقبت وعذبت العذاب الأليم الذي لا يطيقه أحد حتى الجبال، ثم بعد ذلك خُلي الأمر وتُرك إليه؛ لأن عنده الاختيار وعنده المقدرة وعنده الاستطاعة، ولم يكلف الله نفساً إلا ما يسعها وما تطيقه وما تستطيعه.
فإذاً يكون معنى الآية واضحاً، وهو أن الله خلقنا وأوجدنا من العدم وطلب منا أن نعبده، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يعني أن الغاية من خلقهم والحكمة من إيجادهم هي العبادة، ثم جعل العبادة إليهم فإن فعلوها فقد فعلوا ما طلب منهم وبه تكون سعادتهم، وإن لم يفعلوها فقد توعدوا وسوف يلقون جزاءهم، وهذا كقوله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] فقوله: (ليطاع) هل كل أحد يطيع الرسول؟!
الجواب
لا.
بل أكثر الناس لا يطيعونه، ولكن هذا لا يمنع أن تكون الحكمة لأجل الطاعة، فعلى هذا يكون المعنى جلياً وواضحاً.(4/2)
شبهة والرد عليها
وليس في الآية إشكال، كما يقول كثير من الناس: إن هذه من المشكلات؛ لأن الله أخبر أنه خلق الخلق للعبادة فتخلفت العبادة وما وجدت من أكثر الناس، وإنما وقعت العبادة من بعضهم، فكيف يخبر الرب جل وعلا بشيء خلاف الواقع؟ فنقول كما تقدم: هذا ليس هو المقصود بالآية، وإنما المقصود بالآية أن ربنا جل وعلا يخبرنا أن الذي خلقنا له هو العبادة، ووكل الأمر إلينا، فإن فعلنا العبادة استحققنا جزاء ربنا في الثواب، وإن لم نفعله فإن الله جل وعلا يعاقبنا؛ لأن هذا هو معنى التكليف، ولا ينافي هذا كون الرب جل وعلا علم كل شيء، ولكن لتمام عدله جل وعلا لا يؤاخذ إلا بالفعل الذي يُفعل، ولا يؤاخذ بعلمه، فإنه علم كل شيء قبل وجود الخلق، يعلم أن هذا المخلوق سوف يولد وسوف يعبد أو لا يعبد، وكل هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما علمه فلا حد له، وعلمه أزلي، علم كل شيء في الأزل تعالى وتقدس، ولكن لتمام عدله فإنه لا يؤاخذ إلا على العمل البارز المشاهد الذي يعمله الإنسان، كما في الحديث الصحيح قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، يعني: ما أحد يدخل الجنة إلا بعمله، ولا أحد يدخل النار إلا بعمله الذي يعمله، فالله يأخذ الإنسان بعمله؛ لأنه ركب فيه العقل والاختيار والقدرة وأمره بما يستطيعه، فإذا فعل ذلك فهذا عنوان الامتثال والطاعة، وإذا امتنع فهذا عنوان الشقاء والمعصية والإباء، وبهذا يتبين لنا معنى الآية.
قال الشارح رحمه الله: [بالجر عطف على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء].
يعني قوله: [وقوله تعالى] بعد قوله: [كتاب التوحيد]، فكتاب مبتدأ، وهو مضاف والتوحيد مضاف إليه، و (قوله): يكون معطوفاً على المضاف عليه فيكون مجروراً، ويجوز أن يرفع فيكون (وقولُه)، فيكون معطوفاً على الخبر المقدر.(4/3)
العبادة(4/4)
تعريفها
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل.
وقال أيضاً: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال ابن القيم رحمه الله: ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية.
وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى].
تعريف العبادة في الحقيقية مهم جداً، لكي يعرف كل إنسان معنى العبادة التي خلق لها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وكثير من الناس اليوم لا يعرف معنى العبادة، كما أنه لا يعرف معنى الإله، وأكثر ما يقع الضلال في المسلمين الذين هم في بلاد الإسلام بسبب هذين الأمرين: الأول: كونهم لم يعرفوا معنى العبادة.
والثاني: كونهم لم يعرفوا معنى الإله، فوقعوا في الشرك لجهلهم بهذين الأمرين.
فعلى هذا يجب على الإنسان أن يتنبه لذلك، ويهتم له مخافة أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ لأن الذي يصرف شيئاً من العبادة لغير الله يكون مشركاً، والله جل وعلا أخبرنا أنه أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك في عمل غير ربه مع ربه جل وعلا تركه الله لشريكه؛ لأنه غني، وهو لا يقبل الشرك تعالى وتقدس، وقد أمر الله بإخلاص العبادة له في آيات كثيرة، منها قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وهذا أمر العباد كلهم من أولهم إلى آخرهم، فالعبادة عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فقوله: (اسم جامع) يعني أن تسمية العبادة عبادة يجمع أشياء كثيرة، يجمع العمل ويجمع القول ويجمع العقيدة؛ لأن الاعتقاد كله عبادة.
فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون العمل عبادة إلا إذا كان مأموراً به، فالله لا يحب ولا يرضى إلا ما أمر به، والشيء الذي لم يأمر الله جل وعلا به لا يكون عبادة، فلا يتعبد الإنسان برأيه أو بنظره وقياسه، وإن كان هذا العمل عبادة في اللغة، ولكنه في الشرع ليس عبادة.
العبادة في الشرع لابد أن يجتمع فيها أمران: أحدهما: أن تكون خالصة لله.
والثاني: أن تكون هذه العبادة قد جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها، فإن تخلف واحد من هذين الأمرين فليست عبادة في الشرع، وإن كانت عبادة في اللغة.
ولهذا قال: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال، مثل التسبيح والذكر والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقال باللسان، والأعمال يدخل فيها أعمال الجوارح، مثل الركوع والسجود والطواف، حتى كَشْفُ الرأس لله جل وعلا في الإحرام عبادة، ويدخل فيه أعمال القلوب، مثل النية والخشية والخوف والرجاء والإنابة والتوبة والندم على الذنب وما أشبه ذلك، فكل هذه من الأعمال، ولهذا قال: من الأعمال الظاهرة والباطنة، فالظاهرة التي تفعل بالجوارح، والباطنة التي تفعل بالقلب، هذا معنى تعريفه هذا، وهو تعريف جامع مانع.
وأما التعريف الثاني: فهو الذي ذكره عن القرطبي أن العبادة هي التذلل، فيقال: طريق معبد إذا ذل بوطء الأقدام وأصبح سهلاً مسلوكاً، وطريق غير معبد إذا كان وعراً، وفيه ما يعثر به القدم، ولكن لابد أن يضاف إلى هذا التعريف أنها التذلل لله مع الحب، وليس كل من ذل لأحد يكون عابداً له، فقد يذل الإنسان لظالم وقلبه يلعنه ولسانه يذكر أنه يحبه، فلا يكون هذا عبادة، وإنما العبادة أن يذل القلب مع محبة المذلول له وتعظيمه، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا.
إذاً العبادة هي غاية الذل مع الحب والتعظيم لله جل وعلا، ولابد أن يكون هذا في الشيء الذي أُمر به الإنسان؛ لأن العبادة -كما قلنا- توقيفية، والله جل وعلا يقول: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وافق العمل السنة صار صالحاً، وإن خالفها فهو فاسد، وقوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، يعني: أن تخلص لله عبادتك، وهذا هو معنى ما جاء في عدد من الآيات، من أنه جل وعلا وصف ما جاء به الرسول أنه هدىً وأنه دين الحق، فالهدى هو: العلم اليقيني الذي يكون على ضوء ما جاء به الرسول، ودين الحق هو: العمل بذلك، فلابد أن يكون القلب والجوارح كلاهما قد تحلى بالعبادة، فعلى هذا كل شيء يعمله الإنسان فإنه يرجو ثوابه من الله، فيجب أن يكون خالصاً لله.
فمن ذلك: الدعاء، والدعاء هو من أفضل العبادة، وقد جاء في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا إذا لم يُدعَ يغضب، ويقول الله جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، ويقول جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
فبين بهذا أن الدعاء هو العبادة، فلا يجوز أن ندعو ميتاً أو غائباً أو من لا يستطيع الإجابة، فإن وقع هذا من إنسان فمعنى ذلك أنه عبد غير الله، وهكذا إذا طلب من مخلوق من المخلوقات ما لا يستطيع، أو طلب من غائب لا يسمع، أو من جني لا يدري هل هو موجود أو هو غائب، أو من ملك لا يدري هل هو حاضر أو غائب، أو ميت لا يستطيع أن يجيب، كل هؤلاء إذا وجه الطلب إليهم يكون ذلك في غير محله، ويكون عبادة صرفت لغير الله، فكل ما يطلب من الله جل وعلا ولا يقدر عليه إلا هو جل وعلا فيجب أن يكون عبادة خالصة له ولا يجوز أن يصرف لغيره جل وعلا.(4/5)
نسبة علم الغيب إلى الله تعالى ومنافاته للعبادة
وأما الإله فهو الذي تألهه القلوب، أي: تحبه وتنيب إليه وتذل له وتعظمه، وبعض الناس قد يعبر عن هذا بالخوف السري، أي: أن الإنسان قد يخاف من مخلوق أن يطلع على ما في ضميره أن يعاقبه، والذي يطلع على الضمائر هو الله فقط، فلا أحد من الخلق يطلع على ما في الضمير أبداً، فمن جعل لمخلوق هذا الشيء فقد أشرك بالله، وإذا جعل للمخلوق الميت الغائب شيئاً من العبادة خوفاً من أنه لو لم يفعل كذا وكذا لأصابه بشيء إما في بدنه أو في ماله أو ما أشبه ذلك فمعنى ذلك أنه أشرك في الخوف الذي يجب أن يكون لله خالصاً، فيكون قد وقع في الشرك، وهذا عام شامل حتى في الرسل، فلا يجوز أن يقول الإنسان: إن الرسول يعلم الغيب؛ لأن الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26 - 28]، أي: أنه يطلع بعض رسله على شيء من المغيبات ليكون ذلك دليلاً على صدقه، وعلى نبوته، وعلى أنه جاء بالحق من عند الله، ويكون آية له، أما أن يُعتقد أنه يعلم ما في القلوب، كما يقول الشاعر الذي وقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصار يدعوه وينزل الدموع ويقول: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء فهذا في الواقع من الشرك بالله؛ فإن الذي لا يخفى عليه شيء مما القلب هو الله جل وعلا وحده، وكذلك قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل: يا زلة القدم ولن يضيق -رسول الله- جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إلى آخر ما قال.
وهذا كله في الواقع صرف لما هو من خصائص الله وجعله للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ويقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فأنا أعوذ بك من الله، أعوذ بالله! وقوله في هذه الأبيات (ولن يضيق رسول الله) يعني: (يا رسولَ الله) بالنصب على النداء.
يقول: ولن يضيق -رسول الله- وجاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم يعني: أنا ألوذ بجاهك من غضب الله، وقوله: (فإن من جودك الدنيا وضرتها) يعني: من جودك الدنيا والآخرة، وقوله: (ومن علومك علم اللوح والقلم) يقول: من جملة علومك -يا رسول الله- علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، وعلم القلم الذي كتب كل شيء، فأشرك بالله جل وعلا، وهذا مثل قول النصارى تماماً حين قالوا: عيسى هو الله -تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً- والمقصود أن الإنسان عبد يجب أن يعلم حده ويعلم قدره، والله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وقد رميت زوجته صلى الله عليه وسلم بالبهت والكذب فبقي قرابة شهر وهو لا يدري، حتى نزل عليه الوحي ببراءتها، بل كان يسأل الجارية ويستشير حتى نزل الوحي من الله يبين أنها بريئة وأن هذا كذب وبهتان، وكذلك صلت ناقته صلى الله عليه وسلم فأرسل من يطلبها، فقال أحد المنافقين: أهذا يزعم أنه يعلم ما في السماء وهو لا يدري أين ناقته؟! فجاءه الخبر من الله جل وعلا فقال: (إني والله! لا أعلم من الغيب إلا ما علمني الله جل وعلا، وإن فلاناً قال كذا وكذا، وإن الله جل وعلا قد أعلمني أنها في الشعب الفلاني قد أمسكت بزمامها شجرة) فأرسل من يأتي بها، إلى غير ذلك من الأشياء وهي كثيرة وكثيرة جداً، وكثير ممن يزعم أنه هو المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل شيء، وأنه يعلم الغيب ويعلم ما يعلمه الله، ويقول: الذي يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب يكون كافراً؛ لأنه لم يعرف قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يكون كافراً في زعمه.
فعلى كل حال ما أعجب ما خلق الله جل وعلا لهذا الإنسان، وما يكون عنده من الأفكار والمحن والاختلافات، والله جل وعلا يقلب القلوب كيف يشاء، فإذا رد الإنسان شيئاً من أمر الله لأجل رأيه أو مذهبه أو اتباع لشيخه فإن الله جل وعلا يعاقبه بأن يزيغ قلبه وبأن يرى الحق باطلاً والباطل حقاً، فيزين له سوء عمله، فمن يهديه؟ لا أحد يهديه، فإذا أضله الله جل وعلا على ذلك يجعله يرى الحسن سيئاً والسيئ حسناً، فلا حيلة فيه إلا أن تطلب له الهداية من الله جل وعلا الذي يستطيع أن يهديه، أما الخلق فلن يستطيعوا، بل ولو بينت له كل البيان ما استطعت أن تهديه، ومع ذلك لا يقال: إنه معذور أو إنه جاهل؛ لأن الله جل وعلا بين لنا والرسول صلى الله عليه وسلم وضح لنا وبلغنا البلاغ المبين، فلا عذر لأحد بعد بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا له: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50]، وقال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:188]، وقد أخبر بهذا جميع الرسل.(4/6)
معنى الشهادتين
العبادة يجب أن تكون خالصة لله، وأن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، فشهادة (أن لا إله إلا الله) يعني: أني لا أعبد إلا الله وحده، وكل معبود من دون الله أكفر به وأتبرأ منه، ومعنى (أشهد أن محمداً رسول الله) أني أتيقن يقيناً أنه رسول من الله جاء بالشرع، وأني لا أعبد الله إلا بالشرع الذي جاء به، فهو الذي بلغني شرع الله وهو الذي أكرمه الله جل وعلا بالرسالة، فهو رسول يطاع ويتبع وليس له من الألهية شيء، فلا يعبد الله إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء به، فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته في أمره واجتناب ما نهى عنه، وأنه رسول مكلف من الله بإبلاغ الرسالة وليس له من العبودية شيء، كما أمره الله جل وعلا أن يبلغ هذا فقال له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وهذا هو أصل دين الإسلام الذي لا يجوز لمسلم أن يكون جاهلاً به، وهو الذي يسأل عنه الإنسان في القبر، فكل مقبور إذا دفن في قبره يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من كنت تعبد؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن الذي جاءك بالعبادة؟ ومن أين أخذت العبادة؟ فكل إنسان يسأل هذه الأسئلة الثلاثة التي هي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فمعنى: (من ربك)؟ أي: من الذي تعبده؟ ومعنى: (ما دينك)؟ أي: ما هو الذي تتعبد به؟ وهل كنت تخلص الدين لله جل وعلا؟ و (من نبيك)؟ معناه: ممن أخذت العبادة؟ ومن هو الذي اتبعته في العبادة؟ فإذا كان موقناً مؤمناً أجاب الجواب الصحيح، وقال: ربي الله، وديني الإسلام، والذي جاءنا بالشرع هو رسول الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وهل يسكتان عند ذلك؟
الجواب
لا.
وإنما يقولان: وما يدريك؟ أي: ما دليلك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، فعند ذلك يقولان له: قد علمنا فيفتح له باب إلى الجنة، ويقولان له: انظر إلى مكانك في الجنة، فإذا رآه قال: دعاني أذهب إليه، فيقولان: نم وأنت ذاهب، فعند ذلك يدعو ويقول: يا رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومنزلي.
أما إذا كان مرتاباً أو شاكاً أو مقلداً فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضربانه بمطرقة من حديد، ويلتهب عليه قبره ناراً، ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، ويقال: انظر إلى منزلك، عند ذلك يقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد وقته هذا أشد منه.
والمقصود: أن هذا يسأل عنه كل مقبور بالغ من ذكر وأنثى، فكل بالغ يسأل عن هذا الشيء، فإن كان متيقناً فهذا الذي يقول الله جل وعلا فيه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وإن كان مرتاباً فهو ظالم لنفسه، حيث ترك أمر الله ولم يهتم به.(4/7)
واجب العباد تجاه الأوامر والنواهي الشرعية
قال الشارح رحمه الله: [ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم.
قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية، قال العماد بن كثير: وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع.
انتهى.
].
هذا تعريف آخر للعبادة، عرفها ابن كثير رحمه الله بأنها طاعة الله بفعل المأمور وترك المحظور، طاعة الله بفعل ما أمر وترك ما حرم، والاستسلام له والانقياد في ذلك، ومعنى أن يستسلم الإنسان: ألا يكون عنده معارضة لشرع الله، وينقاد له، فلو دعي إلى شرع الله وقيل له: هذا حكم الله فعليه أن يقول: سمعت وأطعت، وكذلك لا يجوز له أن يعترض عليه ويقول: ليت هذا الحكم ما كان كذا، أو يقول -مثلاً-: ليت الله لم يحرم الربا، أو ليت الله لم يحرم كذا وكذا أو ليت الله فعل كذا وكذا، فإن هذا لا يجوز، وقائل هذا ليس عابداً في الواقع؛ لأنه اعترض على الله جل وعلا، وكذلك الذي يُدعى إلى أن يحكم بينه وبين من ينازعه بالشرع فيقول: لا، لن أذهب، أو يقال له -مثلاً-: نذهب إلى الشرع ليحكم بيننا، فيقول: لا لن أذهب، فهذا على خطر عظيم، والمسلم إذا دعي وقيل له: هلم إلى حكم الله، يقول: سمعت وأطعت، ولا يتأذى، ولا يقول: حتى تأتيني بجندي، بل ينقاد لشرع الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] يعني: لا يكون في نفس أحدهم ضيق من هذا الحكم، فإذا قيل له: هذا حكم الله، يقول: سمعاً وطاعة وأهلاً وسهلاً، وإن كان عليه يفرح به، فهذا الاستسلام والانقياد هو من العبادة؛ لأنه يطيع الله بأمره ويجتنب نهيه ويسلم لشرعه وينقاد له، وهذا هو العبادة في الواقع، فإذا حصل شيء مما يؤثر على ذلك نقصت عبادته.
قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم، وهو خالقهم ورازقهم.
وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه في الآية: (إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي)، وقال مجاهد: (إلا لآمرهم وأنهاهم)، اختاره الزجاج وشيخ الإسلام].
كل هذا الكلام معناه واحد، وقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (إلا لآمرهم وأنهاهم) أي: آمرهم بطاعتي وأنهاهم عن معصيتي، فهذا هو معنى العبادة، يعني: أنه خلقهم ليكلفهم بالعبادة، فمن أطاع فله الجزاء والثواب، ومن عصى فعليه العقاب.
فهذه أقوال السلف في الآية واضحة، فقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، يعني: خلقتهم لآمرهم بالطاعة وأنهاهم عن المعصية، وقد فعل جل وعلا الخلق وفعل الأمر والنهي، فعلى العباد فعل الامتثال.
والأمور ثلاثة: الأول: خلقهم، والثاني: أمرهم ونهيهم والثالث: الامتثال، فالامتثال عليهم وإليهم، فإن فعلوه وامتثلوا استحقوا الجزاء من الله، وإن أبوا وامتنعوا استحقوا العقاب، فالله خلقهم وأمرهم ونهاهم فعليهم أن يفعلوا الثالث الذي هو الامتثال.(4/8)
جزاء العبادة وجزاء تركها في الدنيا والآخرة
قال الشارح رحمه الله: [قال: ويدل على هذا قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، قال الشافعي: (لا يؤمر ولا ينهى)].
قوله تعالى: (أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) السدى هو: المهمل، وقول الشافعي: (لا يؤمر ولا ينهى) هو معنى الإهمال، فالله لم يهمل خلقه جل وعلا، بل أمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وأعظم ما أمر به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك الذي هو ضد التوحيد، كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، هذا هو الذي ينجي الإنسان في الواقع، لا ينجيه كثرة ماله ولا كثرة جمعه وأنصاره، وإنما ينجيه طاعة الله وعبادته وحده؛ فإنه ليس بين الرب جل وعلا وبين الخلق صلة إلا بالطاعة، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فلا ينفع النسب حتى وإن كان الإنسان ابن نبي، فإذا كان هو عاصياً فلن يستفيد، ولا يستفيد إلا بعمله، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال جل وعلا: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، ولذا اليهود أبناء أنبياء وهم أخبث خلق الله وأبعدهم عن الهدى -نسأل الله السلامة- فهم من أبناء إبراهيم عليه السلام؛ لأن يعقوب هو إسرائيل، ولذا يقول الله جل وعلا لهم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) يذكرهم بأبيهم الأواب الطائع النبي الكريم لعلهم يرجعون، ولكن عاندوا وكفروا وتكبروا، فلأجل ذلك أحل الله عليهم لعنته، وأخبر سبحانه أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة وإن كانوا أبناء أنبياء.
والمقصود: أن الإنسان مهمته أن يطيع ربه، فإذا أطاع ربه فهذه الطاعة في الواقع سعادته، يسعد بها في الدنيا والآخرة، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، الأبرار في نعيم في الدنيا وفي الآخرة وفي القبر وبعد البعث، والفجار في جحيم في دنياهم، وإن كانوا يتنعمون في الظاهر فإن في قلوبهم وأكبادهم أشياء تكاد تحرقها، ولهذا بعضهم ينتحر استعجالاً للموت بزعم أنه يستريح، وهو في الواقع ينتقل من عذابه إلى ما هو أشد -نسأل الله العافية-، فالكافر في جحيم وفي عذاب يجد نفسه دائماً في اضطراب وفي نكد وتنغيص، بخلاف المؤمن فإنه وإن كان فقيراً تجده سعيداً راضياً بما هو فيه، ويشكر ربه ويسأله، فهو يرجو أن تكون له السعادة بعد حياته هذه، وإذا مات لقي نعيماً ما كان يتصوره، ويكون على روحه، وإذا اجتمعت الروح بالجسد وبعث فمسكنه الجنة، والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والمقصود: أن الإنسان خلق لعبادة الله، فإن عبد الله فهذه سعادته، وإن لم يعبد الله فهو شقي في حياته الدنيا وبعدها.(4/9)
عبادة الله وطاعة الرسل واجبان على العباد
قال الشارح رحمه الله: [وفي القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، فقد أمرهم بما خلقوا له، وأرسل الرسل بذلك، وهذا المعنى هو الذي قُصد بالآية قطعاً، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه.
قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، ثم قد يطاع وقد يعصى].
معنى قوله تعالى: (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: بأمر الله، فالرسول يطاع بأمر الله الذي أرسله به الذي هو الشرع، فالرسول أرسل بالشرع الذي أوجب على العباد أن يطيعوه به، ولكن أكثرهم لم يطعه، وأمر الله قد يأتي ويراد به أمره الشرعي، ويأتي ويراد به أمره القدري، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] يعني: أمراً قدرياً.
أي: مقدر سابق في علم الله وفي كتابته، وكذلك الحكم، وكذلك القضاء فإنه يأتي شرعياً ويأتي قدرياً.(4/10)
الإرادة الشرعية والكونية
قال الشارح رحمه الله: [وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول -وهو خَلقهم- ليفعل بهم كلهم الثاني -وهو عبادته- ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم، انتهى.
ويشهد لهذا المعنى ما تواترت به الأحاديث، فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم.
فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك -أحسبه قال: ولا أدخلك النار- فأبيت إلا الشرك)، فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه، من توحيده، وألا يشرك به شيئاً، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره، وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم].
يعني أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية دينية تتضمن دين الله وأمره ومحبته، وإرادة كونية قدرية لا يلزم أن يحبها ولا يأمر بها، ولكن كل شيء يقع فهو بالإرادة الكونية، فإن كان الواقع محبوباً لله فإن الإرادتين تتفقان فيه، كالطاعة -مثلاً- والإيمان، فطاعة الطائع وإيمان المؤمن اجتمعت فيهما الإرادة الكونية والإرادة الدينية الأمرية الشرعية، ولولا الإرادة الكونية ما حصل شيء؛ لأنه لا يكون في الوجود إلا ما أراده الله جل وعلا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كما يقوله المسلمون، كل المسلمون يقولون هذا، يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فمشيئة الله نافذة عامة لا يخرج منها شيء، وهذه المشيئة هي الإرادة الكونية، فالمشيئة والإرادة الكونية شيء واحد، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]؛ لأن كل شيء بإرادته ومشيئته.(4/11)
الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية
قال الشارح رحمه الله: [فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي، فافهم ذلك تنجُ من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم].
يقول المؤلف: إن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية أمرية، وإن الفرق بينهما لابد منه حتى ينجو الإنسان مما وقع فيه كثير من أصحاب الكلام الذين وقعوا في الخطأ وعدم التفريق؛ لأن عدم الفرقان يوقع في الخطأ، وهذا يتعلق بالقدر ويتعلق بالخلق والأمر، فهو عام شامل.
فالإرادة الكونية هي المشيئة التي يقول عنها المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه عقيدة المسلمين، فكل مسلم يعتقد أنه لا يوجد إلا ما شاء الله، وأن الشيء الذي لم يشأه الله هو المعدوم الذي لم يوجد، فهذه المشيئة العامة الشاملة هي الإرادة الكونية، ولا فرق بينهما، بل الإرادة الكونية هي المشيئة العامة، قال الله جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، فأخبر أن كل شيء يقع من أفعال الناس وغيرهم فإنه يقع بمشيئته، كل حادث يحدث سواء أكان بسبب فعل الإنسان أم كان بسبب آخر فإنه لا يقع إلا بمشيئة الله، ولو شاء الله ما وقع.
ويقول جل وعلا: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، فهذه الإرادة في هذه الآية هي المشيئة وهي الإرادة الكونية، فهو جل وعلا يخبر أنه لا أحد يهتدي إلا إذا هداه الله، وكذلك الضلال يُضل سبحانه من يشاء ويهدي من يشاء، كما بين ذلك في آيات كثيرة، ثم هذا لا ينافي كون الإنسان له اختيار وله قدرة؛ لأن الله خلقه وخلق له القدرة التي بها يعمل أعماله باختياره وإرادته التي لا أحد يرغمه عليها، وكل إنسان يجد هذا من نفسه، فالله خالقه وخالق البواعث التي تبعثه على العمل، وخالق القوى التي بها يعمل من الفكر والنظر والأيدي والأرجل والسمع والبصر وغير ذلك، فصح بهذا أن الله خالق الإنسان وخالق أفعاله، وأن خلق أفعال الإنسان لا تخرجه عن كونه مختاراً يفعل ما يفعله باختياره وبقدرته وإرادته.
ثم إن الله جل وعلا برحمته وإحسانه لم يكلف الإنسان إلا ما يطيقه، فكلفه بتكاليف محدده يستطيع أن يفعلها بكل سهولة إذا انقاد لذلك واختاره، ويستطيع أن يتركها، وجعل الأمر إليه، وبين له جل وعلا طريق الهدى وطريق الضلال، وكذلك أرى خلقه ما فعله بمن سبقهم من المثلات من العظات، ولهذا قص علينا قصص الأمم السابقة لنعتبر بها ونتعظ حتى يكون لنا زاجراً وداعياً، فأكرم المؤمنين أتباع الرسل ونصرهم في الدنيا، وكذلك أخبر أنه يكرمهم في الآخرة ويعلي درجاتهم، وكذلك عذب المجرمين المكذبين وأخذهم بأنواع العقوبات وأنواع العذاب، وأخبر أنهم في الآخرة يصلون في النار عذاباً لا يشبه عذاب الدنيا، كل هذا من الدواعي والدوافع التي تدعو الإنسان إلى فعل المأمور وترك المحظور، وكذلك ما وصف الله جل وعلا من أوصاف الجنة وما فيها من النعيم، وأوصاف النار وما فيها من النكال الأليم، كل هذا ليكون ذلك داعياً ودافعاً لفعل المأمورات وترك المحظورات، فبعد هذا لا يكون للإنسان عذر، أما إذا أعرض الإنسان عن الاعتبار بآيات الله سواء آياته جل وعلا القرآنية السمعية أو آياته الأفقية التي منها أَخْذُ المكذبين وإكرام المطيعين، أو الآيات النفسية يعني: الآيات التي في نفس الإنسان؛ لأن نفسه تدله على ربه جل وعلا، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، قال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22].
وقال: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، ففي هذه الآيات يأمرنا جل وعلا أن نعتبر بأنفسنا وننظر إلى خلقنا؛ لأن الخلق عجيب وعجيب جداً يدل على الرب جل وعلا، وفيه عبرة تجعل الإنسان يعتبر، وتجعله يعبد ربه، وإذا أعرض الإنسان عن هذا كله وأصبح شبيهاً بالبهائم يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويعرض عما خُلق له وينسى ما جاءت به الرسل ثم يقول: أنا جاهل ما أعرف فهذا ليس له عذر، وقد قامت عليه الحجة؛ لأنه قد جاءته الرسل وجاءته الآيات والأدلة، ولكن أعرض بنفسه، فاللوم عليه وهو الملوم؛ لأنه فعل ما يلام عليه، وأعرض عما خلق له وأعرض عن آيات ربه.
والمقصود أن الله جل وعلا كل شيء يجري بتقديره وبمشيئته وإرادته، فالمشيئة هي الإرادة الكونية، والإرادة الكونية لا تنافي كون الإنسان مختاراً يفعل باختياره، وكونه يحاسب على عمله إن عمل خيراً جزي به؛ لأنه هو العامل، وإن عمل سوءً عوقب عليه، فلا يكون مثل خصماء الله الذين يخاصمون الله في خلقه اتباع عدوهم الشيطان، فالشيطان خاصم ربه وقال له لما أمره أن يسجد لآدم كما حكى الله عنه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، يعني: إنك ما وضعت الأمور في مواضعها وإنما الصواب ما أراه أنا: أن تأمره أن يسجد لي لأني خير منه؛ لأن أصلي النار وهو أصله الطين، والنار أفضل من الطين هذا قول الشيطان، وهذه خصومة خاصم بها ربه، كذلك المشركون خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركهم، فقالوا له كما حكى الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، أي: أنهم يقولون: إن شركنا وعبادتنا للأصنام وقعت بمشيئة الله، ولو لم يكن راضياً بذلك ما شاءه، هذا معنى كلام المشركين، أي: أنهم اعترضوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله بقضاء الله وبمشيئته، فاعترضوا مثل اعتراض الشيطان، فهو الذي هداهم إلى هذا؛ لأن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فشياطين الجن توحي إلى شياطين الإنس، وبعضهم يوحي إلى بعض، فالواجب على العبد أن يعلم ما أراد الله منه، وأن يعبد الله جل وعلا قدر استطاعته، والله ما كلفه ما لا يستطيع، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وكل ما ذكره الله جل وعلا عبر، ولا يجوز أن يذهب الإنسان إلى ما ذهب إليه المنحرفون سواء أهل الجفاء أو أهل الغلو.
والناس دائماً عند أوامر الله وعند أحكامه وأقضيته ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: قسم يفرط ويترك ما هو واجب عليه، وقسم يتجاوز الحد ويزيد على الحد المشروع فيقع في الخطأ، وقسم يتوسط فيتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا في كل الدين والشرع، فهنا من الناس من غلا، كما يذكر عن بعض العباد والمجتهدين أنهم يقولون: ما نعبد الله لأجل جنته أو خوفاً من ناره، وإنما نعبده حباً له.
وهذا خطأ، بل الإنسان ضعيف مسكين لو مسه العذاب ما استطاع أن يصبر عليه، ولا غنى له عن رحمة الله أبداً، والله جل وعلا ذكر لنا الجنة وذكر لنا النار حتى تكون ذلك حادياً وداعياً يحدو إلى العمل ويدعو إليه، وكذلك ذكر ذلك يمنعنا من المخالفات، ولهذا يذكر عن والشبلي رحمه الله - الشبلي كان من المجتهدين ومن العباد المعروفين- أنه كان يقول مثل هذا القول، فابتلي بحبس البول، وحبس بوله فصار يمشي على الأطفال الذين كان يعلمهم القرآن ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب؛ لأنه لما ذاق الألم عرف أنه ما يستطيع أن يصبر على عذاب الله، ومثل هذا هو موعظة تُقدم للإنسان، فالمؤمن يعبد الله طلباً لثوابه وهرباً من عقابه، ويكون عابداً له مخلصاً له في ذلك، والله غني عن العباد، فلا تزيده طاعتهم شيئاً ولا تنقصه معصيتهم ولا تضره تعالى وتقدس، فإن أطاعوا فلأنفسهم، وإن عصوا فعليها، والله تعالى وتقدس غني عن العالمين، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الطويل القدسي الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا -إلى أن قال:- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، ثم قال في النهاية: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالواجب على العبد أن يعرف ربه بأفعاله وأوصافه، ومنها إرادته الكونية، وسميت كونية لأنه يكون الأشياء بها، ويقول للشيء: (كن) فيكون، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] تعالى وتقدس، وقال جل وعلا: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47]، (بأييدٍ) يعني: بقوة، ما هو بمساح ومجارف وبأدوات رفع أو غيرها، وإنما يقول لها: (كوني) فتكون، وقال سبحانه: {(4/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [5]
أنبياء الله تعالى دينهم واحد وإن اختلفت شرائعهم، فكل واحد منهم جاء بالدعوة إلى توحيد الله، والنهي عن الشرك، والأمر باجتناب الطاغوت، وهو كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع.(5/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]].
هذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
(ولقد): الواو هنا واو القسم، واللام موطئة للقسم، فالله يقسم، وهل نحتاج إلى أن يقسم ربنا لنا؟ الله جل وعلا هو أصدق قيلاً، ولا يمكن أن يخبر عن شيء خلاف الواقع تعالى وتقدس، ولكن الإنسان ظلوم كفور، وظلوم جهول، لهذا تمادى كثير من الخلق بظلمه، فأقسم رب العالمين له: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً)، والبعث في الأصل: هو إثارة الشيء.
يقول العرب: بعث فلان البعير.
إذا أثاره من مبركه، ويقال: بعث الصيد.
إذا أثاره من مكامنه.
ويقال: بعثت فلاناً إلى فلان، أي: أرسلته برسالة إليه سواء أكانت الرسالة كلاماً أم غير ذلك، ومنه البعث الذي أخبر الله جل وعلا به: {وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] يعني: إخراج الموتى أحياءً بعدما كانوا رميماً، بل بعدما كانوا تراباً؛ لأن الإنسان إذا قبر وبقي شهوراً وسنيناً تبلى عظامه وتصبح تراباً، ويبقى منها جزء صغير جداً قد لا يرى بالعين يسمى (عجب الذنب)، جزء صغير جداً في أسفل ظهر الإنسان، منه ينبت الإنسان مثل البذرة التي تكون للشجرة، فلو أتيت إلى أرض هامدة في الصيف مثلاً، وبحثت بكل ما تستطيع أن تبحث عن بذور فيها فلن تجد شيئاً، ثم إذا نزل المطر يخرج النبات بكثرة، كذلك الإنسان يتفتت ويصبح تراباً كما أخبر الله جل وعلا أنه يعيدهم تراباً، وهو ما خلقوا منه، فإن أصل خلقنا من التراب، خُلِق أبونا آدم من تراب كما أخبر الله جل وعلا بذلك، ثم يعاد الإنسان إلى أصل خلقه التراب، إلا الرسل فقد حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل أجسادهم، فلا تبلى أجسادهم بل تبقى طرية كرامة لهم، ومع ذلك يموتون، فكل رسول مات، وما بقي أحد من الرسل، كلهم ماتوا وذهبوا إلى ربهم، ثم يبعثون كما يبعث غيرهم من الخلق، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي الذي لطمه أحد الصحابة، كان يبيع سلعة في سوق المدينة، فجاء أحد الصحابة فقال: أشتريها بكذا، فقال: والذي فضل موسى على العالمين لقد أعطيت بها كذا وكذا، يعني: أكثر من هذا، عند ذلك غضب الصحابي وقال: تقول هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا؟ فلطمه، يعني: إنك تفضل موسى على نبينا، فجاء اليهودي يشتكي من الصحابي، فقال: يا رسول الله! إنه يقول كذا وكذا، عند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإني يوم القيامة أكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى قائماً قابضاً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، وفي رواية في صحيح مسلم: (فيصعق الناس الصعقة الثانية، فأكون أول من ينفض التراب عن رأسه، فأجد أخي موسى قائماً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، وصعقة الطور هي حينما سأل ربه النظر كما قال الله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، فهذه صعقة الطور التي حصلت له لما تجلى الله جل وعلا للجبل، فتدكدك الجبل وصار دكاً، أي: صار هباء لرؤية الله جل وعلا، مع ذلك وقد تجلى الله تعالى قليلاً جداً جداً، حتى جاء عن بعض السلف أنه قال: مثل ثقب الإبرة.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات)، وهكذا كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه إذا تكلم لا يطيل الكلام، ويتكلم بكلام واضح جلي يحفظ عنه، يقول: (قام فينا بخمس كلمات)، يعني: قام يخطب بخمس كلمات، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً صلوات الله وسلامه عليه حتى تحفظ، ولهذا حفظ الصحابة أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، يقول: (قام فينا بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصره جل وعلا لا يمكن أن يحول دونه شيء، يبصر كل شيء، ولكن احتجب عن خلقه بالنور، حتى لا يذهب الخلق كله، وسبحات وجهه، أي: نور وجهه وجماله وبهاؤه.
هذه سبحات وجهه، لو كشف الحجاب لزال كل شيء، وما يستطيع شيء أن يقوم لنور الله جل وعلا، وقد يقول قائل: إذاً كيف يراه الناس يوم القيامة؟ نقول: الرؤية يوم القيامة غير هذه، رؤية يوم القيامة رؤية نعيم، إلا الرؤية في الموقف فإنها أمر آخر، وقد ثبت أن المؤمنين يرونه، ثم إن الخلق يركبون تركيباً لا يقبل الموت، يركبون بالبعث تركيباً لا تقبل الروح فيه مفارقة الجسد أبداً، يركبون للحياة الأبدية، ولهذا يدخل أهل النار النار ويصلونها دائماً ولا يموتون، ولا يوجد موت، وكذلك أهل الجنة لا يوجد عندهم موت مهما عظمت الكوارث، وأحوال القيامة ما أحد يستطيع أن يقوم لها في تركيب الخلق اليوم أبداً، فسيموتون في أول وهلة لو كانوا على هذه الصورة وهذه الحياة، كيف يقفون ألف سنة على أقدامهم؟ يستطيع الإنسان حينئذ ذلك وهو عار، فلا يوجد ثوب، ولا نعال، ولا أكل، ولا شرب، ألف سنة والشمس فوق رأسه ما تغيب عنه أبداً، ولا يجد إلا موطئ قدميه فقط، وليس هناك جلوس، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وهو يوم عسير على الكافرين، ولكننا ننسى هذا الشيء ولا نذكره، والواجب أن يهمنا كثيراً، والمقصود أن حياة الناس بعد البعث غير هذه الحياة، هي حياة أخرى، حياة لا تقبل الموت أبداً، فلو جاءه الموت من كل مكان لا يموت.
يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36] البعث هو الإثارة، ومعنى هذا: أن الله أرسل الرسل من الأمم إليهم، كل أمة بعث الله منها رسولاً يعرفونه، يعرفون نسبه، ويعرفون صدقه، ويعرفون أمانته، كل أمة يأتيهم رسول بهذه الصفة، فيعرفون لسانه، ويعرفون أمانته وصدقه؛ لأنه لا يبعث إلا خيار الخلق، وهو فضل الله يتفضل به على من يشاء، فيرسله إلى قومه.
وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36]، كل رسول يقول لقومه هذه المقالة (اعبدوا الله)، كل رسول يقول هذا القول لأمته، فدل هذا على أن دين الله واحد وهو عبادة الله وحده، وأن الخلق خلقوا لهذا، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعبد غير الله، وأن سبب شرك المشركين أنهم وزعوا العبادة بين الله تعالى وبين المعبودات الأخرى فحصل الشرك بذلك، وهذا لا يسمى عبادة، فلا تسمى العبادة عبادة إلا إذا كانت خالصة لله، والعبادة سبق تعريفها أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالقول الذي يكون باللسان مثل التسبيح والتهليل والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا كله عبادة، وكذلك الأعمال التي تكون بالجوارح مثل الركوع والسجود والمشي إلى المساجد والجهاد والحج، ومنه أيضاً الأعمال التي تؤدى بالأيدي من الصدقات، وكذلك إنكار المنكر الذي يُتناول باليد، وكذلك إزالة المؤذيات عن الطرق، فهذه عبادة يثاب عليها الإنسان، وكذلك الأعمال الباطنة -أعمال القلب- مثل الخشية والخوف والرجاء والحب والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، هذه كلها عبادة، فالعبادة تشمل كل ما أمر الله جل وعلا به، وأحب وجوده من الإنسان وأثاب عليه، وكذلك تشمل ترك كل ما نهى الله عنه، فإذا ترك الإنسان المعصية خوفاً من الله فهي عبادة، ولا يجوز أن يترك الإنسان شيئاً لأجل الإنسان؛ لأن هذا عبادة، ولا يجوز أن تكون العبادة لغير الله، كما أنه لا يجوز للإنسان أن يفعل شيئاً مما يطلب الثواب عليه من أجل الإنسان؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله، فالمقصود أن دين الرسل واحد، كلهم أمروا أممهم أن يعبدوا الله وحده.
{أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، والطاغوت مأخوذ من الطغيان، والطغيان: هو تجاوز الحد.
والإنسان إذا تجاوز حده صار طاغوتاً، والحد هو الشيء الذي خلق له الإنسان، والإنسان خلق عبداً ليعبد الله، فإذا نصب الإنسان نفسه ليكون رباً صار طاغوتاً، فإن نصب نفسه ليكون معبوداً، أو نازع الله في حكمه وأصبح يحكم بغير ما أنزل الله صار طاغوتاً، فعن جابر بن عبد الله أنه قال: (الطاغوت الشيطان)، وفي رواية: (كهان ينزل عليهم الشياطين)، فالكاهن هو الذي ينزل عليه الشيطان، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (الطاغوت الشيطان)، وجاء عن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت)، فكل المعبودات طواغيت إلا الذي يعبد وهو غير راضٍ، كالصالحين والأولياء والأنبياء، فبعضهم يعبدون ولكنهم لا يرضون بهذا، النصارى يعبدون عيسى، واليهود يعبدون عزيراً، فلا يسمى هؤلاء طواغيت، ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأصنام أنها وعابدوها في جهنم جاء رجل من الكفار وقال: أنا أخاصمك فأخصمك، قال له: ألم يعبد عيسى؟ ألم يعبد عزير؟ فإذاً يكونون في النار، فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون(5/2)
معنى الطاغوت
قال الشارح رحمة الله عليه: [الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الطاغوت الشيطان)، وقال جابر رضي الله عنه: (الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين)، رواهما ابن أبي حاتم، وقال مالك: (الطاغوت كلما عبد من دون الله).
قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حداً جامعاً، فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته].
في هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله بيان الطاغوت وحده، يقول: كل ما خرج عن طوره وعن المعنى الذي خلق له يكون طاغوتاً أو يكون عابداً للطاغوت.
وذلك أن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وحرم عليهم غير هذا، فحرم كل ما صد عن العبادة، وكل إنسان عبد غير الله فقد أشرك، ويكون العابد لغير الله عابداً للطاغوت، وبين أن هذا يكون في العبادة، ويكون في الطاعة، ويكون في الاتباع، ولا يخرج الإنسان عنها.
والعبادة في الواقع ليست هي السجود والركوع في الصلاة وما أشبه ذلك، العبادة هي عبادة القلب، أن يتعبد القلب لشيء، فعبودية القلب يجب أن تكون لله وحده، ومن أجل هذا حرم الله على عبده أن يسأل المخلوق؛ لأن في المسألة ميل للقلب، ومودة لمن أعطى وبذل، ويصبح يحبه القلب ويتعلق به، والله أراد من عبده أن يكون قلبه كله له، وأن يكون حراً، وأن يكون مع الناس الآخرين مثلهم لا يتعبد قلبه لهم، فإذا أنعم أحد عليه بنعمة يقابلها بمثلها أو بأحسن منها، فإذا أحد أعطاه شيئاً يبذل له مثله أو أحسن منه حتى يكون قلبه سالماً لله جل وعلا سليماً من التعبد لغيره، وسبق أن المسألة من المحرمات التي تباح في موطن الضرورة، فالضرورة تبيح المحرمات كما هو معلوم، أما إذا لم يضطر الإنسان فيجب أن يكون عبداً لله، لا يتعبد قلبه لغير الله جل وعلا، وهذا من ناحية عبودية القلب.
وكذلك الجوارح، كونه يخضع في ظاهره لغير الله جل وعلا، وإن كان قد يكون هذا تستراً وتقية، وإلا فالقلب يبغض هذا المخضوع له، بل قد يلعنه؛ لأنه إما أن يكون ظالماً يقهره بذلك ويذله، فهذا لا يكون عبادة؛ لأن العبادة لابد أن يجتمع فيها التعظيم والذل والحب، وإذا لم يجتمع فيمن يعبد الذل والخضوع والتعظيم مع المحبة لا يكون عابداً، ولكن كون الإنسان يصد عن عبادة الله ويعرض عنها نهائياً، ويشتغل في غيرها فهذا من الإعراض ومن عدم الاهتمام بعبادة الله جل وعلا، والله خلق عباده ليعبدوه، ولهذا أخبر الله جل وعلا عن الذين يعرضون عن آياته أنهم من أهل النار، نسأل الله العافية، والعلماء يذكرون من نواقض الإسلام أن الإنسان إذا لم يهتم بدينه ولم يرفع به رأساً يكون مرتداً وإن كان مع المسلمين، فلابد أن يهتم بدينه ويهمه مصيره وما خلقه الله له، ويسأل عن ذلك، ويؤدي الواجب عليه، فلابد من الالتزام، والالتزام شرط في صحة الإسلام، كونه يلتزم بالإسلام، ويلتزم بمعنى (لا إله إلا الله)، فيشهد أن لا إله إلا الله ويلتزم بذلك، وإلا فلا يفيده مجرد انتسابه، ومجرد كونه عاش في بلد مسلم وبين مسلمين إذا كان معرضاً عن عبادة الله.
ومن الطواغيت من جاوز حده في الاتباع، وكون الإنسان يتبع في دينه شخصاً بعينه في أمور دنياه، لا يدخل في ذلك، بل ذلك في أمر الدين فقط، أما أمور الدنيا فللإنسان أن يفعل كل ما فيه صلاح دنياه إذا لم يكن ذلك محرماً، وهذا مباح له، ولكن كونه في أمر دينه يتبع شخصاً بعينه، فيجعل أقواله هي التي يجب أن يأخذ بها ولو جاءت النصوص من كتاب الله ومن أحاديث رسوله لم ينظر إليها، فيقول: هذا الشخص أعلم بها مني ومن الآخرين.
فهذا الذي يخشى عليه؛ لأنه في الواقع جعل هذا الشخص في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طاغوت؛ لأنه اتبعه في الدين بلا دليل، وليس الكلام في الذين لا يعرفون الأدلة، الكلام فيمن يعرف الدليل، أما العامي الذي لا يعرف دليلاً، ولا يعرف معاني الآيات ومعاني الأحاديث فهذا فرضه وواجبه أن يسأل من يثق به من أهل العلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فهذا الذي يستطيع أن يفعله، ولو استطاع أن يتعلم لوجب عليه ذلك.(5/3)
جميع الرسل يدعون إلى التوحيد ويحذرون من الشرك
ومن الطاغوت من جاوز حده في الطاعة فيطيع المخلوق في المعصية، يعرف أنها معصية ويأمره بها، ويطيعه في معصية الله، فهذا المطاع في معصية الله يكون طاغوتاً، ومن أطاع مخلوقاً في معصية الخالق فقد اتخذه طاغوتاً، ويدل على هذا ما جاء في قصة عدي بن حاتم عندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قول الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، والآية في اليهود والنصارى، وعدي بن حاتم كان من نصارى العرب، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنا لم نعبدهم! فقال: بلى، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه، ويحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: بلى، قال: تلك عبادتهم)، فليست العبادة فقط أن يسجد الإنسان لإنسان، ويحبه محبة الذل والخضوع، يكفي في هذا أن تكون عبادة طاعة، وعبادة الطاعة أن أطاعوهم في معصية الله؛ لأن الذي يترك الواجب ويأمر غيره بتركه هو في الواقع منازع لله جل وعلا محاد لله جل وعلا، وكذلك الذي يفعل المحرم ويدعو غيره إلى فعله ينازع الله جل وعلا في شرعه وفي أمره، ومن هذه الناحية يكون طاغوتاً.
قال الشارح: [وأما معنى الآية فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولاً بهذه الكلمة {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه.
كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، وهذا معنى (لا إله إلا الله)، فإنها هي العروة الوثقى، قال العماد ابن كثير في هذه الآية: كلهم -أي: الرسل- يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35]؟ فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهى تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] انتهى.
].
سبق أن مشيئة الله جل وعلا عامة شاملة ما يخرج عنها شيء، وأن المشيئة إذا جاءت تكون مرادفة للإرادة الكونية؛ لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية وهي المشيئة، ولا يوجد فرق بين أن نقول: إن الله يفعل ما يريد.
أو أن نقول: إن الله يفعل ما يشاء.
كلها سواء بمعنى واحد، ولكن هناك معنى آخر للإرادة، وهي إرادة دينية، كما قال الله جل وعلا في ذكره للتخفيف والتيسير في الشرع: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، فالتخفيف ما وقع للناس كلهم، والبيان من الله وقع، والتخفيف كذلك وقع من الله، ولكن كثيراً من الناس ما انتفع به؛ لأنه لم يقبله ولم يرفع به رأساً، فالمقصود أن هذه الإرادة تتعلق بدينه، وتتعلق بكتابه وشرعه، أما الإرادة التي تتعلق بملكه وتصرفه فهي الإرادة الكونية، كقوله جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، يعني: أمرناهم أمراً قدرياً كونياً ففسقوا فيها فدمرناها تدميراً، فينبغي أن نفرق بين هذه وهذه.
ثم سبق أن الإرادة الكونية -وهي المشيئة- لا تنافي كون الإنسان مريداً لما يفعله ومختاراً لما يفعله؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق له قدرة وإرادة، وبهذه القدرة والإرادة والاختيار الذي خلقه له يستطيع أن يفعل الشيء الذي يريد أن يفعله، ويستطيع أن يترك الشيء الذي يريد تركه، ولهذا استحق الثواب على فعل الخير والواجب، واستحق العقاب على ترك الواجب وفعل المحرم.
ثم إن الله جل وعلا زيادة في الرحمة والإحسان إلى العباد بين لهم ما شرعه من العقوبات على المخالفين، وما أكرم به المؤمنين الذين اتبعوا أمره وأطاعوه، وهذا أمر لا ينكره أحد، فكل الخلق يعرفونه؛ ولهذا يقول الله جل وعلا لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] قل: لست أول رسول يأتي إلى الناس، فقد سبقني رسل، فينبغي أن تنظروا وتستدلوا.
وبهذا يقطع الإنسان قطعا لا يتطرق إليه شك أنه رسول مثل الرسل السابقين؛ لأنه جاء بمثل ما جاءوا به، وقد قص الله جل وعلا علينا قصصهم، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه أرسل الرسل للأمر بتوحيد الله وطاعته وعبادته، وتنهى عن عبادة غيره، وأولهم نوح، فنوح عليه السلام هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]، أما قبل نوح فكان بنو آدم على الحق، لا يحتاجون إلى رسول، فنبيهم هو أبوهم آدم عليه السلام فهم يتبعونه، وبقوا على هذا -كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس - عشرة قرون كلها على التوحيد، ثم بعد ذلك طرأ الشرك عليهم، فبعث الله جل وعلا نبيه نوحاً عليه السلام، فبقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله، وهذا وقت الدعوة، لبث فيهم يدعوهم هذه المدة الطويلة ويرجو أن الله جل وعلا يبعث من أولادهم من يعبد الله، ولكن في النهاية كأنه يئس فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فدعا عليهم بدعوته التي استجاب الله جل وعلا له بها، فأغرقهم الله، ثم صارت ذرية نوح هم الباقين كما قال لنا ربنا جل وعلا، أما الذين معه في السفينة فكلهم فيما يظهر لم يعقب؛ لقوله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، ولهذا يقول المؤرخون: أبونا الثاني هو نوح.
فكل من على وجه الأرض أبوهم نوح، وهو الأب الثاني، أما الأب الأول فهو آدم عليه السلام؛ لأن أولاده هم الذين صارت لهم الذريات التي انتشرت في الأرض، ثم حدث فيهم الشرك مرة أخرى، وقد صار أولادهم منتشرين في الأرض كلها، فكل إقليم أرسل إليه رسول لكل جهة من الجهات، وقد يكون في آن واحد عدد من الرسل، في وقت واحد يرسل كل رسول إلى بلاد، كما هو واضح في قصص الأنبياء، ومن أوضح ذلك ما جاء في قصة إبراهيم عليه السلام مع من أضافهم من الملائكة، فلما قدم لهم الطعام أوجس منهم خيفة، فأخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وهذا يدلنا على أن لوطاً أرسل إلى جهة أخرى في وقت إبراهيم، فأخذهم الله جل وعلا بالعذاب، وكان إبراهيم يجادل فيهم.
وعلى كل حال فحجة الله قامت على الخلق بإرسال الرسل، والله أخبرنا أنه أرسل رسله تتراً، ومعنى (تتراً): تتتابع.
بعضهم في إثر الآخر، كلما احتاج الناس إلى رسول يرسله الله جل وعلا إليهم، وخاتمهم الذي ختموا به هو محمد صلوات الله عليه وعلى إخوانه المرسلين جميعاً، وعلى أمته تقوم الساعة، ولا يوجد بعده رسول؛ ولهذا أخبرنا جل وعلا أن الساعة اقتربت، كما قال جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، ومن أسمائه صلوات الله وسلامه عليه: (نبي الساعة)؛ لأن الساعة تقوم عقبه على أمته، فليس للخلق حجة، وإذا علم الإنسان أن الله أرسل رسولاً وأنزل كتاباً وجب عليه أن يبحث عن ذلك، ويجب عليه وجوباً، ولا يجلس ينتظر ويقول: حتى يأتيني أحد يبين لي، أو يقول: أنا ما جاءني أحد، ما أحد بين لي، يجب عليك أن تبحث أكثر من طلب الطعام والشراب، فلو أن الإنسان جلس في بيته لا يطلب ما يأكل ولا يشرب ومات، فإنه يعد قاتلاً لنفسه، فكيف إذا جلس وترك دين الله؟! هذا أعظم إثماً من كونه يترك الأكل والشرب، فالذي يحبس نفسه عن الأكل والشرب حتى يموت يقال: إنه قاتل لنفسه.
فتارك دين الله أعظم من ذلك، فالله جل وعلا يسأل الناس كلهم، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، كلهم يسألون، وقد جاءت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا وضع في قبره يسأل عن ربه وعن نبيه وعن دينه، فيقال: من تعبد؟ وبأي دين تعبد؟ ومن الذي جاء بهذا الذي تتعبد به؟ هل جاءك به أحد أو هو من عند نفسك؟ إن المسألة ليست مسألة اختراع ونظر وقياس ونظر إلى المجتمع وفعل ما يروق له، المسألة تكليف من الله جاءنا من السماء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب علينا(5/4)
دين الأنبياء واحد
قال الشارح: [قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها، وذلك قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]، فتدبر! ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل؛ دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وأنه لابد في الإيمان من عمل القلب والجوارح].
الشرائع هي التي تشرع للعمل، وتختلف شرائع الأنبياء، وهي التي يكون فيها النسخ، فشريعة تنسخ أخرى، وقد أنكر اليهود ذلك وقالوا: لا يجوز أن تنسخ شريعة موسى بشريعة عيسى.
فأبوا أن يتبعوه، كذلك أبوا أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك، أما العبادة والتوحيد فكل الأنبياء دينهم الإسلام، وهو الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له وإخلاص الوجه والقلب له، كلهم جاءوا بهذا، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله)، فأصل الدين ألا يعبد إلا الله، وأن تكون العبادة بشرعه الذي شرعه لرسله فقط، وهذا أمر تتفق عليه الأديان كلها، وكل نبي جاء به، كما أخبرنا ربنا جل وعلا أنه يرسل الرسل وكل رسول يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
أما الشرائع من الحلال والحرام فإنها تختلف، فبعض الشرائع يكون فيها تضييق، وبعضها يكون فيها سعة، وأسمح الشرائع هي الشريعة الإسلامية، فهي سمحة سهلة، إلا أنها في العبادة هي أشد الشرائع لعبادة الله جل وعلا، لهذا سموه الدين الحنيف، والحنيف هو الذي يعدل ويعرض عن جميع الأديان والاتجاهات إلى الله وحده فقط، لهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل ما كان فيه شائبة من الشرك فلا يجوز لأمته أن تفعله، حتى الألفاظ في ظاهرها فقط، وإن كان المتكلم لا يعتقد فيها إضافة الأفعال إلى أسبابها، كقول القائل مثلاً: لولا فلان ما كان كذا وكذا، فهذا نهانا عنه صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث أنه: (قال له رجل: ما شاء الله وشئت.
فقال: أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده)، ولهذا يقال: إنه صلوات الله وسلامه عليه سد طرق الشرك كلها التي توصل إليه، وحمى التوحيد من شوائب الشرك.(5/5)
تفسير قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)
قال المصنف: [قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24]].
هذه الآية من الآيات المحكمات العظيمة التي فيها الأمر بعبادة الله وحده جل وعلا، وفيها الأمر بالإحسان إلى الوالدين، ونظائرها كثير في القرآن، فقوله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، هذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ألا تعبدوا إلا إياه، فقوله: (ألا تعبدوا) هو معنى: (لا إله)، وقوله: (إلا إياه) هو معنى (إلا الله)، ومعنى (قضى) أمر وأوجب وألزم، أمر بعبادته وأوجبها وألزم عباده بها، وقضى شرعاً وأمراً، وليس قضاءً قدرياً؛ لأنه لو كان قضى قضاء قدرياً لعبده الناس كلهم، والواقع أن أكثرهم لم يعبدوه، ويتعين أن يكون معنى (وقضى) هنا: أمر وأوجب وألزم.
أي: شرعاً.
وقوله: (ألا تعبدوا إلا إياه) هذا فيه النفي والإثبات، نفي العبادة عن غيره وإثباتها له وحده، وهو الذي قلنا: إنه معنى (لا إله إلا الله) فيجب ألا يعبد إلا إياه.
ثم بعد هذا يجب أن نعرف ما هي العبادة؟ إذا كانت العبادة لا تجوز أن تكون إلا لله فيجب علينا أن نعرف ما هي العبادة؟ وقد سبق أن العبادة كل فعل تفعله أو نية تنويها ترجو الثواب أو كل شيء تتركه وإذا تركته ترجو أن الله يثيبك، ولو فعلته تخاف أنه يعاقبك، فالعبادة تشمل أشياء كثيرة، تشمل الشرع كله، فكل الشرع داخل في العبادة.(5/6)
فضل الإحسان إلى الوالدين
قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] يعني: وأمر أن تحسنوا بالوالدين إحساناً، وهنا حذف الفعل: (أحسنوا) وجاء بالمصدر (إحساناً) ليدل على أن الأمر يلزم منه كل ما يسمى إحساناً.
فيدخل فيه كل الإحسان الذي تستطيع أن تفعله.
وجاء في آيات متعددة أن الله جل وعلا يقرن الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته، وهذا يدلنا على تعظيم حق الوالدين؛ ولهذا جاء أن العقوق مدعاة إلى دخول النار، فالذي يعق والديه ويجعل بدل الإحسان إساءة يكون متوعداً بالنار، نسأل الله العافية.
وجاءت أحاديث كثيرة توضح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بالكبائر عد منها عقوق الوالدين، فمن أكبر الكبائر عقوق الوالدين، وكذلك حديث علي رضي الله عنه في الصحيح أنه لعن الذي يلعن والديه فقال: (لعن الله من لعن والديه)، وفي رواية: (من سب والديه)، وفي حديث أنهم استغربوا كيف يلعن الرجل والديه! فبين أنه بكونه سبباً للعن والديه فقال: (يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه)، فيكون ملعوناً بهذا الفعل، ومنها أحاديث كثيرة فيها الأمر ببر الوالدين، وكذلك النهي عن عقوقهما، وهي معروفة مشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في الواقع يفرط فيه كثير من الناس، وفي حديث صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وقال: آمين آمين آمين -ثلاثاً- فسئل عن هذا، فقال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين) يعني أنه لم يبرهما حتى يستحق ببرهما دخول الجنة، وكذلك أحاديث أخر كثيرة ثابتة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجوب طاعة الوالدين في غير المعصية، أما إذا أمرا بمعصية فلا يجوز طاعتهما في ذلك، والقرآن واضح في هذا في آيات متعددة، الله جل وعلا يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فقرن شكره بشكر الوالدين، وهذا من آكد ما يبين حق الوالدين على الولد، وهنا يقول جل وعلا: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23] واحد منهما الأم أو الأب أو كلاهما {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، ذلك أنه إذا كبر الوالد فإنه يكون محلاً للأذى وما يتأفف منه؛ لأنه يعود ضعيفاً كما كان، فقد لا ينزه نفسه، ولا يستطيع أن يستقل بما ينبغي أن يفعله بنفسه، فقال: (ولا تقل لهما: أف)، والأف معناه: أن يتأفف من رائحة أو من قول أو من فعل، أو ما أشبه ذلك.
يعني: لا يصدر منك ما يدل على التضجر منهما.
وقد قال بعض السلف: لو أن الله جل وعلا علم شيئاً أدنى من التأفف لنهى عنه! {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: لا تنهرهما في الكلام.
يعني: ترفع صوتك عليهما.
وهذا لا يجوز، وأمر جل وعلا أن يقول لهما قولاً كريماً ليناً سهلاً داعياً لرضاهما، ثم أمر بالاستغفار لهما، سواء كانا حيين أم ميتين، يستغفر لهما، ويحسن إليهما الإحسان الدنيوي والإحسان الأخروي.
ونبه جل وعلا على أن الوالدين قد أحسنا إليك سابقاً، وهما يرجوان قوتك ورشدك وشدتك، أما أنت إذا أحسنت فأنت ترجو موتهما وراحتك منهما، فلا ينبغي أن يكون بدل الإحسان إساءة.
قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] يعني: بدل التربية والسهر والكد ينبغي لك أن تحسن إليهما.
ويذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه -وبعضهم يذكره حديثاً مرفوعاً- رأى رجلاً يحمل أمه وهو يطوف بها في الطواف حاملها على ظهره ويطوف بها، فقال له: أتراني قد أديت حقها؟ فقال: لا، ولا بطلقة يعني: ما كانت تقاس الشدة بوضعك ولا بطلقة مما حدث لها.
وما يستطيع الإنسان أن يقوم بحق والديه، ولكن إذا أحسن وقام بما يستطيع فالله جل وعلا يعفو عنه ويثيبه، ولشده حق الوالدين وعظمه على الإنسان فإن الله جل وعلا غالباً يعجل عقوبة العاق مع ما يعد له في الآخرة نسأل الله العافية، وغالباً إذا عق الإنسان والديه فأبناؤه يعقونه، وقد جاء عن ثابت البناني -وهو تابعي من تلامذة أنس بن مالك الذين لازموه وأخذوا عنه الحديث- أنه رأى رجلاً في البصرة يضرب أباه، فاستعظم هذا وأراد أن يعاقبه، فالتفت إليه الوالد المضروب وهو يضرب ورفع رأسه إليه.
وقال: دعه.
فلقد كنت أضرب أبي في هذا المكان! يعني: كما صنع صنع به، وهل يكفي هذا؟ لا يكفي، ولو كفى لكان أمراً سهلاً، ولكن هناك عذاب الله نسأل الله السلامة، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، وأعظم قطيعة للرحم عقوق الوالدين، ولا أعظم منها في قطيعة الرحم، فليحذر الإنسان كل الحذر من أن يغضب والديه أو يجلب لهما ما يسوؤهما؛ فإن هذا في الواقع أمر يقع لكثير من الناس، كثير من أبناء المسلمين يقع لهم هذا الشيء، نسأل الله العافية، وهو خطير جداً، وقد لا يتنبهون له، وعواقبه وخيمة في العاجلة والآجلة، وآيات الله في هذا واضحة جداً، أعني وجوب مراعاة الوالدين والقيام بحقوقهما وطاعتهما في طاعة الله جل وعلا والإحسان إليهما إحساناً مطلقاً في الحياة وكذلك بعد الممات، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون حرصاً شديداً على أداء حقوق الوالدين، حتى كان إذا توفي والد أحدهم صار يبر أصدقاءه، وهذا من بره، كما جاء في الحديث: (أن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
قال رحمه الله: [قال مجاهد (قضى) يعني: وصى.
وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم، ولـ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه: (وقضى ربك) يعني: أمر.
وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] المعني: أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معني (لا إله إلا الله)].
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله)، ويقول: (سبحان الله)، (الحمد لله)، (الله أكبر)، وما أشبه ذلك من الذكر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوله ويعلم أمته، وأعظم الذكر ما قاله صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فهذا هو أفضل الذكر، أفضل ما يذكر الإنسان ربه به، وذلك أن التوحيد هو أفضل العبادة، وكثير من الناس يعدل عن هذا الذكر إلى غيره والفضل فيه في الواقع، وهو أفضل من غيره، ولكن الذكر باللسان فقط دون معرفة القلب ودون العمل فائدته قليلة، وقد لا يفيد، فينبغي للإنسان أن يتعرف على معاني ما يقوله ويعمل به.(5/7)
من بر الوالدين
قال الشارح رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] أي: وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً كما قضى بعبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يديك عليهما.
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] أي: ليناً طيباً بأدب وتوقير، وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] أي: تواضع لهما، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} [الإسراء:24] أي: في كبرهما وعند وفاتهما، {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين آمين آمين.
فقالوا: يا رسول الله! علام أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين)، وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة).
قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه وعن أبى بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم].
الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى)، هكذا كثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ أصحابه بذكر العلم، وذكر ما ينبغي أن يعلموه، فقال: (الإشراك بالله)، والإشراك بالله هو أكبر الكبائر على الإطلاق، وقد جاء أن القول على الله بغير علم أكبر من الشرك عن بعض السلف، وهو من الشرك لأنه يتضمن ذلك.
ثم قال: (وعقوق الوالدين)، فقرن بالشرك عقوق الوالدين، وهذا يوافق ما في هذه الآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وضد العبادة الشرك، وكذلك ضد الإحسان العقوق، ثم قال في الحديث: (وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، يقول: (وكان متكئاً فجلس)، كان متكئاً لما بدأ بالحديث، فلما جاء إلى ذكر الزور وشهادة الزور استوى جالساً ليكون صوته وتبليغه أبلغ، فصار يكررها: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وقوله: (حتى قلنا: ليته سكت)، يعني: إبقاءً عليه ليته يسكت.
وهذا من المبالغة، وهذا يدلنا على أن شهادة الزور أمرها عظيم، وأن كثيراً من الناس قد يقع فيها، فلهذا حذر وكرر صلوات الله وسلامه عليه، وشهادة الزور هي شهادة بالكذب، وكل شهادة بكذب فهي زور، كونه يشهد على شيء لا يعلمه ولم يشاهده، لا سيما إذا كان فيه قطع لحق الآخرين، وإعطاء الآخرين حقوق غيرهم، فإن هذا من أظلم الظلم فيما يتعلق بظلم الناس للناس، فهذه يترتب عليها حقوق الناس، وقد جاء في صحيح مسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، وفي رواية: (فله النار، فقالوا: وإن كان شيئا قليلا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان سواكاً.
وفي خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما سألهم وقال: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟) يسألهم وفي كلها يقول: (أليس الشهر الحرام؟ أليس البلد الحرام؟ أليس يوم الحج الأكبر؟)، ثم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟) فجعل الأموال والأعراض والدماء كلها محرمة لا يجوز تناولها بشيء، وصار يكرر ذلك صلى الله عليه وسلم ويقول: (ألا هل بلغت؟ اللهم! اشهد).
فالمقصود أن حقوق الناس ليست بالسهلة، ولهذا قالوا: عند المحاسبة والجزاء حقوق الناس مبنية على المقاصة وعلى الاستقصاء لا يترك منها شيء، كما جاء عن عائشة أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً.
فأما ما لا يغفره الله فالشرك {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأي مشرك فإن الله لا يغفر له، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك.
وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو حقوق الناس بعضهم مع بعض، لا يترك منها شيء، فلابد أن تقتص، ولابد أن تستقصى، فكل حق لإنسان لابد أن يؤدى يوم القيامة، وتأديته بالحسنات والسيئات، يؤخذ من حسنات الظالم ويعطى المظلوم حتى يستقصي، فإن انتهت حسناته أخذ من سيئات المظلوم ووضعت على الظالم حتى يقضى حقه، لا يوجد خلاص أبداً، ثم يشدد عليه العذاب، نسأل الله العافية.
أما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فهو ما كان بين العبد وبين ربه، فهذا سبيله المغفرة، فإذا شاء ربنا جل وعلا غفر له.(5/8)
شرح حديث (رضا الرب في رضا الوالدين)
قال الشارح رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين)، وعن أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم.
الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) رواه أبو داود وابن ماجة، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً] معنى قوله: (الصلاة عليهما) الدعاء لهما.
فإن الدعاء ينفع، وقول الله جل وعلا: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لا ينافي ذلك؛ لأن الولد من سعي الإنسان، وفي صحيح مسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية -يعني: الوقف الذي يوقفه الإنسان، فيجعل له وقف -بعده- أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، أما غير ذلك فينتهي عمله إلا من هذه الثلاث.
فدعوة الولد للوالد من بر الولد بوالديه، يدعو لهما مطلقاً، سواء أكان في صلواته أم في غيرها، وكونه ينفذ عهدهما يعني الوصايا التي أوصى بها والداه ينفذها ولا يتساهل فيها فإن هذا من بره، وهذا معلوم أنه مقيد بالشرع، وكذلك صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما يصلها فيكون بمنزلتهما، وهذا من برهما، وكذلك صلة صديقهما إذا كان لهما صديق فيكرمه كما كان الوالد يحب ذلك، فهذا من تمام البر بعد ذهاب الوالدين وموتهما.
وينبغي للإنسان ألا يتساهل بهذا فإن فيه فضلاً وأجراً، وهو من تمام البر.(5/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [6]
دين الله تعالى وشرعه هو الصراط الذي يسير عليه عباد الله الصالحون، وهو الصراط الدنيوي الذي من استقام عليه في الدنيا وفق لعبور الصراط الأخروي الممدود على ظهر جهنم، والصراط الأخروي هو صراط حسي بخلاف الصراط الدنيوي الذي هو عبارة عن صراط معنوي(6/1)
معنى قوله عز وجل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]].
هذا أمر من الله جل وعلا بعبادته، وأمره واجب الامتثال، وقد سبق أن العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، أي أن كل فعل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، أو قول يقوله يتقرب به إلى الله، أو نية ينويها في قلبه يتقرب به إلى الله فهو عبادة، ويجب أن يكون هذا العمل خالصاً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون منه شيء لغيره؛ لأنه سبحانه قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36].
فقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] يدل على أن العبادة لا تكون عبادة شرعية إلا إذا كانت خالية من الشرك، أما إذا كان فيها شرك فهي ليست العبادة الشرعية التي أمر الله جل وعلا بها وطلب من عباده أن يعبدوه بها، وإن كانت تسمى عبادة في اللغة فهي ليست عبادة في الشرع، فلابد من اجتماع هذين الأمرين: عبادة الله، وعدم الشرك.
أي: أن يعبد الله العابد ولا يوجد الشرك، أما إذا وجد الشرك فقد انتفت العبادة وجاء بما يناقضها، هذا هو معنى قوله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36].
يقول العلماء: أول أمر جاء في القرآن -على ترتيب المصحف- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، مع أن هذا في الواقع هو دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول أرسل إلى قومه أمر قومه بالعبادة، بل أول ما يأمرهم به أن يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ومعنى قوله: (ما لكم من إله غيره) هو معنى قوله هنا في هذه الآية: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36].
وكذلك خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين جاء بهذا، فكان أول ما بعث يقول: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله)، ومعنى قوله: (لا إله إلا الله) هو معنى هذه الآية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]؛ لأن قوله: (لا إله) هو معنى: (ولا تشركوا به شيئاً)، وقوله: (إلا الله) هو معنى: (اعبدوا الله)، فهذا دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم اتفقوا على هذا، وهذا هو الذي لا يقبل الله جل وعلا غيره، كما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فأخبر أن الذي يأتيه مشركاً أنه غير مغفور له، وأن مأواه جهنم، وأن الذي يلقاه بذنوب ما عدا الشرك فإن الله يغفرها له إذا شاء، أي: بدون أن يعاقب صاحبها، أما الشرك فقد استثناه من جميع الذنوب وبين أنه لا يغفره لصاحبه.
وقال جل وعلا في الآية الأخرى في المشركين الذين يتخذون أنداداً يحبونهم كحب الله، قال في نهاية الآيات: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وقال في آية أخرى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وبهذا يتبين عظم الشرك وأنه أمر عظيم جداً، فإذا كان صاحب الشرك لا يدخل الجنة، ومأواه جهنم خالداً فيها فيتعين على الإنسان الذي تهمه نفسه ولها قدر عنده أن يتعرف على الشرك خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري، فلا يعذر بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بينه ووضحه ولم يتركه ملتبساً مشتبهاً حتى لا يحتج محتج ويقول: أنا ما بان لي الأمر.
وكون الإنسان يغفل عن هذا أو يعرض عنه فليس هذا عذراً؛ لأن الإنسان مكلف باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكلف بأن يعلم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في أصل العبادة، ولهذا كل ميت يسأل في قبره يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهي ليست مجرد كلمات لو حفظها الإنسان لاستطاع أن يجيب، بل مضمونها عمل ينطوي عليه القلب وتتحلى به الجوارح من إيمان بالله يقيني لا يتطرق إليه شك، وعمل ينبعث من النية والقصد والإرادة الذي يكون منطوياً عليه القلب وعازماً عليه، وكذلك اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم.
فمعنى قوله: (من ربك؟) أي: من الذي تعبده؟ ومعنى قوله: (ما دينك؟) أي: بأي دين تتعبد؟ ومعنى قوله: (من نبيك؟) من الذي جاءك بالعبادة؟ وممن أخذت العبادة؟ وهل أخذتها من آبائك وأهل بلدك، ومن المجتمع الذي تعيش فيه؟ فإن أخذها عن هؤلاء فإن هذا لا يجدي لا يفيد، ولهذا قال في نهاية الحديث: (فإن كان موقنا فإنه يجيب -يعني: بلا تلعثم وبلا تردد-، وإن كان مرتاباً أو شاكاً فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته)، أو قال: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، فهذا لا يجدي، ولهذا يعذب ويضرب بمطارق من نار يلتهب عليه قبره، ثم يقول له الملك: (لا دريت ولا تليت)، أي: ما علمت العلم النافع الذي يكون يقيناً يبعث على العمل، ولا تلوت كتاب الله حتى تتيقن من ذلك.
فإذاً لابد للعبد أن يعبد ربه، ولابد له أن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، ولابد أن تكون العبادة مأخوذة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه أمور ثلاثة لابد منها على كل إنسان، وإن أخل بها فاللوم عليه، والله جل وعلا أنزل كتابه وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبين هذا ويوضحه بجلاء، فكيف يجوز للمسلم أن يخفى عليه أمر عبادة ربه، أو يخفى عليه الشرك؟! وكثير من الناس من يلتبس عليه هذا الأمر؛ لأنه يجهل معنى العبادة، ويجهل ما معنى (عبد)، ويجهل معنى (التأله)، ولا يدري ما معنى (الإله)، ولهذا تجد كثيراً ممن يقول: (لا إله إلا الله) يقع في الشرك، فيأتي بما يناقض هذه الكلمة، بأن يطوف على القبر ويدعو الولي، ويمد يديه إليه ويقول: يا سيدي فلان! أعطني كذا وكذا، ويا سيدي فلان! أنا بحسبك، أو: أنا بجوارك، أو: أريد أن تنفعني بكذا، أو: أريد أن تصد عني كذا وكذا، ونحو ذلك من هذه الدعوات التي لا يجوز أن تكون إلا لله، وهذا هو الذي يجب أن يكون التوحيد فيه؛ لأن الدعاء هو: طلب النفع ودفع الضر، والدعاء في كل ما هو من الغيب كدعاء الغائب من ميت أو حي يوقع الإنسان في الشرك.
ثم مما يعين على معرفة هذا أن يتأمل الإنسان شرك المشركين السابقين الذي نزل القرآن بتخليدهم في النار والذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيجد أن الله جل وعلا وضح هذا وبينه، والرسول صلى الله عليه وسلم كذلك وضحه، وأخبر جل وعلا في القرآن في مواضع متعددة بأنهم كانوا إذا سئلوا من الذي خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله.
أي: ما أحد شاركه في هذا.
وإذا سئلوا من الذي ينزل من السماء ماء فيخرج به من الثمرات رزقاً لكم؟ قالوا: الله وحده.
وإذا سئلوا: من الذي خلقكم؟ ومن الذي خلق الذين من قبلكم؟ قالوا: الله.
وإذا سئلوا: من الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ قالوا: الله.
وإذا سئلوا: لمن السماوات والأرض؟ قالوا: لله.
وهذا أمر واضح في القرآن، فهل كان شركهم أنهم يقولون: إن مع الله خالقاً؟
الجواب
كلا، بل شركهم أنهم كانوا يتوجهون إلى أشجار وإلى أحجار وإلى عباد وإلى كواكب وإلى أنبياء فيدعونهم ويقولون: نجعلهم وسائط بيننا وبين ربنا ليشفعوا لنا، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
فليوازن الإنسان بين عبادتهم وبين ما يحصل لكثير ممن يدعي الإسلام وهو يتضرع إلى الأموات الذين في قبورهم الذين لا يستطيعون أن يكفوا الدود عن أجسادهم، ويسألهم جلب النفع ودفع الضر، فهذا ليس فيه إشكال ولا خفاء على من نظر في كتاب الله جل وعلا أنه شرك، فيجب على العبد أن يعرف هذا، وأن يتنبه قبل أن يأتيه الموت؛ لأن الله جل وعلا قال لنا في هذه الآية: (اعبدوا الله) وهل يجوز للإنسان أن يخفى عليه أمر الله ويقول: ما أدري ماذا أراد مني ربي؟! والله عز وجل قد قال: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)، فأمر بالعبادة ونهى عن الشرك، وهل للإنسان حجة إذا وقف بين يدي الله أن يقول: يا رب! ما دريت ماذا تريد بقولك: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)؟! وهل يمكن أن ينتفع الإنسان بهذا القول؟! إذاً ما فائدة إنزال الكتاب؟ وما فائدة إرسال الرسول؟ فلابد للإنسان أن يعرف كيف يعبد ربه، وبم يعبد ربه، ومن أين جاءت العبادة، وأصل الدين الإسلامي مبني على هذا، ألا يُعبد إلا الله وألا يشرك به شيء، وأن تكون العبادة مأخوذة من الوحي، لا من الرأي ولا من الذوق، ولا مما وجد الناس بعضهم بعضاً عليه وتوارثوه، وإلا فيكون الإنسان ممن ذكر الله جل وعلا أنهم قالوا: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] يعني: على ملة {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وهل هذا يفيد؟
الجواب
كلا.
فهذا هو أصل دين الإسلام الذي يتعين على العبد أن يعتني به باهتمام بالغ ولا يفرط فيه، وإلا فيكون مؤاخذاً.(6/2)
الحقوق العشرة في قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)
قال الشارح رحمه الله: [قال العماد ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته.
انتهى.
وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة].
الحقوق العشرة هي: الأول: حق الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36].
الثاني: حق الوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
الثالث: الوصية بذي القربى: {وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36].
الرابع: الوصية باليتامى: بأن يحسن إليهم، ويحفظ مالهم ويقوم عليه بالمصالح التي تصلحه وتنميه، ولا يقربه إلا بالتي هي أحسن كما سيأتي.
الخامس والسادس: الوصية بالجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، فذو القربى هو: الذي بينك وبينه قرابة نسب أو صلة الإسلام.
والجار الجنب هو: الذي يكون بجنبك ولو لم يكن من المسلمين، فعليك أن تحترم جواره وتحسن إليه ولا تؤذيه وتبذل نفعك له.
الثامن: الوصية بالمساكين.
والمساكين: هم الفقراء.
التاسع: الوصية بابن السبيل.
العاشر: الوصية بملك اليمين، وكذلك الإحسان إلى الخلق جمعياً، فإذا كان أخ لك أحببت له النصح والإرشاد، وتود له ما توده لنفسك، وإن كان غير ذلك فتدعوه إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا احتاج الأمر إلى مجادلة فجادله بالتي هي أحسن، ليس بالشيء الحسن، وإنما بالتي هي أحسن، حتى يكون هذا أدعى لقبوله الحق؛ لأن المقصود من الدعوة نفع الخلق وبراءة الذمة والقيام بأمر الله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم -وأمته تبع له بلا شك-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فأتباع الرسول لابد أن يكون لهم نصيب من هديه ومن مسلكه ودعوته، وإلا فكيف يكون أحدهم من أتباعه وهو لا يقوم بما كان يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم.(6/3)
قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآيات
قال الشارح رحمه الله: [وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود رضي الله عنه الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب.
وقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151 - 153]].
هذه الآيات الكريمات جمعت فأوعت، جمعت الأمور التي يجب على العبد أن يراعيها وأن يتحلى بها، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ هذه الثلاث الآيات)، وسيأتي شرح كلامه رضي الله عنه، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إلى أحد، ولم يوص بشيء غير كتاب الله جل وعلا وسنته صلى الله عليه وسلم، كما قال في حجة الوداع: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله)، فجعل يوصي بالأخذ بكتاب الله، وكثير من آيات القرآن جاءت بمعنى هذه الآيات، وهي كثيرة جداً، والله جل وعلا يكرر هذه الأمور في القرآن لعظمها ولتأكيدها، كما مر من الآيات التي في سورة النساء، وكذلك التي في سورة البقرة وغيرها وهي بهذا المعنى، وفي هذه الآيات يأمر الله جل وعلا نبيه بأن يقول للناس: (قل تعالوا) أي: هلموا إليَّ وأقبلوا واستمعوا ما أقول لكم.
أي: ليس هو قولاً من عندي ولا من عند فلان، هو قول ووحي من الله اتلوه وأقصه عليكم وأذكركم به وأبلغكم إياه؛ لأنه أمر الله الذي لا يجوز أن يرد ولا يجوز أن يتساهل به.(6/4)
الوصية بترك الشرك
وأول ما أتلوا عليكم من وحي الله أن الله حرم الشرك، (أن لا تشركوا به شيئاً)، والمعنى: اعبدوا الله وحده واجتنبوا الشرك؛ لأنه إذا نُفي الشرك لزم إثبات العبادة لله وحده كما سبق.(6/5)
بر الوالدين من أعظم الطاعات
قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: كذلك أتلوا عليكم أن الله أمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً.
وهنا يقول العلماء: حَذَفَ متعلق الإحسان ليدل على العموم.
فكل ما سمي إحساناً يشمله هذا الأمر، وكثيراً ما يقرن الله جل وعلا حق والوالدين بحقه.
والإحسان إلى الوالدين هو طاعتهما بالمعروف والقيام على خدمتهما، وكذلك مساعدتهما في طاعة الله ومعاونتهما عليه، ودعوة الله لهما بأن يرحمهما وأن يتجاوز عنهما، وكذلك جلب النفع الدنيوي لهما بكل ما يستطيع، وكذلك ألا يترفع عليهما، ولا يقابلهما بالكلام النابي، بل بالكلام الذي يدل على اللين وعلى حسن المعاملة والمعاشرة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] فهذا الذي ذكره الله جل وعلا في آيات الإسراء هو الإحسان الذي ذكره في هذه الآية وأجمله.(6/6)
قتل الأولاد خشية الفقر من الكبائر العظيمة
قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الإملاق: هو الفقر.
أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر، فإن الأمر ليس إليكم؛ فإن الله تكفل برزقهم.
ولهذا قال: (نحن نرزقكم وإياهم)، فأخبر أن رزق الوالدين ورزق الأولاد على الله ليس على الناس، فالإنسان لا يجوز أن يكون نظره إلى أن الرزق يأتي من كد يده ومن صنعته ومن حسن تصرفه، كما يقوله كثير من الناس الذين يضيف أحدهم الأمر إليه، بل يجب أن يجعل الأمر لله جل وعلا.
وقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) جاء هذا لأن بعض العرب -وليس كلهم- كانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر، وبعضهم كان يقتل البنات فقط خوفاً من العار، وليس من الفقر، والعار معناه عندهم أنهم يخشون أن تزني، فيصبح هذا عاراً على أبيها وأهلها، فكانوا يئدونها ويدفنونها حية، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] يعني: هل لها ذنب وهي بنت صغيرة حتى تدفن حية؟! ووجه هذا السؤال إليها لعظم الأمر حتى يعرف الظالم مقامه، فكان بعضهم يصنع هذا، فيئدون البنات خوفاً من العار، وبعضهم كان يقتل حتى الذكور خوفاً من الفقر إذا كثروا، وهذه قد أصبح الكفار ينشرونها بين المسلمين، وهي سنة الجاهلية السابقة أصبح الكفار من اليهود والنصارى أعداء الله وأعداء دينه ينشرونها في بلاد المسلمين، ويروجون أن كثرة الأولاد لا تنبغي، وينبغي أن الإنسان يرتب نسله خوفاً من أنه لا يستطيع التربية، ولا يستطيع تعليمهم، ولا يستطيع القيام بحقوقهم، وأن الأرض سوف تضيق بهم، وأن الأرزاق سوف تقل ثم يأتي الجوع فيموت الناس جوعاً فيقولون: بعد كذا سنة سوف يموت كذا وكذا من الآلاف أو من الملايين جوعاً.
ويتصرفون في ملك الله، ويظنون أن الأمور بأيديهم، وكل هذا أريد به السوء للمسلمين فقط، أما الكفار فلا يوجد هذا عندهم، بل في بعض دول الكفر يجعلون مكافأة لمن يكون له مولود، وكلما ولد له مولود آخر أوجدوا له مكافأة ووظيفة، فهم يشجعون كثرة المواليد، فكيف يوجهون المسلمين وهم يقتلونهم؟! والأوضاع الحاضرة لا تخفى، فالمسلمون يقتلون في كل مكان كتقتيل الأنعام، وليس لهم قيمة عند هؤلاء الكفار، وكل ذلك لأن المسلمين في الواقع تركوا أمر الله وصاروا غثاء كغثاء السيل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوبكم ويقذف في قلوبكم الوهن.
قيل: يا رسول! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وهذا هو الداء الذي وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فلما استعصت بعض الحصون على خالد بن الوليد صار يخاطبهم ويقول: (يا هؤلاء! والله! لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، اصنعوا ما شئتم فلن تفلتوا من أيدينا)، وكان أحدهم إذا سقط قتيلاً بسلاح العدو يهنئونه قائلين: هنيئاً لك الشهادة.
وكل واحد يود لو أنه مكانه، وكانوا يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة، فإذا وجد هذا في المسلمين اليوم فلن تقوم أمامهم أمريكا ولا غيرها من الدول الكافرة، ولن تستطيع أن تقوم في وجوههم؛ بشرط أن يلتزموا بأمر الله جل وعلا كما قال سبحانه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده، فهذا شرط لا يتحقق إلا إذا وجد المشروط، فإذا وجد نصر الله منا والثبات على دينه وجد نصر الله لنا، أما أن نعرض عن دين ربنا جل وعلا ويصبح ديننا بين التهاتر والتباغض والتقاطع وحب الذات وجلب المنافع للإنسان نفسه حتى على حساب الآخرين فالواقع أنه لا يكون لنا ميزة، ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى قتال الروم في مصر احتاج إلى مدد وزيادة جنود؛ لأن الروم أعدوا أكثر من مائة ألف مقاتل، والذين كانوا معه لا يتجاوزون عشرين ألفاً، فكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستنجده ويقول: أريد عشرين ألفاً.
أو قال: أربعين ألفاً، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (ما عندنا أمداد مما تذكر، ونحن لا نقاتل بعددنا ولا بعدتنا، وإنما نقاتل بإيماننا وبوعد الله لنا، ولكن احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك، واعلم أن النصر بيد الله، فإذا اتقيتم الله جل وعلا وأخلصتم له فسوف ينصركم، وإني ممدك بأربعة رجال فقط)، فأرسل له أربعة بدل هذا العدد الذي طلبه، وكانت وصيته أنه قال له: احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك؛ فإنها هي التي تنصر العدو عليكم، فميزة المسلمين يكونوا ملتزمين بأمر الله جل وعلا، أما إذا فرطوا فقد جاء في أثر يروى يقول الله جل وعلا فيه: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)، والذي لا يعرف الله أمرُهُ منتهٍ، ولكن الذي يعرف الله كيف يعصيه؟! فإذا عصى صارت العقوبة أقرب وأسرع إليه، وإن كان مآله في الآخرة ليس كمآل هؤلاء، ولكن يكون عقاباً عاجلاً.
والمقصود أن قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] عام شامل حتى في الذي يخاف أنه إذا ولد له أولاد أنه يحدث له الفقر، أو يحدث له القلة، وأنه لا يستطيع القيام عليهم، وهذا أمر قد تكفل الله جل وعلا به، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد)، فيكتب الرزق وهو في بطن أمه، فكيف يستطيع أحد أن يرد رزقه؟! بل هو مكتوب مفروغ منه، وقد رزقه وهو لم يخلق بعد، ولا يمكن أن يغير أو يبدل ما كتبه الله جل وعلا، ولكن بلا شك أن الله جعل لكل شيء سبباً، وأن الله هيأ الأسباب وأمر بفعلها، فنقول: أنت عليك فعل السبب والأمر، وحصول النتائج على الله، فيجب أن تتكل على ربك في ذلك، ولا يكون الفقر نصب العينين.
وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.
قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، ولو سأله أيضاً عن شيء آخر لأخبره، ولكنه سكت.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الذنوب أن يشرك الإنسان بالله جل وعلا، وأن يجعل لله نداً وهو خلقه، وهو المتصرف في خلقه المتوحد بذلك ليس له شريك، وهو الذي هيأ له الحياة ومستلزماتها.
وقوله بعد هذا: ثم أي؟ يعني: ما هو الذنب الذي يلي هذا في العظم؟ فقال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، يعني: خوفاً من الفقر.
وذكر هنا أعظم القتل وأشنعه، وإلا فالقتل كله محرم كما سيأتي، ولكن الجبلة التي جبل الله جل وعلا عليها الخلق أن الإنسان يحنو على ولده ويرحمه ويحسن إليه، فإذا جعل بدل الحنو عليه والرحمة له والإحسان إليه إساءة انقلبت الأمور واشتد الذنب وصار العقاب أعظم.
وكذلك الزنا، فالزنا فيه من المفاسد ما فيه كما هو معلوم، من اختلاط الأنساب، وإفساد فرش الناس، وإفساد بناتهم وزوجاتهم، وكذلك فيه من الأمراض التي يعرفها من يعرف هذا، ففيه من الفساد الخلقي والفساد الجسدي والفساد الديني الشيء العظيم، فالزنا عظيم، وأعظم الزنا أن يزني الإنسان بذات رحم له، ويليه في العظم أن يزني بزوجة جاره، كما قال هنا: (أن تزاني) وجاء بلفظة (تزاني) لأن هذا يدل على الموافقة من الجانبين، أما إذا كان من جانب واحد ويكون الجانب الآخر مرغم فيتضاعف العذاب أيضاً، والجرم أن تزاني بحليلة جارك، يعني: بزوجة جارك.
لأن الواجب في الإسلام أن يحفظ الإنسان حرمة جاره، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! -هكذا كررها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً- قالوا: من؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، فالذي لا يأمن جاره أذاه وخيانته فليس عنده إيمان.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لم يزل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، أي: يكون له ميراث، فهنا معنى قوله جل وعلا أنه وصاكم بترك الشرك، وبالإحسان إلى الوالدين، وكذلك الإحسان إلى الأقارب ومنهم البنين.
قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].(6/7)
كل الفواحش الظاهرة والباطنة محرمة
ثم قال بعد هذا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151].
الفواحش: هي كل فعل يفحش في نفسه، ويقبح في العقل، ولكن الضابط هنا أن يكون فاحشة في الشرع، فكل ما حرمه الله فهو فاحشة، ولكنها تتفاوت، فبعضها أعظم من بعض، وهنا نهي عام شامل عن الباطن والظاهر، وقد اختلف العلماء ما المقصود بالباطن والظاهر هنا؟ فقال قوم: المقصود بالظاهر: ما يفعل علناً أمام الناس وهم يشاهدونه، والباطن: ما يفعل سراً.
أي: ما تفعله وتختفي عن الناس في فعله، فالله ينهى عن هذا وهذا.
ومنهم من يقول: الباطن ما يفعل بالجوارح بالأيدي والأرجل، واللسان بالقول بالكلام، والباطن ما انطوى عليه القلب وقصده ونواه من الحسد والغل والغيبة وغير ذلك.
ومنهم من قال غير هذا، والمعنى أن هذا شامل لكل أمر فيه مخالفة، سواء فعل بالجوارح أو كان بالنية وانطوت عليه القلوب، وسواء أكان ظاهراً يراه الناس أم كان مستوراً، فالله نهى عن هذه كله.(6/8)
حكم قتل النفس المعصومة
قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151].
قوله: (ولا تقتلوا النفس) هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد أولاً وهو من قتل النفس، ثم جاء هنا التعميم فقال: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فهذا يشمل حتى الكفار إذا كان لهم عهد ولم يكن هناك حرب بين المسلمين وبينهم، فلا يجوز قتلهم في أي حال من الأحوال، وقد جاء في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)، والحديث في صحيح مسلم، فقوله: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)، أي: هو كافر.
فكيف بالذي يقتل مسلماً؟ فقد جاء أن زوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل مؤمن، وجاء أن الله جل وعلا يقول: لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل مسلم لأكبهم في النار كلهم، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً، والرجل يلقى الله بدم حرام)، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: (من قتل مسلماً فلا توبة له)؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، وقد أخبر الله أنه يغضب عليه ويلعنه ويعد له جهنم، ولكن الصواب الذي عليه العلماء أن القاتل إذا تاب تاب الله عليه، ويقول ابن القيم رحمه الله في هذا: إن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله جل وعلا حيث حرم القتل، فهذا إذا تاب الإنسان منه تاب الله عليه، وحق لأولياء المقتول وهذا يسقط بالقصاص أو بدفع الدية أو بالعفو، وحق للمقتول نفسه فهذا لا يسقط، ولابد من استيفائه يوم القيامة إلا إذا شاء الله؛ فإنه قد يرضي المقتول عن القاتل، ولهذا جاء أن أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء، وأن المقتول يأتي يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً متعلقاً بقاتله يقول: يا رب! سل هذا لم قتلني؟ وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل -أي: أمره ظاهر- فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالقتل محرم عموماً، كما قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، فهو أمر عظيم جداً.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] استثنى التي بالحق، وجاء في الحديث الصحيح: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، و (التارك لدينه) أي: المرتد الذي يرتد ويترك الدين يقتل.
وهذا قتله بالحق، والذي يزني وقد من الله جل وعلا عليه بالزوجة الحلال، فإن حكمه الرجم بالحجارة حتى يموت، ويذوق بدنه كله الألم الذي ذاق الشهوة المحرمة، وكذلك النفس بالنفس، فإذا قتل إنسان إنساناً فإنه يقتل به، وكذلك الكفار إذا صار بينهم وبين المسلمين قتال فإن قتلهم بحق؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فحرض على قتلهم وأمر به لأنه حق.
وقوله سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] يعني: هذه الأمور هي الوصية التي وصانا بها.
والوصية: هي التأكيد على الأمر والإلزام به والاهتمام به أكثر وصانا بهذه لعلنا نعقلها فنحفظها ونعمل بما قال لنا ربنا جل وعلا.(6/9)
حكم أكل أموال اليتامى
ثم بعد هذا يقول جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، في الآية السابقة يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] وأكل مال اليتيم داخل فيها بلا شك، ثم هنا ينص عليه تأكيداً واهتماماً به أكثر، فقال: (لا تقربوا) بدل (لا تأكلوا) ليعم جميع أنواع التصرف وقربانه، ثم استثنى التي هي أحسن، والتي هي أحسن: القيام على تنميته والتصرف فيه تصرفاً يعود على اليتيم بالخير والنفع، أما ما عدا ذلك فلا يجوز، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152] و (الأشد) هنا: أن يعقل ويحسن التصرف، كما ذكر ذلك جل وعلا في آيات سورة النساء، وبين أنه إذا أحس منهم الرشد فتدفع إليهم أموالهم، والرشد هو: حسن التصرف في المال، مع بلوغ السن التي يرشد فيها.(6/10)
من الفواحش التطفيف في المكيال والميزان
قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، وهذا أيضاً يدخل فيما سبق، فالنهي عن تطفيف الميزان وكذلك بخس الناس أموالهم وحقوقهم يدخل في الفواحش التي سبق ذكرها، وأعاد ذلك ونص عليه تأكيداً له، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء:35] يعني أن الإنسان إذا باع واشترى يجب أن يبيع بحق ولا يجوز أن يكون فيه بخس، أو يكون فيه غش، أو يكون فيه نقص، لا في الكمية ولا في الكيفية، ويكون مغشوشاً في الكيفية بأن يخفي العيب عن المشتري، فإن هذا ليس من الحق، فإذا فعل فقد أكل مال الناس بالباطل، وأما الكمية فكأن ينقص الوزن أو الكيل.(6/11)
الخطأ مع بذل الوسع معفو عنه
وقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] معنى هذا أن الإنسان إذا بذل وسعة واجتهد في أداء الحق الاجتهاد الذي يستطيعه ثم أخطأ في شيء قليل فإنه معفو عنه، (لا نكلف نفساً إلا وسعها)، فإذا أخطأ في الشيء القليل بعد أداء الاجتهاد وبذل الوسع في أداء الحق فإنه معفو عنه، وهذا معنى قوله جل وعلا: (لا نكلف نفساً إلا وسعها) يعني: إلا ما تسعه، ولا نكلفها شيئاً لا تسعه ولا تطيقه، والوسع هو: الطاقة والاستطاعة.(6/12)
وجوب القول بالعدل ولو على ذوي القربى
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، يعني: إذا شهد الإنسان أو تكلم بكلام يجب أن يكون كلامه بالعدل والصدق ولو كان على قريب لك، كإبنك أو أخيك، أو على صديقك، فيجب أن تقول العدل والحق، وألا تأخذك في الله لومة لائم على هذا، وكذلك إذا كان المقول فيه عدواً فلا يجوز أن تتجاوز الحق فيه، فإذا قلت فاعدل، وهذا أمر عام، فيجب على الإنسان إذا تكلم أن يتكلم بالحق، ولا يجوز أن يخفي حقوق الناس لأجل أنه لا يروق له أو لا يناسب مذهبه أو لا يناسب جماعته أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا من أعظم الاغترار نسأل الله العافية.(6/13)
وجوب الوفاء بالعهد
ثم قال: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152]، وهذا عام يعم كل ما سبق، فعهد الله هو كل ما عهد إلينا بحفظه أو باجتنابه، وكل شيء عهد الله جل وعلا إلينا بأن نعمله أو ألا نعلمه يجب أن نفي به، ويكون من الخصوصيات في هذا، والأيمان والمواثيق التي تحدث بين الناس وبين الدول يجب أن يوفى بها، بل من باب أولى أن يوفى بها؛ فإن الله أمر بهذا.
وقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] يعني: وصية الله تقدم بها إليكم لعلكم تذكرونها ثم تخافون عقاب الله وترجون ثوابه فتفعلونها.(6/14)
وجوب التمسك بالصراط المستقيم
ثم قال جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153].
يعني: ووصاكم بأن هذا الذي تقدم به إليكم هو صراط الله.
وصراط الله هو دينه الذي شرعه لعباده: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153] يعني: واضحاً جلياً لا اعوجاج فيه ولا خفاء.
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] أي: اسلكوه {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، فهذه في الواقع من الآيات العظيمة الجامعة التي من حفظها حفظ دينه، وبُدئت بالنهي عن الشرك؛ لأن النهي عن الشرك يستلزم عبادة الله، وعبادة الله لا تكون إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تستلزم معرفة الله والعمل بدينه ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
[قال العماد ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله: (تعالوا) أي: هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ما حرم ربكم عليكم) حقاً لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده، (ألا تشركوا به شيئاً)، وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) اهـ.
قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به.
وفي المغني لـ ابن هشام في قوله تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] سبعة أقوال، أحسنها هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا.
فحذفت الجملة من أحدهما -وهي: (وصاكم) - وحرف الجر وما قبله من الأخرى].
لغة العرب التي عرفها من اعتنى بها أفصحها وأعظمها أن يحذف الشيء الذي يعرفه السامع ولا يحتاج البليغ إلى ذكره، فإذا حُذف يكون أبلغ وأفصح، والقرآن سار على هذا النهج.(6/15)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [7]
صراط الله المستقيم واحد لا يتعدد، بخلاف سبل الباطل فإنها كثيرة ومتعددة، وصراط الله المستقيم يفضي بصاحبه إلى رضوان الله والجنة، بينما سائر السبل على كل منها شيطان يدعو إليها، فمن سار على واحد منها تولاه شيطانه وسلك به تلك السبيل حتى يهوي به في النار.(7/1)
السبل التي تعترض الصراط المستقيم، وأنواع الصراط
قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم، فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف، و (أن) في موضع نصب، أي: (أتلو أن هذا صراطي) عن الفراء والكسائي، ويجوز أن يكون خفضاً أي: (وصاكم به، وبأن هذا صراطي)، قال: والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام.
(مستقيماً) نصب على الحال، ومعناه: مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه.
فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: تميل.
انتهى.
وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم -وصححه- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً.
ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] الآية)، وعن مجاهد: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] قال: البدع والشهوات].
هذا الحديث الذي ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على أن الحق واحد لا يتعدد، بخلاف الباطل فإنه متعدد وكثير، ولهذا جعل طريق الله خطاً واحداً، فقال: (خط خطاً واحداً مستقيماً فقال: هذا صراط الله.
ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله فقال: هذه سبل، ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إلى الله).
أي: إذا سلكه الإنسان أفضى به إلى النار، وهذا يدلنا على أنه ليس هناك طريق إلى الجنة ونجاة للإنسان إلا بالسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يوجد غير هذا، فإن سار الإنسان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل ما جاء به واهتدى به عملاً واعتقاداً وقولاً فهو الناجي الذي يكون سعيداً في الدنيا والآخرة، أما إذا مال يميناً وشمالاً عن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فسوف تتولاه الشياطين وتسلك به المسالك التي تهوي به إلى النار -نسأل الله العافية-، ولهذا وضح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بالخطوط.
ثم بين صراط الله الذي وصانا الله باتباعه في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، وأمر الله واجبٌ الأخذ به، وقد جاءت عبارة السلف في تفسيره مختلفة الألفاظ متفقة المعاني، فمنهم من قال: صراط الله: كتاب الله القرآن.
ومنهم من قال: صراط الله: ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ومنهم من قال: صراط الله: الإسلام.
وهذا كله حق، وكله يؤول إلى شيء واحد، وأن الصراط الذي أمرنا جل وعلا بالتمسك به واتباعه وسلوكه هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة ومن كل ما أُمرنا به، وهذا الصراط معنوي أوجب ربنا جل وعلا أن نسلكه، وهو الذي أوجب علينا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نبتهل إليه ونسأله أن يهدينا هذا الصراط: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وهذا فرض على الإنسان إذا صلى أن يسأل ربه أن يهديه هذا الصراط، وكثير من المفسرين يقول: معنى (اهدنا الصراط): ثبتنا عليه.
والواقع أن هذا فيه شيء من القصور؛ لأن الإنسان لا تكمل هدايته كما ينبغي حتى يضع أول قدم له في الجنة، وأما قبل أن يدخل الجنة فهو بحاجة إلى هداية دائماً، وبحاجة إلى زيادة من الهداية، فهو في الدنيا يحتاج إلى زيادة يقين وإيمان، ويحتاج إلى زيادة عمل يرضي ربه جل وعلا به، وكذلك في الآخرة يحتاج إلى زيادة تثبيت أن يثبته الله جل وعلا بالقول الثابت، كما قال الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يعني: عند السؤال.
وليس كما يقول بعض الناس: إن الآخرة ليست محل تكليف، فإذا مات الإنسان انتهى تكليفه، بل ما دام الإنسان لم يدخل الجنة والنار فهو في محل يبتلى ويسأل ويمتحن، فيثبت الله جل وعلا من يشاء، ويضل من يشاء، فالسؤال في القبر افتتان يفتتن الإنسان به، وكذلك في المواقف التي تسمى عرصات القيامة، ولهذا يختلف الناس فيها اختلافاً عظيماً من شدة أو سهولة فيما يلاقونه، فمن كانت -مثلاً- ذنوبه كثيرة اشتد الأمر عليه فيكون ذلك جزاء له، ومنهم من يأكل ويشرب والناس يحاسبون، ومنهم من يكون في ظل العرش والناس في حر الشمس، وكل هذا من التكليف، ثم قد قص الله جل وعلا علينا قصص بعض عباده، وأن من الناس من إذا سألهم الله جل وعلا: ماذا كنتم تعبدون؟ ولماذا أشركتم؟ قالوا -كما حكى الله عنهم-: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فيقسموا بالله ما كانوا مشركين وهم مشركون، فيقول الله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأنعام:24] وكذلك يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، أي: يحلفون لله يوم القيامة كذباً، كما يحلفون للناس اليوم؛ لأنهم جعلوا الحلف جُنة يجتنون به ويستترون به عما قد يعود عليهم باللوم أو بالضرر أو بالعقاب أو بغير ذلك، فليس الأمر على إطلاقه أن الآخرة ليست دار تكليف، نعم الجنة ليست دار تكليف، فإذا دخلوا في الجنة فليس فيها تكليف، وإنما يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس ثم إن الصراط المعنوي هذا الذي أمرنا بالتمسك به واتباعه، فإذا تمسكنا به ثبتت أقدامنا على الصراط الحسي الذي هو الطريق إلى الجنة، وهو جسر ينصب فوق جهنم لا يوجد أحد ينجو من النار إلا من فوقه، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، وقد جاء وصفه بأنه فوق متن النار، أحر من الجمر، وأحد من السيف وأروغ من الثعلب.
إذاً: السلوك يكون بالعمل، فمن الناس من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر مثل البرق إذا برق، ومنهم من يكون مثل الريح، ومنهم من يكون مثل جواد الخيل، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يحبو، ومنهم من يقوم ويسقط، ومنهم من تخطفه الخطاطيف التي تكون عليه وتلقيه في النار.
وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يخدمه منذ أن قدم المدينة إلى أن توفاه الله جل وعلا، فسأله الشفاعة، فقال: (أنا فاعل إن شاء الله، فقال: أين أجدك؟ قال: اطلبني في ثلاثة أماكن: عند الحوض، فإن لم تجدني فعند الميزان، فإن لم تجدني فعند الصراط) فعند الصراط لا يوجد أحد يتكلم إلا الرسل؛ لأن الرسل يقفون ينظرون مرور أممهم، وكلامهم: اللهم سلم سلم! أما الناس كلهم فهم سكوت، ولا يوجد أحد يتكلم لشدة الأمر وهوله، وتحتهم جنهم تتلظلى، والسلوك على طريق وعر جداً، وعر لا يمكن يُسلك إلا بالعمل، فمن ثبته الله وكان مستقيماً على هذا الصراط الذي هو الإسلام نجا وإلا زلت به قدمه وهوى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (والصراط عليه كلاليب مثل شوك السعدان -ثم يقول لأصحابه- هل رأيتم السعدان؟ إنها شويكة في عشبة تخرج في نجد)، تكون معكوفة الرأس، ولكن لا يقدر عظمها إلا الله جل وعلا، تخطف من أمرت بخطفه، فمنهم مخدوش مسلم، ومنهم مكردس على رأسه في النار، ومنهم من يحبو مرة ويتعلق بيده أو برجله مرة، فالأمر صعب جداً، وهذا يكون لمن يتعثر على صراط الله الذي جعله مسلكاً لعباده في هذه الدنيا، فمن تعثر عليه ومال يميناً وشمالاً مالت رجله عن ذلك الصراط، وربما سقط وربما تعلق، فالواجب على العبد أن يتبع صراط الله جل وعلا ولا يميل ولا تأخذه السبل الكثيرة، فالسبل الكثيرة هي التي تهوي به إلى النار، فكل من سلك سبيلاً غير السبيل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يستطيع العبور على الصراط.(7/2)
حقيقة الصراط المستقيم
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمة الله عليه: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً؛ فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلاً لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبادته، ولا يشرك برسوله صلى الله عليه وسلم أحد في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين.
ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها.
قال: وقال سهل بن عبد الله: (عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه) انتهى].
هذا القول الذي ذكره ابن القيم واضح في تفسير الصراط المستقيم في أنه عبادة الله جل وعلا وحده وألا يشرك به شيء، وعبادته تتضمن كمال الحب مع كمال الذل له، فلا يعبد إلا الله جل وعلا، فتكون العبادة خالصة لله جل وعلا، فكل ما تتقرب به وكل فعل تفعله ترجو به ثواباً، وكل ترك تتركه تخاف أنك لو فعلته عوقبت فإن هذا يكون لله وحده، ليس لأحد من الخلق، وتفعل هذه الأمور مع غاية الحب والذل، ثم هذه الأمور التي تفعلها لابد أن تكون جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول: إن هذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وكونه يشهد أن لا إله إلا الله: أن الشهادة هي العلم اليقيني الذي يكون عند الإنسان واضحاً جلياً ليس عنده فيه ريب ولا شك ولا تردد؛ لأنه يشاهده بعينه وبقلبه، فهو يشهد بهذا، يشهد أن لا إله إلا الله، ومعنى الإله: المحبوب المألوه الذي يكون الحب كله له مع الذل والخضوع، فيجب أن تحبه وتذل له، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق، وإنما يكون خالصاً له جل وعلا.
وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله فهو: طاعته في أمره، واتباعه فيما جاء به، واجتناب ما نهاك عنه، وألا تعبد الله جل وعلا إلا بما شرعه لك، فأنت تشهد الشهادة اليقينية بأنه رسول من الله أرسله الله بهذا الشرع، فتتعبد الله جل وعلا بالشرع الذي جاء به عن طريقه، فهو الوساطة بيننا وبين ربنا في تبليغ شرعه، ولهذا يقول الله جل وعلا له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110]، والعمل الصالح هو الذي يكون على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: أنك تعبد الله وحده ولا يكون لأحد من الخلق أو المقاصد والأغراض شيء أو نصيب من عبادتك، فإن كان لها نصيب فإن هذه العبادة لا تقبل؛ لأن الله جل وعلا يقول -كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، أي: يتركه وعمله لمن أشرك.
ولهذا إذا جاء المراءون يوم القيامة الذين يلاحظون أنظار الناس وأقوالهم، يقول الله جل وعلا لهم: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم فاطلبوا أجركم عندهم)، وهل يجدون شيئاً؟ يجدون الخسارة والندامة، وهذا في الواقع من جهل الإنسان وظلمه، وإلا الناس مثله ماذا يغنون عنه؟! فكونه ينظر إلى إنسان ويحسن عمله من أجله قصور -نسأل الله السلامة-، فهو إنسان مثلك فقير بحاجة إلى ما يكمله، بل بحاجة إلى من يحميه من الكوارث والمصائب ويسدده ويوفقه وإلا ضل وهلك، فلا يجوز للإنسان أن يقصد بعمله ونيته غير الله جل وعلا، وهذا هو العلم النافع الذي يؤخذ من الكتاب والسنة، والعمل هو الهدى، والعمل هو دين الحق، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، جاء بالعلم النافع وبالعمل الصالح الذي إذا علمه الإنسان اهتدى وتيقن أنه من عند الله، ولابد من هذين الأمرين، لابد من العلم والعمل، يعلم أن لا إله إلا الله، كما قال الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والاستغفار.
ويقول جل وعلا لما ذكر أن الكفار والمشركين يدعون غير الله طالبين شفاعتهم نفى هذا جل وعلا وأخبر أن الشفاعة لا تحصل لهم، فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وشهادة الحق: هي أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم هذا المعنى.
يعلمه ثم يعمل به، وعلم بلا عمل لا يفيد ولا يجدي، وفي أمره جل وعلا لنا وفرضه علينا أن نسأله في الصلاة قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، والصراط المستقيم هو الصراط الذي بعث به رسوله، وهو دينه، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، والذين أنعم عليهم هم الأنبياء ومن سلك طريقهم، كما قال الله جل وعلا في وصفهم وبيان أنهم الأنبياء والصالحون والشهداء، أي: من سلك طريقهم.
وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، المغضوب عليهم جاء تفسيرهم أنهم اليهود، والضالون هم النصارى، وليس مخصوصاً بهذا اليهود والنصارى فقط، بل كل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى فهو ضال وهو مغضوب عليه، وكل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى أو للشهوات أو لأغراض من أغراض الدنيا فهو مغضوب عليه ملحق باليهود، وكل من تعبد بغير برهان وبغير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ضال، وإنما قيل: إن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى لأن الغالب على اليهود أن عندهم علم، وليس عندهم عمل، فهم يعلمون ولا يعملون فلهذا صاروا أهل الغضب، وأما النصارى فالغالب عليهم التعبد بالضلال، فهم يتعبدون ويعملون ولكن على غير هدى، فلهذا سموا ضلالاً، فالضال هو الذي يسلك الطريق الذي يهلكه، وضل الطريق يعني: يتعبد على غير حق وعلى غير هدى، وأما المغضوب عليه فهو العاصي الذي عرف الحق وتركه، فكل من صار له هذا الوصف فهو مغضوب عليه وضال، وأهل البدع هم: الذين يتعبدون بالبدع وهم ضالون، وهم المعنيون بقوله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] أي: تخشع وتبكي وتعمل وتنصب وتجهد والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية؛ لأنها تتعبد بغير هدى، وبغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك قوله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، (ضل سعيهم) يعني: عملوا في الحياة الدنيا وهم يظنون أنهم على هدى، وكذلك يظنون أن غيرهم ضال، بل ويرمون غيرهم بالضلال.
فالمقصود أنه ليس هناك طريق ينجو به الإنسان إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، هذا هو خلاصة القول، فمن عرف ما جاء به الرسول وعمل به فهو الناجي السعيد، ومن تخبط في هذه الدنيا إما لأنه يرى الناس يعملون الشيء فيعمله، أو أنه -مثلاً- يحكم عقله أو يحكم ذوقه ووجده أو يحكم مشايخه وأكابر بلده ومن يظن بهم الظنون الجميلة، وإذا قيل له: الهدى كذا أو الحق كذا.
قال: لا.
هؤلاء أعلم منك.
فهذا هو الذي يُخاف عليه، وهذا هو الذي إذا جُمع الناس، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، يبدو له ما لم يكن يحتسب، ويندم الندامة التي لا تنفعه، بل تكون زيادة في عذابه، نسأل الله العافية.(7/3)
شرح أثر ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد)
قال المصنف رحمه الله: [قال ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]) الآية].
يعني: هذه الثلاث الآيات التي ذكرت من آخر سورة الأنعام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من أكابر الصحابة وعلمائهم، وقد أمَّره عمر رضي الله عنه على الكوفة حاكماً وقاضياً ومعلماً فيها، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة رضوان الله عليه.
وقوله: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات).
يقول: كأن هذه وصية كتبها الرسول وختمها بخاتمه، فلم تخط ولم تخرج، فالمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصى بمضمون هذه الآيات؛ لأنه وصى بكتاب الله، ولم يوص الرسول صلى الله عليه وسلم وصاة إلى أحد، وإنما كان يوصي بكتاب الله كما جاء في خطبته التي خطبها في حجة الوداع التي ودع الناس فيها؛ لأنه علم قرب أجله فقال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله)، فحث على الأخذ بكتاب الله والتمسك به، هذه هي وصيته، أما الزعم بأنه وصى إلى شخص معين -لا سيما بالخلافة- فهذا كذب وافتراء على الله وعلى رسوله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في أثناء مرضه قال: (ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: نأتي به، ومنهم قال: لا نأتي به، ثم قال: (قوموا عني)، ولو كان هذا الكتاب متعينة كتابته ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا بينته الرواية الأخرى، فإنه قال لـ عائشة رضي الله عنها: (ادعي لي أباك وأخاك لأكتب له كتاباً) حتى لا يختلف الناس ويقول قائل: لو كان فلان لو كان فلان.
ثم قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، فترك الكتاب لأنه علم أن ترك الأمة بلا كتابة ولا وصية إلى أحد أنفع وأفضل، وإذا اجتهدوا ونظروا في اجتهادهم لا يخرجون عن الحق، وقد عُلم علماً يقينياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ترك الصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بهم، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فراجعته عائشة رضي الله عنها، وقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يستطيع أن يُسمِع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فذهبت عائشة وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له كذا وكذا، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فبقي أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس طوال مرضه صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم، ولهذا قال الصحابة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيه لديننا فنحن نرضاه لدنيانا).
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوص إلى أحد، وإنما وصى بكتاب الله، وقول ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه -كأنه يقول: هذه وصية كتبت ثم ختمت فلم تفتح- فليقرأ هذه الآيات) هذا في الواقع ليس خاصاً بهذه الآيات، ففي كتاب الله كثير من أمثال هذه الآيات الثلاث المحكمات.
ثم إن الشيء الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح في كتاب الله قد وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه، ولم يترك الناس في التباس أو اشتباه، ولهذا كان يقول لهم في آخر خطبة خطبها في الجمع الكبير يوم عرفة وكذلك يوم النحر: (إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟)، هكذا كان يقول لهم، فصاروا يقولون: (نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة.
فصار صلى الله عليه وسلم يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) يعني: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ.
وكثيراً ما كان إذا بلغ الشيء قال: (اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، يستشهد ربه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، فإذا كلف الله جل وعلا عبداً في إبلاغ الرسالة ثم توقف عنها فمعنى هذا أنه امتنع، وقد حمى الله جل وعلا رسوله من ذلك وصانه، فكان يحرص كل الحرص على التبليغ.
ولهذا يقول العلماء على هذه الآية: كل ما لم يقله الرسول ويأمر به ويفعله فهو باطل بدليل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]؛ لأنه لو كان مما أنُزل إليه لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو باطل مردود على صاحبه.
والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين ولم يترك شيئاً، حتى إنه لما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] كأنه خشي أن يكون قصر، فبادر مسرعاً إلى أقرب جبل قريب منه وهو جبل الصفا فصعد عليه وجعل يرفع صوته ويهتف: (وا صباحاه!)، وكانت هذه عادة العرب إذا رأى أحدهم عدواً قريباً ولا يمكنه أن يخبر قومه يصيح ويقول: (وا صباحاه) يعني: صبحكم العدو فصاروا يهرعون إليه من كل جانب، والذي لم يستطع أن يأتي إليه أرسل من يأتيه بالخبر؛ لأن هذا أمر مهم جداً، فلما اجتمعوا عنده قال: (يا معشر قريش! أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أن يغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً.
فقال: أنقذوا أنفسكم من النار، فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فجعل يعم ويخص، حتى قال صلوات الله وسلامه عليه: (يا فاطمة بنت محمد! أنقذني نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً)، فلم يترك شيئاً إلا وبينه للأمة، ولم يترك مجالاً يقوله ويبلغه إلا قام به في تبليغ شرع الله جل وعلا.
ولهذا صار كثير من الكفرة والفجرة يرمونه بالجنون، ويقولون: إنه مجنون من أجل هذا.
فالمقصود: أنه ليس للإنسان عذر بعد بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه أن يهتم بأمر دينه، أن يعيره شيئاً من الاهتمام، ولا يجوز أن تكون دنياه أكثر اهتماماً عنده من أمر دينه؛ فإنه إذا كان كذلك يوشك أن يهلك.(7/4)
ترجمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ابن مسعود) هو: عبد الله بن مسعود بن غافل -بمعجمة وفاء- ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان، ومن كبار علماء الصحابة، أمَّره عمر رضي الله عنهما على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه].
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رجل ابن مسعود في الميزان أثقل من جبل أحد)؛ وذلك أنه كان جسمه نحيفاً رضي الله عنه، فرآه بعض من رآه وهو يأكل شيئاً من الشجرة فتعجب من دقة ساقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) يعني: يوم القيامة.
وهل يمكن لأحد أن يزن جبل أحد؟ لا يمكن وإنما هذا يدل على فضله، وهو من السابقين الأولين الذين أثنى الله جل وعلا في كتابه.(7/5)
معنى الوصية التي تضمنتها الآيات الثلاث التي في سورة الأنعام
قال الشارح رحمه الله: [وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني بنحوه.
وقال بعضهم: معناه: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يُزد فيه ولم يُنقص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال -فيما رواه مسلم -: (وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله)، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) [الأنعام:151]، حتى فرغ من الثلاث الآيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه) رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ومحمد بن نصر في (الاعتصام)].
وهذا أيضاً كان يتكرر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أيضا عن عبادة بن الصامت أنه أمرهم أن يبايعوه على الآيات التي في آخر سورة الممتحنة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] إلى آخر الآية، وأنهم بايعوه عليهن، وهذا الحديث مثله.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوصي بالآيات الجوامع التي فيها الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غيره، وكذلك الالتزام بما جاء به وعدم الإخلال به، فكان يوصي بهذا ويَعِدُ الإنسان عليه بالجنة إذا وفى.
كما أنه لما قال له معاذ: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -ثم قال:- تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، فذكر له هذه الأمور الخمسة فقط، وهذه هي التي يدخل بها الإنسان الجنة، وليس للجنة ثمن غيرها، ولكن الإنسان قد لا يدري هل جاء بها على الوجه المطلوب أو أنه أخل بها؟ ولا أحد يجزم جزماً بأنه جاء بها على الوجه الذي أراده الله، بل لابد أنه قصر فيها: في فعلها أو في صفاتها أو في غير ذلك.
ولهذا من تيقن أن الله قبل منه عملاً فهو من السعداء، كما قال عبد الله بن عمر: (لو أعلم أن الله قبل مني حسنة لتمنيت الموت (؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنه إنما يقبل من المتقين، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
قال الشارح: [قلت: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه، وفى كتابه الذي أنزله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]، وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم].
يعني أنه في آخر كل آية يقول: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:151] فالوصية هي: الأمر المؤكد بأن يؤخذ به ولا يخل به.
فهذه وصية الله، والرسول صلى الله عليه وسلم وصى بما وصى به ربه جل وعلا.(7/6)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [8]
ما حصل بين الأنبياء وأممهم من الخلاف والخصومة إنما كان على التوحيد، فهم صلوات الله وسلامه عليهم بعثوا لتقرير التوحيد ونفي الشرك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث دعاته يأمرهم أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد أولاً، ثم إلى بقية فرائض الدين بعد ذلك.(8/1)
حق الله على العباد وحق العباد على الله
قال المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجاه في الصحيحين].
قال الشارح: [معاذ بن جبل رضي الله عنه من علماء الصحابة وأفاضلهم وأكابرهم، ومن السابقين إلى الإسلام، وهو أنصاري من الخزرج، وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! والله! إني لأحبك؛ فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن معاذاً يحشر أمام العلماء برتوة)، والرتوة: إما أن تكون المكان المرتفع، أو أن يكون أمامهم بمسافة لفضله؛ لأنه جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذا أفضل العلم.
وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته نائبا عنه في الدعوة والتبليغ والحكم والقضاء إلى اليمن، وقال له لما بعثه: (لعلك لا تراني بعد اليوم)؛ لأنه بعثه في السنة العاشرة للهجرة، فصار يبكي فقال: (لا تبك)، ثم ذهب وبقي في اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد في خلافة أبي بكر، وذهب للقتال في الشام، ومات في الشام].
سبق أن معاذاً رضي الله عنه كان من أكابر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، وأنه أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في آخر حياته داعياً ومبلغاً عنه حاكماً، ثم إنه بقي في اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في خلافة أبي بكر الصديق، ثم ذهب لقتال الروم فتوفي في الشام رضي الله عنه.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: (والله! إني لأحبك؛ فلا تدعنَ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (معاذ يحشر أمام العلماء يوم القيامة برتوة)، يعني: بمرتفع أو بمسافة أمامهم، لما اختص به من علم الحلال والحرام، وهو ممن شهد بدراً وما بعدها من مشاهد الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما جاء في فضله رضوان الله عليه.
وقوله هنا: (أتدري ما حق الله على العباد؟)، هذا سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إليه، وهذه طريقة كان صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يخرج العلم بها؛ ليكون أدعى إلى قبوله والتنبه له؛ لأن الإنسان إذا سئل وهو لا يدري فإن نفسه تتطلع إلى قبول الجواب، ثم يكون متشوفاً له ومتشوقاً إليه، فيقبله أكثر، ويعلمه أكثر مما لو ألقي عليه إلقاءً، وهذا من حسن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن تبليغه وطريقته في إيصال العلم إلى صحابته.
والدراية هي: المعرفة، فقوله: (أتدري؟) يعني: تعرف ما هو الحق الذي أوجبه الله على عباده؟ ثم إن قول معاذ رضي الله عنه: (الله ورسوله أعلم)، يدل على حسن الأدب من المتعلم، فإذا كان المتعلم لا يعلم ما سئل عنه فليكل علمه إلى عالمه، ولهذا قال: (الله ورسوله أعلم).
وهذا لا يلزم منه أن معاذاً رضي الله عنه كان يجهل حق الله على عباده الذي هو التوحيد، ولكن المقام مقام تنزل الوحي، والرسول صلى الله عليه وسلم ينزل إليه من الله ما يشاء الله جل وعلا أن يجعله حقاً زائداً على الحق الذي يعلمه معاذ، فلهذا قال: (الله ورسوله أعلم).
وقوله في
الجواب
( حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، هذا هو الحق الذي خلق الله جل وعلا الخلق له من الجن والإنس ليقوموا به ويلتزموه، وهو عبادته وحده وعدم الشرك.
والعبادة مأخوذة من الذل والخضوع، فهي غاية الحب في غاية الذل والخضوع، وإذا كان العبد محباً الحب الذي هو الغاية وذالاً فهذه هي العبادة، فإنه لابد أن يفعل ما أمره به محبوبه ويمتثله ويجتنب ما نهاه عنه، مستلزماً فعل الأمر وترك المنهي عنه.
وسبق أن العبادة في الشرع هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فتشمل أفعال القلب وأفعال الجوارح، وكذلك فعل اللسان.
وفعل الجوارح مثل: الصلاة والقيام والركوع والسجود، والبذل مثل الصدقة، وإزالة الأذى عن طرق المسلمين، وما أشبه ذلك.
والأقوال مثل: قراءة القرآن والذكر والدعاء، وفعل القلب مثل: خشية القلب وخوفه وحبه وما أشبه ذلك.
فكل فعل يتقرب به الإنسان جاءه عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عبادة، وكل فعل أمر الله جل وعلا به وحث عليه فإن فعله عبادة، وكذلك كل شيء أمر الله جل وعلا أن يترك ويجتنب فتركه واجتنابه خوفاً من الله عبادة، فصارت العبادة هي فعل الجوارح من الأيدي والجسد كله، ويشمل ذلك فعل اللسان من الأقوال: كالذكر والقراءة، وكذلك فعل القلب: من الإرادات والنيات والخوف والخشية وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في العبادة.
فقوله: (يعبدوه) أي: يعبدونه بهذه الأفعال ويوحدونه، والعبادة مبنية على التذلل مع الحب والرجاء، فيعبد ربه ذالاً خاضعاً، ويرجو أن يثيبه على ذلك، والإسلام كله يدخل في العبادة، وهذا حق لازم يسأل عنه الإنسان إذا فرط فيه أو قصر فيه أو ترك منه شيئاً، فهذه هي العبادة التي أوجبها على عباده، ولهذا سماها الحق، والحق في اللغة هو: الشيء الذي يستقر ويثبت، ولهذا يقال: حق في المكان إذا استقر فيه وثبت، فهو أمر ثابت على العباد لله جل وعلا، يسألهم جل وعلا عنه إن تركوه أو فرطوا به.
ثم قال: (وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وقال في حق الله: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) K فبين أن العبادة تقتضي ترك الشرك، وأنها تكون فعلاً وتركاً، يعني: فعلاً للتوحيد وتركاً لضده، فإذا لم تكن كذلك فإنها غير معتبرة، ولا تكون عبادة شرعية، فالعبادة الشرعية لابد أن تكون فعلاً وتركاً، فيكون التعبد والتذلل لله بفعل أوامره، وكذلك بترك ما نهى الله عنه، وأعظم ما أمر الله جل وعلا به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك.
والشرك هو: أن يشرك في العبادة التي أمر أن تكون له، وأن يجعل معه فيها غيره، واقتصر على هذا لأن هذا في ضمنه.
ويجب الإقرار للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والالتزام بكل ما جاء به التزاماً تاماً، من فعل الصلوات وأداء الزكاة والصوم والحج وغير ذلك، فإنه إذا عبد وذل وخضع فلابد أن يفعل المأمور ويترك المنهي عنه ويجتنبه.(8/2)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)
ثم قوله: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، كلمة (شيئاً) هنا نكرة تعم كل ما يدخل تحت هذا الاسم، فإن وقع منه شيء من الشرك وإن كان صغيراً فإنه لم يأت بهذا الشرط، ويجوز أن يعذب؛ لأنه لم يأت بما شرط عليه.
وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، ما المقصود بالحق للعباد على الله؟ فقال قوم: إن للعباد على الله حقاً مستحقاً على سبيل القياس بحقوق العباد، وهذا قول طائفة ضالة وهم المعتزلة، فقاسوا الله جل وعلا على خلقه، ولهذا يقول العلماء: إنهم مشبهة الأفعال ونفاة الصفات، أي: يعطلون صفات الرب جل وعلا ويشبهون أفعال الرب جل وعلا بأفعال خلقه، فيجعلون للعابد أجراً يطلبه من الله، كما أن من عمل عملاً لإنسان فإنه يستحق عليه أجراً، وهذا خطأ محض؛ فإن الله جل وعلا لا يحق عليه أحد شيئاً، فهو المالك لكل شيء، وهو الخالق لكل شيء.
وقال فريق آخر: إنه ليس للعباد على الله حق يطلب، وإنما ذلك مجرد وعد فقط، فـ (حقه) يعني: تحقق موعوده.
أي أن وعده حق، وما وعد به سيقع، فقد وعد أهل الخير بالإثابة ووعد أهل الشر والشرك بالعقاب، فهذا معنى الحق عندهم، وهذا أيضاً ليس صحيحاً.
والصواب هو القول الثالث: أن للعباد على الله حق أحقه هو على نفسه جل وعلا، ولم يلزمه إياه أحد من الخلق، بل هو رحمة منه وفضل وإحسان، كما كتب على نفسه الرحمة، ولهذا يقول جل وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ولا يوجد أحد حقه عليه، ويقول جل وعلا: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
فالحق الذي جعله للعباد: أن يثيب الطائع الإثابة التي يستحقها، ولهذا قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، هذا هو الحق الذي أحقه الله جل وعلا على نفسه.
وقد حرم جل وعلا على نفسه الظلم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الحديث القدسي الطويل، وفيه أنه قال جل وعلا: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فهو الذي حرم ذلك على نفسه، وهو الذي أحق الحق لعباده المؤمنين على نفسه، لم يحقه عليه أحد من الخلق، فقوله: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) أي: من مات وهو غير مشرك بالله جل وعلا شيئاً، وكلمة (شيئاً) قلنا: يدخل فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فإنه لا يمسه شيء من العذاب، وهذا خبر مطلق في جميع أنواع العذاب، لا عذاب الدنيا ولا عذاب القبر ولا عذاب الآخرة.
فإنه من سلم من الشرك كبيره وصغيره فإنه يكون من السابقين إلى الجنة، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، كما سيأتي بيان ذلك؛ لأن (شيئاً) نكرة عامة يدخل فيها كل ما يسمى شركاً في الشرع.
أما الشرك الأكبر فقد عُلم أنه ليس مع صاحبه أمن ولا اهتداء مطلق، فإذا مات عليه فهو من الخالدين في النار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى في قصة عيسى عليه السلام لما نهى بني إسرائيل عن الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة محرمة على المشرك، وأنه ليس له مصير إلا النار، والشرك الأكبر هو: أن يعبد مع الله غيره، والعبادة أنواع متعددة، فأي عبادة جعلها لغير الله أو جعل العبادة بين الله وبين عباده فإنه يكون واقعاً في الشرك، وقد علم أن شرك المشركين ليس معناه أنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم شريكة لله في التدبير والخلق والإيجاد والتصرف، وإنما كانت عقيدتهم أن أصنامهم ومعبوداتهم من اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام التي يتجهون إليها كان شركهم أن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يتقربون بها إلى الله، فيدعون الله بواسطتها، ويسألونها أن تشفع لهم عند الله، كما قال الله جل وعلا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم إذا سئلوا: من الذي خلقهم وخلق من قبلهم؟ ومن الذي خلق السموات والأرض؟ ومن الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وينبت لهم النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم؟ إذا سئلوا عن ذلك قالوا: الله.
أي: الله وحده ليس معه شريك، ولهذا جعل الله جل وعلا ذلك حجة عليهم بأن يخلصوا العبادة له ما داموا يقرون بأنه المتصرف في هذه الأشياء وحده، المنفرد بإيجادها والتصرف بها وحده.
قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22] أي: يعلمون أن الله هو الذي يفعل هذه الأشياء المذكورة.
يعني: هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم وحده، وهو الذي جعل الأرض مستقرة فراشاً لهم يتمكنون من الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي جعل السماء بناءً فوقهم، وهو الذي ينزل من السماء المطر فينبت به النبات وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] لأنه المتفرد بفعل ما ذكر، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن تتجهوا إلى غيره في الدعاء والتوسل وطلب الشفاعة، فهذه المذكورات التي تجعلونها وسائط بينكم وبين الله لا تستطيع أن تشفع لكم.
فهذا في الواقع هو شرك المشركين، يقول جل وعلا في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وقال جل وعلا عنهم: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]،
و
الجواب
أنهم يقولون: هو الله وحده، فلا يوجد أحد يجيب المضطر غيره لا الأصنام التي يتجهون إليها ولا غيرها، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، وتركوا ما كانوا يشركون به، فهذا هو شركهم الذي إذا ماتوا عليه صاروا خالدين في النار، وإلا فهم يعلمون أن الله جل وعلا ليس معه شريك يدبر ويخلق ويوجد ويعدم ويحيي ويميت، يعلمون هذا، وهذا أمر مقطوع لا شك فيه، فالقرآن واضح جداً في هذا، وآياته كثيرة فيه.
وإن من المتعين على العبد المسلم أن يتعرف على ما كان المشركون يفعلونه خوفاً من أن يقع في فعلهم وهو لا يشعر؛ لأن الذي لا يعرف الشر لا يعرف الخير، كما جاء في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه)، فالذي لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، ويظن أنه خير.
وهذا في الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فهو بحر لا ساحل له، ولكثرته وكونه غير منضبط بضابط يحدده بالعمل المعين جُعل تعريفه بالأمثلة، فهو كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله، كأن يحلف -مثلاً- بالنبي، أو بالكعبة، أو بالأمانة، أو بالشرف، أو ما أشبه ذلك، وربما صار من الشرك الأكبر حسب ما يقوم في نية الحالف وقصده وإرادته، فإذا حلف بمخلوق من المخلوقات يعتقد أن هذا المخلوق يستطيع أن يطلع على ما في قلبه ويعاقبه إذا كان كاذباً فإن هذا من الشرك الأكبر وليس من الأصغر، أما إذا كان أمراً جرى على لسانه فهذا من الشرك الأصغر، والشرك الأصغر لا يجعل المسلم كافراً، ولكنه ذنب يستحق العقاب عليه من الله إذا لم يعف عنه، وكذلك يسير الرياء في العمل، والرياء معناه: أن يعمل عملا لله جل وعلا ثم يقصد بعمله أن يراه الناس فيثنون عليه أو يحبونه، فيزين العمل من أجل ذلك أو يحسنه أو يطيله.
فإذا كان هذا الشيء الذي بعثه على العمل هو الرياء فهذا لا يكون شركاً أصغر؛ لأن هذا صفة المنافقين والكفار، كما قال الله جل وعلا عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وكذلك قال عن الكفار، وأخبر أنهم خرجوا من ديارهم بطراً ومراءاة للناس في أعمالهم.
ولكن إذا عرض هذا الشيء في أثناء العمل، فهذا لا يخلو إما أن الإنسان يستدعي ذلك ويستمر معه فهذا يكون شركاً محبطاً للعمل الذي قارنه، أو أنه يدافعه ويعرض عنه فإنه لا يضره، فملاحظة الناس وقصدهم وجلب أنظارهم إلى العمل وتحسينه من أجلهم يكون شركاً، ولكنه من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر، وهذا إذا كان يسيراً قليلاً أما إذا كان كثيراً فلا.
وكذلك قول الإنسان: لولا الله وفلان.
أعني: كونه يضيف الأفعال إلى أسبابها، فإنه يكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، وإنما ذلك مجرد سبب، وكذلك كون الإنسان يبخل بالحق حباً للمال، فإن حبه للمال وبخله بالحق الذي وجب عليه يجعله مقدماً حبه المال على حبه لله جل وعلا ولفعل طاعته، فيكون بذلك داخلاً في الشرك الأصغر، وهذا كثير جداً، ولهذا قال: (ألا يشرك به شيئا) أي: فإنه لا يعذر من يشرك به شيئاً، فإذا سلم الإنسان من الشرك قليله وكثيره كبيره وصغيره فإنه يكون سالماً من عذاب الله مطلقاً، ولا يناله عذاب في الدنيا ولا بعد الموت، ولا في القبر ولا بعد البعث، وهو الذي يكون سعيداً سعادة تامة وكاملة، ويكون مهتدياً هدىً تاماً وكاملاً، فصار(8/3)
ترجمة معاذ بن جبل رضي الله عنه
قال الشارح رحمه الله: [وهذا الحديث في الصحيحين من طرق، وفى بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف.
ومعاذ بن جبل رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدراً وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة) أي: بخطوة، قال في القاموس: والرتوة: الخطوة، وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم، أو نحو ميل، أو مدى البصر، والراتي: العالم الرباني.
انتهى.
وقال في النهاية: إنه يتقدم العلماء برتوة أي: برمية سهم، وقيل: بميل، وقيل: مدّ البصر، وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث.
مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس، وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم].
لما حضرت معاذاً الوفاة صار رضي الله عنه يسأل هل أصبحنا؟ فلما قيل له: نعم، قال: (أجلسوني، ورفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، وأني لا أحب البقاء في الدنيا لشق الأنهار وغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب، اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار)، هكذا حال أهل الخوف وأهل التقى، فهو رضي الله عنه مع ورعه وخوفه من الله جل وعلا وحبه له وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحبه يقول: أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار؛ لأن المسلم يحسن ويخشى ربه، بخلاف المسيء فإنه يسيء ويأمن؛ لأنه جاهل بالله جل وعلا، أما المحسن فإنه يعلم قدر الله، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فأهل الخشية هم أهل العلم، وهكذا كان إخوانه من الصحابة رضوان الله عليهم.(8/4)
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الإرداف على الدابة
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضي الله عنه.
قوله: (على حمار) في رواية اسمه (عُفير)، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.
وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر].
بعث صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى ملك مصر -واسمه المقوقس - يأمره بالدخول إلى الإسلام واتباعه، وأرسل الكتاب مع دحية الكلبي، فلما جاءه الكتاب وقرأه لم يسلم وضن بملكه كعادة الملوك، ثم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدايا منها مارية القبطية التي ولدت لرسول صلى الله عليه وسلم ولداً سماه إبراهيم، ثم لما بلغ ستة أشهر توفي، وحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانكسفت الشمس في ذلك اليوم فقال بعض الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم يجر رداءه وقال: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، وأخبر أن له مرضعاً في الجنة تكمل رضاعته، وكذلك أرسل المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة وحماراً، فهذا الحمار كان صلوات الله وسلامه عليه يركبه -وكذلك البغلة كان يركبها-، وكان يردف على هذا الحمار، وهذا دليل على تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه ليس من الملوك؛ لأن الملوك يأنفون من ركوب الحمار ويتكبرون على ذلك، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يركبه ويردف عليه، فـ معاذ رضي الله عنه ركب خلفه على هذا الحمار، وسأله هذا السؤال وهو راكب، والذي يركب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون له فضل؛ وذلك لأنه يكون رديفاً له، فهذا وجه قوله: (وفيه فضيلة معاذ) وأيضاً لأنه خصه بهذا العلم.
وقوله: (حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، أي: لأنه إذا سمع الإنسان هذا الكلام فقد يظن أنه بمجرد أن يصلي ويصوم ويتعبد فلا يناله شيء من العقاب.
أي أنه لم يفهمه الفهم الذي ينبغي، فقوله: (لا تبشرهم) أي: لئلا يدعوا العمل ويعتمدوا على رحمه الله جل وعلا.
ولكن هذا لا يكون إلا ممن عنده بعض الجهل، أما الذين يعرفون ويعلمون فإنهم كلما علموا شيئاً من فضل الله ونعمه وإحسانه ازدادوا شكراً وعملاً؛ لأن جزاء الفضل أن يشكر صاحب الفضل، والله جل وعلا لا يستطيع أحد أن يقوم بشكره وبحقه كما ينبغي، فلابد للإنسان أن يكون له شيء من الذنوب وشيء من التقصير أمام الله جل وعلا، ولكن الله عفو كريم يعفو.(8/5)
التعليم بصيغة السؤال
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أتدرى ما حق الله على العباد؟) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم].
حق الله على العباد هو ما يستحقه عليهم، وحق العباد على الله أنه متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاءً لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6].
والصواب أن الحق شيء زائد على ذلك، فهو حق أحقه الله جل وعلا على نفسه، وأنه المثيب الطائع على طاعته، فهو منه جل وعلا تفضل وإحسان، وليس شيئاً ألزمه إياه غيره، بل هو الذي التزم ذلك تفضلاً منه وكرماً وجوداً.(8/6)
الرد على من يوجب على الله حقاً بالمقابلة
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق].
الذين يقولون: إنه لا معنى لذلك إلا أنه أخبر به فخبره يقع هذا القول هو مذهب الجهمية والمرجئة، وكذلك اتباع أبي الحسن الأشعري الذين سلكوا مسلكهم، أما أهل السنة فلا يقولون ذلك، إنما يقولون: هذا الحق حق أحقه الله جل وعلا على نفسه، كما قال شيخ الإسلام، فالحق منه جل وعلا تفضل وإحسان وكرم، وليس حق مقابلة ومعاوضة كحقوق الخلق بعضهم على بعض.
ونصوص الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة في هذا؛ فإنه قال: (حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، فأثبت حقاً على الله جل وعلا لعباده، وهذا الحق على الله جل وعلا هو الذي أحقه على نفسه، وإحقاقه إياه تفضل وكرم وجود، ولا يوجد أحد يلزمه تعالى وتقدس بذلك.
[ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق لم يوجبه عليه مخلوق.
والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم، والقدرية النافية].
المعتزلة لهم أصول خمسة غير أصول المسلمين الذين يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن أصول المسلمين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا الأصل الأول، الأصل الثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان، والخامس: حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، هذه أصول الإسلام عند المسلمين، أما هؤلاء الضلاَّل فإنهم جعلوا أصولاً خمسة بدل هذه الأصول جاءوا بها من عند أنفسهم، فقالوا: الأصل الأول: التوحيد، والتوحيد عندهم نفي الصفات، فصفات الله جل وعلا لا يثبتونها.
والأصل الثاني: إنفاذ الوعيد، ومعناه عندهم أنه يجب على الله أن يعاقب العاصي ويثيب الطائع، وهذه شريعة وضعوها على الله تعالى وتقدس، وهذا في الواقع من جهل الإنسان وظلمه؛ فإن الإنسان جهول ظلوم.
والأصل الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون بذلك الخروج على ولي الأمر.
والأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين، ومعناه أن الفاسق الذي فعل ذنباً لا يكون مؤمناً ولا يكون كافراً، بل يكون بين الإيمان والكفر، ولكنه إذا مات يكون في النار، وقد اتفقوا في مصيره مع الضلاَّل الآخرين الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، فإنهم يجعلونهم كفاراً ويستحلون دماءهم، فاتفقوا مع الخوارج في حكم الآخرة، وقالوا: إذا مات فإنه يكون في النار.
وكل هذه الأصول باطلة؛ لأنها مخترعة من عند أنفسهم بالقياس والعقل الذي يزعمون أنه يحكم على شرع الله جل وعلا، وعلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.(8/7)
الأمور التي تضمنتها العبادة
وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك بخلاف أكثر المتكلفين.
وقوله: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) أي: يوحدوه بالعبادة.
ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله، حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان].
يعني أن العبادة تتضمن ثلاثة أمور: الأول: غاية الحب مع غاية الذل مع الفعل.
الثاني: فعل الأفعال، وهي أفعال الطاعة.
الثالث: أن تكون الطاعة على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلابد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة، وإلا فإن الإنسان يتعبد بغير هدى، وكذلك الحب يتضمن محبة القلب ونيته وإرادته وخشيته وخوفه ورجاءه، وكذلك الذل، فالإيمان الذي أمر الله جل وعلا به مركب من أشياء: من الحب والخوف والخشية والإنابة، ومن عمل الجوارح، ومن قول اللسان، فلابد للمسلم أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم لابد أن يتفق القلب مع قول اللسان، فيعرف هذا المعنى ويتحلى به ويعتقده حقاً، ثم جوارحه تعمل بذلك، أما لو قال الإنسان هذه الكلمة ولم يعمل فإنه لا يُعد مسلماً، فإذا ترك الصلاة والصوم والحج ولم يلتزم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا إما إن يكون كاذباً وإما أن يكون عاصياً خارجاً عن الطاعة؛ فيكون مستحقاً لعذاب الله جل وعلا.(8/8)
خصومة الأنبياء مع أممهم كانت من أجل التوحيد
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا يشركوا به شيئاً) أي: يوحدوه بالعبادة.
فلابد من التجرد من الشرك في العبادة، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله نداً، وهذا معنى قول المصنف رحمه الله: (وفيه أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه).
وفى بعض الآثار الإلهية: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي)].
(فلابد من التجرد من الشرك في العبادة) المقصود به نفي الشرك.
وقوله: (لأن الخصومة فيه) مقصوده بالخصومة: الخصومة بين الأنبياء وأممهم التي وقعت].
يعني أن مجادلة الرسل مع أممهم كانت في العبادة، ولم تكن في أمور أخرى، وإنما كان كل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ومعنى (اعبدوه): وحدوه، واجعلوا أفعالكم التي تتقربون بها لله وحده فقط؛ إذ ليس معه أحد شريك، وكل الرسل قالوا هذا، والأمم فهمت ذلك منهم، ولهذا كانوا يقولون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70]، فالذي منعهم من اتباع ما قالته الرسل هو ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة غير الله، من عبادة الأصنام والأشجار وما تصنعه أيديهم والأموات والكواكب وغيرها، وما كانوا يعبدونها وحدها، بل كانوا يعبدون الله ولكن يجعلون معه في العبادة غيره، وكان كفار قريش أيام الحج يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، وهم يعلمون أن كل شيء بيد الله ملك لله جل وعلا، وأبوا أن يتركوا هذا الشرك وأن يخلصوا الدين لله وحده؛ لأن آباءهم مضوا على هذا، فهم يعظمون آباءهم، كما قال الله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] يعني: على ملة، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] يعني: سالكون آثارهم فقط، ولا يريدون أن يتركوا ما وجدوا عليه آباءهم، فهذا الذي منعهم من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القول تقوله كل أمه لرسولها، حتى الكبراء والعظماء، كما قال فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، يعني: لماذا كانوا يعبدون غير الله مع الله؟ يحتج على موسى بما مضى من الناس، ويقول: إن هذه طريقة كل الناس سلكوها.
وكثير من الناس اليوم إذا أمرته بأمر من أمر الله أو أمر رسوله يقول: الناس كلهم يفعلون كذا، أو كل الناس لا يفعلون هذا، فنفس الطريقة التي قالها الكفار القدامى قالها المتأخرون، وسواء يقولها من لا يريد أن يعبد الله وحده أصلاً، أو يقولها العاصي من المسلمين ليحتج بها إذا أمر بأمر من الأمور التي هي من أمر الله وأمر رسوله، فإذا أمر بما يخالف العادة التي وجد الناس عليها يقول: الناس كلهم يفعلون هذا، وهي سنة متبعة، وما أشبه ذلك.(8/9)
نفي الشرك يستلزم التوحيد
قال الشارح: [وقوله: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) قال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعى إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: ومن توضأ صحت صلاته.
أي: مع سائر الشروط.
اهـ].
يعني: أن قوله: (يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) يستدعي فعل كلما جاء به الرسول؛ لأن هذا أمر معلوم، يعني: فلا يقل قائل: إن هذا ليس فيه ذكر الصلاة، ولا الصوم، ولا الحج، ولا كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
فالعبادة هي أن تفعل ما أمرك الله جل وعلا به على لسان رسوله، وتترك ما نهاك عنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولابد في عبادة الله أن تكون مع الذل والخضوع والتعظيم، وترك ما نهى عنه مع الرجاء والخوف، فتخاف أنك لو كنت مجرماً أن يعاقبك، وترجو إذا تركته أن يثيبك، هذه هي العبادة.(8/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [9]
لقد وعد الله سبحانه وتعالى بالأمن والاهتداء التام لمن لم يظلم نفسه في الدنيا، وقد فسر الظلم في غير ما حديث بأنه الشرك الذي يخلد صاحبه في النار، والله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً ما لم تكن شركاً، وفي هذا دلالة على أهمية التوحيد وعظيم فضله.(9/1)
أفضل الأعمال هو التوحيد
قال المصنف: [باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]].
قال رحمه الله تعالى: [باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب].
التوحيد واجب، وليس من الأعمال شيء أفضل منه، ولهذا جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)؛ لأن هذا هو التوحيد الذي خلق الله جل وعلا عباده ليعبدوه به، وسبق أن العبادة لا تسمى عبادة إلا إذا كانت توحيداً، أي: إذا كانت خالصة لله جل وعلا، وقوله: (وما يكفر من الذنوب) يعني أنه يكفر جميع الذنوب.
كما سيأتي في الأحاديث التي يذكرها، وكما في قوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
قال الشارح رحمه الله: [(باب) خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا.
قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره: هذا.
و (ما) يجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب.
ويجوز أن تكون مصدرية أي: وتكفيره الذنوب.
هذا الثاني أظهر].(9/2)
المراد بالظلم في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]].
هذه الآية من الأدلة على فضل التوحيد وأنه يكفر الذنوب، فقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وجه البيان فيه من جهتين: الأولى: أنه أخبر أن لهم الأمن، والأمن جاء معرفاً باللام، فشمل الأمن في الدنيا وفي الآخرة، أما الأمن في الدنيا فيأمن عذاب الله الذي ينزله على المشركين الذين لا يعملون بالتوحيد، وقد بين الله جل وعلا ذلك في قصص الأنبياء كثيراً.
الجهة الثانية: أنه أخبر أنهم هم المهتدون، والاهتداء ينتهي بالسعادة في سكون الدرجات العلى، وهي درجات الجنة.
وقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) هذا فصل للخطاب والخصومة التي وقعت بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه حينما هددوه وتوعدوه بآلهتهم التي يعبدون من دون الله، فتبرأ منها وقال: كيف تخوفونني بما تشركون به بهذه الأصنام، وأنتم لا تخافون الله وأنتم تشركون، فأي الفريقين أحق بالأمن: المشرك أو المخلص؟ فجاء قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنعام:82] يعني: هم الأحق بالأمن والاهتداء، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، والإيمان يشمل امتثال أمر الله جل وعلا واجتناب نهيه كله مع اقتران القلب بالخشية والإنابة والذل والخوف من الله جل وعلا.
وقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم) اللبس هو: الخلط.
يعني أنهم لم يخلطوا إيمانهم بظلم، والظلم هنا فسر بالشرك، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: (أينا لا يظلم نفسه؟)، وهذا أمر شديد؛ لأنهم تصوروا أن المراد مطلق الظلم، وكل معصية ومخالفة تدخل في ذلك، والإنسان لا يمكن أن ينفك عن معصية أو مخالفة، وهذا في كل الناس، وقد استثني من ذلك الأنبياء والرسل فقط، فقالوا: إنهم معصومون.
والصواب أن العصمة للرسل فيما يبلغون عن الله جل وعلا، وإلا فقد يقع منهم مخالفات فيعاتبهم الله جل وعلا عليها، ثم تكون حالتهم بعدها أحسن مما قبلها، أي أنهم لا يقرون على المخالفة، بل يعاتبون ويتوبون، ويكون آخر أمرهم أحسن من أوله، أما من عداهم من بني آدم فكلهم يخطئون، وكلهم يذنبون ولابد، وهذا مقتضى أسماء الله جل وعلا وأوصافه، فالله جل وعلا من أسمائه الغفور والرحيم والتواب، وكذلك كونه جل وعلا يستر على عباده، وكونه جل وعلا يرحمهم، وكونه جل وعلا هو البر الرؤوف، فلابد أن تظهر آثار هذه الأسماء، وإذا لم يكن هناك معاصٍ، وذنوب لا تظهر هذه الآثار، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فهكذا خلق الإنسان، ولما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قال الصحابة رضوان الله عليهم: أينا لا يظلم نفسه؟ هذا لا ينفك منه أحد فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس ذاكم، وإنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فجعل الشرك هو الظلم في هذا، وليس معنى ذلك أن الذنوب خارجة عن الظلم، لا.
ولكن المذنب إذا كان سالماً من الشرك فهو وإن حصل له من عدم الأمن خوف وحصل له شيء من العذاب فمآله إلى الأمن، مآله إلى الجنة ولابد، فإن عذب في الدنيا صار ذلك كفارة له، وإن لم يكف تعذيبه في الدنيا عذب في القبر فصار كفارة له، فإن لم يكف ذلك عذب في الموقف، فإن لم يكف ذلك عذب في النار، وهذا آخر التعذيب، ثم يخرج منها إلى الجنة ولا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، فأهل التوحيد لا ينتفي عنهم الأمن، وإنما ينتفي عنهم مطلق الأمن الذي هو الأمن التام والاهتداء التام إذا كان عندهم ذنوب، وإنما ينتفى الأمن عن المشرك الذي يشرك بالله جل وعلا ويموت على شركه، فليس له أمن ولا اهتداء، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (هو الشرك)، يعني: الذي يخلط إيمانه بشرك يكون خاسراً، ويكون له العذاب، ولا يناله شيء من الأمن والاهتداء.
وهذا يدل على أن الإنسان قد يجتمع له إيمان وشرك كما يجتمع له معاصٍ وبر وطاعة، وقد يكون عنده شيء من الإيمان وشيء من الشرك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، يقول مجاهد وغيره من المفسرين: إيمانهم أنك إذا سألتهم: من خلقهم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله.
وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره, وهذا هو الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه خالداً في النار إذا مات عليه ولم يتب قبل موته منه.
فهنا يقول: ((الذين آمنوا)) يعني: اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلوا ما جاء به واجتنبوا ما نهاهم عنه، فعملوا بالأمر واجتنبوا النهي، ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) يعني: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك.
((أولئك لهم الأمن)) الأمن التام الذي لا ينالهم معه عذاب في الدنيا ولا في القبر ولا في الآخرة، ((وهم مهتدون)) في الدنيا باتباع الحق وسلوكهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الهداية إلى منازلهم التي أعدها الله جل وعلا لهم في الآخرة، فهذا هو آخر الهداية، فيهدون في الدنيا بأن يعملوا بعد الحسنة حسنة، ويزدادون بعد الخير خيراً، ويهتدون في الآخرة بأن يعرفوا مساكنهم أكثر من معرفتهم مساكنهم في الدنيا قبل أن يروها، وهذا من تمام الهداية.
[قال ابن جرير: حدثني المثنى وساق بسنده عن الربيع بن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده.
وقال ابن كثير رحمه الله في الآية: أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة.
وقال ابن زيد وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟)، وهذا الحديث في الصحيح والمستدرك وغيرهما].
قوله: (هذا على فصل الخطاب من الله جل وعلا بين إبراهيم وقومه) يعني أن هذا الكلام مستأنف، وأن قصة إبراهيم مع قومه انتهت عند قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] إلى هنا انتهت قصة إبراهيم، ثم جاء الحكم من الله فاصلاً بين الفريقين -بين إبراهيم وقومه- بقوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] إلى آخره، فهذا معنى قوله: (هذا على فصل الخطاب) يعني أنه حكم مستأنف حكم الله جل وعلا به بين الفريقين، بين إبراهيم وقومه الذين خاصمهم.
والقول الثاني للمفسرين أن هذا من تمام القصة، وأن هذا من تمام قول إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ويكون هذا من تمام القصة ومن تمام كلام إبراهيم عليه السلام، وهو كلام حكاه الله جل وعلا عن الفريقين، فهو لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله تكلم به حاكياً ما وقع بين إبراهيم وقومه، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام كانت لغته غير عربية، ما كان يتكلم بالعربية، والله جل وعلا ذكر هذا باللغة العربية، فهو كلامه الذي حكاه كما وقع لإبراهيم وقومه.
وهكذا سائر قصص الأنبياء، فإنهم ليسوا عرباً، يقول العلماء: العرب من الأنبياء أربعة فقط، وأما بقية الأنبياء فكلهم عجم.
فالعرب: هود وصالح وشعيب ومحمد صلوات الله وسلامه عليه، أما بقيتهم فكلهم عجم، وكل قصص الأنبياء جاءت باللغة العربية لأن الله جل وعلا حكى ذلك وتكلم به ناكراً ما وقع لهم، فهو كلامه جل وعلا يذكر ما وقع بين الرسول وقومه، ومنه هذه القصة لإبراهيم.(9/3)
مكفرات الذنوب غير الشرك
قال الشارح: [وساقه البخاري بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون (لم يلبسوا إيمانهم بظلم) بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، ولـ أحمد بنحوه عن عبد الله قال: (لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] إنما هو الشرك)].
هذا لا يدل على أن الذنوب ليست ظلماً، ولكن يدل على أن الظلم المطلق الذي لا يكون معه أمن ولا اهتداء هو الشرك، أما الذنوب والمعاصي فإن وقعت من الإنسان فإنه يرجى له الخير إذا مات على التوحيد، بل يعلم يقيناً بأنه من أهل الجنة، وأن مآله إليها وإن عذب وإن ناله ما ناله ما دام ليس معه شرك، فمثل هذا لا يقال: إنه ليس له أمن وليس له اهتداء، بل له الأمن والاهتداء؛ لأن مآله إلى ذلك، فإن حدث له تعذيب وعرض له عارض فإنه يزول بخلاف المشرك، فإن الشرك ليس معه لا أمن ولا اهتداء.
فصار كلام الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً لهذا ومبيناً له.
وفيه أن الإنسان وإن كان وقع في معصية فإنه على رجاء من الله وعلى خير، ويرجى له أن يكون مهتدياً ويكون آمناً، والذنوب -ما عدا الشرك- لها طرق كثيرة لإزالتها ومغفرتها، منها كون الإنسان يتوب منها، فالتوبة تمحو جميع الذنوب التي سبقت التوبة إذا كانت التوبة صادقة ونصوحاً.
والتوبة النصوح ما اجتمع فيها شروط التوبة، وشروطها أربعة: أن يندم الإنسان على زلته وعلى ما وقع من الذنب ويود أنه ما وقع منه، وأن يعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليه، وأن يقلع عن الذنب ويتركه، وإن كان مع الذنب مظلمة لغيره من الخلق من الناس فيضاف إلى ذلك أنه يستحل صاحب الحق أو يؤدي إليه الحق، فإذا حصلت هذه الأمور فإن الله جل وعلا يتوب عليه، وقد ندب عباده جل وعلا إلى التوبة، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، وهذا لأن المؤمن لابد أن يقع له ذنوب، فأمر الله جل وعلا عباده أن يتوبوا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، والتوبة النصوح هي هذه التي ذكرناها بالشروط.
والأمر الثاني: أن المصائب التي تقع للإنسان سواء في الدنيا وفي نفسه أو في ماله أو في ولده أو في أقربائه، هذه تكفر ذنوبه، تكون كفارات لذنوبه.
الأمر الثالث: الطاعات التي تقع منه فإن الحسنات يذهبن السيئات، ويكون ذلك أيضاً من المانع من العذاب بالحسنات التي يعملها.
الأمر الخامس: الدعوة التي تحصل له من المؤمنين سواء إخوانه المؤمنون أو الملائكة، فالملائكة يدعون ويستغفرون للمؤمنين، كما أخبرنا الله جل وعلا بذلك، وكذلك المؤمنون بعضهم من بعض، وكذلك منها الصلاة عليه إذا مات، كصلاة المؤمنين عليه واستغفارهم له وشفاعتهم له، فإن هذا قد يكون مانعاً له من أن يعذب، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك.
الأمر السابع: ما يصاب به من عذاب القبر وضغطته.
فإن هذا يكون تكفيراً له.
الأمر الثامن: ما يقع له في المواقف -كموقف القيامة- من الشدائد والأهوال التي تمر عليه، فإنها تكون أيضاً مكفرة لذنوبه.
الأمر التاسع: إذا لم يكف هذا فالنار تطهر أهل القاذورات من المعاصي.
الأمر العاشر: رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء، فإنه إذا شاء غفر لعبده وإن كانت جرائمه كثيرة جداً، ولا يبالي جل وعلا، فهو غفور رحيم.
فكل هذه أسباب لمنع العذاب عن المؤمن، وهناك غيرها مما هو معروف من الشرع.
[وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب.
وقال الحسن والكلبي: أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا].
هذا لا ينافي تفسيره بالشرك، كونه فسر بالذنب لا ينافي تفسيره بالشرك؛ لأن تفسيره بالشرك وجهه ما ذكرنا، فيكون المعنى: ليس لمن أشرك بالله أمن مطلق، ولا اهتداء مطلق أما المذنب فله نوع من الأمن، وله نوع من الاهتداء، ولا ينفى عنه الأمن ولا الاهتداء، فيكون تفسير هذا متفقاً مع التفسير الأول.(9/4)
أقسام أهل الاصطفاء
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]].
في هذه المعايير جعل المصطفين الذين اصطفاهم الله جل وعلا -والاصطفاء هو الاختيار لجواره جل وعلا في جنة النعيم- جعلهم أقساماً ثلاثة: منهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
ولهذا فالظالم لنفسه فسر بأنه الذي يترك بعض الواجبات ويفعل بعض المحرمات.
هذا الظالم لنفسه، يترك بعض ما يجب عليه مما أوجبه الله جل وعلا عليه، ويفعل بعض ما حرمه الله عليه، وهذه ذنوب ومعاصٍ، فهذا ظالم لنفسه، ومع ذلك هو من أهل الاصطفاء الذين اصطفاهم الله، والمقتصد هو الذي يفعل الواجب ويترك المحرم، ولا يأتي بالنوافل ولا يترك المكروهات والمباحات تورعاً وتقرباً إلى الله.
أما السابق بالخيرات فهو الذي يفعل الواجبات ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل من الصلاة والصوم والصدقة والحج وغير ذلك من أفعال الخير، ولكونهم أقساماً ثلاثة صارت الجنة متفاوتة المنازل على حسب الأعمال، فكل من كان عمله أكثر وصدقه مع الله أعظم وقربه إليه أتم كانت منزلته أرفع وأعلى، وقد ذكر أن الجنة منها ما هو للمقربين، ومنها ما هو للأبرار، ومنها ما صاحبه يغبط عليه، حتى النبيون يغبطونه، فإنه جاء أن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف كما نرى الكوكب الغابر في أفق السماء، فهي منازل رفيعة عالية جداً في الجنة، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله جل وعلا للمجاهدين في سبيله)، فهذه لهم خاصة، والدرجة المقصود بها هنا الجنة، فالدرجات جنات واحدة فوق الأخرى، وهذه ليست لمائة شخص فقط، لا.
بل لأجناس كثيرة جداً، كل مكان في الجنة يسكنها ما يملؤها ممن يشاء الله جل وعلا.
فالمقصود أن الخلق لا يتفقون في الأعمال، منهم المجتهد ومنهم الورع الذي يترك ما هو مكروه أو ملتبس فيه خشية أن يكون حراماً أو ممنوعاً، ومنهم من يفعل ذلك وإنما يجتنب المحرم الصريح ويفعل الواجب الواضح الذي أوجبه الله عليه فقط، والرسول صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على أمور خمسة فقط إذا جاء بها الإنسان فإنه من أهل الجنة قطعاً: أحدها: أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فيعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.
والثاني والثالث والرابع والخامس: أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت فلما قال له معاذ رضي الله عنه: (دلني على عمل يدخلني الجنة.
قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فقط هذه الأمور الخمسة جعلها هي الطريق إلى الجنة، وإذا أتى الإنسان بما هو زائد على ذلك من أنواع الخير وأنواع البر فإن درجته في الجنة ترتفع ومنزلته تعلو ونعيمه يزداد، ولهذا فاوت الله جل وعلا بين عباده في الجنة من أجل ذلك.
والمقصود أن الذي يظلم نفسه هو من أهل الاصطفاء، وهو كذلك من أهل الأمن، وإن ناله ما ناله من عذاب أو مصائب تصيبه، فإن هذا يكون تكفيراً له.(9/5)
أجناس الظلم الثلاثة
[وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به)، فبين أن المؤمن إذا مات فدخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة الشرك وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام].
هذه هي أجناس الظلم، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه فهو لما نزل قوله جل وعلا: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، فـ (من) هنا شرطية، والجزاء يرتب على الشرط، لذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: أينا لا يعمل سوءاً؟ يعني: لا يوجد أحد ينفك من عمل السوء.
فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من الجزاء الذي يقع هو ما يقع في الدنيا من الجوع والظمأ، وما يصاب به الإنسان من المشقة والمرض والمصائب وإدالة العدو وما أشبه ذلك، فكل ما أصاب المؤمن ولو كلمة تسوؤه من آخر فإنها تكون كفارة لما اجترح وأصاب، فهذا الذي يجزى به، فالرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك.
وأنواع الظلم التي ذكر هي هذه التي لا يخرج عنها الناس، ظلم يكون بين العبد وبين ربه، وهذا يكون بترك واجب أو فعل محرم، ترك واجب أوجبه الله جل وعلا على الإنسان فيما بينه وبينه، فيما بين العبد وبين ربه جل وعلا، فإذا ترك شيئاً منه فهو ظلم، وهو لله جل وعلا، فله أن يجزي هذا الظالم على ظلمه وله أن يعفو.
والنوع الثاني: الظلم الذي يقع بين العباد بعضهم من بعض، من أخذ الأموال أو التعدي على الأعراض والأجساد أو استطالة في العرض بالكلام بأن يقال فيه ما ليس فيه، أو يقال فيه ما فيه في غيبته، فإن هذا من الظلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين الغيبة قال: (ذكرك أخاك بما يكره.
قيل له: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت: هو أشد الظلم وأعظمه فكذلك سائر الحقوق التي تقع من إنسان على الآخر إذا فرط فيها أو ظلمه فيها فإنه يطالب بأدائها، فهذا نوع آخر.
أما النوع الثالث فهو أشدها وأعظمها، وهو الشرك، ولهذا جاء في الأثر أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً.
ومعنى (لا يعبأ) أنه سهل وهين عند الله، يغفره ولا يبالي.
وديوان لا يترك الله منه شيئاً.
فالذي لا يعبأ الله به شيئاً هو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه، إذا شاء أن يغفره غفره جميعاً ولا يبالي به، ولو لم يتب الإنسان منه، وأما الذي لا يترك الله منه شيئاً فهو حقوق العباد بعضهم لبعض، فلابد أن تؤدى، ولابد من أداء الحقوق إلى أهلها، ولابد من القصاص يوم القيامة، حتى المؤمنون من أهل الجنة إذا خلصوا من المناقشة ومن الموقف وخلصوا من الصراط وعبروه أوقفوا في قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لبعضهم من بعض وهذبوا وطهروا، فلا يدخلون الجنة حتى تكون قلوبهم صافية ليس فيها غل على أحد.
وهؤلاء الذين علم الله جل وعلا أن هذا الذنب لا يقضي على حسناتهم بل تبقى حسناتهم التي يسكنون بها الجنة، وأما المظالم العظيمة فإنها تكون في الموقف قبل العبور على الصراط، كل مظلمة تؤدى إلى صاحبها حسنات، والناس وكل واحد يفرح أن يكون على أخيه حق، حتى الوالدة تتمنى أن يكون لها حق على ولدها وبالعكس، ولهذا يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، ولماذا يفر من أمه وأخيه وأبيه وزوجته؟! هؤلاء هم أقرب الناس وأحبهم إليه، ومع ذلك يفر منهم ويكره أن يراهم، وفراره منهم خوف المطالبة بالحقوق، والمطالبة بالحقوق تكون بالحسنات، يؤخذ من حسناته ويوفى المظلوم حقه، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، ولهذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟) ثم قال: (المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كثيرة، ويأتي قد ظلم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
أما الديوان الثالث الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك، إذا مات الإنسان مشركاً فهو في النار قطعاً بلا شك لا يغفر له؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأخبر جل وعلا أن المشرك لا يغفر له، ويقول جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، فالشرك هو الظلم المطلق الذي ليس بعده ظلم، وهو الذي أخبر الله جل وعلا أن صاحبه في النار، غير أن الشرك نوعان وقسمان: شرك أكبر: وهو أن يجعل مع الله نداً في العبادة.
أن تجعل العبادة مقسومة بين الرب جل وعلا وبين أحد من الخلق، والعبادة كلها ما أمر الله جل وعلا به وما نهى عنه، إذا فعل المأمور لأجل مخلوق أو ترك المنهي عنه لأجل مخلوق فإن هذا من الشرك، أما العبادة القلبية التي فيها الحب والخوف والذل والإنابة فهذه إذا وقعت لمخلوق تكون من أعظم الشرك وأكبره.
القسم الثاني: شرك أصغر وهذا لا يخرج الإنسان عن كونه مسلماً، ولا يجعله خالداً في النار، ولكنه من النوع الذي يعذب عليه إذا لم يعف الله جل وعلا عنه، وهو على القول الصواب الصحيح داخل في الكبائر التي تكون تحت المشيئة.(9/6)
صاحب الذنب معرض للعذاب متوعد بالنار
[ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه.
وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم].
إن النصوص من القرآن مثل قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93]، وكذلك ذكر جل وعلا قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، ويقول جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وما أشبه ذلك من النصوص الكثيرة كلها تدل على أن صاحب الذنب معرض للعذاب ومتوعد بالنار، وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة جداً في هذا، فلو قيل: إن المقصود بهذه الآية الشرك الأكبر لناقض ذلك هذه النصوص، ونصوص الكتاب مع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتناقض، بل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر الكتاب وتوضحه وتبين مجمله، فيجب أن يجمع بينها وأن يوفق بينها، ولا يضرب بعضها ببعض كما فعل الخوارج الذين حكموا بأن صاحب الذنب كافر، وأنه إذا مات في النار، وهؤلاء في الواقع ضلوا؛ حيث أخذوا جانباً وتركوا الجوانب الأخرى، وهكذا أهل البدع يتمسكون بشيء ويتركون أشياء، وهم يدخلون فيمن يضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويؤمن ببعض ويكفر ببعض.
[بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله تعالى عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة، وقوله: (إنما هو الشرك) إن أراد الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله -لحب المال- ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك].
يعني أن الذنوب كلها تدخل في الشرك الأصغر، فإذا كان كذلك دخلت الذنوب في قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)، وهذا من باب اللزوم.
[فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار.
انتهى ملخصاً].
قال الشارح: [وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: وأينا -يا رسول الله! - لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: (ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فلما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه -أيَّ ظلم كان- لم يكن آمناً ولا مهتدياً أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها].
إن الظلم تفسيره عند أهل السنة هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد فسره الأشاعرة وغيرهم بأنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا خطأ، ولهذا قالوا: إن أي شيء يفعله الله جل وعلا ليس ظلماً؛ لأن كل شيء هو ملك له، فلو خلد الطائع طول عمره في النار لا يكون ذلك ظلماً؛ لأن العباد كلهم عبيده، وكلهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ولو جعل الكافر الذي يقتل الدعاة الذين يدعون إلى الله في الجنة ما كان ذلك ظلماً، ولا كان ذلك فيه اختلاف الحكمة؛ لأنه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، وقد أخبر الله جل وعلا أنه لا يجعل المجرمين كالمسلمين، وأن هذا لا يقع في حكمه، وأخبر جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وفي الحديث الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه -كما في صحيح مسلم -: إن الله جل وعلا يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، فما معنى تحريم الظلم؟ فهل كونه حرم الظلم على نفسه جل وعلا، معناه: حرم التصرف في ملكه؟! لا يمكن.
فإنما الصواب في تعريف الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه.
كما في لغة العرب.
وهو تعريفه في الشرع، فإذا جعل على المطيع ذنوباً لم يعملها كان هذا ظلماً، وإذا أُخذت حسناته وأعطيت غيره بغير جرم فعله كان هذا ظلماً، وهذا لا يقع من الله جل وعلا، بل هو الذي حرمه الله جل وعلا على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس التصرف في ملك الغير بغير إذنه كما يقوله أهل البدع ويفسرون به الظلم.
قال الشارح رحمه الله: [والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله.
فالمطلق للمطلق والحصة للحصة.
انتهى ملخصا].
قوله: (فالمطلق للمطلق) يعني: إذا جاء بالإيمان الكامل المطلق فله الأمن المطلق الكامل، وإذا أتى بإيمان غير مطلق -أي: بإيمان مقيد بالمعصية بأن يكون عاصياً- فله أمن مقيد، وليس له الأمن التام والاهتداء التام المطلق.(9/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [10]
ظلمات الشرك تبددها كلمة (لا إله إلا الله)، والشرك ظلمة في القلب وظلم للنفس وظلمات في المجتمع، ولهذا أرسل الله عز وجل الرسل ليبينوا للناس خطر الشرك، وليدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة.(10/1)
حديث عبادة بن الصامت في بيان فضل التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
فقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله) الشهادة معناها: أن ينطق بالشيء الذي يعلمه علماً يقينياً.
وشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن العمل بعد اليقين والمعرفة، وكذلك تتضمن التسليم والانقياد، التسليم للشرع والانقياد له، والكفار الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم بهذه الكلمة كانوا يعرفون معناها، ولهذا لما قال لهم: قولوا: (لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36] يعني: علموا أنهم إذا قالوا هذه الكلمة فلابد أن يتركوا آلهتهم، والإله هو المعبود الذي يألهه القلب ويحبه وينيب إليه ويخافه ويرجوه، فالمحبة التي تكون محبة غيبية لابد أن تكون لله جل وعلا، وهي التي يسميها بعض الناس (محبة السر)، أي: أنه يعلم ما في سرك هذا الذي تحبه أو تخافه فهذا لا يكون إلا لله جل وعلا، فيجب أن يكون لله، فهذه الكلمة هي التي يدخل بها الإنسان في الدين الإسلامي، وهي التي بني عليها الدين كله؛ لأن معناها أن يكون الدين خالصاً لله جل وعلا.
فقوله: (لا إله) نفي الإلهية، وقوله: (إلا الله) إثباتها لله جل وعلا، ومعلوم أن الآلهة في الأرض كثيرة جداً قديماً وحديثاً، والإنسان خلق عابداً، إذا لم يعبد ربه جل وعلا لابد أن يعبد غيره، فيعبد الشيطان أو يعبد شهواته أو يعبد المظاهر الأخرى، أو قد يعبد الدنيا، وقد يعبد ماله، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، فسماه عبداً للدينار والدرهم، وذلك لأنه يؤثر الدينار والدرهم على طاعة الله جل وعلا وعلى مرضاته فصار عبداً له، وليس معنى كونه عبداً له أنه يسجد له ويركع له، بل كونه يقدمه على محاب الله جل وعلا ومرضاته يكفي في ذلك.
ثم إنه يجب على العبد أن يعرف معنى هذه الكلمة: (شهادة ألا إله إلا الله) يعرف أن معناها إبطال كل معبود غير الله جل وعلا، وإثبات العبادة له وحده، ثم إنه لابد أن يحب ما دلت عليه هذه الكلمة، ويرتبط به، ويرى أن منة الله جل وعلا عليه فيها -حيث هداه- هي أكبر من كل شيء، فيشكر ربه جل وعلا ويتمسك بهذه الكلمة، ويحبها ويحب أهلها، ويعمل بمقتضاها، فمن شهد الشهادة الحقة، وسلم من الشك والريب، وكذلك أخلص عبادته حسب ما تضمنته هذه الكلمة ودلت عليه فإنه يكون من المخلصين، ويكون من السعداء، ويكون من السابقين، وهذه الكلمة تكفر جميع الذنوب، إذا قالها صادقاً مخلصاً فإنها تكفر الذنوب مهما كانت، حتى الذنوب العظيمة التي هي الشرك؛ لأن هذا هو الإخلاص.
أي: قول: لا إله إلا الله هو إخلاص التوحيد لله، فهو يخبر بلسانه، ولابد أن يعمل بقلبه مخلصاً لله جل وعلا، ويعمل بجوارحه مخلصاً لله جل وعلا، ثم العمل يكون تبعاً لذلك.
وقوله: (وأن محمداً رسول الله) يعني: يشهد له بالرسالة.
ومعنى شهادته له بالرسالة علمه اليقيني بأنه رسول من عند الله جل وعلا جاء بالشرع من الله جل وعلا، وأنه لا يعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيعبد الله باتباعه، ويحبه الحب الذي أوجبه الله جل وعلا له؛ لأن الله جل وعلا أوجب محبة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الإنسان لنفسه ولأهله وولده، ولابد من هذا، ولكن يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله؛ لأن محبة الله جل وعلا محبة عبادة وذل وخضوع، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة تابعة لمحبة الله؛ لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه فهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله؛ لأن المحبة مع الله شرك، كما قال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، وكذلك قال جل وعلا في الآية الأخرى مخبراً عن أهل الجحيم أنهم يعود بعضهم على بعضاً باللوم ويلوم بعضهم بعضا وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] يعني: يسوونهم برب العالمين في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله.
وإلا فليس هناك أحد من الخلق سوَّى مخلوقاً برب العالمين في الخلق والإيجاد والتصرف.
قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وذلك أن عيسى ضل فيه من كان قبلنا من اليهود والنصارى إلا من شاء الله ممن هداهم إلى صراطه المستقيم، فالنصارى اتخذوه إلهاً وجعلوه رب العالمين، أو جعلوه ابن الله -تعالى الله وتقدس-، أو جعلوه ثالث ثلاثة، كما ذكر الله جل وعلا ذلك عنهم في كتابه، وهذا كله كفر، أما اليهود فجفوا في حقه حتى زعموا أنه ابن زانية -لعنهم الله-، فهدى الله جل وعلا عباده إلى الحق، وبين الحق فيه، كما قال جل وعلا: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] أي: لما جاءت به تحمله إلى قومها: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ} [مريم:27] يعني: ينكرون عليها {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:28 - 29]، يعني: قالت: كلموه، فقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:29 - 32] إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا عنه، فأول ما تكلم به أنه قال: ((إني عبد الله))، فهو عبد من عباد الله جل وعلا.
فقوله صلى الله عليه وسلم (وأن عيسى عبد الله ورسوله) يعني: هو عبد تعبده الله جل وعلا بالعبودية وهذه عبودية خاصة، فالعبودية الخاصة هي أشرف مقامات العبد، وإلا فالخلق كلهم عباد لله جل وعلا بمعنى التذليل والتسخير، وأن حكمه جارٍ عليهم رضوا أم سخطوا، ولكن العبودية الخاصة التي يفعلها الإنسان طوعاً ويكمل مراتبها التي أمره الله جل وعلا بها بأن يعبد الله العبادة التي أمره الله جل وعلا بها.
فقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) عبد تعبده الله جل وعلا كسائر عباده الذين هم عباد له يعبدونه، وليس له من الإلهية أو الربوبية شيء، وليس لأحد من الخلق لا الملائكة ولا الرسل ولا غيرهم شيء من خصائص الإلهية أو الربوبية، كل مخلوق معبد مسخر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، وأخبر جل وعلا أن عيسى لا يستنكف عن عبادة الله ولا الملائكة -يعني: لا يتكبر عنها-، وأن من استنكف أو تكبر عن عبادته فموعده جهنم.
وقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) يعني: هو رسول أرسله الله جل وعلا إلى بني إسرائيل، فمن آمن به وأطاعه واتبعه فهو السعيد، ومن عصاه وكذبه فهو الشقي، فهو رسول كسائر الرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا، إلا أنه جعله آية، حيث خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، والخلق الذين أخبرنا جل وعلا عنهم -أعني خلق آدم وذريته- أقسام أربعة: القسم الأول: من خلقه من طين، وهو أبو البشر كما قص الله جل وعلا ذلك علينا.
القسم الثاني: من خلقه من ذكر بلا أنثى، وهو حواء زوج آدم، خلقها الله جل وعلا من ضلعه الأيسر أو الأيمن، خلقها من ضلعه فجعلها بشراً سوياً من ذكر بلا أنثى.
القسم الثالث: ما ذكره الله جل وعلا عن عيسى أنه خلقه من أنثى بلا ذكر.
القسم الرابع: سائر الخلق خلقهم من ذكر وأنثى، وكل ذلك دليل على تفرده جل وعلا بالتصرف، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، فلابد أن يشهد الإنسان أن عيسى عبد لله جل وعلا تعبده وعبد ربه، وأنه رسول أرسله الله جل وعلا إلى بني إسرائيل ليطيعوه ويتبعوه، وأنه كلمة الله، ومعنى كونه (كلمة الله) أنه خلقه بالكلمة، قال له: (كن) فيكون، كما قال تعالى: {إِنََّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فهو خلق بالكلمة، ولهذا سماه كلمة الله.
(وروح منه) يعني أنه روح من سائر الأرواح التي خلقها واستنطقها واستشهدها فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فهو من الأرواح التي استخرجت من آدم، وأرسلها إلى مريم بواسطة الملك، أرسل إليها جبريل فتمثل لها بشراً سوياً وهي تتعبد متخلية عن أهلها، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:18 - 19]، فنفخ في جيب درعها فذ(10/2)
قوله: (وشهد أن الجنة حق والنار حق)
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وشهد أن الجنة حق، والنار حق) الحق: هو الثابت المستقر الذي لا يتغير، فيشهد الإنسان أن الجنة حق خلقها الله جل وعلا وأعدها لعباده الصالحين.(10/3)
شرح حديث عبادة: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث)
قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
الشهادة لابد أن يطابق القلب فيها اللسان، أي: أن تكون عن علم ويقين، وعن معرفة وصدق ومحبة لها وامتثال لما تقتضيه وتدل عليه وليس الشهادة مجرد التلفظ، بل شهادة ألا إله إلا الله معناها نفي الشرك عن جميع العبادات وجعل العبادة خالصة لله جل وعلا، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للكفار: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا -كما حكى الله عنهم-: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]؛ لأنهم علموا أن هذه الكلمة تبطل الشرك كله وتجعل العبادة لإله واحد وهو الله جل وعلا، فمعنى قوله: (أشهد ألا إله إلا الله) أعلم علماً يقينياً بأن التأله والتعبد لله وحده، وأن هذا لا يقع مني ولا أفعله.
بل يكون تعبده وتألهه خالصاً لله وحده.
وقوله: (لا شريك له) هذا تأكيداً للنفي، في قوله: (أشهد ألا إله)، فهذا نفي، وقوله: (إلا الله) إثبات، وقوله: (لا شريك له) ينهي التأله لغير الله ويثبته لله جل وعلا، والشهادة تطلق على العلم اليقيني، وهو الذي تدل عليه هذه الكلمة، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، يعني: الذين تنالهم الشفاعة.
أما من لم يكن كذلك فإنه لا تقع له شفاعة.
وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هذه الجملة جملة حالية تدل على أن العلم في الشهادة شرط فيها، فاشترط فيها أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به، أما إذا شهد بشيء لا يعلمه فهذا يكون من شهادة الزور، وتكون الشهادة مجرد تلفظ باللسان، وتكون كذباً.
ومما يلزم لشهادة ألا إله إلا الله الإخلاص، وهو مقتضى وضع هذه الكلمة، أن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة - وقيل له: (أي الناس أسعد بشفاعتك -يا رسول الله! - يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فمن قال هذه الكلمة مخلصاً فهو أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذي لا يخلص فإنه لا يدخل في الشفاعة؛ لأن عدم الإخلاص هو الوقوع في الشرك، والمشرك ليس له نصيب مما أعده الله جل وعلا لأهل التوحيد والإخلاص.
ومنها الصدق، فعلى الإنسان أن يكون صادقاً في قولها، وضد الصدق النفاق، كأن يقولها الإنسان وهو منافق، يقولها في الظاهر ويعمل كذلك بمقتضاها في الظاهر، ولكن قلبه منطوٍ على التكذيب، ومن كان هذه صفته فهو في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، نسأل الله العافية.
فالنفاق هو تكذيب القلب مع عمل الجوارح بخلاف ما في القلب، وكذلك نطق اللسان.
وقد أخبر الله جل وعلا أن المنافقين يشهدون أن محمداً رسول الله، ولكن شهادتهم غير معتبرة، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فهم في شهادتهم كاذبون؛ لأن قلوبهم لا تتفق مع ما تنطق به ألسنتهم، بل تخالفها.
وكذلك من شروط الشهادة المحبة، وتكون المحبة بأن يحبها ويحب ما تدل عليه، ويغتبط بذلك ولا يكره شيئاً من ذلك، وإلا وقع في المتناقضات.
وكذلك مما يلزم لها الانقياد والإذعان، بأن ينقاد لها ويذعن، ولا يكون عنده تضجر ولا توقف فيما دلت عليه، بل يلتزم ويعمل.
وكذلك مما تقتضيه: القبول والتسليم، بأن يقبل ويسلم وينقاد، وفضلاً عن الانقياد أن يسلم لذلك، والتسليم معناه: ألا يكون في قلبه حرج أو ضيق أو تبرم مما جاءت به هذه الكلمة.
كما قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، أما إذا تخلف شيء من ذلك فمعنى هذا أنه لم يحصل له المنفعة فيما يقول وما يتشهد به.
فإذاً: هذا كله يدلنا على أن هذه الكلمة أمرها ليس سهلاً، وقد علم الكفار ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى عمه أبي طالب وهو في سياق الموت قال له: (يا عم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله)، فقال له الحاضرون من الكفار: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وهذا يدلنا على أنهم فهموا أن قولها يخرجه من ملة الكفر ويدخله في ملة الإسلام، وليس المراد من ذلك مجرد اللفظ فقط، بل المقصود به الخروج نهائياً من هذا الدين والدخول في دين آخر، وإلا فلو كان المقصود مجرد اللفظ ما توقف أحد من الكفار بأن يقولوها وهو مقيم على ما هو عليه من الشرك، لكن هذا لا يقبل ولا ينفع.
ومن المتناقضات ما يقع اليوم من كثير من المسلمين، فتجد أحدهم يقول هذه الكلمة وهو يطوف على القبر ويستنجد بصاحبه ويدعوه دعاء المضطر ويسأله لأمور دنياه وأمور آخرته مما هو صريح الشرك وواضحه، وهو يقول: لا إله إلا الله.
وهذا لأنه جهل معنى (الإله)، وجهل معنى العبادة، وجهل معنى هذه الكلمة وما وضعت له، جهل ذلك كله، وهذا في الواقع تفريط، وإلا فكل عبد من عباد الله يلزمه أن يكون عالماً بهذا المذكور كله.(10/4)
معنى لا إله إلا الله وأقوال العلماء في ذلك
قال الشارح رحمه الله: [فصل: ذكر كلام العلماء في معنى (لا إله إلا الله): وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع.
فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد.
وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.
قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً.
وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبةً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: (لا إله إلا الله) أي: انتفاءً عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلْم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرْف.
وقال الطيبي: (الإله) فعال بمعنى (مفعول)، كالكتاب بمعنى (المكتوب)، من ألِه إلهةً أي: عُبد عبادة، قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم.
فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائناً ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]، فـ (لا إله إلا الله) لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وقبله وعمل به، وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صِرْف، فهي حجة عليه بلا ريب].
من أوضح الكلام وأبينه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهي التي كان كل رسول من الرسل يفتتح دعوته إلى قومه بها، ولكن لكون كثير من الناس يعرض عنها ويتعلق بأمور تنافيها صار الجهل بها فاشياً في كثير من البلاد والأحوال، والرسول صلى الله عليه وسلم وضحها إيضاحاً بيناً، وهي واضحة من كلام العرب؛ لأن هذه الكلمة هي أصل الدين، وهي التي لا يصح إيمان أحد -بل إسلامه- حتى يتلفظ بها ويطابق قلبه ما يقوله لسانه، فلابد أن يعتقد معناها ويعمل بما دلت عليه مع قولها لفظاً، وإلا لا يكون الإنسان مسلماً.
وهنا يتكلم عن معناها في اللغة ووضعها، فاللغة هي التي نزل بها القرآن، والله جل وعلا أخبرنا في كتابه عن الكفار أنه لما قيل لهم: قولوا: (لا إلا الله) استكبروا.
يعني: أبوا أن يقولوها لأنها تبطل ما كانوا يعملونه، وهذا هو السبب في كونهم لم يقولوها، فهم يعلمون أنهم إذا قالوا: (لا إله إلا الله) أنه يجب الاتجاه إلى الله وحده في كل دعوة، وفي كل قصد، وفي كل ما يتقرب به، وألا يكون هناك واسطة تُجعل بين الداعي والقائل لها وبين الله جل وعلا.
فهذا هو السبب في كونهم أبوا أن يقولوها؛ لأن دينهم هو الشرك، وهو أنهم جعلوا بينهم وبين الله جل وعلا وسائط، وبهذه الوسائط يتجهون إلى الله بطلب الشفاعة وطلب القربة، وإلا فهم يعتقدون اعتقاداً جازماً يقينياً بأنه لا أحد يملك مع الله شيئاً، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهو المالك لما في السموات وما في الأرض وحده، وليس لأحد معه شيء، لا من الملائكة ولا من الرسل فضلاً عن غيرهم، وإنما كان شركهم أنهم جعلوا وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: هذه الوسائط تقربنا إلى الله، فإذا دعوناها وتشفعنا بها فهي تدعو الله، وهي لا ذنوب لها فتكون دعوتها أقرب إلى الإجابة.
وهذا هو الشرك الذي أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه، فجاءت هذه الكلمة مبطلة لذلك؛ فإنه إذا قال قائلها: (لا إله إلا الله) فمعناه أنه لا معبود يتوجه إليه ويطلب منه ما يطلب من الله إلا الله وحده فقط.
ومن قالها وهو يعمل بما دلت على إبطاله فقوله لها لغو لا يفيد.
ولهذا اشترط أن يكون قولها عن علم بمعناها؛ لأنها تنفي جميع العبادة عن الله جل وعلا، والعبادة أنواع، منها ما يكون باللسان، مثل هذه الكلمة ومثل الذكر والدعاء وغير ذلك.
ومنها ما يكون بالقلب، مثل الخوف والرجاء والخشية والإنابة وما أشبه ذلك.
ومنها ما يكون بالجسد، مثل السجود والركوع وما أشبهه.
وكل هذا يجب أن يكون لله وحده، ولا يكون لأحد من الخلق منه شيء، فإن وجد منه شيء لأحد من الخلق فقد حصل الشرك ووقع الإنسان في الشرك، والشرك يفسد جميع الأعمال، فإن الدين الإسلامي مبني على الإخلاص، والإخلاص معناه أن يكون العمل لله وحده ليس لأحد مع الله فيه شيء أصلاً لا عمل القلب ولا عمل اللسان وقوله ولا عمل الجوارح.
وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] أي أن كل ما يفعله الإنسان يرجو بفعله ثوباً أو يتركه يرجو بتركه ثوباً أو يخاف أنه لو فعله لعوقب كله عبادة، فكل شيء يفعله الإنسان يرجو بفعله ثواباً، وكل شيء يتركه الإنسان يرجو بتركه ثواباً، أو أنه لو فعله يخاف أن يعاقب يجب أن يكون هذا كله لله وحده، ولا يكون شيء منه لأحد من الخلق، وإلا فقد وقع الإنسان في الشرك، وليس المقصود بهذه الكلمة قولها في التلفظ فقط مع الجهل بمعناها، ولهذا سيأتينا في الحديث: (إن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله)، وتقدم في حديث عبادة بن الصامت أنه رتب دخول الجنة على أمور خمسة: على أن يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه روح منه، وأن الجنة حق، والنار حق.
وهذه الأصول هي أصول الدين الإسلامي، فإذا أتى بها الإنسان فغيرها من سائر فروع الدين الإسلامي يكون تابعاً لها.
ومن المعلوم أنه ثبت في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً ممن يقول هذه الكلمة يدخل النار، والرسول صلى الله عليه وسلم كلامه لا يتناقض، ولا يكون بعضه مخالفاً لبعض، بل كله يأتي من الله جل وعلا وحياً وبعضه يصدق بعضاً.
فمعنى ذلك أن الناس يتفاوتون في قول هذه الكلمة بالعلم والصدق والإخلاص واليقين وعدم الارتياب، فمنهم من يقولها وهو غير صادق، ومثل هذا قوله لها لا يغني عنه شيئاً، ومنهم من يقولها عن علم ويقين وإخلاص لله جل وعلا، فإذا قالها بهذه المثابة فمعنى ذلك أنه متجه بكليته إلى الله جل وعلا، ولا يكون عنده في مراداته ولا في تصرفاته شيء مما يبغضه الله إلا الشيء الذي لا يستطيعه، فقولها بصدق وإخلاص لا يتفق مع فعل المعاصي وفعل الإجرام فضلاً عن الوقوع في الشرك؛ لأنها هي التي تضاد الشرك وتبطله تماماً، وإذا وجد الشرك فقولها ممن يقولها كالهذيان لا يفيد ولا يجدي؛ لأنها وضعت للمعنى ولم توضع للفظ، ولو كان المقصود منها قولها مع المخالفات فلن يشكل ذلك على الكفار، ولقالوها وهم مقيمون على دينهم، ولكن علموا أنهم إذا قالوها بطل دينهم كله فأبوا قولها، ويوضح هذا تماماً قصة أبي طالب حينما حضرته الوفاة فأتى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يقول هذه الكلمة، فقال له: (يا عم! قل (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله)، فكان عنده قرناء السوء حضوراً، وهم من المشركين الذين أبوا أن يقولوها، فقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فما قالوا: لا تقلها.
بل قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وهذا يدل على أن قولها يخرجه من ملة عبد المطلب إلى ملة أخرى وهي ملة الدين الإسلامي، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله هذا، فأعادوا عليه هذا القول فقط، فأبى أن يقولها وقال: هو على ملة عبد المطلب.
وهذا يدلنا على أنه ليس المقصود قولها باللسان، وإنما المقصود الخروج من دين يدين به من يخالفها إلى الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالدين كله يدور على هذه الكلمة، ولا يجوز للمسلم أن يجهل معناها؛ لأنها هي أصل الدين، وهي أساسه، وهي التي يسأل عنها الأولون والآخرون، فكل الناس وكل الخلق يُسألون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم به المرسلين؟ فلابد من هذا السؤال لكل أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا ووضحه غاية البيان، وبين الأمور التي هي من حقوقها، ومن لوازمها أنه يجب على العباد أن يلتزموا ذلك وأن يعملوا به، فلهذا لما أبى بعض العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أداء الزكاة إلى أبي بكر استدل أبو بكر على وجوب قتالهم بهذه الكلمة: (لا إله إلا الله)، فإنه قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وأداء الزكاة من حقها، فإذا امتنعوا عن أداء الزكاة للإمام قُوتلوا؛ لأن ذلك من حق (لا إله إلا الله)، وليس معنى ذلك أنهم يجحدون وجوب الزكاة أو يمتنعون عن إخراج(10/5)
خطر الشرك وضرره على الإنسان
قال الشارح: [فقوله في الحديث: (وحده لا شريك له) تأكيد وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله!) فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا (لا إله إلا الله) لفظاً ومعنىً، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنىً، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً من الله، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] الآية، فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم].
الشرك في الواقع من الأمور التي يجب أن يهتم بها، وذلك أن الله جل وعلا أخبر أن المشرك إذا مات على شركه فإنه خالد في النار، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، وقال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وأخبر أن المشركين في المحبة الذين يجعلون لله أنداداً يحبونهم كحب الله أنهم لا يخرجون من النار، فقال: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يتنبه لذلك ويهتم به.
وكثير من الناس ينكر أن يكون ما يقع من كثير من الذين يطوفون بالقبور أو يعكفون عندها ينكر أن يكون هذا شركاً، ويقول: هذه محبة للصالحين وتوسل بهم، والتوسل مطلوب؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهذا من الوسيلة التي تُبتغى إلى الله جل وعلا.
وهذا في الواقع من الجهل في دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بينه ووضحه، وذلك أن أصحاب القبور قد فارقوا الحياة، فإذا دعاهم الداعي لا يسمعون دعوته ولا يستطيعون أن يجيبوه بشيء؛ لأن الحي الحاضر يمكن أن يجيبك بما تدعوه إليه أو ببعض ما تدعوه إذا كان قادراً، ولهذا اشترط في الدعاء الموجه إلى المخلوق أن يكون حياً حاضراً عندك يسمع، وأن يكون قادراً على إجابة ما تدعوه به، وأما إذا دعوته بالشيء الذي لا يستطيعه مثل أن تقول: اشف مرضي.
أو أصلح قلبي.
أو هب لي ولداً.
أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يُدعى به إلا الله وحده جل وعلا، ولكن إذا كان يستطيع أن يقدم لك نفعاً يستطيعه وكان حياً حاضراً فيجوز ذلك ولا يكون شركاً، أما إذا كان ميتاً، أو كان غائباً في بلد آخر فدعوته فذلك شرك بالله؛ لأن هذا يجعله بمنزلة من يسمع قولك ويطلع على ما في نفسك، وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا.
فكذلك أصحاب القبور عندما يعكفون عندها، أو يأخذون -مثلاً- من ترابها يتبركون به، ويزعمون أنه ينفعهم، أو يؤدون عندها العبادات بأنواعها من صلاة وذكر وقراءة قرآن وما أشبه ذلك، ويقولون: إن فعل هذه العبادات عندها أرجى وأحسن من فعلها في المساجد.
فكل هذا إما أن يكون شركاً أكبر بالله جل وعلا، أو يكون وسيلة إلى الشرك، كفعل العبادات عندها بأن يكون -مثلاً- يصلي لله في المقبرة أو يتلو القرآن ويذكر الله يريد وجه الله، وإنما يقول: إن هذا يقبل في هذا المكان.
أو إنه أحرى في القبول.
فهذا من البدع التي لا يقبل معها العمل؛ لأن كل بدعة ضلالة، والضلالات كلها في النار، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
والله جل وعلا يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]، فهي تعمل وتنصب وتخشع، ولكنها في الآخرة تصلى جهنم؛ لأنها تخشع وتعمل بالبدع وبخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبدع طريق إلى الشرك ووسيلة إليه، أما إذا كان يرجو أصحاب القبور فلابد أنه يعتقد أنهم يسمعون، أو أنهم -مثلاً- يعلمون ما في القلب، فإذا اعتقد أنهم يسمعون دعوته -والسماع المراد به الإجابة- ويستطيعون أن يجيبوا فهذا من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنهم أموات غير أحياء، ولأنهم لا يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم حسنة واحدة، ولا أن يضعوا من كتابهم ومن سيئاتهم سيئة واحدة، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6].
وليس معنى قوله جل وعلا: ((مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أنهم يوم القيامة يستجيبون لهم ويعطونهم مطلوبهم، ولكن المقصود أنهم لا يستطيعون رد الجواب عليهم ورد الخطاب إليهم حتى يبعثوا ويجمع بينهم ويقال لهم: هؤلاء الذين كنتم تسألونهم وتتقربون إليهم اذهبوا إليهم فليعطوكم مسئولكم.
فعند ذلك يكفرون بهم ويتبرأون منهم، وهذا هو معنى قوله: ((مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) يعني أنهم يوم القيامة تكون إجابتهم لهم الكفر بهم والتبرؤ مما كانوا يفعلونه.
ولهذا قال: ((وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ))؛ لأن المدعو قد يكون -إن كان من الصالحين- في نعيم في قبره غافلاً عما يطلب منه، وهو -أيضاً- لا يرضى بهذا، بل يكون كافراً بذلك مبغضاً له عدواً لمن يفعله؛ لأن هذا عبادة لغير الله، والذي يرضى بأن يُعبد من دون الله هو من رؤساء الطواغيت الذين يصدون عن دين الله وعن عبادته ويدعون إلى عبادة الشيطان، فكيف يرضى بذلك من هم صالحون؟! فإذا كانوا صالحين فلا يمكن أن يرضوا بذلك أبداً، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن العابد والمعبود من دون الله حصب جهنم، فقال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، و (حصب جهنم) يعني أنهم وقودها، يوضعون فيها هم ومن عبدوهم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما أنه إذا كان يوم القيامة وصار الموقف الطويل الشديد العظيم الذي يقفه الناس لرب العالمين يقومون على أقدامهم طويلاً، فإذا طال وقوفهم واشتد كربهم ألهمهم الله جل وعلا أن يطلبوا الشفاعة من الرسل الذين معهم في الموقف، فإذا طلبوا الشفاعة وشفع الشافع عند رب العالمين ليأتي للقضاء بين عباده ويريحهم من هذا الموقف، فإذا جاء جل وعلا يخاطبهم ويقول جل وعلا لهم جميعاً: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقولون: بلى.
أيستطيع إنسان إذا كان يتولى أحداً أن يقول: لا أريده؟! فعند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، فيجاء بذلك المعبود إذا كان حجراً أو شجراً أو صنماً، وأما إذا كان مخلوقاً من المخلوقات العابدة لله كالبشر والملائكة والجن فإن كان من المطيعين لله الذين يعبدون الله وحده فإنه يؤتى بشياطينهم التي زينت للعابد هذه العبادة على صورهم، ثم يقال لهم: اتبعوا معبوداتكم ومن كنتم تولونهم.
فيذهب بهم إلى النار فيلقون في جنهم، ثم العابدون لله يلقون ثوابهم، وهذا من معاني قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، ولما نزلت هذه الآية قال أحد المشركين: الآن أخصم محمداً فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أرأيت عيسى بن مريم وأمه والملائكة أليسوا من عباد الله الصالحين؟ فكيف تخبر بأنهم حصب جهنم؟ فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102] يعني أن هؤلاء لا يرضون بهذه العبادة، فالعابد لهم في الواقع عابد للشيطان.
فالذي يعبد عيسى لم يعبد عيسى في الواقع وإنما عبد شيطاناً زين له ذلك، فهذا الشيطان الذي زين له هذه العبادة وأمره بها هو الذي يؤتى به يوم القيامة ويقال له: هذا معبودك فاتبعه.
وكذلك الذي يطوف بالقبر إذا كان المقبور صالحاً فإنه إذا كان يوم القيامة يجاء بالشيطان الذي زين لهذا العابد العبادة وأمره بها فيقال له: هذا وليك في الدنيا فاتبعه.
وإلا فالرسل وأتباع الرسل الصالحين -ولا يكون الإنسان صالحاً إلا إذا كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم- برآء من كل شرك ومن كل مخالفة لله جل وعلا ولرسوله، ولا يرضون بها، وليس معنى ذلك إهدار حقوقهم، ولكن حماية لحق الله جل وعلا أن يوضع للمخلوق شيء منه؛ لأن حق الله يجب أن يكون خاصاً به، ولا يكون لأحد منه شيء، والخلق كلهم عباد لله ليس لهم من العبودية شيء، فالعبادة لابد أن تكون خالصة لله جل وعلا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ولكن لا يجوز لأحد أن يخضع لأحد، فالخضوع لله، والذل لله، والخوف منه، والرجاء منه، فالعبادة له وحده، وكل من ترك من العبادة شيئاً لغير الله جل وعلا فإنه واقع في الشرك الأكبر الذي توعد فاعله بالنار، ويكون خالداً فيها -نسأل الله العافية-، وتكون الجنة عليه محرمة، ولكن الجهل بالعبادة والجهل بمعنى (لا إله إلا الله) هـ(10/6)
العبودية لله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وأن محمداً عبده ورسوله) أي: وشهد بذلك.
وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد.
أي أنه مملوك لله تعالى، والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل].
العبودية بمعنى: جريان الأحكام والأقدار والقهر على العبد، فهو مقهور جارية عليه أحكام الله وأقداره، ولا يخرج عن ربوبية الله وقهره وإحاطته وقبضته.
وهذا يشمل الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عباد لله بهذا المعنى، بمعنى أنهم تحت قهر الله وتحت قدره وتحت تصرفه، لا يخرجون عن ذلك بحال من الأحوال، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] يعني: ذليلاً خاضعاً يجري عليه حكم الله وقضاؤه وقدره، لا يستطيع أن يخرج عن شيء من ذلك والعبادة بهذا المعنى لا تنفع ولا تفيد، وليست مطلوبة؛ لأن هذا فعل الله، فهو الذي قهر الخلق، وهو الذي أجرى أحكامه وسلطانه عليهم، ولا أحد ينازع الله جل وعلا، فالخلق كلهم أضعف من أن ينازعوا الله في شيء من قضائه وقدره أو في ملكه وحكمه.
المعنى الثاني: (عَبْد) بمعنى: عابد، تصدر منه العبادة.
وهذا هو المطلوب، وهو الذي يمدح الإنسان عليه، فإذا كمله جاء بالمطلوب منه في هذه العبودية، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الخلق في تكميل هذه العبودية والإتيان بمرادات الله جل وعلا منها، وهذا معنى كون الله جل وعلا قد أثنى عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأنه كملها، ومن تكميلها هذه المقامات التي ذكرها الله عنه، مثل الدعوة إلى الله، قال سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فهو يدعو الله ويدعو إليه، ويعبد الله ويدعو الخلق أن يعبدوه.
المقام الثاني: مقام الإتيان بالآيات التي بها تتبين نبوته وصدقه، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]، وأعظم الآيات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق القرآن، والآيات المقصود بها الدلائل الباهرة التي تذعن العقول عندها وتصدق بأنه رسول جاء من الله جل وعلا، والقرآن من أعظمها أو هو أعظمها.
الأمر الثالث: المنة بالوحي عليه، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، فـ (عبده) يعني: الذي قام بالعبودية الخاصة له.
الأمر الرابع: المنة عليه بالإسراء والمعراج، قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1].
وكل هذه المقامات الأربعة هي من المقامات الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، إلا مقام الدعوة، فإن كل تابع له يجب أن يشاركه فيها حسب مقدرته، فإذا كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن يدعو غيره إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: أنا أدعو على بصيرة إلى الله، ومن اتبعني كذلك يدعو على بصيرة إلى الله جل وعلا.
أما بقيتها من التحدي بالآيات بالدلائل وكذلك نزول الوحي وكذلك المعراج والإسراء فهذه من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، والله ذكره بلفظ العبودية في هذه المقامات وهي أشرفها، وصفة صلوات الله وسلامه عليه بذلك في دعوته إلى الله جل وعلا وإبلاغ رسالته وإبلاغ ما أوحاه إليه.
فهذه العبودية التي تصدر من العبد ويكون عبداً لهذا المعنى هي العبودية النافعة، وهي التي يُطلب من الإنسان أن يكون عبداً لله بها، فمعنى (عابد) أي أن العبادة تصدر منه وإذا كان عبداً لله فهو لا يخالف أمره، ولا ينازعه في حكمه، ولا يتجه بالعبادة إلى غيره، بل لابد من هذه الأمور إذا كان عبداً لله، أما إذا وزع نفسه بين ربه جل وعلا وبين غيره من المخلوقات بأن يجعل لله نصيباً وللصالحين نصيباً فهو في الواقع ليس عبداً لله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتجه إليه بعبادة واتجه بتلك العبادة إلى غيره فإن الله يتبرأ منه، ويقول -كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ويأمر جل وعلا يوم القيامة من أشرك في العمل أن يطلب أجره ممن أشرك به.
فالمقصود أن هذا أمر لازم على الناس جميعاً، فعليهم أن يعبدوه وحده، وليعلموا أنهم خلقوا لهذا، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] يعني أن الله جل وعلا ما خلقهم لشيء يريده لنفسه وإنما خلقهم ليعبدوه وحده والعبادة التي طلبت منهم هي التي تقع باختيارهم، أما الذي يقع عليهم وهم راغمون كالأقدار والقهر فهذا لا ينفع؛ لأنه ما صدر منهم وإنما هو من الله جل وعلا، وإنما الذي ينفعهم أفعالهم الاختيارية التي يفعلونها باختيارهم، وأما إذا لم يفعلوها مختارين مذعنين راغبين في ذلك محبين لفعلها مرتبطين به فمعنى ذلك أنهم ما عبدوا الله جل وعلا العبادة المطلوبة، فلفظ (العباد) هو هذا المقصود به في الواقع، أن يكونوا عباد الله بمعنى: عابدين له.(10/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [11]
توحيد الله تعالى وترك الشرك به هو أول ما يطلب من المكلف، ولكلمة التوحيد أثر في الآخرة، فهي نجاة لصاحبها من النار إن قالها بإخلاص، كما أنها تنفع صاحبها حتى مع اكتساب الذنوب، ولهذه الكلمة لوازم، ومن لوازمها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنة والنار.(11/1)
الإفراط والتفريط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (عبده ورسوله) أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط؛ فإن كثيراً ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وعملاً، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطّراحها، فإن شهادة (أن محمداً رسول الله) تقتضى الإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه ولا يقدم عليه قول أحد كائناً من كان، والواقع اليوم وقبله ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين خلاف ذلك، والله المستعان.
وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: (إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة العوجاء، بأن يُشهد ألا إله إلا الله، يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً).
قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعباًً يقول مثل ما قال ابن سلام].
الإفراط في الواقع: هو التجاوز في فعل الشيء إلى ما لا يشرع.
والتفريط: هو الجفاء، بأن يتركه ويجفو عنه.
ودين الله وسط بين هذين الأمرين، بين الإفراط والتفريط، فيجب أن يكون الإنسان معتدلاً لا مُفرِطاً ولا مُفرِّطاً.
والإفراط وقع فيه كثير من الناس، وكذلك التفريط وقع فيه كثير من أهل الجهل والغفلة والإعراض عن الله جل وعلا، والإفراط أيضاً يقال له: غلو.
والغلو في الشيء: هو الزيادة فيه.
فيقول المؤلف في هذا: إن هذا وقع فيه كثير من الناس، أفرطوا في محبة النبي صلى الله عليه وسلم وفرطوا في متابعته.
والواقع أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة وفرض على كل إنسان، ولكن يجب أن يميز الإنسان بين حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخلط حق الله مع حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست محبة ذل وخضوع وعبادة، وإنما هي محبة تابعة لمحبة الله جل وعلا، فتحبه لأن الله أمرك بحبه؛ ولأنه رسول إليك أنقذك الله بسببه من الكفر، ولأن الله جل وعلا يحبه، فكل من أحبه الله يجب أن تحبه على حسب محبة الله جل وعلا له، فإذا كانت محبة الله له أتم وأكمل فيجب أن تكون محبتك إياه كذلك، وأما محبة الله فهي محبة الذل والتعظيم والإنابة، فتحبه حب عبادة، فيذل قلبك ويخضع له وتعظمه، وتكون أعمال الجوارح تابعة لهذا الذل، ومن هذا الذل وهذا الحب السجود والركوع والإنابة، وكذلك الخشية والخوف والرجاء، وكل أفعال القلب تتبع هذا، فيجب على العبد أن يفرق بين ما هو لله وبين ما هو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكملات محبة الله ومن موجباتها؛ لأنه لا يمكن إذا كان لك محبوب أن تبغض حبيبه، أو ألا تحب حبيبه، كما أنه لا يمكن أن تحب عدوه، وإلا فأنت غير موافق له وغير محب له كما ينبغي، ومحبة الله جل وعلا لا تقاس بمحبة الخلق، فكل مخلوق محبته لصفات تقوم به يتصف بها ويفعلها، وليس لأنه لحم ودم وعظام، أما محبة الله فهي محبة ذاتيه، فتحب الله لذاته جل وعلا، وكل الأمور التي يستلزمها حب المخلوق هي من دواعي المحبة ودوافعها التي تدفعك إلى أن تحبه، ولكن الله يحب لذاته؛ لأنه خلقك وأنت عبده، فيجب أن تحبه حباً خاصاً به وخالصاً له.(11/2)
الإفراط والتفريط في محبة عيسى عليه السلام وعقيدة أهل الإسلام في ذلك
[وقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي: خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، فلابد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فليس رباً ولا إلهاً، سبحان الله عما يشركون، قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:29 - 36]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172].
ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولدُ بَغيٍّ.
لعنهم الله تعالى، فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه أنه عبد الله ورسوله].
هذه العقيدة التي جاء بها الوحي من الله في عيسى تبين أنه يجب على من علم ما قاله اليهود والنصارى أن يتبرأ من هذه الأقوال، أما إذا كان الإنسان خالي الذهن من ذلك وليس عنده شيء ولا علم بما قالته هذه الطائفة ولا تلك فإن إسلامه يصح إذا شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا علم بذلك تبرأ منه، وهذا الذي ذكره بأنه لا يصح إسلام أحد يقيد بأن يكون عالماً بهذا القول الباطل، وبطلان ذلك ظاهر جداً؛ لأن هؤلاء في الواقع أهدروا حتى العقول، حيث ادعوا أن الله دخل في رحم المرأة -تعالى الله وتقدس- أو أن لله ولداً، وهذا كفر ما وصل إليه كفر الأولين، أو أن الله جل وعلا له شريك، وكذلك اليهود قابلوا هؤلاء تماماً، فهؤلاء غلوا في عيسى عليه السلام ورفعوه إلى مقام الربوبية واعتقدوا أنه رب العالمين الذي يخلق ويرزق، وأولئك اليهود جفوا في حقه حتى جعلوا أمه باغية، أي: زانية -قاتلهم الله جل وعلا- وقد نزه الله جل وعلا مريم عليها السلام من قول أعدائها، وجعل عيسى آية دالة على قدرة الله ووحدانيته، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، وليس خلق عيسى بأعجب من خلق آدم، ولهذا جعل نظيراً له، فآدم خُلق من التراب لا من دم ولا من لحم ولا من عظم، وإنما خلقه الله من التراب وكوّن منه هذا الحي العاقل المستقيم، وكذلك خلقت زوجته منه، وكون امرأة خلقت من ذكر هذا أعجب من خلق عيسى، فهي خلقت من بضعة من جسده أخذت فخلقت منها امرأة سوية، وهذا هو أصل الخلق، ثم بعد ذلك جعل الله جل وعلا نسل آدم وزوجه من نطفة من ماء مهين، فتعارف عليه الخلق كلهم، فلما جاء شيء خلاف ذلك لم تستوعبه عقولهم القاصرة، فجعلوه الله -تعالى الله وتقدس- ثم كيف استساغت عقولهم أن رب السموات والأرض يُمسك ويُصلب على عيدان، ثم يُقتل وتوضع المسامير في عينيه، ومن ثم يموت؟! هل يعتقد هذا إلا مجانين لا عقلاء؟! ثم بعد ذلك يأتي لينتقم ممن فعله، وأنه وضع نفسه كذلك لأجل أن تحط الخطايا عن بني آدم.
أي أن قدرة الله انتهت، ولا يمكن أن يغفر الخطايا حتى يمكن أعداءه من إهانته والتفل في وجهه وصفعه، ولكن الشيطان يتلاعب بعقل الإنسان حتى يجعله ألعوبة -نسأل الله العافية- فلهذا أصبح الإنسان به من الضرورة إلى سؤال الهداية الله جل وعلا بأن يهديه إلى الحق الذي ضل عنه أكثر الناس أشد من ضرورته إلى الأكل والشرب بكثير، والله جل وعلا أبطل هذه العقائد الفاسدة بالنص الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أبطل إدعاء الظلمة من اليهود، وبرأ عيسى وأمه مما رموهما به.
وفي عقائد المسلمين بالإضافة إلى هذا أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء حياً ولم يمت، وأما قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] فالوفاة هنا المقصود بها النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] يعني: يرسل التي توفيت في النوم.
فالنوم يسمى وفاة، ولهذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أيضاً من عقائد المسلمين في عيسى- أنه ينزل في آخر الزمان ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ويحكم بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزوله ليس معناه أنه يأتي برسالة، وإنما يأتي مجاهداً لمن أعرض عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما كونه لا يقبل الجزية ويضعها فهذا حكم أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء به، فهو من رسالته وليس نسخاً لشريعته، فهذه الأمور يجب أن يعتقدها الإنسان، وهي كونه عبداً لله جل وعلا، وكونه خلق من أنثى بلا ذكر، وكونه منزهاً عما رماه به أعداؤه، كما أنه مبرأ مما يقوله أعداؤه ممن يزعمون أنهم أتباعه وهم أعداؤه في الواقع، وكذلك كونه رُفع إلى السماء حياً، ثم نزوله في آخر الزمان، ثم يُتوفى ويدفنه المؤمنون، ثم هو روح من سائر الأرواح التي خلقها الله جل وعلا واستنطقها واستشهدها وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، ولهذا قال: وروح منه.
يعني: روح خلقها كسائر الأرواح.
كقوله جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: (منه): خلقاً وإيجاداً.
فهذه الأمور إذا علمها الإنسان وجب عليه أن يتبرأ مما يخالفها وأن يعتقدها، بل علمها واجب؛ لأنها أنزلها الله جل وعلا في القرآن، والقرآن نحن مكلفون بالإيمان به ومعرفة ما جاء فيه، ولا يجوز لنا أن نجهله، بخلاف الأمور التي تفهم فهماً، فإن هذه مجالها واسع، وإذا أخطأ الإنسان فيها فربما يكون لخطئه عذر، أما النصوص التي نص عليها ربنا جل وعلا في كتابه وكذلك رسوله فإنه يجب أن نؤمن بها ونعتقد بمضمونها وما دلت عليه، ولا يجوز تجاهلها أو جهلها.(11/3)
معنى كون عيسى عليه السلام كلمة الله
[قوله صلى الله عليه وسلم: (وكلمته) إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى: (كن) كما قاله السلف من المفسرين.
قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية: (بالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: (كن) فكان عيسى بـ (كن)، وليس عيسى هو (كن)، ولكن بـ (كن) كان، فـ (كن) من الله تعالى قول، وليس (كن) مخلوقاً، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى.
انتهى].
معنى هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله أنَّ هؤلاء شبهوا وقالوا: إن كلام الله مخلوق، وذلك أنه سبحانه أخبر أن عيسى كلمة الله، ومن المعلوم لدى كل الخلق أن عيسى مخلوق مولود من أنثى، ما عدا الضالين من النصارى، فهم الذين خالفوا في هذا وقالوا: إنه الله، وابن الله، وثالث ثلاثة.
ولكن هذه ليست من عقائد المسلمين، بل هي منافية تمام المنافاة لعقائد المسلمين.
وأما هؤلاء الذين يخاصمون الإمام أحمد من المسلمين فهم يقولون: إن الله لا يتكلم.
وهذا تعطيل لله جل وعلا عن صفة الكلام، وجادلوه في هذا واحتجوا عليه بهذه الآية، أي أن عيسى كلمة من الله ألقاها إلى مريم، فقالوا: إذاً الكلام يطلق على المخلوق فمعنى هذا أن كلام الله مخلوق من الله، وإذا قلنا: إن الله يتكلم فمعنى ذلك أنه يخلق الكلام في مكان ما، فيكون هذا هو المعنى الذي يضاف إلى الله جل وعلا للكلام.
وهذا من الضلال والانحراف، بل هو بين وواضح أنه ضلال وانحراف عن الحق، وذلك أن الكلام صفة كمال، والذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ولهذا عاب الله جل وعلا على عباد الأصنام كونهم يعبدون من لا يتكلم ولا يرد لهم قولاً ولا يجيبهم؛ لأن هذا نقص، وكذلك رسالة الله جل وعلا هي كلامه الذي يسمعه الملك ويأتي به إلى الرسول البشري، ثم يبلغه الرسول البشري أمته، فالذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الشرع وينكر الرسالات، ولكن إذا شبه مشبه بشيء مما في كتاب الله أو في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وجب كشف ذلك وإيضاحه لئلا تقع الشبهة في قلب أحد من المسلمين الذين لا يعرفون الأدلة.
فبين الإمام أحمد أن معنى كون عيسى كلمة الله أنه مخلوق بكلمة الله، وهذا ليس خاصاً بعيسى، بل كل شيء يريده الله جل وعلا ويريد إيجاده وخلقه يقول له: (كن) فيكون، كما أراد الله جل وعلا من سائر المخلوقات، ولم يباشر الرب جل وعلا شيئاً من المخلوقات بيده إلا ما استثني من كونه خلق آدم بيديه، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة لموسى عليه السلام، والتوراة ليست مخلوقة؛ لأنها كلام الله كسائر كتبه، ولكن هذا للتشريف، فهو خصوصية خص بها آدم حيث خلقه بيده كما أخبر جل وعلا في أماكن من القرآن الكريم، وكذلك جنة عدن إكراماً لأوليائه وتخصيصاً للجنة بذلك، أما سائر المخلوقات فهو يقول لها: (كوني) فتكون كما أراد الله جل وعلا.
والله جل وعلا يتعالى ويتقدس، فلا تقاس أفعاله وتصرفاته بأفعال خلقه، فهو الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع على قدرته شيء، فعيسى عليه السلام كسائر الأرواح التي إذا أراد وجودها لمجرد إرادته يقول لها: (كوني) فتكون، ولا يمكن أن توجد ذرة من الذرات التي تكون في السماء أو في الأرض إلا بإرادة الله جل وعلا، وسائر المخلوقات هكذا.
فيكون عيسى معنى كونه كلمة أنه كون بالكلمة التي هي (كن)، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما قيل: إنه كلمة الله لأنه وجد من أنثى بلا ذكر، وهذا خارج عما سن الله جل وعلا في الخلق من كون كل مخلوق لابد أن يكون من ذكر وأنثى، فلما خرج عن ذلك جعل بهذه الصفة بأنه (كلمة الله)، أي أنه يُكوَّن بلا أب بكلمة الله، ولا ينافي ذلك أن سائر المخلوقات تكون بكلمة الله؛ لأنها تولدت بين ذكر وأنثى، فأصبح الأمر لدى الخلق كلهم معلوماً وليس غريباً لديهم بخلاف هذا، ولهذا أضافه الله جل وعلا إليه؛ لأنه كلمته تكون بهذه الكلمة، ولهذا قال له: (كن) فكان.
وأما كلام الله فهو معنوي صفة من صفاته، وكل شيء يضاف إلى الله جل وعلا يكون على قسمين: فإن كان المضاف إليه عيناً قائمة بنفسها، كناقة الله، وبيت الله، ورسول الله، وعبد الله، وما أشبه ذلك فهذا إضافته تكون إضافة مخلوق إلى خالقه، وقد تكون الإضافة هذه للتشريف، وهو لا يخرج عن ذلك، أي: لا يخرج عن كونه إضافة مخلوق إلى خالقه كناقة الله ورسول الله وبيت الله، فأضيف إلى الله تشريفاً، ولا يخرج بقية الأشياء هذه الإضافة، فما تخرج بقية الأشياء عن كونها مخلوقة لله، ولكنها ليست لها هذه المعاني التي وضعها الله جل وعلا فيها، فالرسول يأتي بحياة روحية من عند الله جل وعلا، فهو يدعو إلى عبادة الله ويبصر بذلك ويدل على الله، فلهذا أضيف إلى الله، وبيت الله لأنه مثابة للناس وأمناً يثبون إليه لأداء العبادة، ويطوفون به تعبداً لله جل وعلا، فأضيف إلى الله لأنه محل عبادته، وأما ناقة الله فلأنها آية دالة على الله جل وعلا، وهي خاصة -هذه الإضافة- بناقة صالح، وإلا فالنوق كلها نوق الله، ولكن ما أضيفت إلى الله كإضافة هذه التي أصبحت آية باهرة دالة على قدرة الله جل وعلا وعلى عظيم قدرته وسلطانه وأنه لا يعجزه شيء.
أما القسم الثاني من المضاف إلى الله فهو أن يكون المضاف معنى، كعلم الله، وسمع الله، وقدرة الله، وكلام الله، وما أشبه ذلك، فهذا إضافته إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، والصفة تقوم بالموصوف ولا يجوز أن تفارقه، فكلام الله وصفه، وكذلك علمه وسمعه وبصره، أما الأمور التي تكون خارجة عن الإضافة فلا إشكال فيها، فهي ظاهرة وواضحة، فيتبين بهذا أن كون عيسى أضيف إلى الله بأنه كلمته يكون لشيئين: أحدهما: أنه أوجد بالكلمة.
والثاني: أنه آية من آيات الله أضيف إلى الله تشريفاً وإكراماً له.
[وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير رحمه الله: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم عليها السلام، فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له: (كن) فكان، والروح التي أرسل بها هو جبريل عليه السلام].
يقول الله جل وعلا: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:17 - 19].
فالله جل وعلا أرسل إليها جبريل فتمثل لها بشراً؛ لأن الملك بصورته التي خلقه الله جل وعلا عليها ما يستطيع الإنسان البشر أن يراه أو يقابله، فهو صورة عظيمة جداً، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما رآه على صورته فزع وخاف، وقد رآه مرتين فقط على صورته: مرة في الأرض قبل أن يوحى إليه بالتكليف بالرسالة عندما جاء بنبوته، وقد كان في مكة خالياً ببعض الأودية، فسمع مناديا ينادي: يا محمد! فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، ثم سمع المنادي فالتفت فلم ير شيئاً، ثم رفع رأسه فإذا هو قد سد الأفق -أي: سد السماء من جميع الجهات بين السماء والأرض- وله أكثر من ستمائة جناح.
والمرة الأخرى رآه في السماء السابعة عندما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، وقد ذكر هذا ربنا جل وعلا في سورة النجم، فذكر أنه رآه مرتين، وسائر المرات التي كان يأتيه فيها في بعضها كان يتمثل له بشراً، كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألته: من هذا الذي رأيته معك؟ فقال: (أورأيتيه؟ قالت: نعم.
قال: فذاك جبريل)، وكانت تقول: ظننت أنه دحية الكلبي، وذلك أن دحية الكلبي كان رجلاً جميلاً من أجمل الناس، فكان جبريل يأتي أحياناً بصورته.
كذلك الحديث الذي في الصحيحين، وهو في صحيح مسلم من حديث عمر، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنهم كانوا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فطلع عليهم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منهم أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ إلى آخره وفي آخر الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم).
فهو يأتي متمثلاً بصورة بشر حتى يمكن أن يخاطب من أرسل إليه، أما الرسل فالوحي يأتيهم أحياناً على هذه الصورة، وأحياناً بصورة أخرى لا يرى منها جبريل، وإنما يلقي الكلام إلقاءً ثقيلاً، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الوحي يتغشاه شيء يثقل عليه، حتى إنه يرى العرق يتصبب منه في اليوم الشاتي صلوات الله وسلامه عليه.
فالمقصود أن الله جل وعلا أرسل جبريل إلى مريم يخبرها بأن الله جل وعلا أراد أن يخلق منها ولداً بغير أب فتعجبت من ذلك، فأخبرها أن قدرة الله جل وعلا ليس فيها عجب، ثم إنه نفخ في درعها -أي: في جيب درعها-، وهذا هو الروح، نفخ جبريل فانحدرت النفخة ودخلت في فرجها، كما قال الله جل وعلا: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12] أي أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها وذهبت النفخة فدخلت في فرجها، فحملت بعيسى عليه السلام، فلما جاءها المخاض علمت أن الناس لا يصدقونها، فتمنت أنها كانت نسياً منسياً وأنه ما حدث لها هذا الشيء؛ لأن هذا شيء خلاف العادة التي يتعارفون عليها، ولكن الله جل وعلا جعله آية، ولهذا ضل فيه النصارى عن الحق، وإن كان منهم طائفة علموا هذا وآمنوا به الذين هم أتباع عيسى على الحقيقة، ولكن اليوم النصارى كلهم ضالون، وإذا ماتوا على ذلك فهم في جنهم بلا شك، وذلك أن دين عيسى عليه السلام قد نسخ بالشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عيسى عليه السلام جاء مبشراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فجاء أحمد صلوات الله وسلامه عليه ناسخاً لجميع الأديان، وأخبر أنه لو كان موسى عليه السلام حياً ما و(11/4)
بين البدن والروح
[وقوله صلى الله عليه وسلم: (وروح منه) قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] بعثه الله إلى مريم فدخل فيها.
رواه عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم].
هذا يقتضي أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، كما هو ظاهر من أثر أبي بن كعب، وقد اختلف في هذه المسألة، اختلف العلماء فيها، وجاء في القرآن قول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، وفي قراءة: ((ذرياتههم)).
وقالوا: إن هذا يدل على أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، وأن الله خلقها ثم استنطقها.
أي: طلب نطقها، فاستشهدهم قائلاً لهم: (ألست بربكم)؟ فأقروا بذلك، فقالت الأرواح: (بلى) فشهدوا، وتمام الآية: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173].
فذكر في هاتين الآيتين علتين مانعتين من كونه لا يفعل ذلك: العلة الأولى: لئلا يغفلوا عن أمر الله وعن تكليفه، ((أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين))، يعني: لئلا تقولوا أي: لئلا تحتجوا بالغفلة.
فإن الله استنطق هذه الأرواح واستشهدها حتى لا تحتج بأنها كانت غافلة.
الثانية: ألا يحتجوا بالتقليد، بأن يقولوا: وجدنا آباءنا مشركين يعبدون غير الله فاتبعناهم على ذلك، وما علمنا أنهم على باطل.
ولهذا قال: ((أفتهلكنا بما فعل المبطلون)).
ومقتضى هذا أن هذا الاستنطاق وهذا الاستشهاد يكون حجة قائمة عليهم -على الخلق- حتى لا يدعوا أنه ما جاءهم أمر من الله يمنعهم من التقليد ومن الغفلة.
ومعلوم أن كل أحد من الناس اليوم لا يشعر بهذا العهد الذي أخذه الله وهذا الميثاق الذي أخذ على روحه، فكيف يكون حجة وهو لا يعلمه ولا يدري عنه شيئاً؟ فهذا مما يرد على هذا القول.
والقول الثاني: المراد بأخذ الميثاق الفطرة التي أودعها الله جل وعلا في خلقه، حيث إن كل إنسان فطر على معرفة الله وعلى قبول الحق إذا جاءه، وهذا من الآيات التي تكون مستكنة في الإنسان، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، والفطرة المقصود بها قبول الحق وكونه مستعداً له، وكونه أيضاً سالماً من الانحراف، وكونه محباً لعبادة الله جل وعلا مريداً، فهذه هي الفطرة، وهي في الواقع لا يخلو منها مولود، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يغير هذه الفطرة المربي من الوالد والوالدة أو المعلم الذي يتولى تربيته، فهم الذين يغيرونها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
فمعنى هذا أن أولاد الكفار ولدوا مستعدين لقبول الحق وإرادته وكونهم فطروا على ذلك، فيكون شاملاً عاماً لكل أحد؛ لقوله: (كل مولود)، وهذا ظاهر واضح.
وكذلك احتجوا بحديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه في الصحيحين، وهو قوله رضي الله عنه: (حدثنا الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً.
نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فقوله: (فيبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح) معناه أن البدن خلق قبل الروح.
وأجاب أهل القول الأول عن هذا بأن هذا لا يدل على أن البدن خلق قبل الروح، بل كانت الأرواح مخلوقة ثم ترسل إلى أبدانها شيئاً بعد شيء، وهناك حجج غير هذه، والمقصود أن هذه مسألة خلافية.
والقول الذي ذكره أبي مشهور جداً، وفيه آثار كثيرة عن السلف، وأكثر المفسرين الذين تكملوا على قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] لم يذكروا إلا هذا القول، ولم يذكروا القول الثاني، فيكون ذلك واضحاً وظاهراً في أن روح عيسى عليه السلام كسائر الأرواح التي خلقت يوم خلقها الله جل وعلا واستنطقها واستشهدها.
[قال الحافظ رحمه الله: وَوَصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه.
كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، فالمعنى أنه كائن منه، كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته تعالى.(11/5)
المضاف إلى الله تعالى بين كونه معنى وكونه عيناً
قال شيخ الإسلام رحمه الله: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنىً لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى؛ لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره].
المعنى يكون قائماً بنفسه أو غير قائم بنفسه، ومعنى ذلك أن الذي يكون قائماً بنفسه هو الشيء الذي يشاهد ويرى ويظهر، مثل الجسد، ومثل البيت، ومثل الناقة، وما أشبه ذلك؛ لأنها ترى وتشاهد وتشغل مكاناً، فهي قائمة بنفسها.
أما الشيء الذي لا يقوم بنفسه فمثل السمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة وما أشبه ذلك من المعاني؛ لأنه لا يوجد كلام مستقل بنفسه من غير متكلم، فكل ما جاء من هذا القبيل -أي: الشيء الذي لا يقوم بنفسه- مضافاً إلى الله يكون صفة له جل وعلا.
أما الشيء الذي يقوم بنفسه مثل الناقة والبشر والملك وغير ذلك فإضافته إلى الله -كما سبق- إضافة تشريف، وتكون إضافة مخلوق إلى خالقه تعالى وتقدس أضافه إليه تشريفاً له وتكريماً.
قال رحمه الله تعالى عن شيخ الإسلام: [لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها.
فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله وأرض الله.
فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله.
والوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله.
ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه.
انتهى ملخصا].(11/6)
الإيمان بالجنة والنار من لوازم التوحيد
[وقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق والنار حق) أي: وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق -أي: ثابتة لا شك فيها- وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة.
وفيهما الإيمان بالمعاد].
من الأمور الظاهرة والواضحة جداً عند جميع المسلمين كون الجنة مخلوقة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأن الجنة حق والنار حق) الحق في اللغة: هو الشيء الثابت المستقر الذي لا يزول.
يعني أن الله خلق الجنة والنار وأعدهما، أعد الجنة للطائعين والنار للعاصين، فلابد من الشهادة بذلك يقيناً.
وأما كونها مخلوقة الآن فكذلك الأدلة فيها ظاهرة، والذين خالفوا فيها في الواقع ليس لهم مستند إلا عقولهم وقياسهم على أفعال بني آدم، فقاسوا فعل الله جل وعلا على فعل بني آدم، وهذا ضلال في الواقع، وقد أخبر الله جل وعلا أن الجنة والنار كلاهما معدة، والإعداد هو وجود الشيء وتهيئته، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه اطلع في الجنة والنار، وأخبر أن أكثر أهل النار النساء، وقال: (إني رأيت أكثر أهل النار النساء)، وأمرهن بالصدقة.
وكذلك أخبر أنه رأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه فيها لأنه أول من غير دين إبراهيم، ولأنه أول من سيب السوائب وحمى الحامي وغير دين إبراهيم، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمشها في النار) أي: تخمش وجهها إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت صريحة بوجود الجنة والنار الآن.
وفي الحديث الصحيح: (أن الله جل وعلا لما خلق الجنة قال لها: تكلمي.
فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1])، وفي الحديث الصحيح الآخر: (أن الجنة والنار احتجتا، فقالت الجنة: مالي يدخلني الضعفاء والمساكين وسقط الناس؟! وقالت النار: مالي يدخلني الجبارون والملوك؟! فقال الله جل وعلا للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.
وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها)، فأما الجنة فإنه إذا دخلها أهلها يبقى فيها فضل مساكن، فينشأ الله جل وعلا لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة، وأما النار فإذا ألقي فيها الكفار وأهلها لا تزال تقول: هل من مزيد.
ونسأل الله جل وعلا أن نكون من المستمعين المنتفعين.(11/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [12]
لا يصح إسلام أحد حتى ينطق بكلمة التوحيد، ومع نطقه بها يجب عليه أيضاً الاعتقاد بمعناها، والذي هو إبطال كل مألوه غير الله، والتوجه بالعبادة لله جل وعلا وحده، ثم لابد من العمل بهذا المعنى، وذلك بالتزام ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج.(12/1)
أثر كلمة التوحيد في الآخرة(12/2)
عصمتها لصاحبها من دخول النار وقيد ذلك
قال المصنف رحمه الله: [ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله)].
حديث عبادة السابق جاء غير مقيد؛ فإنه قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وحديث عتبان قيد هذا بأن الإنسان يأتي بهذا المشروط بأن يشهد هذه الشهادة عن علم ويقين ومعرفة، وأنها تقتضي العمل، فيعمل بما دلت عليه، فإذا جاء بذلك وإن كانت له ذنوب فإن الله يدخله الجنة، فهو مطلق بدون قيد، وأما في حديث عتبان هذا فإنه قيده بقوله: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله، ومعنى (يبتغي بذلك وجه الله) أن يكون مخلصاً في قولها مريداً بذلك النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ونعيمه، لا يريد غير هذا، وهذا معنى ابتغاء وجه الله، فيقولها راغباً في الثواب وهارباً من العذاب.
ومعلوم أن الذي يقولها على هذه الصفة تكون رغبته في الآخرة أكثر من رغبته في الدنيا، وأنه يعمل العمل الذي يستطيعه، ولا يدخر عملاً للآخرة؛ لأنه واثق بأنه سيقدم على ربه ويجازيه على عمله فيجتهد في ذلك.
فمعنى (يبتغي بذلك وجه الله) أنه يريد من الله جل وعلا ثوابه الذي يثيب به من كان مخلصاً لله جل وعلا في عمله، وكذلك يخشى ضد ذلك، فهو يخشى إن لم يكن مخلصاً في عمله وصادقاً مع ربه أنه يعذب، فيخاف أنه لو لم يقل ذلك صدقاً وإخلاصاً أن يعذبه الله جل وعلا.
فإذا كان بهذه المنزلة على هذه الصفة فإن الله جل وعلا يحرمه على النار، وهذا أعظم مما في حديث عبادة؛ لأن الذي في حديث عبادة مجرد وعد بأنه يدخل الجنة على ما كان من العمل، وإدخاله الجنة على ذلك لا ينافي أن يناله ما يناله في مواقف الآخرة أو في القبر أو بعد ذلك، وإنما يدل على أن مآله إلى دخول الجنة، ولابد أن يدخل الجنة، وإن كان عنده أعمال سيئة فهذه الأعمال يتجاوز الله جل وعلا عنها، أو قد يصيبه بعض ما يستحق، أما هذا فإنه يحرم على النار، ومعنى ذلك أنه لا يدخل النار أصلاً، ولكن بشرط أن يكون يبتغي بذلك وجه الله، وابتغاء وجه الله عرفنا أنه الإخلاص، والإخلاص أن يكون العمل خافياً مخلصاً من كل شائبة تلحقه من شوائب الدنيا أو مرادات النفس، أو ما هو مقصود لغير الآخرة، فيكون خالصاً وصافياً ليس فيه شيء.
وهذا الذي يكون عمله بهذه المثابة يكون قلبه محباً لله مقبلاً على الله بصدق، وليس فيه إرادة لغير الله جل وعلا، ولا يمكن أن يكون محباً للباطل، ولا يمكن أن يكون محباً لما ينهى الله عنه ويحرمه، ولا يكون مانعاً للواجب الذي أوجبه الله عليه؛ لأنه مخلص لله، ولأنه متجه إلى الله جل وعلا بالمحبة والإخلاص والصدق، فمن كان بهذه المثابة فلا يحول بينه وبين دخول الجنة إلا الموت، فإذا مات فتح له باب إلى الجنة وقيل: انظر إلى منزلك وما أعده الله جل وعلا لك.
عند ذلك يقول: يا رب! أقم الساعة حتى أذهب إلى منزلي.
لأن الذي خلص من الشرك دقه وجله وكثيره وقليله خلص؛ لأنه قال ذلك ابتغاء وجه الله، ودفعه إلى ذلك محبته التي في القلب لله جل وعلا وإقباله على الله، فهو مغتبط بأمر الله، كاره لكل ما نهى الله عنه مبغض له، ومثل هذا لا يقع في ذنب إلا أن يغره الشيطان وتسول له النفس، ثم إذا وقع في ذلك فسرعان ما يقلع ويتوب، وإلا فلا يوجد أحد ينفك عن الذنوب أبداً، فكل بني آدم خطاء، ولكن مثل هذا لا يستمر على ذنب بإذن الله؛ لما في قلبه من الإقبال على الله ومحبة الله جل وعلا، فهذا معنى كونه يحرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله.
وهناك أحاديث تدل على أن من يقول: (لا إله إلا الله) يدخل النار، وهي أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمع بينها أن الذي يقولها غافلاً ويقولها غير صادق وغير مقبل على الله جل وعلا بكليته فله مجرد وعد فقط، فإنه يدخل النار إذا شاء الله ثم يخرج منها إلى الجنة، أما هذا الذي حرم على النار فلابد أن يكون صادقاً مخلصاً مقبلاً على الله جل وعلا، أو أنه يقولها تائباً مما حدث منه توبة نصوحاً مقلعاً عن كل ذنب مقبلاً على ربه ثم يموت على ذلك بعد قولها، فإنه إذا كان أيضاً بهذه المثابة فإن (لا إله إلا الله) إذا صدرت على هذه الصفة لا تقوم أمامها سيئة أبداً، فتمحو السيئات كلها إذا جاءت على هذه الصفة.(12/3)
كلمة التوحيد مع اكتساب الذنوب
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن قال: (لا إله إلا الله) ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقا في قولها موقناً بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة ومات مصراً على الذنوب بخلاف من يقولها بيقين وصدق فإنه إما ألا يكون مصراً على سيئة أصلاً، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته، والذين يدخلون النار ممن يقولها إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم.
انتهى ملخصا.
وقد ذكر هذا كثير من العلماء، كـ ابن القيم وابن رجب وغيرهما، قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.
قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس].
المعنى أن الإنسان لا يصح إسلامه ودخوله في الإسلام حتى ينطق بهذه الكلمة، فيتكلم بها ويتلفظ بها، وكذلك لابد أن يعتقد صحة معناها ويعمل بهذا المعنى، فلابد أن يعرف المعنى، وأن معناها إبطال كل مألوه غير الله، والتوجه بالتأله الذي هو العبادة لله وحده جل وعلا، وأن كل عبادة تصرف لغير الله شرك، وأن صاحبها عمله يحبط بذلك، فإذا مات عليه فهو من أهل النار.
فهذا لابد من اعتقاده، ولابد من العمل بألا يشرك بالله جل وعلا، وأن يلتزم ما جاء به الرسول من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، وهي أركان الإسلام الخمسة التي أعلمنا صلوات الله وسلامه عليه أن الإسلام بني عليها، فلابد من الالتزام بذلك.
أما أن يقول هذه الكلمة وهو لا يصلي ولا يصوم، أو لا يحرم المحرمات مثل الزنا والربا وما أشبه ذلك فقوله إياها لا يفيد؛ لأنه في الواقع ما عمل بما دلت عليه، وما عمل بمقتضاها، فلابد من اعتقاد ما دلت عليه مع قولها والعمل، ولهذا اتفق أهل السنة أن الإيمان يتكون من أمور ثلاثة، من قول وعقيدة في القلب وعمل، ولو تخلف واحد من هذه الأمور الثلاثة لا يكون الإيمان صحيحاً، فأما الذين خالفوا في هذا فهم في الواقع ضالون؛ لأنهم تركوا ما دل عليه الكتاب والسنة بالنص.
فلو أن إنساناً اعتقد في قلبه أنه لا إله إلا الله، وأن كل آلهة غير الله باطلة، ولكنه لم ينطق بذلك ومات على هذا باتفاق العلماء يكون كافراً ليس بمسلم، فلابد من النطق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد)، فلابد من الشهادة، والشهادة تقتضي الإخبار بالكلام عما اعتقده في قلبه، ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه يدعو الناس إلى النطق بها وإلى قولها، وكان يقول لهم: قولوا: (لا إله إلا الله) و (اشهدوا ألا إله إلا الله)، ولما تبعه رجل من المشركين كان معروفاً بالنجدة والشجاعة يوم بدر فلحقه ليقاتل معه ففرح به أصحابه لأنه عرف بشجاعته وإقدامه وقال: إني جئت لأنصرك.
ولقال له: (أتشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قال: لا.
قال: ارجع؛ فإني لا أستعين بمشرك.
فلابد من الشهادة حتى يبنى عليها العمل، فيشهد أنه (لا إله إلا الله)، ثم بعد ذلك الأعمال تبنى عليها، وإلا فتكون الأعمال كلها باطلة غير معتد بها.(12/4)
أثر كمال التوحيد ونقصانه في الآخرة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل].
التوحيد الكامل هو الذي يكون مع الإخلاص بالصدق واليقين والعلم والمحبة والإقبال، يعني أن يتحلى الإنسان بهذه الأمور والاستسلام لله جل وعلا، والواقع أن التوحيد الكامل يكون في الذين أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم يأتون بقلوب سليمة، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]، فالقلب السليم هو الذي سلم من التعلق بغير الله جل وعلا، فهو صاحب التوحيد الكامل، وهذا هو الذي يحرم على النار، أما إذا كانت عنده ذنوب فالذنوب إما أن تلحق بالشرك الأصغر أو تلحق بالأكبر، فبخل الإنسان بشيء من زكاة ماله كونه إنما دعاه إليه محبة المال، وحبه للمال قدمه على محبة الله وعلى أمر الله، وهذا نوع من الشرك، وكذلك كون الإنسان يقدم على فعل الباطل حباً له إما شهوة تدعوه إلى ذلك، أو ألفة، أو تسويف من الشيطان وهو يعلم أن الله نهى عنه، فهذا في الواقع قدم هوى نفسه، أو أمر مخلوق قدمه على أمر الله جل وعلا وهو نوع من الشرك، وهكذا في جميع الذنوب.
فالإنسان إذا كان مرتكباً للذنوب ليس توحيده كاملاً من كل وجه، بل ناقص، ولهذا يدخل النار ثم بعد ذلك يخرج منها بحسب ذنوبه وإجرامه، ولكنه إذا مات على التوحيد ولو لم يكن توحيده كاملاً وكان ناقصاً فإنه لابد من إخراجه من النار، أما الذي لا يخرج من النار فهو الذي يموت وليس معه توحيد، إنما هو مشرك، والتوحيد لا يمكن أن يجتمع مع الشرك الأكبر أبداً، فإذا وجد الشرك الأكبر انتفى التوحيد تماماً.
كإنسان يتقدم إلى عبادة مقبور يسأله ويتضرع إليه ويقول: اكشف الضر عني أو: ادفع عني أذى العدو.
أو اشف مرضي.
أو هب لي رزقاً.
أو: هب لي ولداً.
أو ما أشبه ذلك من السؤال الذي لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا، ويموت على هذا، فإن هذا هو الشرك الأكبر، ولو كان يصلي ويصوم ويتصدق ويعمل الأعمال فعمله مردود؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به، وبقية الذنوب غير الشرك الأكبر علقها ربنا جل وعلا بمشيئته فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فكل الذنوب -ما عدا الشرك- معلقة بمشيئة الله، ومعنى كونها معلقة بمشيئة الله أنه إذا شاء أن يغفرها بدون مؤاخذة غفر، وإن شاء أن يؤاخذ عليها ويعاقب عليها عاقب عبده، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة.
ولهذا فكل من مات على الإسلام وليس عنده شرك أكبر وإن كانت عنده ذنوب كثيرة فهو يرجى له الخير، ويكون مآله إلى الجنة وإن ناله ما ناله، والذي يناله كله يكون مكفراً لهذه الذنوب، فيكون عقاباً لما ارتكبه من المعاصي.(12/5)
شرط صلاح العمل وقبوله(12/6)
الأخلاص لله تعالى
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم].
هذان الأمران لابد منهما في جميع الأعمال، أي: كون العمل يكون خالصاً لله، وكونه يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عمل، أما إذا تخلف شرط من هذين في عمل من الأعمال فهو مردود على صاحبه، كما إذا وجد الشرك في العمل، وليس معنى هذا أن الإنسان إذا أشرك في عمل من الأعمال يكون جميع عمله حابطاً، وإنما يكون ذلك العمل الذي قارنه الشرك حابطاً باطلاً، وإذا تاب تاب الله عليه، وإذا عمل أعمالاً خالصة لله قبلها الله جل وعلا بشرط ألا يكون فيها شرك.
أما العمل الذي يقارنه شرك، مثل إنسان أخرج صدقة ولكنه يريد بإخراجه أن يمدح ويثنى عليه فيقال: هو يتصدق، وهو جواد، وهو كريم فإن مثل هذا غير مقبول، ولا يقبله الله جل وعلا؛ لأنه أراد قول الناس، وأراد ثناءهم ومدحهم، فصدقته هذه حابطة ليس له منها شيء.
وكذلك لو صلى وحسَّن صلاته لأن الناس ينظرون إليه فيثنون عليه ويمدحونه فيقولون: هو يصلي بخشوع، وهو تقي، وهو يقبل على صلاته بأدب.
فهو يريد مدح الناس، ويريد أن يثنوا عليه ويمدحوه، ثم يريد أن يحبوه على ذلك، فإنه ليس له إلا ما أراد، فصلاته مردودة عليه؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
أي: تركت ذلك العمل وشركه.
أي: وشريكه الذي أشرك.
فيصير العمل خالصاً لذلك الشريك، ولهذا إذا كان يوم القيامة يقول الله له: (اذهب إلى من أشركته في العمل فاطلب أجرك منه)، فليس له شيء، فلا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لله جل وعلا.
ثم لو حدث مثل هذا، كإنسان حسن صلاته وزينها وتأدب فيها لأجل نظر آخر فليس معنى ذلك أن أعماله كلها حابطة، ولكن هذا العمل الذي زينه لأجل نظر الإنسان مردود عليه، أما إذا عمل أعمالاً خالصة لله فهي مقبولة تقبل، وإن كان يعاقب على كونه يشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا من المحرمات العظام، فلا يجوز أن يقصد بالعمل غير الله جل وعلا.(12/7)
موافقة الشرع
أما الشرط الثاني فهو موافقة السنة، ومعنى ذلك أن الإنسان لا يجوز له أن يقدم على عمل من الأعمال إلا وهو مشروع، ولهذا يقول العلماء: إن الأصل في العبادات التوقيف حتى يأتي الدليل على أنها مشروعة.
ولا يجوز للإنسان أن يقدم على عبادة من العبادات وهو لا يعرف أنها مشروعة، وإلا كان ممن يشرع برأيه أو نظره، ويكون مبتدعاً.
فإن البدع هي العبادات التي لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل عبادة لم يأت بها الوحي فهي بدعة، والبدع مردودة على أصحابها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) يعني: ليس على الشرع، وليس مأموراً به بالكتاب والسنة؟ (فهو رد) مردود على صاحبه.
فلابد لكل عمل من هذين الشرطين، أي: أن يكون العمل مراداً به وجه الله خالصاً لله جل وعلا، وأن يكون مأموراً به شرعاً ومشروعاً شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإلا كان الإنسان يعمل عملاً حابطاً، كما قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فعندها خشوع، وعندها نصب للعمل، ولكن في الآخرة تصلى ناراً حامية؛ لأنها تتعبد الله جل وعلا بالبدع، وإن كانوا يبكون ويخشعون فبكاؤهم وخشوعهم خسارة، فعندهم الخشوع والنصب التعب، ولكن الواقع في الآخرة أنه تصلى وجوههم ناراً حامية، ويسقون من عين آنية؛ لأنهم تعبدوا الله بالبدع لآرائهم وأقوال الناس التي ليس عليها دليل، فلابد أن يكون الإنسان في عبادته متبعاً لا مبتدعاً.
[تنبيه: قال القرطبي في تذكرته: وقوله في الحديث: (من إيمان) أي: من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله، ما في الحديث نفسه من قوله: (أخرجوا)، ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط، فيريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال.
انتهى ملخصاً من شرح سنن ابن ماجة].
قول القرطبي هذا لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث منادياً ينادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
وهذا عام شامل، فكذلك الأعمال تبع للإيمان، فإذاً يكون معنى قوله: (أخرجوا من النار من قال: (لا إله إلا الله) وفي قلبه مثقال حبة من خير)، وجاء في لفظ آخر: (من إيمان) أنه الشيء الزائد على هذا القول، فهو أمر زائد على أصل الإيمان، أما أصل الإيمان فهو موجود، وهو الذي به يخرج من النار ويدخل الجنة، ولكن لابد من عمل وإن قل؛ فأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] يعني: مثقال الذرة إن يك حسنة يضاعفه.
وإذا كان للإنسان حسنة ولو مثقال ذرة زائدة على سيئاته فإن الله جل وعلا يضاعف هذا المثقال ويدخله به الجنة، فهذا فضل عظيم.
وهكذا في هذا الحديث الذي فيه أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة، أي: مثقال الذرة زائداً على قول (لا إله إلا الله) أصل الإيمان، حتى لا يكون هذا مكرراً فيكون آخره هو أوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينزه كلامه عن ذلك، وهذا شيء معقول في الواقع، ولهذا قال: إن الدليل عليه هو ما في نفس الحديث.(12/8)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [13]
الله تعالى هو المعبود بحق، فلا معبود بحق سواه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، ولعظم هذه الكلمة وما دلت عليه جاءت الأحاديث ببيان فضلها، وأي فضل لها أعظم من أنها لو وضعت المخلوقات كلها في كفة ووضعت هذه الكلمة في كفة لمالت بهن؟ ولهذا كانت أفضل ما قاله النبيون عليهم الصلاة والسلام.(13/1)
حديث موسى عليه السلام ودلالاته(13/2)
فضل كلمة التوحيد والدلالة على علو الله تعالى
قال المصنف رحمة الله عليه: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك وأدعوك به.
قال: قل يا موسى: (لا إله إلا الله).
قال: كل عبادك يقولون هذا! قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، و (لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه].
هذا فيه أيضاً فضل لهذه الكلمة وعظم ثوابها، وأن قولها إذا كان بإخلاص وصدق لا يقاومه شيء، لا في الوزن، ولا في الفضل؛ فإنه قال: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري)، فاستثنى نفسه جل وعلا ممن في السماء، وهذا دليل على أن الله جل وعلا في العلو في السماء.(13/3)
السماء وما تطلق عليه
السماء إذا جاءت في كلام العرب تحتمل شيئين: أحدهما: مطلق العلو، فكل ما فوقك سماء, والثاني: السماء المبنية التي أخبر الله جل وعلا بها، وكله جاء في القرآن.
أما المعنى الأول فمثل قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15]، فالسبب الذي يمده إلى السماء يجعله في السقف، والمعنى: إذا كان الإنسان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه بأن يجعل حبلاً في سقف البيت الذي فوقه، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقطع حياته وينتحر، فإن الله لابد أن ينصر رسوله.
فإذاً السماء في هذا المقصود بها ما فوق رأس الإنسان، فكل ما فوق رأس الإنسان يسمى سماء، وكذلك قول الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وأما كونها جاءت في السماء المبنية فقوله جل وعلا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6] في آيات كثيرة جداً.
فهنا قوله في هذا الحديث: (لو أن السماوات السبع) قصد بها السماوات المبنية، وأنها سبع سماوات، وهذا جاء في آيات متعددة كثيرة، وكل سماء فوق الأخرى، وأعلاهن السماء السابعة، فجاء في حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذهب بصحبة جبريل عليه السلام كان جبريل يستفتح -أي: يطلب أن يفتح له باب السماء- ثم يسأل فيقال له: من؟ فيقول: جبريل.
فيقولون: ومن معك؟ فيقول: محمد.
فيقولون له: أوبعث؟ فيقول: نعم.
فيفتح له، وهكذا في جميع السماوات كان يقول ويقال له.
وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الاحتضار، وأن الإنسان إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزل إليه -إذا كان مؤمناً- ملائكة بيض الوجوه معهم حنوط من الجنة وكفن من الجنة فجلسوا منه مد البصر، ثم جاء ملك الموت وصار يخاطب روحه ويقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب! أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان.
فتخرج تنسل كما تخرج قطرة الماء من في السقاء، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فيصعدون بها إلى السماء فيستفتحون لها باب السماء فيفتح لها.
وهكذا إلى أن تصل إلى السماء السابعة، فإذا وصلوا إلى السماء السابعة واستفتحوا فتح لها، فيقول الله جل وعلا لملائكته: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وإليها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى).
أما إذا كان فاجراً فإنه إذا جاءه ملك الموت يقول له: أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث! اخرجي إلى سخط وغضب من الله فتتفرق في بدنه وتتشبث بعروقه وأعصابه، فينتزعها انتزاعاً شديد كما ينتزع السفود إذا أدخل في الصوف المبلول، والسفود: هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم، إذا أدخلت في صوف مبلول وهي محماة يلتف عليها الصوف، فينتزعها ويخرج معها ما يخرج من شدة التشبث والتمسك؛ لأنها علمت بالعذاب أنه وصلها، فإذا استخرجها لا يدعها الملائكة الذين نزلوا معهم مسوح من النار وكفن من النار وحنوط من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، ويخرج منها أخبث رائحة وجدت على وجه الأرض، نسأل الله العافية.
فإذا وصلوا إلى السماء الدنيا واستفتحوا لم يفتح له، ولهذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31]، فيؤمر أن تطرح طرحاً، وقد قال تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، وكون الجمل يدخل في ثقب الإبرة لا يمكن، يعني أنه مستحيل دخولهم الجنة، فالمقصود أن السماء لها أبواب مبنية.
وقوله في هذا الحديث: (عامرهن غيري) يدل على أن كل سماء لها عمار، والعمار هم الذين يكونون فيها للعبادة والعمل، والذين في السماء ملائكة الله، وكل سماء مملوءة من الملائكة الذين خلقوا للعبادة، والله غني بذاته عن كل ما سواه، فلا يتقوى بملائكته ولا يستنصر بهم، ولكنه خلقهم ليأمرهم وينهاهم، وهم يعبدون الله لا يعصونه طرفة عين.
وقد جاء في الحديث ما يدل على كثرتهم الكاثرة؛ فإنه جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط)، والأطيط: هو صوت الشيء المحمول فإذا حمل على خشب أو على غيره حمل ثقيل صار له صرير، فهذا الصرير يسمى أطيطاً، فمعنى ذلك أن السماء محملة بكثرة الملائكة.
فيقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع أو قائم)، وهذا إلى قيام الساعة، فإذا قامت الساعة قالوا: سبحانك ربنا! ما عبدناك حق عبادتك.
ولما عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة على غرار الكعبة، وهو في السماء السابعة مثل الكعبة في الأرض، تزوره الملائكة وتطوف به تعبداً لله جل وعلا.
يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيت إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إليه)؛ لأن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، فجوزي بأن جعل في هذا المكان العالي الرفيع الذي يتعبد فيه لله جل وعلا في السماء السابعة، يقول: (فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه أبداً) يعني: ما تحصل لهم فرصة لأن يعودوا مرة أخرى لكثرة الملائكة، وإنما كل ملك لا يأتي إلى هذا البيت إلا مرة واحدة فقط لكثرتهم، وهذا يدل على الكثرة الكاثرة.
