الرد القويم البالغ
على كتاب الخليلي
المسمى بالحق الدامغ
تأليف
أ .د. علي بن محمد ناصر الفقيهي
دار المآثر
المدينة النبوية
ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها، منها: حديث أبي سعيد وأبي هريرة- وهما في الصحيحين- أن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم كذلك». هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والخليلي نقل هذا النصّ وغيره، ثم قال -وبئس ما قال-: «وأنت أيها القارئ الكريم تدرك ببصيرتك أن الأخذ بظواهر هذه النصوص يفضي إلى مايرده العقل ويكذبه البرهان».
هكذا يقول – إن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الثابتة في الصحيحين وغيرهما يكذّبها برهان الخليلي-ويردّها عقله.
- - - -
يقول الخليلي في كتابه ص (112- 113): قوله تعالى: {وماكان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ..} [الشورى:51]التكليم من وراء حجاب إذا أسند إلى الله بمعنى خَلْقِ صوتٍ مسموعٍ لا يصدر عن شيء ينبئ عن مراد الله، ويتلقفه سمع من اختصه الله بالتكليم، وعلى هذا يحمل تكليم الله لموسى عليه السلام. هذا قول الخليلي.
واقرأ قوله تعالى في مخاطبته لموسى: { إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى . إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه:12-14]
فهل الصوت الذي سمعه موسى يصدر عن لا شيء؟ وهو يقول لموسى: إنني أنا الله ... فاعبدني؟
- - - -
يقول الخليلي بخلود جميع مرتكبي الكبائر من أمة محمد في النار وإن ماتوا على التوحيد.
والله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[النساء: 116].(1/1)
وقال في الحديث القدسي عن أبي ذر قال: قال رسول الله r: يقول الله عزّ وجل «..ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة».رواه مسلم/فضل الذكر ح2687.
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب الفضيلة الشيخ: علي بن محمد ناصر الفقيهي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته/ وبعد: وصلتني رسالتكم ومعها مؤلفكم في الرد على الإباضي الجهمي - أحمد بن حمد الخليلي في كتابه المسمى «الحق الدامغ»، والذي ضمنه ثلاث ضلالات: نفي رؤية المؤمنين لربهم، والقول بخلق القرآن، وتخليد العصاة من المؤمنين في النار- وقرأت ردكم عليه فوجدته بحمد الله رداً وافياً مفحماً فيه نصرة الحق، ودحض الباطل، ونقض الشبهات، مدعماً بالأدلة من الكتاب والسنة.
والحمد لله الذي وفقكم لذلك، ونسأله أن يجعله في ميزان حسناتكم، وأن يزيدكم علماً وفقهاً في دينه- وليس لي أي ملاحظة سوى تصويبات نحوية وبعض الزياديات اليسيرة وهي بالخط الأحمر - إن رأيتم وجاهتها- زادكم الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً.
وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه وحماة شريعته، وأن يصلح أحوال المسلمين وولاة أمورهم. إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم :
صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
25/4/1421هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كرِه الكافرون.(1/2)
أما بعد: فإن لأعداء الإسلام والمسلمين -على اختلاف مللهم ونحلهم- أساليب متنوعة، وخططاً في ظاهرها مختلفة، ولكنها في حقيقتها ذات هدف واحد ألا وهو القضاء على دين الله الحق، الذي أرسل الله به خاتم أنبيائه ورسله المبعوث للناس كافة بشيراً ونذيراً محمداً صلى الله عليه وسلم، ليُخرجَ به الناس من ظلمات الكفر والشرك والظلم إلى نور الإسلام، ولا يزال هؤلاء الحاقدون -إلى يومنا هذا- يخططون ويمكرون لإطفاء نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو كرِهَ الكافرون.
ومن نظر في كتاب الله الكريم، وفي سنة رسوله الأمين، وفي سيرته العطرة ودعوته الخيّرة، وما لاقاه عليه الصلاة والسلام من كيد ومكر، يظهر له جلياً بأن ألدَّ أعداء الإسلام هم اليهود.
فقد أخبر الله عز وجل في كتابه عنهم، أنّهم يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول الحق، الذي وصفه الله تعالى في كتبهم المنزَلَة عليهم؛ التوراة والإنجيل، معرفة حقيقية لا لَبْسَ فيها كما يعرفون أبناءهم، وإنما كفروا به حسداً وبغياً، قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة:146].
وقال تعالى: {ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}[البقرة:109].
فلحسدهم وبغيهم، ثم عجزهم عن الوقوف في وجه انتشار الإسلام وصدّ الناس عنه بالقوة، أظهر بعضهم الإسلام، لا محبة فيه، وإنما للكيد له عن طريق إدخال الشُّبَه والشكوك على ضعاف العقول والإيمان من المنتسبين لهذا الدين.
كما اشترك مع اليهود في ذلك المكر المجوس، وغيرهم ممن قضى الإسلام على باطلهم؛ ولمَّا لبسوا لباس الإسلام واختلطوا بالمسلمين، نشروا في داخل المجتمع المسلم أفكاراً منحرفة بعيدة كل البعد عن هدي كتاب الله وسنة رسوله اللذين جمع الله بهما شمل الأمة بعد تفرقها وتشتّتها وتناحرها.(1/3)
والغرض من نشر تلك الأفكار والعقائد المنحرفة؛ إثارة الخلاف والفرقة بين المسلمين لتمزيق شملهم وإدخال الفرقة بين صفوفهم.
وقد تقبّل بعض الناس تلك الأفكار المنحرفة في باب أسماء الله وصفاته جهلاً بمراد هؤلاء، حيث نشرها أصحابها تحت ستار التنزيه لله جلّ وعَلا.
وكل مسلم يؤمن بالله عز وجل، فإن عقيدته التنزيه لله جلّ وعَلا، عن مشابهة المخلوقين، لأن من شَبّهَ الله عز وجل بخلقهِ فقد كفر.
وكل ما أثبته الله عز وجل لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة من صفات الجلال والكمال ليس تشبيهاً.
كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[الشورى:11] فقد أثبت الله لنفسه صفة السمع والبصر على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء...} وهكذا جميع الصفات يثبتها لله عزّ وجل أهل السنة والجماعة على هذا الأساس وإنما التشبيه كما قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره، أن تقول: لله سمعٌ كسمعي، وبصرٌ كبصري ويدٌ كيدي(1).
هذا هو التشبيه الذي حكم علماء السلف على قائله بالكفر.
ومثل ذلك رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في دار النعيم، لدلالة الكتاب العزيز، والسنة المطهرة الصحيحة المتواترة على ذلك، وصفة الكلام لله تعالى، وأن القرآن كلام الله عز وجل منه بدأ وإليه يعود، وليس مخلوقاً، وغير ذلك من الصفات، تُثبت لله كما أثبتها لنفسه في كتابه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، على أساس التنزيه لله عز وجل عن مشابهة المخلوقين وذلك الإثبات، مستمد من قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11].
وممن تَلَقّفَ هذه الأفكار المنحرفة في عصرنا الحاضر، وانتصر لها، وجَدّ في المدافعة عنها «أحمد بن حمد الخليلي».
__________
(1) انظر نقض التأسيس، لابن تيمية: (1/476) وانظر المختار في أصول السنة، لابن البنا (ص:81).(1/4)
فقد اطلعت على كتابه بعنوان «الحق الدامغ»المطبوع عام 1409هوعلى غلافه اسم مؤلفه: أحمد بن حمد الخليلي. وهو يقع في 239 صفحة، وبعد قراءته وجدته خصّصه لثلاث مسائل عقدية خالف فيها أهل السنة والجماعة، وسلك فيها مسلك الجهمية والمعتزلة والزيدية والإمامية الرافضة من الشيعة كما صرّح بذلك في ص:32 من الكتاب المذكور، وهذه المسائل الثلاث هي:
1- إنكاره رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في الدار الآخرة.
2- قوله: إن القرآن مخلوق.
3- اعتقاده تخليد الفساق في النار.
وقد ذكّرنا صنيعه هذا بأمرين:
1- الأول: إن قول بعض الكتاب المعاصرين أن الكلام في الصفات وبالأخص القول بخلق القرآن نبش لما تحت التراب وأن هذه المسائل العقدية تأريخية عفا عليها الزمن ليس صحيحاً، فمؤلف هذا الكتاب وأمثاله كثيرون يعيشون على وجه الأرض وليسوا تحت التراب، كما جاء في كتاب «أولوية الحركة الإسلامية» الطبعة الثانية سنة 1411هتحت عنوان: «إهالة التراب على المشكلات التأريخية» ص:92 لمؤلفه (القرضاوي) هداه الله.
2-الأمر الثاني: ذكّرنا المؤلف بقول طوائف ثلاث:
1- قول الخوارج الذين حكموا على عصاة الموحدين بالكفر في الدنيا والآخرة، والخلود في النار، والمؤلف يقول: إن الكفر في الدنيا هو الكفر العملي أي كفر النعمة – ولكنه حكم على العصاة بالخلود في النار، كما تقول المعتزلة بذلك، إنفاذاً لأحد أصولهم الخمسة وهو إنفاذ الوعيد، وإن كانوا في الدنيا جعلوا العاصي في منزلة بين المنزلتين مخالفين بهذه العقيدة الباطلة كتاب الله عز وجل فالله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[النساء:116].(1/5)
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر المتفق عليه: ولفظه: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثلاثاً ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر، قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر»(1)، وذلك بعد تمحيصه إن لم يعفو الله عنه.
2- بقول الجهمية، فقد قال الذهبي في ترجمة زعيمهم ومؤسس نحلتهم (الجهم) في (ميزان الاعتدال 1/441): الجهم بن صفوان بن محرز المبتدع الضال رأس الجهمية هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، وقد زرع شراً عظيماً، فقد نفى عن الله الأسماء والصفات، وقال بالجبر، وخلق القرآن، وغير ذلك من الأفكار المنحرفة.
3- بقول المعتزلة، الذين قالوا أيضاً بخلق القرآن، وأنكروا رؤية الله في الآخرة، وألّفوا كتباً في ذلك، وقد حمل بشر المريسي لواء الجهمية في ذلك ومثله ابن أبي دؤاد، وحدثت المحنة المشهورة بـ (محنة القول بخلق القرآن) في خلافة المأمون وبعده المعتصم ومن بعدهما وقتل في تلك المحنة عدد من علماء السنة وقد نصر الله الحق على يد إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، ورُفعت المحنة وعادت السنة ونُشرت أعلامها والحمد لله.
وحيث إن المؤلف وطائفته – الإباضية – قد ورثوا الجهمية والمعتزلة …الخ. كما صرح بذلك في كتابه هذا صفحة:32، أنه يشارك الإباضية في هذه الأفكار الجهمية، والمعتزلة، والزيدية، والإمامية من الشيعة.
__________
(1) مسلم الإيمان /باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ح(94).(1/6)
وهذا تصريح بإحياء تلك الأفكار التي وقف أهل السنة جميعاً في وجه معتنقيها، وبيّنوا أصولها، وأهداف مَنْ أسّسها ودعا إليها وأدخلها على ضعاف المسلمين علماً وإيماناً، فتفرقت بذلك كلمتهم، وتشتت شملهم، حتى أصبحت تلك الطوائف التي اعتنقت تلك الأفكار باسم الإسلام يكفّر بعضهم بعضاً، أو يبدّعه أو يفسّقه.
ولكن بحمد الله بقيت الطائفة الناجية المنصورة، على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عقيدة، وعبادة ومنهجاً.
فردّت على تلك الطوائف المنحرفة انحرافها، وبينت للأمة السبيل الصحيح والصراط المستقيم، بما جاء في كتاب الله العزيز، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين.
واليوم نجد هذه الأفكار التي فرّقت كلمة الأمة، تُبْعَثُ من جديد، ويحمل لواءها الخليلي -ومن كان على شاكلته- في هذا الكتاب، وفي ملخص له لمبحث الرؤية في رسالة سماها «غرس الصواب في قلوب الأحباب» وهو جدير بأن يسمى: «غرس الباطل في قلب الغافل» ثم أشرطة كاسيت له، ولمن يسلك مسلكه تنشر بين الشباب، وفيها تكفير صريح لأتباع منهج السلف من علماء أجلاء وقفوا حياتهم للدفاع عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان العقيدة الصحيحة السليمة المأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرد على الجهمية والمعتزلة وكل الطوائف المنحرفة.(1/7)
كما يشارك في هذه الأفكار المنحرفة، في قالب التنزيه، ويطعن في عقيدة علماء السلف وأتباعهم، شخص يدعى حسن بن علي السقاف، الذي صار يسود أوراقه بترهات وأباطيل ينشرها ليستر بها الحق الأبلج، ولنصر آراء الكوثري ومن صار على منهجه قبله وبعده، ولكن الكوثري قد فاق أسلافه، فهو يكفّر ويبدّع ويسب ويشتم بالألفاظ التي يترفع عن نقلها السوقة، والمسلم لا يكون بذيئاً ولا سباباً ولا فاحشاً ولا متفحشاً ولكن من نظر في تعليقه على «السيف الصقيل» للسبكي كما سمي ذلك التعليق«تبديد الظلام المخيم على نونية ابن القيم» يجد فيه تلك البذاءات التي لا نستطيع ذكرها هنا.
وقد نقل الخليلي عن الكوثري من كتابه هذا وغيره ما يريد التوصل به إلى تكفير ابن القيم، كما سيأتي.
ولكون الخليلي قد حمل لواء هذه الحملة على مذهب السلف، فقد رأيت أنه من الواجب عليّ وقد اطّلعت على هذا الكتاب الذي حكم مؤلفه على عصاة المسلمين كلهم بالخلود في النار، وإحياؤه لتلك العقائد الباطلة، ولما اشتمل عليه كتابه هذا من مغالطات وتمويهات وتلبيسات، رأيت أن أرد عليه بالأسلوب العلمي، والحجة الناصعة، من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، بعيداً عن المهاترات، والكلمات النابية التي وردت في كتاب المؤلف وأشرطته، لأن الغرض هو الوصول إلى الحق، وقد قال الإمام ابن جرير الطبري - في رده على منكري الرؤية-: "إنه لا يوجد لهم دليل على دعواهم، لا آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة"(1)
__________
(1) تفسير ابن جرير 7/303.
قلت: ومن الأساليب الجديدة والخبيثة للهجوم على علماء السلف وتشويه عقائدهم الدعوى عليهم بأن عقيدتهم هي التفويض والتأويل في آيات الصفات، كذباً وافتراء للتشويش على الناشئة من شباب المسلمين، ظنّاً منهم أن تلبيسهم لن يُكشف. كما صنع المدعو: محمد عادل عزيزة الذي نسب للإمام الحافظ ابن كثير من أئمة السلف، التفويض والتأويل في رسالته بعنوان«عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير من أئمة السلف الصالح في آيات الصفات».وقد كشف تلك المغالطات، الدكتور عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد البدر في رسالته (تنبيهات على رسالة محمد عزيزة في الصفات) طبع دار الفتح بالشارقة سنة 1414هـ كما دحض قبل ذلك دعوى حسن بن علي السقاف من أن تقسيم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وتوحيد أسماء وصفات تثليث، بكتابه «القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد» طبع دار الغرباء بالمدينة سنة1414هـ فبحمد الله ومنّه وفضله وكرمه، أن أهل الحق للباطل وأهله بالمرصاد.(1/8)
.
وإن هذا الكتاب المؤلف والمطبوع عام 1409هلأحمد بن حمد الخليلي الإباضي الذي خصصه لإثبات عقيدته في هذه المسائل الثلاث، وقد حَرّف لأجلها نصوص الكتاب والسنة لتنسجم مع عقيدة الإباضية، والجهمية، والمعتزلة، والإمامية الشيعة الرافضة، وردّه لما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: إن الأخذ بظاهرها يردّه العقل، ويكذّبه البرهان - هكذا يقول كما في ص 56 - يبين للقارئ الكريم أن تلك العقائد الفاسدة، لم تكن تحت التراب، وليست هي مشكلات تأريخية عفا عليها الزمن كما يقول الدكتور القرضاوي، وإنما هي مشكلات معاصرة يعيش أهلها فوق التراب، وهم دعاة لها يجهرون بها في محاضراتهم، وفي كتبهم التي يؤلفونها وينشرونها بين الناس، غير مبالين بمن يتنازلون عن عقائدهم الصحيحة السليمة من أجل وهم توهموه، وسراب ظنوه ماءً، فإذا جاؤوه لم يجدوه شيئاً.
أما الرد فسيكون على القضايا الثلاث على حسب ترتيبها في كتاب المؤلف وهي:
1-إنكاره رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
2-القول بخلق القرآن.
3-اعتقاده تخليد الفساق في النار.
وقد أسميت الرد بـ (الرد القويم البالغ، على كتاب الخليلي المسمى بالحق الدامغ).
وقبل البدء في مناقشة القضية الأولى كما يسميها المؤلف وهي:
1-إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم. كما في ص:21.(1/9)
وقبل الدخول في ذكر أدلة النافين والمثبتين ومناقشتها وبيان الحق فيها بدليله من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، ينبغي أن نذكر ما جرت عليه عادة العلماء في القضايا العلمية المتنازع فيها ولاسيما القضايا العقدية، بأن يكون للمتنازعين مرجع يحكم بينهم في تلك القضية المختلف فيها لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59].
فردّنا للقضايا المتنازع فيها في الاعتقاد وغيره إلى الكتاب والسنة أخذاً بهذه الآية.
ومن الغريب حقاً أن المؤلف الخليلي دعا إلى هذا الأصل العظيم إلا أنه خالفه عند التطبيق.
فقد قال في (ص6) من المقدمة - وهو يتألم للخلاف الذي صار بين هذه الأمة بعد أن دعاها الله عز وجل إلى الاعتصام بحبله ونهاها عن التفرق والاختلاف، فذكر قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران:103].
وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران:105].
وقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].
ثم قال: (فإنها مع ذلك لم تسلم من هذا الداء العضال الذي أصاب غيرها من الأمم، غير أن الله سبحانه اختصّها بأن حفظ لها كتابها المنزل عليها من تحريف العابثين، وتبديل المناوئين؛ تحقيقاً لوعده الصادق: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9].
ومكن لها من معرفة الصحيح الثابت من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وجعل لها مخلصاً من الشقاق والنزاع بالاحتكام إلى الله ورسوله حيث قال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59].(1/10)
قال: (ولا يكون الاحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه فتستلهم منه الحقيقة، ويستبان به الحق، وكذلك الاحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا الرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة).
ثم قال: (ومع وجود هذا المخلّص الذي أمرنا بأن نفزع إليه من كوارث الاختلاف، فإن الخلاف لم يزل والشقاق لم يستأصل، فقد تُؤول الكتاب تأولات شتى لم تستمد إلا من الوهم، ولم تستلهم إلا من الهوى، وكذلك السنة.. الخ) ص:7.
وأقول للقارئ الكريم: إن هذا الكلام الذي يظهره المؤلف الخليلي للقارئ من أجل أن يظن أنه يريد الحق الذي يثبته الدليل من الكتاب والسنة، والحقيقة إنما هو تمويه وتضليل وتلبيس على القارئ، وسترى أنه هو الذي أوّل آيات الكتاب للهوى، وردّ الحديث الصحيح في البخاري ومسلم، حيث قال في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ولفظهما: أن ناساً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: «يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يارسول الله. قال: ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما»(1)
ثم قال المؤلف الخليلي بعد أن ذكر ذلك في ص56: (وأنت أيها القارئ الكريم تدرك ببصيرتك أن الأخذ بظواهر النصوص يفضي إلى ما يرده العقل ويكذبه البرهان).
وأنا إنما نقلت كلامه هذا هنا ليعرف القارئ تلبيسه وتدليسه، وسيظهر للقراء كثير من مغالطاته.
__________
(1) البخاري / التفسير ح(4581)؛ ومسلم/ الإيمان، معرفة طريق الرؤية ح(183).(1/11)
وبما أن المؤلف الخليلي قد التزم بالتحاكم إلى الكتاب والسنة، كما تقدم، ثم اشترط في ص:229، بأن يكون الحوار مدروساً من كل الجوانب وأنه لا يستنكف من ذلك، فإني أضيف إلى تأصيله واشتراطه ما نص عليه الله عز وجل في كتابه، ودعا العباد إليه، وحذّر أشد التحذير من تولى عن ذلك، ألا وهو اتباع سبيل المؤمنين، وهم بالدرجة الأولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم، والتزم آثارهم، فهم الطائفة الناجية المنصورة كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حينما ذكر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فلما سئل عنها قال: «هي من كان على ما أنا عليه وأصحابي» (1).
قال الله تعالى في ذلك: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونُصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء:115].
فلابدَّ في قضية التحاكم في المسائل العقدية وفي غيرها من التكاليف الشرعية، دقيقها وجليلها، من اتباع سبيل المؤمنين، في فهمهم لنصوص الكتاب والسنة؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم قد حضروا التنزيل، وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صدرت منهم أقوال في هذه المسائل العقدية، ففهمهم مقدم على فهم غيرهم، وفقههم مقدم على فقه غيرهم، فاتباع سبيلهم فيه النجاة، ومخالفة سبيلهم فيه الهلاك والوعيد الشديد، كما في هذه الآية الكريمة ونظائرها.
وعلى ضوء هذه الأصول فإنني أبدأ بمناقشة المؤلف في مقدمة كتابه من (ص7-22) فقد وردت فيها قضايا مهمة يجب كشفها، وبيان ما جاء فيها من مغالطات وتمويهات، وتكفير لأهل السنة والجماعة بأسلوب مخادع، وقد خصّ بالذكر منهم الإمام الهمام ابن القيم، كما عرَّض بابن تيمية، وقبلهما بالإمام أحمد رحمهم الله جميعاً وإن لم ينص على تكفيرهما.
__________
(1) ابن أبي عاصم في السنة ح(63) وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ح(1492).(1/12)
يقول المؤلف الخليلي ص: 7 وهو ينعي على الفرق المختلفة، وعلى تعصب الجماهير لأقوال أئمتهم؛ بحيث تجعل كل طائفة قول إمامها أصلاً تطوِّع له الأدلة المخالفة له، بكل ما تخترعه من التأويلات المتكلفة، فتوزعت بذلك الأمة شيعاً وأحزاباً {كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 32]. إلا طائفته التي ينتسب إليها الإباضية حيث قال بعد ذلك: (ولست أبالغ إن قلت: إن الإباضية – أهل الحق والاستقامة – تمتاز عقيدتهم وتتسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور:
سلامة المنزع، فإنهم جمعوا بين صحيح النقل وصريح العقل، فلم يضربوا بالنصوص الصحيحة عرض الحائط، كما صنع أصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا عقلهم أقدس وأسمى مما جاء به النبيون.
عدم التعصب لأئمتهم تعصباً يجعلهم يتصامُّون عن النقول الصحيحة، كما نجد ذلك عند كثير من المتفقهة والمتكلمين.
ثم مثل بالصاوي – فقال: (ومن أبشع ما وجدناه في ذلك قول العلامة الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين حيث قال: «ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»(1) (ص9).
المرونة والتسامح في معاملة فرق الأمة … إذ لم يتجرؤوا على إخراج أحد من الملة، وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين، ولا ينكر شيئاً مما عُلم من الدين بالضرورة).
__________
(1) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/10 ط دار إحياء التراث العربي.(1/13)
هكذا يقول –مع حكمه على الفساق بالخلود في النار– ثم قال مؤكداً قوله هذا: (ومن هذا المنطلق صدر ذلك الإعلان المنصف الذي رسم مبدأ (الإباضية) ونظرتهم إلى الأمة من أشهر قائد إباضي، وهو أبو حمزة المختار بن عوف السلمي في خطبته التي ألقاها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاخ لها الدهر، وسجلها الزمن، وخلّدها التأريخ؛ إذ قال فيها: الناس منّا ونحن منهم إلا ثلاثة:
1- مشرك بالله عابد وثن.
2- أو كافر من أهل الكتاب.
3- أو إمام جائر؟ (1)) ص10.
(مناقشة ما سبق ذكره من المقدمة)
وهو:
أولاً: دعوة المؤلف لجمع كلمة الأمة لدلالة النصوص من كتاب الله على ذلك، وقد أورد آيات في ذلك سبق ذكرها.
ثانياً: تألمه لتفرق الأمة واختلافها مع وجود النصوص من كتاب الله التي تنهى عن ذلك، ثم أورد بعضاً منها وسبق ذكرها.
ثالثاً: مَقْته للتعصب المذهبي ومثل لذلك بالصاوي.
رابعاً: ثناؤه على طائفته – الإباضية – وسلامة منزعهم في استدلالهم في أصول الدين، وعدم تقديسهم للعقل كما فعل أصحاب المدرسة العقلية، ويعني بهم المعتزلة، وأنهم لم يخرجوا أحداً من الملة ما دام يدين بالشهادتين.
خامساً: إعلان قائدهم الشهير، الذي ساوى فيه بين الإمام الجائر ولو كان مسلماً، والمشرك عابد الوثن والكافر من أهل الكتاب، في البراءة منه.
وأقول: إن ما دعا إليه المؤلف في الفقرة الأولى والثانية، وهو جمع كلمة الأمة على الحق والهدى، وهو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هو مطلب أهل الحق من الأمة، وهو الذي تسعى إلى تحقيقه الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة، التي سلكت مسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، والعبادة والمعاملات والسلوك، بالقول والفعل.
__________
(1) المرجع الذي اعتمد عليه الخليلي: أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني 2/104 ط بولاق.(1/14)
أما المؤلف الخليلي فإنه يدعو لجمع الكلمة بالقول فقط، ثم ينقض تلك الدعوى بفعله، في كتابه هذا الذي جمع فيه بين المتناقضات، وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: حكم المؤلف الخليلي على عصاة المسلمين بالخلود في النار، يعتقد ذلك ويقرره ويدعو إليه، ويقول: إن هذا هو مذهب أهل الحق والاستقامة –الإباضية، الذين – كما يدعي – يأخذون بالنصوص من كتاب الله، والثابت من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقدمون عقولهم عليها كما يفعل أصحاب المدرسة العقلية، كما سبق نقل ذلك عنه.
فهل هذا يدعو لجمع كلمة الأمة أو يدعو لفرقتها وتشتيتها؟ وهل يوجد في الأمة معصوم من الخطأ غير الرسل والأنبياء؟.
ولهذا نقول له: فأين التسامح الذي امتازت به طائفته الإباضية، كما جاء في دعوى المؤلف - الفقرة الثالثة – في قوله: إن مما امتازت به عقيدة الإباضية التسامح في معاملة سائر فرق الأمة، إذ لم يتجرؤوا على إخراج أحد من الملة وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين.. الخ.
فنقول: وأي قطع لصلة الأمة أكثر من الحكم على من يدين بالشهادتين بالخلود في النار، لأنه ارتكب بعض المعاصي، مخالفين بقولكم هذا قول الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء …} [النساء: 116].
وما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولفظه: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ كررها ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر»(1).
__________
(1) البخاري /اللباس.ح(5827)، ومسلم/ الإيمان،ح(94) .(1/15)
قلت: ووجه الاستدلال بهذا الحديث، أن من مات على التوحيد غير مشرك بالله، وإن ارتكب الكبائر من المعاصي كالزنا والسرقة، فإنه لا يخلد في النار، بل مآله إلى الجنة بعد تطهيره من ذنوبه، إن لم يعفو الله عنه من أول وهلة، وعلى ذلك إجماع أهل السنة والجماعة لدلالة هذه النصوص على ذلك، وأنّه لا يخلد في النار إلا الكافر، والمشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة، والمنافق النفاق الاعتقادي الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وسيأتي مناقشة هذه المسألة عند الحديث عنها، لأن المؤلف أفردها ببحث مستقل في كتابه هذا.
ثالثاً: استدلال المؤلف الخليلي على تسامح طائفته الإباضية بقول أشهر قائد إباضي – كما يقول – وهذا القائد هو أبو حمزة المختار ابن عوف السلمي، في خطبته التي نقلها من كتاب الأغاني كما تقدم ذلك، وقد جاء في تلك الخطبة قوله: إن الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة:
مشرك بالله عابد وثن.
أو كافر من أهل الكتاب.
أو إمام جائر!
قال: وقد مشى الإباضية في هذا النهج السليم، والتزموا هذا المبدأ القويم.. الخ ما قال عنه ص: 10.(1/16)
وأقول: إن هذه الخطبة وتقرير المؤلف سَيْر الإباضية على نهجها قد أظهر عقيدة المؤلف وطائفته الإباضية في أئمة المسلمين، وهو الحكم على الإمام الجائر بالكفر، لأنه ذكر في خطبته هذه براءة الإباضية من ثلاثة أصناف من الناس، وأنهم ليسوا منهم، ومنهم الإمام الجائر حيث قرنه بالمشرك عابد الوثن، وبالكافر من أهل الكتاب، وهذا هو مذهب الخوارج، والمؤلف يبين بهذا أنه منهم، وهذه أيضاً عقيدة من اعتز بهم، وهم المعتزلة، الذين جعلوا عقيدتهم مبنية على أصول خمسة هي: التوحيد، والمراد عندهم نفي الصفات عن الله عز وجل، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراد به الخروج على أئمة المسلمين إذا جاروا وظلموا، ثم الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار، وهو أحد الأصول الخمسة المسمى بإنفاذ الوعيد، كما هو مذهب المؤلف، والمعتزلة كما هو معلوم من أصولهم وعقيدتهم تقديم العقل على نصوص الكتاب والسنة، وقد عاب المؤلف مذهب المعتزلة بقوله: إنهم أصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس وأصح وأثبت مما جاء به النبيون عن الله عز وجل، وأن طائفته الإباضية لا يأخذون إلا بالنصوص في باب العقائد ص8.
فإذا كان المؤلف الخليلي يقرر أن الإباضية مشوا على نهج أبي حمزة المختار وأنه المنهج السليم، وكما رأينا في ذلك المنهج أنه قرن بين المشرك عابد الوثن والكافر من أهل الكتاب، والجائر من أئمة المسلمين، في الحكم والبراءة من الجميع.
فنقول، للمؤلف الخليلي : فما قولك في النصوص الثابتة من السنة التي قلت: إن الاحتكام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا الرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة.(1/17)
أَفَلَسْتَ تُسَلِّم أن ما رواه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً، إن كان الأمر كذلك، ولا أظنك تخالف في هذا، فما رأيك في الأحاديث التالية التي تحدّث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أئمة الجور، حيث أمر بالسمع والطاعة لهم في المعروف وعدم الخروج عليهم.
ففي الصحيحين: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(1).
وفيهما عن ابن عباس أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية»(2).
وما رواه مسلم من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» فقلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: «لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، أَلا مَن ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة»(3). وغيرها في هذا المعنى كثير.
هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الولاة وإن جاروا وارتكبوا المعاصي؛ فإن إثم ذلك عليهم، ويجب نصحهم وإرشادهم وتذكيرهم في خاصة أنفسهم، والدعاء لهم بالصلاح؛ لما يترتب على الخروج عليهم من المفاسد العظيمة التي فيها سفك الدماء، وهتك الأعراض، أضعاف ما يحدث من جورهم ولهذا جاءت السنة بالتشديد في لزوم طاعتهم وإن جاروا، إلا أن يرتكبوا كفراً بواحاً فيه من الله برهان، ويمكن مع ذلك إزالتهم من غير ترتب مفاسد أعظم من جورهم.
__________
(1) البخاري/ الأحكام،ح(7144) و مسلم/الإمارة ح(1839).
(2) البخاري/ الأحكام،ح(7143) ومسلم/ الإمارة،ح(1849).
(3) مسلم/ الإمارة ح(1855).(1/18)
فقد روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، ففيما أخذ علينا أن بايَعنَا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان»(1).
فهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب.
يقول الإمام الطحاوي:
(ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة(2)).
وإذا كان الأمر كذلك فنقول للمؤلف الخليلي ما موقفك من هذه النصوص المتضمنة الأمر بطاعة الأئمة من ولاة الأمر وإن جاروا، وارتكبوا المعاصي؟
لا سيما وأنت قد ألزمت نفسك بالرجوع عند التنازع إلى كتاب الله، وسنة رسوله. وأن الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا الرجوع إلى سنته الصحيحة الثابتة. وقد أوردنا السنة الصحيحة من صحيحي البخاري ومسلم والتي فيها الأمر بطاعتهم وإن جاروا.
فهل المنهج السليم، والمبدأ القويم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطَبَّقَهُ أهل السنة والجماعة، للحفاظ على مصلحة الأمة وجمع كلمتها، ثم نصح الأئمة وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم وصلاح رعيتهم، كما جاء في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الدين النصيحة، ثلاثاً، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»(3)
أو ما جاء في خطبة أشهر قائد إباضي، جاء بما يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال ذلك القائد: الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة:
1-مشرك عابد وثن.
2-أو كافر من أهل الكتاب.
3-أو إمام جائر؟
__________
(1) البخاري/ الفتن/ح(7056) ومسلم/ الإمارة ح(1709).
(2) شرح الطحاوية:ص379.
(3) مسلم /الإيمان ح(55).(1/19)
فهل يصح لك بعد ثبوت السنة بطاعة الإمام الجائر، ما دام يصلي ولم يرتكب كفراً بواحاً فيه من الله برهان، أن تأخذ بقول هذا القائد الإباضي، فتتبرأ من الإمام الجائر وتجعله كعابد الوثن، والكافر من أهل الكتاب؟.
فهل هذا نهج سليم ومبدأ قويم؟ وهو يخالف صراحة هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أصح كتاب بعد كتاب الله بإجماع المسلمين أهل السنة والجماعة؟.
ولكن المؤلف الخليلي يذهب إلى أبعد من ذلك فيصدر الأحكام على غير طائفته، الأحكام التي هي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز لمسلم أن يكفّر مسلماً، أو يفسّقه أو يبدّعه بهواه، وإنما الحكم في ذلك إلى الله ورسوله للوعيد الشديد لمن قال على الله بلا علم.
فالله يقول: {ولا تقف ما ليس لك به علم …} [الإسراء:36].
ويقول: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل:116].
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لأخيه يا كافر إن لم يكن كذلك وإلا رجعت عليه» (1).
ولكن ماذا يقول المؤلف الخليلي في (ص:11)، وهو يدّعي أن الإباضية – وهم أهل الحق والاستقامة كما يقول –: (قد مشوا على قاعدة التسامح في حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقدها، قال: ولذا فلم يحكموا بشرك المشبهة وخروجهم على الملة).
قلت: وهل تعلم أيها القارئ الكريم من هم المشبهة عند المؤلف؟
إنه يقصد بالمشبهة أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه من صفات الجلال والكمال في كتابه العزيز.
__________
(1) البخاري ح(6104) ومسلم/ الإيمان ح(111) واللفظ له.(1/20)
وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تكييف، ولا تمثيل، بل على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11].
ثم إن المؤلف يخص وينص على الإمام ابن القيم من أهل السنة، الذي صارت كتبه شجى في حلوق المعطلة، ومنهم الخليلي لأن الإباضية في باب الأسماء والصفات جهمية معتزلة، وقد افتخر المؤلف بهم في هذه المسائل التي يتحدث عنها في كتابه هذا، ومنها: نفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم، والقول بخلق القرآن، وتخليد الفساق في النار، وهو يسلك في الوصول إلى ما يريد المغالطة، ولكنها بحمد الله مغالطات مكشوفة.
فمن مغالطاته أنه يجعل المعطلة من أهل السنة والجماعة في باب إثبات الصفات، الذين يسير هو وإياهم في هذا الباب على درب واحد، ويستقون من بحر أجاج واحد.
فيمثل بالصاوي، والسبكي، والكوثري، ومن سار على نهجهم، في باب تعطيل صفات الله عز وجل التي جاءت في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في تسميتهم لمن أثبتها مشبّهاً ومجسّماً.
فقد نقل عن الصاوي تعصبه للأئمة الأربعة، وقوله: إن الأخذ بظاهر القرآن والسنة أصل من أصول الكفر.
والفخر الرازي- الذي نقل عنه قوله عن كتاب التوحيد لابن خزيمة: إنه كتاب الشرك.
ثم يقول: ومع هذا - أي تسامح الإباضية في عدم تكفيرهم للمشبهة- تجد أتباع الأئمة الأربعة الذين جعلهم الصاوي مقياساً للحق من الباطل دون الكتاب والسنة يكفر بعضهم بعضا في هذه المسألة، يعني مسألة التشبيه.
ونواصل مع المؤلف ليظهر مَن المشبهة الذين يقصدهم، ومَن هم الذين حكموا عليهم بالكفر؟(1/21)
إن المؤلف يورد لنا كتب المعطلة الذين حرفوا نصوص الكتاب والسنة وسموا كتب التوحيد المشتملة على نصوص الكتاب العزيز وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الشرك، وسمو تلك النصوص من الكتاب والسنة، أدلة لفظية لا تفيد علماً ولا يثبت بها يقين. وإليك ذكر أسماء مؤلفيها التي أوردها زاعماً أن أصحابها من أهل السنة في باب الأسماء و الصفات، مع علمه أنه وإياهم في هذا الباب أبناء علات؛ عقيدتهم واحدة ومنهجهم واحد.
مدعياً أنهم يردون على المشبهة - حسب زعمه - ويكفرونهم، ويقصد بالمشبهة أهل السنة والجماعة، ولكنه ينص على ابن القيم فيقول: وناهيك بما في «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل»للعلامة السبكي الشافعي.
قلت: وهل تعلم من يقصد«بابن زفيل»إنه يقصد ابن القيم، ولهذا فقد حقق الكتاب الكوثري.
ثم يقول: و«تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم»للعلامة الكوثري الحنفي؟
قلت: وهل تعلم ما يقوله الكوثري عن كتب التوحيد كلها؟ إنه يقول: إن كل الكتب التي ألفت في صفات الله وهي تحمل اسم كتب السنة، قد حملت التجسيم، وما ينبذه العقل والشرع(1).
