بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد ، وعلى آله ، وصحبه أجمعين
وبعد
أخي العزيز
وصلتنى رسالتكم ، والحمد لله أنَّكم متمتِّعون بالصحة الجيدة ، وأنَّكم مستمرون في الدراسة ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينكم ، وأنْ تعودوا إلى أهلكم ، وبلادكم ، وأنتم في أحسن حال.
والذي دفعني إلى هذه الرسالة الشفوية إليكم : هو ما كتبتم لي من السؤال عن ما وقع عندنا هنا في المملكة من فتنة أثارها المدعو محمد علوي مالكي ؛ وتقول لي : إن "حوار مع المالكي" الذي ألَّفه الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع وصلكم ، وقد استفدتم منه ، وتعجبتم ، أو بتعبيركم "ذهلتم" من هذه الأمور ، وهذه الشركيات ، وهذه المنكرات ، وكيف أن هذا الرجل يرتكبها ، ولكن - كما تقولون – وصلكم كتاب ؛ بل بالأحرى عدة كتب أهمها : كتاب "الرد على بن منيع" الذي ألَّفه يوسف هاشم الرفاعي الكويتي ، وتقول أيضاً : أنَّه وصلكم أخيراً كتابان ألَّف أحدَهما رجلٌ من البحرين سماه "إعلام النبيل" ، والثاني : ألَّفه اثنان من المغاربة وسمَّياه "التحذير من الاغترار بما جاء في كتاب الحوار" ، وتطلب مني باعتباري – كما ذكرتَ – متخصِّصاً في العقيدة ، ومقيماً هنا في البلاد ؛ بأن أكتب إليك مرئياتي عن هذا الموضوع ، وعن حقيقة الخلاف بيننا وبين الصوفية ، وهل الصوفية تعتبر هي أهل السنة والجماعة كما يزعم هؤلاء ؟ وبقية الأسئلة التي - إن شاء الله - سآتي عليها من خلال هذه الرسالة .(1/1)
فأنا - يا أخي - أعتذر لك عن الكتابة ؛ لأنَّ مطلبك هذا الذي طلبتَه أن أكتبه ؛ يحتاج إلى رسالةٍ ، وكما تعلم أنني مشغول جداً برسالتي التي أحضِّرها الآن ، فكيف أستطيع أن أكتب لك رسالة أخرى عن التصوف ، ونشأته ، وعن الخلاف بيننا وبين أهله !! هذا كلامٌ طويلٌ جدّاً ، ونحن أحوج ما نكون إلى المنهج العلمي ، التفصيلي ، الذي ينبني على الأدلَّة ، والذي يتثبت ، والذي ينقل مِن كتب هؤلاء القوم ، ويتتبع أصول هذه الفرق جميعاً ليردَّ عليها ردّاً علميّاً ، صحيحاً ، سليماً ، وهذا يتطلب جهداً كبيراً ، وأمَّا مجرد خطبة عابرة ، أو نقد عابر ؛ فهذا من الممكن أن يكون في وريقات ، لكن الذي أراه أنَّنا – نحن – أمام هجمة صوفيَّة شديدة .
وكما ذكرتم لي سابقاً - عندكم في أمريكا - تلاحظون أنَّ التصوف بدأ ينتشر ، وبدأ كمحاولة للصدِّ عن سبيل الله تعالى ! أي أنَّ الأمريكي الذي يريد الدخول في الإسلام يقال له : ادخل في هذا الدين ! فيدخل في التصوف ، فيُحرم المسلمون منه ، وربما ينفرون! - كما حدثْتني عن بعضهم - لأنَّه إذا رأى ما في التصوف مِن الخرافات ؛ ينفر مِن الإسلام نهائيّاً وينفِّر غيره ، ويقول لهم : خرافات النصرانيَّة أخفُّ مِن خرافات الإسلام، وهذا - والعياذ بالله – مِن صور الصدِّ عن سبيل الله .
ولاشك - يا أخي - لديَّ أنَّ وراء ذلك مؤامرات يحيكها أعداء الإسلام من اليهود ، والنَّصارى ، مستغلِّين هؤلاء الصوفيَّة الذين كثيرٌ منهم زنادقة متسترون يريدون هدم الإسلام مِن الداخل ، وعندما أقول ذلك لا تفهم منِّي أنَّني أقول إنَّ كلَّ مَن يحضر المولد زنديق ! أو كل مَن يحب الطرق الصوفية زنديق ! .(1/2)
ليس هذا هو المقصود ، المخدوعون كثيرٌ بالدعوات ، ولكن نحن نتحدث عن التصوف كفكرة ، وكعقيدة لها جذورها القديمة ، ولها فلسفاتها المستقلة ، ونتحدث كيف دخلتْ في الإسلام ، وكيف خُدع بها أكثر هذه الأمة ، فالذي نحكم عليه هي الصوفيَّة ، وأنتم تعرفون "الثيوصوفية" .
"الثيوصوفية"، هذه التي في أمريكا ، والتي عرَّفها صاحب المورد العربي الإنجليزي زهير بعلبكي بأنَّها فرقة حديثة ، نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية ، وليست في الحقيقة حديثة بالمعنى الذي ذكره "المورد" ، "الثيوصوفية" قديمة ، وسأتحدث عنها - إن شاء الله- عندما أبدأ بموضوع "نشأة التصوف".
لكن بخصوص سؤالكم أنت وزملائكم في المركز ، وبعض إخوانكم في الله من المسلمين في أمريكا عن حقيقة ما جرى مِن هذه المشكلة ، وعن موقف هؤلاء الذي دافعوا عن المالكي بخرافاته ، وهو أنَّهم كثيرون -كما تقولون - .(1/3)
أقول لكم - يا أخي - : ما جرى مع المالكي ليس في حاجةٍ إلى أن يدافع عنه أحد على الإطلاق، لأنَّ المسألة : مسألة اعتراف وإقرار ، والاعتراف هو سيِّد الأدلة ، هذه حقيقة معروفة ، فمحمد علوي المالكي اعترف هو بنفسه في محضرٍ رسمي أمام الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله ، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، ورئيس الحرمين ، وكُتب هذا الاعتراف في محضرٍ رسميٍّ ، والمعاملات محفوظة ، ولدى الإفتاء ، ولدى مجلس القضاء الأعلى، ولدى شئون الحرمين ، معاملات ، وصور ، وملفات لهذه القضية ، فيها اعترافات الرجل ، الرجل معترف بأنه ألَّف "الذخائر" ، وكتاب "الذخائر" ليس هو الذي ألَّفه ؛ لانَّ كتاب "الذخائر" عندي ، ومذكور فيه – وأنا الآن أفتحه أمامي– ما يدل على أنَّ هذا الكتاب مِن تأليف والده في صفحة 33 منه ؛ لأنَّه يقول إنَّه سافر إلى المدينة ، واطلع على المخطوط عام 1354هـ ، فهذا على ما هو معروف من عُمُر محمد علوي مالكي أنَّه لم يكن قد ولد في تلك الفترة ، أو على أكثر تقدير أنَّه مازال طفلاً ؛ فالذي كتبه إذاً هو أبوه ، المهمُّ أنَّه اعترف بأنَّه ألَّف هذا الكتاب ، وأنَّه له ، وما فيه من الأمور الشركية : يقول : إنَّني نقلتُها عن غيري ، وأخطأتُ ! وفاتني أن أنبِّه على أنَّها شركٌ - يمكنك مراجعة صفحة (12) ، وصفحة (13) من كتاب الحوار للشيخ ابن منيع - .
فما دام الرجل اعترف ، ومادام المتهم المجرم الجاني اعترف ، فما الدَّاعي إلى أن يأتي أحدٌ ويدافع عنه، ممكن ادَّعى الإكراه !!؟ كان ينبغي ويجب عليه أن يبين ، وأن يقول : أنا أُكرهت على ذلك ، وأن ينشر ذلك في داخل المملكة ، أو في خارجها ، أو يقوله للنَّاس إذا جلس معهم .(1/4)
أمَّا نحن فكما تعلم كم يُقطع من الرقاب في الحدود ، عندما تقطع رقاب ، أو أيدي ، أو يُجلد ، بناء على الإقرار أمام قاضي عادي في محكمةٍ شرعيَّةٍ من المحاكم في المملكة ؟ فينفَّذ الحدُّ على المجرم بإقراره أمام هذا القاضي ، ربما يكون قاضي حديث العهد ، خرِّيج كليَّة ، فما بالك برئيس مجلس القضاء الأعلى !؟ وبرئيس الإدارات العلمية ، والبحوث ، والإفتاء !؟ وبرئيس الحرمين الشريفين !؟ ومَن حضر معهم مِن العلماء – وهم كبار العلماء في المملكة - !؟.
هل يخطر ببالكم – يا أخي – أنَّ هؤلاء العلماء يتواطئون جميعاً ، ويتفقون على أن يفتروا على الرجل محضَراً ، وينسبوا إليه فيه أنَّه اعترف ، وأنَّه أقر أنَّ هذا شرك !؟ كيف يمكن هذا وهُم سجَّلوا عليه اعترافه ، وهم ليسوا محل التهمة ، وليس هناك مِن داعٍ لأن يظلموه!؟ ولو أنَّه أنكر تأليف الكتاب بالمرَّة لقالوا ذلك ، كما ذكروا أنَّه أنكر كتاب "أدعية وصلوات" – مثلاً - ، ذكروا أنَّه أنكره في هذا المحضر ، والمحضر أصبح الآن وثيقة تاريخية .
هذه الإدارات الثلاثة بالإضافة إلى مجلس الوزراء ؛ تحتفظ – جميعاً – بطبيعة الحال بأرقام لهذا المحضر وبملفات له .
فمَن اعترف ، ومَن أقر بأنَّ هذه الأمور شركٌ لا يحقُّ له - فضلاً عن أحدٍ من اتباعه الذين يعيشون في المغرب ، أو في البحرين ، أو في الكويت ، أو غيره - أن يدافع عنه ، أو أن يقول إنَّه مظلوم ، أو أن يتنحَّل له العلل ، والمعاذير - هذا بالنسبة له في ذاته -.
القضية الأخرى : قد تكون قضية جزئيَّة ، أو فرعيَّة ، لكنَّها مهمَّة من ناحية أخرى ، وهى قضية نسب الرجل !!
تقولون : أنَّه ما كان ينبغي للشيخ ابن منيع أن يشكك في نسب الرجل !(1/5)
أنا أقول لكم - يا أخي - : أنتم تعرفون الوضع عندنا هنا ، تعرفون الأشراف المقيمين عندنا في الحجاز ، وتعرفون كم مِن الأُسَر يتبرأ منها الأشراف الموجودون حاليّاً في مكة ، يتبرؤون مِن أُسَرٍ كثيرةٍ ويقولون : إنَّ هذه الأُسَر تدَّعي النَّسب لآل البيت وليست منَّا ! إمَّا أنَّهم ليس عندهم شجرة، أو أنَّ شجرتهم مكذوبة .
وتعرفون ما فعله "العبيديون القرامطة" في بلاد المغرب مِن ادعائهم النَّسب الشريف ، وهم ليسوا منه، فهذه - يا أخي - ليست القضية قذف كما يزعم هؤلاء المغفلون ، يقولون إنه قاذف !!
إذا جاءنا رجل مِن جنس القوقازي ، أو الجنس الصيني ، أو من أي بلدٍ ، وادَّعى أنَّه مِن أهل البيت ؛ فنحن – على كلامه – أمام خيارين : إما أن نقول نعم ، هذا مِن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما أن نقول لا ، فيقولون : أنتم قذفتموه !
لا يا أخي النسب هذا علمٌ معروفٌ ، وفى علم النَّسب يقال هذه القبيلة تنتسب إلى كذا ، ولا تنتسب إلى كذا ، وأخطأ من نسبها إلى كذا ، أو ادِّعاؤه أنَّ فلاناً مِن قبيلة كذا ليس صحيحاً ! وإنما هو من قبيلة كذا .
فهم الآن لم يقذفوا أمَّ رجل معين بأنَّها - والعياذ بالله – زنت ! ليس هذا هو القذف ، هذا تصحيحٌ للنَّسب ، هذا تطهير لنفس النَّسب الشريف ، وإلا لادَّعى كلُّ مدَّعٍ ما شاء، والنَّسب هذا يترتب عليه إرثٌ ، ويترتب عليه أحكامٌ مثل - ما تعلم - أنَّ آل البيت تحرُم عليهم الزكاة ، و لهم الخمس ، و لهم كذا ، كأحكام كثيرة تترتب ، وتتوقف على ثبوت ذلك ، فكون الإنسان يتأكد منه هذا لا يعني القدح ، ولا يعني الطعن ، وكون الإنسان يشكِّك فيمن هو أهلٌ لأن يُشكَّك في نسبه ؛ أنا أقول لك بصريح العبارة : إنَّ الشيخ ابن منيع ربما ليس لديه الأدلَّة الكافية ، أو القراءة الكافية عن بعضهم، لكن أنا أقول إنَّه على حقٍّ ، على حقٍّ في التشكيك في نسب المالكي ، بدليل :
أولاً :(1/6)
هناك أقرباء لمحمد علوي مالكي موجودون الآن في مكة ، وهم - مِن فضل الله - معتزلون لشركياته، وضلالاته ، وهؤلاء يقولون : نحن نعرف أنَّ جَدَّنا مِن المغرب ، وقدِم إلى مكة .
أمَّا قضية النَّسب ؛ فهذا أمر يعلمه الله سبحانه وتعالى ، غير متأكدين ، ولا يثبت ، ولا يجزمون في ذلك ، هؤلاء مِن نفس أسرته يجمعهم وإياه جَدٌّ واحدٌ .
هذا شيء .
والشيء الآخر :
عندنا زعماء التصوف - يا أخي - ننظر إلى تاريخهم ، الرفاعي - مثلاً – كمثال : هاشم الرفاعي - الذي ردَّ على ابن منيع - يسمِّي نفسه يوسف السيد هاشم الرفاعي ، ويذكر في كتابه "استدلالات من كتاب" : السيد أحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية، أحمد الرفاعي هذا يقول عنه الشعراني في "الطبقات الكبرى" - وهو أكبر طبقات المتصوفة، ومِن أوثق مراجعهم - يقول في ترجمته :
ومنهم : الشيخ أحمد بن أبي الحسين الرفاعي رضي الله تعالى عنه ، منسوبٌ إلى بني رفاعة - قبيلة من العرب - ، وسكن أم عبيدة بأرض البطائح إلى مات بها رحمه الله !! .
انظر : رفاعة القبيلة المعروفة عندنا الآن في الحجاز هنا ؛ هذه القبيلة ما هي من قريش أصلاً ، فكيف يكون الرفاعي قرشياً ! فضلاً عن أن يكون مِن آل البيت ؟
لو أنَّ رجلاً مِن أقرب النَّاس إلى آل البيت ، مثلاً رجل من بني أميَّة لا يجوز له أن يقول أنا مِن آل محمد صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنَّه من ذرية الحسن والحسين ، أو غيرها ، وإن كان من نفس قريش ، ومِن أسرةٍ قريبةٍ مِن آل البيت لا يجوز له ، فكيف يجوز لرجل مِن "رفاعة" ؟ بل الرفاعي هو لم يدَّع – فيما أذكر - ، وهذا الشعراني يقول إن رفاعة قبيلة من العرب منسوب إليها هذا الرجل .(1/7)
أيضاً : الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" الجزء الثاني عشر في ترجمة أحمد الرفاعي ، يقول : إنَّه منسوب إلى رفاعة قبيلة مِن العرب ، هذا الرجل يدَّعي له بعض الصوفية أنَّه مِن آل البيت ويعملون له شجرة ، ومنهم ابن الملقن – مثلاً - في "طبقات الأولياء" صفحة 93 ، وأحد الرفاعية الموجودون في هذا العصر ، الذي ألَّف كتاباً وهو "أبو الهدى الصيادي" عنه ؛ هؤلاء يقولون : إنَّ الرجل مِن آل البيت ، ويعملون له شجرة! ويصرُّون على نسبته إليهم ، ويضعون أمام اسمه كلمة السيِّد ، أو سيدي ، فإذاً نحن في الحقيقة من حقنا أن نشك ؛ لأن هناك سوابق .
أيضاً: مثلاً الشاذلي : فالشاذليَّة الآن يدَّعون ما تدَّعيه الرفاعية أنَّ الشاذلي مِن آل البيت! بينما مثلاً ابن الملقن هذا نفسه الذي ذكر شجرة نسب الرفاعي ، يقول في ترجمته الشاذلي: اسمه : على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف أبو الحسن الهذلي الشاذلي .
يقول : وقد انتسب في بعض كتبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب .
هل لاحظتَ ؟ يعني : هذا مِن هذيل ، وهذا من رفاعة ، وكلٌّ منهم يدَّعي أنَّه مِن ذرية الحسين أو الحسن أبناء على بن أبى طالب فكيف يُصدَّق هذا ؟(1/8)
ويقول ابن الملقن : إنَّ الشاذلي ذكر نسبه ، ثم وصَّل ذكر هذا النَّسب إلى على بن أبى طالب ، قال ابن الملقن : وتُوقِّف فيه ، يعني : لا نستطيع أنْ نجزم بأنَّ الشاذلي أيضاً مِن ذرية الحسن ، وإنَّما هو مِن هذيل ، فإذا كان هذا مِن رفاعة ، وهذا مِن هذيل ، فأين هاتان مِن قريش ، فضلاً عن بني هاشم، فضلاً عن الحسن والحسين رضي الله عنهما؟ فهذا يدل على أنَّ للعبيديين خلفاً كثيراً ، وأنَّ كثيراً مِن الملايين التي تنتسب إلى آل البيت في إيران ، وفي المغرب ، وفي حضرموت ، وفي بلاد كثيرة، كثيرٌ منهم : نسبه غير صحيح ، بل قد ظهر حديثاً في مكة كتابٌ – طبع هذه السنَة – عن الأشراف ، وأنسابهم، وكما سمعتُ أنَّه مُنع ؛ لأنَّه اعترَضَ عليه كثيرٌ مِن النَّاس.
والأشراف كما قلتُ لكم – وكما تعلمون وأنتم هنا - أنَّ الأشراف يتبرءون مِن كثيرٍ مِن الأُسر ، ومِن كثيرٍ مِن العائلات .
فعلى كل حال : ما يتعلق بأنَّ فلاناً ليس نسبه صحيحاً ، أو غير صحيح ؛ ليس مستوجباً للقذف كما يفتري هؤلاء الدجالون ، وإلاَّ لكان ابن الملقن نفسه قاذفاً ، وهو مِن أئمتهم ، وكَتب في طبقاتهم ، ولكان الشعراني أول مَن قذف ؛ لأنَّه يقول : إن أحمد الرفاعي من بني رفاعة ، القبيلة المعروفة ، وليس مِن آل البيت .
فليكن عندكم معلوماً أن الصوفية يتسترون بالنسب الشريف ، وأنَّ هذه دعوى استفادوها من الشيعة ، بل سنعرض -إن شاء الله - عما قليل - عندما أحدثكم عن نشأة التصوف - أن أصل التصوف هو التشيع ، أول ما وجد التصوف في صفوف الشيعة، ولذلك نجد الصلة بين التصوف و بين التشيع قوية جدّاً ، ونجد أنَّ كثيراً مِن الضلالات ، ومِن الخرافات المشتركة بين الطائفتين : خرافات مشتركة بالفعل ، ويجمع الطائفتين دعوى الغلو ، هؤلاء غَلَوا في "علي" ، وهؤلاء غَلَوا في الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم .(1/9)
أمَّا قضية رأيي - كما ذكرتم - ما رأيك في هذه الكتب ؟ وما رأيي في ردِّهم على الشيخ ابن منيع والعلماء في المملكة ؟ - فأنا يا أخي أقول لكم : إنَّ الشيخ ابن منيع جزاه الله خيراً ، والعلماء الذين كتبوا ، كتاب الشيخ ابن منيع بالذات ، الكتاب يركِّز على قضية المولد ، وأحب أن أقول : إنَّ القضية التي نختلف نحن والصوفية فيها ليست هي قضية المولد، القضية أكبر من ذلك وأعظم .
الصوفية ديانة قديمة ، معروفة لدى الهنود ، ولدى اليونان القدماء ، ديانة قديمة جاءت ودخلت ، وتغلغلت في الإسلام باسم الزنادقة ، والزنادقة هم الذين أدخلوها في الإسلام باسم التصوف ، وباسم التعبد ، وباسم الزهد ، - كما سنعرض إن شاء الله - ، فالخلاف ليس محصوراً كما أراد الرفاعي ، وهذا البحريني ، والمغاربة ، ليس محصوراً تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب الرفاعي مِن أوله إلى آخره ، والآخر ، والثالث : هذه الكتب تتحدث عن منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن خوارق الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى آخره .
نقول : بغض النظر عمَّا احتوته هذه الكتب مِن الأباطيل ، ومِن المتناقضات ، ومن الشركيات : ليس الخلاف بيننا وبينهم في قضية الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً ، هذه جزئية ، نعم هي إحدى فروع الخلاف ، إحدى المسائل التي نختلف وإيَّاهم فيها ، أنَّهم غَلَوا ، واشتطوا ، حتى شابهوا النَّصارى ، ونحن اقتصدنا ، وعظَّمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما عظمه الله به ، وبما صحَّ في سنَّته وسيرته .(1/10)
ليس الموضوع هو أنَّهم يحبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكثر منَّا - كما يزعمون - الخلاف بيننا وبينهم ليس المولد ، وليس في كيفية الذكر ، ليس في أنواع التوسل التي أطالوا ، واطنبوا في تفصيلها ، وليس في تعريف البدعة ، وأنَّها هل هي خمسة أنواع ، أو نوعين ، أو نوع واحد ، لا يا أخي ؛ الخلاف بيننا وبين الصوفية هو خلاف بين الإسلام وبين ديانة ، وثنية ، فلسلفية ، قديمة ، خلاف في الربوبية ، والألوهية ، أهي لله وحده ، أم له فيها شركاء كما يدَّعون !؟
لأنَّ دعوى الصوفية أنَّ الربوبية ، والألوهية – كثيراً من حقائق الألوهية والربوبية – إعطاؤها للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أو للأولياء ، أو مَن يسموهم الصالحين ، وهذا : شركٌ كبيرٌ ، لكن ليست هذه فقط !! يعني : الصوفية لم تكتف بأن تَصرِفَ الألوهية لهؤلاء ، وإنَّما صرفتْها للزنادقة ، صرفتْها للدجالين ، للكهان ، للمشعوذين .
ولابد أنَّكم تعرفون الرجل الذي عندنا هنا في مكة ، والذي كان بعض النَّاس سألني - وأنتم عندنا - يقول هل أذهب لأتعالج عنده ؟ وهو "الأهدل" يسمُّونه "السيد الأهدل" هذا هو شيخ محمد علوي مالكي ، رجلٌ خرافيٌّ ، ورجل يقول لهم : أحضِروا تَيْساً أسود، واذبحوه ، ولا تذكروا اسم الله ، وافعلوا كذا ، وافعلوا كذا ، من الشعوذات ، ومن الكهانة ، وينجِّم الرجل والمرأة ، ويقول : نجم المرأة كذا ، ونجم الرجل كذا ، فإن كانت النُّجوم متطابقة فلا بأس أن تتزوجها ، وإن كان النجم مختلفاً قال كذا ، وشعوذات ينقلها لنا العوام هنا في مكة ، شعوذات غريبة ، هذه مِن مثل هذا الدجل ، ومن مثل هذه الشعوذة ، يصرفون ربوبية الله ، وألوهيته : للمشعوذين ، وللدجالين ، المتعاطين السحر ، المتعاملين مع الجن ، الذين يقولون : نحن نعلم الغيب ، ويطلبون مِن المريدين أن يقدِّموا لهم العبوديات التي لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى .(1/11)
نحن نعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى وحده المتصرف في الكون ، هذه حقيقة لا يمكن أن يماري فيها أي مسلم ، ونعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي عنده اللوح المحفوظ ، وهو الذي يمحو ما يشاء ، ويثبت ، وهو الذي يحي ويميت ، وهو الذي يعلم ما تسقط مِن ورقة في ظلمات البرِّ والبحر ، وهو الذي يفتح أبواب الجنَّة لمن شاء ، أو النار - والعياذ بالله - ، وهو الذي يسلب الإيمان مِن القلوب ، أو يضع فيها اليقين ، ولا أحدَ يملك ذلك غيره ، نحن نعتقد أنَّه سبحانه وتعالى هو الذي يغيث الملهوفين في الكربات ، وفى الظلمات، ويعلم ما في سرائر القلوب ، وما تختلج به الخواطر ، إلى غير ذلك .
لكن هؤلاء هم يؤمنون - أو يقولون - : بأنَّ مِن أوليائهم مَن يتصرف في الأكوان ، في حلقة الذكر الجيلانية يقولون : "عبد القادر يا جيلاني ، يا متصرف في الأكوان" !!
إذا كان متصرف في الأكوان ماذا بقي لله سبحانه وتعالى ؟
وسأنقل إليكم أدلةً كثيرةً جدّاً ، مِن كتاب الشعراني تدل على هذا الشرك الأكبر ، يذكرون : أنَّ هناك مَن يرى اللهَ ، ومَن يخاطبُه اللهُ في الدنيا ، ومَن يكلِّمه ، ومَن يقول له هذا حلال ، وهذا حرام ، ويذكرون : أنَّ هناك منهم مَن يستأذن جبريل قبل أن يبدي رأيه، يأتي المريد يسأله فيقول : أمهلني حتى أستأذن جبريل !! فيسأل جبريل فيجيبه !! وهذا إن شاء الله سأذكر لك بعضَها – إن أمكن بالجزء والصفحة - .(1/12)
يذكرون : أنَّ منهم مَن يمسك الشمس عن الغروب ! يذكرون : أنَّ منهم مَن يعلم مِن أسرار القرآن مالا يعلمه ملَكٌ مقرَّبٌ ، ولا نبيٌّ مرسلٌ ! يقولون : إن الولي فلان كان يحك رأسه بقائمة عرش الرحمن ! يقولون : إن فلاناً جاءه أحدُ المريدين وقال : لماذا لا تحج ؟ فقال : هل يحج مَن تطوف حوله الكعبة !؟ قال المريد : كيف ذلك ؟ فقال : انظر، ورأى الكعبة وهى تطوف حول الرجل !! حول الشيخ !! وهى تغني – أي : الكعبة - وتقول : إن له رجالاً ، دلَّلهم دلالاً ، وهي تطوف حوله !! .
أشياء كثيرةٌ جدّاً إن شاء الله سأتعرض لبعضها .
المقصود : أن بعضكم - بعض الشباب هناك في أمريكا وغيرها - يحسبون أنَّ التصوف مجرد زهد ، أذكار ، احتقار لمتاع الدنيا الفاني ، وبعضهم قد يتعاطف مع المتصوفة بناءً على هذا الاعتبار ، الحقيقة يا أخي : ليس التصوف هو المولد ، وليس هو مجرد الذِّكر ، وليس هو الزهد - كما يدَّعون - ، وإنَّما الصوفية هي دينٌ آخر ، هي عالَمٌ آخر ، إذا دخله الإنسان وبدأ فيه : فعليه أن يخلع عقلَه عند عتبة الدخول ، وهناك يدخل في عالم غريب ، عالَمٌ يخيل إليك - عندما تقرأ في كتب طبقاتهم ، ورجالهم - تماماً أنَّك تقرأ في القصص الخرافيَّة ، مثل سيف بن ذي يزن ، مثل عنترة ، وكتب الأسمار، والأخبار ، وغير ذلك .
والذي أحب أنْ أقوله : أنَّ كتاب الرفاعي ، وكتاب البحريني ، وكتاب المغربييْن هؤلاء ؛ أنَّه جاء على خلاف الأصل عند الصوفية ، كيف هذا ؟
الأصل عند الصوفية : أنَّ مصدر التلقِّي ، ومصدر المعرفة ؛ ليس هو الحديث ، ليس هو القرآن والسنَّة ؛ حتى يأتي هؤلاء فيقولون : الله تعالى قال كذا ، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا ، وصحيح أنكم أنتم تضعِّفون الحديثَ ؛ لكن نحن نصححه ! والمسألة : خلافية ، ولا داعي للتكفير ! لماذا يكفِّر بعضُنا بعضاً في مسألة خلافية ؟(1/13)
حديث نحن صححناه ، وأنتم ضعَّفتموه ، أو العكس ، فالمسألة بسيطة ، ونحن نهتم بحرب الصهيونيَّة ، والشيوعيَّة ، ولا نختلف فيما بيننا …-من مثل هذا الافتراء والدجل- .
أقول : منهج هؤلاء النَّاس : ليس هو هذا ، أنت ترثي الإنسان عندما يحارب في غير ميدانه ، أو عندما يتكلف ما لا قِبَل له به .
الأصحاب هناك مع المريدين والشيخ يرقصون في الحضرة ! ويتلقون العلم اللدنِّي - كما يسمُّونه- العلم الحقيقي مباشرة ، وهذا جالس يقول : هذا الحديث صحيح ، وهذا ضعيفٌ ، وهذا كذا ! هذا خلاف الأصل ، هو مفروض أن يكون يرقص معهم يتلقَّى من هناك العلم على زعمهم .
فأقول لك : إنَّ كلامك في قضية "أنك تقول : إن بعض الطلبة الكويتيين قالوا :إن هاشم الرفاعي ليس هو الذي كَتَبَ الكتاب" ، نعم ، الحقيقة أنَّ معهم حقٌّ في ذلك لأنَّ أسلوب الكتاب يذكِّرني ببعض كتبٍ كتَبَها أناسٌ مِن المبتدعة ، وردُّوا بها على أهل السنَّة قبل خمس عشر سنة ، أو نحو ذلك ، وبعضهم أعرِف أنَّه موجودٌ في الكويت ، فلا شك أنَّ هناك تعاوناً ، ومِن أدلة التعاون : هذا التظافر الموجود ؛ هذا مِن المغرب ، وهذا مِن البحرين ، وهذا مِن الكويت ، وقالوا : واحدٌ – أيضاً – مِن مصر ، وواحدٌ مِن اليمن ، يقولون : ستخرج - كما هو مذكور في هذه الكتب - .
أقول: إنَّ هذا ليس أسلوب الصوفيَّة أصلاً ، أن يأتوا إلى الحديث ، ويصحِّحوه ، ويضعِّفوه ؛ ليأخذوا منه الحقيقة ، وليأخذوا منه العلم ، لا .(1/14)
"الحلاج" - إمامهم المتقدم – الذي قُتل بالزندقة - بعد أن ثبت ذلك عنه – ما كان يعتكف يتعبَّد ، ويدعو الله عز وجل ، فتنكشف له بعض الأشياء – مثلاً – ويقول : هذا علمٌ أطلعني الله عليه لا ، ذهب إلى الهند ، ورأى سحرة الهند يقف الواحد منهم على رأسه الأيام الطويلة بدون أكل ، ولا شرب ، ولا نوم ، فتعلَّم هذه الرياضة منهم ، فإذا وقف على رأسه هذه الفترة : يدخل في المرحلة التي يسمونها (المالوخوليا) تأتي له صور ، وخيالات مِن الجوع ، ومِن هذه الانتكاسة ، ومِن الشياطين، ويخيَّل له بأشياء ، ومخاطبات، وكلام ، فيقول : الله خاطبني ! أو الرب كلَّمني ! أو كذا ، ثمَّ يترقَّى إلى أنْ يقول : أنا الله !! ما في الجبَّة إلا الله !! أو سبحاني سبحاني !! – كما قال هو ، والبسطامي وغيرهم - ، ويقول – كما هو ثابت مِن أبياته في ديوانه - :
كفرتُ بدين الله والكفرُ واجبٌ لديَّ وعند المسلمين قبيحُ
ومرةً ثانيةً ينتكس ، ويهستر ويقول :
على دين الصليب يكون موتي فلا بطحاء أريد ولا المدينة(1/15)
يعني : يذكر أنَّه صليبيٌّ – والعياذ بالله - ، فنفس ما وقع للحلاَّج ! عندما يقول هذا الكلام : قام علماء السنَّة فكفروه بناءً على هذه الكفريات الشنيعة ، فقام المدافعون عنه – مثل ما قام الرفاعي يدافع عن المالكي – وتأولوا بعد أن عمل هذا العمل ، قالوا – أي: المتأولة – انتظروا لم تكفروه ؟ نحن نأتي لكم بأدلة ! ثمَّ قالوا : نعم ، أبو نعيم في "الحلية" روى كذا ، أيضاً : عندنا ابن عساكر روى كذا ، عندنا كذا ، بعض هذه الأشياء استنتجوها ، وبحثوا عنها ، وجدوها بعد أن قُتل الحلاج بسنواتٍ طويلةٍ ، الحلاج لا قرأها، ولا اطَّلع عليها ، ولا قال ما قال لأنَّه اطَّلع على الكتاب والسنَّة، ثم استنتج منها هذا الاستنتاج ، بل أنا أضرب لك مثالاً فيه كتاب عندنا عن تاريخ الدولة الظاهرية اسمه "الدرَّة المضيئة" - موجود عندي ، والحمد لله - يذكر فيه أولَّ ما بدأتْ كلمة "سيدنا" - أشهد أنَّ سيدنا محمَّداً رسولُ الله ، متى بدأت هذه الكلمة في الأذان - يذكر أنَّ أحد سلاطين المماليك رأى في المنام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إذا أذَّنتَ فقل - أو قل للمؤذِّن إذا أذن يقول - أشهد أنَّ سيدنا محمَّداً رسول الله ، فلما استيقظ السلطان هذا ؛ أمر المؤذنَ أنْ يقول ذلك ، فسمعها بعضُ الخرافيِّين ، والصوفيَّة فقالوا : رؤيا حسنة، فاستحسنوا ذلك .(1/16)
نحن الآن في هذا العصر عندما نقول : هذه الكلمة لا تضاف في الأذان ؛ يقولون : كيف لا تضاف ، وعندنا أحاديثُ صحيحةٌ على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم ، وأنَّه كذا ، وأنَّه كذا ؟ وأنتم تنكرون سيادة الرسول ! أنتم تكرهون الرسول ! أنتم تعادون الرسول ! فيهاجموننا بهذا الكلام ؛ بينما أصلُ القضية لم يكن أنَّهم قرؤوا البخاري ومسلم ، وجدوا أحاديث السيادة ، وضعوها في الأذان ، أصلها رؤيا ، فالصوفيَّة تعتمد في مصدر التلقِّي على المنامات ، على الأحلام ، على التخيُّلات ، على التكهنات ، على ما يسمونه "الذوق" ، أو الوجد ، أو الكشف ، هذا هو مصدر القوم .
فبعد ذلك يأتي مَن يفلسف هذه الأشياء التي ثبتت عندهم ، ووصلتهم من هذا الطريق، يأتي من يفلسفها ويقول إنَّ لها أصلاً ، إنَّها تقوم عليها الأدلة الشرعيَّة ، إنَّها مأخوذة مِن الكتاب والسنَّة ، ثم يزعمون - كما زعم الرفاعي - أنَّهم هم أهل السنَّة والجماعة ، وهم الذين على الحق ، وأنَّ المخالفين لهم : مِن الخوارج ، أو مِن الغلاة ، أو مِن المتنطعين ، أو مِن التكفيريين ، إلى آخر هذا الهراء.
أقول : إنَّني سأستعرض معك الآن بعضَ الكتب التي تدل على أصل التصوف ، مثلاً بين يدي الآن كتاب للبيروني "تحقيق ما للهندي من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" ، الكتاب ألَّفه أبو الريحان البيروني ، وهو ليس مِن أئمَّة أهل السنَّة والجماعة ، هو رجلٌ ، مسلمٌ ، مؤرِّخٌ ، تستطيع أن تقول – بالأحرى – جغرافيٌّ ، ومتكلمٌ ، ومتفلسفٌ ، ذهب إلى الهند يبحث عن أديانها ، وعن عقائدها ، ويكتب عن جغرافيتها ، وعن أرضها، وعن علومها ؛ هذا الرجل ألَّف الكتاب ، وذكر فيه حقائق لا يمكن أن يُتهم بأنَّه تواطأ فيها مع أهل السنَّة والجماعة .(1/17)
مثلاً : يقول في صفحة (24) ، منهم : مَن كان يرى الوجودَ الحقيقي للعلة الأولى فقط ، لاستغنائها بذاتها فيه ، وحاجة غيرها إليه ، وأنَّ ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره : فوجوده كالخيال غير حقٍّ ، والحقُّ هو الواحد الأول فقط ، وهذا رأي السوفية – كتبها بالسين - ، وهم الحكماء ، فإنَّ سوف باليونانية : (الحكمة) وبها سمي الفيلسوف : بيلاسوفا ، أي : محب الحكمة ، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريبٍ مِن رأيهم –أي : رأي حكماء الهند - سُمُّو باسمهم – أي: الصوفيَّة - ، ولم يَعرف اللقبَ بعضُهم فنسبهم للتوكل إلى الصُفَّة وأنَّهم أصحابها في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ صُحِّفَ بعد ذلك ، فصُيِّر مِن صوف التيوس ! الخ .
ويقول بعد ذلك : إنَّ المنصرف بكليته إلى العلة الأولى متشبهاً بها على غاية إمكانه : يتحد بها عند ترك الوسائط ، وخلع العلائق ، والعوائق .
ويقول - في الوحدة هذه "وحدة الوجود" - : وهذه آراء يذهب إليها السوفية لتشابه الموضوع .
يتكلم عن ديانة الهند ، وعن فلاسفة الهند - هؤلاء الملاحدة - ، ثم يذكر أنَّ الصوفيَّة يذهبون إليها لتشابه الموضوع .
فالرجل يقول : إن الصوفيَّة هم حكماء الهند ، وأنَّ اسمهم هو "السوفية" ، وأنَّ ما يُطلق عليهم مِن الأسماء ، أو يُطلق عليهم مما حدث للاسم مِن التصحيف – فقيل : إنَّه مِن الصوف أو غير ذلك - : هذا ليس له حقيقة .
والقشيري نفسه في "الرسالة" يقول : ليس للاسم أصل في اللغة العربية - والقشيري مِن أئمَّة الصوفيَّة له كتاب "الرسالة" – وهو صادقٌ في ذلك .(1/18)
هناك مصدر آخر ، ننتقل - مثلاً - إلى "دائرة المعارف الإسلاميَّة" - كما سمَّاها المستشرقون - وهي دائرة معارف استشراقية : مادة "التصوف" ، الجزء الخامس : ذكروا أنَّ كلمة "الثيوصوفيا" - الكلمة اليونانيَّة - يقولون : هذه هي الأصل كما ينقل كاتبها "ماسنيوم" عن عدد المستشرقين ؛ بأنَّ أصل التصوف : هو مشتق مِن "الثيوصوفية" ، وهذه "الثيوصوفية" كما يذكر – أيضاً – عبد الرحمن بدوي ، وينقل عن مستشرق ألماني (فول هومر) يقول : إن هناك علاقة بين الصوفية ، وبين الحكماء العراة مِن الهنود ، ويكتب باللغة الإنجليزية ( جانيوسوفستز) و"سوفستز" يعني : الصوفيين ، هؤلاء إذا ربطنا هذه مع "الثيوصوفية" – أي : الصوفية – التي نقول (الثيو) معناها الله عز وجل في لغتهم، فمثلاً الحكم الثيوقراطي يعنى الحكم الإلهي ( الثيوصوفية) عشاق الله ، أو محبو الله سبحانه وتعالى ، الفيلسوفي هذا : عاشق الحكمة – "فيلا" معناها : حكمة - ، أو محب الحكمة .
عاشق الله - كما يدَّعون ، وكما يزعمون - يسمَّى : الصوفي .
إذاً الصوفية نستطيع أن نقول أننا الآن أمام أساس – وسيأتي عرض آخر يبين هذه القضية- هذه الكلمة وأنَّه غير إسلامي أصلاً ، وغير عربي أصلاً ، وإنَّما هو دينٌ آخر .
نرجع لكتاب البيروني ؛ مثلاً : أفتح معك إلى صفحة (51) ، الكتاب الآن بين يديَّ ، في صفحة (51) يقول : إذا كانت النَّفس مرتبطةً في هذا العالم ، والخلاص – خلاص النفس – مِن العالم ، وانقطاعها عنه ، .. كيف أنَّ الهنود يحاولون أن ينقطعوا عن الدنيا ، وأن يتحدوا بالجوهر الأسمى – وهو الله سبحانه وتعالى - يتحدث عن هذا الموضوع بكلام فيه صعوبة.(1/19)
إنَّما المقصود من ذلك : أنَّه يقول : إن هناك كتاب هندوسي اسم الكتاب "باتنقل" ، وأنا سألت بعض إخواننا - هنا - الهنود عن كتاب "باتنقل" ، يقول : إنَّ الكتاب معروف إلى الآن ، وأنَّه مِن كتب الأديان عند الهندوس ، وفي إمكانكم أنْ تسألوا إذا كان لكم إخوة ، أو ناس في أمريكا - حتى من الهندوس - أنْ تسألوهم عن الكتاب .
كتاب "باتنقل" هذا يقول البيروني - بعد أن تكلم عن قضية الإتحاد هذه - يقول : وإلى مثل هذا إشارات الصوفية في العارف إذا وصل إلى مقام المعرفة ؛ فإنَّهم يزعمون - أي : الصوفية – أنَّه يحصل له روحان : قديمة لا يجري عليها تغير ، أو اختلاف ، بِها يعلم الغيب ! ويفعل المعجز ! ، وأخرى بشرية للتغير ، والتكوين ، ما يبعد عن مثله أقاويل النصارى .
لاحظ أنَّ البيروني يربط بين كلام الصوفية ، وبين أقاويل النصارى ، وأنَّهم يقولون : إنَّ العارف له روحان : روح أزليَّة ثابتة ، وروح حادثة ، وهي التي تعتريها البشرية ، أي: كما قال النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام !! .
وأنا في إمكاني الآن أنْ أقرأ عليك ما يدل على هذه العقيدة عند الصوفية :
يقول إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة 676هـ ، وهو مِن أكبر الطواغيت الصوفيَّة المعبودين حالياً في مصر ، وهو وصل عندهم إلى درجة القطبية العظمى – وسنشرح لك إن أمكن ما معنى القطب الأعظم ، وما هي خصائصه - ، يقول الدسوقي – كما في ترجمته من "طبقات الشعراني" – الجزء الأول صفحة (157) : قد كنتُ أنا ، وأولياء الله تعالى أشياخاً في الأزل ، بين يدي قديم الأزل ، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله عز وجل خلقني مِن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني في الأزل - ، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء ، فخلعتُ عليهم بيدي – يعني : ألبسهم – فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا إبراهيم أنت نقيبٌ عليهم – أي:على الأولياء -.(1/20)
يقول : فكنتُ أنا ، ورسول الله صلى الله إليه وسلم ، وأخي عبد القادر – يعني : عبد القادر الجيلاني شيخ القادرية - خلفي ، وابن الرفاعي -يعني : أحمد الرفاعي شيخ الرفاعية- خلف عبد القادر ، ثم التفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال :يا إبراهيم سر إلى مالك – خازن النيران - وقل له يغلق النيران ، وسر إلى رضوان - خازن الجنة – وقل له يفتح الجنان ، ففعل مالك ما أُمر به ، وفعل رضوان ما أُمر به !!…إلى آخر ما ذكره من الكلام .