وقد أخبرنا جل وعلا عن بعض وظائفهم، فمنهم من يحفظ على بني آدم أعمالهم ويحصيها عليهم، يقول الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم)، يعني: استحيوا منهم، فهم يستحيون من الأمور التي لا تناسبهم، مثل النظر إلى العورات وما أشبه ذلك، ولهذا لا يجوز للإنسان إذا دخل الحمام أن يتكلم؛ لأنه إذا تكلم يضطر الملك الكريم أن يأتي ليكتب كلامه ويسجله وهو لا يدخل الحمام؛ لأن أماكن القاذورات وأماكن النجاسات أماكن للشياطين، وهي التي تليق بهم، أما الملائكة فلا يدخلونها.
وكذلك إذا كشف الإنسان عن عورته لا ينظرون إليه، بل يفارقونه، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان يتعرى وحده، فعليه أن يستتر استحياء من الله ومن عباده من ملائكته، فهذا معنى قوله: (استحيوهم) يعني: استحيوا منهم، ولا تعملوا الأعمال التي تثقلهم ويكرهونها لأنهم لابد أن يكتبوا كل شيء، فكل ما صدر من الإنسان وكل ما قاله الإنسان وتلفظ به يكتبونه، وكذلك ما عمله، كما قال الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أي: يراقبه ومستعد للكتابة فهؤلاء مع كل إنسان، وإذا مات الإنسان طووا صحائفهم، ثم إما أن يجلسوا على قبره يستنصرون له، أو يذهبون إلى حيث شاء الله، والذي يولد يكون له ملائكة أخر غير السابقين، فكل إنسان ليس له إلا كاتبين فقط لا يشاركون غيره في الكتابة، فما يكتبون إلا لواحد فقط، فإذا جاءوا يوم القيامة جاءوا بصحائفهم التي سجلوها وأحضروها بين يديه، وهي -على القول الصواب من أقوال العلماء- الصحائف التي تنشر وتعطى الإنسان يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14] يعني: حاسب نفسك تجد فيه أنك في يوم كذا في مكان كذا في ساعة كذا قلت كذا وكذا، أو عملت كذا وكذا.
وما يستطيع أن ينكر، ومع ذلك فبعض الناس ينكر، فيقول: يا رب! ظلمتني الكتبة أو يقول: يا رب! لا أقبل شهادة هؤلاء.
فيقال له: ومن تقبل؟ فيقول: لا أقبل إلا شاهداً من نفسي فيختم الله جل وعلا على فيه، ويقول لأعضائه: تكلمي.
فيتكلم الجلد، ويتكلم السمع، ويتكلم البصر، وتتكلم الأيدي والأرجل وتنطق، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبينها ويقال له: تكلم.
فيعود على أعضائه باللوم والشتم ويقول: بعداً لكن! فعنكن كنت أنافح.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:20 - 22] إلى آخر الآية.
فقوله تعالى: ((ما كنتم تستترون)) يعني: ما كنتم تخافون الله وتفعلون أمره وتجتنبون معاصيه حتى لا تشهد عليكم هذه الأعضاء {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22 - 23].
فالمقصود أن الملائكة الذين يكتبون أعمال الإنسان لا يشاركون في كتابة أعمال إنسان آخر، فكل واحد يكتب له اثنان، وكذلك الملائكة الذين وكلوا بقبض الروح وحملها، ومنهم الملائكة الذين وكلوا بنفخ الروح في رحم المرأة وكتابة ما يستقبله من العمل والأجل والرزق والشقاوة والسعادة.
وكذلك منهم الحفظة غير الذين يحفظون الأعمال، وهم الذين يقول الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْ(13/4)
معنى تسبيع الأرض
قوله: (والأرضين السبع) جعل الأرضين سبعاً، وقد اختلف العلماء في كون الأرض سبعاً ما معناه؟ فمنهم من يقول: إن الأرضين سبع مفتوقة، وكل أرض فيها سكان، ومعنى أنها مفتوقة أن كل واحدة تحت الأخرى وبينها وبين التي فوقها فضاء إلى سبع طبقات في الأرض.
وهذا قول مرجوح، وقد جاء عن ابن عباس أثر في ذلك وعن غيره، والظاهر أن الذي جاء عن ابن عباس مأخوذ عن أهل الكتاب من خرافاتهم التي لا يجوز تصديقها، وإنما الصواب أن الأرضين السبع طبقات غير مفتوقة، فالأرض سبع طبقات كل طبقة تحت الأخرى، ولكن ليس بينها فضاء، وقد قال بعض العلماء: المقصود بسبع أراضين السبعة الأقاليم.
يعني القارات السبع، فكل قارة تسمى أرضاً، وهذا ليس بشيء.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ومعنى هذا أنه يجعل طوقاً له بالسبع الطبقات، فتأتي واحدة تحت الأخرى، ومركز الأرض هو أسفل هذه الطبقات، ومركز الأرض نار تلتهب، ونار شديدة جداً.
ولهذا يري الله جل وعلا عباده من ذلك بعض الآيات تخويفاً، فقد يخرج من البراكين التي ترى من قعر الأرض نيران لا تطاق تذيب الصخور، ولا يمكن أن يقوم لها شيء، وهذا في الأرض كلها، فمركز الأرض الأسفل كله نار تلتهب، وهذا يجده الناس ويشاهدونه، فإذا حفروا فكلما نزلوا اشتدت الحرارة، إلى أن يصلوا إلى مكان لا أحد يستطيعه من شدة حرارته، ثم تكون النار الملتهبة.
فالمقصود أن الأرضين السبع معناها طبقات سبع خلقها الله جل وعلا، طبقات الواحدة فيها مميزة عن الأخرى، ولا يلزم أن يكون لها فتوق وبينها فضاء، بل كلها واحدة فوق الأخرى بدون فضاء، ولكنها تتغير عن التي فوقها، فهي سبع.
ولهذا لما جاء ذكر الأراضين في القرآن فذكر تعالى أنه خلق سبع سماوات قال: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] أي: طبقات سبع.
ولا يلزم أن يكون بينها وبين الأخرى فضاء مثل الذي بين السماء والأرض، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء والتي فوقها مسيرة خمسمائة عام.
أما الأرض فهي مثل البيضة في قلب السماء، والسماء تحيط بها من جميع الجهات -أي: السماء الدنيا-، والسماء التي فوقها كذلك تحيط بالسماء الدنيا من جميع الجهات، والواقع أنه ليس هناك جهات حقيقة إلا جهة الفوقية والسفل فقط، ولهذا تكون السماء دائماً فوق الأرض، ولا يتصور أن السماء تكون تحت الأرض أبداً وإن كانت محيطة بها من جميع الجهات، ولكن الإنسان أينما كان فالسماء فوقه، فأينما كان من الأرض فالسماء فوقه دائماً.(13/5)
عظم شأن كلمة التوحيد وصيغتها الشرعية
قوله في هذا الحديث: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأراضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة) الكِفَّة -بكسر الكاف- هي كفة الميزان، ولله جل وعلا ميزان يزن به أعمال بني آدم عظيم كبير جداً يسع الشيء الذي قد لا يتصوره الإنسان.
فلو أتى إنسان بهذه الكلمة صادقاً مخلصاً من قلبه مقبلاً على الله، وقدر أن له ذنوباً تزن السماوات والأرض فإن هذه الكلمة تثقل بهذه الذنوب، فهي لا يقاومها شيء، وهذا دليل واضح على فضل هذه الكلمة، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعدل إلى غيرها في الذكر فيتركها ويذهب يطلب غيرها.
ومن فضل الله جل وعلا أنه كلما كان الناس إلى شيء أكثر حاجة كان وجوده أكثر والعلم به أظهر، فمن الجهل كون الإنسان يذهب إلى الأذكار الأخرى التي هي مفضولة ويترك هذا الذكر.
وفي هذا الحديث أن الذاكر يأتي بها كلها، فيقول: (لا إله إلا الله)، ولا يقتصر على قول (الله) كما يقوله بعض الناس.
قال بعض العلماء: قول: (الله) هذا ليس ذكراً.
فكون الإنسان يقول: (الله الله) ليس ذكراً؛ لأنه لا يفيد شيئاً، وكذلك كون الإنسان يقول -كما يقول بعض الضلال-: (هو هو)، فيقولون أولاً: (لا إله إلا الله)، ثم يتدرجون فيسقطون بعضها إلى أن يصلوا إلى كلمة (هو هو).
وقد ألف ابن عربي الصوفي المحترق كتاباً سماه (كتاب الهو)، يعني أن الإنسان يذكر بهذا الكلام (هو)، ويزعم أن هذا هو الأفضل؛ لأنك تجعل لسانك لا ينطق إلا بكلمة (هو)، فهي عبارة عن أنك نزهت لسانك عن كل ما هو حشو، وهذا ضلال، وإنما يجب على الإنسان أن يقولها كاملة تامة مفيدة؛ لأنها وضعت لنفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، أما إذا ترك بعضها فإن هذا المعنى يضيع ويذهب ولا يدل على ذلك، والفضل جاء من هذا المعنى، من كونها نفت الإلهية عن غير الله وأثبتتها لله جل وعلا، وهذا لا يكون إلا على هذا الترتيب (لا إله إلا الله).
ولهذا صارت هي أصل الدين وأساسه، ولا يقبل من إنسان الدين إلا إذا تكلم بها، ومعلوم أنه لابد من فهمها حتى يحصل الإنسان على فضلها، فلابد أن يفهم معناها وأن يطبقها عملاً واعتقاداً، وهي مبنية على كون التأله يكون لله وحده، ولا يكون التأله لغيره جل وعلا، وأن كل تأله جعل لغير الله يكون محبطاً للعمل لأنه هو الشرك.
فهي بنيت على النفي والإثبات، نفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، وهذا هو أصل دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول يأتي إلى قومه يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، ومعلوم أن الإنسان لا ينفك عن التأله، فإن لم يكن تألهه لمولاه الذي لا غنى له عنه صار تألهه لمخلوق مثله ولابد، فيصير تألهه لمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً؛ لأن الإنسان عبد خلقه الله عبداً، فلابد أن يكون عبداً، فإن لم يكن عبداً لله كان عبداً للشياطين شياطين الجن والإنس، أو كان عبداً لشهواته ومرادات نفسه.
ثم إنه يجب أن يعرف معنى (الإله) ومعنى (العبادة)، فالإله الذي تألهه القلوب تعظيماً وخوفاً وحباً ورجاءً وإنابة، وأنه هو الذي يملك ما يحتاج إليه العبد في الدنيا والآخرة، وأن غيره فقير إلى الله جل وعلا، فمهما أعطي من أمور الدنيا أو من القوة أو من غيرها فإنه فقير، فيجب ألا يكون له شيء من حقوق الله، ثم إن التأله خاص بالله جل وعلا، لا يجوز أن يكون لنبي ولا لملك ولا لولي.
ولهذا صارت هذه الكلمة هي أصل الإسلام ومعناه الذي تبنى عليه جميع الأعمال، ومن هنا صارت أعظم كلمة، وصار الناس إلى معرفة معناها والعمل بها أحوج منهم إلى الأكل والشرب الذي إذا فقدوه ماتوا؛ لأن الإنسان إذا فقد ما يحتاجه بدنه صار أمره إلى أن يموت في هذه الحياة، ولكن إذا فقد التأله لله جل وعلا مات موتاً لا ترجى معه سعادة، موتاً يؤديه إلى الشقاوة الأبدية ليكون خالداً في النار؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وإنما خلق ليبقى، إلا أنه ينتقل من دار إلى أخرى حتى يصل إلى داره الأبدية، إما في الجنة أو في النار.(13/6)
أصل العبادة وتقسيم الدعاء
قول موسى عليه السلام: (أذكرك وأدعوك به) فسره الشارح بأن معنى: (أذكرك) أثني عليك به.
و (أدعوك) أسألك.
فجعل الذكر ثناءً وجعل الدعاء سؤالاً، والواقع أن هذا هو العبادة؛ لأن العبادة لا تخرج عن الثناء والمسألة، والثناء -الذي هو ذكر الله- سواءٌ أكان باللسان أم بالأركان هو في الواقع سؤال؛ لأن العبد يفعل ذلك رجاء الإثابة وهرباً من العذاب والعقاب، فإذا صلى أو تصدق فمعنى ذلك أنه يذكر الله بهذا الفعل حتى يثاب على ذلك، أما إذا سأل فهو يسأل شيئاً معيناً، سواءٌ أكان من أمور الدنيا أم الآخرة.
فإذاً العبادة كلها لا تخرج عن الذكر والدعاء، عن كون الإنسان يذكر ربه بأن يفعل ما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه راجياً بذلك ثوابه وخائفاً -لو لم يفعل ذلك- من عقابه، أو أنه يظهر حاجاته وفقره، فيسأل سؤالاً معيناً سواءٌ من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة.
فهذا هي العبادة التي يجب أن تكون لله وحده خالصة ليس لأحد فيها شيء، ولهذا قسم العلماء الدعاء إلى قسمين: قسم يكون دعاء عبادة، وقسم يكون دعاء مسألة، فأما دعاء العبادة فهو شامل عام يدخل فيه ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة والصوم والحج وسائر العبادات؛ لأن الإنسان لا يفعل هذه الأفعال إلا ويرجو ربه أن يثيبه على ذلك، ويخاف منه أنه لو لم يفعل ذلك عاقبه.
أما دعاء المسألة فهو أن يسأل شيئاً معيناً، مثل الجنة، ومثل الرزق، ومثل الولد، ومثل النصر على الأعداء، ومثل العلم وما أشبه ذلك، فكل شيء تسأله فهو دعاء مسألة، وكلاهما جاء القرآن به، قال الله جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فقيل في تفسيرها: اسألوني أعطكم.
وقال بعضهم: اعبدوني أزدكم.
فالذي قال: المعنى اعبدوني أزدكم معناه أنه يقول: هذا الدعاء -دعاء العبادة- يدخل فيه كل فعل يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله إذا كان قد شرع.
والذي قال: المعنى: سلوني أجبكم معناه أنه جعله دعاء مسألة.
والواقع أن الآية تشمل هذا وهذا، أي: أنها تدل على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكذلك غيرها مما جاء في القرآن، ومثله هذا الحديث: (اذكرك وادعوك به) يعني: أتعبد به لك خوفاً من عذابك ورجاء لثوابك الذي تعطيه من عبدك، وأما (أدعوك) فمعناه أني إذا احتجت إلى شيء معين أتوسل به إليك حتى أنال مقصودي، فهو كله عبادة، إلا أن دعاء المسألة أخص من الذكر وأخص من دعاء العبادة.(13/7)
حاجة البشر إلى كلمة التوحيد
وقوله: (يا رب كل عبادك يقول هذا) روي بلفظ (يقولون) و (يقول)، وكلاهما جارٍ على القواعد العربية؛ لأن لفظة (كل) تدل على العموم، فإذا قال: (يقولون) فهو لمراعاة هذا المعنى، وإذا قال: (يقول) فهو مراعاة للفظ (كل)؛ لأن لفظها مفرد، فراعى لفظها معرضاً عن معناها، وكل هذا جائز لغة، ولكن المقصود المعنى، والمعنى أن كل عبادك يعرف هذا ويدعوك به ويذكرك به، فأنا أريد شيئاً اختص به لا يعرفه أكثر خلقك أو كلهم تخصني به.
فهذا الذي قصده، ولهذا جاء صريحاً في بعض الروايات أنه قال: أريد شيئاً تخصني به.
ومعلوم أن الإنسان يفرح بالشيء الذي يختص به دون غيره، ولكن هذا الذكر وهذا الدعاء ما أحد يستغني عنه، وهو أفضل من كل ذكر يذكر الإنسان ربه به مع حاجته إليه.
ولهذا يقال بناءً على هذا: إن هذا يدل على أن أنبياء الله وأولياء الله يحتاجون إلى التنبيه إلى فضل هذه الكلمة وعظمها، لهذا كان فيه تنبيه لموسى عليه السلام إلى عظم هذه الكلمة، فكيف بمن عداه؟! كيف بالذين قد لا يفهمون حتى المعاني اللغوية التي دلت عليها فضلاً عن المعاني الشرعية التي جاءت بها الرسل بهذه الكلمة؟ فإنها تتطلب دراسة وبحثاً وفهماً لدعوة الرسل وما جاؤوا به.(13/8)
أسماء الله وصفاته وتقسيماتها
ثم إن هذا أيضاً يدلنا على أن الله جل وعلا يسأل ويعبد بأسمائه وأوصافه التي يتوسل بها إليه حتى يرضى وحتى يعفو عن السيئات ويثيب، ويدلنا أيضاً على أن أسماءه وأوصافه تعالى لا حصر لها، وأن منها ما يعلمه العباد ومنها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاء هذا المعنى واضحاً في بعض الأحاديث، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد وغيره حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصيبه هم ولا غم فيقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم نور صدري) إلى آخره.
فجعل أسماءه تعالى ثلاثة أقسام: قسم علمه من يشاء من خلقه، وقسم أنزله في كتبه؛ لأن قوله: (أو أنزلته في كتابك) المقصود فيه بـ (كتابك) اسم الجنس، يعني: كتبك التي أنزلتها على رسلك وقسم لم يعلمه أحداً من خلقه ولم ينزله في كتبه، بل استأثر به في علم الغيب عنده.
فموسى عليه السلام يطلب من هذا القسم، ومن هذا النوع الذي استأثر الله جل وعلا به في علم الغيب عنده ما يخصه به، فأرشده الله جل وعلا إلى عظم هذه الكلمة التي هي معروفة لكل أحد، معروفة اللفظ، أما المعنى فالإنسان يحتاج إلى إدراك معناها وإلى تفهمه وإلى معرفته حتى يعمل به، فمن كان لمعناها أعرف وله ألزم وأكثر عملاً فهو أقرب إلى الله وأرفع درجة عنده، وهو من الذين يسبقون إلى الجنة ويدخلونها بغير حساب؛ لأن هذا هو تحقيق التوحيد كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)، إلى هنا انتهى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، ورواه الترمذي وأهل السنن والإمام أحمد وغيرهم، ثم سردوا تسعةً وتسعين اسماً، والحفاظ يقولون: إن سرد الأسماء مدرج، وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الإدراج أن يكون كلاماً من الراوي أدخله في الحديث فيتوهم السامع أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس منه.
وقد يقول بعض من لم يفهم الفهم الذي يجب: إن هذا يدل على أن أسماء الله جل وعلا تسعة وتسعين والواقع أنه لا يدل على حصر أسماء الله جل وعلا في تسعة وتسعين، وإنما يدل نصاً على أن لله هذه الأسماء، فمن أحصاها وعبد الله بها فإن الله يعده بأن يدخله الجنة، ومعنى إحصائها إطاقة العمل بها على القول الصواب الصحيح، كما قال الله جل وعلا في كتابه: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] يعني: تطيقون العمل به.
وأما كون الإنسان يحفظها مجرد حفظ فهذا لا يكفي، وقد قال البخاري بعد إخراجه هذا الحديث: أحصاها: حفظها.
ولكن ليس المراد مجرد الحفظ، وإنما المراد الحفظ مع معرفة المعنى وسؤال الله جل وعلا وعبادته بها حتى يحصل على هذا الموعود، وليس هذا المقصود من ذكره، وإنما المقصود من ذكره أنه لا يتعارض مع ما قلنا في مفهوم هذا الحديث من أنه يدل على أن لله جل وعلا أسماء وأوصافاً لا حصر لها؛ لأن موسى عليه السلام طلب شيئاً يخص به لم ينزل عليه في التوراة، وقد أعلمه الله جل وعلا ما أنزله عليه في كتابه، وكذلك أعلمه ما يشاء مما لم ينزله عليه في التوراة مما أنزله على أنبيائه السابقين.
وإنما معنى هذا الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) أن الإنسان إذا حفظ هذه الأسماء وعبد الله جل وعلا بها فإنه موعود بدخول الجنة، ولا يدل على أن الله جل وعلا حصرت أسماؤه في تسعة وتسعين، فهذا مثل ما لو قال القائل: عندي مائة ألف أعددتها للجهاد في سبيل الله أو للدعوة إلى الله.
أو قال: عندي مائة كتاب أعددتها للمطالعة أو العارية، فما ينافي أن يكون عنده غيرها، إنما يذكر هذا الشيء للغرض الذي بينه، وهو الجهاد أو الدعوة أو الإعارة.
كذلك هذا الحديث معناه أن من تعبد الله جل وعلا بالتسعة والتسعين اسماً فإنه موعود بدخول الجنة، فهذا المقصود، وليس المقصود حصر الأسماء؛ فإن أسماء الله لا حصر لها.(13/9)
كلمة التوحيد مع الإخلاص منجاة لصاحبها من النار
ثم في هذا الحديث من المعاني ما يدل -فضلاً على ما تقدم- على عظم هذه الكلمة، وأن المخلوقات كلها لو وضعت في كفة ميزان مَنْ في السماوات ومن في الأرض، ثم وضعت هذه الكلمة في كفة أخرى لرجحت هذه الكلمة، ولكن ليس من كل أحد، وإنما ممن قالها صادقاً مخلصاً موقناً عالماً عاملاً بما تقتضيه وتدل عليه، فإذا صدرت ممن هذه صفته فلا يقاومها شيء.
وقد جاء في سنن الترمذي، وفي المسند، وغيرهما كصحيح ابن حبان، وغيرها من كتب الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبره أنه يصاح برجل من أمته يوم القيامة على رؤوس الناس وهم مجموعون في مكان واحد، يعني يدعى باسمه: يا فلان بن فلان! هلم تعال.
فيأتي والناس ينظرون إليه.
وإتيانه هنا إما أن يكون فضيحة يفضح بها على رؤوس الناس، أو يكون شرفاً وذكراً وفضلاً وسعادة يسعد بها تنشر في العالم كله من أولهم إلى آخرهم، فيؤتى به، فإذا حضر بين يدي الله نشر له تسعة وتسعون سجلاً، والسجل كتاب مسجل عليه، أي: تسعة وتسعون كتاباً، وأما كبره وطوله فالله أعلم.
فيقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ -وكل أعماله سيئات من أولها إلى آخرها- فيقول: لا يا رب، هذه أعمالي.
فيقول الله جل وعلا له: أظلمتك الكتبة؟ فيقول: لا يا رب.
فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا.
فيقول الله جل وعلا له: ألك حسنة؟ فيهاب ويقول: لا.
فيقول الله جل وعلا: بلى.
إن لك عندنا حسنة واحدة فيخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها: أشهد ألا إله إلا الله.
فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة أمام هذه السجلات -أي ماذا تصنع-؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً.
ويؤتى بالميزان فتوضع السجلات في كفة الميزان وتوضع البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش السجلات وترتفع وتثقل البطاقة بهذه السجلات الكثيرة، فهي كلمة واحدة رجحت بهذه السئات المسجلة في تسعة وتسعين كتاباً كل كتاب مملوء.
وهذا يكون لأفراد، ويجوز ألا يكون لرجل واحد، فيكون له نظراء على هذا المنوال، ولكن قد صحت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ويبقى فيها وقتاً طويلاً وهو في النار تأكله، ومنهم من يكون حمماً يحترق فيها، ومنهم من يبقى أثر السجود لا تأكله النار، وكل أهل الإسلام واتباع الرسل يقولون هذه الكلمة، وكثير منهم يدخلون النار مع قولهم هذه الكلمة، وخروجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ومنهم من تأخذه النار إلى كعبيه فقط، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حقويه، ومنهم من تأخذه النار إلى ثدييه، ومنهم من تأخذه إلى رأسه وترقوته، ومنهم من يكون في النار في غمرات النار مغموراً فيها، وكله على تفاوت الأعمال، وكلهم يقولون: (لا إله إلا الله)؛ لأن الذي لا يقولوها لا يكون مسلماً أصلاً.
ثم إخراجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمنهم من يغمس فيها غمسة ويخرج، ومنهم من يبقى مدة طويلة كعمر الدنيا منذ خلقت إلى أن تنتهي، ومنهم من هو أقل من ذلك، حسب جرائمهم مع قولهم هذه الكلمة، فدل هذا على تفاوت الناس في قولها، وكل التفاوت يرجع إلى ما يكون في القلوب من العلم واليقين والإخلاص، ويتبع ما في القلب العمل.
فالذي يقولها بعلم وصدق وإخلاص ومحبة وقبول واستسلام لا يمكن أن يكون محباً لمعصية أو مخالفاً لأمر الله وهو يقدر، أو تاركاً لواجب من واجبات الله وهو يستطيعه، بخلاف الذي يقولها بلسانه؛ فإنه قد يقولها وهو يشرب الخمر، وقد يقولها وهو يزني، وقد يقولها وهو يأكل أموال الناس بالإثم والباطل، ويقولها وهو يحارب أولياء الله وربما يشتمهم ويلعنهم، إلى غير ذلك.
فالمقصود أن معرفة هذه الكلمة والعمل بما دلت عليه هو الذي يتفاوت فيه أهل الإسلام في الدرجات يوم القيامة، وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه أن أهل الجنة أقسام ثلاثة: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، فقال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، ففُسر الظالم لنفسه بمن يفعل بعض المنكرات ويترك بعض الواجبات، فيفعل بعض المحرمات التي حرمت عليه ويترك بعض ما أوجبه الله عليه، ولكنه ملتزم بـ (لا إله إلا الله ومعناها)، ولكنه مقصر في الفهم والعلم والعمل، فهذا ظالم لنفسه.
والقسم الثاني: المقتصد.
والمقتصد هو الذي اقتصر على فعل ما أوجبه الله عليه وامتنع عن فعل ما حرمه الله عليه، ولم يتقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل والمستحبات وباجتناب المكروهات، بل يفعل المكروه ولا يفعل المستحب، فاقتصر على فعل الواجب وترك المحرم، ومثاله الذي يقيم الصلوات الخمس ويؤدي زكاة ماله بعد كونه لا يعبد غير الله، ويصوم شهر رمضان فقط، وحج في عمره مرة واحدة فقط.
فإذا تمسك بهذه الأمور الخمسة التي هي أركان الإسلام الخمسة فهو من أهل الجنة بلا شك، ولكن تفوته الدرجات في الجنة؛ لأن الدرجات تقتسم بالأعمال، فمن كان عمله أزكى وأكثر فدرجته أرفع عند الله جل وعلا، ولا يجوز للمسلم أن ينافس غيره في الدنيا في المال وأمور الدنيا، أو العمارات وحسنها، أو السيارات، أو ما أشبه ذلك فلا يريد أن يكون غيره أحسن منه بيتاً، ولا أكثر منه مالاً، ولا أحسن منه مركباً وما أشبه ذلك ويترك منافسة المؤمنين في الدرجات العالية يوم القيامة، فهذا لا ينبغي، وهذا من الخسارة.
أما القسم الثالث فهم الذين يسبقون إلى الدرجات العالية، بأن يتقربوا إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل التي لم تجب، ويتقربون إليه جل وعلا بعد اجتناب المحرمات باجتناب المكروهات التي يخشى أحدهم أنه يكون فيها مترخصاً أو متبعاً نفسه شهواتها ولو في بعض الأشياء.
وقد جاء عن السلف تحذيرهم من كون الإنسان يتتبع الشهوات وإن كانت مباحة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يشتري لحماً فقال: أوكلما اشتهيتم شيئاً اشتريتموه؟! لقد ذكر الله قوماً فنعى عليهم بأنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
أما إذا خرج الناس عن هذه الأقسام الثلاثة فمعنى ذلك أنهم من أهل النار، فالظالم لنفسه ليس معنى ذلك أنه يدخل الجنة من أول وهلة، بل إما أن يعذب في الدنيا فيكون ذلك كفارة له، كأن يصاب بمصائب وكوارث تكفر عنه، وهذا من حظه إذا حصل له ذلك، وأما إذا لم يصب في الدنيا فقد تكون مصائبه في القبر بأن يعذب في قبره، وقد لا يكفي تعذيبه في قبره فيمتد العذاب إلى أن يبعث، ثم يعذب في الموقف وشدائده؛ لأن الوقوف في الموقف يتفاوت على حسب أعمال الناس، فمنهم من يكون عليه كألف سنة، ومنهم من يكون عليه كخمسين ألف سنة وهو واقف على قدميه، ومن يطيق هذا؟ فهو وقوف لا يوجد معه جلوس، ومع ذلك هو عريان ليس عليه ثوب ولا نعال، ولا هناك ظل يستظل به، والشمس واقفة فوق رأسه، ومنهم من يكون وقوفه كأنه ساعة، والعجيب أن منهم من يأكل ويشرب والناس في شقاء وفي عذاب.
فتفاوت الناس في الموقف أمره على حسب أعمالهم، ثم منهم من لا يكفيه ذلك، فلابد أن يدخل النار ويطهر؛ لأن هذه الأمور التي مرت عليه وهذه النيران نار عذاب القبر ونار الموقف ما كفت في تطهيره، فلابد أن يدخل جهنم حتى يطهر وتأكل الخبث منه، فكل الخبث الذي في جسده تأكله النار حتى يخلص ويكون صالحاً لدخول الجنة، ثم بعد ذلك يخرج، والأمر ليس سهلاً، الأمر صعب جداً، ولكن في الواقع كأننا لا نعنى بذلك، فكأن المعني غيرنا، وكأننا خلقنا لشيء آخر وإنما يراد بذلك قوم آخرون، وكما قيل: ستعرف إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار فهل أنت شقي أو سعيد؟ وهذا قريب جداً، وما بين الإنسان وبينه إلا أن يقال: مات فلان.
وما أقرب ذلك، فإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته؛ لأن عمره الذي يكتسب به العمل انقطع وانتهى، ولهذا كان السلف يبكون البكاء الشديد المر المؤلم الذي يمنعهم من الأكل والشرب والنوم، ويقول أحدهم: أنا خلقت للجنة أو النار فما أدري ما مصيري.
ويقول آخر: إني عبارة عن أنفاس وأيام، فإذا انقضت انقضى عملي، فمن يصلي لي؟ ومن يذكر عني؟ ومن يدعو الله عني؟ لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فلابد للإنسان أن يفكر في هذه الأمور، ولهذا يقول لنا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار)، ولابد لنا منهما، لابد لنا من واحدة منهما، فهل نصل إلى الجنة سالمين أو نحبس في جهنم أبد الآبدين؟ العلم عند الله، والإنسان لا يستطيع أن يعمل لنفسه على حسب إرادته، فلابد أن يتعلق بالله جل وعلا ويسأله دائماً بفقر وإلحاح وحاجة لا ينفك عنها أبداً.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أخف أهل النار عذاباً الذي يبقى في النار أبداً، وهو رجل يجعل في أخمصه جمرة من النار يغلي منها دماغه، فهذا هو أخف أهل النار عذاباً، فيطأ على جمرة من جمرات جهنم ولكنه يغلي من هذه الجمرة دماغه، وهو أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء إحاطته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه، ولكنه لا يخرج من النار، ويرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، فهو في نفسه يرى أنه أشد أهل النار عذاباً وهو أهونهم عذاباً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً -نسأل الله العافية- فكيف بالذي يكون في طبقات جهنم؟ قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1 - 9].
أي: مغلقة الأبواب، وموضوع عليها عمد من حديد ممددة فهي أعمدة من حديد، فهل يستطيعون أن يخرجوا من الأبواب؟ أبداً.
ولو لم توضع هذه الأعمدة، ولكن نكالاً وإبلاغاً في النكاية بهم(13/10)
علو الله تعالى وملكه وعظمته
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات، أي: لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان، و (لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله].
هذا أيضاً يدلنا على أن السماوات فيها عمار، أي: عباد يعبدون الله جل وعلا ويعمرونها بالعبادة لأن عمارة السموات والأرض بالعبادة، أما المعاصي فهي إفساد في الأرض، كما قال الله جل وعلا عن أهل المعاصي: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152]، وهذا عجيب؛ لأن غير العقلاء لا يعصون الله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الشجر والدواب والجبال تسجد لله، وأن كثيراً من الناس حق عليهم العذاب، فأهل العقل والفكر هم الذين يتنكرون لله جل وعلا ويعرضون عن عبادته، فعمارة الأرض هي بعبادة الله جل وعلا واتباع وحيه واجتناب مناهيه.
ويدلنا أيضاً على أن ربنا جل وعلا في السماء، ومعنى كونه في السماء أنه في العلو، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في السفل تعالى وتقدس.
فالسماء إذا جاءت في مثل هذا الكلام فإما أن يراد بها السماء المبنية التي هي السبع الطقات التي ذكر الله جل وعلا أن لكل واحدة منهن مكاناً معيناً، وبينها وبين التي تليها مسافة معينة وفضاء، وأن فيها عماراً يعمرونها بامتثال أمر الله وفعل ما أمروا به.
وإما أن يراد بها مجرد العلو، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: من في العلو.
فهذا معناه، وليس (في) هنا تدل على الظرفية، كقول القائل: الماء في الإناء.
قوله: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) الله جل وعلا يعمر كل شيء، بمعنى أنه هو الذي أوجده، وهو الذي يقوم على مصالحه، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات) يعني أنه قام خطيباً، وهذه عادته صلوات الله وسلامه عليه، فيعلم أصحابه الأصول والكلمات الجامعة البليغة، ولا يزيدهم كثيراً، وهنا قام فيهم خطيباً بخمس كلمات فقط، فقال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلق)، فهو القائم على خلقه بما يصلحهم، وهو الذي يقيم السماوات والأرض، فهو قيوم السموات والأرض، ولو أراد إذهاب السماء ومن فيها بلحظة فعل، ولو أراد تغييرها إلى ما يشاء فعل، ولكنه أقامها على هذا الوضع المعين المنسق المتقن الذي لا يختل حتى يشاء جل وعلا، وليس الملائكة ولا غيرهم ولا الطبيعة ولا غير ذلك، فهو جل وعلا فوق، وهو مستوٍ على عرشه، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:54].
يعني أنه يتصرف في الكون كله حسب إرادته جل وعلا، فهو القائم على كل شيء بما يصلحه، السماء وما فيها والأرض وما فيها، فاستثنى نفسه في هذا الحديث.
فنص على أن السموات سبع، ثم استثنى نفسه فقال: (غيري)؛ لأنه جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يقاس بشيء من خلقه، وإن كان هذا من صفاته، أي: قول (لا إله إلا الله) من صفاته التي يستحقها، فليس مخلوقاً، وإنما المخلوق عمل الإنسان، فعمل الإنسان هو المخلوق، ولو وضعت كل المخلوقات في مكان لكانت صغيرة حقيرة بجانب الله جل وعلا، وقد جاء قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، يعني: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حقه حق المعرفة، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
فيوم القيامة يفعل ذلك، وإلا فلو شاء لقبض كل مخلوقاته بيده السموات والأرض ومن فيهما وصارت بيده كلها صغيرة حقيرة ليست بشيء، وعلى هذا فكيف يسوغ لإنسان أن يقول في مثل قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4]: إنه معنا في البيوت وفي الأرض وفي الأمكنة؟ تعالى الله وتقدس، فهل هذا عرف الله؟ كلا -والله- لم يعرفه، فضلاً عن أن يقدره حق قدره.
فالله جل وعلا لا يعرفه من لم يتعرف عليه بأوصافه التي وصف بها نفسه، أما إذا رجع إلى فكره أو إلى شيخه أو إلى ما تلقاه ممن هو نظير له فلن يعرف الله أبداً؛ لأن العقل لا يوصله إلى هذا، وكذلك الأفكار البشرية لن توصله إلى هذا، وإنما هذا يكون من الله جل وعلا، قال تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، فالله جل وعلا هو الذي يجب أن يكون الإنسان متبعاً لقوله، ويتعرف على ربه بما عرف به نفسه وتعرف به إلى عباده.
فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل إلى السماء الدنيا فبسط يده وقال: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ هل من تائب فيتاب عليه؟)، فمن يقول: هذا النزول معناه عبارة عن نزول أمره أو نزول رحمته أو نزول ملك من الملائكة من يقول ذلك لم يعرف به.
وكذلك إذا سمع قول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] قال: (يأتي) أي: يأتي أمره وقضاؤه، أو يأتي حكمه، أو يأتي ملكه، أو ما أشبه ذلك، أما إتيانه فهو مستحيل؛ لأن الانتقال من مكان إلى مكان من خواص الأجسام هكذا يقول، فنقول: هل عرف هذا ربه؟ كلا والله، الذي يقول هذا القول لم يعرف ربه، لم يعرف إلا الرب الذي يعتقده هو، فليس هو الله، أما لو تعرف على الله لعلم أنه ينزل وهو على عرشه، ويأتي يوم القيامة وهو فوق كل شيء، وأنه لا يمكن أن تكون سماء تظله أو تقله تعالى وتقدس، بل هو أكبر وأعظم من كل شيء؛ حيث إنه جل وعلا يقبض جميع مخلوقاته بيده، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]: قبض السماوات السبع والأراضين ومن فيهن بيمينه، وبقيت يده الأخرى فارغة ليس فيها شيء، وإنما يستعين بيده الأخرى من شغلت إحدى يديه، هكذا جاء عنه رضي الله عنه وهو حبر الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا هذا ووضحه، فيجب على الإنسان أن يؤمن بربه وفق ما أخبر عن نفسه وأخبرت عنه رسله وإلا زل وضل.
فقوله هنا: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) استثنى نفسه لأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يكون المخلوقات كلها بالنسبة إلى الله شيئاً أبداً.(13/11)
الميزان حق يجب الإيمان به
ويدلنا هذا على أن الميزان له كفتان، وله لسان كذلك، وهذا اللسان يعرف به ميل أحد الكفتين ورجحانها بالأخرى، وأن الأعمال توضع فيه، وقد جاءت الأحاديث دالة على أن الأعمال توضع فيه، وجاءت أحاديث أخرى تدل على أن الإنسان نفسه يوزن، فيجوز أن يكون هذا وهذا، ثم لسنا بحاجة أن نقول: إن الأعمال تقلب وتجعل أجساداً حتى تظهر مشاهدة في الميزان، لسنا بحاجة إلى هذا، فأمور الآخرة -والله على كل شيء قدير- على خلاف المعهود لنا، ويكفينا أن نعلم أن الأعمال توضع في الميزان، وأنها توزن، كما قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]، فلابد من الوزن، ولهذا ينص العلماء على وجوب الإيمان بالميزان في عقائدهم، والسبب في هذا أن بعض أهل البدع أنكر ذلك، وإلا فالعقائد يجب أن تكون مشتملة على كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس معنى كونهم نصوا على مسألة معينة وتركوا الأخرى أن هذه أهم، أو أن هذه يجب اعتقادها وتلك لا يجب، ولكن العلماء هذه طريقتهم، فإذا أُنكِر شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نصوا عليه في العقائد.
ولهذا تجد في كثير من كتب العقائد أنهم ينصون على أن المسح على الخفين سنة؛ لأن بعض أهل البدع أنكر ذلك فنصوا عليه، وهكذا الميزان، وهكذا حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والصراط؛ لأن بعض أهل البدع أنكر هذه الأشياء فنصوا عليها، وإلا فالواجب أن يعتقد الإنسان كل ما جاء به الوحي، سواءٌ أكان في كتاب الله، أم ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا غير القرآن، وكل ما يلقى إليه وما يقوله صلوات الله وسلامه عليه فهو وحي، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].(13/12)
تفاضل القلوب في اعتقاد كلمة التوحيد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بـ (لا إله إلا الله)؛ فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله)، وقوله: (في كِفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي: كفة الميزان.
وقوله: (مالت بهن) أي: رجحت.
وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، فتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك فهذه الحسنة لا يوازنها شيء، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، ودل الحديث على أن (لا إله إلا الله) أفضل الذكر، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضاً مرفوعا: (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيء؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب.
فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا.
فيقال: بلى.
إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم.
فيخرج له بطاقة، فيقول: يا رب! ما هذه مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً.
فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم.
فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) رواه الترمذي وحسنه، والنسائى، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.
قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه.
قوله: رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه محمد بن حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أحمد بن حبان بن معاذ أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك، قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال.
مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست -بضم الموحدة وسكون المهملة-، وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بـ ابن الربيع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة].(13/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [14]
من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب المغفرة، وقبول دعاء الداعي ورجاء الراجي مهما كان ذنبه عظيماً، ومن رحمته بهم أن جعل التوحيد سبباً للنجاة من النار يوم القيامة، إما نجاة أولية بحيث إن الموحِّد لا يدخلها، وإما أن يعذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة، وبهذا فارق أهل التوحيد أهلَ الشرك.(14/1)
حديث قدسي في المغفرة ودلالاته(14/2)
الاستغفار والرجاء عبادتان تكفران الذنوب
قال المصنف رحمه الله: [وللترمذي -وحسنه- عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا بن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)].
في هذا الحديث حديث أنس يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا أنه قال: (يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، وأول هذا الحديث: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)، و (قراب الأرض): ملؤها أو قرب ملئها.
وهذا على سبيل الفرض، فلو أن إنساناً تحمل من الذنوب والخطايا ما يملأ الأرض ثم استغفر ربه ومات ولم يشرك بالله شيئاً فإن الله يغفر له مغفرة أوسع من ذنوبه وأكثر وأعظم، فمعنى (لقيتك بقرابها مغفرة): قابلتك بأكثر من ذنوبك مغفرة وأعظم مغفرة وهذا معلق بالاستغفار والرجاء، والاستغفار المقصود به التوبة، أي أن الإنسان يتوب إلى الله جل وعلا، والتوبة لابد فيها من ترك الذنب حسب الاستطاعة، والعزم على أنه لا يعود إليه، والندم على كونه وقع فيه، وأن يعزم في قلبه على أنه يطيع الله جل وعلا ولا يعود إلى ذلك الذنب، فهذا هو الاستغفار المقصود هنا.
وأما كونه يرجو فمعنى ذلك أنه أيضاً عبادة تتعلق بقلبه من رجاء الله جل وعلا وكونه جل وعلا واسع المغفرة، وأن رحمته وسعت كل شيء، فيتعلق بهذا، ويكون رجاؤه في ذلك أعظم من خوفه من ذنوبه، فيرجو الله جل وعلا أعظم من خوفه من أن الله يعاقبه على ذنوبه، فيلقى الله على هذه الحال، فإذا لقيه على هذه الحال فإن الله جل وعلا يغفر له مهما كانت ذنوبه بشرط أن يكون غير مشرك.(14/3)
الشرك وتقسيماته والموجب منه للخلود في النار
قوله: (يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)، معنى قوله: (لا تشرك بي شيئاً)، أنه ليس هناك شرك معه قليل ولا كثير، ولا كبير ولا صغير.
فهو شرط صعب في الواقع؛ لأن الذي يسلم من الشرك قليله وكثيره وكبيره وصغيره هو القلب السليم الذي أخبر الله جل وعلا أنه في يوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم سالم من الشرك، سالم من عبادة غير الله، مستسلم لله منقاد له، ولكن الشرك ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر كعبادة غير الله مع الله العبادة الظاهرة، فهذا لا ينفع معه عمل، وإذا مات الإنسان عليه فمقطوع بأنه في النار وخالدٌ فيها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل الشرك غير مغفور وغير قابل للمغفرة، وأما ما عداه فعلقه بمشيئته، فإذا شاء أن يغفره غفره وإذا شاء أن يؤاخذ عليه أخذ عليه وعاقب، ولكن تكون هذه صفته، فمآله إلى الجنة ولو عوقب ولو أدخل النار.
فهو بعد يخرج ويدخل الجنة، وهذا يرجى له الخير؛ لأن الذي لا يرجى له خير أصلاً هو الذي يموت مشركاً، فإنه يبقى في النار أبداً ما دامت السموات والأرض.
القسم الثاني: شرك أصغر.
والشرك الأصغر مثل قليل الرياء، مثل كون الإنسان يدخل في عمله شيئاً مما ينويه للدنيا، ولكن في بعضه ليس كله، فلا يكون العمل من أصله مقصوداً به شيء من الدنيا، ومثل الحلف بغير الله، ومثل قول الرجل: لولا الله وفلان.
وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن إسناد الأعمال والأفعال والحوادث إلى أسبابها التي جعلها الله سبباً في وجودها من الشرك الأصغر.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل قابله بقوله: ما شاء الله وشئت.
فقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، مع أنه له مشيئة يتصرف فيها حسب ما أعطاه الله جل وعلا ذلك، فهذا الشرك الأصغر لا يخلو إما أن يكون كثيراً يتجمع عند الإنسان بكثرة فإذا وزن مع حسناته رجح على حسناته فهذا يدخل النار، ويكون من أهل النار، ولكن لا يخلد فيها، أو يكون الشرك الأصغر قليلاً وحسناته أغلب وأكثر، فمثل هذا يغفر له، ولكن المغفرة معلقة بمشيئة الله إن شاء أن يغفر غفر وإن شاء أن يأخذ بالذنب أخذ وعاقب، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة.
وقد قال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر لا يغفر منه شيء؛ لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل الشرك عامة غير مغفور، ومعنى هذا القول أن الذي يكون عنده شرك أصغر لابد أن يعاقب، وليس معنى هذا أن الذي يكون عنده شرك أصغر يكون خارجاً من الإسلام ويكون خالداً في النار، لا.
فقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يقول هذا القائل: إنه يقصد به ما عدا الشرك، أما الشرك فإذا كان كبيراً فصاحبه من أهل النار، وإن كان صغيراً فصاحبه معذب، ثم بعد ذلك إذا عذب وهذب يكون من أهل الجنة ولكن القول الأول -والله أعلم- هو الأقرب والأصوب؛ لأنه ما دام أنه بهذا الشرك لم يخرج من الدين الإسلامي فيكون ذنبه هذا مثل سائر الذنوب يوزن مع الحسنات، فإن كانت الحسنات أثقل وأكثر فإنه يكون من أهل السعادة وأهل الفوز، وإن رجحت سيئاته عذب حسب ما عنده من السيئات.(14/4)
الدعاء وفضله وآدابه
وقوله في هذا الحديث -وهو حديث قدسي-: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) يدلنا على أن الدعاء عند الله جل وعلا أمره عظيم، فالدعاء من العبادة التي يحبها الله جل وعلا.
وقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة)، وجاء في حديث آخر: (إن الله يغضب إذا لم يدع)، والله جل وعلا يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فأمر بدعوته، وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] في آيات كثيرة يأمر الله جل وعلا عباده أن يدعوه.
فالدعاء هو الافتقار إلى الله وإظهار الحاجة، أن يظهر الإنسان حاجته إلى ربه بفقره، ويتوسل إليه بفقره، ويطلب غناه وفضله، وأن يكون خاضعاً لربه مقبلاً عليه، وإذا فتح للإنسان باب الدعاء فينبغي أن ينتهز الفرصة؛ فإن الله كريم لا يرد عبده إذا دعاه، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يقولون: إنا لا نهتم للإجابة وإنما نهتم للدعاء فكون الإنسان يفتح له باب الدعاء فيدعو فإن الإجابة قريبة؛ لأن الله وعد عباده بذلك فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وهو لا يخلف وعده جل وعلا، وإن كان الدعاء له آداب وله شروط ينبغي للداعي أن يتعرف عليها وأن يعمل بها.
فقد جاء في الحديث -وهو حديث من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث رأسه مغبرة قدماه يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! فأخذ من هذا الحديث شيء من آداب الدعاء، وهو أن الإنسان يكون مظهراً فقره إلى الله لقوله: (أشعث أغبر)، وأن يكون مظهراً الحاجة والذل والافتقار والتبذل لله جل وعلا.
وقد روي عن بعض السلف أنه كان له ابن أخ في الجهاد، فأسره العدو، وكان الرجل من العلماء الكبار، فظهر بثياب رثة وفي مسكنة، فقيل له: لماذا تصنع هذا؟ فقال: استكين لربي حتى يعطيني مطلبي.
فأطلق قريبه وجاء.
فإذا كان السائل موقناً مقبلاً لم يخالف أمر الله جل وعلا فإن الله يعطيه مسألته، بل إذا سأل الإنسان باضطرار فإنه يجيبه وإن كان بعيداً عن الله جل وعلا، ولهذا يقول جل وعلا للكفار الذين يحتج عليهم بأن شركهم غير مقبول شرعاً ولا عقلاً ولا وضعاً، يقول جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، يعني أنكم أنتم المشركون تعرفون ذلك، أن الذي يجيب المضطر ويكشف السوء هو الله وحده.
وهذا يدلنا على أن كل عبد من عباده يقع في ضرورة وفي كرب فيتجه إليه فإنه يجيبه وإن كان بعيداً عن الله جل وعلا.
والمقصود أن هذا من الآداب التي إذا فعلها الإنسان كان حرياً بالإجابة، وهو أن يكون خاشعاً لله خاضعاً له.
الثاني: رفع اليدين إليه جل وعلا، أن يرفع يديه في الطلب.
وقد جاء في الحديث: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده المؤمن أن يرفع يديه إليه فيردهما صفراً) يعني: بلا عطية.
بل إذا رفع يديه أعطاه جل وعلا، ورفع اليدين يكون عند الدعاء العام، أما الأدعية التي جاءت مخصصة ومقيدة مثل الدعاء في صلاة الفرض أو بعد الفرض فهذه يجب أن يتبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجيء أنه رفع يديه في هذه الأماكن، وإنما في النوافل وفي الدعاء عموماً في غير ذلك.
الأمر الثالث: قوله: (يا رب يا رب)، فكونه يسأل ربه بهذا الاسم الكريم ويكرره فإن هذا من أسباب الإجابة، وقد جاء في القرآن -لمن تأمل القرآن- أدعية الرسل الذين ذكر الله قصصهم وغالبها بهذا الاسم الكريم العظيم، وقد قيل: إنه هو اسم الله الأعظم (رب)، فكذلك الله يعلمنا، ويعلمنا ذلك أيضاً في قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى آخر الآية، ففيها التعليم بأن نسأله جل وعلا بهذا الاسم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] إلى آخره.
وكذلك في آخر سورة آل عمران وغيرها كثير في القرآن، فأكثر الأدعية التي جاءت عن الرسل كانت هذا الاسم.
الأمر الرابع الذي يؤخذ من هذا الحديث من آداب الدعاء التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها: اجتنابك للحرام ولبس الحرام لهذا قال: (ومطعمه حرام وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟) يعني: هذا هو المانع من الإجابة، وهو أكل الحرام ولبس الحرام.
فإذا اجتنب الإنسان ذلك فإن دعاءه يستجاب بإذن الله، ثم إنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث صحيح- أن سعداً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة فقال له: (يا سعد! أطب مطعمك تجب دعوتك)، فما سأل له، وإنما أرشده إلى الطريق الذي به إجابة الدعوة، وكان سعد رضي الله عنه مجاب الدعوة، فإذا دعا بدعوة أجيبت.
وكثير من السلف كانت تجاب دعوته حتى وإن كانت في الشيء الذي قد لا يقصده، كما روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه كان له ديك يوقظه لصلاة آخر الليل، فإذا صاح قام، وليس هناك ساعة ولا منبهات، وفي ليلة لم يصح هذا الديك حتى طلع الفجر، فلما نظر وإذا الفجر قد طلع قال: ماله قطع الله عنقه؟ فانقطع عنقه، عند ذلك قالت له والدته: يا بني لا تدع على مسلم.
فالمقصود أن إجابة الدعوة في هذه الأمور وغيرها كثير.
ثم ليعلم الإنسان الداعي أنه إذا دعا ولم تظهر الإجابة لا يجوز له أن يترك الدعاء وأن يقول: دعوت فلم يستجب لي.
أو يقول: إن الله جل وعلا صرف عني الإجابة أو ما أشبه ذلك؛ لأنه قد أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لا يدعو المسلم بدعوة إلا حصل له واحدة من ثلاث خلال: إما أن تعجل دعوته وتستجاب، أو يصرف عنه من البلاء ما هو أعظم من ذلك، أو تدخر له يوم القيامة.
فالداعي على خير على كل حال، وقد يكون الأمر في إجابة الدعوة ليس من مصلحة الداعي -والله أعلم بحال عبده- فيصرف ذلك عنه لمصلحته، وهو العليم الخبير جل وعلا، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان إذا دعا يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي.
فينبغي له أن يوقن بأن الله جل وعلا يعطيه ما فيه الخير، أو يصرف عنه ما هو أعظم، أو يدخر له ذلك.
ثم يتبع الدعاء الرجاء، والرجاء: هو الرغبة فيما عند الله جل وعلا.
وتزيد الرغبة والتعلق به والإقبال عليه وإيقان القلب بأن الله جل وعلا لا يخيب رجاءه، ولهذا جاء إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم لنا بقوله: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وجاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي)، فإذا ظن خيراً لقيه ووجده، وإذا ظن خلاف ذلك وجده، فينبغي أن نعظم الرغبة في الله جل وعلا، ولهذا حرم على الإنسان أن يعلق مسألته بالمشيئة -كما سيأتي- فيقول: يا رب! أعطني كذا إن شئت.
فهذا من المحرمات التي لا يجوز للإنسان أن يفعلها، والسبب قوله صلوات الله وسلامه عليه: (فإن الله لا مكره له)، فإذا أراد أن يفعل شيئاً فعله، فلا حاجة إلى التعليق، فهذا شيء.
الشيء الثاني: أن التعليق يشعر بالاستغناء عن هذا الدعاء، كأن القائل يقول: إن أعطيتني ذلك وإلا فلا يلزم وهذا الذي يستغني عن الله جل وعلا يكون غير عارف بوضعه وبحال نفسه، وغير عالم بالله جل وعلا وبكرمه وجوده، فيجب أن يُعظم الرغبة، وأن يعظم الرجاء في الله جل وعلا، ثم يتبع هذا كله كونه حاضر القلب صادقاً فيما يقول، يواطئ لسانه قلبه، فإن الله جل وعلا لا يستجيب دعاء من قلب لاه غافل يدعو بكلام يتكلم به وقلبه سارح في أماكن أخرى بعيد عما يقوله، فجدواه قليلة، وهذا قد يكون شبيهاً بالهذيان الذي يقوله النائم أو غيره، فالمقصود أن هذه الأمور ينبغي للإنسان أن يعملها، ويثق بأن الدعوة مستجابة، ويعظم الرغبة في الله جل وعلا.(14/5)
ذكر اللقاء ودلالته
قوله في هذا الحديث: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) يقول العلماء: كل ما جاء من هذا النوع في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر لقاء الله، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] وما أشبه ذلك كله يدل على رؤية الله، أن العبد سيرى ربه يوم القيامة، وأنه يقف بين يديه، وقد جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلم ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، فيكلم ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، وهذا خلاف ما يقوله أهل البدع الذين هم في الواقع يتبعون أهواءهم وزعموا أنهم يتبعون عقولهم، ولكن العقول قاصرة لا تغني من الحق شيئاً، وإنما الواجب اتباع كتاب الله وما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (لقيتني لا تشرك بي شيئاً) هذا هو الشرط الذي علق عليه أنه يأتيه بأكثر من ذنوبه مغفرة، ثم هذا أيضاً يكون معلقاً بمشيئته، ولا يقال: يلزم أن يكون مغفوراً له.
بل ذلك معلق بمشيئة الله جل وعلا؛ لأنه قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهذا عام في كل من كان مذنباً ولقي الله بذنوب، فإن الأمر يتعلق بمشيئة الله جل وعلا.(14/6)
عموم المغفرة وعموم شرطها
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر المصنف رحمه الله تعالى الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه، فقال: عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) الحديث، والترمذي اسمه محمد بن عيسى بن سورة -بفتح المهملة- ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع، وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة والبخاري وخلد، ومات سنة تسع وسبعين ومائتين، وأنس هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وقال له: (اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة)، مات سنة اثنتين -وقيل: ثلاث- وتسعين وقد جاوز المائة.
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه: (ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة)، ورواه مسلم وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم].
من المعلوم أن هذا النداء (يا ابن آدم) عام وشامل لكل هذا النوع وهذا الجنس من الناس، فلا يخص قوماً دون آخرين، فكل من جاء بهذا الشرط فاستغفر ودعا ورجا ربه فإن الله جل وعلا يعطيه ما ذكر، وكذلك كل من أتى بالخطايا الكبيرة التي تكون ملء الأرض أو قريباً من ملئها ثم مات غير مشرك بالله فإنه يكون مغفوراً له إذا شاء الله جل وعلا، ثم ليس معنى هذا أنه يلزم أن يكون عدم الشرك طول عمره، بل يكفي أن يكون حال وفاته مات وهو لا يشرك بالله شيئاً، فتاب مما وقع منه توبة صادقة ومات على هذا، وإن لم يعمل أعمالاً صالحة بعد ذلك فإنه يصدق عليه هذا الوعد، بشرط أن يتوب توبة صادقة ويموت غير مشرك بالله جل وعلا، فيشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالصاً صادقاً من قلبه، فمات على هذه الشهادة فإنه يدخل في هذا الوعد وعد الكريم.(14/7)
تفاوت أهل التوحيد والرد على الخوارج والمعتزلة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف، وقيل: بكسرها والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها.
وقوله: (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) شرط كفيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
قال ابن رجب رحمه الله: إن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة.
إلى أن قال: فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيماً وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها وإن كانت مثل زبد البحر.
انتهى ملخصاً.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: ويعطى لأهل التوحيد الذين لم يشوبوه بالشرك ما لا يعطى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي.
انتهى.
وفي هذا الحديث كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين وهي الفسوق، ويقولون: ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار والصواب قول أهل السنة والجماعة: إنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة].
الذنوب كلها أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا شاء أن يغفرها غفرها، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فما ترك شيئاً، حتى الشرك دخل في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، ولهذا يقول العلماء: هذه الآية في التائب من الذنب، فمهما كان ذنبه فإن الله يغفره، ولكن في الآية التي ذكرناها سابقاً في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] هذا لمن مات غير تائب، سواءٌ أكان مشركاً أم غير مشرك، فإذا مات على ذنوب ولم يتب منها فإن كانت شركاً فإن الله لا يغفرها، وإن كانت غير شرك فهي معلقة بمشيئة الله جل وعلا، إذا شاء أن يغفرها غفرها.
أما ما ذكر أن الحديث فيه الرد على الخوارج فالخوارج سموا (خوارج) لأنهم خرجوا عن الحق إلى الباطل، وخرجوا على أهل الحق لأنهم أهل باطل، وهم في الواقع أناس جهلة أرادوا أن ينزلوا كتاب الله على مفاهيمهم القاصرة، فاقترحوا أن الناس قسمين فقط: بر تقي، أو فاجر شقي، ولا ثالث لهما، فصاروا يحكمون هذا الرأي الذي رأوه، فكل من وقع في ذنب، جعلوه كافراً، ثم بحثوا عن هذا المنهاج في كتاب الله فوجدوا بعض الآيات التي تعلقوا بها وهم لم يفهموها، مثل قول الله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، وكقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وما أشبه ذلك من الآيات التي جاء فيها توعد العصاة بأنهم في النار، وأنهم مغضوب عليهم، أو أنهم ملعونون، فجعلوا كل من فعل كبيرة من الكبائر يكون هذا حكمه.
ثم صاروا يقتلون من فعل هذا؛ لأنهم حكموا بأنه كافر، فلهذا صاروا يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، فلما ظهروا صاروا يرفعون أسلحتهم في وجوه الناس، وظهر الكلام في صاحب المعصية والكبيرة، وكان من الناس من يسأل عن حكمه هل هو مؤمن أو كافر، وممن سئل عنها الإمام الحسن البصري، وكان عنده رجل يقال له: واصل بن عطاء الغزال من تلامذته، فبادر وأجاب السائل بقوله: لا كافر ولا مسلم.
ثم اعتزل حلقة الحسن، وجعل يقرر هذا المبدأ، فصار هذا هو مبدأ الاعتزال؛ لأن الحسن قال له: اعتزلنا.
فسمي معتزلاً، ثم سمي أتباعه معتزلة، ثم صاروا فرقة كبيرة من الفرق التي خالفت الحق، فصار من قولهم أن الذي يرتكب ذنباً من الذنوب كالكبيرة يخرج من الإيمان ولكنه لا يدخل في الكفر، فيبقى بمنزلة بين الإيمان والكفر، وجعلوا هذا من أصول دينهم؛ فإنهم بنوا دينهم على أصول خمسة بدل الأصول التي ذكرت في حديث عبد الله بن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله) إلى آخره، وهم بنوه على خمس جاؤوا بها من عندهم هذا أحدها، وهو المنزلة بين المنزلتين.
فمرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا عندهم أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، أما حكمه في الآخرة عندهم فإنه في النار، فاتفقوا مع الخوارج في حكم الآخرة، واختلفوا معهم في حكم الدنيا، والواقع أنهم اختلفوا في التسمية واتفقوا في الحكم، والتسمية لا قيمة لها إلا أنهم لا يقاتلون ويقتلون من كان هذا وصفه، بخلاف الخوارج.
وأهل الحق في هذه المسألة على أن مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كامل الإيمان، ولا يقال: مؤمن دون قيد، فلا بد أن يقيد، فيقال: مؤمن فاسق.
أو: مؤمن عاصٍ، أو: مؤمن ناقص الإيمان حسبما جاء في النصوص؛ لأنا إذا قلنا مؤمن أو هو المؤمن فإن هذا يدخل الإيمان فيه كله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)، فهنا قيد هذه الحالة بأنه ليس مؤمناً، وليس معنى ذلك أنه لو سرق ثم مات يكون كافراً، أو زنى ثم مات يكون كافراً، لا.
ليس هذا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما مراده صلوات الله وسلامه عليه أنه في هذه الحالة ليس عنده إيمان يمنعه من اقتراف هذه المعاصي، وليس عنده الإيمان الذي يمنع صاحبه من الوقوع في المعصية، وإلا فأصل الإيمان لا يخرج منه ولا يفارقه؛ إذ لو كان مقصوده أنه سلب الإيمان نهائياً لأصبح كافراً، ووجب عليه أن يرجع إلى الإسلام مرة أخرى، ويكون ذلك موافقاً لمنهج أهل الباطل الخوارج والمعتزلة وغيرهم، فلا بد من تقييده بأنه ناقص الإيمان، أو أنه عاصٍ، أو أنه فاسق أو ما أشبه ذلك، حتى لا يفهم أنه عنده الإيمان كله وأنه كامل الإيمان، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً عظيماً، وعلى هذا التفاوت تفاوتت منازلهم في الجنة، فمنهم من يكون بجوار الرسل، ومنهم من يكون في أدنى الجنة، والتفاوت في منازل الجنة أعظم من التفاوت بين السماء والأرض، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى مثل ما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، فهذه فقط للمجاهدين، والدرجة المقصود بها هنا المنزلة، يعني: منزلة ينزلها فإذا كان هذا في المجاهدين فكيف بغيرهم؟ فالمقصود أنه يجب أن يجتنب قول أهل البدع الذين يكفرون بالمعاصي، أو يخرجون المسلمين بكونهم وقعوا في معاصٍ من الإسلام ويجعلونهم كفرة، أو يستحلون دماءهم وأموالهم، وهذا من أكبر الباطل، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، وقال: (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)، وأمر بقتلهم لأنهم يقتلون الناس، فكل من كانت هذه صفته يجب أن يقاتل، ثم إنه جاء في حديث أن آخرهم يكون مع الدجال الذي هو من أعظم الفتن، الذي يخرج فتنة للناس فيزعم أنه مصلح وأنه يريد أن يصلح في الأرض ويقضي على الظلم، ثم بعد ذلك تتدرج به الأمور ويقول: إنه نبي.
ثم تتدرج به الأمور ويرتقي في باطله حتى يقول: أنا ربكم.
ويكون معه من الأمور التي يلبس بها على كثير من الناس شيء كثير.
فالمقصود أنه من الباطل الواضح كونهم يكفرون الناس ويدخلونهم النار أو يستحلون دماءهم.(14/8)
التوحيد ومغفرة الكبائر
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى أعطي ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات) رواه مسلم].
المقحمات معناها الذنوب الكبيرة التي تقحم صاحبها في النار، فيغفر لمن لا يشرك بالله من أمته هذه الذنوب المقحمات، أما الصغائر فإن الله جل وعلا يغفرها في اجتناب الكبائر، كما صحت بذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل عليه كتاب الله، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
أما الكبائر فهي التي قصد بها المقحمات هنا، فيغفر لمن مات لا يشرك بالله شيئاً المقحمات، ثم هذا معلق بمشيئة الله إن شاء غفر وإن شاء آخذ به.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] وقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له)، قال المصنف رحمه الله: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينها وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول (لا إله إلا الله)، وتبين لك خطأ المغرورين.
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، وفيه إثبات الصفات خلافاً للمعطلة، وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في حديث عتبان: (إن الله حرم على النار من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله) تبين لك أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان فقط].(14/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [15]
لقد أعد الله عز وجل للموحدين ثواباً جزيلاً عظيماً بالإضافة إلى تكفير ذنوبهم، وعلاوة على هذه الفضيلة التي ينالها الموحدون فإن هناك فضائل أخر أوردها المصنف في مسائل هذا الباب.(15/1)
مسائل في باب فضل التوحيد(15/2)
سعة فضل الله تعالى
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله].
هذا واضح في سائر النصوص التي ذكرها، ففيها أن من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، فإذا جاء بهذا وإن كانت ذنوبه كثيرة فإن الله يدخله الجنة، وهذا فيه سعة فضل الله وكرمه وسعة مغفرته، وكذلك في غيره من النصوص التي ذكرها الشارح.(15/3)
كثرة ثواب التوحيد وتكفيره للذنوب
[المسألة الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
] وهذا أيضاً واضح ظاهر، وهو كون ثواب التوحيد فضله وثوابه كثير جداً، وأن الله يغفر لمن لقيه موحداً وإن كانت ذنوبه ملء الأرض، فأي شيء أفضل من هذا؟ فما هناك شيء أفضل من التوحيد، والتوحيد معناه أن يكون عمله خالصاً لله ليس فيه شيء لغيره، فالتوحيد عبادة الله وترك الشرك، وأن تكون العبادة مقصوداً بها وجه الله وحده جل وعلا رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه.
[المسألة الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب].
يعني أنه إذا جاء بالتوحيد فله الفضل العظيم ويكفر الذنوب، ومعنى تكفيرها: إزالة أثرها.(15/4)
تفسير الظلم في آية سورة الأنعام
[المسألة الرابعة: تفسير الآية الثانية والثمانين التي في سورة الأنعام].
يعني بذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فعرفنا أن المقصود بالآية أن الذي وحد الله جل وعلا وعبده ولم يخلط عبادته بشيء من الشرك فإنه يحصل له الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فباتباع الرسل والطمأنينة بالله جل وعلا، وبكونه يأمن من العذاب الذي يحصل للكفار المخالفين للرسل، وأما في الآخرة ففي القبر أول منازل الآخرة يحصل له النعيم، ثم ما بعد القبر خير له منه، فهو آمن من عذاب الله ومهتد إلى الطمأنينة والحياة السعيدة.(15/5)
خمس حديث عبادة وثمرتهن
[المسألة الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة رضي الله عنه].
الخمس هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فهذه واحدة، (وأن محمداً رسول الله) هي الثانية، وإن كانتا في الواقع كلتاهما واحدة؛ لأن شهادة أن (لا إله إلا الله) لا تفرق عن شهادة أن (محمداً رسول الله)، ولكنها شرط في الإتيان بها، فلا بد منها، ومن شهد أنه (لا إله إلا الله) ولم يشهد لمحمد صلوات الله وسلامه عليه بالرسالة وأنه رسول إلى الثقلين الجن والإنس جميعاً، وأنه خاتم الرسل، وأنه ليس بعده رسول فإن شهادته مردودة، وهو ليس بمسلم، بل هو من أهل النار إذا مات على ذلك، فلا بد مع شهادة ألا إله إلا الله أن يشهد أن محمداً عبده ورسوله، وهكذا جاء (عبده ورسوله)، أي أنه عبد تعبده الله جل وعلا بعبوديته، وليس له من الإلهية شيء، وليس له من الربوبية كذلك شيء.
الثالثة قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وهذا يقتضي أنه لا بد من أن يشهد للرسل كلهم؛ لأن عيسى عليه السلام واحدٌ منهم، فكذلك بقيتهم، وإنما زاد عيسى على الرسل بأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وأنه روح منه، يعني أنه ليس إلهاً، وليس شريكاً لله جل وعلا، ولا ثالث ثلاثة، وليس ابناً لله، تعالى الله وتقدس عما يقول الضالون، فلا بد أن يتبرأ من قول أهل الضلال في ذلك، وإذا كان الإنسان الذي يشهد بهذا نصرانياً فلا بد من ذلك، وإلا فتكون شهادته باطلة؛ لأنه يعتقد شيئاً من هذا النوع، وهو باطل مناف للتوحيد.
الرابعة قوله: (وأن الجنة حق والنار حق) الجنة والنار اثنتان، ومعنى أن الجنة حق أنها موجودة مستقرة، وأن الله خلقها وأعدها لأوليائه، والنار كذلك موجودة مستقرة حيث شاء الله جل وعلا، وأنه أعدها لأعدائه، وسوف يسكنونها ولا يخرجون منها، فهؤلاء هن الخمس اللاتي يجب الإيمان بهن، وإذا تأمل الإنسان ذلك وجد أن الإسلام يدل على ذلك كله.(15/6)
شرط النجاة بكلمة التوحيد
[المسألة السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول (لا إله إلا الله)، وتبين لك خطأ المغرورين].
حديث عتبان قوله: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، فقيد قول (لا إله إلا الله) بابتغاء الوجه، أما حديث عبادة الذي فيه: (من شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) إلى آخره فلم يقيد ذلك، بل جاء مطلقاً، فاغتر كثير من الناس بأن كل قائل لهذا الكلام إذا قاله صدق عليه الوعد الذي وعد بآخره: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، ولو كان لا يصلي، ولو كان لا يزكي، ولو كان يعمل الفجور، بل ولو كان يطوف بالقبور، هكذا يقولون، وهؤلاء هم المغرورون الذين قصدهم بقوله: (وليتبين لك خطأ المغرورين)، وهذا القول يقصد به البراءة من الشرك والبعد عن المشركين ومعاداتهم، وأنه ليس منهم لا في المكان ولا في القصد والعمل، ولا في المحبة والإرادة، بل هو مفارقٌ لهم مكاناً، مبغضٌ لهم عقيدة، منافح ومكافح لشركهم، وداعٍ إلى الله جل وعلا، ولا بد أن يكون على هذا؛ لأن قوله في حديث عتبان: (يبتغي بذلك وجه الله) قيد هذا كله؛ لأنه لا بد من الإخلاص في ذلك، فلا بد أن يكون مخلصاً، والذي يعمل شيئاً من المعاصي إما أن يكون عمله ناتجاً عن قلة إيمانه وبعده الذي يقتضي أنه لم يحقق التوحيد، أو يكون مبطلاً لقوله بالكلية، بمعنى أنه لا بد أن يكون قد نقص قوله أو أبطله، فإذا كان مجرد معصية فهو منقص لقوله: (لا إله إلا الله)، أما إذا كان شركاً فإنه يكون مبطلاً لقوله؛ لأن التوحيد لا يجامع الشرك، فلا يجتمع توحيد وشرك في إنسان؛ لأن الشرك مبطل لجميع الأعمال، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، والخطاب لسيد الخلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين للإنسان عظم هذا الأمر، ولما ذكر أصفياءه وأنبياءه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، وهم الرسل، فإذاً معنى هذا أنه لا بد للإنسان أن يكون مخلصاً عمله لله جل وعلا، متبرئاً من الشرك تاركاً له قصداً، وليس بدون قصد، بل بالقصد والفعل، فيتركه ويتبرأ منه ويبتعد عنه.
[المسألة السابعة: التنبه للشرط الذي في حديث عتبان].
الشرط هو قوله: (يبتغي بذلك وجه الله)، وكرر ذلك للاهتمام به؛ لأنه مهم جداً، وهو الذي يقول: إنه يبين خطأ المغرورين.(15/7)
الأنبياء وحاجتهم إلى الله تعالى
[المسألة الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
] هذا واضح من الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره، وهو (أن موسى عليه السلام قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به.
فقال: يا موسى! قل: (لا إله إلا الله) قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا.
وإنما أريد شيئاً تخصني به! فقال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله))، فهذا واضح؛ لأن فيه التنبيه على فضل هذه الكلمة لكليم الله جل وعلا الذي كلمه واصطفاه بكلامه، فهو على هذا، فإذاً الأنبياء لا يعلمون، إنما علمهم الله جل وعلا العلم الذي لم يوحه الله جل وعلا إليهم، فهم بحاجة إلى تعليم الله جل وعلا لهم، ولم يستغنوا عن الله جل وعلا طرفة عين، ولم يستغن أحد من خلق الله عنه، بل إذا حصل خير فمن الله، وقد قال الله جل وعلا لنبيه: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]؛ لأن الضلال من عند النفس والفعل، وأما الاهتداء فبالوحي الذي اهتدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك غيره، وهذا لا يقتضي عدم التعظيم للرسل، بل يجب معرفة حقوق الرسل ومعرفة قدرهم، ولكن لا يجوز أن يعطوا شيئاً مما هو لله جل وعلا، فيجب على الإنسان أن يكون متبعاً لربه جل وعلا، ويكون عبداً له، ولا يكون عبداً لمخلوق مهما كان رسولاً أو ملكاً أو غير ذلك، وهذا في الواقع يبين أن كثيراً من الناس اغتر وغلا حتى خلط بين حق الله وحق الرسول، بل جعل بعض خصائص الله أو كثيراً منها أو كلها لغير الله جل وعلا، ولا سيما الشعراء الذين صار حظهم من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدح والإطراء الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم يقول: إذا حدث أمر يعم الخلق بالكرب والعذاب فليس لي ملجأ إلا أنت ألجأ إليك من هذا الكرب فإلى أين يذهب عن الله جل وعلا؟ يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم يعني: إن لم يأخذ بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمه تزل لأنه هالك ومذنب.
ويقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها.
وضرة الدنيا هي الآخرة، و (من) هذه تبعيضية، يعني: من بعض جود الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة.
فماذا بقي لله؟! فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ويا للعجب! القلم الذي كتب الله به كل شيء، واللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء من جملة علوم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما وصل إليه شرك المشركين الذين عبدوا اللات والعزى وغيرهم، وكثير من هذا القبيل، ثم إن كثيراً من الناس يجعل هذه القصيدة شبه الورد، ويحفظها مثلما يحفظ الفاتحة لأجل هذا الإطراء وهذا الغرور، ولن ينفعه ذلك، وإنما ينفعه الاتكال على الله جل وعلا وإخلاص الدعوة له، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه يقول لأقرب الناس إليه -وهي ابنته فاطمة رضي الله عنها-: (لا أغني عنك من الله شيئاً، سلني من مالي ما شئت)، ويقول لأصحابه: (لا ألفين أحدكم يوم القيامة يأتي وعلى رأسه بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني.
فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك)، فهو صلوات الله وسلامه عليه أفضل الخلق، ولكنه ليس له مع الله شيء، والشفاعة التي يزعم البوصيري أنه يملكها كذب على الله جل وعلا، فما يملك من الشفاعة إلا إذا أذن الله له، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهم يطلبون الشفاعة منه، والشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تطلب من الله، يقول جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43]، ويقول: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44]، فليس لأحد شيء من الشفاعة، فالشفاعة لله، ولكنه إذا أراد رحمة أحد من أهل التوحيد أذن لمن يريد أن يكرمه بأن يشفع، والأمر له، ولهذا بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً كما سيأتي، فليس لهؤلاء الذين غلوا وضلوا وجانبوا الحق متعلق بالشفاعة؛ فإن الله جل وعلا وضح ذلك وبينه.(15/8)
شرط رجحان كلمة التوحيد بجميع المخلوقات
[المسألة التاسعة: التنبه برجحانها لجميع المخلوقات مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه].
يعني أنها ترجح بجميع المخلوقات على الإطلاق، كما في هذا الحديث الذي ذكرناه: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله))، وهل هذا يكون لكل أحد؟ أبداً.
بل يكون للخواص من خلق الله الذين اصطفاهم الله جل وعلا، والذين أتوا الله بقلب سليم، أما أكثر الخلق فهم يقولون: (لا إله إلا الله) ويدخلون النار، ويخف ميزانهم؛ لأنهم لم يحققونها ولم يعرفوا معناها ولم يعملوا بمقتضاها، فهذا بين واضح، وقد جاءت الأحاديث متواترة أن كثيراً ممن يصلي ويصوم ويزكي يدخل النار ثم يخرج منها، وهؤلاء ليسوا مشركين؛ لأن المشرك محرمة عليه الجنة، وإنما توحيدهم ناقص، وذنوبهم رجحت بحسناتهم، ومن أعظم حسناتهم قول (لا إله إلا الله)، فلم تكن عندهم ترجح بالسيئات، بل السيئات رجحت بها، فهذا كله يدلنا على أن رجحان (لا إله إلا الله) ليس لكل أحد، بل للخواص، بل لمن يقولها مخلصاً وصادقاً وموقناً ومستسلماً لله وقابلاً للحق ومعرضاً عن كل ما سواه، ثم لا يلتفت عن هذا، فيبقى متمسكاً بهذا المنهج إلى أن يموت، فهذا هو الذي إذا قالها بهذه الصفة تكون راجحة على جميع المخلوقات، فلو أتى بملء الأرض خطايا رجحت بهن (لا إله إلا الله) إذا كان قالها على هذه الصفة.
وقد يقال: كيف يأتي بملء الأرض خطايا وهذه الكلمة إذا قالها لا يصمد لها شيء؟ والجواب أنه إذا قدر أنه عمل الخطايا ثم أقبل على الله صادقاً وتائباً وقال هذه الكلمة فإنه يكون بهذا المنزلة.(15/9)
تسبيح الأرض ومعناه
[المسألة العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات].
يقول الله جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12]، والمثلية في العدد، أي: كونها سبعاً.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) يعني: جعل طوقاً لعنقه يحمله يوم القيامة.
وهل كل أرض مثل هذه الأرض التي نحن فوقها، أو أنها طبقات سبع كل طبقة تحت الأخرى مثل السماوات، كما قال الله جل وعلا: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)؟ والصواب الرأي الثاني، ولا يلزم أن يكون فيها سكان, ولا يلزم أن تكون هناك فتوق، أي: أن يكون هناك فضاء بين أرض وأخرى.
ليس لازماً، وإنما خلقها الله جل وعلا كذلك لحكمة، أما ما يذكر عند تفسير هذه الآية أن كل أرض فيها مثل هؤلاء الخلق بأسمائهم وأوصافهم وألوانهم وأجناسهم فهذا مروي عن بني إسرائيل الذين يريدون أن يفسدوا عقائد المسلمين بخرافاتهم وكذبهم الذي يضعونه على الله جل وعلا، وليس عليه من دليل، نعم صح هذا القول عن ابن عباس، ولكن الظاهر أنه أخذه عن بني إسرائيل.(15/10)
عمار السموات والأرض
[المسألة الحادية عشرة: أن لهن عماراً].
أي: لهن عمار حيث يشاء الله ويعلمه، وعمار السماوات واضح أنهم الملائكة، وأما الأرضين -ما عدا الأرض العليا- فالله أعلم بعمارهن، والله جل وعلا يسبح له كل شيء حتى الجمادات، فكل شيء يسبح بحمده، فإذا كان كل شيء يسبح بحمده حتى الجبال والجماد والشجر والدواب والماء والحصى وكل شيء فمعنى ذلك أن هؤلاء هم عمارها، فهذه الأمور هي عمارها.(15/11)
إثبات صفات الله تعالى
[المسألة الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للمعطلة].
قصده في إثبات الصفات هنا أنه يجب أن يوصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لا يحرف الكلام عن وضعه الذي وضع له ولا يعطل عن معانيه التي دلت عليها اللغة العربية، ولا يكيف فيقول: هذه الصفة على كذا وكذا ومثل كذا وكذا.
وكذلك لا يمثل فيقول: مثل كذا وكذا.
فإن هذا بالنسبة لله ممنوع؛ لأن الله جل وعلا غيب لم يشاهده أحد، ولم ينظر إليه أحد، وهو جل وعلا لا سمي له ولا كفء له ولا ند له فيقاس عليه -تعالى وتقدس-، فلم يبق طريق إلى معرفة الله جل وعلا إلا ما أخبر به عن نفسه فقط، فنحن نتعرف على الله جل وعلا بالخبر الذي جاءنا عنه بالأوصاف التي وصف بها نفسه، فهذا الذي يجب على المسلم أن يفعله، وهذا في الواقع ضل أكثر الناس فيه، فأكثر الخلق اليوم لا يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه، بل يحرفون، بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً، وكثير منهم يعتقد أن ظاهر النصوص كفر، وأن القرآن لو أخذنا بظاهره لقادنا إلى الكفر، كثير منهم يقول هذا ويصرح به، والذي لا يصرح به يكون ذلك مستكناً في نفسه، ولهذا إذا قرأت كتب هؤلاء القديمة والحديثة وجدت أنه إذا تمكن من التصريح صرح، وإذا لم يتمكن قال: هذه متشابهات.
يعني قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]، وما أشبه ذلك، فهذه عنده يسميها متشابهات، والمتشابه يجب أن يرد إلى المحكم، والمحكم عنده أن الله لا يوصف بهذه الصفة؛ لأنه ليس كمثله شيء، ولا سمي له ولا ند له، فيأخذ العمومات ويجعلها هي المحكمات، ويرد النصوص الجلية التي نص عليها عكس فعل أهل السنة؛ لأن أهل السنة قاعدتهم أن العموم والشمول جاء في النفي، أما النصوص التي تخص كل صفة بنص من النصوص فهذه تكون في الإثبات، وهي طريقة القرآن وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عرف به ربه إلى عباد الله، فهو يحدث في كل مقام يناسب ذلك، ويخبر بأن الله يعجب، وبأن الله يضحك, وبأن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وبأن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأن الله يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للمتصدق إذا كان مخلصاً كما يربي أحدكم فلوه -يعني: ولد فرسه الذي يعتني به كما يعتني بولده في ذلك الوقت-، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، ويعلم أمته ذلك، ثم يأتينا بعد القوم الذين زعموا أنهم أعلم وأحكم من الصحابة، وأن الصحابة لم يحكموا هذا الباب ولم يعلموه حق العلم، وإنما علمه الذين تلقوه من الفلاسفة ومن اليونان وحكماء الهند وغيرهم من الأعاجم، وهم الذين أحكموا ذلك، وإذا كان الأمر هكذا فإننا نقول: إن من عقيدة المسلم التي لا بد أن يعتقدها كل مسلم، وإلا فلا تكون عقيدته صحيحة -بل لا يكون مسلماً- من عقيدة المسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عن الله جل وعلا، ولا بد للمسلم أن يعتقد هذا، فيعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عن الله، فأين تبليغه بأن الله ليس مستوياً على عرشه، وأنه لا يجوز أن يوصف بأن له يدين، وأن ليديه أصابع، وأنه جل وعلا لا يبسط يده، وأنه جل وعلا ليس فوق عباده، وأنه جل وعلا لا يحب أحداً، ولا يحبه أحد، إلى غير ذلك من أقوال هؤلاء الضلال، أين تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كذلك من عقيدة المسلمين التي لا بد لكل مسلم أن يعتقدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وهو أعرف الخلق بالله، وهو أتقى الخلق لله، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أقدر على البيان من كل أحد، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أفصح الخلق وأنصحهم للخلق، فإذا وجد هذا اقتضى ذلك أنه لا يترك شيئاً نحتاج إليه في ديننا -لا سيما في عقائدنا- إلا ويبينه لنا ويوضحه نصحاً وإبلاغاً وامتثالاً لقول ربه جل وعلا {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] يعني: إن لم تبلغ فأنت متوعد من الله جل وعلا بأنك لم تبلغ الرسالة.
ولهذا جعل العلماء هذه الآية دليلاً على إبطال كل بدعة يأتي بها المبتدع؛ لأن هذه البدعة ما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ديناً لبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه العقيدة تكفي في إبطال قول هؤلاء النفاة الضلال، وهي عقيدة لازمة، والذي لا يعتقدها معناه أنه ما شهد الشهادة بالرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ينجيه من عذاب الله جل وعلا ويخلصه من التبعة.
ثم إن الذي ذكر في هذه النصوص أن الله جل وعلا يتكلم جاء في عدد منه أنه يتكلم ويخاطب ويجزي، وأنه يحب من يشاء من خلقه، وأنه يبغض من يشاء من خلقه، وأنه كذلك يرحم من يشاء، وأنه يثيب، وأنه يعاقب، وكل هذا من صفات الله جل وعلا التي يوصف بها، وهي كلها مرت معنا في هذه النصوص، وكذلك منها أنه في السماء؛ لأنه قال: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري) فاستثنى نفسه، فدل على أنه في السماء، والسماء يقصد بها العلو، وكذلك غير هذا من الصفات، وستأتي الإشارة إلى شيء منها فيما بعد.
[المسألة الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس رضي الله عنه عرفت أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله) أنه تَرْكُ الشرك ليس قولها باللسان].
يقصد بهذا أن يبين أن النصوص لا تتعارض، وأنها كلها خرجت من مشكاة النبوة، وكلها بعضها يتفق مع بعض، فإخباره أن من قال (لا إله إلا الله) يحرم على النار، وقوله: إنه يدخل الجنة، وإخباره أن كثيراً ممن يقول (لا إله إلا الله) يدخل النار ثم يخرج منها، وكذلك كون كثير من المصلين يدخل النار ويبقى يصلاها وقتاً حتى يمن الله جل وعلا عليه بإخراجه منها كل هذه لا تتعارض؛ لأنها كلها صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحمل كل طائفة منها على طائفة من الناس في الحالة التي تكون فيهم، ويستمرون عليها من إخلاص وعدمه، ومن صدق وعدمه، ومن يقين وعدمه، ومن محبة وعدمها، وما أشبه ذلك، ومعلوم أن التفاوت بين الناس في هذا لا يعلمه إلا الله جل وعلا، فهو تفاوت عظيم، فتجد واحداً يكون مؤمناً صادقاً موقناً لا يتزعزع الإيمان من قلبه، وإيمانه يمنعه من اقتراف المعاصي، ويمنعه من ترك شيء من الواجبات، وتجد آخر يسارع إلى المعاصي وهو يقول: (لا إله إلا الله)، وتجد آخر يحجم عن فعل بعض الواجبات، وهكذا، وهذا شيء مشاهد في الناس كلهم، ومن هنا تفاوتت هذه الجزاءات وهذه الإخبارات عنه حسب تفاوتهم في الإيمان والصدق مع الله جل وعلا.(15/12)
حقيقة محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم ومنزلتهما عند الله
[المسألة الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم عبدي الله ورسوليه].
يقصد بهذا أنه حصل الغلو في كل منهما -أي: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم-، أما الغلو في عيسى فقد ذكره الله جل وعلا في القرآن، وهو معلوم إلى اليوم، فالذين يزعمون أنهم نصارى يجعلونه الله، أو يجعلونه ابن الله، أو يجعلونه شريكاً لله جل وعلا وتعالى وتقدس عن قولهم، وهذا الذي عليه النصارى اليوم في جميع الأرض إلا من شاء الله، ومعلوم أن كل من زعم أنه متبع لنبي من الأنبياء يجب عليه -لو كان صادقاً- أن يتبع محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يفعل ذلك فهو في النار في جهنم، حتى وإن اتبع عيسى كما جاء فلم يقل: إنه ابن الله، ولا ثالث ثلاثة.
ولا هو الله، وإن قال: إنه عبد الله ورسوله واتبعه وآمن به واتبع كتابه الذي جاء به، فإذا لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه فهو في جهنم خالداً مخلداً فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) يعني: ما تسعه شريعته أن يقول: أنا جئت بشريعة وأبقى عليها.
فلا بد أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أرسل إلى الناس كافة.
وبهذا المعنى استدل العلماء على ابطال قول الصوفية -أو كثير منهم-: إن الخضر موجود، وإنه يأتي ويحضر بعض المجالس؛ لأن الخضر لو كان موجوداً وجب أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه ويتعلم ما جاء به؛ لأنه لا يسعه إلا ذلك، وليس الأمر كما كان للرسل الذين قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة، ولهذا يوجد في آن واحد عدد من الرسل كل رسول في بلد، وكل رسول يأتي بشرع، فيكون له دعوة مستقلة، أما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه فإنه من خصائصه أنه أرسل إلى الجن والإنس كافة، ولم يشذ شيء عن ذلك، وهذا الذي يجب أن يعتقد.
وكيف وهؤلاء النصارى دينهم الذي يدينون به كفر وضلال وشرك مخالف لما جاء به عيسى عليه السلام مخالفة ظاهرة جلية، وإن زعموا أنهم أتباعه، فهم أتباع الشيطان في الواقع، وهو الذي زين لهم هذا الدين.
فمعنى كلامه أن عيسى ادعيت فيه الربوبية والإلوهية والشركة والبنوة -تعالى الله عن ذلك-، وهذا ينافي كونه عبداً، وإذا كان عبداً لا يكون له شيء من ذلك، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه ادعيت فيه مشاركة الله في المعنى، فما أحد قال: إنه ابن الله.
أو: إنه شريك لله جل وعلا في الملك، مثلما تقوله النصارى في عيسى: إنه ثالث ثلاثة.
وقد يقول ذلك بعض الجهال هذا، فيقول: أنا أعبد الله وأعبد محمداً.
ويقول: أنا أتوكل على الله وعلى رسول الله.
كثير من الجهال يقول هذا، وهذا شرك ظاهر جلي واضح.
ولكن المقصود أن كثيراً من العلماء الذين يؤلفون ويكتبون شروحاً للحديث وشروحاً للتفسير وقعوا في المعنى الذي وقعت فيه النصارى؛ حيث غلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوه يعلم الغيب، وجعلوه يملك لداعيه النفع ويصرف عنه الضر، وجعلوا الدعوة له، فيدعونه وهم علماء يكتبون للناس ويوجهونهم، ولكنهم دعاة للوثنية في الواقع، ودعاة للشرك، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شريكاً لله في شيء، ولذلك قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال: (لا يستجرينكم الشيطان) يعني: لا يتخذكم مطايا يجريكم في الباطل فتدخلوا في الشرك من هذا الطريق.
فهذا مقصود المؤلف في قوله: [تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما عبدي الله ورسوله]، وهذا من ناحية العبودية، أما من ناحية الرسالة فإن اليهود -عليهم لعائن الله- أنكروا رسالة عيسى، بل رموه بالبهت هو وأمه مقابلة لقول النصارى: إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة.
فقالوا: هو ابن زانية وابن بغي؛ لأنها جاءت به بغير أب.
ولم يصدقوا أنه رسول الله، وهذا يقابل قول النصارى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أهل الجفاء والفجور أبوا أن يقروا له بالرسالة، فلا بد من الجمع بين هذين الوصفين لهذين الرسولين، وهما من أولي العزم من الرسل، وهذا أمر معلوم تظافرت عليه النصوص.(15/13)
ما اختص به عيسى عليه السلام ومالم يختص به مما جاء في حديث عبادة
[المسألة الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى عليه السلام بكونه كلمة الله].
اختص عيسى عليه السلام بذلك لأنه تكون بالكلمة التي قال الله جل وعلا له: (كن) فكان، فيكون بدون أب، بخلاف غيره من الخلق، فكل مخلوق يقول الله جل وعلا له: (كن)، ولكنه يتكون بسبب وبواسطة جعلها الله سبباً في إيجاده، وهو ماء الرجل والمرأة، أما عيسى فاختص من بين هؤلاء الناس كلهم في كونه وجد بالكلمة تكون بها بغير أب.
[المسألة السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه].
معرفة كونه روحاً منه هذا لا يخصه، ولكن المعنى أنه روح من الأرواح التي خلقها، ثم أودعها في مريم، ولهذا أخبر أنه نفخ فيها من روحه، فقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12]، يعني: في فرجها جاءت النفخة ودخلت فيه فتكون عيسى.
يقول أهل التفسير: إن الله أرسل إليها جبريل -كما أخبر في سورة مريم أنه تمثل لها بشراً سوياً -فتعوذت بالله منه، فقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، فتعجبت وقالت: كيف يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً؟ أي: ما كنت زانية حتى يكون لي ولد! فأخبرها أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، يقول أهل التفسير: نفخ في جيب درعها فذهبت النفخة إلى فرجها ودخلت فيه.
ولهذا احتج النصارى بهذا على بعض العلماء وقالوا: هذا كتابكم يدل على ما نقوله، وهو أن عيسى روح منه! فقال هذا العالم: إن الله جل وعلا يقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، فليس هذا من الله إلا من باب التسخير والخلق والإيجاد والتكوين، وليس هذا خاصاً بعيسى.(15/14)
الإيمان بالجنة والنار
[المسألة السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار].
يعني أنه نص على وجوب الإيمان بالجنة والنار، فقال: (والجنة حق والنار حق)، فدل على الاهتمام بذلك، وأنه يجب أن يؤمن بالجنة والنار، وأن الإنسان لا يكون مؤمناً إلا إذا آمن بهما، والجنة والنار في الواقع يدخل في الإيمان بهما الإيمان بكل ما يكون بعد الموت وأخبر به الوحي من فتنة القبر، ومن عذابه، ومن البعث، ومن الجزاء، والجمع بين يدي الله، وتطاير الصحف، والمحاسبة، والوزن، والحوض الذي يكون في الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصراط، وغير ذلك من كل ما جاءت به النصوص يدخل في الإيمان بالجنة والنار.(15/15)
التوحيد ودخول الجنة على ما كان من العمل
[المسألة الثامنة عشرة: معرفة قوله صلى الله عليه وسلم: (على ما كان من العمل).
] عرفنا أن معنى قوله: (على ما كان من العمل) أنه إذا جاء بما شرط وإن كانت له ذنوب فإنه يدخل الجنة على ما كان من العمل، فإن جاء بالذنوب مع وجود هذا الشرط يدخل الجنة، ولكن دخوله الجنة هنا لا يدل على أنه لا يجازى بذنوبه، بل يدل على أنه لا بد من دخوله الجنة وإن ناله ما ناله في الموقف أو بعد الموقف أو في القبر قبل الموقف، بخلاف ما في حديث عتبان؛ فإنه يقول: (من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله حرمه الله على النار)، فإن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله، فإن هذا إذا جاء بهذا الشرط فقالها مبتغياً بها وجه الله فإنه لا تناله النار بأذى، لكن معنى (يبتغي) أنه لا بد من الإخلاص.(15/16)
الإيمان بالميزان وكفتيه
[المسألة التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان].
كون الميزان له كفتان هذا بالنص؛ لأنه قال: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة)، والله جل وعلا خاطبنا بلغة العرب، ولغة العرب الميزان فيها يطلق على ما يكون له الكفتان اللتان يوزن بها، فيوضع في جانب منه شيء وفي الجانب الآخر شيء آخر، ثم هل نَصِفُ الميزان بأن له لساناً؟
و
الجواب
لا يلزم؛ لأنه إذا جاء النص بذلك لزم، وإذا لم يأت فأمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، وأحوال الآخرة وما يقيمه الله جل وعلا لعباده لا يقاس بما نتعارف عليه في الدنيا حتى يأتي النص.(15/17)
إثبات الوجه لله جل جلاله
[المسألة العشرون: معرفة ذكر الوجه].
قوله: [يبتغي بذلك وجه الله] يدل على أن المقصود بابتغاء الوجه أنه يكون مخلصاً لا يصدر منه العمل إلا لله خالصاً ليس فيه شيء لغيره.
كما يدل على أن لله وجهاً جل وتقدس، وهو وجهه الكريم الذي النظر إليه أعلى نعيم في الآخرة، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك جلياً، كما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقال: الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وجاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي، وحديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث أبي سعيد الخدري، وأحاديث كثيرة جداً، وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما أن الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا.
قال: إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر)، وجاء هذا في روايات كثيرة متعددة وألفاظ مختلفة، فهذا مما يجب الإيمان به.
والنظر إليه إلى وجهه جل وعلا، وإلا فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وقد جاء الدعاء المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، وهذا دعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به، فالنظر إلى وجهه جل وعلا له لذة أعظم من لذة الجنة، وأخبر جل وعلا عن أعدائه أنهم يعذبون بالحجاب عنه، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فالحجاب: ضد الرؤية، فيحجب أعداءه وينظر إلى أوليائه وينظرون إليه، أما نظره هو جل وعلا فهو لا يحول دونه حائل، ولا يمكن أن يستر نظره شيء جل وتقدس، ولكن العباد ينظرون إليه في الجنة فقط، وأما في الدنيا فلا أحد ينظر إليه، كما قال صلوات الله وسلامه عليه في حديث الدجال الذي أخبرنا أنه يأتي ويزعم أنه الله رب العالمين، وهو من أكذب الكاذبين، يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: إلى أن يأتي يوم القيامة.
فإن كان من أهل الجنة رأى ربه، أما قبل ذلك فلا يمكن.
وقد يلتبس على بعض الناس أنه جاء في المسند وفي غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، فهذه الرؤية المقصود بها رؤية النوم، رآه في المنام، ورؤية النوم ليست هي الرؤية الحقيقية، وإنما هي مثل يضربه الملك الموكل بالرؤيا، فالرائي يرى شيئاً يليق بإيمانه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لله وطاعته له، فإن كان إيمانه كاملاً وصحيحاً وحسناً رأى صورة تناسب هذا، وإن كان ناقصاً رأى كذلك؛ لأنها ليست رؤية حقيقية، فعلى هذا يجوز للمؤمن أن يرى ربه في النوم، ولكن يراه على حسب إيمانه، وتكون الرؤية مثلاً يضربه الملك الموكل بالرؤيا، والرؤيا قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم ليس برؤيا، وإنما هي أضغاث أحلام، بل هي حديث النفس وما تشتغل به، فإذا كان الإنسان منهمكاً في عمل من الأعمال، أو في فعل من الأفعال، سواءٌ أكان خيراً أم شراً فغالباً إذا نام يجد أنه يزاول ذلك العمل، ولو كان حديثاً بينه وبين أصحابه يجد أنه يزاول ذلك العمل ويراه؛ لأن نفسه منهمكة فيه، وأصبحت كأنها لا تتجزأ ولا تنفصل عنه، فهذه ليست رؤيا، ولكن هذا يخاف منه في الواقع، لأن النوم شبيه بحضور الموت، فيخاف أن الإنسان إذا حضره الموت يكون مشغولاً بهذه الأمور، ويموت على ذلك، والمفروض أنه يموت على (لا إله إلا الله) والإيمان بالله واليقين به والإقبال على الله والإقلاع عن كل ذنب.
القسم الثاني: تخويفات تأتي من الشيطان يخوف بها الإنسان، ويمثل له تمثيلاً يخيفه، وهذا الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان، ثم ليتحول إلى الجنب الآخر، ولا يحدث بما رأى أحداً، فإن ذلك لا يضره)؛ لأن هذا من تخويف الشيطان، والشيطان يطرده الذكر والاستعاذة بالله جل وعلا، وعمله يبطل بذلك.
القسم الثالث: الرؤيا التي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: (الرؤيا جزء من بضع وأربعين جزءاً من النبوة)، وذلك لأنه يأتي بها الملك الموكل بالرؤيا، والوحي يأتي به الملك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا شيء جزئي، فهي أمثال يضربها الملك لما سيفعل الإنسان وما سيستقبله، فيمثله له ويقربه له، وقد يكون التقريب والتمثيل ظاهراً جلياً يفهمه الإنسان، وقد يكون فيه خفاء لا يعرفه إلا أهل العلم بذلك، ولهذا لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على عالم ومحب، فلا تقص على جاهل ولا على عدو أو على كاره؛ لأنها قد تأول فتقع على التأويل الذي أولت عليه وهو الشيء المكروه، وقد جاء أن الرؤيا على جناح طائر ما لم تأول، فإذا أولت وقعت، وجاء في التفسير أن الفتيين اللذين أخبرا يوسف في السجن أن أحدهما رأى أنه يعصر خمراً والآخر يحمل خبزاً في النهاية قالا: لم نر شيئاً، وإنما نحن كاذبين فقال: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]، يعني: وقع كما أخبرتكما.
فإذا أولت الرؤيا وقعت.(15/18)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [16]
على قدر تحقيق العبد للتوحيد يكون ثوابه وأجره، فمن حقق التوحيد على وجهه كان أهلاً لدخول الجنة بغير حساب، ويتم تحقيق التوحيد بما ذكره الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام الذي كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، كما يتم بتحقيق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أوصاف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب في كونهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.(16/1)
تحقيق التوحيد(16/2)
تحقيقه في أنواعه الثلاثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب].
أي: بلا عذاب، والتوحيد هو أن يكون العمل موحداً لله جل وعلا، وألا يكون لأحد فيه شيء، والتوحيد حق الله جل وعلا الذي أوجبه على عباده بأن يكون خالصاً لله جل وعلا، ويكون التوحيد أيضاً فيما يخص الله جل وعلا من الأسماء والصفات والأفعال، فيجب أن يوحد الله جل وعلا في أمور ثلاثة: الأول: في حقه الذي أوجبه على عباده، بأن يُجعل واحداً لله جل وعلا، ولا يوزع بين الله وبين مقاصد أخرى.
الثاني: أن يوحد الله جل وعلا بخصائصه من أوصافه وأسمائه التي اختص بها فسمى بها نفسه أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يوحد فيها وألا يشرك معه أحد من الخلق في ذلك.
الثالث: أن يوحد في أفعاله وملكه الذي يفعله ويملكه، فالملك كله لله وحده، والفعل الذي يفعله من الخلق والإحياء والإماتة وغير ذلك يكون خاصاً به، ولا يجوز أن يُلحق به غيره من الخلق.
وهذه الأمور الثلاثة دل عليها القرآن في مواضع متعددة, وكذلك دعوات الرسل كلها التي قصها الله جل وعلا علينا دلت على ذلك، فيجب أن يوحد الله جل وعلا في هذه الأمور، وأن يحقق التوحيد، وتحقيقه أن يؤتى بحقائقه، وحقائقه تتطلب العلم به والاطلاع عليه ثم العمل به، ويلزم من ذلك أن يخلص من جميع شوائب الدواخل التي قد تدخل عليه من الرياء والمقاصد التي لا يراد بها الله جل وعلا، وكذلك يلزم من ذلك اجتناب المعاصي والبدع، فإذا وجدت هذه الأمور فصاحبها من الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب، فهذه هي حقيقة تحقيق التوحيد، أن يأتي به الإنسان عالماً بحقائقه مطلعاً عليها، ثم يتحلى بها عملاً وعلماً، ثم يلزم منه أن يجتنب جميع شوائب الدواخل من المعاصي والبدع وغيرها؛ لأن من حقق التوحيد انجذب بكليته إلى الله فأصبح يحبه الحب كله، وأصبح يوافق أمره موافقة لا ينفك عنها، ولا يجد في نفسه مخالفة لأمر الله جل وعلا، ويكره كل ما نهاه الله عنه أشد كراهة، فمن حقق التوحيد كان بهذه المثابة، ولهذا تحقيق التوحيد صار عزيزاً في الناس، وإن كان في صدر هذه الأمة موجوداً بكثرة، ولكنه فيما بعد أصبح قليلاً، ومن تحلى بذلك فهو لا يحاسب ولا يعذب، ويكون من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب.(16/3)
بم يحقق التوحيد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي: ولا عذاب.
قلت: تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]].
استدل بهذه الآية على تحقيق التوحيد، وأن من فعل واتصف بما اتصف به خليل الرحمن فقد حقق التوحيد، والله جل وعلا وصفه بأربع صفات في هذه الآية: فوصفه بأنه كان حنيفاً، والحنيف: المائل قصداً عن غير مراد الله إلى مراده.
فإبراهيم هذه صفته، كان متجهاً إلى ربه جل وعلا بكليته قاصداً ذلك، أي أنه كان راغباً فيه مقبلاً عليه بعزم ونشاط وجد وقوة، وهذا معنى كونه حنيفاً، وأما كونه أمة فالأمة جاء تفسيرها في هذه الآية عن السلف بمعنيين: المعنى الأول: القدوة في الخير.
أي أنه كان قدوة في الخير والدعوة إليه، فهو قدوة في عبادة الله وحبه والإقبال عليه والدعوة إلى ذلك، وهذه القدوة لا تنال إلا باليقين والصبر، فإذا أيقن العبد بأمر الله جل وعلا وبواجباته التي أوجبها عليه وصبر عليها عملاً ودعوة فإنه يكون قدوة.
التفسير الثاني: أنه كان واحداً في الحق، ليس معه أحد غيره؛ لأنه كان هو الذي على طريق الحق، وهو الذي اتخذه الله خليلاً، وأما من عداه من قومه فكلهم كفار وكلهم مشركون، ولهذا جاء في الصحيح أنه قيل للطاغية أحد الجبابرة: إنه قدم عليك رجل معه امرأة فيها من الجمال ما لا يصلح إلا أن تكون زوجة لك.
وعلم أنه لو قال: إنها زوجتي لأخذها، فقال لما سأله: هي أختي.
لأنه علم أنه إذا قال: أختي لا يأخذها، فلما رجع إليها قال: لا تكذبيني، فإني قلت: إنك أختي وأنت أختي في الإسلام، ليس اليوم مسلم غيري وغيرك.
وهذا يشهد لقولهم بهذا القول أنه كان وحده على الحق، أمة وحده على الحق والتوحيد، وهذا في الواقع لا ينافي القول الأول، فهو كان في أول أمره واحداً في الحق، وهو أيضاً القدوة، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالتأسي به، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، فأمرنا بالتأسي به لأنه هو القدوة في ذلك، وهو إمام الحنفاء وإمام الموحدين الذين حققوا التوحيد.
الصفة الثالثة: أنه كان قانتاً.
والقنوت في اللغة: هو دوام الطاعة، فمن داوم على الطاعة مستقيماً عليها فإنه يكون قانتاً، وكذلك إذا أطال الإنسان الصلاة وأطال الركوع والسجود فإنه يكون قانتاً، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وسماه قانتاً، فالقنوت هو المداومة على الطاعة ولزومها مع الخشوع والذل والخضوع لله جل وعلا.
الصفة الرابعة: أنه ما كان من المشركين، فما كان معهم في القصد والإرادة، ولا كان في المكان، وما كان في الدين والعمل معهم، بل كان مفارقاً لهم في جميع الأحوال، وهو كذلك لم يقع في الشرك، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنه في مواضع متعددة أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا كان مشركاً، وكل من الخلق يدعي أنه على طريقته، فاليهود يدعون أنهم أتباعه وعلى نهجه وعلى ملته، والنصارى كذلك، والمشركون كذلك، والله جل وعلا برأه من الجميع، وأخبر أن أولى الناس بإبراهيم اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ، وهو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء هم أولى الناس به وأقربهم إليه.
فهذه الأوصاف الأربعة إذا تحلى بها العبد فقد حقق التوحيد وكان أسوته خليل الرحمن، ويصير ممن لا يعذب يوم القيامة ولا يحاسب، بل يسبق إلى الجنة مع الذين يسبقون إليها.(16/4)
أوصاف إبراهيم عليه السلام في تحقيق التوحيد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد: الأولى: أنه كان أمة.
أي: قدوة وإماماً معلماً للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة في الدين].
هذا أحد المواضع التي وردت في القرآن في (الأمة) يقصد بها القدوة الذي يقتدى به؛ لأن القرآن ورد فيه لفظ (الأمة) في معان عدة هذا أحدها، والمعنى الثاني: الجماعة من الناس.
كقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] يعني: جماعة، وهذا كثير، والمعنى الثالث: أنه يقصد بالأمة طائفة من الزمن.
كما قال الله جل وعلا في قصة يوسف: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] يعني: بعد وقت وبعد مدة تذكر ما حدث معه ومع يوسف، وما حدث من تأويل الرؤيا.
وكذلك قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود:8] يعني: إلى طائفة من الزمن.
الرابع: أنه يقصد بالأمة الدين والملة، كقوله تعالى عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فهذه المعاني التي وردت بلفظ الأمة، أحدها: القدوة.
والثاني: الجماعة من الناس.
والثالث: الطائفة من الزمن والوقت.
والرابع: الملة والدين.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [الصفة الثانية كونه قانتاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: القنوت: دوام الطاعة.
والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] انتهى ملخصاً.
الثالثة: أنه كان حنيفاً.
قلت: قال العلامة ابن القيم: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه.
انتهى] لا بد لكل مقبل على الله أن يكون إقباله قصداً وإرادة واختياراً، وأن يكون معرضاً عن كل ما سواه، ويتضمن هذا الحب والارتباط بذلك، وكراهة ما عداه كراهة شديدة، ويكون بذلك فاعلاً للخير تاركاً للشر رغبة فيما عند الله وحباً له وبغضاً للابتعاد عن الله جل وعلا ومخالفته، فلا بد أن يكون بهذه الصفة.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [الصفة الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي: لصحة إخلاصه وكمال صدقه وبعده عن الشرك.
قلت: ويوضح هذا قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] أي: على دينه من إخوانه المرسلين.
قاله ابن جرير رحمه الله تعالى، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
الاستثناء في الآية: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] إلى قوله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] يعني: لا تتأسوا بقول إبراهيم حين قال لأبيه: ((لأستغفرن لك))، فهذه لا يجوز لكم أن تتأسوا بها؛ لأنها ما كانت إلا عن موعدة وعدها إياه، يعني أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، ولكن لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وأصبح معادياً له ومبغضاً له وكارهاً له.
فهذا معنى الاستثناء، ولهذا أخبر الله جل وعلا بذلك لما حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره لعمه لما حضرته الوفاة وجاء إليه وقال له: (ياعم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله جل وعلا).
فقال له جلساء السوء: أترغب عن ملة عبد المطلب فأبى أن يقولها ومات على ملة عبد المطلب، وملة عبد المطلب الشرك، عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما ألم أنه)، فصار يستغفر له؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما سمع المسلمون الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صاروا يستغفرون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] إلى آخرها، ثم قال لهم: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وفي هذه الآية استثنى الله جل وعلا استغفاره لأبيه من أن نتأسى به في ذلك، فنتأسى به فيما عدا استغفاره لأبيه.
[وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49]، فهذا هو تحقيق التوحيد، وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم، فالله المستعان].
الواقع أنه لا يحصل التوحيد إلا بالكفر بالطاغوت، والطاغوت: اسم لكل ما يصد عن عبادة الله جل وعلا، سواءٌ أكان معنوياً أم كان حسياً.
فكل ما صد عن عبادة الله من المعاني والحسيات فهو طاغوت، ولا يمكن أن يتحلى الإنسان بعبادة الله وتوحيده إلا إذا تبرأ مما يضاد ذلك، لهذا بدأ الله جل وعلا بالكفر بالطاغوت أولاً، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فهذان أمران متضادان لا يجتمعان أبداً، أي: حب الكفار والمشركين وموالاتهم مع توحيد الله جل وعلا وإخلاص العبادة له.
فلا يجتمع هذا مع هذا أبداً، كما قال الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] يعني: ولو كانوا أقرب الناس إليهم لا بد أن يبغضوهم ويعادوهم ويتبرأوا منهم ويزايلوهم ويفارقوهم، ولا يلتقون بهم إلا عند الجهاد أو الدعوة، أي: حين يدعونهم إلى الله جل وعلا.
ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من رجل بات بين ظهراني المشركين)، ثم قال: (لا تتراءى ناراهما إلا في سبيل الله) يعني: لا تكون نار مسلم بجوار نار مشرك، فلا بد أن يزايله ويفارقه.
والمزايلة والمفارقة أمر حتمي لا بد منه، إلا إذا اضطر الإنسان اضطراراً لا يستطيع معه المفارقة فحينئذ كما قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]، وإذا كان الإنسان في بلاد الكفار يستطيع أن يظهر دينه، ويستطيع أن يدعو إلى ربه، ويستطيع أن يفعل العبادات بكل حرية ولا يخاف أن يصد عن دين الإسلام ويرد، فإن كان كذلك فلا بأس، أي: لا يمنع من كونه يكون في بلاد الكفار إذا كان بهذه الصفة، ولكن يمنع إذا كان يخاف عليه أن يرتد عن دينه، أو أنه يمنع من إقامة شعائر الدين مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات، فإذا كان يمنع فتجب الهجرة، ويجب أن يفارق هذا البلد إلى بلد الإسلام، وإلا كان ممن تعرض للوعيد، حيث يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، فيجب أن يتركوا ويهجروا البلد الذي يمنعهم الكفار فيه من إقامة دينهم.(16/5)
أوصاف للخليل عليه السلام بحلة جديدة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله في هذه الآية: (إن إبراهيم كان أمة)، لئلا يستوحش تارك الطريق من قلة السالكين، (قانتاً لله) لا للملوك ولا للتجار المترفين، (حنيفاً) لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين، ((ولم يك من المشركين)) خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين.
انتهى].
هذا كلامه على الآية وفوائدها، وهو في الواقع يتكلم من باب اللوازم، ويذكر الأدنى منبهاً على ما هو الأعلى، فقوله: (إن إبراهيم كان أمة لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين) يشير بهذا إلى أنه كان وحده على الحق، وهذا هو المعنى الثاني الذي يروى عن ابن مسعود أن إبراهيم عليه السلام كان وحده على الحق، وجاء عن غيره أيضاً من السلف المعنى الثاني الذي ذكرناه.
وقوله: (لئلا يستوحش السالك من قلة السالكين) يدلنا على أن الإنسان يجب أن يتعرف على الحق، وأنه ليست الكثرة دليلاً على أن الحق يكون معها، بل قد يكون الحق مع الأقلين، وأن الإنسان لا يستوحش من ذلك، بل يجب عليه أنه إذا عرف الحق يتمسك به ولو كان وحده، فهذا معنى كلامه.
وأما قوله: (قانتاً لله لا للملوك ولا للتجار المترفين) فيعني أنه بذلك يشير إلى وجوب الإخلاص، وأن يكون العمل خالصاً لله، لا يقصد به منافع دنيوية ولا أحد من الناس، وإنما يقصد به رب العالمين جل وعلا.
وأما قوله: (حنيفاً لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين) فيعني أن الذي يعلم الحق يجب عليه أن يتبعه ويحذر من الفتنة، ولا يغتر بمن مال عن ذلك وإن كان من العلماء؛ فإن العلماء منهم من يفتن ويكون مؤثراً للحياة الدنيا على الآخرة، لهذا قال: (كفعل العلماء المفتونين) الذين فتنوا بالدنيا، أو فتنوا بالجاه، أو فتنوا بالمناصب أو ما أشبه ذلك، فالإنسان لا يغتر بمن جانب الحق، ويجب عليه أن يتعرف على الحق ويتبعه، ولا يغتر بمن مال وحاد عنه وإن كان عالماً.
وقوله: (وما كان من المشركين خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين) يقصد بهذا أن يكون بعيداً عن الشرك وأهله، لا يكثرهم ولا يكون معهم، وهذا في المكان، وكونه أيضاً في العمل أولى من هذا بكثير، فلا يكون على نهجهم وعلى طريقتهم، ولا يكون موافقاً لهم فيما يفعلونه، بل هذا أولى من الأول، فهو نبه بالأدنى على الأعلى.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] على الإسلام ولم يكن في زمانه أحد على الإسلام غيره.
قلت: [ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان إماماً يقتدى به في الخير] هذا في أول الأمر، ففي أول دعوته وأول أمره ما كان على الإسلام غيره، ثم إنه آمن له لوط وهو ابن عمه، فأرسله الله جل وعلا إلى أمة من الناس كما قص الله جل وعلا علينا ذلك، ثم وهبه الله جل وعلا الأبناء الذين صاروا هم آباء الرسل، فكل رسول جاء بعد إبراهيم من أولاده، إلى خاتمهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إلا أن الرسل السابقين من بني إسرائيل كلهم من أولاد إسحاق، وأما محمد صلوات الله وسلامه عليه فهو من ولد إسماعيل، فإسماعيل الذي هاجر به هو ابن هاجر التي وهبتها زوجته سارة له، فلما حصل الحمل ووجد غارت؛ لأنها لم تحمل بعد، فغارت من ذلك، فأمره الله جل وعلا أن يهاجر بها، فذهب بها ومعها ابنها طفل يرضع إلى مكة، ولم يكن فيها أنيس ولا جليس، فوضعهما عند مكان البيت وولى راجعاً إلى الشام، وصارت تناديه يا إبراهيم! إلى من تتركنا؟! فلما لم يجبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم.
عند ذلك رجعت وقالت: إذاً لا يضيعنا الله.
فرجعت، وكان معها جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء، فصارت تأكل من التمرات وتشرب من الماء حتى نفد، فلما نفد التمر والماء نشف ضرعها، فعطش الصبي فأدركه الموت وصار يعاني شدة، فكرهت أن تجلس عنده تنظر وهو يموت، فنظرت فإذا أقرب مرتفع إليها هو الصفا، وصعدت لعلها ترى أحداً وتطلع، فلما لم تر أحداً نزلت متجهة إلى المروة، ولما وصلت إلى بطن الوادي ركضت ركض المجهود، وسعت سعياً شديداً إلى أن وصلت إلى المروة، وصعدت فصارت تتطلع فما رأت شيئاً، وفعلت هذا سبع مرات، وفي السابعة سمعت صوتاً فقالت لنفسها: صه.
ثم سمعت فقالت: لقد أسمعت، فإن كان عندك فأغث.
فنظرت فإذا جبريل عليه السلام عند الصبي، فذهبت إليه، فبحث الأرض فنبع الماء، فصارت تكفكف التراب عليه لئلا يسيل، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً)، ثم صارت تشرب وتدر على صبيها، ثم جاء قوم من جرهم ونزلوا في أسفل الوادي، ورأوا الطير تحوم، فأرسلوا واردهم فأخبرهم بالماء، فجاؤوا يستأذنونها أن ينزلوا عندها فأذنت وقالت: لا حق لكم في الماء تعني: ما تملكون شيئاً منه، وتشربون ولا تملكون.
فشب إسماعيل عليه السلام، وتزوج منهم، وتعلم العربية منهم.(16/6)
السابقون إلى الجنة وكيف حققوا التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]].
هذا أيضاً من أوصاف المؤمنين الذين يسبقون إلى الجنة، حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، والخشية: هي انفعال القلب تأثراً بحب الله جل وعلا وإقبالاً عليه ورجاء لثوابه وخوفاً من عذابه، ثم التزام أوامره والابتعاد عن نواهيه.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، والإيمان يقتضي العمل، والآيات يقصد بها الآيات الكونية والآيات الشرعية، والكونية تستلزم الإيمان بالأقدار وأنها تكون لله جل وعلا، وأن كل شيء يوجد فهو بقدر الله جل وعلا وتكوينه وإرادته، فهم يؤمنون بذلك، والشرعية تستلزم التزام الأمر واجتناب النهي ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، فمدحهم باجتناب الشرك وتركه، وهذا يدلنا على أن الذي يجتنب الشرك كله دقه وجله قليله وكثيره يكون من خواص المؤمنين، فيكون من الذين حققوا التوحيد فيسبقون إلى الجنة، وهذا هو وجه الاستدلال بالآية على الباب، وهو أن من حقق التوحيد دخل الجنة؛ لأنه أثنى عليهم باجتناب الشرك، فدل على أن اجتناب الشرك كله يقتضي أن يكون الإنسان محققاً للتوحيد، ويكون توحيده خالصاً لله جل وعلا، فيكون من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها أنهم بربهم لا يشركون، ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه من شرك جلي أو خفي نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت به أعمالهم وكملت ونفعتهم.
قلت: قوله: حسنت وكملت.
هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر.
ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم].
يعني أن الشرك الأكبر اجتنبوه فسلموا من الكفر والخلود في النار فقط، وليس فيه أنهم دخلوا في السبعين ألفاً وسبقوا إلى الجنة؛ لأن اجتناب الشرك الأكبر لا يقتضي اجتناب الأصغر، ولا ترك الذنوب التي يعاقب عليها الإنسان.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] أي: لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا الله، أحد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنه لا نظير له].
يعني أن هذا يقتضي التوحيد بأقسامه، فقوله: (يعبدونه وحده) مع قوله: (وأنه أحد صمد لا نظير له) يشير بالأول -أنهم يعبدونه- إلى الإخلاص في العبادة وتوحيد الإلهية، ويشير بالثاني إلى الإخلاص في توحيد الصفات والأسماء، وأنه جل وعلا أحد صمد لا شريك له في أحديته وصمديته أيضاً، فيسلم من الشرك في الأقسام الثلاثة كلها.(16/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [17]
هناك سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلهم الله عز وجل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أبرز الصفات التي ميزت هؤلاء لينالوا هذا الفضل العظيم، فذكر عليه الصلاة والسلام أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.(17/1)
حديث حصين بن عبد الرحمن ودلالاته(17/2)
الرقية من العين والحمة وشرط الراقي
قال المصنف رحمه الله: [وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا.
ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت.
فقال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت.
قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديثٌ حدثناه الشعبي.
قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة) قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه.
فنظرت إلى سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً.
وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.
قال: أنت منهم.
ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة).
في الحديث فوائد كثيرة في الواقع، وفيه تحقيق التوحيد، وحصين بن عبد الرحمن من تلامذة سعيد بن جبير، وسعيد بن جبير من كبار التابعين وعلمائهم المشهورين الذين تتلمذوا على ابن عباس وتلقوا عنه التفسير والعلم في كتاب الله جل وعلا، ولهذا اشتهر بالتفسير سعيد بن جبير، ورواياته في التفسير كثيرة جداً، وقد قتله الحجاج بن يوسف ظلماً، وكان هو آخر من قتل الحجاج، وكان رحمه الله مجاب الدعوة، فدعا وقال: اللهم لا تسلطه على مسلم بعدي، فهلك بعد قتله سعيداً، والله جل وعلا يأخذ الظلمة أخذ عزيز مقتدر، وقد جاء في قصته معه أنه لما جيء به قال: ما اسمك؟ قال: اسمي سعيد.
قال: بل أنت شقي.
قال: أمي أعلم حين سمتني فصار بينه وبينه كلام، ولم يخف منه، ولما أراد قتله قال: دعني أصلي ركعتين.
فقال: صل.
فصلى وقال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً.
فقال: اصرفوه عن القبلة.
ولما صرفه استمر في صلاته، ثم انتهى وقال: لولا أن تقول إنك خائف من الموت لأطلتها، فاصنع ما شئت فقتله، وكان معروفاً بكونه مجاب الدعوة، حتى إنه مرة دعا على ديك كان يوقظه للصلاة، فكان يصيح آخر الليل، فإذا أذن هذا الديك قام وتهجد، وفي ليلة من الليالي لم يؤذن هذا الديك، فما شعر إلا بطلوع الصبح، عند ذلك قال: ما له قطع الله عنقه؟! فانقطعت عنقه، فلما رأته والدته قالت: يا بني: لا تدع على مسلم.
فـ سعيد كان في حلقة التعليم يعلم تلامذته، فقال لهم: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ والبارحة يقول أهل اللغة: هي اسم لليلة التي مضت، فإن كنت قبل زوال الشمس تقول: الليلة، وأما إذا زالت الشمس بعد الظهر تقول: البارحة؛ لأنها برحت ومضت، والكوكب الذي انقض معناه أنه سقط، وهو شهاب، وهو يذكر ذلك ليعلمهم علماً بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حصين بن عبد الرحمن: أنا ثم إنه خشي أن يذم بأنه لما رآه كان يتهجد يصلي ويتعبد؛ لأن انقضاض الكوكب كان في وسط الليل، فلما خشي أن يذم بذلك نفى هذا، وقال: أما إني ما كنت في صلاة، ولكني لدغت.
يعني: أكرهت على السهر، ولم أسهر أتهجد وأتعبد وهذا يدلنا على بعد السلف عن الرياء والسمعة ومدح الإنسان بما ليس فيه، خلافاً لمن يقول: فعلت وفعلت، ويذكر الأشياء للناس ولو لم يكن إليها حاجة حتى يعلمهم بأنه عنده شيء من الصلاح، فهذا يدل على الفساد ولا يدل على الصلاح في الواقع؛ لأن المخلص المؤمن يحرص على ألا يظهر عمله للناس، بل يكون بينه وبين الله خشية أن يلحق العمل النقص؛ لأن النفس في الواقع جبلت على حب المدح والثناء، وجبلت على كونها تترفع على الناس وتترأس، ولهذا قال حصين بن عبد الرحمن: أما إني ما كنت في صلاة، ولكن لدغت.
عند ذلك سأله سعيد شيخه: ما صنعت؟ أي: حين لدغت ماذا فعلت؟ وهذا يدل على طلب العلاج، وأنه أمر مستقر عند السلف، فكانوا إذا حصل لهم مرض أو أمور تتطلب العلاج يبحثون عن الدواء ويتداوون كما سيأتي.
فقال: ارتقيت.
وفي رواية مسلم: (استرقيت) يعني: طلبت من يرقيني والرقية هي القراءة على المصاب حتى يزول الألم أو يخف، عند ذلك قال له شيخه سعيد: فما حملك على ذلك؟ وهذا فيه أن السلف لا يفعلون شيئاً إلا بدليل، وأنه إذا فُعل شيء يسألون الفاعل: ما دليلك؟ وما الذي جعلك تعمل هذا؟ وما مستندك؟ وأما قول: رأيت فلاناً أو رأيت الناس يفعلون هذا أو: كل الناس يفعلون هذا فهذا لا يجوز عندهم، ولا يسوغ عندهم أبداً، فلا بد من الاستناد إلى دليل، والدليل يكون من قول الله جل وعلا، أو من قول رسوله صلى الله عليه وسلم، لهذا قال حصين: حديث حدثناه الشعبي.
والشعبي أحد التابعين -أيضاً- الكبار الذين اشتهروا وعرفوا بكثرة الحفظ، حتى إنه يذكر عنه أنه قال: ما كتبت سوداء في بيضاء.
وكل ما كان يسمعه يحفظه، حتى إنه ذكر عنه أنه كان إذا ذهب إلى السوق يضع في أذنيه كرسفاً لئلا يدخل شيء من كلام الناس الذي لا يريده؛ لأنه ما سمع شيئاً إلا حفظه.
فقال له: وما حدثكم الشعبي؟ قال: حدثنا عن بريدة وهو - بريدة بن الحصيب صحابي مشهور رضي الله عنه- أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة).
فالظاهر أن هذا موقوف هنا، وهكذا في الصحيحين، ولكن هذا جاء في مسند الإمام أحمد وفي الترمذي وغيرهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في مسند الإمام أحمد بسندٍ جيد، فقال: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، ومعنى قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمه) أن الرقية تكون من العين والحمة أشفى وأبلغ وأنجح من غيرها، وليس معنى ذلك أنه لا تجوز الرقية إلا من هذين المرضين، وإنما تكون في هذين الأمرين أنفع، والعين إصابة العائن بعينه، وهو الحاسد، والعين تقع من إنسان ولو لم يقصد؛ لأن كثيراً من الناس تكون نفسه مجبولة على الحسد -نسأل الله العافية- والتطلع إلى ما عند الناس، ويخرج من نفسه شيء شبه السم متكيف مع وساوس الشيطان وإرادته، فيصيب صاحب النعمة، فمن أصابه شيء من ذلك يمرض وقد يموت، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العين حق)، ويجب على الإنسان إذا كان مبتلى بشيء من ذلك ألا يحقق هذا، بل إذا حصل شيء من ذلك يبارك على من حصل له من ذلك، ويقول: اللهم بارك عليه فإنه تزول الإصابة بإذن الله، وقد ذكر العلماء الفقهاء أن الإنسان إذا عرف بإصابته بالعين وكان لا يمتنع من ذلك أنه يجب على ولي الأمر أن يسجنه حتى يموت؛ لأنه يؤذي الناس بذلك.
فالمقصود أن العين قد تكون عند بعض الناس أمراً مستقراً في قرارة نفسه، وكلما غبط إنساناً أو رأى عنده نعمة قد يصيبه بإذن الله جل وعلا، والعجيب أنها لا تصيب العدو، وإنما تصيب من ليس عدواً له، أما العدو فلا تصيبه، وقد قال الله جل وعلا في وصف الكفار: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] أي: كادوا أن يصيبوك بأعينهم، ولكن الله جل وعلا يحفظ نبيه.
فالرقية من هذا المرض -الحسد- نافعة جداً، فمن أنفع علاج العين الرقية، وإذا كان الراقي من المؤمنين الموقنين الذين عندهم قوة في الإيمان وقوة التمسك بالحق ومدافعة الوساوس الشيطانية والنفوس الشريرة فإنه يبرأ بإذن الله.
وأما الحمة فالمقصود بالحمة ذوات السموم التي إذا أصابت ضربت بحمتها، والحمة هي إما العقرب -أي: إبرة العقرب تسمى حمة-، وكذلك ناب الحية، وكذلك إبرة الزنبور؛ لأنه يحدث بسببها الحمى والألم الشديد، فالرقية أيضاً من هذا النوع نافعة جداً، بشرط أن يكون الراقي ممن يؤمن بآيات الله، وعنده قوة الإيمان وقوة مدافعة الشرور والنفوس الشريرة؛ لأن هذه تتعاون مع الشياطين، فالحمة وما أشبهها يستعين بها الشيطان، فإذا حصلت الرقية شفي بإذن الله.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث سرية في أمر من أموره صلوات الله وسلامه عليه للجهاد في سبيل الله، وكانت السرية قليلة، فاستضافوا حياً من العرب فلم يضيفوهم، فلدغ سيده هذا الحي لدغته حية، فسعوا له بكل ما يمكن فلم يفده شيء، فقال بعضهم لبعض: لو ذهبتم إلى أولئك الركب فلعل عندهم راقياً.
فذهبوا إليهم فقالوا: هل فيكم من راقٍ؛ فإن سيدنا قد لدغ؟ فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: نعم.
ولكنكم لم تضيفونا، فلا أرقي إلا بجعل.
فاتفقوا على قطيع من الضأن، فأقبل يقرأ الفاتحة وينفث عليه، فانطلقت رجله وصار يمشي كأن لم يصب بشيء، ثم قال أبو سيعد لأصحابه: لا نقرب هذا القطيع بشيء، فلا نأكل منه ولا نشرب منه ولا ننتفع منه بشيء حتى نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله عن ذلك، فما ندري هل هو حلال أم حرام فلما قدم عليه سأله، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (وما يدريك أنها رقية؟) يعني الفاتحة.
فأمرهم أن يقتسموا فاقتسموا هذا الجعل، وجاء أيضاً في الحديث الآخر: (أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، ويدخل في هذا الرقية، ولكن إذا كان الإنسان يرقي بآيات الله أو بأسمائه وأوصافه، وليس من الدجالين الذين يحتالون على أكل أموال الناس من كل سبيل، و(17/3)
حال الموحدين يوم القيامة
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم).