ثم يقول:« والبراهين الساطعة في رد البدع الشائعة» للعلامة القضاعي الشافعي وأمثالها من الحكم بإخراج هؤلاء المشبهة عن حظيرة الإسلام.
أقول: إن هذا هو الذي يقصده المؤلف- وهو تكفير ابن القيّم وإخراجه من حظيرة الإسلام، فقد نبزه بالتشبيه صراحة، وانظر قوله بأن ابن القيّم مُشَبِّه في الفقرة التالية لأنه يريد أن يضرب به هؤلاء المعطلة.
ولكنه لم يتنبّه لنفسه أنه منهم إلا بعد إيراده لقول ابن القيم، فحاول تخريج قول هؤلاء المعطلة.
يقول في ذلك:كما أن أحكام المشبهة أيضاً على الآخرين لا تقل صرامة وشدة، وناهيك بقول العلامة ابن القيم في نونيته:
إن المعطِّل بالعداوة معلن
والمشركون أخف في الكفران
__________
(1) انظر مقدمة الاعتقاد للبيهقي ص16. تحقيق/ أحمد عصام الكاتب.(1/22)
فهو يصرّح أن ابن القيم مشبّه، وقد حكم على المعطلة بأنهم أشد كفراً من المشركين.
قلت: وسيظهر لك أيها القارئ أن البيت بهذا التركيب ملفق، ولا يوجد في النونية بهذا التركيب؛ ومعلوم أن ابن القيم لم يحكم على أحد بالكفر بهواه، وإنما يحكم على من حكم الله عليه ورسوله، لأن هذا حكم شرعي.
ولما علم المؤلف الخليلي أنه معطّل مثلهم، ويشرب من حمأتهم، حاول الدفاع عنهم، وترك الحياد الذي زعمه، أن الإباضية أهل الحق والاستقامة، لم يأخذوا عقيدتهم إلا من الكتاب والسنة، ولم يكونوا كأصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا عقولهم أسمى وأقدس مما جاء به النبييون كما يقول. نسي ذلك كله، ثم قال:
وما مراده بالتعطيل الذي سلكه المعطلة، يقول – ما هو إلا رد متشابه الآي والأحاديث إلى محكمها حرصاً على التنزيه وحملاً لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما تقتضيه أساليب البلاغة في كلام العرب.
وأقول: إن هذه الأساليب المموهة والتلبيسات المصطنعة التي سلكها المؤلف لا تنفعه، ولا تغير من الحقيقة شيئاً، فهو داخل مع المعطلة الذين صرفوا كلام الله وكلام رسوله عن حقيقته، وما دل عليه من معاني أسماء الله وصفاته كما في قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180] .
فإن هؤلاء المعطلة ألحدوا في أسماء الله الحسنى وصرفوها عن حقائقها من غير دليل، لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، مخالفين بذلك منهج سلف الأمة، فقد قال هؤلاء المعطلة:
- إن كلام الله وكلام رسوله أدلة لفظية لا تفيد علماً ولا يحصل منها يقين.
- وأن آيات الصفات وأحاديثها مجازات لا حقيقة لها.
- وأن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي رواها العدول وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن.(1/23)
وقولهم: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت للوحي(1).
وبهذه القواعد الباطلة الناتجة عن العقول الفاسدة، والأهواء المضللة، تركوا كتاب الله عز وجل الذي أنزله لهداية البشرية، وإخراجها من الضلال والحيرة في عقائدها وسلوكها، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – المبينة والمفسرة لكتاب الله، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44].
وقال تعالى??{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7].
وهؤلاء المعطلة يقولون:«كلام الله وكلام رسوله لا يفيدان علماً ولا يحصل بهما يقين وإنما اليقين يدرك بالعقل».
ولا يُدرى عقل من، هل هو عقل الجهمية؟ أو المعتزلة؟ أو عقل من جمع بينهما كالإباضية؟ وهذا هو مسلك المؤلف الخليلي ومن ينقل كلامهم تلبيساً وتدليساً، وإلا فأين المتشابه في أسماء الله عز وجل وصفاته؟.
إن نصوص باب الأسماء والصفات من المحكمات الواضحات التي تلقاها الصحابة – أهل اللغة الذين نزل القرآن بلسانهم – بالقبول والتسليم، ثم بالاعتقاد والعمل، وسألوا الله عز وجل بها سؤال عبادة وسؤال مسألة، كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}[الأعراف:180].
وقد أجمع أهل السنة والجماعة أن صفات الله عز وجل من المحكم الذي يعلم معناه، كما قال الإمام مالك في صفة الاستواء على العرش: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
وإنما المتشابه هو كيفيتها لا معانيها.
ولذلك لم يثبت عن صحابي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم من أسماء الله أو عن صفة من صفاته، وما ذلك إلا لأنها محكمة واضحة الدلالة على معانيها.
__________
(1) وقد رد ابن القيم على ذلك في كتابه – «الصواعق المنزلة» من مائتين وأربعين وجهاً وبين بطلانها. وقبله ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل» وهو في أحد عشر مجلداً.(1/24)
بدليل أن الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أحرص الأمة على معرفة دينهم لا سيما ما يتعلق بعقائدهم، وبما يجب عليهم أن يعتقدوه في ربهم وخالقهم ومدبر شؤونهم، قد سألوا عن أمور أشكلت عليهم، فجاءهم الجواب عليها من الله عز وجل كما في آيات كثيرة صُدّرت بقوله تعالى: {يسألونك} كقوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر} فجاء الجواب: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما…}?[البقرة:189].
{يسألونك عن الأهلة …} فجاء الجواب: {قل هي مواقيت للناس والحج…} [البقرة:189].
{يسألونك عن اليتامى…} فجاء الجواب:{قل إصلاح لهم خير…} [البقرة:220].
{يسألونك عن المحيض} فجاء الجواب: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222].
وكما ترى فقد نزل الجواب من الله عز وجل على تلك الأسئلة، ولم تجد في كتاب الله عز وجل سؤالاً واحداً عن اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، وما ذلك إلا لوضوحها ودلالة نصوصها على معانيها.
وأما دعوى المؤلف على ابن القيم أنه يكفّر المعطلة لأسماء الله وصفاته من عند نفسه، فهي دعوى باطلة، لأن الحكم بالكفر أو الفسق أو التبديع حكم شرعي، الحكم فيه لله ولرسوله، فابن القيم لا يحكم على أحد بهواه، وإنما يحكم بالكفر على من كفّره الله ورسوله، فهو يقول ما قاله الله ورسوله فيمن رد آيات الله وسنة رسوله الصحيحة وجحدها.
وربما أن المؤلف يخشى على نفسه من حكم الله ورسوله فقد قال في ص:56: (إن حديث أبي سعيد الخدري، وحديث أبي هريرة في الصحيحين الأخذ بظاهرهما يردّه العقل ويكذّبه البرهان).
وهذه جرأة عظيمة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يردها بعقله ويكذبها بهواه.
وكما تكلّم عن ابن القيم واتّهمه بالتشبيه، فينبغي أن نعلم ما هو التشبيه وما حكم المشبه عند أهل السنة والجماعة.(1/25)
والجواب: أن التشبيه هو أن يقول القائل: لله يد كيدي وسمع كسمعي، كما تقدم عن الإمام أحمد رحمه الله(1). فمن شبّه الله بخلقه فقد كفر وهذا باتفاق أهل السنة والجماعة- وحَكَم علماء السلف عليه بالكفر لأنه ألحد في آيات الله وصرفها عن معانيها الصحيحة، فاستحق ذلك الحكم جزاءً وفاقاً.
وأما ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته وهو أعلم الخلق بربه، وأتقاهم وأخشاهم له فليس تشبيهاً.
وابن القيم لم يشبّه الله بخلقه حاشاه من ذلك وهو القائل عن المعطّل والمشّبه: ما يأتي: (المثل السادس: قلب المعطل متعلق بالعدم فهو أحقر الحقير، وقلب المشبه عابد للصنم الذي قد نُحت بالتصوير والتقدير، والموحد قلبه متعبد لمن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(2))وكما قال في النونية:
من شبّه الله العظيم بخلقه
فهو نسيب المشرك النصراني
أو عطّل الرحمن من أوصافه
فهو الكفور وليس ذا إيماني
وإنما أثبت لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال والجلال، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11] وإليك ما ذكره في مقدمة النونية، عن المعطلة والمشبهة.
__________
(1) ص8 .
(2) مقدمة النونية ص28-29 وقد عقد فصلاً للأمثال الحسان أورد تحته عشرة أمثال ضربها للمعطل والمشبه، والموحد ص33-35.الطبعة الثالثة سنة 1406هـ المكتب الإسلامي.(1/26)
فقد قال في مقدمة «النونية»:(فصل وكان من قدر الله وقضائه أن جمع مجلس المذاكرة بين مثبت للصفات والعلو وبين معطل لذلك، فاستطعم المعطل المثبت الحديث استطعام غير جائع إليه ولكن غرضه عرض بضاعته عليه، فقال له: ما تقول في القرآن ومسألة الاستواء؟ قال المثبت: نقول فيها ما قاله ربنا تبارك وتعالى، وما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم، نَصِفُ الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل نُثبت له سبحانه ما أَثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وننفي عنه النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقات، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فمن شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر) ثم قال: (...وليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهاً، فالمشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحّد يعبد إلهاً واحداً صمداً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أنّا نثبت ذاتاً لا تشبه الذوات فكذلك نقول في صفاته: إنها لا تشبه الصفات، فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا تُشبّه صفات الله بصفات المخلوقين، ولا نزيل عنه سبحانه صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين وتلقيب المفترين، كما أنا لا نبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسمية الروافض لنا نواصب، ولا نكذّب بقدر الله، ولا نجحد كمال مشيئته وقدرته لتسمية القدرية لنا مجبرة.
ولا نجحد صفات ربنا تبارك وتعالى لتسمية الجهمية والمعتزلة لنا مجسمة مشبهة حشوية، ورحمة الله على القائل:
فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته
فإني بحمد الله لها مثبت
إلى ...
فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته
لديكم فإني اليوم عبد مجسم
ورضي الله عن الشافعي حيث يقول:
إن كان رفضاً حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي
ويقول شيخ الإسلام:
إن كان نصباً حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني ناصبي(1/27)
ثم قال:
فصل
وأما القرآن فإني أقول: إنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، تكلم الله به صدقاً، وسمعه منه جبرائيل حقاً، وبلغه محمداً صلى الله عليه وسلم وحياً، وإن {كهيعص} و{حم عسق} و{الر} و{ق} و{ن} عين كلام الله حقيقة، وإن الله تكلم بالقرآن العربي الذي سمعه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وإن جميعه كلام الله، وليس قول البشر، ومن قال إنه قول البشر فقد كفر، والله يصليه سقر(1) …… الخ.
فهذا رده على المشبهة، والمجسمة، والمعطلة، فهو يحكم على من شبّه الله بخلقه بالكفر، ويبين أن ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ليس تشبيهاً ولا تجسيماً، فهو لم يتجاوز ما قاله الله في كتابه العزيز ولا ما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الثابتة عنه.
فكيف يدعي عليه الخليلي أنه مشبّه، وهذا كلامه في كتابه هذا وفي كتبه الأخرى كما حكم على ا لجاحد لصفات الله بالكفر، وهذا حكم الله على من جحد ما أخبر به عن نفسه في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.
وفي (ص13) تناول الخليلي شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال إنه سينقل عنه في مسألة الحرف والصوت نقولاً كفَّر فيها الحنابلة بعضهم بعضاً، في المبحث الثالث من هذا الكتاب.
وأقول: الصواب أنه سينقل عنه ما يدعيه – في المبحث الثاني (ص129) وسيظهر هناك تلفيقه، مما يبين للقارئ عدم ورعه وخوفه من الله، حيث يقوّل ما لم يصح نسبته لقائله، وفي هذا الكتاب الكثير من ذلك كما سنوضحه إن شاء الله، وسنؤخر هذا الذي ادعاه على شيخ الإسلام إلى موضعه من هذا الرد.
ومن تلفيق الخليلي وتدليسه البيت الذي سبق ذكره ونسبه للنونية لابن القيم وقال فيه: إنه قال في نونيته:
إن المعطل بالعداوة معلن
والمشركون أخف في الكفران
__________
(1) النونية لابن القيم (ص29-30) طبعة ثالثة سنة1406هـ المكتب الإسلامي.(1/28)
فأقول: إن هذا البيت بهذا التركيب لا يوجد في النونية، وإنما هو تلفيق من المؤلف بعد حذف وتغيير، أخذه من بيتين وكل بيت أخذ منه الشطر الأول، ولما كان آخر القصيدة من كل بيت حرف (النون) اضطر إلى الحذف والزيادة لتستقيم القافية، ولا أدري كيف يستسيغ من يدعي العلم ويتصدّر الإفتاء هذا العمل المشين المخل بالأمانة العلمية.
وإليك الموضوع ففي (ص456) من الجزء الثاني شرح النونية لابن عيسى، تحت فصل:
« في مَثَل المشرك والمعطل» أورد تحته ثلاثة وعشرين بيتاً، قارن فيها بين المعطّل والمشرك. وقال في البيتين الأخيرين منها:
والمشركون أخف في كفرانهم
وكلاهما من شيعة الشيطان
إن المعطل بالعداوة قائم
في قالب التنزيه للرحمن
فقال الخليلي – إنه جاء في النونية قول ابن القيم:
إن المعطل بالعداوة معلن
والمشركون أخف في الكفران
وهذا البيت لا يوجد في النونية كما أسلفت وإنما هو تلفيق من هذين البيتين، وحذف وتغيير، وكذب وتدليس.
وقد قال الشارح للأبيات كلها: حاصل كلام الناظم في هذا الفصل، أنه ضرب مثلاً للمشرك والمعطل، فلسان حال المعطل يقول في إلهه سبحانه: إنك لست فينا ذا سلطان لأنك لم تستو على سرير الملك، ولم تدبر أمر الملك والسلطان، ولم تكلّم ولا تتكلم، ولست بفاعل فعلاً حقيقة، بل فعلك هو المفعول، بل حالك قبل الفعل ومعه وبعده سواء، ولست داخلاً في العالم ولا خارجاً منه، بل أنت خيال في الأذهان… الخ هذه الأوصاف السلبية العدمية.
ثم قال: قوله:
هذا وثانٍ قال أنت مليكنا
وسواك لا نرضاه من سلطان
الخ الأبيات.
قال: هذا هو المشرك، أي إن المشرك قال: يا رب أنت مليكنا وخالقنا والمتصرف فينا وقد حزْتَ أوصاف الكمال جميعها … ولكن بابك لا يُغشى إلا بالشفعاء، ولابد مع ذلك من الذل للبواب والحجاب والشفعاء المقربين.(1/29)
ثم قال: أفيستوي هذا عندكم؟ حاشا وكلا بل المشركون أخف في كفرانهم والكل من شيعة الشيطان، ولكن المعطّل يزيد على المشرك بأنه قائم بالعداوة في قالب التنزيه(1)..اهـ.
ولكن إليك أيها القارئ الكريم ما هو أعجب وأغرب مما سبق، ولغرابته ومخالفته لمذهب الإباضية ومنهجهم في تشتيت وحدة الأمة والحكم على العصاة منها بالخلود في النار، فقد تعجّب المؤلف نفسه من دعواه هذه.
ففي (ص14) من المقدمة، يتألم لما بُليت به الأمة من الشقاق الذي عكس عليها ما يشاهد من آثار سلبية، فتَشتَّتت بعد الوحدة وذلّت بعد العزة … إلخ ما قال.
وفي (ص15) يقول: ولعله مما يفاجئ كثيراً من القراء أن يطلعوا لأول مرة على عناية قادة الإباضية بلمِّ شعث هذه الأمة وجمع شتاتها، بعد أن أثخنتها الخلافات المذهبية، ومزقتها النزاعات العصبية … إلخ.
هكذا يدعي المؤلف الخليلي الإباضي.
ولكن ما الذي قدّمه قادة الفكر الإباضي في مجال لمَِّ شعث الأمة الإسلامية وجمع شتاتها؟ إنه الضرر المحض، وماذا سيوجد عند طائفة ترى أن من كان على خلاف عقيدتها من الأمة الإسلامية كلهم على باطل، وأن أهل الحق والاستقامة هم الإباضية لا غير، فكم نسبة الإباضية في العالم الإسلامي؟
غير أنه لا بأس من ذكر بعض ما أورده المؤلف عن قادة الفكر الإباضي، وعدّه من الأمور التي تفاجئ كثيراً من القراء، ثم عدّه منهجاً لِلَمِّ شعث الأمة حسب رأيه.
إن حصيلة هذه المفاجأة إيراده لسؤال من أحد قادة الإباضية بجبل نفوسة بالقطر الليببي وهو الشيخ سليمان بن يحيى الباروني عضو مجلس المبعوثان بالدولة العثمانية، وقد توجه بسؤاله إلى عالم الإباضية – كما يقول – بالمشرق ومرجعهم في أمور الدين الإمام عبد الله بن حميد السالمي.
والسؤال يقع في صفحة ونصف، وخلاصته: أن من أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينها.
__________
(1) شرح النونية ج2/456-658.(1/30)
وإجابة عالم المشرق الإباضي أن جمع الأمة ممكن عقلاً ومستحيل عادة، ولكن الساعي في ذلك مصلح، وأن أوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي.
ثم يقول: وإنه ليس له مذهب إلا الإسلام، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهباً، وإنما نسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق.
فهذا السؤال والجواب عليه، هو الذي فاجأ المؤلف به قرّاءه، من أن قادة الفكر الإباضي قاموا بعمل للمِّ شعث الأمة.
وهو كما يرى القارئ لم يحمل أي حل للقضاء على أسباب الفرقة، ولم يقدم شيئاً تتجمع عليه الأمة. بل قرر أن اجتماعها والقضاء على فرقتها مستحيل، وهذا هو الضرر.
فالذي قدّمه قادة الفكر الإباضي، هو اليأس لهذه الأمة أن تجتمع كلمتها. وكيف يقول: إنهم يعملون للمِّ شعث الأمة.
ونحن نقول له: إن ما ذكره من تعدد المذاهب وتباينها هو من الأسباب؛ عندما يتعصب أتباع المذاهب لأقوال الرجال ويقدمونها على الكتاب والسنة.
كما فعل الخليلي فإنه ذو تعصب للإباضية مقيت، يتجلى في قوله الباطل: «إنهم أهل الحق والاستقامة وحدهم دون غيرهم من الأمة الإسلامية».
ومثله الصاوي الذي سبق نقل قوله: «إن الأخذ بظواهر النصوص من الكتاب والسنة من أصول الكفر وقول المؤلف الخليلي:« إن الأخذ بظاهر ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرده العقل ويكذبه البرهان».
فالتقى الخليلي والصاوي في حمأة الباطل، واشتركا في تيه الضلال، وبئس المصير والمآل.
ونحن نقول: إن جمع الأمة على الحق ممكن عقلاً وشرعاً وواقعاً، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والذي أصلح أولها تمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي» (1).
__________
(1) الموطأ، القدر ص560 ح3.(1/31)
فندعو المؤلف الخليلي إلى نبذ التعصب والرجوع إلى الكتاب والسنة، وأول ذلك في تصحيح العقيدة التي هي أساس الدين وقاعدته، ولله در القائل في شأنها.
إن العقيدة أسّ في الحياة وإن
ضاعت فكلُّ حياة بعدها عدم
نادى بها المصطفى في بدء دعوته
فحادَ عنها ذوو الإشراك فانهزموا
ولكن المؤلف الخليلي بعيد كل البعد عن الأخذ بالكتاب والسنة، ودليل ذلك كتابه هذا الذي خصصه لإنكار ثلاث مسائل عقدية خالف فيه أهل السنة والجماعة، ورد النصوص من الكتاب والسنة، وانحاز إلى الجهمية والمعتزلة والزيدية والإمامية والرافضة، وافتخر بهم بأنه وإياهم على عقيدة واحدة كما في (ص32).
حيث قال: « وذهب إلى استحالة رؤية الله تعالى أصحابنا الإباضية، وهو قول المعتزلة، والجهمية، والزيدية، والإمامية من الشيعة».
ونقول له: خيبةً لك أيها الخليلي، ولمن انتسبت إليهم، واعتززت بعقيدتهم، فهل الجهم بن صفوان، ومن أخذ بعقيدته وأفكاره يسعى للمِّ شعث الأمة؟
وبمناسبة ذكر الجهم بن صفوان الذي اغتبط الخليلي بعقيدته وفكره، فإليك أيها القارئ المحب للحق والناصر للسنة نبذة عن تاريخ حياته لتعلم إن الطيور على أشباهها تقع.
يقول الإمام الذهبي في كتابه «ميزان الاعتدال» (1/441):
«الجهم بن صفوان بن محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً».
أفكاره: نفى أن يكون لله عز وجل اسماً أو صفة، وقال بالجبر، وخلق القرآن، وغير ذلك من الأفكار المنحرفة، وقد توفي سنة 128همقتولاً.
ويقول ابن الأثير في «الكامل» (7/75) وهو يتحدث عن الجهم بن صفوان، قال: «وقد أخذ مقالته في نفي صفات الله تعالى عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ التعطيل عن أبان بن سمعان، وأخذ أبان عن طالوت، وأخذ طالوت عن خاله لبيد ابن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لبيد زنديقاً يقول بخلق التوراة».(1/32)
هذا هو إسناد الجهمية والإباضية في القول بخلق القرآن وهذه سلسلة سند الجهمية المعطلة، فهل من يأخذ عن الجهمية عقيدته، يسعى لجمع كلمة الأمة، والغريب قول عالم المشرق من الإباضية- إنه ليس له مذهب إلا الإسلام، والمؤلف – يفخر- بالجهمية، والمعتزلة والإمامية، والزيدية، وأنهم على مذهب طائفته الإباضية.
وهل هناك أشنع من عقائد هؤلاء في أسماء الله وصفاته؟.
وقد جمع المؤلف الخليلي بين عقائد هؤلاء جميعاً في كتابه هذا الذي خصّصه لنفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم.
والقول بخلق القرآن الكريم. وهو كلام الله وصفة من صفاته عند أهل السنة.
والقول بتخليد الفساق ومرتكبي المعاصي من المسلمين الموحدين في النار.وهو قول الخوارج.
وينتسب إلى – الإباضية – ويقول: إنهم أهل الحق والاستقامة.
وهو في الوقت نفسه يدّعي أنه وقادة الفكر من طائفته الإباضية يسعون لجمع كلمة المسلمين.
ولا يدري القارئ على ماذا يُريدون جمع كلمة المسلمين؟ أعَلَى عقائد الجهمية والمعتزلة والإمامية، الذين أضافوا إلى عقائدهم في نفي أسماء الله وصفاته – تكفير الصحابة؟ أم على عقائد الإباضية؟ وهم في الأسماء والصفات جهمية، وفي الصحابة نواصب نصبوا العداء لعلي بن أبي طالب وأهل البيت، وجعلوا الصحابة الذين نص الله على عدالتهم، كغيرهم من الناس يعرضونهم لقواعد الجرح والتعديل، ثم حكمهم أخيراً على عصاة المسلمين الموحدين بالخلود في النار، كما قرر ذلك المؤلف في كتابه هذا الذي نحن بصدد نقده ومناقشته، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
وحقاً أن كل ما قرّره من قضايا موضوعاتِ الكتاب مخالف لنصوص كتاب الله عز وجل ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعقيدة الطائفة الناجية المنصورة من صحابة رسول الله ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم، واهتدى بهداهم.
مناقشة موضوعات الكتاب:(1/33)
وبعد الانتهاء من مناقشة ما ورد في مقدمة الكتاب، ننتقل لموضوعات الكتاب ومناقشة القضايا الثلاث التي من أجلها ألف هذا الكتاب.
ففي (ص19-21) ذكر المؤلف الخليلي الإباضي، موضوع الكتاب، وأنه في ثلاث قضايا قال:(كان للإباضية فيها موقف لم يتفق مع رغبات أولئك الحاقدين)وهذه القضايا هي:
1-إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
2-القول بخلق القرآن.
3-اعتقاد تخليد الفساق من المسلمين في النار.
قال: (وبسبب هذا تعرض طلاب الإباضية في بلاد الإسلام وغيرها لأنواع المضايقات، وعاملوهم تلك المعاملات النكراء، مع أن الإباضية لم ينفردوا بموقفهم دون سائر طوائف الأمة، فثم الكثير من الذين رأوا في هذه القضايا رأيهم وأيدوا موقفهم كما سيتضح ذلك من خلال هذه الدراسة).
قلت: ويعني بالكثير الذين هم على رأيه وعقيدته في هذه القضايا: الجهمية، والمعتزلة، والزيدية، والإمامية الشيعة الرافضة،كما في (ص32) من كتابه هذا.
ثم قال: (على أن الإباضية في كل قضية منها – أي القضايا الثلاث- أخذوا بحُجُز النصوص القرآنية، والسنة الثابتة عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام،) قال: (وستدرك أخي القارئ – من خلال دراستك لما أقدمه إليك- أن الإباضية لم يستمدوا عقيدتهم من فلسفة اليونان وغيرها من أساطير الأولين، كما يحلو زعم ذلك للذين يهرفون بما لا يعرفون، وإنما استمدوها من أصفى ينابيع الحق، وأنوار أشعة الحقيقة، فقد احتكموا إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، عملاً بقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}) [النساء:59].
وأقول: إن المؤلف الخليلي الإباضي قد لخص في هاتين الصفحتين عقيدته، وذكر طائفته التي ينتسب إليها ويتعصب لآرائها الإباضية، ويتضح ذلك فيما يلي:
أولاً: القضايا الثلاث التي خصها بهذا الكتاب، وهي:
- إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.(1/34)
- القول بخلق القرآن.
- اعتقاد تخليد الفساق من المسلمين الموحدين في النار.
ثانياً: ادعى أن الإباضية لم تنفرد بهذا القول والاعتقاد دون سائر الطوائف، وإنما هو قول وعقيدة الجهمية والمعتزلة والزيدية والإمامية الشيعة كما في (ص32).
ثالثاً: يدعي أن الإباضية أخذوا في هذه القضايا الثلاث بحجز النصوص القرآنية والسنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: أن الإباضية لم تستمد عقيدتها من فلسفة اليونان وغيرها من أساطير الأولين كما يزعم الذين يهرفون بما لا يعرفون؛ بل أخذوا عقيدتهم من أصفى ينابيع الحق وأنوار أشعة الحقيقة، واحتكموا إلى الكتاب والسنة عملاً بقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء…} الآية.
وأقول للقارئ الكريم: إنك ستجد في المناقشة التالية لهذه الفقرات السابقة أن المؤلف الخليلي الإباضي لم يلتزم من كلامه هذا ولا بحرف واحد من كتاب الله عزَّ وجل، أو حديث واحد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال في كل ذلك بقول الجهمية والمعتزلة، ورد النصوص من صحيح البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الأخذ بظاهرها يرده العقل ويكذبه البرهان.
أليس هذا هو قول الجهمية وفلسفة اليونان؟!
وإليك مناقشة تلك الفقرات واحدة بعد أخرى بالأدلة من الكتاب والسنة كما التزم المؤلف بذلك، وكرّره أكثر من مرة في كتابه هذا تلبيساً وتدليساً، وستكون المناقشة علمية إن شاء الله وهو مطلب المؤلف.
والرجوع إلى الحق بعد ما يتبين فضيلة، ونأمل من المؤلف – الإباضي- بعد اطلاعه على ذلك، أن يعود إلى الحق المؤيد بقول الله عز وجل، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحكم لهما في باب العقيدة بل في مراتب الدين كلها وحقوقه ومكملاته.(1/35)
والمؤلف إذا عاد للحق فسينال مثل أجر من تبعه، وإن بقي على ما هو عليه فكذلك سيحمل مثل وزر من تبعه، كما صحت بذلك السنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(1).
وفي الصفحات التالية مناقشة موضوعات الكتاب والتي سماها ثلاث قضايا، قال: كان للإباضية فيها موقف لم يتفق مع رغبات أولئك الحاقدين -كما سماهم- وتلك القضايا هي:
1- إنكار رؤية المؤمنين ربهم وهم في عرصات الجنة.
2- القول بخلق القرآن.
3- اعتقاد تخليد الفساق في النار.
هذه القضايا الثلاث التي يقولها كما في ص20-21 والتي استمر في مباحثها إلى ص96. ونبدأ بمناقشة القضية الأولى كما سماها:
الجزء الأول
الرد على إنكار الخليلي
رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في الدار الآخرة
« وهي القضية الأولى »
القضية الأولى
إنكاره رؤية الله تعالى- في الآخرة (ص 35)
بدأ بذكر مدلول الرؤية لغة:
فنقل عن القاموس قوله:«الرُؤية»بالضم، إدراك المرئي. وهو على أضرب أولها:«النظر بالعين»التي هي الحاسة وما يجري مجراها.. الخ. كما نقل عن تاج العروس ولسان العرب.
قال: والخلاصة: أن الرؤية تكون بصرية، وغير بصرية، والبصرية تكون بحاسة الإبصار المعهودة، وهي العين فيما كانت فيه عين.
ثم نقل المؤلف تفسير إمامه السالمي للرؤية حيث قال: وهي اتصال شعاع الباصرة بالمرئي، أو انطباع صورة المرئي في الحدقة.
قال: وإلى هذا المعنى ذهب أكثر القائلين برؤية الله تعالى، سواء الذين أثبتوا رؤيته في الدنيا والآخرة، أو الذين أثبتوها في الآخرة، دون الدنيا، كما قال الشيباني:
ومن قال في الدنيا يراه بعينه
فذلك زنديق بغى وتمردا
ولكن يراه في الجنان عبادُه
كما جاء في الأخبار نرويه مسندا
__________
(1) مسلم / العلم ح(2674).(1/36)
وقال آخر:
ولله أبصار ترى الله جهرة
فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم
قال المؤلف: نقل ذلك ابن القيم من قصيدة في حادي الأرواح (ص:13).
قلت: ويعني به البيت الأخير وهو في (ص: 30) في الطبعة المحققة التي رجعنا إليها.
ومعلوم أن ما جاء في هذه الأبيات الثلاثة، من إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، وهم في الجنان، ونفي الرؤية في الدنيا، هو الذي يقول به أهل السنة والجماعة؛ للآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة الصريحة، في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة وهم في جنات النعيم.
وفي (ص: 27) قال: الفصل الأول.
في اختلاف الأمة في إمكان رؤية الله ووقوعها.
ثم قال:«اشتد النزاع بين طوائف الأمة في إمكان رؤيته تعالى ووقوعها فذهبت الطوائف المنتسبة إلى السنة، من: السلفية، والأشعرية، والماتريدية، والظاهرية، وغيرهم، إلى أنها ممكنة في الدنيا والآخرة، غير أن جمهورهم يثبت وقوعها في الآخرة لا في الدنيا.
قال: وذهبت طائفة إلى أنها واقعة في الدنيا والآخرة.
ثم ذهب ينقل أقوال الصوفية في ذلك» ا هـ.
وأقول: إن مذهب السلف أهل السنة والجماعة، إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الجنة للأدلة الصريحة في ذلك من الكتاب والسنة والتي سيأتي ذكرها.
وأما رؤية الله في الدنيا فهي جائزة؛ لأن موسى عليه السلام لايسأل شيئاً غير جائز، لكنها غير واقعة، لأن البشر لايطيقون ذلك لضعفهم، بدليل اندكاك الجبل الأصم فكيف بابن آدم؟ وجائزة وواقعة في الآخرة للمؤمنين لأن الله يقوّيهم ويمكنهم منها إكراماً لهم.
وما ذكره المؤلف في (ص: 29): من أقوال نقلت في رؤية الكفار والمنافقين لله في الموقف، فإنما هي أقوال على ضوء نصوص سيأتي ذكرها، وليست اضطراباً عند مثبتي الرؤية في الآخرة كما يدعي المؤلف.
ثم إن المؤلف يخلط في ردّه للرؤية، بين الصوفية، والأشعرية، والماتريدية، والظاهرية والسلفية.(1/37)
وعلى ذلك الخلط والمغالطة: فإن ردّي عليه ومناقشته، هو فيما نسبه للسلف أهل السنة والجماعة، من أئمة: كالبخاري، وأحمد بن حنبل، والشافعي، ومالك، وغيرهم من الأئمة القائلين في هذه المسائل وغيرها من مسائل العقيدة، بما جاء في كتاب الله، وثبت في سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وأقوال الصحابة، لحضورهم التنزيل وسماعهم من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد خاطبهم الله عز وجل بلغتهم، التي أنزل بها القرآن العظيم، بلسان عربي مبين.
إذ لا يصح للمؤلف أن يحمّل السلف- الذين يقصدهم برده هذا كما سيتضح فيما يأتي- قول أيّ طائفة من هذه الطوائف التي ذكرها للخلط والمغالطة للقارئ بين أقوال هذه الطوائف وقول السلف في هذه المسائل الثلاث التي فيها النقاش.
وقد عرّف العلماءُ أهلَ السنة من هم وبم يُعرفون، فقال الإمام السجزي المتوفى عام: 444هـ في رسالته لأهل زبيد فيمن أنكر الحرف والصوت. قال:
« فأهل السنة هم الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله، عن الرسول- صلى الله عليه وسلم-، أو عن أصحابه رضي الله عنهم فيما لم يثبت فيه نص في الكتاب، ولا عن الرسول- صلى الله عليه وسلم-، لأنهم رضي الله عنهم أئمة أمرنا باقتداء آثارهم، واتباع سنتهم، وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى إقامة برهان. والأخذ بالسنة واعتقادها مِمَّا لا مرية في وجوبه ».
ثم ذكر الأدلة على ذلك، منها قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}[آل عمران:31] وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»(1).
__________
(1) السنة لابن أبي عاصم ح:54.(1/38)
قال: «وإذا كان الأمر كذلك، فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف علم أنه محدِث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو يناظر في قوله...»(1).
قلت: وعلى ذلك فإن تسمية أهل هذه الطوائف «بالسنة أو أهل السنة» هو في مقابلة « الرافضة » الذين يسبون الصحابة ويكفرونهم، وفي مقابلة «الخوارج» الذين يكفرون مرتكبي المعاصي والقائلين بتخليد الفساق من المسلمين الموحدين في النار، والنواصب الذين ينصبون العداء والبغض لأهل البيت، ومن يجعل الصحابة الذين عدّلهم الله عز وجل ووعدهم جميعاً بالجنة، كغيرهم ممن جاء بعدهم فيجعلونهم مثلهم في قضية الجرح والتعديل.
وليسوا بأهل السنة في باب العقائد، كما وصفهم الإمام السجزي، وإنما هم في هذا الباب أصحاب بدع، أي في باب أسماء الله وصفاته، ومنها هذه المسائل الثلاث، فإن لبعض هذه الطوائف التي ذكرها المؤلف أقوال تخالف قول السلف.
وإليك أيها القارئ الكريم- مغالطة المؤلف الخليلي في دعواه اضطراب القائلين بإثبات الرؤية في الآخرة، وذلك بنقله لجزئية من كلام متصل بعضه ببعض، وتدليسه به على القارئ.
ثم نقله لقضية فيها أقوال حدثت بعد القرن الثالث الهجري، وجعلها في قضية متفق عليها بين أهل السنة والجماعة، بل الصحابة والتابعون مجمعون عليها.
ففي (ص:29) يقول- بعد أن نقل أقوال القائلين برؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، وقد نقل ذلك عن غلاة الصوفية، تمهيداً به لما يأتي حيث قال-: (والقائلون برؤيته تعالى في الآخرة مضطربون كذلك، فبينما أكثرهم يقولون: بأن الرؤية خاصة بالمؤمنين، إذ هي نعمة يمنّ الله بها عليهم يتضاءل معها نعيم الجنة.
__________
(1) رسالة السجزي لأهل زبيد فيمن أنكر الحرف والصوت (ص: 99) طُبع بالمجلس العلمي بالجامعة الإسلامية سنة 1413هـ.(1/39)
نجدهم يهرعون إلى الاستدلال عليها بحديث «سترون ربكم» مع أنه يقتضي أن هذه الرؤية ستكون في الموقف، وأنها غير خاصة بالمؤمنين، بل المنافقون يشاركون فيها، لأن من نصوصه: «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تعالى في صورة غير التي يعرفون» (1)).
ثم قال: (وأغرب من ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين:15].
«أن يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون»- ثم نقل قول ابن القيم في حادي الأرواح (ص: 364 -365) من أن الأحاديث الصحيحة على أن المنافقين يرونه يوم القيامة بل الكفار أيضاً كما في حديث التجلّي، ثم قال- أي ابن القيم- :وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة:
1- قول: أن لا يراه إلا المؤمنون.
2- وقول: يراه جميع أهل الموقف المؤمن والكافر ثم يحجب عنه الكفار فلا يرونه بعد ذلك.
3- وقول: يراه المنافقون دون الكفار، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.
كما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من الفتاوى المجلد السادس (ص:500-501)مثل هذه الأقوال؟ وهي عن القاضي أبي يعلى كما سيأتي توضيحها.
وذكر أنه سمع محاضرة مسجلة في شريط لأحد خطباء الجمعة المشهورين في إحدى دول الجزيرة العربية، استدل فيها على ثبوت الرؤية بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}?وكان مما قال في تفسير الآية أن« الإباضية» هم الذين يحجبون عن ربهم فلا يرونه، عندما يراه المؤمنون.
ثم قال: (هكذا ترى أيها القارئ الكريم، تضارب أقوال مثبتي الرؤية في هذه القضية حتى إنهم ينسبون إلى إمام واحد من أئمتهم أقوالاً متعارضة ومذاهب متباينة)- يقصد به الإمام أحمد-.
__________
(1) مسلم/الإيمان ح (182) .(1/40)
قال: (وناهيك بذلك شاهداً ودليلاً على ضعف القاعدة التي أسسوا عليها معتقدهم، وإلا فالحق لا يحتمل هذا الاختلاف لوضوح حجته واستقامة محجته وصدق الله إذ يقول: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام/153] أهـ) (ص:31).