نعود إلى البيروني : انتقل إلى صفحة (66) من الكتاب – إن كان الكتاب عندك – :
يقول : وإلى طريق "باتنقل " -هذا الهندي الذي سبق ذكره - ذهبت الصوفية في الاشتغال بالحق، فقالوا : مادمتَ تشير فلستَ بموحدٍ ؛ حتى يستولي الحقُّ على إشارتك بإفنائها عنك ، فلا يبقى مشيرٌ، ولا إشارةٌ – أي : "وحدة الوجود الكاملة " - .
ويقول : ويوجد في كلامهم ما يدل على القول بالإتحاد ؛ كجواب أحدهم عن الحقِّ ، وكيف لا أتحقق مَن هو أنا بالإنيَّة ، ولا أنا بالأَيْنِيَّة .
هذا كلام أحد أئمَّة التصوف سئل عن الله فأجاب بأنه هو يعنى نفسه ! .
وقول أبي بكر الشبلي - وهو مِن أئمَّة التصوف – يقول : اخلع الكلَّ تصل إلينا بالكلية فتكون ولا تكون ، إخبارك عنا – يعني : الكلام الذي تقوله هو عنَّا - ، وفعلُك فعلُنا .
وكجواب - والكلام ما يزال البيروني - أبي يزيد البسطامي ، وقد سئل بم نلت ما نلت ؟ قال : إنِّي انسلختُ مِن نفسي ، كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها ، ثم نظرتُ إلى ذاتي فإذا أنا هو .
وقالوا في قول الله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها } : إنَّ الأمر بقتل الميت لإحياء الميت : إخبارٌ أنَّ القلب لا يحيا بأنواع المعرفة إلا بإماتة البدن بالاجتهاد ، حتى يبقى رسماً لاحقيقة له ، وقلبك حقيقة ليس عليه أثر مِن المرسومات .(1/21)
وقالوا : إنَّ بين العبد وبين الله ألف مقام مِن النُّور والظلمة ، وإنَّما اجتهاد القوم في قطع الظلمة إلى النُّور ، فلمَّا وصلوا إلى مقامات النُّور : لم يكن لهم رجوعٌ . انتهى كلام البيروني
وهو يقول إن هذا الكلام بعينه هو كلام الهنود وهو الذي سار عليه أئمة التصوف .
أقول : إنَّ الثابتَ مِن الكتب التي كتبها كثيرٌ مِن المعاصرين عن الصوفية ، ومِن القدماء: أنَّ أولَّ مَن أسَّس التصوف : هم الشيعة ، وأنَّ هناك – بالذات – رجليْن كانا لهما دورٌ في ذلك :
الأول : يسمَّى "عبدك" ، والثاني : يسمَّى "أبو هاشم الصوفي" ، أو أبو هاشم الشيعي، فـ "عبدك" ، و"أبو هاشم" هؤلاء هما اللذان أسَّسا دين التصوف .
عندما نريد أن نتحدث عن "عبدك" ، وعن أبي هاشم : ننتقل إلى مصدرٍ مهمٍّ جدّاً مِن مصادر الفِرَق الإسلاميَّة وهو كتاب "التنبيه والرد" لأبي الحسين الملْطي الشافعي رحمه الله.
ومِن المهم جدّاً مِن الناحية الوثائقيَّة أنْ تعرف أنَّ كتاب الملطي هذا منقولٌ عن كتاب الإمام قشيش بن أصرم - وهذا رجلٌ ، عالِمٌ ، إمامٌ ، ثقةٌ ، وهو شيخ الإمام أبي داود ، والنسائي ، وهو مِن الأئمَّة المعاصرين للإمام أحمد توفى سنة 253هـ - ، وهذا يعطي كتابَه أهميَّة كبيرة ؛ لأنَّه متقدم في الفترة المبكرة جدّاً التي لم تكن كلمة صوفي فيها قد شاعت وقد انتشرت ، فماذا قال الإمام قشيش بن أصرم رحمه الله – كما نقل عنه الملطي- ، ماذا قال عن هذه الفِرق – عن "عبدك" ، وعن أبي هاشم ، وعن جابر بن حيان الذي يقال له جابر الكيميائي – وهو أيضاً ممن نُسب أنَّه أول مَن أسَّس التصوف وقد قرأت له مجموعة رسائل طبعها أحد المستشرفين يظهر فيها بجلاء أنَّ الرجل شيعي تماماً ، وقد عاش جابر في القرن الثاني- .(1/22)
قال أبو الحسين الملطي رحمه الله تعالى : قال أبو عاصم قشيش بن أصرم – قال سفر : والإسناد عنه في أول الكتاب - في افتراق الزنادقة يقول : فافترقت الزنادقة على خمس فرق ، وافترقت منها فرقة على ست فرق .. إلى أن يقول : ومنهم - أي:من أقسام الزنادقة – "العبدكية" ، زعموا أنَّ الدنيا كلَّها حرامٌ محرَّم ، لا يحل الأخذ منها إلا القوت ، من حين ذهب أئمَّة العدل ، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل ، وإلا فهي حرام ، ومعاملة أهلها حرام ، فحِلٌّ لك أن تأخذ القوت من الحرام ، مِن حيث كان !
وإنَّما سمُّو "العبدكية" : لأنَّ "عبدك" وضع لهم هذا ، ودعاهم إليه ، وأمرهم بتصديقه .
يقول: ومنهم الرَّوْحانيَّة ، وهم أصناف ، وإنَّما سمُّوا "الروحانية" ؛ لأنَّهم زعموا أنَّ أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات ، وبها يعاينون الجِنان – أي : الجنات – ويجامعون الحور العين ، وتسرح في الجنة ، وسمُّوا أيضاً : "الفكرية " لأنَّهم يتفكرون – زعموا – في هذا حتى يصلون إليه ، فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم ، ومنتهى إرادتهم ، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية فيتلذذون بمخاطبة الله لهم ، ومصافحته إياهم ، ونظرهم إليه – زعموا – ويتمتعون بمجامعة الحور العين ، ومفاكهة الأبكار ، على الأرائك متكئين ، ويسعى عليهم الولدان المخلَّدون بأصناف الطعام ، وألوان الشراب ، وطرائف الثمار …إلى آخره .(1/23)
يقول : ومنهم صنف مِن الرَّوْحانيَّة زعموا أنَّ حُبَّ الله يغلب على قلوبهم ، وأهوائهم، وإرادتهم حتى يكون حبُّه أغلب الأشياء عليهم ؛ فإذا كان كذلك عندهم : كانوا عنده بهذه المنزلة : وقعت عليهم الخُلة مِن الله فجعل لهم السرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، والفواحش كلها على وجه الخُلة التي بينهم وبين الله لا على وجه الحلال – يعني : تحل لهم على وجه أنَّهم أخلاء لله ، وسيأتي على هذا نقولٌ كثيرةٌ وشواهد تدل على ذلك عند الصوفية – يقول: كما يحل للخليل الأخذ مِن مال خليله بغير إذنه ، منهم : "رباح" و"كليب" ، كانا يقولان بهذه المقالة ويدْعُوَان إليها ، - وهؤلاء أيضاً ممن ذُكر أنَّهم مِن أئمَّة التصوف القدامى - .
يقول : ومنهم صنفٌ مِن الرَّوْحانية زعموا أنَّه ينبغي للعباد أنْ يدخلوا في مضمار الميدان حتى يبلغوا إلى غاية السبقة ، منتظمين لأنفسهم – يعني : تجميعها - وحملها على المكروه فإذا بلغت تلك الغاية : أعطى نفسَه كلَّ ما تشتهي ، وتتمنى ، وإنَّ أكْلَ الطيبات كأكْل الأراذلة مِن الأطعمة ، وكان الصبر ، والخبيث عنده بمنزلة ، وكان العسل ، والخل عنده بمنزلة ! ؛ فإذا كان كذلك : فقد بلغ غاية السبقة ، وسقط عنه تضمير الميدان ، وأتْبع نفسه ما اشتهت ، منهم ابن حيان كان يقول هذه المقالة.
ويقول رحمه الله : ومنهم صنف يقولون إنَّ ترك الدنيا : إشغال للقلوب ، وتعظيم للدنيا ، ومحبة لها ، ولمَّا عظُمت الدنيا عندهم : تركوا طيِّب طعامها ، ولذيذ شرابها ، وليل لباسها ، وطيب رائحتها ؛ فأشغلوا قلوبهم بالتعلق بتركها ، وكان من إهانتها مواتات الشهوات عند اعتراضها حتى لا يشتغل القلب بذكرها ، ويعظم عنده ما ترك منها.
قال : و رباح وكليب كانا يقولان هذه المقالة .(1/24)
هذا كلام الإمام قشيش بن أصرم رحمه الله ، المكتوب قبل منتصف القرن الثالث الهجري - حوالي 240هـ ، أو هكذا – كَتَب الكتاب ، هذا الكلام كما لاحظنا هو عقيدة الصوفية ، الحب – حبُّ الله كما يدَّعون - ، تحريم الدنيا ، تحريم الحلال ، دعوى أنَّهم يرون الله ، ويخاطبونه في الدنيا ، وأنَّه يحدِّثهم … إلى غير ذلك مِن الدعاوى: هي دين الصوفية ، لكن لاحظ أنَّ الإمام قشيش لم يقل : "الصوفيَّة" ؛ إنما قال : "الزنادقة" - قال : هذه مذاهب قوم مِن الزنادقة - ، وصدق هذا هو مذهب الزنادقة في حقيقته .
ننتقل إلى مصدر بعده ، وهو من أوثق المصادر في الخلافات ، والفرق : وهو كتاب "مقالات الإسلاميين" للإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله الذي رجع إلى مذهب أهل السنَّة والجماعة ، وإن كان الأشاعرة ما يزالون يتَّبعون ما كان عليه قبل رجوعه ، نسأل الله أن يهديهم إلى الحق .
يقول - في صفحة (288) من طبعة هيلموتايتر - الثالثة - : هذه حكاية قولِ قومٍ مِن النُّساك – والنساك : هو أيضاً اسم عبَّاد الهند - طبعاً تَرجم لهم - وهي مأخوذة مِن النسك ، أو التعبد .
وهذا هو الذي ترجم به عبد الله بن المقفع صوفية الهند ، وسمَّاهم : "النُّساك" في كتاب "كليلة ودمنة" ، فيسمَّى العابد : النَّاسك .(1/25)
يقول : وفي الأمَّة قوم ينتحلون النُّسك يزعمون أنَّه جائزٌ على الله سبحانه الحلول في الأجسام ، وإذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا : لا ندري لعله ربنا !! ، ومنهم من يقول : إنَّّه يرى الله سبحانه وتعالى في الدنيا على قدر الأعمال ! فمَن كان عمله أحسن : رأى معبوده أحسن ! ومنهم مَن يجوِّز على الله سبحانه وتعالى المعانقة ، والملامسة ، والمجالسة في الدنيا ، وجوزوا مع ذلك على الله تعالى –على قولهم- أنْ نلمسه ، ومنهم مَن يزعم أنَّ الله سبحانه ذو أعضاء ، وجوارح ، وأبعاض لحم ، ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان مِن الجوراح – تعالى ربُّنا عن ذلك علوّاً كبيراً - .
وهذا القول الذي ذكره الأشعري هنا : هو قول أبي هاشم المشبِّه ، الصوفي ، الشيعي، مؤسِّس هذا الدين ، أو مِن مؤسِّسيه -كما قلنا - .
يقول الإمام الأشعري : وكان في الصوفيَّة رجلٌ يُعرف بأبي شعيب : يزعم أنَّ الله يُسرُّ ويَفرح بطاعة أوليائه ، ويغتمُّ ، ويحزن إذا عصَوْه -يعني : كَفَرح المخلوقين وكغَمِّهم-.
ويقول : وفي النُّساك قومٌ يزعمون أنَّ العبادة تبلغ بهم إلى منزلةٍ تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم – من الزنا ، وغيره - : مباحات لهم .
وفيهم من يزعم : أنَّ العبادة تبلغُ بهم أنْ يروا الله سبحانه وتعالى ، ويأكلوا مِن ثمار الجنَّة ، ويعانِقوا الحورَ العين في الدنيا ، ويحارِبوا الشياطين .
ومنهم مَن يزعم : أنَّ العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضلَ مِن النَّبيِّين ، والملائكة المقرَّبين .(1/26)
هذا كلام الإمام الأشعري ، وهو يؤكِّد ما قاله الإمام قشيش ، ويذكر عنهم قضية سقوط التكاليف وسقوط التعبدات ، وأنَّ الإنسان يترقَّى -كما يقول الصوفيَّة أنَّ الله تعالى يقول {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ، فإذا جاء اليقين أو إذا وصلت إلى الحقيقة: سقطتْ عنك الشريعة ؛ لأنَّ المريد عندهم – أو الصوفي – يبدأ مُريداً ، ثمَّ سالكاً ، ثم واصلاً ، الواصل : وصل للحقيقة ، وسقطت عنه التكاليف ، وسقطت عنه التعبدات .
هذا الكلام يقوله الإمام الأشعري –وهو المتوفى سنة 324 هـ- أي : أيضاً ما يزال متقدماً بالنِّسبة لانتشار الصوفيَّة ، ولم يذكر أنَّ هؤلاء صوفيَّة أبداً ، إنَّما قال : "هؤلاء نساك" ، وهذا القول لاشك أنَّه قول زنادقةٍ ، وكفَّارٍ ، سيحكيه على أنَّهم قومٌ يدَّعون ، أو ينتسبون إلى هذه الأمَّة ، وليسوا مِن هذه الأمَّة ، ليسوا مِن أمَّة الإسلام ، ولا مِن أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فلنرى كيف أنَّ هذا القول أصبح ديناً عند المتأخرين من المسلمين المنتسبين للإسلام من الصوفيَّة ، ويدَّعون مع ذلك أنَّهم هم أهل السنَّة والجماعة !!.
لا نقف عند الأشعري ، وإنَّما - أيضاً - ننتقل إلى إمامٍ مِن المؤلِّفين في الفرق ، وهو "فخر الدين الرازي" – وقد توفي سنة 606 هـ ، ونحن نتابع المسألة بتطور الزمن - ، وهو مِن أكبر أئمَّة الأشاعرة ، يعني : الرجل ليس مِن أئمَّة أهل السنَّة والجماعة ، بل هو مِن أئمَّة الأشاعرة الذي ألَّف كتاب "أساس التقديس" ، وردَّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "بيان تلبيس الجهمية" ، فهو مِن أكبر الأشاعرة ، وأقواله عندهم مِن أهمِّ الأقوال ، سننقل ، ونقرأ لك بعض كلامه في هؤلاء الصوفيَّة ، ما كان فيه مدح ، وما كان فيه ذم .(1/27)
يقول : الباب الثامن في أحوال الصوفية : اعلم أنَّ أكثر مَن قصَّ فِرَق الأمَّة لم يذكر الصوفيَّة ؛ وذلك خطأ لأنَّ حاصل قول الصوفيَّة : أنَّ الطريق إلى معرفة الله تعالى : هو التصفية ، والتجرد مِن العلائق البدنيَّة ، وهذا طريقٌ حسنٌ ! وهم فِرقٌ .
الأولى : أصحاب العادات ، وهم قومٌ منتهى أمرِهم ، وغايتهم : تزيين الظاهر كلبس الخرقة ، وتسوية السجادة .
الثانية : أصحاب العبادات ، وهم قومٌ يشتغلون بالزهد ، والعبادة ، مع ترك سائر الأشغال .
والثالثة : أصحاب الحقيقة ، وهم قومٌ إذا فرغوا مِن أداء الفرائض :لم يشتغلوا بنوافل العبادات ؛ بل بالفكر ، وتجريد النَّفس عن العلائق الجسمانية – يعني : مثل ما قلنا عن جماعة "باتنقل" في أقوال البيروني – يقول : وهم يجتهدون أنْ لا يخلو سرُّهم ، وبالهُم عن ذكر الله تعالى ، وهؤلاء خير فرق الآدميين !! - قال سفر : طبعاً متعاطف معهم - .
الرابعة : النُّوريَّة ، وهم طائفة يقولون : الحجاب حجابان نوري ، وناري ، أمَّا النوري : فالاشتغال باكتساب الصفات المحمودة كالتوكل ، والشوق ، والتسليم ، والمراقبة ، والأُنس ، والوحدة ، والحالة ، أمَّا الناري فالاشتغال بالشهوة ، والغضب ، والحرص ، والأمل ؛ لأنَّ هذه الصفات : صفات نارية ، كما أنَّ إبليس لما كان ناريّاً فلا جرم وقع في الحسد .
طبعاً ، هذه النظرية اليونانية التي تُروى عن قدماء اليونان أرسطو وجماعته : أنَّ الكون يتركب مِن أربعة عناصر : الماء ، والتراب ، والنار ، والهواء …إلى آخره !! رتَّبوا هذه على تلك .(1/28)
الخامسة - مِن فِرقهم - : الحلوليَّة ، وهم طائفةٌ مِن هؤلاء القوم الذين ذكرناهم ، يرَوْن في أنفسهم أحوالاً عجيبة ، وليس لهم مِن العلوم العقليَّة نصيبٌ وافر ، فيتوهَّمون أنَّه قد حصل لهم الحلول أو الاتحاد – يعني : بالله تعالى - يقول : فيدَّعون دعاوى عظيمة ، وأوَّل مَن أظهر هذه المقالة في الإسلام : الروافض ؛ فإنَّهم ادَّعوا الحلول في حقِّ أئمَّتهم .
هنا فائدة مهمة : وهو أنَّ الرازي يربط الصوفيَّة بالشيعة ، وهو ربط مؤكد – كما سبق أن قلنا – يقول الرازي :
السادسة : المباحية ، وهم قوم يحفظون طامَّاتٍ لا أصل لها ، وتلبيساتٍ في الحقيقة وهم يدَّعون محبة الله تعالى وليس لهم نصيبٌ مِن شيءٍ مِن الحقائق ؛ بل يخالفون الشريعة ، ويقولون : إن الحبيب رُفع عنه التكليف ، وهو الأشرُّ مِن الطوائف ، وهم على الحقيقة على دين "مزدك" ، كما سنذكر بعد هذا - قال سفر : وهو الدين الذي هو أصل الشيوعية ، ودين "مزدك" كما تكلم عنه هو يقول : أن المزدكية هم أتباع مزدك بن موبذان ، وكان موبذان في زمن قبَّاز بن فيروز والد أنو شروان العادل ، ثمَّ ادَّعى النُّبوة ، وأظهر دين الإباحة ، وانتهى أمره إلى أن ألزم قبَّاز أن يبعث امرأته ليتمتع بها غيره !! فتأذى أنو شروان مِن ذلك الكلام – يعني : تأذى مِن كلامه غاية التأذي – وقال لوالده : اترك بيني وبينه لأناظره ؛ فإنْ قطعني طاوعته ، وإلا قتلته فلمَّا تناظر مع أنو شروان : انقطع مزدك – يعني : انقطع في المناظرة وأفحم – وظهر عليه أنو شروان ، فقتله وأتباعه ، وكلُّ مَن هو على دين الإباحة في زماننا هذا فهم بقية أولئك القوم .
هذا كلامه عن المزدكية ، ويقول : الصوفية ، والفرقة المسمَّاة المباحية منهم على دين "مزدك" الذي هو أصل الشيوعية ، وأصل نظريَّة "كارل ماركس" الذي كما ذكر هؤلاء الخرافيون يقولون : أنتم مشتغلون بالردِّ على المسلمين ، وتتركون الشيوعيَّة !!.(1/29)
هذا الرازي ، وهو إمامٌ مِن أئمَّة الأشاعرة وكتابه "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" : مطبوع موجود ، يقول : إنَّه تلتقي الصوفية بالمزدكية ، يعنى : الشيوعية والصوفيَّة تلتقي عند "مزدك" ، فهذا هو كلامهم ، وليس كلامنا نحن .
ومن الرازي - المتوفى سنة 606 هـ – ننتقل إلى أحد الأئمَّة مِن علماء اليمن ، يسمَّى "عباس بن منصور السكسكي" قيل : إنَّه كان حنبليّاً – وهذا غريب في أئمَّة اليمن - ، وقيل : إنَّه شافعيٌّ ، وعلى كل حال ، يمكن مراجع ترجمته في "الأعلام" (ح3 – ص268 ط –4)
هذا الإمام السكسكي متوفى سنة 683هـ فهو أيضاً متقدمٌ – لا بأس – وطبعاً : قبل شيخ الإسلام ابن تيميه المتوفى بكثير ، المهم أنَّه كتب كتاباً اسمه : "البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" ، هذا كتابٌ مطبوعٌ ، وأنا الآن أقرأ ما كتبه عن الصوفيَّة بنصِّه .(1/30)
يقول في آخر الكتاب - : قد ذكرتُ هذه الفرقة الهادية ، المهديَّة – يعني : أهل السنَّة - ، وأنَّها على طريقةٍ متَّبعةٍ لهذه الشريعة النبويَّة …إلى أن يقول : وغير ذلك مما هو داخل تحت الشريعة المطهرة ، ولم يشذَّ أحدٌ منهم عن ذلك سوى فرقة واحدةٍ تسمَّت بالصوفيَّة ، ينتسبون إلى أهل السنَّة، وليسوا منهم ، قد خالفوهم في الاعتقاد ، والأفعال ، والأقوال ، أمَّا الاعتقاد : فسلكوا مسلكاً للباطنية الذين قالوا : إن للقرآن ظاهراً ، وباطناً، فالظاهر : ما عليه حملة الشريعة النبويَّة ، والباطن : ما يعتقدونه ، وهو ما قدَّمتُ بعض ذكره ، فكذلك أيضاً فرقة الصوفيَّة ، قالت : إنَّ للقرآن والسنَّة حقائق خفيَّة ، باطنة ، غير ما عليه علماء الشريعة مِن الأحكام الظاهرة ، التي نقلوها خَلَفاً عن سلف ، متصلة بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة ، والنقلة الأثبات ، وتلقته الأمَّة بالقبول ، وأجمع عليه السواد الأعظم ، ويعتقدون أنَّ الله عز وجل حالٌّ فيهم !! ومازج لهم !! وهو مذهب الحسين بن منصور الحلاَّج المصلوب في بغداد في أيام المقتدر - الذي قدمتُ ذكره الروافض في فصل "فرقة الخطابيَّة" - ولهذا قال : أنا الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - ، وأنَّ ما هجس في نفوسهم ، وتكلموا به في تفسير قرآنٍ ، أو حديثٍ نبويٍّ ، أو غير ذلك مما شرعوه لأنفسهم ، واصطلحوا عليه : منسوب إلى الله تعالى ، وأنَّه الحق ، وإِنْ خالف ما عليه جمهور العلماء، وأئمَّة الشريعة ، وفسَّرتْه علماء أصحابه ، وثقاتهم ، بناءً على الأصل الذي أصَّلوه مِن الحلول ، والممازجة ، ويدَّعون أنَّهم قد ارتفعت درجتُهم عن التعبدات اللازمة للعامَّة ، وانكشفت لهم حجب الملكوت ، واطَّلعوا على أسراره ، وصارت عبادتهم بالقلب لا بالجوارح .
- نتابع ، وما يزال الكلام للسكسكي صفحة (65) من كتاب "البرهان" يقول : -(1/31)
وقالوا : لأنَّ عمل العامة بالجوارح سُلَّمٌ يؤدِّي إلى علم الحقائق ، إذ هو المقصود على الحقيقة ، وهي البواطن الخفيَّة عندهم ، لا عملٌ بالجوارح .
قد وصلنا ، واتصلنا ، واطَّلعنا على علم الحقائق الذي جهلته العامَّة ، وحملة الشرع وطعنوا حينئذٍ في الفقهاء ، والأئمَّة ، والعلماء ، وأبطلوا ما هم عليه ، وحقَّروهم ، وصغَّروهم عند العوام ، والجهَّال ، وفي أحكام الشريعة المطهرة ، وقالوا : نحن العلماء بعلم الحقيقة ، الخواص الذين على الحق ، والفقهاء هم العامة ؛ لأنَّهم لم يطلعوا على علم الحقيقة ، وأعوذ بالله من معرفة الضلالة ، فلمَّا أبطلوا علم الشريعة ، وأنكروا أحكامها : أباحوا المحظورات ، وخرجوا عن التزام الواجبات ، فأباحوا النظر إلى المردان ، والخلوة بأجانب النسوان ، والتلذذ بأسماع أصوات النساء ، والصبيان ، وسماع المزامير ، والدفاف، والرقص ، والتصفيق في الشوارع والأسواق بقوة العزيمة ، وترك الحشمة ، وجعلوا ذلك عبادة يتدينون بها ، ويجتمعون لها ، ويؤثرونها على الصلوات ، ويعتقدونها أفضل العبادات، ويحضرون لذلك المغاني من النساء ، والصبيان ، وغيرهم مِن أهل الأصوات الحسنة للغناء بالشبابات ، والطار ، والنقر ، والأدفاف المجلجلة ، وسائر الآلات المطربة ، وأبيات الشعر الغزلية التي توصف فيها محاسن النِّسوان ، ويذكر فيها ما تقدم من النساء التي كانت الشعراء تهواها ، وتشبب بها في أشعارها ، وتصف محاسنها كليلى ، ولبنى ، وهند ، وسعاد ، وزينب ، وغيرهنَّ ، ويقولون : نحن نكنِّي بذلك عن الله عز وجل !! ونَصرف المعنى إليه .(1/32)
أقول – أنا سفر - : إن كتاب "إغاثة اللهفان" للإمام ابن القيم رحمه الله فصَّل هذه الأمور تفصيلاً مفيداً ، لكن آثرت أن لا أنقل عنه حتى لا يقال لا يعرفون إلاَّ ابن تيمية ، أو ابن القيم ، وهذا قبل ابن القيم ، وابن تيمية ، وليس ممن له شهرة أنَّه حارب التصوف باسم أنَّه كما يقولون : سلفي ، أو تيمي ، أو ، وهَّابي ، بل هو قبل أولئك جميعا ، ويكتب بموضوعيَّة ، وينقل مِن مصادر كثيرة ، أنا أواصل كلامه لتنظروا بعض مصادره :
يقول : فقد ذكر الفقيه موسى بن أحمد ذلك في الرسالة التي ردَّ بها عليهم ، وبيَّن فيها فساد مذهبهم ، فقال في بيت شعر أنشده فيهم :
يُكنُّون عن ربِّ السماء بزينب وليلي ولبنى والخيال الذي يسري
وتختلط الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، ويتنادى الرجال والنساء ، ويتصافحون ، وإذا حصل فيهم الطرب وقت السماع من الأصوات الشجية ، والآلات المطربة : طربوا ، وصرخوا ، وقاموا ، وقفزوا ، وداروا في الحلقة ؛ فإذا دارت رؤوسهم ، واختلطت عقولهم من شدة الطرب ، وكثرة القفز والدوران : وقعوا على الأرض مغشيّاً عليهم ، ويسمُّون ذلك "الوجد" ، أي : أنَّ ذلك مِن شدة ما يجدون مِن شدة المحبَّة ، والشوق ، قالوا : فأمَّا الخوف ، والرجاء : فنحن لا نخاف النَّار ، ولا نرجو دخول الجنَّة ؛ لأنَّهما ليست عندنا شيئاً ؛ فلا نعبد خوفاً مِن النَّار ، ولا طمعا في الجنة !!
قال سفر : احفظوا هذه الكلمة يا إخوان التي يقولها الإمام لنجد شواهد عليها فيما بعد ، وهي قولهم : "لا نعبد خوفاً مِن النَّار ، ولا نعبد طمعاً في الجنة" .
يقول : هذا مخالفٌ للكتاب ، والسنَّة ، والإجماع ، ومجوِّزات العقول ، ثمَّ إنَّهم يَحملون الأشياء كلها على الإباحة ، فيقولون : كلُّ ما وقع في أيدينا مِن حلالٍ ، أو حرامٍ: فهو حلالٌ لنا ، ولا يبالون هل أكلوا مِن حلالٍ ، أو حرامٍ .(1/33)
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن على القلعي في كتاب "أحكام العصاة" : وهذان الصنفان في الكفر ، والإضلال : أشدُّ ، وأضرُّ على الإسلام ، وأهله مِن غيرهما ، وجميعهم ممن يساق إلى النَّار مِن غير مسألةٍ ، ولا محاسبةٍ ، ولا خلوصَ لهم منها أبد الآبدين – يعني: هذه الفرقة التي ذكرتُها مِن الصوفيَّة ، وفرقة مِن الإسماعيلية الباطنيَّة ، وهم قوم منهم يدَّعون أنَّهم قد اطلعوا على أسرار التكليف، وأحاطوا علماً بموجبه ، وأنَّه إنَّما شرع ذلك للعامَّة ليرتدعوا عن الأهواء المؤدِّية إلى سفك الدماء ، فيُحفظ بذلك نظام الدنيا ، وذلك للمصالح العظمى التي لم يطَّلع عليها الأنبياء ، ومَن قام مقامهم في السياسة ، قالوا : ولهذا اختلفت الشرائع لاختلاف مصالح النَّاس باختلاف الأزمنة بهمَّتنا ، وقوَّة رأينا، ووافي أحلامنا ما نستغني به عن التزام سياسة غيرنا ، والانتظام في سلك المبايعة لغيرنا فلا حظر علينا، ولا واجب ، فإذا سئلوا لأيِّ شيءٍ تُصلُّون ، وتصومون ، وتأتون بما يأتي به المسلمون مِن الواجبات ؟ قالوا : لرياضة الجسد ، وعادة البلد ، وصيانة المال والولد – أي : مِن القتل - ، ولأنَّ هذين الصنفين متفقات في أصل الاعتقاد وإن اختلفا في التأويل إلاَّ مَن عصمة الله تعالى منهم أعني مِن فرق الصوفيَّة، والتزم أحكام الشريعة ، وعمل بها ، وحقَّ العلماء ، والفقهاء – يعني : اعترف لهم بالحق – ولم يَدخل في شيءٍ مِن هذه الخزعبلات ، والأباطيل التي دخلوا فيها ؛ فصحَّ اعتقاده ، وصفت سريرته : فإنَّه مُبرَّأ مما هم عليه .
والى هنا ينتهي كلام الإمام .
يعني يقول : إنَّ مَن انتسب إلى التَّصوف اسماً ولم يكن مثلهم على هذه
الأشياء فهو لا يأخذ حكمهم ، وهذا صحيح ، وكما قلنا : إن هناك كثير مِن النَّاس مخدوعين .(1/34)
الحاصل : قد سمعنا كلام الإمام قشيش ، وكلام الإمام الأشعري ، وكلام السكسكي ، وكلام الرازي ، وكلام البيروني ؛ من مصادر – والحمد لله – موجودة ، وموثقة ، ومطبوعة .
وأيضاً : مِن المعاصرين : هناك أناسٌ كثيرٌ : كتب عنهم عبد الرحمن بدوي ، وكتب عنهم طلعت غنَّام ، وكتب عنهم آخرون - لا داعي لاستعراضهم - .
المهم : أنَّنا ننظر الآن إلى كتابٍ مِن كتب محمد علوي مالكي - ربَّما لم يطلع عليه بعض النَّاس – ؛ الكتاب سمَّاه : "المختار مِن كلام الأخيار" ، طبع في مصر سنة 1398هـ ، ولنقارن ما جاء في هذا الكتاب بما سمعنا الآن مِن عقائد الصوفيَّة ؛ لننظر على أيِّ دينٍ هذا الرجل ، ونعرف عندئذٍ حكمَه ، ونعرف القضيَّة الأساسيَّة التي هي - كما قلتُ - أنَّ التصوف دينٌ مستقلٌ عن الإسلام ، وإنْ دخله مَن ينتسب إلى الإسلام ويدَّعي أنَّه مسلم !!.
يقول محمد علوي مالكي في هذا الكتاب - صفحة (134) - عن السري السَقَطي – يقول : رأيتُ كأنِّي وقفتُ بين يدي الله عز وجل ، فقال : يا سري ! خلقتُ الخلقَ فكلُّهم ادَّعوْا محبتي ، فخلقتُ الدنيا فذهب منِّي تسعةُ أعشارهم ! وبقيَ معي العشر ، قال: فخلقتُ الجنَّة فهرب منِّي تسعةُ أعشار العشر ، فسلَّطتُ عليهم ذرةً مِن البلاء ؛ فهرب تسعةُ أعشار عشر العشر ! فقلتُ للباقين معي : لا الدنيا أردتم ، ولا الجنَّة أخذتم ، ولا مِن النَّار هربتم ، فماذا تريدون ؟ قالوا : إنَّك لَتعلم ما نريد ! فقلتُ لهم : فإنِّي مسلِّطٌ عليكم مِن البلاء بعدد أنفاسكم ؛ مالا تقوم له الجبال الرواسي ، أتصبرون ؟ قالوا : إذا كنتَ أنتَ المبتلي لنا فافعل ما شئتَ . فهؤلاء عبادي حقا.(1/35)
لاحظوا هذا الكلام !! متى خاطب الله السري ؟ هل كلَّم اللهُ أَحَداً بعد موسى عليه السلام ؟ هل عن طريق الوحي ؟ هل نزل جبريل على أحدٍ بعد محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم ؟ انظروا هذه هي الأقوال التي أقول إنَّها أساس الخلاف بيننا وبين الصوفيَّة ، وهو : التلقِّي ، إنَّهم لا يتلقَّوْن مِن الكتاب والسنَّة ، بل يتلقَّوْن مِن المخاطبة المباشرة – علم الحقيقة ، العلم اللدني ، العلم المباشر عن الله – كما يدَّعون أنَّ الله يكلِّمهم ، ويخاطبهم مثل ما ذكر هؤلاء الأئمة – قشيش ، أو الرازي ، أو السكسكي، أو الأشعري - .
هذا الكلام ينقله محمد علوي مالكي عن السريِّ السقطي ، فلنفرض أنَّ السريَّ السقطي أخذ هذا الكلام مِن كتاب "باتنقل" - كتاب الهند الذي قال عنه البيروني - ، أو كتاب "زندادست" هذا ، أو أي كتاب ، أو أي مصدر ، كيف ينقله محمد علوي مالكي؟ .
السؤال هنا للمالكي : كيف تنقل هذا النصَّ وتقرُّه ؟ وأين هم هؤلاء الذين يعبدون الله لا خوفا مِن النَّار ، ولا حبًّا في الجنَّة ؟ ، هؤلاء أفضل مِن أنبياء الله الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} والأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – تعوَّذوا مِن البلاء ؟ ومتى امتحن الله تعالى الخلقَ بعددِ ذراتِهم مِن البلاء ما تصبر له الجبال الرواسي ، وهؤلاء هم – فقط – مَن يحبُّون الله ؟ والله عز وجل بيَّن لنا طريق محبتِه أعظمَ البيان ، فقال الله تبارك وتعالى { يا أيها الذين آمنوا مَن يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ، ويقول الله سبحانه وتعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتَّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } .(1/36)
فذكر أنَّهم يجاهدون في سبيل الله ، وأنَّهم يتَّبعون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء هم الذين يحبُّون الله .
وننتقل إلى نصٍّ آخر ، يقول محمد علوي مالكي صفحة (135) نقلاً من كلام علي بن موفق ، يقول : قال اللهمَّ إن كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً مِن نارك فعذِّبني بها ! وإن كنتَ تعلم أنِّي أعبدك حبّاً لجنتك فاحرمني منها ! وإن كنتَ تعلم أنِّي أحبُّك حبّاً منِّي لك ، وشوقاً إلى وجهك الكريم : فأبِحْنيه ، واصنع بي ما شئت !!!
عجيب - والله – يعني أدعية النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم الكثيرة في الاستعاذة مِن النَّار، وما أمرنا به سبحانه وتعالى أن نقوله في القرآن {ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النَّار }، ودعاء الذين ذكرهم الله تعالى في آخر سورة آل عمران {.. فقنا عذاب النَّار } ، هذه كلها باطل ! وهذه كلها لهو ! وهذه كلها لعب عند الصوفيَّة ! ، والصحيح ، والدين الحق – عندهم - : هو المحبة المطلقة ، كما قلنا : العشق المطلق ، يعني : كلمة "ثيوصوفية" ، عِشق الله عِشقاً مطلقاً ، محبة مطلقة ، هذه هي التي كانت عند الهنود ، وهذه التي ينقلها محمد علوي مالكي وجماعته ، ويقولون : إنَّهم لا يشتهون الجنَّة ، وإنَّهم زهَّاد في الدنيا ، ومع ذلك ينقل هو - المالكي- في صفحة (129) من كتابه عن بشر الحافي ، أنَّه اشتهى الشواء أربعين سنةً!!
أقول : فكيف يجمع المالكي بين نقله عن هؤلاء الذين لا يشتهون الجنَّة ، وبين نقله عن بشر ، وعن – أيضاً - رجلٍ يُدعى إسماعيل الدويري أنَّه اشتهى حلوى كذا سنين .
يعني هذا التناقض كيف يوفِّق بينه هذا الرجل ؟ علماً بأنَّه – أي : بشر الحافي رحمه الله - مِن أمثلهم ، وأفضلهم ، بل هو ليس صوفياً ، إنَّما رجلٌ ، فاضلٌ ، عابدٌ .(1/37)
والإمام أحمد رحمه الله إنما أخذ عليه أنه لم يتزوج ، وهذا مأخذ شرعي ، رحم الله ، الإمام أحمد في ذلك ، فهو يثبت لبشر الحافي التعبُّد ، والزهد ، والورع ، ولكنَّه لأنَّه لم يتزوج : فقد عدَّه الإمام أحمد مخالفاً للسنَّة في هذا .
ونعود إلى كلام المالكي نستعرض ما في هذا الكتاب الذي سمَّاه كما قلنا "المختار من كلام الأخيار" ، والأخيار عندهم : الصوفيَّة حتى البهاليل ، أو المجانين ، أو المجاذيب منهم!!
يقول في صفحة (142) عن إبراهيم بن سعد العلوي ، يقول : مِن كراماته : معرفة ما في الخاطر، والمشي على الماء ، وحرَّك شفتيه فخرجت الحيتان مِن البحر مدَّ البصر رافعةً رؤوسها ، فاتحةً أفواهها ..إلى أخره ، يعني : إبراهيم هذا كان يعرف ما في الخاطر ، وكان يستطيع أن يمشى على الماء، وكان يجمع الحيتان مدَّ البصر بحركة مِن شفتيه !!
مثل هذه الكرامات - علم الغيب - هذا يربطنا بقضيةٍ كبيرةٍ جداً تعرَّض لها هؤلاء الخرافيُّون الأربعة – وهم الرفاعي ، والبحريني ، والمغربييْن -، تعرضوا لهذه القضية ، وهيَ قضية : أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ! ودافعوا عن علوي مالكي في ذلك.
الصوفيَّة حينما يدَّعون أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ، وحين يُكثرون من الكلام على معجزات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : يريدون أن يثبتوا بذلك الكرامات الأولياء ؛ لأنَّهم يقولون كل ما ثبت للنَّبيِّ معجزة : فهو للولي كرامة ، فإذا أيقنتَ ، وآمنتَ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب : فيجب عليك – تبعاً – أنْ توقن ، وأنْ تؤمن بأنَّ الأولياء يعلمون الغيب أيضاً ، لأنَّ هذه للنَّبيِّ معجزة ، وهذه للوليِّ كرامة ، والفرق بينهما : أنَّ النَّبيّ يدعي النُّبوة ، والوليُّ لا يدعيها وأما ظاهر أو صورة الخارق للعادة : فهي صورة واحدة ، وهذا سيأتي له بسط إن شاء الله فيما بعد.(1/38)
المقصود : أنَّ هذا الرجل ينقل هذا الهراء ، وهذه الخرافات ، ويسميها كرامات.
ونستمر معه أيضا في صفحة (144) يتكلم عن النُّوري ويقول سئل النُّوري عن الرضا، فقال : عن وجدي تسألون أم عن وجد الخَلق ؟ فقيل : عن وجدك ، فقال : لو كنتُ في الدرك الأسفل مِن النَّار : لكنتُ أرضى ممن هو في الفردوس !! نسأل الله العافية .
يعني : يقول : إنَّه لو وضعه الله عز وجل في الدرك الأسفل مِن النَّار : سيكون أرضى عن الله تعالى ، وعمَّا هو فيه ممن هو في الفردوس !! لماذا ؟ لماذا هذا الرضا ؟ يَظنون أنَّهم بهذا يرتفعون عن درجة العامَّة ، هم خاصة الله ، أهل الرضا ، محبتهم بلغت بهم إلى هذا الحد مِن محبة الله بزعمهم ، أمَّا العامَّة ، ومنهم – في نظرهم ، والعياذ بالله -: الأنبياء فهؤلاء يخافون مِن النَّار ، ولا يرضون بها ، هم بزعمهم أعلى درجةً مِن الأنبياء ! وحصلت لهم أحداث تدل على كذبهم في ذلك ؛ فإنَّ "سمون" ، وقيل : إنَّه "رويم" لما أراد أن يَمتحن محبته ، فصنع بيتاً من الشعر فقال :
لم يبق لي في سواك بد فكيفما شئتَ فامتحنيِّ
فامتحنه الله بعسر البول ، فحبس بوله عن الخروج ، فكان يصرخ في الطريق ، وينادي الصبيان ، ويقول : احثو التراب على عمِّكم المجنون ، أو انظروا إلى عمكم المجنون .
هذه الأمثال ، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية ، ولا يدَّعي كما يدَّعي هؤلاء الزنادقة - وهم فعلاً زنادقة - يعتقدون عبادة الله عز وجل بالحب وحده ، وكما نعلم جميعاً أن السلف جميعاً أنَّ السلف قالوا : مَن عَبَد الله بالخوف وحده فهو : حروري - يعني : خارجي مِن الخوارج – ، ومَن عَبَد الله بالحبِّ وحده فهو : زنديق ، ومَن عبده بالرجاء وحده فهو : مرجئ ، ومَن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو : السنيِّ .(1/39)
فمن عبده بالحب وحده فهو زنديق وهذا يتفق عليه مع ما ذكره أصحاب الفرق ، أو المؤلِّفون في الفرق وهم : الإمام قشيش ، والأشعري ، والرازي ، والسكسكي - هؤلاء كلهم أئمَّة فرَقٍ وذكرنا النُّقول عنهم - في أنَّ هؤلاء زنادقة ، فهذه العبارة أيضاً تتفق مع ذلك ، فما كان المدَّعون للحبِّ المجرد عند السلف إلا زنادقة ؛ لأنَّهم يُبطنون ، ويخرجون جزءاً مهمّاً جدّاً مِن أعمال القلوب مِن تعبداتها ، مِن أنواع العبادات العظمى ، وهي : عبودية الرجاء ، وعبودية الخوف ، فيسقطونها بالحب .
والله سبحانه وتعالى - كما قلنا - ذكر عن أنبيائه أنَّهم يسألونه الجنَّة ، ويستعيذون به من النَّار ، وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام يقول كما في سورة الشعراء : {واجعلني من ورثة جنة النعيم }.