وكل أمة يأتيها نبي من أنبياء الله تأتي يوم القيامة مع نبيها، ولكن الذي يأتي مع النبي هم المؤمنون فقط، أما الذين كفروا به فالكفار بعضهم مع بعض كلهم يجمعون ثم يلقون في جهنم من أولهم إلى آخرهم، ولكنهم يأتون أفواجاً، فكلما ألقي فيها فوج أو أمة لعنت أختها التي سبقتها، وقالت: أنتم الذين عملتم هذا العمل واقتدينا بكم في العمل.
ثم تلعن أولاهم أخراهم، وهكذا يصبحون متلاعنين قبل دخولهم جهنم، بخلاف أهل الجنة، فإنه ينزع ما في صدورهم من غل قبل دخول الجنة، ويدخلون الجنة إخواناً متحابين متآلفين، وذلك أن الخير كله في الجنة، وأن الشر كله بحذافيره في النار في جهنم.
وعرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون يقظة وأنها مثلت له إذا أتت يوم القيامة كما مثلت له الجنة والنار في مسجد صلوات الله وسلامه عليه لما قام يصلي صلاة الكسوف، يقول: (لقد عرضت علي الجنة والنار دون هذا الحائط حتى خشيت أن تأتي عليكم، فقلت: يا رب! وأنا فيهم؟ وأما الجنة فإني هممت أن أتناول منها قطفاً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ثم بدا لي ألا أفعل)، فهي مثلت له، ويجوز أن يكون التمثيل أمراً حقيقياً؛ لأنه شاهد النار وفيها من يعرفهم، وهو يقول: (مثلت لي الجنة والنار)، ويقول: (ورأيت فيها امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمش وجهها في النار)، وقال: (رأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار)؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم، مع أنه يقول: مثلت.
فتمثيلها بمن فيها.
وكذلك يجوز أن يكون تمثيل رؤيته للأمم مع أنبيائها من هذا القبيل، مثلت له فصار يشاهدها كهيئتها وهي تعرض على الله جل وعلا يوم القيامة، والمؤمنون هم الذين يأتون للعرض على ربهم جل وعلا مع أنبيائهم.
ويجوز أن يكون ذلك رؤيا منام، كما جاء في الصحيحين أنه ذكر رؤيا عجيبة فيها مناظر وأشياء ذكرها، فرأى النار، ورأى الجنة، ورأى آدم، ورأى غير ذلك رؤية منام، ومنام الأنبياء وحي يجب العمل به وتطبيقه، وتثبت الأحكام به، فهو نوع من أنواع الوحي الذي يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه، وأي نوع كان فهو حق لا شك فيه، وصدق أتى من عند الله جل وعلا.
قال صلى الله عليه وسلم: (فرأيت النبي ومعه الرهط) الرهط: هم العشرة فأقل، ما بين الثلاثة إلى العشرة، فإذا زادوا على ذلك فهم جماعة، فمعنى ذلك أنه رأى بعض الأنبياء ليس معه إلا هذا العدد القليل.
ثم قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) يعني أنه يأتي إلى قومه فيدعوهم إلى الله جل وعلا بالوحي الذي أوحاه الله إليه فلا يتبعه إلا رجل أو رجلان.
وهذا عجيب، وأعجب منه قوله: (ورأيت النبي وليس معه أحد) يعني أنه يأتي إلى قومه فيدعوهم فيردون عليه دعوته كلهم، ولا يتبعه واحد منهم، وهذا دليل على أن أكثر الناس هالكون، وأن أكثر بني آدم في النار؛ لأنهم عصوا الرسل، ويدل على هذا نصوص كثيرة، منها ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينادي آدم فيقول: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)، فمن كل ألف لا يبقى إلا واحد فقط، فمن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون هم بعث النار يبعثون إليها، ويبقى واحد فقط، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام:116]؛ لأنهم ضالون، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] في نصوص كثيرة تدل على ضلال الناس، فلهذا يجب على العبد أن يتعرف على الحق، ولا يغتر بالكثرة، فيتعرف على الحق مع من سيتبعه، ولا يغتر بأن الكثيرين خالفوا ذلك؛ فإن الحق عليه نور تطمئن إليه القلوب، وإذا عرفه الإنسان اطمأن إليه، أما قبل أن يعرفه فهو ينكره، ويتصور أن الحق مع الكثرة.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ورفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي) السواد معناه أنه يرى أشخاصهم ولا يميز أعيانهم، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه يعرف أمته لو كانوا من قرب، ولكنه ما ميز أعيانهم، ولهذا ظن أنهم أمته، وقد جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم أنه يقف عند الحوض يذود عنه من ليس من أمته قالوا: كيف تعرف أمتك؟ فأجابهم بأنه لو كان لإنسان خيل غر محجلة بين ظهراني خيل بهم دهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى.
قال: (فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء).
ثم في هذا دليل واضح على فضل بني إسرائيل وفضل موسى، وعلى كثرتهم حتى ظن أنهم هم أمته، فقيل له: هذا موسى وقومه.
وهذا فيما يظهر خاص بموسى وبمن دعاهم واتبعوه، وأما بعد ذلك فقد غيروا وتفرقوا، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة -يعني فرق بني إسرائيل الذين هم اليهود والنصارى وفرق هذه الأمة- فقيل: من هم يا رسول الله -أي: الفرقة الواحدة الناجية من هي-؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو القدوة، وأصحابه هم الذين تلقوا الحق عنه وقبلوه تمام القبول، وبلغوه الأمة، وبلغوه إلى من بعدهم، فهم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه الذين نقلوا الدين غضاً طرياً كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العدول باتفاق أهل الهدى؛ لأن الله عدلهم في كتابه، وما عدله الله وأثنى عليه وأخبر أنه رضي عنه يجب أن يعدل وأن يترضى عنه وأن يتبع وأن تعلم هدايته، وأما الذين يقدحون فيهم فهم في الواقع يقدحون في الشرع؛ لأن من قدح في الواسطة بيننا وبين رسوله فقد قدح بشرعنا، كما قال الإمام أبو زرعة: إنما يريدون أن يقدحوا في الشرع.(17/4)
صفات أهل التوحيد الذين لا حساب عليهم
قال: (فقيل لي: انظر إلى الأفق) الأفق: هو أن تنظر أمامك أو يمينك أو شمالك أو خلفك فترى السماء وصلت إلى الأرض، فهذا الذي تشاهده يسمى الأفق، وفي رواية: (قيل لي: أنظر إلى الأفق.
فنظرت فإذا وجوه الرجال قد سدت الأفق، ثم قيل لي: أنظر إلى الأفق الآخر.
فنظرت كذلك.
فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب).
إلى هنا نهض رسول صلى الله عليه وسلم فدخل منزله، وبقي الصحابة يتساءلون لحرصهم على الخير عن هؤلاء السبعين ألفاً، ويسأل بعضهم بعضاً: من ترى منهم؟ فمنهم من قال: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا لأنهم علموا فضل الصحابة، وفضائلهم معلومة في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس هذا خاصاً بالصحابة.
وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام.
فيقولون: نحن كنا مشركين ووقع منا الشرك، أما أبناؤنا فقد ولدوا في الإسلام فلم يقع منهم شرك، فيجوز أن يكونوا هم، وذكروا أشياء، منها أنهم قالوا هم الشهداء.
وقد جاء هذا أيضاً، وهو أنهم قالوا: هم الشهداء.
وكل هذه لها أوجه من النظر والأدلة، عند ذلك خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يتناظرون ويتساءلون، وهذا دليل واضح على مشروعية المناظرة في مسائل العلم، وطلب المعاني التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظه أو يذكرها الله جل وعلا، فخرج عليهم فأخبروه بما قالوا، وفيه أيضاً عرض المسائل التي يكون فيها خلاف على العالم والرجوع إليه في ذلك حتى يفصل في المسائل ويبين الحق فيتبع، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، ذكر أربع صفات لهم، وهي عامة: الأولى: أنهم لا يسترقون، يعني لا يطلبون من غيرهم الرقية إذا احتاجوا إليها من مرض أو غيره.
وهذا هو الشاهد الذي ساق سعيد بن جبير الحديث من أجله، ساقه ليستدل به على تلميذه الذي ارتقى لما لدغ، فقال: (هم الذين لا يسترقون).(17/5)
حكم الرقية
اختلف العلماء في حكم الرقية، فمنهم من كرهها لهذا الحديث وأشباهه، ومنهم من استحبها وقال: هي مستحبة.
وإذا كانت مستحبة فالإنسان يثاب عليها، ومنهم من فصل، ولكن مع هذا كله يجب أن تكون الرقية مأذوناً بها شرعاً، فتكون بآيات الله والأدعية التي يدعى بها الله جل وعلا بأسمائه وأوصافه، وقد قال السيوطي رحمه الله: أجمعوا على أن الرقية إذا اجتمع فيها ثلاثة شروط أنها جائزة: الشرط الأول: أن تكون باللغة العربية، وبما يعرفه الناس.
الثاني: ألا يكون فيها شيء ممنوع مما يكون شركاً أو وسيلة إلى الشرك.
الثالث: أن يكون معتمداً على الله ولا يعتقد أنها تؤثر بنفسها، وإنما بإذن الله جل وعلا.
وسيأتي الكلام في الرقية، والصواب أن الرقية مستحبة إذا كان الإنسان يرقى نفسه، أو كانت رقية بلا طلب فلم يطلب من غيره أن يرقيه، وأما الذي يمنع من السبق إلى الجنة هو الاسترقاء، وهو طلب الرقية من الآخرين، وكونه يأتي إلى غيره ويسأله؛ لأن المسألة فيها افتقار القلب إلى غير الله جل وعلا، وهو نوع من الحاجة لغير الله، والحاجة قد تكون شركاً، والمسلم يجب أن يكون غنياً عن الخلق كلهم لله جل وعلا، ويكون فقره إلى الله وحده، ويكون افتقاره إلى ربه وحده، أما الخلق فيستغني عنهم جميعاً حتى يكون عبداً لله حقاً، فلا يؤخذ من قلبه ما يأخذه صاحب المنة والفضل عليه؛ لأن كما قيل: احتج إلى من شئت تكن فقيره أو أسيره، وأنعم على من شئت تكن أميره.
فقد جبلت القلوب على الميل والخضوع لمن أحسن إليها، فهذا في الواقع هو السبب في المنع من الاسترقاء، أما الرقية بنفسها فهي جائزة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى ورقي، رقاه جبريل عليه السلام ولكن بدون طلبه، وإنما عرض عليه عرضاً فقبل العرض، وهو صلوات الله وسلامه عليه رقى الحسن والحسين وغيرهما، والراقي محسن إلى غيره، والإحسان هو الطريق للسبق إلى الجنة، أما ما وقع في صحيح مسلم من هذا الحديث أنه قال: (لا يرقون ولا يسترقون) فقد حكم الحفاظ على كلمة (يرقون) أنها وهم من الراوي، وإنما الصواب: (يسترقون)؛ لأن الراقي محسن إلى غيره، والإحسان ما يكون مانعاً من السبق إلى الجنة، والعلة في ذلك هي ما ذكرنا فقط.(17/6)
المقصود بقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة)
الحديث الذي ذكره حصين بن عبد الرحمن عن بريدة أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة) فالعين المقصود بها إصابة الإنسان الحاسد غيره بعينه وهي حق، فالعين حق كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرقية منها نافعة، والحمة معناها: ذوات الحموم.
أي: ذوات الإبر التي تضرب بإبرتها، كالعقرب ونحوها مما يحدث بسبب ذلك حمى وألم ومرض وشدة، فالرقية من هذا نافعة جداً، سواءٌ أكانت عقرباً أم حية أم غيرها، ولكن ليس كل راق تنفع رقيته؛ لأنها تتوقف على الإيمان، وعلى قوة النفس والتوكل على الله، وتصديق خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم واليقين بذلك، أما إذا كان الإنسان متردداً أو شاكاً يقول: تنفع أو لا تنفع فغالباً لا تنفع، فإذا كان متردداً وشاكاً وليس عنده جزم فرقيته لا تنفع، ولهذا تفاوت الناس في الرقية من هذا القبيل تفاوتاً عظيماً، فمنهم من يشفى بمجرد رقية شفاءً عاجلاً، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري في قصة اللديغ.
وأما قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) فمعنى ذلك أنه لا رقية شافية ومجدية ونافعة أكثر منها في العين والحمة، وإلا فالرقية تنفع من جميع الأمراض، ولكن نفعها من هذين المرضين -العين والحمة- أنفع وأكثر من غيرهما، وذلك لأن هذه الأمور غالباً تحدث بواسطة النفوس الشريرة، سواءٌ من الإنس أم من الجن؛ لأن الجن يشتركون مع الإنس، ويشتركون مع الدواب الخبيثة كالحية والعقرب، فإذا جاء الإيمان من نفس خيرة متأثرة بآيات الله وبالطمأنينة به فإنها تكون مضادة لهذه النفوس الخبيثة، فيحصل الشفاء بإذن الله، وكل شيء بأمر الله جل وعلا، والإنسان ليس عنده شيء، والأمر كله يعود إلى الله، ولكن للتفاوت بين الناس في قوة الإيمان والثقة بالله يحصل ذلك.(17/7)
التطير ومعناه
وقوله: (ولا يتطيرون) التطير: هو التشاؤم بالطيور.
وهو عادة قديمة من عادات الجاهلية، ومعلوم أن الطيور ليس عندها تصرف, ولكن يستدلون على الأمور المستقبلة بطيرانها وبأصواتها، وقد علمت طريقتهم بالتواتر، حتى إنهم كانوا إذا خرج أحدهم يريد سفراً أو غزواً أو طلب رزق فشاهد غراباً فإنه يرجع ويقول الغراب: يدل على الغربة.
ويتشاءم بذلك، وإذا نعق صار الأمر أشد عندهم، فيقول: نعى إلي نفسي.
أو: نعاني إلى أهلي، والغراب ليس عنده شيء، وليس عنده من التصرف شيء، ولا يغير شيئاً، فهو شرك، إن أضيفت الأسباب إلى غير مسببها، وكذلك الحيوانات، فبعض الأشخاص يتشاءمون ويتطيرون بها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك)، وسيأتي كلام في الطيرة في بابها إن شاء الله، فهذا أعظم من الذي قبله.(17/8)
الكي وحكمه
وقوله: (ولا يكتوون) الكي بالنار من الأدوية المشهورة عند العرب، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف الكي بأن فيه شفاءً، كما وصف العسل بأن فيه شفاءً، وجاء أن الشفاء في ثلاث: في لعقة عسل، ومشرط حجام، وكية بنار.
ولكن بعده قال: (ولا أحب الكي)، وفي رواية: (وأكره لأمتي الكي)، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه أمر بكي بعض أصحابه، فدعا له طبيباً فأمره بكيه، وجاء عن الصحابة عن بعضهم أنهم فعلوا ذلك، مثل أنس فإنه أخبر أنه فعل ذلك، وكذلك عمران بن الحصين كانت تسلم عليه الملائكة فاكتوى من بواسير كانت فيه فلم يرهم لما اكتوى، ثم ترك ذلك وتاب فعادت تسلم عليه.
فهذا يدلنا على جواز الكي وأنه جائز.
وقد ورد في حكم الكي أحاديث على أنواع: النوع الأول: أنه مكروه.
والحديث الذي معنا يدل على ذلك؛ لأنه قال: (ولا يكتوون)، وهو سبب من الأسباب التي سبقوا بها إلى الجنة.
كما أنه جاء أيضاً أن الرسول صرح بكراهته فقال: (ولا أحب الكي)، وقال: (وأكره لأمتي الكي).
النوع الثاني: الإذن به -أي: بالكي-، والإذن يدل على الجواز.
النوع الثالث: فعل الكي.
النوع الرابع: وصفه بأنه فيه شفاء، ولم يمنع منه وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ولهذا لما سئل عن الخمر قال: (هي داء وليست بدواء، ولم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها).
وقد اختلف العلماء في التداوي به على مذاهب، فمنهم من أجاز ذلك وقال: تركه أفضل توكلاً على الله.
وهذا المشهور في مذهب الإمام أحمد وطوائف من العلماء، ومنهم من استحبه استحباباً مأكداً حتى دنا به من الوجوب، وهو المشهور عن الإمام الشافعي رحمه الله، وقال النووي رحمه الله: مذهب جمهور العلماء أنه مستحب ومنهم من جعله مستوي الطرفين، يعني: تركته أو فعلته فكلاهما سواء، والصواب أنه مستحب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أمورٍ يُتداوى بها فقال: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله)، وفي رواية: (تداووا؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له شفاء إلا داءً واحداً وهو الهرم).
فإذاً التداوي جائز، ولا يكون ممنوعاً.(17/9)
التوكل وفعل الأسباب
الصفة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا هو الجامع لما سبق، فهذه هي الصفة التي جمعت ما سبق، كونهم يتركون الطلب من الناس وسؤال الرقية وغيرها، وكونهم لا يتطيرون، بل يعلمون يقيناً أنهم لا يصيبهم إلا ما قدره الله وقضاه، وأن الأمور كلها بيد الله، وأن الطيور والحيوانات وغيرها لا دخل لها في تدبير شيء وتغيير أمر من الأمور، وأنها مسخرة مدبرة، فهم يعتمدون على ربهم جل وعلا موقنين بأن ما كتب الله عليهم لا بد أن يقع، وما لم يكتبه فلن يأتي إليهم.
وكذلك كونهم لا يفعلون الأسباب المكروهة، والأسباب تنقسم إلى ثلاثة أقسام، ومن هذه الثلاثة قسم وضع سبباً على حصول المطلوب -المسبب- ولا بد منه، ككون الإنسان يطلب العلم فيحصل له ذلك، فلو جلس في بيته بدون طلبه ما حصل له شيء، وكون الإنسان يتزوج ليحصل له الولد، وأن الإنسان متى جلس وقال: أتوكل على ربي فإذا قدر لي شيئاً سيأتي من الرزق ومن الولد ومن العلم ومن غير ذلك فهو إما أن يكون مجنوناً عقله ذاهب، أو يكون جاهلاً جهلاً مركباً قد ترك الشرع وترك العقل؛ لأن الشرع جاء بفعل الأسباب والأمر بالأخذ بالسبب، ثم بعد ذلك التوكل على الله في حصول المطلوب بعد فعل السبب، فلهذا أمرنا جل وعلا أن نأخذ حذرنا من الكفار، وأن نعد لهم ما استطعنا من قوة، فإنه جل وعلا أخبرنا أنه يصل المؤمنين، وأنه مع المحسنين ومع المتقين، فلا بد من فعل الأسباب، وليس التوكل هو تعطيل السبب والإعراض عنه، بل هذا يسمى عجزاً، فترك الأسباب عجز وليس بتوكل، فالتوكل هو فعل الأسباب ثم الاعتماد على الله في حصول المقصود، أي أن الإنسان لا يعتمد على السبب ولا يعطله، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيله قدح في العقل والشرع، فلا بد أن يفعل الإنسان السبب ولا يعتمد عليه، بل يعتمد على ربه جل وعلا في حصول المطلوب، فهذه هي حقيقة التوكل، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
يعني: تذهب في الصباح من أوكارها جائعة وترجع في المساء قد ملأت حواصلها فأثبت لها الغدو والرواح، فلم تجلس في أوكارها، بل لا بد أن تروح؛ لأن هذا هو السبب، والله جعل لكل شيء سبباً.
وليس معنى ذلك أن الأسباب تؤثر بطبائعها وذواتها، كلا فهذه حكمة الله، وإلا فلو شاء لعطل السبب، ولو شاء لأوجد مضاداً له يمنع من حصول المطلوب، وإنما المقصود أن هذه سنته جل وعلا في خلقه أن رتب المسببات على أسبابها، وأمر بفعل السبب والاعتماد عليه في حصول المطلوب، فهذه هي حقيقة التوكل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن أشياء عجيبة خلاف ما تعاهد عليه الناس.
فقد ذكر عن موسى عليه السلام أنه لما أدركه فرعون وقومه وقد حال البحر بينه وبين المضي قال له جل وعلا: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:63] فوقف كأنه جبال، وأصبح قاع البحر يبساً ليس فيه مدحضة ولا مزلة، قاع يابس، فسار فيه الناس، وما قيمة العصا؟ ومن ذلك أيضاً لما كان قومه في التيه بسبب عنادهم فاستسقى لقومه قال له جل وعلا: ((اضرب بعصاك الحجر))، فانفجر من الحجر اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين معينة، وهو حجر يحمل باليد، فمن أين يخرج الماء؟! فليست الأسباب هي التي توجد المسببات، ولكن الله رتب وجودها على فعل هذا السبب، ومن ذلك كونه جل وعلا خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وهذا خلاف المتعاهد عليه والمعروف في خلق بني آدم، وكونه جل وعلا خلق زوج آدم من رجل بلا أنثى، فخلقت من قطعة من جسده أنثى كاملة الخلقة، كل هذا ليبين لنا جل وعلا تمام قدرته، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، ولكنه يضع الأسباب التي صارت هي سنته بالأمر بفعلها ويختبر عباده هل يعبدون الله أو يعبدون الأسباب، وكثير منهم يعبد السبب، وكثير منهم يضيف الأمر إلى نفسه، فيقول: أنا ماهر في وجوه التجارة، وأعرف كيف أتصرف.
وهكذا يقول كثير من الناس، يعني أنه يضيف حصول ما يحصل له إلى نفسه، وينسى ربه الذي لو شاء لأعمى بصيرته وعطل كل سبب يفعله فلا يكون سبباً.
فالمقصود أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب، بل يقتضيها، فيقتضي فعل السبب، ولكن الذي يفعل السبب يجب عليه ألا يعتمد على السبب، بل يعتمد على ربه جل وعلا.
فهذه الأوصاف الأربعة هي التي جعلت هؤلاء يسبقون إلى الجنة بلا حساب.
وقد جاء في أحاديث زيادة على السبعين ألفاً، مثل الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وصححه غيرهما أن مع كل ألف سبعين ألفاً، ومنها ما هو أكثر من ذلك، فجاء أن معهم ثلاث حثيات من حثيات ربنا جل وعلا، وهذا شيء عظيم جداً، وجاء في حديث -وإن كان الضعيف لا ينبغي ذكره لأنه لا يعتمد عليه- أن السبعين ألفاً من مقبرة البقيع، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم لحرصهم على الخير كانوا يعلمون أن هذا بعمل وليس بدون عمل، ولهذا بحثوا عن الأسباب.(17/10)
خلاصة صفات السبعين ألفاً
صفات الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب أربع: الأولى: أنهم لا يسترقون أي: لا يطلبون من يرقيهم.
وعرفنا أن معنى ذلك أن المحذور هو الطلب وليست الرقية، أما الرقية بنفسها فهي جائزة بل مستحبة, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه وغيره، وقد رقاه جبريل، وسيأتي الكلام في الرقية إن شاء الله.
والصفة الثانية: أنهم لا يتطيرون.
والتطير نوع من الشرك، وذلك هو التشاؤم بأفعال الطيور وبأصواتها، بأن يستدلوا بأفعالها على ما سيقع لهم، وهذه أمور يلقيها الشيطان في نفوسهم، وهي وهمية لا حقيقة لها، ولكن قد يبتلى الإنسان بما يعتقده وكله فتنة وبلوى، والذي يتعلق بغير الله جل وعلا يوكل إلى ذلك الذي تعلق به، فهذا معناه أنهم لا يعملون شيئاً من الشرك فـ (لا يتطيرون): لا يعملون شيئاً من الشرك.
الصفة الثالثة: أنهم لا يكتوون.
والكي جائز في الجملة، وهو سبب، ولكنه من الأسباب المكروهة؛ لأن الأسباب التي يطلب بها حصول المسبب قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم منها ممنوع محرم، وهذا كل ما حرمه الله جل وعلا وإن كان سبباً لحصول منفعة ما، فمثلاً الخمر قد يقال: إنها سبب للصحة أو ما أشبه ذلك، فهذا ممنوع محرم، وكذلك التداوي بالأمور المحرمة لا يجوز.
والقسم الثاني: أسباب مكروهة، مثل كون الإنسان يكتسب الرزق بسبب مكروه مثل الحجامة وما أشبه ذلك مما ذكر في الحديث، ومثل ذلك الكي طلباً للشفاء؛ فإنه قد يكون سبباً ولكنه سبب مكروه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كره الكي، وقد أخبر أن فيه الشفاء، ومع ذلك قال: (وأكره لأمتي الكي)، وفي رواية: (ولا أحب الكي)، فهذا لأن العلة -كما يقول بعض العلماء- فيه أن الألم فيه أمر محقق، وأما الشفاء فهو أمر مظنون، فاستعجل الأمر المحقق الذي هو الألم بشيء مظنون مما يدل على تشبثه بالدنيا وتمسكه بها ورغبته فيها، فهنا قال: إنه يكره.
وكذلك ما أشبهه، ولكن لا يدخل في هذا -مثلاً- إجراء العمليات التي قد علم أن الغالب عليها السلامة والشفاء، فإنها ليست من هذا الباب، بل هي من باب العلاج الذي سبق أن بعض العلماء يقول: إنه مستحب استحباباً يداني به الوجوب.
الصفة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون، وحقيقة التوكل: فعل السبب الذي أمر به والاعتماد على الله جل وعلا في حصول المطلوب المقصود.
وليس ترك الأسباب من التوكل في شيء، فترك الأسباب عجز في الإنسان وقدح في عقله، وكذلك هو قدح في الشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل السبب، وأخبر الله جل وعلا أنه جعل لكل شيء سبباً، فيجب أن يفعل ذلك السبب، ولكن يجب أن يكون سبباً أباحه الله، ويجب ألا يكون الإنسان معتمداً على السبب، وألا يضيف إليه الأمر الذي سيقع، بل يضيفه إلى الله، ويعتمد على الله في حصول ذلك، والتوكل من أفضل الأعمال وأجلها، أعني أعمال القلوب، ولهذا صارت هذه الخصلة الرابعة هي الجامعة لما سبق، تجمع ما سبق كله، فلتمام توكلهم لا يطلبون الرقية من أحد، والطلب في غير الرقية من باب أولى، فهم لا يطلبون شيئاً من أمور الدنيا، ولا يتطيرون؛ لأنهم يعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما قدره الله لا بد من وقوعه، وأن الله قضى ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن الطيور ليس عندها تصرف، وليس عندها نفع ولا ضر، ولا خير ولا شر، وإنما هي مسخرة مخلوقة كسائر العوالم التي خلقها الله جل وعلا لحكمة، فليس عندها مما يزعمه المشركون فيها.
وكذلك كونهم لا يكتوون، فيرضون بما قدر الله لهم، ولكن ليس معنى هذا أنهم يتركون العلاج؛ لأن العلاج قد جاء الأمر به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله إلا داءً واحداً وهو الهرم)، فأمر بالتداوي وحث عليه، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان يتداوى مما أصابه من السم ومن السحر ومن غير ذلك.(17/11)
استعمال المعاريض والتنافس على الآخرة
بعدما ذكر تلك الأمور قام رجل من الصحابة يقال له: عكاشة بن محصن الأسدي ممن سبق إلى الإسلام قديماً، ومن المهاجرين الذين هجروا بلادهم وأموالهم وأقاربهم لله تعالى، وهاجر إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الفوارس الشجعان، وكان أيضاً من أحسن الناس وجهاً، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر المشاهد التي قاتل فيها، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب، ومنهم بنو أسد، حيث زعموا أن واحداً منهم نبي، وهو طليحة الأسدي، ادعى النبوة، فذهب الصحابة لقتالهم فهزمهم الله جل وعلا، وكان طليحة الأسدي شجاعاً مقداماً معروفاً بالشجاعة والإقدام، فركب فرسه هارباً فأدركه عكاشة فرجع إلى عكاشة وقتله، فقتل شهيداً، ثم إن طليحة الأسدي تاب وأسلم، وذهب لقتال الفرس، وصارت له وقائع مشهورة ومواقف معلومة في الشجاعة والبسالة والإقدام على العدو، ثم إنه قتل في وقعة الحيرة.
فـ عكاشة قام طالباً من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة بأن يدعو الله له أن يجعله من السبعين ألفاً، ففي رواية قال: (أنت منهم)، وفي رواية: (اللهم اجعله منهم)، وجاء في رواية في الصحيح: (أأنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم)، وهذه تحمل على أنه بعدما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء استفسر مرة أخرى: هل أجيبت دعوته؟ فأخبره أن: نعم.
ثم بعدما قال عكاشة ذلك قام رجل آخر وقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة)، وهذا من باب المعاريض التي لا تجرح أحداً، ويظهر أنه صلوات الله وسلامه عليه خشي أن يتتابع الناس في ذلك، فربما يقوم من ليس أهلاً لأن يكون منهم، وكونه يقول: أنت لست منهم قد يكون فيه سوء للإنسان الذي يواجه بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يكره مقابلة الناس بما يكرهون، فهذا يدلنا على حسن أدبه صلوات الله وسلامه عليه وتربيته، فقال: (سبقك بها عكاشة)، عند ذلك أحجم الناس كلهم، وصار هذا سداً لباب الطلب، وليس الأمر كما يقول بعضهم: إن هذا الذي قام منافق.
فهذا بعيد جداً؛ لأن المنافق ما يكون في قلبه دافع يدفعه لأن يطلب أن يجعل منهم، بل هو لا يؤمن بذلك، بل يكره هذا، فهذا بعيد جداً، بل هو باطل؛ لأن هذا الذي قام لا بد أن يكون عنده دافع قلبي ورجاء يدفعه إلى أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الله، ولكن العلة هي ما ذكرنا -والله أعلم- أنها خشية التتابع في ذلك، فسد الباب بقوله: (سبقك بها عكاشة)، فصار جواباً لا يخدش شعور أحد، ويكفي في منع الإقدام والطلب من كل واحد، وهذا من حكمته صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد في هذا الحديث قوله في هؤلاء السبعين ألفاً: (لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وهذا يدلنا على أن الإنسان ينبغي له أن يطلب الفضل والأمور العالية وإن كان غيرها جائزاً، فإن سعيداً رحمه الله لما أخبره حصين أنه استرقى لحديث بلغه في ذلك قال له: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
يعني: أحسن من عمل بما علم، ولكن هناك شيء أفضل مما صنعت، فينبغي لك أن تبحث عن الأفضل وتترك المفضول وهذا من باب التسابق في درجات الآخرة، وهي التي في الواقع ينبغي أن يتسابق فيها ويتنافس فيها لا أمور الدنيا، فإن أمور الدنيا؛ إما أن تذهب وتترك الإنسان أو الإنسان يذهب ويتركها، ولا بد من واحدٍ من هذين الأمرين ومن هاتين الخصلتين، والأمر يذهب كأن لم يكن، بخلاف الشيء الباقي الأبدي، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالتنافس في الدرجات، فقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين:26] يعني: كل واحد ينافس الآخر في أن يكون أقدم منه وأرفع درجة في العمل الصالح، ويجتهد في العمل الصالح وفي طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصراً ومطولاً، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي.
قوله: [عن حصين بن عبد الرحمن] هو السلمي أبو الهذيل الكوفي، ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنة، وسعيد بن جبير هو الإمام الفقيه، من جملة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.
وقوله: (انقض) هي بالقاف والضاد المعجمة، أي: سقط.
والبارحة: هي أقرب ليلة مضت.
قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة.
وبعد الزوال: رأيت البارحة.
وكذا قال غيره، وهي مشتقة من (برح) إذا زال.
وقوله: (أما إني لم أكن في صلاة) قال في مغني اللبيب: (أما) بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة (ألا)، فإذا وقعت (أنَّ) بعدها كسرت.
الوجه الثاني: أن تكون بمعنى (حقاً) أو (أحق) وقال آخرون: هي كلمتان: الهمزة للاستفهام و (ما) اسم بمعنى: (شيء)، أي: ذلك الشيء حق، فالمعنى: أحقٌ هذا؟ وهو الصواب، و (ما) نصب على الظرفية، وهذه تفتح أن بعدها.
انتهى.
والأنسب هنا هو الوجه الأول.
والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي، فنفى عن نفسه إيهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.
وقوله: (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه، قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم: إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.
وقوله: (قلت: ارتقيت) لفظ مسلم: (استرقيت) أي: طلبت من يرقيني.
وقوله: (فما حملك على ذلك؟) فيه طلب الحجة على صحة المذهب.
وقوله: (حديث حدثناه الشعبي) اسمه عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقاة التابعين وفقائهم، مات سنة ثلاث ومائة.
وقوله: (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه، تصغير بردة (ابن الحصيب) -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- ابن الحارث الاسلمي، صحابي شهير، مات سنة ثلاث وستين، قاله ابن سعد.
وقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعاً، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعاً، قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه.
والحمة -بضم المهملة وتخفيف الميم-: سم العقرب وشبهها قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي].
قد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما، ورقاه جبريل، ودل هذا على جواز الرقية، وأنها جائزة، وأما الذي ينهى عنه ويكره فليس من نوعه، بل هو مكروه فقط، فهو من باب الكمال، وهو كون الإنسان يطلب من الإنسان، وليس هذا خاصاً بالرقية، بل كل طلب يطلبه الإنسان من الآخر مكروه، وذلك لأن الطلب فيه ذل وفيه افتقار للقلب، وقلب العبد الذي يعبد الله حقاً عبادة كاملة يجب أن يكون خالصاً لله ليس لأحد فيه شيء، ولهذا لما اتخذ الله جل وعلا إبراهيم خليلاً وجاءه الولد فأحبه صار له شعبة من حب قلبه، فأراد الله أن يبتليه لينظر هل يكون لهذا الولد اشتراك في الحب الذي هو خالص لله جل وعلا؟ فأمره بذبحه، فأقدم على ذبحه غير مبال، حين ذلك بين أن حبه خالص لله، وليس معنى هذا أنه لم يتبين لله تعالى وتقدس، ولكن المقصود أن يبرز ويظهر للناس وللمبتلى نفسه، وإلا فالله عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء، ولهذا قد كتب الله جل وعلا كل ما يقع من الناس، وعلمه قبل وجودهم، ولا يمكن أن يقع شيء على خلاف علمه، ومع ذلك لا يؤاخذهم بعلمه، بل لا بد من كتابة الأعمال، فالملائكة تكتب أعمالهم، ولا بد أن يسألوا يوم القيامة، كل واحد يسأله الله جل وعلا عن عمله، عملت يوم كذا كذا وكذا فهل تنكر؟ وربما ينكر الإنسان، فإن أنكر جاءت الشهود من كل مكان، تشهد عليه أعضاؤه والأرض وكل شيء، فالأرض تشهد أنه عمل كذا وكذا وتنطق، وأعضاؤه كذلك تنطق.
والمقصود أن الله جل وعلا من كمال عدله وحبه للعذر وأن يعذر الناس لا يأخذ بمقتضى علمه، بل لا بد من العمل الظاهر البارز الذي يشاهد ويسجل، فهذا كله يدل على كمال عدل الله جل وعلا.(17/12)
العمل بالعلم
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن، بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم، فإنه مسيء آثم وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم].
هذا في الواقع أمر جليل، وهو كون الإنسان إذا ما علم يأثم ويجب عليه أن يعلم، أي: بالأمور التي يقدم عليها ويعملها، فيجب أن يكون على علم، فإنه إن لم يكن على علم فإما أن يقع في بدع وانحرافات فيضل في نفسه ويضل غيره، وإما أن يقصر ويترك الواجب عليه الذي وجب عليه، وكلا الأمرين مضر، ويترتب عليه إثم، فإذاً العلم أولاً ثم العمل ثانياً، كما قال الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل الاستغفار والعمل، فدل هذا على وجوب العلم، ومعنى ذلك أن كل إنسان لزمه عمل من الأعمال يجب عليه أن يعرف حكم الله فيه، سواءٌ أكان العمل مما يخص نفسه، أم كان يتعدى إلى غيره كالمعاملات والعقود، وسواءٌ أكانت عقود أنكحة، أم عقود بيع أم غيرها؛ لأنه يوشك أن يقع في محرم وهو لا يدري إذا كان لا يعلم، فإذا أقدم على علم فإنه يسلم بإذن الله إذا كان متقياً، أما إذا كان غير متق فيجوز أن يتعمد المخالفة، وهذا أعظم أيضاً، أعظم من الجاهل؛ لأنه ربما عفي عن الجاهل ما لا يعفى عن العالم.
فالواجب على الإنسان أن يقوم بما أوجب الله عليه، وقد جاء أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، والمقصود بقوله: (فريضة) الشيء الذي يلزمه، وليس كل علم، فالشيء الذي يلزمه مثلاً يلزمه أن يعرف كيف يتطهر للصلاة، ويلزمه أن يعرف كيف يصلي، ولو وقع في سهو كيف يصنع، وما الذي يعمله في صلاته، ويلزمه أن يعرف كيف يؤدي زكاة ماله إذا كان عنده مال، ويلزمه أن يعرف كيف يصوم، وكيف يحج، وقبل هذا كله يلزمه أن يعرف كيف يعبد الله، وكذلك يتعرف على رسوله صلى الله عليه وسلم المعرفة التي تثبت في القلب، ويكون موقناً بأنه رسول من الله، وهذا لا يكون إلا بعلم وبآياته التي جاء بها التي تدل يقيناً على أنه رسول من عند الله جل وعلا، أما إذا كان يسير على ما يفعله الناس، ويصنع كما يصنعون فهذا في الواقع مسلم في الظاهر، ولكنه يخشى عليه أن يفتن عن دينه، ويخشى عليه أن يقع في المخالفات، ويخشى عليه في قبره أيضاً أنه إذا سئل قال: رأيت الناس يصنعون شيئاً فصنعته.
كما ورد في الحديث.
فالأمور التي يجب على العبد العلم بها هي التي يزاولها وتلزمه، أما الأمور التي ليس له بها صلة فما يلزمه أن يعلمها، كما إذا لم تكن له صلة بالبيع والشراء، وإنما يلزمه الشيء الذي يعمله في الصلاة وفي الطهارة والصوم والحج ونحو ذلك.(17/13)
عمق فهم السلف في توافق النصوص
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان كذلك، مات بالطائف سنة ثمان وستين.
قال المصنف رحمه الله: وفيه عمق علم السلف؛ لقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا) فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني].
ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضرب بعضه بعضاً، ولا يناقض بعضه بعضاً؛ لأنه كله وحي، ولكن فهوم الناس قد تختلف، وقد يبدو للإنسان أن هذا معارض للنص الآخر وما أشبه ذلك، فإذا بدا له ذلك فليتهم رأيه ونظره وفهمه، وليعلم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله حق، وكذلك قول الله جل وعلا.
وهنا يقول: إن فيه عمق علم السلف.
يعني أن علمهم علم محيط بالأشياء والأحكام الدقيقة، فلما ذكر له الحديث علم أنه لا يخالف الحديث الذي سيذكره، ولكن الدرجات تختلف، فهذا في الأمر الجائز المباح الذي ليس محرماً، وهذا في الأمر الفاضل الذي يكون من صدق السابقين، وهو يطلب منه أن يكون مع السابقين.(17/14)
عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم ومتى كان
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (عرضت علي الأمم)، وفي الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء.
قال الحافظ رحمه الله: فإن كان ذلك محفوظاً كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء وأنه وقع بالمدينة أيضاً.
قلت وفي هذا نظر].
نعم هذا فيه نظر، بل هذا غير صحيح، فالإسراء لم يقع إلا في مكة فقط، وبعضهم قال: إنه وقع ثلاث مرات.
والاختلاف فيه بين علماء في أمور: الأمر الأول: التعدد، فاختلفوا في تعدده، والصواب أنه لم يتعدد، وإنما وقع مرة واحدة في مكة، وفرضت فيه الصلاة مرة واحدة ولم تفرض مرتين ولا ثلاثاً.
الأمر الثاني: من حيث ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل كان بروحه وجسده معاًَ، أو كان بروحه دون جسده؟ والصواب أنه بروحه وجسده يقظة غير منام، فأسري به يقظاً غير نائم، وفرض عليه ما فرض، ولم يذكر من الفرائض التي فرضت عليه إلا الصلاة فقط، وفرضت عليه أول ما فرضت خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فلم يزل يطلب ربه جل وعلا التخفيف بمشورة موسى عليه السلام إلى أن صارت خمساً.
أما قوله الحافظ: (إذا ثبت هذا دل على تعدده وأنه وقع في المدينة) فليس كذلك، حتى لو ثبت ما يدل على ذلك، وهذا الذي وقع فيه النظر، أي أنه يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة الإسراء التي وقعت في مكة وفي المدينة، وما المانع من ذلك؟ وليس فيه -أيضاً- دلالة تدل على أن هذا وقع في المدينة، وهذا كما يقول ابن القيم رحمه الله: ضعاف النظر ضعاف الفقه والحديث إذا جاءت ألفاظ مختلفة لحديث لجأوا إلى التعدد، وهذا كثير جداً، والواجب أن الإنسان يبحث عن الحق، وإذا تبين له علم أن بعض الألفاظ قد يتصرف فيها الرواة، وبعضها لا تخالف ما قاله سابقاً، وهذا منه، ولا يلزم أن يكون ذلك في الإسراء، وهذا الحديث الذي ذكره عن الترمذي أنه كان في ليلة الإسراء إذا ثبت فمعنى ذلك أنها عرضت عليه الأمم ليلة أسري به وهو في مكة، وحدث بهذا في المدينة، وكان كثيراً ما يحدث بأنه رأى ليلة أسري به كذا وكذا، وكثيراً ما جاءت الأحاديث عن ذلك، وبعضها في المدينة، ولو قلنا مثلما يقول الحافظ رحمه الله لكثر التعدد، وهذا غير وارد.(17/15)
ما ينافي التوكل من الرقية وحكم الاكتواء
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) الذي في صحيح مسلم: (الرهيط) بالتصغير لا غير، وهم الجماعة دون العشرة، قاله النووي.
وقوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد) فيه الرد على من احتج بالكثرة.
وقوله: (إذ رفع لي سواد عظيم) المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
وقوله: (فظننت أنهم أمتي) لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة، وفي صحيح مسلم: (ولكن انظر إلى الأفق)، ولم يذكره المصنف، فلعله سقط من الأصل الذي نقل الحديث منه، والله أعلم.
وقوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه) أي: موسى بن عمران كليم الرحمن.
وقومه: أتباعه على دينه من بني إسرائيل.
وقوله: (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذا أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أي: لتحقيقهم التوحيد.
وفي رواية ابن فضيل: (ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفاً).
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين أنهم (تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر).
وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) قال الحافظ: وسنده جيد.
وقوله: (ثم نهض) أي: قام.
وقوله: (فخاض الناس في أولئك) (خاض) بالخاء والضاد المعجمتين، وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، وفيه حرصهم على الخير، ذكره المصنف.
وقوله: (فقال: (هم الذين لا يسترقون)) هكذا ثبت في الصحيحين، وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد، وفي رواية لـ مسلم: (ولا يرقون) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يرقون)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرقى: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)، وقال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً).
قال: وأيضاً فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
قال: والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن.
وقال: وإنما المراد وصف السبعين ألفاً بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم.
وكذا قال ابن القيم رحمهما الله.
وقوله: (ولا يكتوون) أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء.
قلت: والظاهر أن قوله: (لا يكتوون) أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل بهم ذلك باختيارهم، أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه) وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه كُوي من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي، وروى الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى عن الكي)، وفي لفظ: (وما أحب أن أكتوي).
قال ابن القيم رحمه الله: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها: فعله.
والثاني: عدم محبته والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي فعلى سبيل الاختيار والكراهة].
مراد ابن القيم أن النهي عنه إنما هو من باب التنزيه، يعني: مكروه تنزيهاً.
وأما قوله: وعدم محبته له يدل على المنع منه فغير صواب؛ إذ عدم محبته لا يدل على المنع منه، وإنما هو لا يحبه ولا يمنعه، فهو مثلما قال في الضب: (لا آكله ولا أحرمه) لما سئل عنه، وفي حديث آخر: (ليس بأرض قومي فأجدني أكرهه)، فالمقصود أنه قال: (لا آكله ولا أحرمه)، فهذا لا يدل على أنه مكروه أو أنه ممنوع، بل هو كرهه، والكي مثله، فكرهه وقال: (وما أحب أن أكتوي)، أو: (أنهى أمتي عن الكي)، وقد علم أنه أذن فيه فدل على أنه جائز، ولكنه -مثلما قلنا- سبب من الأسباب المكروهة، إذا تركه الإنسان فهو من باب التنزه والترفع عن الأمور الجائزة التي غيرها أفضل منها، وإذا فعله الإنسان فلا لوم عليه؛ فإنه جائز، ولا يكون آثماً؛ لأنه مباح.(17/16)
مباشرة الأسباب، وحكمها مع التوكل
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا يتطيرون) أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.
وقوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال، وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يكمل كل مقام شريف من المحبة والرجاء والخوف والرضا به رباً وإلهاً والرضاء بقضائه.
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً؛ فإن مباشرة الأسباب -في الجملة- أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه.
وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجاتهم إليها توكلاً على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سبباً لشفائه- بخيط العنكبوت.
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله).
وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: (نعم -يا عباد الله- تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، غير داءٍ واحد.
قالوا: وما هو؟ قال: الهرم) رواه أحمد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل؛ فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً.
وقد اختلف العلماء في التداوي: هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب، فالمشهور عن أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر، قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد، حتى يداني به الوجوب.
قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.
وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جمهور الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد].
عند الذين يقولون: إن التداوي واجب لو أن الإنسان ترك التداوي لكان آثماً؛ لأنه ترك ما يجب عليه، أما الذين يقولون إنه مستحب فإنه إذا تداوى أثيب على ذلك، وإن لم يتداو لم يثب على هذا، فيثاب على الدواء، ولكن إذا كان عنده التوكل فالثواب يكون على التوكل من باب آخر، وأما عند الأولين كما ذكر أنه مذهب أحمد فتركه عندهم يكون أفضل، فإذا تركه يكون مأجوراً؛ لأنه ترك مكروهاً، والمكروه يثاب على تركه تديناً لله جل وعلا، كما أن المستحب يثاب على فعله ابتغاء وجه الله، أما ما ذكره عن مذهب الإمام مالك فكلاهما سواء، فلا ثواب ولا عقاب، تداويت أم لم تتداو.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف، -ومحصن- بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان -بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة- الأسدي، من بني أسد بن خزيمة، كان من السابقين إلى الإسلام ومن أشجع الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك، وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة] طليحة الأسدي هو من أسد بن خزيمة الذين عكاشة منهم، وهذه القبيلة الآن لا يوجد منها أحد، نزحت في وقت فتوح الشام والعراق إلى تلك البلاد، فتفرقت، فلا يعلم منها أحد اليوم، واستشهد طليحة في وقعة الجسر، وقيل: وقعة الحيرة.
وكلتاهما قريبتان.(17/17)
فضيلة عكاشة، وحسن رد النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: فقال يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم قال: (أنت منهم)، وللبخاري في رواية: فقال: (اللهم اجعله منهم) وفيه طلب الدعاء من الفاضل.
وقوله: (ثم قام رجل آخر) ذكره مبهماً، ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه.
وقوله: فقال: (سبقك بها عكاشة) قال القرطبي: لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضراً فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك.
انتهى].
الأولى أن لا يقال: ليس عند الثاني ما عند عكاشة من الأحوال التي تقتضي أن يكون من السابقين ولكن الظاهر قوله الأخير، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من ذلك لئلا يتتابع الناس، فكل واحد سيطلب؛ لأن كل واحد يحب ذلك -بلا شك- من الصحابة، فلما قال هذا القول امتنعوا كلهم وأحجموا عن ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفيه استعمال المعاريض، وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم].
المعاريض هي أن يعرض بالشيء ولا يصرح به، كما قال هنا: (سبقك بها عكاشة) يعني بذلك أنه لن يدعو له، فما قال: لا أدعو لك.
أو: لا أسأل لك.
بل قال: (سبقك بها عكاشة)، فهذا تعريض بالمنع من الدعاء له، وهكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل المعاريض في الأمور التي لو واجه بها الغير لأثرت في شعوره، فيستعمل المعاريض التي يحصل بها المقصود ويحصل بها حسن الأدب، وكذلك القول اللين الذي لا يكون داعياً ودافعاً إلى النفرة.(17/18)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [18]
الناس في التوحيد على مراتب، فمنهم من حقق التوحيد باجتناب المعاصي، ومنهم من قصر فيه بارتكاب المعاصي، وقد أثنى الله تعالى على محققي التوحيد وامتدحهم؛ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الموحدين يوم القيامة وقلتهم في عموم الناس، فأخبرنا عن أنبياء يأتون في قلة من الموحدين المتبعين، وهؤلاء الموحدون هم المستحقون لأن تنالهم رحمة الله تعالى.(18/1)
مسائل في باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب(18/2)
مراتب الناس في التوحيد
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد].
معرفة مراتب الناس في التوحيد لأن من ذُكر من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ليسوا كغيرهم من الذين يحاسبون، وإنما ذلك لكونهم حققوا التوحيد، وكذلك كونه أثنى جل وعلا على الذين تركوا الشرك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، وكذلك كونه أثنى على إبراهيم وجعله أمة، كما قال تعالى: {أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به ويسلك طريقه لتحقيقه التوحيد.(18/3)
معنى تحقيق التوحيد
[المسألة الثانية: ما معنى تحقيقه].
معنى تحقيقه هو علمه أولاً، أن يعلم التوحيد، ثم يتحلى به قلبه وجوارحه، ثم يجتنب ما يقتضي التوحيد تركه من الذنوب والبدع فضلاً عن الشرك؛ لأن الشرك إذا وقع فيه فإن كان كبيراً فهو مناف للتوحيد، وإن كان صغيراً فهو مناف لكماله، وكذلك الذنوب والمعاصي، فيكون تحقيقه هو تخليصه وتصفيته من البدع وشوائب الشرك والذنوب، فيخلصه بأن يكون عمله خالصاً لله على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي به على الوجه الأكمل الذي أمر الله به بأن يكون عمله ما يقصد به إلا وجه الله جل وعلا، ولا يلتفت إلى غيره من معانٍ دنيوية، ولا من وجوه الناس ولا غيرهم، فمعنى ذلك أنه يقبل على الله بكليته، ولا يكون ملتفتاً بقلبه إلى غير الله جل وعلا من المؤثرات والأسباب، فمن كان كذلك فقد حقق التوحيد.(18/4)
إبراهيم عليه السلام والثناء عليه بترك الشرك
[المسالة الثالثة: ثناؤه تعالى على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين].
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] دليل على إبطال قول اليهود والنصارى والمشركين؛ لأن كل طائفة تدعي أنه منهم وأنهم منه، فالمشركون يزعمون أنهم على ملته، والنصارى يزعمون أنهم على ملته، واليهود يزعمون كذلك، فبرأه الله جل وعلا من ذلك، وقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران:68] يعني محمداً صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى الناس به، وهو أقربهم إليه طريقة ونهجاً وسلوكاً.(18/5)
الثناء على الأولياء بترك الشرك
[الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك].
قوله: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك يعني قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:58 - 59]، فأثنى عليهم باجتناب الشرك، فدل على أن تحقيق التوحيد هو اجتناب الشرك، أن يجتنب الإنسان الشرك دقيقه وجليله كبيره وصغيره، والذي يجتنب الشرك لا بد أنه يعبد الله وحده، فيحقق عبادة الله جل وعلا وحده.(18/6)
تحقيق التوحيد بترك الرقية والكي
[الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد].
الاسترقاء غير الرقية، فالاسترقاء هو طلب الرقية، أن يطلبها من غيره؛ لأن الطلب فيه افتقار لغير الله جل وعلا، فتركه استغناءً بالله جل وعلا من تحقيق التوحيد، وكذلك الكي.
أما وجه كون الكي تركه من تحقيق التوحيد فهو ما ذكره العلماء بأن الكي فيه ألم محقق ومستعجل، وأما الشفاء فيه فهو مظنون، وقد يكون وهماً لا حقيقة له، فالذي يقدم عليه غالباً يكون راغباً في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، فمن هنا صار فعل الكي ليس من تحقيق التوحيد، وتركه توكلاً على الله يكون من تحقيق التوحيد، أما فعله فيدل على الرغبة في الدنيا أكثر، وليس معنى هذا أن الكي محرم، لا.
بل الكي مباح، فهو علاج جائز، فإذا أراد الإنسان أن يكتوي فله ذلك، ولكن تركه أفضل فقط، هذا هو المقصود، فالذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب هم الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات والمكروهات، ويفعلون المستحبات، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله جل وعلا في أحد أقسام الذين أورثهم الله جل وعلا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله، فهم السابقون بالخيرات بإذن ربهم؛ لأن الله جل وعلا قسمهم ثلاثة أقسام: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله.
فهؤلاء الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله جل وعلا هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيسبقون إليها قبل غيرهم، وهذا أيضاً لا يلزم منه أن الذين يحاسبون ولا يسبقون إليها يكونون أقل منهم درجة، فقد يكون الذين يحاسبون منهم من إذا دخل الجنة كان أعلى من السابقين الذين دخلوها بلا حساب، كما إذا كان الإنسان عنده جهاد وعنده أموال، ولكنه ينفق في سبيل الله وينفع عباد الله بأمواله، فهو يحاسب عن ماله: من أين جمعه وفيم أنفقه، ولا بد من المحاسبة، ولكن بعد المحاسبة قد تكون درجته أرفع من درجة الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب.
فإذاً هؤلاء الذين يتركون الكي ويتركون الاسترقاء ليس معنى ذلك أنهم يكونون أفضل من غيرهم على الإطلاق، فقد يكون الذي يفعل شيئاً من ذلك عنده حسنات أكثر من حسنات هذا الذي ترك هذا الأمر توكلاً على الله، فإذا دخل الجنة كان أرفع ممن سبق إليها.(18/7)
التوكل وجمعه لخصال السبعين ألفاً
[السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل].
ذلك لأنه قال: (وعلى ربهم يتوكلون)، فالخصال التي ذكرها أربع خصال، والذي جمع هذه الأربع هو التوكل، فالخصلة الأولى: كونهم لا يسترقون.
يعني: لا يطلبون الرقية.
وتبين لنا أن الرقية مستحبة في نفسها، أي: كون الإنسان يرقى نفسه، أو كونه يرقى غيره، أو كونه يُرقى بلا طلب منه، فهذا لا يدخل في ذلك، بل هذا جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، وكان يرقي غيره، وجبريل عليه السلام رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثانية: كونهم لا يتطيرون.
والطيرة نوع من الشرك، وهي التشاؤم بأفعال الطيور أو بأصواتها، وكذلك بالحيوانات، ومن المعلوم أن الطيور والحيوانات وجميع المخلوقات لا تدبير لديها ولا تصريف في الكون، وليس عندها من الخير شيء، وليس عندها من دفع الشر شيء، وإنما تلك أوهام يلقيها الشيطان في نفس الإنسان، فإذا سمع شيئاً من ذلك فقد يقع في نفسه أمر فيثنيه عن مقصوده، فيكون في هذه الحال قد وقع في شيء من الشرك، وهؤلاء لا يلتفتون إلى ذلك، بل يمضون في كل ما أرادوا اعتماداً على الله، وعلماً منهم أن الطيور وغيرها لا تؤثر في شيء من الأشياء، وإنما المؤثر هو الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم إن الممنوع من الطيرة -كما سيأتي- هو ما أمضى الإنسان أو رده، أما أن يقع في نفسه شيء ثم يعرض عنه ولا يلتفت إليه فهذا لا يضره، ولا يقال: إنه تطير.
وإنما الذي يضر كونه يحقق هذا الشيء الذي يقع في نفسه بأن يمنعه من المضي، فإذا سمع شيئاً يكرهه على حسب اعتقاده أو يجعله يقدم إذا سمع شيئاً أو رأى شيئاً يحبه ويريده فهذه هي الطيرة، أما إذا وقع في نفسه شيء ثم لم يثنه عن مراده أو لم يزد من عزيمته ومن مراده وإنما شيء عرض في نفسه فأعرض عنه فهذا لا يضره، ولهذا جاء في الحديث: (الطيرة ما أمضاك أو ردك)، فهذه الطيرة التي منع منها.
والخصلة الثالثة: كونهم أيضاً لا يكتوون كما سبق.
والخصلة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون.
فلكونهم يعتمدون على الله في جميع أمورهم جعلهم لا يفعلون هذه الأمور الثلاثة، والتوكل معناه الاعتماد على من بيده كل شيء، وهو الله جل وعلا، فيفعل السبب ويعتمد على ربه في حصول مقصوده ومراده.(18/8)
نيل الدرجات بالعمل هو فهم الكرام
[السابعة: عمق علم الصحابة رضي الله عنهم بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل].
يعني أنه لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السبعين ألفاً يسبقون إلى الجنة علموا أنهم ما نالوا هذه السابقة إلا بعمل، فصاروا يبحثون عن هذا العمل، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا لعلمهم بأن الصحابة أفضل الأمة، بل أفضل الناس بعد الأنبياء، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ولأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه، وذكر أنه رضي عنهم، ومعلوم أن الذي تلقى العلم والإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وقاتل بين يديه وامتثل أمره لا يكون مثل من يأتي بعده لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتلق منه ولم يمتثل أمره المباشر، فلا يكون مثله ولا قريباً منه، بل الذين سبقوا بصحبتهم ما يكونون مثل الذين تأخروا، كما حدث بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فـ خالد بن الوليد كان متأخر الإسلام، وقد أسلم قبل الفتح، لكن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين، فحدث بينهما شيء، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا لي أصحابي.
لا تؤذوا أصحابي.
فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا الكلام يوجه إلى بعض الصحابة فكيف بمن عداهم؟ وكيف بالذين أتوا بعدهم؟ ولهذا لما قيل لبعض العلماء: أرأيت عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ومعاوية رضي الله عنهما أيهما أفضل؟ قال: غبار دخل في منخر معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بن عبد العزيز لأن الصحبة لا يعدلها شيء، صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدلها شيء، فلا شك أن هذا القول منهم بأنهم لعلهم الصحابة له وجه في النظر.
وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام.
لأن الصحابة كانوا مشركين قبل أن يسلموا، أما الذين ولدوا في الإسلام فلم يقع منهم شرك، وذكروا أشياء، منها -في غير هذه الرواية- أن بعضهم قال: لعلهم الذين قتلوا في سبيل الله.
يعني الشهداء.
وهذا دليل على جواز المناظرة في مسائل العلم والتفقه فيها والبحث، ولو لم يكن الإنسان عنده ضرورة في ذلك، أي: عنده من يبين له المراد، فإنه يجوز أن يبحث بنفسه وإن كان عنده من يبين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم، فإذا سألوه أخبرهم، وهم خاضوا في هذه الأمور وصاروا يبحثون فيها وهو موجود صلوات الله وسلامه عليه.(18/9)
حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير
[الثامنة: حرصهم رضي الله عنهم على الخير].
حرصهم على الخير وعلى طلبه شيء معروف، فهم أحرص من غيرهم، أحرص من غيرهم على الخير، وهم إذا سمعوا شيئاً من الفضائل لا يتركونه حتى يعملوا به، ولهذا يقول ابن عمر رضي الله عنهما: تعلمت سورة البقرة في ثمان سنوات وما كان هذا لأنه غير قادر أن يحفظها في يوم أو يومين، لا.
ولكن ما كان يهمهم التعلم، وإنما يهمهم العمل، فلهذا يقول: (فتعلمنا العلم والإيمان والعمل معاً) يعني: كلما تعلموا شيئاً عملوا به، فما يتعلمون مثلنا للحفظ فقط، أو لغير نفسه، لا، وإنما يتعلم لنفسه، ويتعلم ليعمل، ولهذا لما جيء بصدقة الفطر في آخر رمضان، وعادة الصحابة رضوان الله عليهم أن يأتوا بالزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتولى قسمتها، فجمعوها في المسجد، فوكل أبا هريرة بحفظها، فصار يحفظها، فجاءه رجل في وسط الليل فصار يحمل من التمر فأمسكه، قال: مالك؟ قال: دعني؛ فإني ذو حاجة وعيال.
يقول رضي الله عنه: فرحمته.
لأن هذه زكاة، وهي للفقراء ولذوي الحاجة فتركه، ثم جاء الليلة الثانية فأمسكه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني فإني ذو حاجة وعيال.
قال: فرحمته.
ولكن لما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل أسيرك يا أبا هريرة؟ قال: زعم أنه ذو حاجة وعليه عيال فتركته.
قال: أما إنه سيعود.
قال أبو هريرة: فعلمت أنه سيعود لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فصرت أترصد له، فجاء فأمسكته في الثالثة وقلت: لن أفلتك.
فهذه ثالث مرة وأنت تزعم أنك ذو حاجة وعليك عيال.
فقال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به قال: نعم.
قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، ولا يقربك شيطان.
فتركه من أجل ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له هذا الكلام، قال: صدقك وهو كذوب.
أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ يقول: قلت: لا.
قال: ذاك الشيطان.
فالشيطان أتاه في صورة إنسان محتاج؛ لأنه لم يستطع أن يضر الصحابة في أديانهم وفي أخلاقهم فأراد أن يضرهم ولو بأكل شيء من الزكاة، ولو بهذا القدر.
المقصود أنهم حريصون على الخير أكثر من غيرهم، فإذا سمعوا بشيء عملوا به، ولهذا لما سمعوا هذا ذهبوا يتساءلون ويبحثون حتى يعلموا من يسبق إلى الجنة، ولهذا كانوا لا يفعلون هذه الأشياء التي ذكرت، لا الطيرة، ولا الاسترقاء، ولا الكي، وهم المتوكلون على الله جل وعلا.(18/10)
فضيلة هذه الأمة كماً وكيفاً
[التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية].
أما الكمية فمعناها الكثرة، وهذا مأخوذ من قوله: (ولكن انظر إلى الأفق)، والأفق هو أنك إذا التفت يميناً أو شمالاً أو أمامك أو خلفك رأيت السماء.
فقيل له: انظر إلى الأفق.
ثم قيل له: انظر إلى الأفق الآخر فكلما نظر إلى جهة إذا بالرجال قد سدوا الأفق من كثرتهم، فهذه الكمية، أما الكيفية فلأن فيهم السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
وقد جاءت أحاديث جيدة الإسناد في أن مع كل ألف سبعين ألفاً، فيكون العدد أكثر، وجاء في أحاديث أخرى فيها ضعف أن مع كل واحد سبعين ألفاً، فتصبح سبعين ألفاً مضروبة في سبعين ألفاً، فيكون هذا عدداً كبيراً جداً، وجاء ما هو أكثر من هذا، وهو أن الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك: (ألا استزدت ربك يا رسول الله؟ قال: بلى.
استزدته فزادني بأن أعطاني ثلاث حثيات من حثياته جل وعلا.
فقال قائل: ألا استزدته يا رسول الله؟ فقال عمر: حسبك، إذا شاء ربنا جل وعلا أدخل عباده كلهم بحثية واحدة من حثياته، قال صلى الله عليه وسلم: صدق عمر)، والحديث فيه ضعف، ولكن فضل الله واسع جل وعلا.
وهذه الأمة هي أفضل الأمم على الإطلاق، غير أنه لا يلزم من كونها أفضل الأمم أن تكون السابقة منها؛ لأنه جاء في سورة الواقعة لما ذكر الله جل وعلا السابقين قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14]، و (الأولون) لا يطلق على الأمة هذه، ولهذا يقول المفسرون: (ثلة من الأولين) يعني: من الأنبياء السابقين وأتباعهم.
وجاء في سورة آل عمران قوله جل وعلا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران:146]، وهذا يدل على فضلهم وعلى كثرتهم أيضاً.
والمقصود أن هذه الأمة في الجملة أفضل من غيرها إطلاقاً، ولا يلزم أن تكون أفضل من الكل مطلقاً، فإنه يوجد في الأمم السابقة من هو أسبق إلى الجنة وأحسن سابقة، ولكن بالنسبة إليهم فقط لا بالنسبة للأمة هذه، أما من يلي هذه الأمة في الصفات فهم بنوا إسرائيل، ولهذا ظن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى بني إسرائيل أنهم أمته لكثرتهم، فقيل له: هذا موسى وقومه.
فهذا يدل على فضيلتهم، وقد قال الله جل وعلا فيهم: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وقوله: (على العالمين) يعني: عالمي زمانهم، فقد فضلوا عليهم، فهذا يدل على فضلهم في الجملة أيضاً.(18/11)
فضيلة أصحاب موسى عليه السلام وعرض الأمم على محمد صلى الله عليه وسلم
[العاشرة: فضيلة أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام].
قلنا: إن العرض يجوز أن يكون في المنام، ويجوز أن يكون في اليقظة، وهو تمثيل، فمثلوا له كهيئة مجيئهم يوم القيامة، كما مثلت له الجنة والنار وهو يصلي صلاة الكسوف صلوات الله وسلامه عليه، فأخبر أصحابه أنه رأى فيها أشياء، وأخبرهم أنه رأى عمرو بن لحي الخزاعي فيها، ورأى امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ورأى أشياء أخبرهم فيها، وقال: (إني لم أر منظراً كاليوم)، وخطبهم وقال: (إن الله يغار أن تزني أمته أو يزني عبده)، ولهذا يقول العلماء: إذا حدث الكسوف فمعنى ذلك أن الله يستعتب عباده، فيجب أن يخافوا، ويجب أن يهرعوا إلى الصلاة والاستغفار والتوبة والصدقة، ولا ينافي هذا أن الكسوف يحدث في أشياء معينة يعرفها أهل الفلك، ولكن عند ذلك الله جل وعلا يحدث ما يستعتب به عباده، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك خشي أن تكون الساعة، وأشار بهذا الكلام إلى أن هذا بأسباب تحدث من بني آدم، وإن كان بالحساب فيكون بأسباب، وهكذا كل ما يقع، مثل ما يسميه الناس اليوم: الكوارث الطبيعية.
فهي ليست كوارث طبيعية كما يقولون، بل هذه عقوبات وأحداث يأخذ بها من يشاء من عباده، ولعل بعضهم يتوب ويستعتب ويرجع إلى الله، سواءٌ أكانت مطراً، أم كانت رياحاً وعواصف، أم كانت زلازل، أم كانت براكين، أم غير ذلك، ولا يجوز أن نقول: هذه كوارث طبيعية وننسى الأسباب، وننسى مسبب الأسباب جل وعلا، بل يجب أن نرجع إلى أنفسنا، ولهذا في خلافة عمر رضي الله عنه حدث زلزال في المدينة وإن كان ليس كبيراً، فقال عمر رضي الله عنه: (والله لئن عادت لا أساكنكم فيها)؛ لأنها لا تحدث إلا بذنوب العباد، فالله جل وعلا يحدث ذلك لعلهم يتوبوا ويرعووا، وهكذا غير الزلازل من الأمطار الجارفة والرياح العاصفة والبراكين، ولكن الذين نسوا الله ينسيهم الله جل وعلا أنفسهم لئلا يتذكروا ولا يرجعوا إلى الله، فيضيفون هذه الأمور إلى الطبيعة، إلى الأرض وطبيعتها، وينسون الله جل وعلا فلا يتوبون، وهذا من نسيان الله لهم، بخلاف المؤمن، فإنه يهرع إلى الله ويضرع إليه ويتوب ويستعتب، ويترك ما هو فيه من المعاصي، وهذا المقصود في احداث هذه الأمور، ومن ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر فإنه من هذا النوع.(18/12)
كيفية الحشر مع الأنبياء عليهم السلام
[الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها].
هذا واضح من قوله: (فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)، فكل نبي أرسل إلى قومه يأتي يوم القيامة فيمن آمن معه، وإذا لم يؤمن به أحد أتى وحده، وذلك أن الكفار كلهم يجمعون جميعاً من أولهم إلى آخرهم فيلقون في جهنم، وكلما دخلت أمة من الأمم لعنت التي تقدمتها، لأنهم يقولون: أنتم الذين سننتم لنا هذا الطريق، وسننتم لنا الكفر والشرك وعصيان الرسل.
فيعود عليهم أولئك أيضاً باللعن فيقولون: هذه هي أفعالكم وأعمالكم أنتم، ونحن ما لنا عليكم من سلطان، ولكن أنتم الذين اخترتم هذا المسلك وسلكتموه فعليكم اللعنة.(18/13)
الأنبياء وقلة أتباعهم
[الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده].
يعني من الأنبياء.
فالذي لم يجبه أحد يأتي وحده، وهذا مثل لوط عليه السلام؛ فإنه لم يستجب له رجل واحد من قومه، فخرج من بلاد قومه التي كان يدعوهم فيها هو وبناته فقط، حتى زوجته كفرت به، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها في الغابرين وفي المدمرين، وأمره أن يخرج ويسري في قطع من الليل ببناته، وأن يتبع أدبارهم، فيكون خلف البنات، وألا يلتفت خلفه خوفاً من أن يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يكون فيه شيء من العطف عليهم أو التعلق بهم، والله قطع العلاقة بهم، وقطع أن يكون بينه وبينهم صلة بالعطف أو بغيره، فقال له: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر:65]، وهذا في الواقع بعدما وقع في أشد الكرب من قومه، وهكذا الأنبياء إذا ضاقت الأمور إلى آخر حد جاءهم النصر وهلاك القوم، وهؤلاء كانوا -في الواقع- في فعلة ما فعلها أحد قبلهم، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، فانتكست أخلاقهم، وانتكست أذواقهم، فأصبحوا يتركون الشيء الطيب الطاهر ويبحثون عن الخبيث المنتن القبيح لقبحهم، فلما تمادوا بهذا الشيء.
ولوط عليه السلام يدعوهم وينهاهم عن ذلك وهم يعيبون عليه بأنه من المتطهرين كان من تمام البلاء أن الله جل وعلا أرسل إليه جماعة من الملائكة في صور شباب حسان الوجوه، فلما علموا بذلك جاؤوا يهرعون إليه يريدون أن يفعلوا الفاحشة بهؤلاء، ولوط لا يدري أنهم ملائكة؛ لأنهم جاؤوا بصورة أضياف، كما كانوا عند إبراهيم كذلك، وصار يدافعهم ويعرض عليهم بناته، كما قال تعالى عنه: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71]، وقال تعالى عنه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]، فلما انتهى به الأمر والكرب والشدة قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله لوطاً؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى ركن الله جل وعلا، وأي ركن أشد من ركن الله؟ فلهذا لما وصل إلى هذا الحد قال له جبريل عليه السلام وهو معهم: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، عند ذلك قال: متى عذابهم؟ قال: {مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، فقال: أريده الآن.
فقال له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]، ثم أمره أن يمضي في الليل مع بناته ويخرج، عند ذلك تولى تعذيبهم جبريل عليه السلام، فاقتلع مدائنهم من أسفل الأرض، من تخوم الأرض، وطار بها على طرف جناحه وهي سبع مدن، حتى كانت الملائكة الذين في عنان السماء يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، فقلبها وجعل عاليها أسفلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل، وصار لكل واحد حجر يصيبه ويقتله، ثم خسفت بهم الأرض، وصارت أبدانهم في الغرق ولكن أرواحهم في الإحراق في جهنم، ويوم القيامة أشد وأنكى، نسأل الله العافية.
فقال الله جل وعلا لما ذكر عقابهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] يعني: هذه العقوبة ما هي من ظالمي هذه الأمة ببعيد، فإذا فعلوا كهذا الفعل سوف يصيبهم مثلما أصاب أولئك؛ لأن الله جل وعلا من كفر بأفضل الأنبياء عذبه أشد مما عذب من سبق، لا سيما وقد أبلغوا وأنذروا وحذروا، والله جل وعلا يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ لم يفلت، وإذا أخذ فأخذه أليم شديد، نسأل الله العافية.(18/14)
ثمرة العلم
[الخامسة عشر: ثمرة هذا العلم وهو عدم الاغترار بالكثير].
يعني أن ثمرة هذا العلم -الذي هو مقصود هذا الحديث- ألا يغتر الإنسان بالكثرة؛ لأن فيه أن أكثر الناس هالكون، وأن كثيراً من الأنبياء لا يأتي إلا معه رهط -أي: عشرة فأقل- وقد يأتي وليس معه إلا رجل أو رجلان، فإبراهيم عليه السلام ما آمن له إلا لوط، وهو خليل الرحمن، ولوط ابن عمه، ثم أرسل لوط إلى هذه القرى التي كفرت به، وهكذا كثير من الرسل ما يكون معه إلا قلة، وأكثر الخلق كافرون، مع أنَّ كفرهم ما هو كفر جحود بالله جل وعلا بحيث لا يعرفونه، ولكن عناداً وتكبراً واتباعاً لما تهواه الأنفس، ولهذا قوم صالح تبين لهم الحق تماماً وجاءهم ما طلبوا حيث اقترحوا على نبيهم أن يخرج لهم ناقة من الجبل تكفيهم كلهم إذا أرادوا شرب الحليب منها، فلما أخذ مواثيقهم على ذلك خرجت الناقة من الجبل، وصارت كما أرادوا، ثم إن بعض الكفرة منهم تقاسموا بالله وتعاهدوا بالله على قتله، وهذا يدل على أنهم يؤمنون بالله، ويعرفون أن الله هو الذي يدبر الكون كله، وهو الذي يصرف الأمور كله، قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، فتعاهدوا وتعاقدوا على ذلك، فحصل ما حصل من عقرهم الناقة ومحاولتهم قتل صالح عليه السلام، فجاءتهم الكارثة التي أهلكتهم.
فالمقصود أنه ليس كفر الكافرين لأنه خفي عليهم معرفة الله جل وعلا، ولكنه عناد وتكبر، ولهذا لما قيل لـ أبي جهل: أكنتم تتهمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: والله لقد عرفناه بالأمين في شبابه، ولا يمكن إذا خطه الشيب أن يذهب يكذب على الله جل وعلا.
فقيل له: ولماذا لا تؤمنون به وتتبعونه؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، أطعموا فأطعمنا، وأكرموا فأكرمنا، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، ومتى يكون لنا ذلك؟ والله لا نؤمن به أبداً.
هكذا الحسد الذي يمنع أكثر الناس.
ولهذا يقول العلماء: إن غالب الكفر هو كفر الجحود والعناد، أو كفر الإعراض، وليس كفراً لخفاء دليل وتعمية الأمر؛ لأن الرسل كلهم جاؤوا بالبينات الواضحات التي لا تبقي للإنسان شكاً في أنهم رسل من عند الله جل وعلا، أما الإعراض فنعم، وكفر الإعراض كثير، وذلك لأن الإنسان يعرض عن النظر فيما جاء به الرسول والتفكر فيه، مثلما وقع لبني عبد يا ليل الذين أتى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة، وذلك بعد أن لم يجد إجابة قريش له، واشتدوا عليه، وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما توفي تسلطوا عليه أكثر، وخرج إلى الطائف لعله يجد من يستجيب له ويناصره، فكان أول من لقي ثلاثة إخوة هم بنو عبد يا ليل، فدعاهم إلى الله جل وعلا، وقال لهم: إني رسول الله جئت بكتابه، وإنه من آواني ونصرني فله الجنة.
فقال له أحدهم: هو يسرق أستار الكعبة إن كان الله أرسلك.
أي: أنه سارق ثياب الكعبة إن كنت رسولاً.
فهو تكذيب مباشر بدون نظر، أما الآخر فجاء بأمر أعظم من هذا استهزاء وسخرية وقال: ما وجد الله أحداً غيرك يرسله؟! وأما الثالث فقال له: والله لا أكلمك كلمة، لئن كنت رسولاً فأنا أحقر من أرد عليك شيئاً، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أكذبك.
فهذا الإعراض لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالآيات الباهرات البينات الواضحات، وإذا نظرت بعقلك وفكرت تبين لك أنه رسول أو غير رسول، ومعلوم أن الإنسان إذا قال: أنا رسول الله فإما أن يكون هو أبر الناس وأصدقهم، أو أفجر الناس وأكذبهم، وهل يلتبس أكذب الناس بأصدق الناس؟ أبداً.
ولا يمكن هذا؛ لأن الكاذب يتبين من وجهه وحاله ومنطقه وعمله وكل ما يحيط به، لهذا عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال: وأتيت إليه ورأيت وجهه فعلمت أن وجهه وجه الصادق، وأنه لا يكذب.
فقبل أن يتكلم، ومنذ رأى وجهه علم أن وجهه وجه صادق لا يكذب، فالذي يعرض معناه أنه يصرف نظره وفكره عما جاءت به الرسل، وهذا في الواقع كفر بالله جل وعلا وإعراض عن دينه وعن رسله، وهذا يقع كثيراً، واليوم كفر الناس أكثره من هذا القبيل، فأكثر كفر الكافرين اليوم بالإعراض، فلا يتأملون كتاب الله وآيات رسوله صلى الله عليه وسلم التي جاء بها، بل يعرضون عن سماع ذلك بآذانهم ورؤيته بأعينهم، ويحاولون أن يصدوا الناس عن الإيمان به بكل ما يستطيعون، كل ذلك عناداً من العالمين واستكباراً، وأكثرهم معرض لا يتبين له ذلك، والذين يسمعون ويشاهدون تعرض عليهم أمور مزيفة، أمور في الواقع مشوهة، أمور الإسلام والمسلمين تشوه لديهم، فيصدقون ذلك ويتبعونه، وهذا من الإعراض، ولا يجوز أن يفعلوا هذا، ويجب عليهم أن ينظروا؛ لأن الله أعطاهم عقولاً، وأعطاهم أفكاراً وأنظاراً، فلماذا تعطل العقول والأفكار والأنظار؟ ثم يتبعون سادتهم وكبراءهم ولن يغنوا عنهم شيئاً.(18/15)
الرقية من العين والحمة
[السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة].
الواقع أن الرخصة من الرقية عامة وليست من العين والحمة فقط، وسبق لنا أن العين هي إصابة الحاسد بعينه، وأن الحمة هي إصابة ذوات السموم بحمتها التي تحدث المرض والحمى، ولكن المعنى أن الرقية من هذين المرضين أشفى وأنجح من غيرهما من الأمراض الأخرى، وإلا فالرقية مستحبة، هذا هو الصحيح، ولكن الممنوع هو الافتقار إلى الناس وطلبهم.(18/16)
عمق علم السلف في العمل بالدليل
[السابعة عشرة: عمق علم السلف رحمهم الله بقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا وكذا.
فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني].
هذا هو الواجب على الإنسان، فإذا جاءه من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم شيء يبدو منه التعارض يجب عليه أن يبحث عن وجه الجمع، فإن تمكن من ذلك وإلا فعليه أن يتهم رأيه ونظره وأنه قاصر المعرفة، أما كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فهي لا تتضارب ولا تتعارض، ولكن لها أوجه قد لا يدركها الإنسان، ثم إذا عجز الإنسان عن ذلك يجب عليه أن يكل العلم إلى أهله، فالعلماء يعرفون كيف يجمعون بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي يبدو لكثير من الناس أنها متعارضة، فالسلف ما كان يحدث عندهم تعارض من هذا القبيل لعمق علمهم.(18/17)
من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفضل عكاشة
[التاسعة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة].
أما كونه علماً من أعلام النبوة فالأمر كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله، حيث يقول: الصحابة كلهم في الجنة، ولكن هذا لأن عكاشة بن محصن قتل شهيداً في سبيل الله، ومعلوم أن هذا من أفضل الأعمال، والله أخبر جل وعلا عن الشهداء أنهم أحياء عنده يرزقون جل وعلا، وأنهم ليسوا أمواتاً، ولا يجوز لنا أن نسميهم أمواتا، فالله نهانا عن ذلك فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة:154]، وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ جابر: (أما إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي! تمن علي.
فقال: يا رب! وماذا أتمنى؟ فأعاد عليه، فلما رأى أنه لا بد من ذلك قال: تحييني مرة أخرى فأقتل في سبيلك.
قال: أما هذه فلا.
فقال: إذاً أبلغ عنا من خلفنا أنا قد لقيناك فأرضيتنا)، فأنزل الله جل وعلا بعض الآيات التي في سورة آل عمران، ولكن الأمر الذي حقق أن الشهيد هو أفضل الناس، فمن أفضل الأعمال الشهادة، ولهذا جاء أنه لا يحس الموت إلا كعضة جراد، وأنه يزوج من الحور العين سبعين، وأنه يؤمن من فتنة القبر وعذابه، في أشياء كثيرة جاءت خاصة بالشهداء، والله جل وعلا يقول في كتابه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، فجعل الشهداء مع النبيين أول ما يجاء بهم، وكذلك في آيات أخر مما يدل على فضل الشهادة في سبيل الله، فهذا من باب هذه الأدلة فقط، ولكن أعظم من هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم)، فهذا يجب أن يؤمن به ويصدق ولو لم يقتل في سبيل الله، فهو منهم لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
[العشرون: فضيلة عكاشة رضي الله عنه].
المعلوم أن كثيراً من الصحابة أفضل منه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خص إنساناً بشيء معين فكل يفرح أو يحب أن يكون له شيء من ذلك، وإلا فـ أبو بكر أفضل منه بالاتفاق، وعمر أفضل منه، وعثمان أفضل منه، وعلي أفضل منه، وكذلك عبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من العشرة الذين شهد لهم بالجنة، وغيرهم من السابقين، ولكن إذا خص الإنسان بشيء معين من بين الناس فكل واحد يحب أن يكون له شيء من ذلك، وهذا فضل بلا شك.(18/18)
جواز استعمال المعاريض
[الحادية والعشرون: استعمال المعاريض].
استعمال المعاريض مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (سبقك بها عكاشة)، والمعاريض: هي ألا يصرح بالمنع من الشيء أو إجابة الإنسان إلى الشيء، وإنما يؤتى بكلام عام يكون صرفاً له لئلا يخدش شعوره، ولا يكون به في الواقع إجابة صريحة وقد جاء: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، فالإنسان قد يطلب منه شيء فيذهب يقول كلاماً ليس بصحيح، بل كذب، فما يجوز له، ولكن يأتي بأشياء تخرجه من كون الإنسان يجد عليه في نفسه ولا تضره ولا تضر غيره، فهذا في الواقع من حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فكان يستطيع أن يقول: لا أسأل لك.
ولا يغضب الإنسان إذا قال له ذلك، ولكنه لا يقول مثل هذا؛ لأنه يتألف الناس ويتحبب إليهم بما أعطاه الله جل وعلا من حسن الخلق، لهذا قال: (سبقك بها عكاشة).
[الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم].
حسن الخلق من أفضل الأعمال، بل جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيءٌ أثقل في ميزان العبد من تقوى الله وحسن الخلق)، لهذا يسن للإنسان أن يقول: (اللهم اصرف عني سيء الأخلاق لا يصرفها إلا أنت)، ويقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت)، فيسأل ربه هذا الشيء، وقد جاء تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك لعظمه، فما هناك أحسن من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما سئلت عنه عائشة قالت: كان خلقه القرآن.
فتخلق بالقرآن، فكان يحلم على الجاهل، وكان يسع بحلمه من يتطاول عليه، كما روى أنس في الصحيح أن أعرابياً لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه كساء غليظ الحاشية، فأخذ يجبذه إليه حتى أثر ذلك في صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس: فرأيتها تكاد يصب الدم منها.
فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحك، وما نهره، بل أمر بأن يعطى ويحسن إليه ويزاد على حقه، وهكذا صلوات الله وسلامه عليه كان عظيم الخلق حسن الخلق، وكان يأمر بهذا ويحض عليه، ولا سيما مع الأهل؛ فإنه قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) صلوات الله وسلامه عليه.(18/19)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [19]
الشرك بالله تعالى هو الذنب الذي لم يعص الله تعالى بمثله، فهو منازعة لله تعالى في خصائص إلهيته، إذ بالشرك يجعل ما للخالق للمخلوق، ويشبه المخلوق بالخالق، ولذا كان جريمة وكان عند الله عظيماً، وقد أخبر الله تعالى أنه لن يغفر الشرك به يوم القيامة، مع سعة رحمته تعالى يومئذٍ للعاصين، وذلك لعظم هذا الذنب الذي لا يساويه ذنب.(19/1)
الشرك وما جاء فيه(19/2)
الخوف من الشرك وأسباب كونه عظيماً
قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب الخوف من الشرك) وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]].
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك به) أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك، (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده.
انتهى.
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره التي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه قامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً شبيهاً لمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات].
قول المصنف رحمه الله: (باب الخوف من الشرك) يعني: خوف الإنسان أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ فإن الإنسان قد يظن أمراً من الأمور حسناً ومحبوباً إلى الله جل وعلا، ويكون بخلاف ذلك، وذلك لقصور العلم؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيط بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه أن يستن بالأهم، فما كان أهم فعليه أن يبدأ به، وهو معرفة حق الله جل وعلا عليه، وهذا لا يتم حتى يعرف ضده، لأن الأشياء تتبين بأضدادها، ومن المعلوم أن الإنسان إذا ما عرف الأمور التي نهى الله جل وعلا عنها فإنه كثيراً ما يقع فيها وهو لا يشعر، وأعظمها الشرك بالله جل وعلا، ووجه الخوف منه من جهتين: الجهة الأولى أن فيه خفاء، كما سيأتينا في الحديث أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة على صفاة صماء في ظلمة الليل، ويقصد بهذا شرك النيات، الشرك الذي يقع في النية والمقصد، وليس الشرك الذي يحدث بالفعل كالسجود والدعاء وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ظاهر جلي، فالإنسان إذا تعلم ما يجب عليه ما يكون عليه خفياً، وإنما الخفي الذي يكون في النية؛ فإن النيات بحر لا ساحل له، والنية تحتاج إلى جهاد دائماً، فالإنسان يعالج نيته دائماً لتكون النية صالحة، وليكون مقصوداً بالعمل وجه الله جل وعلا، ولهذا قد يبدأ الإنسان بعمل يكون عملاً صالحاً ثم يحدث في أثنائه ما يغير ذلك، ثم يتغير في آخره إلى أن يكون صالحاً، حسب جهاد الإنسان نفسه ومكابدته ذلك، ولا بد من المجاهدة، فهذا من جهة.
الجهة الأخرى: كونه مخوفاً لأن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفره لمن مات عليه، وقد يكون هناك من مسائل الشرك الأكبر ما يخفى على بعض الناس، وقد وقع فيها من خواص الناس خلق كثير، فيظنون أنها توحيد وأنها طاعة وهي في الواقع شرك بالله جل وعلا، فقد قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهذه الآية لا تتعارض مع قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]؛ لأن هذه التي في سورة الزمر في التائب من الذنوب، فكل تائب من أي ذنب كان سواءٌ أكان شركاً أم زناً، أم سرقة، أم شرب خمر، أم ترك صلاة، أم غيرها من أنواع الذنوب، فالتائب من الذنب الله جل وعلا يتوب عليه، وهو المقصود بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أما آية سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] في موضعين منها فإنها لمن مات على ذلك، فالإنسان الذي يفعل الشرك فيموت، أو يفعل المعاصي كلها فيموت إن كانت هذه المعاصي التي يفعلها غير شرك فهي تحت مشيئة الله جل وعلا، أي أنه إن شاء أن يغفرها بلا عذاب غفرها، وإن شاء أخذه بها فعذبه، هذا إذا كانت غير شرك، ثم بعد التعذيب تكون عاقبته إلى الجنة، أما إذا كانت شركاً فهو ميئوس منه، فيكون في النار خالداً مخلداً لا يناله من رحمة الله شيء؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة عليه حرام، فمن هنا جاء الخوف من الشرك، ويدل على هذا ما سيذكره من قول الله جل وعلا عن إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فإبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً يدعو الله ويتضرع إليه أن يجعله في جانب بعيد عن عبادة الأصنام هو وبنيه، ومعلوم أن عبادة الأصنام من الشرك الأكبر، فهو يدعو ربه أن يجنبه الشرك الأكبر، ولهذا يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم يعني: حيث إن إبراهيم عليه السلام خاف الوقوع في الشرك فكيف بمن هو دونه بمنازل كثيرة جداً في الإيمان والوفاء بعهد الله جل وعلا والقيام بأمره، فإنه يخاف عليه أكثر، ومن هذا القبيل ما سيذكره من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرجل يقوم يصلي فيزين صلاته من أجل نظر رجل)، وهذا مثال، وإلا فهذا يسري في جميع الأعمال، ولا سيما الأعمال الظاهرة التي ترى وتشاهد، مثل الصلاة والزكاة والصدقات والحج وغيرها، فإن هذا يحتاج إلى مجاهدة متواصلة مع العمل حتى يكون خالصاً وصافياً لله جل وعلا، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم خاف على سادات الأمة وأولياء الله الذين هم صحابته خاف عليهم من الشرك الأصغر فكيف بمن هو بعيد جداً عن مقامهم وعن أحوالهم وعن علمهم وعن إيمانهم؟ فيخاف عليه أكثر.
ولهذا ذكر هذا الباب لينبه على أن الإنسان يجب عليه أن يحذر من ذلك، يحذر من الوقوع في الشرك، أما الشرك الأكبر فالغالب أن المسلم لا يقع فيه إذا عرف الإسلام حقيقة، فالشرك الأكبر الغالب أنه لا يقع فيه إلا من باب الجهل أو المعاندة أو الهوى، وأما الشرك الأصغر فهو الذي قد لا يسلم منه إلا النادر، والشرك الأصغر وإن كان غير مخرج للإنسان من الدين الإسلامي فإذا وقع في الشرك الأصغر فهو مسلم، إلا أنه من أكبر الكبائر، أعني كونه يقع منه الرياء أو السمعة أكبر من أن يقع منه الزنى نسأل الله العافية، ولهذا قال كثير من العلماء: إنه لا يغفر وإن كان أصغر؛ لأنه داخل في عموم الآية في قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فقيد الشرك بأنه غير مغفور لصاحبه، وليس معنى كونه غير مغفور له أنه يكون خالداً في النار، لا.
ولكن معناه أنه لا بد أن يعذب على هذا الشرك الأصغر، ولأنه لا يكون به خارجاً من الدين الإسلامي لا يخلد في النار، وإنما الذي يخلد في النار من يكون غير مسلم، والإنسان يخرج بالشرك الأكبر عن الإسلام، فلا يكون مسلماً به، أما الشرك الأصغر -وسيأتي ما هو الشرك الأصغر- فإنه لا يخرج به عن الدين الإسلامي، ولكن بعض العلماء يقول: إنه لا يغفر لصاحبه.
يعني أنه لا بد أن يعذب عليه، ثم بعد ذلك بعد ما يلقى جزاءه ويقوم به العذاب الذي يستحقه يخرج من النار إلى الجنة، وهو يكون غير داخل في قوله: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وإنما يدخل في هذا الاستثناء غير الشرك من سائر المعاصي، فدل هذا على عظم الشرك وإن كان أصغر، وإن كان في الواقع أن الإنسان على خطر وإن كان سالماً من الشرك، فإذا وقع في الذنوب فإنه على خطر، والإنسان ضعيف، فكيف يقوم في عذاب الله؟ وعذاب الله جل وعلا لا يشبه العذاب في الدنيا والعذاب المعهود المعروف لنا، والنار ليست كالنار التي بين أيدينا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فضلت نار جهنم على ناركم هذه بسبعين ضعفاً)، ولو كانت هي نفس نار الدنيا لكفت بشدة العذاب، فكيف إذا كانت مضاعفة عليها سبعين مرة بشدة الإحراق وشدة الحرارة، ولهذا يخبر الله جل وعلا عنها بما يكاد الإنسان -إذا صدق به وآمن به- أن يتقطع قلبه خوفاً منها، فعلى الإنسان أن يحذر جميع الذنوب، وأيضاً عليه أن يقوم على نفسه ويحاسبها ويتوب كل وقت، فعندما يأوي إلى فراشه يعلم أنه يموت في هذا الفراش، ويجوز أن يكون موتاً حقيقياً، فعليه أن يحاسب نفسه ويتوب إلى الله جل وعلا، فربما لا يقوم من فراشه، فيحاسب نفسه قبل أن يلقى ربه فيجد الحساب، ويج(19/3)
الشرك منازعة في الخصائص الإلهية
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه] أما كون الشرك كبيراً وعظيماً فمن عدة وجوه، منها أنه تشبيه للمخلوق بالخالق، حيث جعل المخلوق إلهاً يعبده، ويجعل له شيئاً من العمل، وهذا وقع في بني آدم كثيراً أكثر من عكسه الذي هو تشبيه الخالق بالمخلوق، فهذا قليل، وأما الكثير فتشبيه المخلوق بالخالق، وهذا من أعظم المحرمات، وذلك أنهم جعلوا بعض المخلوقات بمنزلة الرب جل وعلا فسموها آلهة، أو سموها معبودة، أو سموها قابلة للعبادة وقابلة للنذر، ولو لم يسموها فإنهم يضعون لها العمل، كالذي يقصد القبر ويقول: إنه قبر ولي.
ويطلب منه نفعاً أو دفعاً، سواءٌ من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة، فهذا في الواقع جعله بمنزلة الله جل وعلا؛ لأن هذا النفع أمر غيبي لا يملكه هذا المقبور، والمقبور لا يستطيع أن يملك شيئاً، ولا يستطيع أن يسمع دعاء الإنسان، ولو سمع ما استجاب وما استطاع أن يستجيب، فدعوته ضلال، والداعي الذي يدعو مشرك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، وهذا ينطبق تماماً على الذي يدعو المقبور الذي يزعم أنه ولي، فإن هذا لا يدري عن دعوته شيئاً؛ لأنه مشغول إما بالعذاب يعذب وإما بنعيم ينعم، وغافل عن دعوته تمام الغفلة، ولا شعور له بدعائه، وإنما يشعر بدعائه إذا حشر هو وداعيه يوم القيامة، وإذا بعث من قبره وجمع مع داعيه يوم القيامة وقيل له: إن هذا كان يدعوك فهل أنت أمرته؟ عند ذلك يتبرأ منه ويبغضه ويلعنه ويكفر به، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25]؛ لأن كل عابد مع معبوده هذه منزلته يوم القيامة، حتى الملائكة والرسل، فإن الله يحضرهم ويقول لهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] يعني: من الجن والإنس.
فيتبرأون ويقولون: يا ربنا! (أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) أي: الشياطين (أكثرهم بهم مؤمنون)، فالشياطين التي أمرتهم بها فصاروا عابدين لها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وكذلك حديث أبي هريرة الطويل الذي ذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة وذكر فيه محاسبة الله جل وعلا لعباده، وهو حديث متفق عليه في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في أثناء الحديث يأتي الله جل وعلا لمحاسبة لعباده فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)، فيسأل الخلق جميعاً وهم يسمعون كلامه، فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟).
والجواب أنهم كلهم يقولون: بلى يا رب.
فيؤتى بكل معبود ويقال لعابده: هذا معبودك اتبعه.
أما الذين يعبدون الأنبياء والملائكة فيؤتى بشياطين على ما يتصور العابدون، فيقال لهم: اتبعوا معبوداتكم فيتبعونها، وهذا قبل أن يقضى بين الناس، وهذا أول القضاء، ويتبعونها إلى جهنم، فتلقى في جهنم ويتبعونها فيها، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، فهذا قبل كل شيء.
فإذا كان الإنسان يعبد غير الله فهو مشبه ذلك المعبود بالله جل وعلا، وصارف حق الله الذي أوجبه على عباده إلى ذلك المخلوق الذي لا يجديه شيئاً، بل يضره، بل يلعنه ويتبرأ منه إذا حصحص الحق وجيء بالناس للمحاصة والمقاصة والمحاسبة، فكل واحد يتبرأ من الثاني، ولكن لا تفيد البراءة واللعن في ذلك المقام والندامة، انتهى الأمر، وحقت الحاقة.
وكذلك من جهة أخرى كونه تعطيلاً لخلق الله، وذلك أن الله خلق السماوات والأرض، وخلق الجن والإنس ليعبد هو وحده، وإن كان جل وعلا وكل هذا إليهم؛ لأنهم عقلاء وضعت فيهم العقول والأفكار، وجعل الأمر إليهم حتى يفعلوا ذلك عن اختيار فيستحقوا الثواب إذا فعلوه، أو يتركوه عن اختيارهم فيستحقوا العقاب، وليس لهم عذر عند الله، وإلا فالله قادر على أن يجعل الناس كلهم عابدين له، وإنما هذا حتى يبرز ظاهراً للناس كلهم، فمن يستحق الكرامة يكرم، ومن يستحق الإهانة يهان؛ لأنه عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ولا بد من الامتحان، وهذه الدار دار امتحان بالعمل، والعمل يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فإذا جاء الإنسان للعمل على الوجه المطلوب على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به للناس فقد نجح، فيكرم لنجاحه، أما إذا تقاعس عنه أو أعرض عنه ولم يهتم به، أو علم وخالف فهو يستحق الاهانة، وهو خاسر خسارة لا تشبهها خسارة؛ لأن خسارته في جهنم -نسأل الله العافية-، فلهذا يقول الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، فرد في أسفل سافلين، وإن كان في الواقع يدخل السفل في الخلق في الدنيا، ولكن يظهر في الآخرة بكونه في جهنم؛ لأن جهنم أسفل سافلين، فيرد إليها بعدما كان مخلوقاً في أحسن تقويم له العقل وله الصورة الجميلة وله الفكر، ويتميز عن سائر المخلوقات بهذه الأمور، ولكن ما نفعته إذا ترك أمر الله، فيرد إلى أسفل سافلين، وتصبح الحيوانات أفضل منه، فأخبر الله جل وعلا عن كثير من الناس وكثير من الجن أنه ذرأهم لجهنم، وأن لهم عقولاً لم ينتفعوا بها، ولهم أسماع لم ينتفعوا بها، وأبصار لم ينتفعوا بها، وأن الأنعام أفضل منهم، وأنهم أضل من الأنعام، والأنعام أفضل منهم، فهذا جزاء الذي لا يقبل نعمة الله جل وعلا، لا يقبلها ولا يضعها في مواضعها، فيرد إلى أسفل سافلين، وكل أصل هذا أن يتجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، وليست العبادة مقصورة على السجود والركوع والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير وما أشبه ذلك، فالعبادة أعظمها عبادة القلب، حبه وإرادته، وخوفه وذله، وخشوعه وخشيته، فإذا كان القلب متعلقاً بمخلوق من المخلوقات فإنه غالباً يغلب عليه ذلك المخلوق، حتى إنه ربما كان يلعب اللعب الذي يلعبه من كرة أو غيرها ويصبح قلبه عابداً لتلك اللعبة، فيموت عابداً لغير الله جل وعلا، حيث صرف عمله وصرف عمره في هذا الشيء تاركاً وناسياً ما خلق له، وقد تكون عبادته لشهواته لبطنه أو لفرجه أو لوظيفته، وربما تعلق الإنسان بالشيء الذي فرض أن يخدمه وأن يكون خادماً له، مثل المال، فالمال المفترض فيه أن يكون خادماً للإنسان، لا أن يكون الإنسان خادماً له، فالمفترض أن يكون ماله خادماً له لا أن يكون خادماً لماله، وكثير من الخلق يعبد المال، وتكون عبادة المال هي الغالب عليه، كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة)، فيسجدون للدنانير والدراهم، ويسجدون للأكسية والفرش؛ لأن الخميلة كساء، والخميصة كذلك فراش يوطأ بالأقدام، فكيف بالعاقل يكون عبداً لما يدوسه بقدميه؟ ويكون عبداً لها إذا كان قلبه متعلقاً بها وآثرها على طاعة الله، فليست العبودية السجود أو الركوع أو الدعاء، أو كونه يعتقد أن غير الله يؤثر في الكون وفي جلب المنافع ودفع المضار، فالعبادة في الواقع عبادة القلب، وقد يكون الإنسان عبداً لزوجته، وقد يكون عبداً لرئيسه، فإذا أصبح يطيع الزوجة في معاصي الله، وأصبح يترك طاعة الله من أجلها أصبح عابداً لها، فكل من عصى الله في طاعة مخلوق فقد عبد ذلك المخلوق، كما قال الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية عند عدي بن حاتم -وكان نصرانياً- قال عدي بن حاتم: يا رسول الله! ما عبدناهم! قال: (بلى.
ألم يحرموا عليكم الحلال ويحلوا لكم الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى.
قال: تلك عبادتهم) يعني بعبادتهم طاعتهم في معاصي الله، فهذا معناه، وليست عبادتهم السجود لهم والتضرع لهم.
فهكذا يجب على العبد أن يتفقد نفسه، وأن يخلص نفسه من عبادة المظاهر وعبادة الأغراض والأشخاص، وأن يكون عبداً لله حقاً، وتكون عبوديته لله لربه جل وعلا حتى يكون ممن أتى الله جل وعلا بقلب سليم، فهذا هو الذي يكون خالصاً يوم القيامة وسالماً من جميع المخاوف والعذاب.
وأجمع العلماء على أن من مات مشركاً فهو خالد في النار، كما أجمعوا على أن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة من اعتقد الإسلام في قلبه من غير شك أو تردد، ونطق بالشهادتين، وعمل الفروض التي فرضت عليه إذا كان متمكناً، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذا هو الذي يكون من أهل القبلة، وإذا مات على هذه يكون مسلماً، ويحكم له بأنه من أهل الجنة في الجملة، أما إذا كان مقصراً وعاملاً للذنوب فإن كانت هذه الذنوب غير شرك أكبر فيخاف عليه أن يعذب في النار، ولكن يحكم بأنه مآله في النهاية إلى الجنة ولو بقي في النار أحقاباً، وقد يطول البقاء لبعض الناس في النار، فقد علمنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أن أهون أهل النار رجل -وهو أبو طالب - يوضع في أخمصه جمرات من جهنم يغلي منها دماغه من شدة حرها، وهو يطؤها بقدمه، ولا يستطيع أن يحيد عنها أبداً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً، فكيف بالذي يكون في دركات جهنم؟ وكيف بالذي يكون في أسفلها في الدرك الأسفل منها؟ لأنها دركات بعضها فوق بعض، أليس هذا يستطيع أن يطأ جمرة من جهنم يغلي منها دماغه؟ فهو يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، وسبب هذا الشرك والكفر بالله جل وعلا.
ومما جعل الشرك عظيماً كونه عطل أمر الله واستهان به(19/4)
جناية الشرك تحجب المغفرة عن صاحبها
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة، هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله].
الله تعالى كتب على نفسه الرحمة جل وعلا، وكتب أن رحمته تغلب غضبه، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فوضعه على العرش فهو عنده على عرشه: إن رحمتي تسبق غضبي)، فرحمته أسبق من غضبه، ورحمته أخبر أنها وسعت كل شيء، ولكن المشرك خرج منها، فالمشرك إذا مات على الشرك فهو خارج من أن تناله رحمة الله جل وعلا، وهذا ليس من باب العقل، وليس من باب الفطرة، بل هو من باب الخبر عن الله جل وعلا، إخبار الله جل وعلا وحكمه، خبر حكم به على من أشرك به أنه لا يغفره، ثم كذلك الله جل وعلا أخبرنا أنه كما أنه غفور رحيم أخبرنا أنه شديد العقاب، فيجب على الإنسان ألا يتعبد لله من ناحية التعلق بالرجاء والرحمة، ويجب ألا ينسى أنَّ ربه شديد العقاب، فالله جل وعلا أخرج أبانا آدم من الجنة بذنب واحد وأهبط إلى الأرض، فيجوز أنه جل وعلا يدخل عبده النار بذنب واحد، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلين فيمن كان قبلنا أخوين في الله، وكان أحدهما مقصراً والآخر مجتهداً، وكان المجتهد كلما رأى أخاه على ذنب من الذنوب نصحه وزجره ونهاه شفقة عليه، وفي يوم من الأيام رآه على ذنب استعظمه، فقال: والله لا يغفر الله لك.
فقال الله جل وعلا: من هذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟! قد غفرت له وأحبطت عملك.
وفي رواية أنه قبضهما الله جل وعلا فأوقفهما بين يديه، فقال للقائل: أتستطيع أن تحجر رحمتي عن خلقي؟ فقال: لا يا رب.
فقال للمقصر: اذهب فادخل الجنة.
وقال لهذا المجتهد: اذهب إلى النار.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
وهذه الكلمة قالها غيرة وغضباً لله جل وعلا وشفقة على هذا الإنسان، فاجتهد ولكنه اجتهاد خاطئ، فالإنسان قد يعمل عملاً يدخله الله جل وعلا به النار، وقد يكون كلمة، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)، وفي حديث آخر: (يكتب الله عليه بها غضبه إلى يوم يلقاه)، فالله غضب عليه من أجل كلمة واحدة، وبالعكس، فقد يتكلم بكلمة من الخير يكتب له رضوان الله بها، ولهذا جاء أيضاً في الحديث (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)، فالإنسان يجب عليه أن يخاف دائماً، ويجب عليه أن يحذر؛ لأنه عبد لله جل وعلا، وإذا العبد خالف سيده يوشك أن يأخذه ولا يبالي، والله جل وعلا يلقي في النار من يشاء من عباده بغير مبالاة؛ لأنه هو القهار المالك لكل شيء، مع أنه جل وعلا حكم عدل، ولكن لا أحد يستطيع أن يقوم بحقه كما ينبغي.
فالمقصود أن الإنسان يجب أن يكون حذراً فلا يتساهل، وكون رحمة الله جل وعلا وسعت كل شيء فهو أخبرنا أنه يكتبها للمحسنين، قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، وليست قريبة من المسيئين ومن العاصين ومن المشركين، والمشرك من أبعد خلق الله عن رحمة الله.(19/5)
رد الآية على الفرق الضالة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار].
الناس في هذا انقسموا إلى أقسام: قسم تصرف في أمر الله ودينه، فقال: يكفي الإنسان أن يصدق بقلبه ولو لم يعمل فلا يضره.
وهؤلاء يسمون المرجئة، وأصلهم الجهمية، ولهذا فسروا الإيمان بأنه المعرفة، معرفة القلب، وبهذا القول كفرهم العلماء، قالوا: لأن الإسلام جاء بنية وعمل وقول لا بد منه، فالله جل وعلا يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، وأمرنا بالقول، وهم يرون أن هذا ليس بلازم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وأجمع العلماء على أن الإنسان لا يدخل الإسلام حتى يتشهد شهادة الحق (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإن كان صادقاً من قلبه فهو المسلم ظاهراً وباطناً، وإن قال ذلك بلسانه فهو مسلم في الظاهر فقط، وأما في الباطن فهو في النار، وهؤلاء قالوا: إن الإيمان المعرفة.
فقيل لهم: إبليس يعرف ربه، فهل يكون مؤمناً؟! فإبليس يعرف الله، ويعرف الإيمان، ويعرف الكفر، فيلزمكم أن تقولوا بأنه مؤمن، ومعلوم أن هذا من أكبر الخطأ، ومن أبعد الأقوال عن الصواب.
وقابلهم فريق آخر فقالوا: الإيمان هو القول والعمل كله والنية التي يجب أن تكون مصاحبة للعمل، فلا بد أن يأتي بالأعمال كلها المأمور بها ولا يترك منها شيئاً، فإن ترك منها شيئاً فهو كافر.
وهؤلاء هم الخوارج الذين كفَّروا الناس بالمعاصي، وهم مقابلون لهذا الفريق.
وفريق آخر قريب منهم، إلا أنهم اختلفوا معهم في حكم الدنيا فقط، فقالوا: من ترك بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فصار في منزلة بين المنزلتين.
وهذه خصيصة اختص بها المعتزلة من بين الناس، ولكن في الآخرة عندهم يتفقون مع إخوانهم الخوارج في ذلك، فقالوا: إذا كان يوم القيامة هذا الذي ترك بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات يكون خالداً في النار.
فإذاً الخلاف بينهما في التسمية، وفي حكم الدنيا فقط، أما في الآخرة فبينهما اتفاق.
والفريق الثالث -أو الرابع إذا جعلنا المعتزلة فريقاً ثالثاً- أهل الحق الذين توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، وقالوا: إن الإيمان يتفاوت بتفاوت فعل الناس، فالإنسان إذا أتى بالواجب عليه واجتنب المحرمات مع القول والنية فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، وإن أخل بشيء من ذلك يكون مؤمناً ناقص الإيمان، على حسب كثرة ما أخل به أو كثرة ما ارتكبه من المحرمات، فلا يعطى الإيمان كله ولا يسلب الإيمان كله، بل يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
أو: إنه مؤمن عاصٍ.
أو: إنه مؤمن ناقص الإيمان.
ولا يكون بذلك كافراً، وهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن، وهم يقولون: هذا دليل على أنه كافر.
ولكن أهل السنة يقولون: لو كان كافراً ما أقام عليه الحد ولا صلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا كان محصناً فإنه يرجم ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه يكون حكمه حكم المسلمين؛ لأن إقامة الحد عليه تطهيرٌ له من هذا الذنب، كذلك السارق، فلما قال: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) قطع يده وحكم بأنه مسلم من المسلمين، وكذلك شارب الخمر، وقد قال: (لا يشربها حين يشربها وهو مؤمن)، ومع ذلك لما قال رجل: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (لا تعن عليه الشيطان)، وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، مع أنه شارب للخمر، فدل على أن إيمانه نقص مجرد نقص، وأنه ما خرج من الدين، والله جل وعلا يقول في قاتل النفس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، ويقول جل وعلا في آية أخرى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، ويقول بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، فمع القتال ومع كونهم يتقاتلون سماهم إخوة، وسماهم مؤمنين، فدل على أن الإيمان لم يسلب منهم، ولكن بارتكابهم المعاصي نقص إيمانهم، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، أما هذه الطوائف الثلاث فكلها ضالة، فالمكفرون والذين يتهاونون بالمعاصي ويقولون ليست بشيء، والإنسان إذا عرف بقلبه فهو مؤمن وإن ترك الصلاة والزكاة وغيرهم ضلال خالفوا كتاب الله وسنة رسوله من الجانبين، والحق هو الوسط بين الغالي والجافي.(19/6)
التوبة من الشرك مقبولة
قال الشارح رحمه الله: [ولا يجوز أن يحمل قول الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له].
يعني: قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] يقول: لا يجوز أن نحمل قوله جل وعلا: (ويغفر ما دون ذلك) ما دون الشرك (لمن يشاء) على التائبين؟ لأن التائب من الشرك مغفور له، ولو كان الأمر كما يقول هذا القائل لأصبح الاستثناء ليس له فائدة، وهذا إهدار للنص، وإنما المقصود من هذا الاستثناء الذي يموت على الذنوب بدون توبة، فمن مات على الذنوب بدون توبة فإنه داخل في هذا الاستثناء، فهو تحت المشيئة، إذا شاء الله تعالى غفر له بدون عقاب، وإن شاء عاقبه ثم بعد ذلك أخرجه من عذاب النار إلى الجنة.
قال الشارح رحمه الله: [كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب، هذا ملخص قول شيخ الإسلام].
هذا هو الذي يظهر من كلام الله جل وعلا، ولا يجوز أن يقال غير ذلك؛ لأن كلام الله لا يتناقض، ولا ينقض بعضه بعضاً، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم مفسرة لهذا ومبينة له.(19/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [20]
أخوف ما يخاف على الصالحين الشرك الأصغر، وهو الرياء، وهو أعظم من كبائر الذنوب كالزنا والربا، فيجب على المسلم معرفة التوحيد ليحقق الإخلاص الذي هو طريق الخلاص.(20/1)
الخوف من الشرك الأصغر
قال المصنف رحمه الله: [وقال الخليل عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وفي الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه، فقال: الرياء)].
قال الشارح رحمه الله: [أورد المصنف هنا الحديث مختصراً غير معزو، وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وهذا لفظ أحمد، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ليث عن يزيد -يعني: ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟)، قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح له منه سماع فيما أرى، وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة.
ورجحه ابن عبد البر والحافظ، وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج، مات محمود سنة ست وتسعين -وقيل: سنة سبع وتسعين- وله تسع وتسعون سنة].(20/2)
تعريف الصحابي وبيان فضله
الصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به مات على ذلك، وقد يكون الصحابي صغيراً، وقد يراه ولا يسمع منه، فما يحمل عنه العلم، ولكنه يحمل عن الصحابة.
والصحابة كلهم عدول بتعديل الله إياهم، فلا يجوز النظر في أحدهم هل هو ثقة أو غير ثقة؛ لأن الله رضيهم لصحبة نبيه، وأثنى عليهم في كتابه، فتعديل الله أولى وأحق من تعديل الخلق، وإنما يكون النظر فيمن عداهم، وهذا الحكم في الصحابة ينطبق عليهم سواءٌ تحمل أحدهم الحديث بنفسه أو تحمله عن غيره؛ لأنه لا يتحمل إلا عن الصحابة، أما لو قدر أن صحابياً أخذ عن تابعي فهذا لا بد من النظر فيه هل التابعي هذا ثقة أو غير ثقة، أما الصحابة فلا ينظر فيهم؛ لأنهم كلهم عدول بتعديل الله جل وعلا لهم، وإذا كان محمود بن لبيد قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به فهو من الصحابة، ولكن إذا كان -كما قال بعض العلماء- لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فتكون أحاديثه بواسطة الصحابة قد سمعها من غيره، فإذا قال: قال الرسول كان قد أسقط الواسطة، ولا حاجة إليها؛ لأنه أخذ عمن هو عدل، ولا ينظر فيه، فيكون الحديث في ذلك صحيحاً لا مطعن فيه.
فالقول الصحيح في تعريف الصحابي عند العلماء أنه: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وهذا القيد الأخير يخرج الذين ارتدوا إذا وجد ذلك، ولم يعلم أن أحداً من الصحابة ارتد إلا اثنين أو ثلاثة فقط خذلهم الله جل وعلا وماتوا كفاراً، أحدهم كان يكتب الوحي، فكان إذا جاء مثل (وكان الله عزيزاً حكيماً) يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب (عزيزاً حكيماً) أو (سميعاً عليماً) أو (سميعاً بصيراً)؟ فيقول: اكتب ما تشاء فوقع في نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدري، فصار يقول: أنا الذي أكتب ما أريد، والرسول لا يعلمني شيئاً.
فوقع في نفسه الغرور، وجاءه الشيطان وغره، فارتد وهرب إلى الكفار، فأدركه الموت فصار كلما دفنوه لفظته الأرض، حتى أصبح آية من آيات الله، كلما دفن أخرجته الأرض ولفظته، فترك على وجه الأرض تأكله الكلاب، وهذا واحد.
أما الثاني فهو ابن أبي السرح، وقد رجع وتاب، ولا أعلم أحداً غيرهما، أما قوله صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين: (إني أكون قائماً على الحوض أذود عنه رجالاً، فيأتي قوم أعرفهم، فإذا عرفتهم حال بيني وبينهم رجل، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار والله.
فأقول: أليسوا بأصحابي؟! فيقول: إنك لا تعرف ما صنعوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم، فأقول: سحقاً سحقاً) فالمقصود أنه عرفهم من أمته، وليسوا من أصحابه، وقد عرفهم بآثار الوضوء، ولا يلزم أن يكونوا في جهنم خالدين، ولكنهم يحرمون من ورود الحوض ويدخلون في النار، ثم بعد ذلك يخرجون إذا لم يكن معهم شرك كغيرهم.
أما الصحابة فقال أبو زرعة رحمه الله -وكذلك ابن حزم -: إنهم في الجنة قطعاً، وهم أولى من يكونوا فيها؛ لأنهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، وهم الذين نشروا الدين وبلغوه الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا ما تجد منهم من مات في المدينة أو في بلده إلا النادر، ولو حسب الذين ماتوا في المدينة ما يتجاوزون مائة من الصحابة، هذا مع أن الصحابة كثير، قال أبو زرعة: كانوا مائة ألف الذين مات عنهم الرسول، وقال غيره: ثلاثمائة ألف الذين مات عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلهم أين ماتوا؟ بعضهم في شرق الأرض، وبعضهم في غربها، وبعضهم في شمالها، كلهم خرجوا إلى الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فماتوا في بلاد شاسعة جداً، يتعجب الإنسان كيف وصلوا إلى تلك البلاد وهم على أرجلهم وعلى خيولهم وعلى ركائبهم، وذلك لأن أحدهم يخرج ولا يريد أن يرجع، يخرجون إلى الجهاد في سبيل الله وهم يقولون: قد حملنا ربنا جل وعلا رسالة لا بد أن نبلغها خلقه أو نقضي دونها.
أي: نموت دونها.
هذا شأنهم، وهذا ما كانوا يقولونه دائماً رضوان الله عليهم، فلهذا حبهم إيمان وبغضهم كفر ونفاق.(20/3)
الشرك الأصغر مخوف على الصحابة
قال الشارح رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.
فسئل عنه فقال: الرياء) قال الشارح رحمه الله: هذا من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم) الحديث، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه على من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله! وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشرك أخفى من دبيب النمل، قال أبو بكر: يا رسول الله! وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك! الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل) الحديث، وفيه: (أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان).
انتهى من الدر].
الشرك الخفي قسيم للشرك الأصغر، وقد يكون قسماً ثالثاً؛ لأن الخفي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، وسمي خفياً لأنه لا يعلمه إلا الله، فالمقصود بهذا شرك النيات، الشرك الذي يكون في المقاصد والنية، فهذا تنطوي عليه نية الإنسان، لهذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، مثل الآية التي هي قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16]، فهذا من الشرك الخفي وهو شرك أكبر، كما جاء تفسيره عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فسروه بمن يعمل أعمالاً ظاهرها صالح يراد بها وجه الله وهو في نيته لا يريد بها إلا الدنيا فقط، ومثل العلماء لذلك بأشياء كثيرة، كمن يصلي إماماً للناس من أجل الراتب الذي يأخذه، ولو انقطع ذلك لترك الإمامة، ومقصودهم بذلك إذا كان هذا الشيء الذي يأخذه من الناس أنفسهم وليس من بيت المال؛ لأن هذا من الأمور التي ينفق عليها بيت المال؛ لأنها من مصارف المسلمين العامة، ولكل أحد حق فيها، ولكن إذا قدر أن أناساً يقومون بالتبرع لإمام يصلي، فهذا الذي يصلي لأجل ذلك في الواقع يصلي لأجل الدنيا، وإن كان ظاهر عمله أنه صالح وأنه يريد نيل الآخرة؛ لأنه إذا صار العمل فيه اشتراك بين الرب جل وعلا وبين مقاصد أخرى أو وجوه الناس فهو متروك، فالله يتركه لصاحبه، فهذا شرك خفي، وكذلك إذا كان الإنسان يعلم وقصده في التعليم أن يظهر على الناس ويشار إليه ويعظم ويقال: إنه عالم.
إنه كذا وكذا.
فهذا مراده، ولكن هذا في نيته، فنيته خفية ما يعلمها إلا الله، وهذا بينه وبين الله، والناس ليس لهم إلا الظاهر، فمثل هذا أيضاً من الشرك الخفي، وقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر إذا كان الأمر تابعاً، والعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لله جل وعلا، أما إذا كان فيه إشراك لغير الله جل وعلا فهو مردود على صاحبه، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً تعالى وتقدس.
يقول الله في الحديث القدسي الذي يرويه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وسبق الحديث أنه يقول جل وعلا للمرائي يوم القيامة: (اذهب إلى من كنت ترائيهم في الدنيا فاطلب أجرك عندهم)، ومعنى هذا أنه يرد العمل على صاحبه، وهذه مشكلة في الواقع، فيجب أن تخلص الأعمال كلها لله، أما إذا جاءت أمور أخرى فيجب ألا تكون مقصودة، كالذي -مثلاً- يأخذ المال ليحج يريد الحج ويريد المال، فالذي يأخذ هذا المال والأمر في نيته خفي ونيته خفية إن كان قصده بالحج المال وما يريد إلا المال فهذا حج باطل وعمل شركي، ولا يقبل منه، أما إن كان يأخذ المال ليتقوى به وليذهب إلى المناسك والمشاعر المعظمة، ويدعو الله لعل الله جل وعلا أن يقبله ويقبل من دفع المال فهذا حجه صحيح ونيته سليمة، فالمقصود أن هذا من الشرك الخفي، فهو يتعلق بنية الفاعل، فالذي يفعل الأفعال التي ظاهرها صالحة، ولكن النية لا يعلمها إلا الله، ولهذا سمي شركاً خفياً.
ومنه أيضاً حب الرئاسات، وحب المدح والثناء، فإن هذا يسمى الشهوة الخفية؛ لأن النفوس تحب ذلك وتشتهيه، وغالباً مثل هذه الأمور يتوصل إليها بالأعمال الصالحة، وإذا كان الإنسان يقصد بالعمل الصالح أن يصل إلى هذه المقامات فعمله شرك، وهو على حسب ما يقوم في نفسه، إن كان يريد بقصده ونيته هذا الشيء فهو من الأمور المعظمة، أما إن كان الأمر مشتركاً بين هذا وهذا فهذا للغالب عليه، وقد يكون العمل مردوداً لهذا الاشتراك.(20/4)
حديث: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري].
الند هو المنادد، أي: المناظر والمماثل ولو في صفة من الصفات و (ند الشيء) نظيره ولو في صفة من الصفات، ولا يمكن أن يكون المخلوق مماثلاً للخالق في وجوه شتى، وإنما قد يكون المشرك يجعله مماثلاً له في الفعل الذي يفعله، ولا يلزم أن يعتقد أنه منادد لله، بل إذا جعل له شيئاً مما يجب لله فقد جعله نداً، كما قال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت.
فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)؛ لأنه شرك بينه وبين الله بالواو التي تقتضي الجمع والمشاركة، ولو بالفعل، وإن كان فعله متميزاً وفعل الله متميزاً عنه، ولكن الجمع الظاهر يقتضي ذلك، ولهذا قال: (أجعلتني لله نداً؟).
وكذلك إذا أضاف الإنسان الأمور إلى الأسباب الظاهرة، فإنه يكون قد جعل لله نداً، ولهذا جاء في الحديث عندما أمطروا ليلة الحديبية وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم الصبح وقال: (أتدرون ماذا قال ربكم البارحة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك مؤمن بالكوكب وكافر بي)، ومعلوم أن الناس لا يعتقدون أن الكواكب هي التي تنزل المطر، ولكن يضيفون المطر إلى طلوعها أو غروبها فقط، ويقصدون بذلك أن هذا الوقت جاء فيه المطر، فأضافوه إلى الكوكب وإلى النوء، فأصبحت هذه الإضافة -وإن كانت بهذه المثابة- من الكفر؛ لأنها تنديد، وذلك أنهم أضافوا رحمة الله ونعمته إلى غيره من المخلوقات، ومثله أن يقول: لولا الله وفلان لصار كذا وكذا.
أو يقول مثلاً: لولا البط في الدار لدخل اللصوص.
ولكن البط ينبه، ومثل أن يقول مثلاً: لولا أن السيارة جديدة ما وصلنا في هذا الوقت إلى هذا المكان.
وما أشبه ذلك من إضافة النعم التي تحصل للإنسان إلى الأسباب، فهذا من التنديد بالألفاظ، وهو نوع من أنواع الشرك؛ لأن الشرك يكون باللفظ، ويكون بالفعل، ويكون بالنية والقصد، وإذا سلم الإنسان من هذه الأمور من الأفعال التي تكون مُشّرَّكة بين الله وبين المظاهر الأخرى من المقاصد والأقوال، إذا سلم من الأفعال المشركة والمقاصد والأقوال فقد سلم من الشرك دقيقه وجليله، فالشرك جليل ودقيق، وظاهر وخفي، ويجب على الإنسان أن يعتني بهذا الأمر أشد العناية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، ويعلم الأمة هذه الأمور، ويحذرهم من الشرك، كما قال في هذا الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، وكذلك الحلف بغير الله فإنه من هذا القبيل، كأن يحلف بالنبي أو يحلف بأبيه أو بأمه أو بالأمانة أو بالكعبة أو ما أشبه ذلك؛ فإن الحلف بغير الله من التنديد وشرك الألفاظ، وإن كان لم يقصد بالحلف أن هذا المحلوف به يستطيع أن يوقع العذاب به إذا كان كاذباً، أما إذا كان يعتقد هذا فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن هذا معناه أنه جعل لهذا المحلوف به ما لله جل وعلا، والله وحده هو الذي يطلع الغيب ويعلم ما في النفوس، وإذا كان الإنسان كاذباً فإن الله جل وعلا يعاقبه ويعذبه على ذلك، إذا كان الإنسان إذا حلف بالمخلوق يعتقد أن المخلوق بهذه المثابة صار حلفه ليس من الشرك الأصغر بل من الشرك الأكبر، ولهذا يقول ابن عباس في قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يقول: أتدري ما الأنداد؟ الأنداد أن تقول: لولا الله وفلان، لولا البط في الدار لدخل اللصوص.
لولا الكلب لعدى علينا السبع.
لولا كذا لصار كذا.
وهذا يقوله الناس ويكثر في أقوالهم، فهم يجعلون ما يحصل لهم من الخير بسبب أمر من الأمور التي قد تكون سبباً وقد لا تكون سبباً، والأسباب كلها بيد الله هو الذي جعلها أسباباً، وإذا شاء أن يعطلها عطلها، وإذا شاء أن يوجد موانع تمنع حصول ما يترتب على السبب أوجد ذلك، فالأمر بيده، ويجب أن يرد الشيء إليه، ولهذا يستحب إذا أراد الإنسان أن يضيف شيئاً إلى شيء أن يقول: لولا الله ثم كذا وهذا في الأمر الذي يكون سبباً لحصوله، أما الأمر الذي يتعلق بنفس الإنسان وبفعله فالشيء الذي مضى لا يعلق، فلا يقال لمن يسأل: متى قدمت؟ أو على أي شيء قدمت؟ فيقول: قدمت إن شاء الله أمس.
أو قدمت إن شاء الله على الطائرة.
أو قدمت إن شاء الله على السيارة.
هذا ما يعلق بالمشيئة؛ لأن هذا قد حصل، والأمور التي حصلت ومضت قد علمنا أن الله شاءها، ولولا مشيئة الله ما حصلت، فيقول: قدمت على كذا وكذا بدون أن يقول: إن شاء الله، وإنما يقال هذا في الأمور المستقبلة، وكذلك إذا كان السبب الذي يذكر لا يجوز أن يكون مستقلاً، فيجب أن يقول: لولا الله ثم فلان، ثم كذا وكذا؛ لأن هذا فعل وقع بسبب، بخلاف الشيء الذي يقع من الإنسان نفسه وقد مضى، فإن هذا علمنا أن الله شاءه، ولولا مشيئته ما حصل.(20/5)
معنى الند
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان ونديده أي: مثله وشبيهه انتهى].
المقصود شبيهه بالفعل أو شبيهه بالحق الذي جعل له، أو شبيهه بالقصد الذي قصد إليه، أما أن أحداً يقول: إن المخلوق شبيه لله جل وعلا فهذا لا يقوله مؤمن، لا أحد يقول ذلك، فالمخلوق لا يكون نداً لله، والكفار المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقولون: إن الأشجار والأحجار والمقبورين والملائكة والجن والأنبياء إن أحداً منهم شبيه لله، ما كانوا يقولون هذا أبداً، ولكن كانوا يقولون: هؤلاء وسائطنا إلى الله، ويسمونها آلهة، بمعنى أنها تقبل الوساطة وتشفع، فهم يتألهونها من هذا المعنى، ولهذا يقول الله جل وعلا عنهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، ومعنى هذا أنها ليس لها شيء من معنى هذا الاسم، فتسميتها آلهة كذب وضعوه على غير موضعه؛ لأن الإله هو الذي يملك ويخلق ويرزق، يملك للمتأله النفع والضر، أما هؤلاء فليس لهم من ذلك شيء، وكذلك قوله جل وعلا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: ما نقصد عبادتهم لأنهم يستحقون العبادة، أو لأنهم آلهة يعبدون، أو لأنهم شركاء مع الله، لا.
بل كما يقول كثير ممن يتوسل بالقبور اليوم: نجعلهم وسيلة لنا، نتوسل بهم، هذا معنى كلام أهل الجاهلية: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) يعني: يشفعوا لنا.
هذا معناه وحقيقته، والشرك الذي وقع في بني آدم أصله طلب الشفاعة فقط، لا أحد أبداً من بني آدم اعتقد أن مخلوقاً يساوي الله جل وعلا ويشابهه، ولا يعقل هذا، وإنما لما صرفوا ما هو من حق الله إلى هذه المخلوقات صاروا بذلك مؤلهين لها عابدين لها جاعلينها أنداداً لله في هذا الفعل فقط، هم الذين اعتقدوا هذا، وإلا فهي في الواقع ليس لها من هذا المعنى شيء، وهو كذب وزور.
فمعنى قول ابن القيم أن يجعله شبيهاً ونظيراً لله في عقيدته أن يجعل له ما لله، هذا هو المقصود، وإلا هو في نفسه لا يعتقد أن أحداً من الخلق يكون شبيهاً لله جل وعلا وتقدس.
فمعنى قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: في الدعاء، وفي الشفاعة، وفي التشفع ولهذا قال قبل ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] يعني: إنكم تعترفون أنه ليس مع الله خالق خلقكم، ولا معه خالق خلق من قبلكم، فكيف إذاً تدعون معه غيره؟ فالدعاء يجب أن يكون لمن يتصرف التصرف الكامل بالإيجاد وبالنفع، وكذلك بدفع الضر، أما إذا كان الذي يقصد بالدعاء ما يستطيع أن يفعل ذلك فهذا ضلال.
ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] يعني: هل أحد مع الله تعالى فعل ذلك؟ هم يعترفون تماماً أن هذا مما انفرد الله جل وعلا به وحده، ثم قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] يعني: إنكم تعترفون أن هذا فعل الله وحده، وليس معه من يفعل ذلك.
ثم بعد هذا يقول: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: أنتم تعلمون أنه هو الفاعل لما ذكر وحده، ولا مشارك له في ذلك، وإذا كان ليس له مشارك في ذلك فكيف تدعون غيره؟ هذا المدعو فقير مثلكم، لا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، فهو مثلكم، فلماذا تتجهون إليه بالدعاء وتزعمون أنه يشفع لكم؟! فهذه الأنداد قصدت في الدعاء وفي الشفاعة، وكونهم يدعونهم ليشفعوا لهم؛ ولهذا يقول العلماء في قوله جل وعلا عن الكفار لما كانوا في جهنم يخاطبون من كانوا يدعونهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] يقولون: ما سووهم برب العالمين في الخلق والإيجاد والفعل والصفات، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والدعاء فقط، وهذا هو التنديد الذي وقع للمشركين قديماً وحديثاً.
وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فأخبر أن الأنداد في الحب فقط، (يحبونهم كحب الله) ليس في الخلق والإيجاد والتصرف، أما هذا فما قاله أحد من الخلق، وكثير من الناس اليوم يعتقد أن المشركين كانوا يعتقدون أن الحجارة تخلق وترزق وتحيي وتميت وكذلك الشجر، هذا ما اعتقده عاقل أبداً، والمشركون القدامى أعقل من هؤلاء بكثير، ولهذا كانوا إذا وقعوا في الشدائد ووقع لهم اضطرار أخلصوا الدعاء لله جل وعلا وتركوا كل ما يقصدونه من دون الله، كما قال الله جل وعلا: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، يخلصون له الدعوة وحده، أما هؤلاء ففي الواقع أنهم إذا وقعوا في الكربات أخلصوا الدعاء لغير الله، فتجد أحدهم يبكي ويضرع ويخشع عند القبر، يبكي بكاءً ما يكون في المسجد بين يدي الله؛ لأنه يخاف صاحب القبر أكثر من خوفه من الله! فهؤلاء ما فعل مثل فعلهم أحد من المشركين كـ أبي جهل وإخوانه.
وعلى كل حال فالتشبيه والتنديد يجب أن يفهم أنه في الدعاء وفي الطلب وفي المحبة، لا في كونهم شبهوا المخلوق بالله جل وعلا وجعلوه شبيهاً له في الإيجاد والإعدام والتصرف، أو في الصفة أو الذات، هذا ما قاله أحد من الخلق.(20/6)
التحذير من الشرك الأكبر
قال الشارح رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً -أي: يجعل لله نداً في العبادة، يدعوه ويسأله ويستغيث به- دخل النار)، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان].
إذا جاء الرجاء والخوف فلا بد أن يكون هناك محبة، إذا كان الإنسان يرجو الشيء أو يخافه فلا بد أن يكون معه محبة، إلا أن يكون المخوف ظالماً متجبراً فإنه يخافه وقلبه يلعنه، فمثل هذا ليس فيه شيء من العبادة، وخوفه هذا يكون خوفاً طبيعياً ليس خوف عبادة، وإنما هو الخوف إذا كان مخالطاً له الحب والرجاء، وكذلك إذا كان يرجو شيئاً ولا يحبه قلبه فإن هذا لا يكون عبادة، وإنما هذا لأنه سبب فقط، والإخلاص أن يكون الإنسان خوفه ورجاؤه لربه جل وعلا لا يخاف غيره.
ومعنى ذلك أنه ينظر إلى الأسباب على أنها أسباب جعلها الله جل وعلا أسباباً، ويجوز أن يوجد بها ما رتب عليها ويجوز ألا يوجد، وإذا حصل شيء من الأمور بسبب من الأسباب على يد إنسان يشكره لأنه سبب، لا لأنه هو الذي استقل بذلك، بل يشكره ويحمده لأن الله جل وعلا جعله سبباً، ولكن حبه ونظره في التصرف والإيجاد والنعمة إلى الله وحده جل وعلا، فالأسباب لا تنافي الإخلاص في النظر إليها، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيل السبب وعدم الالتفات إليه قدح في الشرع وفي العقل؛ لأن الله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، وأمرنا ببذل الأسباب، ولكن أمرنا أن نعتمد عليه ونعلم أن الإيجاد والإعدام والإنعام وكذلك المنع والعطاء من الله، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى جل وعلا.
فأما أن يكون الإنسان يخاف من سبع أو من حية أو من ظالم أو ما أشبه ذلك فهذا أمر جبلي طبعي طبع الإنسان عليه، ولا يلام على ذلك؛ لأن المحذور هو أن يكون مع الخوف محبة وتأله، بأن يتألهه قلبه، وهذا الذي لا يجوز أن يكون إلا لله وحده، ومثله الحب، ومثله الرجاء، بل كل أفعال القلب من هذا القبيل، فيجب أن يفرق بين ما هو جائز وما هو ممنوع، فربنا جل وعلا أخبرنا عن موسى عليه السلام أنه خرج من بلد فرعون وقومه خائفاً يترقب، خائفاً منهم يترقب وينظر ويتلفت، وهذا من الأسباب، وخوفه منهم ليس عبادة لله، ولكن لأنهم ظلمة، ولأنهم يستطيعون أن ينفذوا ما يقولون وما يفعلون وما يريدون فعله، فهو يخافهم لأنهم ظلمة، وكثير من الناس يقول: الذي لا يخاف الله خف منه، فهذا الكلام باطل، فلا تخف منه، لا تخف إلا من الله جل وعلا، ولكن إذا كان الإنسان تحت يدي ظالم متسلط فإن خوفه منه خوف طبيعي، ولا يكون ذلك ضائراً له، وليس خوفه خوفاً قلبياً يختلط بالحب وبالرجاء، بل هو يخافه وقلبه يلعنه.(20/7)
نوعا اتخاذ الند
قال الشارح رحمه الله: [واعلم أن اتخاذ الند على قسمين: الأول: أن يجعله لله شريكاً في أنواع العبادة أو بعضها -كما تقدم-، وهو شرك أكبر.
والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: (ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)].
النوع الثاني لا يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، النوع الثاني يكون تنديداً ولكنه شرك أصغر، وإذا وقع من الإنسان فالإنسان يكون مسلماً، وليس خارجاً من الإسلام بذلك، ولكنه في الواقع ارتكب ذنباً عظيماً يجب عليه أن يتوب منه، فإن مات وهو غير تائب بل مصر على هذا الأمر فأمره إلى الله، ولا يقال: إنه في النار.
بل يكون أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه بدون عذاب، ثم مآله إلى الجنة، بخلاف القسم الأول الذي هو الشرك الأكبر، فمن مات عليه فهو في النار قطعاً خالداً فيها، ولا يمكن أن يدخل الجنة؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أن الجنة حرام على المشركين، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، فالجنة حرام على من يموت على الشرك الأكبر، فالله جل وعلا أخبرنا أن من يموت على الشرك أن الله لا يغفر له، ففي هذا الحال نقطع قطعاً يقينياً بأن من يموت على الشرك الأكبر أنه خالد في النار، وإن كان يصلي، وإن كان يزكي، وإن كان يقول: (لا إله إلا الله)، لا يفيده كل هذا؛ لأن المقصود بـ (لا إله إلا الله) وبالأفعال هذه أن تقوم على الإخلاص، فالذي يفعل الشرك ويكفر ويقول: (لا إله إلا الله) معناه أنه ما عرف معنى (لا إله إلا الله)، ولم يأت بما دلت عليه، وإنما جاء بالمتناقضات، فهذا لا يفيده، مع أن اليهود يقولون: (لا إله إلا الله)، وهم في النار.
ولا يغتر الإنسان بما يفهمه بعض الجهلة من أن من قال: (لا إله إلا الله) حرم على النار، وأنه يخرج من النار من قال: (لا إله إلا الله)، فالمقصود في هذا غير مشرك؛ لأن من شرط (لا إله إلا الله) أن تقع من غير مشرك؛ لأنها تنفي الشرك، وإلا فما هي الفائدة في قولها إذا كان الإنسان يقولها وهو يشرك؟ وقد علم هذا في وضعها، ولكن يعلمه أهل اللغة، أما الذين فسدت ألسنتهم وأصبحوا لا يفهمون معنى الكلام فهم يقولون: (لا إله إلا الله) وهم يعبدون أصحاب القبور، فيأتون بالمتناقضات، وقد مر معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمه عند موته: (قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، فقال له جلساء السوء أصحابه المشركون: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وما معنى هذا؟ معنى هذا أنه لو قال هذه الكلمة لخرج من دينهم ودخل في دين آخر، وهذا هو الذي تنفعه كلمة (لا إله إلا الله)، الذي يفهم أنه إذا قالها خرج من دين الكفار كله ومن دين المشركين كله ودخل في دين محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي جاء به، فلما أعاد عليه أعادوا عليه الكلام، ففي النهاية قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقولها ومات على ذلك.
فلا يجوز للمسلم أن يكون أبو جهل وعتبة بن ربيعة أعلم منه بمعنى (لا إله إلا الله)، وللأسف فإن كثيراً ممن يدعي الإسلام أولئك أعلم منهم بـ (لا إله إلا الله)؛ لأنهم أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم فعلموه، لهذا لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً.
أنكروا هذا لأنهم يعلمون أنهم إذا قالوا هذه الكلمة اتجهوا إلى إله واحد فقط وهو الله وحده.(20/8)
دعاء غير الله شرك أكبر
قال الشارح رحمه الله: [وفيه بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لقي الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى].
الشفاعة في الواقع هي أصل الشرك قديماً وحديثاً؛ لأنه لا أحد من الخلق يقول: إن أحداً من هذه التي تدعى ويتجه إليها مثل الله في التصرف وفي الإيجاد وفي الخلق أو في الذات أو في الصفات، لا أحد يقول هذا، وإنما يعتقدون أنها مقربة لهم عند الله، وأنهم إذا طلبوا منها شيئاً فهي تطلب بدورها من الله، والله يعطيها لكرامتها عليه، هذا هو أصل عقيدة المشركين قديماً وحديثاً، وقد بين الله جل وعلا أن هذا باطل، وأن الشفاعة لا تقع إلا بإذنه ولمن رضيه.
فالشفاعة التي جاءت في القرآن جاءت على قسمين: شفاعة منفية، وهي التي يزعم المشركون أنها تقع لأصنامهم ولمن يدعونه ولو لم يأذن الله جل وعلا، فهذه نفيت، قال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43 - 44]، فأخبر أن الشفاعة كلها له، ولا يوجد شفاعة يملكها غيره، وهذا لا ينافي كون الله جل وعلا يأذن لمن يشاء أن يشفع، ولكن إذنه بشفاعة الشافع لا يقع إلا بشرطين قد ذكرهما الله جل وعلا في القرآن: الشرط الأول: إذنه لمن يشفع أن يشفع كما قال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهذا استفهام إنكاري، يعني: لا يمكن أن يقع هذا الشيء من شافع يشفع إلا أن يأذن الله له.
فهذا شرط.
الشرط الثاني: أن يكون الله راضياً عن المشفوع له، كما قال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].
فالإذن والرضا شرطان، يقول الله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]، فقوله: (إلا من أذن له الرحمن) يعني: في الشفاعة، وقوله: (وقال صواباً) يعني المشفوع له قال صواباً، يعني: قال الحق وقال التوحيد، ورضي الله عنه.
فلا بد من هذين الشرطين، وبذلك يبطل ما يتعلق به هؤلاء الذين يزعمون أن أحداً من الخلق يشفع لهم ولو لم يأذن الله جل وعلا، وكثير من الناس يزعم أنه إذا اتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه يكفيه هذا، وقد نشرت بعض الكتب التي يكتبها بعض من يعد من العلماء، وقال فيها: نحن نعبد الله ونعبد الرسول.
يصرح صراحة ويقول: نعبد الله ونعبد رسوله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9]، فجعل التسبيح للرسول كالتعزير والتوقير، وهذا فهم عجيب وكذلك يقول: إننا نتجه إلى الله وإلى رسوله، وإننا نطلب الشفاعة من الرسول.
ويجعلها مستقلة، وكذلك يقول هذا بعض الشعراء وغيرهم الذين جعلوا حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يمدحونه، كما يقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم وأين الله؟ يعني: إذا ما أخذ الرسول بيده زلت قدمه.
ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم عجيب! يعني الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جملة جوده ما خط في اللوح المحفوظ، وما خطه القلم الذي أمره الله جل وعلا أن يكتب كل شيء، إذاً: فماذا بقي لله جل وعلا؟! ما بقي له شيء، ثم يقول: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم معناه: إني ألوذ بك من غضب الله.
وهذا شيء ما وصل إليه شرك المشركين، نسأل الله العافية، والعجيب أن كثيراً من الناس يجعل هذه القصيدة ورداً له يقولها مساء وصباحاً، ويتقرب بقولها وذكرها وحفظها وتلاوتها إلى الله جل وعلا، وهي شرك صريح، نسأل الله العافية، وكثير من الشعراء غير هذا هكذا يقولون، يأتي عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويكشف رأسه تعبداً ويقول في شكواه: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما في القلوب، وهو يزعم أنه من العلماء، وإذا أنكر عليهم منكر قالوا: هذا لا يحب الرسول، هذا لا يرى شفاعة الرسول وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن) حتى قال: (لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ولماذا ذكر جحر الضب دون الجحور الأخرى؟ لأن الضب جحره من أعسر الجحور؛ فإنه يكون ملتوياً ويكون نازلاً إلى أسفل مع تلويه، فالدخول فيه صعب جداً، ويقول: لو دخلوا في هذا الحجر لدخلتم خلفهم، ويقول في الرواية الأخرى: (لو أن أحداً منهم أتى أمه على قارعة الطريق لكان من هذه الأمة من يفعل ذلك)، وهم قالوا: إن عيسى ابن الله، وقالوا: إنه الله، وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، قالوا ذلك، ولكن هؤلاء ما تجرءوا أن يصرحوا بذلك، وإنما أخذوا المعاني التي هي لله جل وعلا وجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم دون الألفاظ، فهذا في الواقع أمر صعب، وصعوبته من هذا التركيب في هذا الكلام: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة) فكلمة (شيئاً) هنا نكرة عمت الشرك كله كبيره وصغيره وجليه وخفيه، تعم الكبير والصغير والخفي والظاهر، جميع الشرك، فمن لقي الله غير مشرك به في شيء من هذه الأمور دخل الجنة بدون أن يعذب؛ لأنه رتب الدخول على اللقاء، واللقاء يكون بعد المحشر، إذا بعثهم الله جل وعلا من قبورهم وجمعهم في صعيد واحد يقفون وقوفاً طويلاً في يوم عسير ثقيل، كما أخبر الله جل وعلا بأنه يوم عسير ويوم ثقيل، ولكننا ننساه، ثم بعد ذلك يأتي الله جل وعلا ليقضي بينهم، فكل واحد يلاقي ربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) كل واحد يكلمه على كثرة الخلق، والعجيب أنه يكلمهم في لحظة واحدة كلهم، فهو سريع الحساب جل وعلا، وكل واحد يرى أنه يكلمه وحده وهو يكلم الخلق كلهم؛ لأنه جل وعلا لا يقاس تكليمه ولا فعله بفعل الخلق تعالى وتقدس، فإذا لقي الله وهو لم يشرك به شيئاً فبعد هذه المكالمة يذهب إلى الجنة بلا عذاب إذا كان لا يشرك بالله شيئاً.
الوجه الثاني الخطر كونه قال: (ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، وهذا من الأدلة التي استدل بها من يقول: إن الشرك كبيره وصغيره غير مغفور لمن مات عليه، أما إن كان كبيراً فصاحبه خالداً في النار، وأما إن كان صغيراً فلا بد من تعذيبه، ولهذا قال في هذا الحديث: (ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، فدل على أن الذي يلقى الله ومعه شيء من الشرك وإن كان صغيراً أنه يدخل النار، ثم بعد ذلك إذا كان الشرك صغيراً يخرج من النار إلى الجنة، أما إن كان كبيراً فيبقى فيها أبداً.
وهذا في الواقع يخاف منه، وهذا سبب إيراد المؤلف له في باب الخوف من الشرك؛ لأنه أخبر أن من لقي الله ومعه شيء من الشرك فإنه يدخل النار، وهو نص صريح واضح في هذا، ولكن هذا لمن مات من غير توبة، ولهذا قال: (من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار) يعني أنه لقيه مصراً على هذا الشرك الصغير فإنه يدخل النار، أما إذا كان الشرك كبيراً فيكون خالداً فيها.(20/9)
فضل جابر بن عبد الله وأبيه رضي الله عنهما
قال الشارح رحمه الله: [قوله: عن جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام -بالمهملتين- الأنصاري ثم السلمي -بفتحتين- صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة].
أبوه عبد الله بن حرام قتل في غزوة أحد، وقد كان تخلف عن غزوة بدر فأسف على ذلك، وقال: إن قدر الله جل وعلا غزوة أخرى فسيرى ما أصنع.
فهاب أن يقول شيئاً غير هذا، فلما جاءت غزوة أحد قال لولده: يا بني! ما يصلح أن أخرج أنا وأنت ونترك البنات -وقد كان له سبع بنات-، ولست بمؤثرٍ لك الخروج يعني: أنا أولى منك بأن أخرج فخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما حصل ما حصل من انتكاس الصحابة وقتل من قتل منهم وصاح الشيطان بأعلى صوته: قتل محمد، تقدم إلى الكفار فقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، فلما أتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جابر يبكي والناس ينهونه، يقول: والرسول صلى الله عليه وسلم يبصرني ولا ينهاني.
ثم إنه قال لي: (أتدري ماذا قال الله لأبيك؟ إنه لما لقيه قال: يا عبدي! تمن علي.
فقال: كيف أتمنى وقد أعطيتني ما أريد، وما لا أتصور؟ فقال: تمن.
فلما رأى أنه لا بد قال: يارب! أريد أن تحييني مرة أخرى فأقتل في سبيلك.
قال: أما هذه فليس إليها من سبيل.
قال: فأبلغ عني من خلفي)، فنزل قول الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169] إلى آخر الآية، فالمقصود أن الله كلمه بدون واسطة بعد موته.(20/10)
حديث: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً) قال القرطبي رحمه الله: أي: لم يتخذ معه شريكاً في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم أن من الشرك المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وأن من مات على شرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد.
قال النووي رحمه الله: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحوده وغير ذلك، وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولاً وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة].
هذا في الأمور الأخرى غير الشرك، وكلام النووي هذا مما أجمع عليه، أي: أن من مات وهو مشرك أو كافر من أي صنف كان فنقطع قطعاً جازماً للآيات وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم القطعية أنه خالد في النار، أما الذي يموت بغير شرك فإن لم يكن صاحب كبائر وكان صاحب صغائر فإنه يدخل الجنة بلا عذاب، أما إن كان مصراً على كبائر الذنوب ومات عليها فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه على الكبائر وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بلا عذاب.
ومعلوم أن العذاب الذي يقع للإنسان كله تكفير، والعذاب قد يكون في القبر، وقد يكون في بعض الأوقات في قبره ثم ينقطع عذابه في القبر إذا كان ذنبه ليس كبيراً، والله جل وعلا لا يعذب إلا على قدر الذنب، ولكن الذنوب قد تكون عند الإنسان صغيرة وهي عند الله كبيرة، ثم بعض الناس قد لا يكفي تعذيبه في القبر طيلة ما كان في قبره وإن كان تراباً؛ لأن المقبور يصبح بدنه تراباً بعد سنوات، ولكن الروح ما تموت، فتعذب الروح مع حبات التراب التي صارت تراباً من البدن، فيذوق بدنه العذاب مع الروح، وهذا من أمور الآخرة التي أخبرنا بها، ويجب أن نؤمن بها.
ثم بعض الناس يتصل تعذيبه بالموقف؛ لأن الموقف أيضاً نوع من العذاب، فالناس يقفون فيه حفاة عراة عطاشاً جائعين، والشمس فوق رءوسهم، ويعرقون عرقاً عظيماً، وهذا كرب شديد، فهو نوع من العذاب يكون مكفراً للذنوب، ولهذا جاء أن بعض الخلق يكون الموقف عليه سهلاً ميسوراً وليس طويلاً، فما كلهم يكون بهذه الصفة، وبعضهم لا يكفي كونه يعذب في الموقف، وأهل الموقف يقولون فيه: ربنا اقض بيننا ولو إلى النار.
هكذا يقولون من شدة الوقوف والكرب، يرون أن المصير إلى النار أسهل منه، وإن كانت القاعدة أن كل ما بعد الموت أشد مما يلقى الإنسان إذا كان كافراً، فالنار أشد من الوقوف بلا شك، ولكن هكذا يتصورون، فإذا كان لا يكفي تعذيبه في الموقف أدخل النار، ثم دخول النار يتفاوت، فمن الناس من يكون دخوله مجرد دخول فقط، يغمس فيها فيخرج، ومنهم من يبقى وقتاً، والوقت يتفاوت أيضاً، فمنهم من يطول بقاؤه، ومنهم من يبقى طوال الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ثم بعد ذلك يخرج، ومنهم من يكون أقل من ذلك بحسب ذنوبهم، فالأمر في هذا يتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً حسب الإجرام والكبائر العظيمة، ولكن إذا كان الإنسان مات على التوحيد وهو يشهد أن لا إله إلا الله وليس عنده شرك، وإن كان قد أتى بمعاصٍ كثيرة وكبائر كثيرة فمآله إلى الجنة وإن عذب.(20/11)
مسائل باب الخوف من الشرك
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: الخوف من الشرك.
المسألة الثانية: أن الرياء من الشرك].
المسألة الأولى: الخوف من الشرك، يعني: أن الخوف من الشرك يجب أن يهتم الإنسان به؛ لأن الشرك -كما سبق- فيه أشياء خفية قد يقع فيها الإنسان وهو لا يدري، فينبغي أن يهتم الإنسان به، ويتعرف على مسائل الشرك وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تحذيره أمته من الشرك، فإنه صلوات الله وسلامه عليه حريص على هداية الأمة، ويعز عليه عنتها، الشيء الذي يشق عليها يشق عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلهذا بين كل ما يخاف أن يقعوا فيه، بينه ووضحه، فإذا رجع الإنسان إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم تبين له ذلك، فليس فيه خفاء في الواقع، وإنما الخفاء عند الجاهل الذي يجهل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والجاهل يخاف عليه أن يقع فيه.
وأما قوله: إن الرياء من الشرك فهذا الرياء قد يكون من الشرك الأصغر، وقد يكون من الأكبر، إن كان الرياء يسيراً قليلاً فهذا من الشرك الأصغر الذي يقول العلماء عنه: إذا خالط عملاً من الأعمال أبطل ذلك العمل خاصة، وأما سائر عمل الإنسان فإنه لا يبطل، وإنما يبطل العمل الذي قارنه، هذا إذا كان يسيراً، وإذا كان الرياء عرض للإنسان ثم أعرض عنه وجاهد نفسه في تركه فمثل هذا لا يضره، ولكن الذي يضره إذا استرسل معه، أي: استدعاه واستمر معه في عمله، فهذا يبطل العمل بلا شك؛ لأن الأحاديث جاءت فيه صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان الرياء كثيراً أو كان هو الباعث على العمل فهذا يكون من الشرك الأكبر، ولكن هذا لا يقع للمسلم، المسلم لا يبعثه على العمل الرياء، وإنما يكون هذا للمنافق، نسأل العافية، كما أخبر الله جل وعلا عن المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، ومن علامة ذلك أنهم إذا كانوا عند الناس جدوا في العمل وأدوه، وإذا صاروا وحدهم لم يعملوا، فهذا من صفات المنافقين، أما المسلم الموحد فإنه لا يقع منه ذلك، وإنما يخاف عليه الرياء اليسير، أي: الشرك الأصغر.
[المسألة الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
المسألة الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين].
وذلك أن الخطاب وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وأصحابه هم أصلح الأمة على الإطلاق، فإذا خافه صلوات الله وسلامه على أصحابه فغيرهم أولى أن يخاف عليهم، ولهذا قال: إنه يخاف منه على الصالحين.(20/12)
قرب الجنة والنار
[المسألة الخامسة: قرب الجنة والنار].
يعني قرب الجنة والنار من العبد، وهذا مأخوذ من قوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، فليس بين الإنسان والجنة أو النار إلا الموت على نوع من هذه الأنواع، موت على التوحيد وعدم الشرك، وموت على الشرك بالله جل وعلا -نسأل الله العافية-، فالذي يموت على التوحيد مخلصاً لا يشرك بالله شيئاً يدخل الجنة بعد الموت، وليس معنى ذلك أنه منذ مات يذهب به إلى الجنة لا.
فالجنة ما تكون إلا يوم القيامة، ولا يدخلها الناس إلا بعد الحساب، وأول من يستفتح باب الجنة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تفتح لأحد قبله، وإنما يشفع للمؤمنين في دخولهم الجنة، أي: الذين خلصوا من النار ومن الحساب.
ولكن معنى ذلك -كما جاء في الحديث- أنه إذا وضع في قبره وجاءه الملكان يحاسبانه يقولان له: من ربك؟ وما نبيك؟ وما دينك؟ وفي رواية: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما المؤمن الموقن فإنه يجيب بغير تردد وتلعثم، وإذا أجاب وثبته الله جل وعلا بالقول الثابت فإنه يفتح له باب إلى الجنة، ويقال له: انظر إلى مسكنك في الجنة.
ثم يأتيه من هذا الباب من ريحها وروحها ما يستأنس به، ولهذا يقول إذا رأى ذلك: يا رب! أقم الساعة حتى أذهب إلى منزلي.
ولا يذهب إليه إلا بعد قيام الساعة وبعد الحساب، فهذا معنى دخول الجنة، أي: أنه بعد الموت والحساب سيكون مآله إلى الجنة، ويكون في القبر آمناً من العذاب، وكذلك يوم يبعث ويوقف بين يدي الله لا يخاف العذاب كما يخافه غيره.
وأما صاحب النار فكذلك، ولكن يأتيه نصيبه من النار في القبر، فيكون القبر ناراً نسأل الله العافية! وليست النار على ما نعهدها نحن، قد يقول قائل: أنا أذهب إلى القبور، وكثيراً ما تحفر المقابر التي قبر بها الناس، ولا يرى فيها أثر عذاب ولا أثر نعيم، نقول: نعم ما يرى هذا ولا يشاهد؛ لأنه أمر غيبي؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يريكم من عذاب القبر)، ولكن لو رأينا شيئاً من عذابه ما استطاع أحد أن يدفن أحداً من الهول العظيم، وأحياناً يظهر الله جل وعلا لبعض من يشاء من عباده شيئاً من ذلك، إما موعظة له ورحمة به ليتعظ، وإما آية يظهرها حتى يرتدع غيره، ويكون عظة لغيره، وقد شاهد الناس أشياء كثيرة جداً من هذا النوع، من عذاب القبر ونعيمه، وأما كونه يشاهد النار أو آثار النار فلا، فما تشاهد، وهذه النار جعلها الله جل وعلا أمراً غيبياً، وإلا فالتراب نفسه الذي يهال عليه يصبح ناراً لا تطاق، ومع ذلك أهل الدنيا لا يشاهدون هذا، وقدرة الله لا تحد بشيء، وإذا ظهرت الأمور وصارت تشاهد بطل المعنى الذي يكون الإنسان مستحقاً للثواب عليه إذا آمن بالغيب، وهذه ثمرة الإيمان بالغيب بالأخبار التي نخبر بها غيباً، بل قد يقبر اثنان في قبر واحد أو ثلاثة، فيكون أحدهما منعماً والآخر معذباً، وهذا لا يصل إليه من عذاب هذا شيء، وهذا لا يصل إليه من نعيم هذا شيء، وهم في قبر واحد.
فالله جل وعلا قدرته فوق هذا كله، والمقصود أنه إذا مات فإنه يعرض على النار، ويفتح له باب إلى النار مثلما يفتح للمؤمن باب للجنة، ويقال: انظر إلى مقعدك من النار، ثم يأتيه من حرها ومن لهبها ومن عذابها من هذا الباب ما يأتيه، مما يعذبه ويحرقه إلى قيام الساعة؛ ولهذا إذا شاهد ذلك يقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد يومه أشد من يومه هذا، فهذا معنى قوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار) يعني: يكون بعد موته ولبثه في القبر مآله إلى الجنة أو النار، والمقصود أن ما يكون للناس في القبر أمر قد كثرت الأدلة عليه من الكتاب ومن السنة؛ ولهذا فرض علينا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نقول في كل صلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر)، وإن كان ليس فرضاً لازماً لا تصح الصلاة إلا به، ولكنه من الواجب على المصلي الذي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقال: (إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليقل: اللهم إني أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، فهذا مما شرعه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر والاستعاذة منه، كما أنه ظهر لخلق كثير ما يظهره الله جل وعلا لمن يشاء من عذاب القبر، أشياء كثيرة جداً، ومن تتبع الأموات ونظر أحوالهم وجد ذلك لا محالة، يجد ويشاهد، ولكن هذا لا يكون متعظاً به إلا من يريد الله جل وعلا هدايته.(20/13)
من لقي الله وهو يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس
[المسألة السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
المسالة السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس].
عرفنا أن (شيئاً) نكرة تعم القيل والكثير، والدقيق والجليل، فإذا قال: (لا يشرك به شيئاً)، فمعنى ذلك أنه يدخل فيه حتى الرياء، حتى الشرك الأصغر، وإذا كان الإنسان عنده شرك أصغر يشمله هذا ويدخل فيه، وقوله كذلك: (يشرك به شيئاً) نفس المعنى، فكلمة (شيء) نكرة تعم كل ما أطلق عليه أنه شرك، سواء أكان كبيراً أم صغيراً.(20/14)
سؤال الخليل له ولبنيه الوقاية من عبادة الأصنام
[المسألة الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام].
أي أن الخليل صلى الله عليه وسلم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] يدعو ربه جل وعلا أن يجعله في جانب بعيد عن عبادة الأصنام هو وبنيه، وعلل هذا بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36] فخاف -وهو نبي كريم يوحي الله جل وعلا إليه- أن يقع في الشرك، وذلك أن الله جل وعلا خلق الإنسان، وخلق له قوى وفكراً، وجعل الأمر إليه، وقال له: هذا طريق الخير فافعله، وهذا طريق الشر فاجتنبه، فالجزاء يتعلق بأفعاله الاختيارية التي يفعلها باختياره، والإنسان قد لا يملك نفسه، فقد يزين له شيء هو من أسوء الأمور عند الله فيتبعه، فهو إن لم يهده الله ضال، وإن لم يجعل الله جل وعلا له نوراً يهتدي به فإنه يتخبط في الظلمات، وإن كان يعمل بحريته حسب ما أعطيه من الأفكار والنظر والقوة على العمل أو الإحجام عنه، فهذا جعله الله إليه، وهو الذي صار مناط التكليف، ومناط التكليف كونه يفعل باختياره، وإذا فقد الاختيار صار غير مكلف، ولكن هذا الاختيار لقصور الإنسان في الإرادة وفي القوة وفي المآل يخاف أنه يجني، ويقع في الأمور التي تعرض له وتزين له من الباطل، سواء من شهوات أو أهواء أو دنيا أو شيطان، والشيطان قد يكون من شياطين الإنس، وقد يكون من شياطين الجن، فأسباب الانحراف كثيرة جداً تحيط بالإنسان إن لم يعافه الله جل وعلا من ذلك ويتفضل عليه وإلا ضل، فإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه شاهد هذه الأمور، واستحضر هذا المشهد أنه إن لم يهده الله ويعصمه فإنه يقع فيما وقع فيه الكثير من الناس.
والإنسان إذا نظر إلى الناس اليوم رأى أن أكثرهم على الضلال، وإن كانوا يسمون الوقت هذا وقت النور ووقت العلم ووقت الازدهار والحضارة، ولكنها حضارة في أمور معينة مادية، أمور الدنيا، وهذه لا تجدي عن الآخرة شيئاً، أما السعادة التي يسعد بها الإنسان في حياته الدنيا وفي آخرته فأكثر الخلق أخطأها وما استطاع أن يصل إليها، وهذه بيد الله، والإنسان عليه أن يسأل ربه هدايته، مع أن الله لا يظلم أحداً، وكل الخلق بالنسبة للأوامر والنواهي سواء، فما خص قوماً دون آخرين بأن خفف عنهم شيئاً من الأوامر أو أباح لهم بعض المنهي عنه، فالخلق كلهم سواء، وإنما المهتدي من هداه الله جل وعلا وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه المعاصي والذنوب وجعله راشداً، وهذا فضل الله يعطيه من يشاء، وإذا منع الله جل وعلا فضله عبداً وكله إلى نظره وإلى قوته وبصيرته وعلمه، فلا يستطيع أن يهتدي بذلك.(20/15)
عدم الاغترار بالكثرة
[المسألة التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36]].
هذه مسألة ليست سهلة، لا يتساهل بها الإنسان، كونه يرى أكثر الناس على عمل من الأعمال فيقتدي بكثرة الناس، وهذا معروف الآن، فالإنسان يقول: الناس كلهم يفعلون هذا، فكيف لا أفعل شيئاً يفعله الناس؟! فأصبحت حجة، وهذه الحجة توارثها العالم كله من أوله إلى آخره، كما قالت الأمم لرسلها: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وفرعون يقول لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] يعني: لماذا عملت الشيء الذي تنهانا أنت عنه، فهي أشركت فما بالها؟ فإذا قال له: إنهم ضالون قال: كيف الناس كلهم يضلون وتبقى أنت وحدك؟! ويصعب على الكثير من الناس اتباع الحق؛ لأن تابعه قليل، فهذا الذي يشير إليه ما ذكره الله جل وعلا عن الخليل: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36]، فالناس ينظرون إلى الكثرة غالباً ويتبعونها، وما يميزون بين الأمر هذا والأمر هذا، كما هو فعل أهل الحق، ولهذا يقول العلماء: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين نهجه، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين.
أي: لا يغرك كثرة الناس فتغتر بهم، وكذلك لا يغرك قلة من يعمل بالحق، اعمل الحق وأحبه واتبعه، وإن كان الذي معه قليل؛ فإن الله جل وعلا فرق بين الحق والباطل، فإذا عرف الإنسان الحق وجب عليه أن يتمسك به ولو كان وحده، ولو بقي وحده.(20/16)
تفسير (لا إله إلا الله)
[المسألة العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري].
مقصوده: أن معنى (لا إله إلا الله): ترك الشرك رأساً مع عبادة الله، هذا هو التفسير الذي يشير إليه، وليس تفسير (لا إله إلا الله) أن يقول الإنسان: (لا إله إلا الله)، وهو يأتي بخلاف ما وضعت له، بأن يكون -مثلاً- يتعلق بأصحاب القبور، ويدعوهم ويطلب منهم المدد والعون، ويتوسل بهم وهو يقول: (لا إله إلا الله)، فهذا أفعاله تناقض أقواله، فتفسيرها هو ترك الشرك كله، والإتيان بعبادة الله جل وعلا.(20/17)
فضيلة من سلم من الشرك
[المسألة الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك].
يشير إلى الآية التي أثنى الرب جل وعلا على الذين هم بربهم لا يشركون، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، فأثنى عليهم لكونهم اجتنبوا الشرك.(20/18)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [21]
يجب على الداعية إلى الله أن يبدأ بالأهم فالأهم، وأهم شيء هو التوحيد، فهو أصل الأصول، فعلى من يدعو إلى الله أن يصحح توحيده وعقيدته أولاً، ثم يدعو الناس إلى التوحيد ثانياً، فالتوحيد هو لبُّ دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.(21/1)
وجوب الدعوة إلى التوحيد
قال المصنف رحمه الله: [باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله].
قوله: [باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله] يعني الدعاء إلى توحيد الله جل وعلا، والمصنف لما ذكر وجوب هذا الأمر على المسلمين عموماً، وأنه يجب على كل مكلف أن يعبد ربه وحده، وأن يجتنب الشرك -وهذا واجب عيني يتعين على كل فرد من المسلمين ذكورهم وإناثهم- ذكر فضل من حقق هذا، وأن من حقق التوحيد يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، ثم ذكر الخوف من كون الإنسان إذا فعل ذلك وعلم أنه ينبغي له أن يخاف أن يناله الشيطان في شيء ينقص توحيده أو يدخل عليه ما يضعف إيمانه.
ثم بعد هذا يقول: إذا تحلى الإنسان بهذا الأمور فهو الكامل في أمور التوحيد؛ لأنه عرف وعمل وحقق وخاف، والإنسان إذا خاف من شيء اجتنب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك المخوف، وإذا وصل إلى هذا الحد فهو قد تمسك بالتوحيد.
وبقي أنه لا يجوز أن يقصُر هذا على نفسه، بل يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو إليه؛ لأن السعادة التي ذكرها الله جل وعلا للذين ذكرهم في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ذكر فيها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهو الدعوة إلى التوحيد، وإلى الخير، فهم يعرفون المعروف ويدعون إليه، ويعرفون المنكر ويدعون إلى تركه وينهون عنه.
ثم يصبرون على ما ينالهم في طريق الدعوة؛ لأن الذي يدعو لابد أن يؤذى سواء بالكلام أو بالفعل، بل قد يضرب وقد يسجن، وقد يهدد بالقتل وقد يقتل، فعليه أن يصبر؛ لأن هذا هو الطريق إلى الله، وهو طريق الرسل، وليس معنى هذا: أن هذا يجب على طائفة معينة، بل يجب على كل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، ولكن بحسب حالهم، كما قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فلا يقال للإنسان الذي لا يستطيع أن يدعو: يجب عليك أن تدعو.
ولكن الذي عرف وعمل يجب عليه أن يدعو على قدر المستطاع، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (بلغوا عني ولو آية)، فلا يكون الإنسان قاصراً الخير على نفسه، بل يجب أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب إلى أن يُوصِل الخير إلى عباد الله، ولا يحصره على قوم معينين.
فمن هنا أتى المصنف بهذا الباب، فقال: [باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]، وقصده بالدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله الدعاء إلى الإسلام، والدعاء إلى التوحيد؛ لأن الإسلام مبناه على هذه الكلمة -شهادة أن لا إله إلا الله-، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كلهم كانوا يدعون إلى هذه الكلمة، بل أول ما يبدءون به هو هذه الكلمة، وهذا هو الذي يجب على الداعي، وهو أن يدعو الإنسان إلى تصحيح عقيدته أولاً، وإلى تصحيح العلم الذي ينطوي عليه قلبه، بأن يعتقد الحق ويعلمه، ثم يبعث الجوارح للعمل بهذا العلم؛ لأن العلم قبل القول والعمل، كما قال الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم أولاً.
فيجب على الداعي أن يبدأ بالأهم فالأهم، والأهم هو: الأصل الذي يبنى عليه غيره، والذي يبنى عليه غيره هو التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله، وقد اتفق العلماء على أنه لا يعتبر الإنسان مسلماً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد أن ينطق بها، أما لو علم بقلبه أن الإسلام هو الدين الصحيح وأحبه في قلبه ورأى أنه هو الحق ولكنه لم ينطق بالشهادتين فهو كافر، وإذا مات على ذلك فهو في النار، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فلابد من القول.
ويبني على هذه الشهادة سائر الأعمال، فإذا كان الإنسان -مثلاً- مخلاً بمعنى هذه الشهادة، كأن يتوسل بالصالحين، أو يدعو أصحاب القبور ويرى أنهم يشفعون له، وأنهم يسمعون دعاءه ويستجيبون له فلا يصح أن تذهب إليه وتقول: صل الصلوات.
أو: قم الليل وتصدق وصم.
لأن صلاته وصومه وصدقته باطلة وهو يدعو غير الله، فلابد أن يخلص أولاً عقيدته، وأن تكون خالصة لله، ويعلم أنه لا يجوز أن يُصرف من الدعاء شيء لغير الله جل وعلا، بل يكون الدعاء خالصاً لله جل وعلا، فالدعاء الغيبي النفعي أو الخوف الغيبي لا يكون لغير لله جل وعلا، فإذا لم يكن مخلصاً فهو ما عرف التوحيد كما ينبغي، فيجب أن يدعى إليه أولاً، كما سيأتي في الأحاديث التي تنص على هذا.(21/2)
شروط الدعوة إلى الله
ثم الدعوة إلى الله جل وعلا لها شروط ثلاثة لابد منها: الشرط الأول: أن تكون الدعوة مراداً بها وجه الله جل وعلا، ولا يُراد بها الظهور أمام الناس ليقال: هذا داعية ناجح، وهذا متكلم فصيح وبليغ، وهذا يعرف من العلم ما لا يعرفه غيره، فإنه إذا أراد شيئاً من ذلك فعمله لنفسه، وهو يدعو الناس إلى نفسه في الواقع، وإن أظهر أنه يدعو إلى الله فهو كاذب في دعوته، بل هو يدعو إلى عبادة نفسه وأن الناس يعظمونه، وهو بهذا يدعو إلى شهواته ومراده، فلابد أن يكون الداعي مريداً بدعوته وجه الله لا يريد جزاءً غير ذلك من عرض الدنيا ولا من ثناء الناس ومحبتهم له وقربهم إليه، فلا يجوز أن يريد شيئاً من ذلك، فإن أراد شيئاً من ذلك فهو لا يدعو إلى الله وإنما إلى غير الله.
الشرط الثاني: أن يكون الداعي متبعاً في ذلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يدعو على حسب أوضاع يضعها هو أو جماعته، أي: لا يضع قوانين أو أنظمة أو قواعد يقعدها بعقله ونظره ويسميها (منهج الدعوة)، فإن هذا باطل، بل الدعوة يجب أن تكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يُترسَّم طريقه، والرسول صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنوات يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأول ما دعا يبدأ الناس إلى ذلك، ودعوته صلى الله عليه وسلم محفوظة، فكل ما قاله وما قيل له أو جله، ما ذهب عن الأمة منه شيء، بل حُفِظ والحمد لله، فعلى الداعية أن يعرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يترسم طريقه.
الشرط الثالث: أن يكون الداعي على بصيرة بدعوته، بأن يكون على علم، ويدعو على علم، ويعرف ماذا يدعو إليه، وماذا يجب أن يترك ويجتنب، وإن لم يكن كذلك صارت دعوته تفسد أكثر مما تصلح.(21/3)
الواجبات على الداعية في دعوته
هناك واجبات على الداعية منها: أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يدعو الناس بالعنف والكلام البذيء والكلام المنفر، أو التحكم بالناس، أو استنقاصهم وما أشبه ذلك، بل يجب أن يكون عنده بصيرة في ذلك، وعنده رفق بالناس، والإنسان -مثلاً- قد يفعل أفعالاً قد أقام عليها أكثر عمره، فإذا جئت إليه من أول وهلة قلت له: هذا حرام وهذا لا يجوز أن تقيم عليه.
أو: أنت لم تفعل شيئاً وما أشبه ذلك فقد يستصعب هذا القول، بل يجب أن يأخذه الداعية بالرفق شيئاً فشيئاً، حتى يحبب إليه الطاعة وطريق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن يعرفه الأصل الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم يعلمه الواجبات.
أن يكون حليماً، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فإذا وقع له كلام يخدش شعوره أو يسيء إليه، ولا يعجل، يحلم ويصبر، ولو كانت دعوته لله فلا يستعجل على الناس، ولا يغضب عليهم؛ لأن الأذى الذي يسمعه من الناس أو يناله منهم يحتسبه عند الله، ويرجو أن الله يثيبه عليه.
ويكون كذلك رحيماً، فمن الواجبات أن يكون رحيماً، فهو عندما يدعو الناس يدعوهم شفقة عليهم من أن يدخلوا النار، ثم هذا لا يدعوه إلى أنه يود العصاة ويحبهم، بل يبغضهم في الله جل وعلا، ولكن في دعوته إياهم يرحمهم؛ لأنه يعرف أن الناس لا يستطيعون مقاومة النار ومقاومة عذاب الله جلا وعلا، فهو يرحمهم خوفاً عليهم من أن يقعوا في عذاب الله، ويبين لهم الحق من خلال هذه الأمور.
وأصل الدعوة في هذا ما سيأتينا في الآية التي سيذكرها المؤلف، وهي قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
هذا هو الأصل الذي ينبغي للداعية أن يتبناه دائماً، وهو ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول: ((قل هذه سبيلي))، فهذه الإشارة هي إلى دعوته صلى الله عليه وسلم التي يدعوا الناس إليها، أي: هذه الدعوة التي أدعو الناس إليها هي سبيلي التي أرسلت من أجلها، وهذا الطريق هو الذي أحيا عليه، وأموت عليه، فأعمل له ما حييت، ولا أنافس أهل الدنيا في دنياهم، أو أطلب ملك الدنيا أو غيرها، وإنما أحيا لدعوة لله جل وعلا.(21/4)
أقسام الناس المدعوين
ويلزم أن يكون الداعية حاصلاً على القوة؛ حتى يمكن أن يدعو بطريقة ناجحة، وذلك أن الناس الذين يدعون يكونون ثلاثة أقسام غالباً: قسم يكون جاهلاً بالحق ولو تبين له لاتبعه، فهذا دعوته فقط لبيان الحق، فيبين له ويزاح عنه ما يعترض سبيل الحق إذا كان عنده شبهه فقط.
وقسم آخر قد تلبَّس بأمور يصعب عليه تركها من دنيا أو رئاسة أو ما أشبه ذلك، فهذا يُدعى بالحكمة والموعظة، بالترهيب والترغيب، فيؤتى له بالترهيب والترغيب، أي: بالنصوص التي تتوعد المعرض والذي يفعل المعاصي وهذا القسم يكفيه ذلك.
قسم ثالث لا يكون عنده عناد، ولكن عنده تكبر وعنده إباء عن قبول الحق، فمثل هذا يحتاج إلى قوة، فأن أفادت معه المجادلة وبيان الحكمة وبيان العظات والزواجر والوعيد فهذا هو المطلوب، وإن لم يفد معه ذلك ينتقل معه إلى السلاح فيقاتل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في بعض الآيات في القرآن الحديد مقروناً بالكتاب؛ ليبين أن الذي يعرض عن الكتاب ولا يقبله يصار معه إلى الحديد وإلى القوة قوة السلاح، فالذي يقف بوجه الدعوة ويصد عنها ويتكبر ويتجبر، ليس أمام أهل الدعوة الذين يدعون إلى الله معه إلا استعمال القوة، فلهذا الداعي الناجح يجب أن يكون متصفاً بهذه الأمور، وإلا فتكون الدعوة ناقصة قاصرة، أن يكون عنده العلم، وعنده الحلم، وعنده المقدرة على إبطال الشبهة وإيصال العلم إلى من عنده شبهة، وإزاحة ما أمامه من غشاوة، ثم كذلك يكون عنده قوة إذا أرادوا أن يبطلوا دعوته أو يقاتلوه أو يصدوه عن دعوته، فيقاومهم كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.(21/5)
بيان بداية دعوته صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ دعوته كان مثل ما قال صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وذلك أن الإسلام بدأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وواحد كيف يعمل أمام أمة كافرة كلها لا تعرف شيئاً من الحق، بل هي على الباطل وعلى الكفر والشرك والظلم؟! وإن كان عندهم عقول في الواقع، والإنسان الذي يتأمل بعقله يعلم أنهم ليسوا على شيء.
كما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة قال: (كنت في الجاهلية أرى أن الناس ليسوا على شيء وهم يعبدون الأصنام والشجر والحجر)، فهو رجل في البادية ما عنده علم ولا تعلم، ومع ذلك يقول: (كنت أرى أن الناس ليسوا على شيء)؛ لأن عقله وفطرته دلته على ذلك، قال: (فكنت أتخبر الأخبار وأسأل الناس الذين يأتون من هنا وهنا، وآتي موارد الماء وأسألهم: هل من خبر؟ هل من علم؟ وكل من سألت لم يخبرني بشيء، وفي يوم من الأيام جاء قوم من قبل مكة فقلت لهم: هل من خبر؟ قالوا: نعم.
رجل يخبر خبر السماء.
قال: فقعدت على راحلتي) يعني أنه ما استراح لما هم عليه، بل هو قلق مما هم فيه، فالله فطر الناس على كونهم يعبدونه.
قال: (فقعد ت على راحلتي- أي: ركب راحلته -وذهبت إلى مكة، فلما جئت إلى مكة إلى هذا الذي يخبر خبر السماء: وسألت عنه فإذا الناس عليه جرآء) أي: كل واحد عليه جريء يعني أنهم يؤذونه ويشتمونه ويتكلمون فيه.
يقول: (فخفت وتلطفت -أي: صار لا يسأل، وإنما يتحسس يبحث عنه وهو مختف صلوات الله وسلامه عليه- حتى دخلت عليه فوجدته مختفياً في بيت، فقلت: ما أنت؟ قال: (أنا نبي.
قلت: وما نبي -أي: أنه لا يعرف كلمة نبي-؟ فقال: أرسلني الله.
فقلت: وبم أرسلك؟ قال: أرسلني بأن يُعبد الله وحده، وبمحق الأصنام والأزلام.
فقلت: ومن معك على هذا؟ فقال: معي حرٌ وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلت له: إني متبعك) فرجع إلى قومه حتى سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة فجاء إليه.
قال: فقلت له: أتعرفني؟ فقال: (نعم، أنت الذي أتيتني بمكة)، وذكر بقية الحديث.
والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى قومه وحده على الإسلام، فهل يسوغ أنه يؤمر بالقتال أو يؤمر بالقوة؟! لو قاومهم بالقوة لقضوا عليه، ولقتلوه عند أول وهلة، مع أنه واثق بوعد الله جل وعلا له تمام الثقة، ولهذا توعدهم وهو وحده، وقال: والله! إن لم تؤمنوا بي فسوف ينصرني الله جل وعلا عليكم، وأقتل رجالكم وآخذ أموالكم.
وهل يمكن أن يقول هذا عاقل وهو غير واثق؟! بل هو وحده، وليس معه جنود ولا دولة تحميه، ولكن كان معه الله جل وعلا، وهو الذي يحميه، ولكن المقصود: أن الإنسان إذا جاء وحده بهذا الأمر وصدع به بدون خوف فإنه يدل على أنه نبي من عند الله، كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53] يقولون: لماذا نترك عبادة الآلهة والأصنام وغيرها والأشجار وغيرها؟ ألأنك قلت لنا: هذا شرك، اعبدوا الله؟ لا نتركها عن قولك.
ثم قالوا في مجادلتهم إياه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، أي: هذا قولنا: إن آلهتنا أصابتك بجنون فأصبحت تخالفنا كلنا وتأتي بشيء غريب عند ذلك قال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]، يعني: اجتمعوا أنتم كلكم مع آلهتكم فافعلوا ما تستطيعون فعله نحوي من قتل أو سجن أو تعذيب، لن تصلوا إلي، لهذا {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55]، تحداهم جميعاً مع أنهم عاد الذين أوتوا من القوة ومن الجبروت ومن عظم الأجسام ما ذكره الله عنهم، ومع ذلك ما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً.
وكذلك الله جل وعلا أمر رسوله أن يقول لمشركي قريش هذا.
ويتحداهم بذلك، وكل رسول يتحدى قومه بأن يكيدوه ولا ينظرونه، أما كونهم حاولوا قتله فنعم، ولكن هذا هي سنة الله، ولما جاءهم بالدعوة تبين لهم الحق كلهم إلا إنسان معرض، والمعرض لا عبرة به، أما الذي يتأمل قوله ويتأمل ما جاء به، فلابد أن يتبين له الحق.
ولهذا يقول المسور بن مخرمة رضي الله عنه -والمسور بن مخرمة خاله أبو جهل -: قلت لخالي: يا خال! أكنتم تتهمون محمداً قبل أن يقول مقالته بالكذب؟ فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنا نسميه وهو شاب الأمين، ووالله ما جربنا عليه كذبة واحدة، ولم يكن عندما خطه الشيب ليكذب على الله جل وعلا يقول المسور: فقلت: يا خال! ولمَ لا تتبعونه؟ فقال أبو جهل: إننا وبنو هاشم تسابقنا، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأجاروا فأجرنا، فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي.
متى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
يعني: ما منعه إلا الحسد والكبر، وكل من لم يسلم كان على هذه الطريقة.
ذكر ابن إسحاق رحمه الله في السيرة والبيهقي في الدلائل وغيرهما من العلماء عن عدد من كبراء قريش مثل: أبي جهل، والأخنس بن شريق، وأبي سفيان، وغيرهم ممن سماهم ابن إسحاق من كبراء قريش، قال: كانوا إذا جنّهم الليل ذهبوا يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يكون في مكان لا يدري عنه الثاني في ظلمة الليل، فيبقون يستمعون له إلى الصباح، وفي أول مرة استمعوا له حتى أصبحوا فرجعوا فالتقوا في الطريق فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: لو رآكم سفهاؤكم لتسارعوا إلى اتباعه فلا تعودوا إلى مثلها.
وفي الليلة الثانية عادوا، وكل واحد يقول: لعل الآخر لا يعود.
فالتقوا ثم تلاوموا، ثم عادوا في الليلة الثالثة، ثم تلاوموا كذلك، ثم عادوا في الليلة الرابعة، وبعد ذلك تماسكوا.
وقالوا: لا نبرح من هنا حتى نتعاهد على ألا نعود.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أنهم لا يأتون مرة أخرى يستمعون إليه خوفاً من أن يراهم الناس الذين ليسوا رؤساء فيقتدون بهؤلاء ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مشى بعضهم إلى بعض فقال كل واحد للآخر: ما ترى؟ فيقول: والله إني لأسمع شيئاً أعرفه، ووالله إنه لحق فيعترفون أنه حق، وفي النهاية قالوا: لن نتبعه فلم يتبعوه لأنه ليس من قومهم، وقد كانوا يتنافسون الشرف فأبوا اتباعه.
والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ما يقرب من اثنتي عشرة سنة وهو يدعو إلى توحيد الله جل وعلا، وهو يتحمل الأذى ويصبر على ما يناله، ولم يؤمر بالقتال، بل يقول الله جل وعلا له: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5] يأمره بالصبر، ويأمره بالتحمل والدفع بالتي هي أحسن، حتى هاجر إلى المدينة وصار له قوة وأنصار ودولة، وصار له رجال يدافعون عن الحق معهم قوة عند ذلك أمره الله بالقتال.
وهكذا ينبغي للداعية أن يكون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يذهب إلى قومٍ يتحداهم ويهددهم ويتوعدهم وهو لا يستطيع أن يملك شيئاً، بل يجب أن يترسم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في المنهج، وكذلك فيما يدعو إليه في القول والعمل، فإن فعل ذلك فهو في الواقع ناجح.
وليس مهمة الداعية أن الناس يستجيبون له، فالاستجابة إلى الله، وإنما مهمته أن يبين الحق، فإن قُبل حمد الله على ذلك، وإن لم يُقبل الحق منه صبر واحتسب وعلم أن العباد عباد الله هم ملك الله يتصرف فيهم، فهو يتصرف في الجميع جل وعلا كيف يشاء.(21/6)
السبيل في الدعوة إلى الله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] يأمره جل وعلا بأن يبين طريقته التي أرسله الله بها، وأن يبلغها الناس، وأن يبين: هذه سبيل الدعوة التي أدعو بها إلى عبادة الله وحده، إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله].
قل: هذه سبيلي التي أحيا من أجلها، وأموت عليها، وهي أنه يدعو إلى الله على بصيرة، والبصيرة هي العلم اليقيني الذي تكون نسبة العلم فيها للقلب كنسبة المرئي للبصر، هذا معناها، وهذه البصيرة التي يقول العلماء: اختص بها الصحابة فالصحابة كان علمهم علم بصيرة على بصيرة، حتى صارت المعلومات في قلوبهم كالمشاهدات التي نشاهدها بأبصارنا، فقوله: ((ادعو إلى الله على بصيرة)) يعني: على علمٍ يقيني بأن الله جل وعلا سيؤيدني وينصرني وأرجع إليه ويثيبني على ذلك.
وقوله: ((أنا ومن اتبعني)) يعني: أتباعي كذلك يدعون إلى الله على بصيرة.
فكل من كان اتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر تكون دعوته إلى الله بهذه الصفة أعظم.
وقوله: ((وسبحان الله)) يعني: تنزيهاً لله وإبعاداً له أن يشرك به وهذا يدل على أن الداعية يجب أن يبدأ بما هو تنزيه لله جل وعلا، وهو الدعوة إلى ترك الشرك، ولا يكون ذلك إلا بتوحيد الله جل وعلا.
وقوله: ((أدعو إلى الله)) يؤخذ من هذه الكلمة -أدعو إلى الله- أن الدعوة يجب أن تكون لله، ولا تكون لدنيا، ولا لملك، ولا لأرض، ولا لمنفعة دنيوية، وإنما تكون لله جل وعلا، أما إن استعملت الدعوة لشيء من هذه الأمور وهذه الأغراض فإنها تكون فاسدة في الواقع، ولا تكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا سيذكر لنا الشيخ رحمه الله من الفوائد على هذه الجملة قوله: [فيه تنبيه على الإخلاص في الدعوة] لأن كثيراً من الناس وإن دعا في الظاهر إلى الله فهو في الحقيقة يدعو إلى نفسه، فيكون عنده غرض معين.
ثم إن صاحب الدعوة إلى الحق لابد أن يعتريه ما يعتريه من الأذى، وربما النفي، وربما السجن، وربما القتل، كما أخبر الله جل وعلا عن الرسل أن أممهم قالت لهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13] يعني: ترجعون إلى الكفر والشرك وإلا نفيناكم وأخرجناكم.
وكذلك ذكر الله جل وعلا عن خليله إبراهيم أن قومه لما لم يكن لهم حجة عليهم المضائق فاضطرهم إلى أن يقفوا بدون حجة وبدون أن يعارضوا دعوته بشيء لجأوا إلى القوة كعادة المحاربين دائماً، فجمعوا له حطباً كثيراً وأججوا النار وألقوه فيها، ليس ذلك إلا لأنه قام بالحق ودعاهم إليه وأبطل حججهم، وبين أنهم ليسوا على شيء، فأرادوا أن ينتقموا منه بقوتهم.
وكذلك فرعون لعنه الله لما جاءه موسى أصبح يموه على الناس، ثم حاول أن يقتل موسى ويقتل أتباعه ويترك النساء اللآتي لا يقاتلن، وهذا أكثر الله جل وعلا من ذكره في قصص الأنبياء ليكون أسوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيلاقي الأمور والشدائد في ذلك.
ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يكون له فيه تسلية، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]، ويقول جل وعلا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] فهكذا ينبغي للداعي الذي يدعو إلى الله، أن يدرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرس ما ذكره الله جل وعلا عن الأنبياء والأصفياء من القصص مع أممهم، فيتخذ ذلك نبراساً له وطريقاً، ويعلم أن الدعوة إلى الله محفوفة بالمخاطر دائماً، وأن الداعي لا يمكن أن يواجه بكل قبول وبكل تسليم، بل لابد أن يكون له من يعارضه ومن يرد عليه ومن يؤذيه، ولاسيما إذا كانت النفوس قد أُشربت حب الفساد والشهوات، فإن الداعي إلى الله يريد أن ينقلهم من حالة إلى أخرى، وهذا صعب على كثيرٍ من الناس.
والإنسان لا يريد أن يكون مهزوماً دائماً في الحجة وفي النهج وفي الظاهر، وإن كان على باطل، بل يريد أن يبرر نفسه ويبرر ما هو عليه، ولهذا قال الذين خالفوا الرسل لرسولهم -كما حكى الله عنهم-: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] ويقول بعضهم وهو ينتقد الرسول الذي أرسل إليه -كما حكى الله عنه-: {مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وكم نسمع الآن من كثيرٍ من الناس من يقول: هؤلاء المتخلفون، وهؤلاء المتزمتون.
يعني أن الأمور تشابهت، وكأن بعضهم يوصي بعضاً، كما قال الله جل وعلا: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] يعني: بهذه التي يقولونها للأنبياء، ويكذبون الرسل بها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] أي: بل كل قوم له وارد.
والمقصود أن الله جل وعلا ذكر هذه الآية لتكون متمسكاً للداعي الذي يدعو إلى الله، ليكون صابراً محتسباً ينتظر أجره من الله، ولا ينظر إلى وجوه الناس، ولا إلى قولهم، وإنما يقوم لله جل وعلا، مقتفياً أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، ذكر ابن القيم أن الآية فيها تقديران: أحدهما: أن تكون الواو في قوله: (أنا ومن اتبعني) عاطفة على الضمير البارز الظاهر.
الثاني: أن تكون عاطفة على الضمير المستتر المرفوع في قوله (أدعوا).
فإذا كانت عاطفة على الضمير البارز فمعنى ذلك أن أتباعه أهل الدعوة هم أهل البصائر، فقوله تعالى: (أدعو إلى الله على بصيرة أنا) يعني: أنا على بصيرة في دعوتي، وكذلك أتباعي هم على بصيرة في دعوتهم.
وإذا كانت الواو عاطفة على الضمير المستتر المرفوع فالمعنى أن أتباعه هم أهل الدعوة، فأهل الدعوة التي تكون لله جل وعلا خالصة وصادقة هم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبق أن الداعي إلى الله جل وعلا يحتاج إلى أمور، كما أن الدعوة إلى الله لها شروط منها: الأول: أن تكون الدعوة خالصة لله.
يدعو إلى الله جل وعلا ولا ينتظر شيئاً آخر غير إثابة الله له.
الثاني: أن تكون الدعوة على منهج رسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، فلا تكون بالبدع والآراء والمناهج التي يستحدثها الناس.
الثالث: أن يكون الداعي ذو علم وبصيرة، فلا يكون جاهلاً، فإن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل لابد أن يكون عالماً بما يدعو إليه، عارفاً بالأمور التي يجب أن ينهى الناس عنها، فيعرف أنها لا تجوز وأنها محرمة بالأدلة الشرعية، لا بالآراء والأنظار والقياسات.
ثم هو كذلك يحتاج إلى أن يكون حليماً على من يجهل عليه، فإذا جهل عليه أحد يحلم عنه، وإذا آذاه أحد يعفو ويصفح عنه، وإذا أساء إليه أحد يحسن إليه، فإنه إذا فعل هذا قبلت دعوته غالباً، وكذلك هو بحاجة إلى أن يكون رحيماً؛ الناس لأن دعوته تكون لإنقاذ الناس من عذاب الله، يرحمهم أن يقعوا في عذاب الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يمثل به لنفسه وللأمة: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فصارت الفراش والجنادب تتهافت فيها، وهو يحول بينها وبين أن تقع في النار، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون النار) يعني: بفعل المعاصي.
فلابد أن يكون الداعي رحيماً الراعي بهم، يرحمهم أن يقعوا في النار، ويبين لهم أن الله غني عنهم وعن طاعتهم، وإنما يطيعون لأنفسهم؛ لأن الناس كلهم -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: (غادٍ ورائح، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فالخلق واحد منهم يموت أول النهار والآخر يموت آخر النهار، فلابد من الموت، فإذا مات، فإما ِأن يكون قد عمل بطاعة الله وأمسك نفسه عن معاصيه فيكون بذلك قد اشترى نفسه بطاعة الله وتقواه وسيلقاه الله جل وعلا بما يسره، أو يكون قد أتبع نفسه شهواتها وأتبع قلبه هواه، فيكون عندما يلاقي الله كالعبد الآبق المجرم، فيؤخذ ويغل ويوضع في أعظم عذاب، والناس كلهم ما أحقرهم إذا عصوا الله فالله جل وعلا لا ينتفع بطاعة الطائعين كما أنه لا يتضرر بمعصية العاصين، ولكن الطاعة لأنفسهم والمعصية عليها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
المهم أن ينظر الداعي إلى هذا المعنى، ثم يجب أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يكون عنده عنف وشدة، فإن الله جل وعلا يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يعني: لتفرقوا وتركوك، فإذا كان الله جل وعلا يقول لنبيه هذا فكيف بآحاد الناس؟! فيجب أن يكون الإنسان رفيقاً بالناس ويحبب إليهم الخير ويكره إليهم الشر، ويأتيهم بالطرق التي يألفونها في اتباع الخير، أما إذا كان شديداً وقاسياً فالغالب أنهم ينصرفون عنه ويعرضون عنه ولا يستفيدون من دعوته، ويكون قد جنى على الدعوة ولم يجن لها.
وكثيراً من الدعاة يفسد أكثر مما يصلح، فالواجب أن يكون الإنسان متحلياً بما دلت عليه هذه الآية، يدعو إلى الله باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وبدراسة سيرته ونهجه، فإنه صلوات الله وسلامه عليه كان يأتي إلى الرجل المشرك ويقول له: يا أبا فلان! يدعوه بكنيته، ثم يقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فيعرض عليه عرضاً هكذا: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى كلّمه، وإن قال: لا أعرض عنه وتركه، فهو لم يبعث مسيطراً على الناس، وإنما عليه البلاغ فقط، وعلى الله الهداية، وهكذا ينبغي لأتباعه الدعاة، ثم إذا خالفه من خالفه فلا يكن عنده التضجر وضيق النفس، وربما يدعو على الناس أو يلعنهم، بل يترك الأمر لله جل وعلا.
فعليه أن يدعو إلى الحق ويبينه فإن اسُتجيب له حمد الله، وإن لم يُستجب له فالأمر إلى الله جل وعلا، وليس(21/7)
أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله جل وعلا
قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه مسائل، ومنها: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه].
هذا مأخوذ من قوله: ((أي: أن الدعوة يجب أن تكون خالصة لله.
ويقول: إن كثيراً من الدعاة وإن أظهر أنه يدعو إلى الحق فإنه في الواقع يدعو إلى نفسه، وهذا أمر قد تنطوي عليه النية فلا يُدرى، والله جل وعلا هو الذي يحاسب ولكن الأمور غالباً تظهر، فالأمور التي تكون باعثة على العمل قد تظهر من فلتات اللسان ومن تصرف الإنسان، ولهذا يظهر الرياء ومداراة الناس وغيرها.
فكثير من الناس إذا سمع أو رأى من هذه طريقته قال: هذا مراءٍ، أو: هذا يدعو إلى غير الله، وهذا مما ظهر له، وإن كان الإنسان يتخيل أن هذا يخفى، والله جل وعلا هو الذي يحاسب الإنسان على نيته، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يريد الظهور على الناس بأن يكون رأساً فيهم يشار إليه، أو يقال: إنه عالم.
أو: إنه يحسن الكلام أو يحسن الدعوة وما أشبه ذلك من الثناء إن كان يريد ذلك فبئس ما أراد، وهو يدعو إلى نفسه، وهي دعوة فاشلة، والغالب أنه لا ينتفع بدعوته، وقد ينتفع به غيره، كما جاء في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل يؤتى به فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ألم تكن تأمرنا المعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى.
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)، فهذا هو أشقى الناس بدعوته.
لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: (أشقى الخلق رجلان: أحدهما: رجلٌ جمع مالاً فشقي به وسعد به غيره، فيرى الذي سعد بماله يوم القيامة فيتحسر ويقول: كيف سعد بمالي وأنا شقيت به؟! والآخر: رجل تعلم علماً فانتفع به غيره وشقي هو به).
فلا يجوز للإنسان أن يكون هو أشقى الخلق بدعوته أو بعلمه.
والإنسان قد لا يملك الهداية، فعليه أن يعود إلى الله جل وعلا، ويتعلق برجائه ودعائه دائماً، ويبتهل وينطرح بين يديه أن لا يكله إلى نفسه، فإن نفس الإنسان ضعيفة، كما قال جل وعلا في آخر سورة الحشر: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:15 - 17]، فالشيطان الذي جاء بصورة ناصح للإنسان، لما كفر وتورط بكفره تبرأ منه، ويقول الله جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17]، وليس المراد من هذه الآية نزول المطر ونبات الأرض، بل الآية أعم من ذلك، فالله جل وعلا يحيي بالعلم الميت بالجهل والكفر بعد ما كان ميتاً، كما أنه يميت من كان حياً بالعلم والتقى، فقد يتبدل علمه ويكون غير نافع، فيصبح عاصياً لله جل وعلا.
والمقصود أن الدعوة يجب أن تكون خالصة لله، وليست الدعوة فقط، بل كل الأعمال التي يراد بها الآخرة يجب أن تكون خالصة لله، فلا يراد بها أمر آخر، لا زيادة مال، ولا رفعة على الناس، ولا جاه، ولا غير ذلك.
فإن جاء الاشتراك في العمل الذي يرجى به الثواب فإن هذا الاشتراك بهذه النية يبطل ذلك العمل، وهنا يقول: فيه التنبيه على أن الدعوة يجب أن تكون لله جل وعلا خالصة، فإن كثيراً ممن يدعو إلى الحق في الظاهر يدعو إلى نفسه في الواقع، كأن يدعو إلى أن يكون له أنصار وأتباع كثيرون، وكأن يدعو -مثلاً- ليكون منافساً لمن يراه داعياً فقط، وليكون كلامه أحسن من كلام غيره ويستطيع أن يرد عليه، وما أشبه ذلك من الأغراض السيئة.(21/8)
البصيرة في الدعوة واجبة
[ومنها أن البصيرة من الفرائض].
يعني قوله: ((على بصيرة أنا)) فأخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة، ثم عطف على ذلك أتباعه، فدل على أن البصيرة متعينة، فيجب على الداعية أن يكون على بصيرة، ولهذا قلنا: إن من شروط الداعية أن يكون على علم، وأن يكون عالماً بما يدعو، وهنا يقول: إن البصيرة من الفرائض.
أي: من الفرائض في الداعي الذي يدعو إلى الله، وإذا ترك الفريضة فهو آثم.(21/9)
تنزيه الله عز وجل من دلائل حسن التوحيد
[ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى من المسبة].
هذا مأخوذ من قوله: ((وسبحان الله))، ولهذا كثيراً ما يأتي تنزيه الله مقروناً بما يتعالى ويتقدس عنه مما يفعله المشركون، كما قال تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43]، وقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، أي: عن وصفهم أن الله له شريك.
ولو لم يقولوا هذا الكلام ففعله كذلك، فهذا دليل على أن التسبيح هنا المقصود به تنزيه الرب جل وعلا عما يفعله كثير من الخلق مما يتعبدون به، حيث إنهم يتجهون إما إلى حجر أو إلى شجر أو إلى وثن من الأوثان أو إلى غير ذلك، وهذا مسبة وتنقص لله جل وعلا، لهذا أخبر جل وعلا أنهم لم يقدروا الله حق قدره فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] بعد قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، ثم قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] يعني: الذين وقعوا في الشرك ما قدروا الله وما عرفوا قدره، وما عرفوا عظمته، فجعلوا له شريكاً في الحق، والشريك في الحق يعني: في حقه الذي أوجبه على الخلق ولهذا يحتج الله جل وعلا عليهم بذلك.(21/10)
وجوب الابتعاد عن المشركين
[ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى.
ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك أ.
هـ.
].
هذا مأخوذ من قوله: ((وما أنا من المشركين))، يقول: إنه ينبغي للمسلم أن يكون بعيداً عن المشركين، لا في الدار والمسكن، ولا في الاجتماع، ولا في الرأي، فضلاً عن الدين والعقيدة، فإن هذا شيء معروف أنه كفر.(21/11)
مراتب الدعوة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال العلامة ابن القيم في معنى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالباً للحق محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال].
الحكمة هي العلم، فليس هناك حكمة إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبين للمدعو الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا بين له فإنه يكتفي بذلك ويتبعه؛ لأنه يطلبه ولكنه يجهله، فهذا الذي يريد الحق وهو يجهل الحق إذا تبين له أن هذا وحي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يؤثر غيره عليه، بل يتبعه.
[وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن.
انتهى].
القسم الثاني: أن يكون المدعو مريداً للحق ولكنه مشتغلاً بغيره لدنيا يحبها أو لرئاسة يؤثرها أو ما أشبه ذلك من أمور الدنيا، فهذا يحتاج إلى أن يدعى بالترهيب والترغيب، ويذكر له الأمور التي تترتب على إيثار الدنيا على الآخرة، فإذا ذكر له ذلك فالغالب أنه يرجع ولا يحتاج إلى قتال.
القسم الثالث: أن يكون المدعو معانداً، فيكون واقفاً في طريق الدعوة ويكون مجادلاً وعنده شبهة، وإذا أقيمت عليه الحجج لا يقتنع بها، بل لا يقبلها، بل يردها، ومثل هذا إذا أقيمت عليه الحجج فردها ووقف في وجهها فإن أمكن أن ينتقل معه إلى القتال فعل ذلك، وذا لم يمكن يصبر الداعية ويحتسب، كما كان الله جل وعلا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتحمل والصبر، وهذا لما كان في مكة، أما لما انتقل إلى المدينة وصار له دار إسلام وله أنصار وله قوة أُمر بقتال من لا يقبل الحق ومن يقف في وجهه معترضاً وصاداً وراداً يقاتل، فإذا أمكن أن الإنسان يفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أخيراً فعل ذلك.(21/12)
معنى حديث: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله-، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، أخرجاه].
هذا الحديث في الصحيحين، وهو عن ابن عباس في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وبعثه صلوات الله وسلامه عليه كان في السنة العاشرة كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في كتاب المغازي، ولم يكن معاذاً وحده، بل بعث معاذاً وأبا موسى وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولكن كل واحد بعثه إلى جهة من اليمن، وبعثه داعياً ونائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم والقضاء، ولهذا قال: لما بعث معاذاً وكلمة البعث جاءت ويراد بها أمور في اللغة، فقد يراد بها بعث البعير، أي: إثارته.
وكذلك (بعث الصيد): إذا أثاره ليصطاده، وقد يراد به إحياء الموتى، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7]، و (الله يبعث من في القبور) يعني: إخراجهم أحياءً بعدما صاروا رفاتاً وتراباً ويراد به الإرسال إلى جهة من الجهات، فيقال: بَعث فلان فلاناً ومنه أن الله بعث رسله، أي: أرسلهم، وهذا مثل قوله هنا: (لما بعث معاذاً) أي: لما أرسله إلى اليمن رسولاً له فـ معاذ هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغ عنه وينوب عنه في الحكم والدعوة إلى الله.
ثم أرشده إلى ما ينوب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)، وقد عرفنا أنه بعثه في السنة العاشرة من الهجرة، وهي السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع في تلك السنة.
ولهذا جاء في هذا الحديث في بعض الروايات أنه لما خرج معه يودعه -ومعاذ راكب والنبي صلوات الله وسلامه عليه يمشي- قال معاذ: يا رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل.
فقال: (لستَ بنازل ولستُ براكب.
ثم قال له: لعلك لن تراني بعد اليوم)، فعند ذلك بكى معاذ رضي الله عنه، وعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرب أجله، فقال له: (لا تبك)، ثم أوصاه.
ومعاذ رضي الله عنه من سادات الصحابة وكبرائهم وعلمائهم، وقد جاء في سنن النسائي وسنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك)، فهو ممن يحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على غيرهم، وقال له في حديث آخر: (إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (يحشر معاذ أمام العلماء برتوة يوم القيامة).
والرتوة: قيل: إنها المكان المرتفع فهو في مرتفع عليهم، وقيل: إنها رمية حجر، أي: يتقدم العلماء.
ولهذا جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: (إن معاذاً أمة قانت لله)، فقيل له: إن إبراهيم كان أمةً قانتاً فقال: (كنا نشبه معاذاً بإبراهيم)، وهو أنموذج من النماذج الكثيرة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلما أرسله إلى اليمن بقي فيها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع في خلافة أبي بكر لما استخلف، ثم ذهب إلى الشام للقتال في سبيل الله، فمات في الشام في الوباء الذي حدث فيه والذي سمي (طاعون عمواس)، مات هو وولده عبد الرحمن، وكان ولده من أحب الناس إليه، ولما سارع بعض الناس ليفر قال: مالكم؟ أتفرون من قدر الله؟! هذه رحمة يرسلها الله جل وعلا على عباده يرحم بها من يشاء، ثم قال: اللهم اجعل لي من رحمتك نصيباً، اللهم اجعل لآل معاذ من رحمتك نصيباً.
فأصيب ولده فمات، وكان ممن يلازمه ومن الذين يأخذون عنه العلم، ثم أصيب هو رضي الله عنه.
ولما قربت وفاته صار يسأل من عنده ويقول له: انظر هل أصبحنا؟ فقال: لا، ثم سأله مرة أخرى، ثم سأله ثالثة، فقال: نعم، فقال: أجلسني.
فأخذ بيده وأجلسه فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار، اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إنك تعلم أني لا أحب البقاء في الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب).
والمقصود أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا فمنهم من قال: في السنة العاشرة.
ومنهم من قال: في السنة التاسعة.
كـ الواقدي، وكذلك ابن سعد، والصواب أنه في السنة العاشرة.
ثم قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) المقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهذا هو الذي تعورف عليه، وهم أهل كتاب، أي: أهل كتاب سماوي جاء من السماء، وإن كان وقع فيه من التحريف والتبديل، ولكن عندهم علم، وهذا يدلنا على أن دعوة العالم للذين عندهم علم لا تكون كدعوة الجهال الذين ليس عندهم علم، والسبب في هذا أن الذي عنده علم يكون عنده حجج وعنده شبه فيحتاج إلى المجادلة وإلى كشف الشبه عنه، ولهذا ذكر ذلك له ليتهيأ ويستعد.
ومعلوم أن أهل الكتاب ليسوا كالوثنيين العرب الذين في اليمن، وإن كان أكثر من كان في اليمن هم من الوثنيين العرب، وأهل الكتاب أقل منهم، وسواء أكانوا يهوداً أم نصارى، والنصارى جاؤوا من الحبشة، واليهود قيل: إنهم ذهبوا من المدينة إلى اليمن وبقوا هناك وتكاثروا، ولا تزال بقاياهم إلى اليوم في اليمن.
والمقصود أنه قال: (فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وهذا يدلنا على أن الذي يجب على الداعية أن يصحح العقائد أولاً، فلا يذهب إلى الناس ويقول: صلوا وزكوا وحسنوا أخلاقكم واتصلوا بالله بالتهجد وغير ذلك وعقائدهم خاربة؛ لأن أي عمل يعملونه إذا كانت العقيدة ليست صحيحة فلن يفيد، بل العمل عمل فاسد، ومعلوم أن الذي يريد أن يبني بيتاً يبدأ أولاً بالأساس ويقويه ويجعله متيناً ثابتاً قابلاً لما يوضع عليه، فإذا كان الأساس غير صحيح فإنه ينهار البناء ويفسد، والذي ليس عنده عقيدة ليس عنده أساس، فبناؤه مثل الذي يبني على الماء، والبناء على الماء لا يثبت أبداً، ولهذا ذكر الله جل وعلا لنا هذا عن جميع الرسل، وأن كل رسول كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فكان أول ما يقول لهم: (اعبدوا الله)، وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو الا إله إلا الله)، وقبل أن يؤمر بالقتال كان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) هكذا كان يقول لقريش، ويقول: (بعثني ربي بأن يعبد وحده ولا يشرك به شيء)، وكان يمشي بهذا على الناس في موسم الحج؛ لأن العرب وإن كانوا مشركين، فقد كانوا يأتون إلى الحج في الموسم، وكانوا قبائل كل قبيلة تكون في مكان منحازة عن القبيلة الأخرى، فكان يمشي على القبائل قبيلة قبيلة ويقول: (من رجل يأويني إلى قومه حتى أبلغ رسالة ربي -وفي رواية: كلام ربي-؟ وإذا سئل فقيل له: ما هي الرسالة يقول: جئت بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء)، فهذا الذي يجب على الداعية أن يعتني به كثيراً، فهذا هو أول ما يبدأ به إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالاً لأمر الله جل وعلا في قوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فهذه هي دعوته صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إذا الإنسان ترسم هذا الطريق الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسير عليه فإنه يكون على بصيرة من ذلك، بخلاف الذي يبتدع طرقاً ويأتي بها ويسميها (منهج الدعوة) أو ما أشبه ذلك، فإن هذا غالباًَ يكون غير مجد، وإذا نفع نفعاً ما فيكون نفعه في شيء معين.
والمهم أن الداعية يجب أن يدعوا إلى التوحيد والإخلاص وترك الشرك، والأمور التي تقدح في عبادة الله جلا وعلا يبينها للناس ويوضحها وينهاهم عنها بالعلم والبيان الذي يُقتنع به، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية يقول: (إلى أن يوحدوا الله -أو إلى أن يعبدوا الله-)، وهذا أراد به أن يبين فيه معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يجعل العمل لله وحده، ولا يكون العمل لأحد غيره.
ثم بعد ذلك قال: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)، فرتب دعوتهم لإقامة الصلاة وأداء فرض الله فيها على إجابتهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فدل على أنهم إذا لم يستجيبوا إلى ذلك لا يدعون إلى الصلاة، وهكذا ما بعدها: (فإن هم أجابوك إلى ذلك) أي: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وقد عرفنا ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معناها أن يعبد الله وحده، وأن يكون الإنسان متألهاً بقلبه وحبه وتعظيمه لله وحده، لا يحب حب الذل والخضوع والتعظيم إلا الله، ولا يتجه بالدعاء والرجاء والخوف والإنابة إلا إلى الله وحده، فهكذا جميع العبادة داخلة في هذه الكلمة (لا إله إلا الله).(21/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [22]
مدار الإسلام على النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان الثلاثة بالذكر -كما في حديث معاذ رضي الله عنه- لأهميتها ومكانتها من الدين، فلا يكون الدين كاملاً إلا بها.(22/1)
شرح حديث معاذ عند بعثته إلى اليمن
يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه.
].(22/2)
مخاطبة الناس بما يناسب حالهم
بعث معاذ رضي الله عنه كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معاذاً معلماً وداعياً ونائباً عنه في الحكم وإبلاغ الرسالة التي أرسل بها إلى أهل الأرض، وقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني: في اليمن.
ولا يعني ذلك أن أهل اليمن من أهل الكتاب كلهم، ولكن فيهم أهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى، وأكثرهم ليسوا منهم، بل هم أهل أوثان من العرب، يعبدون الأوثان، ولكنه نبهه إلى أن مخاطبة أهل الكتاب وكلامهم ليس كمخاطبة الجهال أهل الأوثان الذين ليس عندهم علم، فهؤلاء قد تكون عندهم شبه ومجادلات، فنبهه لذلك ليستعد لما عساهم أن يلقوه عليه من الشبه، أو يجادلوه في علوم قد يكون منها ما هو مأخوذ من كتب الله السابقة.
هذا هو السر في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني: لتستعد لذلك، وتعد نفسك وتتهيأ، ويكون عندك ما تستطيع أن تجيبهم به.
ثم إن هذا يدلنا أن مخاطبة الناس ليست سواء، وكل الإنسان يخاطب بما يناسبه، ولا يخاطبون خطاباً واحداً؛ لأن بعضهم قد يكون -مثلاً- عنده علوم وأفكار ليست عند الأخرين، والآخر لا يصل إلى هذا، ويخاطب هذا بما يناسبه وهذا بما يناسبه.
ثم قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله)، وهم أهل كتاب، ومعلوم أن أهل الكتاب الذين هم اليهود -خصوصاً- ما كانوا يعبدون أوثاناً، بل كانوا يعيبون على العرب ذلك، وكان يهود المدينة يقولون للعرب: آن وقت نبي سيبعث نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم، لأنكم كفرة أصحاب أوثان.
ولكن الله يمن على من يشاء، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم آمن به أصحاب الأوثان وكفر به أصحاب العلم الذين يتوعدونهم، وذلك لأنهم ما كانوا يظنون أنه من العرب، فقد كانوا يظنون أنه يبعث منهم، فلما بعث من العرب حسدوه وأبغضوه، وتركوا الحق من أجل الحسد والبغضاء.
وهذا يدلنا على أن العلم ليس كل شيء، فإن الإنسان قد يكون عالماً ويكون ضالاً على علم، إما لحسد وإما لمنافع معينة يريد أن يتحصل عليها من رئاسات أو أموال أو غير ذلك، وهذه معروفة، وعلل الناس التي يتعللون بها لكونهم لا يتبعون الحق إما لأنه يخالف أهواءهم، أو لأنه يمنعهم من شهواتهم، كما قال أحد النصارى لما قيل له: لماذا لا تسلم وتترك النصرانية لأنها ضلال، ولأن في دينك ما يلزمك باتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كيف أسلم وأترك شرب الخمر وأنتم في دينكم تحريم الخمر؟ لا أستطيع.
وقيل لنصراني آخر: لماذا لا تُسلم وتَسلم من عذاب جهنم وما يترتب على كفرك وبقائك على دينك الفاسد؟ فقال: أنا محتاج إلى الأموال، وأقاربي يعطونني الأموال، ولو أسلمت لمنعوني ذلك.
وكذا علل الناس من هذا القبيل.
ومنهم من يمنعه الملك، مثل ما منع هرقل ملك الروم لما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه الحق؛ لأنه تيقن وقال: والله لو أستطيع لأتيته ولغسلت نعليه ولحملتها، والله إن كان ما تقوله الحق -يقوله لصاحب الكتاب الذي جاء به- ليملكن ما تحت قدمي هاتين.
وهو على سرير ملكه.
يقسم ويحلف، ثم بعد ذلك أمر بمن عنده بأن يخرجوا، وأمر بالأبواب التي تصل إليه أن تغلق وتوصد، وأمر بقواده وكبرائه أن يوضعوا في مكان قريب منه ولكن لا يصلون إليه.
فلما فعلوا ذلك قال: هل لكم في السعادة؟ هل لكم في الرشد والهدى؟ فقالوا: وما هو؟ قال: نتبع هذا النبي.
فأسرعوا ذاهبين إلى الأبواب يريدون أن يقتلوه، فوجدوها موصدة، ثم قال: ردوهم عليّ، فلما ردوهم عليه قال: إنما قلت ما قلت لأختبر دينكم وصلابتكم فيه، وقد رضيت منكم بذلك ونحن على ديننا.
أي أنه اختبرهم ليرى ماذا لو أسلم هل يبقى على ملكه ويتركونه أو لا يتركونه، فلما رأى أنهم لا يتركونه بقي على كفره معتاضاً به عن الإسلام.
ومنهم من رضي باتباع العادات واتباع ما وجد عليه قومه وما وجد عليه أبناء جنسه، وهذا هو الذي منع كثيراً من المشركين، ومنهم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب، فإنه لما دعاه قال: لولا أن أجر على أشياخي وكبرائي مسبة لاتبعتك وانقدت لقولك.
والمسبة التي يزعمها هي أنه يحكم عليهم بالضلال؛ لأنهم كانوا يعبدون الأوثان.
فالمقصود أنه ليس من كان عالماً يلزم أن يكون مهتدياً، بل كثيرٌ ممن يكون عالماً يكون ضالاً على علم، ولهذا يقول علماء التفسير في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] لما ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين هم النصارى؛ لأن النصارى يتعبدون على جهل فضلوا، وأما اليهود فهم أهل عناد وتكبر وأهل علم قال العلماء: من ضل من علمائنا فهو شبيه باليهود، ومن ضل من عبادنا فهو شبيه بالنصارى.(22/3)
قوله: (إنك تأتي قوماً)
قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله) يعني: يبدأهم في الدعوة بأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فهذا أول ما يبدأهم به، مع أنهم ما كانوا يعبدون الأوثان، ومع ذلك يدل هذا على أنهم يجب أن يشهدوا ألا إله إلا الله قبل كل شيء، وأنهم لا يصح دخولهم في الإسلام ولا يقبل منهم حتى يتشهدوا هذه الشهادة وينطقوا بها؛ لأن هذه الكلمة وضعت لكون الإنسان يتحقق أن العبادة لله وحده، وأنه يكفر بكل معبود سوى الله جل وعلا؛ لأن عبادة الله لا تستقيم إلا بالكفر بما يعبد من دونه، كما قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله)، فإذا قالها الإنسان مؤمناً بها مصدقاً موقناً محباً لها قابلاً بها عاملاً بما تقتضيه فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهذا هو أصل الدين الذي جاءت به الرسل كلها من أولها إلى آخرها، فكل رسول يأتي بهذا إلى قومه ويدعوهم إليه أول شيء، ودين الرسل كلها هو دين الإسلام، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وذكر الله جل وعلا عن الرسل أن كل واحد منهم يقول: ((أسلمت لك)) يسلمون لله، ويأمرهم بالإسلام، فالإسلام معناه الاستسلام لله جل وعلا بالإنقياد والطاعة التامة والخضوع له.
وهو مقتضى (لا إله إلا الله)، أن يكون القلب متحليّاً بالتأله لله جل وعلا وحده، والتأله هو عبادة القلب عبادة الحب والذل والتعظيم، كما سيأتي تقسيم المحبة، وأنها يجب أن تكون لله وحده؛ لأنها هي التألة، وهي محبة مشتركة بين الخلق كلهم.(22/4)
معنى الشهادتين
ثم يضاف إلى شهادة التوحيد ووجوب التشهد بها شهادة أن محمداً رسول الله.
ومعناها: أنه رسول من عند الله جاء بالدين الذي يلزم كل إنسان قبوله والعمل به، وأنه ليس هناك طريق يسلك إلى الله جل وعلا إلا ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الطرق الأخرى سواءٌ أزعم أنها موروثة عن الأنبياء وأنها وحي أوحي به إليهم أم لا، كلها يجب مجانبتها وتركها، واتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي هو خاتم الرسل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) موسى عليه السلام كليم الله لو كان حياً موجوداً لاتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو خاتم الرسل الذي بعث للخلق كلهم.
فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله: العلم اليقيني بأنه رسول من الله جل وعلا، أوحى إليه شرعه، وأكرمه بذلك، وهو عبد يعبد الله جل وعلا، ليس له من الإلهية ولا من الربوبية شيء، وإنما قام بعبادة الله جل وعلا حسب أمر الله جل وعلا، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه.
هذا هو معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله) رسول أوحي إليه بالشرع، كلف الناس بطاعته وتوقيره وتعظيمه واتباعه في ذلك، وألا نعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به عن الله، وكل ما يقوله ويأمر به من الرسالة التي أرسل بها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5] الذي هو جبريل عليه السلام هو الذي جاءه بالوحي.
ثم هذا ليس خاصاً بأهل الكتب، فهذا يُدعى به الناس كلهم، ولكن هذا يدل على أنه لا يقبل من إنسان يريد الدخول في الإسلام حتى يتلفظ بهاتين الشهادتين، والتلفظ يلزم منه أن يعلم معناهما، فيعرف معنى الشهادتين، ويعلم أن التلفظ بغير معنى يتضمنه الكلام لا يفيد شيئاً، فيكون شبه هذيان، وشبه كلام النائم السكران الذي لا يعقل ما يقول.
ومعلوم أن الكلام: اسم للفظ والمعنى، والكلام لا يكون في للفظ دون المعنى، ولا للمعنى دون اللفظ، وهذا هو الحق الذي دل عليه كتاب الله ولغة العرب، وكذلك إجماع أهل الحق على هذا، ولهذا لابد من معرفة هاتين الشهادتين حتى يكون الإنسان مسلماً حقاً، أما إذا نطق بهما وهو لا يعرف معناهما فيحكم له بالإسلام ظاهراً، وأما الباطن فإن كان لا يعرف معناهما ولا يعمل بهما فليس بمسلم، ولا بد من معرفة معناهما والعمل بهما، فإذا فعل ذلك وجب عليه قبول كلما جاء به الرسول، والالتزام بالصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأوامر التي أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي اجتناب ما نهى عنه، فإن فعل ذلك فهو من المؤمنين المتقين السعداء في الدنيا والآخرة، وإن كان على ظاهره وترك بعضها، والتزم ببعضها فأمره إلى الله جل وعلا إن شاء آخذه وعذبه، وإن شاء عفا عنه، إلا أنه لا بد من شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة.
أما البقية التي هي أداء الزكاة وصوم رمضان والحج فالكلام فيها يختلف عن هذا؛ لأن الزكاة أمر يتعلق بذمة الإنسان وبماله الظاهر الذي يرى ويشاهد، أما المال الباطن الذي لا يعلمه إلا صاحبه فهذا إليه، إن كان عنده إيمان وتقى ومخافة من الله دفع زكاته، وإن لم يفعل ذلك فالله الذي يحاسبه، إلا أنه يجب على الإمام -إمام المسلمين- إذا كان ظاهر الإنسان الإسلام، وله أموال ظاهرةٌ فيجب عليه أن يأخذ الزكاة منه، فيضعها حيث أمر الله جل وعلا كما سيأتي، أما الأموال الباطنة فموكولة إلى إيمان الإنسان نفسه.
وأما الصوم وهو ركن من أركان الإسلام كما هو معلوم فهو موكول إلى إيمان الإنسان وأمانته، إن كان عنده أمانة وإيمان صام، وإلا لم يفعل.
فالصيام بين العبد وبين ربه جل وعلا؛ لأن الإنسان يمكن أن يظهر أمام الناس أنه صائم، وهو يأكل ويشرب ويفعل ما يريد، ويذهب إلى البيت أو إلى أي مكان ويفعل ما يشاء، ولا يراقبه إلا الله، ولهذا السبب لم يذكر الصوم في هذا الحديث، وفي بعض الأحاديث لم يذكر في الأركان.
وأما الحج فالحج له أمر آخر، وهو أنه لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على المستطيع القادر، وكذلك هو لا يجب في كل عام، وإنما يجب في العمر مرة، فإذا كان كذلك فليس كبقية الأركان.
ولهذا السبب أيضاً لم يذكر الحج في هذا الحديث، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في كون الصوم والحج لم يذكرا في هذا الحديث، وليس كما يقول بعضهم: إن بعض الرواة اختصر الحديث.
لأن هذا طعن برواة الحديث، ولو قبل مثل هذا الطعن لأمكن لكل مبطل أن يقول: هذا الحديث مختصر، وهذا محذوف منه كذا ومزيد فيه كذا، وما أشبه ذلك.
وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر عندما يذكر أركان الإسلام فيقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وكذلك إذا سئل عن الإسلام فإنه يذكر أركان الإسلام كاملة، وإذا ذكر الإيمان ذكر أركان الإيمان كاملة، أما إذا جاء الأمر ويترتب على الأمر القتال أو الحكم بالإسلام أو الضلال فإنه يذكر ذلك حسب ما يناسب المقام؛ لأن الخطاب بالصوم ليس لكل أحد، وهو أمانة بين العبد وبين ربه، فمثلاً الحائض لا يلزمها الصيام، وإنما تقضي أياماً بعدما يزول المانع، وكذلك المسافر لا يلزمه، وإنما يقضي أياماً بعد زوال المانع، وكذلك الكبير الذي لا يستطيع الصوم لا يلزمه، وإنما يفطر ويأكل ويطعم بدل كل يوم مسكيناً، وكذلك الحامل إذا خافت على ولدها فإنه لا يلزمها، فإنها تأكل ثم تطعم وتصوم، وكذلك المرضع، وهكذا.
بخلاف الصلاة؛ فإن الإنسان ما دام فيه عقله وما دام قد كلف لا تسقط عنه الصلاة بحال من الأحوال، سواءٌ أكان صحيحاً أم مريضاً، وسواءٌ أكان يستطيع أن يجلس أم لا يستطيع الجلوس، يستطيع القيام أم لا يستطيع، فيجب عليه أن يصلي حسب حاله، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال.
وكذلك شهادة ألا إله إلا الله، شهادة التوحيد، وشهادة أن محمداً رسول الله ملازمة دائماً للقلب والعلم، وكذلك الاعتقاد، يعتقد ذلك، فتلازمه دائماً وأبداً لا تسقط بحال من الأحوال.
وبهذا يتبين الفرق بين هذه التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأحاديث وبين الأركان التي قد لا يذكرها في بعض الأحاديث، وليس الأمر كما قيل: إن ذكرها وعدم ذكرها حسب تنزل الفرائض.
ففي أول الأمر نزلت الصلاة، ثم بعد ذلك الزكاة، فصارت تذكر الصلاة ثم تذكر الزكاة، ثم بعد ذلك الصوم، وقد مر معنا أن الصوم فرض في السنة الثانية للهجرة، أي: فرض في المدينة، بخلاف الصلاة فإنها فرضت قديماً في مكة.
وأما الحج فقد اختلف فيه كثيراً، وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة السنة التي توفي فيها صلوات الله وسلامه عليه، وبهذا يتبين الفرق، ولكن ليس الأمر كما يقول هذا القائل: أنه حسب تنزل الفرائض، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من الفرق أن الشهادتين والصلاة تلازم المسلم دائماً وأبداً، ولا تنفك عنه بحال من الأحوال ما دام عقله معه وما دام مكلفاً، بخلاف الصوم والحج فليس الأمر كذلك.(22/5)
فرضية الصلاة
ثم قوله صلوات الله وسلامه عليه: (فإن هم أطاعوك لذلك) يعني: استجابوا وقبلوا منك بأن شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: (فأعلمهم -مرتباً على ذلك- أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، وهذا دليل واضح على أنه لا يلزم المسلم إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ولا يلزمه تحية المسجد ولا الرواتب التي قبل الظهر وبعدها، والتي بعد المغرب وقبل العشاء وبعدها، ولا الوتر ولا غير ذلك، وإنما هذه كلها سنن إذا أتى بها الإنسان فله الفضل والجزاء، له الفضل من الله يتفضل عليه بالإحسان بأن يجزيه على ذلك، وإن لم يأتِ بها فليس ظالماً وليس عاصياً بترك ذلك، إذا أتى بالصلوات الخمس فقط يكون قد أتى بما يلزمه.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم: (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصار يتكلم وهو رجل كبير السن، يقول الصحابي-: نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن فرائض الإسلام وشرائعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا تشرك به شيئاً -وصار يمسك بأصابعه- ثم قال: أخبرني عن شرائع الإسلام؟ فقال: خمس صلوات في كل يوم وليلة.
فأمسك بإصبعه فقال: هل علي غيرها شيء؟ قال: لا إلا أن تطوع -يعني: تأتي بشيء من عند نفسك تطوعاً-، ثم قال: تزكي المال -تؤدي الزكاة- فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع.
ثم قال: فماذا؟ فذكر الصوم -صوم شهر رمضان- فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع.
ثم قال: وماذا بعد ذلك؟ فقال: تحج البيت؟ فقال: وهل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع فأمسك بأصابعه وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها شيئاً ثم ولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة).
وجاء في رواية: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) أمسكها بأصابعه وقال: والله لا أزيد عليها شيئاً ولا أنقص عليها شيئاً.
فإذا جاء الإنسان بهذه ولم ينقص منها شيئاً فهو من أهل الجنة.
ولما قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه)، عظيم لأن دخول الجنة ليس سهلاً؛ ولأن الإنسان إذا دخل الجنة يبقى فيها ما دامت السموات والأرض منعماً، وملائكة الرحمن تدخل عليه من كل باب قائلة له: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، وإلا صار في الدار الأخرى في جهنم.
فقال له: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، ثم قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً -هذه واحدة- وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)، فقط هذه الخمس التي دله عليها لما سأله عن عمل يدخله الجنة، وأخبره بهذه الأمور الخمسة، فالجنة مرتب دخولها على الإتيان بهذه الخمسة الأشياء: شهادة ألا إله إلا الله، وهي التي يقول فيها: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج مرةً واحدة في العمر، وما عدا ذلك فليس بلازم على الإنسان، إلا أن يلزم نفسه به، كالذي ينذر مثلاً، والنذر هو إلزام الإنسان لنفسه ما ليس بلازم له.
فإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم الإنسان إلا خمس صلوات في اليوم والليلة كما هو واضح، وقد علمنا أن بعث معاذ إلى اليمن كان في السنة العاشرة من الهجرة.
في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عُلم أن معاذاً رضي الله عنه لما ذهب إلى اليمن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن، وما جاء إلى المدينة إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق.(22/6)
الصلاة المفروضة خمس وما عداها سنة وتطوع
هذا متفق عليه بين أهل العلم، فدل هذا على أن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر، فلا يتأتى على ذلك قول من يقول: إن فرضية الوتر وغيره صارت بعد قوله لـ معاذ.
لا يتأتى هذا، وهذا يشكل عليه ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم)، أو نحو ذلك، وقال (أوتروا -أهل القرآن- فإن الله وتر يحب الوتر) وقال في حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا ركعتين قبل الفجر وإن طلبتكم الخيل)، وهذا الأمر قال كثير من العلماء: إنه يدل على الوجوب.
والجواب أن هذا أمر دل على أنها سنة مؤكدة، وقد يعبر عن السنة المؤكدة بالوجوب، كما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقد علم أنه ليس حتماً وفرضاً، وإنما هو سنة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذا وعملوا به، فقد ثبت أن عثمان رضي الله عنه لم يغتسل يوم الجمعة، وجاء وعمر يخطب فأنكر عمر عليه، وقال: أنتم قوم يقتدى بكم فلماذا لا تتقدمون.
فأخبره أنه كان في شغل، وأنه ما زاد على أن توضأ، فقال: وهذه.
وجاء في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فهذا أيضاً يدل على أن الغسل ليس بواجب، وهكذا الكلام في الوتر وفي ركعتي الفجر وغيرها مما جاء من الأحاديث، وكلها ترغيب في الصلوات.
أما قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:1 - 4]، وكذلك في آخر السورة، والعفو عن كونهم لا يقومون أكثر الليل، وكذلك قوله جل وعلا: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (نَافِلَةً لَكَ) يعني: ليست على أمتك.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان يصلي ويجتهد، وفي آخر عمره صلى التراويح جماعة ليلتين أو ثلاث، وفي اليوم الثالث امتلأ المسجد وذهب الناس إليه فلم يخرج عليهم، واليوم الرابع لم يخرج عليهم، حتى صاروا يتكلمون ويتنحنحون، وربما حصبوا الباب، ثم قال لهم بعد ذلك: (لقد علمت مجيئكم ومكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، فدل هذا أنها ليست فرضاً، بل هي سنة، وهكذا صلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، كلها ليست واجبة بنص هذا الحديث، وأنه لا يجب على المسلم إلا خمس صلوات في اليوم والليلة، فالكسوف، والعيدان والاستسقاء وصلوات التطوع كلها ليست واجبة، وإنما هي سنة إذا فعلها الإنسان أجر عليها، وإن لم يفعلها فليس عليه إثم، غير أنه ينبغي للإنسان أن لا يزهد في الخير، وينبغي عليه أن يرغب فيما عند الله؛ لأن الجنة درجاتها تقتسم بالأعمال الصالحة، ولا ينبغي للإنسان أن يرضى بالدون، وينبغي له أن يكون له نصيب من التطوع، من الذكر، ومن القراءة، ومن الصلاة، ومن الصوم، ومن الحج، وهكذا، هذا أمر.
الأمر الثاني: أنه جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان أول ما يحاسب عليه صلاته، فإن كانت كاملة فقد أفلح، وإن كانت ناقصة فإنه يقال: انظروا هل له من تطوع فتكمل به صلاته.
إذاً كان الأمر هكذا، فينبغي للإنسان أن يكثر من التطوع، ولا سيما نحن، فلسنا كالصحابة ومن بعدهم من السلف، إذا قام أحدهم إلى الصلاة أصبح كأنه بين يدي الله جل وعلا يشاهده ويخاطبه، أما نحن فتجد الجسم في المسجد في الصفوف، والقلب تجده سارحاً في مكان آخر، يفكر في أمور أخرى، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يكتب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها) الشيء الذي يعقله، فقد يكتب للإنسان كل صلاته، وقد يكتب له نصفها، وقد يكتب له ثلثها، وقد يكتب ربعها، وقد لا يكتب له إلا عشرها، وقد يخرج من الصلاة ما عقل منها شيئاً فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها فتقول: (ضيعك الله كما ضيعتني).
أما إذا أداها بخشوع وحضور قلب وطمأنينة فإنها تصعد ولها نور، وتقول: (حفظك الله كما حفظتني).
فنحن في الواقع بحاجة إلى أن نرقع صلاتنا؛ لأنها مخرقة بل ممزقة صلواتنا تكون ممزقة، بكثرة التفكير في أمور الدنيا، وبكثرة كون القلب يسرح في أماكن أخرى، وربما إذا انتهى الإمام لا ندري ماذا قرأ، ولا ندري أي سورة وأي آية، وهذه مشكلة، وربما الإنسان لا يدري صلى ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فهو سارح، وإذا كان الأمر هكذا فنحن بحاجة إلى أن نكمل صلاتنا.
وفضل من الله جل وعلا كونه يقبل منا أن تجبر الفريضة بالتطوع، فضل يتفضل به على من يشاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروى عنه: (الصلاة خير موضوع، فازدد منها ما شئت)، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكثرون من الصلاة، مع ما ذكرنا من حضور قلوبهم في الصلاة وخشوعهم، حتى إن أحدهم يضرب بالرماح وتسيل الدماء منه وهو في صلاته لا يقطعها، ولما عوتب على ذلك قال: كنت في آيات كرهت أن أقطعها.
أأقطع المعاني المترتب بعضها على بعض؟ ثم قال: (والله لولا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك)، وهذا في رجلين جعلهما الرسول صلى الله عليه وسلم حارسين وهم في غزوة من الغزوات، فوكل الحراسة إلى رجلين، فقال أحدهما للآخر: كوننا نبقى مستيقظين ليس له فائدة، اختر إن شئت أن تنام أول الليل أو آخر الليل.
فقال لصاحبه: أنام الآن وأقوم آخر الليل.
فصار صاحبه يصلي وهو ينظر، فجاء أحد الأعداء فرأى شخصه فصوب إليه السهم فضربه فلم يتحرك، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فصارت الدماء تسيل، ثم الثالث، عند ذلك خاف أن يموت فأيقظ صاحبه، فلما استيقظ صاحبه قال: سبحان الله! ما الذي حملك على هذا؟ لماذا لم تيقظني من أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك؛ لأنني كنت في آيات كرهت أن أقطعها أي: قبل إكمالها.
فالمقصود أن هذه حالتهم ولهذا: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر- أي: أصابه أمر شديد- فزع إلى الصلاة)، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].
فالصلاة يستعان بها؛ لأنها صلة بين العبد وربه، إذا وقف الإنسان متجهاً إلى ربه ورفع يديه قائلاً: (الله أكبر) يجب أن يعلم ما يقول، وأنه ليس هناك شيء أكبر من الله، لا مال ولا أولاد، ولا مناصب، ولا منافع، ولا أي شيء في الكون، ويحب أن يقبل على الله ويشتغل بالله، ولا يلتفت بقلبه يميناً ولا شمالاً، وقد جاء في الحديث: (أن الله ينصب وجهه في وجه المصلي ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض الله عنه)، فأي مسلم يود أن الله يعرض عنه؟! وجاء في حديث آخر أن الإنسان إذا التفت في صلاته أعرض الله عنه، وقال: (أإلى خير مني) يعني: تلتفت إلى خير مني؟! تعالى الله وتقدس.
والالتفات ينقسم إلى قسمين: التفات أصغر والتفات أكبر، فالالتفات الأصغر هو التفات البدن بالرقبة أو بالبدن، وقد علم من أقوال العلماء أن الالتفات عن القبلة بالجملة بالجسد كله يبطل الصلاة؛ لأن الله أمرنا بالتوجه إلى الكعبة فقال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وهذا يدل على الوجوب، فنستقبله دائماً في الصلاة، والالتفات هاهنا اختلاس من الشيطان، وكون الإنسان يلتفت برقبته أو ببدنه عن القبلة فهذا نقول: إنه التفات أصغر.
أما الالتفات الأكبر فهو الالتفات بالقلب، وكون القلب يلتفت إلى غير الله ويسرح ويمرح ويشتغل بالأمور الأخرى.
إذاً: فالصلاة من أعظم أركان الإسلام، ولهذا بدأ بها بعد الشهادتين، فقال: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).(22/7)
صلاة الجماعة
وقد فرض الله الصلوات جماعة، فمن واجبات الصلاة كونها في الجماعة، وواجب على المسلمين أن يصلوها جماعة، كما قال عبد الله بن مسعود: (إن نبيكم سن سنن الهدى، وإن الجماعة من سنن الهدى، فلو تركتم الجماعة وصليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)، ويقول في حديث آخر: (لقد رأيت أحدنا يؤتى به يهادى بين اثنين حتى يجلس في الصف) من شدة ما يحافظون على الجماعة، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار)، وجاء في رواية أنه قال: (لولا ما في البيوت من الذرية والمتاع لحرقتها عليهم)، وهذا لا يكون إلا لترك واجب متعين، فالمقصود أن الصلاة جماعة من سنن الهدى التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوجبها على المسلمين، فعليهم أن يصلوها جماعة في المساجد.
ثم إذا فاتت الإنسان الجماعة فعليه أن يحرص بأن يؤدي صلاته في جماعة، سواءٌ في المسجد الذي فاتته صلاة الجماعة إذا وجد من لم يصل جماعة، أم في غيره من المساجد إذا كان يستطيع أن يدرك جماعة ولو لم يكن معه من صلى فريضته، فقد جاء أن رجلاً دخل المسجد وقد صُليت الصلاة فأراد أن يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) (يتصدق عليه) حتى تكون صلاته جماعه، ولما كان صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف يصلي وانتهت الصلاة رأى رجلين جالسين فقال: (علي بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا، ألستما بمسلمين؟ قالا: بلى -يا رسول الله- ولكننا صلينا في رحالنا -أي: صلينا مع جماعتنا في المكان الذين نحن نازلون فيه- فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما إلى جماعة فصلوا معهم تكن لكم نافلة)، وهذا نوع من الإعادة.
والمقصود أنه يجب على المسلمين أن يحافظوا على الصلاة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يطالبهم الله جل وعلا لمخالفة خالفوها، ومن طالبه الله أدركه، ومن أدركه أخذه، ولن يفوت أحد من الخلق ربه جل وعلا، ولهذا يقول: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26].
(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ): أي: رجوعهم.
سيكون رجوع الخلق كلهم إلى الله ثم يحاسبهم.(22/8)
فرضية الزكاة
فبعد ذلك يقول: (فإنهم أجابوك إلى ذلك)، يعني: أدوا الصلاة وأقاموها (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وهذا دليل على أن الزكاة لا تجب إلا على الأغنياء، وهذا نوع مما تفارق به الصلاة، فالصلاة تجب على الفقير والغني، وعلى المرأة والرجل، وعلى العبد الحر، وعلى كل بالغ، وعلى المريض والصحيح، تجب على كل مكلف حسب استطاعته، بخلاف الزكاة فإنها لا تجب إلا على الأغنياء، وفيه دليل على أن الزكاة تجب أيضاً في مال الصغير ومال المجنون؛ لأنه يدخل في عموم قوله: (صدقة تؤخذ من أغنيائهم)، وفيه دليل على جواز صرف الزكاة لنوع من أنواع الزكاة؛ لأنه قال: (فترد على فقرائهم)، وقد اختلف العلماء في هذا الضمير هل يراد به فقراء المسلمين أو فقراء أهل اليمن؟ فإن أريد به الأول جاز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، وإن قيل: إنه يقصد بها ضمير القوم فلا يجوز نقل الزكاة، وهي مسألة خلافية بين العلماء، والصواب في هذا أنه إذا كان في نقلها مصلحة وفائدة وحاجة لمن تنقل إليه أعظم فإنها تنقل، أما إذا لم يكن ذلك فلا، بل تفرق في البلد التي أخذت منه.
ثم فيه دليل على أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء، ويأخذها الإمام أو عامله الذي يكل إليه ذلك.
وقوله أيضاً (على أغنيائهم) استدل به بعض العلماء على أن من كان عليه دين، وعنده أموال ولكن الدين يستغرقه أنه ليس عليه الزكاة؛ لأنه ليس غنياً.(22/9)
أخذ كرائم الأموال زكاة ظلم
ثم قال: (فإنهم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) وكرائم المال أحاسنه وأطايبه، لأن الكرم معناه السعة والجمال والحسن والخير، ولهذا قالوا: كريمة الغنم أحسنها منظراً، وأكثرها صوفاً وأكثرها لبناً وأسمنها وأكبرها.
فهذه كرائمها، وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب في أطايب المال، كما أنه لا يجوز لصاحب المال أن يخرج الزكاة من أراذله وأسافله وأشراره.
فلا يخرج التيوس، أو يخرج الجرباء، وكذلك إذا كان غير حيوانات، فلا يذهب يقصد الرديء من التمر أو الحب فيخرجه، وعليه أن يتقي الله، وكذلك العامل لا يجوز له أن يأخذ أحسن المال، فإن هذا ظلم، فإن فعل ذلك فإن صاحب المال يطالبه عند الله يوم القيامة لأنه ظلمه، ولكن لو أن صاحب المال جادت نفسه بأن يخرج أحسن الأموال فإنه يجوز أن يأخذها بعد أن يعلمه بأن هذا ليس واجباً عليه، ويقول له: ليس هذا بواجب عليك، الواجب عليك أن تخرج من أوسط المال لا من شراره ولا من خياره، وإنما تخرج من أوسطه، سواءٌ أكان المال من الحبوب أم التمور أم الحيوانات.
والحيوانات معروفة، منها الإبل والغنم والبقر، والغنم تشمل الماعز والضأن، كما أن البقر يشمل الذكور والإناث، وعلى الإنسان أن يتقي ربه جل وعلا في ذلك فيخرج ما تبرأ به الذمة وتطيب نفسه به؛ لأنه فريضة من فرائض الله، يخرجه طيبة به نفسه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه لو منعه وأمسكه؛ لأنه فريضة.(22/10)
اتقاء دعوة المظلوم
ثم قوله: (واتق دعوة الظلوم) يعني: اجعل بينك وبين دعوة المظلوم وقاية.
وقوله: (واتق دعوة المظلوم) بعد قوله: (وإياك وكرائم أموالهم) يدل على أن أخذ محاسن الأموال وكرائمه ظلم يخشى أن يدعو صاحب المال عليه فيصاب به.
ومعنى: (اتق دعوة المظلوم) أي: امضِ على العدل الذي به تتقي أن تظلم فيترتب على الظلم الدعاء الذي يصدر من المظلوم.
والظلم قد حرمه الله جل وعلا في جميع كتبه، وحرمه على نفسه، وجعله بين العباد محرماً.(22/11)
أقسام الظلم(22/12)
الظلم بين العباد
والظلم أقسام ثلاثة: قسم منه ظلم يكون بين العباد، وهذا كثير جداً، يقع في الأعراض والأموال والدماء، ويقع في غير ذلك، فهذا مبناه على التقصي وأن لا يُترك منه شيء؛ لأن الإنسان ضعيف ويريد حقه، ولكنه إذا وقف بين يدي الله فإنه يود لو يكون على والدته له حق فيأخذه أو على والده، أو يود الوالد أن يكون على ولده له حق فيأخذه، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
لماذا يفر منهم؟ خوفاً من المطالبة بالحقوق، ولأن الأمر عظيم، فكل واحد له شأن يغنيه، ويشتد الأمر شدة عظيمة، حيث يصبح الإنسان لا يهمه إلا نفسه وتخليصها، ولهذا جاء في الأثر: إن الرجل تأتي إليه والدته وتقول له: يا بني! ألم يكن بطني لك وعاء، وثديي لك سقاء، وحجري لك غطاء؟ ألم أكابد الشدائد وأسهر الليالي في مصالحك؟ فيقول: بلى.
فتقول: أريد منك حسنة واحدة، فيقول: لا.
نفسي نفسي.
لا أحد ينفع أحد يوم القيامة: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19].
فهذا الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض لا بد من أخذه واستقصائه، ولا يكون هذا إلا بالحسنات والسيئات فقط، فيؤخذ من حسنات الظالم فيعطى المظلوم حتى يستعفي وحتى يوفى حقه، فإن نفذت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار.
هذه هي الطريقة الوحيدة التي تؤخذ الحقوق فيها يوم القيامة.
والحقوق كثيرة، منها: ظلم في المعاملات، فالإنسان قد يعامل ولا يسلم من المعاملة، فإذا أخفى عيب السلعة التي يبيعها فسوف يسأل عنها يوم القيامة ويطالبه الذي اشترى منه فيقول: أخفى علي العيب وظلمني، خذ لي يا رب حقي منه.
وقد يكون في غير ذلك بالكلام واستطالة العرض، ويتكلم عليه، ويقول فيه ما ليس فيه، أو يقول فيه ما هو فيه وهو غائب فيذكره بما يكره، وهذا من أعظم الظلم، وهو كثير جداً، حتى -وللأسف- بين طلبة العلم يوجد هذا بكثرة، كل واحد يتكلم في الثاني في غيبته بالشيء الذي يسوؤه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة: (ذكرك أخاك بما يكره) فقال قائل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت هو أشد الظلم، فيرميه بالشيء الذي ليس فيه فهذا ظلم.(22/13)
ظلم العبد لنفسه
ثم القسم الثاني من الظلم ظلم العبد لنفسه، وهذا هو أسهل أنواع الظلم، ما عدا ظلمه للعباد فإنه يخرج من هذا؛ لأنه أمر عظيم، بمعنى أنه لا يترك منه شيء، ولا بد من استقصائه، ولكن ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه في تقصيره في أوامر الله، وفي ارتكابه لنواهي الله التي لا يتعلق بها أمر مخلوق من الناس، فهذا الظلم هو الذي يقول الله جل وعلا فيه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فقد علق المغفرة بمشيئته، ما عدا الشرك وما عدا ظلم العباد بعضهم مع بعض، ولهذا نقول: هذا أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله غفور رحيم، وبر كريم جل وعلا، إذا شاء أن يعفو عن ذنب عبده عفا ولا يبالي، وقد مر معنا في الحديث القدسي قوله جل وعلا في الحديث الذي يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً للقيتك بقرابها مغفرة) يعني: بملئها أو ما يقارب ملئها مغفرة.
فالله أوسع وأجود جل وعلا.(22/14)
الشرك بالله
القسم الثالث من أقسام الظلم الشرك، وهو من أعظم الظلم، وهو الذي أخبر جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه، فإذا سلم الإنسان من هذه الأقسام الثلاثة فهو الغانم السالم الذي يسبق إلى الجنة أول وهلة بلا عذاب، ولكن الغالب أن الناس لا يسلمون من نوع من هذه الأنواع.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: اجعل واقياً يقيك منها.
والواقي الذي يقي هو تقوى الله جل وعلا، كون الإنسان يتقي الله ويخافه ويراقبه، كلما أقدم على عمل صارت تقوى الله تمنعه أن يفعله إذا كان معصية، ويحول بينه وبين ذلك، فيكون واقياً له.(22/15)
دعوة المظلوم مستجابة
وقوله: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: فإن الأمر والشأن أن دعوة المظلوم مستجابة.
ومعنى (ليس بينها وبين الله حجاب) أنها تستجاب وأن الله يستجيبها، ويوقع في الظالم ما دعا على المظلوم.
وهذا وإن كان مقيداً بقوله جل وعلا فيما أخبر بأنه يستجيب لمن يشاء فإنه خبر صدق عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جرب ذلك لأكثر العالمين، أن المظلوم إذا دعا يصاب الظالم بالدعوة ولو كان المظلوم فاجراً، ولو كان فاجراً ففجوره على نفسه، ولكن الله جل وعلا لا يقر الظلم، ولهذا يقول العلماء: من عادة الله جل وعلا أن الله لا يترك ظالماً يتمادى في حياته وفي سعيه، حتى الدول، فالدول إذا صارت تظلم الشعوب وتظلم الناس فإن مدتها لن تطول، وسوف تزول، بخلاف الدول العادلة التي تعدل وإن كانت كافرة فإن مدتها قد تطول وإن كانت كافرة، وذلك أن الظلم لا يقره الله جل وعلا في حالة من الحالات، فقد حرمه على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ومن أعظم الإجرام أن يتطاول متطاول بقوته وسلطته على ضعيف ليس له ناصر ولا حيلة له إلا أن يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب.
ولهذا لا يتركه الله جل وعلا، فمن فعل به ذلك لم يفلت الله جل وعلا الظالم.
ثم هذا يدلنا على أن أخذ الزائد على الحق في الزكاة ونحوها يكون ظلماً؛ لأن هذا هو سبب ورود هذه الكلمة؛ لأنه قال: فإذا بذلوا لك ما طلبت منهم في الزكاة فإياك وكرائم أموالهم.
والكرائم من المال عرفنا أنها أطايبه وأحاسنه، فأخذها زكاة ظلم يستحق عليه الآخذ الدعاء من المظلوم وقمن أن يستجاب له.(22/16)
الاحتجاج بخبر الواحد
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص معاذاً في بعثه إلى اليمن، وقد علم أنه بعث معاذاً، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعث أبا موسى الأشعري، كلهم بعثهم إلى اليمن وكلهم ملتهم واحدة، يدعون إلى الله ويبلغون عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحكمون نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم جعله على مخلاف من مخاليف اليمن، والمخلاف كقولنا: مقاطعة.
وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يبعث الرسل ويبعث الدعاة الذين يبلغون عنه، وفي هذا دلالة واضحة أنه يجب على الأمة قبول خبر الواحد العدل، فإذا جاء بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال له كذا، أو أنه سمعه يقول كذا، أو أنه أمر بكذا وجب قبول ذلك؛ لأن هؤلاء أفراد بعثهم إلى اليمن، كما كان صلوات الله وسلامه عليه يبعث إلى الرسل والملوك وإلى البلاد النائية، فقد بعث رسله إلى قيصر رسولاً، وبعث إلى المقوقس ملك مصر، وبعث إلى ملك الروم هرقل، وفي هذا كله يبعث رجلاً واحداً، وأحياناً قد يرسل اثنين، وكتبه كذلك، أعني كونه يكتب الكتاب ويرسله مع شخص، وإذا بلغ الإنسان كتابه أو رسوله وجب عليه قبول ذلك وقامت عليه الحجة، فالذين يقولون: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ولا تقبل ضلاّل أهل بدع، أما أهل الحق وأهل السنة الذين اتبعوا الصحابة رضوان الله عليهم فلا إشكال عندهم في ذلك.
والأدلة على هذا كثير جداً غير ما ذكرنا.
منها: أنه لما نزلت الآيات التي فيها نسخ القبلة من الشام إلى الكعبة كانت أطراف المدينة بعيدة عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بنو عوف في قباء، فأتاهم آت وهم يصلون مستقبلين الشام، فقال: أشهد لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن فأمر بالتوجه إلى الكعبة.
فاستداروا وهم في الصلاة نحو الكعبة، وبقوا على صلاتهم السابقة، مما يدل على سرعة امتثال الصحابة رضوان الله عليهم وانقيادهم الكامل للأمر الذي يأتيهم بسرعة، وهذا ليس سهلاً، وانحرافهم وهم في الصلاة، وكذلك تغيير القبلة، وغير ذلك، أشياء كثيرة تدل على أن مثل هذا يجب قبوله وتقوم به الحجة.(22/17)
العلة من تخصيص ذكر اليهود والنصارى
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) قال القرطبي: يعني به اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما ينبه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم].
والأمر في الواقع ليس كذلك، ولا أن أهل الكتاب في اليمن أكثر، بل أهل الأوثان من العرب أكثر من اليهود والنصارى، ولكن السبب في ذلك أن أهل الكتاب عندهم حجج وعلوم، وليسوا كعبّاد الأصنام العرب الجهلة، فأمره أن يستعد لمحاجتهم ولكشف الشبه التي ربما ألقوها عليه، وقد وقع لبعض الصحابة شيء من ذلك، فلما أرسله إلى نجران -ونجران فيها نصارى كما هو معروف- قالوا له: إنكم تقرأون في كتابكم في مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، وبين مريم وهارون مئات السنين أو آلآف السنين، فكيف تقولون هذا؟ فما درى ماذا يقول، حتى رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: (ألا أخبرتهم أنهم يتسمون بأسماء أنبيائهم) يعني أن هارون الذي ذكر أن مريم أخته ليس هو هارون أخو موسى، وإنما هو اسم على اسمه، يتسمون بأنبيائهم.
فالمقصود أنهم يدلون بحجج وبشبهات، فيجب على الداعية الذي أرسل إليهم أن يكون عنده تسلح بالعلم وكشف الشبه التي قد يلقونها، وليس السبب أن اليهود والنصارى كانوا أغلب في اليمن، لا.
وعند المؤرخين أن الأغلب والأكثر هم العرب، وهؤلاء دخلاء عليهم.(22/18)
معنى العروة الوثقى
وقال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ رحمه الله: هو كالتوطئة للوصية، ليجمع همته عليها.
قوله: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله) (شهادة) رفع على أنه اسم (يكن) مؤخر، و (أول) خبرها مقدم، ويجوز العكس.
وقوله: وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري، وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة ألا إله إلا الله، فإن معناها توحيد الله تعالى بالعبادة ونفي عبادة ما سواه.
وفي رواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله)].
قوله: [العروة الوثقى هي: لا إله إلا الله] يعني: ما دلت عليه واقتضته.
ومعلوم أنها تدل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: الإسلام كله، وليس المعنى أنه من قالها فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولو لم يعمل، فإن هذا لا يفيد، ولهذا سيأتي أن القتال لا يكف عمن قالها إذا لم يعمل بفرائض الإسلام وشرائعه، فلو قال: (لا إله إلا الله) وهو لا يصلي، ولا يؤدي الزكاة، ولا يصوم، ولا يمتثل ذلك، ولا يحج فإنه يقاتل حتى يمتثل أمر الإسلام، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها).
يعني: بحق (لا إله إلا الله)، وكل الإسلام حق لها، لأن معناها الانتقال من دين إلى دين آخر، أي: ترك الدين الذي يكون عليه الإنسان والدخول في دين الإسلام، وهذا ما كان يفهمه الكفار تماماً، ولهذا مر معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل على عمه أبي طالب وهو في مرض الموت قال له صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله؟) فقال له جلساء السوء الكفار الذين عنده: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فهو يعلم أنه إذا قال هذه الكلمة خرج من ملتهم ودخل في ملة جديدة، وهي التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يجعلها العروة الوثقى، كون الإنسان يترك جميع الكفر والشرك ويتباعد عنه ويقبل على عبادة الله وطاعته وامتثال ما جاء به، وهذا هو العروة الوثقى.(22/19)
شروط (لا إله إلا الله)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفي رواية للبخاري: فقال: (ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله).
قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها: أحدها: العلم المنافي للجهل.
الثاني: اليقين المنافي للشك.
الثالث: القبول المنافي للرد.
الرابع: الانقياد المنافي للترك.
الخامس: الإخلاص المنافي للشرك.
السادس: الصدق المنافي للكذب.
السابع: المحبة المنافية لضدها].
هذه شروط لنفع (لا إله إلا الله)، ويكون قائلها ممن يسبق إلى الجنة.
الأول: العلم.
أن يعلم معناها فلا بد من ذلك.
والثاني: اليقين.
أي يتيقن من كون ما جاءت به وما اقتضته أنه حق، وهو دين الله الذي لا يجوز التردد والشك فيه.
الثالث: الصدق الذي ينافي الكذب في قولها.
فإذا قال لا إله إلا الله يكون صادقاً، وإلا لم يكن صادقاً بل كان منافقاً، ولا ينفعه قولها، فإن الله جل وعلا يقول: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] يشهدون ومع شهادتهم وكونهم يقولون: (نشهد إنك لرسول الله) يقابلونه ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله.
وهذا نفي للشهادة، ولو قالوا بألسنتهم وشهدوا وتكلموا وقلوبهم فارغة من ذلك فهم كذبة.
إذاً فلا بد من الصدق.
والرابع: القبول المنافي للرد.
كونه لا يرد شيئاً من الإسلام ولا يقبله.
والخامس: الانقياد المنافي للترك.
أن ينقاد ويستسلم لذلك، والانقياد معناه أنه يكون راغباً ذالاً لذلك، ولو قيل: إن حكم الله كذا وكذا فلا يتوقف فيه، ولا بد أن ينقاد له، فلا يكون مثل كثير من الناس إذا صار عليه حق من الحقوق وقيل له: نذهب إلى الشرع يقول: لا حتى تأتيني بجندي.
فهذا ليس إنقياداً في الواقع؛ لأنه يدله إلى الشرع.
والذي يدعى إلى الشرع يجب أن ينقاد، ولا يجوز أن يتوقف بحال من الأحوال، ولا يقول: ائتني بجندي.
فالحق لله في هذا، وإذا كان غير صادق فيتبين بالحجج، وإنما أنت تدعى إلى حكم الله فلابد من الانقياد.
السادس: المحبة المنافية للبغضاء.
أن يحب هذه الكلمة وما دلت عليه، ويغتبط بذلك.
والسابع: الإخلاص.
أن يخلص في القول والعمل لله جل وعلا، فلا يريد بذلك غير ولا يقصد بعمله غير الله.
ويضاف شرط ثامن لا بد منه، وهو الكفر بكل ما يعبد من دون الله، فلا بد أن يكفر بكل ما يخالفها، ولذلك يقول الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]، فيبدأ بالكفر بالطاغوت أولاً.
[وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب، ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وقال نوح عليه السلام: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:26]، وفيه معنى لا إله إلا الله مطابقة].
أي: مطابقة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فقوله (ألا تعبدوا) هو معنى (لا إله)، وقوله (إلا إياه) هو معنى (إلا الله) مطابق في المعنى، وهذا كثير في القرآن في دعوات الرسل كلهم، فكل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقوله: (اعبدوا الله) هو معنى (إلا الله)، وقوله: (ما لكم من إله غيره) هو معنى: (لا إله)، وهذا يرد في القرآن كثيراً، فدعوة الرسل واحدة من أولهم إلى آخرهم، وقول رسولنا صلى الله عليه وسلم للمشركين: (قولوا: لا إله إلا الله) هو معنى قول نوح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، هو معناه تماماً.(22/20)
منزلة الشهادتين من الدين
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان].
أي: يكون منافقاً.
والمنافق مسلم في الظاهر، بمعنى أنه تجري عليه أحكام الإسلام، ويعامل معاملة المسلم مع المسلمين من المناكحة والمعاملة وغيرها، وفي الباطن هو كافر أمره إلى الله جل وعلا، وإذا مات على نفاقه فهو في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، بل أشد عذاباً من الكفار، وذلك لأنه جعل مخافة الناس أشد من مخافة الله، وصار يفعل ويقول من أجل الناس لا يخاف الله، وأما في باطنه فهو يعتقد أن دين الإسلام باطل.
ولهذا إذا خلا وحده أو انفرد مع أصحابه بدأ بالاستهزاء والتهكم والكفر والسخرية وعدم المبالاة، وكذلك التخطيط والمؤامرة في تدمير الإسلام والمسلمين.
وهذا في الواقع من أضر الأمور على الإسلام والمسلمين، كونه يندس في صفوفهم من ليس على دينهم بل هو عدو لهم، وهو في الظاهر يظهر الموافقه، ولكنه في الباطن قد أبطن المنافقة والكفر، ولهذا لما ذكر الله جل وعلا أقسام الناس في أول سورة البقرة ذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ذكر الكافرين في آيتين، ثم ذكر المنافقين في بضع عشر آية، وذلك لشدة خطرهم، وكذلك لما ذكرهم في سورة المنافقين قال عنهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4] يعني: لهم مناظر جميلة وهيئة.
{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني إنهم عندهم فصاحة وعندهم لسان.