وعلى هذا المنهج سار المؤلف في رده على المثبتين للرؤية يوم القيامة في جنات النعيم، وقد ظهر من نقله عن ابن كثير، وابن تيمية، وابن القيم، وقوله (وما ينسبونه إلى إمام واحد من أئمتهم) ويقصد به الإمام أحمد بن حنبل. أنه يقصد برده هذا في هذه المسائل الثلاث أهل السنة والجماعة القائلين بقول السلف المتبعين لنصوص الكتاب والسنة في هذه المسائل وغيرها من مسائل العقيدة.
أما من ورد ذكرهم من الطوائف المنتسبة للسنة وسماهم مع السلفية من أشاعرة وماتريدية وظاهرية وغيرهم كما في (ص: 27) فإنه لا يريدهم، وإنما يريد برده السلفية فقط لتصريحه بأتباعها.
وأما ما ادعاه على المثبتين للرؤية من اضطراب، فسيتضح للقارئ الكريم أن هذا الأسلوب الذي اتبعه المؤلف هو أسلوب من تبعهم من أصحاب المغالطات، الذين لا يلتزمون بنصوص الكتاب والسنة في إثبات عقائدهم.ولا يلتزمون بالأمانة والإنصاف، فيما ينقلونه عن غيرهم ممن يخالفونهم في عقائدهم التي يتبعون فيها أهواءهم، وإليك توضيح ذلك.
فالمؤلف الخليلي أخذ جزئية في موضوع الرؤية، ليست هي الأصل في القضية التي فيها الخلاف بين السلف والمخالفين لهم، ثم يورد الردود عليها من أجل مغالطة القارئ، والتلبيس عليه، وينسب لأهل السنة والجماعة أنهم مضطربون فيها.
فالمسألة هنا هي«رؤية المؤمنين ربهم وهم في جنات النعيم».(1/41)
هذه المسألة لا خلاف فيها ولا اضطراب، ولا أقوال متعددة، بل المؤمنون جميعاً على قول واحد فيها وهو إثباتها كما وردت بها النصوص من الكتاب والسنة، ويصدرون الحكم على من خالفهم فيها بما دلت عليه النصوص بعد دعوته، وإيصال الأدلة إليه إن كان جاهلاً بها، كما يُعلَّم من يجهل شرائع الإسلام لتقوم الحجة عليه بعد ذلك.
ولكن المؤلف- اقتطف جزئية من كلام طويل لشيخ الإسلام ابن تيمية من رسالة وجهها لأهل«البحرين» إجابة على سؤال وجهوه إليه، لخلاف حدث بينهم في مسألة الكفار، هل يرون ربهم أو لا؟ لا في رؤية المؤمنين ربهم.
فنقل المؤلف الخليلي الخلاف في هذه المسألة إلى رؤية المؤمنين ربهم، التي لا خلاف فيها بين السلف، تلبيساً وتدليساً وكذباً وافتراءً، وليس هذا أسلوب العالم الذي يعلم ويؤمن بأن الله عز وجل سيحاسبه على عمله هذا.
ثم ذهب ينقل ما ذكره عن ابن كثير، وابن القيم، وما هو في مذهب الإمام أحمد من أقوال في رؤية الكفار والمنافقين، وسماها اضطراباً عند مثبتي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
وهذا ليس أسلوب من يريد الوصول إلى الحق، وإنما هو أسلوب أصحاب الأهواء والمغالطات.
وإليك أيها القارئ الكريم ما يبين ويكشف هذه المغالطات، مِن قول مَن اقتطف الخليلي من أقوالهم ما يريد أن يصل به إلى الباطل، وقد ترك من النص ما يبين لك أن المؤلف مطلع على قول السلف في هذه المسألة ولكنه لا يريد الحق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، في المجلد السادس من الفتاوى الذي نقل المؤلف منه تلك الجزئية التي يريدها من (ص500- 501) والرسالة كاملة تبدأ من (ص485-508) وإليك قوله ليتضح لك مغالطة المؤلف الخليلي وخيانته العلمية، ثم دعواه الاضطراب في أقوال مثبتي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة:(1/42)
يقول شيخ الإسلام في رسالته إلى أهل (البحرين) واختلافهم في صلاة الجمعة قال: (والذي أوجب هذا، أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، وذكروا أن سبب ذلك في« رؤية الكفار ربهم» وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد، فالأمر في ذلك خفيف، وإنما المهم الذي يجب على المسلم اعتقاده: أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة، في عرصة القيامة، وبعدما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- عند العلماء بالحديث. فإنه أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر والشمس عند الظهيرة لا يضام في رؤيته).
قال: (ورؤيته سبحانه، هي أعلى مراتب نعيم الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله ومعرفتهم به.
والذي عليه جمهور السلف، أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة، فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عُرِّف ذلك، كما يُعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصرَّ على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر).
قال:( والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة قد دون العلماء فيها كتباً، مثل: «كتاب الرؤية» للدارقطني(1)، ولأبي نعيم، وللآجري(2)، وذكرها المصنفون في السنة، كابن بطة واللالكائي وابن شاهين، وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل، وحنبل بن إسحاق، والخلال، والطبراني، وغيرهم، وخرجها أصحاب الصحاح، والمسانيد، والسنن وغيرهم).اهـ
__________
(1) مطبوع، بتحقيق إبراهيم محمد العلي، وأحمد فخري سنة 1411هـ مكتبة المنار، الأردن الزرقاء
(2) مطبوع، وهو الجزء السابع من كتاب الشريعة ص 351 المسمى- بكتاب التصديق بالنظر إلى وجه الله عز وجل تحقيق محمد حامد الفقي- الناشر أنصار السنة.(1/43)
أقول: فهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر فيه أن رؤية المؤمنين ربهم في عرصة القيامة بعد ما يدخلون الجنة أمر مجمع عليه، وأنه لاخلاف بين السلف في ذلك لثبوت ذلك بالأحاديث المتواترة عند أهل الحديث، فهم أهل الشأن في ذلك.
ومثله قول ابن القيم، وابن كثير، وقبلهم الإمام أحمد رحمهم الله جميعاً.
ثم قال شيخ الإسلام بعد ذلك- وهو ما اقتطعه المؤلف الخليلي الإباضي وسماه اضطراباً عند مثبتي الرؤية-
قال: (فأما« مسألة رؤية الكفار»، فأول ما انتشر الكلام فيها، وتنازع الناس فيها- فيما بلغنا- بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، وأمسك عن الكلام في هذا قوم من العلماء، وتكلم فيها آخرون، فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال،مع أني ما علمت أن أولئك المختلفين فيها تلاعنوا ولا تهاجروا فيها، إذ في الفرق الثلاثة قوم فيهم فضل وهم أصحاب السنة) اهـ (ص: 486).
فأنت ترى أيها القارئ الكريم، أن مثبتي رؤية الله في الدار الآخرة، متفقون على أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة بعد دخولهم الجنة، على ما تواترت به الأحاديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قولاً واحداً، لا يختلفون في ذلك. بل يوجبون على كل مسلم اعتقاد ذلك،ومن لم يبلغه العلم في ذلك عُرَّف كما يُعَرَّف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم فهو كافر.
وأما الخلاف الحادث فهو في«رؤية الكفار ربهم»، ولم يحدث ذلك إلا بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، وهو الذي فيه ثلاثة أقوال، وهي أقوال في هذه المسألة وليست اضطراباً.
والمؤلف الخليلي الإباضى _المنكر لرؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، المجمع عليها بين سلف الأمة، المطلّع على كلام ابن تيمية هذا- نقل هذه الأقوال في رؤية«الكفار ربهم»إلى رؤية المؤمنين ربهم وسماه اضطراباً.
وهذا الصنيع يتنافى مع نزاهة البحث العلمي، وأمانة العلماء الصادقين في علمهم. فلماذا يختار هذه الجزئية، ويترك الأمر المتفق عليه عند السلف؟.(1/44)
وهذه الأقوال الثلاثة التي نقلها عن حادي الأرواح، موجودة في الفتاوى المجلد السادس (ص: 487) الذي نقل منه من (ص: 500- 501) كما ذكر في كتابه هنا (ص:32) ما حكاه ابن تيمية عن أبي يعلى في مسألة رؤية الكفار، وعده اضطراباً في رؤية المؤمنين تلبيساً وتدليساً، بل كذباً صريحاً، لا يقدم على فعله مؤمن، فكيف بمن يدعي العلم، ولكنه الهوى يعمي البصائر، {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}?[الحج:46].
ثانياً: و أما ما نقله المؤلف عن ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فإليك نصه: يقول ابن كثير 8/ 373: (أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجّين، ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم.
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزَّ وجل يومئذ.
قال: وهذا الذي قاله الشافعي- رحمه الله- في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة}[القيامة آية (22-23)] وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم -عز وجل- في الدار الآخرة، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنات الفاخرة.
وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمار الرازي وساق بإسناده عن الحسن في قوله: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} قال: يكشف الحجاب، فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون، وينظر إليه المؤمنون، كل يوم غدوة وعشية أو كلاماً هذا معناه(1) )أهـ قلت: ورواه ابن جرير بنفس الإسناد(2).
__________
(1) ابن كثير 8/ 373.
(2) ابن جرير 30/ 100.(1/45)
فأنت ترى، أن ابن كثير ذكر في تفسير الآية هذا الكلام الجميل الحسن عن الإمام الشافعي رحمه الله، وهو استدلاله رحمه الله بمفهوم هذه الآية على رؤية المؤمنين ربهم وخالقهم، كما دل على ذلك منطوق الآية في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} وهذا تفسير القرآن بالقرآن.
ثم أضاف ابن كثير أنَّ هذه الرؤية دلت عليها الأحاديث الصحاح المتواترة، كما أشار إلى ما روي عن الحسن أن الحجاب يُكشف فيراه المؤمنون والكافرون، ثم يُحجب الكافرون، فلا يرونه بعد ذلك، وتستمر الرؤية للمؤمنين.
فنقول للمؤلف الخليلي الإباضي: فأي اضطراب في هذا؟ وإنما هو إشارة إلى ماسبق ذكره عن شيخ الإسلام ابن تيمية، من الأقوال الثلاثة في رؤية الكفار ربهم.
أما رؤية المؤمنين ربهم في عرصات القيامة في الجنة فهذا أمر مجمع عليه عند المثبتين للرؤية، وذلك للأدلة الصريحة من القرآن الكريم، والأحاديث المتواترة كما قاله ابن كثير وغيره.
وبهذا يظهر لك أيها القارئ الكريم، أن المؤلف الخليلي الإباضي، من أجل أن يدعم رأي طائفته الإباضية في إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، يورد هذه المغالطات التي لايجوز لمسلم أن يسلكها، فضلاً عمن يدعي العلم، وذلك لأمرين:
الأول:- مراقبة الله عز وجل المطلع على الضمائر وماتخفيه الصدور، والذي سيحاسب كل إنسان بما اقترف، ومِنْ أهم ذلك أن يقول الإنسان على شخص مالم يقل.(1/46)
الثاني- أن يهيئ الله من يكشف هذه المغالطات والتلبيسات في هذه الدنيا، فيطلع الناس على قول من ينتسب إلى العلم، ثم ينسب شيئاً غير صحيح إلى الآخرين، فتنزع الثقة منه حتى عند أتباعه فلا يأمنونه، ولا يصدقونه بعد ذلك، لأن الفطر السليمة لاتقبل الكذب والافتراء على الآخرين. وقد كان أهل الجاهلية يمنعهم الحياء من الكذب على الآخرين مخافة أن يؤثر ذلك الْخُلُق الذميم عنهم، ففي صحيح البخاري كتاب بدء الوحي فتح الباري ح7 – في قصة سؤال هرقل لأبي سفيان بن حرب عن صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال أبو سفيان: «والله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه» (1).
فماذا يقول المؤلف الخليلي الإباضي في هذا الكذب الصريح؟
ولكني أذكّره بأن الله عزّ وجل بفضله وكرمه قد جعل باب التوبة مفتوحاً لمن أراد الرجوع إلى الحق، ولاشك أن المؤلف مطلع على شروط التوبة، ومنها الإقلاع، والندم، وإذا كانت المعصية علناً، فلابد أن تكون التوبة كذلك، والمؤلف يعلم أن الكذب لاسيما الافتراء على الآخرين من المعاصي، وللمؤلف رأي في حكم مرتكب المعاصي، وإن كنا نخالفه في حكمه للأدلة على ذلك، ولكن عليه أن يجتنب حكمه على نفسه، الذي حكم به على الآخرين، أو يرجع لما يقوله أهل السنة والجماعة في ذلك، وهو خير له.
وأما مايقوله المؤلف في (ص:30) أنه سمع محاضرة مسجلة في شريط لأحد خطباء الجمعة المشهورين في إحدى دول الجزيرة العربية استدل فيها بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وكان مما قال: إن الإباضية هم الذين يحجبون عن ربهم، فلا يرونه عندما يراه المؤمنون.. إلخ ما قال.
فأقول: أما أنا فلم أسمع هذا الشريط، ولكني أقول: لماذا يتأثر المؤلف بهذا وهو الذي ينفي الرؤية عن الله تعالى؟ وأنه لايراه أحد، ويقول: إن هذه عقيدة طائفته الإباضية وقد ألّف هذا الكتاب تأكيداً لنفيها.
__________
(1) البخاري/الوحي ،ح7.(1/47)
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله تعالى به في كتابه من أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وبما أخبر به رسوله- صلى الله عليه وسلم-، من إنهم سيرون ربهم.
وقد دلت النصوص على أن الجزاء من جنس العمل، فالمؤمنون بالرؤية يجازون في الآخرة من جنس عملهم، وهو حصول الرؤية لربهم وهم في جنات النعيم.
والإباضية يجازون من جنس عملهم، فقد أنكروا الرؤية وردوا النصوص الدالة عليها من الكتاب والسنة، فحرمانهم منها جزاءً وفاقاً، ولايظلم ربك أحداً، ولهذا فإني أرى أن الخطيب المذكور لم يقل إلا ما اختاره المؤلف لنفسه، ومااختارته طائفته الإباضية كذلك.
فلماذا يقول: إن الخطيب هو الذي يقول: « إن الإباضية يحجبون عن الرؤية يوم القيامة»؟ والخطيب إنما قصّ ما اختارته الإباضية لنفسها شرعة ومنهاجاً، ولم يقل شيئاً من تلقاء نفسه، والدليل على ذلك أن المؤلف قال في (ص32) (وذهب إلى استحالتها –أي الرؤية في الدنيا والآخرة- أصحابنا الإباضية وهو قول المعتزلة، والجهمية، والزيدية والإمامية من الشيعة) اهـ.
وأقول – إن عدم وقوعها في الدنيا هو مايقوله أهل السنة والجماعة، وإن الرؤية البصرية لم تثبت لأحد في الدنيا ، لا لأنها مستحيلة، وإنما لحكمة أرادها الله تعالى، ومنها ضعف طاقة الإنسان في هذه الدنيا ولو كان بشراً رسولاً، بدليل أنه تعالى تجلّى للجبل وهو أقوى بنية من موسى عليه السلام فصار دكاً، وخَرّ موسى صعقاً مما صار إليه الجبل، وموسى أفضل من الجبل، فالجبل جماد، وقد تجلّى له ربه.
أما يوم القيامة، فإن الله عزّ وجل يجعل في هذه الأجسام الضعيفة في الدنيا قوة – بإذنه تعالى – تمكنهم من النظر لوجهه الكريم، لوعده لهم بذلك والله لايخلف الميعاد. وهذا هو التغير الذي يحدث لصفات المخلوق، من كونه لايقوى على رؤية الله في الدنيا لضعف قواه وحواسه، ثم يقوى على ذلك في الآخرة بما حباه الله من القوة والكمال في دار الكمال والجمال.(1/48)
أما صفات الخالق سبحانه وتعالى، فلا تتغير ولاتتبدل، كما يتوهمه المؤلف كما في (ص:67). ومن أجل ذلك الوهم ينفي الرؤية الثابتة بالنصوص من الكتاب والسنة.
ثم إن المؤلف الخليلي الإباضي في (ص:32) ادعى أن إنكار الرؤية الذي تقوله وتعتقده الإباضية، والمعتزلة، والجهمية، والزيدية، والإمامية من الشيعة؛ هو الثابت عن سلف هذه الأمة، فنسب ذلك إلى علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعائشة أم المؤمنين، رضي الله عنهم، ثم سرد عدداً من التابعين قال: وهو مقتضى مارواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، إنه قال في قول موسى عليه السلام: «وأنا أول المؤمنين»، أنه لايراك أحد، ثم نسب لابن جرير أنه روى ذلك عن مجاهد، وابن مردويه عن ابن عمر، والحسن البصري، وعكرمة، والسدي، ولم يذكر في هذه الصفحة أين روى ذلك ابن جرير، إلا أنه ذكر الآية وهي قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار}ا.هـ.
والجواب على مانسبه المؤلف الخليلي إلى السلف من أوجه:
الأول: أن المؤلف –يصرح أن إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في عرصات الجنة هو مذهب طائفته الإباضية والمعتزلة والجهمية.. إلخ من ذكرهم من هذه الطوائف البعيدة عن الكتاب والسنة، بل المحاربة لهما، إذ لم يحدُث أن تفرقت الأمة الإسلامية إلى فرق يكفّر بعضها بعضاً، ويضلّلها ويبدّعها، مما شتت شمل الأمة، إلا بعد أن دخلت هذه الفرق الضالة المضلة، باسم الإسلام مع المسلمين، ليحتموا بهذه النسبة، وقد سبق (ص38): ترجمة الجهم بن صفون، المؤسس لمذهب الجهمية المنسوبة إليه، وبيان مذهبه، وممن أخذ أفكاره التي نشرها بين الأمة الإسلامية، فقد نفى أسماء الله عز وجل وصفاته، وقال بالجبر، وخلق القرآن، ونفى رؤية الله عز وجل في الآخرة، وغير ذلك من الأفكار المنحرفة.(1/49)
وذكر ابن الأثير في الكامل 7/75 وهو يتحدث عن الجهم قال: وقد أَخَذَ مقالته في نفي صفات الله عن الجعد بن درهم، والجعد أَخَذَ التعطيل عن أبان بن سمعان وأخذ أبان عن طالوت، وأخذ طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لبيد زنديقاً يقول بخلق التوراة(1).
فنقول للمؤلف:
أولاً- هذه سلسلة سند المعطلّة الجهمية، فهل ترضى لنفسك ولطائفتك الإباضية أن تكونوا في صف الجهمية الذين أخذوا عقائدهم عن اليهود أعداء هذا الدين، الذين وصفهم الله بالإفساد في الأرض، ولما عجزوا عن مواجهة الإسلام بالسيف، لجؤوا للكيد له، بأن دخل بعضهم في الإسلام نفاقاً كما فعل (عبدالله بن سبأ) الذي أسس عقائد الإمامية، في الرفض وتكفير الصحابة، ودعوى تحريف القرآن، ثم ختموا عقائدهم بعقائد الجهمية والاعتزال، ومنها إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، والقول بخلق القرآن، وقد حمل بشر المريسي لواء الجهمية في ذلك، والمعتزلة هم المنكرون للرؤية، وقد ألّف القاضي عبد الجبار المعتزلي مجلداً خاصاً بنفي الرؤية، وهو المجلد الرابع من كتابه المسمى «المغني في أبواب التوحيد والعدل ».
__________
(1) جاء في صحيح البخاري في الطب-/10/221 باب السحر ح 5763: لبيد بن الأعصم وح 5765 وفيه: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقاً. قال ابن حجر في فتح الباري 10/226: وفي رواية مسلم: سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – يهودي من يهود بني زريق، قال: ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى مافي نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقاً نظر إلى ظاهر أمره.. إلخ.(1/50)
وكل فصوله تدور على الفلسفة والمنطق، وليس لها صلة بكتاب الله الذي أنزله الله على رسوله ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومنها ظلمات أصحاب الفلسفة والمنطق الذين ضلوا في عقائدهم قبل ظهور الإسلام، ولهذا قال طاوس في وصف هؤلاء: « أصحاب المراء والمقاييس لايزال بهم المراء والمقاييس حتى يجحدوا الرؤية ويخالفوا السنة»(1).
كما أنه لا صلة لها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة والشارحة لكتاب الله عز وجل، ومع ذلك فإن المؤلف الخليلي يفخر بالانتساب إلى هؤلاء، وفي الوقت نفسه يدعي أن الإباضية لم يأخذوا عقائدهم من الفلسفة والمنطق، ولا من أصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس وأصح وأثبت مما جاء به النبيون كما قال ذلك في (ص:8).
ومما نضيفه إلى معلومات الخليلي هو أن أهل السنة والجماعة، حكموا على الجهم بن صفوان -لأفكاره الضالة، وإنكاره أن يكون لله عزّ وجلَّ اسماً أو صفة -بالكفر(2).
ثانياً- إن مانسبه المؤلف الخليلي للسلف من أن مذهبهم هو مذهبه ومذهب الجهمية، وقد ذكر أسماء عدد من الصحابة كعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وعدد من التابعين كما تقدم وهو في (ص:32) من كتابه هذا، كذب عليهم، وسنوضح ذلك بالروايات الثابتة عنهم.
ثم إن ذكره لهم بهذا الأسلوب هو لتضليل القارئ، وهو الذي سيرتب عليه قولاً في (ص:42) ينسبه إلى ابن عباس كذباً، بأنه نفى الرؤية البصرية في الدنيا والآخرة.
فإضافة كلمة (الآخرة) إلى ابن عباس افتراء عليه.
ثم إن الذين سرد أسماءهم في (ص:32) من الصحابة ونسب إليهم نفي الرؤية البصرية في الآخرة كذب عليهم.
__________
(1) اللالكائي شرح الاعتقاد رقم 868.
(2) الرد على الجهمية للإمام الدارمي/ باب الاحتجاج في إكفار الجهمية (ص:171).(1/51)
وإنما نفوا الرؤية البصرية في الدنيا، ولم يذكر واحد منهم نفي الرؤية في الآخرة، ونفي الرؤية في الدنيا هو مذهب أهل السنة والجماعة، لاخلاف في ذلك بينهم، والخلاف الذي حدث في زمن الصحابة انتهى وقد كان منحصراً هل رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج أو لا؟ وأصبح مآل الخلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الأمة وسيدهم لم يرَ ربه بعيني البصر، بل رآه بقلبه.
وهنا سأورد قليلاً من الروايات عن بعض مَن ذكر الخليلي أسماءهم من الصحابة الذين رُوي عنهم إثبات الرؤية، وسوف أورد جميع الروايات عند ذكر الأدلة من السنة، وما ذلك إلا ليعلم القراء المحبون للحق وأهله مدى افتراء الخليلي على الصحابة وغيرهم من التابعين، وإليك تلك الروايات:
1- روى ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار} عن ابن عباس، قال: لايحيط بصرُ أحد بالمَلِك.
وعن عطية العوفي في قوله: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة} قال: هم ينظرون إلى الله لاتحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم.
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عمي محمد بن الأشعث، حدثنا ابن جبير، قال: حدثني أبي جبير عن الحسن، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى في كل يوم جمعة في رمال الكافور»(1).
2- حديث علي بن أبي طالب مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرون أهل الجنة الرب تبارك وتعالى في كل جمعة، وذكر مايعطون، قال: ثم يقول الله تبارك وتعالى: اكشفوا حجاباً، فيكشف حجاب ثم حجاب، ثم يتجلى لهم تبارك وتعالى عن وجهه فكأنهم لم يروا نعمة قبل ذلك، وهو قوله تبارك وتعالى: {ولدينا مزيد}(2)».
__________
(1) حادي الأرواح (407).
(2) المعرفة والتاريخ، ليعقوب الفسوي 3/395.(1/52)
3- حديث عبد الله بن عمر، رواه الترمذي بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة…» إلى قوله: « وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه الله تبارك وتعالى كل يوم مرتين».
ولما كان المؤلف الخليلي الإباضي، يعلم أن أهل السنة والجماعة الذين يعنيهم بالرد، وقد وصفهم بأنهم مشبهة، وأنهم متفقون على نفي وقوع الرؤية في الدنيا، وهو يورد هذا الكلام المموّه على القراء بنسبة نفي الرؤية إلى السلف، والسلف لايقصدون إلا نفي الرؤية البصرية في الدنيا لافي الآخرة، أتبع ذلك بفصل في (ص:33) بعنوان: (أدلة المثبتين).
قال: (وهي تنقسم إلى قسمين):
أدلة جوازها، وأدلة وقوعها.
ثم قال: فأما القسم الأول، فمنه عقلي، ومنه نقلي.
أما العقلي فيتلخص في قياس وجود الحق على وجود الخلق.
وذلك أنهم قالوا: إن سائر الموجودات مشتركة في جواز الرؤية عليها، وبما أن الله موجود أيضاً فإن رؤيته ممكنة.
ثم استمر في مناقشة هذه الدعوى، وإلزام القائلين بها بأن هناك موجودات وهي لاترى كالروح والعقل. قال: وكذلك الله موجود ولكن لا يُرى.اهـ.
والجواب على ذلك:
أن دعواه على أهل السنة والجماعة المثبتين لرؤية الله عز وجل يوم القيامة في دار النعيم – وأعني بالمثبتين سلف هذه الأمة وأتباعهم- أنهم يقيسون وجود الحق على الخلق، كذب وافتراء على السلف، من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان وحاشاهم من ذلك، لأن من قاس الخالق على المخلوق فقد كفر، وذلك عين تشبيه الخالق بالمخلوق الذي سبق حكمه.
وإنما هم يثبتون رؤية المؤمنين لربهم عز وجل بالنصوص الصريحة من كتاب الله عز وجل، والنصوص الصحيحة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/53)
ولكن المؤلف الخليلي الإباضي، ينقل كلام المتكلمين، ومن نحا منحاهم في تقديم العقل على النقل، وجعله أصلاً، ثم ينسب ذلك إلى السلف، الذين يلقبهم بالمشبهة، لأنهم أثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله في سنته، وهو يدعي أنه الأعلم بالله والأتقى له.
والدعاوى إن لم تكن عليها
بينات أصحابها أدعياء
ومما يدل على افترائه عليهم، أنه لم يذكر لقوله هذا مرجعاً واحداً من كتب السلف أهل السنة والجماعة، وإنما ذكر مرجعاً لإمامه الإباضي السالمي من كتابه مشارق الأنوار(ص187ط2) ذكر ذلك في حاشية (ص:32) من كتابه هذا، وكيف يأخذ حجته على دعواه من كتب أئمته الذين هو وإياهم على عقيدة واحدة؟
وإليك ما يبين بطلان قوله من كتب أهل السنة الذين يلقبهم بالمشبهة، أسوة بكل عدو لدود، ومنحرف عن سنن الحق حسود.
أخرج الإمام ابن منده في كتاب التوحيد بإسناده عن أبي يوسف القاضي(1) أنه قال:« ليس التوحيد بالقياس؛ ألم تسمع إلى قول الله عز وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنه عالم، قادر، قوي، ولم يقل: إني قادر عالم لعلة كذا، أقدر بسبب كذا أعلم وبهذا المعنى أملك، فلذلك لايجوز القياس في التوحيد ولايعرف إلا بأسمائه، ولا يوصف إلا بصفاته..» إلى أن قال رحمه الله:« فقد أمرنا الله أن نوحّده وليس التوحيد بالقياس، لأن القياس يكون في شيء له شبه ومثل، فالله تعالى وتقدس لاشبه له ولامثل له، تبارك الله أحسن الخالقين»، ثم قال: «وكيف يدرك التوحيد بالقياس وهو خالق الخلق بخلاف الخلق؟ ليس كمثله شيء تبارك وتعالى، وقد أمرك الله عز وجل أن تؤمن بكل ماأتى به نبيّه – صلى الله عليه وسلم- فقال: {ياأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لاإله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه لعلكم تهتدون}. [الأعراف:158].
__________
(1) ترجمة أبي يوسف القاضي. سير أعلام النبلاء 8/470.(1/54)
فقد أمرك الله عز وجل بأن تكون تابعاً سامعاً مطيعاً، ولو يوسع على الأمة التماس التوحيد وابتغاء الإيمان برأيه وقياسه وهواه إذاً لضلوا، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {ولو اتّبع الحقُّ أهواءَهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون:71] فافهم مافسر به ذلك (1)» اهـ.
وهو كلام طويل نفيس فيه رد على الملحدين في الربوبية وفي الأسماء والصفات.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في أول رسالة العقيدة الواسطية:« ولايقاس بخلقه سبحانه فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه».
ونحن نطالب المؤلف أن يسمي واحداً من أهل السنة والجماعة قال بقياس الله بخلقه فكتبهم موجودة، وأقوالهم محفوظة، وتلك أقوال بعضهم ذكرناها ليتبين للقارئ زيف دعوى المؤلف على أهل السنة والجماعة.
وفي (ص:24) قال: (وأما النقلي، فبعضه من الكتاب، وبعضه من السنة.
قال: فأما من الكتاب فدليلان:
1- سؤال موسى الكليم عليه السلام الرؤية بقوله: {ربِّ أرني أنظر إليك}.
2- قول الله سبحانه: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني} [ الأعراف:134]).
ثم قال: (وجه استدلالهم به: أن موسى عليه السلام نبي ولايجوز عليه أن يسأل الله المستحيل، فلما كان عالماً بجوازها، اجترأ على سؤالها، ووجه الاستدلال بالشطر الثاني: أنه علّق الرؤية على استقرار الجبل، وهو في ذاته ممكن، والمعلق على الممكن ممكن مثله).
__________
(1) كتاب التوحيد، لابن منده 3/304-306.(1/55)
هكذا حرر استدلال المثبتين للرؤية بسؤال موسى، كما في (ص:34،39) ثم بدأ بالرد عليه فقال: (وأجيب على أن موسى عليه السلام كان عارفاً باستحالتها، ولم يرد بسؤالها نيل المستحيل، وإنما أراد ردع قومه الذين لجّوا في طلبها، وعلّقوا عليها إيمانهم برسالته، فلعلهم عندما يُقرعون بالرد الحاسم باستحالتها يرعوون عن غيِّهم، ويتراجعون عن جرأتهم، خصوصاً عندما يقترن الرد بآية تزجرهم عن مثل هذا التعنت).ثم أورد آيات منها قول بني إسرائيل لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55]. وقوله تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} [النساء:153]. وقوله تعالى: {ربِّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك…} [ الأعراف:155].
وفي (ص:36) قال: (والخلاصة:أن موسى عليه السلام ماسأل الله الرؤية طامعاً في حصولها وإنما سألها ليكون سؤاله وسيلة من وسائل الإقناع الذي يحرص عليه، وأسلوباً من أساليب الدعوة التي يقوم بها). قال:(ومثله إبراهيم عليه السلام في محاجته مع قومه)(ص37-38).
الرد على افتراء المؤلف على نبي الله موسى عليه السلام
وزعمه أن سؤال رؤية الله فكرة يهودية، ودحضها
إن المؤلف الخليلي الإباضي قد تعمد في كلامه هذا التمويه والمغالطات والقول على نبي الله موسى عليه السلام بلا علم.
وغرضه من ذلك التّلبيس والتشويش على قراء كتابه الذين لايدركون تلك المغالطات المتعمدة، إما لعدم معلوماتهم في مجال العقيدة، وفهم أساليب هؤلاء التي يضللون بها من لايعرف مناهجهم.
أو من الإباضية المقلدين لرؤسائهم بغضّ النظر عن الأدلة الدالة على بطلان مايدعيه المؤلف من كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الصحيحة الموضحة لبطلان قوله ومخالفته للنصوص الصريحة.
وإليك الجواب المفصل على تلك المغالطات:(1/56)
فنقول: إن موسى عليه السلام سأل ربّه عز وجل الرؤية طمعاً في الحصول عليها، لأن سؤاله ربه لينظر إليه جاء في حال الاصطفاء والتكريم من الله عز وجل للكليم موسى عليه السلام، الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه له من غير واسطة، وليس لذلك السؤال من موسى عليه السلام صلةً بتعنت بني إسرائيل في سؤالهم موسى أن يريهم الله جهرة، لأن أسئلتهم تلك جاءت في آيات أخر سبقت في مناسبات وملابسات سيأتي تبيانها قريباً.
وإليك سياق الآيات الدالة على أن سؤال موسى في مقام التكريم له من ربه.
قال تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولاتتبع سبيل المفسدين، ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربُّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}.[الأعراف:142-143].
فأهل العقول السليمة الباقية على فطرتها، والتي لم تلوثها حثالة الأفكار الدخيلة المنحرفة التي أدخلها أعداء هذا الدين وتبنتها الجهمية والمعتزلة، واحتضنتها الإباضية ممثلة في زعمائها، ترى وتعقل صراحة الآية الكريمة في أن موسى عليه السلام جاء على وعد من ربّه عز وجل، فكلّمه الله عزّ وجلَّ مباشرة دون واسطة المَلَك، وهذه من الخصائص التي خص الله بها نبيه موسى عليه السلام، كما كتب له التوراة بيده، كما ثبت في حديث الصحيحين في محاجة آدم وموسى عليهما السلام.(1/57)
فلما سمع موسى عليه السلام كلام ربه وهو في مقام التكريم والتشريف والاصطفاء، وأيُّ تكريم أعظم من أن يكلمه ربُّه مشافهة دون واسطة، وعند ذلك طمع موسى عليه السلام في المزيد من هذا الفضل، فسأل ربه بقوله: {ربّ أرني أنظر إليك}، ولكن الله عز وجل لعلمه بحال خلقه وضعفهم كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]، ولحكمته البالغة، وأن مناط الإيمان في الدنيا الإيمان بالغيب، قضى في هذه الدنيا أن لايراه أحد من البشر، لا لأن الرؤية له عز وجل مستحيلة كما يدعي الخليلي الإباضي وسلفه الجهمية، وإنما لضعف بُنْية موسى عليه السلام؛ بدليل أنه تعالى في الوقت نفسه تجلّى لبعض مخلوقاته وهو الجبل الجماد الأعظم بنيةً من موسى، فصار الجبل دكاً، فلم يقوَ ولم يثبت لذلك التجلي، وموسى عليه السلام رأى تلك الآثار التي أحدثها تجلّي الله عز وجل للجبل، فَخَرَّ مغشياً عليه.
فبين بذلك الحكمة البالغة التي يعلمها من حال خلقه وأنهم في حال ضعفهم في هذه الدنيا لايقوون على الرؤية، قضاء من الله العليم الحكيم، وأن موسى عليه السلام لايقوى على تحمل هذه الرؤية في الحياة الدنيا، ولذا قال له: {لن تراني} يعني في هذه الدنيا.
وأما في الآخرة في دار النعيم في الجنة، فقد دلّت الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي بلغت حدّ التواتر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وهم في الجنة دار النعيم، وفي مقدمتهم الرسل الكرام، وسيأتي ذكر شيء من النصوص في هذا الباب في موضعه.(1/58)
ولامانع من أن أواصل مع المؤلف الحديث في معنى آية الأعراف الكريمة، فأقول: حقاً إن سؤال موسى عليه السلام ربه الرؤية لا صلة له بتعنّت بني إسرائيل؛ لأن المقام مقام اصطفاء وتكريم، لا مقام تعنّت وعناد من بني إسرائيل لموسى، كما يلبّس المؤلف؛ بدليل أنه لما أفاق عليه السلام من غشيته حينما تجلّى ربُّه للجبل فجعله دكاً، وخر موسى صعقاً قال:{ سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} فقال الله له بعد ذلك مباشرة: { ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين. وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأُريكم دار الفاسقين} [الأعراف: 144-145].
وهذا ما رواه ابن جرير في تفسير الآية قال:(كان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه، ماحدثني به موسى بن هارون، ثم ساق إسناده إلى السدي قال: إن موسى عليه السلام لما كلّمه ربُّه أحبَّ أن ينظر إليه: {قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني …} الآية).
ثم ساق بإسناده عن الربيع في قوله: {وقربناه نجياً}. قال: (حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرّبه الرَّبُ حتى سمع صريف القلم فقال عند ذلك من الشوق إليه: {ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل}.
وروى بإسناده عن أبي بكر الهذلي قال: (لما تخلّف موسى عليه السلام بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله، اشتاق إلى النظر إليه فقال: {ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني} (وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا..) .
وروى عن ابن حميد بإسناده عن أبي إسحاق، قال:(استخلف موسى هارون على بني إسرائيل وقال: إني متعجل إلى ربي، فاخلفني في قومي ولاتتبع سبيل المفسدين… فلما كلّم الله موسى، طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه فقال الله لموسى: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} (1). [الأعراف:143].
__________
(1) تفسير ابن جرير 9/49-50.(1/59)
فهذا ما أورده ابن جرير في بيان سبب سؤال موسى ربّه أن يراه، وقد اطلّع عليه المؤلف الخليلي الإباضي، وإذا كان الأمر كذلك فيحق لي أن أقول له:
أين في هذا المقام سؤال بني إسرائيل لموسى أن يريهم الله جهرة، كما أوردت تلك الآيات، التي وردت في مقامات أخرى، بيّن الله فيها تلك المواقف التي وقف فيها بنو إسرائيل مع نبيهم عليه السلام من التعنت وسوء الأدب مع نبي الله موسى عليه السلام، ومع أخيه هارون حتى عبدوا العجل، وعليه فإنك أيها الخليلي: لاتريد بإيراد تلك الآيات إلا التلبيس والتدليس، وإلا فأنت تعلم من أقوال المفسرين أن ماورد في تلك الآيات هو النهي عن أسئلة التعنّت التي كان يوجه مثلها اليهود إلى موسى عليه السلام، نعم تعلم ذلك ولكن الهوى وحب التضليل يصدان صاحبهما عن سواء السبيل.
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} [البقرة:55].
(قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية: {… جهرة} قال: علانية. وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} أي علانية، أي حتى نرى الله.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه.
قال: فسمعوا كلاماً، فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}، قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول: ماتوا.(1/60)
وقال السدي:« {فأخذتكم الصاعقة} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربِّ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} [ الأعراف:155] فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا، رجل رجل، ينظر بعضهم إلى بعض، كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون}» [ البقرة آية:65].
ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرةً فأخذتهم الصاعقة بظلمهم…} [ النساء:153].
يقول: (وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم-:إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى موسى عليه السلام؟!، فأنزل الله عليه: {يسألك أهل الكتاب …} الآية.
وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكّم واقتراح، لاسؤال انقياد، والله تعالى لاينزل الآيات على اقتراح العباد.
ثم قال الله: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} أي: أعظم من ذلك، يعني: السبعين الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل، {فقالوا أرنا الله جهرة} أي، عياناً. قال أبو عبيدة: معناه قالوا جهرة أرنا الله) (1).
وهذا ظاهر وواضح لمن أنار الله بصيرته، أنه سؤال تعنت من السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام كما في قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء}[الأعراف:155].
فعاقبهم الله عز وجل على ذلك كما في قوله: {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم..} [ النساء:153]. وهي الرجفة التي جاء ذكرها في آية سورة الأعراف.
__________
(1) تفسير البغوي 1/495.(1/61)
فسؤال اليهود لموسى رؤية الله في الدنيا هو من باب التحدي للرسل، وعدم الإيمان بما أخبرهم موسى به، إلا بشرط أن يريهم الله جهرة: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [ البقرة: 55] والمطلوب منهم الإيمان بالغيب، وتصديق الرسل، لأنهم إذا رأوا الله تعالى في الدنيا لم يكن إيمانهم به إيماناً بالغيب، ولاتصديقاً للرسل فيما جاؤوا به.
وبهذا يتضح للقارئ الكريم، أنه لاصلة بين سؤال موسى عليه السلام ربّه الرؤية وبين تعنت بني إسرائيل في طلبهم من موسى أن يريهم الله جهرة كي يؤمنوا به، والحق أن موسى عليه السلام إنما سأل ربه الرؤية طمعاً في الحصول عليها وشوقاً إلى النظر إلى الله عز وجل، لما سمع كلامه، كما سبق نقل ذلك في الصفحات السابقة عن ابن جرير، حيث نص على سبب سؤال موسى ربه، وقد سأل موسى ربه أمراً ممكناً وجائزاً وأنه غير مستحيل -كما يدعي المؤلف أن موسى يعلم استحالتها، وقد سأله مع علمه بذلك.
قلت: وهذه الدعوى من جملة افتراءاته على من أنزل الله عليه التوراة، وأيد بالآيات المعجزات فهذا افتراء عليه، عليه السلام.
قال أبو العالية:« لما رأى موسى ذلك وأفاق، عرف أنه سأل أمراً لاينبغي له فقال: {سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}، عَنَى أنّي أول من آمن بك أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة(1)».
كما أن سؤال رؤية الله عز وجل في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم كما قال الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -:«أنرى ربنا يوم القيامة؟ قال: نعم …» إلخ.
ليس من جنس سؤال اليهود رؤية الله في الدنيا.
فإن سؤال الصحابة مشروع، وسؤال اليهود ممنوع.
__________
(1) تفسير ابن جرير 9/55.(1/62)
وقد سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعائه ربّه النظر إلى وجهه الكريم؛ كما روى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم، إنه كان يقول في دعائه: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق؛ أحيني ماعلمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرّة، ولافتنة مضلة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين»(1).
ونقول للخليلي: الإباضي: هل الرسول طلب من الله مايجوز له طلبه، أو اعتدى في دعائه، كاعتداء اليهود لما طلبوا أن يروا الله جهرةً؟.
فإن قلت بالأولى: أنصفت وهدمت باطلك، وهو جدير بالهدم.
وإن قلت بالثانية: فقد كابرت وغامرت، وركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}[الشعراء:227].
أما نفي حصول الرؤية في الدنيا لموسى عليه السلام وغيره من البشر فهو أمر مجمع عليه عند أهل السنة من سلف هذه الأمة، لأن الخلاف الذي حدث في عهد الصحابة، بين قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في نفيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة الإسراء والمعراج، وما روي عن ابن عباس في إثباتها، قد تكلم العلماء في ذلك، فبينوا أن الرؤية في حديث ابن عباس المقصود بها الرؤية القلبية، والمنفي في رواية عائشة الرؤية البصرية، وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، لحديث أبي ذر في صحيح مسلم وفيه: «هل رأيت ربك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نور أنّى أراه؟»(2).
وقد طُوي ذلك الخلاف وحلّ محله الاتفاق على أن رؤية الله في الحياة الدنيا غير ممكنة، ولو كان المتطلع إليها نبياً رسولاً.
__________
(1) النسائي 3/54،55 وأحمد 4/364 وإسناده جيد.
(2) مسلم/ الإيمان، ح(178).(1/63)
ولكن المؤلف الخليلي الإباضي يتعمد الغش والمغالطة لقرائه ويموّه عليهم محاولاً حجب الشمس بعباءته ليحمل وزره ووزر من أضلهم بغير علم، إن لم يتب إلى الله قبل الغرغرة ثم الانتقال إلى الله.
ومن مغالطاته المكشوفة: أنه يورد الأدلة من السنة التي فيها التصريح بنفي الرؤية لله في الدنيا، ويجعلها أدلة عامة في نفي الرؤية في الدنيا والآخرة.
ولهذا يقول:( إن نفي الرؤية قد وردت الأحاديث به في صحيحي البخاري ومسلم وفي مسند الإمام الربيع بن حبيب) .
يقول ذلك في (ص:40 سطر9،10)
ونسب ذلك إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تنفي حصول الرؤية في الدنيا، وإليك أولاً نص هذه المغالطة، ثم الرد عليها بالأدلة الصريحة:
يقول في (ص:39-40) وهو يتحدث عن أدلة المثبتين النقلية والتي تدل على جوازها بعد أن ذكر الأدلة من القرآن، حسب مايرى هو ويختار.
قال:(وأما من السنة: يعني من الأدلة النقلية لأهل السنة في إثبات جواز الرؤية، فما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج).
قال:(ووجه استدلالهم بذلك على إمكان الرؤية، أنها لو لم تكن ممكنة لما قال بوقوعها أحد من الصحابة، وهم أوفر عقلاً وأغزر علماً..) إلخ، إلى أن قال: (ووجه اعتبار هذا الدليل من السنة، أنهم رضي الله عنهم لايقولون شيئاً من نحو هذا اعتباطاً ولكن استناداً إلى ماعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا قول المؤلف: ثم يتبعه بالرد عليه، وردّه هو دليل أهل السنة على أن الرؤية لم تثبت لأحد من البشر في هذه الدنيا، وقبل بيان وجه المغالطة في ذلك نسأل المؤلف:
أولاً: من قال هذا من أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة المثبتين للرؤية ممن تسميّهم (حشوية) وتصفهم بالمشبّهة والمجسمة؟، مع ذكر المراجع التي اعتمدت عليها في نقل ماتدعي.(1/64)
ثانياً: إن ما أوردته، هو دعواك أن جماعة من الصحابة قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء والمعراج.
ثم ذهبت توهم القارئ أنك ترد على هؤلاء الجماعة من الصحابة.
ونحن نقول لك: إن هذه الرؤية البصرية التي حدث فيها الخلاف بين بعض الصحابة قد انتهى الخلاف فيها عند أهل السنة والجماعة: الصحابة ومن تبعهم وسار على منهجهم؛ فقد جمعوا بين الروايات، فحملوا حديث ابن عباس الذي فيه قوله: إن محمداً رأى ربه، وفي رواية: رآه بفؤاده مرتين، على الرؤية القلبية، وحملت رواية أم المؤمنين التي فيها نفي الرؤية على الرؤية البصرية، وهذا أمر مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة من أن الرؤية البصرية لم تثبت لبشر في الدنيا، كما أسلفت ذلك قريباً.
أما جوازها وأنها غير مستحيلة، فقد سبق الحديث عنه في سؤال موسى عليه السلام ربه، ونقلنا ماذكره ابن جرير في بيان سبب سؤال موسى عليه السلام ربه الرؤية، ولاحاجة لإعادته.
لكن المؤلف حتى يوهم القارئ؛ يورد أدلة من السنة على نفي الرؤية في الدنيا، وهي رد عليه، ثم يدعي أن بعض الصحابة قال: بالرؤية في الدنيا وأنها إذا كانت ممكنة في الدنيا فكذلك في الآخرة، مدّعياً أن هذا دليل أهل السنة في جواز إمكانها، ثم يرد على هذا الاستدلال، وأن الرؤية لم تقع في الدنيا، فكذلك في الآخرة.
وهذا الاستدلال لاحجة له فيه، لأن أهل السنة المثبتين للرؤية لربهم يوم القيامة في دار كرامته لم يحتجوا بهذا الحديث على الرؤية في الآخرة، وإنما احتجوا به على نفي وقوع الرؤية في الدنيا.
أما رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، فقد أوردوا الأدلة على ذلك من كتاب الله العزيز، والأحاديث الصحيحة من الصحيحين وغيرها التي بلغت حدّ التواتر وسيأتي ذكرها.
والمؤلف الخليلي الإباضي قد اطلع عليها، ثم أورد بعضها، وردها بتأويلاته الباطلة المردودة.(1/65)
فقد جاء في (ص:42) قوله:(وأما القسم الثاني: وهو أدلة وقوعها في الآخرة أي عند المثبتين – فهي نقول بعضها من الكتاب وبعضها من السنة).
قلت: أَنْعِم بتلك الأدلة مادامت نقولاً من الكتاب والسنة، وبأي شيء تثبت العقيدة، إذا تركنا النقول من كتاب ربنا، وسنة نبينا التي أخرجنا الله بها من ظلمات الكفر والشرك، والظلم والجور، إلى نور الإسلام وعدله.
وقد قررت وكررت أيها الإباضي في هذا الكتاب المسمى بالحق الدامغ وهو سمّ ناقع – قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59].
وقلت: (ولايكون الاحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه فتُستلهمُ منه الحقيقة، ويُستبانُ به الحق، وكذلك الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لايعني إلا الرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة).
وما جاء قبل ذلك من الحثّ على الاعتصام بحبل الله جميعاً كما في (ص:6).
ونقول: ماأجمل هذه الدعوة، فلقد تواترت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على وجوب جمع الكلمة وتوحيد الصفوف، والنهي عن التفرق والاختلاف، ولكن جمع الكلمة وتوحيد الصفوف على ماذا؟ إن كان على البر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فنعم، وإن كان على الإثم والعدوان كصنيع الخليلي ومن على شاكلته فلا وألف لا.
وقد أجاد المؤلف الإباضي في اختيار الكلمات التي لها قوة التأثير حيث تأخذ طريقها مباشرة إلى أعماق أفئدة القرّاء، ولكن هذا الاختيار اللفظي هو في الحقيقة لخديعة القارئ السليم الفطرة وليس للحقيقة التي يجب على العالم الباحث عن الحق أن يقولها، وإنما هي دعوة ينطبق عليها قول الله عزَّ وجل: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح:11].(1/66)
ودليل ذلك أن المؤلف الخليلي الإباضي لم يرضَ بالاحتكام إلى كتاب الله العزيز، ولا إلى سنة رسوله الصحيحة الثابتة، بل ردّها بعقله وهواه، وقال بالنص: عند ذكر ما ورد في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة وأبي سعيد التي فيها التصريح من رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- بأن المؤمنين يرون ربهم وهم في الجنة، -قال وبئس ماقال -: (إن الأخذ بظاهرها يرده العقل ويكذبه البرهان). كما في (ص:56) من كتابه هذا، وإنها لجرأة عظيمة على سنة رسول الله الثابتة الصحيحة.
وإليك ما اختاره المؤلف من أدلة المثبتين لرؤية الله يوم القيامة ثم رده له بتأويلاته المردودة عليه.
فقال في (ص42) وأما القسم الثاني وهو: أدلة وقوعها في الآخرة، فهو نقول بعضها من الكتاب، وبعضها من السنة.
فمن الكتاب:
قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذ ناضرة .إلى ربّها ناظرة} [القيامة:22-23] قال: وهو أقوى مااستندوا إليه في هذا الباب.
ثم بدأ بالرد فقال:
(واعتُرِضُوا بأن النظر أعم من الرؤية، فإنه يكون بمعنى محاولتها ولو لم تتحقق لجواز أن يقول قائل: نظرت إلى كذا فلم أره، مع عدم جواز أن يقول رأيته فلم أره، ففي القاموس مانصه: «نظره كنصره وسمعه وإليه نظراً ومنظراً ونظراناً، ومنظرة وتنظاراً تأمله بعينه» ).
قال: (وفي شرحه للإمام الزبيدي نقلاً عن البصائر والنظر أيضاً تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، -إلى أن قال-: ثم قال الشارح: ويقال نظرت إلى كذا إذا مددت طرفك إليه رأيته أو لم تره).
ثم قال: (وقد شاع النظر بمعنى الانتظار كقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة:210].
وقوله: {ماينظرون إلا صيحة واحدة} [يس:49]. وقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} [ الحديد:13].
قال: وعليه يتعين حمل النظر في هذه الآية لوجوه:(1/67)
أ- إبعاد تأويل القرآن عن تعارض بعضه مع بعض، فإنّ حَمْل النظر في الآية على الرؤية يتعارض مع أدلة نفيها القطعية.
ب- الانسجام المعهود في آي القرآن وارتباط بعضها مع بعض وهو لايكون إلا بتفسير النظر بالانتظار … إلخ.
جـ- إن هذا التأويل هو الذي يتفق مع مافي خاتمة عبس، وهو قوله سبحانه: {وجوهٌ يومئذ مُسفرةٌ . ضاحكة مستبشرة . ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة}. [عبس:38-41].
قال: إذ لافارق بين ماوُصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار، ووصفت به في آية القيامة من النظر بمعنى الانتظار، فإن المنتظر للرحمة مستبشر بها والمستبشر منتظر لما استبشر به… )إلخ.
فهذا خلاصة ماعند المؤلف الخليلي الإباضي، من محاولة لرد دلالة الآية على النظر إلى ربها بالأبصار، وإنما المقصود به الانتظار،كما يقول، ومعلوم أن هذا هو ردّ المعتزلة للآية، ويظهر للقارئ أن الذي عند المؤلف هو رد الآيات بالدلالة اللغوية، وأن معنى النظر هنا هو الانتظار، ورد دلالة الآيات ثم دعواه أنه فسر الآية بذلك، حتى لا تتعارض مع أدلة نفي الرؤية القطعية كما يقول (ص:42-44).
وإليك دحض تلك الشبه والرد عليها بما يبين زيفها ومغالطة مدعيها وذلك بما يأتي:
أولاً: بيان معاني النظر، فإن له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعدّيه بنفسه، وليس محصوراً في معنى الانتظار، وإليك تلك المعاني:
فإن عدّي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار كقوله تعالى:{انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد:13 ].
وإن عدّي بفي فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض..} [الأعراف:185].
وإن عدّي، بإلى فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} [الأنعام:99].(1/68)
قال أبو منصور الأزهري في كتابه تهذيب اللغة (14/371):(ومن قال: إن معنى قوله: {إلى ربها ناظرة}: بمعنى منتظرة فقد أخطأ، لأن العرب لاتقول: نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته، وإنما تقول: نظرت فلاناً، أي انتظرته ومنه قول الحطيئة:
وقد نظرتكم أبناءَ صادرةٍ
للوِرْدِ طال بها حوزي(1) وتنساسي(2)
فإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت: نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكراً وتدبراً بالقلب)ا هـ.
فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر، كما في هذه الآية: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة}.
فهذا هو بيان معاني النظر عند علماء اللغة، وعلماء الشريعة أهل السنة والجماعة الذين يريدون الحق ويعملون به ويدعون إليه.
أما المؤلف الخليلي الإباضي فلم يذكر إلا المعنى الذي يريده، وهو الانتظار.
ثانياً:دعوى الخليلي الإباضي أنه سلك هذا التأويل من أجل أن لاتتعارض الآية مع أدلة نفي الرؤية القطعية.
وهذا مسلك غريب وعجيب من الخليلي، ونحن نقول: أين أدلة نفي الرؤية القطعية في الآخرة، وفي عرصات القيامة، وبعد دخول المؤمنين الجنة؟
والرد عليه من وجهين :
الأول: إنك أيها الإباضي، لم تأت بدليل واحد، فلا آية محكمة من كتاب الله عز وجل، ولارواية قائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولاسقيمة، تستطيع أن تأتي بها لتدلل على ماذكرت، وإنما الذي جئت به تلبيس وتدليس، وذلك بإيرادك الأدلة الصريحة، على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، وهذه رؤية في الدنيا لا في الآخرة، وأهل السنة جميعاً ينفون الرؤية في الدنيا.
وهذا هو عين التلبيس والتدليس، بحيث تحمل أدلة نفي الرؤية في الدنيا على نفيها في الدنيا والآخرة.
__________
(1) الحوز: السير الشديد والرُّويد. لسان العرب: مادة (حوز).
(2) النساس: السوق الشديد. لسان العرب: مادة (نس).(1/69)
الثاني: الرد للنصوص من كتاب الله بالتأويل الباطل، بحيث تأخذ معنى واحداً من معاني اللغة، وتحمل الآية عليه تبعاً لما تهوى وهذا صنيع فُتِنْتَ به، وفَتَنْتَ به السُذَّجَ من الناس الذي يُغرّون بزخرف القول وقلب الحقائق.
وأما قولك: (إن هذا التأويل هو الذي يتفق مع مافي خاتمة (سورة عبس) وهو قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة. ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة} [عبس:38-41] وأنه لافرق بين ماوصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار، وما وُصِفَت به في آية القيامة من النظر بمعنى الانتظار.
فالجواب على ذلك:
أن الفرق بين الانتظار والنظر، لاخلاف فيه عند العقلاء؛ فإن الانتظار تنغيص، والنظر إكرام من الله لعباده المؤمنين.
وقد سبق أن النظر إذا عدّي بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار كما في سورة القيامة، فكيف وقد أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر.
إن آيات (عبس) فيها بيان لما يكرم الله به عباده المؤمنين أصحاب السعادة، ومايجازي به أهل الشقاوة، فإنه سبحانه وتعالى كثيراً ما يقارن في كتابه الكريم بين حال أهل السعادة، وحال أهل الشقاوة في الآخرة، تذكيراً لعباده ليأخذوا بأسباب السعادة، ويجتنبوا أسباب الشقاوة.
وبهذا يتضح أن آية عبس: {وجوه يومئذ مسفرة} ليست مُفَسّرةً ولا مرادفة لقوله تعالى في سورة القيامة: {إلى ربها ناظرة} كمايدعي الخليلي، لأن النظر غير الإسفار، فالنظر يكون بالعين، والإسفار لون يظهر على الوجه.
وقد جاء في آية القيامة: {وجوه يومئذ ناضرة} بالبياض والصفاء، {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر في وجه الله.
رواه الطبري عن ابن عمر مرفوعاً وسيأتي نصه كاملاً، فالمؤمنون يجمع الله لهم بين نضرة الوجوه وإسفارها، ونظر العيون إلى وجهه الكريم.
ومن المغالطات المقصودة الدالة على حب الإغواء والتضليل، قول المؤلف الخليلي الإباضي في (ص:48):(1/70)
(وقد أشكل على المثبتين للرؤية إسناد النظر في آية القيامة إلى الوجوه. قال: فترددوا بين القول: بأن الرؤية بالبصر، أو بالوجه، أو بالجسم كله، أو بحاسة سادسة..)إلخ ما قال.
والجواب على هذه التهمة -ذات التشكيك فيما لاشك فيه- بما يأتي:
أولاً: إن أدلة الرؤية عند المثبتين لها ليست محصورة في هذه الآية وحدها، وإن كانت صريحة في ذلك، ولكن هناك أدلة من الكتاب ومن السنة بلغت حد التواتر سيأتي ذكرها.
ثانياً-قوله:(وقد أشكل على مثبتي الرؤية إسناد النظر إلى الوجوه فهل تكون الرؤية بالوجه؟..)إلخ ماقال.
فنقول: إن هذه مغالطة مضحكة لسخافتها، وتضليل لمن قلَّ نصيبه من العلم يحمل الخليلي وزرها ووزر من أضل واستغفل؛ لأن أحداً مهما بلغ من الغباوة لايفهم هذا الفهم السقيم الذي أورده المؤلف، وإنما يفهم أن الوجوه تنظر بأعينها، فإذا قال القائل: رأيت المسجد الحرام، فلا يفهم السامع من العرب والعجم إلا أنه رآه بعيني رأسه التي يعتبر الوجه محلاً لها.(1/71)
وثالثاً: نقول للمؤلف: في أي كتاب وجدت هذا من كتب أهل السنة والجماعة المثبتين للرؤية؟ وأعني بأهل السنة السلف الصالح الصحابة ومن سار على منهجهم، كالبخاري، ومسلم وأمثالهما، والأئمة الأربعة وأتباعهم الذين هم على طريقتهم ومنهجهم، ممن وصفتهم بالمشبهة، والمجسمة، والحشوية، لأنهم أثبتوا لله ماأثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الجلال والكمال على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} والذين يعتبر النقل عنهم والاستدلال به هو الحق لاعتمادهم على الأثر لا أهل الكلام الذين يعتمدون فيما يثبتون وينفون على آراء الرجال والجاهلين بنصوص الكتاب والسنة، وعقول أهل الفلسفة الذين حكمت لهم بأن الحق معهم في تأويل صفات الله عز وجل وصرفها عما دلت عليه من المعاني الصحيحة، والأحكام الصريحة كما في (ص:12) لأنك ذكرت هذه السخافة المضحكة ونسبتها للمثبتين للرؤية، ولم تذكر مرجعاً لذلك من كتبهم بل العجيب أن هذا هو قول المعتزلة (1).
ولما كانت أدلة المنكرين للرؤية لاتتجاوز ردّ الأدلة الدالة على إثباتها، واصل المؤلف ذكر مايختاره من أدلة المثبتين، ليردها بتأويلاته الباردة فذكر من الآيات من (ص:49-54) قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس /26].
وقوله تعالى: {ولدينا مزيد} [ق:35].
وقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [ المطففين:15].
__________
(1) وقد أظهر الله الحق ودمغ الباطل؛ فإن هذا هو قول ضرار بن عمرو المعتزلي، وتبعه حفص الفرد المعتزلي الذي كفّره الإمام الشافعي . انظر الفرق بين الفرق ص214. وانظر ترجمة ضرار بن عمرو في ميزان الاعتدال1/328 رقم الترجمة (3953) وترجمة حفص الفرد، ميزان الاعتدال 1/564 رقم الترجمة (2143)، فكيف يسوّغ الخليلي لنفسه مثل هذا الافتراء على مثبتي الرؤية. أليس الرجوع إلى الحق واتباعه هو الواجب على كل مسلم؟(1/72)
والآيات المصرحة بلقاء الله، وذلك أنهم فسروا اللقاء بالرؤية (ص:54).
ولكثرة الكلام المكرر في رد هذه الآيات وصرفها عما دلّت عليه بالتأويلات الباطلة، فإني أذكر مثالاً واحداً في رده للآية الكريمة الآتية عما دلّت عليه، وردّه لتفسيرها ممن هو أعلم بها منه.
وهي قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولايرهق وجوههم قتر ولاذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}. [يونس:26].
ليعرف القارئ منهج الخليلي في رده لنصوص كتاب الله بالتأويلات الباطلة والتحريفات الواضحة ورده نصوص السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المفسرة لهذه الآية الكريمة ونظائرها.
يقول المؤلف الخليلي الإباضي بعد أن أورد الآية في (ص:49):
(فقد فسروا الحسنى بالجنة، والزيادة بالرؤية، مستدلين بحديث صهيب عند الشيخين مرفوعاً، «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم يبيّض وجوهنا، وينجنا من النار، ويدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب. قال: فوالله ماأعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه»(1)).اهـ.
هذا ماسجلّه الخليلي في كتابه هذا، حيث نقل تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للزيادة وأنها النظر إلى الله عز وجل، وأنه أحب شيء أعطاهم الله، بعد أن أدخلهم الجنة، التي فيها مالاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولاخطر على قلب بشر.
وسنبدأ أولاً، برأي المؤلف الخليلي الإباضي في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك نتبعه بذكر الأحاديث الواردة في تفسير الآية إضافة لرواية الشيخين التي ذكرها، ثم نتبع ذلك بذكر أسماء من رُوي عنهم هذا التفسير من الصحابة.
__________
(1) مسلم/ كتاب الإيمان/ باب (إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم)ح(180). والإمام أحمد في المسند 4/333 .(1/73)
وهذا ليس للمقارنة بين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وقول الخليلي؛ لأنه لايستحق أن يذكر قوله ولا اسمه مع هؤلاء، وإنما هو من باب إطلاع القارئ على موقف الخليلي الإباضي من نصوص كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
يقول الخليلي الإباضي بعد إيراده لنص الآية والحديث (ص:49) قال:(وأنتم ترون أن لفظة الزيادة مبهمة غير دالة على الرؤية وضعاً ولا استعمالاً، من قريب ولامن بعيد، وأما الحديث الذي عولوا عليه في تفسيرها فدلالته على ماقالوه ضعيفة جداً). هكذا يقول!
إذاً فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه التصريح بتفسير الزيادة في الآية، بأنها النظر إلى الله بعد كشف الحجاب، ضعيف ولايدل على الرؤية عند الخليلي الإباضي لأن مذهبه، نفي الرؤية، فيقدم قوله في تفسير الزيادة على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يرى أنه أعلم من رسول الله، بكلام الله؟ هذا مقتضى قوله، بل وصريحه فهو يقول في (ص:50):
(أما أولاً: فلأن النظر لايلزم أن يكون بمعنى الرؤية، وكشف الحجاب يجوز أن يكون كناية عن مزيد الإكرام..إلخ.
وأما ثانياً: فلأن حمل الزيادة على هذا المفهوم يتعارض مع مااستندوا إليه من المفهوم الذي عولوا عليه في تفسير آية القيامة، والتي استندوا إليها في إثبات الرؤية، فإنه يلزمهم بموجب ذلك المفهوم أن تكون الرؤية حاصلة في الموقف قبل دخول الجنة.
وأما ثالثاً- فلأن ذلك يتعارض مع حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما الذي استندوا إليه في إثبات الرؤية في الموقف).هكذا يقول.
ولما رأى أن هذه التّمحلات كلها لاتغني شيئاً، لجأ إلى مايقوله مَنْ يعتز بآرائهم وعقائدهم الجهمية والمعتزلة، ومن يأخذ بمناهجهم وإن تسمى بغير اسمهم.(1/74)
قال:(ولو أن الحديث كان نصاً صريحاً في تفسير النظر بالرؤية لما قامت به حجة، لأحاديَّته ومعارضته لما هو أقوى منه متناً ودلالة من أدلة نفيها..)(ص: 50).
والجواب على ماتقدم نقول للمؤلف الخليلي: إن أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة ومن تبعهم يأخذون تفسير الزيادة في الآية الكريمة عمن نزل عليه القرآن، الذي لاينطق عن الهوى، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب على الإطلاق، والله تعالى يقول: {وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 10].
ثم نأخذ تفسير أصحابه الكرام الذين حضروا التنزيل وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العرب الأقحاح كما قلتَ ذلك عنهم في (ص:72) ثم أقوال التابعين وتفسيرهم لهذه الآية الكريمة، وإليك أيها القارئ الكريم أولاً ماثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- في تفسير هذه الآية:
روى الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: (باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى) بإسناده عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل».
وقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد. وزاد: ثم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}(1) [يونس:26 ].
كما أخرج الحديث الإمام أحمد(2) والترمذي (3)وابن ماجه(4).
ويقول ابن كثير في تفسير الآية:
__________
(1) مسلم كتاب الإيمان/ باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم عز وجل ،ح(181).
(2) مسند الإمام أحمد 4/333.
(3) الترمذي تحفة الأحوذي، تفسير سورة يونس 8/522.
(4) ابن ماجه المقدمة 1/67ح187.(1/75)
(وقوله:{وزيادة} هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك).
ويشمل مايعطيهم الله في الجنان من القصور والحور، والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين.
وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ماأعطوه، لايستحقونها بعملهم، بل بفضله وبرحمته.
2- ثم ذكر أسماء من رُوي عنهم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم من الصحابة والتابعين فقال: (وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم عن:
[1] أبي بكر الصديق [2] وحذيفة بن اليمان [3] وعبد الله بن عباس [4] وسعيد بن المسيب [5] وعبد الرحمن بن أبي ليلى [6] وعبد الرحمن بن سابط [7] ومجاهد [8] وعكرمة [9] وعامر بن سعد [10] وعطاء [11]والضحاك [12]والحسن، [13] وقتادة [14] والسدي [15] ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف)، ثم قال: (وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة، فذكر حديث صهيب برواية الإمام أحمد. قال: وهكذا رواه مسلم، وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به، ثم ذكر رواية ابن جرير بإسناده عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: ياأهل الجنة – بصوت يسمعه أولهم وآخرهم-: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة. (الحسنى) الجنة و(الزيادة) النظر إلى وجه الرحمن عز وجل» (1).
كما روي ذلك عن كعب بن عجرة.
وروى ابن جرير بإسناده عن أبي بن كعب، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} «قال: الحسنى، الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل» (2).
__________
(1) تفسير ابن جرير 11/105.
(2) ابن جرير 11/107.(1/76)
وبهذا يتضح للقارئ الكريم، سقوط كلام الخليلي الإباضي وهو قوله: إن النظر لايلزم أن يكون بمعنى الرؤية، بتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفسير الصحابة والتابعين الذين ذكر ابن كثير أسماءهم كما سبق ذلك من صحابة وتابعين، ثم قال: وغيرهم من السلف والخلف.
وقول الخليلي: إن كشف الحجاب يجوز أن يكون كناية عن مزيد الإكرام.. إلخ ماقال، كلام ساقط، لاوزن له أمام النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إكرام صريح بكشف الحجاب عنهم للنظر إلى ربهم عز وجل، وهو أفضل ماأعطاهم وأكرمهم به، بفضله ورحمته كما قال ابن كثير.
وأما قوله: (ثانياً وثالثاً) (فلأن حمل الزيادة على هذا المفهوم يتعارض مع مااستندوا إليه من المفهوم الذي عولوا عليه في تفسير آية القيامة.. إلخ ما قال وحديث أبي سعيد وأبي هريرة).
فأقول: أين التعارض بين ماجاء في هذا الحديث الذي فيه إثبات رؤية الله عزوجل، وقوله: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} وحديث أبي سعيد وأبي هريرة، وكون حصول الرؤية في الموقف لايعارض حصولها في الجنة.
وقد بين العلماء بالتفسير معنى ذلك في تفسير قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فقد أخرج ابن جرير بإسناده عن الحسن في تفسير الآية قال:(يكشف الحجاب، فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكفار وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية).
وقال ابن كثير في تفسير الآية: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}: (أي: لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين، ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم.(1/77)
قال الإمام الشافعي:« هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ» وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} وكما دلّت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة).
فأين التعارض الذي يدعيه الخليلي بين هذا الحديث ومفهوم الآية، وحديث أبي هريرة وأبي سعيد وهما في الصحيحين؟ وسترى كلام الخليلي في ردهما وبأي شيء يردهما !.
وعلماء السلف لايضربون النصوص بعضها ببعض، وإنما يجمعون بينها إذا وجدوا تعارضاً في الظاهر، ولكن بحمد الله لم يوجد تعارض بين هذه النصوص، وقد سبق توضيح ابن كثير لما دلت عليه هذه النصوص.
ثم إن أهل السنة المثبتين للرؤية ليس دليلهم على إثبات الرؤية هو مفهوم الآية الذي دل عليه منطوق آية القيامة فقط.
ولاتلك الآيات وحدها، ولاحديث أبي هريرة وأبي سعيد وحده، وإنما دلّت عليها آيات أخرى.
وأحاديث بلغت حد التواتر كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره.
وهذا يرد على ماجاء في قول المؤلف الخليلي الإباضي في قوله:« ولوكان الحديث نصاً صريحاً في تفسير النظر بالرؤية لما قامت به حجة لأحاديَّته، ومعارضته لما هو أقوى منه متناً ودلالة من أدلة نفيها».
وأقول: أما أحاديَّته -وإن كانت القاعدة عند أهل السنة من سلف هذه الأمة ومن تبعهم، أنهم يحتجون بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، سواء كان الخبر متواتراً أو آحاداً- فلا يسلَّم للخليلي حكمه هذا، إذ ليست الحجة عند المثبتين للرؤية هذا الحديث وحده، بل أحاديث أخرى بلغت حد التواتر عند علماء الحديث أهل الشأن في ذلك، وسيأتي ذكرها جميعاً.(1/78)
وأما دعواه معارضته لما هو أقوى منه متناً ودلالة من أدلة نفي الرؤية، فهي دعوى باطلة وعارية عن الصحة، لكونها لم تستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع.
وأنى له أن يورد دليلاً واحداً معتبراً على نفي رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة.
وإنما عنده الشُّبَهُ والتمويهات والتلبيسات، وإيراد أدلة نفي الرؤية في الدنيا، ثم تعميمها على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة.
وسينكشف تلبيسه هذا عندما يورد أدلة النفاة على حد تعبيره.
أما في (ص:56) فقد ارتكب خطأً فاحشاً يجب عليه أن يراجع نفسه ويتوب إلى الله عز وجل منه، حيث قال في (ص:55) وهو يذكر أدلة المثبتين للرؤية من السنة، بعد أن انتهى من ذكر أدلتهم من الكتاب كما يرى، قال:
(وأما من السنة فقد أكثروا من الأحاديث التي حشروها للاستدلال بها، وأشهر وأقوى ما اعتمدوا عليه حديث: «سترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر») قال: (وقد رووه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجرير بألفاظ متعددة، وأكثر مايقتصرون في كتب العقيدة على هذا القدر من نصه،) قال: (وقبل أي تعقيب على الاستدلال أرى أن أنقل بعض ألفاظه وأسانيده).ا.هـ.
وفي (ص:56) نقل رواية البخاري من كتاب التوحيد، ولم ينقلها كلها، مع أن البخاري أوردها كاملة، ولم يقتصر على ما ادعاه المؤلف وقد أوردها البخاري في باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة}.
وأورد معها تحت هذا العنوان ثلاثة عشر حديثاً من (7434-7447)(1)، كلها كاملة وصريحة في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، وسنوردها عند ذكر أدلة المثبتين للرؤية.
ولكننا هنا نذكر ماارتكبه المؤلف من شناعة قبيحة حول حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وهما ضمن هذه الأحاديث، قال: -بعد نقل ذلك الجزء من حديث أبي هريرة-(وجاء بألفاظ مختلفة عند الشيخين وغيرهما، ومثله في ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين كذلك).
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 13/419-424.(1/79)
ثم قال: -وبئس ما قال-:(وأنت أيها القارئ الكريم تدرك ببصيرتك أن الأخذ بظواهر هذه النصوص يفضي إلى مايرده العقل ويكذبه البرهان).
هكذا يقول: إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيحين وغيرهما يكذّبها برهان الخليلي، ويردّها عقله.
وإليك أيها القارئ الكريم ماأشاد به من عقل وبرهان ما ورثه عن سلفه الجهمية والمعتزلة، الذين يعتزُّ بهم دائماً وأنهم يقولون ويعتقدون إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، كما يعتقد الإباضية، وقد جعلوا عقولهم وبراهينهم حاكمة على نصوص الكتاب والسنة، ونصبوها لرد قول الصادق المصدوق الذي لاينطق عن الهوى، وانظر لبرهانه الذي رد به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال في (ص:56،57):
(-إنه يترتب على الأخذ بها: تغير ذاته سبحانه من صورة إلى غيرها، والتغيّر من سمات الحدوث.
-وكونه مرئياً لهذه الأمة مؤمنها ومنافقها في الدنيا رؤية جلية.. وإلا فبم عرفوا صورته؟).. إلخ ما قال.
قلت: وهذه هي قاعدة الجهمية والمعتزلة وأصلهما، أخذ بها المؤلف الخليلي لرد النصوص، وهي قياس صفات الخالق جلّ وعلا- الذي {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} لافي ذاته ولافي صفاته، وهو الحي القيوم المنزّه الدائم الباقي- على صفات المخلوق الحادث الفاني.
لأنهم لم يعرفوا من صفات ربهم إلا ماشاهدوه في المخلوق، فأرادوا التنزيه بزعمهم فوقعوا في التعطيل.
ولهذا يقول المؤلف: إنه يلزم من إثبات صفة الرؤية تغير ذاته سبحانه، والتغير من سمة الحدوث.
والنتيجة إن من أثبت الصفات التي أخبر بها الله عز وجل عن نفسه في كتابه، أو أثبتها له رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقد وصف الله بصفة الحوادث.
ولهذا قال: يلزم كونه مرئياً في الدنيا وإلا فبم عرفوا صورته؟ الخ، أي أن المؤمنين لا يعرفون ربهم في الآخرة، إلا إذا رأوه في الدنيا، وهذا هو قياس الغائب على الشاهد.(1/80)
ونقول: إن المؤمنين عرفوا ربهم بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه وأخبرهم بها رسوله- صلى الله علية وسلم- في سنته، فآمنوا بها وصدقوا قائلها، فحينما يكرمهم ربهم بالنظر إليه يعرفونه بتلك الأوصاف التي جاءت في كتاب ربهم وسنة نبيهم، فصدقوا من أخبرهم بها وآمنوا بها واعتقدوها.
ومن شهد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، أي أنه رسول الله، لزمه بمقتضى هذه الشهادة تصديقه في كل ما أخبر به عن ربه عز وجل سواء أدرك عقله ذلك أو لم يدركه.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وأمرنا الله أن نأخذ بما أخبرنا به، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7].
وحذرنا من مخالفة أمره حيث قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63].
وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء:65].