فكيف يدَّعي هؤلاء أنَّهم أعظم مِن خليل الرحمن - سبحانه وتعالى - وأعلى درجةً ، بل هم ينقلون - وبلغ بهم الاستخفاف أنَّهم نقلوا - كما في "طبقات الشعراني" أنَّ رابعة العدوية قالت لما قرئ عندها قول الله تبارك وتعالى {وفاكهة مما يتخيرون ولحم وطير مما يشتهون } ، قالت : يَعدوننا بالفاكهة والطير كأنَّنا أطفال !!! نعوذ بالله مِن الاستخفاف، سواء صحَّ عنها أنَّها قالت [ أو لم يصح ]، المهمُّ : مَن نقل هذا الكلام : فهو مقر بهذا الاستخفاف بنعيم الله عز وجل وبجنته .
فالتناقض - كما قلنا – أنَّهم ينقلون مثل هذا الكلام ؛ مع نقلهم أنَّ فلاناً اشتهى الشواء أربعين سنَة ، وهذا اشتهى الحلوى كذا سنة .(1/40)
قضية : "ماذا يهدف ؟ ماذا يريد هؤلاء الزنادقة مِن مثل هذه الأمور ؟" : سنتعرض لها إن شاء الله ، نتعرض للهدف : وهو إسقاط التعبدات ، بعد أنْ نستكمل بعض قراءات مِن كتاب المالكي ، هذا الذي - كما قلنا - لم يطلع عليه بعض النَّاس ، أو بما رأوه ولم ينتبهوا لما فيه ، ولم يردَّ عليه أحدٌ ، ونحن نقول لهؤلاء الخرافيين الذين يدافعون عن "الذخائر" : انظروا أيضاً إلى هذا الكتاب ، واجمعوا فكر الرجل مِن جميع جوانبه ، ثم انظروا أيضاً ما هي صلته بالإسلام ، أو بالتصوف الذي هو الدين القديم .
يقول المالكي في صفحة (145) قال "رويم" : مكثتُ عشرين سَنَة لا يعرِض في سرِّي ذكر الأكل حتى يحضر ! .
يعني : مِن زهده لا يعرض له في خاطره ذكر الأكل إلا إذا حضر أمامه .
أولاً : هذا أمرٌ لم يتعبدنا الله عز وجل به ، والله عز وجل ذكر الطعام في القرآن ، وإن كان يخطر ببالِ كلِّ إنسان ،وورَدَ ذكره في أحاديث كثيرة - وليس هنا المجال لحصرها - وليس هناك ما يعيب الإنسان أن يتذكر الطعام ، أو غيره .
وأيضاً : ليس هناك ما يرفع درجته بأنَّه لا يتذكر الطعام ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا بهذا ، ثمَّ هذا عملٌ وأمرٌ لو حصل لأحدٍ فهو أمرٌ خفيٌّ ؛ لأنَّ الخواطر في القلب ، فلماذا يظهرُها ويخبر النَّاس بها ؛ إلا وهم - والعياذ بالله - يحرصون على أن يشتهروا ، أو يُعرفوا .
فهذا العمل الذي لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يفتخر به الأنبياء : يأتي مثل هذا الرجل فيذكرونه في الرياء الكاذب ، هذا هو الرياء الكاذب حقّاً .
ومن الرياء الكاذب أيضاً : ما ينقله عن بعضهم أنَّه قال في صفحة (146) : منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمةٍ أحتاج أن أعتذر منها .
وينقل في صفحة (147) عن آخر : منذ عشرين ما مددتُ رجلي في الخلوة ، فإنَّ حسن الأدب مع الله تعالى : أولى .
[ بعد ] هذا الكلام : قد تقولون : هذه فرعيَّات ! نعم ، لكن نربطها بمنهج الرجل .(1/41)
يعلِّق المالكي على هذا القول الأخير ، يقول : فإنَّ قيل : فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدُّ رجلَه في الخلوة ، وكان أحسن العالمين أدباً ؟
قلنا – أي : المالكي - : شأن أهل المعرفة أبسط ، وأوسع من شأن أهل العبادة ، ولكن لا إنكار عليهم في تضييقهم على أنفسهم ؛ لأنَّ ذلك مقتضى أحوالهم .
لاحظِ العبارة "شأن أهل المعرفة أبسط وأوسع من شأن أهل العبادة"!!!! ، يعني : النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أهل المعرفة ؛ فشأنه أبسط ، وأوسع مِن أهل العبادة ، فيمدُّ رجله لكنَّ أهل العبادة لا إنكار عليه في تضييقهم على أنفسهم ؛ لأنّ ذلك مقتضى أحوالهم!! .
هذه الحال ، وقضية الحال عند الصوفيَّة ، وأنَّ الولي يسلَّم له حاله ، لا يعترض على حاله ، هذه جعلوها طاغوت ، وركَّبوا عليها مِن القضايا البدعيَّة والشركيَّة الشيءَ الكثير جدّاً ، فكون هذا صاحب حالٍ : لا يعترض على حاله ؛ لأنَّه صاحب عبادة ، وهذا صاحب معرفة ! ، هذا مِنَ العوام ، وهذا مِن الخاصَّة ! والحال يسلَّم للخاصة ! وفرقٌ بين هذا الرجل [ وبين غيره ] فما كان حلالاً في حقِّ هذا : فهو حرامٌ في حقِّ الآخر ، وما كان حسنُ أدبٍ مع هذا : فهو سوء أدبٍ مع الآخر !! .
ولذلك ينقل في صفحة (149) ، يقول : إنَّ "الشبلي" - وهو مِن أئمَّتهم - لا نعلم له مسنداً سوى حديثٍ واحدٍ عن أبى سعيد رضيَ الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال "القَ اللهَ عزَّ وجلَّ فقيراً ، ولا تلْقَهُ غَنِيّاً" ، قال : يا رسولَ الله كيف لي بذلك ؟ قال : هو ذاك ، وإلا فالنَّار" !.
يقول المالكي : إن قيل : كيف تجب النَّار بارتكاب أمرٍ مباحٍ في الشرع ؟
قلنا : حال بلال ، وطبقته مِن الفقراء تقتضي ألا يدَّخروا ! فمتى خالفوا مقتضى حالتهم : استوجبوا العقوبة على الكذب في دعوى الحال ، لا على كسبهم ، وادِّخارهم الحلال ! .(1/42)
إذاً هنا قضيَّة تشريعيَّة مهمَّة ، هنا مناط تكليف ، ومناط تشريع يختلف ، ليس المناط أو متعلق التكليف هو أنَّه مسلمٌ ، عاقلٌ ، بالغٌ ، حرٌّ ، لا ، أيضاً هناك مناط آخر وضعته الصوفيَّة ، هل هو صاحب حال ؟ أو صاحب عبادة مِن العامة ؟
إنْ كان مِن أهل الشريعة ، من أهل العبادة ، مِن العامة : فهذا في حقِّه الأشياء حلال، لكن إن كان مِن أصحاب الأحوال : فهذا حتى مجرد جمع المال : حرام ! فإمَّا أن يلقى الله عز وجل فقيراً ، وإلاَّ فليدخل النَّار ،كما وضعوا هذا الحديث المكذوب على رسول صلى الله عليه وسلم ، فيقول - كما يقول المالكي - : "متى خالفوا مقتضى حالهم : استوجبوا العقوبة على الكذب في دعوى الحال ، لا على كسبهم" !! .
يعني : بلال رضيَ الله عنه وأرضاه لو جمع مالاً حتى صار غنيّاً : يدخل النَّار ويعذب لا على أنَّ المال الذي جمعه حرام – هو حلال نعم - لكن على أنَّه مخالف للحال ! كيف يدَّعي حالاً ولا يوافقها !؟
فأية دعوى التي ادعاها بلال ؟ وأية حال ؟
هذه هي المشكلة ؛ أن القوم يضعون تشريعات ، وتقنينات أصلها مأخوذ من أولئك الزنادقة .
ويأتي في صفحة (151) : ينقل عن رجل يقال له "أبو أحمد المُغازَلي" ، يقول : خطر على قلبي ذكرٌ مِن الأذكار ، فقلت : إن كان ذِكرٌ يُمشى به على الماء فهو هذا ، فوضعتُ قدمي على الماء : فثبتت ، ثم رفعتُ قدمي الأخرى لأضعها على الماء فخطر على قلبي كيفية ثبوت الأقدام على الماء فغاصتا جميعاً !!
أرأيتم هذا الذكر خطرَ على قلبه ، لا هو مِن "صحيح البخاري" ، ولا هو مِن "المواهب اللدنيَّة" التي يرجع إليها هؤلاء الخرافيُّون ، ولا من السيوطي ، ولا مِن ابن عساكر ، ولا مِن "الحِلية" ، [ إنَما]خطر على قلبه ! .
وهنا نقف عند قضية خطيرة في منهج التصوف ، والتي أشرنا إليها ، وهي قضية التلقِّي – العلم اللدنِّي - المباشر عن الله .(1/43)
هم يقولون : حدَّثني قلبي عن ربِّى ، ويقولون : أنتم - أي : أهل السنَّة والجماعة – تأخذون علمَكم ميِّتاً عن ميِّت - حدثنا فلان عن فلان عن فلان ، كله ميِّت عن ميِّت - ونحن نأخذ علمَنا عن الحيِّ الذي لا يموت !!
وأنا أقول : إنَّ الحيَّ الذي لا يموت إلى يوم يبعثون - كما أنبأ الله تعالى - :هو إبليس وأنَّه لاشك أنَّ الصوفيَّة يأخذون هذه الوسوسات مِن إبليس ؛ وإلا كيف خطر على قلب هذا الرجل ذِكرٌ مِن الأذكار ؟ ما هو هذا الذِّكر ؟ ما مدى مشروعيته ؟ ما مدى صحته ؟ لا ندري فيقول في نفسه : إن كان ذِكراً يمشى به على الماء فهو هذا ، ثمَّ يضع قدمه على الماء ، ثم يمشي على الماء .
انظروا هذه الخرافات ، يَنقلها هذا الرجل ، ويقرُّها ، لا أقصد أن هذه الخرافات في ذاتها فقط خرافة ، [ إنَّما ] أقصد أن نربطها بمنهج الرجل - منهجه في التلقي - وهو الاستمداد مِن العلم المتلقَّى اللدنِّي ، والاستمداد مِن المنامات ، ومِن الأحلام - كما يأتي أيضاً بعض إيضاح لذلك - .
ثم ينقل - مِن جملة ما ينقل - عن إبراهيم الخَوَّاص صفحة (239) ، يقول : إنَّ الخوَّاص قال : سلكتُ البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً ، منها طريقٌ مِن ذهب ! وطريقٌ مِن فضَّة !
ثم يقول علوي مالكي : فإنْ قيل : وهل في الأرض طرقٌ هكذا ؟ ، قلنا : لا ؛ ولكن هذا مِن جهة كرامات الأولياء !(1/44)
مَن منكم يفهم هذا الكلام ؟ مَن استحل هذا الكلام في عقله ؟ لكن أنتم مخطئون إذا استخدمتم العقل ؛ لأنَّ الصوفيَّة لا تؤمن بالعقل أصلا ، [ بل ] ولا بالنقل ، الصوفيَّة تؤمن بالكشف ، وبالذوق ، فأنتم ما ذقتم- ولا أنا – شيئاً ، ما تذوقنا أنَّنا نمشي في البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً ، منها طريقٌ مِن ذهب ، وطريقٌ مِن فضة ، إذا قلنا مشينا [ إلى مكة ] مَا رأينا شيئاً ، قالوا : أنتم لست أصحاب حال ، أنتم مِن العامَّة ، أصحاب شريعة ؛ لكن نحن أصحاب حقيقة ! نرى هذه الطرق ، فهذه مِن كرامات الأولياء !
هكذا ينقل محمَّد علوي مالكي ، يستشكل ، ثمَّ يأتي بالجواب الذي يعتقد أنَّه جوابٌ مفحِمٌ ، مُسكتٌ .
وينقل عن أخت داود الطائي ، أنَّها قالت له - وهذا يذكرنا بما يفعله عُبَّاد الهنود ، كما ذَكَر البيروني وغيره مما هو معروفٌ عنهم الآن مِن تعاليم النفس – : لو تنحيتَ مِن الشمس إلى الظلِّ – [ يعني : ] تقول : انتقل مِن الشمس إلى الظل - فقال : هذه خُطًا لا أدرى كيف تُكتب .
الصوفيَّة يؤمنون بالجبريَّة المطلقة – سلبية المطلقة – التوكل عندهم : هو تواكل ، يقعد ليذهب في البادية بدون أي زاد ، يقول : متوكِّل على الله ! يجلس في المسجد ، وتُعطى له الزكاة ، وتعطى له الصدقات ، والهبات ، ويقول : متوكِّل على الله .
تقول له [ أخته ] : قم مِن الشمس إلى الظل ، فيقول : خطًا ، لا أدرى كيف تكتب.
لو قمتَ { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } ، الله عز وجل قال لنا هذا ، وأمَرَنا أنْ نتخِّذ الأسباب.
مثل هذه الأشياء ينقلها ، ويعتبرها هي درر كلام الأخيار ، ومِن أفضله .
ننتقل إلى صفحة (242) ، عن أبي يزيد البسطامي : يقول رأيتُ ربَّ العزة في المنام فقلت : "ياباراخُدا" – بالفارسية - .(1/45)
الصوفيَّة يقولون : إنَّهم يروْن الله تعالى في المنام ، ويروْن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، ويقولون : إنَّهم يرون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقظةً .
وبعض تلاميذ علوي مالكي سواءٌ الذين هداهم الله ، أو غيرهم يقولون : إنَّهم يمشون في هذا الطريق – أي : الترقِّي – حتى يرَوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم في المنام ، وأنَّهم سيستمرُّون حتى يصبحوا ليروْنَه يقظةً .
وهذا مِن العقائد الراسخة عند الصوفيَّة - أغلب طرقهم ، أوكلها - مثلا : كتاب "التيجانية" ذكر أنَّ هذا مِن عقائد التيجانية ، وموضَّح فيه ، و"طبقات الشعراني" نقل هذا عن كثيرٍ منهم ، و"جامع كرامات الأولياء" - أيضاً - نقل هذا ، وكثيرٌ مما لا أستطيع أنْ اسمِّيَهم الآن .
في تراجمهم نقلوا أنَّهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بكذا ! ونهاهم عن كذا ! وكلُّ هذا مِن البدع ، ومِن الضلالات التي زيَّنها لهم الشيطان .
الحاصل : أنَّ أبا يزيد يقول : إنَّه رأى ربَّ العزَّة في المنام .
قول هؤلاء : إنَّهم يرَوْن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأشنع منه : مَن يدعى رؤية الله تبارك وتعالى منهم .
لكن خفت عند الصوفيَّة المتأخرين قضية رؤية الله سبحانه وتعالى نوعاً ما ؛ ليُكثرَ مِن رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ربما لأنَّ الاستنكار عليهم كثُر ، ولسببٍ آخر مهمٍّ وهو ازدياد علاقة التصوف بالتشيع ، فكلَّما غلا أولئك في علي رضي الله عنه : غلا هؤلاء في الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ الهدف واحدٌ .
وهذا يدعُنا نترك كتابَ "علوي" الآن ، ونتحدث عن هذه القضيَّة ؛ لأنَّها قضيَّة مهمَّة.
هذه القضية : هي قضية أنَّ أعلى سند إلى الصوفيَّة ينتهي إلى عليٍّ رضيَ الله عنه ، يقولون : إنَّ عليّاً أخذ الخِرقة مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .(1/46)
فالخرقة هذه : يتناقلونها يداً عن يدٍ إلى عليٍّ رضيَ الله عنه ، ويتعلق الصوفيَّة بعليٍّ رضي الله عنه تعلُّقاً شديداً ، يشبه تعلُّقَ الرافضة .
هذه تُظهر لنا الصلة بين دين الشيعة الذي أسَّسه عبد الله بن سبأ ، وبين التصوف ، فتأليه البشر ، أو الحلول والاتحاد - الذي ادَّعاه عبد الله بن سبأ - موجودٌ لدى الطائفيين جميعاً ، وأصله - كما نعلم - مِن اليهود ؛ لأنَّ عبد الله بن سباً يهوديٌّ ؛ فأصلُ الحلول هذا : مِن اليهود ، واليهودي "بولس شاول" هو الذي أوجد هذا الحلول في دين النَّصارى وقال : إن الله جلَّ وتعالى عن ذلك حلَّ في عيسي عليه السلام ، فهو مبدأ يهودي أدخله اليهود في هذه الأديان .
الحاصل : أَّننا نجد أنَّه في القرن الخامس اجتمعت الضلالات والبدع ، ونجد أنَّ نهاية سند الخرقة الصوفيَّة ، ومبدأ العلم اللدنِّي ، والحقيقة التي يدَّعونها ، وعلم الباطن : ينتهي إلى عليٍّ رضي الله عنه .
المعتزلة ينتهي سندُهم إلى علي رضى الله عنه وأنَّه أولُّهم ، ففي كتاب "طبقات المعتزلة" - كتاب "المنية والأمل" وأمثاله - يجعلون أولَّهم علي رضي الله عنه ، فأوَّل المتكلمين : هو علي رضي الله عنه .
أيضاً : بالنِّسبة للشيعة معروف أنَّهم يجعلونه أول الأئمَّة الاثني عشرية ، وكثيرٌ مِن فِرقِ الشيعة تؤلِّهُ عليّاً رضي الله عنه – فهنا ملتقى .
الباقون أيضاً : يلتقون عند علي رضي الله عنه ، في قضية أنَّه هو الباد للدور السابع مِن أدوار الباطنية ، أو الإسماعيلية ، على اختلاف فِرَقِهم في ذلك .
إذاً هناك تخطط ، ومؤامرة ، وجدوا أنَّ نجاح هذا الهدف ، وتحقيق هدم الإسلام : يمكن أن يكون عن طريق تجسس العواطف لحب علي رضي الله عنه .(1/47)
والصوفيَّة لما رأوا كراهية النَّاس للتشييع ، وللرفض - أي : عامَّة المسلمين يكرهون ذلك - لجئوا إلى الطريق الأخبث ، وهو الغلو في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكلُّ ذلك بإيحاءٍ مِن الشيطان ، فغلا هؤلاء في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم غلُوّاً خرجوا به في كثيرٍ مِن الأمور عن حدِّ الإسلام ، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك تخطيطاً ، وتعاوناً ماكراً هدفه : هو هدم الإسلام ، واجتثاث هذا الدين ، والقضاء على عقيدة أهل السنَّة والجماعة بالتلاعب بهذه العواطف - أعني : عواطف العامَّة - بالنسبة لحبِّ علي رضي الله عنه ، أو حب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
ولو شئنا أن نأخذ بعضَ الأدلَّة مِن كلام الصوفيَّة على ذلك : ننظر مثلاً كتاب "أبو حامد الغزالي" على سبيل المثال ، والغزالي كما هو معروف مِن أئمَّة التصوف الكبار ، يقول في صفحة (117) مِن كتاب أو مجموعة "قصور العوالي في رسائل الإمام الغزالي" من الجزء الأول يقول : قال علي رضي الله عنه – وهو يتحدث عن العلم اللدني - : إنَّ الله سبحانه وتعالى أخبر عن الخضر فقال : { وعلَّمْناه مِن لدنَّا علماً } ، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه !! أدخلتُ لساني في فمي ، ففتح في قلبي ألف بابٍ مِن العلم ، مع كلِّ بابٍ ألفُ باب !!
وقال : لو وُضعت لي وسادة ، وجلستُ عليها : لحكمتُ لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم !!.
يقول الغزالي : وهذه مرتبة لا تُنال بمجرد التعلم الإنساني ، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني !! .
وقال أيضاً رضي الله عنه : يُحكى عن عهد موسى عليه السلام بأنَّ شرح كتابه أربعون حِملاً ، فلو يأذن الله بشرح معاني الفاتحة : لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك ، يعني : أربعين وِقراً !! .
وهذه الكثرة ، والسعة ، والانفتاح في العلم : لا يكون إلا لدنيّاً ، إلهيّاً ، ثانوياً . انتهى كلام الغزالي .(1/48)
يعني هذا التعظيم هل يمكن أن ننظر هذه العبر ؟ هل يمكن أنْ يقول علي رضي الله عنه هذا الكلام ؟ ما معنى "أدخلتُ لساني في فمي" ؟ وأين كان اللسان ؟ [ وانظر إلى ] ركاكة العبارة ، وصياغتها ، ثم كيف يحكم علي رضي الله عنه لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ! والله عز وجل قد نسخ هذه الكتب ، ونسخ هذه الشرائع ؟ وكيف عرف علي رضي الله عنه ذلك ، ونحن عندنا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ، ومسلم ، والإمام أحمد ، وغيرهم ، والأئمَّة في مواضع كثيرة : "أنَّ أحد أصحاب علي رضي الله عنه – وهو أبو جحيفة - قال له : يا أمير المؤمنين هل خصَّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ مِن العلم ؟ فقال علي رضي الله عنه : لا والذي فلق الحبَّة ، وبرأ النسمة ، ما خصَّنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ مِن العلم ؛ إلا ما في هذه الصحيفة ، أو فهماً يؤتاه المرء من كتاب الله عز وجل ، فأخرج الصحيفة ، فإذا مكتوب فيها : العقل - أي : والديات - ، وفكاك الأسير ، وأن لا يُقتل مسلمٌ بكافر ، - وفي بعضها - : أنَّ المدينة حَرامٌ" .
فهي وثيقة كتبها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إنَّها مِن الوثائق التي كتبها مِن معاهدات الصلح ، احتفظ بها علي رضي الله عنه .
المهمُّ : أنَّه يُقسِم أنَّ ذلك لم يكن ، هذا دليل على أنَّ الدعوة قديمة قيلت في عهده رضي الله عنه ، وأنَّ عبد الله بن سبأ ، والزنادقة الذين كانوا معه مِن اليهود ، وأمثالهم : هم الذين ابتدعوها .
وننظر إلى كتاب "طي السجل" - وهو أحد مراجع الرفاعي في ردِّه على الشيخ ابن منيع - في صفحة (322) ، يقول : يُروى أنَّ الإمام جعفر الصادق أخذ علم الباطن عن جده لأمِّه الإمام القاسم بن محمد بن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وهو أي : أبو بكر رضي الله عنه أخذ عن سيِّدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه ! وهو أخذ عن سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ! ! .(1/49)
لكن يقول بعد ذلك : وقد صحَّ أنَّ سلمان تلقى علم الباطن عن أمير المؤمنين علي ، وهو ابن عمه صلى الله عليه وسلم ، فلا فرق إذا الكلُّ راجع إليه صلوات الله عليه.
أين هذا العلم الباطن ؟ وما هو هذا العلم الباطن الذي أخذوه ؟ وأين يوجد ؟ ولماذا وُضع سلمان بالذات ؟
لاحظوا أنَّ الباطنية تضع سلمان لأنَّ أصل هذه الفكرة ، سواء التصوف ، أو الباطنيَّة ، أو الزنادقة : جاءت مِن الأفكار المجوسيَّة ، والوثنيَّة – والهندية ، وغيرها - .
والرجل الأعجمي الذي كان في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تلك الديار : هو سلمان رضي الله عنه ، فإذاً فليُجعل هذا هو التُّكئة ، وجُعل سلمان عند بعض طرق الباطنية هو الباب ، أو الحجاب ، إذا الإمام مستور !! وعند الشيعة هو رضي الله عنه مع أبي ذر ، والمقداد ، وعلي - هؤلاء الأربعة - هم الوحيدون المسلمون مِن الصحابة !! وإن كان بعضهم يصلهم إلى أكثر مِن هؤلاء الأربعة فيضيف عمَّار ، وأمثاله .
المهمُّ : أنَّه هو مِن المعدودين مِن الذين ثبتوا على الإسلام ، ولم يرتدوا ، لماذا ؟ لأنَّ الفكرة التي تهيئ نفسها : فكرة يهوديَّة ، مجوسيَّة ؛ إنَّما نشأت في بلاد المجوس ، وانتشرت عن طريقهم ، فيوضع سلمان رضي الله عنه في السند ، وأنَّه تلقى علم الباطن .
ما هو هذا العلم الباطن ؟ هذا الذي نجده في كلام الصوفيَّة في تفسيرهم الذي يسمونه "التفسير الإشاري" ، في إشاراتهم ، في أقوالهم ، في كتبهم ، هذا العلم الباطن ، الذي هو تعبيرٌ آخر عن ما يسمَّى العلم اللدني ، أو علم الحقيقة ، ليس هو العلم الذي بين أيدينا ، ليس هو البخاري ، ولا مسند الإمام أحمد ، ولا كتب الفقه المعروفة أبداً .(1/50)
ولذلك قلتُ : إنَّ معرفتنا بمنهج المتصوفة : أهمُّ مِن الردِّ التفصيلي عليهم ؛ بأنَّ هذا الحديث ضعيف الذي استشهدتم به ، أو هذا الحديث صحيح ، أو غير ذلك ، نقول لهم : أصلاً ليس مِن منهجكم العلمي أنْ ترجعوا إلى كتب السنَّة ، ولا إلى غيرها حتى تردُّوا علينا "بأنَّكم ضعفتم حديثاً ، ونحن نصححه" ، الخلاف [ يسير ] ، ولا داعي للتكفير .
لا ، أنتم مرجعكم إلى الكشف ، إلى الحال ، إلى الذوق ، إلى الوجد ، وليس مرجعكم نصوص الوحي ، فهذا العلم اللدني الذي تتلقونه عن طريق الكشف ، هذا العلم الباطن : نحن نبدأ الجدال ، والنقاش بيننا وبينكم من هذه النقطة ؛ إمَّا أنْ تعودوا إلى الشريعة ، وإمَّا أن تُصروا على أنَّ ما أنتم عليه هو الحقيقة ، وهو العلم الباطن ، فتأخذون حكم الباطنيَّة ، وحكم الملاحدة الذين يدَّعون ذلك.
وبمناسبة قولهم رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام - كما سبق - ، وبمناسبة قضية العلم اللدنِّي ؛ أنقل قصة عن أحد أئمَّة الرفاعيَّة ، ومشايخها الكبار ، الذين أخذوا عن أحمد الرفاعي المؤسس ؛ ننقل هذه كما أوردها صاحب كتاب " طي السجل" صفحة (368) ؛ نقرأ قصة إلباس الخرقة للشيخ علي الأحور ، كما نقلها هذا الرجل ، يقول مؤلف "طي السجل" : وهنا نذكر تيمُّناً قصة إلباس الخرقة للشيخ الجليل علي الأحور شيخ السيد علي الأهدل ، مِن يد حضرة القطب الأعظم السيد الكبير أحمد الرفاعي رضي الله عنه ، بأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام العلامة أبو بكر الأنَّصاري في "عقود اللآل" حين ترجم للعارف الأحور ما نصه :(1/51)
شيخ الشيوخ ، الإمام ، العارف ، الشيخ علي الأحور بن أحمد .. الخ النسب ، أخذ في بداية أمره عن الشيخ العارف بالله عبد القادر الجيلي – يعني : الجيلاني - قدس الله سرَّه ، رأى بـ " أسعر " من بلاد الجزيرة سنة ستين وخمسمائة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ، دلني على أحب مشايخ الوقت إليك ، وأحبهم طريقة عندك لأتمسك به ؟ قال عليه الصلاة والسلام : يا علي أحب مشايخ الوقت إليَّ ، وأرضاهم عندي طريقة : طريقة ولدي السيد أحمد الرفاعي صاحب "أم عبيدة" – وأم عبيده بلدة في جنوب العراق في البطائح التي كان يعيش فيها الرفاعي – قلت يا رسول الله : وكذلك هو – (يعنى هو أفضل المشايخ) - ؟ قال : وكذلك هو ، رغماً على أنفك ! وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال الأحور : فانتبهت خائفاً ، مرعوباً ، وقمت على قدم الإخلاص راجعاً أكر إلى "أم عبيدة" ، فلما دخلتُ على سيدي إمام القوم ، تاج الطائفة ، السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه ، وطلبتُ منه الخرقة ؛ فقال لي : أنا وأخي عبد القادر والفقراء كلهم واحد فالزم شيخك .
قال سفر : لاحظ تقسيمات الصوفيَّة ، هم الذين يفرقون الأمَّة ، هذا تبع هذا الشيخ ، وهذا تبع هذا ، مايحق لهذا أن يأخذ من هذا ، ولا هذا يأخذ من هذا ؛ فكأن المسألة شركات ، و مساومات ، ويحصل بينهم الغضب الشديد على أن طالباً أخذه هذا من هذا.(1/52)
فالرفاعي يقول : الزم شيخك ، قال : فقلت لي معك خلوة ، قال : فليكن ، قال : فلما خلوتُ به : قلت : بالله أسألك مَن أرضي المشايخ طريقة اليوم ، وأحبهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، فقال – أي الرفاعي - : مَن يقال ذلك بشأنه : "على رغم أنفك" – يعني : نفسه - ، يقول : - يعني : أحمد الرفاعي – يدَّعي علم الغيب ، ويدعي أنه عرف الرؤيا ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لهذا المريد على : "رغم أنفك" - يعني : الرفاعي والشيخ على رغم أنفك – فالرفاعي عنده خبر بهذا الكلام ، ولذلك يقول للمريد : أفضلهم مَن قيل في حقه على "رغم أنفك" ، يقول هذا المريد الأحور : فأغشي عليَّ من هيبته ؛ فأجلسني بيديه ، وتواضع لي كل التواضع ، وقال : يامبارك أنت ما تعرف الملاطفة ، طيب خاطرك ! قلت : لا برحتُ إلا بخرقتك ، قال : لا جعلني الله ممن يفرق بين الفقراء ، ويفضل نفسه عليهم ، اصبر هنا برهة يسيرة ، ويقضي الله خيراً ، قال : فمكثتُ سنَةً كاملةً لا أتجرأ على ذكر شيءٍ مما أنا فيه ، وقد جاء شهر ربيع الآخر وفي أول ليلة منه رأيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم !! وأنا في زاوية من زوايا "الرواق" ، فطرحتُ نفسي على قدميه ، وقلت : يارسول الله ، في الليل تشرفني برؤيتك بـ"أسعر" ، وأنا أنتظر أن يسلكني ولدك السيد أحمد الرفاعي – قال سفر : هذا من رفاعة ويقول ولدك !! – طريقتك المباركة ، فتبسم عليه الصلاة والسلام ، وقال : يا علي.. فنادى أحمد ، فجاء سيدي السيد أحمد الرفاعي خاشعاً ، متواضعاً ، فقبَّل يد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ووقف أمامه ، وقال عليه الصلاة والسلام : يا ولدي ! سلِّك الشيخ على طريقتك ، وألبسه الخرقة ! ، فقال : روحي لك الفداء يا حبيبي ، عليك من ربك أفضل الصلاة والسلام ، أنت تعرف أنني لا أحب التفرقة بين فقراء الوقت ، وقصْد الجميع أنت بعد الله سبحانه وتعالى – قال سفر : يعنى يقول : أنا لا أريد أن أعتدي على الشيخ(1/53)
عبدالقادر الجيلاني ، كلُّنا واحد ، وأنت مقصد الجميع – فقال : كذلك ، ولكن أنت شيخ الوقت ، شيخ الفقراء كلهم ، فافعل ما آمرك به ، فقبَّل الأرض بين يدي رسول الله.
يقول هذا المسمَّى الأحور : فانتبهتُ فرحاً مسروراً ، فأحسْنت الوضوء ، وصليتُ ما تيسَّر ، ودخلتُ جامع "الرواق" لأداء صلاة الصبح مع الجماعة ، فرآني سيدي قبل دخولي باب المسجد ، فأخذ بيدي ، وضمَّني إليه ، وأجلسني على بارية هناك ، وأخذ عليَّ العهد ، وألبسني الخرقة ! وقال : هذه لك مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فالبسْها مباركةً إن شاء الله تعالى ! – قال سفر : يعني : في نفس الوقت الرفاعي يعلم الغيب ، عرف الرؤيا ، وعرف ما قاله الرسول بزعمهم للأحور - .
قال : وفي اليوم الثامن من ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله في بغداد … إلى آخره .
يعني : ألْبسه الخرقة ، فتوفي عبد القادر - شيخه الأول - فكان أحمد الرفاعي هو الشيخ البديل ، فنقول : هذا نموذج مِن نماذج كثيرة جدّاً نعرف بها ادَّعاؤهم بهذا العلم اللدنِّي ، ومع تعلقهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ادَّعوا أنَّهم يحبونه وما قصدهم ، وما هدفهم إلا ما ذكرنا ، وأنا لأن أنقل عن من هو أقدم مِن هؤلاء لنعرف حقيقة سبب غلوهم في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ وهو الحلاج ، والحلاج : أفتِيَ بكفره – ولله الحمد - في محضر كبير من علماء المسلمين ، وأقيم عليه الحد ، وقتل بتهمة الزندقة بعد أن اعترف بكثيرٍ مِن الكفريات ، وأنا الآن أقرأ بعض ماذكر مما يتعلق بموضوع الغلو في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ليجد أساسه عند الصوفيَّة ، للحلاج كتاب اسمه كتاب "الطواسين " – مطبوع – يبتدأ من صفحة 82 ، من كتاب "أخبار الحلاج" ، أوَّل الطواسين : هو طاسين السراج ، طبعاْ السراج يقصد النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، أي : السراج المنير يقول :(1/54)
طاسين ، سراج مِن نور الغيب ، بدأ وعاد ، وجاوز السراج وساد ، قمرٌ تجلى مِن بين الأقمار ، برجه من فلك الأسرار ، سمَّاه الحق أمِّيّاً لجمع همَّته ، وحَرَمِيّاً – يعني : نسبة إلى الحرم – لعظم نعمته ، ومكيّاً لتمكينه عند قربه ، شرَح صدرَه ، ورفع قدره ، وأوجب أمره ، فأظهر بدره ، طلع بدره من غمامة اليمامة ، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة ، وأضاء سراجه من معدن الكرامة ، … إلى أن يقول :
ما أبصره أحد على التحقيق سوى الصدَّيق ؛ لأنَّه وافقه ثم رافقه ؛ لئلا يبقى بينهما فرق ، ما عرفه عارف إلا جهل وصفه ، { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } ، أنوار النبوة مِن نوره برزت ، وأنوارهم مِن نوره ظهرت ، وليس في الأنَّوار نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم ، همته سبقت الهمم ، ووجوده سبق العدم !!! واسمه سبق القلم – أي : قبل أن يخلق القلم – لأنَّه كان قبل الأمم ، ما كانت الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق ، أظرف ، وأشرف ، وأعرف ، وأرأف ، وأخوف ، وأعطف من صاحب هذه القضية ، وهو سيِّد البرية الذي اسمه أحمد ، ونعته أوحد ، وأمره أوكد ، وذاته أوجد ، وصفته أمجد، وهمَّته أفرد ، يا عجباً ما أظهرَه ، وأنضره ، وأكبره ، وأشهره ، وأنوره ، وأقدره ، وأظفره ، لم يزل كان ، كان مشهوراً قبل الحوادث ، والكوائن ، والأكوان ، ولم يزل ، كان مذكوراً قبل القبل ، وبعد البَعد والجواهر والألوان ، جوهره صفويٌّ ، كلامه نبويٌّ ، علمه عَلَويٌّ – نسبة إلى علي - ، عبارته عربيٌّ ، قبيلته لا مشرقي ، ولا مغربي ، جنسه أبويٌّ ، رفيه رفويٌّ ، صاحبه أميٌّ ...إلى آخر الكلام الذي ينقله الحلاج ، إلى أن يقول :(1/55)
الحق وبه الحقيقة ، هو الأول في الوصلة ، وهو الآخر في النبوة ، والباطن بالحقيقة ، والظاهر بالمعرفة ، ما خرج عن ميم محمد ، وما دخل في حائه أحد ، حاؤه ميم ثانية ، والدال ميمٌ ، داله دوامه ، وميمه محله ، وحاؤه حاله ، وحاله ميم ثانية .
قال سفر : هذه الطلاسم التي يذكرونها ، هي حساب "الجمَّل" ، أو "أبو جاد" ، أو أبجد هوز والحاء والميم .
نستمر في كلام الحلاج الذي نرى حقيقته ، وحقيقة دينه من قوله في طس الأزل والالتباس ، يقول :
قيل لإبليس : اسجد ، ولأحمد انظر ، هذا ما سجد ، وأحمد ما نظر ! ما التفت يميناً ولا شمالاً ، ما زاغ البصر ، وما طغي – قال سفر : يعني يشبِّه موقف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بموقف إبليس - والعياذ بالله - وأن إبليس لم يسجد ، وأحمد لم ينظر فالاثنان سواء، فإن قلت كيف يشابه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إبليس ، فيقول لك : لا تستغرب، أنظر ماذا قال بعد ذلك في صفحة (99) يقول :
تناظرت مع إبليس وفرعون في "الفتوة" – وهي : درجة مِن درجات الصوفيَّة ، ومقام من مقاماتهم - فقال – أي : إبليس يقول للحلاج - : إن سجدتُّ سقط عني اسم الفتوة ! وقال فرعون : إن آمنتُ برسوله سقطتُّ من منزلة "الفتوة" – والعياذ بالله – وقلت أنا – يقول الحلاج – : إن رجعت عن دعواي ، وقولي سقطت من بساط "الفتوة" – قال سفر : ودعواه هي وحدة الوجود - .
يقول : وقال إبليس أنا خير منه حين لم يره غيره خيراً ، وقال فرعون : ماعلمت لكم من إله غيري حين لم يعرف في قومه من يميِّز بين الحق والباطل – قال سفر : وحدة الوجود ، يصدِّقون كلام فرعون في قوله "ما علمتُ لكم مِن إله غيري" ، يقول : وقلت أنا : إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره ، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق !! – قال سفر : الحلاج كان يقول أنا الحق – يعني : أنا الله – .(1/56)
يقول : وأنا ذلك الأثر ، وأنا الحق لأنَّي مازلت أبداً بالحق حقّاً ، فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون ، هُدِّد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق في اليم وما رجع في دعواه ، ولن يضر بالواسطة البتة ، لن يضر بالوسائط ، ولكن قال "آمنت أنه لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" ، وألم تر أنَّ الله قدر عارض جبريل لشأنه ، فقال : لماذا ملأتَ فمه قملاً ؟ .
أقول : ما في كتاب "الذخائر" لعلوي مالكي أصله : مِن مثل كلام الحلاج هذا .
والحلاج ممن أسَّس لهم الغلو في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام حين يجعله - والعياذ بالله – كإبليس ! وحين يقول إنه مخلوق قبل الأكوان جميعاً ، وقبل أن توجد السموات والأرض ، إلى غير ذلك من الكلام ، الذي احتج الرفاعي وصاحباه احتجا بأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مخلوقاً قبل الكائنات .
أما أن نبوة النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ثابتة ، أو حق قبل خلق السموات والأرض كما ورد في بعض الأحاديث "كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد" : فعلى فرض صحة هذه الأحاديث ، [ نقول ] نعم نبوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثابته ؛ لأنَّ الله عز وجل "كتب في اللوح المحفوظ كل شيءٍ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" ، كما في الحديث الصحيح ، ومما كتب أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سيكون نبيّاً وسيبعث ، فإثبات النبوة شيء ، وإثبات أنه أول من خُلق – كما يقول هؤلاء الخرافيون - شيءٌ آخر.
ونعود فنؤكد أن وراء غلو الصوفيَّة في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وما يدَّعونه من المعجزات ، وما يضعونه ، ويفترونه على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى السنَّة ، والسيرة من هذه الأكاذيب ، والمخترعات ، والخزعبلات إنما قصدهم بذلك إثبات هذه الأكاذيب والخزعبلات للأولياء بدعوى أنها : ما كان للنَّبيِّ من معجزة فهو للوليِّ كرامة ، وهذه دعوى خبيثة .(1/57)
ولو نظرنا إلى المولد أيضاً لوجدنا اعتناءهم بمولد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي أسسه العبيديون ، الزنادقة ، الباطنية ، [ فهم ] أول من أسَّسه ، لو نظرنا إلى اهتمامهم بالمولد [ لرأينا أنهم ] يستمدون منه الاهتمام بموالد أئمتهم ، وسادتهم ، بل قد يعتقدون أن موالد أئمتهم ، وسادتهم ، وأصحاب طرقهم : أعظم مِن المولد الذي يقيمونه للرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى المولد نفسه إنما يقيمونه لهذا الغرض ، ولو شئتم لقرأتُ عليكم ما نقله كتاب "طبقات الشعراني " عن مولد أحمد البدوي – سيِّدهم - مِن مصر الذي يقال له أحمد البدوي يقول الشعراني :
قلت : وسبب حضوري مولده كلَّ سنَة أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه ! أحد أعيان بيته رحمه الله قد كان أخذ عليَّ العهد بالقبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه ، وسلمني إليه بيده ، فخرجت اليدُ الشريفة إلى الضريح ! وقبضتْ على يدي ، وقال : سيدي يكون خاطرك عليه ، واجعله تحت نظرك ، فسمعتُ سيدي أحمد رضي الله عنه مِن القبر يقول : نعم !! .
قال سفر : أحمد البدوي توفي قبل الشعراني بحوالي ثلاثمائة سنة ! سمعه من القبر يقول : نعم ، وأخرج يده ، وبايعه .
يقول : ثم إني رأيتُه بمصر مرة أخرى هو وسيدي عبد العال ، وهو يقول : زرنا بطندتا – وهي : طنطا - ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك ، فسافرت ، فأضافني غالب أهله ، وجماعة المقام ذلك اليوم كلهم بطبيخ الملوخية .
يقول : ثم رأيته بعد ذلك وقد أوقفنى على جسر "قحافة" تجاه طندتا ، وجدته سوراً محيطاً ، وقال : قف هنا ، أدخل عليَّ من شئت وامنع من شئت .