إذا قالوا قولاً أعجبك قولهم وسمعت له، ولكن داخلهم خبيث.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] لماذا شبهوا بالخشب المسندة؟ لأن الخشبة إذا أسندت صارت حملاً على غيرها، ولا فائدة فيها أصلاً، ومادامت الخشبة في شجرتها فهي تتحمل وتقوم بنفسها، وقد تنفع بظلها وغير ذلك، أما إذا قطعت وصارت خشبة مسندة فإنها تصير عبئاً على غيرها، وهكذا المنافق عبء على غيره لا خير فيه، ومع ذلك ذكرهم بالخوف والهلع: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4]، فإذا سمعوا شيئاً من حولهم خافوا، ولهذا يبادرون إلى تخطيطاتهم وإلى تنفيذها خوفاً من أن يأتيهم الضرر.
ثم قال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]، ثم بين جل وعلا أنهم لا يبالون بالأعمال الصالحة، ولا تهمهم ولا يلتفتون إليها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون:5] مستكبرين ومعرضين ومستهينين لا يبالون بذلك.
فالمقصود أن الله جل وعلا بين أوصافهم هنا بياناً شافياً، وكذلك في سورة التوبة، ولهذا سماها الصحابة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين حيث بينت أوصافهم، قالوا: لم يزل الله جلا وعلا يقول: ومنهم ومنهم ومنهم حتى تبين أمرهم جلياً.
والحاجة شديدة إلى معرفتهم، فهم مندسون بين صفوفنا بكثرة، ويجب على المسلم أن يتنبه لهم، فإنهم في الواقع ضرر عظيم جداً، ولهذا السبب أكثر الله جل وعلا من أوصافهم وجلاها وبينها حتى يكون المسلم على بينة منهم.(22/21)
كفر من لم ينطق بالشهادتين
[وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء.
اهـ].
يعني: إذا كان الإنسان يستطيع أن يقول: (لا إله إلا الله) ولم يقلها، وإن اعتقد في باطنه أن الإسلام هو الدين الحق، وإن أحب الإسلام في باطنه، ولكنه لم ينطق بهذه الكلمة وهو يستطيع فهو كافر ظاهراً وباطناً، وكذلك لو نطق بها، ولكن نطقه ليس عن علم، ولا عن يقين، ولا عن اقتناع بها، فإنه يكون منافقاً، ولا ينفعه ذلك في الآخرة، وإن منع ذلك عنه القتل، ولهذا لما غزا بعض الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ولاقوا عدوهم وصار بينهم القتال، وكان من الكفار رجل لا يترك أحداً من المسلمين إلا وأخذه يقتله، يغير من هنا وهنا ويقتل، فتبعه رجلان من المسلمين واحد من الأنصار والآخر من المهاجرين وهو أسامة بن زيد بن حارثة، فلما أدركاه ورفعا عليه السيف قال: (لا إله إلا الله) عند ذلك كف عنه الأنصاري، ولكن أسامة ضربه فقتله، فلما بلغ ذلك رسول صلى الله عليه وسلم عظّم الأمر، فجاء أسامة يقول: (يا رسول الله! إنما قال هذه الكلمة تعوذاً من السيف) يعني قالها لأجل أن يمتنع من القتل فقط، وإلا فهو كافر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلا شققت عن قلبه)، فلم يزل يكرر الأمر عليه ويعظمه حتى قال أسامة رضي الله عنه: (وددت لو أني لم أسلم قبل ذلك اليوم) يعني: مما سمع من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (كيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟)؛ لأنه إذا تكلم الإنسان بشيء فأمره إلى الله، ولا يدري ذلك حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعلم الغيب إلا ما علمه الله إياه، ولهذا قال: (ما أمرت أن أشق عن قلوب الناس)، ولما قيل له عن فلان: إنه منافق.
أو أنه ليس على ديننا.
قال: (أليس يشهد ألا إله إلا الله؟ قالوا: بلى يشهد.
ولا شهادة له.
قال: أليس يصلي؟ قالوا: بلى يصلي ولا صلاة له.
قال: أولئك الذين نهيت عن قتالهم) أي: إذا شهدوا وصلوا فقد جاء النهي عن قتالهم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] يعني: لا تقاتلوهم، ويوكل أمرهم إلى الله، فإن كانوا صادقين صارت بواطنهم -نياتهم ومقاصدهم- مثل ظواهرهم، فهؤلاء هم المسلمون حقاً، وإن كان ظاهرهم الموافقة فقط وباطنهم مخالف لما أظهروه فهؤلاء هم المنافقون، وسوف يأخذهم الله جل وعلا ولا يتركون، فالأمر على الظاهر في أحكام الدنيا، وهي تجرى على الظاهر، وليس للإنسان إلا ما يظهر، إلا إذا تبين خلاف الظاهر بالأدلة فنعم، أما إذا لم يتبين فيوكل باطنه إلى الله، ويعمل بما أظهر، إذا أظهر أنه موافق مسلم قبل منه ذلك، وإذا كان إذا خلا وحده في بيته أو في غير بيته يبارز الله جل وعلا بالكفر والمعاصي فهذا معناه أنه أسلم من أجل الناس ومن أجل الدنيا فقط.(22/22)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [23]
بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن داعياًً ومعلماً وقاضياً وجابياً، وأوصاه بوصايا عظيمة، وقد أخذ منها العلماء أحكاماً كثيرة وفوائد عديدة، فينبغي الحرص على فهم هذا الحديث والتفقه فيه.(23/1)
بعض العلماء لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو لا يعمل بما دلت عليه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفيه: أن الإنسان قد يكون عالماً وهو لا يعرف معنى (لا إله إلا الله)، أو يعرفه ولا يعمل به.
قلت: فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله تعالى!].
هذه من المسائل التي أخذت من الحديث السابق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (إنك تأتي قوم أهل كتاب) قال: (ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله)، وهذا معناه أنهم لا يعرفون شهادة ألا إله إلا الله وهم من أهل الكتاب وهم علماء، ولهذا يقول الشارح: [فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله]، وهو يشير إلى الذين يعبدون غير الله وهم يقولون: (لا إله إلا الله)، تجد أحدهم -مثلاً- يطوف بالقبر، ويستنجد بصاحبه، ويسأله كشف الكروب، ويسأله ربما غفران الذنوب، ويسأله إزالة الخطوب التي قد تقع، ويدعوه بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو يقول: (لا إله إلا الله)! فهذه مناقضة تمام المناقضة؛ لأن معنى (لا إله إلا الله): إبطال كل دعوة لغير الله جل وعلا، ومعناها أن الدين كله لله، وقوله لهذه الكلمة يكون مثل المستهزئ الذي يستهزئ بهذا القول؛ لأنه يأتي بفعله ما يناقضها، والفعل أبلغ من القول بغير شك، فلهذا لا يقع أحد من المسلمين في الاستنجاد بالأموات وسؤالهم إلا وهو مناقض لهذه الشهادة تمام المناقضة مهما كانت، سواءٌ سموا الاستنجاد والدعوة توسلاً أو شفاعةً أو محبةً للصالحين، أو غير ذلك من الأسماء التي يزينون بها الشرك، وإلا فهي شرك صريح أعظم من شرك مشركي العرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بدرجات، وذلك أن مشركي العرب ما كانوا يدعون الأصنام والأشجار والأحجار عند الكربات، وما يدعونها لكشف الخطوب، وإذا وقع خطب فإنهم يقبلون على الله جل وعلا يدعونه وحده، كما قال الله جل وعلا محتجاً عليهم: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] يعني أنهم يعتقدون أنه لا يكون ذلك إلا لله وحده، ويعلمون هذا تماماًَ.
ولهذا احتج الله به عليهم، بخلاف هؤلاء الذين يدعون المقبورين ويتجهون إليهم، عندما يقعون في الشدائد يخلصون الدعاء لهم، وينسون الله جل وعلا، وهذا لم يقع للمشركين الأولين، بل شرك هؤلاء أعظم بكثير من شرك الأولين، هذا وهم يقولون: (لا إله إلا الله)، والسبب في هذا أنهم ما علموا معنى (لا إله إلا الله)، ولا علموا معنى العبادة، ولا علموا معنى التأله، لا يعرفون ما معنى الإله، ويظنون أن الإله هو الذي يخلق ويرزق وهو الذي يدبر الكون فقط، وليس هو الذي تألهه القلوب وتدعوه وترجوه وتخافه وتحبه، ما عرفوا هذا، فلكونهم جهلوا اللغة العربية التي جاء بها القرآن وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقعوا في المتناقضات، ووقعوا في الشرك فهذا هو السبب.(23/2)
الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين
قال الشارح: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: شهدوا وانقادوا لذلك: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين.
قال النووي ما معناه: إنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك ألا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، وهذا قول الأكثرين.
اهـ].
ما الفائدة بكونهم مخاطبين بفروع الشرع؟ ليس هناك فائدة إلا زيادة عذابهم فقط، ومعنى مخاطبتهم بها أنهم يعذبون على ترك الواجبات، ويعذبون على فعل المحرمات، هذا معنى المخاطبة، أي: أنه إذا فعل محرماً أو ترك واجباً يكون مرتكباً لجريمة، ويدل على هذا قوله جل وعلا في ذكر الكافرين عندما سئلوا وهم في النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42]؟ كان الجواب {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43 - 46]، فذكروا أنهم ما يصلون، ولا يؤدون الزكاة، وكانوا لا يتركون محرماً إلا وفعلوه: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:45]، فبين بهذا أنهم يعاقبون على ترك الصلاة وترك الزكاة وغيرها، وأن هذا هو الذي سلكهم في سقر، وإن كان الأصل في هذا هو الكفر وعدم الإيمان، هذا هو الأصل، ولكنهم يعذبون على البقية.
أما كون الصلاة هي أعظم الواجبات بعد الإيمان بالله وشهادة ألا إله إلا الله فهذا تدل عليه أدلة كثيرة من الشرع، منها: أن الله جل وعلا قرن الصلاة بحقه في مواضع متعددة، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:2 - 3]، وقال في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، بدأ الأعمال بالصلاة وختمها بالصلاة، وكذلك في سورة سأل: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:19 - 23]، ثم ذكر أوصافهم وختمها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:24 - 35]، فهذا كله يدلنا على عظم الصلاة، حيث إنها تبدأ في ذكر الأعمال الصالحة ويختم بها ذكر الأعمال الصالحة.(23/3)
كفر تارك الصلاة
في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وهذا يدل على أن ترك الصلاة كفر، ولا فرق بين تركها كسلاً وتهاوناً أو تركها جحوداً وكفراً بها؛ لأن كل من جحد ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون كافراً، حتى سنية السواك، فإذا ثبت عند إنسان أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك وجعله سنة، ثم جحد ذلك فإنه يكون كافراً وإن جحد سنة، فلا فرق بين الشيء الواجب والشيء المسنون في الجحود، وإنما الكلام في التهاون والكسل، فالصلاة إذا تركها تهاوناً بها وكسلاً وعدم مبالاة فإنه يكون خارجاً من الدين -نسأل الله العافية- وكثيرٌ من الناس يتهاونون بالصلاة وللأسف، وبعضهم قد يصلي إذا فرغ من شغله، وبعضهم لا يصلي ولا يبالي، فالذي لا يصلي ليس بمسلم، ولا يجوز أن تكون زوجته مسلمة، وإن كانت عنده زوجة مسلمة فيجب أن تؤخذ منه ويفرق بينه وبينها؛ لأنه ليس كفؤاً لها، ولا يجوز أن يكون الكافر زوجاً لمسلمة، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يكون زوجاً لكافرة إلا ما استثني من أهل الكتاب.(23/4)
تعظيم قدر الصلاة
جاءت أحاديث كثيرة تدل على تعظيم الصلاة، منها قوله صلوات الله وسلامه عليه: (أول ما يحاسب عنه العبد الصلاة، فإن صلحت صلاة فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت لم ينظر في سائر عمله)، ومنها أنه صلاة الله وسلامه عليه كان في سياق الموت يوصي بها ويقول: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، والأحاديث في هذا كثيرةٌ جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الصلاة، فيجب على المسلمين أن يهتموا بها غاية الاهتمام، وألا يتهاون المسلم في شيء من صلواته؛ لأن الصلاة -كما جاء في الحديث- آخر ما يفقد من الدين، وإذا فقدت الصلاة فقد ذهب الدين كله، (أول ما يفقد من الدين الأمانة، وآخر ما يفقد الصلاة)، والأمانة ما كلٌ يستطيع القيام بها، وقد أخبر الله جل وعلا أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لأنه ظلوم جهول، لهذا السبب، وإذا اجتمع الظلم والجهل أصبح كل شر يحتمل أن يكون في شخص ظلوم جاهل لا يبالي ولا يقدر الأمور ولا ينظر في العواقب، فيجتمع عليه كل شيء، نسأل الله العافية.
والمقصود أن الصلاة أمرها عظيم جداً، ومن ذلك ما جاء في الحديث أن الله يسأل الملائكة الذين وكلوا بحفظ أعمالنا في الليل والنهار؛ لأنه يتعاقب جماعة منهم علينا بالليل وجماعة منهم بالنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا ويبقى الذين يريدون أن يبقوا في النهار حتى تأتي صلاة العصر، فإذا صعدوا سألهم الله جل وعلا وهو أعلم: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، والمشكلة إذا كانوا نياماً أو يلعبون فما الجواب؟ هذه مشكلة، أتيناهم وهم يلعبون.
أو تركناهم وهم يلعبون أو نائمون، وهذا في المصلين فقط، أما غيرهم فقد علم ماذا يكون مصيرهم عند الله جل وعلا.
والمقصود أن هذا يدل أيضاً على تعظيم الصلاة، ولهذا أمر بإقامتها في آيات كثيرة، وكلما جاء ذكر الصلاة يقول جل وعلا: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72]، وما جاء في القرآن (صلوا) أو (أدوا الصلاة)، بل (أقيموا)، فالإقامة يقصد بها أن يؤتى بها تامة بشروطها وما يلزم لها، لا مجرد قيام كل إنسان فيها؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، وإذا دخل في الصلاة فقد دخل على الله جل وعلا، وإذا رفع يديه عند التكبير وقال: (الله أكبر) يقول العلماء: هذا عبارة عن رفع الحجاب بينه وبين ربه، فإنه يخاطب ربه جل وعلا، فليتأدب مع الله وليحضر قلبه؛ لأن الله ينظر إليه ويسمع كلامه، وهو قريب منه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فعلى الإنسان أن يهتم بصلاته.(23/5)
مصارف الزكاة
قال الشارح: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية].
من الأصناف الثمانية الفقراء والمساكين، والمساكين صنف آخر، وقد اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين، فمنهم من يقول: إن المسكين أكثر حاجة.
ومنهم من يقول: الفقير أكثر حاجة.
والذين قالوا: إن المسكين أكثر حاجة يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس) وهذا معناه أنه ما عنده شيء.
واستدل الذين قالوا: إن الفقير أكثر حاجة بأن الله بدأ به، والله جل وعلا لا يبدأ إلا بما هو أهم، ولأنه جلا وعلا قال في سورة الكهف: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فأخبر أنهم مساكين ولهم سفينة، فدل على أن المسكين يكون عنده مال.
ولهذا قالوا: الفقير أشد حاجة.
فعرفوه وقالوا: الفقير الذي لا يجد شيئاً، والمسكين الذي يجد نصف الكفاية.
مثلاً نصف كفاية السنة، وأما الفقير فهو الذي لا يجد إلا أقل من ذلك.
والعاملون هم الذين يعملون على الزكاة، فمن أرسلوا لجباية الزكاة وأخذها من أصحابها فإنهم يعطون أجر عملهم من الزكاة.
وقوله: ((وفي سبيل الله)) يعني: في الجهاد.
يشتري بالزكاة أسلحة، وكذلك يشري بها ما يحمل الناس، ويعطى منها الذين يجاهدون.
وقوله: ((وابن السبيل)) يعني: المسافر الذي يترك بلده ويسافر وتنقطع نفقته أو تقل.
فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده، فيعطى منها الشيء الذي يوصله.
وقوله: ((والغارمين)) الغارم هو الذي يتحمل الأموال في سبيل الإصلاح وغير ذلك.
والمؤلفة قلوبهم هم رؤساء الكفار، وهذا خاص بهم فقط، ولا يجوز إعطاء كافر من الزكاة إلا هؤلاء، فإذا كان للكفار رؤساء ولو أسلموا أسلم بهم ناس كثير فإنهم يعطون منها تأليفاً لهم وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام.
(وفي الرقاب): أي: يشترى الرقيق من مالكيهم ويعتقون من الزكاة.
فهؤلاء هم أهل الزكاة.(23/6)
من أحكام صرف الزكاة
قال الشارح رحمه الله: [وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع من أدائها إليه أخذت منه قهراً].
هذا يدل عليه حديث فيه أن الإمام من المسلمين هو الذي يأخذ الزكاة أو نائبه الذي ينيبه، ثم إذا أخذها فقد برئت ذمة صاحبها.
[وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد.
وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني، ولا إلى كافر غير المؤلَّف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور؛ لعموم الحديث].
الحديث يدل على أن الزكاة لا تجوز للغني، ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا هو الذي تولى قسمة الزكاة بين الأصناف الثمانية، فلا يجوز أن يتعدى المسلم بزكاته أحد هذه الأصناف.
أما كونه يجوز أن يدفع الزكاة لصنف واحد منها فقد أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (فأخبرهم أن الله جلا وعلا افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، والفقراء صنف واحد من أصناف الصدقة؛ فإن الله جل وعلا قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ثم عطف عليهم بقية الثمانية.
وكونها لا تجوز لكافر فقوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فالضمائر تعود على المسلمين، فالكافر لا تؤخذ منه الصدقة، وكذلك لا يعطاها، ولكن خص من ذلك الكافر الذي يتألف لدخوله في الإسلام، وليس كل كافر، وإنما الرؤساء الذين إذا أسلموا أسلم بإسلامهم أناس كثير؛ لأن الله جل وعلا يقول في الآية: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] يعني أنهم يعطون ولو كانوا كفاراً تأليفاً لهم وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام.
قال الشارح: [والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين، وبالعكس كنظائره كما قرره شيخ الإسلام].
يعني أنه إذا قيل: (الفقير) دخل فيه المسكين، وإذا قيل: (المسكين) دخل فيه الفقير، أما إذا اقترنا كما في الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] فكل واحد يفسر بنوع من أنواع الناس، ولا يكون هذا داخلاً في هذا، فيكون هذا مثل الإيمان والإسلام، فإذا جاء أحدهما دخل فيه الآخر، أي: إذا جاء مفرداً دخل فيه الآخر، كقوله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فهذا يدخل فيه الإيمان كله، أما إذا اجتمعا -كما في حديث جبريل- فإن لكل منهما معنىً، فإنه سأله عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة التي تكون في القلب، وهكذا الفقير والمسكين، وهذا له نظائر في لغة العرب.(23/7)
حرمة أخذ كرائم أموال الناس عند قبض الزكاة
قال الشارح: [قوله: (وإياك وكرائم أموالهم) بنصب (كرائم) على التحذير، جمع كريمة، قال صاحب المطالع: هي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف، ذكره النووي.
قلت: وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً].
الكرائم لا يجوز أن تؤخذ في الزكاة؛ فإنه ظلم، وإنما المتعين أن يؤخذ من الوسط، لا يؤخذ من نفائس الأموال وخياره، ولا من شراره وأردئه، وهذا يكون في الأموال إذا كانت حبوباً أو ثماراً أو كانت ماشية، أما إذا كانت من الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما فهذا غالباً لا يكون فيه تفاوت.
قال الشارح: [وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال، بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.(23/8)
التحذير من الظلم
قوله: (واتق دعوة المظلوم) أي: اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم.
وهذان الأمران يقيان من رُزِقَهُما من جميع الشرور دنيا وأخرى.
وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.
قوله: (فإنه -أي: الشأن- ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي: فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها.
وفي الحديث أيضاً قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به، وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمر بتقوى الله تعالى، ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم بسوء عاقبته، والتنبيه على التعليم بالتدرج، قاله المصنف.
قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم].
قوله: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فسر عدم الحجاب بأنها تقبل، فالمظلوم إذا دعا أجابه الله جل وعلا.
والتقوى المقصود بها مخافة الله وإقامة العدل، فإذا كان الإنسان يخاف ربه جل وعلا فإنه يفعل المأمور ويترك المحذور، فمن رزق ذلك فإنه يكون عنده وقاية تقيه من عذاب الله جل وعلا.
ومن أسباب العذاب العاجل -وليس الآجل- الظلم، والظلم أنواع: قد يكون بأخذ الأموال، وقد يكون بالاستطالة في الأعراض، وقد يكون بالاحتقار والازدراء، أي أنه قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول، وقد يكون بغير ذلك، فالواجب على العبد أن يتقي ربه، وألا يرى نفسه فوق الناس وأحسن من الناس، فإنه إذا رأى نفسه بهذه الصورة فإنه يزدري كثيراً من الناس ويظلمهم، سواءٌ بالفعل أو بالقول، ومعلوم أنه ليس كل أحد يستطيع الظلم بالفعل، وإنما يستطيع ذلك من كان بيده شيء من أمور المسلمين العامة، ولو لم يكن الأمر له فيه استقلال، فإنه إذا كان بهذه المثابة استطاع أن يظلم، فيظلم نفسه أولاً بعدم أداء الواجب، ثم يظلم عباد الله لعدم قضاء الأمور التي أنيطت به، والسبب في هذا عدم مخافة الله جل وعلا، ثم كونه لا يتقي أسباب العذاب الذي سوف يكون عاجلاً.
وقد يقول قائل: إننا نرى كثيراً من الناس يظلمون وما رأينا عذاباً عاجلاً يصيبهم! ف
الجواب
جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) يملي له ليزداد عذابه، ما يملي له لأنه ترك معاقبته، بل ليزداد عذاباً، ولكن لو رجع وتاب إلى الله فإن الله تواب رحيم جل وعلا، ولهذا ذكر في كتابه المشركين ثم عرض عليهم التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} [المائدة:74]، يقول لهم هكذا: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} بعدما ذكر طغيانهم مما يدل على كرمه وجوده جل وعلا.
فالمقصود أن الظلم سبب عاجل للعذاب، وإذا وقع الظالم في شدة لم يفلت منها، فيأخذه الله جل وعلا أخذاً قريباً جداً، ومهما امتد به العمر أو فسح له في الأجل فهو قريب، وإذا أخذه لم يفلته، فأخذ الله أليم شديد جل وعلا.(23/9)
معنى قوله: (ليس بينها وبين الله حجاب)
فسر قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) بأنها تستجاب، وهذا مقتضى سياق الحديث؛ لأنه لما قال: (اتق دعوة المظلوم) أردفه بقوله: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وتقوى دعوة المظلوم.
بأن يجتنب الظلم ويتقي الله جل وعلا، وليس معنى ذلك إبطال الحُجُب لله جل وعلا، فقد ثبت أن لله حُجُباً يحتجب بها عن خلقه، وهي مما يجب الإيمان به، ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وقد سأل أبو ذر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء فقال له: هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنى أراه؟)، وفي رواية: (رأيت نوراً) يعني أنه رأى الحجب التي أخبر عنها بقوله: (حجابه النور)، والله جل وعلا لا أحد يراه في الدنيا، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الدجال الكذاب الأكبر الذي سيخرج ويزعم أنه رب الناس، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: (واعلموا أن أحداًَ منكم لن يرى ربه حتى يموت)؛ لأن تركيب الخلق كلهم في هذه الحياة الدنيا تركيب ضعيف، ما يستطيع أحد أن يقوم برؤية الله جل وعلا، فإنه لو كشف الحجاب لأحرق نور وجهه وبهائه وجماله كل الخلق، كما قال: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره)، وسبحات وجهه أي: بهاؤه وجماله جل وعلا.
فالحجب ثابتة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حجب حقيقية يجب الإيمان بأن الله جل وعلا احتجب بها عن خلقه.(23/10)
رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
في يوم القيامة يكشف الله هذه الحجب، فينظر إليه عباده المتقون الأبرار فيرونه، يرون وجهه جل وعلا، وهو أعلى نعيمٍ في الجنة، وقد جاء هذا متواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في القرآن، يقول جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله جل وعلا، ويقول جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فهؤلاء المحجوبون عن الله هم الكفرة والفجرة، فإذا حجب الفجرة والكفرة فإن المؤمنين والمتقين يرون ربهم ولا يحجبون عنه.
ويقول جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فـ (ناضرة): بهية جميلة، ظهر بهاؤها ونعيمها.
فهي ناضرة من (النضرة)، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) من النظر، فهي تنظر إلى الله جل وعلا، فهذا أعلى نعيم لأهل الجنة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الصحابة سألوه فقالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضامون في القمر ليلة البدر -يعني: ليلة أربع عشرة- ليس بينكم وبينه حجاب؟ قالوا: لا.
قال: فإنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)، فهذا كلام واضح جلي، ولو تكلف أحد من الناس أن يأتي بكلام أبلغ من هذا وأوضح منه وأفصح منه ما استطاع، فالذي ينكر الرؤية بعد هذا قد ضل.(23/11)
خطر مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام
من ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خطر عظيم، بل يجوز أن يكون في جهنم، فقد جاء ما يؤيد هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في قصة فتح خيبر قضيتان كلاهما تؤيد هذا: الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة قال لمن معه: (من كان معه بعير ضعيف أو صعب فليرجع) يعني: من كان معه بعير ضعيف أو صعب لا يستطيع أن يتحكم به فليرجع.
فأبى رجل كان معه بعير صعب أن يرجع، فشرد به فسقط فاندق عنقه، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقال: (ماله؟ قالوا: كان على بعيرٍ صعب.
فقال لـ بلال: ألم آمرك أن تؤذن في الناس: من كان معه بعير ضعيف أو صعب فليرجع؟ فقال: بلى.
أذنت فيهم.
فقال: لا أصلي عليه.
ثم قال: لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الثانية: لما حضر القتال مع اليهود في خيبر صف أصحابه وقال: (لا يقاتلن أحد منكم حتى آمره)، فخرج يهودي ليبارز فانتدب له واحدٌ من المسلمين فقتله اليهودي، فقالوا: شهيد.
فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (هل قتل بعد ما قلت: لا يقاتلن أحد؟ قالوا: نعم.
قال: لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكيف إذا جاء أمر صريح واضح جلي وخالفه مسلم؟! فإنه على خطر عظيم، فالأمر ليس سهلاً، وكثير من الناس يتساهل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب على المسلم أن يعظّم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أمر أي أحد من الخلق، وأن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وإلا فهو على خطر عظيم، فكيف بالذي يخالفه صراحة وعناداً لأجل أن مذهبه لا يتبنى هذا القول فقط؟ فمعنى ذلك أنه قدم إمامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان كذلك يجوز أن يذهب به يوم القيامة إلى جهنم ويقال له: اتبع ما كنت تعظمه.
ففي يوم القيامة كل من كان يتولى شيئاً يؤتى به فيساقان معاً إلى جهنم.
قوله في هذا الحديث: (إنه ليس بينها وبين الله حجاب) معناه: إن الله قريبٌ سميعٌ، إذا دعاه المظلوم استجاب دعوته.
وأوقع في الظالم هذه الدعوة التي صدرت من المظلوم.
وهذا يدلنا على أن الظلم وإن كان قليلاً فإن الله يستجيب للمظلوم؛ لأن كون الساعي الذي أُمر بأخذ الصدقة يأخذ شاة حسنة جميلة وقد أمر أن يأخذ شيئاً متوسطاً، فهذا أظلم والفرق ليس كثير، فيمكن أن الفرق شاة فقط؛ لأن بعض الشياه تساوي اثنتين، فكون مثل هذا ظلم، مع أنه لا يأخذها لنفسه وإنما يأخذها للفقراء، ومع ذلك يكون ظالماً يستحق أن الله يستجيب لمن أُخذ منه ذلك ويوقع به عقابه، فكيف بالذي يظلم الناس ظلماً صريحاً ليس له فيه شبهة؟ فهذا أحق بأن يعاقب، وأحق بأن يُجاب للمظلوم عليه، وهذا في الواقع محاربة لله جل وعلا، ومن يحارب الله فإن الله يغلبه تعالى الله وتقدس.(23/12)
سبب عدم ذكر الصوم والحج في حديث معاذ
قال الشارح: [واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: أجاب بعض الناس أن بعض الرواة اختصر الحديث، وليس كذلك؛ فإن هذا طعن في الرواة؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد، مثل حديث وفد عبد القيس، حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيهما كذلك.
ولكن عن هذا جوابان: أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله تعالى الشهادتين، ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم، فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه.
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان، بخلاف الصوم فإنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم وأن يأكل سراً، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو صلى الله عليه وسلم يذاكر الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها.
ويصيرون مسلمين بفعلها].
لا يصلح أن يقال: (يذاكر)؛ فالرسول لا يذاكر أحداً، والمعنى: يذكر لهم الأعمال التي يقاتل عليها.
قال الشارح رحمه الله: [فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم وإن كان واجباً، كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس، وكذلك لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة.
انتهى بمعناه.
وقوله: (أخرجاه) أي: البخاري ومسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].(23/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [24]
لقد أثنى الله جل وعلا على الصحابة في كتابه ثناء كثيراً، وشهد لهم بأنهم مؤمنون متقون سابقون، وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المناسبات التحذير من بغض أصحابه وسبهم وتنقصهم، وبين أن الذين يبغضون الصحابة هم في الأصل يبغضونه صلى الله عليه وسلم ويبغضون ما جاء به من عند الله تعالى.(24/1)
حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)
قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها.
فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه.
فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (يدوكون) أي: يخوضون].
هذا الحديث كسابقه في الصحيحين.
قوله: (لهما) أي: للبخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يشتكي عينيه -أي أرمد- فأرسل إليه فأتي به يقاد، فبصق في عينيه فبرأ، ثم دفع إليه الراية وقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفسر المؤلف (يدوكون) بـ (يخوضون).
غزوة خيبر وقعت في أول السنة السابعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب لعمرة الحديبية في السنة السادسة في ذي القعدة ورجع في ذي الحجة، فحال المشركون بينه وبين دخول مكة أنفة وحمية، وقد ساق الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاً كثيرة يريد أن ينحرها عند البيت هدياً، فأبوا أن يدخل مكة، فحصل صلح بينه وبينهم بأن توضع الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنوات، فحصلت مهادنة وكتبوا الصلح، وفي هذا الكتاب: من أراد أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل -أي: من قبائل العرب- ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل.
فدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض القبائل القريبة من مكة، وهم خزاعة، وبعضها دخل مع قريش وهم بنو بكر، ثم بعد انقضاء كتابة الصلح ورجوعه إلى المدينة أنزل الله عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] إلخ السورة، وفيها وعد الله جل وعلا للمسلمين بغنائم يأخذونها، وأنه عجل لهم هذه -لغنائم أشار إليها- فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الغنائم هي غنائم خيبر، وأنها قريبة، وأمره الله جل وعلا ألا يخرج معه إلا من حضر الحديبية، ولهذا لما خرج من المدينة أبى على الأعراب الذين جاؤوا يستأذنونه للخروج معه لأمر الله جل وعلا، يقول ابن إسحاق: فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بقية ذي الحجة عشرين يوماً وأول المحرم، ثم خرج إلى خيبر، وكانت حالتهم ضعيفة، حتى إن بعض اليهود الموجودين في المدينة لما علموا بذلك صاروا يتعلقون بكل من لهم عليه دين حتى لا يخرج، وحصلت أشياء من هذا القبيل ذكرت في الأحاديث والسير، وكل ذلك ليمنعوا من يستطيعون خروجه إلى أصحابهم.
وكان اليهود بالعكس عندهم قوة واستعداد، وقد كانوا يتدربون لما سمعوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم، فصاروا كل يوم يخرجون ألفاً منهم يتدربون على القتال والسلاح الذي معهم، وكانوا يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع لهم لكثرتهم؛ لأنهم يبلغون أضعاف أهل المدينة، وهم أقوياء، ولهم أيضاً حلفاء وهم غطفان.
فوصل الرسول صلى الله عليه وسلم قرب خيبر بعد العصر، فأمر بالأزواد أن يؤتى بها فلم يوجد إلا السويق، فجئ بالسويق فعجن بالماء فأكل من أكل، وكان عندهم عوز شديد، ثم قال للأدلاء: من الذي يذهب بنا فنأتي خيبر من جهة الشام حتى نحول بينهم وبين حلفائهم.
وذكر القصة، وأنه قاتل أول يوم وثاني يوم وثالث يوم.(24/2)
قصة فتح خيبر
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرمد، وقد تخلف في المدينة، ثم بعد ذلك لام نفسه وقال: كيف أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج وهو أرمد راكباً، وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: ما كنا نرجو أن يأتي علي، فلما كانت تلك الليلة إذا هو قد جاء وعيناه لا يرى بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد مضي بعض الأيام في القتال: (لأعطين الراية غداً)، وهذا يدلنا على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم راية، وقد جاء أن الراية اتخذت في تلك الغزوة، وأنها سوداء، وأنها من ثوب لـ عائشة رضي الله عنها، وأنه مكتوب فيها: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وجاء أن له لواء أيضاً، وأن لواءه أبيض، وقد تعددت الرايات في تلك الغزوة، حتى صار للأنصار راية ولغيرهم راية، فعندما قال هذه المقالة وهي بشرى، والمسلمون بحاجة إلى الفتح حاجة شديدة؛ لأنهم بأمس الحاجة إلى الطعام، ثم قد أصيبوا بالحمى الشديدة؛ لأن خيبر كانت موبوءة، وهم نزلوا في أرض رطبة بين أشجار نخيل، فأكلوا من بعض الثمار الرطبة الطرية فأصيبوا بالحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يبردوا الماء بالقرب، فإذا كانوا بين صلاة المغرب وصلاة العشاء أفاضوه على أنفسهم، فشفوا بسبب ما وصف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان هذا الخبر مفرحاً جداً؛ لأنه قال: (يفتح الله على يديه)، فالفتح يفرحهم، ولكنهم نسوه اشتغلوا عنه بما هو أهم عندهم منه، واشتغلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الرجل: (يحبه الله ورسوله)، أما كونه يحب الله ورسوله فهذا وصف للمسلمين كلهم، فالمؤمنون يحبون الله ورسوله، فلا فرق بين واحد وآخر في ذلك إلا تفاوت المحبة على حسب تفاوت الإيمان وقوته، وإنما الشأن عندهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، ومعلوم عند الصحابة أن الله يحب المؤمنين ويحب المتقين، وكذلك رسوله، فقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في آيات كثيرة في القرآن، ولكن سبب حرصهم على هذا أن الرجل عين بعينه، وكل يحب أن يعينه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بمحبة الله أو الشهادة له بالجنة؛ لأن الإنسان لا يثق بعمله مهما كان اجتهاده، ومهما كانت قوة إيمانه، فإنه يجوز على الإنسان أن يخالف بعض المخالفات فيبطل عمله، أو أن الله جل وعلا يرد عمله ولا يقبله، قال عبد الله بن عمر: لو أعلم أن الله تقبل مني حسنة لتمنيت الموت؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
فإذا شهد للإنسان بالتقوى وتيقن ذلك أحب أن يلقى الله على هذه الصفة، فلما سمعوا هذا الكلام فمن شدة حرصهم على الخير ورغبتهم فيما عند الله صار كل يتطلع إلى أن تدفع إليه الراية، وجاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم.
وقال: لقد رأيتني أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أتطاول لعله يراني فيدفع إلي الراية.
ما هو لأجل أن يكون قائداً، أو يكون أميراً، بل لأجل هذا الخبر، أنه (يحبه الله ورسوله)، وكلهم أراد هذا، وهذا دليل واضح على مسابقة الصحابة رضوان الله عليهم إلى ما يحبه الله ورسوله، وإلى ما وعد الله جل وعلا به في الآخرة، وعدم رغبتهم في الدنيا، هذه صفتهم رضوان الله عليهم.(24/3)
ثناء الله على الصحابة والتحذير من بغضهم وسبهم
وقد أثنى الله جل وعلا على الصحابة في كتابه ثناءً كثيراً، وشهد لهم بأنهم مؤمنون ومتقون وسابقون، وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، وليست السيما التي تكون في الجبهة مختلفة اللون عن لون الجلد، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود بالسيما أثر الخشوع والذل والخضوع والنور الذي يعلو وجوههم من الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر الله جل وعلا نبيه بأنه سيأتي من يسب أصحابه ويلعنهم، فروي عنه أنه قال: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره) يعني: علم في ذلك.
وإن كان العلم يجب أن يظهر دائماً، ولكن عند الحاجة يتعين أكثر.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من بغضهم ومسبتهم وقال (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وهذا هو الواقع، فالذين يبغضونهم إنما يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يجرؤون أن يصرحوا بأنهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصبون البغض على الصحابة، وإلا فالواقع أن البغض يقع للرسول وللإسلام؛ لأن الواسطة بين الأمة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، فهم الذين نقلوا الإسلام إلينا، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا -كما يزعم الضلال- كفرة مرتدين أصبحنا نحن ضالين؛ لأننا أخذنا ديننا عن كفار، وهذا هو المقصود من الطعن فيهم، فهذا شيء من صفتهم.
وتوجد أشياء كثيرة يجب على المسلم أن يتعرف عليها، فالمسلم اليوم يغزى من كل مكان، وتدبر له المؤامرات لصده عن دينه، فيجب عليه أن يتعرف على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة من كان يناصره ويواليه ويقاتل بين يديه بأمر الله جل وعلا ويبذل ماله ونفسه حتى أظهر الله جل وعلا هذا الدين، فيتولى الصحابة، ويصبح ممتثلاً أمر الله في قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فيجب أن يكون المسلم بهذه الصفة وعلى هذا النهج الذي بينه الله جل وعلا، وإلا فهو على خطر عظيم، وقد يكون ممن كفر بالله جل وعلا، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يقول الإمام مالك رحمه الله: من غاضه شأن الصحابة فهو كافر؛ لقوله جل وعلا: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
وهو شيء ظاهر من الآية.(24/4)
حرص الصحابة على الخير
لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (لأعطين الراية غداًَ رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) باتوا يدوكون ليلتهم، وما ناموا، ومعنى (يدوكون) يخوضون ويتساءلون: من ترون سيعطاها؟ ومنعهم ذلك من النوم، فصاروا يشتغلون بهذا، وكل واحد يرجو أن يكون هو الذي تدفع إليه، فنسوا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، ثم لما غدوا إليه في الصباح كان كل واحد عنده أمل أن تدفع إليه الراية حتى يكون هو الذي يحبه الله ورسوله، ولكن لم تحصل لواحدٍ من الحاضرين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟) يسأل عنه، وهذا يدلنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وما عرف أن علي بن أبي طالب كان أرمد يشتكي عينيه، ولهذا سأل عنه: أين هو؟ واستبعد أن يكون ليس في الحاضرين، ولكن غاب لسبب، فأخبروه فقالوا: هو يشتكي عينيه.
فأرسل إليه، وفي صحيح مسلم أن الذي ذهب وجاء به هو سلمة بن الأكوع، جاء به يقوده وهو لا يرى شيئاً؛ لأنه أرمد العينين، فأحضره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفل في عينيه فزال الألم، وصار ينظر كأحسن ما يكون، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعد تفلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشتك عيني، ولم أشتك الصداع.
ما أصيب بمرض العينين ولا مرض الصداع لبركة تفلة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه، فتفل في عينيه ودعا له فبرأ وزال عنه المرض، وهذه علامة من علامات النبوة، وآية من آيات الله، وإلا فغير النبي صلى الله عليه وسلم لو تفل في عين إنسان أرمد لزاد مرضه، وكذلك كونه أخبر بأنه يفتح الله على يديه، وهذه بشارة وعلم آخر من أعلام النبوة.(24/5)
الدعوة إلى الله قبل القتال
لما برأ علي دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم الراية وقال له: (امض على رسلك) يعني: على تؤدة وسكينة بغير عجلة ولا صراخ ولا صياح (حتى تنزل بساحتهم -وفي رواية ولا تلتفت-) حتى يكون هذا دليل التصميم وقوة العزيمة وعدم النكوس، ولهذا لما أخذ علي رضي الله عنه الراية وسار قليلاً وقف فصرخ: علام أقاتلهم يا رسول الله؟! فقال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم، فإذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) أي: من حق الله في الإسلام.
وهذا هو المقصود في القتال والدعوة إلى الله جل وعلا، من أجل أن الكفار يدخلون في الإسلام ويعرفون حق الله الذي عليهم، وهو ما ذكر في الحديث الذي قبل هذا، أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا، ويحجوا، هذا هو المطلوب منهم، فإذا امتثلوا ذلك واستجابوا له وجب الكف عنهم، وصاروا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فيترك المجاهدون أموالهم وبلادهم، ولا يجوز أن يتعرضوا لهم بشيء، وفي هذا دليل واضح على وجوب الدعوة إلى الله جل وعلا، وأن الدعوة تكون إلى الإسلام أولاً، إلى الأصول، إلى شهادة ألا إله إلا الله كما سبق، ولهذا قال: (ادعهم إلى الإسلام)، ولا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً حتى يشهد ألا إله إلا الله، وقبل أن يشهد ألا إله إلا الله فإن صلى وتصدق وعمل أي عمل من أعمال البر ما يقبل منه، ولا يعتد به حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وفي هذا دليل على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يجب أن يدعوا إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا بد أن يشهدوا أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، بالإضافة إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهكذا كل من كان يدين بدينٍ قد اتخذه مصدر ديانة وتمسك به وزعم أنه هو الحق، فلابد أن يبرأ منه مع شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن هنا ما ذكر ذلك لأسباب، منها: أن اليهود علموا علماً يقينياً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومع ذلك ما اكتفى صلوات الله وسلامه عليه بأن يقاتلهم دون دعوة، بل دعاهم قبل المقاتلة، وهذه الدعوة التي تكون قبل المقاتلة قال العلماء فيها: إنها ليست حتماً واجباً على الإمام قبل المقاتلة إلا إذا لم تبلغهم الدعوة، أما إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فيجوز مداهمتهم وأخذهم على غرة، وقتل من يقاتل منهم، وسبي الأموال والذرية، ثم بعد ذلك إذا أسلم من أسلم منهم فهو في حكم المماليك.
والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون -أي: غافلون- يسقون على مياههم، فما علموا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دهمهم وأغار عليهم، وقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم وذريتهم؛ لأن الدعوة قد بلغتهم، وكان قد بلغه أن رئيسهم يجمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مقاتلته، فباغته الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه التي سنها لأمته، إذا علم أن قوماً يستعدون لقتاله فإنه يغزوهم في بلادهم قبل أن يغزوه؛ لأن الذي يغزى في بلاده يذل، وفي الأثر: (ما غزي قوم في بلادهم إلا ذلوا)، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله.
وقوله: (حتى تنزل بساحتهم) الساحة: هي الفناء القريب من البيوت.
حيث يسمعون الكلام ويتحققونه إذا دعاهم وكلمهم، فأمره ألا يكلمهم حتى يكون قريباً منهم ليتحققوا كلامه، وأنه لا يبدأهم بالقتال، بل يدعوهم أولاً إلى الدخول في الإسلام، وأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويخبرهم بما هو حق لله عليهم في الإسلام، وهو ما ذكرنا من وجوب الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، وغير ذلك مما هو فرض متعين، وهذه الأمور الخمسة هي أركان الإسلام التي لا بد منها، ثم إن مما يخبرهم به أنهم إذا قبلوا ذلك فإنه يكف عنهم، ويتركهم وبلادهم وأموالهم، ولا يكون له عليهم من سبيل.(24/6)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [25]
حديث سهل بن سعد في بيان (لا إله إلا الله) والدعوة إليها حديث عظيم، جمع من أخلاق التعامل مع الأعداء ومن الفضائل الشيء الكثير، وفيه بيان فضل هداية الناس ودعوتهم، وأن هداية الناس إلى الدين ليست أمراً سهلاً؛ فعلى الإنسان عندما يدعو الناس إلى الله أن يستحضر ما في ذلك من الفضل والأجر العظيم.(25/1)
حديث: (لأعطين الراية) في بيان الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه.
فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه.
فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه ودعا له.
فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) يدوكون: أي: يخوضون].
مضى الكلام على هذا الحديث، وبقي قوله: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، والحديث سيق من أجل وجوب الدعوة إلى الإسلام وإلى توحيد الله جل وعلا.
ولا شك أن الله جل وعلا كلف عباده بعبادته، ومن عبادته جل وعلا الدعوة إليه، بل هذا من أفضل العبادة، كون الإنسان يدعو إلى الله على بصيرة.
ولا يكون الإنسان له نصيب وحظ من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ شيئاًَ مما كان يتحلى به صلوات الله وسلامه عليه من الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فأتباعه كذلك يدعون إلى الله على بصيرة، أما الذي يتخلى عن الدعوة نهائياً فليس من أتباعه في الحقيقة، وإن كان من أتباعه في الظاهر؛ لأن أتباعه في الحقيقة هم الذين يناصرونه في دعوته ويترسمون خطاه.
وقوله هنا: (انفذ على رسلك) مضى أن هذا يدل على أن المسلم يكون عنده الطمأنينة والسكينة وعدم الخوف من الخلق؛ لأنه يكون واثقاً بوعد الله جل وعلا وبنصره، ولأنه متيقن أنه يحصل على إحدى الحسنيين، إما النصر والتأييد في الدنيا والظفر، وإما الشهادة والفوز بها عند الله جل وعلا.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يستبشرون بأن يفوز أحدهم بالشهادة، فإذا قتل أحدهم قالوا: هنيئاً لك الشهادة، وإذا حصل لأحدهم شيء من هذا القبيل قال: فزت ورب الكعبة.
فكانوا يتمنونها ويطلبونها؛ لأنهم واثقون بوعد الله جل وعلا، فلهذا لا يكون عنده طيش، ولا يكون عنده خوف، وإنما يكون على تؤدة وبأدب وسكينة، ولهذا قال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم)، وساحة القوم: هي ما يقرب من أفنية بيوتهم، فناء البيت الذي أمامه قريباً منه، بمعنى أنك تصل إليهم حتى تسمع كلامهم ويسمعون كلامك حينما تدعوهم، فتسمعهم وتسمع جوابهم وما يردون عليك.(25/2)
شهادة أن لا إله إلا الله مفتاح الواجبات
ثم قال: (ثم ادعهم إلى الإسلام)، والدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كما مضى، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا بهذا، وإن كان من مثل هؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل علم وأهل كتاب، فلا بد أن يدعون إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسوله الله، ومضى أن معنى شهادة ألا إله إلا الله: العلم اليقيني الذي يكون في القلب ثم يتلفظ به اللسان؛ لأن الله جل وعلا هو المعبود وحده، وأنه لا يتوجه بعبادته قلباً وقالباً إلا إلى الله وحده -تعالى وتقدس-، ثم يلزم على هذا أن يأتي بكل ما كلفه الله جل وعلا وفرضه عليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يقصده صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (وأخبرهم، بما يجب عليهم من حق الله فيه)، فهذه الشهادة إذا تشهدوها وقالوها يخبرهم بالواجب الذي يكون عليهم، والواجب الذي يكون عليهم بعد أداء هذه الشهادة والعلم بها والارتباط بها ومحبتها وقبولها والاستسلام لها والانقياد لها أن يقيم الصلاة، ويؤدي الزكاة المفروضة طيبةً بها نفسه، راجياً ثواب الله، خائفاً -لو منعها- أن يعاقبه الله جل وعلا.
وكذلك الصوم، أن يصوم رمضان، ويحج إلى بيت الله الحرام في عمره مرة، هذا هو الحق الذي يجب على من دخل في الإسلام، أما ما عدا ذلك فليس بواجب، إنما هو تطوع، فإذا جاء به فإنه يكون له الثواب عند الله جل وعلا، الحسنة بعشر أمثالها، وإن لم يأت به لا يطالب ولا يعاقب، بشرط أن يأتي بهذه الأمور الخمسة شاملة غير منقوصة، فإن نقص منها شيء فأمره إلى الله جل وعلا يحاسبه على ذلك، إن شاء عفا عنه وإن شاء أخذه به.
أما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا بد منها لكل من يدخل الإسلام، ولا بد من العلم بها والعمل بمقتضاها، ولا يجوز أن يجهلها المسلم، فإن جهلها فاللوم عليه، وهو غير معذور؛ لأن الله جل وعلا أرسل رسوله بها صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل كتابه شارحاً لها ومبيناً لها، فيجب على المسلم أن يتعرف على ذلك، على أمر الله فيها، ولا يسعه الجهل في ذلك، فالذين يصدون عن مقتضى ذلك ويأتون بما يناقضه من كونهم يعبدون أمواتاً لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ويتوجهون إليهم بالدعاء، والاستغاثة بهم وطلب الحاجات، ويطلبون النصر على الأعداء منهم فإن هذا يناقض شهادة ألا إله إلا الله تمام المناقضة، وإذا زعم أنه وجد الناس على هذا وما وجد من يبين له فالجواب أنه معرض عن دين الله، ولا يلزم الإنسان أن يأتيك ليبين لك، بل أنت يلزمك أن تتعرف على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كلفك الله به من عبادته، يجب على كل إنسان ذلك.
ولهذا إذا وضع الإنسان في قبره فكل مقبور يأتيه الاختبار يسأل ثلاثة أسئلة إن أجاب عنها سئل عن البقية وإلا عذب لأنه هالك، يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ والمعنى أنه يقال: من الذي كنت تعبده؟ وبأي شيء كنت تعبد؟ وعمن أخذت هذه العبادة التي تتعبد بها؟ هذه الأسئلة لابد منها لكل إنسان، وإذا قال: أنا وجدت أهل بلدي.
أو وجدت الشيخ الفلاني يقول لي كذا وكذا فهذا ليس جواباً وليس عذراً، فأهل البلد والناس كلهم ليسوا رسلاً، وإنما الإنسان مكلف باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكلف بمعرفة كتاب الله جل وعلا، ولهذا أخبر جل وعلا أنه أنزل الكتاب عربياً مبيناً، أي: بيناً واضحاً.
فمن عرف اللغة لابد أن يعرف المعاني، وإن كان القرآن فيه معانٍ دقيقة ومعانٍ جليلة ومعانٍ كثيرة، ولكن الظاهر من الخطاب كل من عرف اللغة يعرفه، وهذا هو المطلوب من كل أحد، أما ما وراء ذلك من الدقائق والأمور التي تتطلب الفهم فهذه إلى العلماء، وليست لعامة الناس، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى ما يكون من نصيب العلماء فقد أمر الله جل وعلا بسؤالهم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أما ما يعم الناس فكلهم يستطيع أن يدركه، بشرط أن يعرف اللغة التي نزل بها القرآن، والعلماء يذكرون أن من الواجب المتعين على كل مسلم أن يعرف اللغة العربية؛ لأنه لا يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عرف اللغة.(25/3)
أحكام ما بعد الشهادتين
ثم إذا أجابوه إلى هذا فالقتال ينتهي ويتوقف، ولا يقاتلهم، بل أصبحوا إخواناً للمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فينصرفون عنهم ويتركونهم وبلادهم، أما إذا أبوا فلابد من المقاتلة.
ثم بعد هذا يقسم صلوات الله وسلامه عليه: (والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هنا لتعظيم الأمر وتضخيمه لدى السامع، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم صادقٌ مصدوق فيما يخبر به، لو أخبر بخبر بدون قسم يجب قبوله وتصديقه، ولكن جاء بالحلف والقسم لتعظيم الأمر حتى يُتنبه له ويرغب فيه.
فهداية رجل واحد خيرٌ لمن دعا إلى الهدى من حمر النعم، وحمر النعم هي النوق الحمر، وهي أنفس ما لدى العرب من الأموال، والمعنى -كما يقول العلماء- أن هداية رجل واحد خيرٌ لك من أموال الدنيا وما طلعت عليه الشمس، ثم الأمر مثلما يقول النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، يقول: هذا تمثيل تقريبي للأفهام، وإلا فذرةٌ من الآخرة تساوي ما في الأرض ومثله معه.
يعني أن الأموال التي في الدنيا لا تساوي هداية الرجل الذي يهتدي على يدي الداعية، بل ولا ما هو أقل من ذلك، بل إنما هذا هو تقريبٌ للأفهام، ومن المعلوم أن الناس يحرصون على أمور الدنيا، ويرغبون فيها، وأكثرهم يزهد في أعمال الآخرة، فيحتاجون إلى تبيين وإيضاح وإلى ضرب الأمثال، من أجل ذلك جاء ضرب المثل؛ لأن أكثر الناس تكون رغبته وتعلقه في أمور الدنيا، ويغفل عن أمور الآخرة.
فقد جاء أن مكان سوط في الجنة أفضل من الدنيا مائة مرة؛ لأن الدنيا زائلة وذاهبة، ومهما حصل للإنسان من الأموال والأغراض التي يريدها فسوف تنقطع وتذهب كأن لم تكن، بخلاف ما يحصل عليه من أسباب رضا الله جل وعلا، فإنه يوصله إلى السعادة الأبدية التي لا تفنى، ومعلوم أن الإنسان يتنقل من دار لأخرى، وجعل في هذه الدار ليزرع ويعمل ثم يموت، فلابد من الموت، وبعد الموت يكون جزاؤه على قدر عمله في هذه الحياة، إن كان امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاع الله جل وعلا فهو السعيد الذي يلقى ما لا عين رأته، ولا أذن سمعت به، ولا خطر على قلب بشر، أما إذا كان أطلق لنفسه العنان وأصبح لا يبالي بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه فإنه أمده قصير ومرجعه إلى الله، وسوف يعذبه العذاب الذي لا يتصور، فعذاب الله ليس كعذاب الخلق، الخلق مهما أوتوا من البطش والظلم.
ومن عدم الرأفة والرحمة فإن عذابهم ينقطع بموت المعذب، فمهما أوجدوا له من أنواع العذاب سوف يموت، ولكن رب العالمين يعذب بغير موت، يعذبه العذاب الذي لا يطاق، ولا يأتيه الموت، بل كما يقول الله جل وعلا في وصف المُعذب: {يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يعني: أسباب الموت تأتيه متنوعة ولكن لا يموت فيها ولا يحيا، لا حياة ولا موت، عذاب أبدي: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وهذا أبد الآباد ما دامت السماوات والأرض، وينساهم الله جل وعلا في جهنم، نارٌ أوقد فيها حتى صارت لا تطاق: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
إذا قال الله جل وعلا: خذوه -أي: المجرم- تبادره من الملائكة من لا عدد لهما -فما يعلم عددهم إلا الله- أيهم يأخذه ويلقيه في جهنم.
فالمقصود أن الإنسان أعد لأمر عظيم: قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل الإنسان خلق لأمر عظيم، خلق للجنة أو للنار، ولهذا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار) لا يجوز للعاقل أن ينساهما؛ لأن مصيره إلى واحدة منهما ولابد، لا يوجد مكان ثالث، إما أن تكون في الجنة أو تكون في النار فقط، ثم بعد هذا إذا استقر الإنسان في واحدة منهما يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة فينظرون ويشرئبون وهم يرجون فضلاً على فضل، فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت.
ثم ينادى أهل النار: يا أهل النار فيشرئبون كأنهم يرجون فرجاً، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت.
فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: خلود ولا موت.
انتهى الموت، فلو أن أحداً يموت من الحسرة منهم لماتوا عند ذلك؛ لأنهم يطلبون وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فمالك خازن النار يدعونه: ((ليقضِ علينا ربك)) أي: ليمتنا حتى نرتاح من هذا العذاب.
جاء أنهم يدعون سنين طويلة، وبعد آلاف السنين يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فالجواب يأتي بعد وقت طويل جداً جواباً شديداً جداً: ((اخسئوا فيها ولا تكلمون))، فعند ذلك لا يبقى إلا الزفير والشهيق، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106] خالدين أبداً.
فكيف يهنأ الإنسان بالنوم والأكل والضحك وهو يعرف أن مصيره إلى هذا؟! إن الأمر مثلما قال أحد السلف لما كان يبكي ويدع النوم فعوتب على البكاء فقال: والله لو توعدني ربي أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وأن أقلق، فكيف وقد توعدني إن عصيته أن يسجنني في جهنم،؟! والإنسان ما له عمر آخر، فإذا مات وانقضت حياته لا يعود.
فإذاً لابد إذا كان له نصيب من السعادة أن يقبل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما يستطيع.(25/4)
فوائد من هذا الحديث(25/5)
مشروعية قتال أعداء الله
أولاً: مشروعية القتال للمسلمين، وأنه سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وأن أعداء الله قتالهم من أفضل الأعمال، وليس هناك ما يسعد به الإنسان أفضل من الشهادة التي يتمنى بها إذا مات أن يعاد مرة أخرى فيقتل، إلا القتال في سبيل الله فقط، فكل ميت إذا مات من أهل الإيمان وأهل الحق ما يحب أن يرجع إلى الدنيا، إلا الشهيد لما يرى من الفضل، ولما يرى من نعم الله عليه، يتمنى أن يعاد مرةً أخرى ثم يقتل.(25/6)
ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من ابتلاء في خيبر
وفيه أيضاً العبرة بما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة التي قال فيها ما قال، فقد حصل له الأمور العجيبة من الحاجة والجوع، وكذلك مضايقة الأعداء الشيء الكثير لمن قرأ سيرته، ولاسيما في هذه الغزوة، ومن المعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل خلق الله، وخير من مشى على الأرض صلوات الله وسلامه عليه، ثم أصحابه خير الخلق بعد الأنبياء، أفضل الأمة على الإطلاق، ويحصل لهم هذا الأمر، حتى حصل لهم من المرض والوباء الشيء الذي اشتكوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، يبقى أحدهم ثلاثة أيام لا يأكل في هذه الغزوة، وهم أولياء الله فلماذا؟ كل هذا يدلنا على أن التصرف كله لله جل وعلا، وأنه ليس للخلق معه نصيب في التصرف والربوبية تعالى وتقدس، وأن الدنيا لا تساوي شيئاً، لو كانت تساوي شيئاً ما حجبها ومنعها من أوليائه ومعهم سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.(25/7)
فضيلة علي بن أبي طالب
وفيه أيضاً فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنقبة له عظيمة، والشهادة له بأن الله يحبه ورسوله، فمن أحبه فهو لأنه يحبه الله، وحق على كل مؤمن أن يتولاه، ولكن هذا الحديث وهذه المنقبة لا تتم على قول من يزعم أن الصحابة ارتدوا بعد إيمانهم، بل تكون باطلةً، ولا يمكن أن يستدلوا به على النواصب الذين آذوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبغضوه، وربما كفروه كالخوارج ونحوهم؛ لأنهم يقولون: وهذا كذلك كان قبل أن يرتد، أما لما ارتد ما حصل له ذلك.
ومن المعلوم عند جميع المسلمين الذين يؤمنون بالله وبرسوله حقاً أن الله جل وعلا ورسوله لا يمدح ويثني على من يعلم أنه يرتد ويموت كافراً، وإلا يكون مدحاً كذباً، تعالى الله وتقدس.(25/8)
وجوب إرسال الدعاة إلى الله من قبل الوالي
وفيه أيضاً وجوب إرسال الدعاة، فعلى المسلمين أن يرسلوا الدعاة إلى دين الله، وأن يختار من يكون أهلاً للإمارة والتولية، هذا أيضاً واجب عليهم.
وفيه علم من أعلام النبوة؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه تفل في عينه وهو أرمد لا يبصر فزال الألم في لحظة، وأصبح يبصر بصراً أحسن مما كان أول، وقد جاء عنه رضي الله عنه -أي: علي - أنه قال: لم أشتك عيني بعدما تفل فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/9)
من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتح
وفيه أيضاً علم آخر من أعلام النبوة، وهو إخباره صلواته وسلامه عليه بالفتح قبل حصوله، قال: (يفتح الله على يديه)، وقد حصل كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.(25/10)
فضل من اهتدى على يديه رجل
وفيه أيضاً فضل من اهتدى على يديه رجل، وأن له من الأجر الشيء العظيم، فكيف بمن يهتدي على يديه آلاف الناس، مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل إنسان اهتدى بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فله من الأجر مثل أجر ذلك المهتدي إلى قيام الساعة.
فهذا يدلنا على أنه ليس هناك حاجة للإنسان إلى أن يعمل عملاً ويقول: أهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسوف يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عملك بدون أن تُهدي؛ لأنه هو الذي دل على الهدى ودعا إليه، ومع ذلك إذا قام من يدعو إلى الله متصفاً بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتحلياً بما أمر به وحض عليه فإنه يحصل له ذلك، وهذا نص صريح عنه صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، وبالعكس من دعا إلى بدعة كان عليه من الوزر والإثم مثل أوزار من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن كل نفس تقتل إلى يوم القيامة يكون على ابن آدم الأول الذي سن القتل كفل من هذا -أي: نصيب- لأنه أول من سن القتل.(25/11)
سنة الدعوة قبل المباشرة بالقتال
ثم إن فيه أيضاً سنة الدعوة قبل المباشرة بالقتال، وإن كان الناس فهموا الدعوة وعرفوها، إلا أنه يسن أن تعاد عليهم الدعوة قبل أن يبدأ في القتال، وهذه سنة وليست واجباً، بخلاف ما إذا كان القوم ما بلغتهم الدعوة، فلا يجوز قتالهم بحال من الأحوال حتى تبين لهم الدعوة ويدعون، فإذا أصروا على الكفر وأبوا الدخول في الإسلام هناك يقاتلون، ونصر الله جل وعلا مع المؤمنين.
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أول ما يبدأون بالدعوة وإن كان القوم قد بلغتهم الدعوة، ولكن إذا كانوا يستعدون لقتال المسلمين وقد بلغتهم الدعوة فيجوز أن يباغتوا، بل هذا هو المستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غافلون، فقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم ونساءهم؛ وهذا لأنهم كانوا يستعدون لمقاتلته صلوات الله وسلامه عليه.(25/12)
الكرامات وما حصل منها للصحابة
قال الشارح: [قوله: عن سهل بن سعد.
أي: ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبي العباس، صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضاً، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: (قال يوم خبير)، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فخرج علي رضي الله عنه، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية -أو ليأخذن الراية- غداً رجلاً يحبه الله ورسوله)].
هذا هو الفتح، وليس القتال الذي حدث في خيبر ليلة أو ليلتين أو ثلاث أو عشر ليال، بل بقي رسول الله ما يقرب من شهر أو أكثر وهو يقاتلهم، وهم حصون متفرقة كلما فتح حصناً ذهب إلى الآخر، فهذا الخبر وقع في حصن من حصونهم وليس في كل حصون خيبر.
[(أو ليأخذن الراية غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله.
-أو قال: يحب الله ورسوله- يفتح الله على يديه.
فإذا نحن بـ علي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول صلى الله عليه وسلم الراية، ففتح الله عليه).
من الأمور التي تذكر ويلهج بها كثير من الناس ويعتقدون فيها اعتقادات باطلة مما جاء في السيرة في هذه القصة ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه لما حضر علي رضي الله عنه إلى هذا الحصن ضرب بالدرقة التي كانت عليه يتقي بها السلاح فسقطت منه، فكان عنده باب من أبوابهم فأخذه واتقى به السلاح، ثم لما انتهى القتال -يعني: فتح الحصن- يقول: حاول ما يقرب من أربعين رجلاً أن يقلبوا هذا الباب فما استطاعوا، هذا يذكره بعض الناس ويقولون: إن هذا من خصائص علي بن أبي طالب.
وهو جاء في السيرة بدون سند، أي: مرسلاً ليس له سند صحيح، ولكن إذا صح هذا فليس غريباً، فإن هذا من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآيات التي حدثت للصحابة كثيرة جداً، حتى إنه جاءت أشياء غريبة جداً، مثل كونهم يخوضون البحر وهم على خيولهم فلا تبتل ثيابهم، بل إن خيلهم كانت تقع على الماء وكأنها تقع على الرمال، كما ذكر عن سعد بن أبي وقاص في غزوته للفرس في القادسية، وكذلك ابن الحضرمي حصلت له نفس القصة، وأنهم أيضاً فقدوا الماء فدعوا الله فجاءهم الغيث من السماء فاستقوا وارتووا، ثم وقف المطر، فلما ساروا قليلاً وجدوا الأرض يابسة، ثم إنه لما حضرت أحدهم الوفاة سأل الله ألا يراه أحد حتى لا يرى عورته، فطلبوه عندما أرادوا دفنه فما وجدوه.
وكذلك ما حصل لـ ثابت بن قيس بن شماس يوم القادسية، وآيات كثيرة خارقة للعادة، بل جاء ما هو من أعجب من هذا وهو إحياء الموتى، فبعضهم حيي بعدما مات وصار يتكلم ويخاطبهم، ثم بعد ذلك مات، وكل هذا من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على معجزاته وصدقه وما جاء به؛ لأنها حصلت لأتباعه الذين يتبعونه ويؤمنون بأن هذا من آياته، وأن الله أعطاهم ذلك كرامةً لهم على اتباعهم دينه، ومعلومٌ أن الإيمان بكرامات الأولياء من أصول أهل السنة، ولكن لا تدل على أن هذا الفعل من الرجل نفسه، أو أنه يتخذ إلهاً من دون الله جل وعلا لأجل أنه عنده كرامة، كما حدث لكثيرٍ من الناس إذا سمعوا أن هذا العالم أو هذا الرجل له كرامات اتخذوا قبره صنماً يعبد، وصاروا يدعونه، كما حصل لـ عبد القادر الجيلاني لما ذكر له من الكرامات صار قبره من أكبر الأوثان التي تعبد اغترارا وجهلاً بالواقع، فالواقع أن هذا ليس للإنسان فيه دخَل، وإنما هو من الله جل وعلا، وإذا حصل له شيءٌ من ذلك فهو لحاجته حين احتاج إليه فأكرمه الله جل وعلا بذلك، وهو من الله ولا يحصل إلا بالإيمان، وقد يحصل شيء من هذا النوع أو قريب منه لمن هو ليس على الهداية والدين، ولهذا يقول العلماء: لا تغتر بما يحصل على يد الرجل وإن رأيته يطير في الهواء أو يمشي على الماء حتى تنظر إلى وقوفه عند محارم الله وحدوده، وكيفية اتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لكتاب الله، فإذا رأيته متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله وقافاً عند حدوده فعالاً قواماً بالواجب عند ذلك يعتقد أنه من الأولياء؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، هؤلاء هم الأولياء ((الذين آمنوا وكانوا يتقون)).
وقد قص الله جل وعلا علينا من كرامات الأولياء في كتابه أشياء كثيرة، مثل ما حصل لمريم عند ولادتها، وكذلك قبل الولادة، كانت تأتيها فواكه لا تعرف: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] في وقت لا تعرف فيه الفاكهة تأتيها، فكل ذلك من الله جل وعلا، ويكون إكراماً للعبد، ولكن إذا كان طائعاً لله جل وعلا، أما إذا كان عاصياً فقد يحصل له شيء من هذا النوع ويكون إهانة واستدراجاً ومكراً به فيتمادى في المعصية ويضل فيضل من اتبعه، ولهذا السبب قال العلماء: لا يغتر بالشخص وما يحصل له حتى ينظر إلى سلوكه وعمله هل هو متبع أو مبتدع.
فإن كان متبع علم فهو ولي، وإن كان مبتدعاً علماً فهو شقي، وهذا غالباً يكون من الشيطان.(25/13)
اتخاذ الراية عند القتال
قوله: (لأعطين الراية) قال الحافظ في رواية بريدة: (إني دافعٌ اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله): وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما.
لكن روى الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: (كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواءه أبيض)، ومثله عند الطبراني عن بريدة، وعند ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد (مكتوبٌ فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله).
هذا شيءٌ معروفٌ من قديم الزمن، أنه عند القتال إذا تقاتل فريقان كل فريق يكون له راية، وتكون علامةً للمقاتلين ينظرون إليها، وما دامت الراية مرفوعة فهم يقاتلون بقوة، فإذا سقطت فهو علامةٌ انهزامهم وعلى أنهم ضعفوا، والأمر في هذا معروف من قديم الزمن، كل قوم يتخذون لهم راية، والرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ راية يجعلها في الجيش، بل كان يتخذ عدداً من الرايات، ولكل قوم يدفع لهم راية يقاتلون تحتها، ويجعل لهم علامةً أيضاً في الكلام يتكلمون حتى يعرف بعضهم بعضاً؛ لأنه عند القتال في ذلك الوقت يختلط بعضهم ببعض، فإذا تكلم أحدهم بالكلام عرف أنه من أصحابه وإلا قد يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن الاختلاف يحصل عند الالتحام والقتال، فهذا هو سبب اتخاذ الراية، وإلا فهي لا تنصر ولا تغني شيئاً، وإنما هي علامةٌ يعرف بها المسلم المقاتل أصحابه، وإذا جال في الأعداء رجع إليها، فتكون محلاً للكر والفر.(25/14)
محبة الله ورسوله لعلي ليس خاصاً به
قال الشارح: [وقوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة عظيمة لـ علي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس هذا الوصف مختصاً بـ علي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطلٌ، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافراً].
لأن الله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء لا يمكن أن يثني على إنسان يرتد ويموت كافراً جل وعلا، ثم إن هذا -أي: كون الله جل وعلا يحب بعض عباده وكذلك رسوله- كثيرٌ جداً، وقد أخبر أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيانٌ مرصوص، في أشياء كثيرة، ولكن إذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل بعينه أن هذا يحبه الله ورسوله فكل إنسان يود أن يكون هو ذلك المنصوص عليه؛ لكونه صار منقبةً عظيمة، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على أقوام أنهم في الجنة، فمن ذلك أنه شهد لـ أبي بكر أنه في الجنة، وشهد لـ عمر أنه في الجنة، وشهد لـ عثمان ولـ علي ولـ عبد الرحمن بن عوف وللزبير ولـ طلحة ولغيرهم كثير، وكذلك مثل الحسن والحسين، ومثل ثابت بن قيس بن شماس، ومثل عبد الله بن سلام، بل جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصل ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب ذلك الكتاب وأرسله إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال له عمر: دعني أضرب عنقه فإنه منافق قال: (إنه من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع عليهم وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) عند ذلك ذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
وجاء غلام من غلمانه فقال: (يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب النار.
قال: كذبت؛ إنه من أهل بيعة الرضوان)، وبيعة الرضوان هي التي حدثت في السنة السادسة للهجرة، وكان عدد الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ألف وأربعمائة، وأخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم ورضوا عنه، فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فهذه بيعة الرضوان، ولهذا يقول الإمام ابن حزم: كل من بايع تحت الشجرة فنحن نشهد له بالجنة بشهادة الله جل وعلا وشهادة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وغير ذلك كثير.
فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى هذه الأمة بكرامة الله جل وعلا؛ لأنهم هم الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين بلغوا الدين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، فهم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه، نقلوا القرآن والدعوة، ونقلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله.(25/15)
إثبات صفة المحبة لله عز وجل
قال الشارح: [وفي الحديث إثبات صفة المحبة لله تعالى خلافاً للجهمية ومن أخذ عنهم].
المحبة من الصفات التي ذكر الله عز وجل كثيراً أنه يتصف بها، ولكن الجهمية أنكروها، وفي الواقع لا ينظرون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصلهم زنادقة دخلوا إلى الإسلام ليفسدوه، هذا هو أصلهم، فاغتر بهم من اغتر، كسائر الدعوات التي تأتي دخيلة كل الناس يكون عنده بصيرة في النظر، ويغتر فيظن أن كل داع وقائم يريد الحق، فيغتر ويتبعه على ذلك وهو لا يدري.
فاتبعهم على قولهم الباطل خلائق ليسوا منهم ولكنهم ضلوا؛ لأنهم أضلوهم بذلك، فصاروا مما ينكرونه كون الله جل وعلا يتصف بالصفات، بل جعلوا التوحيد عندهم أن لا يوصف الله جل وعلا بصفة، سواءٌ أكانت صفة فعل، أم صفة ذات -تعالى الله وتقدس- ويقولون: لا يكون الإنسان موحداً حتى يعطل الله جل وعلا من أوصافه.
ولا شك أن هذا من أعظم الضلال، ولهذا كثير من العلماء كفرهم وأخرجهم من الدين الإسلامي، وقال: ليسوا من الاثنتين والسبعين فرقة التي أخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حيث قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقالوا: من هي؟ فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فالثنتان والسبعون كلها ضالة، والناجية هي أمة الإجابة، الأمة التي استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم، وليست من الأمة التي بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى دعوتها؛ لأن هذا للخلق كلهم، فيقول العلماء الذين كتبوا في الفرق: هؤلاء ليسوا من الاثنتين والسبعين.
أي أنهم ليسوا من المسلمين، هذا معناه؛ لأن الاثنتين والسبعين من المسلمين إلا أنها فرق ضالة توعدت بدخول النار، وأمرها إلى الله جل وعلا.
وكذلك فرق الباطنية التي تبطن الكفر وتظهر الإيمان، كلهم من هذا القبيل، فهم أنكروا أن يكون الله جل وعلا يحب أحداً، والعجيب أنهم أنكروا المحبة من الجانبي، أي أن الله لا يحب ولا يُحب -تعالى الله وتقدس- فإذن ما هو الإيمان؟ وما هي العبادة؟ العبادة هي التأله الذي هو حب يصل إلى الغاية والنهاية من الذل والتعظيم، والذي ينكر ذلك ينكر دين الإسلام أصلاً، فالله جل وعلا إذا أخبر عن نفسه بخبر وجب قبوله وتصديقه، وكذلك كونه جل وعلا مخالفاً لخلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] تعالى وتقدس، فهو يحب، ولكن محبته ليست كمحبة العباد التي تكون مقتضية للحاجة والفقر، فالرب جل وعلا يحب، وهو غني عن كل ما سواه، والخلق كلهم فقراء إليه، ولكنه كريم جواد، فهو يحب المتقين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب الصابرين، ويحب من اتبع رسوله، وكذلك يحب من امتثل أوامره واجتنب نواهيه، ولذلك من أنكر المحبة كهؤلاء فالواقع أنه ينكر الإسلام عموماً.
وشبهتهم التي زعموا هي مبنية على التشبيه الذي ارتسم على أذهانهم ولم ينطقوا به، وزعموا أنهم ينزهون الله، وذلك أنهم قالوا: المحبة هي الميل إلى الملائم، والميل إلى الملائم يقتضي الفقر، فلو لم يكن عنده فقر ما مال إلى الملائم.
فعلى هذا قالوا: لا يجوز أن نصف الله جل وعلا بالمحبة؛ لئلا يكون متصفاً بالميل إلى الملائم.
فيقال لهم: هذه المحبة التي تكون فيكم أنتم، وهي محبة الخلق، أما محبة الله جل وعلا فهي تليق به بجلاله وعظمته، لا يجوز أن تكون مثل محبة المخلوق، تعالى الله وتقدس.
فالذين يؤولون المحبة هم الأشعرية، فهم لا ينكرونها مثل الجهمية، ولكنهم يؤولونها، والتأويل يقول بعض العلماء: هو شر من فعل الجهمية.
لأن كثيراً من المسلمين اغتر بقولهم؛ لأنهم زعموا أن الحق معهم، وأن هذا هو معنى ما أخبر به الله جل وعلا عن نفسه بأنه يحب.
وتأويلهم إياها يكون على نوعين: أحدهما: أن يؤولوها بصفة أخرى كالإرادة، فيقولون: (يحب المتقين) معناه: يريد منهم التقوى، و (يحب المحسنين) يريد منهم الإحسان.
النوع الثاني: يؤولونها بشيء مخلوق لا يتصف الله جل وعلا به، وهو إرادة الإثابة، أي: يثيبهم، فـ (يحبهم) يعني: يثيبهم ويجزيهم.
ومعلوم أن الإثابة والجزاء شيء منفصل عن الله جل وعلا، بل هو شيء مخلوق، فلا يجوز أن يكون المخلوق صفة لله جل وعلا، كل هذا باطل، بل المحبة يجب أن يوصف الله جل وعلا بها على ظاهرها، مع تنزيه الله جل وعلا عن خصائص المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء تعالى وتقدس.(25/16)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشارح: [قوله: (يفتح الله على يديه) صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة.
وقوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) بنصب (ليلتهم)، و (يدوكون) قال المصنف: يخوضون.
أي: فيمن يدفعها إليه.
وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان].
قوله: (يفتح الله على يديه) فيه علم من أعلام النبوة، والمقصود بأعلام النبوة: العلامات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بإخباره بالمستقبل.
فمثل هذا أمر مستقبل لا يعلمه إلا علام الغيوب، فالله جل وعلا يعلم الغيب، ويطلع على بعض الغيب رسله؛ ليكون ذلك دليلاً على أنهم صادقون في إرسالهم من عند الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:27 - 28]، بهذا يتبين أنهم رسل من عند الله، أي أنهم إذا أخبروا بالأمور التي لا قدرة على البشر للوصول إليها كأخبار المستقبل علم صدقهم.
وهذا شيء كثير جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبار نبوته واضحة جداً، ومن أول دعوته إلى آخر دعوته كلها علامات بينة وظاهرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قوم كفار مخالفين له في العقيدة والاتباع، ثم عادوه أشد المعاداة حينما دعاهم إلى ترك ما كانوا عليه، فصار يتوعدهم وهو وحده ليس معه قوة ولا أعداد، ويقول: إن لم تؤمنوا بما جئت به وتتبعوني وإلا سوف أقتلكم ثم تكون عاقبتكم إلى النار.
وهذا لا يمكن أن يقوله إلا من هو واثق بالله جل وعلا، وبأنه أخبره بأن هذا سيقع ولا بد، إن العاقل لا يمكن أن يأتي إلى قوم أعداء له وهو ليس معه قوة وليس بيده سلطان ثم يتحداهم ويتهددهم ويتوعدهم، فربما يتسلطون عليه فيقتلونه ويؤذونه بأدنى سبب، فيقتلونه لو كان غير واثق، وهذا من علامات نبوته صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا أتى عن الرسل كلهم، فقد قال الله جل وعلا عن هود لما توعدوه، وقالوا: إن قولك هذا مخالف لجميع الناس وأنت يجوز أن تكون مجنوناً وقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] أي: بجنون.
وآلهتهم: أصنامهم.
يقولون: أصابتك بعض أصنامنا بسوء.
فتحداهم وقال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55] يعني: كل الكيد الذي عندكم اجتمعوا عليه، واستعينوا بأصنامكم وآلهتكم ثم لا تمهلوني ساعة، يقول هذا الكلام وهو وحده، وهكذا الرسل كلهم من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم يأتون بالتحدي لقومهم وأحدهم وحده؛ لأنه واثق بأن الله ناصره وهو معه، ولن يصلوا إليه، فهذا من أعظم علامات ودلائل النبوة.(25/17)
انشقاق القمر إلى فلقتين
ومن ذلك الأمور التي وقعت خارقة للعادة، مثل كون القمر انشق فلقتين، فصار قسم منه إلى جهة الجنوب وقسم إلى جهة الشمال، وصار كل الناس ينظرون إليه، وهو يقول: هذه دليل على أني من عند الله.
وقد أخبرهم بهذا قبل وقوعه.(25/18)
إخباره أنه سيقتل أبي بن خلف
كذلك أخبر أناساً بأعيانهم بأنه سوف يقع لهم كذا فوقع كما أخبر، فإن أبي بن خلف لما كان يستعد ويصلح سلاحه ويقول: لأقتلن محمداً فقيل له صلى الله عليه وسلم: إنه يقول هذا قال: (بل أنا سوف أقتله)، فجزع جزعاً عظيماً، وصار عنده خوف، فقالت له زوجته: أكل هذا من خبر جاءك عن محمد؟ فقال: إنه والله ما أخبر بشيء إلا وقع.
ثم لما أتت وقعة أحد وجاء على فرسه يقول: أروني محمداً سوف أقتله قال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا سأقتله)، فتناول حربة فطعنه في لبته-خلال درعه- فصار يخور منها ويجزع جزعاً شديداً، فقال له أصحابه: ما بك من بأس! فقال: بل والله لو كان الذي بي في كذا وكذا لمات.
ثم مات من تلك الطعنة قاتله الله، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أشد الخلق عذاباً من قتل نبياً أو قتله نبي)؛ لأن النبي لا يقتل إلا من هو متناهٍ في الكفر والضلال.(25/19)
ما حصل في تبوك من تكثير مزادتي المرأة
ومنها أيضاً كونه صلوات الله وسلامه عليه يؤتى بالماء القليل في إناء فيضع فيه يده فينبع الماء من بين أصابعه، ثم يتوضأ منه القوم كلهم وهو إناء صغير.
ومنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لما كان في غزوة تبوك ونفد الماء منهم أرسل اثنين من صحابته يطلبان الماء، فلقيا امرأة من المشركين معها راويتين-قربتين مملوءتين- فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي به أمس في هذا الوقت.
تعني أنه بعيد، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يؤخذ من مائها في إناء، فأخذ من الماء، فصار الناس يشربون ويتوضأون ويقضون حاجتهم بالماء، ثم بعد ذلك نظروا إليها وإذا هي أشد امتلاء مما كانت أول، فقال لها: هل رزأناك من مائك بشيء؟ قالت: لا.
وأعطوها من الطعام ما حمل راحلتها.(25/20)
ما حصل في تبوك من تكثير الطعام
ومنها أنه في نفس الغزوة لما انتهت أزودتهم واستأذنوه في نحر إبلهم جاء إليه عمر رضي الله عنه وقال له: يا رسول الله! لو دعوت بما معهم من الطعام، ثم دعوت الله جل وعلا أن يبارك فيه؛ فإنهم إذا نحروا إبلهم فعلى أي شيء يحملون أمتعتهم وأنفسهم؟! فقال: نعم.
فدعي بما معهم من طعام ووضع على نطع -جلد يفرش- يقول: فجاء الجيش بكل ما معه حتى صار مثل العنز إذا ربضت، فهذا يأتي بتمرة، وهذا يأتي بتمرتين، وآخر يأتي بطحين ملء كفه، وأكثرهم ما عندهم شيء، عند ذلك تفل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل الله جل وعلا، ثم قال: احملوا.
فجاؤوا بكل إناء معهم فملأوه وهو كما هو باق لم ينقص، وهذا لا يكون إلا آية من آيات الله جل وعلا.(25/21)
ما حصل له صلى الله عليه وسلم من تكثير اللحم والخبز في الخندق
كذلك ما كان في حفر الخندق، كانوا في حاجة شديدة، فرأى أحد الصحابة ما بالرسول صلى الله عليه وسلم من الجوع قد ربط على بطنه حجرين، فقال: لا صبر على هذا.
ثم استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى أهله، فلما جاء زوجته قال: هل عندك شيء؟! قالت: عندي صاع من شعير.
فأمرها أن تطحنه، وذهب إلى شاة صغيرة فذبحها، فقال: أدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واثنين معه فقط.
أي: أن الطعام يكفي ثلاثة فقط، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: تأتي أنت واثنين معك عند ذلك قال صلوات الله وسلامه عليه لكل المسلمين: إن فلاناً يدعوكم.
فذهبوا كلهم، فتقدم إلى زوجته -الأنصاري- وقال: جاءك رسول الله والمسلمون كلهم.
قالت: هل أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قالت: إذن لا علينا.
لأنها واثقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي إلا لشيء، ثم قال: لا تبدأوا بالخبز حتى آتي.
فصار يتفل على العجين، ثم قال: اخبزوا.
وتفل في اللحم الذي على النار، ثم صاروا يتقدمون عشرة عشرة ويأكلون فيشبعون إلى أن أكل المسلمون كلهم وهو باق كما هو، وكلها علامات ودلائل على نبوته صلوات الله وسلامه عليه.(25/22)
من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم
والواقع أن العلامات كثيرة وهي لا تخفى على العاقل، مثلما قال عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأيت وجهه علمت أنه صادق.
فما أن رأى وجهه حتى علم أنه صادق؛ لأنه إذا قال إنسان: أنا نبي أرسلني الله فلا يخلو إما أن يكون أصدق الناس وأبرهم، أو هو أفجر الناس وأكذبهم، فهل يلتبس أفجر الناس وأكذبهم بأصدق الناس وأبرهم؟! أبداً لا يلتبس؛ لأن الذي يقول: أنا نبي إما أن يكون صادقاً فيكون هو أبر الناس وأعلمهم بالله وأقربهم إليه، أو يكون كاذباً فيكون هو أكذب الناس وأفجرهم؛ لأن الذي يكذب على الله لا يبالي أن يكذب على الخلق.
ولهذا لما أرسل كتابه صلوات الله وسلامه عليه إلى هرقل ملك الروم يدعوه إلى الإسلام أرسله بلغته صلوات الله وسلامه عليه، فكتب كتاباً وصورته: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]).
هذه صورة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فلما جاءه أمر بالترجمان فقرأه ثم اهتم به كثيراً، ثم قال: اطلبوا لي أناساً من قومه ممن يعرفونه.
فطلبوا فوجدوا أبا سفيان ومعه بعض أصحابه، وكان مشركاً في ذلك الوقت لم يسلم، كان أبو سفيان على دين قومه، وكان يجب أن لا ينتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يظهر أمره، ويسعى إلى ذلك، فجيء به إلى هرقل، وأجلسه قريباً منه وأجلس أصحابه خلفه، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائله، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه.
فصار يسأله، فقال: أخبرني عن هذا الرجل هل هو ذو نسب فيكم؟ فقال: هو من أشرفنا نسباً.
فقال: هل كنتم تتهمونه قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
بل كنا نسميه الأمين، ولم نجرب عليه كذبة واحدة.
فقال: هل كان سبقه أحد دعا إلى قوله؟ فقال: لا.
فقال: هل كان في آبائه من ملك؟ فقال: لا.
فقال: من يتبعه؟ قال: يتبعه ضعفاء الناس وسقطهم، وأما أشرافهم وكبراؤهم فأبوا.
فقال: فكيف الأمر بينكم وبينه؟ فقال: الأمر بيننا وبينه سجال، مرة يدال علينا ومرة ندال عليه.
وهذا كان فيما يظهر بعد وقعة أحد إلى آخر الكلام، ثم بعد ذلك قال له هرقل: لئن كنت صادقاً فيما تقول والله ليملكن ما تحت قدمي هاتين -وهو بالشام-، ولو أقدر عليه لذهبت إليه حتى أغسل رجليه وأحمل نعليه.
ثم قال له: سألتك هل كنتم تهتمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا.
فعلمت أنه لن يترك الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله، ثم سألتك: هل هو ذو شرف ونسب في قومه فأخبرتني أن: نعم.
وهكذا الأنبياء تبعث في أشراف قومها، وسألتك: هل سبقه أحد بأن دعا مثل دعوته أو قال مثل قوله فزعمت أن: لا.
فقلت: لو أن أحداً سبقه إلى هذا لقلت رجل يقتدي بمن سبقه، وسألتك: هل كان في آبائه من ملك فأخبرتني أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك من يتبعه؟ فأخبرتني أنهم الضعفاء.
وهكذا الأنبياء أتباعهم الضعفاء، أما الكبراء والملأ فإنهم يكفرون بهم؛ لأن الله جل وعلا يقول له: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] يعني: لست أول من يأتيكم، انظروا إلى دعوة الرسل السابقين، انظروا فيها وقايسوا.
وكل هذا يدل على رجاحة عقله، وأن في الواقع نظراً صحيحاً، والمقصود أن دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه كثيرة.(25/23)
قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة
وكذلك خديجة رضوان الله عليها لما أخبرها بما يرى، وأنه رأى الملك أول ما رآه فارتاع منه، قال لها: (إني أخاف على نفسي) ماذا قالت له؟ كلا.
والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف إلخ.
خفاستدلت على أنه سوف يلقى الخير والسعادة بما يفعل؛ لأنه -كما قلنا- ما يلتبس أمر الكاذب بأمر الصادق، وهذا يدلنا على أن المتكلمين ما اهتدوا إلى شيء من ذلك عندما قالوا: إنه لابد أن يقترن بدلائل النبوة التحدي، وإلا فإنه يلتبس الأمر بالنبي والمتنبي والساحر وغيره.
وهذا بعيد جداً؛ لأن المتنبي كاذب والنبي صادق، بل المتنبي أكذب الخلق وأخبثهم، والنبي أصدق الخلق وأفضلهم، ولا يمكن أن يلتبس أصدق الخلق بأكذبهم، وكذلك الساحر مثل المتنبي أو أخبث، وهكذا.
والمقصود أن دلائل النبوة كثيرة جداً، ومن قرأ السيرة اطلع على الشيء الكثير، ولهذا نحث كثيراً على قراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تزيد الإنسان إيماناً وتثبت اليقين عنده تماماً.
ومن أعظم الآيات التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه هذا القرآن الذي يتلى ونسمعه كثيراً، وفيه من العجائب ومن الآيات والدلائل على صدقه في كل آية.
وعلى كل حال فهذه من الأمور الواجبة على المسلمين، كونهم يتعرفون على دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والإنسان سيسأل عن هذه الأمور، فإنه إذا وضع في قبره سئل ثلاثة أسئلة: الأول منها يقال له: من ربك؟ ولا بد أن يعرف ربه بالدلائل اليقينة، وليس بالتقليد، والسؤال الثاني يقال له: من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولا يكفي كونه يقول: محمد بن عبد الله.
لابد أن يعرفه بالدلائل أنه نبي حق وأنه صادق وأنه جاء بالهدى، والثالث: يقال له: ما دينك؟ أي: ما الذي تتعبد به؟ فإذا أجاب سئل عن الدليل، فيقال له: ما يدريك أن هذا هو الحق؟! فلو قال -مثلاً-: ربي الله، وهذا هو رسول الله، وديني الإسلام يقال له: وما يدريك؟ فإما أن يذكر الدليل الذي يقنع به الملائكة أو يتلعثم ويقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فيعذب، فالمقصود أن هذا مما يجب على الإنسان معرفته، وأنه يسأل عنه في قبره، يسأل عن ذلك، وإذا لم يعرف ربه ودينه ونبيه باقتناع فإنه يخشى عليه أن لا يجيب الجواب الصحيح، ويخاف عليه.(25/24)
شهادات النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة بالإيمان والجنة
قال الشارح: [وقوله: (أيهم يعطاها) هو برفع (أيُ) على البناء؛ لإضافتها وحذف صدر صلتها.
قوله: (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها).
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أنَّ عمر رضي الله عنه قال: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ).
قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير، ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لـ ثابت بن قيس وعبد الله بن سلام، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر].
ثابت بن قيس بن شماس هو خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جهوري الصوت، يتكلم فيكون صوته عالياً، فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] عند ذلك خاف وقال: إذاً أنا المعني بهذه الآية؛ لأني أجهر بصوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً قد حبط عملي.
فجلس يبكي في بيته، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه فقيل له: إنه يقول كذا وكذا.
فقال: (بل هو من أهل الجنة)، وأمر به أن يؤتى به، فصارت هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة.
وكذلك عبد الله بن سلام شهد له أيضاً عند رؤيا رآها فقال: (هو من أهل الجنة).
وغير هذا كثير حين شهد لأناس فأخبرهم بأنهم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم، (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة) حتى عد عشرة، ولهذا يسمونهم العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء أنه قال: (لا يدخل النار من بايع تحت الشجرة)، وهذه شهادة لهم بالجنة، والذين بايعوا تحت الشجرة ألف وأربعمائة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى الكفار يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله جل وعلا أن يعمي على قريش أمره حتى يبغتهم في بلادهم؛ لأنهم نقضوا عهده الذي كتبه بينه وبينهم في الحديبية، حيث ظاهروا على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة، وقتلوهم ركعاً وسجداً كما قال شاعرهم، ثم جاؤوا يطلبون تمديداً؛ لأنهم أحسوا أنهم نقضوا العهد فأرادوا تجديده وتمديد الوقت، فلم يجبهم بشيء، ولم يكلم رسولهم بشيء، بل كل الصحابة لم يكلموه، جاء أبو سفيان إلى أبي بكر فلم يكلمه بشيء، ثم جاء إلى عمر فقال له: والله لو لم يكن معي إلا الذر لقاتلتكم.
وجاء إلى علي فقال له: اذهب إلى المسجد فقل: إني مددت الوقت ووضعت كذا وكذا ثم اذهب.
فجاء إلى المسجد فتكلم بهذا الكلام، فلما رجع إلى قومه قالوا: ماذا وراءك؟ فقال: ما وجدت من يجيبني غير أن علي بن أبي طالب قال لي كذا وكذا ففعلته فقالوا: ما زاد على أن ضحك عليك.
فتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل ربه أن يعمي عليهم أمره حتى يبغتهم في بلادهم، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً وأعطاه امرأة فيه: أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاكم والمسلمون بجنود لا قبل لكم بها، فجاءه الخبر من السماء، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر الكتاب، فأمر الزبير وعلي بن أبي طالب ودعاهما وقال: (اذهبا إلى روضة خاخ تجدان فيها ظعينة معها كتاب، فائتياني بالكتاب)، فذهبا على فرسيهما إلى تلك الروضة، فوجدا المرأة معها غنم له، فقالا لها: الكتاب.
فقالت: ما معي من كتاب.
فقالا لها: والله ما كَذَبْنا ولا كُذِّبنا، لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.
أي: نخلع ثيابك ونفتشك؛ لأنه لابد أن معها الكتاب.
فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيلتها من تحت شعرها قد وضعته هناك، فجاءا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقراءته، ثم استدعى حاطباً فقال: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل، والله ليس شكاً مني ولا حباً لهم، ولكني رجل ملصق فيهم، وكل من معك لهم من أقربائهم من يحمي ذويهم وأموالهم إلا أنا، فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينصرك.
فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟ إنه شهد بدراً، وإن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فأهل بدر كذلك.
ومرة جاء إليه صلوات الله وسلامه غلام لـ حاطب فقال: (والله ليدخلن حاطب النار فقال: (كذبت.
لا يدخل النار؛ إنه من أهل بدر)، ومعلوم أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة، وهذا معلوم عند المسلمين من أهل السنة، فإنهم أفضل الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وقال: (خيركم القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، يقولون ما لا يفعلون، ويشهدون قبل أن يستشهدوا، ويظهر فيهم السمن)، وكذلك ذكر الله جل وعلا في كتابه بأنه رضي عنهم ورضوا عنه في آيات كثيرة، والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه يكفر وأنه سيرتد؛ لأنه جل وعلا علام الغيوب.
والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شهد لإنسان بعينه وقال: إنه من أهل الجنة.
أو إنه يحبه الله ورسوله فكل الذين يسمعون يودون أن يكونوا مثل هذا؛ لأن هذه شهادة معينة، وإلا فالله يخبرنا أنه يحب المتقين وكذلك رسوله، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وهم كلهم بهذه الصفة، وإذا أذنب أحدهم تاب، وهم متطهرون من الشرك ومن الأدناس، وهم كذلك متقون ومحسنون، فلا شك أن الله يحبهم، ولكنهم كانوا إذا جاءت شهادة لمعين بعينه فكل واحد منهم يحب أن يكون كذلك؛ لأن شأن المؤمن ليس كشأن المنافق، وإن أحسن وإن أكثر من العمل فهو على وجل، ويخاف ألا يقبل عمله، ويخاف أن تأتي مؤثرات، فإذا جاءت الشهادة له بعينه اطمأن وأحب ذلك، هذا هو السبب في كونهم كلهم رغبوا في أن تدفع إليهم الراية، ورغبة كل واحد منهم في أن تدفع إليه الراية ليست حباً في الإمارة، كما قال عمر: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ)، وذلك لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، لأجل هذا فقط حتى يتحلى بذلك، ومثل هذا الحديث الذي تقدم، والذي فيه أنه لما ذكر الذين يدخلون الجنة بغير حساب قام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل آخر وقال: ادع الله أن يجعلني منهم الحديث.
إذاً فمعنى هذا أن كل واحداً يحب هذا الفضل، وليس معنى ذلك أن هذا من خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل المؤمن المتقي التواب الصادق هو ممن يحبه الله ورسوله، وكذلك المقاتل في سبيل الله الصابر المقبل المحتسب يحبه الله ورسوله.(25/25)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [26]
الجهاد في سبيل الله باقٍ إلى قيام الساعة، والغرض من الجهاد هو الدعوة إلى الله عز وجل وإدخال الناس في دين الله، وللجهاد شروط وآداب وضوابط يجب معرفتها، ومن تلك الضوابط أنه لابد أن يعرض المسلمون على الكفار قبل قتالهم الدخول في الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال.(26/1)
من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقد أحوالهم.
قوله: (فقيل: هو يشتكي عينيه)، أي: من الرمد.
كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: (ادعوا لي علياً.
فأتي به أرمد) الحديث، وفي نسخة صحيحة بخط المصنف: (فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه) مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يسم فاعله.
ولـ مسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: (فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد).
فقوله: (فبصق) بفتح الصاد، أي: تفل.
وقوله: (ودعا له فبرأ) هو بفتح الراء والهمزة، أي: عوفي في الحال عافيةً كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر.
وعند الطبراني من حديث علي رضي الله عنه: (فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ الراية).
].
هذا أيضاً من علامات النبوة، كونه لما تفل في عينيه وهو أرمد ودعا له زال الرمد في الحال وذهب، حتى أفضل العلاجات الناجحة لا تعمل هذا العمل، فلابد أن يكون هذا من الله جل وعلا.
والتفل والبصاق من غير النبي صلى الله عليه وسلم قد يزيد الرمد رمداً، ويزيد المرض مرضاً، كما يذكر عن الكذاب مسيلمة الذي زعم أنه نبي فصار أضحوكة للناس، ذكر بعض المؤرخين عنه أنه جيء له بمريض حتى يبارك عليه أو يدعو له فتفل عليه فأصيب بالقرع وذهب شعر رأسه، وكذلك ذكروا أن عمرو بن العاص -وكان صديقاً له في الجاهلية- جاء إليه فسأله: ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة عظيمة بليغة، فقال: ما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] ففكر مسيلمة قليلاً ثم قال: وأنا أنزل علي مثلها.
فقال: ما هي؟ فقال: يا وبر! يا وبر! إنما أنت رأس وصدر، وباقيك حقر نقر.
ماذا تقول يا عمرو؟! فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب.
فهذا كلام الرب جل وعلا، وهذه الآيات الباهرة المعجزة التي يجريها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تلتبس.(26/2)
وجوب الإيمان بالقدر
قال الشارح: [وفيه دليل على الشهادتين.
وقوله: (فأعطاه الراية) قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى].
الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان.
وقوله (فيه الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسع، ومنعها عمن سعى) أي: الذين تعرضوا لها وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يتطاولون عنده لعله يراهم فيدفع لهم الراية، فمنعوها، وسأل عن علي الذي لم يكن موجوداً فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فدفعت إليه وهو ليس مع الموجودين، يقول: إن هذا يدلنا على وجوب الإيمان بالقدر؛ لأن الشيء الذي قدره الله لابد من حصوله، وهذا لا ينافي فعل الأسباب، بل يدعو إلى أن الإنسان يفعل السبب؛ لأن الإنسان مأمور بفعل السبب، وفعل السبب لا يتأتى به المطلوب على كل حال؛ لأنه إن كان قدر الله جل وعلا ذلك وقع المسبب مطابقاً للسبب ووقع كما قدره الله، وإن لم يقدره الله أتت أمور وأسباب أخرى تمنع وقوعه.
ثم إن الإنسان إذا عمل السبب ولم يحصل له المراد فلا يجوز أن يلوم نفسه، ولا أن يقول: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا؛ لأنه فعل الذي في مقدوره، ثم تبين أنه ما استطاع؛ لأن هذا ليس بقدرته، بخلاف ما إذا جلس ولم يعمل السبب فإنه يكون عاجزاً؛ لأن ترك الأسباب عجز، بل ومنافٍ ومخالف للشرع؛ لأن الله أمر بفعل الأسباب، والقدر عبارة عن الإيمان بعلم الله الأزلي، فإنه علم كل شيء، وكتابته للأشياء التي تقع؛ لأنه جاء في الحديث: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) والكتابة هي لكل شيء، فكل صغيرة وحقيرة قد كتبت، وكل ما يقع فهو مكتوب، فلا يقع شيء إلا ما كتب في ذلك الكتاب، ثم كذلك الله جل وعلا هو الذي مشيئته نافذة، فإذا شاء وجود شيء وجد، وإذا شاء ألا يوجد لا يوجد، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، ثم كذلك الله جل وعلا هو الخالق وحده، وكل ما سواه مخلوق، تعالى الله وتقدس.(26/3)
مراتب القدر
فهذه الأمور الأربع هي التي تحقق إيمان الإنسان بالقدر.
الأمر الأول: الأيمان بعلم الله الشامل القديم الأزلي لكل شيء، وأنه لا يفوت علمه شيء.
الأمر الثاني: كونه سبحانه وتعالى كتب ما سيقع، فكل ما سيقع مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
الأمر الثالث: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الأمر الرابع: أنه خالق لكل شيء، وما سواه مخلوق.
وهذه تسمى درجات الإيمان بالقدر، ولا بد من الإيمان بها.(26/4)
العمل بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر
إذا آمن الإنسان بالقدر فلا ينافي أنه يعمل، بل أُمر الإنسان بالعمل فقيل له: افعل الأسباب.
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، فالتوكل في الواقع هو فعل السبب، ثم الاعتماد على الله جل وعلا في حصول المقصود المطلوب.
وحقيقة التوكل أن تفعل السبب ثم تعتمد بعد فعلك السبب في حصول مطلوبك على الله جل وعلا، فلا يعتمد الإنسان على علمه، ولا على قوته، ولا على ماله أو سلطانه أو غير ذلك، بل يعتمد على ربه جل وعلا؛ فإن الله جل وعلا قد يجعل السبب غير مؤثر، وقد يجعل للسبب موانع كثيرة إذا شاء، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم؛ لأن مثل هذا لا يعهد، وكما جعل مريم عليها السلام تلد بلا اتصال ذكر بها، وكذلك الأمور التي هي أدنى من هذا إذا شاء جل وعلا أن يمنع السبب منعه، فلابد من الاعتماد على الله؛ لأن كل شيء بيده.
إذاً لابد من فعل السبب، وليس الجلوس في البيت -مثلاً- وتعطيل الأسباب من التوكل في شيء، بل هذا عجز يلام الإنسان عليه، وهذا أمر العقلاء لا يقبلونه، فهل يمكن للإنسان أن يقول: إذا كان قد قدر لي ولد فسوف يحصل بلا زواج؟! لو قال الإنسان هذا لقيل: إنك مجنون فلابد من فعل الأسباب، لذلك لا يجوز للإنسان أن يجلس في البيت ويقول: إذا قدر لي أكون عالماً فسأكون، ولا داعي للذهاب والتعلم.
لأن في هذا الفعل مخالفة للشرع، ومخالفة للأسباب التي جبل الله جل وعلا الناس عليها، فلا بد من فعل السبب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير ليست جالسة في أوكارها، بل تغدو لطلب الرزق وتروح، فأخبر أنها تغدوا جياعاً خماصاً ليس في حواصلها شيء، ثم ترجع إلى أوكارها في آخر النهار، تروح بطاناً قد شبعت وهي لا تزرع ولا تعمل ولكن يرزقها الله، فأثبت الغدو والرواح لها، فهكذا العاقل يجب أن يعمل، ولا يكون توكله عجزاً، كما يدعي بعض الذين لا يعرفون الشرع ولا يعرفون سنن الله جل وعلا، فالتوكل هو أن تفعل السبب وتعتمد على ربك جل وعلا في حصول المطلوب.
وقد أخبر الله جل وعلا أنه ينصر رسله والمؤمنين، ومع ذلك يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فلابد من الإعداد، ولا نقول: قد أخبرنا صلى الله عليه وسلم فلا داعي لأن نستعد.
بل يجب أن نعد أنفسنا ونتجهز ونطلب السلاح الذي يجب أن يُطلب، كذلك يقول الله تعالى في آية أخرى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] فأمرهم أن يأخذوا أسلحتهم في الصلاة، وأن يقسموا أنفسهم، فقسم يصلي وقسم يحرس ينظر العدو، ومع ذلك حذرهم.(26/5)
حقيقة الإسلام، ومعنى الشهادة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلابد من أخذ الأسباب، فالأسباب لا تنافي التوكل، بل فعل الأسباب هو التوكل، ولكن لا يجوز أن يعتمد على السبب، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيل السبب عجز وقدح في العقل، فالمؤمن يفعل السبب ويعتمد على الله جل وعلا.
قوله: (فقال: انفذ على رسلك) بضم الفاء.
أي: امض، و (رسلك) بكسر الراء وسكون السين، أي: على رفقك من غير عجلة.
و (ساحتهم) فناء أرضهم وهو ما حولها.
وفيه الأدب عند القتال، وترك العجلة والطيش والأصوات التي لا حاجة إليها.
وفيه أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة، كما يشير إليه قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) أي: الذي هو معنى شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله.
وإن شئت قلت: الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له.
كذا قال أهل اللغة].
هذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد للباب؛ لأن الباب باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وهنا يقول: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم لله فيه)، فقوله: (ادعهم إلى الإسلام) هذا هو المراد من سياق الحديث.
وشهادة أن لا إله ألا الله هي الإسلام في الواقع؛ لأن معناها: ألا يكون للمسلم مألوه غير الله، وألا يكون المسلم منقاداً ومطيعاً في الحلال والحرام وما يتقرب به إلى الله إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فلابد يكون الدين كله لله خالصاً.
وقوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) يعني: في الإسلام، مثل وجوب الصلاة، ووجوب الزكاة، وصوم رمضان، والحج على من استطاع إليه سبيلاً، هذا هو الذي يجب عليهم لله جل وعلا فيه، فدل هذا على أن الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت واجبات في الإسلام.
وأما حقيقة الإسلام فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإسلام هو: استسلام القلب بالطاعة، والانقياد لله جل وعلا بالإخلاص، وكذلك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي: طاعته فيما جاء به من عند الله جل وعلا، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بشرعه الذي شرعه، هذا هو الذي يجب على المسلمين عموماً أن يعلموه ويعملوا به، ويدعوا الناس إلى أن يكون المعبود هو الله، والمشرع هو الله الذي يأمر وينهى في كل ما يتصل بهم في حياتهم من التحليل والتحريم؛ لأن المسلم مقيد بشرع الله لا يجوز أن يخرج عن شرع الله، فإن خرج عن شرع الله سواء في المعاملات أو فيما هو خاص بنفسه من العبادات فإنه يكون مخلاً بشهادة أن لا إله إلا الله، فإما أن يكون ذلك منافياً لها، أو يكون قادحاً في كمالها منقصاً لها، فيكون مستوجباً للعذاب، وقد يعذبه الله وقد يتوب عليه، أما إذا جاء بالمنافي فإنه يكون من أهل النار -نسأل الله العافية! - وذلك فيما إذا جاء بالشرك؛ لأن الذي ينافي شهادة أن لا إله إلا الله هو أن يعبد غير الله، والعبادة لغير الله جل وعلا أنواع يفعلها الإنسان وهو لا يدري، مثل الذي يتجه إلى الضريح ويسأله النفع، أو يسأله أن يدفع عنه ضراً من مرض أو عدو أو ما أشبه ذلك، ويقول: إن هذا توسل، وإن صاحب الضريح يدعو الله فيحصل المراد فقط وإلا فهو لا يملك شيئاً مع الله.
وهذا شرك أكبر؛ لأن هذا هو شرك المشركين الذين كانوا يجعلون أصنامهم وأوثانهم وسائط بينهم وبين الله ويزعمون أنها تشفع لهم فقط، ولم يكونوا يعتقدون أن الأصنام والمعبودات التي جعلوها معبودات لهم وسموها آلهة لم يكونوا يعتقدون أنها تتصرف مع الله، وإنما كانوا يقولون: إنها تشفع لنا عند الله، فهذه الشفاعة التي يزعمونها هي الشرك بعينه.
والمقصود أن معنى الإسلام هو ما اقتضته شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن قول الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله معناه: أن لا أعبد إلا الله.
والأفعال التي يفعلها تكون تبعاً للعبادة، سواء في المعاملات التي تكون في البيع والشراء، أو المعاملات التي تكون مع الناس، أو غير ذلك، أي أنه لا يجوز أن يحل حراماً أو يحرم حلالاً ويقول: إنني حر أتصرف كيف أشاء فإنه ليس حراً، بل هو عبدٌ لله، يجب أن يمتثل لأمر الله جل وعلا وينقاد مطيعاً خاضعاً له، فإذا خرج عن ذلك فإنه يخرج عن عبادة الله إلى عبادة هواه أو الشيطان.(26/6)
القلب أصل الإيمان والأعمال
قال الشارح رحمه الله: [وقال رحمه الله: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، وفي الأصل هو من باب العمل عمل القلب والجوارح، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب.
انتهى].
قول القلب وعمل القلب: هو عبارة عن الأمور التي تكون في القلب من العلم والخشوع والخشية والخوف الرجاء والإنابة والاستسلام والانقياد.
فهذه هي أعمال القلب، ثم تنبعث هذه على الجوارح، ويأتي العمل تبعاً للقلب؛ فلهذا قال: (الأصل في القلب) يعني: أصل الإيمان في القلب.
بل أصل الأعمال كلها في القلب؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) والنية هي: عمل القلب.(26/7)
وجوب تخيير الكفار قبل قتالهم إذا لم تكن الدعوة قد بلغتهم
قال الشارح رحمه الله: [فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة، وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3].
وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداءً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم.
قوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه) أي: في الإسلام، إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لابد لهم من فعلها، كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، ولما قال عمر لـ أبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها).
وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: (ألا إني والله! ما أرسل عُمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم).
قوله: (فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (أن) مصدرية، واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم، و (أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر رفع على الابتداء، والخبر (خير)، و (حمر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع أَحْمر.
و (النعم) بفتح النون والعين المهملة، أي: خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب.
قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها.
وفيه فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف].
هذا الحديث سيق لأجل قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب لله عليهم فيه، فإن هم فعلوا ذلك) معنى هذا: أنه يكف عنهم.
وقوله: (إن هذا يدل على وجوب الدعوة إذا لم تكن قد بلغتهم) معنى هذا: أنه إذا كان المسلمون يقاتلون كفاراً، فإن كان الكفار لم تصل إليهم دعوة المسلمين والمعرفة بدينهم فلا يجوز أن يبدءوهم بالقتال حتى يعلموهم ويبينوا لهم ذلك، فإن قبلوا الدين وجب أن يكفوا عنهم؛ لأن القتال شرع حتى لا يكون في الأرض شرك، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، والفتنة هي الشرك، فالقتال شُرع لهذه الغاية، فإذا تركوا الشرك وجب أن يكف عنهم.
هذا بالنسبة لمن يقاتل من الكفار الجاهلين بالدين الإسلامي، فإنه يجب أن يدعوهم إلى الإسلام أولاً، ويبين لهم أن هذا أمر متعين يجب قبوله على كل عبد، فإن أبوا عن قبوله وجب على عباد الله أن يقاتلوا عباد الشيطان، والله جل وعلا جعل العداوة بين أوليائه وأولياء الشيطان، ثم المقاتلة لابد منها، فإن لم يحصل القتال حصلت الفتنة والفساد العريض في الأرض، فإذا أصبح المسلم مخالطاً للمشرك، وأصبح لم يتبرأ منه ولم يظهر له العداوة، فسينتشر الفساد العريض في الأرض، كما أخبر الله جل وعلا في آخر سورة الأنفال لما ذكر أن المؤمنين أولياء المؤمنين وأن بعضهم ينصر بعضاً.
وإذا استنصر المؤمن أخاه المؤمن وجب عليه أن ينصره، ثم ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض فقال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:73] يعني: إلا تفعلوا هذا الشيء بأن يكون المؤمن ولي المؤمن {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، والفساد الكبير في الأرض هو بأن تفسد الأخلاق وتفسد الأديان، ولهذا يقول في الآية الأخرى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
فالمقصود أن مشروعية القتال هي لأجل أن يكون الدين كله لله، وليس من أجل أموال يحصل عليها المسلمون، أو بلاد يستغلونها، أو تكون تحت أيديهم، أو فدية تدفع لهم، أو ما أشبه ذلك من أمور الدنيا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم عند أن كانوا يقاتلون الفرس والروم وغيرهم في بلاد الله كانوا يخيرونهم بين ثلاث، وكانوا يبينون لهم أنهم كانوا في جاهلية وكانوا فقراء وكانوا من أضعف الناس فمنَّ الله جل وعلا عليهم بأن أرسل إليهم نبياً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وأنزل عليهم كتابه، فآمنوا به واتبعوه، فأبدلهم بالقلة كثرة، وبالذلة عزة، وصاروا يقولون للناس: إن قبلتم هذا الدين فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وأنتم إخواننا، ونرجع عن بلادكم، ولن ندخل في شئونكم وإن أبيتم فأمامكم أمران -هذا إذا كانوا من أهل الكتاب-: إما أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون أذلاء، وإما القتال بيننا وبينكم، ويد الله مع من شاء، ونصره لعباده المؤمنين.
هكذا كانوا يقولون لمن أتوه ليقاتلوه، وهذا هو الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(26/8)
استحباب تخيير الكفار الذي قد بلغتهم الدعوة
وأما قوله: (فإن كانت الدعوة قد بلغتهم) أي: فإن الدعوة تكون مستحبة.
وهذا لأن يهود خيبر الذين ذكر فيهم هذا الحديث كانوا قد بلغتهم الدعوة، وكثير منهم أُخرج من المدينة؛ لأنهم حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وحاولوا قتله وحاولوا مظاهرة الكفار عليه، وحاولوا بكل وسيلة أن يقضوا على الإسلام وعلى رسول الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، ثم أجلي بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى خيبر، فهم كانوا عارفين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، ومع هذا قال صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه لما دفع له الراية: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام).
ولابد في الدعوة إلى الإسلام من أن يبين ما هو الإسلام، ولا يكفي أن يقول: أدعوك إلى الإسلام، بل يبين له أن الإسلام هو عبادة الله وحده، وترك عبادة كل معبود سواه، وأنه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في كل ما أمر واجتناب كل ما نهى عنه، وأنه إقامة الشرائع التي شرعها الله جل وعلا، فإذا بين لهم فعند ذلك يقاتلهم إذا امتنعوا من القبول.
فأخذ من هذا أن تكرار الدعوة للكفار قبل القتال مستحبة، وإن كانوا قد دعوا قبل هذا فتعاد عليهم الدعوة مرة ومرة لعلهم يدخلون في الإسلام؛ لأن هذا هو المقصود، وأما القتال فليس مقصوداً لذاته، وإنما يقصد القتال لتكون كلمة الله هي العليا ويظهر دينه وينكف من يمنع انتشار الدين الإسلامي، فالذين يقومون في وجه الدعوة يجب أن يقاتلوا حتى ينكفوا عن ذلك ويتركوا الدعوة تمضي إلى عباد الله في الأرض كلها.(26/9)
الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة وهو سبب عزة المسلمين
ثم من المعروف من شرع الإسلام وعليه علماء الإسلام أن الجهاد مشروع إلى آخر من يكون على هذا الدين من هذه الأمة إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، فما دام الدين الإسلامي قائماً فمشروعية الجهاد قائمة لم تنسخ، حتى إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان فإنه ينزل حاكماً بهذا الدين، ولا يأتي بشرع جديد، بل يكون من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند أن ينزل يقاتل الكفار بهذا الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الدين هو آخر الأديان وهو خاتمها، كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل فليس بعده رسول.
والله جل وعلا يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، إذا شاء نصر عباده أظهرهم وصار الجهاد ظاهراً، وجعل راية الإسلام مرفوعة، وإذا شاء ضعف المسلمين جعلهم تحت حماية الكفار، وجعل الكفار هم الظاهرين، ولكن هذا لا يكون إلا بسبب أفعال المسلمين أنفسهم، وبسبب عدم تمسكهم بدينهم وبسبب رغبتهم في الدنيا، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا رضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم).
وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكله على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا؛ أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تُنزع من قلوبكم المهابة ويُقذف فيها الوهن، فقالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فإذا أحب المسلمون الدنيا ورضوا بها وكرهوا الموت في سبيل الله فهنا يأتي الذل وتأتي المهانة، ويأتي تسلط العدو عليهم، ولا يكون العز إلا إذا سلكوا مثل مسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان قائدهم إذا أتى الكفار يقول لهم: يا هؤلاء! والله لقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون الحياة.
هكذا كانوا يحبون الموت في سبيل الله، يحبونه كما يحب الكفار الحياة، وكانوا إذا قُتل واحد منهم يهنئونه، ويقولون: هنيئاً لك الشهادة.
وكل واحد يودُّ لو أنه هو الذي قُتل، فإذا كانوا بهذه المثابة كانوا أعزاء وأقوياء، ونصر الله معهم.
ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه لافتتاح مصر وحصل ما حصل بينه وبين الروم جمعوا له جمعاً كثيراً قيل: إنهم بلغوا ما يقرب من أربعمائة ألف مقاتل.
وكان معه عدد قليل لا يمكن أنه يصمد بهؤلاء أمام الروم، فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره بالأمر ويستحثه بأن يرسل له مدداً ويقول: أقل ما ترسل إلي أربعة آلاف.
فكتب إليه عمر رضي الله عنه يعاتبه ويقول له: احترسوا من المعاصي أشد من احتراسكم من عدوكم؛ فإنكم لا تنصرون بعددكم وعدتكم، وإنما تنصرون بطاعتكم لربكم جل وعلا وإتباعكم لسنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، فإذا حصلت المعصية تسلط على المسلمين عدوهم ثم أرسل له أربعة رجال فقط بدل أربعة آلاف؛ ومع ذلك نصره الله جل وعلا نصراً ظاهراً على الكفار.
فالمقصود أن الله جل وعلا وعد عباده النصر بشرط التقوى والطاعة، فإذا اتقوه وأطاعوه فإن الله جل وعلا ينصرهم، وقد كان الأمر في أول الإسلام أنه لا يجوز أن يفر المسلم من عدد ضعفه مرات، فكان العشرون مأمورين بمغالبة مائتين في أول الأمر، ثم خفف عنهم وصار الضعف، فإذا كان أمام المسلمين ضعفهم فهذا أمر قد وعد الله جل وعلا بأن النصر لهم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يُغلب عشرة آلاف من قلة)، أي: مهما كانوا أعداؤهم لأن الكثرة ليس لها معنى إذا لم يكن فيها تأييد من الله، فلابد أن يكون هناك ثقة بالله، والتأييد والنصر لا يكون إلا مع الطاعة والإتباع، فإذا وجد هذا فالنصر لابد منه بإذن الله تعالى؛ لأن وعد الله حق، والله لا يخلف وعده.
وإذا ترك الجهاد في سبيل الله فالمسلمون ضعفاء ولابد، ولهذا من السنة الدعاء بإعلاء كلمة الله وإقامة الجهاد في سبيله، بل من الأمور الواجبة على المسلم أن يهتم بهذا؛ لأن الذي لا يهتم بأمر المسلمين ليس منهم، والمسلمون اليوم تمزق أشلاؤهم في كل مكان وتنتهك أعراضهم وتمتهن كرامتهم، ولا أحد ينتصر لهم مع الأسف، وهذا بسبب إعراضنا عن ديننا، أما لو كنا مهتمين بذلك فلن يتجرأ أعداء الله على شيء من ذلك، وقد عرف أن الإسلام يبني الرجال الأبطال الذين لم يسبق لهم نظير في التاريخ، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم فتحوا البلاد في وقت وجيز حتى وصلوا إلى المحيط الأطلسي وإلى حدود الصين، فدخلت تحت حكمهم هذه البلاد الواسعة العريضة، مع أنهم ليسوا كثرة كاثرة، بل كانوا يواجهون قوماًً يفوقونهم في أسلحتهم وفي كل إمكانياتهم، وكانت أسلحة المسلمين سيوفاً مؤثرة بالقد، وخيولهم مخطومة بالليف، وثيابهم قصيرة، وهؤلاء -أحياناً- يقاتلونهم على الفيلة، ومع ذلك نصرهم الله جل وعلا؛ لأن من صبر وأطاع الله ورسوله ينتصر على عدوه بلا شك، وهكذا إذا عاد المسلمون إلى ربهم جل وعلا وراجعوا دينهم فستعود لهم الكرة، ويصبحون قادة وسادة الدنيا؛ لأن وعد الله باقٍ، وكما كان لأول الأمة فهو لسائر الأمة بشرط الصبر والمتابعة والتقوى.
هذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقاتل مقاتلة عظيمة، وكان إذا اشتد القتال تدرع به الأبطال، كما جاء أنهم رضوان الله عليهم كانوا إذا اشتد القتال يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يباشر القتال بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تركت سرية تخرج إلا وخرجت معها)، ومن باب أولى ولا جيش ولا غيره؛ ومع ذلك خرج خرجات كثيرة جداً يقاتل بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ولما كان في غزوة حنين كان مسروراً، والكفار قد كمنوا لهم دون علمهم، فسار المسلمون في الوادي على غفلة فرشقوهم بالنبل وهم غافلون ما استعدوا ففروا وهزموا، فعند ذلك نزل الرسول صلى الله عليه وسلم من على بغلته وصار يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، هلم إلي) فصار المسلمون يرجعون إليه شيئاً فشيئاً حتى حمي القتال، وصاروا يأتون بالأسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غاية الشجاعة، فكون الصحابة ينهزمون ثم يترجل عن دابته ويعلن للناس: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: كأنه يقول: هلم إليّ إذا كان عندكم قوة وشجاعة(26/10)
الواجب على المؤمن أن يكون واثقاً بالله
وهكذا المؤمن يجب أن يكون قوياً واثقاً بالله، ويكون أيضاً ضعيفاً إلى ربه جل وعلا ومستنصراً يدعوه بكل افتقار ولهف، كما كان صلوات الله وسلامه عليه كذلك، فإنه يوم بدر صار يمد يديه إلى السماء ويقول: (يا رب يا رب! وعدك الذي وعدتني، يارب! أنجزني وعدك) حتى سقط رداؤه من على كتفه من شدة مبالغته في رفع يديه في الدعاء، فأخذ رداءه أبو بكر ووضعه على كتفيه، وقال: حسبك مناشدتك لربك، والله! لينصرنك الله.
وهذا ثقة بوعد الله جل وعلا؛ لأنه وعد رسوله والمؤمنين بالنصر.(26/11)
فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله
وعلى كل حال فالجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال، كما قال صلوات الله وسلامه عليه في الإسلام: (وذروة سنامه الجهاد) فذروة سنام الإسلام هو الجهاد في سبيل الله، أي: أعلى خصال الإسلام الجهاد في سبيل الله.
ومن دخل الجنة لا يتمنى أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد؛ فإنه إذا رأى من الكرامة التي أعدت عند ربه يتمنى أنه يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى حتى يحصل له أيضاً مما يرى من الشيء العظيم، أما غيره من الأموات من أهل الخير فإذا مات فما عند الله خير له مما خلف، فلا يتمنى الرجوع إلى الدنيا.(26/12)
الدعوة إلى الله تكون بالجهاد وبغيره
ثم إن الدعوة إلى الله مطلقة في غير الجهاد على حسب طاقة الإنسان، فيتعين على المسلمين أن يقوموا بها، فإذا قام بها من يكفي تسقط عن البقية وإلا أثموا جميعاً، وأهم من يقوم بهذا هم أهل المقدرة في المال، وكذلك من كان في السلطة، فهؤلاء الذين يستطيعون أن يقوموا بهذا، فإذا لم يقوموا بهذا فإنه أيضاً واجب على جميع المسلمين كل بحسبه وقدرته.(26/13)
أجر الداعي إلى الله جل وعلا وإثم الداعي إلى الضلال
فيجب أن يدعو الإنسان إلى الله عز وجل، وفي الدعوة الخير الكثير.
ومما بين لنا صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث قوله (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) أي: خير لك من النوق الحمر، وهذا في وقته صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن في وقته كان أفضل الأموال وأنفسها هي النوق الحمر، أما في هذا الوقت فقد تغير الحال، وكما قال النووي: هذا تقريب للأذهان فقط، وإلا فذرة من أمور الآخرة خير مما طلعت عليه الشمس.
يعني: خير من الأرض كلها وما عليها، وإنما يقول صلوات الله وسلامه عليه ذلك تقريباً للأفهام فقط، يقول: لرجل يهتدي على يديك فيدخل في الإسلام خير لك من الدنيا لو قدر أنها تحصل لك هذا معنى الكلام، وذلك أن بهدايته يحصل لك من الأجر مثل الأجر الذي يتحصل عليه هو من غير أن ينقص من أجره شيء، وزيادة في ذلك أنك أنقذت إنساناً من النار.
وقد قال الله جل وعلا في قتل الأنفس: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] أي أن الذي يحيي النفس كأنما أحيا الناس جميعاً، وليس المقصود بالحياة هنا البعث بعد الموت، فهذا ليس إلى الخلق، ولكن المقصود أن يحول بينها وبين الموت، ومن أعظم الموت موت الكفر، فكل إنسان كافر فإنه ميت، وإذا دخل في الإسلام فقد حيي، كما قال جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] يعني: كان ميتاً كافراً فأحياه الله بالهداية إلى الإسلام، وجعل له نوراً يهتدي به إلى الله.
فمن اهتدى على يده رجل يكون بهذه المثابة، وكأنما أحيا الناس جميعاً، كما أن الذي يضل على يديه رجل فيخرج من الإسلام إلى الكفر فإن يكون كأنه قتل الناس جميعاً، فبدل كونه يحصل على الفضل يحصل على الإثم العظيم، وذلك أن الله جل وعلا خلق الناس لعبادته وبين لهم طرق الخير وطرق الشر، وجعل الأمر إليهم باختيارهم؛ لأن هذا هو الذي يستحق عليه الإنسان الثواب أو العقاب، فإذا فعل الخير واقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه استحق الجنة والثواب العظيم، أما إذا أبى وزُين له سوء عمله وصُد عن هدى الله فإنه لن يعجز الله، وله العقاب الشديد الذي ينتظره بعد الموت.
وقد بين ربنا جل وعلا لنا شيئاً من ذلك، أخبر أن الكفار لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها شيئاً، بل يبقون خالدين فيها أبداً ما دامت السماوات والأرض، وجهنم نارٌ تتلظى لا ينطفئ لهبها ولا ينقطع عذابها -نسأل الله العافية! - كما قال سبحانه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] والإنسان لو سقط في النار لحظات لمات، ولكن في الآخرة ليس هناك موت، والله جل وعلا القادر على كل شيء يمنع الموت منه، وإلا فالموت يأتيه من كل مكان، ولهذا ينسى الدنيا، وينسى كل ما حصل له من النعيم؛ ولهذا يخبرنا ربنا جل وعلا أنهم إذا وقفوا بين يدي الله يسأل بعضهم بعضاً: كم لبثتم في الدنيا في الأرض؟ فواحد يقول: لبثنا يوماً وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، وواحد يقول: لبثنا بعض ساعة.
لأن هذا العذاب العظيم لا يُتصور أنه مثل عذاب الدنيا، وهكذا النعيم لا يتصور أنه مثل نعيم الدنيا، بل هو أعظم بمرات، لكن هذا من باب التقريب للأذهان والأفهام، ثم إن الإنسان ليس له أن يقول: لست مكلفاً بالدعوة.
كلا، بل الله كلفك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وهل هذا يخص قوماً دون قوم أم يعم الأمة كلها؟ يعم الأمة كلها.(26/14)
الواجب على الداعي إلى الله جل وعلا
يجب على الذي يدعو أن يكون عارفاً بالدعوة، وأن يكون عالما ً بما يدعو إليه، عالماً بأن هذا منكر فيدعو إلى تركه، وأن هذا معروف فيدعو إليه، ولا يدعو بالعادات أو بالجهل؛ فإنه إذا كان بهذه المثابة فإنه يفسد أكثر مما يصلح، بل يجب أن يبدأ بنفسه فيعرف دين الله، فإذا عرفه فلا يقتصر على نفسه، وإنما يدعو الخلق على حسب حاله، والله جل وعلا لم يكلف الإنسان شيئاً لا يستطيعه، فإن استطعت أن تغير بيدك فذاك إليك، وإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاسكت عنه، ويبقى الإنكار في القلب، فهو كراهة المنكرات وبغضها وكراهية أهلها وبغضهم، هذا هو إنكاره في القلب، وهذا لا يسقط بحال من الأحوال؛ لأن القلب ليس لأحد عليه سلطة.
فالمقصود أن الدعوة واجبة على حسب المقدرة، وبحسب الحال، سواء كانت دعوة الكفار أم دعوة الفسقة والعصاة، كلٌ على حسب المقام والوضع والمكان الذي أنت فيه، ولو أن المسلمين تظافروا على الدعوة إلى الله لتبدلت مجتمعاتهم خيراً، ولكانت أحوالهم أحسن من أحوالهم اليوم، ولكنهم يتساهلون في هذا أو يقصرون فيه أو يجهلونه أو لا يبالون به فحصل بذلك التقصير والنقص كما هو الحال، والله المستعان.(26/15)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [27]
الدعوة إلى الله طريق من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، والإخلاص من أهم مقومات هذه الدعوة، كما أن الدعوة إلى الله على بصيرة من الفرائض، وباب الدعوة إلى الله يستخرج منه الكثير من الفوائد والأحكام، جمع بعضها المصنف في مسائل هذا الباب.(27/1)
مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم].
هذا مأخوذ من قوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فكل من كان له نصيب من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون له نصيب من الدعوة حسب اتباعه، فإن كان اتباعه كاملاً كانت دعوته إلى الله كاملة، وإن كان الاتباع فيه نقص فستكون الدعوة فيها نقص؛ لأنه سبحانه قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله علي بصيرة.
وهذا يدلنا على أن الداعي إلى الله يجب أن يكون في دعوته على بصيرة.
والبصيرة هي العلم فيما يدعو إليه، وكذلك هي الفهم والفقه في هذا الأمر، فيجب عليه أن يُرجع الأمور إلى القواعد الشرعية والكليات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون على حسب ما يزين له نظره يتخبط تخبطاً، فإن هذا لن تنجح دعوته، ثم على هذا ستكون الجدوى فيها قليلة، وقد لا يكون مأجوراً فيها.(27/2)
الدعوة إلى الله جل وعلا يجب أن تكون خالصة له سبحانه وتعالى
[الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه].