وإذا كان المؤلف الخليلي يقول: إن طائفته الإباضية أهل الحق والاستقامة، لم يأخذوا عقائدهم إلا من كتاب الله وسنة رسوله كما في (ص:8) من كتابه هذا، نقول له: الحق والاستقامة هو الأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لا ردّه بالهوى المتبع، والتحريف المتعمد، والتقدم بين يدي الله ورسوله.(1/81)
وانظر لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد المشهود له بالجنة، في قصة صلح الحديبية، لما جاء سهيل بن عمرو مندوب كفار قريش لكتابة الصلح، وقد شرط سهيل في ذلك الصلح، الشروط القاسية ومنها: قال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل - وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نقض الكتاب بعد».
قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.. الحديث(1).
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أُردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذّب عذاباً شديداً في الله.
قال عمر بن الخطاب: فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟
ونقول للخليلى اسمع رد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عمر.
ثم اسمع بعد ذلك لقول عمر وندمه على موقفه هذا ابتداء.
قال: « إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري».
وفي رواية فقال: « يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله»، فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء إلى أبي بكر وقال له مثل ما قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكان رده كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أن قال له: أيها الرجل، إنه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق.
__________
(1) البخاري،كتاب الشروط ح (2731-2732).(1/82)
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً(1).
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- برأي، وما ألوت عن الحق.
وفيه «قال: فرضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبيت، حتى قال لي: يا عمر تراني رضيت وتأبى».
يقول ابن حجر في شرح الحديث:(وقول عمر:« فعملت لذلك أعمالاً».
المراد به الأعمال الصالحة ليكفّر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء، وقد ورد التصريح بمراده بقوله «أعمالاً»: ففي رواية ابن إسحاق وكان عمر يقول:«ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به».
وعند الواقدي من حديث ابن عباس، قال عمر: «لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً، وصمت دهراً»(2)).
وفي صحيح البخاري(3) قال سهل بن حنيف: «يا أيها الناس اتهموا رأيكم على الدين؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لرددته».
وأخرج أبو داود في الطهارة عن علي بن أبي طالب قوله:« لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه».
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب،5/ 329/ 333 ح 2731، 3732. وكتاب التفسير، تفسير سورة الفتح، فتح الباري 8/ 587ح 4844.
(2) فتح الباري 5/ 346. وفي فتح الباري 13/ 289 جاء قول عمر، كما في رواية سهل.
(3) البخاري مع الفتح كتاب الاعتصام، 13/ 83 ح 8 0 73، وقد جاء في الشرح، قول عمر، أخرجه الطبراني، والطبري، والبيهقي.(1/83)
إن ما حدث من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عدم امتثال أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ابتداءً في هذا الموقف، هو بسبب ما رآه من تلك الشروط التي يمليها المشركون في ذلك الصلح، وهي شروط في ظاهرها إجحاف بالحق، لأن المشركين على الباطل. ولهذا يقول عمر:«وما ألوت عن الحق»، فهو اجتهاد للوصول إلى الحق، ولكن الاجتهاد مع النص لا محل له.
فالحق كل الحق في قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإن ظهر للناس خلافه، ولهذا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري»، وقد كان الأمر كذلك، أي أن ذلك الصلح الذي بتلك الشروط كان فتحاً عظيماً، ونصراً ظاهراً للإسلام والمسلمين، وظهر لعمر رضي الله عنه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فندم عمر رضي الله عنه على ذلك الموقف الذي كان منه في بدء القضية، ورأى أنه في حاجة إلى أن يكفر عن موقفه ذاك.
ولذلك قال:« مازلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به».
فعمر رضي الله عنه لم يردَّ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يناقش ليعرف الحكمة في ذلك، وقد سلّم الأمر بعد ذلك، ومع ذلك يكفر عن ذلك الموقف.
ونقول: للمؤلف الخليلي: ألا تخاف من كلامك الذي قلته معارضاً به كلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهو قولك في (ص:56):(الأخذ بظاهر حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري في الصحيحين، يرده العقل ويكذبه البرهان) إنها جرأة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وشناعة في اللفظ الذي يرد به قول، الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. إن الأمر - يا رجل- خطير، فهو بحاجة إلى توبة صادقة تخرج صاحبها من سوء المعتقد وفتنة الانحراف، فالله يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63].(1/84)
ألا فليعلم مشتري الضلالة بالهدى، أن الاعتراض على الله برد نصوص كتابه، والتقدم على رسول الله بمعارضة سنته بالرأي الساقط، تصرّف قبيح، ومخالفة واضحة ظاهرة.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في منهج ودراسات لآيات الصفات (ص:40):(.. مَنْ تنطع بين يدي رب السموات والأرض وتجرأ على الله بهذه الجرأة العظيمة، ونفى عن ربه وصفاً أثبته لنفسه، فهذا مجنون، فالله جل وعلا يثبت لنفسه صفات كمال وجلال، فكيف يليق لمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السموات والأرض ويقول: هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك، ويلزمه من النقص كذا وكذا، فأنا أؤوله وألغيه وآتي ببدله من تلقاء نفسي، من غير استناد إلى كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم). اهـ.
ونواصل مع الخليلي لنبين للقارئ تدليسه وتمويهه، فإنه يورد الأدلة التي فيها نفي الرؤية في الدنيا، وهو الأمر المتفق عليه بين أهل السنة والجماعة، ثم يجعله دليلاً له على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، ولهذا فإنه بعد رده لتلك النصوص من الكتاب والسنة المثبتة لرؤية المؤمنين ربهم في جنات النعيم، قال في (ص:67): (الفصل الثالث في أدلة النافين)
أي الإباضية والجهمية والمعتزلة والرافضة الإمامية والزيدية الذين يعتز بأنهم على عقيدته كما تقدم (ص: 32) في كتابه هذا.
قال: (وهي قسمان: عقلية، ونقلية).
ثم ذكر ملخص الأدلة العقلية وشروطها، فقال: (والرؤية البصرية المعهودة هي: انطباع صورة المرئي في حدقة الرائي بقوة الذبذبات الضوئية الملتقطة للصور ولها شروط).
فذكر شروطها وهي تتلخص: في قياس الغائب على الشاهد كما يفعل المعتزلة تماماً.
ولما أدرك أنه يقيس الغائب على الشاهد، قال في (ص: 68 سطر 7): (وقد اعترض على هذا الاستدلال، بأن هذه الشروط إنما هي في رؤية الشاهد ولا يجوز أن تحمل عليها رؤية الغائب).
ثم قال: (وأجيب بأن الرؤية المعهودة عند الناس هي هذه ولا فرق في ذلك بين الشاهد والغائب).(1/85)
ثم ادعى في الصفحة نفسها أن مثبتي الرؤية أنفسهم قاسوا الغائب على الشاهد في باب الصفات.
والجواب على ذلك ما يأتي:
أولاً: إن المؤلف اعترف بأن دليله العقلي هو قياس الغائب على الشاهد، وهذا هو منهج المعطلة الجهمية والمعتزلة ومن سبق ذكرهم ومنهم المؤلف وطائفته الإباضية، لأنهم لم يعرفوا من صفات الخالق جل وعلا إلا ما شاهدوه في المخلوق ولم يقدروا الله حق قدره، ومن هنا أرادوا حسب زعمهم التنزيه، فعطلوا حيث نفوا تلك الصفات عن الله، بل الجهمية نفوا حتى الأسماء، بحجة أنهم لو أثبتوها فقد شبهوا الله بخلقه.
وقد صدق عليهم القول: بأن كل معطل مشبه، فهم شبهوا أولاً، ثم انتقلوا إلى التعطيل ثانياً.
وهذا القياس باطل بإجماع أهل السنة والجماعة، لأنه لا يجوز قياس صفات الخالق سبحانه على صفات المخلوق، لأنه تشبيه، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر به، والله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وثانياً: دعوى المؤلف على أن مثبتي الرؤية قاسوا الغائب على الشاهد في باب الصفات.
أقول: هذا كذب عليهم، فإن صفات الله عزّ وجل توقيفية، فهم لم يثبتوا لله عز وجل من الصفات إلا ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله في سنته الصحيحة.
ولكن المؤلف الخليلي يتحدث عن قاعدة التعطيل عنده وعند من يتبعهم من جهمية ومعتزلة، الذين شبهوا أولاً، وعطلوا ثانياً كما سبق.
وانظر لصفة الرؤية التي فيها النزاع، فالله عز وجل هو الذي يقول في كتابه الكريم:{وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}.
والرسول- صلى الله عليه وسلم- هو الذي يقول: «إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون الشمس والقمر صحواً».
كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.
فأين القياس الذي يدعيه المؤلف الخليلي على مثبتي الرؤية؟(1/86)
فهذا قول الله عز وجل، وهذا قول رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي آمن به الصحابة وتبعهم المصدقون لرسول الله المؤمنون بما أخبرهم به، لأنه لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فلم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما قالوا بالذي قاله الله عز وجل، وبالذي قاله رسوله الكريم- صلى الله عليه وسلم-.
أما الخليلى- فيقول:(إن الأخذ بظواهر هذه النصوص يرده العقل ويكذبه البرهان!) ظلماً وعدواناً، إذ لم يأت فيما جاء به رسول الله ما يكذب بعضه بعضاً، بل العكس هو اليقين.
وأقول: إنها لجرأة عظيمة على الله ورسوله، يجب عليك التوبة منها ومن كل معتقد فاسد قبيح.
فالله عز وجل يقول: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36] فهذا قضاء الله ورسوله، أحق بالاتباع، وعلى الخليلي أن يثوب إلى رشده، ويسعى فيما بقي من العمر في تصحيح معتقده، ذلك خير له وأقوم.
وفي (ص: 68) قال: (وأما النقلية - أي من أدلة النافين للرؤية-:
فبعضها من الكتاب، وبعضها من السنة).
ثم قال: (فمن الكتاب قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام:103]
قال: ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى مدح نفسه فيها بأن الأبصار لا تدركه، وإدراكها الرؤية، فتبين منها أن عدم رؤيته بالأبصار صفة ذاتية لازمة له تعالى، فإنه لو رؤي للزم زوال مدحه، وإذا زالت انقلب إلى ضده وهو الذم، تعالى الله عنه.
قال: ومن ناحية أخرى، فإنه إخبار من الله سبحانه بوصف من أوصافه، وأخبار الله لا تتبدل، لأنها لو تبدلت كان التبديل تكذيباً له {ومن أصدق من الله قيلاً}) اهـ.(1/87)
قلت: فالمؤلف اعتمد في استدلاله بالآية، على أن الإدراك هو الرؤية لا غير، وأن الآية قد نفت ذلك الإدراك الذي فسره بأنه الرؤية بالأبصار، وأن في هذا النفي مدح لله عز وجل فإنه لا يرى، وإذا أثبتت الرؤية زال هذا المدح وانقلب ذماً، وأنه إخبار من الله عز وجل، والأخبار لا تتبدل، هكذا يقرر وجه الاستدلال.
وفي (ص:69) قال: (وقد رُدَّ على هذا الاستدلال من خمسة أوجه، ذكرها إلى (ص 70) وقال: هذه الاعتراضات كلها مردودة).
وأقول: إليك أيها القارئ الكريم ذكر واحد من هذه الخمسة الأوجه، وبيان رد المؤلف عليه ليظهر تهافت رده، لأنه لم يستند في ذلك على تفسير الصحابة لهذه الآية، وإنما اعتمد على رأيه، وعلى التمويهات، ومنها استدلاله بالأدلة التي وردت عن الصحابة في نفي الرؤية في الدنيا وهو يعممها في الدنيا والآخرة.
قال في (ص: 69) (واعترض على هذه الاستدلال من خمسة أوجه:
أولها- أن الآية نفت الإدراك ولم تنف الرؤية، وبينهما فرق؛ فإن الإدراك هو الإحاطة بالمُدْرَك... إلى أن قال وهذا أشهر ما عولوا عليه في دفع هذه الحجة).
وفي (ص: 70) قال:( أما الأول فهو مخالف لما دل عليه الاستعمال العربي لكلمة الإدراك ومشتقاتها، فإنه لا يفهم منه أنه بمعنى الإحاطة فأقوال أساطين العربية المهرة، وشواهدها الصريحة الثابتة دالة على أن الإدراك ليس بمعنى الإحاطة بل لكل منهما معنى مستقل عن الآخر. )
ثم قال: (قال ماتن القاموس وشارحه: «الدرك -محركة- اللحاق، وقد أدركه إذا لحقه، وهو اسم من الإدراك».
ونص كلام الجوهري في الصحاح: («الإدراك اللحوق، يقال مشيت حتى أدركته، وأدركته ببصري رأيته».
قال: هذه نصوص أساطين اللغة الذين نقلوها إلينا بأمانة، وليس فيها ما يدل على تفسير الإدراك بالإحاطة....) الخ (ص: 71).(1/88)
قلت: هذا نموذج من استدلال الخليلي على نفي الرؤية في الآخرة، بالأدلة النقلية من الكتاب كما يدعي. وأنت ترى أن الآية الكريمة لا دلالة فيها على نفي الرؤية، بل إنها على إثباتها أولى، لأن الإدراك غير الرؤية، فقد تحصل الرؤية ولا يحصل الإدراك.
والخليلي قد رجع لتفسير ابن جرير للآية، ولكنه لم يأخذ قول ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، ولا قول قتادة.
وإنما أخذ روايات فيها نفي الرؤية في الدنيا، فحملها على النفي في الدنيا والآخرة، وقد سبق بعض ذلك، وسنورد هنا ما يبين ذلك ويوضحه، وسيأتي ذكر ذلك مفصلاً عند إيراد أدلة المثبتين من أهل السنة للرؤية في الآخرة.
فإليك كلام المحققين في تفسير الآية، في الأمور التالية:
1- في بيان أن النفي المحض ليس بكمال، فلا يمدح الله به، خلافاً لما يراه الخليلي.
2- وفي بيان الفرق بين الإدراك والرؤية.
فأما تفسير الآية فقد سبق ما نقلناه من تفسير ابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: {لا تدركه الأبصار} لا تحيط به الأبصار.
عن قتادة قال: هو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، ذلك قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.
وأما النفي المحض فلا يكون مدحاً خلافاً لما يقول به الخليلي وأئمته في هذا الباب وغيره من جهمية ومعتزلة وإمامية، وبيان الفرق بين الرؤية والإدراك بالأدلة الصريحة:
فقد قال ابن القيم في كتابه حادي الأرواح (ص ت 369) وقد نقله المؤلف في كتابه هذا.
قال ابن القيم:(1/89)
(الدليل السادس- يعني من القرآن في إثبات الرؤية- قوله عزوجل: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] قال: والاستدلال بهذا أعجب، فإنه من أدلة النفاة، وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال أحسن تقرير وألطفه وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه وتعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح به إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، فلا يمدح، وإنما يمدح الرب- تبارك وتعالى- بالعدم إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنَة والنوم، المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة...) الخ ما ذكره من أمثلة في هذا الباب إلى أن قال: (ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تدركه الأبصار} أنه لا يرى بحال، لم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصِّرْف لا يرى ولا تدركه الأبصار والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض.
فإذاً المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} [يونس: 61] أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: {ومامسنا من لغوب} [ق: 49] أنه كامل القدرة.
وفي قوله: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] أنه كامل القيومية.(1/90)
فقوله: {لا تدركه الأبصار} يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا} [الشعراء:61] فلم ينف موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إنا لمدركون} إنا لمرئيون.
فإن موسى- صلوات الله وسلامه عليه- نفى إدراكهم إياهم بقوله:{كلا}وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دركهم بقوله: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى} [طه: 77].
فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرَى ولا يُدْرَك، كما يُعْلَم ولا يحاط به، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية.
قال ابن عباس: {لا تدركه الأبصار} لا تحيط به الأبصار،) ثم ذكر قول قتادة وعطية العوفي الذي سبق ذكرهما.
وأما قول الخليلي: (إنه إخبار من الله والأخبار لا تتبدل..) الخ فنقول: نعم، إنه إخبار وهو خبر لم يتبدل، فالله أخبر أنه يُرَى ولا يحاط به لعظمته سبحانه، كما قال ابن عباس، لا كما يرى الخليلي.(1/91)
وأما كونه يورد الأدلة على نفي الرؤية في الدنيا ويجعلها دليلاً على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة تمويهاً وتلبيساً، فقد قال في (ص: 72): (واستشهاد الصحابة رضوان الله عليهم على نفي الرؤية بهذه الآية الكريمة من أوضح الأدلة وأبينها، وأقوى الشواهد وأقطعها بأن الإدراك إذا أسند إلى الأبصار لا يكون إلا بمعنى الرؤية، فإنهم رضي الله عنهم عرب أقحاح طبعوا على فصيح الكلام العربي...) إلى أن قال: (ومما روي عنهم في ذلك ما أخرجه الإمام الربيع في مسنده والشيخان في صحيحيهما عن مسروق قال: «كنت متكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئاً فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: {ولقد رآه بالأفق المبين}. {ولقد رآه نزلة أخرى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنما هو جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها، غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض.
فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}».
قال: وقد أخرج الربيع رحمه الله عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنهما استدلا على نفي رؤية الله تعالى بهذه الآية الكريمة).
أقول: إن ما نقله من رواية مسروق عن عائشة هو في نفي الرؤية في الدنيا، أي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه في ليلة الإسراء والمعراج، وإنما الذي أشارت إليه الآيات هو جبريل عليه السلام، ولم تقصد عائشة الاستدلال بالآية على نفي الرؤية في الآخرة، وقد سبق نقل ما ذكره ابن عباس والذي جاء في روايته إثبات الرؤية وأنها بالقلب، وذكرنا توفيق العلماء وجمعهم بين الروايات وأن ذلك الخلاف انتهى، وأن الرؤية البصرية لم تثبت لأحد في الدنيا.(1/92)
لكن المؤلف كما قلت: يأخذ تلك الأدلة ويلبّس بها على أتباعه- الإباضية- ثم يقول في (ص: 90) -وهو يتابع ذكر الأدلة النقلية التي تدل على خلاف دعواه بل هي أدلة أهل السنة في إثبات الرؤية في الآخرة، ونفيها في الدنيا- يقول:
(وأما من السنة فما يلي:
1- ما رواه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن»).
هذا الحديث أورده البخاري في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} برقم: 7440 كما أورد في هذا الباب إحدى عشرة رواية كلها صريحة في الرؤية، وأورد بعد هذا الحديث مباشرة رواية عدي بن حاتم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه». فهذه الرواية مصرحة برفع الحجاب. وسنورد هذه الروايات كلها عند ذكر أدلة المثبتين للرؤية إن شاء الله.
ولكن المؤلف كما ترى يترك الرواية الأخرى الموضحة والمبينة للرواية قبلها، بل والروايات الأخرى التي اطلع عليها واختار منها هذه الرواية.
ومنها رواية أبي سعيد الخدري ونصها قال: «قلنا يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤية أحدهما».
ولكن الهوى هو الذي يطمس البصائر، وإن كانت الأبصار ترى فالمؤلف الخليلي يرى هذه الروايات المصرحة بالرؤية يوم القيامة ببصره ولأمرٍ مّا يتركها، ويختار رواية لا حجة له فيها، لأنها مفسرة وموضحة بما بعدها والتي سنوردها بعد أن نذكر تعليقه على الحديث ووجه استدلاله كما يرى.(1/93)
وهو لم يوردها إلا للتلبيس والتدليس فجعلها حجة في نفي الرؤية فيقول في التعليق عليها: (ووجه الاستدلال به صراحته في عدم رؤيتهم لله لحيلولة رداء الكبرياء بينهم وبين ذلك).
والجواب: أن هذه الرواية مُفَسَّرة وموضحة بما بعدها وهي رواية عدي ابن حاتم، وسبق ذكرها وهي قوله- صلى الله عليه وسلم-:«ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه»، فهذه الرواية المفسِّرة لتلك الرواية يتركها الخليلي لأنها ترد على تلبيسه وتمويهه، كما سبق أيضاً ذكر رواية صهيب عند مسلم في تفسير الزيادة، وفيها كشف الحجاب ويواصل المؤلف الخليلي في تلبيساته على القراء بإيراد الأحاديث الواردة في نفي رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، حاملاً لها على نفي الرؤية في الآخرة، فيقول في (ص: 94):
ثالثاً- ما أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال عندما سئل عن رؤيته لربه: «نور أنّى أراه؟».
ثم قال: ووجه الاستدلال به أن النبي- صلى الله عليه وسلم- استبعد فيه حصول الرؤية بقوله:« أنَّى أراه؟» فإن أنى بمعنى كيف، وهو شاهد على استحالة رؤيته تعالى.
هكذا يقول الخليلي! وهو حديث كما ترى لفظه الذي لم يورده بنصه يتحدث عن الرؤية في الدنيا هل حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فبين أنها لم تحصل، ولكن نسوق لك لفظ الرواية من صحيح مسلم ليظهر لك بما لا يدع مجالاً للشّك تمويه وتدليس الخليلي:
فقد روي مسلم بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك عز وجل؟ فقال: «نور أنَّى أراه؟».
وفي رواية لمسلم أيضاً بإسناده عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لسألته. قال: وعن ماذا كنت تسأله؟ قلت: كنت أسأله: هل رأى ربه عز وجل، قال: فإني قد سألته، فقال: «نور أنّى أراه؟».(1/94)
فهذه الأحاديث صريحة في أن نفي الرؤية فيها في الدنيا، وهذا أمر متفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن الرؤية لم تثبت لأحد في الدنيا فما الحجة لك يا خليلي في هذه الأحاديث على نفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم التي أثبتتها الأحاديث الصريحة المتواترة؟.
ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي قال في هذا الحديث: «نور أنّى أراه»، ليلة الإسراء والمعراج، هو الذي قال للصحابة لما سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «نعم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب؟» أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أعلم بربه وبما يجوز له من الخليلي وأسلافه من الجهمية النافين للرؤية. ولكنه الهوى يعمي ويصم.
وأما ما ذكره المؤلف الخليلي من أن نفي الرؤية هو الثابت عن سلف الأمة، ثم ذكر منهم، أم المؤمنين عائشة، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، ثم ذكر عدداً من التابعين، كمجاهد، وعكرمة، والحسن، والسدي.
كما ذكر، نافع بن الأزرق- وهو رأس الخوارج بالعراق (1).
ونسب لابن جرير إنه روى ذلك عن الصحابة والتابعين، كما في (ص:33) ولم يذكر المرجع، وإنما أورد جزءاً من الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103].
فنحن نسوق لك أيها القارئ الكريم ما ذكره ابن جرير في تفسير الآية من روايات وأقوال عن العلماء بالتفسير، ثم اختياره للراجح بالدليل ورده على الذين استدلوا بالآية الكريمة على نفى الرؤية في الآخرة بأنها لا تدل على دعواهم، بل دلالتها على الرؤية أولى.
وأن هؤلاء ليس عندهم إلا التمويه والتلبيس، ولا يوجد لهم دليل من آية محكمة ولا رواية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صحيحة أو سقيمة، وسيأتي نص كلامه هذا.
يقول ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار...}.
__________
(1) انظر فتح الباري 12: 284 آخر الصفحة.(1/95)
اختلف أهل التأويل في ذلك- ومعلوم أنه يقصد بأهل التأويل، أهل التفسير، فهو اصطلاحه، فذكر اختلافهم وأدلتهم، ثم ذكر اختياره للصواب منها.
وإليك ذلك، قال:(فقال بعضهم: معناه: لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها).
ثم قال: (ذكر من قال ذلك.
فروى بإسناده عن ابن عباس قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} يقول: لا يحيط بصر أحد بالمَلِك.
وعن قتادة: وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وعن عطية العوفي، في قوله: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}. قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله: {لا تدركه الأبصار} الآية.
فهذا ما رواه ابن جرير في تفسيره الآية عن ابن عباس، من الصحابة وعن قتادة، وعطية العوفي.
فهم يثبتون بهذه الآية الكريمة الرؤية، وينفون الإحاطة.
فكيف تنسب لابن جرير أنه روى عن ابن عباس نفي الرؤية في الآخرة؟. ثم يقول ابن جرير بعد ذلك:(وقال آخرون: معنى ذلك، لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار)?
ذكر من قال ذلك:
فذكر بإسناده عن السدي، أنه قال: لا يراه شيء وهو يرى الخلائق.
وبإسناده عن مسروق عن عائشة قالت: «من حدثّك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، فقد كذب، {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}[الأنعام:103]، {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب}[ الشورى:51 ]، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين».
وبإسناده عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله، لقد قَفَّ شعري مما قلت، ثم قرأت: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}).
وواضح من هذه الروايات أن السؤال الموجّه لعائشة رضي الله عنها من مسروق هو عن رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء والمعراج.(1/96)
ويوضح ذلك ويبينه عدد من الروايات في الصحيحين وغيرهما، وقد أورد الإمام ابن منده في كتابه الإيمان عدداً منها، تحت عنوان (ذكر اختلاف ألفاظ حديث ابن عباس رضي الله عنه في الرؤية ليلة المعراج).
نورد منها رواية عامر الشعبي عن مسروق وهي الرواية التي أوردها الخليلي، ينفي بها الرؤية يوم القيامة.
(قال: كنت متكئاً عند عائشة فقالت: «يا أبا عائشة ثلاث من قالهن فقد أعظم على الله الفرية: من زعم أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: فجلست فقلت: أنظريني ولا تعجليني، أليس الله يقول في كتابه: {ولقد رآه نزلة أخرى} {ولقد رآه بالأفق المبين}.
قالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها قال: « ذاك جبريل، لم أره في صورته التي جاءني فيها إلا مرتين، رأيته منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض».
قالت: أو ليس الله يقول:
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}.
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء}[الشورى:51] الآية. ومن قال: إن محمداً- صلى الله عليه وسلم- كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] ومن قال: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم- يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} [النمل: 65 ]» (1).
قلت: فهذا يكشف لك أيها القارئ تلبيس الخليلي الإباضي.
__________
(1) مسلم، الإيمان/ باب معنى قوله الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى، ح(177) . ابن منده، الإيمان 2/ 761 ح 10- 16.(1/97)
وقد أورد ابن منده قبل حديث عائشة هذا، روايات حديث ابن عباس وقد ذكر في عنوان الفصل الذي أورد هذه الروايات تحته، ما سبق ذكره وهو قوله:
"ذكر اختلاف ألفاظ حديث ابن عباس".
فذكر بإسناده عن أبي العالية وهي رواية الإمام مسلم قال: عن أبي العالية، عن ابن عباس،{ما كذب الفؤاد ما رأى}، {ولقد رآه نزلة أخرى}. قال: رآه بفؤاده مرتين.
وفي رواية: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال: رآه بقلبه.
ومثلها الروايات الأخرى عن أبي العالية وهي من رقم 1- 4.
ورواية عطاء عن ابن عباس: رآه بقلبه، يعني قوله عزّ وجل: {ما كذب الفؤاد ما رأى}. وفي رواية بفؤاده مرتين.
وقد ساقها ابن منده بإسنادين، فقال: ولم يقل ابن حنبل في حديثه بفؤاده. اهـ أي أنها مطْلَقة. ولهذا ساق بعدها الرواية رقم 7- عن الشعبي وعكرمة عن ابن عباس قال: لقد رأى محمد ربه.
فهذه الرواية المطلقة عن ابن عباس ليلة الإسراء والمعراج في الرؤية في الدنيا، حملها العلماء على الروايات المقيدة بالفؤاد. بدليلين:
الأول: الروايات عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد صرّحت أنها أول من سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى}[النجم:11]{ولقد رآه نزلة أخرى} فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ذلك جبريل لم أره في صورته التي جاءني فيها إلا مرتين...» الحديث.
الدليل الثاني- ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: هل رأيت ربك عز وجل، فقال: «نور أنَّى أراه؟».
وفي رواية لمسلم بإسناده عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لسألته، قال: وعن ماذا كنت تسأله، قلت: كنت أسأله هل رأى ربه عز وجل، قال: كنت قد سألته فقال: «نور أنّى أراه؟».(1/98)
وبهذا انتهى الخلاف في تفسير الآية {ولقد رآه نزلة أخرى}وأنه جبريل عليه السلام رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على صورته التي خلق عليها مرتين وبذلك حملت الرواية المطلقة في الرؤية عن ابن عباس، على الروايات المقيدة بالفؤاد.
وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري 8/ 608 المثبتين للرؤية في الدنيا والنافين لها، ثم بين أن الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية جاءت مقيدة بالفؤاد والقلب، وجاءت مطلقة، ثم قال: فيجب حمل المطلقة على المقيدة.
ثم قال: وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم قال: إن المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان عالماً بالله على الدوام. اهـ. وانظر كتاب الإيمان لابن منده، 2/ 778، فإنه قد عقد فصلاً بعنوان« ذكر وجوب الإيمان برؤية الله عز وجل» وأورد تحته أكثر من مائتي رواية صريحة ومتضمنة لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
وسنذكر بعض ذلك عند ذكر أدلة المثبتين للرؤية والمؤلفين فيها كتباً خاصة من أهل السنة والجماعة.
ونتابع ما قاله ابن جرير فقد قال في (ج 7/301): حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: قالت عائشة:«من قال إن أحداً رأى ربه، فقد أعظم الفرية على الله، قال الله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}».
فهذه الروايات تبين بما لا يدع مجالاً للشك، أن المقصود من الرؤية المنفية الرؤية في الدنيا.
وقد سبق عن ابن جرير تفسيره لمعنى الإدراك عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي، وأن الآية لا تنفي الرؤية، إنما تنفي الإحاطة.(1/99)
ثم يتابع ابن جرير الرد على المدعين تفسيرهم الإدراك بالرؤية، ويبين الصواب في ذلك، بالدليل من الكتاب والسنة، كما يبين أنه ليس عند هؤلاء إلا التمويه والتلبيس، فيقول: وقال قائلوا ذلك- أي أن المعنى: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار-: أن معنى الإدراك في هذا الموضع: الرؤية، وأنكروا أن يكون الله يُرَى بالأبصار في الدنيا والآخرة وتأولوا قوله: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابه).
قلت: وهذا هو الذي يردده الخليلي.
ثم قال: (وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وردوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تحيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضروب من التمويهات..) إلخ ما نقله عنهم من التمويهات، وهو كما قال(1).
وقد استمر في نقل تلك التمويهات عنهم، المستندة إلى العقول لا إلى الوحي، إلى أول (ص303) إلى أن قال: (والصواب في ذلك من القول عندنا:
ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب» فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}).
ثم واصل الرد عليهم بمنطقهم وحججهم فبين زيفها وأنهم لن يقولوا قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله، وفي آخر صفحة 303 ختم ذلك بقوله:
__________
(1) تفسير ابن جرير 7/ 301 وقد استمر في نقل تلبيساتهم إلى أول ص 303.(1/100)
(ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها، وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل(1) آي الفرقان.
ولكنا ذكرنا القدر الذي ذكرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة)(2) اهـ
قلت: إن ما ذكره الإمام ابن جرير في وصفه لهؤلاء المنكرين لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم، بالتمويه والتلبيس، لدليل واضح على أن المعاصرين منهم سلكوا سبيل أسلافهم، وأخذوا بما أَصَّلوه لهم، فقد سبق في هذا البحث أن أشرت إلى تلبيسات وتمويهات ومغالطات المؤلف الخليلي، ويعلم الله أني قلت ذلك لما وجدته من تمويهاته وتلبيساته، قبل أن اطلع على كلام ابن جرير هذا، الذي يشفي صدر كل مؤمن متبع لمنهج السلف.
فقد وضح لي أن تمويهات وتلبيسات الخليلي هذا هو منهج أسلافه، وأنهم كما قال ابن جرير (لا يستندون في أقوالهم تلك إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صحيحة ولا سقيمة، وإنما بضاعتهم المزجاة عقولهم التي قدموها على نصوص الوحي، فهم في الظلمات يتخبطون متبعين لأهوائهم {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50].
كشف تمويهات الخليلي
والردّ عليها
__________
(1) التأويل في اصطلاح ابن جرير معناه التفسير، ولهذا يقول في بداية كل آيه: القول في تأويل قوله...
(2) تفسير ابن جرير 7/299 - 304.(1/101)
ومن تمويهات الخليلي أنه ينقل جملة من سطر، ويترك ما يوضحها ويبين ردها في السطر الذي يليه، كما أنه لا يذكر المرجع من كتب أهل السنة إلا إذا ظن أنه يلبّس بذكره على القارئ، وإليك ما يوضح ذلك:
أولاً- جاء في كتابه هذا ص 47 حينما تحدث في تفسير النظر في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} ونقل تفسير المعتزلة لها بالانتظار، قال: (وهو مروي عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم) فذكر من أسماء الصحابة علي، وابن عباس وابن عمر، وعدداً من التابعين ولم يذكر مرجعاً لأقوالهم.
قال: (ورواه عن عكرمة عبد بن حميد، كما رواه عن مجاهد وأبي صالح بإسناد صححه ابن حجر، قال: وأخرجه الإمام ابن جرير الطبري عن مجاهد بخمسة أسانيد)
وفي كلامه إنكار صريح للرؤية! فهو هنا يصف ابن جرير بالإمام، ولكنه لا ينقل ما رجحه ابن جرير واختاره، كما سبق. ولم يذكر تفسير ابن جرير مرجعاً لما نسبه إليه وإنما ذكر فتح الباري ج 13/425 مع أن ابن حجر ذكر كلام ابن جرير في السطر الذي يلي السطر الذي أخذ منه الخليلي ما يريد.
وابن حجر رحمه الله كان يشرح في كتاب التوحيد ما أورده البخاري في باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} (ص:419) وبدأ بالشرح بعد إيراد الأحاديث الصريحة في ذكر الرؤية يوم القيامة من (ص: 424) فقال: (قوله: باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}، كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد بن حميد، والترمذي، والطبري، وغيرهم، وصححه الحاكم من طريق ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:(1/102)
«إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَنْ ينظر في ملكه ألفي سنة، وإن أفضلهم منزلة لَمَنْ ينظر في وجه ربه عزّوجل كل يوم مرتين. قال: ثم تلا: {وجوه يومئذ ناضرة} قال: بالبياض والصفاء، {إلى ربها ناظرة} قال تنظر كل يوم في وجه الله». لفظ الطبري من طريق مصعب بن المقدام عن إسرائيل عن ثوير)(1).
هذا كلام ابن حجر ثم استمر في نقل ذلك فقال في (ص:424- 425): (وأخرج الطبري من طريق أبي الصهباء موقوفاً نحو حديث ابن عمر، وأخرج بسند صحيح إلى يزيد النحوي عن عكرمة في هذه الآية قال:«تنظر إلى ربها نظراً».
وأخرج عن البخاري عن آدم عن مبارك عن الحسن قال:« تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنظر».)
ثم أورد ابن حجر الأقوال الأخرى التي أوردها ابن جرير، وأتبع ذلك بترجيح ابن جرير واختياره فقال:
(وقد أخرج عبد بن حميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية، قال: ويمكن الجمع بالحمل على غير أهل الجنة. قال: وأخرج بسند صحيح عن مجاهد: ناظرة تنظر الثواب وعن أبي صالح نحوه، قال:
وأورد الطبري الاختلاف. فقال: الأولى عندي بالصواب: ما ذكرناه عن الحسن البصري وعكرمة وهو ثبوت الرؤية لموافقته الأحاديث الصحيحة.
قال: وقد بالغ ابن عبد البر في ردّ الذي نقل عن مجاهد وقال هو شذوذ، وقد تمسك به بعض المعتزلة. اهـ.
قلت: ومنهم الخليلي هذا، لأن الإباضية يقولون بقول المعتزلة، وقد سبق أن اعتز بهم وبالجهمية بأنهم يقولون بقوله.
ونقول للقارئ: انظر لتلبيس المؤلف الخليلي، فقد نسب لابن عمر خلاف قوله كما في الرواية المرفوعة التي ذكرها ابن حجر عن الترمذي والطبري وصححها الحاكم.
ثانياً- ومما يوضح تمويهات الخليلي كذلك تركه لكلام ابن جرير والروايات التي ذكرها عنه، وفيها إثبات الرؤية عن عكرمة والحسن ورواية مجاهد عن ابن عمر مرفوعاً، وهي الرواية التي ذكرها ابن حجر، وكلها في تفسير ابن جرير الذي وصفه الخليلي بالإمام.
__________
(1) تفسير ابن جرير 29/ 193 وسيأتي نصه عنه.(1/103)
ثم اختار الرواية التي يريدها عن عكرمة ومجاهد من فتح الباري، ولم يذكر كلَّ ما ذكره ابن حجر أيضاً عن ابن جرير، وكانت الأمانة العلمية تلزمه أن ينقل ما ذكره ابن حجر، وأن يذكر تفسير ابن جرير -الذي ذكر الروايات عنه بالجزء والصفحة- حتى يرجع القارئ لذلك، ولكنه تركه تلبيساً وتدليساً وغشاً للقارئ، لأنه يخشى أنه إذا رجع القارئ لذلك، فسيجد أن ابن جرير أورد الروايات كلها حسب ما تقتضيه الأمانة العلمية، ثم سيجد بعد ذلك اختيار الصواب من القولين لموافقته للدليل حيث قال: (وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرمة، من أن معنى ذلك، تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حدثني علي بن الحسين ثم ساقه بإسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:«إن أدنى أهل الجنة منزلة، لمن ينظر في ملكه ألفي سنة قال: وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله كل يوم مرتين»، قال: ثم تلا: {وجوه يومئذ ناضرة} قال: بالبياض والصفاء، {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر كل يوم في وجه الله عز وجل»(1).
وقد ذكر قبل ذلك بإسناده عن مجاهد عن ابن عمر قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه وسرره وخدمه مسيرة ألف سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أرفع أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى وجه الله غدوة وعشية» (2).
هذه رواية مجاهد عن ابن عمر.
فماذا يقول الخليلى لقرائه إذا عرفوا أنه ينسب لصحابي جليل خلاف قوله، فهذا قول ابن عمر صريح في أن المؤمنين ينظرون إلى وجه ربهم عز وجل. وكذلك سبق ما نقله ابن جرير عن ابن عباس، في إثبات الرؤية ونفي الإحاطة.