قال سفر : يعني : الجسر تحول إلى سور عريض ويقول له : أنت هنا ، كل مَن يحضر المولد : أدخل من أردت ، وامنع مَن أردت مِن حضور المولد .(1/58)
يقول : ولما دخلتُ بزوجتي فاطمة أم عبدالرحمن ، وهي بكر ، مكثت خمسة شهور لم أقرب منها ، فجاءني وأخذني وهي معي ، وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التى على يسار الداخل ، وطبخ لي حلوى ، ودعا الأحياء والأموات إليه ، وقال : أزل بكارتها هنا !! فكان الأمر تلك الليلة .. إلى أن يقول :
وتخلفتُ عن ميعاد حضوري للمولد سنة 948 ، وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أنَّ سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ، ويقول : أبطأ عبدالوهاب ما جاء - يعني : هو الشعراني فاسمه عبد الوهاب - وأردت التخلف سنَةً من السنين – يعني : عن المولد - فرأيت سيدي أحمد رضي الله عنه ومعه جريدة خضراء وهو يدعو الناس من سائر الأقطار ، والنَّاس خلفه ، ويمينه ، وشماله ، أمم ، وخلائق لا يحصون فمر عليَّ وأنا بمصر ، فقال أما تذهب ؟ فقلت : بي وجع ، فقال : الوجع لا يمنع المحب ، ثم أراني خلقاً كثيراً مِن الأولياء وغيرهم الأحياء ، والأموات من الشيوخ ، والزَّمنى ، بأكفانهم يمشون ، ويزحفون معه يحضرون المولد ، ثم أراني جماعة من الأسرى جاؤا من بلاد الإفرنج مقيَّدين ، مغلولين ، يزحفون على مقاعدهم ، فقال : انظر إلى هؤلاء في هذا الحال ، ولا يتخلفون ، فقويَ عزمي على الحضور ، فقلت له : إن شاء الله تعالى نحضر ، فقال لابد مِن الترسيم عليك ، فرسم عليَّ سبُعيْن – يعني : وضعه بحراسة سبُعين – عظيمين أسْوَدين كالأفيال ، وقال : لاتفارقاه حتى تحضرا به ، فأخبرتُ بذلك سيدي الشيخ محمد الشنَّاوي رضي الله عنه ، فقال :سائر الأولياء يَدْعون الناس بقصَّادهم – يعني: يوصون من يدعوهم إلى مولده – و سيدي أحمد رضي الله عنه يدعو الناس بنفسه إلى الحضور ، ثم قال : إن سيِّدي الشيخ محمد السروي رضي الله عنه تعالى عنه شيخي تخلف سنَةً عن الحضور ، فعاتبه سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، وقال : موضع يحضر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأنبياء عليهم الصلاة(1/59)
والسلام معه ، وأصحابه ، والأولياء رضي الله عنهم ؛ ما يحضره ؟ فخرج الشيخ محمَّد رضي الله عنه إلى المولد فوجد الناس راجعين ، وفات الاجتماع ، فكان يلمس ثيابهم ، ويمرُّ بها على وجهه !!.أ.هـ
يقول الشعراني : وقد اجتمعتُ مرة أنا وأخى أبو العباس الحريثي رحمه الله تعالى بوليٍّ مِن أولياء الهند بمصر المحروسة ، فقال رضي الله عنه : ضيِّفوني فإني غريب ، وكان معه عشرة أنفس ، فصنعتُ لهم فطيراً ، وعسلاً فأكل ، فقلت له : مِن أيِّ البلاد ؟ فقال : مِن الهند ، فقلت : ما حاجتك في مصر ؟ فقال : حضرْنا مولد سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، فقلت له : متى خرجتَ مِن الهند ؟ فقال : خرجنا يوم الثلاثاء ، فنمنا ليلة الأربعاء عند سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وليلة الخميس عند الشيخ عبدالقادر رضي الله عنه ببغداد ، وليلة الجمعة عند سيِّدي أحمد رضي الله عنه بطندتا ، فتعجبْنا مِن ذلك ، فقال : الدنيا كلها خطوة عند أولياء الله عز وجل ، واجتمعنا به يوم السبت انفضاض المولد طلعة الشمس ، فقلنا لهم : مَن عرَّفكم بسيِّدي أحمد رضي الله عنه في بلاد الهند ؟ فقالوا : يالله العجب أطفالنا الصغار لايحلفون إلا ببركة سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، وهو من أعظم أيمانهم - قال سفر : انظروا إلى هذا الشرك - وهل أحدٌ يجهل سيِّدي أحمد رضي الله عنه ؟ إن أولياء ما وراء البحر المحيط ، وسائر البلاد ، والجبال يحضرون مولده رضي الله عنه .(1/60)
يقول الشعراني : وأخبرنى شيخنا الشيخ محمد الشناوى رضي الله عنه أن شخصاً أنكر حضور مولده فسُلب الإيمان !! فلم يكن فيه شعرة تحنُّ إلى دين الإسلام فاستغاث بسيِّدي أحمد رضي الله عنه ، فقال : بشرط أن لا تعود ؟ فقال : نعم ، فردَّ عليه ثوب إيمانه ! ثم قاله له : وماذا تنكر علينا ؟ - يعني : في المولد - قال : اختلاط الرجال والنساء ، فقال له سيِّدي أحمد رضي الله عنه : ذلك واقعٌ في الطواف ، - قال سفر: يختلط الرجال بالنساء في الطواف ، ويشبِّه مولده بالطواف – ولم يمنع أحدٌ منه ، ثم قال : وعزة ربي ما عصى أحدٌ في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته ، وإذا كنتُ أرعى الوحوش ، والسمك في البحار ، وأحميهم من بعضهم بعضاً ، أفيعجزني الله عز وجل عن حماية مَن يحضر مولدي ؟
قال سفر : هذا هو التصرف في الكون ، إنَّه حتى الوحوش يحميها بعضها من بعض ، ويحجزها ، والسمك في البحار ، فيتصرف في هذه الأمور كلها ، فكيف لا يتصرف فيمن يحضر مولده ؟ هذا هو أحمد البدوي ، ماذا تتوقعون أن يقولوا في مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إن قالوا أعظم من هذا : فهو – والعياذ بالله – الشرك والكفر ، وإن قالوا : لا ، نحن نفضل مولد البدوي على مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونعطي البدوي مِن الولاية والاختصاص ما لا نعطي الرسول صلى الله عليه وسلم : فهي الطامَّة الكبرى وإذاً هم الذين يحتقرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحبونه ، وليس أهل السنَّة والجماعة - كما يزعمون - فليختاروا مِن هذين ما شاؤوا .(1/61)
يقول : وحكى لي شيخنا أيضاً : أن سيِّدي الشيخ أبا الغيث بن كتيلة أحد العلماء بـ"المحلة الكبرى" ، وأحد الصالحين بها كان بمصر ، فجاء إلى "بولاق" ، فوجد الناس مهتمين بأمر المولد ، والنزول في المراكب ، فأنكر ذلك ، وقال : هيهات أن يكون اهتمام هؤلاء بزيارة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم مثل اهتمامهم بأحمد البدوي ، فقال له شخص : سيِّدي أحمد وليٌّ عظيم ، فقال : ثَمَّ في هذا المجلس من هو أعلى منه مقاماً ، فعزم عليه شخص – أي : عزمه – فأطعمه سمكاً ، فدخلتْ حلقَهُ شوكةٌ تصلَّبَتْ فلم يقدروا على نزولها بدهن عطاسٍ ، ولا بحيلة مِن الحيل ، وورِمت رقبتُه حتى صارت كخلية النَّحل تسعة شهورٍ وهو لا يلتذ بطعام ، ولا شراب ، ولا منام ، وأنساه الله تعالى السبب ، فبعد التسعة شهور : ذكَّره الله تعال بالسبب فقال : احملوني إلى قبة سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، فأدخلوه ، فشرع يقرأ سورة "يس" ، فعطس عطسةً شديدةً فخرجت الشوكة مغمسة دماً ، فقال : تبتُ إلى الله تعالى يا سيِّدي أحمد !! وذهب الوجع ، والورم من ساعته .
قال سفر : أصيب هذا الرجل لأنَّه يقول إن الناس تهتم بزيارة مولد البدوي أكثر من زيارتهم للرسول صلى الله عليه وسلم .
ويستمر الشعراني فيقول : وَأنكر ابن الشيخ خليفة بناحية "أبيار" بالغربة حضور أهل بلده إلى المولد ، فوعظه شيخنا محمد الشناوى ، فلم يرجع ، فاشتكاه لسيِّدي أحمد فقال: ستطلع له حبَّة ترعى فمَه ولسانَه ، فطلعت مِن يومه ذلك ، وأتلفت وجهه ، ومات بها .(1/62)
ويقول : ووقع ابن اللَّبَّان في حق سيِّدي أحمد رضي الله عنه - بمعنى : انتقص حقه - فسُلب القرآن ، والعلم ، والإيمان !! فلم يزل يستغيث بالأولياء ، فلم يقدر أن يدخل في أمره – يعني : ما دخل أحدٌ بينه وبين البدوي ليُخلَّصه منه - فدلُّوه على سيِّدي ياقوت العرشي ، - قال سفر : وهذا سمُّوه ياقوت العرشي ، قيل : إنه كان يسمع حملة العرش ! وقيل : إنَّه يرى العرش لذلك سُمِّي العرْشي ، وربما يمر علينا شيءٌ مِن ترجمته – فمضى إلى سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، وكلَّمه في القبر ، وأجابه ، وقال له : أنت أبو الفتيان رُدَّ على هذا المسكين رسماله ، فقال : بشرط التوبة ! فتاب ، ورَدَّ عليه رسماله ، وهذا كان سبب اعتقاد ابن اللبان في سيدي ياقوت رضي الله عنه ، وقد زوجه سيِّدي ياقوت ابنتَه ودُفن تحت رجليها بالقرافة .
إلى أن يقول :
وكان سيِّدي عبد العزيز إذا سئل عن سيِّدي أحمد رضي الله عنه يقول : هو بحر لا يُدرك له قرار ، وأخباره ، ومجيئه بالأسرى مِن بلاد الإفرنج ، وإغاثة الناس مِن قُطَّاع الطريق ، وحيلولته بينهم وبين مَن استنجد به : لاتحويها الدفاتر رضي الله عنه .
قلت : وقد شاهدتُ أنا بعيني سنة خمس وأربعين وتسعمائة أسيراً على منارة سيِّدي عبد العال رضي الله عنه – وهو تلميذ البدوي - مقيَّداً مغلولاً وهو مخبَّط العقل ، فسألتُه عن ذلك ، فقال : بينا أنا في بلاد الإفرنج آخر الليل ، توجَّهتُ إلى سيِّدي أحمد – يعني : دعا أحمد - فإذا أنا به فأخذني ، وطار بي في الهواء ، فوضعني هنا ، فمكث يومين ورأسه دائرة عليه مِن شدة الخطفة رضي الله عنه .أ.هـ(1/63)
فإذا كان هذا اعتقادهم في البدوي وفيمن يحضر مولده ، وعقوبة مَن يشكِّك في حضور مولد البدوي ؛ فما ظنك بقولهم ، واعتقادهم بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وكما قلنا ؛ إما أن يقولوا إنه أعظم : فهو أعظم شركاً ، وإما أن يقولوا : لا ، مولد البدوي أعظم ، فقد فضَّلوا البدوي على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا ليعلم الإخوان أن المسألة ليست أن محمَّد علوي مالكي ومن معه يحضرون كما يقولون يأتون بالكوازي ، والكبسات ، ويقولون للنَّاس : تعشُّوا ، وصلُّوا على الرسول ، واحتفلوا بذكراه ، ونقرأ شيئاً مِن السيرة ، وندعو النَّاس إلى محبَّته صلى الله عليه وسلم ، ونستغلها فرصة للوعظ ، ولتبيين أحوال المسلمين ، وللتذكير بالمحرمات ، ومحاربة الشيوعية ، ولغير ذلك مما جعجع ، وطنطن به الرفاعي ، والمغربيان ، والبحريني .
المسألة هي هذا الشرك ، وهذه الاستغاثات ، وهذه النداءات ، وأن من ينكر ذلك يُسلب إيمانه ، ويسلب دينه ، ويبتلى بكذا وكذا ، أوهام ينسجونها ، وأساطير يُرهبون بها الناس حتى لا ينقدوهم ، وحتى لا يفتحوا أفواههم عليهم ، وحتى يستعبدوهم بها ، وكما نرى كثيراً مِن النَّاس يدفعون لهم الأموال الطائلة ، ويتبركون بهم ، ولا يتزوجون إلا بإذنهم ، ولا يسافرون إلا بأمرهم ، ولا يعملون أيَّ عملٍ إلا بعد أن يستأذنونهم ، ويتبركون بمشورتهم ، وبنصيحتهم بسبب ما يحيطون به أنفسهم مِن هذا الإرهاب الشديد الفظيع ، وأنهم يملكون أن يوقعوا بأعدائهم مثل هذه الأمور نسأل الله السلامة والعافية .(1/64)
ونبدأ بالحديث عن تعلقهم بالمولد ، وتعظيمهم له لا من حيث أنه هو قضية في ذاتها فحسب كما أسلفنا ؛ وإنما من حيث دلالته على منهج هؤلاء ، وعلى ضلالهم ، وعلى ما يأتي فيه من الخرافات ، ومن الشركيَّات التي إذا ربطناها بأصل التصوف السابق عرفنا أن القوم فعلاً يستقون مِن معين "الثيوصوفية" ، ومِن معين الأفكار الفلسفيَّة الوثنيَّة ، ومِن معين الخرافات النصرانيَّة والمجوسيَّة التي هي بعيدة كل البعد عن الاسلام وليس عليها دليل مِن كتاب الله ، ولا مِن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المالكي ينكر أن القيام في المولد سببه ادعاء رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ينكر هذه الدعوى ، ويقول : نحن لا نقف مِن أجل ذلك ، لكن أؤكد لكم أنَّ مَن حضر المولد ممن هداهم الله سبحانه وتعالى ، ومِن النَّاس الآخرين الذين حضروا لغرض أن يروا ما فيه ودعوا إلى ذلك فوافقوا ، أكدوا ، وأخبروا أنَّهم يقولون : جاء الرسول ، جاء الرسول !! ويقفون ، وعلى أية حال مهما أنكر المالكي وقال هو وأصحابه ؛ فنحن نقرأ ما ذكره هو بنفسه في كتاب "الذخائر" صفحة 107 ليرى الحق بإذن الله تعالى : يقول العنوان : (صلوات مأثورة لرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم !) :
نقل الشيخ الغزالي في "الإحياء" عن بعض العارفين نقلاً عن العارف المرسي رضي الله عنه أنَّ مَن واظب على الصلاة ، وهي : "اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ عبدك ونبيك ورسولك النَّبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلم" في اليوم والليلة خمسمائة مرة لا يموت حتى يجتمع بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظة !!.(1/65)
ونقل عن الإمام اليافعي في كتابه "بستان الفقراء" أنه ورد عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : مَن صلَّى عليَّ يوم الجمعة ألف مرة بهذه الصلاة ، وهي : "اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّد النَّبيِّ الأمِّيِّ" فإنَّه يرى ربَّه في ليلته ، أو نبيَّه ، أو منزلتَه في الجنَّة ، فإن لم يرَ فليفعل ذلك في جمعتين ، أو ثلاثٍ ، أو خمسٍ ، وفي رواية : زيادة : "وعلى آله وصحبه وسلِّم" .
وفي كتاب "الغنية" للقطب الربَّاني سيدي عبد القادر الجيلاني عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يصلِّي ليلة الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعةٍ فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة ، وخمسة عشر مرة { قل هو الله أحد } ويقول في آخر صلاته ألف مرة : "اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّد النَّبيِّ الأمِّيِّ فإنَّه يراني في المنام ولا تتم له الجمعة الأخرى إلا وقد رآني ، فمن رآني فله الجنة ! وغفر له ما تقدم مِن ذنبه ، وما تأخر" .
هذا الكلام ذكره محمد علوي مالكي في "الذخائر" بهذا العنوان (صلوات مأثورة لرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم ) ، ونحن نسأله ، ونسأل أتباعه : هل أنتم تشتاقون لرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم ؟ هم يقولون : إنَّهم أشد الناس حبّاً له ، وتعظيماً له ، وشوقاً له ، أيضاً نسألهم سؤالاً آخر : هل أنتم ممن يعمل بما يعلم ؟ فيقولون : نعم ، نحن كل شيءٍ نراه مِن السنَّة ، ومن العلم نعمل به ؛ فنقول : لابد أنَّكم عملتم بهذا الكلام ، أنتم مشتاقون إلى الرسول بزعمكم ، وتعملون بما تعلمون ، وتكتبون فلابد أنكم عملتم بهذا .(1/66)
فلذلك الذي يدخل معهم ، والذي يتقرب إليهم ، والذي يقدِّسهم ، ويبجِّلهم : إنَّما يفعل ذلك اعتقاداً أنهم عملوا هذه الصلوات ، وحصلت لهم الرؤية كما يصدر عنهم من أقوال ، أو أعمال ، أو نصائح ، أو مشورة ؛ فليس مِن عند ذاتهم ، وإنما في إمكانهم أن يأخذوه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مباشرة .
أقول هذا الكلام ليؤكد الحقيقة السابقة وهي أنَّ المسألة ليست مسألة نقاش علمي أنَّهم يصحِّحون حديثاً ضعفناه ، أو وضَّعناه ؛ أبداً ليست القضية بهذا الشكل ، القضية أنَّه يرجعون هم مباشرةً بزعمهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأخذون منه ، ونحن نجهد أنفسنا في البحث عن الرجال ، والتنقيب في الجرح والإسناد والتعديل إلى غير ذلك ، وهم يأخذون مباشرة ! – بزعمهم - ، ومِن أسباب الأخذ المباشر هو حضور النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليتَلَقَّوا عنه المولد ، فيقيمونه لهذا الغرض ، وأنبِّه مرة أخرى ، وأنا كررته : أنني لا أعني أنَّ كلَّ مَن يحضر المولد ويتعشى يحصل له هذا الكلام .
وإن المسألة درجات ، وأنا سأبين بعد قليل مراتب ، ودرجات رجال الغيب عند الصوفيَّة فيتضح أن المسألة درجات ، وأن الذي يحضر ويتعشى ، أو يتبرع لهم بعشاء ليس مثل المريد المتعمق الذي يداوم على ذكر الأوراد وعلى ما يحصل في الخلوات ، وعلى ما يتقرب به هؤلاء الناس .
وأنقل الآن شاهداً واحداً لتعرفوا به أيها الإخوة لماذا يدافع هاشم الرفاعي وأمثاله عن علوي مالكي :
هناك كتاب للرفاعيَّة نقل منه الرفاعي ، وجعله من مراجعه في الأخير وهو كتاب "طي السجل" الذي نقلتُ منه بعض أشياء فيما تقدم ، وأقرأ لكم فقط منه قضية هذا المؤلف عندما حصل على درجة القطب الأعظم ، أو الغوث الأعظم الذي سنعرف عند تفصيل رجال الغيب : نعرف قيمته ، وما هي مهمته بالنسبة لرجال الصوفيَّة .
يقول هذا الروَّاس :(1/67)
… سرٌّ غريبٌ ، جئتُ من مدينة سيد الأنَّام عليه من ربه أفضل الصلاة وأكمل السلام إلى بلد الله الحرام ، فبعد أن دخلتُ الحرم المحترم ، وقفتُ تجاه المشهد الابراهيمي المكرَّم كشف الله أغطية الأكوان علويَّها وسفليَّها !! فطافت همَّتي في زواياها ، وكُشفتْ حجب خباياها ، ورجعتْ عن كلِّها إلى الله تعالى ، متحققة بالطمأنينة المعنيَّة بسر قوله تعالى { يا أيتها النَّفس المطمئنَّة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيَّةً } ، وقد تدلَّتْ هناك إلى قلبي قصص السموات – قال سفر : ولا أدري ماذا يريد بهذا - منحدرةً مِن ساحل بحر قلب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد شخصتْ إليَّ الأبدال ، والأنجاد ، ورجال الدوائر ، وأهل الحضارات ، وأرباب المكاشفات ، والمقرَّبون مِن عوالم الإنْس والجن ، وفقهتُ نطق الجمادات الظني ولغات الطيور ، ومعاني حفيف الأشجار والنباتات ، ورقائق خرير الماء ، ودقائق صرير الأقلام ، وجمعتُ شفاف الرموز ، فكنتُ أحضر وأغيب معي وعني في اليوم والليلة ثمانين ألف مرة ، وانفسح سمعي فوعتْ أذني أصوات النَّاطقين ، والمتكلمين على طبقاتهم واختلاف لغاتهم مِن مشارق الأرض ومغاربها ، ومزقتُ بردة الحجاب المنسدل على بصري فرأيت فسيح الأرض ومن عليها ذرةً ذرةً ، وتصمتتْ همَّتي فانجدلتُ في الكل تمريراً لحكم التصرف بمنزلة الغوثيَّة الكبرى ، والقطبيَّة العظمى ! .
قال سفر : يريد أن يقول هذا تمريراً لكي يتصرف ، ويصبح الغوث الأكبر ، والقطب الأعظم الذي يتصرف في الكون كله – بزعمهم ، والعياذ بالله - كما سنوضح إن شاء الله .(1/68)
يقول : وحملتْني أكفُّ عناية سادات النَّبيِّين والمرسلين ، وأغاثتْني في كل حركةٍ وسكنةٍ إعانة روح سيد المخلوقين ، وأتممتُ مناسكي ، وإذا هناك شيخ الدوائر ، وسلطان المظاهر وأمين خزائن البواطن والظواهر ، وشحنة الجمْع ، وعالم الفرْق ، وقيل لي : سِرْ على بركات الله بقدمك وقالبك إلى الروم - يعني : القسطنطينية مقر الدولة العثمانية ؛ لأنَّ هذا يكتبه في آخر أيام سلاطين الدولة العثمانية - .
قال : فانحدرتُ بعد أداء ما وجب إلى مصر ، ومنها إلى الشام ، ومنها إلى مرقد الإمام الصيَّاد - الذي ينتسب إليه الصيَّادي ، مؤلف الكتاب عن الرفاعي – وجددتُّ العهد الذي مضى ، والوقت الذي انقضى ، وقمتُ مِن حضرته أرفل بحلل الرضا حتى وصلتُ إلى "جسر الشغور" – بلد في سوريا – ومنها إلى قرية هناك بظاهر البلدة اسمها "كفر ذبين" وأنا في حال جمعٍ محمَّدي ، وأقف على ظهر جامع خربٍ طُويت أخباره ، وانطمست بالتراب آثاره ، فنوديتُ بالغوثيَّة الكبرى مِن مقام التصرف – قال سفر : نودي بأنَّه الغوث الأكبر من مقام التصرف في هذا الجامع الخرب وهو هناك بالشام !! كيف نودي ؟ - يقول :
أبصرتُ العلم المنتشر بالبشرى وقد رفعه عبد السلام أمين حراس الحضرة النبوية من أولياء الجنِّ !! – يعني : عبد السلام هذا أمين حراس الحضرة النبويَّة مِن أولياء الجنِّ رَفع له العلم مِن المدينة وهو هناك في الشام ، علم الولاية ، مقام التصرف وأنه أصبح الغوث الأكبر والقطب الأكبر –(1/69)
يقول : فانعطفتْ إليَّ أنظار الصدِّيقين ، وتعلقتْ بي قلوب الواصلين ؛ فسجدتُّ لله شكراً ، وحمدتُّه سبحانه وتعالى على نِعَمَه ، وعظيم كرمه ، وسرتُ ، ولمحل ندائه معنىً في القلب سيظهر إن شاء الله وتعمر البقعة ، وتقام في الجامع الجمعة ، كذا وعدني ربي بالإلهام الحق ، وهو لا يخلف الميعاد ، قاله الله – هكذا - ، وانتهيتُ في حسيني من طريق "الكلب" إلى "عين تاب" و"مرعش" ثم إلى "آل البستان" ، ومنها مرحلة مرحلة إلى بلدة "صانصول" ، ودخلت اللجة – يعني : البحر – أفجُّها فجة فجة ، حتى انتهى الثور المائي إلى القسطنطينية … - إلى أن يقول : وفي القسطنطينية قابل السلطان – إلى أن يقول :
واجتمعتُ بِها على الخضر عليه السلام ست مرات ، فيالله مِن حكم سماويَّة تنزل مِن لفاف دور القَدَر يمضيها الحُكم الإلهي في تلك البلدة إمضاءً ، وإنفاذاً ، ولربي الفعل المطلق ، له الحكم وإليه ترجعون .أ.هـ
ثم يتحدث طويلاً ، المهم أن هذه هي قضية بيعته ، وكيف بويع ، وهذا الرفاعي هو الذي ينقل عنه هاشم الرفاعي كما قلنا ويؤيد كلام المالكي .
فإذاً لا نستغرب منه أن يؤيد ما يتعلق برؤيتهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومخاطبتهم له ، وهذا طريق حراس حضرتهم من الجن يرفع الولاية ، وهو أيضاً كما يقول يبشر هذا الرجل بالولاية الكبرى ، بل أن هناك ما يخبر بأن هذا الجامع الخرب الذي عين بيع فيه بالقطبية العظمى والولاية الكبرى سوف يعمر … هذا غيضٌ مِن فيضٍ ، والأمثلة كثيرة جدّاً لكن لا أريد أن أستغرق فيها ؛ لأنَّنا نريد أن ننتقل إلى موضوعٍ أكثر تفصيلاً وهو حقيقة سُلَّم الترقِّي عند الصوفيَّة ! كيف يترقون ؟ وكما قلت ليس مَن يحضر العشاء أو يتعاطف معهم هو منهم ، بل هناك درجة ، وهناك شكل هرمي معيَّن يترقَّون خلاله وهو مما يزيدنا تأكيداً وإلحاحاً على أن هؤلاء القوم باطنيَّة زنادقة ؛ لأنَّ نفس هذا الترتيب موجود عند الباطنية .(1/70)
نقول : إنَّ أركان الطريق عند الصوفيَّة هي أربعة - أو خمسة إذا أضفنا "الشطحات" -
الأول : هو الشيخ ، وهذا الشيخ - أو المرشد كما يسمُّونه - ركنٌ أساسيٌّ عندهم ولابد أن يرتبط الإنسان بشيخٍ ، بل في كتاب "تربية الأولاد" الذي ألَّفه الشيخ عبد الله علوان يقول : لابد أن يُربط الطفل بشيخ !! وهذا مِن آثار التصوف ، فعنده لابد أن يرتبط به ، ولابد أن يسير على نَهجه ، وأن يقتدي به ، وأن يسلِّم له بالكلية ، كما عبَّر أبو حامد الغزالي وعبَّر غيره : أن يكون عند الشيخ كالميِّت بين يدي الغاسل لا تصرف له على الإطلاق !! .
ثم بعد ذلك تكون : الخلوة ، والخلوة : بعد ما يرتبط بالشيخ يُدخله في خلوة معيَّنةٍ ويُلقِّنُه الأذكار المعينة ، والخلوة هذه ينقطع الواحد منهم فيها عن الجُمَع والجماعات ، وعن سائر العبادات ، ويردِّد الذِّكر المعيَّن الخاص بالطريقة الذي يلقِّنُها إيَّاه الشيخ ويستحضر في قلبه أثناء الذكر ، وأثناء تَرداده صورة الشيخ ، ويستمر على ذلك حتى يحصل له الفتح ! وبعضهم يأتيه فتحُه - كما يقولون - في أيامٍ ، وبعضهم في أسابيع ، وبعضهم إلى عشرين سنَة ، أو أكثر ، وهو لم يُفتح عليه ، يُردِّد يردِّد ولم يفتح عليه ؛ فيقولون: لم يُفتح عليك لأنَّ قلبك لم يتنقَّ ، أو ارتباطك بالشيخ ضعيف !.(1/71)
الحاصل : عندهم فلسفات طويلة ، وأمور كثيرة يعالجون بها هذه الأمور ، ثم إذا حصل الفتح أو الكشف : ينتقل الطالب أو المريد من مرحلة المجاهدات والرياضات إلى مرحلةٍ يسمُّونها المشاهدات ، والكشوفات ، والتجليات : فيحصل له الفتح بأن يُخاطَب - يخاطبُه رجلٌ - أو يرى مناظر غريبة جدّاً ، أو يرى أشياء تخاطبه وتكلمه ، وهذا الفتح يكون عبارة عن كرامة بالنسبة لهذا المريد ، فإذا أعطي هذه الكرامة - كما يسمُّونها – تكون : خوارق حسيَّة ، وتكون اطِّلاع على المغيبات - كما يعتقدون - ، تكون برؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والاجتماع به يقظة ، تكون بمخاطبة الله له مباشرة !! .
وبالمناسبة أذكر لكم أن هناك كتاباً اسمه "المواقف والمخاطبات" لعبد الجبار النَّسَري ، عاش في القرن الخامس ، وهو كتاب كبير ، أظنه أكثر من خمسمائة صفحة ، هذا الكتاب كله مخاطبات ، ومواقف ، مثل : وقفتُ بين يدي الله الحق فقال لي ! وخاطبني الحق فقال لي ! وهذا مِن أئمتهم ، ويستشهدون بما في هذا الكتاب الذي حققه المستشرقون - الذين هم دائماً وراء نشر تراث الصوفية - .
المهم : تحصل له هذه المخاطبات ، أو هذه المكاشفات ، ثم ينتقل بعد ذلك من هذه الكرامات إلى أنه قد يصير هو شيخاً ، يمكن أن يبقى مرتبطاً بالشيخ الأول ، تختلف الأحوال .
المهم : أن الدرجة الخامسة بعد الكرامات ، والكشوفات هي :(1/72)
الشطحات : وهو أنه إذا ذَكَر ، أو حضر مجلس ذكر ، أو حضر أمامه ناسٌ : تظهر على لسانه الكلمات الكفرية الشنيعة جدّاً ، ويسمُّونها شطحات ويعبِّرون بها عن عين الجمع - كما يسمُّونه - ومعنى عين الجمع : اتحادهم بالله !! - والعياذ بالله - أو الاستغراق ، أو السُّكُر ، والحُب ، والوجد ، أو ما يلبِّسون به على النَّاس بأنَّ هذه الكلمات الكفريات سببها هذا الكلام ، ثم إن من يبلغ به الحد إلى الشطحات - كما كان الحلاَّج وأمثاله كل كلامهم شطحات من هذه الكفريات - يعتبرون أنَّ هذا قد بلغ غاية الولاية ، عندما يمشي الحلاج في الشارع - مثلاً - ويدَّعى أنَّه هو الله ! ويقول : أنا الحق ! وما في الجبة إلا الله ! ويسمعه الناس - هو وأبو اليزيد البسطامي وأمثالهم - .
أقول : إن هذه الدرجة : الولاية الكبرى ، هذا ليس كفراً ! كما يظنُّ النَّاس الملبَّس عليهم ، المحجوبون ، المغفلون ، هذا مِن عِظَم ولايتهم ، ترقَّوا في مشاهدة الحقَّ ! والفناء فيه ، والجمع معه ، والالتصاق به ، حتى أصبحوا بهذه الدرجة ، هذا الأمر يجعلنا نستعرض بعض كلام لأبي حامد الغزالي ، وأنا تعمدت اختيار الغزالي لأنَّه متقدمٌ ؛ ولأن كتبه مشهورة ، ولأنَّه معروف عند الكثير.
يقول الغزالي في الجزء الرابع من "مجموعة رسائله" (صفحة 25) :
أول مبادئ السالك : أن يكثر الذكرَ بقلبه ، ولسانه بقوة ، حتى يسري الذكر في أعضائه ، وعروقه ، وينتقل الذكر إلى قلبه .
- قال سفر : لعلَّ الوقت يتَّسع ، وأنقل لكم صورة مولد حصلت ، وحضرها أحد الكتَّاب الإنجليز ، وسجَّلها ، ودوَّنها ، لتشاهدوا قضية كيف أن الذِّكر يقوُّونه حتى يدخل في الأعضاء ، ثم يحصل للإنسان الإغماء - .
يقول : فحينئذ يسكت لسانه ، ويبقى قلبه ذاكراً يقول : "الله ، الله " باطناً مع عدم رؤيته لذكره ، ثم يسكن قلبه ، ويبقى ملاحظاً لمطلوبه ، مستغرقاً به ، معكوفاً عليه ، مشغوفاً إليه ، مشاهداً له .(1/73)
- قال سفر : وهذه درجة المشاهدة ، يذكر الله - كما يزعمون - حتى يصل إلى مرحلة المشاهدة ، ولا تعجبوا مِن قوله "يسكت حتى عن الذكر باللسان" ، ثم حتى عن الذكر بالقلب ؛ لأنَّ الغزالي يذكر في "الإحياء" ، يقول : لا ينبغي للمريد في أثناء الخلوة أن يُشغل نفسه ، لا بتفكيرٍ ، ولا بحديثٍ - يذكر ذلك عن الصوفية لا عن نفسه فقط - ولا بقرآنٍ ، ولا بعلمٍ ، بل يتفرغ للذكر ، فقط "الله ، الله " أو : "هو ، هو" باللسان ، والقلب ، والأعضاء ، ثم يترك اللسان إلى القلب ، ثم يترك القلب فيصل إلى المشاهدة - .
ونتابع كلامه عن المشاهدة يقول : ثم يغيب عن نفسه لمشاهدته ، ثم يفنى عن كليَّته بكليَّته حتى كأنَّه في حضرة ! { لمن الملك اليوم للواحد القهار } ، فحينئذ يتجلَّى الحقُّ على قلبه ! فيضطرب عند ذلك ، ويندهش ، ويغلب عليه السُّكُر ، وحالة الحضور ، والإجلال ، والتعظيم ، فلا يبقى فيه متَّسعٌ لغير مطلوبه الأعظم - كما قيل : فلا حاجة لأهل الحضور إلى غير شهود عيانه ! وقيل في قوله تعالى { وشاهدٍ ومشهودٍ } – قال سفر : انظروا تفسير الباطنية - قيل : فالشاهد : هو الله ، والمشهود : هو عكس جمال الحضرة الطلبية فهو الشاهد والمشهود - يعني : الله تعالى - .
ثم يقول عن كيفية السير إلى الطريق ، أو كيف يبذل الجهد اليسير ، يقول : هناك طرق أوأنواع :
الأول : تقليل الغذاء بالتدريج ، فإنَّ مَددَ الوجود ، والنَّفس ، والشيطان من الغذاء ؛ فإذا قلَّ الغذاء : قلَّ سلطانه .
قال سفر : وهذا هو الذي يستعمله سحرة الهند ! وهي التي تنقلهم إلى مرحلة "المانخوليا"، فإنَّ أيَّ إنسانٍ يجوع لأيامٍ طويلةٍ يُهلوس ، ويهوِّس ، ويرى مثل هذه الأشياء ؛ لكن هم يعتقدون أنها كشوفات إلهيَّة ، وتجليات ربانيَّة - والعياذ بالله - .(1/74)
الثاني : ترك الاختيار ، وإفناؤه - يعني يفني نفسه ، وينسى نفسه - في اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه فإنَّه – أي : المريد - مثل الطفل ، والصبي الذي لم يبلغ مبلغ الرجال ، أو السفيه المبذِّر ، وكل هؤلاء لابد لهم مِن وصيٍّ ، أو وليٍّ ، أو قاضٍ ، أو سلطان يتولى أمرهم .
قال سفر : المريد يكون بمثل هذه الحالة ، ولذلك قلت : إن الإنسان يخلع عقله ، ويخلع علمه ، ويخلق كلَّ شيءٍ عندما يريد أن يدخل إلى عالم الصوفية ، يسلِّم كلَّ شيءٍ للشيخ، ولا يعترض عليه بأي شيءٍ .
الطريق الثالث : يقول من الطرق طريقة الجنيد قدَّس الله روحه ، وهو خلال شرائط : دوام الوضوء ، ودوام الصوم ، ودوام السكوت ، ودوام الخلوة ، ودوام الذكر وهو قول لا إله إلا الله ، ودوام ربط القلب بالشيخ ، واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه في تصرف الشيخ ، ودوام نفى الخواطر ، ودوام ترك الاعتراض على الله تعالى في كل ما يرد منه عليه ضراً كان أو نفعاً .
قال سفر : [ هذه هي ] الجبرية المطلقة ، والاستكانة المطلقة ، ويقول الآن أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات ، يجلس وما يتصرف فيه الله فهو الفعل ، وهو الطاعة ، كما قلنا هذا في الخلوة ، وقد ترك الجمعة ، والجماعة ، والعبادات .
إلى أن يقول :
وترك السؤال عنه مِن جنة ، أو تعوذ من نار !
بمعنى : يحذر في هذه الحالة أن يسأل الله الجنة ، أو يتعوذ به من النار ! لاحظتم هذا الربط بما ذكره محمد علوي مالكي في كلامه السابق ، ونقولاته السابقة ، وما ذكرناه هناك من أنَّهم لا يسألون الله الجنة ، ولا يستعيذون به من النار ، يعتبرون أنهم لو سألوا الله الجنة في تلك اللحظة ، والاستعاذة به من النار : تفرق جمعيته - يعني : تشتت قلبه - ولا يمكن أن يعود إلا بأن يبدأ الخلوة مِن أولها ، ويبدأ الأذكار من أولها حتى يجتمع قلبه على المحبوب وحده فقط ، فلا ينظر إلى جنَّة ، ولا إلى نار ولا لأيِّ شيءٍ .(1/75)
وإلى حد هنا هذا هو مقام المشاهدة .
يحذرنا الغزالي يقول : إن الإنسان عندما ينتقل من مقام المشاهدة إلى مقام المكاشفة تبدأ الصور تظهر أمامه فيقول له : كيف تفرق بين الصورة ؟ كيف تعرف حقائقها ؟
يقول – يستمر كلامه في صفحة (26) - : والفرق بين الوجودي والنفسي والشيطاني في مقام المشاهدة أن الوجود شديد الظلمة في الأول – يعني : ترى الشيء مظلماً جدّاً – فإذا صفا قليلاً تشكَّل قُدَّامك بشكل الغيم الأسود ، فإذا كان هذا المتشكِّلُ عرشَ الشيطان كان أحمر ، فإذا صلح وفنيت الحظوظ منه ، وبقي الحقوق : صفا وابيضَّ مثل المزن هذا الوجود .
والنفس إذا بدَت فلونها لون السماء ، وهي الزرقة ، ولها لَذَعان كلذعان الماء من أصل الينبوع ؛ فإذا كانت عرشَ الشيطان – أي : النفْس - : فكأنها عينٌ مِن ظلمةٍ ونارٍ ، ويكون لذعها أقل ، فإنَّ الشيطان لا خير فيه ، وفيضان النَّفس عن الوجود ، وتربيته : منها ، فإن صفَت وزكت : أفاضت عليه الخير وما نبت منه ، وإن أفاضت عليه الشر : فكذلك ينبت منه الشر .
قال سفر : عرفنا الوجود ، وعرفنا النفس ، فكيف نعرف الشيطان ؟ "نريدها في الخلوة في حالة الانتقال من مقام المشاهدة إلى مقام المكاشفة" ، كيف يرى الشيطان ويعرفه ؟
يقول : الشيطان نار غير صافية ، ممتزجة بظلمات الكفر ، في هيئة عظيمة ، وقد يتشكل قُدَّامك كأنَّه زنجي طويل له ذو هيبة يسعى كأنه يطلب الدخول فيك ، فإذا طلبت منه الانفكاك : فقل في قلبك : يا غياث المستغيثين أغثنا ؛ فإنه يفر عنك . انتهى كلام الغزالي صفحة (27) من الجزء الرابع .
في هذه المرحلة - يعني التخلص مِن النفس ، ومِن الوجود : يلتحم بالوجود الكلي -المطلق عندهم - ، ومن الشيطان الذي يأتيه - كما يقول - في صورة زنجي أسود طويل يريد أن يدخل فيه .(1/76)
هذه المرحلة - مقام المشاهدة - يعرض للمريدين ، ويرون هذه الصور ، ويرون هذه الخيالات ، وما هي إلا بعض مِن خرافاتهم ، ولو أنَّنا نملك وقتاً أطول : لنقلنا كثيراً جدّاً مِن أمثال هذه الرؤى التي يرونها ليصلوا ، وينتقلوا مِن مقام المشاهدة إلى مقام المكاشفة ، والتي بعدها يروْن الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، ويرون الله ، ويروْن الحقائق كلها ، لكن على كل حال مَن لم يمر بهذا الشيء : فلا يمكن أن يحصل له ذلك .
بقيَ موضوع الشطحات :
عندما ينتقل الإنسان إلى مقام المكاشفة ، ويتعمق في الكرامات والكشوفات : يصل إلى درجة الشطحات .
يقول الغزالي صفحة (19) من الجزء الثاني : العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق – يعني : الله فقط ! ليس في الوجود إلا هو – لكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علميّاً ، ومنهم من صار له ذوقاً وحالاً وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستهوت فيها عقولهم ؛ فصاروا كالمبهوتين فيه ، ولم يبق فيهم متسعٌ لذكر غير الله ، ولا ذكر أنفسهم أيضاً فلم يبق عندهم إلا الله ؛ فسكِروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم ، فقال بعضهم : أنا الحق - كالحلاج - ، وقال الآخر : سبحاني ما أعظم شأني – كأبي يزيد [البسطامي ] مثلاً - ، وقال الآخر : ما في الجبة إلا الله ، وكلام العشاق في حال السُّكر يُطوى ولا يحكى ، فلما خفَّ عنهم سكرهم ، وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه: عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد ، بل يشبه الاتحاد . أ.هـ(1/77)
قال سفر : نحن نقرأ أن بعض الصوفية يقول : أن الحلاج استحق القتل ! لماذا ؟ يقول : لأنه باح بالسرِّ قبل أن يصل إلى الدرجة العليا ، الحلاج لم يصل إلى حقيقة الاتحاد عندهم! بل رأى عوارض ، وبوارق كما يسمونها ، فقال : أنا الحق ، فقتل ، فهو يستحق القتل في نظرهم لا لزندقته ، ولا لدعوى أنه هو الحق ؛ لكن يقولون لأنه لم يصل بعدُ ، صرَّح وباح بالسر قبل أن يصل بعد ، والغزالي يقول لم تحصل لهم حقيقة الاتحاد بل هذا يشبه الاتحاد .
ونتابع كلامه ، يقول :
مثل قول العاشق في حال فرض العشق :
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدناً
وهذا من نداءات الحلاج ؛ فلا يبعد أن يفجأ الإنسان مرآةٌ فينظر فيها ، ولم ير المرآة قط فيظن أن الصورة التي رآها في المرآة هي صورة المرآة متحدة بها – قال سفر : يعني : يشبِّه رؤيتهم لله كإنسانٍ ينظر في مرآة فنسي المرآة ، وظن أن الصورة التي رآها أمامه وهي عين الشيء المرئي بينما هو في الحقيقة مجرد مرآة ، ويقول : إن بعض العارفين لم يصل إلى درجة الاتحاد ، ولكن يظن أنَّه وصل إليها ؛ إنما هي كالمرآة - ، أو مَن يرى الخمرة في الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج فإذا صار ذلك عنده مألوفاً ، ورسخ فيه قدمه واستغرقه فيه فقال :
رق الزجاج وراقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قَدَح وكأنما قدَح ولا خمر
قال سفر : طبعاً استشهاد الصوفية بأبيات الخمر ، والعشق ، والغزل ، والنهود ، والقدود، والخدود : هذا أمرٌ لا يحتاج إلى تنبيه ؛ لأنه دائمٌ عندهم !! .
يقول : وفرقٌ بين أن يقال : الخمر قَدَح ، وبين أن يقال : كأنَّه قدح – قال سفر : يعني : أيضاً فرقٌ بين من يقول إنَّه رأى الله أو كأنه رأى الله وتجلَّى له – .(1/78)
ويقول : وهذه الحالة إذا غلبت سمِّيت بالإضافة إلى صاحب الحال : (فناء) ، بل (فناء الفناء) ؛ لأنه فنيَ عن نفسه ، وفني عن فنائه ؛ فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ، ولا بعد شعوره بنفسه ، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه : لكان قد شعر بنفسه ، وتُسمَّى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز : (اتحاداً) ! وبلسان الحقيقة : (توحيداً) .
قال سفر : هذا هو توحيد الصوفية ، وهو : هذه الحالة حالة الاستغراق التي تسمَّى بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز : (اتحاداً) – كما يقول الغزالي إنَّه مجاز فقط - وبلسان الحقيقة : (توحيداً ) ، وليس مجازاً .
ويقول : ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار لا يجوز الخوض فيها .أ.هـ
يقول أبو حامد : أيضاً ما يزال هناك أسرارٌ ، وأمور لا يجوز الخوض فيها ، ولا يجوز ذكرها ؛ لأنَّه لو ذكرها هو ، أو غيره : ربما كان مصيره مصير الحلاج مِن القتل ، ومِن الإعدام .