هذا مأخوذ من قوله: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]، فقوله: ((إلى الله)) يدلنا على أن الدعوة يجب أن تكون لله، ولا تكون للأنفس ولا للمصالح ولا لغير ذلك، فهنا يقول: فيه التنبيه على وجوب الإخلاص في الدعوة؛ لأن كثيراً من الناس وإن كان ظاهر دعوته أنها إلى الله فهي إلى نفسه، كأن يريد -مثلاً- أن يتبوأ منصباً عندهم، أو أن يعرفوه، أو أن يقال: إنه عالم.
أو إنه داعية.
أو ما أشبه ذلك مما هو من حظوظ النفس؛ لأن النفس تحب الترأس، وتحب أن ترتفع على الناس وأن يكون لها مقام في قلوبهم، فإذا كان الإنسان يريد هذا الأمر فبئس ما أراد، وستكون دعوته إلى نفسه، وإذا وقف بين يدي الله فسوف يكون ممن ذكر في الحديث الذي في الصحيح: (أول من تسجر بهم النار ثلاثة: رجل قتل في سبيل الله، والآخر أنفق أمواله في سبيل الله -يعني: في الظاهر- وعالم أو متعلم، فيؤتى بالعالم ويقرر بنعم الله عليه، فيقول الله جل وعلا: ماذا صنعت؟ فيقول: يارب! تعلمت فيك العلم وعلمته.
فيقول الله: كذبت.
وتقول: الملائكة كذبت.
ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، فقد قيل.
فيؤمر به فيسحب إلى النار)، فهؤلاء ثلاثة أعمالهم من أفضل الأعمال، المجاهد والمتصدق والمتعلم (فيؤتى بالمجاهد الذي قتل في سبيل الله -في الظاهر- فيقرره الله جل وعلا بنعمه فيقر بها، فيقول الله: ماذا عملت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي في سبيلك حتى قتلت في سبيلك.
فيقول الله: كذبت -والله علام الغيوب يعلم ما في قلبه وما في نيته- ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء، هو شجاع.
فقد قيل) يعني: قد لقيت أجرك وأخذت نصيبك من العمل، وهو قول الناس وقول الناس قد ذهب وانتهى.
(ويؤتى بالذي تصدق فيقول الله جل وعلا: ألم أنعم عليك؟ ألم أصح بدنك؟ ألم أهبك المال؟ فيقول: بلى يارب.
فيقول: ماذا عملت؟ فيقول: يارب! ما تركت طريقاً من طرق الخير إلا بذلت فيه المال وأنفقته في سبيلك.
فيقول الله: كذبت، ولكنك بذلت ليقال: هو جواد، هو كري.
وقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار) هؤلاء الثلاثة هم أول من تسجر بهم النار -نسأل الله العافية- قبل عباد الوثن؛ لأنهم في الواقع صارت مراءاة الناس والنظر إليهم أعظم عندهم من الله، فهذا الإنسان الذي يدعو ويريد أن يظهر أمام الناس بأنه داعية وأنه عالم وأنه متكلم يستطيع البيان وأنه ذو مقدرة فإنه في الواقع يدعو إلى نفسه لا يدعو إلى الله، وإنما الشيء الذي ينفع ويجدي إذا كان الأمر خالصاً لوجه الله جل وعلا، ومن سنة الله جل وعلا أن المرائي ينكشف، وأن كلامه لا يجدي شيئاً، وأنه لا يدخل القلوب ولا ينفع، وهذا في الغالب وإلا فقد ينفع؛ فإنه جاء في الحديث: (يؤتى بالرجل فيلقى في جهنم فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: ما بالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى.
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) فقد انتفع به، لكنه كان هو المتضرر، فأشقى الناس هو الذي يضل بعلمه وينتفع بعلمه غيره، كالذي يجمع المال من أوجه حرام ويمنع حق الله فيه، ثم يرثه بعده غيره فيطيع الله فيه فيدخل بهذا المال الجنة، والذي جمعه يدخل به النار، فكيف تكون حسرة هذا يوم القيامة وهو يرى غيره قد سعد بماله وهو شقي به؟! هذا كالذي يرى أن غيره سعد بعلمه وهو شقي به، فهؤلاء يتحسرون حسرات عظيمة جداً، بل أشد الناس حسرة هو من كان بهذه المثابة.
فالواجب على العبد أن يخلص أعماله لله في كل ما يعمل، والدعوة من أعظم الأعمال وأفضلها.(27/3)
الدعوة إلى الله جل وعلا يجب أن تكون على بصيرة
[الثالثة: أن البصيرة من الفرائض].
البصيرة من الفرائض، وإذا كانت من الفرائض فالتفريط بها يعاقب عليه الإنسان؛ لأن الفريضة يلزم الإنسان أن يمتثلها، ولكن البصيرة هنا تكون على حسب حال الإنسان، فالإنسان يجب أن تكون عنده بصيرة في عبادته لربه، فيعبد الله على بصيرة، ويجب أن يكون عنده بصيرة في المعاملات التي يتولاها وإلا فسوف يسقط في الحرام؛ لأن الإنسان مكلف في أن يكون تصرفه وفق الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن عنده بصيرة في ذلك فإن يكون آثماً، ويكون واقعاً في المخالفة، ثم ينجر بأسباب ذلك إلى وقوعه في المحرمات، فيستحق بذلك العذاب، وإذا كان الإنسان من ذوي المقدرة في العلم والتعلم ازداد الواجب عليه أكثر من غيره، وهكذا تختلف البصيرة باختلاف المقدرة والاستطاعة، فالذي يجب على العالم ليس مثل ما يجب على العامي، والذي يدخل نفسه في المعاملات وفي شئون المسلمين يجب عليه أكثر ممن لا يكون كذلك، وهكذا، فهذه البصيرة في كل ما يكون منوطاً بالإنسان من الأعمال، سواء الأعمال التي تتعلق بخاصة نفسه وأهله وأولاده، أو الأعمال عامة، فإنه يجب عليه أن يكون عنده بصيرة في الدين لئلا يقع في المخالفات، ولئلا يقع في خلاف الشرع، فإنه إذا وقع في خلاف الشرع فإنه آثم، وليس كونه يقول: أنا جاهل، وأنا ما أعرف يبرر فعله؛ لأن هذا ليس بعذر؛ لأن كتاب الله موجود وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بلغها إلينا موجودة، ولكن إذا حصل تقصير في عدم معرفة ذلك فبسبب تقصير الإنسان في التعلم، فلا يجوز للإنسان أن يقحم نفسه في أمر من الأمور إلا وهو يعرف حكم الله فيه، ولهذا كان من القواعد التي قعدها العلماء قاعدة يقولون فيها: الأصل في العبادات الحرمة حتى يتبين لك أنها مشروعة.
وليس معنى ذلك الأصل في العبادات المعلومة مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، لا.
وإنما الأصل في الأعمال التي يُتعبد الإنسان بها والتي يرجو بها الثواب من الله جل وعلا، فهي كأنها ممنوعة حتى يأتي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يقول: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود وهذا في الأعمال التي يتعبد بها، فإذا عمل الإنسان عملاً لم يشرع فهو مردود، فتبين بهذا أنه يجب على الإنسان أن يتعرف على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى شرعه حتى لا يُرد عمله، ولا يجوز أن يتعبد بالبدع والشيء الذي لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا من المحرمات، بخلاف الأمور التي أصلها الإباحة، فإنها تكون مباحة حتى يأتي الدليل على أنها ممنوعة، مثل المطعومات والمشروبات والمعاملات.
فالمقصود أن الإنسان عبدٌ لله، يجب أن يكون ممتثلاً أمر الله ونهيه، وليس هو بعبد لنفسه ولا عبد لغير الله جل وعلا، بل هو عبد لله، والعبد لا يكون خارجاً عن طاعة سيده.(27/4)
التوحيد تنزيه لله عز وجل
[الرابعة: من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة].
وذلك أن الإنسان إذا عمل العمل لله وحده فمعنى ذلك أنه نزه الله عن المسبة، والمسبة معناها أن يُدَّعى أن لله شريكاً، فهذه المسبة المقصود بها أن الإنسان يدعو مع الله أو من دون الله شريكاً، سواءً زعم أنه ولي من أولياء الله أو نبي أو ملك أو حجر أو شجر، أو غير ذلك مما هو موجود في الناس، فكل من طلب منه ما ليس قادراً عليه فإنه يكون بهذا الطالب جاعلاً له شريكاً مع الله جل وعلا، وهذا التنزيه مأخوذ من قوله جل وعلا: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، ((وسبحان الله)) يعني: تنزيهاً لله أن أقع في الشرك.
فدل هذا على أن التوحيد تنزيه لله، وهذا من محاسنه، ولا شك أنه لن ينجو أحد من عذاب الله إلا بالتوحيد، ويكفي في كونه واجباً على الإنسان أن الله خلق الإنسان ليكون موحداً، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].(27/5)
الشرك مسبة لله سبحانه وتعالى
[الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله].
معنى كون الشرك مسبة لله أن يجعل مع الله من يُدعى ومن يُرجى ومن تُطلب منه الشفاعة؛ لأن الله أخبرنا أنه مالك كل شيء، وليس لأحد معه تصرف، كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] فنفى أن يكون لهم ملك في السموات والأرض، وهذا عام في جميع المدعوين من دون الله، ثم نفى أن يكونوا شركاء للمالك بهذا القدر، ثم نفى أن يكونوا معاونين أو مساعدين للمالك، فماذا بقي؟ لم يبق إلا الشفاعة، فنفاها وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، فكون الإنسان يدعو غير الله جل وعلا ويطلب منه الشيء الذي يطلب من الله أو بعضه يكون بهذا قد تنقص الله جل وعلا، وقد جعل ما هو حق الله للمخلوق الضعيف، وهذا هو معنى مسبة الله جل وعلا، والإنسان يؤذي ربه بكونه يجعل له شريكاً، لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذىً سمعه من الله، يدعون له ولداً ويرزقهم ويعافيهم) يدعون له شريكاً ويرزقهم ويعافيهم! أليس هذا عجيباً؟! والله جل وعلا لا يفوته شيء، فمرجعهم إليه، وسوف يجازيهم بما يستحقون، كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26]، ثم بعد المحاسبة إما ثواب وإما عذاب.(27/6)
أهم الأشياء على المسلم الابتعاد عن الشرك
[السادسة: -وهي من أهمهما- إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك].
هذا مأخوذ من قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
يقول: إن من أهم المسائل كون المسلم يبتعد عن المشركين، والابتعاد يكون معنوياً ويكون حسياً، فالمعنوي يكون بالاتجاه والديانة والاعتقاد، فلا يجوز للمسلم أن يكون على شيء مما عليه المشرك، وأما الحسي فبالمكان وبالديار، فعلى المسلم أن يكون مبتعداً عنهم، وليقل كما قال الله سبحانه: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] لا عقيدة وعملاً ونهجاً، ولا موطناً وداراً، بل لابد أن يكون المسلم متميزاً عن المشرك بعيداً عنه، وهذه هي الحنيفية دين إبراهيم الذي أُمرنا بالإقتداء به، كما قال ربنا جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].(27/7)
التوحيد أول واجب على العبيد
[السابعة: كون التوحيد أول واجب].
التوحيد هو أول واجب، وهو أول ما يُدعى إليه، فعندما يبدأ الداعي إلى الله جل وعلا بالدعوة فإنه يبدأ بالأصل الذي يُبنى عليه غيره، وكل الأعمال تبنى على التوحيد، والتوحيد معناه أن يكون العمل لله وحده، وأن تُخلص العبادة لله جل وعلا وحده، ولذلك الإنسان إذا كان يعبد الله ويبعد معه غيره فعمله غير مقبول بل كل عمله مردود؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، فلابد أن يبدأ بما يصحح العمل أولاً، ثم بعد ذلك يبنى على أساس صحيح، فإذا جاءت الأعمال من المخلص الموحد ولو كانت قليلة فهي نافعة، أما الأعمال الكثيرة ممن لا يخلص دعوته وعبادته لله جل وعلا فهي مردودة غير مقبولة.
وهذا معنى قول العلماء: إن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن تكون العبادة لله وحده، ولا يكون فيها شيء لغيره.
الأصل الثاني: أن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإذا تخلف واحد من هذين الأصلين فإن العبادة مردودة غير معتبرة وغير مقبولة، فإن كانت على غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكون بدعة، وقد تكون شركاً فتكون مردودة؛ لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه.
ثم إن كون أول ما يبدأ به هو التوحيد هذا إقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أول ما بدأ دعوته قال للناس: (قولوا: لا إله إلا الله)، وقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وكذلك الرسل قبله كانوا أول ما يبدأون دعوتهم به هو أن يدعوا إلى عبادة الله وحده جل وعلا، كما قص الله علينا في القرآن أن كل واحد منهم كان يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وهذا معنى قولنا: لا إله إلا الله.
فقوله جل وعلا الذي ذكره عنه عن الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:32] قوله ((اعبدوا الله)) هو معنى (إلا الله)، وقوله: ((ما لكم من إله غيره)) معنى (لا إله).
فالرسل من أولهم إلى آخرهم أصل دينهم واحد، وكلهم جاؤوا بالدعوة إلى عبادة الله وحده جل وعلا، ودليل قول المصنف ما تقدم في هذا الحديث أنه قال لـ معاذ: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله)، وكذلك قوله لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أعطاه الراية قال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام)، فالدعاء إلى الإسلام هو الدعاء إلى التوحيد وإلى شهادة ألا إله إلا الله، وهذا هو الذي يجب على الداعي الذي يترسم خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله وأن يبدأ به أولاً، أما قول القائل: إني أبدأ بتحسين أخلاق الناس وبسلوكهم، ثم بعد ذلك يمكن أن يعرفوا التوحيد فإن هذا لا يصلح؛ لأن العمل إذا لم يكن على التوحيد وعلى دين صافٍ فإنه محبط وباطل ولا فائدة فيه، بل يكون تعباً بلا فائدة، كما قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]، وهذا في الذين يتعبدون على غير أساس، إما لأنهم غير مخلصين لله جل وعلا، أو لأنهم لا يتعبدون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ويتعبدون بالبدع، وكل واحد من هذين الأمرين يكفي في إحباط العمل، وإن كان الإنسان يخشع وإن كان يتعب وهو على هذه الطريقة فعمله مردود، فكل الاهتمام يجب أن يكون في إخلاص العمل، وفي كونه صواباً، كما قال جل وعلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] قال بعض السلف في تفسير هذه الآية: يعني: أيكم أصوبه وأخلصه؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لا يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لا يقبل يعني أنه إذا كان على السنة ولم يكن خالصاً لله فهو مردود، وإن كان خالصاً لله وليس على السنة فهو مردود، فلابد أن يكون خالصاً موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.(27/8)
التوحيد يبدأ به قبل الأعمال
[الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة].
لأن التوحيد هو الأصل، وعليه تبنى سائر الأعمال كلها، فيجب أن يكون الأساس صحيحاً مكيناً معتبراً وإلا فسوف يكون البناء فاسداً كما هو معلوم في العقل والشرع والنظر.(27/9)
التوحيد هو معنى شهادة (أن لا إله إلا الله)
[التاسعة: أن معنى أن يوحدوا الله معنى شهادة ألا إله إلا الله].
توحيد الله هو ما دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله؛ لأن معنى (لا إله) نفي لتأله لغير الله، و (إلا الله) إثبات التأله لله وحده، فصار في هذا النفي والإثبات، فتوحيد العمل العبادة والالتجاء إلى الله وحده، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، سواءٌ أعمال القلوب أو أعمال الجوارح، كلها يجب أن تكون على وفق الشرع، وأن تكون خالصة لله، وأن يكون التأله لله وحده، وإذا حصل تأله لغير الله فإن هذا هو الشرك، والتأله معناه تأله القلب بالحب والخضوع والذل، ويجب أن يكون الحب والخضوع والذل والتعظيم في أداء العبادات لله وحده.(27/10)
جهل أهل الكتاب بكلمة التوحيد
[المسألة العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها].
المقصود بقوله: [من أهل الكتاب] يعني: من العلماء.
فيمكن أن يكون من العلماء وهو لا يعرف معنى هذه الكلمة، أو أنه يعرفها ولكن لا يعمل بها، والعلم إذا لم يهتد به صاحبه فهو شر، ويكون حجة عليه وزيادة عذاب، وعذابه أشد من عذاب الذي لا يعلم، فالذي لا يدعوه العلم إلى أن يكون عبداً لله ولم يكن كلما علم شيئاً زادت عبوديته لله وزاد ذله وخضوعه له وزادت سكينته وتواضعه فإنه لا يزداد بعلمه إلا بعداً من الله جل وعلا.
وقد يكون لا يعرف الحق الذي أوجبه الله عليه، وليس المقصود أنه يكون من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقط، فقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فلما سئل عن الواحدة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فأخبر أن هذه الأمة تزيد على التفرق السابق بواحدة.
والمقصود بالأمة اليهودية التي افترقت على إحدى وسبعين، وبالأمة النصرانية التي افترقت على اثنتين وسبعين، وبأمة محمد صلى الله عليه وسلم التي افترقت على ثلاث وسبعين هي التي استجابت للرسل، ما هي بالأمة التي بعث فيها الأنبياء، بل الأمة المستجيبة، فالمسلمون أنفسهم يفترقون إلى هذه الفرق، أما غيرهم فما يقال: إنهم يفترقون على كذا وكذا.
أو إنهم في النار.
لأنه مفروغ منهم، فهم كفار في الأصل، فالكفر مهما تعددت طرقه ومناهجه فهو ملة واحدة، الكفر كله ملة واحدة، فإذا كان الأمر هكذا فكل من تشبه باليهود أو بالنصارى من هذه الأمة فهو ملحق بهم، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستترسم طريق اليهود والنصارى شبراً بشبر فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، والقذة: هي ريشة السهم.
يعني: مثل الرصاصة التي توضع الآن في البندق، هل الواحدة تختلف عن الأخرى؟ لا تختلف، كل واحدة مثل الأخرى، يعني أنكم تسيرون خلفهم متبعين لهم كما ساروا (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ومثل صلوات الله وسلامه عليه بجحر الضب لأن جحر الضب من أصعب الجحور؛ لأنه يحفر جحراً ملتوياً، فهو يتلوى في حفره، لا يحفر جحراً مستوياً كما في سائر الجحور، فالدخول فيه صعب جداً، فيقول: لو قدر أنهم يسلكون هذا المسلك المعوج الضيق الصعب لسلكتم خلفهم.
حتى إنه جاء في بعض الروايات: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك) مبالغة في اتباعهم، والواقع يشهد لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نرى المسلمين -وللأسف- يتأسون باليهود والنصارى في كل شيء، في اللباس، وفي المركب، وفي الهيئة، وفي المأكل، وفي المشرب، حتى تجد أن كثيراً من الناس يأكل بشماله؛ لأنه رآهم يأكلون بشمائلهم، يقتدي بهم، وربما يتدين بأنه يأكل بالشمال، ويرى أن هذا تقدم وأن هذا تطور، ويتزين بذلك -نسأل الله العافية-، وهذا انحطاط في الواقع ومهانة، فإن المسلم يجب أن يكون معتزاً بإسلامه، وتجد بعضهم يأتي بالكلاب ويضعها في البيت أو يضعها في السيارة، وما هناك حاجة لها إلا أنه رأى أولئك يصنعون هذا الشيء فصار يقتدي بهم.
وهكذا في كل شيء إذا نظر الإنسان بعينه واعتبر فإنه يرى ما وقع في الأمة مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي لم يقع سيقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بهذا من باب التحذير، يحذرنا ويقول: إياكم أن تسلكوا هذه المسالك، لا تفعلوا كما فعلوا.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).
فالواقع يشهد بما نطق بهذا الحديث، فالمسلمون لما كانوا مترسمين طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أعزة وأقوياء ولهم هيبة وسيطرة، فكلما ابتعدوا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلوا وسقطت هيبتهم وتسلط عليهم الأعداء وكثر تفرقهم وتشتت القلوب؛ فإن من أعظم المصائب أن تصاب قلوب المسلمين، ويصبح كل واحد يبغض الآخر، ويصبح كل واحد عدواً للآخر، وقد يكون نهجهم سواء في العلم وفي العمل، ولكن تنافسوا في الدنيا أو في المناصب أو في غير ذلك فسلط الله جل وعلا عليهم الذلة لكونهم تركوا السنة التي جاء بها رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكلما تركوا سنة استحدثوا بدعة أو مخالفة يعاقبون بها؛ فإن سنة الله جل وعلا أنه يعاقب من يعرفه أكثر من عقاب من لا يعرفه، كما في الأثر القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) -نسأل الله العافية- فيصبحون -مثلما قال في الحديث الآخر-: (غثاء كغثاء السيل)، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.
قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا.
أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وغثاء السيل هل فيه نفع وفائدة؟ لا.
والغثاء الذي يرمي على جانب الوادي ما فيه خير، يقول: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع من قلوبكم المهابة ويقذف فيها الوهن.
قالوا: وما الوهن -يا رسول الله-؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) كراهية الموت للرغبة في الدنيا، إذا حصلت رغبة في الدنيا كره الناس الموت؛ لأنهم عمروا دنياهم وأفسدوا آخرتهم، ومن كان بهذه المثابة يكره الموت؛ لأنه يعرف أن مستقبله غير مرضي عنه، فما يرضى بعمله الذي عمله للمستقبل، يخاف ويكون كالهارب الذي يؤتى به مقيداً إلى سيده، أو يؤتى به مقيداً إلى سلطانه، يكون مثل هذا خائفاً.
والمقصود أن العباد يجب عليهم أن يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من كان يريد العزة فالعزة لله، العزة في طاعة الله، وطاعة الله في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.(27/11)
التعليم بالتدرج
[المسألة الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
المسألة الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم].
وهذا ظاهر من حديث معاذ بن جبل، حيث قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله، فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) إلى آخره، فبدأ بالأهم ثم ما يليه ثم ما يليه، وهذا معنى التدريج، أن يبدأ بالشيء المهم.
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يبدأ في طلبه العلم بالأهم، ثم بما هو مهم وإن كان قليلاً، ثم بالشيء الذي يليه في الأهمية، وهكذا وإن كان قليلاً، ومعلوم أن الإنسان إذا كان يريد أن يبني أو ما أشبه ذلك لا يأتي من آخر الشيء فيبدأ -مثلاً- بالسقف أو بالحيطان، لا بد أن يبدأ بالتأسيس أولاً، والتأسيس يكون قوياً، ولا يكون قوياً إلا بالأصول، فيبدأ بالأصل شيئاً فشيئاً ويثبته، فإذا ثبت يبني عليه، وكلما ازداد البناء كثر، فهكذا في الأعمال وفي طلب العلم وفي غيرها، أعمال الدين يجب أن تكون على هذا الأساس، على وفق ما أرشدنا إليه رسولنا صلى الله عليه وسلم.(27/12)
مصارف الزكاة
[الثالثة عشرة: مصرف الزكاة].
ذلك من قوله: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وقد عرفنا أن الله جل وعلا هو الذي تولى صرف الزكاة بنفسه، حيث قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، فذكر أهل الزكاة وهم ثمانية: أولهم الفقراء والمساكين.
وقد اختلف فيهم، فقيل: إن الفقير هو الأكثر حاجة؛ لأن الله جل وعلا يبدأ بما هو أهم، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، ثم عطف عليهم المساكين ومن بعدهم.
وقالوا: إن المسكين هو الذي يجد بعض الحاجة أو يجد حاجة سنته فقط، والفقير الذي لا يجد الكفاية، يجد بعضها ولكن لا يجد ما يكفي، والمسكين قد يكون عنده مال، وقد يكون عنده أشياء، ولكن هذه التي عنده لا تكفي، وقد أخبرنا الله جل وعلا في قصة موسى والخضر أنه قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، أخبر أنهم مساكين ولهم سفينة، فدل هذا على أن المساكين أقل حاجة من الفقراء، هذا إذا جاء ذلك في مثل هذه الأسلوب، أي: عطف واحد على الآخر.
أما إذا ذكر الفقراء وحدهم أو قيل: المساكين، فهم عبارة عن شيء واحد، فالفقراء والمساكين يكونون كلهم داخلين في هذا الخطاب، مثل الإسلام والإيمان، فإذا قيل: (الإسلام) دخل فيه الإيمان، وإذا قيل: (الإيمان) دخل فيه الإسلام.
وأما العاملون فهم السعاة الذين يسعون في جباية الزكاة، إذا لم يكن لهم مرتبات من بيت المال فإنهم يعطون منها بقدر عملهم.
وأما المؤلفة قلوبهم فقد اختلف العلماء فيهم، قيل: هذا كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وانتهى، واليوم لا يجوز أن يعطى أحد من الكفار رؤساء القبائل.
وقد كان رؤساء القوم الذين إذا أسلموا صار لإسلامهم أثر في الإسلام بأن يسلم بإسلامه أناس كثير، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقة ويكثر لهم، حتى قد يعطي الواحد مائة من الإبل، ويتألفهم، والتألف معناه أن يعطون من الدنيا ترغيباً لهم بأن يدخلوا الإسلام، فإذا دخلوا الإسلام وتمكن من قلوبهم عندها يرغبون فيه ولا يرغبون في الدنيا، ويتركون ما دخلوا الإسلام من أجله، وإذا دخل الإسلام في قلب الإنسان أصبح لا يهتم بزينة الدنيا.
فمن العلماء من يقول: إن الحكم باقٍ.
ومنهم من يقول: انتهى في وقت النبي صلى الله عليه وسلم.
فالذين يقولون: إنه انتهى يقولون: إن الله جل وعلا قد أعز الإسلام، وتبين الحق والهدى، فلسنا بحاجة إلى تأليف الكفار على الإسلام، والصواب أن الحكم باقٍ إذا وجدت الحالة التي تشابه الحالة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو وجد من لو أعطي من الزكاة لكان هذا يرغبه في دخول الإسلام بشرط ألا يكون فرداً، فالفرد الواحد ما يعطى لأجل أنه فرد، وإنما يعطى لأن بإسلامه يسلم غيره، فيكون رئيساً لإسلامه أثر، والرئاسة تختلف، قد يكون مثلاً قدوة لغيره يقتدى به، وإذا أسلم أسلم غيره، أو يكون مطاعاً إذا أمر غيره اتبعه، وما أشبه ذلك، فهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم.
وأما الغارمون فالغارم هو الذي يتحمل المال للإصلاح، كأن يجد من يتشاجرون أو يتقاتلون من المسلمين فيصلح بينهم ويتحمل أموالاً في سبيل ذلك، إما لشيء قد أتلفه أحدهم، أو يبذل لهذا حتى يترك ما يتشبث به من أن له حقاً، فمثل هذا لأنه سعى بالإصلاح يعطى من الزكاة؛ لئلا تجحف التحملات أصحاب المعروف الذين يبذلون معروفهم، ومثل هذا يعطى وإن كان غنياً، يعطون من الزكاة ترغيباً لهم في الإصلاح، فهؤلاء هم الغارمون الذين يغرمون، ويدخل في الغارم المدين الذي تدين ديناً, وأصبح لا يتمكن من أداء دينه وإن كان هذا داخلاً في الفقير.
وأما في سبيل الله فهو القتال في سبيل الله، فيشتري به السلاح، أو يُعطَى المقاتلون أو غير ذلك.
وأما ابن السبيل فهو المسافر الذي انقطع به سفره وما تمكن من مواصلة السفر، فانتهت نفقته وانتهى ماله، وإن كان في بلاده غنياً فإنه يعطى الشيء الذي يمكنه من بلوغ غايته.
وأما في الرقاب فهو المملوك الذي يكون مملوكاً، يجوز أن يعتق من الزكاة.
فهذه هي المصارف التي تولى الله جل وعلا توزيعها بنفسه، فلا يجوز أن تصرف الزكاة في غير هؤلاء.
ثم هل يجوز أن تكون الزكاة لنوع واحد من هذه الأنواع؟
الجواب
إنه يجوز أن يكون للفقراء أو للمساكين وإن لم تستوعب سائر الأصناف، وإذا وجد الفقير لا يبحث عن غيره، لكن لا يعطي الفقير إذا كان أصلاً له أو فرعاً له، فإذا كان الفقير أباه أو أمه أو جده أو جدته فإنه لا يجوز أن يعطيهم من زكاته.
وكذلك إذا كان الفقير ابنه أو ابن ابنه لا يعطيهم من زكاته؛ لأن هؤلاء تجب نفقتهم عليه، فما يحتاجون إلى الزكاة لوجوب نفقتهم عليه، ولا يجوز أن الإنسان يجعل الزكاة لأقربائه وقاية لماله عن الحقوق التي تتعلق بماله، فيعطي أقرباءه الأدنين الزكاة حتى لا يتطلعون إلى الحق الذي لهم عليه، فيجب على الإنسان أن يتقي الله في أداء زكاته، ثم إنه يجب عليه أن يخرجها طيبة بها نفسه.
راغباً فيما عند الله، خائفاً لو منعها أن يعاقبه الله جل وعلا.
[المسألة الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم].
هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)، وهذا ما كان معاذ رضي الله عنه يعرفه، فقال له هذا القول ليستعد وليعد نفسه، فهيأه لذلك، وكشف له ما كان خافياً عليه.(27/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [28]
حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه) من أعلام النبوة، وفيه دلالة على فضل علي رضي الله عنه باختياره لحمل الراية، وكذلك فيه دلالة على فضل سائر الصحابة لحرصهم على الخير وتطلعهم إلى تحصيله، وفيه فوائد أخرى مذكورة في هذا الباب.(28/1)
مسائل مستفادة من حديث بعث معاذ رضي الله تعالى عنه(28/2)
النهي عن كرائم الأموال
قال المصنف رحمه الله: [المسألة الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال].
كرائم الأموال هي أطايبه وأحاسنه، وهذا يكون في زكاة بهيمة الأنعام، وكذلك في الثمار، أما النقود فهي تتساوى، والزكاة تجب في الخارج من الأرض، وتجب في الإبل وفي الغنم وفي البقر، وتجب كذلك في عروض التجارة، وتجب في النقدين الذهب والفضة، وكذلك أبدال الذهب والفضة من الأوراق النقدية، فهذه هي الأموال التي يجب فيه الزكاة، فتزكى الثمار والحبوب والتمور وغيرها مما فيه الزكاة، وهكذا سائمة الأنعام؛ لأن الزكاة في الأنعام ما تجب إلا إذا كانت سائمة في الحول أو أكثره، والسوم معناه ان ترعي بنفسها وما تتطلب علفاً، فلو كان إنسان له أغنام وضعها في حوش وصار ينفق عليها ويأتيها بالأعلاف فهذه ليست سائمة، ولا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب فيها إذا باعها وصارت تجارة، وإنما التي يجب فيها الزكاة إذا كانت ترعى الحول أو أكثره.
ثم هذه هي التي فيها الكرائم لا يجوز للمُصَّدِّق العامل الذي يأخذ الزكاة أن يأخذ أطيبها وأكرمها، سواءٌ أكانت غنماً أم إبلاً أم بقراً، بل يجب عليه أن يأخذ الأوسط، لا يأخذ الأدنى الرديء، ولا يأخذ الأعلى الجيد، إلا أن يجود صاحب المال بما هو أجود وأطيب، فإذا جادت نفسه بذلك وأخرجه هو بنفسه وقال: خذوا هذا فيقول له العامل: هذا لا يجب عليك، والذي يجب عليك أقل من هذا.
فيقول له: هذا ولا بد.
فإذا قال: وإن كان فأنا طيبة نفسي بهذا فخذوه لأنه لله يأخذه العامل ولا يرده عليه.
أما إذا أخذ شيئاً طيباً بدون اختياره فهذا ظلم، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياك وكرائم أموالهم) يعني: لا تأخذ في الزكاة من الكرائم والنفائس.
وقالوا: الكريمة: هي كبيرة الجرم، وكثيرة الشعر، وكثيرة اللحم والشحم، وغزيرة اللبن، وحسنة المنظر، فهي تكون أكثر قيمة من غيرها.
هذه هي الكريمة، فلا يجوز أن تؤخذ وإنما يؤخذ الوسط.
وكذلك في الثمار مثل الحبوب والتمور لا يأخذ من الأعلى ولا يأخذ من الأدنى، بل يأخذ من الوسط، وإذا كانت متنوعة يخرج من كل نوع قدره، هذا هو العدل، فمثلاً التمور بعضها قد يساوي الكيلو مائة ريال، وبعضها يساوي خمسة ريالات، فلا يأخذ من هذا ولا من هذا، وإنما يأخذ من هذا قدره ومن هذا قدره فقط، فإن كانت تموره أغلبها جيدٌ يجعل الرديء على حِدَة ويأخذ منه بقدره إذا كان يبلغ نصاباً، وإلا أخذ من المتوسط فقط.
وهكذا في الغنم لا يأخذ التيس الرديء أو العنز الجرباء، لا يجوز هذا، ولا يأخذ الكريمة الغالية الجيدة كثيرة اللبن، وإنما يأخذ الوسط، هذا هو العدل، والعدل هو الذي يحبه الله جل وعلا وقامت به السماوات والأرض، ومن العدل اتقاء الله، واجتناب مواقع العذاب التي هي دعاء المظلومين؛ فإن دعاء المظلوم مستجاب.(28/3)
دعوة المظلوم لا تحجب
[المسألة السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب].
اتقاء دعوة المظلوم هذا مطلقة، ليست في الزكاة فقط، يجب على العبد أن يتقي الظلم مطلقاً، سواء بالقول أو بالفعل، والظلم في الواقع كثير من الناس، ولكن بعض الناس ما يتنبه له، وإلا فما يخلو إنسان من ظلم إلا نادراً وقليلاً، فقد يكون الظلم في كلمة يتكلمها الإنسان، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، هذا هو المسلم، أما الذي لا يسلم المسلمون من لسانه ولا من يده فهو مسلم إسلامه غير كامل، وإيمانه ضعيف، وإلا فما يخرج الإنسان عن الإسلام بكونه يظلم الناس بلسانه أو يده، ولكن الإسلام الذي يكون الإنسان به سالماً من الظلم هو أن يكف لسانه ويده عن أذية المسلمين، مثل الكلام في الأعراض، فلان فيه كذا، وفلان يقول كذا، فهذا من أعظم الظلم، وهذا الذي قد لا يسلم منه أحد، وأناس كثير يشتغلون فيه، وبعض الناس يقول: إن هذا جائز لأنه واقع فيه.
وهذا في الواقع ظلم وإن كانوا واقعين فيه، فلا يجوز لأحد أن يتكلم في أخيه بالشيء الذي يكره وإن كان فيه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره.
قالوا له: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت هو أعظم الظلم -نسأل الله العافية- أن يقول فيه ما ليس فيه.
وربما يتعدى الأمر إلى النميمة، والنميمة أصعب من الغيبة، وقد جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة نمام)، وفي رواية: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات هو النمام، والنميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد، مثلاً يريد أن يضره فينقل كلامه إلى من يستطيع أن يضره، أو ينقله إلى صديق له أو غير صديق ولكن ليوغر صدره عليه ويجعله معادياً له مبغضاً له، فإذا كان ينقل الحديث على هذا الوجه فهو نمام -نسأل الله العافية-، وهذا كثير جداً.
ويجب أن يحرص الإنسان على سلامة نفسه، ولا يجوز للإنسان أن يوزع حسناته على الناس، يعمل بحسنات ثم يهديها إلى الناس؛ لأن القصاص يوم القيامة سيكون بالحسنات، يؤتى بالإنسان الذي قد عمل حسنات كثيرة فتؤخذ منه وتوزع على الناس الذين ظلمهم وتكلم فيهم بما يكرهون.
أما إذا تعدى الأمر إلى اليد وأصبح -مثلاً- يضرب أو يأخذ المال فهذا أمر عظيم، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)، أنه من اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق فقد استوجب النار، فقيل له: وإن كان شيئاً يسيراً! قال: (وإن قضيباً من أراك) أي: وإن كان سواكاً.
فحقوق الناس بعضهم مع بعض مبنية على التقصي، وعلى ألا يترك منها شيئاً، وكل واحد يوم القيامة سيقاصص مع صاحبه، جاء في الأثر أن الإنسان يمسك الإنسان ويقول: يا ربي! خذ لي حقي من هذا.
فيقول الآخر: يا ربي! والله ما أعرفه، ما ظلمته بمال ولا بشيء! ما يعرفه، ولكنه ظلمه، وكيف عرف هذا أنه ظلمه؟ الله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، أخبره بأن لك حقاً عند فلان، فيطلبه حتى إنه يقول: ما ظلمته بمال ولا بشيء! فيقول: نعم.
ولكنه رآني على منكر فلم ينهني عنه، فخذ لي حقي منه.
لأن حق المسلم على المسلم أن يناصحه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لا يؤمن الإيمان الواجب الكامل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكذلك يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، فهذا هو المؤمن المسلم.
والمقصود التنبيه على هذا الأمر؛ لأنه يتساهل فيه، ويقع فيه حتى طلبة العلم وللأسف، فطلبة العلم يقعون فيه كثيراً، يكون واحدٌ يتكلم في الثاني، وربما صار ظلماً وإن كان يتكلم بشيء واقع.
وفي المجالس وفي الاجتماعات كثيراً ما يحدث الكلام في فلان وفلان، ويجب أن يتحاشى الإنسان الكلام في الشيء الذي فيه إثم، لماذا يكتسب الإثم بالشيء الذي لا يجدي شيئاً ولا ينفعه؟! الله جل وعلا يأمر المؤمنين بأن يجتنبوا الظن السيئ، وألا يأكل بعضهم لحم بعض، ويخبرهم أن مثل هذا كمثل المؤمن الذي يجد أخاه ميتاً فيجلس يأكل من لحمه بعد موته، فالكلام في عرضه مثل هذا، مثله الله جل وعلا بهذا، وهذا من أبشع ما يستبشع، كيف يكون هذا زاجراً ومانعاً للإنسان من أن يقع في ذلك؟ والقالة التي هي الغيبة منتشرة في الناس كثيراً، ويجب على الإنسان إذا جلس في مجلس، أو سمع من يتكلم في هذا أن ينصحه ويقول: دعوا هذا، تكلموا في الشيء الذي ينفع.
فإن لم ينتصحوا يجب عليه أن يقوم ويتركهم؛ لئلا يكون شريكاً لهم.
أما كون دعوة المظلوم لا تحجب فمعناه أنها تستجاب، أي أنها لا ترد، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، فالله جل وعلا سميع عليم لا يخفى عليه شيء، وسمعه يأتي على جميع الأصوات، حتى إنه يسمع دبيب النملة على الصفاة في ظلمة الليل -تعالى وتقدس-، وكذلك نظره لا يستره شيء، ولكن ما كل دعاء يستجيبه، وإن كان الإنسان في دعائه لا يخيب، بشرط أن تجتمع فيه مقتضيات الإجابة، والله عليم قدير، ولكن المظلوم يستجاب دعاؤه وإن كان فاجراً؛ لأن الله جل وعلا لا يقر الظلم؛ فإن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، فقال لهم: (لا تظالموا)، فإذا وجد الظلم فإن الله جل وعلا يستجيب للمظلوم إذا دعاه وينتصر له.
والدعاء كله مطلوب، ولكن هناك دعوة مستجابة مثل دعوة المظلوم، ومثل دعوة الوالد على ولده، فإنها تستجاب إذا دعا الوالد على ولده، وقد نهي أن يدعو الوالد على ولده.
وكذلك دعوة المسافر، ودعوة المنكسر القلب الذي يضطر ويقع في ضرورة، فإن هذا من مقتضيات ما يجب لربوبية الله جل وعلا، يقول جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، لا أحد إلا هو جل وعلا.
ثم إن المسلم إذا دعا فهو على خير، مطلق الدعوة فيها الخير، فالله جل وعلا كريم، وهو أعلم بمصالح العبد من نفسه، ولهذا جاء في الحديث أن كل داع ما يخيب، إما أن تستجاب دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء ما هو أعظم من الدعوة التي دعا بها، وإما أن تدخر له يوم القيامة، إحدى ثلاث خصال تكون حاصلة له، فلا يقول الإنسان: أنا دعوت ودعوت فما استجيب لي.
وإنما الكلام في كونه يقبل على الله، وكونه يقوم بمقتضى الدعاء، فإن الله يستجيب له وإن كان فاجراً؛ لأن الظلم محرم والله لا يقره، ولهذا يقول العلماء: إن الدولة إذا كانت ظالمة فإنه لا يبقى لها زمن طويل وإن كانت مسلمة، والدولة إذا كانت عادلة فإنه يطول وقتها وإن كانت كافرة.
وهذا عجيب؛ لأن العدل هو الذي قامت به السماوات والأرض، فالظلم يعاقب عليه المسلم، والعدل يجازى به حتى الكافر، هذا لأن الله لا يقر الظلم، تعالى الله وتقدس.
فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وليس المعنى أن أدعية الناس غير مسموعة لله وأنه لا يراهم ولا يعلم حالهم، لا.
ولكن معناه أن دعاء المظلوم مستجاب.(28/4)
من أدلة التوحيد حصول المشقة والمصائب على النبي صلى الله عليه وسلم
[المسألة الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء].
هذا مأخوذ مما وقع له بغزوة خيبر صلوات الله وسلامه عليه، فإنه وقع لأصحابه جوع ومرض ووباء، ووقع لهم تعب وشدة، مع أنهم سادة أولياء الله مع سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
يقول: إن هذا من أدلة التوحيد.
كيف يكون هذا من أدلة التوحيد؟ لأن معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليس عندهم تصرف في الكون في جلب الرزق ودفع الضر وإزالة الكرب، فإنه وقع فيهم هذا الشيء وما استطاعوا إزالته، واستسلموا وانقادوا لأمر الله جل وعلا، ورضوا بما هم فيه حتى فرج الله عنهم، فدل على أن التصرف كله لله وحده، والأمر كله لله، والعباد كلهم راجعون إليه وكلهم يتجهون إليه، حتى سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد مكلف أمره الله جل وعلا بالعبودية، يعبد الله وهو أعظم الناس عبادة لله جل وعلا، فهذا معنى قوله: إن هذا من أدلة التوحيد.
فليس مع الله مدعو يكون له عبادة، فالعبادة تكون لله وحده، وهذا معنى التوحيد؛ إذ إن العبادة لا تجوز أن تكون إلا لمن يملك النفع والضر إذا عبده أثابه وإذا لم يعبده عاقبه، ويعلم ما في قلب الإنسان، ويستطيع دفع المضرات عنه وصرفها، وجلب المنافع إليه، سواءٌ أكانت غيبية أم كانت ظاهرة، أما إذا كان ليس كذلك فلا يصلح أن يكون معبوداً، وهذا لا يكون إلا لله وحده، فهذا معنى كون الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من أدلة توحيد الله جل وعلا.
وقد ذكر أنهم كانوا في شدة الحاجة في هذه الغزوة حتى طبخوا الحمير، أمسكوها وذبحوها وصاروا يطبخونها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى النيران قال: (ما هذه النيران؟ قالوا: إنها حمر.
-وجدوها فذبحوها فهم يطبخونها ليأكلوها- فأمر منادياً ينادي: لتكسر الأواني التي فيها هذه الحمر.
فقالوا: يا رسول الله! نغسلها قال: نعم)، ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه (أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم الحمر الأهلية يوم خيبر)، وهو لهذه القصة، فمن شدة حاجتهم طبخوها، ولكن ما أكلوا منها شيئاً، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكفأ.
وكذلك كانت خيبر أرضاً موبوءة، فأصيبوا بالحمى وبالمرض حتى اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يبردوا الماء بالقرب ثم يصبوه على أبدانهم بين الصلاتين، أي: بين صلاة المغرب والعشاء، فشفوا بذلك.
والمقصود أن هذا كله يدل على أن الأمر كله بيد الله جل وعلا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وإنما الأمر لله، وفي أحد شج رأسه، وكسرت البيضة التي على رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وقتل من أصحابه سبعون رجلاً، وصار الدم يسيل على وجهه، فقال وهو يسلته: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟)، ثم صار يدعو عليهم في القنوت في الصلاة، يقنت في الصلاة في الركعة الأخيرة بعد الركوع أو قبل الركوع، ويرفع يديه ويدعو: اللهم! العن فلاناً وفلاناً وفلاناً.
يسميهم بأسمائهم في الصلاة، والصحابة خلفه يقولون: آمين.
أي: اللهم استجب.
ومعلوم أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليس كدعاء غيره، ثم بعد ذلك ينزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فتاب الله على أكثر الذين فعلوا هذه الأفاعيل، فأسلموا ودخلوا في الإسلام بعدما كانوا يسعون جهدهم في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن الله جل وعلا وحده هو المتصرف في الكون كله، وهذا معنى كون التوحيد يجب أن يكون لله وحده.(28/5)
من أعلام النبوة
[المسألة التاسعة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية) إلى آخره علم من أعلام النبوة].
سبق أن أعلام النبوة كثيرة، وأعلام النبوة علاماتها الدالة عليها؛ لأن الذي يخبر بالأمور الغائبة فتقع كما أخبر يكون هذا من الوحي، ولا يكون هذا لمشعوذ أو لساحر أو لكاهن أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يتمكن من ذلك، وإن صدق مرة فإنه يكذب مائة مرة.
أما الذي يقع الواقع على وفق خبره فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما يعلم الغيب صلوات الله وسلامه عليه، وإنما يعلم ما علمه الله جل وعلا فقط، فهو رسوله يأتيه الوحي، وقد انفلتت ناقته مرة فحبس الصحابة عليها يبحثون عنها، فتكلم أحد المنافقين كلاماً خبيثاً، فقال: هذا يزعم أنه يأتيه خبر السماء ويأتيه كذا وكذا وهو لا يدري أين ناقته! فنزل عليه خبر السماء بأن فلاناً يقول كذا وكذا، وإن ناقتك في مكان كذا قد حبستها شجرة أمسكت بخطامها.
فقال لهم: (إني -والله- لا أعلم من الغيب إلا ما علمنيه الله جل وعلا، وإن فلاناً قد قال كذا وكذا، وإن الله جل وعلا قد أعلمني أن ناقتي في مكان كذا قد أمسكتها شجرة، فاذهبوا وائتوا بها)، فالمقصود أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله.
ولما رميت أفضل نسائه وأحبهن إليه -بل أحب الناس إليه عائشة رضي الله عنها- بالفاحشة، وصار المنافقون يشيعون هذا بقي ما يقرب من شهر وهو لا يدري بالحقيقة، حتى نزل عليه الوحي ببراءتها، وقد استشار أسامة واستشار علياً، فأما علي فقال: النساء كثير، وما جعل الله عليك من حرج.
وأما أسامة فقال: والله ما علمنا إلا خيراً، أًهلَك، واسأل الجارية فإنها تصدقك.
والمقصود أنه ما كان يعلم من الغيب إلا ما علمه الله.
[المسألة العشرون: تفله صلى الله عليه وسلم في عينيه رضي الله عنه علم من أعلامها أيضاً].
يقول رحمه الله تعالى: تفله صلوات الله وسلامه عليه في عيني علي بن أبي طالب علم من أعلام النبوة، وسبق أن العلم معناه: الدلالة والآية الواضحة الدالة على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه رسول من رب العالمين.
وذلك أن هذا شيء لا تناله قوى البشر ولا العادات التي جرت عليها أنظار الناس وتجاربهم، بل هو شيء خارق، فهو من قدرة الله جل وعلا، فالتفل في العين المريضة ما يزيدها إلا مرضاً، ومع ذلك لما تفل فيها صلوات الله وسلامه عليه برئت في الحال، وما احتاجت إلى وقت، بل في الحال، كأنها كانت محزومة فأطلقت، وهذا لا يكون إلا آية من آيات الله جل وعلا.
حتى العلاج الناجح ما يأتي ثماره في لحظه، ما يأتي إلا بعد وقت، فلا بد أن يكون هذا أمر لا تأثير له في للعلاج فيه ولا للبشر فيه، وإنما هو يكون من الله جل وعلا، وهذا معنى الآية ومعنى العلم، أي: شيء لا تأثير للبشر فيه، بل هو من الله جل وعلا بقدرته.
وسبق ذكر الشيء من أعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه، وقلنا: إنه ينبغي للمسلم أن يحرص على قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يزداد بذلك إيماناً ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم.(28/6)
فضيلة علي رضي الله عنه
[الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه].
فيه فضيلة لـ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه, لكونه قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن علياً يحبه الله ورسوله، وهذا من أعظم الفضائل، غير أنه سبق أن هذا ليس من خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل كل مؤمن تقي يحبه الله ورسوله، والصحابة أتقياء، ولكن السبب في كونهم حرصوا على ذلك أنه إذا شهد الرسول صلى الله عليه وسلم لمعين بأنه يحبه الله ورسوله فكل واحد يحرص أن يكون ذلك؛ لأن الإنسان ما يثق بعمله وإن جاء بأحسن عمل حتى يأتيه الخبر من الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إن فضائل علي كثيرة غير هذا، ولكن أبا بكر أفضل منه، وعمر أفضل منه، وثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أنهم كان يفضلون الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: أفضلهم أبو بكر ثم عمر.
وفي رواية: ثم عثمان ثم يسكتون.
والرسول يسمع ذلك ويسكت.
وليس في هذا ما يدل على أن علي بن أبي طالب هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الدلائل الدالة على أن الخلافة لـ أبي بكر كثيرة وواضحة، أما مجرد الدعاوى فإنها لا تغني من الحق شيئاً، وكل أحد يستطيع أن يدعي كما يدعي المدعي، وإنما الشأن في الدلائل الثابتة من النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت الصحيح.
فمن المعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما مرض قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وقد روجع في هذا وقيل له: إن أبا بكر رجل يكثر البكاء، فإذا قام في مقامك لن يسمع الناس من البكاء.
قالت له ذلك عائشة، وكانت تكره أن يقوم أبو بكر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده؛ لأنه ما يقوم أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه فيكون مثله، فربما كره الناس من قام مقامه بعده، فلهذا كانت تحاول أن يكون الذي يصلي بالناس عمر، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف كثير البكاء إذا قام مقامك ما يملك نفسه من البكاء فلا يسمع الناس، لو أمرت عمر أن يصلي بالناس.
فقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ثم ذهبت وأمرت حفصة أن تقول له مثل هذا القول، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب صلوات الله وسلامه عليه وقال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ثم بقي أبو بكر يصلي بهم طوال وقت مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد خرج مرتين وهو يصلي بهم، وعلي موجود، وما قال: مروه أن يصلي بكم.
وكذلك الرؤيا التي رآها صلوات الله وسلامه عليه، قال: (رأيت كأني على بئر أنزع منها الماء فنزعت ما شاء الله أن أنزع، فجاء أبو بكر فنزع دلواً أو دلوين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم جاء بعده عمر فتحولت الدلو غرباً، فما رأيت عبقرياً يفري فريه، فنزع حتى روي الناس وضربوا بعطن).
وكذلك لما جاءته امرأة فكلمته في شيء فأمرها بأمر فقالت: أرأيت -يا رسول الله- إن لم أجدك -كأنها تعني الموت-؟ فقال: (إذا لم تجديني فأتي أبا بكر)، وأشياء كثيرة جداً.(28/7)
فضل الصحابة
[المسألة الثانية والعشرون: فضيلة الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح].
فضائل الصحابة رضوان الله عليهم متوافرة وموجودة، وبنصوص، وفيها رد على من يدعي أن الصحابة كفروا وارتدوا؛ لأن هذه الفضائل هم الذين نقلوها، فلا تثبت لهؤلاء، وإنما تثبت لمن يرى أن الصحابة على الحق، فهم يتمسكون بالحق وأهل حق، أما المرتد فما هو أهل لأن يؤخذ عنه، وليس أهلاً لأن يصدق، فالذي ينقله يكون كذباً، والدين ما يقبل من المرتدين والكفرة، وإنما يقبل من أهل الحق المتمسكين به.
ولا شك أن الثناء على الصحابة رضوان الله عليهم كثير في كتاب الله، كما قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وقوله: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، وكذلك قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وكذلك قوله: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100].
فهل يقال -مثلاً-: إن الله يثني على قوم وقد علم أنهم يكفرون؟! أو إن الله لا يعلم فيثني على قوم وهم فيما بعد يكفرون ويرتدون، فيبقى ثناء الله على هؤلاء ليس في محله تعالى الله وتقدس؟!.
لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون فلان هو الخليفة فهل يمكن أحداً أن يمنع هذا، وهم يقاتلون ويبذلون أنفسهم وأموالهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي طاعته؟ لا أحد يستطيع أن يمنع ذلك أبداً.
أما ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ثم ترك ذلك، ثم قال مرة أخرى وقد اشتد مرضه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم) فاختلفوا عنده، منهم من يقول: نأتي بالكتاب.
ومنهم من يقول: اشتد مرضه، فكيف يكتب؟! فعند ذلك قال: (قوموا عني، فما أنا فيه خير مما أنتم فيه) يعني الخلاف، فترك الكتاب.
والمقصود بالكتاب أنه يكتب لـ أبي بكر لئلا يقول قائل ويختلف مختلف، كما جاء صريحاً أنه قال لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك أكتب لهما كتاباً لئلا يقول قائل أو يدعي مدع)، ثم بعد ذلك قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، فترك الكتابة، وتركها أولى لما أراد الله جل وعلا، حتى يتفق المسلمون على شيء يرونه بإجماعهم، وحصل ما أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه.
والواجب على المسلم محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً، فيحبهم ويقدرهم ويعظمهم وينزههم عن المطاعن، وأن يعلم أنهم خير الأمة، ما كان في الأمة ولا يكون مثلهم، لا في أول الأمة ولا في آخرها؛ لأن الله أكرمهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وبالقتال معه.
أما ما يروى عنهم من مطاعن في كتب التاريخ، وينقله بعض الذين في قلوبهم مرض، فهذه المطاعن التي تروى في كتب التاريخ أو غيرها لا تخلو إما أن تكون كذباً صريحاً، أو يكون لها أصل ولكن زيد فيها وغير الكلام عن مواقعه، أو نقص منها الشيء الذي يبين الصواب.
والواقع منها هم معذرون فيه، مأجورون في فعلهم، والخطأ مغفور لهم؛ لأنهم مجتهدون، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المجتهد إذا اجتهد وأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، هذا هو الذي يجب اعتقاده، وهذه عقيدة المسلمين نحو صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.(28/8)
الإيمان بالقدر
[المسألة الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن يسعى].
الإيمان بالقدر من أركان الدين الإسلامي، لا بد منه، والقدر هو عبارة عن قدرة الله جل وعلا، وهو في الواقع علم الله وقدرته وفعله، هذا هو القدر، وليس القدر إرغام الإنسان أن يفعل شيئاً وهو لا يريده كما يتصوره بعض الجهلة، وربما ترك العمل أو رضي بالمعاصي وأقام عليها، ثم يصبح يحتج بالقدر ويقول: هذا قدر.
وهذا لا يجوز.
الله جل وعلا ذم الذين احتجوا على شركهم بالقدر، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، وأخبر أن هذا معارضة لشرع الله بقدره، فهم يقولون: إن مشيئة الله شاملة، فهو الذي جعلنا مشركين، ولو شاء لجعلنا موحدين، فنحن نرضى بمشيئته التي شاءها لنا.
فهذا الإنسان يعاند الله جل وعلا، مثل قول الشيطان لما أمر الله جل وعلا أن يسجد لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] أبى أن يسجد لآدم، لماذا؟ لأنه يرى أن رأيه أفضل مما يقوله الله جل وعلا ويأمر به، عناد ومكابرة واعتراض على الله جل وعلا، وكذلك الذي لا يؤمن بالقدر وينفي القدر -والقدر قدرة الله- أو يكفر به، وإن أقر بأن الله قدره لا يمتثل لذلك ولا يؤمن به، وكله شر.
والواجب على المسلم أن يجتهد في الشيء الذي ينفعه، سواءٌ أكان أمراً شرعياً، أم أمراً عادياً مما يخصه في معيشته وعمله، فيفعل السبب المشروع الذي شرعه الله له، فإن تخلف مراده ولم يحصل له مراده فلا يصبح يلوم نفسه، أو يلوم الأيام، أو يلوم الآخرين، وربما يغضب ويقول: فلان السبب، وفلان السبب، ولولا كذا لصار كذا.
عليه أن يعلم أن هذا هو الذي قدر، فيسلم للقدر، ويقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لو شاء الله لكان ذلك.
كما جاء في حديث أنس يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وما سمعته يقول لي لشيء لم أصنعه: لمَ لم تصنع هذا؟ ولا لشيء صنعته: لمَ صنعت هذا؟! وإنما إذا تخلف الشيء الذي يريده قال: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك العمل، لا.
بل يعمل، ولكن يكون حسب ما أراد الله جل وعلا له وأراده منه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك ما تكره فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، وعمل الشيطان هو التأسف على الفائت، وكذلك من لوم القدر التحسر عليه، والشيء الذي وقع لا يمكن رده ولا يمكن استدراكه، والشيء الذي قدره الله لا بد منه، وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس يقول: (واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فالقدر ركن من أركان الإيمان يجب الإيمان به، وهو عبارة عن كون الإنسان يؤمن بأن الله علم كل شيء قبل وجوده، فعلمه محيط بكل شيء، علم الأشياء في الأزل قبل وجودها، ثم كتبها، فكل ما يقع مكتوب في كتاب محفوظ عند الله، ثم هو الذي شاء وجودها وخلقها.
والقدر عبارة عن هذه الأمور: علم الله وقدرته ومشيئته، وكتابته التي لا يمكن أن تتخلف، وليس معنى هذا أن هذا العبد يكون مجبوراً على ذلك، بل العبد ما يدري ما كتب عليه، وما له علم بهذا، وقد أمر بالاجتهاد، فإن ترك العمل وترك الأسباب فهو الملوم واللوم عليه، وإن فعل الأسباب واجتهد فيها فلا لوم عليه، والشيء الذي يفوته ولم يفرط فيه يكون مأجوراً عليه، وإذا انضاف إلى ذلك الرضا بالقدر والتسليم فإنه يزداد أيضاً أجراً على هذا، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] يعني: يؤمن بأن هذه المصيبة من عند الله ويسلم وينقاد لذلك ولا يعترض، فيزيده الله هداية في قلبه.
ولوم القدر لا يجدي شيئاً، وإنما يزيد الإنسان تحسراً، ويزيده أيضاً خسارة وإثماً بذلك، ولا يضر الله شيئاً، فإنه -مثلاً- لو أصيب الإنسان بمصيبة فمات ابنه أو أبوه أو أخوه أو زوجته أو قريبه، وصار يخمش وجهه ويشق ثوبه ويلطم أو يلعن أو يتأسف هل يفيده ذلك شيء؟ هل يرد عليه الفائت؟ بل يكون قد عصى الله، وإذا صبر واحتسب وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها.
فإنه يكون راضياً بهذا ويثيبه الله ويخلف عليه، ويكون حصل على الخير، ويفوته ما أراده الشيطان منه، الشيطان يريد أن يخرجه عن طاعة الله، بخلاف ما إذا فعل كفعل الجهلة، فإنه يأثم ولا يحصل له شيء من الفائت، فالفائت فات.
ثم الأوامر التي يؤمر بها الإنسان مثل الصلاة وترك المعصية لا يجوز للإنسان أن يحتج على فعل المعصية أو ترك الطاعة بأن يقول: هذا قدر! لأن هذا عناد ومعاندة، أنت أمرت بهذا الفعل فامتثل، ولا تتركه وتقول: قدر.
وما يدريك أنه قدر قبل أن يقع؟! ولكن قولك: قدر معناه المعاندة وتبرئة نفسك، أي أنك تريد أن تبرر فعلك، وتجعل اللوم على الله، هذا هو الواقع، أنه يجعل اللوم على الله؛ لأنه هو الذي قدر هذا، وهذا يكون محاجة لله، بل مخاصمة، ولهذا الذين يحتجون بالقدر هم خصوم الله جل وعلا.
والإيمان بالقدر يكتسب به العبد زيادة إيمان وطمأنينة، وكذلك يكتسب به أيضاً صلة بالله، ويزداد خيراً، وربما خلف عليه أفضل مما أخذ، جاء في الصحيح أن أم سلمة لما توفي زوجها، وكانت قد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بمصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله وخلف عليه خيراً منها) قالت: لما توفي أبو سلمة قلت هذا الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت لنفسي: وأي أحد خير من أبي سلمة؟! لن أجد أحداً خيراً من أبي سلمة فجاءها من هو خير منه، جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهكذا الإنسان إذا امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي حصل له الأجر، وحصل له الخير العاجل مع الآجل، بخلاف ما إذا تسخط ذلك وأبى قبوله فإنه يحصل له الوزر ولا يحصل على شيء من مطلوبه.
ثم إن هذا يكون عند أول الأمر، أما إذا تمادى الأمر فإن الإنسان يسلو كما تسلوا البهائم، يمر يوم ويومان وثلاثة أيام ثم ينسى مصيبته، مر الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي وعلم أنها تبكي على فقد ولدها، فقال: (اتقي الله واصبري)، فلم ترض بهذا، وقالت: إليك عني؛ إنك لم تصب بمصيبتي.
وهي ما عرفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فتركها صلوات الله وسلامه عليه، ثم قيل لها: إن هذا الذي كلمك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فندمت على هذا وجاءت إليه وقالت: يا رسول الله! أصبر.
فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، أما إذا مضى الوقت فإن الإنسان ينسى شيئاً فشيئاً، ثم يسلو كما تسلوا البهائم، البهيمة إذا فقدت ولدها صارت تصيح عليه ثم تخف شيئاً فشيئاً، والإنسان مثل ذلك، فيصبح مأزوراً غير مأجور، ولا اعتاض شيئاً مما فقد.
فالعاقل يجب عليه أن يتميز، لا سيما المؤمن يجب أن يتميز عن غيره، وأن يعلم أنه يصاب بما وقع له، وينبغي للمؤمن إذا أصابته مصيبة أن يتذكر مصيبته برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي فوق جميع المصائب فيتسلى بذلك.(28/9)
من آداب الجهاد
[المسألة الرابعة والعشرون: الأدب في قوله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك)].
الأدب في القتال من آداب الإسلام التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، فما يكون هناك ضجيج، ولا يكون هناك طيش ولا تهور، وإنما يكون هناك سكينة وطمأنينة وثقة بالله جل وعلا؛ لأن الله وعد المؤمنين بنصره، فإذا ترسموا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا خلفه لا بد أن ينصروا على كل حال، أما إذا خالفوا وأبوا السير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمر يأتي من قبل أنفسهم، فالأدب يؤخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.
[المسألة الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
المسألة السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا].
يعني أنه مستحب وليس واجباً، إذا بلغت القوم الدعوة يستحب أن يدعوا مرة أخرى قبل أن يُبدأوا بالقتال، ويجوز أن يُبدأوا بالقتال قبل أن يدعوا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دهم بني المصطلق وهم غافلون، ما دعاهم بل أغار عليهم، فقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وأخذ أموالهم وهم غافلون؛ وذلك لأن الدعوة سبقت إليهم، دعوا فأبوا أن يقبلوها، فيجوز هذا، ولكن يستحب أن يدعوا مرة أخرى، والمؤمنون إذا كانوا متبعين للحق فهم لا يرهبون من عدوهم، بل يكون عندهم ثقة بنصر الله جل وعلا، وهم لا يمكن أن يصيبهم إلا إحدى الحسنين: إما الشهادة وهي أعلى ما يطلبه المؤمن، وإما النصر والظفر، فلا بد من واحدة من هاتين الخصلتين، وكل واحدة منها محبوبة إلى المؤمنين.
فلا يرهبون من كونهم يُعلِمون الكافرين بأنهم سيقاتلونهم، ويحذرونهم من سطوة الله جل وعلا التي تكون بأيدي عباده المؤمنين، يحذرونهم أولاً، ويطلبون منهم أن يدخلوا في الإسلام؛ لأن هذا هو المقصود بالقتال، المقصود في القتال في قتال الناس إيصال الإسلام إليهم، فإذا امتنعوا من ذلك قوتلوا.(28/10)
الدعوة بالحكمة
[المسألة السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة بقوله صلى الله عليه وسلم: (أخبرهم بما يجب)].
الدعوة بالحكمة، والحكمة مطلوبة في كل شيء حتى مع عدوك، وكما أن العدل مطلوب حتى مع العدو فلا يجوز أن يأتي الإنسان بخلاف الحكمة فإنه لا ينجح، وإنما ينجح إذا أتى بالحكمة، ومعنى الحكمة: أن يوقع الأمور مواقعها.
فيضع الأمور في مواقعها من الكلام والفعل، يضعها في مواضعها التي تليق بها، هذه هي الحكمة.
ودعوة الناس تختلف، فمنهم من يكون يريد مجرد بيان الحق، فهذا يبين له الحق ويوضح، وإذا وضح له الحق رضي به واتبعه، ومنهم من يكون عنده أمور وموانع كرئاسة أو ما أشبه ذلك، فهذا يدعى بالترغيب والترهيب، ومنهم من يكون عارفاً للحق ومعانداً فمثل هذا الكلام معه ما يجدي، وإنما تجدي معه القوة، فهذا يقاتل، ولكن مع ذلك يبين له الحق لعل الله جل وعلا أن يهديه، ويكون مراد الإنسان الداعي أن يقوم بالواجب الذي أوجبه الله عليه، وأن يجتهد في أن ينقذ الله على يده من يشاء الله إنقاذه من النار، هذا هو المقصود بالدعوة والجهاد.(28/11)
حق الله في الإسلام
[المسألة الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام].
معرفة حق الله في الإسلام هو من واجبات الإسلام التي أوجبها الله جل وعلا، يجب على الإنسان أن يعرف ذلك، ويعرف لوازمه ويعرف شروطه، ويختلف باختلاف الناس، فمن الناس من تجب عليه الزكاة فيجب أن يعرف وجوب الزكاة ونصابها والشيء الذي يخرجه ولمن يخرجه.
وكذلك بعضهم يحتاج إلى المعاملات، فيجب عليه أن يعرف أحكام المعاملة، وهكذا حقوق الإسلام تختلف باختلاف الناس.(28/12)
ثواب من اهتدى على يده رجل واحد
[المسألة التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يده رجل واحد].
يقول: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، رجل واحد، فكيف إذا اهتدى به خلق كثير، ماذا يكون له؟! تكون الفضائل والأجور التي يكتسبها ما لها قدر، وإنما يعرفها الله جل وعلا، إذا اهتدى على يديه رجل واحد خير له من أموال الدنيا الحسنة الجميلة، فكيف إذا اهتدى على يده مئات أو عشرات؟! يكون هذا الخير لا يمكن أن يقاس بالدنيا أبداً، فهو ينقذ هؤلاء من النار، والله جل وعلا يخبرنا أن الإنسان إذا أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً، ومعلوم أن الحياة في الواقع هي حياة الإيمان، ما هي الحياة الطبيعية البهيمية، إن الحياة الحقيقة هي حياة الإيمان {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فهذا مثل المؤمن مع الكافر، فالمؤمن مثله مع الكافر كمثل الحي والميت، والذي يُضل على يده رجلاً فكأنه قتل الناس جميعاً، الذي يُضل رجلاً واحداً فيخرجه من الإسلام كمن يقتل الناس جميعاً، عليه من الإثم قدر هذا كله، ومعلوم أن من قتل رجلاً واحداً مؤمناً بلا حق فإن الله قد توعده باللعن والغضب ودخول جهنم خالداً فيها.(28/13)
الحلف على الفتيا
[المسألة الثلاثون والأخيرة: الحلف على الفتيا].
الحلف يكون لمصلحة، والرسول صلى الله عليه وسلم أقسم في هذه القضية وقال: (والله لئن يهدي الله بك)، فهذا يدل على مشروعية الحلف ولو لم يطلب منك الحلف، إذا كان هناك شيء واثق منه الإنسان، فيذكره للتأكيد، وقد يكون المخاطب عنده تردد، أو يكون هذا الأمر عظيماً فيحلف عليه لعظمته وتأكيده، وإنما يكون الحلف لمصلحة السامع الذي يسمع.(28/14)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [29]
سبب وقوع الشرك في بني آدم هو الغلو في الصالحين والتعلق بهم، واتخاذهم شفعاء عند الله، كما وقع لقوم نوح عندما صوروا الصالحين، ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم من دون الله، وصور الشرك كثيرة، وقد حذرنا الله منها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين ذلك أهل العلم رحمهم الله.(29/1)
تفسير التوحيد
قال المصنف رحمه الله: [باب: تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله].
التفسير: هو الكشف والإيضاح والبيان.
تفسير الشيء بيانه وإيضاحه، وقوله: [وشهادة أن لا إله إلا الله] عطف على التوحيد، و (لا إله إلا الله) هي التي دلت على التوحيد، وهي التوحيد، فيكون هذا من عطف الدال على المدلول؛ لأن الدال هو شهادة أن لا إله إلا الله، والمدلول هو التوحيد، وتوحيد الله يحصل بشهادة ألا إله إلا الله؛ لأن شهادة ألا إله إلا الله وضعت لإخلاص العبادة لله وحده، وإذا كانت العبادة غير خالصة لله جل وعلا فليس في العبادة توحيد وليست عبادة شرعية، وإن كانت عبادة لغوية ولكنها لا تكون شرعية؛ لأن العبادة الشرعية هي المقبولة التي أمر الله جل وعلا بها، والله يقبل الخالص ويأمر به، وينهى عن الشرك، فالعبادة الشركية محبطة للعمل.(29/2)
المشركون يقرون بأن الله خالقهم
ومن المعلوم أن جميع المشركين الذين بعثت فيهم الرسل كانوا يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون معه غيره، ما كانوا يعبدون أصنامهم فقط غير عارفين بالله، بل كانوا مؤمنين بالله، ويعلمون أنه المتصرف في الكون كله، وأنه لا أحد يشاركه في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، وأنه لا أحد يشاركه في إنزال المطر وإنبات النبات وإيجاد الرزق وكشف الكربات وإجابة المضطرين، كل الكفار يعلمون هذا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] يعلمون قطعاً أنها لا تفعل ذلك.
وكذلك يعلمون أن الله جل وعلا وحده هو الذي ينزل المطر وينبت النبات ويرزقهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22] كيف يعلمون؟ يعلمون أن الله هو المتوحد بما ذكر؛ لأنه هو الذي خلقهم وحده، وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض فراشاً، وجعلها على هذا الشكل يستطيعون الانتفاع بها والسكون عليها، وهو الذي أنزل المطر من السماء، وأنبت به ما يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم، يعلمون هذا تماماً، فكيف يجعلون له نداً وهم يعلمون أنه المتفرد بذلك، وأن الأصنام التي يسمونها آلهة -سواءٌ أكانت أحجاراً أو أشجاراً أو أمواتاً أو ملائكة أو جناً أو أنبياء أو غيرهم- لا تملك من ذلك شيئاً، ويعلمون هذا قطعاً؟! إذاً: فشرك المشركين وقعوا فيه، هو أنهم يسألون الشفاعة من غير الله، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، يقولون: ندعوا هذه المدعوات حتى تدعوا الله لنا.
هذه حقيقة شركهم، وإلا ما كانوا يعتقدون أن الحجر يملك النفع ويدفع الضر، ما كانوا يعتقدون هذا، ولا أحد منهم، ولا كانوا يعتقدون أن الميت يستطيع أن يعطيهم الجنة وينجيهم من النار، وإنما يقول أحدهم: أنا أسأله، فهو بدوره يسأل الله لي؛ لأنه هو صالح مقرب عند الله.
فيجعله شافعاً له فقط، وهذا قياس منهم على المعهود لهم في الدنيا، إذا كان هناك ملك أو رئيس فما كل واحد يستطيع أن يصل إليه ويطلب منه، فيتوسط إليه الطالب بمن هو مقرب عنده، وعلى هذا القياس وقعوا في الشرك، فأصل الشرك هو طلب الشفاعة.
فالإخلاص هو أن تكون الدعوة لله وحده، ولا يكون هناك واسطة، ويكون العمل لله وحده، ولا يقصد بالعمل غير الله، ويكون العمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله).(29/3)
وجوب التعلق بالله وحده
قال الشارح: [قوله: باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله.
قلت: هذا من عطف الدال على المدلول.
فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى (لا إله إلا الله) وما تضمنته من التوحيد، كقوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وسابقها ولاحقها، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها فما فائدة هذه الترجمة؟ قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة، وفيها: الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الايات كالآية الأولى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:56] أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه وعزيراً والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك، وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ ومضمون هذه الكلمة نفي الشرك في العبادة والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده، وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك؛ لأن دعوة غير الله تأله وعبادة له، و (الدعاء مخ العبادة).
وفى هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة، ولو كان المدعو نبياً أو ملكاً، وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله، كائناً من كان؛ لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها؛ لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره، وهذه الآية تقرر التوحيد ومعنى لا إله إلا الله.
قوله: وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57].
يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين قال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] قال العماد ابن كثير: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين، وذكره عن عدة من أئمة التفسير.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاثة: الحب وهو ابتغاء التقرب إليه والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، والرجاء والخوف، وهذا هو التوحيد وهو حقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه: أن لا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: الإسلام.
قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة) وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22].
يجب على المسلم أن يجعل خوفه ورجاءه وتعلقه بالله وحده فقط، ويعلم أن جميع الخلق لا يملكون ضراً ولا نفعاً من دون الله جل وعلا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فالأمر كله بيد الله جل وعلا، فيجب أن يكون تعلق القلب والتوجه إليه وحده، وأن تكون العبادة خالصة له وحده.
والعبادة تكون بالقلب وتكون بالجوارح، وتكون بهما جميعاً، فمثلاً القيام تعبداً يجب أن يكون لله، والركوع يجب أن يكون لله، والسجود يجب أن يكون لله، والتوبة يجب أن تكون لله، والنذر والدعاء والرجاء والخوف وغير ذلك من أنواع العبادة الكثيرة كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، ولا يجوز أن يتعلق العابد لله بغير الله جل وعلا في دعاء ولا في خوف ولا في رجاء، إلا أن الخوف يكون خوفاً طبيعياً ويكون خوفاً غيبيا، فالخوف الطبيعي كالذي يخاف من السبع أو من الحية أو من الظالم المقتدر على أذاه أو تعذيبه، فهذا لا يضر الإنسان شيئاً، وليس عليه في ذلك شيء.
ولكن الخوف الذي يضر إذا خاف من غائب عنه، فهو يخافه وهو ميت، أو يخافه في أمر ليس من الأسباب الظاهرة، فإن هذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا، فإن حصل للإنسان شيء من ذلك -والعياذ بالله- فقد وقع في الشرك، وهذا الشرك يكون من الشرك الأكبر.
وكذلك المحبة يجب أن تكون لله وحده، فالحب هو لب العبادة وهو التأله، وهو معنى (لا إله إلا الله)، فيجب أن يكون لله وحده، إلا أن الحب -كما سيأتي- ينقسم أيضاً إلى حب طبيعي وحب خاص، فالحب الطبيعي كحب الجائع للطعام والظمآن للشراب، وكذلك حب الألفة والأنس والمصاحبة، وكذلك حب الحنان والرحمة كحب الوالد لولده وما أشبه ذلك فهذا لا ضير فيه، ولا يلام الإنسان عليه، وإنما الحب الذي يكون لله هو الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم، فهذا لا يجوز إلا أن يكون لله؛ إذ كان الحب في ضمنه ذل للمحبوب وتعظيم له، فهذا يكون عبادة لا يجوز أن يكون للمخلوق، وكذلك هذه الآية، حيث استثنى إبراهيم الله جل وعلا فقال: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] مما يدل على أنه لا يكفي في عبادة الله جل وعلا أن يقر الإنسان بأن الله هو ربه، مع أنه يوزع عبادته بين الله جل وعلا وبين المخلوقين، فإنه بذلك يكون مشركاً، فإذا قال الإنسان: إن الله هو ربي، وهو خالقي، وهو المتصرف في كل شيء والمالك لكل شيء، وهو المحيي والمميت، وهو الضار النافع، ومع ذلك يدعو غيره من الأموات فهذا الإقرار لا يفيده شيئاً ولا ينفعه، وذلك لأن المشرك لا يقبل منه عمل، والشرك يفسد العمل كله، فلابد في قبول العمل وصحته من الإخلاص، أن يكون الإنسان مخلصاً في عبادته ودعوته واتجاهه إلى الله جل وعلا.(29/4)
معنى قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون)
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] أي: لا إله إلا الله.
فتدبر كيف عبر إبراهيم عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج كالكواكب والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر، وغيرها من الأمثال والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانها.
ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] فكل عبادة يقصد بها غير الله تعالى من دعاء وغيره فهي باطله، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:73 - 74]].
يعني: هذا في الآخرة، حيث ضلوا في الدنيا فيضلهم الله في الآخرة إلى سوء الظنون، ويظنون أنهم على شيء وهم كاذبون، ومعنى قوله: {ضلوا عنا} يعني: ذهبوا لا نراهم ولا وجود لهم حيث اعتقدوا في الدنيا أنهم يشفعون لهم، وشرك المشركين السابقين كله من هذا القبيل، أي: التشفع فقط.
يتخذون الأصنام والصالحين شفعاء، مثلما ذكر في قصة نوح عندما صاروا يدعون وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً، يقول العلماء: إن هذه الأسماء لرجال صالحين كانوا فيهم، وكانوا قدوة لهم، فماتوا في وقت متقارب، فأسفوا على فقدهم لأنهم يقتدون بهم ويهتدون بهديهم، وهم علماؤهم وعبادهم، فجاءهم الشيطان بصورة ناصح وقال لهم: ألا تصوروا صورهم فتضعونها في أماكنهم التي كانوا يجلسون فيها ويتعبدون فيها، فإذا رأيتم صورهم تذكرتم أفعالهم فاجتهدتم كاجتهادهم؟! فاستحسنوا هذا وصنعوه وصاروا على هذا العمل وقتاً إلى أن ماتوا، فجاء الذين بعدهم، ونسوا السبب الذي من أجله صوروا، فجاء إليهم الشيطان فقال: آباؤكم ما صوروا هؤلاء إلا لأنهم يتشفعون بهم، ويطلبون شفاعتهم عند الله ويجعلونهم شفعاء.
فهذا هو أصل الشرك، وهذا أول شرك وقع في الأرض، أما قبل ذلك فكان الناس كلهم على منهج أبيهم آدم عليه السلام موحدين يعبدون الله وحده، ولهذا فنوح هو أول الرسل، وقبل ذلك لم تكن حاجة إلى إرسال الرسل؛ لأن الناس كانوا عابدين لله جل وعلا متبعين الحق مقتدين بأبيهم آدم الذي هو نبي مكلم كلمه الله جل وعلا.
فلما وقع هذا الأمر بعث نوح عليه السلام، وصار يدعوهم إلى عبادة الله وحده، يقول الله جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] يعني: يأمرهم أن يعبدوا الله وحده.
قال لهم هكذا: ((اعبدوا الله مالكم من إله غيره))، وهكذا الرسل كلهم يقولون هذا القول.(29/5)
سبب وقوع الشرك
السبب في وقوع الشرك هو التعلق بالصالحين، وهكذا غير الصالحين مثل الأصنام التي يعبدها الكفار، سواء الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الكفار الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام، أو غيرهم الذين بعث إليهم جميع الرسل، كلهم كان لهم أصنام يتشفعون بها فقط، وما كان أحد يعتقد أن الصنم شريك لله جل وعلا في خلق السموات والأرض وفي التدبير وفي الإحياء والإماتة وإنزال المطر وإنبات النبات وغير ذلك، هذا ما وجد في الناس أصلاً، وإنما عبادتهم لهم أنهم يجعلونهم شفعاء، كما قال الله عنهم: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] يعني: هذه المعبودات اتخذوها شفعاء وزعموا أنها تشفع لهم عند الل.
وقال الله عنهم في الآية الأخرى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: يشفعوا لنا عند الله.
فهذا هو الشرك الذي وقع فيه المشركون، ولا يتصور أن شركهم أنهم يسجدون للأصنام والحجارة ويعتقدون أنها تدبر الأمور وتتصرف في الكون، هذا ما وقع، وهم أعقل من ذلك، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد والكروب تركوا هذه الأصنام أصلاً ولجاؤا إلى الله وحده، وعلموا أنه لا يجيبهم ويكشف ما بهم إلا الله وحده، ولهذا احتج الله عليهم بذلك، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] يعني: هل أحد غير الله؟ أقروا أنه الله وحده، وكذلك أخبر الله جل وعلا أنهم إذا سئلوا: من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله.
وإذا سئلوا: من خلقكم؟ قالوا: الله.
وإذا سئلوا: من بيده ملكوت السموات والأرض؟ قالوا: الله.
فهم مقرون أن الذي يملك ما في السموات وما في الأرض هو الله، وكل هذا ظاهر جلي في القصص التي قصها ربنا علينا في القرآن عن الأمم السابقة والأنبياء.
إذاً: فشرك المشركين هو في كونهم يدعون المعبودات التي يعبدونها ويدعونها لتشفع لهم فقط، سواءٌ أكانت المعبودات حجارة أم أشجاراً أم مياهاً أم أشخاصاً أم أمواتاً أم ملائكة أم جناً أم أنبياءً أم غير ذلك، فهذه هي عبادتهم، وهذا يجب على المسلم أن يتعرف عليه ويعرفه؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن المشرك إذا مات مشركاً فهو خالد في النار، وأن الجنة عليه حرام، وأنه ليس بخارج من النار، وهذا أمر عظيم جداً، فإذا كان الأمر هكذا فيتعين على العاقل أن يتعرف على الشرك خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري؛ لأنه قد يقع الإنسان في الباطل وهو لا يظن أنه باطل لجهل الأمر، والعاصم من ذلك فهم كتاب الله واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان يعتصم بهذا -إذا عصمه الله جل وعلا- بفهمه وعلمه، وإلا فالإنسان قد يستطيع أن يفسر كلام الله ويبين دليله من اللغة وهو مخالف له، فقد وقع في هذا كثير من الناس، فالأمر ليس سهلاً.
فالمقصود أن شرك المشركين هو من هذا القبيل فقط، ما كان أحدهم يتصور -فضلاً عن الاعتقاد- أن شيئاً من المخلوقات يحيي أو يميت أو ينزل المطر أو ينبت النبات ويتصرف مع الله جل وعلا.
وكل هذا من باب القياس، وذلك أن بني آدم علموا أن العظماء والرؤساء والملوك عندهم من يقوم بتوصيل ما يحتاجون إليه، وأكثر الناس لا يستطيع أن يواجههم وأن يأتي إليهم، وإذا أتى إليهم قد لا يحصل على شيء، فقالوا: لابد من اتخاذ الوسائط والشفعاء الذين لهم مقام عند الرئيس وعند الملك حتى يكلموه وحتى يشفعوا عنده، وبذلك يحصل المقصود.
فهم جعلوا هذا لرب العالمين، وقاسوا الخالق جل وعلا على المخلوق، وهذا هو الشرك الأكبر، هو تشبيه الخالق جل وعلا بالمخلوق، أو تشبيه المخلوق بالخالق، فهذا يتعالى الله عنه ويتقدس؛ إذ ليس بينه وبين عبده واسطة، أينما كنت اتجه إلى ربك فهو يراك ويسمعك، وهو أقرب إليك من كل أحد إذا أخلصت له ودعوت، ولا تجعل بينك وبين ربك وساطة، ولا يجوز أن يكون بين العبد وبين ربه وسائط إلا واسطة واحدة وهي الرسول صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر في تبليغ أمر الله فقط، في تبليغ شرع الله ودينه؛ لأن الله جل وعلا يوحي إلى من يشاء من الرسل فقط، ولا يكلم أحداً من الناس، وإنما يكلم الرسل إذا شاء من وراء حجاب أو بالوحي، فهم الوساطة بين الخلق وبين ربهم جل وعلا في تبيلغ أمره ودينه وشرعه.
أما في الدعاء والتوجه والطلب فليس بين الله جل وعلا وبين الخلق وسائط، فمن جعل وسائط بينه وبين الله فقد وقع فيما وقع فيه المشركون الذين عبدوا مع الله غيره.(29/6)
معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)
قال المصنف: [وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]].
هذه الآية أيضاً من الآيات التي توضح معنى (لا إله إلا الله) وتبين ذلك، فهي في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، والأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد الذين يتعبدون لله جل وعلا.
والله يخبرنا عن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا هذين النوعين من البشر أرباباً من دون الله، وقد جاء تفسيرها التفسير الواضح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، فإن عدياً كان نصرانياً، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في رقبته صليب، فقال له: (ألق عنك هذا الوثن، ثم سمعه يقرأ هذه الآية، فقال: إنهم لم يعبدوهم! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ألم يحللوا الحرام فيتبعوهم على ذلك، ويحرموا عليهم الحلال فيتبعوهم على ذلك؟ قال: بلى.
قال: تلك عبادتهم) يعني: اتباعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وباختصار: هو طاعتهم في معصية الله.
فإذا أطاعوهم في معصية الله فقد اتخذوهم أرباباً، والرب: هو المالك المتصرف المعبود الذي يجب أن يعبد وحده، وهو الذي يملك الأمر والنهي ويملك التشريع، ويجب أن يكون له التحليل والتحريم، فلا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا؛ لأن من مقتضى الربوبية أن الرب هو الذي يأمر عباده ويحلل لهم ويحرم عليهم، ولا أحد من الخلق يملك شيئاً من ذلك، فإن اتبع مخلوقاً في شيء من ذلك فقد اتخذه رباً، والرب هو الذي يكون معبوداً.
ولكن في هذا شيء من التفصيل، فإن هذا الأمر ينقسم إلى قسمين، فإذا اتبع الإنسان مخلوقاً في التحريم والتحليل فلا يخلو الأمر إما أن يكون عالماً بأنه حلل الحرام وحرم الحلال ويعلم ذلك فيتبعه مع علمه أنه فعل ذلك، فمن اتبعه على هذا الوصف فهو كافر مشرك خارج من الدين الإسلامي.
وأما إن كان جاهلاً لا يدري، بل أحسن به الظن فاتبعه فإن هذا عاص له حكم أمثاله من العصاة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة بالمعروف) والمعروف هو ما جاء به الشرع أنه أمر بكذا ونهى عن كذا.
إذاً: فمعنى هذه الآية أن اليهود والنصارى اتبعوا علماءهم وعبادهم الذين تركوا أمر الله وارتكبوا المحرمات، وتركوا ما هو أمر إلزامي من الله تبارك وتعالى، فاتبعوهم على هذا فكانوا أرباباً لهم.
وهكذا إذا اتبع الإنسان من هذه الأمة هذا السبيل، اتبع من يحلل الحرام ويحرم الحلال، فإن له حكمه، وذلك أن القرآن ذكر هذه الأشياء عن اليهود والنصارى حتى نجتنبها ونبتعد عنها، وإلا فإنهم في الغالب لا ينتفعون بهذا، وإنما المقصود نحن المسلمين، حتى لا نقع فيما وقع فيه أولئك.
إذاً: فالتحريم والتحليل والاتباع هذا من خصائص الله، ومن معنى (لا إله إلا الله)، فإن معنى (لا إله إلا الله) أن تعبد الله، وعبادة الله تكون باتباع أمره الذي أمرك الله به واجتناب نهيه الذي نهاك الله عنه، أما إذا اتبعت أمر مخلوق وتركت أمر الله فإن هذا ينتقض، وتكون هذه العبادة لذلك المخلوق.(29/7)
الحديث المفسر لهذه الآية
قال الشارح: [وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! لسنا نعبدهم.
قال: أليسوا يحلوا لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم) فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله تعالى، وبهذا اتخذوهم أرباباً كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة ألا إله إلا الله، فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة، فأثبتوا ما نفته من الشرك، وتركوا ما أثبتته من التوحيد].
يكون الاتباع شركاً أكبر إذا كان الإنسان عالماً بأنهم عملوا هذا الشيء -أي تحليل الحرام وتحريم الحلال- فعلم بذلك واتبعهم على هذا، فيكون قد وقع في الشرك الأكبر.
أما إذا كان جاهلاً فإنه يكون عاصياً من العصاة، يستحق العقاب إن لم يعف الله عنه، وإلا فهو معرض لعقاب الله جل وعلا، ولكن لا يكفر.(29/8)
معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)
قال المصنف: [وقوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]].
وهذه الآية أيضاً تبين معنى لا إله إلا الله، وذلك أن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب حباً وخوفاً ورجاءً.
وفي هذه الآية يقول الله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، والند: هو المثيل والشبيه والنظير.
فما هناك أحد من الخلق يعتقد أن شخصاً من بني آدم أو صنماً من الأصنام أو شجرة أو حجراً شيئاً يصنعه بيده يكون مثيلاً لله جل وعلا في التصرف والإيجاد والخلق وجميع الأمور، وإنما التنديد في الحب فقط،، اتخذوهم أنداداً في المحبة، أما في التصرف والفعل فهم يعلمون علماً يقينياً بأنه ليس لهم منه شيء، وأن هذا خاصٌ بالله جل وعلا.
إذاً: فيكون معنى ذلك: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي: في المحبة فقط.
فالتنديد هنا في المحبة فقط، والحب هو الذي قلنا: إنه الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم.
ومعلوم أن الحجر أو الشجر لا يجوز أن يخاف منه، فإذا خاف الإنسان منه أو رجاه فلابد أنه يحبه، وهذا أمر ضروري، ومن وقع في ذلك فقد وقع في الشرك، وهذا يكون من الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من دين الإسلام، وإذا مات عليه صار من أهل النار، ولهذا قال الله جل وعلا في آخر هذه الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، والأسباب -كما يقول ابن عباس - هي المودة والمحبة التي بينهم، انقطعت وانتهت، وكل واحد تبرأ من الآخر، العابد تبرأ من المعبود، والمعبود تبرأ من العابد {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:166 - 167] يعني: يقولون: يا ليت لنا كرة.
يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا.
هذا معناه: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167]، فهذا لأنهم أحبوهم حب الإلهية والتعظيم، وهذا هو التنديد، وهذا هو التسوية التي ذكرت في الآية الأخرى التي ذكرت أن أهل النار يخاطبون معبوداتهم وهم في النار فيقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، والمعنى: لقد كنا ضُلّالاً ضلالاً واضحاً لا يخفى لما كنا نسويكم برب العالمين.
أي: في الحب فقط، ما هو في التصرف، وهذه التسوية هي المذكورة في هذه الآية: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فيجب أن يكون الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم لله وحده، ولا يجوز أن يكون لغير الله.
وقد يشتبه الأمر على بعض الناس أن بعض المخلوقين يحب أكثر من محبة النفس، كالرسول -مثلاً- صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجب على المسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين، وإلا فلا يكون مؤمناً الإيمان الذي ينجيه، فيجب أن يعلم أن هذا الحب-حب الرسول صلى الله عليه وسلم- يكون تابعاً لحب الله، وليس حباً مع الله، بل هو يتبع محبة الله جل وعلا، فالمسلم يحب الله حباً أكثر، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك تكون أعظم وأكثر؛ لأنه يحب ما يحبه الله، فالله يحب رسوله، فهي تبع لمحبة الله، وليست محبة مع الله أنها ليست محبة ذل وتعظيم وعبادة، وإنما يحب الرسول لأن الله جل وعلا يحبه، فأنت تحب محبوبات حبيبك، فهي مكملة لمحبة الله جل وعلا ومتممة لها، وهذا يتبين في قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل عرى الإيمان) أو نحو ما قال، فمحبته تكون تبعاً لمحبة الله جل وعلا، فإذا رأيت من يطيع الله تحبه، لا لذاته، ولا لأنه شخص أو لأنه قريب، لا، تحبه لعمله، تحبه لأجل فعله، وتحبه لأجل العمل الذي عمله وهو طاعة الله، وكلما زادت طاعته لله تزداد محبته لدى المؤمنين.
وهكذا العكس، فإذا عصى الإنسان ربه يبغضه المؤمن، وإذا زادت معصيته زاد بغضه، والكافر يجب أن يتبرأ منه، كما سبق في الآية أن إبراهيم تبرأ من أبيه وقومه لأجل أنهم كفار، وذلك أن الله جل وعلا بريء من المشركين ورسوله، فيجب أن يكون المسلم كذلك بريئاً من المشركين، كما قال الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] أي: لو كان ابنك أو أباك أو أخاك أو زوجك أو أحداً من قومك ما يجوز أن توده وهو عدو لله.
إذاً: فالحب الذي يكون للمخلوقين ما هو حب ذات، حب الذات لا يكون إلا لله وحده؛ لأنه لا يوجد شيء يحب لذاته إلا الله جل وعلا، أما المخلوقون كلهم فيحبون لصفاتهم وأفعالهم فقط، فإذا كان مطيعاً لله حب لأجل ذلك، ما يحب لأنه بشر، وسواءٌ أكانوا أنبياء أم ملائكة أم غير ذلك، وإنما الذي يحب لذاته هو الله وحده، وذلك أنه جل وعلا هو الإله الحق وحده، وهو المالك وحده، وهو الموجد وحده، وهو المنعم وحده على العباد، والعبادة تكون تبعاً لذلك.(29/9)
الشرك في حب الله يكون شركاً منافياً للتوحيد
قال الشارح رحمه الله: [وكل من اتخذ نداً لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله، وإن كانوا يحبون الله تعالى ويقولون: (لا إله إلا الله) ويصلون ويصومون فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره، فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه، ويبطل كل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا: لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل لله شريكاً في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقاً في قولها؛ لأنه لم ينفٍ ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وترك اليقين أيضاً؛ لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]؛ لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب، ويخلصون أعمالهم جميعاً لله، ويكفرون بما عبد من دون الله.
فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآية العظيمة على معنى شهادة ألا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين، فتدبر].
يعني أن الحب مع الله يكون شركاً منافياً للتوحيد، فيجب أن يكون الحب خالصاً لله جل وعلا، وحب عباد الله الصالحين متعين، ولكن مثلما سبق أن عباد الله الصالحين يحبون لله لا يحبون معه، فمعنى محبتهم أنها مكملة لمحبة الله جل وعلا.
وأما قوله: (فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة) فالقيود التي قيدت بها هذه الكلمة جاءت في الأحاديث الصحيحة وفي الآيات، كقوله جل وعلا: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] يعني: لابد أن يكون عالماً بمعنى هذه الكلمة، (شهد بالحق) الذي هو لا إله إلا الله، (وهم يعلمون) هذه الشهادة ومعناها وحقيقتها حتى لا يخالفوها.
وكذلك قيدت باليقين، فيكون الإنسان موقناً بذلك، والذي يدعو مع الله غيره يكون غير موقن، بل يكون غير عالم بها، وكثير من الناس يغتر؛ لأنه جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، والمقصود بقول: (لا إله إلا الله) نفي العبادة عن غيره جل وعلا وإثباتها له، فمن مات وهو لا يعبد إلا الله وحده فإنه يكون من أهل الجنة، ولكن إذا كان يقول: (لا إله إلا الله) وهو يدعو غير الله معه فهذه الكلمة تكون لا فائدة في قوله لها؛ لأنه يأتي بالفعل الذي ينافي هذا القول.
وكذلك كونه لا يكفر بما يعبد من دون الله، فإن هذا قيد من القيود التي قيدت به هذه الكلمة، لابد لمن يقول: (لا إله إلا الله) أن يكفر بما يعبد من دون الله، أما إذا آمن بالمعبودات من دون الله فقد ناقض هذا القول.
والمقصود أنه يجب على العبد أن يتعرف على معنى كلمة التوحيد، وعلى القيود التي قيدت بها وشروطها، ومنها أنه لابد أن يكون القائل لها عالماً بها ولمدلولها، صادقاً فيها، والصدق معناه أن يقولها صادقاً لا متردداً أو شاكاً فيها.
ولابد أن يكون محباً لها الحب الذي ينافي البغض لمدلولها وما دلت عليه، فمن أبغض شيئاً مما دلت عليه فهو لم يأت بهذه الكلمة على الوجه المطلوب.
وكذلك لابد أن يكون مخلصاً في قولها، فمن وقع في الشرك وقالها لا تفيده، ولابد أن يكون أيضاً منقاداً لها مذعناً، فلو قال -مثلاً-: (لا إله إلا الله) ولم ينقده لما دلت عليه من الفرائض والواجبات التي أوجبها الله جل وعلا فهذا لم يأت بها على الوجه المطلوب، ولم يحصل على ما وعد من دخول الجنة لمن قالها، إلى غير ذلك من القيود التي قيدت بها هذه الكلمة.(29/10)
معنى قوله: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب)
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]].
قبل هذه الآية يقول الله: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] (ادعوا الذين زعمتم) يعني أنهم كانوا يدعون المخلوقين غير الله جل وعلا، وقوله: (ادعوا) هذا أمر تعجيز وتهديد لهم، يقول: إنكم إذا دعوتموهم فإن دعوتهم لا تنفع بل تضركم، {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} [الإسراء:56] لا يملكون كشف الضر الذي تدعونهم لكشفه ولا تحويله من مكان إلى آخر، والمعنى أنهم لا يملكون شيئاً.
ثم بعد ذلك قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] يكاد يجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في الذين يدعون المسيح وأمه وعزيراً والملائكة، يقول: إن هؤلاء الذين تدعونهم عباد مثلكم يتسابقون في طاعة الله والتقرب إليه أيهم يكون أقرب إلى الله بالعمل الصالح الذي يعمله، فهم لا يجوز أن يدعون، فدعوتكم إياهم ضلال وخسران، وهي تضركم ولا تنفعكم.
وقيل: إنها نزلت في قوم من الجن كان بعض المشركين يدعونهم، وكان من عادة المشركين أنهم يعبدون الجن، فقال الله جل وعلا عنهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] كان أحدهم إذا آواه الليل وهو في البر ينادي ويقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.
أستجير بسيد هذا الوادي-يعني رئيس الجن- أستجير وأستعين به -وهذه عبادة- من سفهاء قومه أن يعتدوا علي ((فزادوهم رهقاً)) يعني: خوفاً وذلاً.
فأذلوهم حيث تسلطوا عليهم بسبب هذا الدعاء الذي هو العبادة؛ لأن الذي يتعلق بغير الله يسلط الله عليه ذلك المخلوق الذي تعلق به بخلاف الذي يتجه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يضره شيء، والله يحميه.
فقوله: ((أولئك الذين يدعون)) يعني: هؤلاء.
وقرأ بعض القراء: ((أولئك الذين تدعون)) خطاباً للكفار، أنهم يدعون بعض من يدعونهم من دون الله، سواءٌ أكانوا ملائكة أم غيرهم، فإن فريقاً من مشركي العرب كانوا يعبدون الملائكة كما أخبر الله جل وعلا عنهم في كتابه، وإذا جمعهم يوم القيامة فإن الله يخاطب الملائكة ويقول: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]، فتتبرأ الملائكة منهم ويقولون: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] أي: الشياطين التي أمرتهم بذلك {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41]، ومنهم من يعبد المسيح، ومنهم من يعبد عزيراً وهو نبي، وكذلك أم المسيح مريم عليها السلام، فقد كان بعض الناس يعبدها وهي ليست نبية، وإنما هي صديقة كما أخبر الله تعالى عنها، فهؤلاء المعبودون يخبر الله جل وعلا عنهم أنهم كانوا يتقربون إلى الله ويسارعون إلى مرضاته أيهم يكون أقرب عند الله، والوسيلة التي يبتغونها هي الإسلام، هي الدين الذي أوحاه الله جل وعلا إلى أنبيائه.
وقوله تعالى: ((يبتغون إليه الوسيلة)) يعني: يعتنقون الدين ويؤمنون به ويتبعونه؛ لأنه هو الوسيلة التي تقربهم إلى الله جل وعلا.
ويتبين بهذا أن الدعاء من العبادة يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا وحده.(29/11)
معنى قوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه)
قال الشارح: [يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها وهو قوله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: (قل) يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، وارغبوا إليهم ((فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم)) أي: بالكلية ((ولا تحويلا)) أي: ولا أن يحولوه إلى غيركم.
والمعنى أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر.
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه فى الآية: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً.
وهم (الذين يدعون) يعنى: الملائكة والمسيح وعزيراً.
وروى البخاري فى الآية عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا.
وفى رواية: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم].
يعني أن المعبودين من الجن أسلموا فصاروا يتقربون إلى الله ويتسارعون لطاعته أيهم أقرب إليه زلفى، وبقي الإنس المشركون على عبادتهم، يقول: أولئك الذين تدعون يبتغون عند ربهم الوسيلة.
يعني أنهم أسلموا واتبعوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الوسيلة إلى الله جل وعلا.
قال الشارح: [وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فى الآية قال: عيسى وأمه وعزيراً.
وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: هم عيسى وعزير والشمس والقمر.
وقال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة] الصواب أن هذه الآية عامة في كل من يدعى من دون الله، سواءٌ أكان صالحاً من عباد الله سواء من البشر أو من الملائكة أو من الجن، أم كان صنماً أم شجراً أم غير ذلك، فكل ما دعي من دون الله فهو لا يملك كشف الضر ولا تحويله، أي: لا يملك شيئاً، وهو أيضاً إذا كان عاقلاً خاضعاً لله جل وعلا ذالاً له عابداً له بالعبادة التي سخره الله تعالى ليعبده بها، فإنه جل وعلا كل من في السموات والأرض من غير بني آدم والجن يعبد ربه، أما الجن والإنس فهم الذين حق على كثير منهم القول؛ لأنهم كفروا بالله جل وعلا.
فالمقصود أنه إذا وقعت العبادة لغير الله سواءٌ أكانت لعاقل أم لغير عاقل فهي شرك وضلال، وذلك المعبود سوف يتبرأ من العابد أحوج ما كان إليه، وسوف يكفر بعبادته، كما أخبر الله جل وعلا بذلك بقوله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] وهذا عام في كل معبود من دون الله.(29/12)
لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء
قال الشارح: [وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لابد له من ذلك، فإما أن يكون خائفاً، وإما أن يكون راجياً، وإما أن يجتمع فيه الوصفان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة لما ذكر أقوال المفسرين: وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابداً لله، سواءٌ أكان من الملائكة أم من الجن أم من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفا فيقول: هذا.
فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم من بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية.
فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأولياء والصالحين، سواءٌ أكان بلفظ الاستغاثة أم غيرها فقد تناولته هذه الآية الكريمة كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله تعالى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: ((ولا تحويلاً)) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل.
فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله].
يعني: من دعا حاضراً في شيء لا يقدر عليه.
فلا يلزم أن يكون ميتاً، أما دعوة الميت والغائب فهي شرك مطلقاً، لأنه في دعوته هذه لا يسمع وليس قادراً على ذلك، أما إذا كان حاضراً فيشترط أن يكون دعاؤه فيما يستطيع أن يجيبه، أما إن كان في الشيء الذي لا يجيبه، مثل أن يدعوه أن يشفي مريضه أو يصلح قلبه أو أن يهب له مولوداً أو ما أشبه ذلك فهذا شرك أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه من خصائص الله جل وعلا، وكل من جعل شيئاً مما هو لله جل وعلا للمخلوق فقد وقع في الشرك الأكبر.
قال الشارح: [وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحاً ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً، الشرك عبادة الأصنام!] الذي يدعو صالحاً سواءٌ أكان حياً أم ميتاً، ويقول: دعائي ليس شركاً وإنما هذا توسل به فالواقع أن هذا هو الشرك، وإن غير الاسم فهو لا يجدي شيئاً.(29/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [30]
لقد أوجب الله على المؤمنين البراءة من الكافرين وإخبارهم بذلك؛ لأن الله عز وجل قطع الصلة بين المسلم والكافر، حتى وإن كانت هذه القرابة تصل إلى حد الأبوة أو البنوة أو الأخوة، وقد أثنى الله على نبيه إبراهيم لبراءته من أبيه وقومه، كما أثنى على الصحابة الأولين الذين تبرءوا من قرابتهم واحتسبوا ذلك عند الله، فأثابهم الله على ذلك إيماناً في قلوبهم وتأييداً ونصرة.(30/1)
معنى قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27]] في قول الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28] في هذه الآية يبين الله جل وعلا أن المسلم يجب عليه أن يتبرأ من الكافر، وأن يعلمه بأنه بريء منه؛ لأن الله جل وعلا قطع الصلة بين المسلم والكافر، انقطعت الصلة وإن كان أباه أو أخاه أو ابنه كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، ثم ختم الآية بالثناء على الصحابة الذين تبرءوا من أقربائهم: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، وهذه -كما يقوله بعض المفسرين- نزلت في أبي عبيدة لما حاول قتل أباه حينما رآه في بدر.
فالمسلم بريء من المشركين، يتبرأ منهم ويعلمهم أنه عدو لهم، فلا صلة بين المسلم والمشرك الكافر عموماً، ولهذا قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ثم استثنى الله جل وعلا عدم التأسي بقول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك)، فقال: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] يعني: لا تتأسوا به.
لأن الله أخبر في الآية الأخرى أنه وعد أباه بذلك، فلما تبين له أن أباه عدو لله تبرأ منه، وهكذا يكون الموحد، ولا يتم توحيد الإنسان إلا بأن يكون ولاؤه لله جل وعلا، وكذلك من كان على هذا النهج من عباد الله جل وعلا.
وفي هذه الآية توضيح لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27] وتوضيح ذلك أن إبراهيم عليه السلام تبرأ من جميع المعبودات لأنها باطلة وضلال، واستثنى منها الذي فطره وهو الله جل وعلا.
ومعنى (فطرني): خلقني بعد أن لم أكن شيئاً، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات كلها واستثنى منها إلهه وربه جل وعلا الذي يجب أن تكون العبادة كلها له.
فمعنى (لا إله إلا الله) هو هذا الولاء والبراء، أن يتبرأ من كل المعبودات ويخلص عبادته لله وحده، فكل العبادة لمعبود واحد هو الله جل وعلا، ويكفر بكل ما يعبد من دون الله.
ثم إن العبادة كل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه جل وعلا من فعل أو قول يرجو بذلك الثواب ويخاف إن لم يأت به أن يعاقب، أو يسأله مطلباً معيناً سواء أكان من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة، فهو عبادة، بل الدعاء هو مخ العبادة وأصلها وأساسها، والله جل وعلا أوجب الدعاء على عباده فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي} [غافر:60] وهذا القول يقتضي أنه يجب، {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وسواء كان الدعاء لمسألة معينة ونفع معين من أمور الدنيا والآخرة أم يخص الآخرة، فكله يكون من أفضل العبادة، فلا يجوز أن يكون الدعاء لغير الله جل وعلا، وهكذا جميع أنواع العبادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وهذه الآية موضحة لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله.
وكثير من آيات القرآن يوضح ذلك توضيحاً جلياً، غير أن كثيراً من الناس يعرض عن فهم القرآن وتدبره، وقد ذم الله جل وعلا الذين لا يفهمون القرآن ولا يتدبرون، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فيجب على المسلم أن يتفهم كتاب ربه؛ لأن الله يخاطب عباده بالخطاب الذي يدعوهم فيه إلى أن يفهموه ويعملوا به.(30/2)
كلام ابن كثير في تفسير هذه الآية
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش فى نسبها ومذهبها: إنه تبرأ من أبيه وقومه فى عبادتهم الأوثان فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28] أي: إن هذه الكلمة -وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله- جعلها فى ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام (لعلهم يرجعون) أي: إليها].
قوله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] يبين الله فيه أن على المسلم ألا يعتمد على نفسه وعلى فعله وقوته، وإنما يلجأ إلى ربه في كل ما يصدر منه، ويبرأ من الحول والقوة؛ فإن الهداية بيد الله، فالإنسان لا يملكها إذا لم يهده الله جل وعلا، {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] يقول: إذا اتجهت هذا الاتجاه فأنا أرجو هدايته وأطلبها منه، وليست الهداية مني وإنما هي من الله جل وعلا، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا من مقتضى العبودية، أن يكون الإنسان مستسلماً منقاداً لله جل وعلا، وألا يكون لنفسه مع الله جل وعلا منازعة ينازعه فيما يصدر من الله جل وعلا ولا فيما يصدر من العبد، غير أن العبد مكلف بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه، ثم هو إذا لم يعنه الله جل وعلا ويهده لذلك لا يستطيع أن يعمل شيئاً، ولهذا وجب علينا أن ندعو الله جل وعلا بهذا الدعاء في كل ركعة من ركعات الصلاة، فنقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: إذا لم تعنا على عبادتك لا نستطيع أن نعمل شيئاً.
فالعبد يكون مستسلماً منقاداً لله بارئاً من الحول والقوة، وإنما هو عبد لله يتصرف فيه كيف يشاء، فهو يسأل ربه مفتقراً إليه، مظهراً فقره في عبادته التي يتقرب بها إلى الله بأن يوفقه الله جل وعلا فيها وفي مستقبله وفي جميع أحواله، يجب أن يكون العبد بهذه المثابة، وأن يعلم أن الخلق كلهم لا يغنون عنه شيئاً، أما إذا أصبح ينازع ربه في التصرفات فإنه يكون له نوع من التكبر على الله جل وعلا وعلى عبادته، فيخذل في ذلك، ويعرض الله جل وعلا عنه ويكله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه تولاه الشيطان وضل، نسأل الله العافية.
ففي هذا دليل على أن العبادة مقترنة بالاستعانة، وأنها لا تصح العبادة حتى تقترن بعون الله جل وعلا وتوفيقه، فالإنسان يعبد ربه ويسأله التوفيق والعون على ذلك.(30/3)
معنى قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)
قال الشارح رحمه الله: [قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] يعنى: (لا إله إلا لله)، لا يزال في ذريته من يقولها].
وقد كانت هذه الكلمة وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفونها، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، والمقت: شدة البغض والكراهة، يمقتهم لأنهم على الشرك، وكان العقلاء منهم -وهم قلة- يرون أنهم على ضلال، ولكن لا يهتدون إلى دين؛ ولهذا ذهب منهم جماعة يطلبون الدين وكانوا يقولون: إن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا، فذهبوا إلى النصارى، فوجدوهم ضلالاً، وذهبوا إلى اليهود فوجدوهم على غضب من الله تعالى، فاعتزلوا الكل وصاروا يعبدون الله على حسب ما تهديهم إليه عقولهم.(30/4)
أنواع التوحيد
قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن جرير عن قتادة: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] قال: كانوا يقولون: إن الله ربنا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فلم يبرأ من ربه.
رواه عبد بن حميد.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده].
هذا أمر اتفق عليه الخلق كلهم، كونهم يقرون بأن الله ربهم، ولكن اختلفوا في كونهم يعبدون معه غيره، أما إقرارهم بأنه هو الذي يخلقهم وهو الذي يرزقهم وينعم عليهم، وإذا وقعوا في شدة يجيب دعوتهم ويكشف الشدائد عنهم فهذا أمر اتفق عليه جميع الخلق، وما شذ عنه إلا شواذ الناس الذين فسدت عقولهم وأصبحت عقولهم مغطاة بالتقليد الأعمى الذي وجدوا عليه الضلّال، وهذا لا يفيد شيئاً، كون الإنسان يقر بأن الله ربه وخالقه وأنه المحيي المميت المتصرف ما يفيد شيئاً حتى تضاف إليه عبادة الله وحده بالأمور التي تصدر من الإنسان، ومن هنا قسم العلماء التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة أقسام، فيجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين.
ويجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة: توحيد أفعال الله جل وعلا، أي: الأفعال التي تصدر منه، مثل الخلق والرزق وإنزال المطر والإحياء والإماتة، وكل ما يتصرف الله جل وعلا به فإنه ينفرد به، وهذا الشرك فيه قليل، وإنما وقع الشرك فيه من أفراد من الناس إما عناداً وتكبراً، أو جهلاً قد غطى على العقل تماماً، كما وقع في بعض هذه الأمة.
أما العناد فمثل ما وقع من فرعون، حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] فهذا تكبر، وإلا فهو يعلم يقيناً أن الله ربه وهو خالقه، ولكنه يريد أن يموه على الناس لأنه في منصب يخوله ذلك ويدعوه إلى الكبر ويجعل الناس يتبعونه، فلهذا استولى على قومه فأطاعوه في الباطل وهم يعلمون أنه باطل، وهو نفسه قد أخبر الله جل وعلا أنه استيقن الآيات أنها من عند الله -استيقنتها أنفسهم- ولكنه دعاهم إلى الظلم والعلو، كما قال فرعون ووزراؤه وخبراء دولته الذين يساعدونه على ذلك، ومع ذلك لما عاين العذاب وعاين مصيره الأخير من حياته قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] لكن هذا لا يفيد شيئاً، لهذا قال له الملك: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] تؤمن الآن؟ ما ينفعك: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] يعني: في هذا الوقت ما ينفعك الإيمان، أنت أصبحت في عداد الأموات، ومن كان بهذه المثابة لا يفيده الإيمان.
أما النمرود فهو مثله تكبر أيضاً وقال: إنه ربهم لما قال له إبراهيم عليه السلام: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] عجيب كيف يحيي ويميت ويخلق من العدم حياً؟! ما يستطيع، لكن يريد أن يموه على الناس، فقال: أنا آتي برجلين فآمر بهذا فيقتل، وهذا الموت، وآمر بهذا فيترك، وهذه هي الحياة.
وهذه مغالطة، ومع ذلك لما رأى إبراهيم هذه المغالطة جاءه بشيء لا يستطيع أن يخرج منه، ولا يستطيع أن يغالط فيه، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] إن كنت صادقاً اعكس مسيرها: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] يعني: ما استطاع أن يجيب بشيء.
وهكذا الكفرة والظلمة وهؤلاء الذين ذكر عنهم أنهم ادعوا أنهم هم الذين يتصرفون مع الله وأنهم شركاء له في التصرف، وهذا شذوذ في الخلق، وشذوذ في التفكير والنظر والادعاء والعناد والتكبر، أما سائر الخلق فكلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق المحيي المميت المتصرف في الكون كله، وأنه لا شريك له في ذلك، ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]، ففي هذا أمر يقرون به، وهو أنه هو الذي خلقهم وخلق الذين قبلهم، لا أحد ينكره، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:21 - 22] وأيضا يقرون أن الذي خلق الأرض وجعلها ممهدة يستطيعون الاستقرار عليها والمشي على متنها وحرثها والتصرف فيها مما ينفعهم هو الله، الله الذي جعلها بهذه المثابة وجعلها لهم فراشاً، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] يعني: رفعها فوقهم يشاهدونها، وهذه السماء هي التي نشاهدها فوقنا، وليست كما يقول الكفار اليوم، فالكفار اليوم ينكرون السماء، ويقولون: إنما هو الفضاء، فيعبرون بالفضاء عن العلو، ويقولون: إن هذه الزرقة من إفرازات الأبخرة والأثير وما أشبه ذلك.
وهذا كفر بالله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6] يأمرنا بالنظر إليها والاعتبار بها، ويأمرنا بأن نرجع البصر فيها ونكرره، وأننا إذا كررناه يعود إلينا خاسئاً وهو حسير، وكذلك يخبرنا بأنه هو الذي رفع السماء بلا عمد نراها فوقنا، فهذه هي السماء، ولكن لشدة بعدها ما ترى إلا لمن يكون على الأرض، أما إذا ارتفع الإنسان إلى جهتها ذهبت هذه التي ترى، وفي حديث جابر أن الميت إذا مات وخرجت روحه أن الملائكة تتولاها وتصعد بها، فإن كان مؤمناً استفتحوا لها باب السماء ففتح، وإن كان كافراً أو فاجراً أغلقت دونه أبواب السماء، ثم يقال لهم: (اطرحوها طرحاً) من السماء الدنيا، فتطرح طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ومع ذلك لا تضيع الروح، وإنما تأتي إلى الجسد وتكون فيه فتذوق العذاب الأليم مع الجسد، كما أن روح المؤمن تنعم مع جسدها.
فالمقصود أن الله جل وعلا يخبرنا أنه هو الذي خلق الأرض وبنى السماء وجعلها لنا بناء، وأنزل من السماء ماء، والسماء يطلق على السماء المبنية التي هي السبع السموات، ويطلق على كل ما فوقنا، فكل ما فوقنا فهو سماء، ولهذا قوله: {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22] لا يلزم أن يكون المطر ينزل من السماء المبنية بل ينزل من فوق، فالله يخلقه بين السماء والأرض.
فهكذا يقرر الله جل وعلا للناس: {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعلمون ماذا؟ يعلمون أن الله هو المتفرد في خلق هذه الأمور المذكورة، هؤلاء المشركون يعلمون هذا يقيناً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] في آيات كثيرة.(30/5)
توحيد الربوبية والأسماء والصفات
فالمقصود أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: قسم هو توحيد الله بأفعاله التي يفعلها، وهذا يسمى توحيد الربوبية؛ لأن الرب هو الخالق المالك المتصرف، وهذا وحده لا يفيد، لابد أن ينضم إليه التوحيد الثاني، وهو توحيد الأسماء والصفات؛ لأن الأسماء والصفات تختص بالله جل وعلا.(30/6)
توحيد الألوهية
القسم الثاني: التوحيد الذي يطلب من العبد أن تكون أفعاله واحدة لواحد، واحدة لله جل وعلا لا يكون له فيها شريك، أن يكون الدعاء لله، والنذر لله، والصلاة لله، والركوع له، والسجود له، وكل ما يتعبد به الإنسان من صوم وتوبة واستغفار وغير ذلك وطلب نفع وكشف ضر يجب أن يكون كله لله وحده، وإلا فلا يقبل منه شيء، فالذي يشرك في هذه العبادة يكون عمله حابطاً؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وهذا الذي خلق له الناس، فيجب عليهم أن يتعرفوا على هذا، ويجب عليهم أن يعلموا ذلك ويتعرفوا عليه، فالخطر شديد جداً، فقد جاء في الصحيح في حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة) فالأمر ليس سهلاً، فعلى الإنسان أن يتعرف على هذا الأمر ولا يستهين به، ويجب عليه أن يهتم به غاية الاهتمام أكثر من اهتمامه بجسده وبيته الذي ينظفه وينظمه ويؤثثه، يجب أن يهتم بدينه وبعبادته أكثر من ذلك وأعظم؛ لأن الدين هو رأس المال في الواقع، الدنيا ستزول، والبدن سينتهي أجله ويموت، ولكن إذا كان الإنسان على التوحيد فأمامه الحياة السعيدة الأبدية، أما إذا كان على غير ذلك فأمامه الحياة الأبدية التعيسة التي لا يخفف عنه فيها العذاب ولا يقضى عليه فيموت، خالداً فيها أبد الآباد، فيجب على العبد ألا يغفل عن هذا ولا يتساهل به.
قال الشارح رحمه الله: [قلت: فتبين أن معنى (لا إله إلا الله) توحيد العباد بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه.
قال المصنف رحمه الله: وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية: وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرا تولاه العظيم الشان].
وبعد هذا يقول فيها: كن واحداً في واحد لواحد أعني طريق الحق والإيمان يقول: إنه لا يقبل إلا هذا، (كن واحداً) يعني: عبداً لله، لا تكن عبداً لله ولغيره، كن واحداً لواحد، والواحد هو الله، وقوله: (في واحد) يعني: في طريق واحد، وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: أعني طريق الحق والإيمان، يعني: الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان.(30/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [31]
لقد تعبدنا الله عز وجل بجميع العبادات، فلا يجوز صرف أي نوع منها لغيره سبحانه، ومن تلك العبادات الخوف والذل، والحب والتعظيم، والاستغاثة، فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فإنه يكون قد اتخذ نداً مع الله، يحبه كحب الله أو أشد حباً، وهذا هو الشرك بالله.(31/1)
قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) وما جاء فيها من تفصيلات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: وقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]].
هذه الآية سبق أن بينا أنها في النصارى واليهود، وأن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وأن طاعة المخلوق في المعصية تكون عبادة له، ويكون ذلك المطاع رباً لهذا المطيع.
قال الشارح: [الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلماً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية قال: (فقلت: إنهم لم يعبدوهم.
فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق].
ظن عدي أن العبادة هي السجود أو الركوع، أو الخضوع والذل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعم من هذا، وأنه يكفي في العبادة أن يكون المخلوق مطاعاً في معصية الخالق، فمن أطيع في معصية الخالق تكون تلك عبادة له.
قال الشارح: [قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله.
فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به؛ الله فقد اتخذه رباً ومعبوداً، وجعله لله شريكاً، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أرباباً كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران:80] أي: شركاء لله تعالى في العبادة {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] وهذا هو الشرك، فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله، فقد اتخذه المطيع المتبع رباً ومعبوداً كما قال تعالى في آية الأنعام: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة.
ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] والله أعلم.
قال شيخ الإسلام في معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً -حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله- يكونون على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين -مع علمه أنه خلاف للدين- واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الطاعة في المعروف) ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام، إن كان مجتهداً -قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع- فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول؛ فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه.
ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه، فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كـ النجاشي وغيره، وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:199]، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ} [المائدة:83] وقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما قدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة.
وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار.
وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال ومنعه من عبادة الله وطاعته؛ صار عبداً له، وكذلك هؤلاء.
فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك، وفي الحديث: (إن يسير الرياء شرك) وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير الذنوب.
انتهى].(31/2)
أن يكون المتبع عالماً بما يفعله المتبوع من مخالفات
في هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ رحمه الله أقسام المتبوع والتابع، فالمتبوع إذا كان عالماً بأن ما فعله أو قاله كفر بالله ومخالف لدين الله، وأحل ما هو حرام في الشرع، أو حرم ماهو حلال في الشرع، مع علمه بأن الله حرم هذا وأحل هذا، وخالف ذلك لغرض من الأغراض التي يريدها، فإن هذا يكون كفراً مخرجاً من الدين الإسلامي.
والذي يتبعه فهو على التفصيل الذي ذكر، إما أن يكون المتبع عالماً بأن الذي فعله هذا المتبَع مخالف للدين، ومخالف لنصوص الله جل وعلا، فإنه يكون كافراً خارجاً من الدين الإسلامي لاتباعه هذا الشخص الذي حرم الحلال وحلل الحرام، وهذا هو معنى الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدي بن حاتم، وهي التي استشهد بها المؤلف في هذا، وهي قوله جل وعلا في أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31] فالأرباب جمع رب، فالرب من خصائصه التحليل والتحريم، والأمر والنهي الذي يجب فيه الاتباع، فمن فعل ذلك فقد نازع الله جل وعلا فيما هو من خصائصه؛ فاستحق بذلك أن يكون مبعداً من الله جل وعلا.(31/3)
أن يكون المتبع جاهلاً بما يفعله المتبوع من مخالفات
إذا كان المتبع جاهلاً بأن متبوعه على باطل، وإنما اتبعه على حسن نية وقصد، ويظن أنه لم يخالف أمر الله في التحليل والتحريم، فهذا يكون آثماً عاصياً يستحق العقوبة، ولكنه لا يكون خارجاً من الدين الإسلامي؛ لأنه قصر في التعرف على دين الله جل وعلا؛ لأن الله جعل في الإنسان عقلاً وفكراً ونظراً، وأناط التكليف في عقله ونظره وفكره، فهو يميز بذلك، فإذا اتبع غيره في هذه الأشياء فهو مقصر يستحق العقوبة، ويكون مثل أصحاب الجرائم من الكبائر وغيرها، فإن شاء الله جل وعلا عفا عنه دون عقاب، وإن شاء أخذه بعقابه.
والمتبوع الذي يفعل الخطأ إن كان مجتهداً وهو أهل للاجتهاد، فإنه يعذر، والاجتهاد لا يكون لكل أحد، لكن يكون جاهلاً بشيء، ولم يأل جهداً فخفي عليه الصواب، فإذا فعل ذلك فإنه غير معاقب بل يثاب على اجتهاده فقط، وخطؤه الذي أخطأ فيه يكون معفواً عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر) وهذا يكون في الحاكم الذي يكون أهلاً لذلك.(31/4)
المقلد لغيره في الباطل أو الحق
المقلد الذي يقلد غيره: إما أن يكون المقلد يستطيع أن يميز بين الأمر والنهي، ويستطيع أن يعرف الدليل؛ فهذا لا يجوز له التقليد، ويجب عليه أن يعرف الحق بنفسه إلا في الأمور التي لا يستطيع لها، فهذا منوط بالتكليف، فإن الله جل وعلا لا يكلف نفساً إلا وسعها، والوسع هو الطاقة والاستطاعة، فالله لا يكلف الإنسان ما لا يستطيعه، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] لأنه لا يستطيع أن يعرف الأدلة، ويعرف مناط الحكم، ويعرف مراد الله في هذا النص، أو أنه يدخل هذا الحكم في هذا النص أو غير ذلك، فهو يلجأ إلى أهل العلم يسألهم عن ذلك.
وعليه أن يتقي الله في هذا، ويبحث عن الأعلم والأتقى، فما اطمأنت إليه نفسه فإنه يكلف به.(31/5)
أن يقلد عالماً لأنه قال ما يهواه
المقلد الذي يتبع شهواته فيسأل هذا، فإذا أفتاه بشيء لا يلائمه ذهب يسأل الآخر، حتى يجد من يفتيه بالشيء الذي يريده هو، فهذا معناه أنه يطلب هوى نفسه، وهو ليس معذوراً في هذه الأمور، بل هو مأزور وعليه أن يتقي الله، وإذا أفتي بما ظاهره الحق وعليه الدليل فعليه أن يعمل بذلك؛ لأن الله جل وعلا أمر بسؤال أهل العلم، وأهل الذكر هم أهل العلم.
فهذا وهذا كلاهما سواء، لكنه ربما اتبع هذا لغرض، وأعرض عن هذا لغرض آخر، فمثل هذا هو الذي يكون مثل الجاهلية؛ لأنه يتبع ما تهواه نفسه، ولأنه ينتصر لمن يحبه ويريده، وإن كان الثاني مساوياً له في العلم والتقى، فعلى الإنسان أن يكون اتباعه ونظره طلباً للحق، وطلباً لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما تبين له ذلك فرح به وشكر من حصل على يده البيان.
فهذه في الواقع أمور يجب على الإنسان أن يعتني بها؛ لأن كثيراً من الناس يخطئ فيها، والمسألة في هذا أن الله جل وعلا بعث رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه بجوامع الكلم، وبالكليات العامة الشاملة التي يدخل في الجملة منها أحكام كثيرة، فليس كل أحد يستطيع فهم هذه المسألة من هذا النص أو من هذه القاعدة أو من هذه الكلية؛ لأن الله فاوت بين العباد في الفهوم والإدراكات، وهذا هو سبب اختلاف العلماء، فاختلاف الفقهاء من أهل السنة لاختلاف إدراكاتهم وفهومهم؛ لأن الحوادث التي تجري على أيدي الناس والأفعال والأعمال التي يعملونها ما يمكن أن يأتي الشرع بالنص على كل واحدة منها، فهذه صلاة حكمها كذا، وإخراج زكاة هذا حكمها كذا، وهذا العمل حكمه كذا، يعني: لا يكون منصوصاً عليه، وإنما أتت الكليات فأصبحت محلاً للنظر والاجتهاد الذي يسميه العلماء مناط الحكم؛ فلهذا اختلفوا هذه الاختلافات، وعلى الإنسان أن يتقي الله.(31/6)
أحوال الناس في انتفاعهم بالعلم
جاء في حديث أبي موسى الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثل أمته وما بعثه الله به مثل الغيث-المطر- يقع على الأرض، فتكون على طوائف ثلاث: طائفة منها تربتها طيبة، فقبلت الماء وأنبتت الكلأ، فرعى الناس وانتفعوا.
وطائفة أخرى من الأرض لا تنبت، ولكنها أمسكت الماء، فورد الناس واستقوا وانتفعوا بالماء.
وطائفة أخرى لا تقبل الماء ولا تمسكه، مثل: السباخ، لا نبات ولا إمساك، فهذه أحوال الذين لا يهتمون بالدين الإسلامي، ولا يرفعون به رأساً، وهم أكثر الناس.
أما الأولى فهي مثل الفقهاء الذين إذا علموا نصاً للنبي صلى الله عليه وسلم استنتجوا منه الأحكام الكثيرة، التي ينتفعون بها وينفعون بها غيرهم، والطائفة التي تمسك الماء مثل الحفاظ الذين حفظوا على الأمة النصوص والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحفظوها وأدوها إلى من هو أفقه منهم، فنفعوا بهذا الحفظ.
أما الطائفة الثالثة: فهي لا تنتفع في نفسها ولا تنفع غيرها، فهؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأما الناجون فهم الطائفة الأولى والثانية.
فالمقصود اختلاف الناس في الفهوم والحفظ، وبسبب ذلك حدثت الخلافات بين المسلمين.
ويجب على الإنسان أن يتقي الله إذا كان له إمام أو شيخ فقال قولاً خالف الحق، وتبين لمتبوعه أنه مخالف للحق، فإنه يجب عليه ألا يتبع شيخه أو إمامه؛ لأنه تبين له أنه خالف الحق؛ لأن الإنسان مكلف باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بقول فلان ولا بقول فلان، وإنما استعانوا بأقوال العلماء إلى الوصول إلى الحكم الذي حكم به الله جل وعلا، وحكم به رسوله، وهذا من أصول العقيدة التي يجب على العبد أن يهتم بها، وذلك التحليل والتحريم من خصائص الله جل وعلا، فمن جعل هذا إلى مخلوق من الناس فقد اتخذه مع الله رباً يحكم ويأمر وينهى، ويحلل ويحرم، فلهذا عدي بن حاتم لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال: إنهم لم يعبدوهم، يعني: النصارى، فقال: (بلى، ألم يحللوا لهم الحرام فيتبعوهم على ذلك، ويحرموا لهم الحلال فيتبعوهم على ذلك؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فليست العبادة تكون فقط بالسجود والركوع والاستغاثة بهم، ودعوتهم لتفريج الكروب وما أشبه ذلك، بل أي نوع من أنواع العبادة إذا صرف إلى مخلوق من الناس صار معبوداً له وصار رباً له.