__________
(1) تفسير ابن جرير 29/193.
(2) تفسير ابن جرير 29/193.(1/104)
وقد يرد سؤال وهو: إذا كان هؤلاء النفاة لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم، لا يستندون في دعواهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صحيحة ولاسقيمة، كما يقول الإمام ابن جرير رحمه الله، فما الحاجة لمناقشتهم والرد عليهم.
والجواب على هذا السؤال، هو ما سنورده تحت العنوان التالي:
لماذا مناقشة الخليلي في إنكاره الرؤية
وهو لا يستند إلى دليل من الكتاب أو السنة
وأقول إنَّ ما أوردته من مناقشات للخليلي في إنكاره لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم، ليس من أجل أن له أدلة على مذهبه يعتد بها، لأنهم كما قال الإمام ابن جرير الطبري في رده على المنكرين للرؤية يوم القيامة كما تقدم قوله عنهم: (إنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة)(1).
وإنما أردت بتلك المناقشة الكشف عن مغالطاته وتمويهاته، التي تبع فيها أسلافه ومن يعتز بهم، بأنه معهم على مذهبهم، وأنهم يقولون كما يقول، وهم الجهمية والمعتزلة والإمامية والزيدية، هكذا يقول كما في (ص:32) من كتابه هذا.
ثم كشف ادعائه بأن طائفته، (الإباضية) كما يقول في (ص: 7) أنهم:(أهل الحق والاستقامة، لا يأخذون عقائدهم إلا من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وأنهم عند الاختلاف مع غيرهم يرجعون إلى الاحتكام إلى الكتاب والسنة).
__________
(1) تفسير ابن جرير 7/304.(1/105)
واستدل على قوله هذا بالآية 59 من سورة النساء فأورد نصها: {...فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..} كما في (ص: 6) مع أن المؤلف لم يورد على دعواه في نفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في الجنة، آية واحدة من كتاب الله محكمة، ولا رواية صحيحة ولا سقيمة، وإنما كل الذي تفوّه به هو رد النصوص المثبتة لذلك. وبهذا يتبين للقارئ زيف دعوى الخليلي أن طائفته (أهل الحق والاستقامة) كما يدعي، (وأنهم لا يأخذون أدلتهم إلا من نصوص الكتاب والسنة.)
وبعد هذه المناقشة التي يتبين للقارئ منها أن الخليلي لا يستند في دعواه إلى دليل في نفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، لا من كتاب الله عز وجل، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ننتقل نحن وإياه إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله في هذه القضية العقدية، كما دعا الخليلي إلى ذلك في مقدمة كتابه هذا (ص:6-7).
التحاكم إلى الله ورسوله
ذِكْرُ أدلة المثبتين لرؤية المؤمنين ربهم، وهم في جنات النعيم
(أ) الأدلّة من كتاب الله الكريم.
(ب) الأدلة من السّنة الصحيحة.
سبق للمؤلف الخليلي أن دعا إلى التحاكم إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- عند الاختلاف.
كما سبق أن أشرت أن هذه دعوى يطلقها المؤلف بلسانه، ويسطرها في كتابه هذا ببنانه، وذلك للتدليس والتلبيس على القُرّاء، وإلا فهو يَرُدّ النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة بعقله وهواه.
مع العلم أنه عاب على أصحاب المدرسة العقلية تقديمهم لعقولهم على ما جاء به النبيون، كما في (ص:8) من كتابه هذا.(1/106)
ولتقف معي أيها القارئ على ما أقول عن تناقض الخليلي المذكور: فإنني أدعو المؤلف إلى ما قرره، وهو التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- في مسألة رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، لأنها مسألة عقدية تتعلق بذات الله عز وجل وصفاته، فالحكم فيها لله ورسوله، والله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 95] وهذه الآية الكريمة التي أوردها المؤلف في كتابه هذا (ص:6) تلزم المدّعي للإيمان بالله واليوم الآخر الرجوع إلى الكتاب والسنة للتحاكم إليهما، كما أن الإيمان لا يتم بل لا يوجد عند المرء إلا إذا رضي بحكم الله ورسوله وسلّم له تسليماً، ولم يعارضه بعقله وهواه كما قال تعالى في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65] فالتحاكم فيما فيه الاختلاف، ثم الرضا والتسليم بحكم الله ورسوله، وعدم الحرج والضيق بذلك الحكم، شرط في صحة الإيمان كما هو صريح هذه الآية.
ونبدأ بالتحاكم إلى الله عز وجل في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم:
فنسوق لك أيها القارئ الكريم، بعض الآيات الواردة في ذلك، وسنذكر الآية وأقوال المفسرين لها، ونقلهم للأحاديث الصحيحة من الصحيحين وغيرهما الواردة في تفسيرها، وخير ما يفسّر به القرآن بعد القرآن صحيح السنة، وذلك ليتضح للقارئ أن المؤلف الخليلي ومن تبعهم واعتزّ بهم وصرّح بأنه وإياهم على عقيدة واحدة لا يرضون بحكم الله ورسوله في هذه المسألة وغيرها من مسائل العقيدة.
فقد قال في (ص: 32):(وذهب إلى استحالتها في الدنيا والآخرة، أصحابنا الإباضية، وهو قول المعتزلة، والجهمية، والزيدية، والإمامية من الشيعة).(1/107)
قلت: أما في الدنيا فمذهب أهل السنة أنه لم ولن يره أحد، لا لاستحالتها، وإنما لحكمة أرادها الله عز وجل، وقد بين العلماء ذلك، كما سبق(1)، وكما سيأتي في شرح الآية التالية التي طلب فيها موسى عليه السلام من ربه الرؤية.
وأما في الآخرة فإليك بعض الآيات الدالة على إثباتها، نسوقها جملة ثم نتبعها بالتفصيل آية آية، مع ذكر أقوال المفسرين لها:
يقول الله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخَرَّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: 143].
وقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103].
وقوله تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [يونس:36].
وقوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة} [القيامة:22-23]
وهناك آيات أخرى ذكرها العلماء في هذا الباب، وأورد الكثير منها ابن القيم في حادي الأرواح(2).
وإليك تفصيل الآيات وأقوال المفسرين فيها:
أولاً: يقول تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخَرَّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: 143].
__________
(1) ص 73.
(2) ص: 370(1/108)
ووجه الاستدلال بهذه الآية على الرؤية يوم القيامة، أن موسى عليه السلام لما جاء لميقات ربه ووعده له،كلّمهُ ربه مشافهة بلا واسطة، فلما سمع موسى كلامه له، وهو في مقام التكريم، طمع في المزيد من هذا الفضل فطلب من ربه عز وجل الرؤية؛ حيث قال: {ربّ أرنى انظر إليك} ولكن حكمة الله عز وجل اقتضت أن لا يراه أحد من البشر في هذه الدنيا؛ لا لاستحالتها وإنما لحكمة هو يعلمها، و لهذا لم يزجر موسى عليه السلام عن مثل هذا السؤال؟ وإنما قال له: {لن تراني} أي في هذه الدنيا.
بدليل أنه تجلّى للجبل وهو جماد، ولهذا قال له: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانة فسوف تراني} أي إنك وأنت بهذه البنية لن تستطيع الثبات لرؤيتي، كما لم يستطع الجبل الثبات لذلك.
ولو أن موسى عليه السلام سأل ربه ما لا يجوز لجاءه الجواب كما جاء لنوح عليه السلام، وهو من أولي العزم حينما سأله بقوله: {ونادى نوح ربه فقال ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 44، 45].
فلو كان سؤال موسى عليه السلام غير جائز، لقال الله عز وجل له: لا أُرى أو لَسْتُ بمرئيّ، أو لا تسألني ما ليس لك به علم.
وقد سبق نقل الروايات في تفسير هذه الآية عن ابن جرير(1)، بما يثبت دلالة هذه الآية على إمكان الرؤية.
ويقول ابن كثير في تفسير الآية: (يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله، سأل الله تعالى أن ينظر إليه، فقال: {ربّ أرني انظر إليك قال لن تراني}.
__________
(1) ص 70.(1/109)
قال: وقد أشكل حرف « لن » ها هنا على كثير من العلماء، لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة علي نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة}.
وقوله تعالى إخباراً عن الكفار: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون}، وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعاً بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة)(1) اهـ.
ثانياً- قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103) يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار}.
فيه أقوال للأئمة من السلف:
أحدها: لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترت به الأخبار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عدة طرق ثابتة في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت: «من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب، فإن الله يقول: {لا تدركه الأبصار}».
قال: ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عياش عن عاصم ابن أبي النجود، عن أبي الضّحى عن مسروق، ورواه غير واحد عن مسروق، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه.
قال: وقد خالفها ابن عباس: فعنْهُ إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين.
قال: والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله.)
قلت: وقد سبق نقل ذلك من الصحيحين، وأوردنا ما ذكره ابن منده في رواية ابن عباس ورواية عائشة، وذكرنا جمع العلماء بين نفي عائشة، ورواية ابن عباس المطلقة والروايات التي ذكرها ابن جرير عن ابن عباس وغيره، في الرد على تلبيس المؤلف(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/ 466.
(2) ص 75 ومابعدها.(1/110)
ويواصل ابن كثير فيقول: (وقال ابن أبي حاتم وساق بإسناده إلى يحيى بن معين قال: سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال: هذا في الدنيا.
وقال آخرون: {لا تدركه الأبصار}، أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الآخرة.
وقال آخرون من المعتزلة- بمقتضى ما فهموه من هذه الآية- إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.
فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله.
أما الكتاب:
فقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}.
وقال تعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}.
قال الإمام الشافعي: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى.
وأما السنة:
فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس، وجرير، وصهيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبي- صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنِّه وكرمه آمين).اهـ.
كما بين أنه لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم.
قلت: وقد دل على هذا قوله تعالى في سورة الشعراء في قصة موسى وقومه، وفرعون وقومه، قال تعالى: {فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربى سيهدين} [الشعراء: 61- 63) فالآية صريحة في أن الرؤية غير الإدراك؛ فالإدراك الإحاطة، وقد حصلت الرؤية، ولم تحصل الإحاطة.
كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال الله تعالى: {ولا يحيطون به علماً}، وفي صحيح مسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»(1) ولا يلزم من هذا عدم الثناء فكذلك هذا.
كما نقل ابن كثير عن ابن عباس: لا يحيط بصر أحد بالملك.
__________
(1) مسلم/ ح(486) .(1/111)
وعن عكرمة أنه قيل له: {لا تدركه الأبصار} قال: ألست ترى السماء؟ قال:
بلى. قال: فكلها ترى؟
ونقل عن ابن جرير، وعن عطية العوفي في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}، قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم، فذلك قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.(1) وقد تقدم ذلك عن ابن جرير.
ثالثاً - قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولايرهق وجوههم قترٌ ولا ذلة أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون} [يونس:36].
يقول ابن كثير: قوله: (وزيادة) -بعد أن ذكر ما يتفضل الله به على عباده المؤمنين من مضاعفة الحسنات وما يعطيهم الله في الجنان قال-: (وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله وبرحمته، وقد رُوي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، عبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/ 302- 303.(1/112)
قال: وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما رواه الإمام أحمد بإسناده عن صهيب: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال:«إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقّل موازيننا، ويبيّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم»(1).
رابعاً: قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة}.
يقول ابن كثير في تفسيره: ({وجوه يومئذ ناضرة} من النضارة، أي حسنة بهية مشرقة مسرورة، {إلى ربها ناظرة} أي: تراه عياناً، كما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه: «إنكم سترون ربكم عياناً».
وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله- عز وجل- في الدار الآخرة، في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها لحديث أبى سعيد وأبي هريرة- وهما في الصحيحين-:
أن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم كذلك».
وفي الصحيحين عن جرير قال: «نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا»(2).
ثم سرد الروايات وهي في الصحيحين والسنن عن:
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/ 198-199، وقد أخرجه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب (إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم)ح(180).والإمام أحمد في المسند 4/333 .
(2) البخاري/ التوحيد،ح(7434) ويأتي ص144.(1/113)
أبي موسى، وصهيب، وجابر، وابن عمر، إلى أن قال: ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقاً في مواضع من هذا التفسير وبالله التوفيق.
قال: وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام (1).) أهـ
وبعد أن نقل هذه الأدلة الصريحة على إثبات رؤية المؤمنين يوم القيامة ربهم وإجماع الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة على ذلك، واتفاق أئمة المسلمين على ذلك، رد على من نُقل عنه التأويل بانتظار الثواب.
قلت: ومعلوم أن الأئمة الأربعة المتبوعين في العالم الإسلامي يقولون ذلك ويؤمنون به، وسيأتي ذكر ذلك .
أما ردّه فقال فيه: (ومن تأول ذلك بأن المراد بـ« إلى» مفرد الآلاء وهي النعم؟ كما روي عن مجاهد {إلى ربها ناظرة} فقال: تنتظر الثواب من ربها رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد، وكذا قال أبو صالح أيضاً.
فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال الشافعي رحمه الله: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل.
قال: ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله: {إلى ربها ناظرة}.)
ثم نقل ما اختاره الإمام ابن جرير، الذي نقل الروايات عن مجاهد، والتي لبَّس بنقلها المؤلف الخليلي، ولم يذكر المرجع حتى لا يرجع القارئ إليه ويعرف اختيار ابن جرير كما سبقت الإشارة لذلك.
فقال ابن كثير:( قال ابن جرير حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم حدثنا المبارك عن الحسن: {وجوه يومئذ ناضرة} قال: حسنة {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنضُرَ وهي تنظرُ إلى الخالق(2)).اهـ
__________
(1) تفسير ابن كثير 8/305.
(2) تفسير ابن كثير 8/6 0 3. تفسير ابن جرير 29/192.(1/114)
ويقول ابن القيم في حادي الأرواح(1) بعد أن أورد ست آيات من كتاب الله على إثبات رؤية المؤمنين ربهم في جنات النعيم قال:
الدليل السابع: قوله عز وجل: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}
قال: وإذا أنت أجَرْتَ هذه الآية من تحريفها عن مواضعها والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراد منها، وجدتها منادية نداء صريحاً، أن الله سبحانه يُرى عيانًا بالأبصار يوم القيامة، وإن أَبَيْتَ إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك، ولا يشاء مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا، ثم قال: وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المُعدّى بإلى خلاف حقيقته، وموضوعه صريح في أن الله سبحانه وتعالى، أراد بذلك نظر العين التي في الوجه، إلى نفس الرب جل جلاله.
فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله: {انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد: 13].
وإن عُدّي بفي فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} [الأعراف: 185].
وإن عُدّي بإلى فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} [الأنعام:99]، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟.
قال يزيد بن هارون: أنبأنا مبارك، عن الحسن: نظرت إلى ربها تبارك وتعالى فنضرت بنوره.
__________
(1) ص 370.(1/115)
ثم قال: فاسمع أيها السني تفسير النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية. ثم قال: قال ابن مردويه في تفسيره، حدثنا محمد ابن الصباح وساق إسناده إلى عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة} قال: من البهاء والحسن، {إلى ربها ناظرة}، قال: في وجه الله عز وجل.
وقال أبو صالح: عن ابن عباس {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر إلى وجه ربها.
قال عكرمة: {وجوه يومئذ ناضرة} قال: من النعيم، {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر إلى ربها نظراً.
ثم حكى عن ابن عباس مثله، قال: وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث.)
فهذه بعض الآيات الدالة على رؤية المؤمنين ربهم وهم في جنات النعيم وتلك أقوال المفسرين لها من أهل السنة والجماعة.
وحيث إن الخليلي قد التزم بالمحاكمة إلى كتاب الله، وسنة رسوله، فإليك بعض النصوص من السنة، وسنبدأ باختيار نصوص من الصحيحين: البخاري ومسلم، وإليك تلك النصوص:
ثانياً- النصوص من السنة:
قال البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد:
باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}
1- حديث: جرير
1- قال: حدثنا عمرو بن عون، ثم ساق بإسناده عن قيس عن جرير قال: كنا جلوساً عند النبي- صلى الله عليه وسلم-، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا». (حديث/ 7434).
2- قال: وحدثنا يوسف بن موسى وساق بإسناده عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-:
«إنكم سترون ربكم عياناً» (حديث/ 7435).
3- عن عبدة بن عبد الله بإسناده إلى جرير قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (حديث/ 7436).
2- حديث أبي هريرة(1/116)
4-وقال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله وساقه بإسناده إلى أبي هريرة، إن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:«هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله، قال:فإنكم ترونه كذلك(1)»......وساق الحديث بطوله.....(حديث: 7437).
3- حديث أبى سعيد الخدري
5- قال: حدثنا يحيى بن بكير وساقه بإسناد، عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤية أحدهما...» وساق الحديث بطوله. (حديث/7439)
وفيه ذكر الشفاعة، وإنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وسوف نورده بتمامه عند الرد على المؤلف في دعواه تخليد العصاة في النار.
4- حديث أبي موسى الأشعري
6- قال: حدثنا علي بن عبد الله وساق بإسناده عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتها وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (حديث/ 7440).
قلت: وهذا الحديث هو الذي استدل به الخليلي على نفي الرؤية، ثم ترك الحديث التالي بعده، وهو حديث عدي، فهل الخليلي يرى نفسه أفقه من الإمام البخاري، الذي قيل إن فقه صحيحه في أبوابه.
5- حديث عدي بن حاتم
__________
(1) مسلم أخرجه في الإيمان باب معرفة طريق الرؤية ح(182).(1/117)
7- قال: حدثنا يوسف بن موسى وساق بإسناده عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه»(1) (حديث:7443)
وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله تحت هذا الباب إحدى عشرة رواية، اخترنا منها هذه الروايات السبع وهي صريحة في أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً، ومن أصدق من رسول الله بعد الله عز وجل حديثاً؟، وقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه كما ترى تخريجها في الحاشية.
وقال ابن حجر رحمه الله في نهاية شرح هذه الأحاديث التي أوردها البخاري، قال في (ص:434) (تكملة: جمع الدارقطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال: عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية صحاح)(2) أهـ
كما أخرج مسلم بعد حديث أبي موسى الأشعري السابق في باب إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة حديث صهيب، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل».
وفي رواية حماد بن سلمة، وزاد: ثم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)}[يونس: 26]
__________
(1) البخاري، فتح الباري 13/ 41- 424 هذه روايات البخاري.ومسلم في الإيمان/ باب إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الاخرة ح(180).رواية أبي موسى الأشعري.مسلم في الإيمان أخرج حديث أبي سعيد في باب معرفة طريق الرؤية ح(182).
(2) فتح الباري 13/ 434. وقد طبع كتاب الرؤية للدارقطني سنة1411هـ مكتبة المنار. تحقيق إبراهيم العلي، وأحمد فخري الرفاعي.(1/118)
قلت: ومن المناسب أن نسوق نص ما أشار إليه ابن حجر من أن ابن القيم تتبع طرق الأحاديث في رؤية الله تعالى في الآخرة في كتابه (حادي الأرواح) فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، فقد قال ابن القيم في (ص: 373) بعد أن ذكر الأدلة من القرآن الكريم: ((فصل):
وأما الأحاديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها عنه، أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة ابن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعمارة بن رويبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوف، وأبي ابن كعب، وكعب ابن عجرة، وفضالة بن عبيد، ورجل من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- غير مسمى(1).
ثم قال: فهاك سياق أحاديثهم من الصحاح والمسانيد والسنن، وتلقّها بالقبول والتسليم، وانشراح الصدر، لا بالتحريف والتبديل وضيق العطن، ولا تكذب بها، فمن كذّب بها لم يكن إلى وجه ربه من الناظرين، وكان يوم القيامة من المحجوبين.)
ثم قال: فصل- فأما حديث أبي بكر الصديق وذكر إسناده ثم استمر في سياق أحاديث من ذكر أسماءهم من الصحابة، إلى آخرهم الرجل الذي لم يسم. (ص: 409). وقد أشار المحقق إلى أماكن ورودها.
__________
(1) قلت: وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معلوم في مصطلح الحديث، إذ الصحابة كلهم عدول، إلا عند الرافضة، ومثلهم المعتزلة، والخوارج، ومنهم الإباضية، فيُجْرُون عليهم قواعد الجرح والتعديل، والله عز وجل قد عدّل أصحاب نبيه؛ فلا حاجة لهم إلى تعديل أحد من خلقه.(1/119)
ثم قال: وهناك بعض ما قاله أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والتابعون، وأئمة الإسلام، فذكر عدداً من الصحابة قالوا بإثبات الرؤية.)
وفي (ص: 412) قال: (قال الطبري: فيحصل في الباب ممن روى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الصحابة حديث الرؤية ثلاث وعشرون نفساً، منهم علي، وأبو هريرة... الخ فذكر أسماءهم.
وقال الدارقطني: أخبرنا محمد بن عبد الله..... قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحاح.
وقال البيهقي: روينا في إثبات الرؤية عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي موسى، وغيرهم، ولم يرووا عن أحد منهم نفيها، ولو كانوا فيها مختلفين لنقل اختلافهم إلينا، كما أنهم لما اختلفوا في الحلال والحرام والشرائع والأحكام نقل اختلافهم في ذلك إلينا.
وكما أنهم لما اختلفوا في رؤية الله بالأبصار في الدنيا، نقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلما نقلت رؤية الله سبحانه وتعالى بالأبصار في الآخرة عنهم، ولم ينقل عنهم في ذلك اختلاف، كما نقل عنهم فيها اختلاف في الدنيا، علمنا أنهم كانوا على القول برؤية الله بالأبصار في الآخرة متفقين ومجتمعين.) اهـ
ثم قال: (فصل- وأما التابعون وعصابة الإيمان من أئمة الحديث، والفقه، والتفسير، فأقوالهم أكثر من أن يحيط بها إلا الله عز وجل.
قال سعيد بن المسيب: الزيادة: النظر إلى وجه الله. ورواه مالك عن يحيى عنه.
وقال الحسن: الزيادة: النظر إلى وجه الله.)
وبعد أن ذكر عدداً كبيراً من التابعين يثبتون رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، قال في (ص:414) (فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونظرائهم، وشيوخهم، وأتباعهم على طريقتهم ومنهاجهم، ثم قال:
1- ذكر قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: قال أحمد بن صالح المصري، حدثنا عبد الله بن وهب قال: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة بأعينهم.(1/120)
وقال الحارث بن مسكين: حدثنا أشهب قال: سئل مالك عن قوله عز وجل: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى وبها ناظرة} أتنظر إلى الله عز وجل؟ قال: نعم، فقلت إن أقواماً يقولون: تنتظر ما عنده، قال: بل ننظر إليه نظراً وقد قال موسى: {رب أرني انظر إليك قال لن تراني} وقال الله عز وجل: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}.
ثم ذكر قول ابن الماجشون، والأوزاعي، والليث، وسفيان بن عينية، وعبد الله ابن المبارك، ووكيع بن الجراح، وقتيبة بن سعيد، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأسود بن سالم شيخ الإمام أحمد.
2- قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، سبق نقل قوله في تفسير قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال: لما حجب أعداءه في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله وتقول به؟ قال نعم، وبه أدين الله.
3- قول إمام السنة أحمد بن حنبل: قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد: أليس ربنا تبارك وتعالى يراه أهل الجنة؟ أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح، قال ابن منصور وقال إسحاق بن راهويه: صحيح ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي.
ثم قال: ( قول جميع أهل الإيمان، قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: إن المؤمنين لم يختلفوا أن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين.
قول جميع أهل اللغة: قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد صاحب اللغة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً يقول في قوله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً * تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب:44]
أجمع أهل اللغة، على أن اللقاء ها هنا لا يكون إلا معاينة ونظراً بالأبصار، وحسبك بهذا الإسناد صحة.
قال: واللقاء ثابت بنص القرآن كما تقدم.(1/121)
وبالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل أحاديث اللقاء صحيحة ثم ساق أحاديث أخرجها البخاري ومسلم (1)) اهـ
قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي: ( وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين وسائر الطوائف المنسوبون إلى السنة والجماعة، وبقول الطحاوي: والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وتفسيره على ما أراده الله وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ورسوله ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه)(2). أهـ.
قلت: فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي أخرج الله به الناس من الكفر والشرك والجهل، إلى نور الإسلام، يبشر أمته بأنهم سيرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم عياناً، ويقول لهم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً لا تضارون»، وفي رواية «لا تضامون في رؤيته»، وفي رواية أبي هريرة، إن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟، وفي حديث أبي سعيد، قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ثم يأتيهم الجواب من الصادق المصدوق لمن سألوه مباشرة: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً ؟ قلنا لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤية أحدهما».
__________
(1) حادي الأرواح: 412-420
(2) شرح الطحاوية 1/208.(1/122)
فنقول: للخليلي- وأمثاله- وهو قد طلب المحاكمة إلى الله ورسوله عند التنازع، فهذا حكم الله كما سبق ذكر الآيات الكريمة فيه، وهذا حكم رسوله- صلى الله عليه وسلم- أوردناه من أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل وهو صحيح البخاري، فهذا قول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وأفصح من نطق بالضاد، وقد أجاب أصحابه رضوان الله عليهم على سؤالهم، وهم أفصح العرب، ففهموا ذلك واستبشروا به، وآمنوا به، وصدقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما أخبرهم به، وتبعهم على ذلك سلف هذه الأمة، كما سبق نقل إجماع الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام على ذلك، فهل ترضى وتسلم بحكم الله ورسوله كما قررت في كتابك هذا أكثر من مرة التحاكم إلى الله ورسوله عند الاختلاف؟
ولكن الخليلي لا يسلم لحكم الله ورسوله ولا يرضى بهما، بل إنه يرد هذه النصوص، ويصرح بتكذيبها، لمخالفتها لعقله وهواه الذي جعله معياراً لعرض النصوص عليه، مع أنه يعيب على أصحاب المدرسة العقلية ذلك، وأدعو القارئ أن لا يضيق صدره بهذا التعبير حتى يقرأ في هذه الصفحة كلام الخليلي.
إن المؤلف الخليلي أورد هذه النصوص من الصحيحين، وبعد أن أورد رواية أبي هريرة التي سبق نصها قال في (ص:56) سطر 6 من أسفل: (وجاء بألفاظ مختلفة عند الشيخين وغيرهما ومثله في ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين كذلك.
قال: وأنت أيها القارئ الكريم تدرك ببصيرتك، أن الأخذ بظواهر هذه النصوص يفضي إلى ما يرده العقل ويكذبه البرهان كما هو واضح) اهـ.
ونقول: نعوذ بالله من الخذلان واتباع الهوى الذي يؤدي بصاحبه إلى هذا التصريح الوقح، الذي يرد به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يصرّح بأن الأخذ بظاهر كلام رسول الله الثابت في الصحيحين وغيرهما يكذبه البرهان.(1/123)
ونناقش المؤلف الخليلي في هذه القضية بعينها فيما قرره هو ونعى على من اتبع هذا المسلك في رد النصوص، بتقديم عقله عليها، أو أن الأخذ بظاهرها يرده العقل ويكذبه البرهان، أو أن الأخذ بظاهرها كفر، وهو كقول من يقول الأخذ بها يكذبه البرهان.
يقول المؤلف الخليلي الذي ينعت طائفته الإباضية بأنهم أهل الحق والاستقامة، قال في (ص: 7) و (ص: 8) السطر الأخير من أولها: (تمتاز عقيدة الإباضية بثلاثة أمور:
ا- سلامة المنزع: فإنهم جمعوا في الاستدلال على صحة معتقداتهم بين صحيح النقل وصريح العقل، فلم يضربوا بالنصوص الصحيحة عرض الحائط بمجرد تعارضها مع مقتضى العقل كما هو شأن أصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس وأصح وأثبت مما جاء به النبيون عن الله عز وجل، فعولوا عليه في التحسين والتعليل والحكم. الخ ما قال)، هذا كلام الخليلي.
فبالله عليك يا خليل الجهمية والمعتزلة كما قلت ذلك، أن تبين للقارئ الفرق بين قولك الذي سبق نصه وهو قولك: إن الأخذ بظاهر ما رواه البخاري ومسلم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرده العقل ويكذبه البرهان.
وبين ما تعيبه وتنتقده على أهل المدرسة العقلية الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس وأصح وأثبت مما جاء به النبيون عن الله عز وجل؟ ألم تجعل عقلك أسمى وأقدس وأصح وأثبت مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أليس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو خاتم النبيين وأفضلهم؟ فلماذا تجعل عقلك أسمى وأقدس وأصح وأثبت مما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- فتقول: إن الأخذ بظاهر ما جاء به وثبت عنه في الصحيحين وغيرهما يرده عقلك ويكذبه برهانك؟.
أَمَا تستغفر الله وتتوب إليه من هذه الجرأة على رسول الهدى- صلى الله عليه وسلم-.
ونزيدك أيها القارئ الكريم من تناقضات الخليلي:
فقد جاء في (ص: 8) السطر 4 من أسفل عيبه وتشنيعه على الصاوي.(1/124)
وأهل السنة والجماعة المتبعون لمنهج السلف يعيبون على الصاوي ويردون عليه قوله، ولكنهم لم يسقطوا في حمأته كما سقط فيها الخليلي؛ لأن الخليلي والصاوي يستقيان جميعاً من ظلمات الذين يقدسون عقولهم ويقدمونها على نصوص الوحي.
يقول الخليلي- وهو يذكر الأمر الثاني الذي امتازت به الإباضية، وهو عدم التعصب لأئمتهم تعصباً يجعلهم يتصاممون عن النقول الصحيحة، -كما يقول- قال: (ومن أبشع ما وجدناه في ذلك قول العلامة الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين:« ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»اهـ
ونقول لك: ألست خليلاً للصاوي في مقالته الشنيعة هذه؟ فهو يقول:« الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر».
وأنت تقول: «الأخذ بظاهر ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرده العقل ويكذبه البرهان».
فإذا كان عقلك وبرهانك يكذّب ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فما الفرق بين قولك وقول الصاوي؟ { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
إنه لا فرق بين قولك وقوله إلا في اللفظ فقط، فتكذيب النصوص الثابتة هو الكفر بها، لأنك تصرّح بلفظ التكذيب بعد الرد فتقول: الأخذ بظاهر هذه النصوص يرده العقل ويكذبه البرهان؟
ولهذا نسأل المؤلف الخليلي عن النصوص التي يريد التحاكم إليها عند الاختلاف ما هي، فإنه قد التزم بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة، ولكن كما رأيت، أوَّل الآيات، ورد الأحاديث، فهل هناك نصوص غير الكتاب والسنة يريد التحاكم إليها؟(1/125)
قال في (ص:6) وأعيد نصه للقارئ ليعلم أن ما قلته هو الحق وهذا يوضح أن الخليلي يقول ذلك بلسانه وقلمه، ليخدع ويلبس على القارئ، لأنه لا يؤمن بتلك الدعوة وهي التحاكم إلى كتاب الله، وصحيح السنة، بعد أن رأيت رده لهذه النصوص، وقد كان يشكو اختلاف الأمة بعد أن حذّرها الله من ذلك وأن لا يفرقوا دينهم ويكونوا شيعاً وأحزاباً كالأمم السابقة، حيث قال:(ومع ذلك فلم تسلم من هذا الداء العضال الذي أصاب غيرها من الأمم، غير أن الله سبحانه اختصها بأن حفظ لها كتابها المنزل عليها من تحريف العابثين، وتبديل المناوئين، تحقيقاً لوعده الصادق: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] ومكن لها من معرفة الصحيح الثابت من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وجعل لها مَخلصاً من الشقاق والنزاع بالاحتكام إلى الله ورسوله حيث قال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59]
قال:(ولا يكون الاحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه، فتستلهم منه الحقيقة ويستبان به الحق، وكذلك الاحتكام إلى رسول صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا الرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة)اهـ.
ولكنه كما رأيت، يؤول الآيات، ويرد السنة الصحيحة، فيقول: إن الأخذ بظواهرها يرده العقل ويكذبه البرهان.
ولو أنه قال في (ص: 6) بدلاً من تلبيسه هذا وصرح بأن التحاكم عند الاختلاف إلى عقله هو وبرهانه، لأنه أصح وأثبت وأقدس مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكان كلامه مطابقاً لفعله، وما دعا إليه.(1/126)
هذا ما يتعلق بنفي الخليلي، لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم، وقد اتضح لك أيها القارئ الكريم أن الخليلي يرد النصوص بعقله، وأنه لا دليل عنده وعند أسلافه على نفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، فلا آية من كتاب الله محكمة، ولا رواية عن رسول الله صحيحة أو سقيمة كما قال الإمام ابن جرير في تفسيره: قال:
(ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان، ولكن ذكرنا القدر الذي ذكرنا ليعلم الناظر في كتابنا هذا، أنهم لا يرجعون من قولهم إلاَّ إلى ما لبس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، وإنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة)(1) اهـ
__________
(1) تفسير ابن جرير 7/ 303.(1/127)
وبعد كشف تلبيسات الخليلي الإباضي وتمويهه على قرائه في باب الرؤية، من كتابه هذا الذي أسماه « الحق الدامغ» وما جاء في رسالته رقم (4) التي أسماها «غرس الصواب في قلوب الأحباب» وهي ملخص لبحث الرؤية من كتابه هذا، وهي جديرة بأن تسمى «غرس الباطل في قلب الجاهل والغافل» ولكن بحمد الله وحسن توفيقه فإن من تيسر له قراءة هذا الرد سيتضح له إن كل ما أورده الخليلي الإباضي في الكتاب والرسالة على نفي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، ضلال وباطل أتي عليهما في هذا البحث المختصر المبارك نورُ الهدى والحقُّ فأصبحتا بحمد الله أثراً بعد عين، وصدق الله جل في علاه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [ الأنبياء:18 ]، وأعني بالهدى والحق هنا ما جاء في هذا البحث من النصوص الصريحة من كتاب الله الكريم، ومن السنة الصحيحة من كلام خير الأنام وأقوال الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من علماء الأنام. ففيها كشف ذلك الجهل السابغ الذي جاء في هذا الكتاب الذي أسماه بالحق الدامغ.
وإليك أيها القارئ الكريم أسماء بعض الكتب المصنفة في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في جنات النعيم، فقد أفردها بعض العلماء بمؤلف خاص، وكذلك بعض المصنفين من أهل السنة ذكروها في مؤلفاتهم، وكذلك أصحاب الصحاح والسنن أفردوا لها أبواباً في مؤلفاتهم، فأوردوا تحتها الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، للرد على هؤلاء المبتدعة الذين ينفون نصوص الكتاب والسنة بعقولهم.
فممن أفردها بمؤلف خاص:
الإمام الدارقطني، فله «كتاب الرؤية» (1)
والإمام أبو نعيم الأصبهاني.
والإمام الآجري- له كتاب:« التصديق بالنظر»(2).
أما المصنفون الذين ذكروا أحاديث الرؤية في مصنفاتهم فمنهم:
الإمام ابن بطة.
__________
(1) مطبوع، سنة 1411هـ مكتبة المنار تحقيق: إبراهيم محمد العلي، وأحمد فخري.
(2) مطبوع، تحقيق محمد حامد الفقي، وهو الجزء السابع من كتاب الشريعة. الناشر: أنصار السنة.(1/128)
اللالكائي، في كتابه- شرح أصول اعتقاد أهل السنة، المجلد الثاني ص (454-533) قال: سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عز وجل أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما أتبع ذلك بالأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين..... الخ.
وابن شاهين.
وقبلهم: عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه: « السنة» (1).
والإمام الدارمي في رده على الجهمية، تحت باب(2) الرؤية.
وحنبل بن إسحاق.
والخلال.
والطبراني.
وابن منده في كتابه «الإيمان» (3) ذكر في ذلك فصلاً طويلاً.
وابن منده في رده على الجهمية (4) بدأ بذلك في أوله.
وابن أبي عاصم، في «السنة». (5) قال في (ص: 95): باب ما ذكر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- كيف نرى ربنا في الآخرة.
وابن القيم في حادي الأرواح.
وأصحاب الصحاح منهم:
الإمام البخاري في كتابه الصحيح- في كتاب التوحيد- تحت باب {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} (6).
والإمام مسلم في صحيحة في كتاب«الإيمان» باب معرفة طريق الرؤية(7).
ومن أصحاب السنن:
الإمام أبو داود/ قال في كتاب السنة- من كتابه ج 5/ 97: باب في الرؤية.
والإمام ابن ماجه في المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية، وبدأ بأحاديث الرؤية.
__________
(1) مطبوع، بتحقيق الدكتور محمد سعيد القحطاني، 1/ 239 من ح 411- 487.
(2) الرد على الجهمية، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، تحت عنوان«باب الرؤية». (ص 87- 109)
(3) مطبوع، الطبعة الثانية.
(4) الطبعة الثانية، 1403هـ بدأ بذلك في أوله ص 35.
(5) مطبوع، تحقيق الألباني.
(6) فتح الباري 13/ 419.
(7) صحيح مسلم كتاب الإيمان 1/ 167.(1/129)
وغير هؤلاء من العلماء من أهل السنة والجماعة، وإنما ذكرنا ذلك ليرجع إليه من شاء، فإن أهل السنة في كل زمان ومكان، لا يتركون لهؤلاء المبتدعة تلبيسهم وتدليسهم على المسلمين، وإنما يكشفون زيفهم ويبينون أغلاطهم، بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وأقوال الصحابة والتابعين من أهل القرون المفضلة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالخيرية كما في صحيح البخاري وغيره: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..». الحديث (1).