هذا عرضٌ سريعٌ لهذا الكاتب المتقدم – وهو الغزالي - لدرجات ، أو أركان الطريق عند الصوفية ابتداء مِن الشيخ ، والخلوة ، ثم المشاهدات ، ثم المكاشفات ، وأخيراً الشطحات!! – بعد ذلك يصبح الإنسان عندهم مِن رجال الغيب .
رجال الغيب هؤلاء هم – كما يزعمون - : الأولياء الذين يتصرفون في الكون ، ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة ؛ كما سيأتي في النماذج التي نذكرها عنهم .(1/79)
أعظم رجال الغيب عندهم هو : القطب الأعظم ، أو قطب الوجود ، أو الغوث الأعظم ، أو واحد الزمان ، وهذه أسماء متقاربة ، هناك حقيقة فلسفيَّة ثابتة ، وأكثر الباحثين المعاصرين ذكروها ونقلوها ، ومِن قبلهم أيضاً : أنَّ أصل فكرة القطب الأعظم عند الصوفية هي العقل المطلق عند أفلاطون ، وأفلاطون كما ذكر سيد قطب رحمه الله في "خصائص التصور الإسلامي" في فصل الواقعية نقلاً عن العقاد – كما أظن – وقد ذكرها في صفحة (166) ، والعقاد ذكر ذلك في عقائد المفكرين ، المهم أن أفلاطون يقول : إن الله كامل ، ولا يصدر عنه الشر ، والعالم ناقص ، و الشر فيه كثير ، ولا يليق بالكامل أن يفكر في الناقص ، ولا يليق بالله أن يكون هذا الشر منه ؛ فلابد من تقدير واسطة بين الله والعالم ؛ تكون هي المتصرفة في الكون ، وهي المفكرة فيه ، المشتغلة بأمره، وتكون الشرور ، ومصدر الشرور : منها ، وتكون تفكيرها في هذه الشرور ونسب هذه الشرور إلى الله بزعمهم .
الصوفية أخذوا هذه الفكرة مِن أفلاطون ، ولا تستغربوا أنني أقول أخذوها من أفلاطون ؛ بينما أنا أقول إن أصل التصوف هندي ؛ لأنَّ البيروني نفسه ذكر هذا ، ومعروفة أيضا في تاريخ الفكر الأوربي : اليونان لم يكونوا يملكون فكراً فلسفيّاً وإنَّما كانوا يقتبسون مِن الهند ، و"الجنس الآري" : يجمع الأوربيين بالهنود في جنس واحد ، ثم لما وُجدت لهم فلسفاتهم – أفلاطون ، وأرسطو ، وأمثالهم - : استغنوا ، وانفصلوا عن الهنود في حين أن أرسطو ، وأفلاطون يُعتبروا متأخرين ، بينما فلاسفة الهنود [ كانوا قبل ] آلاف السنين قبل الميلاد .
والحاصل : أن هذا العقل المطلق عند أفلاطون سماه الصوفية : (القطب الأعظم ) أو : (واحد الزمان) ، أو (الغوث الأكبر) ، أو نحو ذلك ، ويقولون - كما في "طبقات الشعراني" ( 1/ 173) – يقول : لو لم يصبح واحد الزمان يتوجه في أمر الخلائق مِن البشر لفاجأهم أمرُ الله عز وجل فأهلكهم .أ.هـ(1/80)
يقول : أن مهمة القطب هذا أنه لو كان أمر الله يأتي البشر مباشرة ؛ يأمر الله أن هذا يحيا ، وهذا يموت ، وهكذا – مباشرة - : لا يتحمل البشر ، يفجأهم الأمر ، ويهلكهم فيحتاج الله – والعياذ بالله – إلى واسطة يتلقَّى الأمر ، ثم هو ينفذه في الكون ، وهو الغوث ، وهو واحد الزمان ، أو القطب الأعظم ، ويقولون : لو أنَّ المدد الحقيقي ورد في هذا العالم مِن عارفيْن على السواء : لسرى في قلوب الآخذين – أي : المتلقين للمدد – الشرك الخفي ! يعني : لابد أن يكون القطب واحداً ، ولذلك فالرفاعي الذي [ ذكرتُ ] لكم تعيينه قطباً ، يقول : حتى النَّبيين سلَّموا له ، والصديقين كلهم ، والأبدال جميعاً ، والنجباء ، والنقباء كلهم سلَّموا له ؛ لأنَّه لابد أن يكون واحداً ، لماذا ؟ قالوا : لو كانوا اثنين ربما يدخل الناس في الشرك !!.
سبحان الله ! كأن الصوفية يحاربون الشرك ، قالوا : لابد أن يكون القطب ، الواسطة بين الله والخلق ، المتصرف في الأكوان : واحداً !
والعجيب : أنَّ كل طائفة مِن طوائف الصوفيَّة تدَّعي القطبيَّة العظمى لشيخها فقط دون مَن سواه ، وبذلك فرَّقوا الأمة ومزقوها .
والغريب : أنَّ الرفاعي ، والقادري كانا متعاصريْن ، فإذا كان القطب واحداً فيهما كان المتصرف في الكون ؟ نتركه لكلام الصوفية ، ولهؤلاء الخرافيين الذين يقولون : إنَّما نحن أهل السنة والجماعة ، ونحن نفرق الأمة عندما نقول : اتركوا هذه الخرافات !!لكن هم الذين يفرقونها ، فماذا يكون جوابهم عن وجود قطبين في وقت واحد ؟ الله أعلم .
المهم : أن بعضهم أيضاً يدَّعي أنَّه أعلى مِن درجة القطبية ، مثلاً : أحمد الرفاعي مؤسسة الرفاعية يدَّعي ذلك ، فقد نقل عنه الشعراني أنَّه قال له أحد تلاميذه : يا سيِّدي أنت القطب ؟ فقال : نزِّه شيخك عن القطبيَّة ، فقال : وأنت الغوث ؟ فقال : نزَّه شيخك عن الغوثيَّة !! .(1/81)
ويعلِّق الشعراني على هذا قائلا : قلت : وفي هذه دليل على أنَّه تعدَّى المقامات ، والأطوار ؛ لأنَّ القطبيَّة ، والغوثيَّة مقامٌ معلومٌ ، ومن كان مع الله وبالله فلا يُعلم له مقام ، وإن كان له في كلِّ مقامٍ مقالٌ والله أعلم . أ.هـ
يقول : إنَّ الصوفية متفقون على أنَّه ليس بعد القطبية إلا الألوهية ، وفيما أعلم أنه ليس هناك عندهم خلاف بهذا ، أعلم أن درجة القطب ليس هناك درجة أعلى ، وليس هناك مقام أعلى مِن مقام القطبيَّة .
إذاً فهذا يتفق مع دعواهم الاتحاد بالله سبحانه وتعالى ، أو حلول الله فيهم ، أو وحدة الوجود ، أي : أنه ليس بعد درجة القطبية إلا أن يكون درجة الألوهية فيتحد بالله ؛ فكأنَّه هو الله !! وليس هذا غريباً بعد أن سمعنا ، ونعلم جميعاً ما صرَّحوا به من قولهم : أنا الله ! وما في الجبة غير الله ! وقول ابن عربي : العبد رب ، والرب عبد فهذا كله جائز الموارد .
بقيَ أن نتحدث عن بعض أعمال القطب الأعظم ، غير تصرفه في الكون ! وإنقاذه الملهوفين وإغاثتهم ! مما سيأتي ذكره في الكرامات ، هناك أمرٌ خطيرٌ جدّاً - وهو كما قلنا- يتعلق بمنهج الصوفيَّة في التلقي الذي هو أصل موضوعنا هنا :
مِن أعظم أعمال القطب الأعظم : التشريع ، يشرَّع لهم الأذكار ، والأوراد ، والأدعية، ثم يستعملونها وهي - كما يزعمون - ترفع المريدين إلى الملأ الأعلى ، توصله إلى العرش ، بالقوة الروحانيَّة ! كما في كتاب – وهو مطبوع – "أوراد الرفاعية " ، وأيضاً "الأوراد الشاذلية " كتب الأوراد تقرأ فيها أن لهذا الذكر قوة روحانية عظمى دافعة …إلى آخره ، هذه القوة الروحانية - في زعمهم - تجعل الذاكر المريد هذا يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة ، بل تجعله يرى الله تعالى بزعمهم!! ونختار من هذه التشريعات قضيتين كانتا مما ناقش ، وجعجع حولها الرفاعي – وتعرض لها أصحابه أيضاً - وهي قضية صلاة الفاتح ، والقضية الثانية : قضية التوحيد والوحدة .(1/82)
صلاة الفاتح ذكَر نصَّها الرفاعي في صفحة (67) مِن "ردِّه" ، وهي : "اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمَّد الفاتح لما أغلق ، والخاتم لما سبق ، وناصر الحق بالحق ، والهادي إلى صراطك المستقيم صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه حق قدره ، ومقداره العظيم" .
وأعرف ممن هداهم الله سبحانه وتعالى ممن كان في جانبهم مَن أحضرها لي ، وذكر لي كم يقولونَها [ مِن ] مَرَّات ، وماذا يحصل نتيجة هذه القراءة ، وأيضاً هناك مصدر وثيق موجود وهو كتاب "التيجانية " فقد ذكَر هذه الصلاة ، وتعرَّض لها .
يهمُّنا هنا قضية القطب ، أو أنها من أعمال القطب ، قول الرفاعي : أن هذه الصلاة - نقلاً عن القسطلاني – يقول : هذه أنفاسٌ رحمانيَّة ، وعوارف صمدانيَّة – أي : كأنها مِن أنفاس الرحمن ، ومن عوارف الصمد سبحانه وتعالى - لقطب دائرة الوجود وبدر أساتذة الشهود ، تاج العارفين ، سيِّدنا ، وأستاذنا ، ومولانا الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري .. إلى آخره .
يعني : مادام أن هذا القطب البكري هو الذي وضعها ، وهو الذي كتبها : فهي أنفاس رحمانية ، وعوارف صمدانية ، ولا يحق لأحدٍ أن يعترض عليها على الإطلاق ، والتيجانية أخذوا هذه - مادامت عن هذا القطب - ، وعلى أي حال : ماذا يقول عنها التيجانية :
يقول مؤلف كتاب "التيجانية" صفحة (116) : قال مؤلف "جواهر المعاني" مِن التيجانية :
ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أُغلق ، فلما أمرني بالرجوع إليها سألتُه صلى الله عليه وسلم عن فضلها ؛ فأخبرني أولاً : بأنَّ المرة الواحدة منها تعدل مِن القرآن ست مرات !! – يعني : الذي يقرأ هذه الصلاة مرة واحدة كأنه قرأ القرآن ست مرات ! لاحظوا مَن الذي يزدري كتاب الله ، ويحتقره ، وبالتالي يحتقر رسول الله ، ويكرهه ، ولا يحبه ؟ -(1/83)
ثم أخبرني ثانياً : أن المرة الواحدة منها تعدل مِن كلَّ تسبيحٍ وقع في الكون ، ومِن كلِّ ذكرٍ ، ومِن كل دعاءٍ كبيرٍ أو صغيرٍ ، ومن القرآن : ستة آلاف مرة ؛ لأنَّه مِن الأذكار - أي : القرآن - .
ثم أيضاً يذكر في صفحة (117) : أنهم يعتقدون أنها مِن كلام الله ، وفى ذلك يقول مؤلف "الرماح" أنَّ مِن شروط هذه الصلاة : أنْ يعتقد أنَّها مِن كلام الله ، وهاشم الرفاعي نفسه في "ردِّه" ينقل أنَّها أنفاس رحمانية مِن أنفاس الرحمن - نسبةً للرحمن - .
إذاً هذا يؤيد ما قلناه مِن أن القطب عندهم له درجة الألوهية حتى أنَّه يشرِّع هذه الأشياء ، ويقول : إنَّها مِن الله ، وأنَّ على الذاكر أن يعتقد أنَّها مِن كلام الله .
ويقول أيضاً مؤلف "التيجانية" : وقال مؤلف "بغية المستفيد" : مع اعتقاد المصلِّي أنَّها ليست مِن تأليف البكري ، ولا غيره ، وأنَّها وردت مِن الحضرة القدسيَّة ، مكتوبةً بقلم القدرة في صحيفة نورانيَّة . أ.هـ
هذه هي صلاة الفاتح ، وهذه قيمتها عندهم ، وهي أيضاً مِن كلام الله عند الصوفية ولها هذه المنزلة .
وفي صفحة (110) مِن "الذخائر" يذكر محمد علوي مالكي هذه الصلاة ويشرحها .
انظر كيف : هذا رفاعي ، وهذا تيجاني ، والمالكي طريقته – أظن – على الطريقة الحسينيَّة العربيَّة في مصر .
المهم الطرق تختلف لكنهم يتفقون على هذه الصلاة التي يقولون : أنَّ مَن ذكرها ، وقرأَ بها : أفضل مِن القرآن ستَّة آلاف مرة ، فانظروا بعد ذلك أي كفرٍ ، وأي شركٍ فوق هذا؟ .
أقول هذا فيما يتعلق بقضية صلاة الفاتح ، والقضية الأخرى التي من تشريعات الأقطاب أو من كلام الأقطاب قضية : "الوحدة والتوحيد" :
العبارة التي يقولها الصوفيَّة وهى : "اللهم اقذف بي على الباطل فأدمغه ، وزُجَّ في بحار الأحدية ! وانشلني من أوحال التوحيد ! ".(1/84)
يقول الرفاعي في شرح هذه العبارة - مهاجماً الشيخ ابن منيع لأنه هاجمها - : فنحن نقول لشرح معنى هذه العبارة التي التبست عليهم - يعني على العلماء في المملكة - ( وزُجَّ في بحار الأحدية ، وانشلني من أوحال التوحيد ) : إن التوحيد لغةً : الحكم بأنَّ الشيء واحد ، والعلم بأنه واحد ، والتوحيد شرعاً : إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ، والتصديق به ذاتاً ، وصفاتٍ ، وأفعالاً .
ثم يقول : والتوحيد في اصطلاح أهل الحقيقة مِن الصوفيَّة : تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام ، ويخيل في الأذهان ، والأوهام !! انتهى كلام الرفاعي .
إذاً نقول : أنت الآن تفرق بين التوحيد عند الصوفيَّة ، وبين التوحيد شرعاً ، كما هو نص كلامك : التوحيد شرعاً : إفراد المعبود بالعبادة ، والتوحيد عند أهل الحقيقة : هو تجريد الذات الإلهية …إلى آخره .
هذه هي القضية ، قضية أنهم يفرِّقون بين الشريعة ، وبين الحقيقة ، فنحن أهل السنَّة والجماعة أهل شرع ، واتِّباع ، ولا يمكن للواحد منَّا أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرجه عن التوحيد - والعياذ بالله - لأنَّه مادام التوحيد هو إفراد الله بالعبادة عندنا - كما يذكر هو أيضاً باعترافه - : فنحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يثبِّتنا على التوحيد ، وأن يميتنا موحِّدين ، ويبعثنا موحِّدين .
لكن الصوفيَّة لما كان عندهم علم الحقيقة ، والتوحيد في عرف الحقيقة وفى اصطلاح الحقيقة شيء آخر : فهُم يدعون الله تعالى ليل نهار أن يخرجهم من التوحيد الذي هو توحيد أهل الشريعة نحن .
هو يقول : نحن لا نقصد الخروج من التوحيد بمصطلحنا ، أو مصطلح الحقيقة لا ، إنما يخرجنا من التوحيد بمصطلحكم أنتم يا أهل الشريعة ؛ ليلقيه في بحار الأحدية التي هي ليس هناك أوهام ولا تخيلات في الأذهان ، بل هي كما يعبِّر عنها ويقول : هي التوحيد ، وهي حقيقة التحقيق لمعرفة كمال وجمال وجلال الأحدية …إلى آخر الكلام .(1/85)
إذاً نقول لهؤلاء : باعترافكم هذا ، ومن كلامكم هذا ماذا تقولون : هل كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على التوحيد الذي عرَّفتموه بأن التوحيد شرعاً ؟ أو على الأحدية التي تريدون أن ينتشلكم الله إليها ، ويزج بكم في بحارها ؟.
نسألكم ، ونقول لكم : الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن ، وقال له – كما في الروايات الصحيحة في لبخاري - : " فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله " ، والكلام لا يخلو من أمرين : إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً ، وحاشاه من ذلك ، بأن فوق التوحيد درجة عليا هي درجة الأحدية هذه ، ولذلك أرسل معاذاً بالدرجة التي يعلمها فقط ، وهي التوحيد دون درجة الأحدية لأنَّه هو وأصحابه ؛ حتى جاء أصحاب الكشف والفيض الأفلاطوني ، والذوق ، والتيجاني في القرون المتأخرة ، أو البكري ووضعوا مثل هذه الأفكار والأدعية التي تُعلِّم الناس التوحيد، وحقيقة التوحيد ؟ فإما أن تقولوا هذا والعياذ بالله ، وإما أن تقولوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم علِم التوحيد الشرعي وعلَّم أمته ؛ لكن هذا التوحيد هو عين الشرك ! وعلَّم الأمة في الجملة عين الشرك ، وكتَم التوحيد الحقيقي الذي هو الأحدية ! وهذا – والعياذ بالله - اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم ، وحاشاه أن يكتم شيئاً مما علمه الله ، أو تقولوا كلاماً آخر : وهو أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّم توحيد الشريعة للعامة ، وعلَّم الأحدية للخاصة ، ربما يكون هذا مِن أقوالكم ، نحن نفترض أنكم تقولون ؛ فاختاروا ما شئتم وكلها نادمة لكم مهما تنصلتم .
المضحك فعلاً : أن الرفاعي عندما يدافع عن هذه العبارة يقول : لا غبار عليها ، لا تنكروا علينا أننا ندعو الله ينشلنا مِن التوحيد إلى الوحدة !! هذا هو الصحيح !! .(1/86)
[ حسناً ] أنت إذاً تدعو الله أن ينتشلك من التوحيد الذي هو إفراد المعبود شرعاً ، أو ينتشلك من التوحيد الذي عرَّفته أنه توحيد الحقيقة ؟ فسواء هذا أو هذا فأنت تدعو الله أن ينتشلك منه ، إما توحيد أهل الشريعة ، وإما توحيد أهل الحقيقة ، فتدعو الله أن ينتشلك من التوحيد ، على أي التعريفين ؟ تعريف أهل الشريعة ، أو الحقيقة ؟
ولهذا أقول : إن الرجل لا يعي ما يقول ، لكن مِن المؤكد أن الأقطاب الذين وضعوا هذه العبارة يعون ذلك جيداً ، ويفهمون دلالتها ، وأنَّه ينتشلهم من هذا ، ومن ذاك ليتحقق لهم وحدة الوجود التي هي عندهم عين الأحدية .
ننتقل الآن للحديث عن رجال الغيب ، عندنا مرجع سهل ، أو قريب صاحبه كأنه معاصر وهو " النبهاني " الذي توفى سنة 1350هـ .
وحتى لا يقولوا هذه فكرة قديمة كما يقول بعض الناس مع الأسف : هذه أفكار قديمة وعفا عليها الزمن ، لا ، فالنبهاني توفى عام 1350هـ ، وتلاميذه مازالوا موجودين ، ومنهم : هؤلاء القوم أو من طرق أخرى .
يقول : إن رجال الغيب كثيرون ، ومنهم رضي الله عنهم "النقباء" ، وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون ، ولا ينقصون ، ومنهم رضي الله عنهم "النجباء" ، وهم ثمانية في كل زمان لا يزيدون ، ولا ينقصون ، ومنهم رضي الله عنهم "الحواريون" ، وهو واحد في كل زمان لا يكون فيه اثنان ، فإذا مات ذلك الواحد : أقيم غيره ، ومنهم رضي الله عنهم "الرجبيون" ، وسموا رجبيين لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب، ومنهم رضي الله عنهم "الأبدال" ، وهم سبعة لا يزيدون ، ولا ينقصون يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة !!.
قال سفر : يعني مثل ما قلنا : لا يتصرف الله عز وجل عند الصوفيَّة إلا بواسطة ! فالأقاليم السبعة على الجغرافيا القديمة التي كانت قبل ألف سنة ، وضع الصوفيَّة سبعة رجال مِن الأبدال كلٌّ منهم يحفظ إقليمه ، ويتصرف فيه .(1/87)
ويقول : ومنهم رضي الله عنهم "الختم" ، وهو واحدٌ لا في كل زمان ، بل هو واحد في العالم ، يختم الله به الولاية المحمدية .
قال سفر : خاتم الأولياء واحد ، ولذلك حاص ابن عربي ، وابن سبعين ، وأحمد التيجاني ، ومحمود محمد طه ، كلٌّ منهم يدَّعي ، ويحرص أن يكون هو خاتم الولاية ؛ كما يدَّعي كذابو الشيعة ، وغيرهم : أنَّ كلاًّ منهم هو المهدى المنتظر .
يقول : ومنهم رضي الله عنهم ثلاثمائة نفس على قلب آدم عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم أربعون نفساً على قلب نوح عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم سبعة على قلب الخليل عليه السلام .
قال سفر : تذكروا ما قلت لكم مِن أن حرصهم على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم : إنما هو تعظيمٌ لأنفسهم ؛ لأنهم يقولون : إن رجال الغيب منهم مَن يصل إلى أن يكون على قلب فلان مِن الأنبياء ؛ فهو كالنَّبيِّ وأسقطوا الفرق بين البشر العاديين وبين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، بل وبين الملائكة أيضاً.
ويقول النبهاني : ومنهم رضي الله عنهم خمسة على قلب جبريل عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة على قلب ميكائيل عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم واحد على قلب إسرافيل عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم ثمانية عشر نفساً أيضاً هم الظاهر بأمر الله عن أمر الله ، ومنهم رضي الله عنهم ثمانية رجال يقال لهم "رجال القوة الإلهيَّة" ، ومنهم رضي الله عنهم خمسة عشر نفساً ، هم "رجال الحنان والعطف الإلهي" !!
قال سفر : الله تعالى قوته ، وحنانه ، أو رحمته تكون عن طريق هؤلاء بزعمهم .(1/88)
قال : ومنهم رضي الله عنهم أربعةٌ وعشرون نفساً في كل زمان يسمَّون "رجال الفتح" ، ومنهم رضي الله عنهم واحد وعشرون نفساً ، وهم "رجال التحت السفلي " ، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس ، وهم "رجال الإمداد الإلهي والكوني" ، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس "إلاهيون ، رحمانيون" في كل زمان ، ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد وقد يكون امرأة في كل زمان ، ومنهم رضي الله عنهم رجلٌ واحدٌ مركَّبٌ ممتزج في كل زمان لا يوجد غيره في مقامه ، وهو يشبه عيسى عليه السلام متولِّدٌ بين الروح والبشر ، لا يُعرف له أبٌ بشري ، كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجنِّ والإنس ، فهو مركَّب بين جنسين مختلفين ، وهو "رجل البرزخ" ، به يحفظ الله تعالى البرزخ ..إلى آخر كلامه .(1/89)
المهم : انظروا ترتيب هؤلاء الرجال ، وانظروا تصنيفهم ، وانظروا أعدادهم ، لماذا كانوا بهذا الشكل ، انظروا هذا الأخير الذي يشبه عيسى عليه السلام ، أليس هذا يصدِّق بأن أصل الصوفيَّة ، أو مِن أصولها : النصرانية التي هي في الأصل منقولة عن النصرائية ، نقلها بولس شاوا اليهودي ، فهي في الأصل دسيسة يهودية نقلت من النصرائيَّة ديانة وثنية شرقية إلى النصارى ، ثم أخذها هؤلاء عن طريق النصارى ؟ وهذا يؤكد ما هو معروف مِن أنَّ أول مَن وضع ما يسمُّونه (خانقاه) ، أو (الرباط) للصوفية هو أحد أمراء "الرملة" النَّصارى في فلسطين ، هو الذي وضع لهم (الخانقاه) هذا أو (الرباط) ، ثم انتشرت الأربطة فيما بعد ، وهذا الكلام – وهو أنَّ أول مَن بنى الرباط هو أمير نصراني في الرملة - : نقله عبد الرحمن الجاني في كتابه " نفحات الأنس " صفحة 34 ، ونقله الدكتور طلعت غنام صفحة 64 في كتاب " جهلة الصوفيَّة " ، وعبد الرحمن الجاني هذا مِن الصوفيَّة الذين يقولون بوحدة الوجود ، عاش في نهاية القرن التاسع ، وله كتاب في وحدة الوجود طبعه الطابعون في مصر مع "أساس التقديس" للرازي لأنَّ القوم أشاعرة ، وصوفية ؛ فطبعوا "أساس التقديس" - كتاب الأشاعرة - ، وطبعوا معه "رسالة الجواهر" أو "الدرر" لعبد الرحمن الجاني في وحدة الوجود ، وترجم له الزركلي في "الأعلام" ، من شاء أن يراجع ترجمته هناك فليراجعها .
والحديث - طبعاً - عن هؤلاء الرجال طويل جداً ، ولا أستطيع أن أحدثكم عنه بالتفصيل بقدر ما أحاول - إن شاء الله - أن أنقل كثيراً مما نُسب إليهم مِن كرامات ، وشركيَّات، وتعلقات بهم ، إنما هناك قضية خطيرة ينبغي لي أن أنبِّه عليها وهي تجمع هؤلاء الرجال جميعاً ، وتعطينا وصفاً لهم .(1/90)
هذه القضية : أنَّ رجال الغيب عند الصوفيَّة الموصوفين بهذه الصفات ، هم يعيشون بين الناس ، وهم رجال مِن البشر ، يعيشون بيننا ، منهم المعروف ، ومنهم المجهول ، ومنهم الظاهر للناس ، ومنهم المستتر عنهم ، بحيث أنَّه يراهم ، وهم لا يرونه ، ويكاشف متى شاء !! ، هذه الصفة مشتركة بين هؤلاء الرجال ، ولذلك تجد الصوفيَّة - حتى من العوام وغيرهم – يقولون : "فلان يمكن يكون ولي" ، "يمكن يكون مِن رجال الغيب فلا تتعرض له لا تكلمه" .
كيف !؟ وبأي دليل يستدلون على هذا ؟ هنا القضية ، القضية : أن هؤلاء الرجال مخالفون في سيرتهم ، وفي أحوالهم للشريعة ، ولمألوفِ النَّاس ، فلا تتصور رجلاً مقيماً في مكان يدرس سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عالم مِن العلماء مشتغل بالتفسير ، أو بالحديث ، أو بالسنَّة أو بالدعوة ، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو بالجهاد :
لا تتصور أن الصوفيَّة يعتقدون أنَّ هذا مِن رجال الغيب ، لا ليس هذا أبداً ، القضية : أن هذا الرجل ينبغي أن يكون كما يسمونه "بهلولاً" ، "مجذوباً" ، يقع على المزابل ، يلتقط من القاذورات ، ورأينا نماذج مِن هؤلاء في الحرم مِن أقذر الناس ، شعورُهم نافرة ، وأظافرهم طويلة ، وهكذا نجد أشكالاً غريبة جدّاً ، خارجة عن المألوف ، ويقال : هؤلاء هم "الأولياء" ، ربما يكون هذا هو "القطب الأعظم" الذي يدير الكون كلَّه وأنت لا تدري !! ، وربما يكون مِن "رجال الغوث" ، ربما يكون مِن "النجباء" ، ربما يكون مِن "الرجبيين" ، وربما يكون مِن "الرحمانيين" ، وربما يكون على قلب نوح ، أو الخليل ، وأنت لا تدري ! .(1/91)
وهنا خطورة كبرى ، ومطب كبير أفسدتْ به الصوفيَّةُ دينَ المسلمين ، بل أنا أقول : إن سرَّ التصوف يكمُن تحت مثل هذه الأمور ، لماذا ؟ نرجع إلى الوراء قليلاً ، إلى مرجع قديم من مراجع الصوفيَّة ، وهو كتاب أبي عبد الرحمن السلمي ، من كبار الصوفيَّة المعروفين ، مؤلف التفسير الإشاري لهم "حقائق التنزيل" كتب كتاباً عن "الملاميَّة" ، أو "الملامتية" : وهم فرقة الصوفيَّة في المشرق ، وهم مِن أوائل الزنادقة الذين أسَّسوا هذه الفكرة ، وهي فكرة أن الأولياء مخالفون لظواهر الشرع ، مخالفون لأحوال الناس ، هؤلاء "الملامية" أو "الملامتية" ، يقول عنهم في صفحة (98) مِن كتابه "الملامتية" ، الذي حققه أبو العلا عفيفي ، طبع في مصر سنة 1364هـ ، يقول : إنَّهم رأوا التديَّن بشيءٍ مِن العبادات في الظواهر : شِركاً ! والتزيَّن بشيء مِن الأحوال في الباطن : ارتداداً ! .
يقولون : مَن يُظهر شيئاً مِن الطاعات ، ومن العبادات : هذا مشرك ، وأسرَّ في قلبه شيئاً مِن الأحوال : فهو أيضاً مرتد .
ويقولون إن كلَّ عملٍ ، وطاعةٍ وقعت عليه رؤيتُك ، واستحسنْتَه مِن نفسك
فذلك باطل .
ويقول عنهم - ينقل عن أحدهم ، قال - : هم قومٌ قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم ، ومراعاة أسرارهم ، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا مِن أنواع القُرَب ، والعبادات ، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه ، وكتموا عنهم محاسنَهم ، فلامهم الخلْقُ على ظواهرهم ، ولاموا هم أنفسهم على ما يعرفون مِن بواطنهم ، فأكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب ، وتصحيح الفِراسة في الخلق ، وإظهار الكرامات عليهم !!.(1/92)
قال سفر : لاحظوا هذا الكلام ، يعني هؤلاء القوم لما أظهروا القبائح - بزعمهم - ازدراءً لأنفسهم ، وحتى لا يتعلق بهم النَّاس ، وحتى لا يظنوا فيهم أنَّهم أولياء ، وهم يريدون أن يكونوا أولياء في الباطن فقط ، ولا أحد يعلم بهم ، وينزِّهوا عن أنفسهم الرياء ، وعن كلام الناس : أظهروا القبائح ، وأظهروا المعايب ، وأظهروا الشنائع حتى أن منهم مَن كان يأتي الفاحشة في الدواب علانية أمام الناس ، وهذا منقول ، وربما نتعرض له ، ومنهم مَن دخل الحمَّام فسرق لباس أحد النَّاس ، ولبسه بحيث يُرى ، وخرج في الشارع ، وكان الناس يعتقدون فيه الولاية ، فلما رأوه أدركوه ، وضربوه ، وأخذوا الملابس ، فقيل له في ذلك ، فقال لهم : حتى أَسْقط مِن أعينهم ، وأبقى في عين الحق !! إلى آخر ما ينسجونه حولهم مِن الحكايات يصنعونها – كما يقولون – في تزكية النفس ، وتطهيرها .
طبيعي أن هذا مخالف لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : "مَن سرَّته حسنتُه ، وساءتْه خطيئتُه فهو المؤمن" ، والمؤمن لا يحب ، ولم يؤمر أن يُظهر السيئات والقبائح ، لكن القضية أكبر مِن قضية مخالفة هذا الحديث ، القضية : أنَّها مخالفة للإسلام ، وهدم الإسلام ، وإيضاح ذلك بالتفصيل ، أو بشيء مِن التفصيل :(1/93)
إن الزنادقة الذين أنشئوا هذا الدين ، وركَّبوه ، ونقلوه إلى المسلمين ، ولبَّسوا به عليهم، هؤلاء واجهتهم الأمَّة بالإنكار ، واجهتهم بالرد ، والتكذيب حتى العوام مِن المسلمين ، ودمغوهم بالكفر ، والزندقة ، وقلَّ أن تجد عالماً مِن كبار الصوفيَّة إلا واتُّهم بالزندقة ؛ إمَّا أن يكون قُتل بتهمة الزندقة ، أو اتُّهم بها ، أو سجن كما سجن ذو النون ، وكما اتُّهم الجنيد ، وقتل الحلاج ، وكثيرون مِن هذا النوع ، واستدل العلماء ، والمسلمون بظاهر حالهم هذا المخالف للشرع على خبث الباطن ، وعلى خبث الطوية ؛ لأنَّه ليس بوسع المسلم أن يرى رجلاً يمشى مكشوف العورة ، أو رجلاً يرتكب الفاحشة في البهائم علانية ، ويترك الجمع ، ويترك الجماعات ، ويُقره على ذلك ؛ فضلاً عن أن يعتقد أن هذا مِن رجال الغيب ، أو مِن أولياء الله ، لا يمكن هذا أبداً .
الزنادقة أرادوا أن يخترعوا تقاة ، أو تقية ، خديعة شيطانية ، أرادوا أن يوقعوا بها النَّاس، وأرادوا أن يلبِّسوا بها على المسلمين ، فقالوا لهم : هؤلاء القوم أولياء ، وصلت بهم مجاهدة النفس إلى حد استعذاب الأذى في ذات الله تعالى ، وإلى استجلاب تهمة الناس لهم ، هم يدْعون النَّاس إلى أن يتهموهم ، وأن يلوموهم ، وأن يتكلموا فيهم ، وأن يكرهوهم ، وأن يحتقروهم ، هم يريدوا بذلك أن يُنقُّوا أنفسهم ، ومحبتهم لله ، وأن يتجردوا عن الرياء ، وعن الشهرة ، وأن يسقطوا مِن عين الخلق ، ويبقوا في عين الحق كما يقولون ، فهم متعمِّدون في هذا ، ويحبون أن يقول النَّاس أنَّهم زنادقة ! وأنَّهم مخالفون ! وأنهم كذا ، ويستمرون على إظهار هذه الأحوال على حد قول الشاعر كما هم يقولون :
أجد الملامة في هواك لذيذة حبّاً لذكرك فليلمني اللُّوَّم(1/94)
لكن في الحقيقة أن المسخور منهم ، المستهزأ بهم : هم هؤلاء أصحاب الظاهر المغفلون الذين ينتقدون مثل هؤلاء الأولياء ، أو يلمزونهم ، أو يتكلمون فيهم بدعوى أنهم مخالفون لظاهر الشرع ، وهؤلاء شهدوا الحقيقة الكونيَّة ، وأدركوا سرَّ القدر ، واشتغلوا بإصلاح القلب عن إصلاح الظاهر ، واشتغلوا بمحبة الحق عن سماع إنكار الخلق ، ويقولون مِن جملة ما يقولون ، ويتعللون به : إنَّكم أنتم يا أهل الظاهر : الفقهاء ، والعلماء ، والرسوم، تنكرون علينا أننا نترك صلاة الجمعة ، وأنتم تكتبون في كتب الفقه : أن مَن خاف ضياع ماله : جاز له تركها لأجله ، ومَن كان مسافراً ، ولو كان مسافراً للدنيا ، أو للتجارة يجمع المال : تسقط عنه صلاة الجمعة ، فكيف الذي في الخلوة مستغرق مع الله سبحانه وتعالى ، وقلبه متعلق بمحبة الله الذي هو أغلى مِن الدنيا كلِّها ؟ وتقولون : هذا لا يمكن أن يَترك الجمعة ، والجماعات ؟ ولا يجوزله أن يعتكف في خلوة ، ويترك الجُمُع والجماعات ؟ [ يقولون ] : أليس الله تعالى أغلى ، وأعظم مِن الدرهم والدينار ؟ المجتمِع مع الله أليس هو أعظم ممن هو مجتمِع على قليلٍ مِن المال يخشى أن يضيع منه ؛ فيجوز له عندكم في فقهكم أن يترك الجمعة لأجله !؟
ويقولون : أنتم تقولون : أن الإنسان إذا أغمي عليه ؛ فانكشفت عورته : هذا جائز،
وقد يكون هذا الإغماء بسبب ضربة شمس ، أغمي عليه ؛ فكُشفت عورته هذا جائز ، أو لمرضٍ ، أو نحوه : لا حرج عليه أن تكشف عورته .(1/95)
وتذكرون – أيضاً - في كتبكم يا أهل السنَّة أن زوج بريرة كان يتبعها في طرقات المدينة ، ودموعه تنحدر حبّاً لها ، ولم يحرَّج عليه كذلك ، وكان ذلك في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأشياء مِن هذا القبيل ، فكيف لا تُنكرون ذلك ؟ وتنكرون على مَن يكون إغماؤه لآية سمعها ، أو كشفٍ جلَّ له الحق فأغمي عليه وكشفت عورته ، وأخذ يصرخ ويقول : أنا الحق ، أنا الحق ، أنا الله ، أنا الله !! كيف تُعذرون مَن سقط وتكلَّم بما لا يدري من مرضٍ أو نحوه ، وبين مَن لم يسقط إلا حبّاً ، ووجداً ، وهياماً بالمعبود الحق ، وبالحبيب الأعظم – وهو الله تعالى عندهم - .
أقول : رأى الزنادقة أن هذه هي أخطر وسيلة لهدم دين الإسلام ، وإبعاد الأوامر ، والنواهي ، وإبطالها ، وإبطال الجهاد ، وإبطال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واندثار أمر الإسلام بالكلية ، والقصص في ذلك كثيرة ، منها ما ذكره شيخ الإسلام ، وتحدَّث عنه في كتاب "الاستقامة" : أن بعضهم كان إذا سمع المؤذن يقول له : اسكت يا كلب ! ولعنك الله ! أو نحو ذلك ، ينهره ، ويشتمه ، وكثيرٌ مِنهم كان يصنع هذا ، فإذا قيل له كيف تقول ذلك ؟! قال : هؤلاء أهل الظاهر يؤذِّن في الظاهر ، وهو في الباطن لا يعلم حقيقة التوحيد الذي يقوله عندما يقول : "أشهد أن لا إله إلا الله" ، فإذا نقدهم أحد كيف تقول للمؤذن هذا الكلام ؟ يقول : هذا مِن ولايته ، هذا مِن فهمه للتوحيد يشتم المؤذن ؛ لأنه يقول : "أشهد أن لا إله إلا الله" ، وهو لا يدرك التوحيد .. إلى غير ذلك .(1/96)
المهم : أن هذه طريقة لإسقاط الأوامر والنواهي ، لا تنكر على أي إنسان ! أنت لا تدري في عرفهم ، وفي كلامهم ، ربما هذا المجذوب الذي تراه مطروحاً على المزبلة والناس هناك يصلون ؛ ربما أنه ما يفعل هذا إلا تستراً ، وإلا فهو قوَّام بالليل ، وبكَّاء بالسَّحَر ، وأوَّاه منيبٌ في خلوته حين ينقطع عن الخلق وينفرد بالحق ، وما يدريك أنك قد تنكر على رجلٍ سكران في الشارع ، وهو ما هو بسكران سُكْر خمرٍ إنما هو سُكْر الوله ، والمحبة ، والوجد ، والشوق !! .
أيضاً : قد ترى امرأة عارية الشعر ، والنَّحر تتواجد ، تتمايل ، فتقول : هذه لاهية ، أو راقصة ، أو هذه مطربة ، وهي وليَّة ! مستغرقة في عين الجمع مع الله ! أنت ترى جسدها على الأرض ، ولكن قلبها في السماء عند الله ، أو في العرش !! .
يمكن ترى مجنوناً يرغي ، ويزبد ، ويطارد الصبيان في الشوارع ، وتقول : "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به" ، أو نحو ذلك ، لكن لا تدري - على كلامهم - أنت المبتلى بحجاب الغفلة ، هذا عارفٌ مِن العارفين ، أو بَدلٌ مِن الأبدال ، تستَّر بالجنون حتى لا يُدرى عنه ، حتى تكون هذه الولاية خاصة بينه وبين الله ، حتى يلومه النَّاس فيما يفعل ؛ فيحصُل له الأجر مِن لومهم .(1/97)
أقول : إن مثل هذا الكلام : تلبيس الحقائق ، وإضاعة المعايير التي نعرف بها الصالح مِن الطالح ، والمجنون مِن الصاحي ، تضيع المعايير ، وإفقاد العوام لها ، ثم نشر هذه بين عامة المسلمين ، وجهلتهم ، خاصة المناطق النائية في القديم ، وخاصة جميع عوام المسلمين تُنشر هذه بينهم ، فماذا يكون رد الفعل عند المسلمين إذن ، إذا اعتقدوا أن الولي ليس الذي يدرِّس كتاب الله ، والصحيحين في المسجد الحرام مثلاً ، أو يجاهد في سبيل الله ؟ وإنما الولي : هذا الأشعث ، الأغبر ، القذر ، المنتن ، الذي نراه يلتقط القمائم مِن جوار الحرم ، ولا يمد يده لأحدٍ لأنَّه متوكلٌ ، فيقول : ربما كان هو "القطب الأعظم" ! أمَّا هذا الذي يجلس في الحَرَم يدرِّس "البخاري" ، أو "فتح الباري" هذا من علماء الظاهر ، مِن الناس العاديين ، وليس مِن "رجال الغيب" ، ولا مِن "أهل الحقائق" .
هنا الخطورة ، وتحت هذا اللَّبس يذكرون الكرامات ، ويذكرون الشركيات الشنيعة ، ويدافعون عن ذلك دفاعاً مريراً ، وأنا أنقل نصّاً واحداً مِن اندفاعهم من كتاب "المشرع الروي في فضائل آل با علوي" نقلاً مِن اليافعي الذي له كتاب "مرآة الجنان" مليء بهذه الخرافات أيضاً .
يقول اليافعي في الجزء الأول صفحة (322) : وكثيرٌ مِن هذه الطائفة - أعني الصوفيَّة- جمعوا بين الوَلَه ، والتجريد في ظاهر الشرع ، تخريباً بائناً ، أسقطهم عن أعين الناس ؛ ليستتروا عن شهرة الصلاح ، يخفون محاسنهم ، ويظهرون مساوئهم ، ومنهم مَن يكشف عورته بين الناس ، ومنهم مَن يرى أنَّه لا يصلي ، وهم يصلُّون ، ويجتهدون فيما بينهم وبين الله تعالى ، وقد شوهد كثيرٌ منهم يصلى في الخلوات ، وفى جوف الليل ؛ لأنَّهم كانوا يبالغون في نفي رؤية الخلق ، وإسقاطها مِن قلوبهم ، ولا يبالي أحدهم بكونه عند النَّاس زنديقاً إذا كان عند الله ليس زنديقاً ، كنسوا بنفوسهم المزابل لتحيا لمولاهم حياةً طيبةً قبل المعاد ! . أ.هـ(1/98)
يقولون : فليكن زنديقاً عندك ، وعند غيرك ، هو عند الله ولي !
[ حسناً ] ، لو جاء زنديق حقيقي ، وقال هذه الكفريات ! ما أدرانا ؟ ، يمكن يكون هذا وليّاً ، ضاعت معايير – كما قلت – الصلاح ، والفساد ، والزندقة ، والإيمان .
إلى أن يقول : ومنهم مَن يحتجب بحاله عن أعين الناس ، وهم معهم في الصلوات !.
قال سفر : لاحظتم ! صلَّى مع الجماعة ويمكن أننا لم نره !! .
يقولون : هذا موجود فلا تُنكر عليه ، ولهؤلاء أطوار لا يدركها العقل - هم يسمُّون اختلاف التشكل : تطوراً !! لعلنا نقرأ هذا في الكرامات ، التطور هذا مِن عمل المشعوذين ، والسحرة ، والجن ، واستعانتهم بالشياطين ، - وإنما تدرك بالنُّور - يعني : بالكشف - ويعرفها العارفون بالله تعالى – يعني : لا نعرفها نحن المحجوبون - .