كذلك الذي يتبع عالماً لأنه قال ما يهواه، أو لأنه وافق طائفته التي ينتمي إليها قال: يكون هذا مثل عابد الدينار والدرهم، ومثل الذي يجاهد في سبيل الله في الظاهر أو يتصدق أو يؤدي أعمالاً في ظاهرها خالصة، ولكنه يريد نفعاً معيناً، إن حصل له ذلك النفع استمر في عمله وإلا نكص وفشل وترك العمل، وهو يشير بهذا إلى حديث أبي هريرة الذي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) ثم ذكر رجلاً آخر يكون مقابلاً تماماً لمن عبد الدينار والدرهم الذي إن أعطي رضي، وإن منع سخط، إذا أعطي ما أراد من الدرهم والدينار والخميصة والخميلة رضي واستمر في عمله، أما إذا منع ذلك فإنه يسخط ويترك العمل، فهذا معناه أنه يعمل للدينار والدرهم، ويعمل للباسه ولمفروشه، ولما ينتفع به دنيا، فيكون بذلك عابداً له وإن لم يسجد له ويدعوه ويركع له، هل يوجد أحد عاقل يسجد للدينار والدرهم؟! لا، وإنما قصد بذلك أنه يعمل من أجله؛ لأن المسلم يجب أن يكون عمله لله وحده، يرجو به ثواب الله جل وعلا، ويخاف لو لم يعمل أن يعاقبه الله جل وعلا والذي يقابل هذا هو ما ذكره في آخر الحديث، قال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن شفع لم يشفع له، وإن أذن لم يؤذن له)، يعني: أنه لم يبالِ عرفه الناس أم لم يعرفوه، بل يحب أنهم لا يعرفونه؛ ولهذا لو شفع عندهم ما شفعوا له، ولو استأذن على الكبراء والأمراء لا يأذنون له؛ لأنه غير معروف، وليس له قيمة، فهو يعمل لله جل وعلا، وهكذا كل من كان قصده وجه الله لا يلتفت إلى رضا الناس ولا سخطهم، ولا يبالي بهم، فعند ذلك لا يعرفونه.
وقوله: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) يعني: أنه أي مكان وضع فيه أدى العمل الذي أنيط به كما ينبغي ولا يبالي؛ لأن قصده وجه الله، والفوز برضاه، بخلاف الأول تماماً، وبضدها تتبين الأشياء.
لهذا يأتي في القرآن ذكر أهل الجنة وصفاتهم، ثم بعد ذلك يأتي ذكر أهل النار وصفاتهم، أو يأتي -مثلاً- ذكر صفات أهل النار وأعمالهم وجزائهم، ثم يأتي بعد ذلك ذكر أهل الجنة وصفاتهم وجزائهم، فمثلاً: يذكر الله جل وعلا أنه إذا جمع العباد بعد النفخ في الصور أنهم ينقسمون إلى قسمين: كفار يؤتى بهم، ويقررون بأعمالهم، فيقرون ويعترفون، ثم يساقون إلى جهنم، ويعترفون أنهم يستحقونها، فيقال لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71].
والفريق الثاني: الذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمراً، فإذا جاءوها استقبلتهم الملائكة فيها، وصاروا يدخلون عليهم من كل باب يسلمون عليهم ويقولون لهم: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] هذا جزاؤكم بما صبرتم.
ثم ذكر بعد هذا أن الله جل وعلا قضى بين الخلق عموماً بالحق، حتى الملائكة: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] هذا هو آخر شيء، قضي بين الفجار وبين المتقين وبين الملائكة (وقيل) هذا يدل على أن الخلق كلهم قالوا هذا القول: الحمد لله رب العالمين على قضاء الله وحكمه، حتى أهل النار يحمدون الله جل وعلا على ذلك؛ لأن هذا هو مكانهم الذي يستحقونه ولا يستحقون غيره، والله هو أحكم وأعدل الحاكمين، فالذي يعبد الدنيا، ويكون عمله لها سوف يلقى جزاءه، والدنيا ستذهب كلها ومن عليها، فيصبح قد خسر العمل، وأصبح عمله حسرات عليه.(31/7)
قوله تعالى: (وتجعلون له أنداداً)
قال الشارح: [قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في معنى قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] أي: وتجعلون لمن خلق ذلك أنداداً -وهم الأكفاء من الرجال- تطيعونهم في معاصي الله.
انتهى قلت: كما هو الواقع من كثير من عباد القبور].
قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] الند: هو المثل والنظير ولو بوجه من الوجوه، لا يلزم أن يكون مثله من كل وجه، فهذا ما يقوله أحد من الخلق، لا يوجد أحد من خلق الله فيه شيء من العقل يقول: إن الصنم أو المقبور مثل الله من كل وجه، لا أحد يقول هذا، لكنهم جعلوه نداً بوجه من الوجوه، مثل: الدعاء، فهذا ند له في الدعوة، ومثل الحب، فهذا المحبوب يكون نداً له في المحبة، والمحبة تقتضي التعظيم والإجلال، ومثل الخوف، وهو الذي يسمونه خوف السر، وهو الخوف الغيبي، يخافه وهو في قبره، يخافه وهو بعيد عنه، من وقع له شيء من ذلك فقد عبد ذلك المخوف؛ لأن الخوف يجب أن يكون لله وحده، فهو الذي يطلع على ما في القلوب، وهو الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الذي يكون مع الإنسان أينما كان، في جماعة أو في سر وحده أو ما شابه ذلك، وليس هذا لأحد من خلق الله، فمن جعل للمخلوق شيئاً من ذلك فقد جعله نداً لله جل وعلا.
فالمقصود أن قوله: (الأكفاء من الرجال) معناه: أنه جعل الرجال أكفاء لله، والله ليس له كفؤاً تعالى وتقدس، والأكفاء في هذا يكون في مسألة من المسائل فقط، وليس في كل شيء؛ لأنه لا أحد يقول: إن رجلاً من الناس مثل الله من كل وجه، مثله في الخلق، مثله في الرزق، مثله في العلم، مثله في القدرة، مثله في الاطلاع، هذا لا يقوله عاقل، فعلم بهذا أن المقصود بالند أنه يكون في مسألة من مسائل العبادة.
ولهذا ذكر الله عن الكفار أنهم يلعن بعضهم لبعض وهم في النار بعد التبكيت واللوم والتقريع من بعضهم لبعض لأنه من تمام العذاب أن يجعل كل واحد عدواً للآخر، وكل واحد يلعن الآخر، يقول بعضهم لبعض، التابع يقول للمتبوع والعابد يقول للمعبود: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] يعني: يقسمون بالله، (تالله): معناها والله، (لقد كنا في ضلال مبين) متى؟ {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:98] وقت تسويتنا لكم برب العالمين، كنا في ضلال مبين، أي: بين واضح، والتسوية ليست في الخلق والقدرة، ليست في التدبير، ليست في الملك، بل في المحبة فقط، أحبوهم كما أحب المؤمنون الله، كما في الآية التي ذكرها المؤلف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] فبين أن الندية في الحب فقط، يحبونهم كحبهم لله، فهذا تنديد، وهو جعل المخلوق كفؤاً لله جل وعلا في هذا الشيء.
ومثله أن يدعوه، ومثله ما لو ذبح له أو نذر له أو استغاث به أو طلب منه أن يخلصه من مشكلة من المشكلات التي يقع فيها، يطلب منه وهو في قبره، يطلب منه وهو غائب، قد يقع في مشاكل ثم يلجأ إلى من يعتقد أنه ولي ويسأله أن يخرجه من تلك المشكلة، فهذا سواه برب العالمين في هذا الدعاء وهذه الاستغاثة، وهذا هو التنديد الذي قصد في مثل هذه الآية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22].(31/8)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [32]
المحبة أنواع: منها محبة طبيعية مثل محبة الولد والوطن ونحوها، ومحبة عبادة، وهي التي تتضمن الخضوع والذل، فهذه يجب أن تكون خالصة لله وحده، وصرفها لغير الله تعالى شرك به سبحانه.(32/1)
قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً)(32/2)
حرمة المحبة لغير الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]].
قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:165 - 167] هذا كله في هؤلاء الذين اتخذوا من المخلوقين محبوبين يحبونهم كمحبتهم لله جل وعلا، والمحبة هذه -التي جعلت المخلوق نداً لله- هي محبة فيها ذل وتعظيم، وليست محبة إلفة أو محبة حنان أو محبة تقدير وإجلال كمحبة الوالد أو الولد، وليست محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للشراب وما أشبه ذلك، هذا لا لوم على الإنسان فيها، ولكن هذه محبة مقصودة ومرادة، وليست الطبيعة والحاجة تبعث عليها، وإنما هي محبة عبادة، تدعو إلى الدعاء والاستغاثة والاستنصار، وإلى أن يعطى ذلك المحبوب شيئاً من خصائص الله؛ ولهذا قال: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] يعني: يجعلون حباً موزعاً بين هؤلاء وبين الله، وهذا هو الشرك الأعظم الذي إذا مات عليه الإنسان يكون من حطب جهنم، ويكون خالداً فيها؛ لأن هذا الحب يجب أن يكون خالصاً لله، ولا يجوز أن يكون مع الله فيه شريك، لا سيد، ولا نبي، ولا ملك، ولا أي مخلوق من مخلوقات الله، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده ومن الناس أجمعين)، ومع ذلك لا يحب هذا الحب، وليس له نصيب من حب التعظيم والخوف والذل، وإنما يحب لله، ومن أجل الله، فإن الله يحبه، ومن أجل أن الله أمر بحبه، فتحبه طاعة لله؛ لأن الحبيب يحب حبيب حبيبه، يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه، هذا من تمام الحب؛ ولهذا صارت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال محبة الله ومتمماتها، ومن مكملاتها كما سيأتي.(32/3)
حب الذل والتعظيم لله وحده
حب الذل والتعظيم والخضوع لا يجوز أن يكون إلا لله وحده، حب العبادة يكون خالصاً لله، لا يحب معه أحد، وهذا يكون عند الحاجة ظاهراً جلياً، عندما يحتاج الإنسان ويقع في شدة أو حاجة ملحة، فإنه يدعو بذل وخضوع وتعظيم وحب، والعبادة لابد أن تكون مشتملة على الحب والتعظيم والخوف، فالمؤمنون يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، والخوف والذل والتعظيم من أركان العبادة، ولا يجوز أن يكون هذا في محبة المخلوق، أما إذا أحب مخلوقاً فذل له وخضع له فإنه يكون عابداً له، مثلما يحصل لكثير من الناس يحب امرأة أو معشوقاً فيترك في سبيل حبه طاعة الله، ويقول: إن وصلك أشهى إلي من عبادة ربي، كما يقوله بعض الفجرة الذين خرجوا من طاعة الله إلى عبادة شهواتهم وفروجهم، فيكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي نهائياً، ومبعداً عن الله جل وعلا، مثلما ذكر عبد الحق الإشبيلي عن رجل كان واقفاً في بلد ما عند باب داره، قد فتح الباب ووقف أمامه، وكان بابه قريباً من حمام ترتاده النساء، فجاءت امرأة جميلة تسأل وتقول: أين باب حمام منجاب؟ فأشار إلى باب داره وقال: هذا، فدخلت المرأة، فلما دخلت دخل خلفها، فلما رأت أنها وقعت في فخه وكيده ومكره أظهرت الموافقة والسرور، وقالت له: ينبغي أن يكون معنا في هذه اللحظات شيء نأكله ونتلهى به ما هو هكذا فقط، فقال: الآن آتيك بما تريدين، فخرج مسرعاً إلى السوق ولم يغلق الباب، فخرجت ولم تخونه في شيء، وتخلصت بهذه الحيلة من هذا الماكر، فلما رجع لم يجدها، فهام على وجهه وهو يقول: ورب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب فمرض من أجل ذلك، فلما حضره الموت صاروا يقولون له: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يردد هذا البيت، فمات وهو يردده نسأل الله العافية! صار عابداً لهذه المرأة، وهذا يقع كثيراً في الناس، فهذه عبادة حب، ومثل هذا ما يقع إلا في القلب الفارغ من حب الله جل وعلا، إذا كان يحب الشهوات والدنيا فإنه يكون عرضة لعبادة غير الله، ولعبادة الشهوات ومنها صور النساء والمردان وغير ذلك، فتكون بذلك خاتمته أسوأ الخواتم، نسأل الله العافية.
والمقصود: أن العبد يجب أن يكون عبداً لله، ولا يكون عبداً للمظاهر، وقد أجرى الله جل وعلا سنته في أن من لم يعبده لابد أن يعبد غيره شاء أم أبى، من أعرض عن عبادة الله لابد أن يعبد الشيطان على حسب مظاهره، قد يكون الشيطان في مظهر امرأة، وقد يكون في مظهر مال، وقد يكون في مظهر شهوات، وقد يكون في مظهر مبدأ ونحلة يدعو إليها، وهكذا سنة الله جل وعلا، فإن من لم يعبد الله عبد غيره؛ لأن الإنسان عبد، وهذه صفة ملازمة له لا ينفك عنها، ولهذا تجد الذي لا يتعلق بالله جل وعلا ويحب عبادته من الصلاة والزكاة وذكر الله تجد قلبه معلقاً بالملاهي والأغاني ومشاهدة الصور، لا يصبر عن ذلك، يكون عابداً لها، فمقل ومستكثر من الناس، كل بحسبه.
فالذي يجب على العبد أن يكون عبداً لله مخلصاً عبادته لله، وأن يحمي قلبه من أن يكون محلاً لغير الله جل وعلا في الحب والإرادة، يجب أن تكون محبته لله وحده، محبة الذل والخضوع: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً} [البقرة:165] يعني: نظراء يكونون محبوبين مع الله من أي جهة كانت، سواء كانت من الناس أو كانت من الأصنام أو كانت من المال حتى الزوجة، زوجته قد تكون معبوداً له، إذا صارت تأمره بالمعصية فيتبعها، وتنهاه عن الطاعة فيطيعها، صارت هي أشد حباً له من الله، وصار أكثر متابعة لها من أوامر الله.
وبالعكس فالمخلوق لا يجوز أن يطاع في معصية الخالق: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وإلا صار معبوداً لذلك المطيع، والناس يتفاوتون في هذا، وهذا قد يرتقي إلى الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من الدين، وقد يكون شركاً أصغر، وقد يكون مجرد معصية يستحق عليها الإنسان العقاب، مثل: بخل الإنسان عن شيء من الواجب حباً للمال، إما زكاة وإما حقاً للغير يتعلق بماله، فيمنعه حب المال من إخراج ذلك، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي نوع من العبادة؛ لأنه هو الذي منع من إخراج هذا الحق، أما لو كان مثلاً عبداً لله يعبده حق العبادة، فإنه لن يقدم على مرضاة الله وعلى محاب الله وطاعته شيئاً لا مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، ولا أصدقاء ولا غيرهم، والإنسان أعلم بنفسه من غيره، فيجب أن يعرض أعماله على أوامر الله ونواهيه، فيعرف مقامه عند الله جل وعلا في هذا.
ولا يجوز للإنسان أن تكون عبادته موزعة، فيكون له أرباب كثيرون، يجب أن تكون عبادته لله جل وعلا وإلا فسيكون على خطر شديد، ومن المعلوم كما جرت سنة الله أن من جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، يعني: أن الإنسان قد يتهاون بهذه المعصية، فتجر هذه المعصية إلى معصية أخرى، ثم تجر إلى أخرى، ثم يألف المعاصي وتصبح عنده محبوبة، فإذا صار بهذه المنزلة كره الطاعات وأبغضها وابتعد عنها، وهنا يستحكم الشقاء نسأل الله العافية.
والعبد أمام أوامر الله له مقامان: إما أن يحصل له ما يحبه، فإن كان هذا حصل له من طريق شرعي فعليه أن يشكر الله ويزداد له بذلك عبادة.
وإما ألا يحصل له، فعليه أن يصبر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمور كلها بمشيئة الله وإرادته، هو الذي يتصرف في خلقه وملكه.
المقام الثاني: عند إصابة الذنوب، فإذا أصاب ذنباً فعليه أن يعترف ويقر ويستغفر، فهذه أمور ثلاثة إذا حصلت للعبد فهي عنوان السعادة.
إذا حصلت له نعمة شكر الله عليها، وازداد بذلك عبادة، وإذا حصلت له مصيبة صبر واحتسب، وإذا حصل له ذنب تاب واستغفر، هذا هو شأن المؤمن، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه العبد، أما إذا خرج عن ذلك فقد خرج عن عبودية الله جل وعلا، وإن تمادى زاد خروجاً حتى يستحكم البعد فيصبح مطروداً عن الله جل وعلا، نسأل الله العافية.(32/4)
مآل المشركين في الآخرة
قال المؤلف رحمه الله: [قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة حيث جعلوا لله أنداداً أي: أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك).
وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه، ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165] قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً أي: إن الحكم لله وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره تعالى وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165] كما قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26] يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال.
ثم أخبر تعالى عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين فقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63].
ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] والجن أيضاً يتبرءون منهم ويتنصلون عن عبادتهم لهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] انتهى كلامه رحمه الله].
هذا الذي ذكره العماد ابن كثير رحمه الله تضافرت عليه الأدلة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو واضح وجلي من كلام الله جل وعلا في هذه الآية وغيرها من الآيات الكثيرة، ومضمونه أن كل من أحبّ أحداً -سواء كان ذلك المحبوب عاقلاً أو غير عاقل- في غير طاعة الله فإن هذا الحب يعود عليه بالعداوة، والبعد عن الله جل وعلا، والعذاب، وسوف يتبرأ منه ويصبح عدواً له، وكل واحد يلعن الآخر كما ذكر الله جل وعلا حاكياً عن إبراهيم في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] يعني: العابد يلعن المعبود، والمعبود يلعن العابد.
وكذلك إذا حشرهم الله جل وعلا يوم القيامة، يقول: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22] يسألهم أن يأتوا بالذين جعلوهم شركاء لله، لكن من أين يأتون بهم؟ {ادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194] فتبرءوا منهم، وكفروا بهم، وأصبحوا أعداء لهم، هذا في العقلاء.
أما غير العقلاء فإنهم كما أخبر الله جل وعلا يكونون حصب جهنم هم والعابدون: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتمع الناس كلهم في مقام واحد، وسألوا الله جل وعلا أن يفصل بينهم، وطلبوا شفاعة الشافعين في هذا، وجاء الله جل وعلا للقضاء بينهم، يخاطبهم، فيقول لهم: أليس عدل مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقول: بلى يا رب! عند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، أو يؤتى به بعينه، فيقال: اتبع معبودك، فيتبعونهم إلى جهنم -فيبقى المؤمنون في الموقف وفيهم المنافقون -لأن المنافقين يعبدون الله في الظاهر كما يعبدون معه غيره في الباطن- فيأتيهم الله جل وعلا ويقول لهم: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ -وهذا يدلنا على أن أكثر الناس ذهبوا من الموقف إلى جهنم- فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، فيقول لهم: أنا ربكم) إلى آخره.
وفيه: فإذا تبين لهم خروا له سجداً إلا المنافقين فإنهم لا يستطيعون السجود، يبقى ظهر أحدهم طبقاً واحداً ما يستطيع الانحناء، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه؛ لهذا يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم:42 - 43] يعني: في الدنيا {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] والسجود يجب أن يكون لله وحده، وهم كانوا يسجدون مخافة من المؤمنين، حتى يكونون معهم فيما ينالهم، ويتقون بأسهم، فما كانوا يسجدون لله؛ فلهذا ما استطاعوا.
والمقصود: أن كل عابدٍ سوف يتبرأ من معبوده وكل معبود سوف يتبرأ من عابده.
وقول الله جل وعلا: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، الأسباب هنا قال العلماء: هي المودة والمحبة التي بينهم، انقطعت وذهبت واستبدلت بعداوة وبغضاء.(32/5)
حب المشركين لأندادهم كحب الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى ابن جرير عن مجاهد رحمهما الله في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً فلم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟! انتهى كلامه رحمه الله].
قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] تقدم أن الند يكون في صفة من الصفات، ولا يلزم أن يكون مماثلاً لله جل وعلا من كل وجه، وهذا لا يقوله أحد.
وهذه الآية بينت أن الند الذي يتخذ هو في الحب فقط؛ ولهذا قال: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) والمعنى: يحبون هذه الأنداد كمحبتهم لله تعالى، وهذا هو الشرك الذي جعلهم إذا ماتوا عليه خالدين في النار، وأحل دماءهم وأموالهم، فهم قسموا الحب الواجب لله جل وعلا الذي يتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وجعلوه لمخلوق، فصاروا مشركين بذلك، وسبق أنه ليس في العالم من يقول: إن أحداً من الخلق يساوي الله جل وعلا في التصرف من الإيجاد أو الإحياء أو في الملك أو في المشيئة أو في القدرة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكون في جزء، وهو الأمر الذي يصدر من الناس.
أما الأمور الصادرة من الله جل وعلا التي يفعلها وحده فليس هناك من بني آدم من جعل لله فيها نداً، وإنما الند يكون فيما يصدر من المخلوق نفسه، مثل الحب والدعاء والخضوع والذل والذبح والنذر، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعبد بها الإنسان، فإذا جعل شيئاً منها لغير الله جل وعلا فقد اتخذ ذلك الذي جعل له هذا الشيء نداً لله؛ لأن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فهي خالص حق الله جل وعلا، والله جل وعلا خلق العباد، ليخلصوا له العبادة، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قضى: أمر وأوجب وألزم أن تكون العبادة له وحده، ولا يكون لغيره شيء منها.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هذا مركب على المعنى السابق، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله جل وعلا، ولم يوزعوه بين ربهم جل وعلا وبين المخلوقات، فصار الحب الذي هو لله وحده أشد من الحب الذي يكون موزعاً مقسوماً بين الرب جل وعلا وبين المعبودات الأخرى، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن أصل الحب الذي يكون عند المؤمن لا يمكن أن يكون مساوياً للحب الذي يكون عند المشرك، وذلك أن المؤمن عرف حق الله، وعرف وجوب محبته الحب الخضوعي، الحب الذي يتضمن الخوف والذل والتعظيم، عرف أن هذا يجب أن يكون لله، وأنه خالص حق الله، فصار لو خير بين أن يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله وأن يقتل لاختار القتل، ولو خير إما أن يجعل هذا الحب لغير الله أو يلقى في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله، فحب الله في قلبه عظيم جداً، ولا يساوي الحب الذي يصدر من المخلوق للمخلوق، وذلك أن هذا حب للعبادة الذي إذا تحلى القلب به أصبح يختاره على نفسه، وعلى ما دون النفس من جميع ما يملكه في الدنيا؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا وصل الإيمان إلى قلبه أن الله جل وعلا ورسوله يكون أحب إليه مما سواهما، وأنه يحب أن يلقى في النار ولا يكفر بالله جل وعلا؛ من هذه المحبة التي تحلى القلب بها، فالذين آمنوا لا يقاس حبهم مع من أحب صنماً أو قبراً أو شخصاً أو غير ذلك من الحب الذي يكون قادحاً في محبة الله جل وعلا وفي عبادته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى ابن جرير عن مجاهد رحمهما الله في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً فلم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟! انتهى كلامه رحمه الله].
في هذه الآية يعني: قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] تقدم أن الند يكون في صفة من الصفات ولا يلزم أن يكون مماثلاً لله جل وعلا من كل وجه، وهذا لا يقوله أحد.
وهذه الآية بينت أن الند الذي يتخذ هو في الحب فقط؛ ولهذا قال: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) والمعنى: يحبون هذه الأنداد كمحبتهم لله تعالى، وهذا هو الشرك الذي جعلهم إذا ماتوا عليه خالدين في النار، وأحل دماءهم وأموالهم، فهم قسموا الحب الواجب لله جل وعلا الذي يتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وجعلوه لمخلوق، فصاروا مشركين بذلك، وسبق أنه ليس في العالم من يقول: إن أحداً من الخلق يساوي الله جل وعلا في التصرف من الإيجاد أو الإحياء أو في الملك أو في المشيئة أو في القدرة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكون في جزء وهو الأمر الذي يصدر من الناس.
أما الأمور الصادرة من الله جل وعلا التي يفعلها فليس هناك من بني آدم جعل لله فيه نداً، وإنما الند يكون فيما يصدر من المخلوق نفسه، مثل الحب والدعاء والخضوع والذل والذبح والنذر، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعبد بها الإنسان، فإذا جعل شيئاً منها لغير الله جل وعلا فقد اتخذ ذلك الذي جعل له هذا الشيء نداً لله؛ لأن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فهي خالص حق الله جل وعلا، والله جل وعلا خلق العباد لهذا، ليخلصوا له العبادة، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قضى: أمر وأوجب وألزم أن تكون العبادة له وحده، ولا يكون لغيره شيء منها.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هذا مركب على المعنى السابق، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله جل وعلا، ولم يوزعوه بين ربهم جل وعلا وبين المخلوقات، فصار الحب الذي هو لله وحده أشد من الحب الذي يكون موزعاً مقسوماً بين الرب جل وعلا وبين المعبودات الأخرى، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن أصل الحب الذي يكون عند المؤمن لا يمكن أن يكون مساوياً للحب الذي يكون عند المشرك، وذلك أن المؤمن عرف حق الله، وعرف وجوب محبته الحب الخضوعي، الحب الذي يتضمن الخوف والذل والتعظيم، عرف أن هذا يجب أن يكون لله، وأنه خالص حق الله، فصار لو أنه مثلاً خير بين أن يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله وأن يقتل لاختار القتل، ولو خير إما أن يجعل هذا الحب لغير الله أو يلقى في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله، فحب الله في قلبه عظيم جداً، ولا يساوي الحب الذي يصدر من المخلوق للمخلوق، وذلك أن هذا حب للعبادة الذي إذا تحلى القلب به أصبح يختاره على نفسه، وعلى ما دون النفس من جميع ما يملكه في الدنيا؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا وصل الإيمان إلى قلبه أن الله جل وعلا ورسوله يكون أحب إليه مما سواهما، وأنه يحب أن يلقى في النار ولا يكفر بالله جل وعلا من هذه المحبة التي تحلى القلب بها، فالذين آمنوا لا يقاس حبهم مع من أحب صنماً أو قبراً أو شخصاً أو غير ذلك من الحب الذي يكون قادحاً في محبة الله جل وعلا وفي عبادته.(32/6)
أنواع الظلم
قال الشارح رحمه الله: [ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكاً لله في العبادة، واتخذه نداً من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى كما قال تعالى في أولئك: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] المراد بالظلم هنا الشرك كقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] كما تقدم.
فمن أحب الله وحده وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محباً له، ومحبته هي الأصل في ذلك.
انتهى كلامه رحمه الله].
كون الظلم في هذه الآية هو الشرك أظهر منه في آية سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]؛ لأن الآية هذه مبدأها في نفي الحب الذي يكون لوجه الله جل وعلا، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة:165]، وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] يعني: الذين وزعوا محبتهم بين الله جل وعلا وبين هذه المتخذة آلهة من دونه.
والظلم يطلق على كل معصية يخالف بها الإنسان أمر الله جل وعلا سواء بارتكاب منهي أو ترك واجب، فإنه ظلم، وقد علم أن الظلم ينقسم إلى أقسام: ظلم بين العبد وبين ربه كأن يترك واجباً من الواجبات أو يرتكب محرماً من المحرمات مما لا يتعلق بإنسان كأخذ مال، أو استطالة عرض وما أشبه ذلك، فهذا يكون بين العبد وبين ربه فقط، وهذا هو أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وإذا قدم العبد على ربه وكان ظالماً وغير مشرك، فإن كل ظلمه سوف يغفره الله جل وعلا إذا شاء ولا يبالي.
كله معلق بمشيئته، إذا شاء غفره بدون مؤاخذة ومعاقبة، وإذا أخذ به فمجرد عقاب مؤقت، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة، هذا إذا كان الظلم في ترك واجب أو فعل محرم.
أما النوع الثاني من الظلم فهو الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض، وهو أيضاً إما أن يكون بفعل محرم أو الامتناع من أداء واجب وجب عليه لأخيه، فهذا مبناه على المشاحاة والمقاصاة، ولا يترك الله منه شيئاً إلا أن يعفو صاحب الحق، فإن لم يعف صاحب الحق فلا بد من أداء الحق إلى صاحبه حتى الذين يكونون من أهل الجنة وينجون من الحساب، فإن الذين يبقى عليهم حقوق لبعضهم البعض، ولو جاوزوا الصراط فإنهم لا يدخلون الجنة حتى تحصل المقاصاة، وأخذ المظالم من بعضهم لبعض كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط، وصاروا إلى باب الجنة، حبسوا في قنطرة بين الجنة والنار، يحبسون ولا يدخلون الجنة حتى يؤخذ لبعضهم من بعض، وينزع ما في صدورهم من غل، فإذا صاروا إخواناً متحابين دخلوا الجنة، ولا يدخلون الجنة ولأحد على أحد شيء، فهذا أقل أنواع الظلم التي تكون لبعضهم على بعض.
أما أصحاب المظالم العظيمة فلا يأتون إلى الصراط ولا يتجاوزنه حتى يؤخذ لصاحب الحق حقه، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحذر عن الوقوع في مثل هذا، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوماً أصحابه: (أتدرون من المفلس فيكم؟ قيل: المفلس من لا درهم عنده ولا دينار، قال: كلا، المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كثيرة أمثال الجبال، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وقد استطال على عرض هذا، وقد أكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم، ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار) هذا هو المفلس، يأتي بالحسنات ولكن تكون لغيره، الحسنات التي يعملها تكون للناس الآخرين وليست له؛ لأنه كان يظلمهم، وتمتع في دنياه بظلمهم، إما بتمزيق أعراضهم، أو بأكل أموالهم، أو بمنع حقوقهم التي وجبت لهم عليه، فإنهم لا بد أن يطالبوه بذلك، ولا بد أن تؤدى الحقوق إلى مستحقيها.
أما النوع الثالث فهو أشد أنواع الظلم وأعظمها وهو ظلم الشرك، فهذا الظلم إذا مات عليه الإنسان فإنه ليس معه اهتداء ولا أمن، منفي عنه الأمن مطلقاً؛ لأن الله جل وعلا قد فصل الأمر في هذا ووضحه، وأخبر أن من يموت مشركاً فإن مأواه جهنم، وأنه من أهل النار، وليس بخارج منها، وأن الله جل وعلا يغفر كل ذنب إذا شاء أن يغفره إلا الشرك، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] هذا عام شامل حتى يدخل فيه ظلم العباد بعضهم مع بعض، إذا شاء الله جل وعلا أرضى صاحب الحق عمن ظلمه، يرضيه فيعفو عنه، ويغفر الله جل وعلا لهذا الظالم، أما إذا كان مشركاً فإنه لا يغفر له.
ومن هنا يتبين لنا شدة الحاجة إلى معرفة الشرك لئلا يقع الإنسان فيه وهو لا يدري، وكم وقع فيه من يكتب مثلاً تفسيراً لكتاب الله، أو يكتب شرحاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكتب في الأصول أو في غيرها، ومع هذا يقع في الشرك الأكبر! نسأل الله العافية؛ وذلك لأن الإنسان إذا عاش في مجتمعٍ لا يعرف الشرك، فإنه ربما دخل عليه وهو لا يدري كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: أتدري متى تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟ قيل له: متى؟ قال: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، يعني: أنهم يقعون في المخالفات وفي المنكرات، وهم يظنون أنها ليست كذلك.
فيتعين على العبد -لما ذكر الله جل وعلا أنه لا يغفر هذا الذنب- أن يتعرف على الشرك خوفاً من الوقوع فيه، فهذا هو أعظم أنواع الظلم؛ وذلك لأن الإنسان إذا وقع فيه، ومات عليه؛ فإنه ميئوس منه نهائياً، ومقطوع بأنه من أهل النار قطعاً لخبر الله جل وعلا بذلك الخبر البين الذي ليس فيه إشكال.
أما قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فقوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} هذا ما ترك شيئاً: الشرك وغير الشرك، فهذه الآية في الإنسان الذي يتوب، فالتائب من الذنب مهما كان الذنب فإن الله يغفره بالتوبة إذا كانت التوبة صحيحة، فإذا كانت صحيحة مجتمعة فيها الشروط فإن الله جل وعلا يغفر لهذا المذنب وإن كان ذنبه شركاً.
وشروط التوبة هي: أن تكون التوبة في الحياة قبل أن يعاين الموت.
وأن تكون التوبة تتضمن: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم ألا يعود إلى الذنب أبداً ما دام حياً.
إذا اجتمعت هذه الأمور فإن التوبة تكون نصوحاً، ويقبلها الله جل وعلا، ويحب جل وعلا من اتصف بها.
وإذا كان الذنب في حق للغير، فإنه يشترط أيضاً إرجاع هذا الحق إلى صاحبه، وإلا لا تصح هذه التوبة منه، لا تصح إلا أن يرجع الحق إذا استطاع إلى صاحبه، أو يتحلله حتى يجعله في حل، فيسامحه من قلبه أما أن يحله بلسانه وقلبه مصر على عدم مسامحته فهذا لا يفيد.
فالمقصود أن هذه هي أنواع الظلم، وهنا الظلم المذكور هو الشرك؛ لأن الكلام في الشرك.(32/7)
معنى كلمة الإخلاص
قال الشارح: [فكلمة الإخلاص لا إله إلا الله تنفى كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، وقد تقدم بيان أن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة فلا إله إلا الله نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده، فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلابد من معرفة معناها، واعتقاده، وقبوله، والعمل به باطناً وظاهراً، والله أعلم] يعني: لا بد من معرفة معناها وقبوله، أي: قبول هذا المعنى والعمل به في الظاهر أي: في الجوارح، وفي الباطن يعني: في القلب، حتى يتحصل قائلها على الوعد الذي جاءت به الأحاديث، فإن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؛ لأن قولها: ليس مجرد الكلام اللفظي، فمجرد الكلام اللفظي بدون اعتقاد المعنى أو العمل بما دلت عليه لا يفيد، فاليهود يقولون: لا إله إلا الله، وهم كفار، ولا يفيدهم قول: لا إله إلا الله، وهم أصناف، ومنهم من لا يشرك، بل يعيب على المشركين الشرك، ومع ذلك هم في جهنم؛ لأنهم لم يقبلوا ما دلت عليه، ولم يعملوا بها.
وكذلك الجزء الآخر من الشهادتين، وهو شهادة أن محمداً رسول الله، لم يقبلوا ذلك، ولم يؤمنوا به، ولم يعملوا به، مع أنهم في باطن أمرهم متيقنون أنه رسول الله، كما قال الله جل وعلا: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله كما يعرف أحدهم ابنه أنه ولده، وقد جاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: والله إننا لنعرفه أكثر من معرفتنا لأبنائنا؛ وذلك أن أحدنا يخرج من بيته فلا يدري ماذا تصنع زوجته، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس عندنا أي ارتياب أو شك في أنه رسول من عند الله بالصفات التي عرفناها بكتاب الله جل وعلا.
ومع هذه المعرفة هم كفار بالله؛ لأنهم لم يقبلوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعملوا به.
وقد اتفق العلماء على أن من لم يقبل ما دلت عليه لا إله إلا الله فإنه كافر ويقاتل، ولو كان ما لم يقبله من الواجبات، فإن كل واجب في الإسلام هو من حق لا إله إلا الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله -جل وعلا-) فلهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر من الناس أمور عجيبة، منهم من قال: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من قال: كنا نؤدي إليه الزكاة في حياته، أما بعد وفاته فلن نؤديها وأبى من دفعها، ومنهم من ارتد نهائياً وعاد إلى الشرك؛ فلم يفرق الصحابة بين هؤلاء كلهم، بل جعلوا قتالهم كله قتال ردة، وقاتلوهم حتى رجعوا إلى الإسلام، ومع ذلك لما انتصر عليهم الصحابة، وأظهر من أظهر منهم التوبة من الذين بقوا واستسلموا؛ لم يقبل منهم الصحابة بقيادة أبي بكر الصديق حتى يشهدوا بأن قتلاهم في النار، وأن قتلى الصحابة في الجنة؛ لأنهم ارتدوا عن دين الله جل وعلا، وارتكبوا أموراً عظيمة، ولما روجع في هذا وقيل له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) فقال لهم: ألم يقل: (إلا بحقها)؟ فوالله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فأجمع الصحابة بعد ذلك على هذا، فعلى هذا لو أن إنساناً قال: لا إله إلا الله، وعبد الله، وأدى الصلاة، ولكنه امتنع من الوضوء، أبى أن يتوضأ، وصار يصلي بلا وضوء؛ فإنه يكفر بلا إله إلا الله، فإن الإسلام كله مرتبط بهذه الكلمة، وكل ما فيه من حقها، والذي يمتنع من واجب من الواجبات يجب على إمام المسلم أن يقاتله حتى يلتزم بالحق، ويجب على المسلمين أن يعاونوه على ذلك حتى يلتزم بأمر الله جل وعلا ويقبله، وينقاد له، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء لا خلاف بينهم فيه.
وهذا يدلنا على جهل الذين يتجهون إلى القبور ويعبدونها، ويدعون أصحابها ويتضرعون إليهم، ثم يقولون: إننا نقول: لا إله إلا الله، فنحن مسلمون موحدون، ولا يجوز أن نرمى بشيء من الشرك أو من المخالفات التي تجعل صاحبها خارجاً عن الدين الإسلامي، هذا يدل على جهلهم، وأنهم لم يعرفوا الإسلام في الواقع.(32/8)
توحيد المحبوب وتوحيد المحبة
قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فتوحيد المحبوب ألا يتعدد محبوبه -أي: مع الله تعالى- بعبادته له، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا لله كما في الحديث الصحيح (ثلاث من كن) الحديث].
العشق لا يجوز أن يستعمل مع الله جل وعلا، فالحب الذي يكون لله لا يجوز أن يقال: إنه عشق أو يقال: عشيق الرحمان أو ما أشبه ذلك؛ وذلك أن العشق حب يتضمن شهوة، فلا يجوز أن يكون لله جل وعلا، تعالى وتقدس، ومحبة الله فوق هذا وأعظم منه، وهي محبة عبادة؛ ولهذا اشترط فيها أن تكون متضمنة للذل والتعظيم، أن يذل ويخضع ويعظمه.
أما محبة العشق فهي لأجل الشهوة، وهذا يكون من مخلوق مع مخلوق، فلا يجوز أن يستعمل هذا في المحبة التي تكون لله جل وعلا.(32/9)
محبة الرسول من محبة الله
قال الشارح رحمه الله: [ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه -وهو الكفر- بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثل لمن تعلقت به، وهى محبة تقتضى تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضى كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهراً وباطناً، وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان؛ ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركاً شركاً لا يغفره الله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] والصحيح أن معنى الآية: إن الذين آمنوا أشد حباً لله من أهل الأنداد لأندادهم، كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلاً كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عينٍ في محبته، ومن ضرب لمحبته الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق كالوصل والهجر والتجني بلا سبب من المحب وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علواً كبيراً فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت.
انتهى كلامه رحمه الله].
يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا الواجبة له، وبين محبة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على المسلم، يجب عليه أن يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة نفسه فضلاً عن محبة ولده أو أهله أو ماله، بل يكون أحب إليه من نفسه، وإلا لم يحصل له الإيمان الواجب الذي ينجو به من عذاب الله.
وهذه المحبة التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ليست هي المحبة التي تكون لله، بل هي محبة أخرى، وهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله، فإن المحبة مع الله شرك بالله جل وعلا؛ لأنها تكون محبة عبادة، محبة ذل وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي حب لله، تحبه لأن الله يحبه؛ لأنه أحبُّ خلقه إليه، فيجب عليك أن تقدم محبة محبوبك على كل محبوب لك.
فأولاً تؤدي حق الله الذي هو العبادة، فتحبه المحبة التي هي عبادة لله، ثم تحب ما يحبه الله، ومن ذلك كون الله جل وعلا يحب رسوله؛ ولأنه صلوات الله وسلامه عليه هو السبب في حياتك الحياة الحقيقة، التي هي حياة الروح، وهي الحياة التي تتصل بالله جل وعلا لهذا وجب أن يحب أكثر من غيره لله وبالله وفي الله.
وهذا الحب الذي يكون لله وفي الله يكون مكملاً لمحبة الله جل وعلا ومتمماً لها، وليس هذا الحب مشاركاً لله في العبادة؛ لأن المخلوق لا يعبد، ولا يحب حب العبادة، وإنما يحب حيث أمر الله جل وعلا بحبه.
فهو بهذه النظرة يكون مكملاً ومتمماً لمحبة الله جل وعلا محبة العبادة، فهذا يجب أن يعلم، وأن يفرق بين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الله.
ثم لهذه المحبة لوازم وعلامات، ومن لوازمها: تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد، ومن علاماتها: الحرص على اتباعه صلوات الله وسلامه عليه أكثر من اتباع غيره، بل لا يجوز اتباع غيره في أي شيء هو في الدين عبادة؛ لأن العبادة مبناها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه، فهذا الذي قد يغلط فيه بعض الناس.(32/10)
المحبة الخالصة لله وحده
قوله: إن المحبة الخاصة يجب أن تكون لله، قصده بالخاصة التي يختص بها الله جل وعلا، وهي محبة العبادة وقلنا: إن المحبة التي تكون لله يجب أن تتضمن الذل والتعظيم، لأن الإنسان قد يحب محبوباً فإذا كان يحبه وهو ذال له معظم له، فهذا يكون عبادة، أما إذا كان يحبه لحظ نفسه، لأمر من الأمور، ولكنه لا يخضع له، ولا يعظمه، ولا يذل له ويستكين له، فإن هذا حب لا يكون عبادة.
وسبق أن قلنا: إن الحب ينقسم إلى قسمين: حب يكون خاصاً، وهذا يجب أن يكون خالصاً لله، وهو حب العبادة الذي فيه الذل والتعظيم.
وحب يكون مشتركاً بين الخلق كلهم حتى البهائم، وهذا أقسام: منه -مثلاً- حب الألفة والمصاحبة، إذا صاحب إنسان إنساناً وألفه، وكان معه في عمل من الأعمال أو في مكان من الأمكنة، وطال التردد وكثر الاجتماع؛ فإنه تحصل محبة بينهم، وهذا مشترك بين الخلق كلهم حتى البهائم، البهيمة إذا أخذت من بين البهائم صارت تصيح وتحن إلى إلفها، ولا تسكن حتى ترجع إلى المكان الذي أخذت منه، فالمقصود أن هذا مشترك بين الخلق.
ونوع آخر من الحب وهو حب يتضمن حاجة كحب الطعام، وحب الشراب، فإذا حصل له حاجته أصبح لا يحبه.
وحب يتضمن رحمة ورأفة كحب الصغير وحب الضعيف وحب المسكين، ومنه حب الولد، فإن هذا حب حنان ورحمة.
ومنه أيضاً: حب تقدير وإجلال كحب الوالد مثلاً، يقدره ويجله، ولكنه لا يتضمن الذل والخضوع، يقدر ويجل بحيث يعمل معه الأدب، ولكن لا يسجد له، ولا يخضع له، ومن هذا القبيل أيضاً حب الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها، فهذه الأنواع كلها لا لوم على الإنسان في شيء منها، فهي مشتركة بين الخلق، ولا بد منها.
وإنما الذي يجب أن يكون لله هو الحب الخاص، وهو حب العبادة، حب الذل والتعظيم والخضوع الذي يتضمن استكانة القلب وذله، وخضوع الجسم والجوارح، فهذا يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقات، أحد الصحابة رجع من سفر رأى فيه بعض الأعاجم يسجدون لعظمائهم وملوكهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا نسجد لك فأنت أولى من أولئك؟ قال (لا، السجود لله، ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها) ولكن العبادة يجب أن تكون لله وحده، لا يكون لمخلوق منها شيء، والعبادة إذا خلت من الحب والذل والتعظيم فليست عبادة، ولا تكون عبادة إلا بذلك.
أما كون الإنسان يحب ما يحتاجه فهذا من الحب الطبيعي الذي لا يؤاخذ عليه؛ لأن الله جل وعلا خلق الناس على هذا الشيء، وعين العبادة وحددها وبينها حتى يعمل عباد الله على أمر الله، ويجتنبون نهيه، وكل هذا مأخوذ من معاني النصوص التي دلت عليه من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.(32/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [33]
حديث: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه) من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها، ولا معرفة معناها، ولا الإقرار بها عاصماً للدم والمال، إلا إذا صاحب ذلك الكفر بما يعبد من دون الله تعالى.(33/1)
الكفر بما يعبد من دون الله
قال المصنف رحمه الله: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه وحسابه على الله)].
هذا الحديث يبين معنى لا إله إلا الله بياناً شافياً؛ فهو من جنس الآيات السابقة، والباب يقول فيه: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
فهذا الحديث يفسر شهادة أن لا إله إلا الله؛ وذلك لأنه لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بقول لا إله إلا الله، بل قيد الأمر بشيئين: الأول: قول لا إله إلا الله.
الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فإذا حصل أحدهما وتخلف الآخر لم يحصل المقصود الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، والكفر بما يعبد من دون الله معناه: بغضه والابتعاد عنه بعد التخلي عنه نهائياً، قال الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فهذا هو معنى الكفر بما يعبد من دون الله، أول شيء يتخلى عنه إذا كان يعمل شيئاً منه، ثم يبغضه ويعاديه، ويبغض ويعادي من يفعله، ويتبرأ منه، وإذا لم يحصل ذلك فمعنى ذلك أنه لم يأت بالكفر المطلوب، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، مما يدل على أن هذا شرط في صحة قول لا إله إلا الله.
فإذا لم يكفر الإنسان بما يعبد من دون الله لا ينفعه قول: لا إله إلا الله، وهذا قيد من القيود التي قيدت به هذه الكلمة، والقيود التي قيدت بها هذه الكلمة كثيرة، ومنها أن يعلم معناها، فيقولها عن علم، كما قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وشهادة الحق هي شهادة أن لا إله إلا الله، وقوله جل وعلا: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية، يعني: حالة كونهم يعلمون ما يشهدون به.
وأيضاً الإخلاص فقد جاءت مقيدة به كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فالإخلاص ينافي الشرك والرياء.
أيضاً اليقين الذي ينافي الشك والتردد.
والانقياد بحيث إن الإنسان يقولها وينقاد لما دلت عليه، أما أن يقولها ويأبى أن يعمل، فهذا لا يفيد.
ومنها الاستسلام والتسليم.
ومنها: الرضا بما دلت عليه.
ومنها: المحبة، أن يحب ذلك ويرضاه، فإذا وجدت هذه القيود فيمن يقول: لا إله إلا الله فهذا الذي يموت مخلصاً، ويلقى الله جل وعلا خالصاً ليس معه شيء من الشرك، ويكون من الذين يسلكون إلى الجنة؛ لأنه إذا قالها بهذه القيود لا يمكن أن يقوم به شرك من الأعمال.(33/2)
الرغبة فيما عند الله
ما ذكره المؤلف قبل هذا يدلنا على أن العبد يجب في عبادته أن يحب الله وأن يخشاه، وأن يكون في عبادته طالباً للنجاة من الله جل وعلا، طالباً لثوابه وجزائه، هارباً من عقابه، وليس كما يقول من يقوله من المغرورين: أنا لا أعبد الله ولا أحبه لأجل جنته أو خوفاً من ناره، فإن هذا غرور وجهل بالواقع، فالإنسان ضعيف، ولو أن الإنسان أصيب بعذاب فإنه سوف يظهر ضعفه بسرعة، وسوف يتنصل مما يقول، وقد ذكر عن بعض السلف الذين كانوا معروفين بالتصوف -وهو الشبلي رحمه الله- أنه كان يقول: أنا لا أعبد الله طلباً لجنته، فابتلي بحبس البول، انحبس البول فصار يمشي إلى الصبيان ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب، فإنه تبين كذبي؛ إذ إني لا صبر لي على العذاب.
وهذه موعظة وعظ بها.
أما ما ذكر عن رابعة العدوية أنها كانت تقول: أنا لا أعبده لجنته ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده لحبه، فهذا لا يصح عنها، وإنما هو من قول الذين لهم شطحات ممن هم غير عارفين بالشرع، وإلا فالله جل وعلا قد أكثر من ذكر الجنة وذكر النار في كتابه، حتى يكون هذا حادياً على العبادة الرغبة والرهبة، وقد أخبر عن سادات أوليائه الذين هم الأنبياء أنهم كانوا يعبدونه رغباً ورهباً، رغباً في ثوابه، ورهباً من عقابه جل وعلا، ولا تستقيم العبادة إلا بهذا، فلا صبر للعبد على عذاب الله، كما أنه لا غنى له عن رحمته، فهو ضعيف مسكين محتاج إلى ربه جل وعلا، والله جل وعلا غني عنه من كل وجه، وطاعة الطائعين لا تنفع الله، كما أن معصية العاصين لا تضر الله جل وعلا، وإنما الطائعون يطيعون لأنفسهم، ويجتنبون المعاصي وقاية لأنفسهم من عذاب الله، وإلا فقد قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل سائل مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).
والمقصود بالمخيط الإبرة، فالإبرة إذا أدخلت في البحر ثم نزعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ لا، ذلك أنه جل وعلا إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وكل شيء في ملكه.
ثم يقول الله جل وعلا في آخر الحديث: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)، فالعمل لأجل النجاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) كيف يبيعها ويعتقها؟ بائع هنا معناه مشتري، بائع نفسه يعني: مشتريها، إما أن يشتريها بطاعة الله جل وعلا، واجتناب المعاصي، فيعتقها من عذاب الله، أو يبيعها في طاعة الشيطان فيوبقها، وإباقها كونه يعمل بالمعاصي ثم يجزى شراً.
فلا غنى للعبد عن محبة الله وعبادته، ومحبة الله تكون خوفاً من عذابه، ورجاءً لثوابه، العبادة مبناها على الخوف والرجاء، فيجب أن يكون العبد خائفاً راجياً دائماً.
أما إذا عبد الله جل وعلا بالخوف وحده فإنه -كما قال السلف- يكون حرورياً، والحروري معناه: الخارجي، فالخوارج يكفرون المسلمين بمجرد الذنوب، ويخلدونهم في النار، فمن فعل ذنباً من الذنوب قالوا: إنه كافر يجب قتله، وإذا مات فهو خالد في جهنم؛ لأنهم عبدوا الله بالخوف.
وإذا عبد الإنسان ربه بالرجاء صار مرجئاً، والمرجئة أضل من هؤلاء، فإنهم تركوا الأعمال وقالوا: يكفي الإيمان القائم في القلب، فلا بد للعبد أن يكون ممتثلاً لأوامر الله جل وعلا مع ما يقوم في قلبه من حب الله وتعظيمه والذل له والإخلاص له، ويقصده بالعمل كله.(33/3)
شرح حديث: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: في الصحيح: أي: صحيح مسلم، عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة، مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث، قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه].
الصحابة رضوان الله عليهم كثيرون جداً ,ليس كل صحابي عرف اسمه، أو عرفت روايته أو نقل عنه، المنقول عنهم قلة، والذين عرفوا ما يتجاوزون اثني عشر ألفاً من الصحابة الذين رويت عنهم الأحاديث، وقد قال أبو زرعة: الذين اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أكثر من ثلاثمائة ألف، فيكون كلهم من الصحابة، وهؤلاء أكثرهم لم يعرف اسمه، ومعرفة الأسماء تكون برواية الأحاديث، والأحاديث دونت وسجلت بعد ذهاب الصحابة رضوان الله عليهم، ثم هم رضوان الله عليهم ما كانوا يحرصون على التحديث كثيراً كما جاء في الصحيح أن رجلاً صحب الزبير من المدينة إلى مكة فقال: ما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم، فقد سمعته يقول: (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار) هم يقولون: (متعمداً) والله ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (متعمداً) يعني: أنه ذكر هذا مطلقاً، فامتنع من التحديث من أجل ذلك، ولكن إذا وجب الأمر لا بد أن يذكروا ذلك، إذا احتاجوا إلى ذكر العلم ذكروه ولا يكتمونه.
ثم هم رضوان الله عليهم كانوا يهتمون بالعمل أكثر؛ ولهذا كانت دعوتهم بأعمالهم أكثر من دعوتهم بأقوالهم.
وقد سبق أن قول: لا إله إلا الله شرط في صحة الإسلام، وأن الإنسان ما يدخل دين الإسلام إلا بقول: لا إله إلا الله، والقول وحده لا يكفي.
وهذا الحديث بين المراد من الأحاديث الأخرى التي فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) وما في معنى ذلك، وأنه ليس المراد مجرد القول، وإنما يجب أن ينضاف إلى القول العلم والاعتقاد الجازم، ويتبع العلم العمل.
وكذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإذا اختل شيء من هذه الأمور في الإنسان لم يصح دينه وإسلامه، فلا بد أن يقول: لا إله إلا الله، وأن يقولها عن علم واعتقاد، وأن يعمل بمقتضاها وما دلت عليه، وأن يكفر بالمعبودات التي تعبد من دون الله جل وعلا.(33/4)
تفسير هذا الحديث لمعنى لا إله إلا الله
هذا الحديث بيان وشرح لقول لا إله إلا الله؛ لأنه قال: (وكفر بما يعبد من دون الله)، والكفر بما يعبد من دون الله يقتضي مجانبته وبغضه وكراهيته، ويتبرأ منه ومن عابده، فلا بد أن يكون الإنسان عاملاً بذلك حتى يصح دينه ويسلم، ويتحصل على الموعود الذي وعد به من قال: لا إله إلا الله بأن يدخل الجنة.
وبهذا يتبين أن الذين يتعلقون بغير الله جل وعلا، ويزعمون أنهم لم يأتوا بمخالفٍ مغرورون، قد اغتروا بجهلهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن غاية البيان، ووضح الأمر، فلا عذر لهم؛ لأنهم لم يعتنوا ببيانه الذي كلفه الله جل وعلا به، وقام به كما ينبغي صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا تجد كثيراً من الناس يتعلق بالصالحين أو بقبورهم أو بغير ذلك، ويزعم أنه لم يأت بمخالف؛ لأنه يعد هذا توسلاً، ويقول: التوسل مشروع، وقد سبق أن التوسل الذي أمر الله به هو فعل الطاعة ابتغاء الوسيلة إلى الله، فيطيع الله جل وعلا ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، أما التعلق بغير الله جل وعلا فهو تأله، والتأله يجب أن يكون لله وحده، ولا يجوز أن يتعلق القلب بغير الله تعالى، فإن وجد التعلق بغير الله جل وعلا فإما أن يكون ذلك منافياً للتوحيد بالكلية، أو منقصاً له وخادشاً له، ويصبح الإنسان معرضاً لعذاب الله جل وعلا.
يعني: إذا كان التعلق من نوع الشرك الأكبر فهو منافياً للتوحيد، ومن مات على الشرك الأكبر فهو من أهل النار بلا تردد قطعاً؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48] أما إذا كان ليس من الشرك الأكبر كتعليق التميمة، وطلب البركة من موضع أو ما أشبه ذلك، فإن هذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر كما سيأتي، ويكون بحسب ما يقوم بقلب الإنسان، ويترتب عليه النقص أو المنافاة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والواجب على العبد أن يخلص دينه لله جل وعلا، وأن يكون الدين خالصاً لله جل وعلا، وتعلق القلب كله بالله جل وعلا، وألا يتعلق بشيء من المخلوقات التي لا تنفع ولا تضر، فكلها مخلوقة ضعيفة، والله جل وعلا يتصرف فيها كيف يشاء، وكل مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره دفعاً ولا نفعاً، ولكن كثير من الجهال يغترون بالأوضاع التي يجدون عليها أهل زمانهم، والأوضاع ليست دليلاً على الدين، الدين هو ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يتعرف على ذلك ويحرص عليه.(33/5)
رواية: (من وحد الله)
قال الشارح: [وفي مسند الإمام أحمد عن أبى مالك قال: وسمعته يقول للقوم: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل) ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه، ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت: لأبى: الحديث، ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسير: لا إله إلا الله] وذلك أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله فقد حرم ماله ودمه) فدل على أنه لا يحرم مال الإنسان ودمه على المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله إلا بذلك، قال الله جل وعلا: {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]؛ لأن الفتنة هي الشرك، فلا يحرم ذلك حتى يوجد هذا الذي ذكر في الحديث، فالفتنة التي ذكرها الله جل وعلا هي الشرك، وإذا وجد الشرك فإنه قد أمر بقتالهم، وأموالهم تكون حلالاً، ودماؤهم كذلك، ويشرع قتلهم حتى يحصل ما شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يتبين أنه لو قال: لا إله إلا الله وهو يعبد غير الله ويتعلق بغيره، أنها لا تنفعه لا إله إلا الله، وإنما تنفع الذي يقولها عن علم، ويعمل بما دلت عليه، ويكفر بما يعبد من دون الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فبين أن الكفر بالطاغوت واجب متعين على المسلم، والطاغوت كل ما عبد من دون الله، فكل المعبودات من دون الله طواغيت؛ لأن الطاغوت مأخوذ من الطغيان وهو تجاوز الحد، والمخلوقات كلها حدها أن تكون خاضعة ذليلة لله، ما تكون معبودة وما تكون آلهة، فإذا كانت آلهة فقد تعدت حدها، وتجاوزت طورها، فأصبحت من الطواغيت، فالحديث دل على ما دلت عليه الآية من أنه لا بد من الكفر بما يعبد من دون الله، ولا بد من الكفر بالطواغيت كلها، أما إنسان يقول: أنا لا أكفر بالطاغوت ولا أتبرأ منه، وإنما أعبد الله، فهذا لا تفيده عبادته؛ لأن هذا شرط لا بد منه، وإذا قال ذلك فإن ماله ودمه لم يحرم؛ لأنه لم يأت بالعاصم الذي يعصم دمه وماله.(33/6)
مجرد التلفظ بلا إله إلا الله لا يعصم الدم والمال حتى يكفر بما يعبد من دون الله
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من قال: لا إله إلا الله وكفر يما يعبد من دون الله) اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول: لا إله إلا الله عن علم ويقين كما هو قيد في قولنا في غير ما حديث كما تقدم والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لابد من قولها والعمل بها.
قلت: وفيه معنى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع! قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً].
الخمس هي: الأول: القول، أن يقول: لا إله إلا الله.
الثاني: العلم، أن يكون عالماً بمعناها.
الثالث: العمل، أن يعمل بما دلت عليه.
الرابع: الإقرار؛ لأنه قد يقول الإنسان هذا الشيء عن علم، ولكن يجحده بلسانه ظاهراً، وإن تيقن قلبه، فلا بد من الإقرار والانقياد والإذعان.
والخامس: الكفر بما يعبد من دون الله، فلا بد أن يجمع الإنسان هذه الأمور الخمسة، وإلا لا يصح إسلامه، فإذا اجتمعت فيه فهذا هو المراد الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فاليهود يقولون: لا إله إلا الله، ويعلمون أنه لا إله إلا الله، وقد لا يقع منهم شرك، ومع ذلك لا تنفعهم لا إله إلا الله؛ لأنهم لم يكفروا بما يعبد من دون الله، ولم يتبرءوا منه؛ ولأنهم لم يقروا للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولم يتابعوه، فلا بد من اجتماع هذه الأمور الخمسة.(33/7)
وجوب العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص
قال الشارح رحمه الله: [قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)].
وهذا أيضاً من أعظم ما يبين شهادة أن لا إله إلا الله ويشرحها ويوضحها إذ إن المقصود ليس مجرد التلفظ بها، فالتلفظ بلا عمل لا يفيد شيئاً.
وإنما المقصود العمل بمعناها الذي دلت عليه، ومعناها: هو أن يكون التأله كله لله، وتكون العبادة لله وحده، ولا يكون شيئاً منها لغيره، فإن وجد من الإنسان عبادة لغير الله جل وعلا فهو لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله.
وقد علم أن المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعث بلسانهم، وجاءهم بلغتهم؛ أنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب منها: أن يسكت عنهم، ولا يقدح في دينهم وفي دين آبائهم، ويسكتوا عنه، وما يتعرضوا له بشيء، فأبى صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وذكر أنه لا بد من بيان فساد دينهم والتبرؤ منه، والكفر به، وبغضه، ومعاداته، ومعاداة أهله، فلا بد من ذلك، الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]؛ لأن هذا من معنى لا إله إلا الله.
وأخبرنا ربنا جل وعلا أن لنا أسوة في إبراهيم والذين معه، فإبراهيم تبرأ من قومه وما يعبدون، واستثنى من ذلك ربه جل وعلا فقال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] يعني: الذي خلقني، وهو الله، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات غير الله، واستثنى ربه جل وعلا؛ لأنه هو الذي يجب أن تكون له العبادة وحده.
وكل الأنبياء جاءوا بهذا الأمر، يدعون قومهم إلى أن يخلصوا عبادتهم لله وحده.
والشأن في معرفة العبادة ما هي؟ ومعرفة الإله ما هو؟ وما معنى الإله في اللغة؟ فالإله هو الذي يؤله ويعبد، كل ما ألهه القلب بالحب والخوف والذل فهو إله، فيجب هذا أن يكون لله وحده.
والعبادة أنواعها كثيرة جداً، منها الدعاء، ومنها الذبح، ومنها النذر، ومنها طلب البركة، ومنها الخوف والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، وكلها يجب أن تكون لله وحده، وكلها دلت عليها كلمة لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله دلت على أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فإذا وجد شيء من العبادة لغير الله فإن الإنسان لم يأت بالعبادة لله، فالذي يقول ذلك أو يفعله لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله، ولم يصحح إيمانه، بل لم يدخل في الإسلام وإن زعم أنه مسلم؛ لأن الإسلام كلٌ لا يتجزأ، إذا وجد بعض منه وبعض تخلف فكأنه لم يأت بشيء، فالله هو أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معه شيئاً من المخلوقات فإنه يكون لذلك الشريك، والله بريء منه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الشارح: [وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)].
حق لا إله إلا الله هو كل واجب جاء به الرسول، كل ما وجب في دين الإسلام فهو من حق لا إله إلا الله، وإذا ترك الإنسان الواجب فمعنى ذلك أنه يقاتل حتى يأتي به سواء الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك، بل حتى ولو ترك قوم الأذان الذي هو من الأمور الكفائية في الشرع، فلو اتفق أهل بلد على ترك الأذان فإنهم يقاتلون حتى يلتزموا ذلك ويأتوا به باتفاق العلماء؛ لأن هذا من حق لا إله إلا الله، فليست المسألة مجرد قول لا إله إلا الله، ثم يصبح الإنسان يفعل ما يريد كما يغتر بذلك كثير من الجهال، ويظنون أن من قال: لا إله إلا الله فهو موعود بدخول الجنة ويكفي، وقد يترك الصلاة وقد يترك الصوم، وقد يعبد غير الله، بأن يتعلق بالمقبورين، ويسألهم النفع ودفع الضر، أو يتبرك بقبورهم، أو يقدم لهم النذور أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا من الشرك الأكبر الذي ينافي قول لا إله إلا الله، وسبب وقوع ذلك هو جهل الإنسان بمعنى لا إله إلا الله، وكذلك جهله باللغة التي خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ولو عرف ذلك لفهم؛ لأنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال للمشركين: لا إله إلا الله، أبوا ونفروا، وليس المراد عرفوا أنه ليس المراد مجرد التلفظ بها، بل قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، و {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف:70]، لأنه كان يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
وهكذا جميع الرسل جاءت بهذا، فلا خير في إنسان مسلم يكون الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، يجب أن يكون عالماً بمعناها وما دلت عليه، وكذلك بما ينافيها ويناقضها أو ينقص ما دلت عليه من توحيد الله جل وعلا.
الإنسان إذا ما عرف الشر لم يعرف الخير، والأمور قد تتبين بأضدادها، فاعتماد هذا الأمر مهم جداً على المسلم، لأن الله جل وعلا أخبرنا أن الإنسان إذا مات على الشرك فهو غير مغفور له، ويجوز للإنسان أن يقع في شيء يظنه عبادة مرضية لله وهي شرك، يجوز أن يقع الإنسان في مثل هذا إذا لم يتعرف على الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا خسر الإنسان نفسه، ومعنى ذلك أنه هلك الهلاك الذي لا يرجى معه سعادة أو صلاح أبداً.
ليست المسألة مجرد ذنب من الذنوب، إذا كان الإنسان لا يعبد إلا الله فأمر الذنوب سهل، ولكن المشكل أن يقع الإنسان في الشرك؛ لأن الشرك قطع الله جل وعلا رجاء من وقع فيه نهائياً إذا مات عليه، وأخبر أنه يكون خالداً في النار وما هو بخارج منها، وأن الجنة عليه حرام، إذا كان الأمر هكذا فإن من أشد ما يتعين على الإنسان ويجب عليه أن يعتني به ويتعرف عليه؛ الشرك وأنواعه وأقسامه حتى يتجنبه، وبضدها تتبين الأشياء.
ولهذا لما كان الصحابة رضوان الله عليهم قد عرفوا الشرك تماماً صاروا من أبعد الناس عنه، وصاروا يبغضون الشرك أشد البغض، وينفرون منه أشد النفرة، بخلاف الذي يجهله، فإنه قد يقع فيه ويظنه عملاً صالحاً، كما وقع فيه كثير من الناس، بل وقع فيه بعض خواص الناس ممن يفسر كتاب الله ويشرح حديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب البعد عن عهد النبوة، والجهل باللغة، وإلف الشيء الذي وجد عليه الآباء والأجداد وأهل البلد، فيستبعد أن يكون هذا شركاً فيقع فيه، والإنسان لا يعذر بذلك، لا يقال: إنه جاهل؛ لأن الله جل وعلا قطع الحجة وقطع العذر بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن، يقول جل وعلا: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة؛ لأن عليه أن يتعرف على معانيه وما دل عليه، وليس المراد منه أن يقرأه مجرد ألفاظ يتلوها وما يدري ماذا تدل عليه، فهذا لا يجدي شيئاً، ولا يفيد شيئاً، وليس هذا مطلوباً {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، فالقرآن أنزل للتدبر والعمل.
ويجب على الإنسان أن يعتني بهذه الأمور كثيراً؛ ولهذا نرددها ونكررها لأهميتها، وعظم الحاجة إليها.(33/8)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [34]
كلمة الإخلاص تعني البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وصرف العبادة لله وحده لا شريك له، وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرة من كتاب الله، وأحاديث صحيحة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(34/1)
العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص
قال الشارح رحمه الله: [وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال وآية براءة، وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها؛ أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول: لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره.
انتهى ملخصاً.
وقال النووي: لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية (ويؤمنوا بي وبما جئت به) وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم، قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها؛ فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام.
انتهى.
قوله: (وحسابه على الله) أي: الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم، وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد، ولم يأت بما ينافيه ظاهراً، والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه].
هذا يدل على أن الحكم على الظاهر في الدنيا، أما ما في القلب فأمره إلى الله جل وعلا، إن كان الإنسان صادقاً في قوله وعمله، فهذا هو المخلص الذي يكون فائزاً بوعد الله جل وعلا، وبجزائه يوم الدين.
أما إن كان في قلبه خلاف ما يظهره بعمله وبقوله، فسوف يحاسبه الله جل وعلا على ذلك يوم يلقاه، وليس له من أجر ثوابه وعمله شيء، وإنما يعاقب عقاب الكفار والمنافقين؛ لأن الأعمال الظاهرة تكون تبعاً لما في القلب الباطن.
ولهذا أخبر الله جل وعلا أن الذي يريد الدنيا وزينتها ليس له في الآخرة من نصيب، ومعنى يريد: أن تكون نيته وقصده، وإن عمل بخلاف ما في قلبه موافقاً ما جاء به الشرع، فإنما العبرة عند الله جل وعلا بالإرادة وبالنية والقصد، والعبرة عند المسلمين على الأحكام الظاهرة، فمن أظهر خيراً وجبت محبته وأخوته، وإن كان مبطناً شراً فالله يتولى حسابه، فهو الذي يحاسبه على ذلك فيصبح من المنافقين الذين يظهرون الخير ويبطنون الشر، وهم شر من الكفار الذين يصرحون بالكفر ويظهرونه، وإذا كان يوم القيامة صاروا تحتهم في طبقات النار كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وقد كانوا يصلون مع المسلمين ويجاهدون ويؤدون الزكاة ومع ذلك يكونون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم أظهروا وفاقاً وأبطنوا نفاقاً، وهم يخادعون الله والذين آمنوا ولا يخدعون إلا أنفسهم، يظنون أنهم يخادعون وأنهم أهل العقل، وهم في الواقع أطاعوا شياطينهم وغروا أنفسهم، وسولت لهم أنفسهم أمراً قادهم إلى جهنم -نسأل الله العافية-.
وعلى هذا فالكفار الأصليون الذين لم يدخلوا في الإسلام إذا قال أحدهم: لا إله إلا الله وجب الكف عنه حتى ينظر هل يلتزم بما دلت عليه هذه الكلمة أو لا يلتزم؟ فإن التزم بذلك وحكم بإسلامه، وإلا لم يفده مجرد قوله: لا إله إلا الله، فمجرد القول لا يكفي، وإنما العبرة بالعمل الذي يتبع العقيدة، والعلم الذي في القلب.(34/2)
بيان ما تدل عليه كلمة الإخلاص
قال الشارح رحمه الله: [قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: لا إله إلا الله، ولا يكفر بما يعبد من دون الله، فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
قوله: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب].
يعني: أنه سيذكر بعد هذا الباب أبوباً كثيرة كلها توضح هذا المعنى وتبينه، والترجمة هي قوله: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما ذكر الآيات والحديث قال: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب يعني: أن الأبواب التي ستأتي بعضها في ذكر بعض الشركيات، وبعضها في ذكر بعض التعلقات على غير الله، وكلها تبين معنى لا إله إلا الله وتفسره؛ لأن الأمور تتبين بأضدادها، وسيبدأ بعد ذلك بحكم الذي يعلق تميمة أو يتبرك بشجرة أو حجر أو قبر، يطلب نفعه أو دفع الضر، بدء بهذا لأن هذا من الشرك الواضح الجلي، وهو أيضاً يفسر لا إله إلا الله كما سيأتي.
قال الشارح رحمه الله: [قلت: وذلك أن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى: لا إله إلا الله، وفيه أيضاً: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر، وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع مما تركه من مضمون لا إله إلا الله، فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله، وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقاً، وبمعرفة وسائل الشرك -والنهي عنها لتجتنب- تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه، وفيه أيضاً من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله].
الله جل وعلا أخبر أنه هو الخالق وحده، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يجب أن تكون العبادة له، وكل هذا من الكمالات التي يجب أن تعتقد لله جل وعلا.
وإذا صرف من ذلك شيء لغيره فإنه تنقص لله جل وعلا، فالمشرك الذي يدعو غير الله من مقبور أو أحجار أو غيرها هو يتنقص الله جل وعلا بما ينافي كماله؛ لأنه هو الإله وحده، وكونه يتعلق بغيره فإنه يصرف حقه لغيره؛ ولهذا إذا ذكر الله جل وعلا الشرك يقول: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43] ينزه نفسه عن شركهم؛ لأن الشرك تنقص لله جل وعلا، ودل على أنه يجب أن تثبت له صفات الكمال، وهذا من باب المفهوم، وقد جاءت نصوص من كتاب الله جل وعلا وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في وجوب اعتقاد اتصاف الرب جل وعلا بالصفات التي نص عليها، والتي تعرف بها إلى عباده؛ لأنه جل وعلا غيب، لا يطلع عليه أحد، ولم يره أحد، وإنما تعرف إلى عباده بأوصافه التي يصف نفسه بها، أو يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: كونه جل وعلا الإله وحده، والتأله له وحده، ومنها: كونه جل وعلا الخالق وحده، والرازق وحده، لا شريك له في ذلك، ومنها كونه جل وعلا مستوياً على عرشه، عالياً على خلقه، ومنها كونه جل وعلا عالماً بكل شيء لا يخفى عليه شيء، يعلم ما في ضمائر عباده، وما يكنون في قلوبهم، ومنها: كونه جل وعلا يحب المؤمنين، والتوابين، والمتطهرين، ومنها: كونه جل وعلا كلم رسله وأنزل كلامه عليهم الذي هو نور وهدى لمن آمن به واتبعه، إلى غير ذلك من أوصافه التي جاءت في كتاب الله جل وعلا وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وهي من التوحيد.
ولهذا السبب قسم العلماء التوحيد إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول: توحيد الربوبية الذي يدل على أنه من فعل الله جل وعلا وحده كالخلق والرزق والأمر والنهي والشرع أي: أنه هو الذي يشرع وحده، فمن نازع الرب جل وعلا في شرع يضعه للناس فقد جعل نفسه شريكاً لله جل وعلا، ومن اتبع الشرع الذي يشرعه المخلوق فقد اتخذ رباً غير الله جل وعلا، فهذا من خصائص الربوبية.
القسم الثاني: توحيد الأسماء والصفات، مثل عليم وحليم وكريم، وكونه جل وعلا يسمع ويرى، وأنه مع عباده جل وعلا، يعلم ما في ضمائرهم ويشاهدهم، ولا يخفى عليه خافية، وهو محيط بهم، وهم في قبضته، وكونه جل وعلا له وجه كما وصف جل وعلا نفسه بذلك، وله يدان، وأنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأن الإنسان إذا تصدق بصدقة من كسبٍ طيب -والله لا يقبل إلا طيباً- فالله يتقبلها بيمينه جل وعلا فيربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل وإن كانت تمرة، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ليؤمنوا بها، هذا يسمى توحيد الأسماء والصفات.
القسم الثالث: توحيد العبادة التي تصدر من العباد أنفسهم: نحو الدعاء والرجاء والخوف والإنابة والنذر وغير ذلك.
وهذه الأقسام مترابطة، لا ينفك بعضها عن بعض؛ فمن أتى بقسم منها ولم يأت بالبقية لا يصح دينه، ولا يصح إسلامه، فلا بد منها جميعاً.(34/3)
معنى قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه)
قال الشارح رحمه الله: [بيان أن هذا هو الشرك الأكبر].
آية الإسراء هي قوله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57] وقد ذكر المؤلف رحمه الله ما روى أهل التفسير من أن هذه الآية نزلت في عيسى ابن مريم وأمه والعزير، وعيسى عليه السلام نبي كريم، بل هو من أولي العزم من الرسل، وأمه صديقة، وعزير نبي من الأنبياء، فمن الناس من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو العزير، ومنهم من يدعو مريم، ويدعونهم للشفاعة، وليس ذلك لأنهم ينزلون المطر، وينبتون النبات، ويحيون الموتى، لكن يدعونهم للشفاعة، ويطلبون منهم الشفاعة، ويقولون: اشفعوا لنا عند الله.
أخبر الله جل وعلا عن هؤلاء المدعوين أنهم يتسابقون بالخيرات، كل واحد منهم يجتهد في العمل الصالح لعله يكون أقرب إلى الله من الآخر، يعني: أنهم يتنافسون في فعل الطاعة، ويتسابقون بفعل الطاعات ليسبق كل واحد منهم الآخر، وكل واحد يريد أن يكون هو الأقرب إلى الله.
والمعنى أنهم فقراء ما يملكون شيئاً مما يدعون من أجله، بل هم عباد يدعون الله كما أنكم أنتم عباد تدعونهم وتدعون الله، فهم مثلكم، فتبين بهذا أن الدعوة وطلب الشفاعة عبادة يجب أن تكون موجهة إلى الله جل وعلا وحده.
والقول الثاني: أنها نزلت في قوم من الجن كانوا مشركين، وأناس من الإنس يدعونهم، فأسلم الجن والإنس لم يعلموا بذلك، فبقي الإنس على دعوتهم وشركهم، وقد أسلم الجن وصاروا يتقربون ويتسابقون إلى الله جل وعلا بالعبادة.
والمعنى واحد سواء نزلت في هؤلاء أو هؤلاء، وكل مدعو يدعى من دون الله فهو لا يستطيع كشف الضر الذي نزل بالداعي، ولا يستطيع تحويله من موضع من جسده إلى موضع آخر، لا يستطيع إزالته بالكلية، ولا يستطيع تخفيفه، والمعنى أنهم لا يملكون شيئاً مما يدعون من أجله، فتصبح دعوة الداعي سبهللاً ضائعة لا فائدة فيها، بل فيها الضر لأنها شرك يعود على الداعي بالضر، وهذا في كل مدعو من دون الله جل وعلا، وإن كانت الآية نزلت في قوم صالحين كما قال المؤلف سواء كانوا من الأنبياء أو كانوا من الجن الذين كان الإنس يعبدونهم قبل إسلامهم، قال الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وسواء كان هذا أو هذا فكل مدعو من دون الله جل وعلا فإنه لا يملك نفع الداعي ولا يملك دفع الضر عنه، وإذا نزل به الضر ما يستطيع رفعه، ولا تخفيفه، ولا تحويله من مكان إلى آخر.(34/4)
معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)
قال الشارح رحمه الله: [ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً مع أن تفسيره الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم].
الآية في أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد الذين يتعبدون لله جل وعلا.
وبين أن تفسيرها الواضح جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، وفسرها بأنها طاعتهم في معصية الله، وكان عدي بن حاتم نصرانياً، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال له: يا رسول الله! إننا لم نعبدهم، قال: (بلى، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه، ويحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فتبين بهذا أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جل وعلا عبادة لذلك المخلوق، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا، فمن أطاع مخلوقاً في معصية الله وهو يعلم أنها معصية فقد اتخذه رباً كما في هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة:31] والأرباب جمع رب، والرب معناه هنا: المعبود الذي يعبد ويتأله، فدل على أن الشرك يكون في الطاعة، وأن الطاعة يجب أن تكون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولمن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله.
وأما إذا أمر المخلوق بمعصية الخالق جل وعلا فلا طاعة له، مهما كان سواء كان والداً أو غير والد، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا، فمن أطاع ذلك المخلوق في معصية الله، فقد اتخذه رباً من دون الله جل وعلا، وليس المعنى أنهم يعبدونهم بمعنى يصلون لهم ويسجدون لهم، لكن يكفي كونهم يطيعونهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، هذه هي عبادتهم.(34/5)
معنى قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) الآية
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28].
والكلمة عبارة عن هذا المعنى الذي هو التبرؤ من المعبودات غير الله جل وعلا، واتخاذ الرب جل وعلا معبوداً وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن قول القائل: (لا إله) نفي، والنفي في ضمنه التبرئ، وقوله: (إلا الله) إثبات الإلهية لله جل وعلا وحده، فهو ينفيها عن كل ما سوى الله، ويثبتها لله وحده، فهذه هي الكلمة التي جعلها الله جل وعلا باقية في عقب إبراهيم في ذريته؛ لأن ذرية إبراهيم فيهم الأنبياء، وآخرهم وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين هو من ذرية إبراهيم.
وقد بعث الله جل وعلا في العرب قبله أباه إسماعيل بن إبراهيم فإنه نبي أرسله الله جل وعلا إلى العرب يعني: أهل مكة وغيرهم، فدعاهم إلى توحيد الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم من ولده من ذريته.
وهذه الكلمة لم تزل باقية من وقت إبراهيم إلى اليوم في ذريته، جعلها كلمة باقية فيهم، وهي التبري من الشرك وأهله، والإخلاص لله جل وعلا وحده.(34/6)
معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)
من المسائل التي توضح معنى لا إله إلا الله وتفسرها: الآية التي في سورة البقرة وهي قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167] أخبر أنهم لا يخرجون من النار بسبب أنهم اتخذوا مع الله أنداداً يحبونهم كحبهم لله تعالى، وهذا الحب هو حب التأله الذي يتضمن الخوف والرجاء والذل وطلب الرغبة من هذا المحبوب؛ لأن هذا لا يجوز أن يكون لغير الله جل وعلا، فحب التأله الذي يتضمن الذلة والخوف والرغبة والرهبة لا يجوز أن يكون لمخلوق، ويجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فإذا جعل هذا الحب أو بعضه لغير الله جل وعلا صار هذا الذي عمل ذلك مشركاً شركاً أكبر، وإذا مات عليه يكون خالداً في النار كما أخبر الله جل وعلا في هذه الآيات، وهذا هو معنى قول: لا إله إلا الله يعني: أن الحب الذي فيه الذل والخوف والرغبة يجب أن يكون لله وحده، وهذا هو التأله، وهذا هو الذي نفي عن غير الله جل وعلا في كلمة الإخلاص وأثبت لله وحده.
وأخبر أن هؤلاء يحبون أندادهم كحبهم لله، فدل على أنهم يحبون الله حباً شديداً، ولكن هذا الحب لم ينفعهم لأنه حب شركي، أشركوا مع الله غيره في هذا الحب، فصار هذا الحب غير نافع بل هو ضار، بل هو الشرك الذي يفعله المشركون، ولم يذكر الله جل وعلا في كتابه ولا ذكر المؤرخون الذين يذكرون أحوال الناس من القدم أن أحداً من الخلق اعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات شريكاً لله في الخلق والإحياء والإماتة والتصرف، وإنما الشرك الذي وقع في بني آدم هو شرك إما في الحب أو في الوساطة بأن يتخذ هذه المحبوبات أو المدعوات وسائط يسألها أن تقربه إلى الله زلفاً يعني: يطلب منها الشفاعة كما هو الواقع عند كثير من الناس، يتجهون إلى من هو رميم في قبره، وقد أكله الدود، وتفتت عظامه، ويسألونه أن يشفع لهم عند الله، وربما سألوه أموراً في الدنيا، ويعتقدون أنه يستطيع أن يفعل ما يطلبونه منه، وهذا أمر توارثوه وليس لهم عليه أي دليل، بل الأدلة من العقل ومن كتاب الله ومن سيرة الرسل تدل على أنهم ضلوا ووضعوا السؤال في غير موضعه، وقد قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] يعني: أن الاستجابة تحصل لهم إذا حشروا وبعثهم الله جل وعلا، وجمع الداعي والمدعو، فيسأل المدعو ويقال له: هؤلاء الذين يدعونك اتخذوك شركاء مع الله، هل أمرتهم بذلك؟ فيكفر بهم ويتبرأ منهم، ويعلن بأنه غافل عن ذلك وليس له علم، وأنه كافر بهذه الدعوة، ثم يكون عدواً لهذا الداعي، فيصبح بعضهم يلعن بعضاً، هذه هي نتيجة من يتجه بالدعاء أو بالحب الذي هو حب الخضوع والذل إلى غير الله جل وعلا كما قال الله جل وعلا في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] يعني: أن المدعو يلعن الداعي، والداعي يلعن المدعو كما في هذه الآية {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:167] ((لَوْ أَنَّ)) يعني: يا ليت لنا كرة، يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين كنا ندعوهم كما تبرءوا منا، ولكن هيهات انتهى الأمر! فهذا خبر من الله جل وعلا بما سيقع لهؤلاء الذين يدعون غير الله، ومن أصدق من الله خبراً، تعالى الله وتقدس.
فالمقصود أن هذه الآية من الآيات التي توضح معنى لا إله إلا الله وتبينه، وما أكثر الآيات التي توضح ذلك وتبينه؛ لأن هذا هو أصل الدين، وأصل دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بين هذا غاية البيان حتى لا يبقى للناس حجة، وقد قامت حجة الله على خلقه بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب عليه، فإذا وقع الإنسان في شيء من هذه الأمور فاللوم عليه؛ لأن التقصير حصل منه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وضح وبلغ، وبين غاية البيان، وقامت الحجة على جميع الخلق.(34/7)
الأمور الواجبة على من يتكلم بكلمة الإخلاص
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله) وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع].
هذا أيضاً من الأمور التي توضح معنى لا إله إلا الله وتبينه، وذكر المؤلف رحمه الله خمسة أمور لا بد أن تجتمع فيمن يتكلم بهذه الكلمة حتى ينتفع بقول: لا إله إلا الله: الأمر الأول: النطق بها، لا بد أن ينطق ويتكلم بها، أما لو علم معناه واعتقده في قلبه، ولم يتلفظ بها، فإنه لا يعد مسلماً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وفي رواية: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) لا بد من قولها، والله جل وعلا يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، والإيمان بالله جل وعلا هو عبادته، أن يعبد ويمتثل أمره، ويجتنب نهيه جل وعلا.
ثم مع النطق بها لا بد من معرفة معناها؛ لأنه لو تكلم بها وهو لا يعرف المعنى فإنه لا يفيده شيئاً، لا بد من معرفة أن معناها: نفي التأله عن غير الله، وإثبات التأله لله وحده، وأنه لا يجوز أن يكون شيء من التأله الذي هو العبادة لغير الله، فإن حصل تردد في هذا أو شك فإسلام الإنسان غير صحيح.
الأمر الثالث: الإقرار، أن يقر بذلك، والإقرار ضد الجحود، فإن الإنسان قد يكون قائلاً لها وعالماً بمعناها، ولكن يجحد ذلك تكبراً أو عناداً أو لأمور أخرى غير ذلك.
والأمر الرابع: أن يكفر بما يعبد من دون الله، والكفر بما يعبد من دون الله معناه: مفارقته وبغضه، وكراهته والتبري منه ومن عابده، هذا معناه كما قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
الأمر الخامس: الانقياد والتسليم، يسلم بذلك وينقاد، ولا يكون عنده تردد أو تضجر من هذا أو رغبة في غيره، بل يسلم وينقاد ويذعن لذلك ويغتبط به، يفرح به ويكون محباً لهذا، ويكون متيقناً بصحته، وأن النجاة لا تكون إلا بذلك.
فلابد من هذه الأمور حتى ينتفع الإنسان بهذه الكلمة العظيمة التي تفرق بين المؤمن والكافر، وهي التي أرسل بها الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهي التي من أجلها خلقت الجنة والنار، وهي التي عليها يثيب الله جل وعلا، ويعاقب على هذه الكلمة؛ ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أُمِر بقتال الناس حتى يقولوها، فإذا قالوها امتنع من قتالهم، وحرمت أموالهم ودماؤهم إلا بحقها، وحق هذه الكلمة كل واجب أوجبه الله جل وعلا على عباده؛ لأنها في الواقع هي الدين كله، فلهذا احتيج إلى إيضاحها لمن لا يعرفها، وإلا فهي واضحة وجلية، ولكن قد يكون الإنسان غافلاً أو يكون جاهلاً أو يكون في بيئة لا تساعده على معرفتها فيحتاج إلى بيانها له، وبيان معناها، وإيضاح ذلك، وهذا أمر حتمي، فواجب على من عرف ذلك أن يوضحه ويبينه، ويجب على من لا يعرفه أن يبحث عنه ويطلبه، ويطلب من يبين له ويوضحه، وهو -والحمد لله- واضح جلي من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته.(34/8)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [35]
من الشرك بالله لبس الحروز والتمائم، واعتقاد أنها تدفع الضر أو ترفعه، وقد يكون تعليقها شركاً أكبر أو أصغر بحسب ما يقوم في قلب من تعلقها، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في التحذير من ذلك وبيان أنه شرك بالله تعالى يجب الابتعاد عنه.(35/1)
من صور الشرك لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء ودفعه
قال المصنف رحمه الله: [باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه].
بعد ما انتهى المؤلف من باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قال في آخره: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب، وهذا أول باب بدأ فيه بالشرح، فهو يذكر ما ينافي التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله أو ينافي كمالها، وبدأ بلبس الحلقة أو الخيط لأجل دفع البلاء الذي لم ينزل، أو لأجل رفعه إذا كان نازلاً في الإنسان.
فمن لبس شيئاً من الملبوسات سواء كان خيطاً، أو خرزات أو نحاساً أو فضة أو تمائم فيها طلاسم أو قراءات أو غير ذلك لأجل هذا، فقد وقع في المحذور، وقع إما فيما ينافي أصل التوحيد أو فيما ينافي كماله الواجب الذي يجب على كل عبد، فيصبح معرضاً لعقاب الله أو معرضاً للخلود في النار، فذكر هذا، وسيأتي ذكر أشياء كثيرة كلها توضح هذا المعنى وتبينه.
وهذه الأمور مما يجب على عموم المسلمين جميعاً أن يعرفوها ويعلموها ويجتنبوها؛ لأنها تنافي أصل دينهم، وقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطريقة المؤلف أنه إذا ذكر هذه الأشياء استدل عليها بآيات من كتاب الله، ثم أتبع ذلك بما يوضح الآيات من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بعد ذلك استدلال، لأن هذا هو الأصل الذي يجب أن يرجع إليه المسلمون: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإنسان لا يسأل عن غير ذلك، فلا يسأل عن عقله ولا عن قياسه وفكره، ولا عن أوضاعه التي يتعارف عليها الناس ويجد عليها أهل بلده، بل هذه قد تضره ولا تنفعه، وإنما السؤال عن معرفة الله جل وعلا، من يعبد؟ وبأي شيء يعبده؟ ومن الذي جاءه بما يتعبد به؟ هذه الأمور الثلاثة هي التي يسأل عنها كل إنسان يوضع في قبره، يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإن كان متيقناً عارفاً عالماً بذلك فإنه يجيب بكل طمأنينة فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ينتهي السؤال عند ذلك، بل يقال له بعد ذلك: وما يدريك؟ يعني: هات الدليل على قولك! فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به واتبعت، عند ذلك يكون هذا دليل مقنعاً، وهذا هو الدليل، ولا يقول: نظرت بعقلي، أو نظرت في فكري، أو أخذت ذلك عن شيخي، أو عن أهل بلدي، أو غير ذلك، وإذا قال ذلك فهو هالك.
أما إذا كان غير عالم بذلك، وغير موقن به، فإنه يتلعثم في الجواب ويتردد ويقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، عند ذلك يقال له: لا دريت ولا تليت، يعني: لا تعلمت وعرفت، ولا قرأت كتاب الله القراءة التي تعلم بها ما خلقت من أجله، فيكون هذا مبدأ العذاب، فيضربه الملك الذي يسأله بمطراق من النار يلتهب عليه قبره ناراً، ويصيح صيحة يسمعه كل من يليه من المخلوقات إلا الجن والإنس فإنهم لا يسمعونه؛ لأن عذاب القبر أخفي عن الجن والإنس لأنهم هم المكلفون وهم المرادون به، ولو ظهر ما استطاع أحد أن يدفن أحداً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو ظهر ذلك لما استطاع أحد أن يذهب إلى المقابر لشدة الهول! والمقصود أن هذا أمر واجب متعين حتمي لا بد منه، ويجب على الإنسان أن يعتني به أشد العناية، وقد كثرت هذه الأمور الشركية في الناس من تعليق التمائم ولبس الخيوط والحلق وما أشبه ذلك، ويزعمون أن بها الشفاء أو بها دفع الجن أو دفع عيون الناس أو ما أشبه ذلك، وهذا كله اعتقاد باطل، بل هو إما أن يكون منافياً لأصل الدين الإسلامي أو منافياً لكماله الواجب الذي يجب على الإنسان أن يعمله ويكمل به دينه.
فبدأ بذلك تفسيراً له، وقوله: لدفع البلاء أو رفعه، يعني: أنه إذا لبس هذه الأمور من أجل دفع الشر الذي يتوقع نزوله أو من أجل رفعه بعد حصوله، أما دفعه قبل أن ينزل فبأن يعتقد أن هذا يمنع من إصابة العين أو إصابة الجن أو إصابة حسد الحاسد أو ما أشبه ذلك، أو أنه يمنع الروماتيزم كما يقوله الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً من دين الله، أو أنه يزيل المرض الذي يسمى واهنة أو يسمى ريحاً أو غير ذلك، فمن فعل ذلك فإنه قد وقع في الشرك، فإما أن يكون شركاً أكبر منافياً للتوحيد أو يكون شركاً أصغر، فإن كان يعتقد أن هذه الملبوسات من خيوط أو خرزات وحروز وما أشبه ذلك تنفع بنفسها وتدفع، فهذا شرك أكبر يكون منافياً لأصل التوحيد، وإن اعتقد أنها مجرد سبب، والنافع والدافع هو الله جل وعلا؛ فهذا شرك أصغر يكون منافياً لكمال التوحيد، وإن كان اعتقد أن هذا قد يكون سبباً فإن الأسباب لا يجوز تعاطيها إلا إذا كانت مباحة، والأسباب المحرمة لا يجوز فعلها، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاء هذه الأمة ليس فيما حرم عليها، وإنما فيما أباحه الله جل وعلا.(35/2)
معنى قوله تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر)
قال المصنف: [وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]].
بعد ما أخبر الله عن الكفار أنهم إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ فإنهم يقرون بأنه الله جل وعلا لا شريك له في ذلك، ولا معين له ولا مظاهر له في ذلك.
أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم من باب التقرير والتحدي وإبطال دعوتهم عن المدعوات التي يدعونها من الآلهة بأنواعها، وقد علم أن آلهتهم التي يدعونها مختلفة، منها: ما هو شجر، ومنها ما هو حجر، ومنها ما هو ميت مقبور، ومنها ما هو ملك من الملائكة، ومنها ما هو كوكب من الكواكب، ومنها ما هو نبي أو ولي من الأولياء، وكلها داخلة فيما أمر الله جل وعلا به نبيه أن يوجه السؤال إليهم، يقول: ((أَفَرَأَيْتُمْ)) أي: أخبروني عن هذه المدعوات التي تدعونها من دون الله، إن أرادني الله بضر، أي: بمرضٍ أو ألمٍ أو مصيبة أو غير ذلك؛ هل تستطيع أن ترد هذا وتمنعه؟! أو أرادني برحمة، أي: بخير وإحسان وصحة ونصر وتأييد وقوة وعزة وعلم وخير؛ هل تستطيع أن تمنع ذلك؟! الرسول صلى الله عليه وسلم وجه إليهم هذا السؤال فسكتوا؛ لأنهم يعلمون أنها لا تنفع ولا تدفع، وما استطاعوا أن يقولوا: نعم، بل علموا يقيناً أنها لا تنفع، وفي هذا إبطال دعواهم، فإذا كانت هذه المدعوات لا تنفع في منع البلاء، ولا تدفعه بعد حصوله، فأي فائدة في دعوتها؟! ثم أخبر أن الكافي والحسيب الذي يكفي عبده ويدفع عنه البلاء قبل وقوعه، ويرفعه عنه إذا وقع فيه هو الله وحده، وقد اعترفوا بهذا وأقروا به، اعترفوا بأن الذي يكشف الضر ويجيب المضطر هو الله وحده لا شريك له في ذلك، وبهذا تبطل دعوتهم ويبطل شركهم، ولكنهم يكابرون ويعاندون، ويأبون أن يتركوا ما هم عليه؛ لأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، وليس لهم حجة إلا أنهم وجدوا آباءهم عليه، فضرهم تعظيم الآباء وتقليدهم، فمنعهم ذلك من قبول الحق واتباعه، هذا هو السبب فقط وإلا فقد تيقنوا أنها لا تنفع لا في دفع البلاء ولا في رفعه بعد حصوله.
والخيوط والخرز والتمائم شرك من أي نوع كانت، سواء كانت من فضة كما يفعلها بعض الناس، ويزعم أن فيها بركة، أو من نحاس وصفر كما يفعله بعض الناس ويزعم أنها تشفي من الروماتيزم أو أنها مثلاً تنفع من عين الإنسان، أو تنفع من إصابة الجن، أو ما أشبه ذلك كما يعتقده كثير من الجهلة، وهي سنة المشركين الذين كانوا يتعلقون بغير الله جل وعلا، ومن فعل شيئاً من ذلك فهو داخل في هذه الآية؛ لأن هذه الآية عامة في كل ما فيه شيء من هذا المعنى من الدعوة أو الاعتقاد أو الادعاء، وإلا فهي لا تنفع في جلب شيء من الخير، ولا في دفع شيء من الشر، وأمرها في هذا ظاهر وواضح.
فتبين بهذا أن من فعل ذلك فإنه مشابه للمشركين في دعوتهم غير الله جل وعلا، وإن كان هذا ليس من الشرك الأكبر إذا اعتقد أن هذا مجرد سبب كما مضى، أما إذا اعتقد أن هذه المعلقات بنفسها تدفع وتمنع فإن هذا كالذي يدعو اللات والعزى فمكون مشركاً شركاً أكبر، ولكن هذا لا يحصل من عاقل ولا من مسلم، وإنما جهلة المسلمين قد يظنون أنها أسباب، أو فيها شيء من الخصائص جعلها الله فيها وما أشبه ذلك، ومع ذلك فهذا من الشرك الأصغر الذي يجب أن يجتنب، ويجب أن ينزه الإنسان دينه ويطهره من ذلك، وإلا فقد تعرض لعقاب الله جل وعلا، ويكون ذلك وسيلة إلى الشرك الأكبر، ويجب أن يعلق رجاءه وطلبه بالله وحده جل وعلا، وأن يتخلى عن كل مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، فهي لا نفع فيها، وإنما هي متعبدة أو مخلوقة للمنافع التي ينتفع بها فيما أباحه الله جل وعلا وأذن فيه.(35/3)
حديث: (رأى رجلاً في يده حلقة من صفر)
قال المصنف: [عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهى عليك ما أفلحت أبداً) رواه أحمد بسند لا بأس به].
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي على ذلك، ورواه ابن حبان في صحيحه، ورواه غيرهم من أئمة العلم، وأكثر رواياته تدور على المبارك بن فضالة، قال الإمام أحمد فيه: إنه يرفع ما كان موقوفاً؛ ولهذا قال الذي حشى على الكتاب: إنه ضعيف، وهذا خطأ فاحش، فالحديث صحيح، وقد جاء من غير رواية مبارك بن فضالة، فقد رواه الطبراني بأسانيد عدة من طريق هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وكذلك رواه من طرق أخرى، فهو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في عضد الرجل حلقة من صفر أو حلقة -يعني: أنها من غير الصفر- فقال: (ما هذه؟)، فيحتمل أن الاستفهام عن السبب، ولكن جاء في رواية أنه قال: (ويحك! ما هذا؟!)، فدل على أن هذا إنكار من أول الأمر، وأنه منكر، ولا يجوز وضع مثل هذه الأشياء في الأيدي، ولا في الأرجل، ولا على أي شيء من أعضاء الإنسان؛ لأنها لا نفع فيها، فلما قال له: إنها من الواهنة، والواهنة مرض يعتقد أهل الجاهلية أنه يصيب الإنسان ويأخذه في كتفه، أو في عضده، وأنه يصيب الرجال دون النساء، وأن اتخاذ هذه الحلق والخرزات تخفف ذلك أو تزيله، وهو اعتقاد جاهلي شركي.
ثم قال له: (انزعها) والنزع هو الأخذ بقوة، (فإنها لا تزيدك إلا وهناً) والوهن هو الهلاك، يعني: أنها تزيدك شراً وهلاكاً؛ لأنها تعلق بغير الله جل وعلا وهو شرك، شرك بالله، وفي رواية أنه قال: (فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وهذا يدلنا على أنها ليست من الشرك الأصغر؛ لأن الذي لا يفلح أبداً يكون ممن استحكم هلاكه، ومنع من دخول رحمة الله وجنته، وهذا لمن اعتقد أنها تدفع البلاء قبل نزوله أو ترفعه بعد حصوله، فمن اعتقد ذلك فإنه إذا مات وهو يفعل هذا الشيء فإنه لا يفلح أبداً.
فدل هذا على أنه يحرم على الإنسان أن يعلق بفعله شيئاً من الخيوط أو من النحاس أو من غيرها من التمائم مما يفعله أهل الجاهلية وأهل الشرك أو أشباههم الذين يتشبهون بهم، وهذا أمر يوجد في الناس إلى الآن، ويعتقدون أن هذا المرض الذي تسميه الجاهلية واهنة موجود، وأن هذه التي تعلق من الخيوط والخرزات أو من الفضة والنحاس والسلاسل التي يعلقها الجهال وأشباههم أنها تنفع من ذلك، وهذا -كما سمعنا في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم- لا يزيد الإنسان إلا وهناً أي: لا يزيده إلا هلاكاً، وإذا كان معتقداً فيه النفع بنفسه أو أنه يرفع البلاء والمرض الذي ينزل بالإنسان فإنه إذا مات على ذلك لا يفلح أبداً.
وهذا أمر صعب جداً، ويجب على من تهمه نفسه أن يعتني بذلك، وأن يتجنبه، وأن ينصح أخاه الذي يقع في مثل هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك ووضحه في هذا الحديث.(35/4)
كلام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تدعون من دون الله)
قال الشارح: [قوله: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، رفعه: إزالته بعد نزوله، ودفعه: منعه قبل نزوله قال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]، قال ابن كثير: أي: لا تستطيع شيئاً من الأمر {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: الله كافي من توكل عليه {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] كما قال هود عليه السلام حين قال قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56].
قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها].
هكذا المشركون يخوفون أهل التوحيد وأهل الإيمان بآلهتهم؛ لهذا تجد الذي يتعلق بالأولياء أو بالمقبورين يسلك هذا المسلك، وإذا قيل له: لا تدع هؤلاء! قال: هل أنت لا تخاف من الصالحين أن يصيبوك بمرض أو بألم أو بشيء لأنك تعاديهم وتبغضهم؟ فهذا كقول قوم هود له: ((إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)) يعني: أنه أصابك بعض الآلهة بجنون أو بخبل فأصبحت تدعونا أن نترك عبادة هذه الآلهة، فقال مجيباً لهم: ((إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ)) أي: مما تشركون من دون الله، ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) يعني: اجتمعوا أنتم وآلهتكم واستعينوا بمن تريدون فوجهوا لي الشيء الذي تستطيعونه من الضر أو الجنون أو غير ذلك، فلن تصلوا إليّ؛ لأني ((تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، فهذا شأن الموحد المؤمن الذي لا يتعلق إلا بالله جل وعلا، أما المشرك فإنه يخاف من المخلوق الضعيف، بل من الميت الرميم المرتهن في قبره بعمله.
والميت نفسه مرتهنة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] رهينة لا تستطيع أن تعمل شيئاً أو تتصرف أو تذهب أو تأتي أو تجيء، فإن كان من أهل السعادة، ومن أهل التقى؛ فهي منعمة في قبره، وإن كان من أهل الشقاوة فهو مشغول بالعذاب، وكلاهما مشغول عمن يناديه ويدعوه.
أما إذا كانت أحجاراً أو أشجاراً فالأمر في ذلك واضح وجلي، وقد علمنا أن هؤلاء الذي يدعون الآلهة من دون الله ما كانوا يعتقدون أنها تتصرف بالعطاء والمنع وإنزال المطر وإنبات النبات ودفع العدو، وإنما كانوا يتبركون بها، ويتخذونها شفعاء عند الله.
ومن اعتقد أن الأموات يتصرفون ويستطيعون أن يأتوا بالخير ويمنعوا العدو؛ فقد ضل في عقله بعد ضلاله في دينه، فأصبح لا عقل له ولا دين، وهذا ما كان أبو جهل وأبو لهب وأشباههما يعتقدونه، بل عقولهم تمنعهم من ذلك.
فعلى هذا فدعوة غير الله جل وعلا من أي نوع كانت هي ضلال وخروج عن الصراط المستقيم الذي بعث به رسل الله، فكل رسول بعث بالإنذار من هذا الشيء، والتحذير منه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، كل رسول يقول هذا، وهذا هو معنى لا إله إلا الله التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يقاتل الناس عليها حتى يذعنوا لها ويقولوها.
وفي هذا إبطال لدعوة هؤلاء بالأمثلة والتقديرات والإيضاح الذي يقرون به، ولا يستطيعون إنكاره، فيكون هذا إلزاماً لهم في إبطال معبوداتهم، ووجوب عبادة الله وحده، ومع هذا الإلزام وهذا الإيضاح الجلي عاندوا وكابروا، وامتنعوا من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوا على شركهم مع علمهم العلم اليقيني أنه ضلال، وأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر.(35/5)
شبهة المشركين في عبادة غير الله أنهم اتخذوها وسائط وشفعاء عند الله
قال الشارح رحمه الله: [وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل:53 - 54]].
((إِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)) أي: تدعونه بتضرع ورفع صوت، وإلحاح وحاجة شديدة.
إذا مسهم الضر كان هذا شأنهم، فهم لا يلتفتون إلى آلهتهم التي يعبدونها، وهذا من الأمور التي فارق فيها المشركون الأوائل أهل الشرك المتأخرين، فإنهم إذا مسهم الضر ازداد شركهم ودعوتهم لغير الله جل وعلا، وهرعوا إلى القبور يدعونها، ويلجئون إليها، والأمر كما قلنا: لا عقل ولا دين عندهم، ذهبت عقولهم، وأديانهم، وجهلوا اللغة، وبعد ذلك جهلوا دينهم، فصار الشرك عندهم أعظم وأشد.
أما المشركون القدامى فإنهم إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنه لا ينجيهم من الشدائد ويكشف عنهم الضر إلا الله وحده: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: إذا ركبوا البحر وهاجت بهم الرياح أخلصوا الدعوة لله وحده، وكفروا بآلهتهم، وإذا كان معهم شيء من أصنامهم ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا ينجيكم في مثل هذه المواطن إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، وهذا أمر معروف ومتقرر.
ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً فر من فر من المشركين ومنهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فقد كان مشركاً وكان يأبى أن يقبل الإسلام، ففر هارباً وترك مكة وأهله وزوجته، فوفق له أنه وجد أهل سفينة يريدون اليمن قرب جدة، فركب معهم فهاجت بهم الريح عند ذلك، فقال بعضهم لبعض: أخلصوا الدعاء لله، وألقوا ما معكم من الأصنام، فإنه لا ينجيكم في هذه الحالة إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، عند ذلك فكر في نفسه فقال: إذاً: إلى أين أهرب؟! لئن أنجاني الله جل وعلا من هذه الكربة لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضع يدي في يده فليصنع بي ما شاء، وهذا سبب إسلامه.
والمقصود أن هذا أمر واضح، وقد ذكر الله جل وعلا عنهم في القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا لله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا مستدلاً على وجوب توحيده وحده، وإلزامهم بذلك: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، وكلهم يقرون بأنه الله وحده، لا اللات ولا هبل، ولا مناة ولا العزى، ولا غير ذلك من الآلهة التي كانوا يدعونها، بل يعترفون أنه الله جل وعلا وحده، وهذا لا يحتاج إلى استدلال عليه؛ لأنه أمر ظاهر جلي، وإنما احتيج إلى ذلك لما جهل الذين يدعون غير الله هذا الأمر، وصاروا يعتقدون أن الشرك هو أن يدعو الإنسان من يعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت، فيقول: إذا دعوت المقبور وأنت لا تعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت فليس في هذا شرك، هذا ما قاله أحد من خلق الله، وإنما قاله هؤلاء الذين خرجوا عن المعقولات بعد خروجهم عن المشروعات التي جاءت بها الرسل، وهو أمر واضح جلي جداً.
فالمقصود أن دعوة غير الله جل وعلا كلها من باب اتخاذ الوسائط والتبركات والشفاعة.
قال رحمه الله: [قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله، وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله، والرغبة إليه من دون الله، والتوحيد ضد ذلك، وهو ألا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم].(35/6)
معنى حديث: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً)
قال الشارح: [قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، قال: حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة -قال: أراها من صفر- فقال: ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) ورواه ابن حبان في صحيحه فقال: (فإنك إن مت وكلت إليها)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران وقوله في الإسناد: أخبرني عمران يدل على ذلك.
قوله: عن عمران بن حصين أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد - بنون وجيم - مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة].
وكان من علماء الصحابة وأفاضلهم، والصحابة كلهم رضي الله عنهم فضلاء وعلماء؛ لأنهم تعلموا وتربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنالوا البركة من رؤيته وسماع كلامه، وكذلك امتثال أوامره؛ فلهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير قرون هذه الأمة، وأنه بعث في خير هذه الأمة، وحذر من الكلام فيهم أو سبهم، وأخبر أن أحداً لن يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ولو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ في ذلك مد أحدهم ولا نصيف المد.
وهذا تمثيل ومخاطبة لمن جاء بعدهم، فكيف بمن يأتي متأخراً ثم يحط من شأنهم وربما سبهم وذمهم؟! فهذا من الضلال الأكبر، ومن الخروج عن السنن التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعمران بن حصين رضي الله عنه كان ممن تسلم عليه الملائكة، فإنه رضوان الله عليه أصيب ببواسير، فاكتوى من أجل ذلك، فامتنعت الملائكة من التسليم عليه، ثم ترك الكي فعادت إلى السلام عليه، وقد أخبر بعض تلامذته بذلك وقال: لا تخبر بهذا حتى أموت.
وفضائل الصحابة وكراماتهم معروفة ومشهورة، ويجب على المسلم أن يحبهم ويتبعهم ويعرف قدرهم؛ لأنهم هم الوساطة بيننا وبين رسولنا في إبلاغ الدين، ونقل أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فديننا أخذناه عنهم، وهم الذي بلغونا إياه عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: [قوله: (رأى رجلاً) في رواية الحاكم: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال: ما هذه؟) الحديث، فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث.
قوله: (ما هذه؟) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أظهر.
قوله: (من الواهنة) قال أبو السعادات: الواهنة عرق يأخذ في المنكب واليد كلها فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهى عنها؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد.
قوله: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالباً، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه].
وقد يكون الشيء المحرم فيه منفعة، ولكن ليس كل ما فيه منفعة يجوز استعماله أو فعله، وقد قال الله جل وعلا في الخمر والميسر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فأخبر أن فيها من المنافع، ولكن الضر أكبر.
وهكذا المحرمات، قد ينتفع الزاني بالزنا وهو محرم، فليس كل شيء فيه نفع يجوز فعله، بل يجب أن يتبع الإنسان في ذلك شرع الله، فما أباحه الله جل وعلا وأذن فيه فعله، وما منع منه يجب أن يمتنع منه سواء كان فيه نفع أو ليس فيه نفع، والغالب أن ما نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله أن نفعه مستغرق في مضراته، وضره أعظم وأشد وأكثر.(35/7)
مسألة العذر بالجهل
قال الشارح: [قوله: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالباً، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه قوله: (فإنك لو مت وهو عليك ما أفلحت أبداً)؛ لأنه شرك، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه شاهد لكلام الصحابة رضي الله عنهم أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك].
ذكر المؤلف أنه لا يعذر بالجهل أحد؛ لأنه قال صلوات الله وسلامه عليه: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وهذا الخطاب موجه إلى الصحابي رضوان الله عليه، فيقول: إن هذا يدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل؛ لأنه كان جاهلاً بالحكم، ولو كان يعلم أن هذا من الشرك لم يكن ليقدم عليه، ومع ذلك يقول له: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) فدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل، في الأمور التي تعبد الله جل وعلا بها عباده، مثل تعلق ودعاء وطلب النفع، ودفع الضر، وما أشبه ذلك مما هو من توحيد الله جل وعلا.
الإنسان لا يعذر بجهله في ذلك، فكيف بمن صرف أصل العبادة لله جل وعلا في السجود والنداء وطلب كشف الكربات وإجابة الدعوات، وما أشبه ذلك مما يفعله كثير ممن هو في بلاد المسلمين ويصلي ويصوم، ويزعم أنه مسلم في ذلك؟! إذا قارنا بين فعل هؤلاء مع ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تبين البون الشاسع.
وذلك أن الله جل وعلا خلق عباده لعبادته، وفطرهم على ذلك، فالعبادة أمر مفطور عليه الإنسان؛ ولهذا السبب تجد أن الذي لا يعبد الله لا بد أن يعبد غيره، فلا يمكن أن يوجد بنو آدم منفكين عن العبادة نهائياً حتى الملاحدة، الملاحدة الذين يزعمون أنه لا إله والحياة مادة، وأن الأديان كلها خرافة هم يتعبدون، ولكن للشيطان! ويعبدون شهواتهم من فروجهم وبطونهم وساداتهم الذين يوجهونهم ويأمرونهم وينهونهم، فهم عباد لهؤلاء، فسنة الله جل وعلا في خلقه أن الذي لا يعبد الله يعبد الشيطان باختلاف مظاهره.
فالشيطان له مظاهر كثيرة، قد يظهر في مظهر صورة بارزة، وقد يظهر بمظهر شخص، وقد يظهر بمظهر شهوة وهوى، إلى غير ذلك، فالمقصود أن عبادة الله جل وعلا لا يجوز أن يكون الإنسان جاهلاً فيها، بل لا بد أن يكون على علم ويقين.
يدل على هذا أنه جاء في حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل ميت يسأل في قبره عن ثلاث: يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وإذا تلعثم أو تردد أو قال: ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لم يقبل ذلك منه، بل يعذب ويقال له: لا دريت ولا تليت، ومعنى ذلك أنك كنت مقلداً ليس عندك علم، وليس عندك يقين وبرهان من هذا الدين الذي جاءت به الرسل، وكنت لا تعبد إلا الله جل وعلا.
فهذا لا يعذر فيه إنسان، ولا بد من مساءلة الميت عن ذلك، فإن كان موقناً عن علم ويقين فإنه يجيب، وإذا كان متردداً جاء بالتردد، ويقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، عند ذلك يعذب، فيضربه الملك بمطراق من حديد يلتهب عليه قبره ناراً -نسأل الله العافية-، وهذا يدلنا على أنه غير معذور بجهله في أصل الدين، فعلى الإنسان أن يهتم بهذا.(35/8)
التوبة تجب ما قبلها
مما نستفيده من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، أن الرجل إذا ترك الذنب وتاب منه لم يضره، وأن أولياء الله يقعون في الذنوب، فإن عمران بن حصين من أولياء الله، وقد مر معنا أن الملائكة كانت تسلم عليه، وهو أخبر بذلك رضوان الله عليه، قال: كان بي بواسير فاكتويت، فذهبت ثم تركت ذلك فعادت، والصحابة رضوان الله عليهم كلهم من أولياء الله، بل هم أفضل أولياء الله من هذه الأمة، بل هم أفضل أولياء الله على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل، فما كان مثلهم، هم الذي صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلموا الإيمان منه، وتربوا على يديه، وقاتلوا مطيعين له ناشرين لدين الله، ثم أخذوا الدين عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وبلغوه لمن بعده.
فلهذا يكون لهم أجر من أتى بعدهم وأخذ عنهم، والذين أخذوا عن الذين أخذوا عنهم، يكون لهم من الأجر مثل أجور هؤلاء، وربما امتد الأمر إلى يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر المهتدين شيئاً.
ولا يمكن أن يكون الإنسان منفكاً عن الذنوب؛ ولهذا جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم)؛ وذلك أنه لا بد أن تظهر آثار أسماء الله جل وعلا وصفاته، فهو الغفور الرحيم التواب البر الذي يرحم ويعفو ويغفر ويستر ويجبر، فآثار أسمائه وأوصافه لا بد أن تظهر على عباده، فالذي يقترح أن المؤمن لا يقع في الذنوب فهو جاهل في الواقع، وهو اقتراح لا يمكن وجوده، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، الذين يتوبون ويرجعون.
وفي الحديث الصحيح عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الله جل وعلا: (إن عبداً من عباد الله أذنب فقال: ربي! إني أصبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب اغفر لي، فقال الله جل وعلا: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب اغفر لي، قال الله جل وعلا: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، اعمل ما شئت) يعني: كل ما أصبت ذنباً فاستغفرت فإن الله يغفره، ولو تكرر ذلك مراراً، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان يصر على فعل الذنوب، ويصير الذنب محبوباً إليه، ويصير عزمه الإقامة على فعله، ولا يريد تركه، وإنما يستغفر بلسانه، فإن هذا يسمى استغفار الكاذب، ولكن المعنى أنه يندم إذا وقع في الذنب وتركه وأسف على وقوعه فيه وعزم على ألا يعود إليه، وإذا كان بهذه المثابة ولو يقع في اليوم في ذنوب كثيرة، ويتصف بهذه الصفة؛ فإن الله يغفر له ولا يبالي.
فالمقصود أن أولياء الله لا ينفكون عن الذنوب، ولكن يوفقهم الله جل وعلا للتوبة.(35/9)
ترجمة الإمام أحمد بن حنبل
قال الشارح: [قوله: رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به، هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان - الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي، إمام أهل عصره، وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعاً ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها.(35/10)
شيوخ الإمام أحمد وتلامذته
خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول، وطلب الإمام أحمد العلم سنة وفاة الإمام مالك، وهي سنة تسع وسبعين ومائة، فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي، وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد، روى عنه ابناه صالح وعبد الله والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوي وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين، قال البخاري رحمه الله: مرض أحمد ليلتين خلتا من ربيع الأول، ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة، وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد: مات في ثاني عشر ربيع الآخر رحمه الله تعالى].(35/11)
محنة الإمام أحمد
الإمام أحمد رضي الله عنه ممن جعل الله جل وعلا له لسان صدق في الآخرين؛ بسبب تقواه وقيامه بأمر الله جل وعلا، وصبره على البلاء؛ لأن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين، وقد تحلى هو بذلك رضي الله عنه.
وقد ابتلي في دولة المعتزلة، وذلك لما كانت المعتزلة لهم الدولة، وكانوا هم الذين تخرج على أيديهم خلفاء المسلمين، فغروا خلفاء المسلمين، وزينوا لهم الباطل، ثم أمروهم بفتنة الناس وابتلائهم، وكان إذا تردد الخليفة في شيء من الأمر جاءوا إليه يقسمون له، ويحلفون له، ويقولون: إذا كان في هذا الأمر إثم فهو علينا، نحن نتحمله عنك، ويحلفون له بذلك، وقد يقولون: اقتل هذا الرجل وأنت مأجور، وإذا كان فيه إثم فهو علينا.
وقد أمروه بقتل الإمام أحمد وقالوا له مثل ما قالوا لغيره، وصار الأمر صعباً جداً، فهم أمروا الخليفة بأن يمتحن الناس بخلق القرآن، وكل من لم يقل: إن القرآن مخلوق يجب أن يقتل، ولا سيما العلماء، فبدءوا بالعلماء الكبار؛ لأنهم قدوة الناس، فقتلوا خلقاً على ذلك بهذه الفتنة.
أما الموظفون في الجيش أو في القضاء أو في غير ذلك، فإذا لم يجب أحدهم إلى ذلك فإنه يعزل ويطرد ويمنع من العطاء يعني: من بيت المال الذي هو حق لجميع المسلمين، هذا إن لم يقتل، فصارت فتنة عظيمة.
لهذا صار الإنسان يؤتى به مقيداً بالحديد من أول الأمر وإن كان من كبار العلماء، ويؤتى به إليهم في مجالسهم التي فيها من الأبهة ومن الأمور التي تبهر، وليس بينه وبين أن يقتل إلا أن يقال: اقتلوه فقط؛ فلهذا أجاب كثير من العلماء بالقول بأن القرآن مخلوق، وهم يعتقدون أنه كلام الله صفة من صفاته خوفاً من القتل.
وصبر الإمام أحمد على ذلك، وضرب حتى أغمي عليه مراراً، يضرب حتى تسيل الدماء من جسده كله، ثم سجن ما يقرب من سنتين، وكل ذلك وهو صابر، ويقول: القرآن كلام الله، وبذلك جزاه الله جل وعلا في الدنيا قبل الآخرة الذكر الحسن، وكذلك القبول في جميع الأمة، فلا تجد من يتكلم فيه وإن كان مخالفاً له وعدواً له لهذا السبب، وهذا من نصر الله جل وعلا؛ لأنه وعد جل وعلا أن من ينصر الله ينصره.
وقد قتل من نظرائه خلق من العلماء بهذا السبب، قتلوا لأنهم قالوا: إن القرآن كلام الله، ولكن الإمام أحمد لما كان له من الشهرة ومن العلم والقبول عند الناس ثم صبر وقاوم هذه الفتنة العارمة العظيمة؛ جعل الله جل وعلا له من الذكر والقبول ما يناسب ذلك.(35/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [36]
حرم الله تعالى الشرك به صغيره وكبيره، ومن ذلك تعليق التمائم والخيوط لدفع الضر أو تخفيفه، وقد أنكر ذلك الصحابة، وعدوه شركاً، والشرك وإن كان من النوع الأصغر؛ إلا أنه أعظم جرماً من الكبائر.(36/1)
معنى حديث: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)
قال المصنف رحمه الله: [وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)].(36/2)
حكم التعلق بالتمائم ومعناه
التعلق يقصد به تعلق القلب، ويقصد به تعلق الفعل، يقصد به هذا وهذا، ومن يعلق تميمة لا بد أن يكون قلبه تعلق بها، وهذا شرك.
والتميمة هي كل ما يعلقه الإنسان على بدنه أو في سيارته أو في بيته، أو في متجره، أو في مصنعه، يريد بذلك أن يدفع عنه عين الإنسان أو أذى الجان أو ينفعه في شيء من المنافع، سواء كان المعلق من القرآن، ومن أسماء الله وصفاته، أو من أسماء الشياطين والجن، أو من الحروف والطلسمات التي يفعلها الكهنة والسحرة وأشباههم من الجهال.
ولكن إذا كان المعلق من القرآن، ومن صفات الله جل وعلا وأسمائه فقد اختلف العلماء في ذلك كما سيأتي، منهم من جوزه وقال: إنه جائز، ومنهم من منعه، وجعله من قسم الممنوع الذي لا يجوز فعله، وسيأتي بحث ذلك في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله.
والتميمة سميت تميمة من باب التفاؤل -كعادة العرب- تفاؤلاً بأن من علقها يتم له أمره، كما أنهم يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً بأنه سيسلم، ويسمون الأرض المهلكة التي ليس فيها لا ماء ولا أناس ولا قرى مفازة تفاؤلاً بأن الذي يسلكها سيفوز وينجو، وهذا كثير في كلام العرب، ومنه تسميتهم التميمة تفاؤلاً بأنه سيتم مقصوده، ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من فعل ذلك ألا يتم الله له أمره، فقال: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) فهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعامل بنقيض قصده ومراده، وفي هذا دليل على أن من ارتكب معصية أنه يستحق الدعاء، وأنه يعاقب بنقيض ما أراد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه.
وأما الودع فهو شيء يستخرج من البحر، وهو معروف، ويعلقونه على أولادهم زعماً منهم أنه يقي من أذى الجن، أو يقي من عين الإنسان، وقد يعلقونه على البهائم، وقد يعلق على غير ذلك، ولكن تختلف الأحوال الآن فهناك أمور جدت، المعنى واحد والأسماء اختلفت، فقد يعلق بعضهم الآن سلسلة من صفر أو من فضة، أو خاتماً يوضع فيه فص، أو نحو ذلك، ويزعم أنه ينفع من أمراض معينة، ومن أذى الجن، وأذى الإنسان الذي يصيب بالعين، وقد يؤخذ مثلا ًحلقة من فضة، ويزعم أنها تمنع من البواسير، وقد يجعل في عضده حلقة من صفر، أو سلسلة من نحاس، ويزعم أنها تنفع من الروماتيزم، أو تنفع مما يسمى واهنة، وهي نوع من الروماتيزم، ولكن فيها عقائد جاهلية، كل هذه من أمور الشرك، ومن أمور الجاهلية، ويجب على المسلم أن يطهر نفسه واعتقاده منها، وكذا من له به صلة من أهله وأولاده؛ لئلا تصيبه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئلا يعاقبه الله جل وعلا على الشرك.(36/3)
مرتبة الشرك الأصغر بين الذنوب
وقد مر معنا حديث عمران أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (لو مت وحلقة الصفر عليك ما أفلحت أبداً)، وإن كان هذا قد يكون شركاً أصغر، والشرك الأصغر لا يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، ولكنه أكبر من الكبائر، فهو أكبر من الزنا ومن السرقة، فيستحق عليه العذاب إن لم يتب منه، أو يعفو الله جل وعلا عنه.
وقد قال بعض العلماء: إن من وقع في ذلك ولم يتب منه فإنه لا بد من تعذيبه، وأن ذلك لا يدخل تحت المشيئة التي قال الله جل وعلا فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته جل وعلا إن شاء عفا عنها بدون مؤاخذة، وإن شاء عاقب صاحبها، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة، أما الشرك فإنه لا يغفره.
ويقول البعض: إن الشرك الأصغر داخل في الأكبر، فلا يوجد شيء يخرجه؛ لأن هذا عموم يشمل الأكبر والأصغر: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ))، ولبس الحلقة من الشرك، فهو لا يغفر إلا بالتوبة منه.
فإذا كان الأمر هكذا فيتعين على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور الجاهلية، وهذه الاعتقادات الفاسدة، وليعلم أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله جل وعلا، وإن كان الإنسان يقول: أنا أعلم ذلك ولكن هذا سبب، قد يقول قائل هذا القول، ولاسيما إذا وصف ذلك الأطباء مثلاً، فربما ركن إلى ذلك أكثر، فيقال: الأطباء ليسوا مرجعاً في هذا، المرجع في هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الأطباء جهلة بدين الله لا يعرفون شيئاً منه.
وليس كل ما فيه نفع يكون جائز الفعل، فعبادة الشيطان قد يكون فيها نفع لمن يعبد الشيطان، مثلاً إذا عبد أحد الشيطان يذهب الشيطان ويأتيه بشيء مما يريده ويطلبه من أمور الدنيا أو المنافع المعنوية، وهذا يقع كثيراً وهو من أعظم المحرمات، فليس الشيء الذي فيه منفعة مباحاً، بل يجب على الإنسان أن يتقيد بشرع الله جل وعلا، ويتقيد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه الأمور في الواقع لا تنفع ولا تضر، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] يعني: هو كافي من توكل عليه، فمن يكون حسبه فهو يكفيه وحده.
وهؤلاء المشركون يعلمون أنها لا تملك النفع الذي يرسله الله جل وعلا إلى عبده، ولا تدفع عنه الضر الذي يريد الله جل وعلا به عبده، وإنما كانوا يتعلقون بها يطلبون شفاعتها هذا هو أصل عبادتهم؛ وذلك لأنهم عندهم عقول أدركوا بها أن الله جل وعلا هو الذي خلق كل شيء، وهو الذي ملك كل شيء، وهو الذي يتصرف بكل شيء، ولكن لما فقدوا نور النبوة دخل عليهم النقص شيئاً فشيئاً حتى صاروا مشركين لأوثانهم وأصنامهم من الأشجار والأحجار وغيرها، ويقولون فيها كلها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والعبادة هي اتجاه إلى الشيء بدعاء أو تعلق بالقلب.
فلا يجوز للإنسان أن يفعل شيئاً من ذلك، وأهم ما لدى الإنسان دينه، وإذا سلم له دينه فهو السعيد، أما إذا فسد الدين فلو أتته الدنيا كلها بحذافيرها فإنها لا تغني عنه شيئاً.(36/4)
معنى قوله: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)، هذا أيضاً دعاء عليه، ومعنى (ودع له) يعني: ما جعله الله في دعة وسكون، والدعة هي الراحة، يعني: دعاء عليه بالقلق وعدم السكون بنقيض ما أراد وقصد.
ويحتمل أن يراد بهذا الخبر وبالذي قبله أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن من تعلق تميمة فإن الله لا يتم له مراده، بل يعاقبه بنقيض قصده، وكذلك من علق ودعة، فإن الله لا يدعه في دعة وسكون وراحة، بل يعامله بنقيض ما أراد فيكون سقيماً قلقاً، أصيب بنقيض ما طلب جزاءً عادلاً قبل الآجل، وسواء كان خبراً أو كان دعاء فإنه يدل على أن هذا من المحرمات.
وأما في الرواية الأخرى التي فيها: (من تعلق تميمة فقد أشرك) فهذا صريح بأن تعليق التميمة شرك، وقد يكون شركاً أصغر، وقد يكون أكبر بحسب ما يقوم بقلب الإنسان وفعله من التعلق بذلك، إن كان يعتقد أن هذه التميمة تدفع بنفسها وتنفع، فهذا من الشرك الأكبر، وإن كان يعتقد أن الله جعلها سبباً، فهذا من الشرك الأصغر، ومعلوم أن الشرك الأكبر ينافي التوحيد مطلقاً، أما الشرك الأصغر فلا يكون الإنسان خارجاً به من الدين الإسلامي.(36/5)
تخريج الحديث وكلام العلماء في ألفاظه ومعناه
قال الشارح: [الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
قوله: وفي رواية، أي: من حديث آخر رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن أسلم قال: حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة، وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله! بايعت تسعة وأمسكت عن هذا! فقال: إن عليه تميمة، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك) وروى الحاكم نحوه ورواته ثقات.
قوله: عن عقبة بن عامر صحابي مشهور فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لـ معاوية رضي الله عنه ثلاث سنين، ومات قريباً من الستين.
وقوله: (من تعلق تميمة) أي: علقها متعلقاً بها قلبه في طلب خير أو دفع شر، قال المنذري: خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة، وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام.
وقوله: (فلا أتم الله له) دعاء عليه.
وقوله: (ومن تعلق ودعة)، الودع: بفتح الواو وسكون المهملة قال في مسند الفردوس: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين.
وقوله: (فلا ودع الله له) بتخفيف الدال أي: لا جعله في دعة وسكون، قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه].
التميمة مثل ما يكون من خرزات، بل من أي نوع كان، فإذا علق الشيء سواء من خرزات أو من حجر أو من نحاس أو من صفر أو من فضة وذهب أو غير ذلك، لهذا الغرض فإنه يكون تميمة.
وكذلك إذا كان فيه كتابة في ورق، أو في جلد، أو في خرقة، وما أشبه ذلك، وعلق فإنه تميمة، ولكن إذا كان هذا الذي علق من القرآن، أو من أسماء الله جل وعلا، والأدعية التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه خلاف كما سيأتي، هل يجوز أو لا يجوز؟ من العلماء من جوزه، ومنهم -وهم الأكثر والجمهور- من منعه، وسيأتي ذكر الأدلة على ذلك والترجيح في هذا.
[قوله: وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك) قال أبو السعادات: إنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه].
الواقع أنهم أرادوا الدفع مطلقاً، ولا يلزم أنهم أرادوا منع المقادير، وإنما أرادوا أن ينتفعوا بذلك، وأن يمتنع عنهم الشر، ويكون ذلك سبباً.
ومعلوم أنهم يعلمون أن الذي يقدر المقادير ويخلق هذه الأمور هو الله، ولكن يرون أن هذا سبب، والواقع أنه ليس سبباً، ولهذا خرجوا عن الأمر المعتدل الذي يدركون به مرادهم إلى عكس ما أرادوا من النفع، ووقعوا في الضر من ذلك، فهم أرادوا النفع مطلقاً والدفع مطلقاً.
أما إضافة رد المقادير فقد لا يخطر في بالهم مثل هذا، فإذا انضاف إليه فهو زيادة شر على شر؛ لأن ما قدره الله لا بد أن يقع، ولكن الإنسان لا يدري ماذا قدر له، فهو يفعل سبباً، والسبب الشرعي المباح مأمور بفعله، ولكن هذا ليس منه، هذا أمر محرم لا يجوز فعله.(36/6)