والحمد لله أولاً وآخراً، وإلى البحث التالي، لدحض دعوى الخليلي في أن القرآن مخلوق، وهو عند أهل السنة كلام الله وصفة من صفاته، والله بذاته وصفاته واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجزء الثاني
الردّ على دعواه خلق القرآن(2)
وهي القضية الثانية
سبق في الجزء الأول الرد على إنكار الخليلي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، وسيجد القارئ الكريم في هذا الجزء الرد على دعواه «خلق القرآن» وفي الجزء الذي يليه الرد على دعواه« تخليد الفساق في النار» بالأدلة القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال سلف الأمة وأتباعهم.
كما سيجد الرد على القائلين بخلق القرآن من علماء بارزين من علماء الإباضية، ممن أثنى عليهم وشهد لهم بالعلم والتحقيق الخليلي نفسه، مثل الشيخ أبي بكر أحمد بن النضر العماني، صاحب الدعائم، في قصيدته وعنوانها:
__________
(1) البخاري/ فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،ح(3651).
(2) سبق طبع الجزء الأول، واطّلع عليه سماحة شيخنا / عبد العزيز بن باز -رحمه الله- ، وكان يسأل عن إكمال الرد على دعوى (خلق القرآن) و(تخليلد العصاة في النار) ولم يتيسر ذلك في حياته ، وبحمد الله فقد أعان الله على إتمامه، وها هما يصدران مع الجزء الأول في هذا الكتاب.(1/130)
« الرد على من يقول بخلق القرآن »
ومطلعها:
يا من يقول بفطرة القرآن
جهلاً ويثبت خلقه بلسان
لا تنحل القرآن منك تكلفاً
ببدائع التكليف والبهتان
هل في الكتاب دلالة من خلقه
أو في الرواية فأتِنَا ببيان
إلى آخر القصيدة، وهي تقع في خمسة وسبعين بيتاً، وقد رأيت من المناسب تصوير القصيدة بكاملها من الكتاب المذكور، طبع وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، وسيجدها القارئ في ملاحق الكتاب، ملحق رقم ((1)).
وقد شرح كتاب « الدعائم » ومن ضمنه هذه القصيدة، العالم الشيخ محمدبن وصاف الفقيه العماني الإباضي ـ كما وصفوه بذلك ـ في مجلدين، تحقيق: عبد المنعم عامر، نشر وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.وهي في الجزء الأول، وقد رأيت تصوير القصيدة مع شرحها حتى لا يقال: إن الأبيات شُرِحت من مخالف للإباضية، وهي موجودة في ملاحق الكتاب، ملحق رقم ((2)).
وهناك شاهد ثالث ـ شهد له الخليلي نفسه بالعلم والتحقيق ـ هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد البسيوي، صاحب كتاب «الجامع» فقد رد على من يقول بخلق القرآن في كتابه هذا رداً مقنعاً بالأدلة من القرآن، وبالأدلة العقلية، كما سيجد القارئ ذكر ذلك في مكانه المناسب من هذا الكتاب، مع صور لبعض الأوراق التي فيها التصريح بالرد القوي على القائلين بخلق القرآن، ومن المقدمة التي ذكر فيها المحقق ثناء الخليلي على الكتاب ومؤلفه، في الملحق رقم ((3)).(1/131)
وكل هذه الكتب من نشر وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، والتي لا يستطيع الخليلي الطعن فيها، وهي ترد على من يدعي من الإباضية المتأخرين أن قصيدة أبي النضر أدخلت في كتابه « الدعائم »؛ لأن هذه الدعوى لا قيمة لها مع شرح القصيدة من العالم الفقيه الإباضي محمد بن وصاف، ومما يؤكد ذلك قول العالم البسيوي، ثم نَشْر هذه الكتب من الوزارة المسؤولة عن التراث القومي والثقافة، وقد أقر الخليلي نفسه في كتابه هذا (ص 108) بنسبة هذه الكتب التي فيها الرد على القائلين « بخلق القرآن» فقد مثل بـ: الجزء الأول من «بيان الشرع»، والجزء الأول من «الكشف والبيان»، و«ديوان الإمام ابن النضر».
أما الرد فقد سلكت في ذلك، إيراد الشبهة التي يستند إليها الخليلي، ووجهة استدلاله، ثم الرد عليها بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، وكشف مغالطاته التي يسلكها، وبيان أسلوبه في تلك المغالطة، كنسبته الأقوال إلى غير أهلها، مع بيان اطلاعه عليها وفهمه لها، إذ لا يجوز لمسلم أن ينسب إلى مسلم قولاً وهو بريء منه، فالله يقول: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}(1) [ النساء 112 ].
وفيما يلي البدء بالرد على ما جاء في المقدمة:
المبحث الأول
ماورد في المقدمة من صـ (99ـ104)
قال الخليلي: (المقدمة في التعريف:
1ـ بالخلق.
2ـ وبالقرآن.
__________
(1) في أثناء كتابة هذا الرد على كتاب الخليلي، المسمى ((الحق الدامغ)) وصلتني رسالة في سلسلة رسائل في تصحيح الفكر العقدي (1) بعنوان: العقيدة الإسلامية في ضوء العقل والنقل، ((مختصر الحق الدامغ ومواضيع أخرى)) تأليف: ناصر بن مطر بن سعيد المسقري، الطبعة الأولى 1418، تقع في 73 صفحة. وقد قرأتها فلم أجد فيها جديداً غير ترديد ما أورده الخليلي في كتابه المذكور، فكان هذا الكتاب رداً على الكتاب المسمى : الحق الدامغ، وعلى مختصره. والحمد لله رب العالمين.(1/132)
3ـ والتفرقة بين القرآن وسائر الكتب المنزلة وبين الكلام النفسي).
وإليك أيها القارئ الكريم الباحث عن الحق، ما أورده الخليلي تحت هذه العناوين الثلاثة، ثم مناقشته فيما أورده، وبيان ما تعمد فيه المغالطة لمن لايدرك ذلك.
أولاً: تعريف الخلق: عرّف الخلق لغة واصطلاحاً، ثم بين أنه مما اختص الله به.
وأقول: إن هذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة وأتباعهم.
وأما أهل البدع فقد أشركوا في هذا النوع من التوحيد الذي هو توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله، كالخلق والرزق والإحياء والإماته... الخ.
حيث قال المعتزلة في أحد أصولهم الخمسة المسمى «العدل»: إن العبد يخلق أفعاله(1).
والخليلي يقول بقولهم في جميع ما يذهبون إليه في عقائدهم، ومن ذلك القول بخلق العباد أفعالهم، وبوجوب تنفيذ الوعيد وهو خلود العصاة في النار، كما أورده في كتابه هذا، وإذا كان الخليلي يوافق أهل السنة والجماعة أن صفة «الخلق» مما اختص الله بها ولم يشاركه في ذلك أحد، فهذا تناقض منه، ولكنها الفطرة التي فطر الله عليها الخلق جاءت على قلمه في هذا الموضع.
فالسؤال هو: بأيّ شيءٍ خلق الله هذه المخلوقات كلها السموات والأرض والبحار والأشجار والحيوانات والبشر وسائر المخلوقات؟.
إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله خلق المخلوقات كلها، بكلامه.
وهو قوله للشيء إذا أراده «كُنْ» فيكون.
كما قال تعالى في الردّ على منكري البعث:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ. قُلْ يُحْييهَا الّذِي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم...} إلى قوله: {... إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس 78ـ83 ].
وهكذا خلق الله جميع المخلوقات وأوجدها بقوله للشيء «كُنْ» فيكون.
__________
(1) الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص 301)، الطبعة الأولى (1384هـ)، الناشر مكتبة وهبة.(1/133)
قال تعالى: {خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابّة وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كل زوجٍ كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظَّالمون في ضلالٍ مبين} [لقمان10ـ11].
فالله له الخلق والأمر.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {... إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (أي: إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لايحتاج إلى تكرار أو تأكيد.
إذا ما أراد الله أمراً فإنما
يقول له كن قولة فيكون(1)
ثم أورد حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في المسند ولفظه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلامن عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له (كن) فيكون» (2).
فالآية صريحة في أن الله ?يتكلم كيف يشاء ومتى شاء وأن إيجاد المخلوقات كلها بكلامه ـ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له (كن) فيكون.
ولم يدخل الله (كلامه) في المخلوقات، لأن كلامه صفة من صفاته(3)
__________
(1) تفسير ابن كثير (6/582).
(2) مسند الإمام أحمد (5/177).
(3) وقال أبو الحسن البسيوي الإباضي في كتابه الجامع (1/75) طبع وزارة الثقافة بسلطنة عمان سنة (1404هـ): « وكلام الله تعالى من صفاته، وصفاته لم تزل له، ولو جاز لقائل أن يقول: إن الله لم يكن متكلماً ثم تكلم، لجاز لقائل أن يقول: لم يكن الله عالماً ثم علم، فلما فسد هذا القول على قائله، وكان الإجماع أن الله لم يزل الرحمن الرحيم، الحي العالم القادر السميع البصير المتكلم، فسد قول من يقول: إن كلام الله مخلوق، إذ هو المتكلم كما أنه هو العالم، والكلام صفته فدل بذلك أن كلامه غير مخلوق».
فندعو الخليلي وطلاب العلم من الإباضية إلى قراءة هذا الكتاب الذي أثنى الخليلي عليه وعلى مؤلفه حين كان مخطوطاً، فلعله لم يطلع على كلام المؤلف عن كلام الله. انظر الملحق رقم (3).(1/134)
، وبه يخلق ما يشاء؛ ولايجوز أن تكون صفات الله مخلوقة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما كلامه من صفاته يخلق به ما يشاء، كما قال تعالى في وصف خلق عيسى عليه السلام: {إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}[آل عمران59] وقال تعالى بعد ذكره لخلق السموات والأرض وما فيهما: {ألا له الخلق والأمر} [ الأعراف: 56 ] فقد أخرج كلامه من هذه المخلوقات التي أوجدها بكلامه وهو قوله للشيء إذا أراده (كن) فيكون.
وقال تعالى مثبتاً صفة الكلام لنفسه عز وجل: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه...} الآية فماذا يقول ـ الخليلي ـ هل يثبت صفة الكلام لله عز وجلّ، وأنه كلّم موسى تكليماً...؟ وأنه خلق جميع المخلوقات بكلامه كما في هذه الآية الصريحة.
كما قال الخليلي: إن الله عز وجل اختص بصفة الخلق، وأنه لاخالق غيره.
ونسأل الله أن يوفق الخليلي إلى الرجوع إلى الحق، وأن يقول بما قال
الله عز وجل : {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فهذا كلام الله الذي خلق به المخلوقات كلها فقد قال تعالى عن خلق عيسى عليه السلام: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}) [ آل عمران: 59 ].
وبعد الانتهاء من الجواب على المسألة الأولى وهي التعريف بالخلق، وقد عرفنا أن الله عز وجل يخلق الأشياء كلها بكلامه كما في هذه الآية الكريمة والحديث النبوي الذي سبق ذكره في تفسير الآية، ننتقل إلى المسألة الثانية وهي:
تعريف القرآن
ثانياً: ـ تعريف القرآن
يقول ـ الخليلي ـ في تعريف القرآن (ص 99):
(هو الكلام المنزل بحروفه وكلماته على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز بتراكيبه ومعانيه، المنقول عنه بالتواتر القطعي).
ثم ذكر ما يخرج بهذا التعريف.
مناقشة التعريف:(1/135)
إن ما يخفيه الخليلي في طيّات تعريفه للقرآن سيصرّح به في الصفحات التالية، ولكن نناقش التعريف ليعرف القارئ الخَلَلَ في تعريف الخليلي ليحذَرَه ويحذر التعريفات للقرآن في الكتب التي تعنى بهذا الموضوع، ويقع بعض أصحابها في تلبيسات من يقول (بخلق القرآن) وهو لا يشعر، وذلك فيما يأتي:
1ـ لم يقل في التعريف: إن الله تكلم بالقرآن.
2ـ ولم يقل كلام الله، وإنما قال: هو الكلام المنزل بحروفه... إلخ.
ولماذا؟.
الجواب: لأنه ينفي عن الله عز وجل صفة الكلام.
فعند الخليلي وفي اعتقاده، كما هو اعتقاد الجهمية والمعتزلة وكل من يقول: إن القرآن عبارة، أو حكاية، عن كلام الله - عز وجل -، يقولون: أن الله - عز وجل -: لا يتكلم لا بالقرآن، ولا بغيره، وإنما يخلق الكلام، القرآن وغيره منفصلاً عنه، كسائر المخلوقات، ثم ينزله.
وهذا معنى قول الخليلي في التعريف للقرآن: هو الكلام المنزل … إلخ.
وإذا رجعت إلى نصوص الكتاب والسنة، تجد أنها تكذّب الجهمية والمعتزلة ومن يقول بقولهم ممن ينفي عن الله عز وجل صفة الكلام، ويدعي بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات.
وفيما يلي بعض النصوص التي تدحض هذه الدعوى وتبين بطلانها وتلبيس من يعتقدها ويدعو إليها.
يقول الله عز وجل في معرض ذكره للوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أوحى إلى الأنبياء قبله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...} إلى قوله: {ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً}[النساء 163ـ164 ].
فهذه الآية الكريمة نص صريح، في أن الله عز وجل كلّم موسى عليه السلام.
ومن أصدق من الله حديثاً، فقد أخبر عن نفسه أنه كلّم موسى عليه السلام تكليماً، فتكليماً تأكيد لقوله، كلّم، لايحتمل التأويل بأيّ وجه.
ولكن ننظر كيف يسلك أصحاب هذه الأفكار المنحرفة تلك المسالك المختلفة لتحريف كلام الله حين يجدونه صريحاً في الرد على مذاهبهم الباطلة.(1/136)
فقد قال أحد المعتزلة، لأبي عمرو بن العلاء شيخ العربية وأحد القراء السبعة: ((أريد أن تقرأ (وكلّمَ اللهَ موسى) بنصب لفظ الجلالة الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله، فقال له أبو عمرو: هبْ أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى:
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لميقاتنا وكَلَّمَه ربُّه} [ الأعراف 143] فبهت المعتزلي»(1).
وهكذا كانت أفكار الذين يريدون الطعن في كتاب الله العزيز، فقد ظن هذا المعتزلي، إن قرأ له أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة أن يجد له مدخلاً ينفي به صفة الكلام عن الله - عز وجل -، بحجة أن هذه قراءة لأحد القراء السبعة المشهورين.
ولكن خاب ظنه حينما أورد له الآية الأخرى التي لا تحتمل التأويل في أن المتكلم هو الله - عز وجل -، وهي قوله (وكلّمَه رَبُّهُ).
وأما الآية الأولى وهي (وكلّم الله موسى) فإنّ كلمة (موسى) اسم مقصور والحركة لا تظهر على آخره وإنما تكون مقدّرة.
فأراد أن يُلبّس بهذه القراءة على الآخرين بحيث يكون اسم الجلالة منصوباً، ولفظ (موسى) مرفوعاً بضمة مقدرة على آخره، أي أنّه هو الفاعلُ، أي المتكلّمُ، ولفظ الجلالة هو المفعول، أي: المكلَّم، فأراد بذلك تحريف القرآن من أجل مذهبه الباطل، هكذا يفعل أصحاب الأهواء.
ولكن نقرأ أقوال السلف في الرد على تحريفهم فقد جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية ما يأتي:
__________
(1) انظر شرح الطحاوية (1/177) وترجمة عمرو بن العلاء وهو من الثقات، سير أعلام النبلاء (6/407).(1/137)
قوله: {وكلّمَ اللهُ مُوسَى تَكْليماً} قال: وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة، ولهذا يقال له الكليم؛ ثم ساق عن الحافظ أبي بكر بن مردويه بإسناده إلى عبدالجبار بن عبدالله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلاً يقرأ (وكلم اللهَ موسى تكليماً) يعني: بنصب لفظ الجلالة (الله) فقال أبو بكر: ((ما قرأ هذا إلا كافر، قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبدالرحمن السلمي وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكلّمَ اللهُ موسى تكليماً} أي برفع اسم الله.
قال ابن كثير: وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله تعالى على من قرأ ذلك لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلّم موسى عليه السلام أو يُكلم أحداً من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ (وكلّمَ اللهَ موسى تكليماً) فقال له: يا ابن اللخناء(1) كيف تصنع بقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه رَبُّهُ} يعني أن هذا لا يحتمل التحريف، ولا التأويل(2)اهـ.
وهذا يبين لك أيها المسلم أن أهل الباطل لا يتورعون عن تحريف كتاب الله من أجل الوصول إلى أغراضهم.
وسنجد في هذا البحث أن ورثة أولئك يسلكون مسلك أسلافهم، وقد سبق ما فعله الخليلي في ردنا عليه في إنكاره رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة، وما نسبه لابن تيمية رحمه الله في كتابه الفتاوى، وكذلك لابن القيم رحمه الله تعالى، وأوضحنا ذلك التدليس الذي تعمده ونسبه لهما.
__________
(1) اللّخن: نتن الريح، يقال رجل: ألخن ومرأة لخناء. تاج العروس.
(2) تفسير ابن كثير (2/ 427).(1/138)
وحيث أوردنا تعريف الخليلي للقرآن الكريم وهو يطابق تعريف الجهمية والمعتزلة- لأن الخليلي يصرح بأن القول بخلق القرآن هو مذهب الإباضية ثم يقول وهو مذهب الجهمية والمعتزلة. وقد بينا وجه الرد على تعريفه-فإنه من المناسب أن نورد تعريف أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة للقرآن الكريم ليقارن القارئ بين التعريفين، وبذلك يتضح له الفرق بينهما، وهو ما سنورده في الصفحات التالية.
تعريف أهل السنة والجماعة للقرآن الكريم
يقول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى في تعريف القرآن:
« وإن القرآن الكريم كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمّه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى: {إنْ هَذَا إلا قَولُ البشر} [المدثر 25 ] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر»(1).
فهذا تعريف السلف أهل السنة والجماعة للقرآن الكريم.
فقارن بينه وبين تعريف الخليلي، ليظهر لك الخلل في تعريفه.
فأهل السنة يقولون: القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً وأنزله على رسوله وحياً …. الخ.
أما تعريف الخليلي الإباضي فهو يقول: والقرآن هو الكلام المنزل بحروفه وكلماته على النبي محمد صلى الله عليه وسلم... ألخ.
فلم يقل: هو كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً،، لأنه ينفي عن الله عز وجل صفة الكلام.
ثم يصرح بعد ذلك بأن القرآن مخلوق كسائر المخلوقات مقارناً له بخلق الإنسان، والحيوان، والسموات والأرض... إلخ
فيقول في (ص101): (بأن الله نفخ في القرآن من روح غيبه كما هو شأن الله تعالى في خلقه الإنسان من تراب)، هكذا يقول.
وفي (ص125) يقول: (أما نحن معاشر الإباضية القائلين بخلق القرآن ومن قال بقولنا من المعتزلة وغيرهم... إلخ).
__________
(1) شرح الطحاوية (1/ 172).(1/139)
ومعلوم أن غير المعتزلة والإباضية ممن يقول بخلق القرآن، الجهمية وهم الأصل في إحداث هذه الضلالة، والإمامية من الرافضة ومن يسلك مسلكهم في باب الأسماء والصفات(1).
فهو يقرر هنا أن الإباضية، هم الأصل في إحداث هذه البدعة، وأن المعتزلة قالوا بقولهم... إلخ.
__________
(1) والحقيقة أن أول من قال (بخلق القرآن) الجعد بن درهم، يقول الحافظ ابن كثير في ترجمته: ( هو أول من قال بخلق القرآن، وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي وهو مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية. كان شيخه الجعد بن درهم أصله من خراسان، ويقال أنه من موالي بني مروان، قال ابن عساكر وغيره: وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد ابن أعصم زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن يهودي باليمن، وأخذها عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري وقيل الترمذي وأخذ بشر المريسي عن الجهم. وأخذ أحمد بن أبي دؤاد عن بشر .
وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه. ثم إن خالد بن عبدالله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالداً خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر. قال: وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم البخاري، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وعبدالله بن أحمد، وذكره ابن عساكر في التأريخ..). البداية والنهاية (9ـ10/404)، ط/ الثانية سنة (1417هـ) دار المعرفة، وفيات الأعيان سنة (124هـ)، وترجمته: تأريخ الإسلام (4/238)، لسان الميزان (2/105)، اللباب (1/230)، ميزان الاعتدال (1/399)، النجوم الزاهرة (1/322).(1/140)
ثالثاً: قوله: (والتفرقة بين القرآن. وسائر الكتب المنزلة، وبين الكلام النفسي).
يقول: الخليلي في آخر (ص99): (وأما الفرق بين الكلام النفسي، وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة، فهو: أن الكلام النفسي صفة ذاتيه لله تعالى يثبت بها كماله، ويُنفى بها عنه النقص، ذلك لأن إثبات الكلام نفي لضده وهو الخرس، كما أن إثبات العلم نفي للجهل). هكذا يقرر.
ثم يقول: (وذهبت المعتزلة إلى عدم الضرورة إلى إثبات صفة أزلية لله تسمى كلاماً، اكتفاء في نفي الخرس عنه سبحانه بصفة القدرة... إلخ ص100 ثم قال: ولعل بعض أصحابنا يرون هذا.)
قلت: والمعتزلة لا يثبتون لله عز وجل صفة القدرة بمعنى أنه قادر له قدرة بل ينفون معاني الصفات جميعاً ويثبتون لله عز وجل الأسماء مجردة عن المعاني فيقولون: قادر بلا قدرة، عليم بلا علم، سميع بلا سمع أي قادر بذاته، عليم بذاته، لا بقدرة وعلم (1).
ثم يواصل الخليلي فيقول: (وأصحابنا الذين أثبتوا الكلام النفسي اتفقوا مع الأشعرية في كونه يختلف عن سائر الكلام فهو ليس حروفاً ولا أصواتاً ولا جملاً ولا كلمات تقوم بذاته) هكذا يقول.
مناقشة ـ الخليلي ـ في بدعة الكلام النفسي
أولاً: يقرر الخليلي أن الكلام من صفات الكمال، وأن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، وأن من تُسلب عنه صفة الكلام أخرس، والخرس صفة نقص ولله المثل الأعلى، فوجب إثبات صفة الكلام لله عز وجل ليتصف بصفات الكمال.
هذا ما يقرره الخليلي في كلامه السابق.
ثانياً: أن هذا الإقرار من الخليلي من أن الله مُتصف بصفة الكلام لأنها صفة كمال، التزام منه بذلك. وهذا ما يدعو إليه أهل السنة والجماعة ويعتقدونه، وهو ما نص الله عليه في كتابه، وقد عاب الله بني إسرائيل حين اتخذوا إلهاً من دونه حيث بيّن أن من صفات نقصه أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً.
__________
(1) انظر: الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار المعتزلي (ص150 ـ155).(1/141)
قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين} [ الأعراف 148] فقد عاب الله هذا الإله الذي اتخذوه من دونه وبيّن أن من صفات نقصه أنه لا يتكلم. كما قال تعالى في آية أخرى: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً...} الآية [ طه 89 ] فعلم أن نفي القول، ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
يقول ابن كثير: (ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه أن عبدوا معه عجلاً جسداً له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير، ولكن غطّى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم في رواية أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حبك الشيء يعمي ويصم») (1).
وقول الخليلي أن الكلام النفسي من الصفات الذاتية هو تعريف الأشاعرة لكلام الله، وأهل السنة يقولون: إن الكلام قديم النوع حادث الآحاد، وهو من الصفات الاختيارية، وأن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء بكلام يسمعه من يشاء، كما كلَّم موسى عليه السلام.
وإذا كان كذلك، وأن الكلام من صفات الكمال، وأن الله عز وجل متصف بهذه الصفة على ما يليق بجلاله وكماله إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فلم يبق بيننا وبين الخليلي - في إثبات هذه الصفة ـ إلا تحرير الكلام فيها وهو ما يسمى (بالكلام النفسي) الذي لا يُسمع، كما عرفه الخليلي بأنه ليس حروفاً، ولا أصواتاً، ولا جملاً ولا كلماتٍ.
فهل هذا يُسمى كلاماً؟
أقول: إن أهل السنة والجماعة يثبتون صفة الكلام لله عز وجل بالنصوص القرآنية كما وصف الله نفسه بذلك، من غير تحريف ولا تكييف. ويبينون أن الكلام ينسب لقائله.
__________
(1) ابن كثير (3/473). والحديث في المسند (5/194، 6/450)، وفي أبي داود كتاب الأدب باب (116).(1/142)
وحقيقة كلام الله الخارجية: هي ما يُسمع منه أو من المُبِلِّغِ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه.
فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلوٌ. فإذا كتبه فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه.
والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يقال: ليس في المصحف كلام الله ولا ما قَرَأَ القارئ كلام الله، وقد قال تعالى مبيناً ذلك: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [ التوبة 6 ] وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مُبلّغِه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال: إن المسموع عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله، فإنه تعالى قال: {حتى يسمع كلام الله} ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله، والأصل: الحقيقة.
ومن قال: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله أو حكاية كلام الله وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً(1).
أما ما يسمى بالكلام النفسي ـ وهو المعنى القائم بالنفس ـ الذي عرَّفه الخليلي كما تقدم. فإنه باتفاق المسلمين لا يسمى كلاماً.
والدليل على ردِّه:
أولاً: أن الكلام في لغة العرب: هو النطق باللسان، وهو الذي تبنى عليه الأحكام، وليس حديث النفس.
يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي تفرق في الحكم بين حديث النفس، وبين الكلام المسموع المنطوق به.
ومنها:
1ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (2).
__________
(1) شرح الطحاوية (ص181).
(2) أخرجه مسلم (ح 557)، وأبو داود (930)، وأحمد (5/448).(1/143)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يُحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» (1).
واتفق العلماء على أن المصلِّي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته.
واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب، لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك.
فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
2ـ ما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» (2).
فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم -، أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم به، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به.
والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء.
فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب (3).
3ـ وفي الترمذي والمسند من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟
فقال: «وهل يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»(4).
يقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية بعد إيراده لما سبق، ( فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ «القول» ((والكلام)) وما تصرف منهما من فعل ماضٍ ومضارع وأمر واسم فاعل، إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنىً.
ثم قال: ولم يكن في مسمى ((الكلام)) نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع، ثم انتشر.
__________
(1) البخاري (13/496) في التوحيد معلقاً باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} بصيغة الجزم عن ابن مسعود، وأبو داود موصولاً (994)، وأحمد (1/376، 377، 409، 415، 435، 463) وسنده حسن.
(2) البخاري (ح 2528، 2529)، ومسلم (ح 127).
(3) شرح الطحاوية (ص201).
(4) حديث صحيح بطرقه ـ الترمذي (ح 2616)، وأحمد (5/231).(1/144)
ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك.
ثم قال: ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر فإن الله تعالى يقول: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [ الإسراء 88 ].
أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو إلى هذا المتلو المسموع؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه، و لا منزلٌ ولا متلوٌ ولا مسموع.
وقوله: {لا يأتون بمثله} أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي ممّا لم يسمعوه ولم يعرفوه، وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه)(1).
قلت: ويُرَدُّ على الخليلي في تعريفه للكلام النفسي الخالي من الحرف والصوت...إلخ، بهذه النصوص الدالة على أن الكلام لا يكون إلا بالنطق باللسان في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم الذي بدأ من الله بلا كيفية قولاً وأنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وحياً كما سبق تعريفه عند أهل السنة والجماعة.
وأنه كلام الله حقيقة منه بدأ وإليه يعود ليس بمخلوق ككلام البرية. ثم في هذه النصوص أيضاً ردّ على الخليلي تحريفه لقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [ النحل 40 ]، حيث ادعى أن هذه الآية هي المراد بالكلام النفسي.
__________
(1) شرح الطحاوية (1/203) وفيه زيادة إيضاح لمن اراد ذلك.(1/145)
ويسند ذلك إلى أحد علماء الإباضية ويقرره فيقول: كما يقول ابن أبي نبهان في قاموس الشريعة (3/239)، طبعة2 وزارة التراث القومي حيث يقول: (وقد أجاد ابن أبي نبهان في تقرير معنى الكلام العاري عن الأصوات والحروف بما تستسيغه الأفهام وتستمرؤه الأفكار... إلخ) (ص100).
كما يستدل الخليلي على تقرير الكلام النفسي بقول الأخطل النصراني حيث يقول:
(وإطلاق الكلام على مثله ـ يعني على مثل كلام ابن أبي نبهان - مما لم يكن مسموعاً ولا مقروءاً معهود عند العرب)
ومنه قول الأخطل:
لا يعجبنك من خطيب خطبةٌ
حتى يكون مع الكلام أصيلاً
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وأقول: وعلى فرض ثبوت ذلك عن الأخطل فإن المرء ليعجب من الخليلي حين يستدل بقول الأخطل النصراني الكافر الضال في عقيدته وفي كلام الله ليحرف بكلام النصراني كلام الله الصريح الذي جاء بلفظ القول المكرر في هذه الآية المقروءة المسموعة فالله عز وجل يقول في هذه الآية الكريمة: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل40].
فالله يقول: إنما قولنا لشيء أن نقول له «كن».
فهل هذا اللفظ ينطبق على تعريف الخليلي للكلام النفسي العاري عن الحروف والأصوات الذي لم يسمعه أحد وإنما هو قائم بنفس المتكلم.
إن من الخذلان أن يستدل المسلم بكلام نصراني قد ضل في عقيدته على كلام الله عز وجل المقروء المسموع كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله...} [ التوبة6 ].
وأما النصارى فقد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي شيء من الإله بشيء من الناس، أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب.(1/146)
وأيضاً: فمعناه غير صحيح، إذ لازمه أن الأخرس يُسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه(1).
وقد أخبر الله عز وجل عن خلق عيسى عليه السلام وبين أن مَثَلَه عنده كمثل آدم خلقه بكلامه كما قال تعالى: {إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [ آل عمران 59 ]، فهذا خبر الله عز وجل عن خلق عيسى عليه السلام وأنه خلقه بالكلمة {كن} كما خلق آدم ومن أصدق من الله حديثاً.
أما النصارى والأخطل واحد منهم فقد جعلوا عيسى عليه السلام عين الكلمة و لا أظن أن ـ الخليلي ـ يخالف المسلمين في أن الله عز وجل خلق عيسى عليه السلام بكلامه وهو قوله له ((كن)) كما هو نص الآية السابقة؛ وهي صريحة في أن عيسى عليه السلام خلقه الله بالكلمة وليس هو عين الكلمة كما يقول النصارى.
ويوضح ذلك ويبينه ما أخبر الله به في كتابه عن عيسى عليه السلام حين تبرأ ممن غلوا فيه وجعلوه ابن الله، وثالث ثلاثة، وإلهٌ مع الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وذلك حين يخاطبه الله عز وجل يوم القيامة بكلام مسموع يسمعه عيسى ويرد على ذلك الكلام المسموع الموجه إليه من ربه وخالقه إذ يقول: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميَ إلهين من دون الله } يقول الإمام ابن كثير: (هذا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام قائلاً له بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله...} وقد سمع عيسى عليه السلام كلام ربه هذا الموجه إليه ولهذا قال مبرءاً نفسه مما افتراه النصارى عليه: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}.
__________
(1) انظر شرح الطحاوية (1/200).(1/147)
قال ابن كثير: هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل كما قال ابن أبي حاتم في روايته عن أبي هريرة مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لقّاه الله حجته بقوله {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى آخر الآية.
وقوله: {إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم...} إلى قوله تعالى: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} [ المائدة116ـ119].
فهذا كلام الله مخاطباً به عيسى عليه السلام الذي غلا فيه النصارى وجعلوه عين ((الكلمة)) وجعلوه وأمه إلهين من دون الله.
وقد سمع عيسى عليه السلام كلام ربه هذا وتبرأ مما ادّعاه عليه النصارى وصدقه الله في ذلك بكلام مسموع بلفظ القول: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم...}.
فهل كلام الله هذا لعيسى عليه السلام في ذلك الموقف كلاماً نفسياً.
والكلام النفسي هو القائم بالذات غير المسموع لأنه عارٍ عن الحرف والصوت والجمل والكلمات كما سبق تعريف الخليلي له.
ومن المعلوم المتفق عليه بين المسلمين أنّ ما في النفس لا يُعد كلاماً ولا تترتب عليه أحكام ولا يحاسب الإنسان إلا على ما نطق به لسانه، وذلك هو الكلام الذي يحاسب عليه المسلم ويؤاخذ به وذلك بنص كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به» وسيأتي مزيد بيان عند الحديث عن تحريفه لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله...} في (ص113) من كتابه هذا.(1/148)
وفي (ص 101ـ102) يؤكد القول بخلق القرآن ويمثله بخلق الإنسان، وأنه لا فرق بينهما في تلك الصفة فيقول: (وقد اختص الله بعضه ـ ويعني به الكلام ـ وهو القرآن بما نفخ فيه من روح غيبه فحارت فيه الألباب...كما هو شأن الله تعالى في خلقه الإنسان من تراب).
هكذا يقرر الخليلي، ولكنه ينقض قوله في الكلام النفسي كما يأتي في الصفحة التالية:
الخليلي ينقض غزله في الكلام النفسي
ولما كانت سنة الله في خلقه أن قول الباطل لا يثبت على ساق، فإن الخليلي ينقض غزله فيرد ما يسمى «بالكلام النفسي» الذي أثبت أنه قول الإباضية المتفقين على إثباته مع الأشعرية، ويثني على ابن أبي نبهان وعلى تقريره للكلام النفسي، ويستشهد له بقول الأخطل النصراني، ثم يحرّف تلك الآية الصريحة في القول المسموع وهي قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} ويخضعها للكلام النفسي غير المسموع كما تقدم.
ولكن نجده هنا ينقض ما سماه بالكلام النفسي ويرده رداً قوياً، مُبِّيناً أنه لا يدل على ذلك لا كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإليك نص كلامه هنا مقارناً بكلامه السابق.
سبق الكلام عما جاء في كتابه هذا (ص100) حيث قرر أنّ أصحابه - الإباضية- مع الأشعرية اتفقوا على أن كلام الله عز وجل هو الكلام النفسي القائم بذات الله غير المسموع ؛ لأنه مجرد عن الحروف والأصوات والجمل والكلمات -كما عرفه الخليلي- ثم يستشهد لأصحابه على ذلك بكلام الأخطل النصراني.
ولكنه في (ص103) من كتابه هذا ينقض ذلك كله ويثبت أن المسمى بالكلام النفسي لم يقم عليه شاهد لا من الكتاب ولا من السنة فيقول (ص103): (ونحن عندما نتحدث عن خلق القرآن فإنما نتحدث عن هذا القرآن المتلو بالألسن، المكتوب في المصاحف، ولسنا نتحدث عن الكلام النفسي إذ لم يقم عليه شاهد من الكتاب نفسه ولا من السنة).
وأقول: وإن تعجب فعجب قول أهل الباطل وتناقضاتهم فقد سبق(1/149)
في (ص100) قول الخليلي من كتابه هذا: إن الإباضية اتفقوا مع الأشاعرة على الكلام النفسي كما عرفه هو، ثم أثنى على ابن أبي نبهان ـ الإباضي ـ الذي قرر معنى الكلام النفسي، بل حرف لإثبات ما يسمى بالكلام النفسي قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} بل قال في (ص100): (وقد أجاد الإمام ابن أبي نبهان رحمه الله في تقرير معنى الكلام العاري عن الأصوات والحروف بما تستسيغه الأفهام وتستمرؤه الأفكار...) إلخ.
ثم أتبعه بالآية السابقة وأنها تدل عليه، واستشهد لتأكيد هذا القول الباطل بكلام الأخطل النصراني، وقد سبق مناقشة ذلك الاستدلال الفاسد والرد عليه، ثم نجد الخليلي هنا يتراجع عن قوله الأول ويبطله، وهذا مما يؤكد أن الكلام الباطل دائماً ينقض آخره أوله.
تصور فاسد يرتب عليه حكماً باطلاً
…إن المقدمات الفاسدة لا تنتج إلا أحكاماً باطلة؛ إذ من المعلوم لكل باحث في باب العقائد، أن الفِرَقَ التي أشار لها حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر وهو الصادق المصدوق أنّ أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها هالكة مستحقة للنار إلا واحدة، ولما سئل عن هذه الفرقة الناجية عرفها بقوله: «هي من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (1). ومع أن هذه الفرق المختلفة يضلل بعضها بعضاً أو يفسقه أو يكفره -إذ ليس لأصحابها أصل ثابت يرجعون إليه عند الاختلاف إلا أهواؤهم وما تستحسنه عقولهم- بيْد أنهم مع ذلك الاختلاف فيما بينهم نجدهم يجتمعون على أصول قد لا يختلفون فيها، ومن أهمها:
__________
(1) الترمذي في كتاب الإيمان في ما جاء في افتراق هذه الأمة (ح 2778).(1/150)
أولاً: عداء أهل السنة بل وتكفيرهم، فمثلاً أول فرقة خرجت عن منهج الفرقة الناجية هم الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخليفة الراشد المشهود له بالجنة ممن لا ينطق عن الهوى، وقبل ذلك خرجوا على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي تستحي منه ملائكة السماء، المشهود له بالجنة(1)، ومع تلك الشهادة لهما بالجنة فقد كفروهما وكفروا الصحابة جميعاً، ثم أخذ أتباع الخوارج بتلك العقائد ومنها تكفير العصاة وتخليدهم في النار(2) وإن اختلفوا في مواضع.وكذلك الفرق الأخرى التي جاءت بعد الخوارج كالرافضة، والشيعة بفروعها والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم ممن حاد عن منهج الفرقة الناجية المتمسكة بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كلهم يسلكون ذلك المسلك ويقفون ذلك الموقف من أهل السنة.
__________
(1) انظر الملل والنحل للشهرستاني (1/100)في بيان خروجهم على عثمان ثم على علي رضي الله عنهما.