يقول : فقد روِّينا أن بعضهم كان لا يُرى أنَّه يصلي ، فأقيمت الصلاة يوماً وهو جالس ، فقال له بعض الفقهاء : قم فصلِّ مع الجماعة – فالفقيه أنكر عليه ، وقال له قم صلِّ- ، فقام ، وأحرم معهم ، وصلَّى الركعة الأولى ، والفقيه المنكِر ينظر إليه ، فلمَّا قاموا إلى الركعة الثانية : نظر الفقيه إلى مكان الرجل ، فإذا به غيره يصلي ؛ فتعجب مِن ذلك ، ثم رأى في الركعة الثالثة شخصاً ثالثاً ، ثم في الرابعة رابعاً ، فزاد تعجبه – أربعة أشخاص في أربعة ركعات ! – ، فلما سلَّم مِن صلاته التفت ، فرأى صاحبَه الأول جالساً مكانه ، وليس عند أحدٌ ، فتحير الفقيه مما رأى ، فقال له الفقير وهو يضحك - الصوفي يسمونه فقيراً - : يا فقيه ! أي الأربعة صلَّى معكم هذه الصلاة ؟ يقول اليافعي: فاعترف الفقيه بفضله ، وزال ما عنده من الإنكار !! أ.هـ(1/99)
مادام يصلى كل ركعة بشكل شخص آخر : إذاً يمكن هو يصلي في أي وقت ، وأنت لا تنكر على أي إنسان تراه تاركاً للصلاة ، والناس يصلون الجمعة ، والجماعات لأنَّك ما تدري يمكن صلى في صورة أخرى ، كيف تنكر على أولياء الله وأنت مِن جهلك ؟ لأنَّك تنظر بنظرك العقلي ، الحسي ، العادي ، وهؤلاء قوم لهم أمور أخرى ، ولهم أطوار أخرى!! .
أقول : إنَّه بمثل هذا الكلام استطاع الصوفيَّة أن يضربوا بسورٍ عريضٍ بين أولياء الله الحقيقيين ، بين المجاهدين في سبيل الله ، بين علماء الأمة العظام الذين يقفون في وجه المنكرات ، ويحاربون أعداء الله سبحانه وتعالى ، بين هؤلاء الأولياء الحقيقيين ، وبين عامة المسلمين ، ضربوا بسورٍ عظيمٍ ؛ فأصبح مَن لم يكشف عورته ، ومَن لم يترك الصلاة ، ومَن لم يطرح نفسه على المزابل ، ومَن يَظهر للنَّاس أنَّه بَهلول ، أو مجذوب : فهذا ليس بوليٍّ عند عامَّة المسلمين ، وليس مِن أصحاب الكرامات ، ومِن ثَمَّ فلا يلتمس منه هدًى ، ولا علم ؛ لأنَّه مِن أصحاب الظاهر ، مِن أصحاب الرسوم ، مِن الملبَّس عليهم ، من المحجوبين .. إلى آخر هذه الألقاب الذي ينبز بها الصوفيَّة علماء الشريعة ، وفقهاء السنَّة ، وأولياء الله تعالى الحقيقيين .
ولم تقف الصوفيَّة عند هذا الحد بل أصبحت تُنكر على مَن يُنكر على أي دين ! يعني: لا يكفي أن تنكر على إنسان مسلم أنَّه كشف عورته ، وترك الجمعة ، والجماعة ، بل يقولون : لا تنكر على أي إنسان أنه منتسب إلى أي دين !!(1/100)
انظروا "أخبار الحلاج" صفحة (54) ، يقول عبد الله بن طاهر الأزدي : كنتُ أخاصم يهوديّاً في سوق بغداد ، وجرى على لفظي أن قلتُ له : "يا كلب" ، فمر بي الحسين بن منصور الحلاج ، ونظر إليَّ شزراً ، وقال : لا تُنبِح كلبك ، وذهب سريعاً ، فلما فرغتُ مِن المخاصمة قصدته ، فدخلتُ عليه فأعرض عني بوجهه ، فاعتذرتُ إليه ، فرضي ، ثم قال لي : يا بني ، الأديان كلها لله عز وجل !! شَغَل الله بكل دينٍ طائفة لا اختياراً فيهم ، بل اختياراً عليهم ، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه : فقد حَكَم أنَّه اختار ذلك لنفسه ، وهذا مذهب القدرية ، و"القدرية مجوس هذه الأمة" ، وأعلم أن اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام ، وغير ذلك مِن الأديان : هي ألقاب مختلفة ، وأسامٍ متغايرة ، والمقصود منها لا يتغير ، ولا يختلف ، ثم قال : وأنشد الحلاج شعراً بعد ذلك يقول :
تفكرت في الأديان جداً محققاً فألفيته أصلاً لها شُعُبٌ جمّاً
فلا تطلبن للمرء دنيا فإنه يصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنده جميع المعالي والمعاني فيفهما
قال سفر : الأديان كلها واحدة ! ولا تقل لأحدٍ إنَّك يهودي ، ولا نصراني ،كله حق ، وكلها طرق إلى الله ! هكذا يقول ، وهنا تلتقي الماسونية الحديثة بهذه الأفكار القديمة ، ومثل هذا قول ابن عربي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني(1/101)
يقول ابن عربي : ديني دين الحب مثل ما قلنا أن "الثيوصوفية" محبة الله فدينهم دين الحب فقط ، فمَن أحب الله على أي ملة ، وعلى أي نحلة – يهوديَّة أو نصرانيَّة أو إسلام - : فهو حبيب الله عندهم ، ولا ينكَر عليه على الإطلاق ، هنا تلتقي مع الماسونية ، هنا نرى لماذا الماسونية تشجع التصوف ؛ لأنَّ الماسونية تحت هذا الكلام يهدمون الأديان جميعاً ليبنوا هيكل سليمان ، ودين اليهودية فقط ، يطلبون مِن الناس أن يتركوا أديانهم .
أمَّا اليهود فهم بطبيعة الحال دينهم مغلق ، هم لا يريدون أن يدخل أحدهم أصلاً ، فلا يدْعون أحداً إلى دينهم ، فيريدون مِن أهل الأديان الأخرى أن يتخلوا عنها ، وأن يتركوها ، وأن يساهموا جميعاً في بناء هيكل سليمان .
الماسونية ، والصوفيَّة تلتقي هنا ، والمؤسسون متفقون مِن الأصل ، وإلى الآن ، ولذلك لا عجب أن نرى الماسونية ، والدول التي تحركها الماسونية في الخفاء تدعم والتصوف ، وتنشره ، وتحقق تراثه ، وتفتتح أقسام الدراسات العليا ونحوها عن الإسلام ، وما هي عن الإسلام ، وإنما هي عن هذا التصوف .
أقول هذا : لنعرف حقيقة هذا الدين ، وحقيقة الدوافع التي تدفع الصوفيَّة لإظهار القبائح كما يسمُّونها ، وعن استعراضنا للكرامات سنجد الكثير مِن مثل هذه الأمور ، ونعرف علتهم ، وهدفهم وراء ذلك كله .
الكرامات - كما يسمُّونها - وهي : أحوال ، منها كرامات ، ومنها استغاثات ، وسأقرأ بعضها سريعاً ، وحتى لا أطيل في ذكر الجزء ، والصفحة ، والمصادر : وهي "طبقات الشعراني " أو " المشرع الروي في فضائل آل با علوي " أو "جامع كرامات الأولياء " ، سأذكر اسم صاحب الكرامة ، وعليك أن تبحث عن ترجمته ، وستجد هذا الكلام فيه ، وذلك منعاً للإطالة .
يقول أحدهم - وهو عبد القادر الطشطوشي - : أرباب الأحوال مع الله كحالهم قبل الخلق وإنزال الشرائع .(1/102)
أبو بكر بن عيسي - أحد أكابر الأولياء عندهم - يقول : كان كثير الاستغراق ، ويخبر بالمغيبات ، ويرجع إليه في المعضلات ، وكان أهل الأجلاب إذا سافروا في البحر ، وحصل لهم شدة يذكرونه ، وينذرون له بشيءٍ ؛ فيرونه عندهم عِياناً ، فينجيهم الله تعالى ببركته ، وإذا جاءوا إلى بلدته : طالبهم بالنذر الذي نذروه له .
أبو عبد الله محمد بن على الرياحي - نقلاً عن الجلبي - يقول عن الفقيه محمد بن عباس الشعبى : رأيت ذات ليلة في المنام أن القيامة قد قامت ، ورأيت النَّاس مجتمعين في صعيدٍ واحدٍ ، حفاةً ، عراةً ، كما جاء في الخبر ، وأنا مِن جملتهم عرياناً ، ورأيتُ موضعاً مرتفعاً ، والقاضي محمد بن على - الولي صاحب الكرامة - واقفاً عليه ، وعليه ثيابه كلها حتى العمامة ، والنَّاس محدقون به ، فهرولت إليه ، فلما دنوتُ منه سمعتُه يقول: المهم ، كلكم في شفاعتي فاطمأنوا !! فقلت له : وأنا معهم ؟ فقال : وأنت معهم.
يروون عن أحدِ كبرائهم ، وهو المسمَّى " شمس الدين محمد الحنفي " : أنَّه أوصى في مرض موته فقال : مَن كان له حاجة فليأت إلى قبري ، ويطلب حاجته : أقضها أنا !
أبو عبد الله محمد بن يوسف اليمني الضجاعي : مِن كراماته أنَّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له : إن أردت أن يفتح الله عليك بالعلم : فخذ مِن تراب قبري الضرِّير شيئاً وابتلعه على الريق ؛ ففعل الفقيه ذلك ، فظهرت بركته .
وعن هذا الحنفي أيضاً ، يسمُّونه أعظم خلفاء البكري : أنَّه امتحنه البكري مرة ، فقال له : كان الليلة في نفسي أمر ما هو ؟ ! فأخبره به ! فقال : أصبتَ هذا الذي كان في نفسي ! – قال سفر : هذا علم الغيب ، وعندهم كثيرٌ جدّاً : يعلم الواحد منهم ما في نفس المريد – ، ويقول : اشتدَّ بنا الكرب الليلة ، والأغلال في أعناقنا فاستغثنا بحضرة الشيخ واستجرنا ! ومتى استغاث به أحدٌ أدركه.(1/103)
قال سفر : الرفاعي والبحريني وهؤلاء المغاربة يقولون : هذا ما يفعله بعض الجهال ، والواقع أنَّه ما يفعله هم هؤلاء الأولياء ، يقول : تعالَ عند قبري ، ويقول : استغثْنا ، ويقول : استغِث .
ويقول : كان جالساً يوم مع أصحابه في رباطه إذ ابتلَّت يده الشريفة وكمُّه إلى إبطه ، فعجبوا من ذلك ، وسألوه عنه ، فقال قدس الله سره : استغاث بي رجلٌ مِن المريدين تاجرٌ ، وكان راكباً في السفينة ، وقد كانت تغرق ، فخلَّصتها مِن الغرق ! فابتلَّ لذلك كمِّي ويدي ! فوصل هذا التاجر بعد مدةٍ ، وحدَّث بهذا الأمر كما أخبر الشيخ ! – قال سفر : الشيخ في حضرموت ، والسفينة في بحر الهند ، وأنقذها وهو جالس مع أصحابه لأنهم استغاثوا به ! - .
ويقول علي بن محمد بن سهل الصائغ الدينوري : تركتُ قولي للشيء كن فيكون تأدباً مع الله تعالى – قال سفر : تأدباً مع الله وإلا فهو يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون -.
وجاكير الهندي يقول : استأذن رجل واسطيٌّ الشيخَ جاكير في ركوب بحر الهند للتجارة فقال له الشيخ : إذا وقعت بشدةٍ فنادي باسمي !فلمَّا كان وقت كذا وكذا عصفت الرياح الشماليَّة فتلاطمت الأمواج ، فأشرفنا على الغرق فتذكرت قول الشيخ فقمتُ واستقبلتُ العراق ! وناديتُ : "يا شيخ جاكير أدركنا" ! فلم يتمَّ كلامي حتى رأيناه عند السفينة ، وأشار بكمِّه إلى الشمال فسكتت الريح ، ومشى خطوات يميناً وشمالاً فسكن البحر ، ثم أشار بكمِّه إلى الجنوب ، فهبت ريحٌ طيبةٌ أوصلتنا إلى طريق السلامة ، ومشى الشيخُ على الماء حتى غاب عنَّا .
قال الإمام الشعراني : وكان الشيخ جاكير يقول : ما أخذتُ العهد على مريدٍ حتى رأيتُ اسمَه مكتوباً في اللوح المحفوظ ! وأنَّه مِن أولادنا – قال سفر : لاحظوا أنَّهم يطَّلعون على اللوح المحفوظ ! - .(1/104)
عبد القادر الجزائري الذي يقال إنَّه بطل الجهاد في الجزائر ، وهو رجلٌ باطنيٌّ ، وبريءٌ مِن الجهاد ، وله كتاب "المواقف" على مذهب ابن عربي مِن نفس الباطنية يقول - كما نقل عنه النَّبهاني - : إنِّي لمَّا بلغت المدينة – "طيبة" - وقفتُ تجاه الوجه الشريف بعد السلام عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه الذين شرَّفهم الله بمصاحبته حياةً وبرزخاً فقلتُ : يا رسول الله عبدُك ببابك ! يا رسول الله كلبك بأعتابك ! يا رسول الله نظرةٌ مِنك تُغنيني ! يا رسول الله عطفةٌ منك تَكفيني ! فسمعتُه صلى الله عليه وسلم ، يقول لي : أنتَ ولدي ، ومقبول عندي ، بهذه السجعة المباركة – يعني : يقول : إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خاطبه بهذه السجعة – .
والرفاعي - والحمد لله - قد اعترف المغربيان اللذان ألَّفا كتاب "التحذير من الاغترار" اعترفا : بأن الرفاعي مؤسس الرفاعيَّة ادَّعى أنَّه ذهب إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وناداه وطلب أن يصافحه ، وأخرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يده الشريفة مِن القبر الشريف وصافحه ، وأنَّه رأى ذلك خمسون ألف حاجٍّ رأوه وهو يصافح الرفاعي ، واعْترفَ المغربيَّان - نقلاً عن الغماريِّ الخرافي الأكبر - بأنَّ هذا كذبٌ لأنَّ ما يمكن أن يُنقل تواتراً لا يقبل فيه نقل الآحاد ، ولم يُنقل عن غير أحدٍ مِن الخمسين ألف هؤلاء إلا الرفاعي !! نفسه ادَّعى ذلك .
إذاً هذه الحكاية لا تقبل وهيَ منقولة عن غير الرفاعي .
با عبَّاد الحضرمي – وهو ممن ذكروهم مِن الأولياء الكبار - كان يقول لأصحابه : مَن وقع منكم في ضيق : فليتوسل إلى الله تعالى بي ويدعوني ؛ فإني أحضركم أينما كنتم !
يقول المؤلف : وجرَّب ذلك بعضُهم فوجده كما قال .(1/105)
عبد الله بن علو ي الحداد – وهذا أيضاً مِن كبارهم وله كتب أذكار توزع في مكة كثيراً - يقول عنه صاحبه : له كرامات كثيرة ، مِنها : أنَّ أحدَ تلامذَتِه وهو الشيخ حسين بن محمد با فضل كان معه حين حج ، واتفقوا أنَّه لما وصل إلى المدينة مرض مرضاً أشرف فيه على الموت ، وكُشف للسيد عبد الله المذكور أنَّ حياةَ الشيخ قد انقضت ، فجمع جماعةً مِن أصحابه ، واستوهب مِن كلِّ واحدٍ منهم شيئاً مِن عُمُره – يعني :حتى يضمَّه إلى عُمُر الشيخ ! - يقول : فأول مَن وهبه السيد عمر أمين ، فقال : وهبتُه مِن عمُري ثمانية عشر يوماً ، فسئل عن ذلك ، فقال : مدة السفر مِن طيبة إلى مكة اثنا عشر يوماً ، وستة أيام للإقامة بها ، ووهبه آخرون شيئاً مِن أعمارهم ، فعاش الرجل ! وذهب إلى مكة ، وما مات حتى انتهت الأيام التي أعطوْه .
انظروا ! يتصرَّفون حتى في أعمارهم وأعمار غيرهم ، يعطونهم ، وينقصونهم .
عبد الله با علوي ينقل عنه "المشرع الروي" صفحة (409) الجزء الثاني يقول :
اشترط رجل عليه أن يضمَن له الجنَّة ، فدعا له بالجنَّة ، فحسُنت حال الرجل ، وانتقل إلى رحمة الله ، وشيَّعه السيد عبد الله المذكور ، وحضر دفنَه ، وجلس عند قبره ساعة فتغير وجهه – أي : تغير وجه با علوي – وهو واقف على القبر ثم ضحك ، واستبشر ، فسئل عن ذلك ، فقال : إن الرجل لما سأله الملكان عن ربه : مَن ربك ؟ قال : شيخي عبد الله با علوي !! فتعبتُ لذلك !! – أي : عبد الله – فسألاه أيضاً فأجاب بذلك ، فقالا : مرحباً بك ، وبشيخك عبد الله با علوي ، فلمَّا قبِله الملَكان ، وقبِلاني معه فرِحتُ .
ويعلِّقُ المؤلف ، فيقول : قال بعضهم هكذا يجب أن يكون الشيخ يحفظ مريدَه حتى بعد موته .
ومِن كراماته : أنَّه كان يخبر أصحابه بما في بيوتهم ، أو بما يضمرونه – أي : في أنفسهم - ويخبر أهلَهم بما يخفونه عنه ، وأخبر جماعةً قصدوه مِن بعيدٍ بما وقع لهم في طريقهم .(1/106)
ومنها : أنَّه ما استغاث به أحدٌ بصدقِ نيَّةٍ وحسنِ الظن إلا أتاه الغوث سريعاً .
لاحظوا ، أنَّه في الطبعة الأخيرة مِن "المشرع الروي" الذي طبعه الشاطري في "جدة" حذفوا آخر الكرامة هذه ! بعض الكرامات يحذفونها ، ويكتبون تحت : هاهنا شيءٌ حذفناه ، لكن في "جامع كرامات الأولياء" هذه الكرامات موجودة كاملة ، فأحببتُ أن أنبِّه لذلك .
ينقل عن إبراهيم الخرساني : بينما أنا في يوم صائف إذ عدلتُ إلى مفازةٍ فدخلتُها فما لبثتُ أن دخل علي ثعبان كأنه نخلة ، وجعل ينظر إليَّ ، فقلتُ : لعلِّي رزقٌ له ، فخرج ثم أقبل إليَّ وفي فمِه رغيفٌ حوراي ، ووضعه عندي ، ورجع ، فقال : رأيتُ فقيراً بالمسجد الحرام وعليه خرقتان ، فقلتُ في سرِّي : هذا وشبهه كَلٌّ على النَّاس ، فناداني الفقير ، وقال : { إنَّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } ، فاستغفرتُ الله في سرِّى فناداني ، وقال : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } ، ثم غاب عنِّي فلم أره .
ينقل عن إبراهيم بن علي الأعزب ، يقول : عن أبى النعالي عامر بن مسعود العراقي التاجر الجوهري قال : أتيت الشيخ مودِّعاً إلى بلاد العجم ، فقال: إنْ وقعتَ بشدَّةٍ فنادي باسمي ! قال : ففي صحراء خراسان أخذتْنا خيَّالة ، وذهبوا بأموالنا ، فذكرتُ قولَ الشيخ وكان معي رفقة معتبرون ، فاستحييْت مِن ذكر اسمه بلساني ؛ لأنَّهم لا يفهمون مثل ذلك فاختلج في صدري الاستغاثة به ، فلم يتم حتى رأيتُه على جبل يومئُ بعصاة إليهم فجاءوا بجميع أموالنا .(1/107)
من كرامات العيدروس - وهو مِن المعظَّمين مع الأسف حتى الآن عند كثيٍر مِن أهل الحجاز وخاصة الحضارمة - يقول النَّبهاني : أنَّه لما رجع مِن الحرمين دخل "زيلع" وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق ، واتَّفق أن أم ولدٍ له - جارية – ماتت ، وكان مشغوفاً بها ، فدخل عليه الشيخ ليعزِّيَه ، ويصبِّره ، فلم يُفِد فيه شيء ، ورآه في غاية التعب ، وأكبَّ على قدَم الشيخ ليقبِّلها ، ويبكي ، فكشف الشيخ عن وجهها ، وناداها باسمها ، فأجابته ! وردَّ الله عليها روحَها ! وأكلتْ الهريسة بحضرة الشيخ .
لاحظوا : إنَّها أشياء تغني عن التعليق .
وينقلون أيضاً عن السقَّاف ، وهو ممن يعتقدون فيهم كالعيدروس ، والحداد ، يقولون - كما في "المشرع الروي" - : أنَّه مكث نحو ثلاثين سنَة ما نام فيها لا ليلاً ولا نهاراً وهو يقول : كيف ينام مَن إذا رقد على شقِّه الأيمن رأى الجنَّة ، وعلى شقِّه الأيسر رأى النار !! ؟
يقولون : وكان يزور قبر النَّبيِّ "هود" على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، ويمكث عنده شهراً لا يأكل فيه إلا نحو كفِّ دقيقٍ .
قال سفر : ثلاثين سنَة ما نام ، إنَّ هذه الكرامات فيها الشركيات ، فيها الخرافات ، فيها ما يصدقه العقل ، وهي مختلطة ، ويغني ما فيها مِن التعليق .(1/108)
عن شمس الدين الحنفي ، يقولون : كان رضي الله عنه يتكلم على خواطر القوم ، ويخاطب كلَّ واحدٍ مِن النَّاس بشرح حالِه – يعني : قبل أن يتكلم المريد يقول له : أنتَ تريد كذا ، وعندك كذا - فقال له رجل : بلغَنا عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أنَّه عمِل يوماً ميعاداً سكوتيّاً لأصحابه – أي : حضرة سكوتية ، يكون كلهم ساكتون ، ولكن القلوب فقط تتخاطب ، وبعضهم يخبر بعضاً - يقول : ومرادُنا أن تعمل لنا ذلك ، فقال الشيخ الحنفي : نفعل ذلك غداً إن شاء الله تعالى ، فجلس على الكرسي وتكلم بغير صوت ولا حرف – هم يقولون : إن الله تعالى يتكلم بلا صوت ولا حرف وهم أشاعرة صوفية ، ومع ذلك تكلم بغير صوت ولا حرف –
المهم : فأخذ كلٌّ مِن الحاضِرين مشروبَه ، وصار كلُّ واحدٍ يقول – يعني :كلُّ واحدٍ مِنَ الحاضرين تلقى ما قال له الشيخ - ثم بعد ذلك طلب منهم الشيخ أن يتكلموا فقال واحد ألقي في قلبي كذا ، قال الشيخ : صدقت أنا قلتُ ذلك ، قال الآخر : ألقي كذا ، يقول : فكان كل مَن يقول ألقي في قلبي كذا وكذا ، يقول له الشيخ صدقت – يعني : أنا هكذا قلتُ ، هكذا وضعتُ ، وألقيتُ في قلبك - .
نصل الآن إلى رجلٍ مهمٍّ جدّاً وهو الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعيَّة ، والطريقة الرفاعيَّة مشهورة جدّاً بالخرافات ، مشهورة بالسحر ، والشعوذة أكثر مِن غيرها مِن الفرق ، حتى أن بعض الفرق الصوفية تعتبرهم مجرد سحرة وليسوا من الصوفيَّة في شيءٍ .
وقصتهم مع شيخ الإسلام ابن تيميه شرحها رحمه الله ، وفصلها في "الفتاوى" وهم يسمُّون بـ"البطائحيَّة" لأنَّ الرفاعيَّ كان في "البطائح" ، ووصلتْ المناظرة مِن الشدَّة إلى حد أنَّهم قالوا للأمير : نحن على الحق ، وابن تيميَّة على الباطل ، نحن نستطيع أنْ ندخل النَّار ، وهذه كرامة لنا تدل على أنَّنا على الحقِّ .(1/109)
شيخ الإسلام رحمه الله بثاقب علمه قال : نحن نغسل أجسادَنا أنا وإياكم ، نغسلها بأنواعٍ قويَّة مِن المزيلات ، ثمَّ ندخل النَّار جميعاً ، ومَن أحرقتْه فعليه لعنةُ الله ، وهو ليس بالوليِّ فعند ذلك نكصوا على أعقابهم ، وخسِئوا أمام الأمير ، وأمام الجمهور ، وأمام الذين معه ، وعرف النَّاس أنَّهم دجالون ، وأخبر شيخُ الإسلام ابن تيميَّة بدَجَلِهم ، وأنَّهم يَدهنون أجسادهم بأنواعٍ مِن الدهون ، ثم يدخلون النَّار ، أو يُدخلون أيديهم فيها ولا يحترقون ، فيقولوا للنَّاس نحن أولياء .
وأحمد الرفاعي هذا مؤسِّس هذه الطريقة ، ينقلون مِن كراماته : أنَّه كان إذا صعد الكرسي لا يقوم قائماً ، وإنما يتحدث قاعداً ! وكان يَسمع حديثَه البعيد مثل القريب حتى أنَّ أهل القرى التي حول القرية التي كان فيها كانوا يجلسون على سطوحهم يسمعون صوته ويعرفون جميع ما يتحدث به ، حتى كان الأطرش والأصم إذا حضروا يفتح الله أسماعهم لكلامه ، وكانت شيوخ الطرق يحضرونه ، ويسمعون كلامه .(1/110)
ومن كراماته : يذكرون إحياء الموتى ! يقولون : إنَّه كان جالساً وحده فنزل عليه رجلٌ مِن الهواء ، وجلس بين يديه ، فقال الشيخ : مرحباً بوفد المشرق ، فقال له : إنَّ لي عشرين يوماً ما أكلتُ ولا شربتُ ، و إني أريد أن تُطعمني شهوتي , فقال له : وما شهوتُك ؟ قال : فنظر إلى الجوِّ وإذا خمس وزات طائرات ، فقال : أريد إحدى هؤلاء مشوية ، ورغيفين مِن بُرٍّ ، وكوزاً من ماء بارد ، فقال له الشيخ : لك ذلك ! ثم نظر إلى تلك الوزات ، وقال : عجِّل بشهوة الرجل ، قال : فما تم كلامُه حتى نزلت إحداهن بين يديه مشويةً ! ثمَّ مدَّ الشيخُ يده إلى حجرين كانا إلى جانبه فوضعهما بين يديه فإذا هما رغيفان ساخنان مِن أحسن الخبز منظراً ، ثم مدَّ يدَه إلى الهواء ، وإذا بيدِه كوزٌ أحمر فيه ماء !! قال : فأكل وشرب ، ثم ذهب في الهواء مِن حيث أتى ، فقام الشيخ رضي الله عنه وأخذ تلك العظام ، ووضعها بيده اليسرى ، وأمرَّ بيده اليمنى عليها ، وقال : أيتها العظام المتفرقة ، والأوصال المتقطعة اذهبي ، وطيري بأمر الله تعالى ! بسم الله الرحمن الرحيم ، قال : فذهبت وزَّةً سويَّةً كما كانت ، وطارت في الجو حتى غابت عن منظري .
وأحد تلاميذه ويدعى علي الملِّيجي ، يقول : إنَّه كان يزور أحدَهم ، فذبح له سيِّده علي فرخاً وأكله ، وقال لسيِّده : لابدَّ أن أكافئك ، فاستضافه يوماً فذبح للسيِّد علي فرخة فتشوشت امرأتُه عليها ، فلمَّا حضرت قال لها سيِّدي علي : هش ! فقامت الفرخة تجري ، فقال – الشيخ السيِّد علي - : يكفينا المرق ولا تشوشي .
وفي "الأجوبة المرضيَّة" للشعراني ، يقول : ومما يتميز به الصوفيَّة عن الفقهاء : الكشف الصحيح عن الأمور المستقبلة وغير ذلك ، فيعرفون ما في بطون الأمهات أ ذكرٌ هو أم أنثى ، أم خنثى ، ويعرفون ما يخطر على بال النَّاس ، وما يفعلونه في قعور بيوتهم .(1/111)
ومِن كرامات با علوي : أن علي بن عبد الله با غريب مرض هو وابنه ثلاثة أشهر مرضاً شديداً ، فجاءت به أمُّه إلى السيد علوي وهي مشفقة عليه مِن الموت ، فقال لها : ما أقلقك عليه ؟ إنَّ عمره مائة سنَة لا يموت ابن ثلاثة أشهر ، ودعا له بالعافية فعوفي ، وعاش مائة سنَة .
والفقيه با علوي مِن أسرة كبيرةٍ معروفةٍ التي ألِّف عنها كتاب "المشرع الروي" .
وشعبان المجذوب ، يقول الشعراني : أخبرني سيدي علي الخوَّاص رضيَ الله عنه ، أنَّ الله تعالى يُطْلِع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنَةٍ مِن رؤية هلالها ، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوباً على العباد !!.
إسماعيل بن يوسف الأمبابي ، يقولون : مِن كراماته أنَّه كان يطَّلع على اللوح المحفوظ فيقول : يقع كذا فلا يخطئ ! ! .
ومرة أنكر عليه رجلٌ مِن علماء المالكيَّة ، وأفتى بتعزيره ، فبَلَغَه ذلك ، فقال : رأيتُ في اللوح المحفوظ أنَّه يغرق في البحر ، فكان كما كان .
وعن شعبان - المتقدم - : كان إذا اطَّلع على موتِ البهائم يَلبس صبيحة تلك الليلة جلد البهائم ! البقر ، أو الغنم ، أو البهيمة التي اطلع أنَِّها ستموت ثم تموت فيما بعد ، يعرف النَّاس أنَّ هذا علامة على أنَّها ستموت - بزعمهم - .
ومِن كرامات علي بن محمد با علوي : أنَّه دخل عليه تلميذه محمد بن حسن قبل أن يتزوج ، فقال له : تزوجْ فإنِّي أرى في صلبك ابناً أمُّه مِن غير آل با علوي !! فتزوج "مانية بنت الشيخ عبد الله بن محمد بن حكم با قشير" فولدت له ولداً – يعني : عرف أن في صلبه ابناً مِن غير العائلة فتزوج ، فكان ما أخبر الرجل كما يقولون ! .(1/112)
كما وينقلون عن عبد الله العيدروس في "المشرع الروي" أنَّه قال : غفر الله لمن يكتب كلامي في الغزالي ! وقال : مَن حصَّل كتاب "إحياء في علوم الدين" فجعله في أربعين مجلَّداً ضمنْتُ له على الله بالجنة ، فتسارع النَّاس إلى ذلك ، منهم العلامة عبد الله ابن أحمد با كثير ، فزاد في تبيينه ، وتزيينه ، وجعل لكلِّ جلدٍ كيساً ، فلمَّا رآه العيدروس قال : قد زدتَّ زيادةً حسنةً ، فيحتاج لك زيادة – يعني : لك زيادة عن الجنة ! بعد أنْ وعده بالجنة ! - فما تريد ؟ أريد أن أرى الجنَّة في هذه الديار .
هذا العيدروس ألَّف كلاماً مطبوعاً مع "الإحياء" في الجزء الأخير منه في مدح "الإحياء" والثناء عليه ، ويقول من ضمنه : كان أحد النَّاس يعترض على الإحياء ، فجاء مرَّةً ، وقال : قد تركتُ الإنكارَ والاعتراض عليه ، قالوا : لماذا ؟ قال : لأنِّي رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، وقدمني أبو حامد الغزالي المؤلِّف إليه ، وقال له: هذا ينكر ما في "الإحياء" قال : فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "الإحياء" وأبو بكر معه ، وقرأه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورقةً ورقةً حتى انتهى مما في "الإحياء" ، وقال: هذا الكتاب عظيم وليس لي أي اعتراض فاضربوه ! فضَربوا هذا الرجل ! فقال : بقيتْ آثارُ الضرب على ظهري ، وتبتُ ولله الحمد ، وأنا الآن أمدح "الإحياء" .
العيدروس ينقل هذه القصة ، فانظروا ، حتى نسيَ هؤلاء الوضَّاعون الدجَّالون الكذابون أن الرسُول صلى الله عليه وسلم كان أمِّيّاً لا يقرأ ، فكيف قرأ "الإحياء" كلَّه ، ويقرأه في جلسةٍ واحدةٍ ثم يزكِّيه .(1/113)
فكما قلتُ : هم يعتمدون على المنامات ، وعلى الكشوفات ، فالخلاف بيننا وبينهم لا تقول "الإحياء" وفيه كذا وفيه كذا ، هم يقولون : لا ، فيه أحاديث صحيحة ، وفيه ضعيفة ، القضية : أنَّهم يتبنَّون "الإحياء" مِن أجل المنامات ، فما دمتَ لم تقتنع بمبدئهم هذا : فلا داعي لأَنْ تجادلهم في الفرعيات ، عليك أن تناظرهم في الأصول .
كراماتٌ مختلفة جدّاً ، لكنَّنا ننوع :
واحد اسمه علي الوحيش في كراماته : أنَّه كان إذا رأى شيخ بلد ، أو غيره من الكبار يُنزلهم مِن عَلى الحِمَارة ، ويقول له : أمْسِك رأسَها حتى أفعل فيها ، فإن أبى شيخُ البلد تسمرتْ الحمارةُ في الأرض لا تستطيع أن تخطوَ خطوةً ، وإن سمَحَ له حصل له خجل عظيم ، والنَّاس يمرون !!
وهذا موجود في "طبقات الشعراني" الجزء الثاني صفحة (135).
وهذا أيضاً علي أبو خودة ، مِن كراماته : أنَّه أراد السفر في مركب قد انوثقت ولم يبق فيها مكانٌ لأحدٍ ، فقالوا للريس : إن أخذتَ هذا غرقتْ المركبُ لأنَّه يفعل في العبيد الفاحشة – يعنون الوليَّ بزعمهم - ، فأخرجه الريِّس مِن المركب ؛ فلما أخرجوه مِن المركب قال : يا مركب تسمَّري ، فلم يقدر أحدٌ أنْ يسيرِّها بريحٍ ولا بغيره ، وطلع جميع مَن فيها ولم تسِر.(1/114)
إبراهيم المعروف بـ"الجيعانة" ، يقول النَّبهاني عن شيخه عمر السنزاني رحمة الله عليه يقول : كنت يوماً بظاهر دمشق المحروسة مع جماعة ، فرأيتُ الشيخ إبراهيم الجيعانة واقفاً، وقد أتت امرأةٌ وسألته الدعاء ، وأمرَّتْ يده على أطماره الرثة ، ثم أمرَّت على وجهه ، وهناك فقيهان روميَّان ، فقال أحدهما : يا حرمة تنجست يدُك بما مرت عليه ! فنظر إليه الشيخ مغضباً ، ثم جلس وغاط الشيخ – يعني : أخرج الغائط منه - ثم نهض فتقدم الفقيه المنكِر ، وجعل يلعق غائطه !! ورفيقه متمسك بأثوابه ، ويضمُّه ويقول له : ويلك هذا غائط الشيخ إلى أن لعق الجميع ببعض التراب ، فلمَّا نَهض جعل يعاتِبه ، فقال الفقيه : والله ما لعقتُ إلاَّ عَسَلاً .
قال سفر : انظروا التبرك بآثار هؤلاء ، وهذه الشعوذات ، وهذا السحر ، وهذه الهالة التي يحيطونها بهم ؛ فلو أنَّ أحداً أنكر على هؤلاء الخرافيين ربَّما يفعلون معه هذا الفعل ، فاحذَر أنْ تنكر هذا هو مرادهم .
إبراهيم النبتيتي ، قال المحمَّصاني : وقفتُ أصلِّي في جامع ، فدخَلَ عليَّ رجلٌ مِن الجند ومعه أمرد ، فقصد به إلى جهة المراحيض فتشوشتُ في نفسي ، فقلتُ : ضاقتْ عليه الدنيا ، وما وجد إلا الجامع – يعني : ليفعل فيه الفاحشة ؟ - ولم أنطق بذلك ، فقال لي إبراهيم المذكور : ما فضولك ! وما أدخلك ؟ يا كذا ويا كذا ، وسبَّني ، وشتمني ، وقال: لا تتعترض ما لك وذاك ؟ .
نور الدين الشوني ، يقول الشعراني : أنَّ شخصاً في قنطرة الموسكي كان مُكاريا يحمل النِّساء من بنات الخطا – يعني : بنات الزنا والعياذ بالله - وكان النَّاس يسبُّونه ، ويصفونه بالتَّعريص ! وكان مِن أولياء الله تعالى ، لا يُركب امرأةً مِن بنات الخطا ، وتعود إلى الزنا أبداً .(1/115)
حسن الخلبوصي ، يقول الشعراني : حكى الشيخ يوسف الحريتي رحمه الله قال : قصدته بالزيارة في خان بنات الخطأ – مكان الدعارة الذي تؤجر فيها البنات أنفسهنَّ !! - وجدتُّ واحدةً راكِبةً على عنقه ، ويداها ورجلاها مخضوبتان بالحناء ، وهي تصفعه في عنقه - تلطمه وتضربه على عنقه – وهو يقول لا ، برفق فإنَّ عيناي موجوعتان !!
قال سفر :يعتبرون هذا من كرامات الشيخ أن بنات الزنا في خان الزنا تفعل به هكذا .
أحمد الذي سمَّوه "حمدة" ؛ لأنَّه يقيم مع البغايا في بيت البغايا فسمَّوْه "حمدة" ، هذا من كراماته ! يقولون : له كشفٌ لا يكاد يخطىء ، وكثيراً ما يخبر بالشيء قبل وقوعه فيقع كما أخبر ، وهو مقيم عند بعض النساء البغيَّات بـ"باب الفتوح" ، وما ماتت واحدة منهنَّ إلا عن توبة ببركته ، وربما صار بعضهن مِن أصحاب المقامات !!– قال سفر : يقيم معهن ويسكن معهن حتى يعلمهن الطريق ! والحقيقة : أنَّ الفرق ضعيف بين واحدةٍ ترقص وتطبل في "حضرة" ، وواحدة تطبِّل في مكان دعارة .
علي نور الدين بن عظمة ، مِن كراماته : ما حكاه "حشيش" أنَّه مرَّ عليه يوماً فجرى في خاطره الإنكار عليه لعدم ستر عورته ، فما تمَّ له هذا الخاطر إلا وقد وجَد نفسَه بين إصبعين مِن أصابعه يقلِّبه كيف شاء ، ويقول له : انظر إلى قلوبهم ، ولا تنظر إلى فروجهم.
إبراهيم العريان ، مِن أئمتهم كان رضي الله عنه كما يقولون : إذا دخل على بلدٍ سلَّم على أهلها كباراً وصغاراً بأسمائهم كأنَّه تربَّى بينهم ، وكان يطلع على المنبر ويخطب عرياناً !! فيقول : دمياط ، باب اللوق ، بين القصرين ، جامع طولون ، الحمد لله رب العالمين ! فيحصل للنَّاس بسطٌ عظيمٌ ، يقول المنَّاوي : وكان محبوباً للناس ، معظَّماً عندهم معتقَداً وكان يصعد المنبر فيخطب عرياناً ، ويذكر الوقائع التي تقع في الأسبوع المستقبل فلا يخطئ في واحدة .(1/116)
مِن كرامات عبد الجليل الأرناؤطي كما ينقلون : أنَّه كان يجمع الدراهم مِن النَّاس وينفقها على النساء العجائز البغايا اللاتي كسدن ، وصِرن بحالةٍ لا يُقبِل عليهنَّ أحدٌ مِن الفُسَّاق ، فكان يجمعهن في حجرة ، وينفق عليهن ما يجمعه ويأوي إليهنَّ ، وينام عندهن! ويخدمنه.
عبد العزيز الدباغ ، يقول أحد مريديه : إنَّني ذهبتُ لزيارته ، وكانت إحدى زوجاتي حاملاً ، فتحدثتُ معه في شأنها ، فقال لي : إنَّها تلدُ ولداً ذكراً اسمه أحمد ، فمكثتُ ثلاثة أشهر فذهبتُ لزيارته فقال : حملتْ زوجتُك ؟ فقلت : لا أدري يا سيدي ، فقال : إنَّها حامل منذ خمسة عشر يوماً ، وهو ذَكَر إن شاء الله تعالى ! فسمِّه باسمه وهو يشبهني !! إن شاء الله تعالى ، فلمَّا رجعتُ أعلمتُ الزوجة بما قال ، وفرحتْ ، ثمَّ ولدتْ ذكراً كما قال رضي الله عنه ، وهو أشبه النَّاس به بشرة !! .
ومنها : أنَّ الزوجة الأولى حملت ثانيةً ، فسألتُ عن حملها ، قال لي : بنت ، وسمِّها باسم أمِّي .
وكثير مِن الكرامات عن الدباغ هذا في الأولاد ؛ أنَّه يعرف الذكور مِن الإناث ، ويضع لهذا ذكوراً ، ولهذا إناثاً ، والعياذ بالله .(1/117)
الشيخ علي العمْري ، مِن كراماته رضي الله عنه - كما يترضى عنه النبهاني - ما أخبرني به إبراهيم الحاج المذكور ، قال : دخلتُ في هذا النَّهار إلى الحمام مع شيخنا الشيخ علي العمْري ، ومعَنا خادمُه محمَّد الدبُّوس الطرابلسي ، وهو أخو إحدى زوجات الشيخ ، ولم يكن في الحمام غيرُنا – أي : ثلاثة في الحمام !!- قال : فرأيتُ مِن الشيخ كرامةً مِن أعجب خوارق العادات ، وأغربِها : وهي أنَّه أظهر الغضب على خادمه محمد هذا وأراد أن يؤدِّبَه ، فأخذَ الشيخ إحليل نفسه بيديه الاثنتين – أخذ عضوه التناسلي من تحت إزاره !! - فطال طولاً عجيباً !! بحيث أنَّه رفعه على كتفه ، وهو زائدٌ طويلٌ على كتفه وصار يجلد به خادمَه المذكور !! والخادم يصرخ مِن شدة الألم ، فعل ذلك مرات ثم تركه ، وعاد إحليله إلى ما كان عليه أولاً ، ففهمتُ أنَّ الخادم قد عمل عملاً يستحق التأديب ، فأدبَّه الشيخ بهذه الصورة العجيبة ، ولما حكى ذلك الحاج إبراهيم حكاه بحضور الشيخ ، وكان الشيخ واقفاً ، فقال لي الشيخ : لا تصدِّقه ، وانظر ، ثم أخذ بيدي بالجبر عني ووضعها على موضع إحليله !! فلم أحس بشيءٍ مطلقاً حتى كأنَّه ليس برجلٍ بالكلية فرحمه الله ! ورضي عنه ! ما أكثر عجائبه ، وكراماته . انتهى كلام النبهاني في صفحة (209) .
انظروا هذه الكرامات ! هل هذه مِن الكرامات يضرب المريد بعضوه ! أشياء كثيرة يمنعني الحياء عن ذكر بعضها ، ولكن رأيتُ أن لابدَّ أن نذكر البعض على الأقل حتى تُعرف حقيقة هؤلاء الذين يدَّعون الطهارة ، ويدَّعون الولاية .(1/118)
ويقول : مِن كراماته ما أخبرني به بعض الثقاة مِن أهل طرابلس وأظنُّه الحاج محمد الدبوسي قال المخبِر : كان في طرابلس رجل مِن الشباب قليل الحياء ، معجباً بإحليله ! فكان يمازح الشيخ مزاحاً بارداً فإذا رآه : يضع ذلك الشاب يده على إحليل نفسه ويقول له : هل عندك مثل هذا ؟ - الشاب يقول للشيخ : ما عندك مثل هذا العضو !؟ - فكان الشيخ يضحك مِن ذلك ، فلمَّا تكرر هذا الأمر مرة بعد أخرى مِن ذلك الشاب لقِيَه مرة، فقال له مثل ما يقول ، فضربه الشيخ عليه بيده ، وقال له : اذهب ، فذهب كأنه امرأة لم يتحرك له شيء !!.
ومِن الكرامات التي يذكرونها أيضاً ، قال السراج : رُوِّينا أنَّ امرأةً يقارب عمرها عشرين سنَةً بدمشق المحروسة أعطاها سيدي تاج الدين نصيباً صالحاً مِن الأسرار ، ثم سكنت "المرقب" ، ثم صار الفقراء يترددون إلى منزلها ، فمرَّ عليها فقيران وأقامَا مدة وأرتْهُما أحوالاً عظيمةً ، ومكاشفات عجيبة ، ثم طمَّع أحدُهما نفسَه بها لما رأى من إحسانها وودها ، وسألها ما يسأل النساء ، فأجابته ظاهراً ، واعتقد القبول لاستحكام غفلته ، فلمَّا ضاجعها ليلاً وجدها خشبةً يابسةً ! فقال لنفسه المكابِرة الأمَّارة : الثديانِ ألينُ شيءٍ في المرأة ! فلمسهُما فوجدَهما كحجرين ، فلمَس أنفَها ، فلم يجد أنفاً فعند ذلك اقشعر جلده ! .أ.هـ
هذا ما يفعله الأولياء في خلواتهم !
وحيش المجذوب ، كان إذا رأى شيخ بلدةٍ ، أو غيره يَنزل له عن حمارتِه ، ويقول: أمسك لي رأسَها حتى أفعلَ بها !! فإِذا امتنع سمَّره في الأرض ، فلا يستطع أن ينتقل خطوة واحدة ، وإن أطاع حصل له خجلٌ عظيمٌ مِن المارَّة الناظرين إليه ، مات سنة 917 .
وهذا غير الأول .(1/119)
وهناك كرامات كثيرة ، ولذلك يقول تعقيباً على ذلك : قال المناوي : وتقدم نظير هذه الكرامات ، أي : مروي عن كثيرٍ مِن أئمَّة التَّصوف مثل هذه الحكايِة أنَّه كان يطلب أن يفعل في الدابة ! فإذا وافق الرجلُ صاحبُ الدابة ، ويكون أمير البلد : فالمصيبة ، وإن لم يوافق تسمَّرت في الأرض حتى يوافق أن يفعل فيها الفاحشة علانية .
أحمد بن إدريس ، يقولون : ومن كراماته رضي الله عنه : أنَّ شخصاً اشترى له لحماً ووضعه في ثوبه وأدركته الصلاة فصلى معه رضي الله عنه ، وبعد انقضاء الصلاة ذهب بلحمه إلى بيته ، ووضعه في القدر ، وأوقد عليه النار فلم تؤثِّر فيه شيئاً ، فأكثر عليه النَّار فلم تفِد فيه شيئاً ، فأخبر بذلك الشيخ رضي الله عنه ، فقال : نحن بُشِّرنا أنَّه مَن صلَّى معنا لن تمسه النَّار ! .
فما دام اللحمة صلت معنا فإذاً النار لن تمسها ، لذلك قلنا : لا تستغربوا قولهم إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُقطع مِن أرض الجنة .
وأبو بكر بن أيى القاسم ، يقول : روي عنه أنَّه قال : مَن رآني ورأيتُه دخل الجنَّة ، وواحد مِن أئمَّتهم ، قال : مَن رآني ، ورآى مَن رآني .. إلىسابع مَن رآى : دَخَل الجنَّة وضمن له الجنَّة ، وأنَّ هذا مما يحكى عن الشاذلي .
مدين الأشموني ، جاءته امرأةٌ فقالت : هذه ثلاثون ديناراً وتضمَن لي على الله الجنَّة! فقال الشيخ رضي الله عنه مباسطاً لها : ما يكفي - ثلاثون ديناراً قليلة ! - فقالت : لا أملك غيرَها ، فضمِن لها على الله الجنَّة !! فماتت ، فبلغ ورثتَها ذلك ، فجاؤوا يطلبون الثلاثين ديناراً مِن الشيخ ، وقالوا : هذا الضمان لا يصح ، فجاءتْهم في المنام ، وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ فإنِّي دخلتُ الجنة !! فرجعو عن الشيخ .
هذه في "الشعراني" جزء 2 صفحة (93) ، "جامع كرامات الأولياء" جزء 2 صفحة 249 - كما قلتُ كلها بالجزء والصفحة - .(1/120)
انظروا إلى حدِّ تلاعب الشياطين والجنِّ بهم أنَّهم جاءوا لتلك المرأة في شكل جنٍّ ، وتعامل الشيخ مع الجنِّ هو الذي يجعله يسخر أمثال هؤلاء .
موسى بن ماهين المارديني ، يقول النبهاني : وقع بـ "ماردين" حريق فاحش ، وفشا في البلد ، وعظم أمره ، فاستغاثوا بالشيخ موسى الزولي رحمة الله عليه ، فأمرهم بإلقاء عكازه في النار ، فانطفأت كأنْ لم تكن ! فقال : إنَّ الله وعدني ألاَّ يحترق بالنار ما مسَّته يدي !.أ.هـ
أي شيءٍ تمسه يدُه ، فما بالك بالمريدين الذين باركهم !؟ ما بالك بالمريدات !؟ .
محمَّد بن على بن محمَّد صاحب مرباط : ومِن كراماته : أنَّ خادمه بأفريقيا سافر سفراً طويلاً فبلغ أهله أنَّه قد مات ، فتعبوا وأتوا إلى الأستاذ ، فأطرق ساعةً ، وقال :لم يمُت بأفريقيا ، فقيل له : قد جاء الخبر بموته ، فقال : إني اطَّلعت على أهل الجنَّة !! فلم أجده فيها ! ولن يدخل فقيري النَّار !! ثم جاء الخبر بحياته ! أ.هـ
عرفتم كيف عرف الشيخ أنَّه ما مات ؟ قال : اطَّلعتُ على الجنَّة فلم أجده فيها ، والنَّار ما يدخلها لأنَّه مِن تلاميذي – فقيري - ! .
إذاً هذا الرجل لم يمت ، فما يزال حيّاً ، ثم وقع كما قال - بدعواهم ، وبزعمهم - .(1/121)
وينقلون عن أبى يزيد البسطامي - كما نقل الشعراني جزء 2 صفحة (49) - يقول : كان لا يخطر بقلبي شيءٌ إلا أخبرني به ، يقول : أنَّ شقيقنا البلخي ، وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد ، فقُدِّمَتُ السفرة ، وشابٌّ يخدم أبا يزيد ، فقال له البلخي : كُلْ معنا يا بني ، أو قال يا فتى ، فقال : إني صائم , فقال له أبو تراب - وأبو تراب النخشبي هو الذي اعترض على الإمام أحمد وقال له : النَّاس يشتغلون بالذِّكر ، وأنت تشتغل بهذا ضعيف وهذا حسن ، ونهره الإمام أحمد رضي الله عنه نهراً شديداً بسبب ذلك ، لا يريدون أن أحداً يقول : ضعيف ، وحسن ، كلُّ حديثٍ يضعونه كما يشاؤون : فهو عندهم كما يريدون حتى ينفتح لهم المجال لهدم دين الإسلام ، فيضعوا مِن الأحاديث ما شاءوا مثل ما رأينا في كتاب "الذخائر" من الموضوعات ، وأبو عبد الرحمن السلمي كان يستحل لهم وضع الحديث كما يقولون ، وكثير مِن الصوفيَّة يستحلُّون أنْ يضع الأحاديث ليرقِّق لهم القلوب - بزعمهم - .
الحاصل : أن أبا تراب النخشبي هذا قال للولد : كُلْ يا ولدى ولك أجر صوم شهر ! فأبى الولد ، فقال له شقيق : كلْ ، ولكَ أجرُ صومِ سنَةٍ ، فأبى ، فقال له أبو يزيد : دعوا مَن سقط مِن عين الله تعالى ! فأُخذ ذلك الشاب في السرقة – يعني : تحول إلى حرامي - فقطعت يدُه !!.
قال سفر : لأنَّه خالف المشايخ ، قالوا له أفطر ونضمن لك أجر سنَة ، على مَن يضمنون !؟ وعن مَن يضمنون !؟ .
والكرامات – كما يسمُّونها -كثيرةٌ ! لكن أحاول أن أختصر ، وأنقل ما يتعلق بشيء مما ذكروه عن كون النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ! وبيده مقاليد السموات والأرض ! ونحو ذلك مما ينسبون أمثاله لأوليائهم ؛ لنعرف لماذا هم يدافعون عن إثباتها للرسول صلى الله عليه وسلم؟ .(1/122)
ينقلون عن إبراهيم المجذوب – ذكرتُ الاسم حتى تُراجع ترجمتُه في "جامع كرامات الأولياء" وفي "طبقات الشعراني" – : كان كلُّ قميصٍ لبسه يخيِّطه ويخرقه على رقبته فإن ضيَّقه جدّاً حتى يختنق : حصل للنَّاس شدة عظيمة ، وإن وسَّعه : حصل لهم الفرج والراحة .
قال سفر : ربطوا أقدار النَّاس وأرزاقهم بثوب هذا الولي بزعمهم .
عبد الرحمن با علوي يقول : كان يخبر بقوله عن نفسه أنَّه لم يبق بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاب ، وأنَّه لم يُعط الطريقة النقشبندية إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عبد الرحمن بن أحمد الغنَّاوي يقول : كان إذا استشاره إنسان يقول : أمهلني حتى أستأذن جبريل ! ثم يُطرق رأسَه ، ثم يقول : افْعل ، أو لا تفعل .
هذا في صفحة –68- الجزء الثاني مِن "جامع كرامات الأولياء" .
يقول الشعراني - الجزء 2 صفحة 136 – : ومِنهم الشيخ عبد الله أحد أصحاب سيدي عمر النبتيتي نفعنا الله ببركاته ، كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول للإمام عليٍّ رضي الله عنه : ألبِس عبد الوهاب طاقيتي هذه ، وقل له : يتصرف في الكون !! .أ.هـ
لماذا يثبتون أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في الكون ويدافعون عنه ، حتى يثبتوا أنَّه أعطى الطاقية لفلان ، وقال : تصرف في الكون نيابةً عني .
ومنهم الشيخ سعد الدين الصناديدي ، وكان مِن أشد المنكرين عليَّ في حضور مولد سيدي أحمد البدوي ، فيقول : كيف يحضر فلان المولدَ وفيه هذه المنكرات ؟ فرأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد ضمَّني إلى صدره وثديي يشخبان لبناً حليباً ، والنَّاس يشربون إلى أن روي أهل المولد كلهم ، وسيدي أحمد البدوي واقف تجاه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأعلى صوته : مَن أراد المدد فليزر عبد الوهاب .(1/123)
ومَن جملة ما وقع لي مِن الجن ، يقول الشعراني : بأنَّهم أرسلوا إلى نحو خمسة وسبعين سؤالاً في علم التوحيد !! لأكتب لهم عليها ، وقالوا : قد عجز علماؤنا عن الجواب عنها، وقالوا : هذا التحقيق لا يكون إلا مِن علماء الإنس ، وسمَّوْني في السؤال "شيخ الإسلام" .
محمَّد أبو المواهب الشاذلي ، مِن كراماته : أنَّه كان كثير الرؤيا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، حتى كأنَّه لا يفارقه .
وكان يقول : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ النَّاس يكذبوني في صحة رؤيتي لك ، فقال : وعزة الله ، وعظمته مَن لم يؤمن بها أو كذَّبك فيها لا يموت إلا يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً !!
قال سفر : لاحظتم هذا الكلام ، إنَّه لا يحتاج إلى تعليق .
أبو محمَّد عبد الله بن أسعد اليافعي ، يقول : أنَّه لما قصد المدينة لزيارة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : لا أدخل المدينة حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال : فوقفتُ على باب المدينة أربعة عشر يوماً ، فرأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال لي : ياعبد الله أنا في الدنيا نبيك ، وفي الآخرة شفيعك ، وفي الجنة رفيقك !! واعلم أن في اليمن عشرة أنفس مَن زارهم فقد زارني ، ومَن جفاهم فقد جفاني .
قال سفر : ولذلك يصِرُّون على حديث "مَن حجَّ ولم يزرني فقد جفاني" : صحيح ، ليستفيدوا به في مثل هذا الموضع ، فإذا قلتَ أنتَ : هذا الحديث ضعيف ما يدافعوا عنه لأنه لم يثبت عن رسول الله ، يدافعوا عنه لأنه يبطل دعواهم هم .(1/124)
فقلتُ : مَن هم يا رسول الله ؟ فقال : خمسة مِن الأحياء ، وخمسة مِن الأموات، فقلت: مَن الأحياء ؟ قال : فلان ، وفلان .. إلى أن يقول : خرجتُ في طلب القوم ، وليس الخبر كالمعاينة ، ومَن شكَّ فقد أشرك !! فأتيتُ الأحياء ، فحدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم كذلك ، قال : وأتيتُ الأموات فحدَّثوني ، فلمَّا أتيتُ الشيخ محمَّد النَّهاري قال : مرحباً برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : بم نلتَ هذا ؟ قال : قال الله عز وجل { واتقوا الله ويعلمكم الله } .
عن رجلٍ مِن أوليائهم يُدعى أبو السجاد بن عمر بن يحي التغلبي ، يقول : مِن كراماته أنَّه أوتيَ الاسم الأعظم ، ومِن ذلك أنَّه أوتي خصِّيصة مِن خصائص الأنبياء عليهم السلام: أنَّه كان إذا أراد التبرز انفتحت له الأرض ، وابتلعت ما يخرج منه ، ولذلك يحاولون أن يثبتوا مثل هذه للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه لو لم يثبت للرسول ما ثبت لهذا التغلبي.
علي الخلْعي يقول : هتف بي هاتف ناداني باسمي ، فقلتُ : لبَّيك داعي الله ، فقال : قل لبَّيك ربي الله – يعني : الله الذي نادى ، وليس داعيه - ما تجد مِن الألم ؟ فقلت : إلهي وسيدي : الحمَّى .
أحمدبن إدريس خصَّه الله - كما يقول النبهاني - بالمواهب المحمديَّة والعلوم اللَّدنية والاجتماعات الصورية الكمالية بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والأخذ والتلقِّي منه حتى لقَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه أوراد الطريقة الشاذليَّة .(1/125)
لاحظوا يا إخوة : عندما نقول هذا الكلام الذي تقولونه مبتدع ، وهذه الأذكار بدعيَّة هم يردون علينا : بأن هذا ورد في حديث ضعيف ، وهذا ورد في حديث كذا ! هذا ليس هو أصل التشريع ، أصل التشريع : أنَّه رؤيا ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ، ويقولون لاتِّباعهم هذا الرسول لقَّننا إياه ، لكن يقولون لنا نحن : هذا مرويٌّ عند أبي نعيم ، عند ابن عساكر ، عند فلان ، يأتوا بأي حديث .
يقول فلقَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه أوراد الطريقة الشاذليَّة ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم أعطاه أوراداً جليلةً ، وطريقةً تسليكيَّةً خاصَّةً له .
قال له : مَن انتمى إليك فلا أَكِلُه إلى ولاية غيري ، ولا إلى كفالته ، بل أنا وليُّه وكفيله ، قال أحمد : اجتمعتُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اجتماعاً صورياً .
يعني : في اليقظة ، ومعه الخضر عليه السلام ، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الخضر أن يلقنَّني أذكار الطريقة الشاذليَّة فلقَّنها لي بحضرته .
أحمد بن محمد الجزيري كان عنده جماعة – أي : مِن المريدين - فقال : هل فيكم مَن إذا أراد الله أن يُحدث في المملكة حدثاً أعلمه قبل إبدائه ؟ قالوا : لا ، قال : فابكوا على قلوبٍ لم تجد في الله شيئاً مِن هذا .
عندما يدافع الرِّفاعي وأصحابه أن الله يستشير النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم : المفروض في المريدين أن يكون منهم مَن يستشيره الله ، ويعلمه ، فكيف نستغرب دفاعهم عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشار ؟ أو يقال له شيئٌ مِن ذلك .
مِن أوليائهم رجلٌ رفاعي يدعى عبد القادر أبو رباح الدجاني يقول عنه النبهاني : أمَّا من جهة كراماته فإنَّها متواترة بين الناس ، وقد شاهدتُ منها بنفسي أنَّه في حالة الذِّكر أمسك رجلاً مِن مريديه سيفاً كلَّ واحدٍ منهما مِن طرفٍ وجعل حدَّه إلى أعلى ، فوقف الشيخ على حدِّه ، وبقي كذلك مدة قصيرة مِن الزمان ، ثم نزل ومشى ولم يتأثر بشيءٍ .(1/126)
وهذا كثيرٌ عن الرفاعيَّة ، والشيشة يدخلونها مِن البطون ، ويخرجونها من الظهور.
المهم : يقول : وله رسالة حافلة لهذا الرفاعي في إثبات أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى علمَ المغيَّبات الخمس وغيرها قبل انتقاله للدار الآخرة ، ومِن هذه الرسالة وأمثالها يعتمد هاشم الرفاعي وأصحابه في تثبيت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب كله .
يقول : أمَّا كراماته ، ونذكر منها واحدةً وهي ما أخبرني الحاج محمد أبو جيَّاب وهو مِن تلاميذه الصادقين الآخذين عنه ، قال : إنَّه كان جالساً مع الشيخ في حجرة صغيرةٍ مِن حُجر جامع "يافا " الكبير ، فاعترى الشيخَ حالٌ ، فجعل يكبُر ، ويتعاظم ، وكلَّما كبُر جسمُه يتزحزح أبو جياب مِن مكانه حتى ملأ الحجرة ، فلم يجد له مكاناً يجلس فيه ، فخرج المريد ، وجلس بالباب ، ثم رجع الشيخ إلى عادته تدريجيّاً حتى عاد كما كان فقال لأبي جياب : لأي شيءٍ أنت خارج الحجرة ؟ قال : ياسيدي ما بَقيتْ لي مكانٌ ، فضحك الشيخ قدَّس الله سرَّه ، فقال له : ياولدي هذا مقام يعتري الرجال ، وأعلاه ماكان يعتري القطب الرفاعي قدس الله سرَّه فكان ينماع كالماء .
وذكر الشعراني مِن كرامات الرِّفاعي ونقله أيضاً غيره في ترجمة الرفاعي أنَّه كان يذوب حتى يكون كأنَّه قطرة ماء ! ، فيقولون له ما هذا : فيقول : هذا مِن خوف الله عزَّ وجل .
وبقيت كرامات أخرى نستعرضها بسرعة :
حسن سكُّر الدمشقي ، جاءوا إليه بمائةٍ مِن قطع الفضَّة المغشوشة فأخذها ، وألقاها في فمه ، وابتلعها ، وفي الحال : جلس بصورة مَن يقضي حاجته ، فأخرجها مِن أسفله دنانير مِن الذهب ! فأخذوها ، وقالوا : هذا مِن كراماته .(1/127)
أحمد بن بطرس الشيخ العارف بالله تعالى - كما يقول النبهاني - المكاشَف بأسرار غيب الله ، كان إذا أردا أن يتكلم بكشف : يُطرق رأسَه إلى الأرض ، ثمَّ يرفعه وعيناه كالجمرتين يلهث كصاحب الحِمل الثقيل ، ثم يتكلم بالمغيَّبات .
لأنَّ الجنَّ هي التي تكلمه وتخاطبه ، يتلقى منها فيلهث .
ونتابع الكلام عن هذه الكرامات - بزعمهم - ودعواهم مع التنبيه إلى قضية مهمَّة وهي أنَّني تعمَّدتُ أن أحذف تعقيداتهم ، وما يذكرونه مِن الكفريَّات ، والشركيَّات المعقدة التي فيها وحدة الوجود ، التي فيها الحلول والاتحاد ، التي فيها باطنيَّة ، التي فيها زندقة ، وغير ذلك مِن التعقيدات الفلسفيَّة التي تعمَّدتُ حذفَها لأنَّ كلَّ أحدٍ لايستطيع أنْ يفهمها بخلاف هذه المدَّعاة "كرامات" ؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ - ولله الحمد - يعرف بطلانها ، ويعرف كذبها ، ويستدل بها على كذبهم في الباقي .
وأيضاً : لأنَّ هذه يدَّعون أنَّهم إنَّما أُعطوْها لوراثتهم للَّنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولأنَّ هذه كراماتهم هي كالمعجزات بالنِّسبة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بل هي تأييد للمعجزات بنظرهم ، ولذلك سنقتصر عليها دون الشركيَّات ، والكفريَّات الأخرى .
والآن نتابع الكرامات:
الشيخ أحمد - والذي قلنا إنَّه كان يلهث وعيناه كالجمرتان عندما يتكلم بالمغيبات - يقول تلميذه - كما يصف النَّبهاني - : كنتُ جالساً عنده وحدي ، فخطر لي خاطر هل للشيخ قوة التمكين ؟ فقال : نعم ، لنا قوة التمكين ! ؟
هنا قضية دعوى علم الغيب فعِلم ما في خاطر المريد ، وقضية ادِّعاء قوة التمكين ، وهي السيطرة على الكون .
الشيخ محمد المعروف بأكَّال الحيَّات ، يقول النَّبهانى : هو الشيخ الصالح المعروف بأكَّال الحيَّات ، وغيرها مِن الهوامِّ كالخنافس ، وما في معنى ذلك ، فيرى الخنافس زبيباً ، والحيَّة قثاء .
أبو الخير الكليبانى ، يقول النَّبهاني : كان لا يفارق الكلاب في أي مجلسٍ كان .(1/128)
نحن نذكر الأخوة بأنَّ الشياطين تتمثل في صورة الكلاب ، وفي غيرها مِن الحيوانات لكن بالذات الكلاب وَرَدَ في الحديث أنَّ "الكلب الأسْود شيطان" .
يقولون عن الكليباني : كان لا يفارق الكلاب في أيِّ مجلسٍ كان فيه حتى في الجامع ، والحمَّام ، وكان كلُّ مَن جاءه في حملة - والحملة : يعني : الحاجة ، يسمُّونها هم "حملة" ، ويسمُّون شيوخهم "أصحاب الحمْلات" – فكلَّما جاءهم بحملة ، يقولون له : اشترِ لهذا الكلب رطل لحم شواء لهذا الكلب وهو يقضي حاجتك !.
قال المناوى : وكان أكثر إقامته بـ"باب زويلة" ، ويتعرى عن جميع ثيابه تارة ، ويلبس أخرى ، وكان يدخل الجامع بالكلاب ، فأنكر عليه بعض القضاة ، فقال : هؤلاء لا يحكمون باطلاً ، ولايشهدون زوراً _ يعني : أنَّهم أفضل مِن القضاة ! - ، قال : فرميَ القاضي بالزور ، وأُشهر في الأسواق على ثور ، ولم يزل معزولاً ممقوتاً حتى مات !
كرامة لهذا الشيخ ! .
أبو الحسن محمد بن محمد جلال الدين البكري مِن أقطابهم ، والذي يضع لهم الصلوات ومنها صلاة الفاتح ، يقول النبهانى : له كرامات ، ويدلُّ على ذلك ما أخبرنا به الشيخ الكشكاوي ، قال : رأيتُ الشيخ أبا الحسن البكري وقد تطور فكان كعبة مكان الكعبة – تطور عندهم تغيرت هيئته وشكله ، وهذه الكلمة ترد عندهم كثيراً - ولبس سترها كما يلبس الإنسان القميص .(1/129)
وقال في "عمدة التحقيق" : أنَّ الشيخ المغربى الشاذلي قال : إنَّه حجَّ سنَةً مِن السنين إلى بيت الله الحرام ، وكان بالحج الشريف الشيخ محمد البكري قال : فذهبت إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل السلام ، فدخلتُ يوماً أزرو قبر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فوجدت الشيخ محمد البكري بالحرم النَّبويِّ وقد عمل درساً ، قال في أثنائه : أُمرتُ أن أقول الآن قدمي على رقبة كلِّ وليٍّ لله تعالى مشرقاً كان أو مغرباً !- وهم يقولون إنَّ هذه الكلمة تُنقل عن عبدالقادر الجيلاني فيما مضى - فعلمتُ أنَّه أعطي "القطبانية الكبرى" ، وهذا لسان حالها ، فبادرتُ إليه مسرعاً ، وقبَّلتُ قدَمَيْه وأخذتُ عليه المبايعة ، ورأيتُ الأولياء تتساقط عليه كالذباب ، الأحياء بالأجسام ، والأموات بالأرواح ، فقلت حينئذ فوراً بيتَ ابنِ الفارض رضي الله عنه ! :
وكلُّ الجهات الستِّ عندي توجهت بما تمَّ مِن مسك وحج وعمرة
مِن أوليائهم المدعو بركات المجذوب ، كان يَرى النَّاسُ أنَّه يأكل الحشيش ، فسلَّ عليه جنديٌّ سيفاً وقال له : كيف أنت شيخ وتأكل الحشيش ؟ فقال له : هذا ما هو حشيش ! فأعطاه الجنديَّ ، فوجده حلاوة مأمونيَّة حارَّة ! .
حقيقته أمام النَّاس حشيش ، فإذا أكله ، قال : يجده حلاوة ، فالمهم أنَّه يأكل الحشيش، وهذا نربطه بما سبق أن قدمنا من هدمهم للشريعة وإتيانِهم بالشواذ والمخالفات فيتجرأ العوام على ارتكاب المحرمات باسم أنَّهم أولياء .
أبو يعقوب الهمدانى ، قال المناوي : مِن كراماته أنَّه توفي رجلٌ مِن بعض أصحابه فجزعوا عليه ، فلمَّا رأى الشيخُ شدَّةَ جزعهم جاء إلى الميت ، وقال له : قم بإذن الله ، فقام وعاش ! .(1/130)
إبن عربى ، قال الشعراني - نقلاً عن "الفتوحات المكيَّة" - باب الحج : ذكر أنَّ الكعبة كلمتْه ، وكذلك الحجر الأسْود ، وأنَّها طافت به ، ثمَّ تتلمذت له ، وطلبت منه ترقيتها إلى مقامات في طريق القوم ، فرقَّاها ، وناشدها أشعاراً وناشدتْه .
المدعو الفرغل ، ينقلون عنه : كان رضي الله عنه يقول : كثيراً كنتُ أمشي بين يدي الله تعالى تحت العرش ! وقال لي كذا ، وقلت كذا ، قال : فكذَّبه شخصٌ مِن القضاة فدعا عليه بالخرَس ، فخرِس القاضي حتى مات !! .
وهذا كثير ادَّعاؤهم أنَّ الله يخاطبهم كما مرَّ .
أحمد الفاروقي السرهندي مِن أركان الطريقة النقشبنديَّة ، يقول : كان كثيراً ما يُعرض بي فوق العرش المجيد ، ولقد عرج بى مرة ، فلمَّا ارتفعتُ فوقهم بمقدار ما بين مركز الأرض وبينه رأيتُ مقام الإمام شاه نقشبند رضي الله عنه ، وقال - قدس الله سرَّه كما يقول النبهاني - : رأيتُ الكعبة المطهرة تطوف بي ، قال : ودعاه للإفطار في شهر رمضان عشرة مِن مريديه فأجابَهم ، فلمَّا كان وقت الغروب حضر عند كلِّ واحدٍ مِن العشرة في آنٍ واحدٍ وأفطر عندهم ! .(1/131)
أبو عمرو عثمان البطائحي ، مِن الرفاعيَّة ، يقول : بينما هو ليلةً يتهجد إذ طرقته منازلةٌ من الجاب الأعظم - لعلَّها مِن الحجاب الأعظم - فتبدَّت له أنوار ، فوقف سبعَ سنين واقفاً شاخصاً إلى السماء دون غذاء ، ولا إحساس بحاله ، ثم عاد إلى بشريته ! – قال سفر : انظروا هذه الكلمة "عاد إلى بشريته" ؛ لأنَّ هذا هو عين ما يقوله النَّصارى في عيسى عليه السلام ، فالوليُّ عندهم ممكن أن ينتقل مِن حالة بشريَّة إلى حالة غير بشرية – ، قال : فقيل له : اذهب إلى قريتك ، وجامع أهلك ، فقد آن ظهور ولدٍ منك ، فطرق بابه ، وأخبر أهله بحاله ، فقالت زوجتُه : إن فعلتَ وقضيتَ تحدث الناس فيَّ – انظروا ! لماذا يتحدث النَّاس ؟ أليس زوجها ، لكن حتى يختلقوا للكرامة مبرراً في دعواهم – ، قال : فصعد السطح ونادى : يا أهل القرية أنا فلان اركبو فإنِّي سأركب ، فأبلغهم الله صوته ، وأفهمهم معناه ، فلمَّا وافقه تلك الليلة رزق ولداً صالحاً .
ينقلون عن المدعو "أبوبكر" بن علي عمر بن الأهدل : أنَّ هرة كانت تأتيه فيطعمها وكان اسمها "لؤلؤة" ، فضربَها خادمه ذات ليلة ، فماتت ، فرمى بِها ، ولم يعلم الشيخ بذلك ، فقال له : أين "لؤلؤة" ؟ فقال : ما أدري فناداها الشيخ يا لؤلؤة فجاءت اليه تجري ! .
أحمد بن عبدالرحمن المشهور بشهاب الدين مِن آل باعلوي : مِن كراماته - كما في كتابهم هذا - : أنَّه طلب من بعضِ العرب خشبةً كبيرةً ليجعلها أبواباً لداره ، فقال له ذلك البعض : وأنا أريد منك حاجة ؛ أريد أن أحفظ القرآن عن ظهرِ قلبٍ ! فقال الشيخ: افتح فمَك ! ففتح فمَه فتفل فيه ثلاث مرات فحفظ القرآن في أسرع زمان !! .
المدعو أبو بكر العبدوك ، تحدث معه شخص مِن أصحابه في أحوال الرجال وما أعطاهم الله تعالى إلى أن وصلَ إلى أن مِن الرجال مَن يطوف بالكعبة شرفها الله تعالى وهو جالس في مكانه ، ومنهم مَن تطوف به الكعبة تشريفاً وتكريماً ! .(1/132)
قال التلميذ : فخرجتُ فوجدتُ الكعبة بهيئتها وصفتها التي أعرفها وهي طائفة حول دار الشيخ وفي أرجائها رجالٌ يترنَّمون بأصواتٍ طيَّبةٍ بأشياء ، مِن جملتها : سبحانه وتعالى قد اصطفى رجالاً ، دلَّلهم دلالاً .
المرثي ، تلميذ الشاذلي ، من الشاذلية ، ينقلون مِن كراماته : أنَّه كان يقول : لي أربعون سنَةً ما حُجبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو حُجبتُ عنه طرفةَ عينٍ ما عددتُ نفسي مِن جملة المسلمين – قال سفر : ولذلك ينقلون أيضاً عنه أنه كان يقول: "قد يطلع الله الوليَّ على غيبه إذا ارتضاه بحكم التبع للرسل عليهم الصلاة والسلام ، ومِن هنا نطقوا بالمغيبات وأصابوا الحق فيها" ، ولذلك دعواهم في هذه الكتب الثلاثة ، وفي غيرها ، وكما يدَّعي المالكى دائماً ويذكر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب إنما مرادهم إثبات ذلك للأولياء والمشائخ بالتبع كما يدَّعون .
أحمد بن جعد الأديمي ، يقولون : أتته امرأة ، وقالت : ادعُ لي أن يرزقني الله ولداً ذكراً، فقال : سترزقين ذلك !! فوضعت أنثى !فقالت له فيه ، فقال : والله ما قلتُ لك إلا بعد ما مسستُ ذكره بيدي هذه ، ولكن أراد الله أن يكذب هذه اللحية !!.
انظروا هذا الدجال الكذاب ، وهذا العذر الذي اعتذر به .
ومما يذكرونه أيضاً عن أبي يزيد البسطامي ، يقولون : إنَّه قال : أدخلني الحيُّ في الفلَك الأسفل فدوَّرني في الملكوت الأسفل ، فأرانيه ، ثم أدخلنى في الفلك العلوي وطوى بي السموات ! فأراني ما فيها إلى العرش ، ثم أوقفني بين يديه ، فقال : سلني أيَّ شيء رأيته حتى أهبه لك ! فقلت : ما رأيتُ شيئاً حسناً فأسألك إياه ! فقال : أنت عبدي حقّاً تعبدني لأجلي صدقاً – قال سفر : هذه تشبه العبارة التي نقلناها من كتاب المالكى – لأفعلن بك ، وأفعلن ، وذكر أشياء – يعني مِن الابتلاءات التي ذكرها المالكي - .(1/133)
قال ابن معاذ فهالني ذلك ، وقلت له : لمَ لمْ تسأله المعرفة ؟ قال : غرتُ عليه مني !! لا أحب أن يعرفه غيره .
هذا يسمونه "الغيرة" ، عندهم لا يحب أن يعرف اللهَ غيرُ الله بزعمهم ، ولذلك لم يسأله معرفته .
انظروا هذا المعراج ، ولذلك يكثرون مِن الحديث عن الاسراء والمعراج في المولد ، أيضاً هذا المعراج يدَّعونه أئمَّة الضلالة .
المدعو محمَّد بَهاء الدين نقشبند ، إمام وشيخ النقشبنديِّة ، يقولون : مِن كراماته أنَّه قال: خرجتُ يوماً أنا ومحمد الزاهد إلى الصحراء ، وكان مريداً صادقاً ، ومعنا المعاول نشتغل بها ، فمرت بنا حالة أوجبت أن نرمي المعاول ونتذاكر في المعارف ، فما زلنا كذلك حتى أنْجرَّ الكلام معنا إلى العبودية ، فقلت له : تنتهي - أي : العبودية - إلى درجة إذا قال صاحبها لأحدٍ " مُتْ " مات في الحال ، ثم وقع لي أن قلت له ساعتئذٍ : مُت ، فمات حالاً ! واستمر ميِّتاً مِن وقت الضحى إلى نصف النهار ، قال : فازددت قلقاً إلى وقتئذ أن قل له : يا محمَّد احيا – يعني : قيل له : قل يامحمد احيا - فقلت له ذلك ثلاث مرات ، فأخذتْ تسري فيه الحياة شيئاً فشيئاً ، وأنا أنظر إليه حتى عاد إلى حاله الأولى .
وينقلون عن نقشبند أيضاً أنَّه دعاه بعضهم في بخارى ، قال للمولى نجم الدين من تلاميذه : أتمتثل كلَّ ما آمرك به ؟ قال : نعم ، قال : فإن أمرتُك بالسرقة تفعلها ؟ قال: لا ، قال : ولم ؟ قال : لأنَّ حقوق الله تكفرها التوبة ، وهذه مِن حقوق العباد ، قال : إن لم تمتثل أمرنا فلا تصحبنا ! ففزع المولى نجم الدين فزعاً شديداً وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأظهر التوبة والندم ، وعزم على أن لايعصي له أمراً - يعني : حتى ولو كان معصية ! – قال : فرحمه الحاضرون ، وشفعوا له عنده ، وسألوه العفو عنه ، فعفا عنه ! - انظروا إلى هذا التحكم - .(1/134)
عبدالرحمن بن محمد الملقب بالسقاف مولى الدويلة في "المشرع الروي" نقل أنه اشتهرت فضائله في الآفاق – مِن كراماته : أنَّه شوهد في مشاعر الحج سنين عديدة ، فسأله بعض خواصه هل حججت ؟ فقال : أمَّا في الظاهر فلا.
ومنها : أنَّه رؤي في أماكن متعددة في آنٍ واحد ! – انظروا كيف الشياطين تتمثل بأشكالهم وتذهب في أماكن أخرى لتضل العالمين -.
وقال تلميذه الشيخ عبد الرحيم بن علي الخطيب : ما خَطر لي في قلبي شيء إلا وفعله شيخنا !.
قال : ومِن كراماته : أنَّه أمسك الشمس عن الغروب !
قال : ومما أخبر به مِن المغيَّبات أنَّه قال لزوجته بقرية "العز" - وكانت حاملاً - ستلدين غلاماً ، ويموت في يوم كذا وأعطاهم ثوبه ، وقال : كفِّنوه بِهذا ، وسافر ، فكان الأمر كما قال !
وقالت له بعض زوجاته : إنَّ أبي قد طال به المرض فادع له بالعافية ، أو بتعجيل الوفاة، فقال لها : سيموت أبوك في يوم كذا ، فكان كما قال !! .
وماينسبونه ويدَّعونه إلى مسلم بن يسار التابعي : أنَّ مالك بن دينار رحمه الله رآه بعد موته بسنَةٍ ، فسلَّم عليه ، فلم يردَّ ، قال : ما منعك أن ترد ؟ قال : أنا ميِّت كيف أرد ؟ - انظروا معاندة العقل ، والتناقض مع العقل ، ينقلون هذا وينسبونه للتابعيين - .
أحمد بن عبد الرحمن السقاف ، ينقلون مِن كراماته : أنَّه صلَّى بجماعةٍ عند قبر "هود" على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، فاعترض عليه بعض الفقهاء في قلبه – يستطيع أن يعترض ، لكن لم يقدر أن يقول له لماذا تأتي هذا القبر – المزعوم أنَّه قبر - وتأتي بالخرافات – قال : فسُلب ذلك الفقيه جميع ما في قلبه مِن قرآنٍ وعلمٍ - والعياذ بالله - .
ينقلون عن أحمد بن إبراهيم اليماني – وهذه تدل على تعذيب النَّفس ومشابهة الهنود في ذلك – : أنَّه قال : ثبت بالتواتر أنَّه أقام عشرين سنَة لا يشرب الماء ! .(1/135)
وأغرب مِن هذا ما ينقلونه عن عيسي بن النجم ، قال الشعراني : قال له تلميذه : مكث عيسى بوضوء واحدٍ سبع عشرة سنَة - بوضوء واحدٍ هذه المدة كلها - .
مِن كرامات مدين الأشموني ، أنَّه مرَّ به إنسانٌ يقود بقرة حلابة ، فقال له : احلب لي شيئاً مِن اللبن أشربه ، فقال له : "ثور" ، فصارت في الحال ثوراً ولم تزل ثوراً إلى أن ماتت .
ومما يدل على فقدان توحيد الألوهيَّة عندهم ما نقله الشعراني ( 1 / 134 ) :
قال : كلُّ بَدَلٍ في قبضة العارف ؛ لأنَّ ملك البدل مِن السماء إلى الأرض ، وملك العارف مِن العرش إلى الثرى – فماذا بقي للرحمن جلَّ شأنه ؟ - .
المدعو حسين أبو علي كان كثير التطورات ، تدخل عليه بعضَ الأوقات تجده جندياً ، ثمَّ تدخل فتجده سبُعاً ، ثم تدخل فتجده فيلاً ، ثم تدخل فتجده غلاماً ، وهكذا .
ينقلون عن موسى بن مهيل الزولي : أنَّه كان كثير المشاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت أغلب أفعاله بتوقيفٍ منه صلى الله عليه وسلم – يعني : يأمره حالاً – وكان رضي الله عنه إذا مسَّ الحديد بيده لانَ حتى يصير كاللُّبان ، وكان رضي الله عنه يقول للصبي الذي عمره أربعة أشهر فأقل : اقرأ سورة كذا ، فيقرأها الصبيُّ بلسانٍ فصيحٍ، ولايزال يتكلم مِن ذلك الوقت - يعنى ينطق الطفل ! - .
شيخ آخر يذكره الشعراني (2 / 88) : كان إذا تذكر مِن أصحابه الغائبين عن المائدة يأكل الشيخ عنهم لقمة أو لقمتين ؛ فتنزل في بطونهم في أي مكان كانوا ! ثم يجيئون ويعترفون بذلك .
داوود بن ماخيلا ينقل عن شيخه الشاذلي أنه قال : طوبى لمن رآني ، أو رآى من رآني، أو رأى مَن رأى مَن رآني ، ويقول إنَّ الشاذلي يُقسم فيقول : والله ما مِن وليٍّ لله كان أو هو كائن إلا وقد أظهره الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحسبه وحظه مِن الله عز وجل .(1/136)
ويقول الشاذلي أيضاً : مادة كلِّ نبيٍّ وكل وليٍّ في الأصالة مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن مِن الأولياء مَن يشهد عيناً ، ومنهم مَن تخفي عليه عينه ومادته ؛ فيفنى فيما يرد عليه ، ولا يشتغل بطلب مادته ، بل هو مستغرق بحاله لايرى غير وقته .
ومِن كرامات مدين الأشموني أيضاً ، يقول : أن منارة زاويته الموجودة الآن ، لما فرغ مِن البناء منها مالت إليه ، وخاف أهل الحارة منها فأجمع المهندسون على هدمها ، فخرج إليهم الشيخ على قبقابه فأسند ظهره إليها وهزَّها والنَّاس ينظرون ، فجلستْ على الاستقامة إلى وقتنا هذا .
قال : ومرض سيدي مدين رضي الله عنه مرضاً أشرف فيها على الموت فوهبه الشريمي مِن عمره عشر سنين ثم مات في غيبة الشريمي رضي الله عنه ، فجاء وهو على المغتسل، فقال : كيف مُتَّ ! وعزَّة ربي لو كنتُ حاضراً ما خليتك تموت .
شيخهم - وليُّهم - المدعو محمد الحضري المدفون بناحية (ناهية) بالغربية ، يقول : وضريحه يلوح مِن البعد مِن كذا ، كذا بلداً ، كان يتكلم بالغرائب والعجائب - كما يقول الشعراني -مِن دقائق العلوم والمعارف مادام صاحياً ! فإذا قوي عليه الحال يتكلم بألفاظ لا يطيق أحدٌ سماعها في حق الأنبياء وغيرهم ! وكان يُرى في كذا كذا بلد في وقت واحد .
وأخبرنى الشيخ أبو الفضل أنه جاء يوم الجمعة فسألوه الخطبة ، فقال : بسم الله ، فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجَّده ، ثم قال : وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام !!! فقال النَّاس : كفر ، فسلَّ السيف ، ونزل فهرب النَّاس كلهم مِن الجامع ، فجلس عند المنبر إلى أذان العصر ، وما تجرأ أحد أن يدخل ، ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة فأخبر أهل كل بلد : أنَّه خطب عندهم وصلَّى بهم ! قال : فعددنا ذلك اليوم ثلاثين خطبة ونحن نراه جالساً عندنا في بلدنا ! .(1/137)
ومِن كراماته : أيضاً يقول : أنَّه كان يقول : الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه وأجساد الخلائق كالقوارير ، أرى ما في بواطنها .
انظروا هذا الدجال الذي أبطل صلاة الجمعة في ثلاثين بلدٍ في وقت واحد ، شيطان تشبه به ، ولعب على عقول النَّاس به ، ومع ذلك يدَّعي علم الغيب ، ويدَّعي هذه الدعوى العظيمة .
يقول المرسي تلميذ الشاذلي : لو كُشف عن حقيقة وليٍّ لعُبد ؛ لأنَّ أوصافه مِن أوصافه – يعني : مِن أوصاف الله تعالى – ونعوته مِن نعوته .
المدعو أبو علي يقول : إنَّ بعض العُيَّار أرادوا أن يقتلوه فدخلوا على الشيخ فقطَّعوه بالسيف ، وأخذوه في تلِّيس ، ورموه على الكوم ، وأخذوا على قتله ألف دينار ، ثم أصبحوا فوجدوا الشيخ حسيْناً "أبو علي" جالساً ، فقال لهم : غرَّكم القمر .
مدين الأشموني أيضاً ، يقول : كان يوماً يتوضأ في البالوعة التي في "رباط الزاوية" ، فأخذ فردة القبقاب فضرب بها نحو بلاد المشرق – يعني : الحذاء رماها نحو بلاد المشرق – ثم جاء رجلٌ مِن تلك البلاد بعد سنَةٍ وفردة القبقاب معه ، وأخبر أن شخصاً مِن العيَّار – يعني : مِن قطاع الطريق - عبث بابنته في البريَّة – فقالت : يا شيخ أبي لاحظني لأنَّها لم تعرف أنَّ اسمه مدين – ما نادته باسمه ، استغاثت بشيخ أبيها - فيقول : وهي مِن ذلك الوقت إلى الآن عند ذريته رضي الله عنه . - محتفظين بالقبقاب !! - .(1/138)
المدعو محمد وفا مِن العارفين عندهم ، يقول : أخبر ولده سيدي علي رضي الله عنه أنَّه هو خاتم الأولياء ، صاحب الرتبة العليَّة ، وكان أمِّيّاً ، ومع ذلك له لسان غريب في علوم القوم ، ومؤلَّفات كثيرة ألَّفها في صباه وهو ابن سبع سنين ! – انظروا ، أمِّي ويكتب وهو في سبع سنين أو عشر - فضلاً عن كونه كهلاً ، وله رموز في منظوماته ومنثوراته مطلسمة إلى وقتنا هذا لم يفك أحدٌ فيما نعلم معناها – رموز ، وذكر كثيراً منها لا يفهمها أي أحد ، وكتب مؤلفات وهو أمِّي - .
المدعو محمَّد بن أبي جمرة ، يقول : إنَّه كان كبير الشأن معظماً للشرع لكن أنكرو عليه بدعواه رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظةً ، وعقدوا له مجلساً ، فأقام في بيته لا يخرج إلا لصلاة الجمعة ، ومات المنكِرون عليه على أسوأ حال وعرفوا بركته .
ومما نقله الشعراني في تعظيم أئمَّتهم قوله عن أحدهم : كان يقول : لو كان الحق سبحانه وتعالى يُرضيه خلاف السنَّة لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى مِن التوجُّه إلى الكعبة .
– يعني : هي تعبُّديَّة محضة ، وإلا هذا أولى مِن الكعبة - .
هناك رجل آخر مِن كبار أئمَّتهم يتحدثون عنه كثيراً ، وهو المدعو الشمس الحنفي - سبق بعض كراماته كما يدَّعون - وعلاقته بعوارض الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر عند ترجمته ، وأنا أنقل ما يدل على ذلك قبل ما يدل على كراماته .(1/139)
يقول الشعراني : كان الشريف النعماني رضي الله عنه أحد أصحاب سيدي محمد رضي الله عنه يقول : رأيتُ جدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة عظيمة والأولياء يجيئون فيسلمون عليه واحداً بعد واحد ، وقائل يقول : هذا فلان ، هذا فلان فيجلسون إلى جانبه صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءت كبكبة عظيمة وخلق كثير ، وقائل يقول : هذا محمَّد الحنفي ، فلما وصل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أجلسه بجانبه ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر ، وقال لهما : إنِّي أحب هذا الرجل إلا عمامته الصمَّاء ، أو قال : الزعراء ، وأشار إلى سيدي محمد ، فقال له أبوبكر رضي الله عنه : أتأذن لي يارسول الله أن أعمِّمه ؟ فقال : نعم ، فأخذ أبوبكر رضي الله عنه عمامة نفسه وجعلها على رأس سيدي محمد ، وأرخى لعمامة سيدي محمد عذبة عن يساره وألبسها له ...- ويذكر قصة طويلة ، المهم : أَّن الولاية هذه والعذبة والعمَّة مِن الرسول صلى الله عليه وسلم - .
وهذا الرجل كان زميلاً للحافظ ابن حجر في الدراسة ، ثم ترك العلم وذهب إلى الخرافات - والعياذ بالله – وبمناسبة الحافظ بن حجر قبل أن نذكر كرامات الحنفي هذا : الفرغل الذي ذكرنا قبل ذلك أنَّه "كان يمشى تحت العرش ويقول : خاطبني ربي وخاطبته" - بدعواه - ؛ يقول الشعراني : أنَّه مرَّ عليه شيخ الإسلام ابن حجر رضي الله عنه بمصر يوماً فقال في سرِّه : ما اتخد الله مِن وليٍّ جاهل ، ولو اتخذه لعلَّمه – يعني : على وجه الإنكار عليه – فقال له الفرغل : قف يا قاضي ، فوقف فمسكه ، وصار يضربه ويصفعه على وجهه ، ويقول : بل اتَّخذني وعلَّمني !!.
هكذا يهينون العلماء ويرفعون مِن الخرافيين .
ودخل عليه – أي : الفرغل - بعض الرهبان فاشتهى عليه بطيخاً أصفر في غير أوانه فأتاه به ، وقال : وعزة ربي لم أجده إلا خلف "جبل قاف" – أين هو "جبل قاف" ؟ – .(1/140)
قال : خطف التمساح بنت أحدهم ، فجاء وهو يبكي إلى الشيخ ، فقال له : اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه ونادي بأعلى صوتك : يا تمساح تعال كلِّم الفرغل ! فجاء التمساح مِن البحر وطلع كالمركب وهو ماشٍ والخلق بين يديه يميناً وشمالاً إلا أن وقف على باب الدار ، فأمر الشيخ رضي الله عنه الحداد بقلع جميع أسنانه ! وأمره بنفضها مِن بطنه ، فنفض البنتَ حيَّةً مدهوشة ، وأخذ على التمساح العهد أن لا يعود يخطف أحداً مِن بلده مادام يعيش ، ورجع التمساح ودموعُه تسيل حتى نزل البحر ! .
ثم ذكر ما كان يدَّعيه مِن أنَّه يمشي بين يدي الله تعالى تحت العرش ، ويخاطبه ، وأنَّه كان يتكلم عن أخبار سائر الأقاليم مِن أطراف الأرض ...إلى أن آخره .
هذا الفرغل والشمس الحنفي كانا زميلين لابن حجر رحمه الله .
ونذكر ما ذكروه – وهي كثيرة جدّاً - مِن كرامات الشمس الحنفي :
يقول ابن كتيلة : إنَّ محمَّداً الحنفي كان إذا صلى عن يمينه دائماً أربعة روحانية وأربعة جسمانية لا يراهم إلا هو أوخواص أصحابه ، قالوا : وقعت له ابنة صغيرة مِن موضعٍ عالٍ ، فظهر شخصٌ وتلقاها عن الأرض ، فقلنا له : مَن تكون ؟ فقال : مِن الجنِّ مِن أصحاب الشيخ ، قد أخذ علينا العهد أن لا نضرَّ أحداً مِن أولاده إلى سابع بطنٍ ، فنحن لانخالف عهداً .
قال : وكان سكان بحر النِّيل يطلعون إلى زيارته وهو في داره بـ"الروضة" ، والحاضرون ينظرون ، قالت ابنته : فلانة ، ذكرها ، وزاروه مرة وعليهم الطيالسة والثياب النظيفة ، وصلوا معه صلاة المغرب ، ثم نزلوا في البحر بثيابهم ، فقلت : يا سيِّدي أما تبتل ثيابُهم مِن الماء ، فتبسَّم رضي الله عنه ، وقال : هؤلاء مسكنهم في البحر – يعني : ما يستغرب - ، يقول الشمس الحنفي لأحد تلاميذه : أما تسأل ، فلوسألتني شيئاً لم يكن عندي أجبتك مِن اللوح المحفوظ !!.(1/141)
ويذكرون عنه أيضاً : أنَّه كان يُقرئ الجان على مذهب الإمام أبي حنيفة ، فاشتغل عنهم يوماً بأمر فأرسل صهره سيدي عمر فأقرأهم في بيت الشيخ ذلك اليوم ، وكان سيدي عمر يقول : طلبت منِّي جنيَّة أن أتزوجها ، فشاورتُ سيدي محمد رضي الله عنه ، فقال : هذا لا يجوز في مذهبِنا ، فعرض ذلك على ملكِهم حين نزلت معها تحت الأرض ، فقال الملك : لا أعترض على سيدي محمد فيما قال ، ثم قال الملك – أي : ملِك الجنّ - للوزير : صافِح صهرَ الشيخ باليد التي صافحتَ بها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ليصافح بها سيدي محمد رضي الله عنه .
- بينه وبين وقت مصافحة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمانمائة سنَة - ثم قال للجنيَّة : ردِّيني للموضع الذي جئتِ بي منه .
ويقول أيضاً الشمس الحنفي : إذا مات الوليُّ انقطع تصرفه في الكون مِن الإمداد .
وكما ذكرنا في أحوال القطب فهو الذي يعطي الزائر مِن المدد على قدر مقام المزود .
ويقول : كنَّا نقرأ حزب سيِّدي ابن الحسن الشاذلي رضي الله عنه فكان بعض النَّاس يستطيله - يراه طويلاً - ، فألَّفتُ الحزب الذي بين أصحابى الآن ، وأخفيْتُه ولم أظهره حتى جاء الإذن مِن سيِّدي أبي الحسن الشاذلي أدباً معه بعد ما مات - مثل عبد الحليم محمود الذي ألَّف كتاباً وقال : استأذنتُ البدوي في تأليفه ! – يقول الشمس الحنفي : أنَّه قبل موته دعا الله أن يبتليَه بالقمل ، والنَّوم مع الكلاب ، والموت على قارعة الطريق ، قال : وحصل له ذلك قبل موته ، فتزايد عليه القمل حتى صار يمشي على فراشه ، ودخل له كلب فنام معه على الفراش ليلتين – إلى أن يقول : - إنَّما تمنَّى ذلك ليكون له أسوة بالأنْبياء عليهم الصلاة والسلام الذين ماتوا بالجوع والقمل .... إلى آخره .
وهذا كذب على الأنبياء ، ما دعوا الله ذلك ، وشرَّفهم الله عن أن يناموا ، ويموتوا والكلاب في أحضانهم .(1/142)
وينقل عن الحنفي أيضاً قال : دخلتْ على الشيخ يوماً امرأة أمير ، فوجدت حوله نساء خاص تكبسه فأنكرت بقلبها عليه – أي : أن المرأة أجنبية وتكبس رجله - ، فلحظها الشيخ بعينه ، وقال لها : انظري ، فنظرت فوجدت وجوههن عظاماً تلوح والصديد خارج مِن أفواهن ومناخرهن كأنهن خرجن مِن القبور - يعني : النساء اللاتي عنده - فقال لها : والله ما أنظر دائماً إلى الأجنبيات إلا على هذه الحال ، ثم قال لمنكرته : إنَّ فيك ثلاث علامات ، علامة تحت إبطك ، وعلامة في فخذك ، وعلامة في صدرك ، فقالت : صدقت والله ! إنَّ زوجي لم يعرف هذه العلامات إلى الآن ! واستغفرتْ وتابتْ ! .
ومما يقول عنه هذا أيضاً : أنَّه كان يتطور في بعض الأحيان حتى يملأ الخلوة بجميع أركانِها ثم يصغر قليلاً قليلاً حتى يعود لحالته المعهودة ! قال : ولما علم النَّاس بذلك سدَّ الطاق التي كانت تُشرف على الخلوة رضي الله عنه ! قال : وكان إذا تغيب من شخصٍ يتمزق كلَّ ممزق ولو كان مستنداً لأكبر الأولياء لا يقدر أن يدفع عنه شيئاً من البلاء . – لاحظوا كل تلميذ يستند لوليٍّ !! فالحنفي يقولون : إنَّه مِن قوَّته يقضي على عدوه مهما كان مستنداً إليه مِن الأولياء - .
يقول : كما وقع لابن التمَّار وغيره ، فإنَّه أغلظ عليه الشيخ في شفاعة ، وكان مستنداً للشيخ البسطامي ، فقال سيدي محمد : مزقنا ابن التمار كلَّ ممزق ولو كان معه ألف بسطامي ! ثم أرسل السلطان فهدم دار ابن التمار فهي خراب إلى الآن .
كل واحد يعبد وليّاً معيَّناً ويستغيث به ، ويستنجد به .
أيضاً : الحنفي يقول : إنَّه اختلى سبع سنين تحت الأرض في الخلوة حتى فُتح عليه ! قال أبو العباس : وكنتُ إذا جئتُ وهو في الخلوة أقف على بابها فإن قال لي ادخل دخلت ، وإنْ سكتَ رجعتُ ، فدخلتُ يوماً عليه بلا استئذان فوقع بصري على أسدٍ عظيمٍ فغشيَ عليَّ ، فلما أفقتُ خرجتُ واستغفرتُ الله تعالى مِن الدخول عليه بلا إذن .(1/143)
قال الشيخ – وهو أبو العباس - : ولم يخرج الشيخ – أي : الحنفي - مِن الخلوة حتى سمع هاتفاً يقول : يا محمَّد ! اخرج إنفع النَّاس ثلاث مرات ، وقال له في الثالثة : إن لم تخرج وإلا هيه ، فقال الشيخ : فما بعد هيه إلاَّ القطيعة ، قال الشيخ : فقمتُ ، وخرجتُ إلى الزاوية فرأيتُ على الفسقية جماعة يتوضأون ، فمنهم مَن على رأسه عمامة صفراء ، ومنهم زرقاء ، ومنهم مَن وجهه وجه قرد ، ومِنهم مَن وجهه وجه خنزير ، ومنهم وجه كالقمر ، فعلمتُ أنَّ الله أطلعني على عواقب أمور هؤلاء النَّاس ، فرجعتُ إلى خلفي وتوجهت إلى الله تعالى فستر عني ما كُشف لي مِن أحوال الناس .
أيضاً : الحنفي يقول : كان أهل المغرب يرسلون يأخذون مِن تراب زاويته ويجعلونه في أوراق المصاحف ، وكان أهل الروم يكتبون اسمه على أبواب دورهم يتبركون به .
وكانت رجال الطيران في الهواء تأتي إليه فيعلمهم الأدب ، ثمَّ يطيرون في الهواء والنَّاس ينظرون إليهم حتى يغيبوا ، وكان رضي الله عنه يزور سكان البحر فكان يدخل البحر بثيابه فيمكث ساعة طويلة ثم يخرج ولم تبتل ثيابه .
ومِن أخبار هذا الحنفي أنَّه كان إذا زار القرافة – أي : المقبرة - سلَّم على أصحاب القبور فيردُّون عليه السلام بصوت يسمعه مَن معه .
ودخل يوماً إلى الحمام مع فقرائه فأخذ الماء من الحوض ورشَّه على أصحابه وقال : النَّار التي يعذب الله بها العصاة مِن أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الماء في سخونته - فقط مثل هذا الماء !! - ، قال : ففرح الفقراء بذلك - يعنى تلاميذه - .
وآخر شيءٍ : لما جاءت وفاته ، قال في مرض موته : مَن كانت له حاجة فليأت إلى قبري ، ويطلب حاجته ، أقضِها له ، فإنَّ ما بيني وبينكم غير ذراع مِن تراب ، فكلُّ رجلٍ يحجبه عن أصحابه ذراع مِن تراب فليس برجُل .(1/144)
مِن أوليائهم المدعو الشويمى ، يقول الشعراني : جاء مرةً شخصٌ يحمِّله حمْلة - والحملة هي الحاجة – هذه الحملة هي إمراة يحبها ويريد أن يتزوجها وهي تأبى ، فقال له : ادخل هذه الخلوة واشتغل باسمها – أي : ردِّد اسمها - فدخل واشتغل باسمها ليلاً نهاراً فجاءته المرأة برِجليها إلى الخلوة ! – انظروا السحر ، وانظروا كيف يجمع المرأة بمن لا يجوز – وقالت له : افتح لي أنا فلانة ، فزهد فيها ، وقال : إن كان الأمر كذلك فاشتغالي بالله أولى ، فاشتغل باسم الله تعالى ، ففتح عليه في خامس يوم رضي الله عنه .
وكان الشويمي رضي الله عنه يدخل بيت الشيخ يحس بيده على النِّساء ، فكانوا يشكونه لسيدي مدين رضي الله عنه ، فيقول حصل لكم الخير فلا تتشوشوا !! .
الشويمي كان رفيقاً لمدين الأشموني ، وكان يدخل ويضع يده على عورات النساء ، فيغضبن ويشكون للشيخ فيقول : لا تتشوشوا ! وكثير من مثل هذه الكرامات آثرتُ أن لا أذكره حياءً منكم ، وممن يقرأ ، وإلا فهذا عندهم كثير : يضع يده على عورات النساء، وعلى عورات الرجال .
وهذا الأشمونى ، خرج رجل فقير يوماً مِن الزاوية ، فرآى جرةَ خمرٍ مع إنسان فكسرها، فبلغ الشيخ رضي الله عنه ذلك فأخرجه من الزاوية وقال : ما أخرجته لأجل إزالة المنكر ، وإنَّما هو لإطلاق بصره حتى رأى المنكر ؛ لأنَّ الفقير لا يجاوز بصرُه موضع قدميه فعاقبه على ذلك ! .
ومِن كبار أوليائهم المدعو : أبوبكر الدقدوسي ، ينقل الشعراني عن أحد تلاميذه حج معه ، وكان الشيخ يقترض طول الطريق الألف دينار فما دونها على يدي ، فإذا طلبني المال أجيءُ به إليه فأخبره ، فيقول : عُدَّ لك مِن هذه الحجارة ، - يقول : خُذ هذه الحجارة وعُدَّ على قدر الدَّيْن !! - قال : وكنتُ أعُدُّ الألف والمائة ، والأربعين ، والثلاثين فأعطيها الرجل فيجدها دنانير !(1/145)
وهذا كثير جدّاً ، ومنهم : المدعو أحمد الزاهر ، وآخر : الذي يقول إنَّه كان يطرح الحجارة فتُحوَّل إلى ذهب ، ينقلون هذا عن كثيرٍ مِن أتباعهم ، ولاشك أنَّه مِن السحر كغيره مِن كراماتهم .
يقول : وكان له صاحب يبيع الحشيش بـ"باب اللوق" ، فكان الشيخ رضي الله عنه يرسل إليه أصحابَ الحوائج فيقضيها لهم ، فقال له أحد تلاميذه عن ذلك – يعني : كيف تفعل هذا مع الحشاشين ؟ - فقال له : ياولدي ليس هذا مِن أهل المعاصي ، إنَّما هو جالس يُتَوِّب النَّاس في صورة بيع الحشيش ، فكل مَن اشترى منه لا يعود يبلعها أبداً .
ويقول عن الشيخ أبي بكر أن تلميذه لما حج معه يقول سألته أن يجمعني على القطب فقال : إجلس ها هنا ، فمضى فغاب عنِّي ساعة ثم حصل عندي ثِقَل في رأسي ، فلم أتمالك أحملها حتى لصقت لحيتي بعانتي ! فجلسا يتحدثان عندي - أي : الشيخ والقطب - بين زمزم والمقام ساعة ، وكان مِن جملة ما سمعتُ مِن القطب يقول : آنَستَنا يا عثمان ، حلَّت علينا البركة ، ثمَّ قال لشيخي : توصَّى به فإنَّه يجيءُ منه ، ثم قرأ سورة الفاتحة وسورة قريش ، ودعيا ، وانصرفا ، ثم رجع سيدي أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : ارفع رأسَك ، قلت : لا أستطيع ، فصار يمرخني ورقبتي تلين شيئاً فشيئاً ، حتى رجعتْ لما كانت عليه ، فقال : يا عثمان هذا حالك وأنت ما رأيتَه ، فكيف لو رأيتَه ، فمن ثَمَّ كان سيدي عثمان رضي الله عنه - كما يقول الشعراني – لا يريد إلا الانصراف عن جليسه حتى يقرأ سورة الفاتحة ، ولإيلاف قريش ؛ لأنَّه سمع القطب قرأها قبل أن ينصرف .(1/146)
المدعو حسين الجاكي ، مِن كراماته ، قال : عقدوا له مجلساً عند السلطان ليمنعوه مِن الوعظ وقالوا : إنَّه يلحن ، فأمر السلطان بمنعه ، فشكا ذلك لشيخه الشيخ أيوب ، قال : فبينما السلطان في بيت الخلاء ، إذ خرج له الشيخ أيوب مِن الحائط والمكنسة على كتفه في صورة أسدٍ عظيم وفتح فمه يريد أن يبلع السلطان ، فارتعب السلطان ووقع مغشيّاً عليه ، فلمَّا أفاق قال له : أرسل للشيخ حسين يعظ وإلا أهلكتك، ثم دخل مِن الحائط .
ووليُّهم المدعو : حسن التستري ، يقولون : إنَّ الوزير سدَّ زاويته – أقفلها - ، فقال الشيخ : مَن سدَّ هذا الباب ؟ فقالوا : الوزير فلان بأمر السلطان ، فقال : نَحن نسدُّ أبواب بدنه وطيقانه ، فعمي الوزير ، وطرش ، وخرس ، وانسدَّ أنفُه عن خروج النَّفَس ، وانسدَّ قُبُلُه ودُبُرُه عن البول والغائط ، فمات الوزير في الحال ، فبلغ ذلك السلطان فنزل إليه ، وصالحه ، وفتح له الباب .
عبدالرحيم القَناوى ، يقول : نزل يوماً في حلقته شبحٌ مِن الجوِّ لا يدري الحاضرون ما هو ، فأطرق الشيخ ساعةً ثم ارتفع الشبحُ إلى السماء ، فسألوه عنه فقال : هذا ملَكٌ وقعت منه هفوةٌ فسقط علينا يستشفع بنا ، فقبِل الله شفاعتَنا فيه فارتفع .
قال : وكان الشيخ إذا شاوره إنسانٌ في شيءٍ يقول : أمهلني حتى أستأذن لك فيه جبريل عليه السلام ، فيمهله ساعة ، ثم يقول له إفعل أو لاتفعل على حسب ما يقول جبريل .(1/147)
أما المدعو علي الخواص : فينقل عنه أنَّ محمد بن هارون مِن أوليائهم - وهناك خلاف بين هذه الوليَّيْن - سلبه حالَه مرة صبيٌّ القرَّاد أحد الأولياء الآخرين ؛ وذلك أنَّه كان إذا خرج مِن صلاة الجمعة تبعه أهل المدينة يشيِّعونه إلى داره فمرَّ بصبيِّ القراد وهو جالس تحت حائطه يفلي خلقته مِن القمل ، وهو مادٌّ رجليه ، فخطر في سرِّ الشيخ أنَّ هذا قليل الأدب يمد رجليه ومثْلي مارٌّ عليه ، فسُلب لوقته ، وفرَّت النَّاس عنه ، فرجع فلم يجد الصبيَّ ، فدار عليه في البلاد إلى أن وجده في "رميلة" بمصر فلمَّا نظر القَرَّاد الكبير إليه وهو واقف وقد فرغوا ، قال له : تعالَ يا سيدي الشيخ ، مثلك يخطر في خاطره أنَّ له مقاماً أوقدْراً ؟ هذا الصبيُّ سلبكَ حالك - القراد يقول : الصبيُّ سلب الشيخ حالَه - أي : إيمانه – فله أن يمد رجله بحضرتك لكونه أقرب إلى الله منك ، فقال : التوبة ، فأرسله إلى "سنهور" المدينة إلى الحائط الذي كان يفلي ثوبه عندها ، وقال : نادِ السحليَّة التي هناك في الشق ،- يعني : الوزغ التي في الشق عند الحائط - وقل لها : إنَّ قزمان طاب خاطره علي فردي عليَّ حالي ، فخرجتْ ، ونفختْ في وجهه ، فردَّ الله عليه حاله – أي : ردَّ الله إيمانَه لما نفختْ عليه هذه السحلية ! - .
علي البقَّال ، يقولون : مِن كراماته : أنَّ ابن الفارض مرَّ به فرآه يتوضأ وضوءً غير مرتب وهو لا يعرفه ، فقال له : أنتَ في هذا السنِّ في دار الإسلام وتتوضأ وضوءً باطلاً ؟ فنظر إليه وقال :لم أتوضأ إلاَّ وضوءً مرتَّباً لكنَّك لا تبصر ، ولو أبصرت أبصرت هكذا ، وأخذ بيده فأراه الكعبة ، فأكبَّ ابنُ الفارض على أقدامه يستغفر .(1/148)
المدعو علي البحيري ، قال المنَّاوي : أخبرني صاحبُنا زين الدِّين العلاف أنَّه جلس مرة فطأطأ رأسَه ، وتمرَّغ على التراب ، وقال : أستغفر الله ، وكرَّر ذلك وبكى !! فسأله عن ذلك ، فقال : حكَّت رأسى في ساق العرش في هذا الوقت .
علي بن الهيتي ، يقولون : مِن كراماته أنَّه حضر هو وجماعة مِن المشايخ والفقهاء ، عملوا سماعاً – يعني : حضرة - فأخذ المشايخ بحظِّهم مِن الرقص والغناء ، وأنكرت الفقهاء ببواطنهم فطاف عليهم الشيخ علي بن الهيتي - ما أظهروا في الباطن فقط ! - فكان كلَّما قابل رجلاً نظر إليه فيفقد جميع معلومه حتى مِن القرآن ! وانصرفوا ومكثوا كذلك شهراً ثم أتوا واستغفروا وقبَّلوا رجليْه .
يقول الشعراني في "العهود" ، حكى له أحدُهم أنَّ والده سراج الدِّين البلقيني قال : مرَّ يوماً في "باب اللوق" ، فوجد هناك زحمة ، فقال : ما هذه الزحمة ؟ فقالوا : شخصٌ مِن أولياء الله يبيع الحشيش ! - وليٌّ يبيع الحشيش ؟! - فقال : كيف يكون شخص حشاش مِن أولياء الله ؟ إنما هو مِن الحرافيش ، ثم ولَّى ، فسُلب الشيخ جميعَ ما معه حتى الفاتحة .
قال : فمنذ ذلك اليوم ما أنكر الشيخ البلقيني على أحدٍ مِن أرباب الأحوال ! .
كما قلنا هذا هو الإرهاب الذي يضعونه .(1/149)
صدر الدين القونوي الرومي الذي ذكره شيخ الاسلام ابن تيميَّة في كتبه مراراً ، كان تلميذ ابن عربي ، قال المناوي : حكى عن نفسه أنَّه قال : اجتهد شيخي العارف ابن عريى أن يشرِّفني ويوصلني إلى المرتبة التي يتجلى فيها الحق تعالى للطالب بالتجليات البرقيِّة في حياته فما أمكنه – يعني : في حياة ابن عربي - فزرتُ قبره بعد موته ، ورجعتُ ، فبينا أنا أمشي في الفضاء عند "طرسوس" في يوم صائف ، والزهور يحركها نسيم الصبا فنظرت إليها ، وتفكرت في قدرة الله تعالى وكبريائه وجلاله ، فشرفني حبُّ الرحمن حتى كدت أغيب عن الأكوان ، فتمثَّل لي روح الشيخ ابن عربى في أحسن صورة كأنَّه نورٌ صَرف ، فقال : يامحتار ! انظر إليَّ ، وإذا الحقُّ جلَّ وعلا تجلَّى لي بالتجلِّي البرقي مِن الشرف الذاتي فغبتُ عنِّي به فيه على قدر لمح البصر ، ثمَّ أفقتُ حالاً وإذا بالشيخ الأكبر بين يدي فسلم سلام المواصلة بعد الفرقة وعانقني معانقة شديدة ، وقال : الحمد لله الذي رفع الحجاب وواصل الأحباب .
ومِن أكابر مَن أحيا طريقةَ ابنِ عربى ومذهبه في وحدة الوجود المدعو يوسف الكوراني الملقب "العجمي" ، تحدث عنه الشعراني ، فقال - ضمن ترجمته - : لما ورد عليه وارد الحق بالسفر مِن أرض العجم إلى مصر ، فلم يلتفت إليه ، فورد ثانياً – وارد في قلبه - فلم يلتفت اليه ، فورد ثالثاً ، فقال : اللهمَّ إن كان هذا واردَ صدقٍِِِِِ فاقلب لي عينَ هذا النَّهر لبناً حتى أشرب منه في قصعتي هذه ! فانقلبَ النَّهر لبناً وشرب منه ثم ذهب إلى مصر .(1/150)
وله حكاياتٌ كثيرةٌ ننقل منها فقط واحدة ، لتَعلموا حقيقة هؤلاء القوم - ومعهم ابن عربى وأمثاله – يقول : كان رضي الله عنه إذا خرج مِن الخلوة يخرج وعيناه كأنَّهما قطعة جمرٍ تتوقد ، فكلُّ مَن وقع نظره عليه انقلبت عينُه ذهباً خالصاً ، ولقد وقع بصره يوماً على كلبٍ فانقادت إليه جميع الكلاب إن وقف : وقفوا ، وإن مشى : مشوا !!فأعلموا الشيخ بذلك ، فأرسل خلف الكلب وقال : "اخسأ" ! فرجعت عليه الكلاب تعضه حتى هرب منها .
ووقع له مرةً أخرى أنَّه خرج مِن خلوة الأربعين فوقع بصره على كلبٍ فانقادت له جميع الكلاب ، وصار النَّاس يهرعون إليه في قضاء حوائجهم ، فلمَّا مرض ذلك الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون ! ويظهرون الحزن عليه ! فلمَّا مات أظهروا البكاء والعويل وألهم الله تعالى بعض النَّاس فدفنوه ، فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا !! .
يقول الشعراني : فهذه نظرة إلى كلبٍ فَعلت ما فعلت فكيف لو وقعت على إنسان ؟ !
وحكاياتهم عن الكلاب وأنَّها من الأولياء كثيرة ، منها : واحد اسمه "علي صاحب البقرة" ، يقول النبهانى : كان له بقرة يحرث عليها فأراد أن يحلبها في بعض الأيام ، فقالت له : يا شيخ علي إمَّا حليب ، وإما حراثة فأتى بِها فاستنْطقها عند أهل القرية ، فقالت مثل المقالة الأولى ، فقال لها : اذهبي فلا حليب ولا حراثة ، ثم سقط ميِّتاً ، وسقطت هي أيضاً ، فدفنا في محلٍ واحدٍ ، وقبرُهما مقصودان للزيارة ، وقد زرناهما في غير هذه المرة مع زمرة مِن الإخوان، وحصل لنا الحظ التام ، وذكرنا الله تعالى عندهما برهة مِن الزمان !
قال سفر : يعني الشيخ والبقرة ، فمِن أوليائهم الكلاب ومن أوليائهم الأبقار .
مِن كرامات ما يسمُّونه علي بن أحمد الجعبري : أنَّه كان إذا جاء ليدخل باباً فوجده مغلقاً دخله مِن شقوقه التي لا تسع نملة .(1/151)
قال النَّبهاني : ومرَّ يوماً بالشارع بدارٍ وإذا هو بامرأة جميلة ، فوقف زماناً ، ثم صاح ، وإذا بها نزلت ، وأتت بالشهادتين ، وكانت نصرانية ! فقال لمن معه : نظرتُ إلى هذا الجمال الباهر ، فقال : أنقذني مِن هذا الكفر الظاهر ، فتوجتُ فأسلمتْ .
يعني : النَّظر إلى المحرمات ، أو كشف العورات لا إشكال ! فهو كثير جدّاً ، ننقل واحدة منها :
المدعو علي الكردي مِن أوليائهم ، أنَّ سهروردي لما جاء إلى دمشق قال : أريد أن أزور علي الكردي ، فقال له الناس : يا مولانا لا تفعل أنت إمام الوجود ، وهذا رجل لا يصلِّي ويمشي مكشوف العورة أكثر أوقاته – لاحظوا هذا الولي لا يصلِّي ، ويمشي أكثر أوقاته وهو مكشوف العورة – قال : لا بدَّ مِن ذلك ، فساعة دخوله مِن الباب خرج الشيخ علي من دمشق ... فلم يدخلها بعد ذلك ، فقالوا للشيخ السهروردي : هو في الجبَّانة ، فركب بغلته ، ودخل يمشي إليه ، فلمَّا رآه علي الكردي قد قرب منه كشف عورته ، فقال الشيخ شهاب الدين : ما هذا شيءٌ يصدُّنا عنك وها نحن ضيفك .
- يعني : مهما كشفت لا يصدُّنا - .
وسأنقل ما ذكره صاحب "المشرع الروي في فضائل آل با علوي" عن بعض العارفين ، قال : أقمتُ بمكة المشرفة سنين ، وكنتُ أجد في المسجد الحرام أنساً جسيماً ، وتجليّاً عظيماً، فلمَّا وصلت "تريم" ودخلت مسجد آل با علوي وجدتُ ذلك الأنس والتجلِّي ، وكذا وجدته في مسجد عمر المحضار ، ومسجد محمد بن حسن جمل الليل – يعني : يشبِّه هذه المساجد بالحرم ، وأغرب مِن هذا أنَّ اللَّجنة التي يرأسها الشاطري - مِن أهل جدة - والتي طبعت الكتاب أنَّها حذفت بعد هذا كرامة مِن الكرامات ، ولم أتمكن مِن الرجوع للطبعة القديمة التي لا حذف فيها .
بقي حاجة وهي عبارة عن نكتة وهي "جهاد الصوفية " كيف يجاهدون ؟ يمكن أنَّ أحداً يقول لا يجاهد الصوفيَّة ؟ وأجيب : بلى ، هم يقولون : نحن نجاهد ، وسأقرأ لكم الآن عن أحدِ أئمَّتهم كيف جاهد .(1/152)
واحد منهم اسمه محمد بن الشيخ أبي بكر العردوك ، يقول النَّبهانى : تأهب الشيخ محمد وتحزَّم ، وأخذ عامود خيمته ، وجعل يقاتل في الهواء غائب العقل ظاهراً ! والجماعة حوله يعلمون أنه في مهمَّ وبقي إلى مثل ذلك الوقت مِن نهارِ الخميس تاليه ثم استلقى كالميت ، وكُلُّ ما عليه مع بدنه ، وعاموده : ملطخ بالدماء ، ثم أفاق بعد ساعة والجماعة حوله يبكون ، فقبَّلوا يديه ورجليه ، وسألوه عمَّا جرى ، فأخبرهم بأنَّه قاتل خفر التتار ، وقتل كبيرهم وأنَّهم في هذا اليوم ينكسرون ، وانكسر التتار بأرض "حمص" يوم الخميس .
قال سفر : الشيخ حاربَهم وهو قاعد يضارب في الهواء .
وشيخ آخر اسمه الشيخ برق ، قال النَّبهاني : روينا أنَّ قاضي دمشق مرَّ يوماً راكباً بمكان بدمشق فنظر إليه الشيخ برق قائماً ، وبين يديه جبَّة غليظة ، وهو يضربه بخشبة غليظة ، والدم يرتفع مِن ذلك المضروب في الهواء ، ويرشرش ماحوله - ماحول الشيخ - والشيخ منزعج ، يصيح مرة ، ويهيم مرة ، ويصير كالسكران إلى أن أفاق الشيخ ورجع إلى حكم الظاهر ، فسأله ما الخبر ؟ فقال : حضرتُ الساعةَ وقعة المنصورة ، وكان جميع ما يرى مِن الضرب وظهور الدماء مِن تلك الوقعة ، وقد نصرتُ المسلمين وخذلت الكافرين .
قال سفر : الشيخ هو الذي فعل ذلك وهو في دمشق يضرب الجبَّة .
بقي أن نقول : إنَّ الكرامات هذه كثيرةٌ جدّاً لا نستطيع أن نأتي بِها جميعاً ، وكلها شركيَّات كما سمعتم ، وخرافات وكلُّها ضلالات ، وكلُّها أوهام وبعضها أو كثير منها يخرجُ صاحبَه مِن الملَّة بمجرد اعتقاده ، ولن نستطيع أن نأتي بها جميعاً ، وإنَّما ذكرتُ ما ذكرتُ منها لإعطاء فكرة عامَّة ، فكرة موجزة عن هذا الدين ، عن خلوته ، وعن شيخه ، ثم عن كراماتهم ، وعن مجاهداتهم كما سبق .(1/153)
فهذه هي أركان الطريق عندهم ، هذا هو دين هؤلاء القوم ، وهذه هي عقيدتهم ، فمن خدع بكتاب "الرد المحكم المنيع" الذي ألَّفه الرفاعي ، أو مَن خُدع بكتاب "التحذير مِن الاغترار بما جاء في كتاب الحوار" الذي ألَّفه المغربيَّان عبد الحيِّ وعبد الكريم ، ومَن خدع بكتاب "إعلام النَّبيل" الذي ألَّفه راشد بن إبراهيم المريخي البحريني ، ومَن خدع بأيِّ كتابٍ مِن كُتب هؤلاء القوم أو بأيِّ دعوةٍ مِن دعواتِهم ، أو بأيِّ فكرة مِن أفكارهم : فليعلم أن هذه هي أصولهم ، لا يغرنَّه ما يذكرونه في هذه الكتب مِن أنَّ الخلاف بيننا وبينهم في "المولد" ، أو في بعض الفرعيَّات ، أو في بعض القضايا التي لا تثير إشكالاً ، وياليت أننا نتعاون على الشيوعيَّة ، نتعاون على أعداء الاسلام ، ونترك هذه البدع كما يقولون أبداً ، هذه هي عقيدتهم ، وكلٌّ منهم آخذٌ منها بحظ ، من لم يأخذها كلها فله حظ منها بقدر ما يأخذ .
أمَّا الاتباع ، وأمَّا المخدوعون فإليهم نوجِّه هذا الكلام ، وأرجو منكم أن توجهوه ، إنَّكم أيها الإخوة : اعرفوا عقيدة هؤلاء القوم وأعلموها ثم بعد ذلك فكِّروا ! هل تنفعكم هذه العقيدة عند الله ؟ هل تتفق هذه العقيدة مع كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
هذا هو موضع الخلاف أيها الإخوة الذي يجب أن نعلمه جميعاً .
أمَّا دعواهم هم أنَّهم يكرهون الخلاف ، وما يكتبه هؤلاء مِن قولهم أنَّنا لو نترك هذه الخلافات ونتفق على الأمور المجمع عليها ونتعاون عليها مثل محاربة الشيوعيَّة أو اليهوديَّة وما إلى ذلك ، فنقول لهم : مَن الذي بعث الخلاف ، ومَن الذي أثار المشكلة ؟ ومَن الذي فرَّق الجماعة إلا هذا الدين المحدث الذي جئتم به ؟ وإلا هذه الضلالات التي أتيتم بها؟(1/154)
مَن الذي فرَّق جماعة المسلمين إلا البدع والضلالات ؟ مَن الذي يقيم الموالد بين الحين والحين ويدعو إلى البدعة علانية ، ويثير أحقاد العوام والجهلة على العلماء الذين ينكرون هذا المولد ؟ من هم ؟ هذه القاعدة : نحن نطالبكم بها ، نقول لكم : إنَّنا مختلفون معكم في الموالد ، مختلفون معكم في كل البدع المخالفة للكتاب والسنَّة ، فلماذا لا تتركونَها وتأتون إلى مواضع الاتفاق التي نتفق وإياكم عليها ، فنتعاون على حربِها ، نتعاون على حرب الربا والتبرج والعلمانية التي بدأت تأكل الأخضر واليابس والهشيم في مجتمعنا ؟ الانحلال الخلقى الذي بدأ يتفشى ؟ الأفكار الغربية الوافدة التي تظهر في الصحف والكتب وفي كل مكان ؟ لماذا لا تتعاونون معنا على هذه التي أنتم متفقون عليها ، وتتركون البدع التي نختلف فيها نحن وإياكم ؟ هذه القاعدة نحن نقولها لكم ، نحن نطالبكم بها ، ولا تطالبوننا أنتم بها .
ولكنَّه الباطل ، هكذا الباطل ، الباطل دائماً يتخفى الذي لديه ذهب مغشوش لا يمكن أن يبيعه في سوق الذهب ، وإنَّما يذهب به إلى البوادي ، يذهب به إلى أطراف البلاد فيبيعه على الجهلة .
وهؤلاء القوم لو أنَّهم على الحقِّ لم يتخفون به عن العلماء ، وعن النَّاس .
الشيخ محمَّد علوي مالكي هذا الذي يقيم في مصر محتجب عن البشر جميعاً ، لماذا يحتجب إذا كان على الحق ؟ لماذا لا يقيم في القاهرة ويعلن دعوته ما دامت هي الحق ؟ والمالكي لماذا لا يُظهر دعوتَه ما دامت هي الحق ؟ والمالكي لماذا لا يُظهر دعوتَه في مكة ؟ ولماذا لا يناظر عليها العلماء حتى لو أوذي ؟ أصحاب الدعوات الحق يتحمَّلون الأذى مِن أجلها ما دامت حقّاً فلماذا ؟ .(1/155)
لكن أيها الاخوة لأنَّهم هؤلاء هم أول مَن يعلم بطلان دعوتِهم وكذبِها ، وهم أول مَن يعلم ضلالها ، لذلك لا يريدون أن يُظهروها أمام الملأ إلاَّ في الأقطار النائية مِن العالم الإسلامي ، ويُؤثرون المجد والشهرة ، ويُؤثرون أكل السُّحت على الحق كمَا فعل أحبار اليهود ، وكما يفعل علماء الرافضة وآياتهم ، فهم يؤثرون ذلك على الحق ، وإلا فهم يعلمون الأدلة ، ويعلمون أنَّ أدلتهم باطلة ، ويعلمون ما في المولد مِن الشرك ، وإن طنطنوا وجعجعوا ، وقالو ليس فيه شرك ، فاسمعوا الآن مِن كلام محمَّد علوي مالكي نفسه في المولد ما يدلكم على ذلك : " لقطة من المولد " - التسجيل غير واضح - .
سمعتم دفاعه عن البيت الشركي الواضح الجلي : "يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به" ، وقذائفه وشتائمه التي يصبُّها على مَن يقول إنَّ هذا شرك .
والأمثلة كثيرة مِن كلامه ، ومِن كلام غيره ، ولكن الوقت قد ضاق ، والشريط أوشك على الانتهاء ، فكلمة أخيرة أقولها لكم ، وقولوها لكل واحدٍ مِن أتباع هذا الرجل أو غيره ، ولكلِّ محبِّ حقٍّ مِن المخدوع بهذا الدِّين ، دين التصوف : لا تنظروا إلى أتباع هذا الرجل وأمثاله ، لا تنظروا إلى عقيدة التوحيد على أنَّها عقيدة أهل نجد ، أو أهل الشام ، اتركوا النَّعرة الجاهلية ، وعودوا إلى الكتاب والسنَّة ، وانظروا إلى مَن يتبع الدليل، ومَن يتَّبع الكتاب والسنَّة ، ومَن يتَّبع الحق ، فكونوا معه ، والحمد لله رب العالمين .(1/156)