(2) ومن هؤلاء الخليلي كما سيأتي الحديث عن رأيه في عصاة المسلمين وحكمه عليهم بالخلود في النار. كما في كتابه هذا.(1/151)
ثانياً: ومما يجتمعون عليه إزاء نصوص الكتاب والسنة -لا سيما في باب الأسماء والصفات- هو الإلحاد في أسماء الله وصفاته على تفاوت بينهم في ذلك من حيث النفي، والتعطيل، والتحريف المسمى بالتأويل، المبني على تصور فاسد وهو:1ـ توهمهم أن من أثبت لله ما أثبته لنفسه في كتابه من صفات الجلال والكمال أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة فقد شبّه الله بخلقه والمشبه للخالق بالمخلوق كافر.2ـ أن من أثبت هذه الصفات كلها لله عز وجل فقد أثبت تعدداً في الآلهة، وقد كفر النصارى بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، فكيف بمن أثبت هذه الصفات المتعددة؛ فهذه من أهم الأمور التي يجتمعون عليها.وإليك أيها المسلم المؤمن بما جاء في كتاب ربه وما ثبت في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - الرد على هذه الشبهة الباطلة.فأقول: إن قولهم من شبه الله بخلقه فقد كفر هذه قاعدة صحيحة لا يخالف في ذلك مسلم يشهد لله بالوحدانية ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، ولكن أين التشبيه عند من يثبت لله ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته؟.(1/152)
إن دعواهم أن إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه أو أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته تشبيهٌ، غلط فاحش؛ مصادم لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ورد لهما؛ لأن التشبيه هو أن يقول المشبه: إن لله يداً كيدي، أو سمعاً كسمعي، أو بصراً كبصري، أو حياة كحياتي، أو قدرة كقدرتي، أو كلاماً ككلامي، فهذا هو التشبيه. فمن قال ذلك فقد شبّه الله بخلقه، ومن شبّه الله بخلقه فقد كفر.وأما من أثبت لله ما أثبته الله لنفسه في كتابه وهو أعلم بنفسه من خلقه؛ أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته وهو أعلم الخلق بربه وأخشاهم وأتقاهم لله، فهذا لا يسمى تشبيهاً، وإنما هو إثبات لما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11 ] فقد نفى عن نفسه المماثلة في كل شيء في ذاته وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، ثم قال بعد نفي تلك المماثلة {وهو السميع البصير} فأثبت هذه الصفات على ذلك الأساس وهكذا في جميع الصفات.
وأما دعوى التعدد للآلهة بتعدد الصفات فهو تصور فاسد عقلاً وشرعاً.إن هذه الصفات ـ من السمع والبصر، والقدرة، والحياة، والكلام وغيرها -كلها صفات لذات واحدة أي لموصوف واحد.كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [ الأعراف180 ] وأسماء الله الحسنى إذا جردت من معانيها التي دلت عليها فقد عُطلت؛ إذ كيف يطلب المسلم النصر ممن لا قدرة له، والرحمة ممن لا رحمة له، و هكذا في جميع أسماء الله الحسنى التي أمرنا الله عز وجل أن ندعوه بها دعاء عبادة ودعاء مسألة.(1/153)
إن المعتزلة ومن سلك طرقهم الملتوية ومنهم الخليلي الذي يقول بقولهم، بل يقول إنهم هم يقولون بقوله، فيثبتون لله عز وجل الأسماء مجردة من المعاني فيقولون في وصف الله - عز وجل -: إنه قادر بلا قدرة، حيّ بلا حياة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عالم بلا علم، رحيم بلا رحمة، إلى آخر الإلحاد في أسماء الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
وللرد عليهم في هذا الإلحاد في أسماء الله وتحريفها عن معانيها، اقرأ أيها المسلم قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} [ المجادلة 1] .
قال ابن كثير في تفسير الآية:( قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش ثم ساقه بسنده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها …} إلى آخر الآية(1). ورواه البخاري في كتاب التوحيد كما روى عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن جبريل عليه السلام ناداني قال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردّوا عليك»(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير (8/60) طبعة الشعب. وهو في المسند (6/46).
(2) وأخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب (وكان الله سميعاً بصيراً). قال الأعمش عن تميم عن عروة عن عائشة قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات فأنزل الله تعالى على النبي?- صلى الله عليه وسلم -{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها}» رقم (7389)، ورواه ابن ماجة في المقدمة باب: فيما أنكرت الجهمية (1/67) (ح 188)، والطبري في تفسيره (28/605).(1/154)
إن هذه الآية الكريمة وتفسيرها من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقول جبريل عليه السلام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإن الله قد سمع قول قومه له، كافية في الرد على هؤلاء المعطلة، نفيهم عن الله عز وجل صفة السمع التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا تعطيلهم ونفيهم عن الله عز وجل صفات الكمال كصفة الحياة والقدرة والكلام على ما يليق بجلال الله وكماله كما قال تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم...} [البقرة 255] وقوله تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان 58 ] وقوله: {وكلم الله موسى تكليماً} [ النساء 164 ].إن هذه الصفات الثابتة لله عز وجل هي صفات لذات واحدة، فالله هو الحي، وهو السميع، وهو البصير، وهو الرحيم، وهو القادر، وهو المتكلم. فهو واحد وله الأسماء الحسنى.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة» (1)، أحصيناه: حفظناه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: « ذو الجلال العظمة، البر، اللطيف».
__________
(1) فتح الباري كتاب التوحيد باب: إن لله مائة اسم إلا واحداً (13/377) (ح 7392).(1/155)
يقول ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري وهو يذكر رؤوس الفرق المبتدعة فقال: (وقد سمى المعتزلة أنفسهم ((أهل العدل والتوحيد)، وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه ومن شبه الله بخلقه فقد أشرك، قال: وهم في النفي موافقون للجهمية)(1). وفي (ص378) في شرح حديث: إن لله تسعة وتسعين اسماً السابق ذكره قال: (وقال ابن أبي حاتم في ((كتاب الرد على الجهمية): ذكر نعيم بن حماد أن الجهمية قالوا: إن أسماء الله مخلوقة، لأن الاسم غير المسمى، وادّعوا أن الله كان ولا وجود لهذه الأسماء، ثم خلقها ثم تسمى بها، قال فقلنا لهم: إن الله قال: {سبح اسم ربك الأعلى} وقال: {ذلكم الله ربكم فاعبدوه}، فأخبر أنه المعبود ودل كلامه على اسمه بما دل به على نفسه، فمن زعم أن اسم الله مخلوق فقد زعم أن الله أمر نبيه أن يسبح مخلوقاً، قال: ونقل عن إسحاق بن راهويه عن الجهمية أن جهماً قال: لو قلت إن لله تسعة وتسعين اسماً لعبدت تسعة وتسعين إلهاً قال: فقلنا لهم: إن الله أمر عباده أن يدعوه بأسمائه فقال: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} والأسماء جمع، أقله ثلاثة، ولا فرق في الزيادة على الواحد بين الثلاثة والتسعة والتسعين)(2).
إن هذه الشُّبَه التي قامت برأس الخليلي من أن إثبات الأسماء المتعددة والصفات تدل على التشبيه وعلى التعدد شبه قديمة قال بها واعتنقها ودعا إليها رؤساء تلك البدع من جهمية ومعتزلة، وقد ردّ عليهم كما نرى أهل السنة المتمسكون بما جاء في كتاب ربهم وسنة نبيهم أمثال: نعيم بن حماد، وإسحاق ابن راهويه، وابن أبي حاتم، وعبدالله بن المبارك، وغيرهم من أعلام الهدى، العلماء الربانيون المعروفون بعلمهم وفضلهم؛ فقد قال عبدالله بن المبارك: ولا أقول بقول الجهم إن له__ قولاً يضارع قول الشرك أحياناً
__________
(1) فتح الباري (13/344).
(2) فتح الباري (13/378).(1/156)
__وقال: (( إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم ))(1).إن قول الجهمية والمعتزلة الذي سبق ذكره في نفي الأسماء والصفات، وإن القول بتعددها لموصوف واحد، معناه عبادة آلهة متعددة عند هؤلاء في تصورهم الباطل، إن هذه الشبه القائمة على هذا الوهم الفاسد والتصور المنحرف لا قيمة لها عند من يعقل ما يقول؛ لأن الصفات المتعددة لموصوف واحد تقوم حتى بالمخلوق، فالخليلي وغيره من بني آدم يتصفون بصفة السمع، والبصر، والقدرة، والحياة، والكلام، وهو ذات واحدة، وذلك حسب ضعفه وحاله، كما سيأتي توضيح ذلك.
لكن الخليلي- هداه الله إلى قول الحق واعتقاده ـ يخالف العقلاء في ذلك ويقول بقول الجهمية والمعتزلة حيث تصوّر مثل ما تصوّروه من أنه إذا أثبت لله عز وجل صفة الكلام مع الصفات الأخرى فقد أثبت تعدداً للقدماء هكذا يقول، ذلك أن المعتزلة يقولون: إن أخص وصف لله عز وجل «القدم».ويتصور أنه إذا أثبت لله عز وجل صفة الكلام فقد أثبت مع الله « قديماً» لاعتقاده أن الصفة قائمة بذاتها منفصلة عن الموصوف بها، وهذا منشأ ضلال أسلافه.وهو لا يعقل كما لا يعقل أسلافه من أن صفة الكلام قائمة بذاته سبحانه وتعالى، كصفة الحياة والقدرة والسمع والبصر وغيرها من صفات الكمال والجلال.فالله عز وجل متصف بصفة الكلام، يتكلم متى شاء وكيف شاء كما قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} وغير ذلك من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تثبت لله ?عز وجل صفة الكلام على ما يليق بجلال الله وكماله والتي سيأتي ذكرها في مواضعها لأن صفة «الكلام» من الصفات الاختيارية، يتكلم متى شاء وكيف شاء ولكن الخليلي يخالف هذا ويتوهم أنه إذا أثبت هذه الصفة لله عز وجل فقد اثبت تعدداً في القدماء.
__________
(1) فتح الباري (13/345).(1/157)
وإليك نص كلامه حيث يقول في (ص104) من كتابه هذا: (وقد كان عِلْم الله الذي هو من صفات ذاته ولا توراة معه، ولا إنجيل، ولا زبور، ولا صحف، ولا قرآن، وهو الآن على ما هو عليه كان، لأن الصفات الذاتية لا يجوز عليها التكثر ولا التبديل ولا التغيير …) إلى أن قال: (فالكتب المنزلة إنما هي في الحقيقة مدلولات علمه، الذي هو من صفات ذاته سبحانه وتعالى، لا هي نفس صفة العلم الذي هو صفة لذاته القديمة، وإلا لكان التوراة، و الإنجيل، و الزبور، وصحف إبراهيم، وموسى، والقرآن، وجميع الوحي قديماً موجوداً في الأزل مع الله تعالى بهذه الألفاظ المخلوقة المحدثة على كثرتها، فيكون كثير من المخلوقات قديماً موجوداً في الأزل مع الله القديم الأزلي وهذا باطل إذ لا قديم سواه…)اهـ.
وأقول: إن هذه الشبهة التي قامت بذهن الخليلي وهي أن تعدد الصفات تدل على تعدد الموصوف شبهة داحضة لا تقف أمام الحجج القاطعة من الكتاب والسنة، والعقل السليم غير الملوث بشبه الجهمية والمعتزلة ومن صار على دربهم من إباضية، ورافضة، وغيرهم ممن سلك مسلك أهل الكلام، وترك كتاب رب العباد، وسنة خير الأنام.وسوف نناقش هذه الشبهة ونبين فسادها تحت العنوان التالي:
مناقشة شبهة الخليلي
ومن اقتدى بهم في أن تعدد الصفات يدل على تعدد الذات(1/158)
النفاة لصفات الله عز وجل سمو ذلك النفي توحيد لأنه قام بأذهانهم -المريضة بالشبه الفاسدة- أن الصفة منفصلة عن الموصوف بها، وأنها قائمة بذاتها، ولهذا التصور الفاسد نفوا عن الله عز وجل جميع الصفات، كالحياة، والقدرة، والسمع والبصر، والكلام، والعلم، وغير ذلك من الصفات الثابتة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبتوا لله من صفات الكمال إلا ما سموه بصفة «القدم» وهو أخص وصف عندهم لله تعالى، ولهذا قالوا: (فإذا أثبتنا لله عز وجل هذه الصفات ومنها صفة الكلام فقد أثبتنا ذوات متعددة قديمة مع الله في الأزل، إذ لا قديم سواه) كما سبق تصريح الخليلي بذلك، ثم مثّل لذلك التعدد حسب زعمه: بالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، والقرآن، قال:( وجميع الوحي كله يكون قديماً موجوداً في الأزل مع الله تعالى بهذه الألفاظ المخلوقة المحدثة على كثرتها فيكون كثيرٌ من المخلوقات قديماً موجوداً مع الله القديم الأزلي، وهذا باطل إذ لا قديم سواه).(1/159)
والجواب لتفنيد هذه الشبهة القائمة بذهن الخليلي ومن سبقه بما يأتي:أولاً: أن قول الخليلي: (وقد كان علم الله وهو من صفات ذاته).قد يظن القارئ الذي لا يعرف مذهب النفاة لصفات الله عز وجل كالجهمية والمعتزلة- والخليلي واحد منهم- أن الخليلي يثبت لله صفة «العلم».ولتوضيح ذلك للقارئ، أقول: إن المعتزلة، ومن يقول بقولهم ويعتقد عقيدتهم ينفون عن الله جميع الصفات، وممن يسلك ذلك المسلك الخليلي فهو واحد منهم، بل يقول إن المعتزلة يقولون بقوله، فهو الأصل المؤسس لهذه البدع، فهو ينفي عن الله عزوجل جميع الصفات ومنها صفة « العلم» والقدرة، والحياة، والكلام، وجميع الصفات الواردة في كتاب الله، والثابتة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يثبتون أسماء الله مجردة عن المعاني؛ فيقولون: إن الله عليم بذاته، حي بذاته، قادر بذاته …إلخ ما يذكرونه في هذا الباب أي ليس لله صفة زائدة عن الاسم، هي: صفة العلم، والحياة، والقدرة؛ ويدعون أنهم بهذا النفي لمعاني أسماء الله ينزهون الله عن مشابهة خلقه، لأن أسماء الله عندهم لا تدل على معاني وإنما هي مجردة عن تلك المعاني التي دلت عليها.
ومما يوضح ذلك قول الخليلي: (وقد كان علم الله -الذي هو من صفات ذاته- ولا توراة ولا إنجيل ولا زبور ولا قرآن).ومعلوم أن القرآن من كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته قائمة به غير منفصلة عنه، وهي من الصفات الاختيارية، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء ومع من شاء، وصفة العلم قائمة بذاته فهو بكل شيء عليم.
والله عز وجل تكلم بالتوراة التي أنزلها على موسى، وكلّم الله موسى وسمع موسى عليه السلام كلام ربه عز وجل وطمع في المزيد من التكريم فطلب من ربه النظر إليه كما قال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك...}[الأعراف 143 ].(1/160)
ثانياً: وأما قول الخليلي ومن سبقه من أن تعدد الصفات يدل على تعدد الذوات فدعوى باطلة مردودة عقلاً ونقلاً، ذلك أن الذوات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، أي أنه لا توجد ذات مجردة عن الصفات إلا في الافتراض الذهني، كما يفرض الذهن المحال.وأما في الخارج، فلا توجد ذات غير موصوفة فإن هذا محال، ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، والله موجود بصفاته أزلاً وأبداً.
ولهذا فإن العلماء من أهل السنة يفرقون بين:1ـ قول القائل: الصفات غير الذات.2ـ وقوله: صفات الله غير الله.فهذا القول الثاني باطل لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته، بخلاف القول الأول وهو مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا قال الخليلي وأئمته المعتزلة «عليم بذاته» كما قال ـ الخليلي: (وقد كان علم الله الذي هو من صفات ذاته، ولا توراة ولا إنجيل … إلخ).لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من «الذات» والله تعالى «هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة».
ولهذا قال الإمام الطحاوي رحمه الله في وصف الله عز وجل «ما زال بصفاته» ولم يقل: لا زال وصفاته، لأن العطف يؤذن بالمغايرة.
وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مناظرته للجهمية: «لا نقول الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره» ولكن نقول: «الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد سبحانه».
وقد أورد شارح الطحاوية رحمه الله أمثلة لذلك من السنة فقال: (فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عُذْتُ بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.(1/161)
وإذا قلتُ: أعوذ بعزة الله، فقد عُذْتُ بصفة من صفات الله تعالى ولم أَعُذْ بغير الله). قال: (وهذا المعنى يفهم من لفظ «الذات» فإن «ذات» في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات فـ «ذات كذا» بمعنى «صاحبة كذا» تأنيث ذو وهذا أصل الكلمة. قال: فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات كما يفرض المحال.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» (2)، ولا يعوذ - صلى الله عليه وسلم - بغير الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد نص الأئمة ـ كأحمد وغيره- على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق.
قال: وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك (3).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك» (4).
__________
(1) مسلم في السلام (ح 2202).
(2) مسلم (ح 2708).
(3) الفتاوى (1/336)، وفتح المجيد (1/299).
(4) مسلم (ح 486)، وابن أبي شيبة في المصنف (10/191)، وابن ماجه (ح 3841)، والمسند (6/8، 201).(1/162)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا(1)») (2).وبهذا يتضح أن شبهة الخليلي ومن سبقه إليها من الجهمية والمعتزلة ومن يسلك مسلكهم، شبهة داحضة تردها النصوص الصريحة من كتاب الله عز وجل فهو القائل لعباده: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} والأسماء المجردة من معانيها لا تكون حسنى، فكيف يدعو الداعي دعاء مسألة فيطلب من ربه الرحمة وهو عند الخليلي ومن يقول بقوله ويعتقد عقيدته لا يتصف بصفة الرحمة؟. ويطلب منه الرزق وهو لا يتصف به؟ ويطلب منه النصر وهو لا يتصف بصفة القدرة؟ وهكذا جميع صفات الجلال والكمال.
إن هذا الضلال المبين في باب أسماء الله عز وجل وصفاته هو الذي تصدى له الإمام مالك رحمه الله ورد على أول مبتدع صدح بهذه البدعة، وذلك حين سأل ذلك المبتدع الإمام مالك عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}[طه5] كيف استوى؟
فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».
أي: معناه من لغة العرب معلوم، وأما الكيف فهو مجهول، إذ لا يحيط أحد بذات الله ولا بصفاته علماً، فدل هذا على أن صفات الله عز وجل قائمة به لاتنفك عنه بحال، ومن دعاه بصفة من صفاته، أو استعاذ بها فإنه داعٍ لله مستعيذ به لا بغيره، كما سبق ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - من رواية مسلم: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر».
ولبيان ذلك قال الإمام الطحاوي رحمه الله في وصف الله عز وجل: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه،لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً).
__________
(1) أبو داود (ح 5074)، والنسائي (8/282).
(2) شرح الطحاوية 1/99-100.(1/163)
قال الشارح: (أي أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال- صفات الذات، وصفات الفعل- ولا يجوز أن يعتقد أن الله وُصِفَ بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها، لأن صفاته -سبحانه- صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده.
قال: ولا يَرِد على هذا صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض والبسط والطيّ، والاستواء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله- صلى الله عليه وسلم - وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا.
ولكن أصلٌ معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
قال: وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت كما في حديث الشفاعة: «إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» (1)،لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة؛ كالصغر والخرس، ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة بمعنى أنه يتكلم إذا شاء وفي حال تكلّمه يسمى متكلماً بالفعل) (2).
__________
(1) أخرجه البخاري (ح 3340، 3361، 4712)، ومسلم (ح 194)، وأحمد (2/ 435 – 436).
(2) شرح الطحاوية (1/96ـ 97).(1/164)
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرح الأحاديث الواردة في باب «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»:(قال نعيم بن حماد في«الرد على الجهمية»: دلت هذه الأحاديث -يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته والسؤال بها، مثل أحاديث الباب، وحديث عائشة وأبي سعيد: «باسم الله أرقيك» وكلاهما عند مسلم وفي الباب عن عبادة وميمونة وأبي هريرة وغيرهم عند النسائي وغيره بأسانيد جياد- على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق قال الله تعالى: {فاستعذ بالله}.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استعذت فاستعذ بالله».
وقال الإمام أحمد في«كتاب السنة»: «قالت الجهمية لمن قال إن الله لم يزل بأسمائه وصفاته، قلتم بقول النصارى حيث جعلوا معه غيره.
فأجابوا: بأنا نقول إنه واحد بأسمائه وصفاته، فلا نصف إلا واحداً بصفاته
كما قال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر:11] وصفه بالوحدة مع أنه كان له لسان وعينان وأذنان وسمع وبصر، ولم يخرج بهذه الصفات عن كونه واحداً
ولله المثل الأعلى»(1).قلت: وهذا هو الذي يردِّدُه الخليلي في دعواه (خلق القرآن) ليس عنده غيره.فإلى الفصل الأول لننظر الشبه التي أوردها ثم الرد عليها.
يقول ـ الخليلي ـ في ص (105) تحت عنوان:الفصل الأول: في اختلاف الأمة في قدم الكلام وحدوثه
هذا الفصل الذي استغرق عشرين صفحة من كتابه هذا وذلك من ص (105ـ125) اشتمل على مغالطات وتلبيسات كثيرة وتكرار لبعض الكلام السابق، ولذا فقد رأيت من المناسب أن أبرز الفقرات الواضحة من هذا الفصل بحيث تشمل مباحث الفصل كلها، ثم نتبعها بالرد على كل فقرة، وقد شمل هذا الفصل الفقرات التالية:
__________
(1) فتح الباري (13/ 393) من (ح 7393 – 7402).(1/165)
الفقرة الأولى وتشمل الآتي:أ ـ قوله: (إن من القضايا التي شغلت بال الأمة وأحدثت بينها شقاقاً كبيراً ووزعت طوائفها عزين، قضية كلام الله تعالى المنزل هل هو حادث أو قديم)؟
قال:(وقد جرّهم هذا إلى الكلام النفسي والخوض فيه، والخوض بين إثباته ونفيه).
ثم قال:(ولن أتكلم في هذه المباحث ولا مناقشتها إلا بقدر ما يضطرني إليه التمهيد لشرح ما نقمه الناقمون على «الإباضية» من القول بخلق القرآن المنزل على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام).ب ـ ذكر أن من طوائف هذه الأمة من ينكر الكلام النفسي رأساً ـ وهم المعتزلة ـ اكتفاء في نفي الخرس عن الله بإثبات صفة القدرة.قال:( وكما مرّ بك أن أصحابنا والأشعرية وجمهور الأمة متفقون على إثباته ثم قال: ولعلك استوضحت تفرقة أصحابنا بينه وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة مما نقلته عن صاحب المعالم وعن الإمام ابن أبي نبهان... إلى أن قال: وقد التبست هذه الفروق على كثير من الناس، فأدى بهم ذلك إلى النزاع والشقاق في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟)
جـ ـ قال: (وقد أشعل نار هذه الفتنة بعض الدخلاء في الأمة الذين تقمصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها، أهمها إذكاء نار الفتنة بين طوائف الأمة وتقسيمها إلى شيع وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون).د ـ ثم قال: (ولعل رأس هؤلاء «أبا شاكر الديصاني» الذي قيل عنه إنه يهودي تظاهر بالإسلام، كما كان سلفه «بولس اليهودي» الذي مزق أتباع المسيح عليه السلام بما أججه بينهم من نار الخلاف).الفقرة الثانية: اعترافه بأن الرعيل الأول من السلف الصالح، مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع.الفقرة الثالثة: اعتراف الخليلي بأن علماء عمان المتأخرين هم الذين قالوا بخلق القرآن، فهذه الفقرات هي خلاصة ما اشتمل عليه هذا الفصل.
وإليك أيها القارئ الكريم الرد المفصل على هذه الفقرات:(1/166)
الرد على الفقرة الأولى : قوله:( إن سبب إشعال الفتنة في كلام الله المنزل هل هو حادث أو قديم؟ وقد جرهم هذا إلى الكلام النفسي …) إلخ.والجواب على هذه الفقرة: إن هذا التعبير عن كلام الله - عز وجل -: «هل هو حادث أو قديم» من بنيات أفكار أهل الكلام، لأن المعتزلة ـ والخليلي واحد منهم، يقول بقولهم ـ تصوروا أن الصفات قائمة بذاتها وليست قائمة بالموصوف، وأن القِدَم أخص وصف لله - عز وجل -، فإذا أثبتوا لله صفة الكلام أو غيرها من الصفات فقد أثبتوا تعدد القدماء، وهذا كفر.
فهذا هو الذي يقصده الخليلي من كلامه: هل كلام الله قديم أو حادث؟ وقد سبق الرد على قضية تعدد الصفات.
وقوله (أو حادث) يقصد من كلمة (حادث) مخلوق، فهو يعبر بالحدوث عن الخلق.(1/167)
وأهل السنة والجماعة يقولون بما جاء في الكتاب والسنة وهو أن الله عزوجل موصوف بصفات الجلال والكمال، وأن صفاته قائمة بذاته كالحياة، والإرادة، والقدرة، والكلام وغيرها من الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، وأن الله متصف بصفة الكلام، وعرّفوا كلام الله عز وجل بقولهم: قديم النوع حادث الآحاد: أي أن الله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء وأن من كلامه الكتب المنزلة التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وغيرها، وأنه كلّم موسى تكليماً، ويكلّم من يشاء من خلقه، وأن التوراة غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، وأنه يكلّم عباده يوم القيامة كما جاءت بذلك النصوص، لأن صفة الكلام من الصفات الاختيارية فالله عزوجل يتكلم متى شاء وكيف شاء، وقد تقدم مناقشة شُبهة الخليلي في قوله: (وقد كان علم الله الذي هو من صفات ذاته، ولا توراة ولا إنجيل ولا زبور …) إلى قوله: (بهذه الألفاظ المخلوقة المحدثة، على كثرتها فيكون كثير من المخلوقات قديماً موجوداً في الأزل مع الله القديم الأزلي، وهذا باطل إذ لا قديم سواه) (ص 179) وما بعدها تحت عنوان ((مناقشة شبهة الخليلي ومن اقتدى بهم في أن تعدد الصفات تدل على تعدد الذات)).ولهذا قال الإمام الطحاوي رحمه الله في الرد على هذه الشبهة: (وما زال بصفاته...) ولم يقل: لا زال وصفاته، لأن العطف يقتضي المغايرة.
وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مناظرته للجهمية: (لا نقول: الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد سبحانه)(1).
والحقيقة أن هذه الأفكار المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة في
__________
(1) انظر شرح الطحاوية (1/96ـ97).(1/168)
صفات الله عز وجل جاءت من طريق أعداء الله، الذين قضى الإسلام بنوره على باطلهم ـ اليهود والمجوس وغيرهم- ممن عجزوا عن مواجهة الإسلام وأهله بالقوة فلجؤوا للكيد له من داخله بدءاً بفتنة ((عبدالله بن سبأ)) الذي دخل الإسلام نفاقاً ثم ادعى الوصية بالخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وأن الصحابة كتموا تلك الوصية، مخالفين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسب زعمه، ثم حكم عليهم بالكفر، وألّب الرعاع على قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان ذي النورين، الذي تستحي منه ملائكة السماء فقتل مظلوماً، وقد ورث أفكاره طوائف منهم الرافضة، فحكموا على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالردّة إلا النفر اليسير، ومن أولئك اليهود الزنادقة، الذين تقمصوا لباس الإسلام، كما قال الخليلي في كتابه هذا (ص 105ـ 106): (وقد أشعل نار الفتنة بعض الدخلاء في الأمة، الذين تقمصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها، كأبي شاكر الديصاني اليهودي الذي تظاهر بالإسلام وأشعل هذه الفتنة).
قلت: ومنها القول بخلق القرآن.
وأقول: إن قول الخليلي هذا هو الصحيح، أن أولئك الدخلاء من اليهود وغيرهم أرادوا القضاء على الإسلام وأهله بهذا الأسلوب الماكر، حين عجزوا عن مواجهة الإسلام في الظاهر، فهؤلاء الدخلاء اختلطوا بالمسلمين ونشروا أفكارهم الضّالة في المجتمع الإسلامي، ومن هذه الأفكار الضالة المضلة القول (بخلق القرآن) وإلا لم يكن هذا القول معروفاً عند الصحابة والتابعين.(1/169)
وقد تقبل بعض المسلمين (كالمعتزلة) وبعض (الإباضية) والزيدية وغيرهم تلك الأفكار المنحرفة البعيدة كل البعد عن هدي كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذين جمع الله بهما شمل الأمة بعد تفرقها وتشتتها وتناحرها، وكانوا شيعاً وأحزاباً كما قال تعالى ممتناً على عباده: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً …} [ آل عمران 103].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي» (1).
فعرف أعداء الإسلام أن اجتماع الأمة الإسلامية على الإيمان بكتاب ربها عزوجل وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم وأن التمسك بها سبب عظيم في عزها وقوتها، وامتداد سعادتها فأدخلوا أفكارهم المنحرفة على المسلمين في باب أسماء الله وصفاته، ونشروها بينهم تحت ستار التنزيه لله عز وجل عن مشابهة المخلوقين، ومن تلك الصفات التي نفوها عن الله عز وجل صفة (الكلام) فقالوا: إن الكلام لا يصدر إلا عن لسان وشفتين وهذه من صفات المخلوقين، فلو أثبتنا لله صفة الكلام فقد شبهناه بخلقه ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، ولمّا تقبّل بعض المسلمين كالمعتزلة والزيدية وبعض الإباضية ومن يدعي الإسلام كالرافضة تلك الأفكار الضالة -وقد يكون ذلك من بعضهم جهلاً بمراد أولئك الدخلاء - وَصَلَ أعداء الإسلام إلى أهدافهم، وهي إثارة الفتنة وتمزيق الأمة، كما قال الخليلي الذي وقع في ذاك الشباك الذي نصبه (أبو شاكر الديصاني) اليهودي الذي ذكر الخليلي أنه دخل في الإسلام وتقمص ثوبه نفاقاً، فإن أول فتنة أثيرت ومزقت شمل الأمة القول (بخلق القرآن) في عهد المأمون والمعتصم، اللذين حملا الأمة على القول بخلق القرآن وقد قتل في تلك المحنة عدد من علماء أهل السنة وسجنوا وضُرب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ضرباً مبرحاً حتى أغمي عليه.
__________
(1) الدارقطني 4/245 ح رقم 149.(1/170)
وقد ثبت أن أول من قال بخلق القرآن الجعد بن درهم نقلاً عن اليهود وإليك سلسلة ذاك الإسناد.
يقول ابن الأثير في كتاب « الكامل » (7/75) في الحديث عن التعطيل والتصريح بخلق القرآن: قال: (وقد نشر هذه المقالة ـ يعني التعطيل- وحمل لواءها الجهم ابن صفوان المتوفى سنة (128هـ) مقتولاً، وقد أخذ مقالته في نفي صفات الله تعالى عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ التعطيل عن أبان بن سمعان، وأخذ أبان عن طالوت، وأخذ طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لبيد زنديقاً يقول بخلق التوراة) اهـ.
فهذا الإسناد المظلم، المسلسل باليهود هو سند المعطلة الجهمية، ومن يقول بقولهم في نفي صفات الله عز وجل، ومن تلك الصفات صفة الكلام والقول: بأن (القرآن مخلوق) كسائر المخلوقات من الإنس والجن والسموات والأرض وغيرها من مخلوقات الله كما يقول الخليلي، فهذا هو السبب الحقيقي في إثارة الفتن التي ذهب ضحيتها عدد كبير من علماء أهل السنة والجماعة في عهد المأمون والمعتصم والواثق حتى رفعت المحنة عن الأمة على يد المتوكل الذي رفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة وأمر بنشر الآثار النبوية(1).
وقد كان لثبات الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- إمام أهل السنة والجماعة الفضل بعد الله عز وجل الذي ثبّته على الحق في كشف الغمة عن الأمة.
فقد بين أن: القرآن كلام الله، وكلامه صفة من صفاته وبكلامه يخلق الأشياء المخلوقة، كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}. وقد طلب من مناظريه بين يدي المعتصم أن يأتوا بآية من كتاب الله عز وجل أو بحديث من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلان (على أن القرآن مخلوق) فعجزوا.
__________
(1) تأريخ الاسلام / للإمام الذهبي ج1 /ص141.(1/171)
فهذا هو السبب لإشعال الفتنة بين المسلمين، وليس قول الخليلي أن سبب إشعال الفتنة: هل كلام الله المنزل حادث أو قديم؟ لأن هذا الاصطلاح نفسه أدخله أهل البدع الآخذين عقائدهم من أفكار اليهود، القائلين بأن القرآن مخلوق أخذاً عن لبيد ابن الأعصم اليهودي الساحر الذي كان يقول (بخلق التوراة) كما تقدم نقل ذلك عن ابن الأثير وغيره، وأن أول من نشر المقالة هذه الجهم بن صفوان، وقد أخذها عن الجعد بن درهم أول من قال بخلق القرآن(1) في الأمة الإسلامية، وتلقف أفكاره المعتزلة. وقد أخمدت هذا الفتنة في زمن المتوكل، والآن يذكي نارها الخليلي بكتابه هذا، مع اعترافه بأن الذين أشعلوا نار الفتنة الزنادقة، ومن هؤلاء أبو شاكر الديصاني اليهودي، الذي ذكره في كتابه وأنه تقمّص لباس الإسلام لإثارة الفتنة.والسؤال الموجه للخليلي: هل قال أبو شاكر الديصاني اليهودي عن القرآن الكريم: أنه كلام الله تكلم الله به فسمعه منه جبريل ـ عليه السلام ـ ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - فأثار الفتنة بهذا القول؟
أو قال: القرآن مخلوق، كما قال الجعد بن درهم الذي ينتهي إسناد مقالته إلى لبيد بن الأعصم اليهودي؟ وبهذا القول أخذ المعتزلة، وطائفة من الإباضية المتأخرين فثارت الفتنة وتفرقت الأمة؟
ولن يستطيع الخليلي أن يقول أنه قال بالقول الأول، لأن الواقع يشهد بخلاف ذلك.
ثم تحدث الخليلي عن الكلام النفسي، فذكر أن المعتزلة ينكرونه، ثم قرر أنّ الإباضية والأشعرية يثبتونه ثم قال: (وجمهور الأمة على إثباته) كما في (ص 105) من كتابه هذا.
وأقول: إن دعواه على جمهور الأمة أنهم يقولون بالكلام النفسي، دعوى باطلة لا دليل عليها، فعلماء سلف الأمة وخلفها جميعاً يردون على ما يسمى بالكلام النفسي لأنه لا يُعّد كلاماً، ولا يترتب عليه أحكام.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (9، 10 /404)، ولسان الميزان (2/105)، والنجوم الزاهرة (1/322)، وتقدم (ص158).(1/172)
وقد سبقت مناقشة الخليلي في الرد على ما جاء في المقدمة تحت عنوان: ((مناقشة الخليلي في الكلام النفسي) (ص 161) ودحض كلامه، ومنه استدلاله ببيت الأخطل النصراني، فلا حاجة لإعادته.فهذا هو الرد على الفقرة الأولى، وننتقل إلى الرد على الفقرة الثانية وبيان مغالطاته بعد اعترافه أن الرعيل الأول مضى إلى ربه ولم تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع.الرد على الفقرة الثانية من الفصل الأول:
وتشمل الآتي:ـ اعتراف الخليلي بأن الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع، هكذا يقول، ولكنه يغالط ويلبس القول على القارئ، فيُقوِّل السلف الصالح ما لم يقولوا، ويدعي عليهم دعوى دون دليل.
وإليك شرحه للجملة التي قال فيها:« بأن السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً في هذا الموضوع»، فيقول: (وإنما كانوا مجمعين على أن الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق، وأن القرآن كسائر الكتب المنزلة كلام الله ووحيه وتنزيله، وهذا الذي اتفقت عليه كلمة المسلمين بعُمَان في عهد الإمام المهنا ابن جيفر) إلخ (ص106 ) هكذا يقول، وهو كلامٌ مغلّف لا يدركه إلا من يعرف عقائد المعتزلة، ومن يقول بقولهم ويعتقد عقيدتهم في كلام الله عز وجل، وقولهم الصريح أن القرآن الكريم مخلوق، وهو ما يصرح به المؤلف الخليلي في كتابه هذا، وإليك الجواب لكشف هذه المغالطة فنقول:
أما قوله: (إن الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع) فذلك حق، وهو أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يتحدثوا في هذا الموضوع، بل كانوا مؤمنين مصدقين بأن: القرآن كلام الله عزوجل تكلّم الله به حقيقة كيف شاء، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمره الله أن يدعوا الناس به.(1/173)
وكان يعرض نفسه - صلى الله عليه وسلم - على القبائل ويطلب منهم أن يعينوه على تبليغ الناس كلام ربه.
فقد روى الإمام الحافظ ابن منده في كتاب التوحيد بإسناده عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه بالموقف ويقول: إن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» (1).
وقد مضى الجيل الأول على هذا الاعتقاد.وأما قوله: (وإنما كانوا مجمعين أن الله خالق كل شيء) ،فهذا موضوع المغالطة والتلبيس على القارئ، الذي لا يعرف عقيدة المعتزلة في القرآن الكريم وتلبيساتهم على الآخرين، ويمثل المؤلف الخليلي عقيدة المعتزلة في كلام الله، وفي القرآن الكريم الذي تكلّم الله به وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الرسول الأمين، والخليلي الذي يعتقد (خلق القرآن) ويدعو لذلك يريد أن يدخل كلام الله عز وجل في عموم قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} وأن القرآن الكريم شيء، فهو مخلوق.وهذه شنشنة عرفت في عهد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وعلماء السلف، وردوها على أصحابها بالأدلة الصريحة والحجج القاطعة، وأخمدوا لهيبها بنصوص القرآن وصحيح السنة.
وكلام الخليلي هو عين الافتراء على السلف، فإن السلف الصالح الذين يشير إليهم للتغطية على عقيدته الباطلة في القرآن الكريم، لم يدخلوا كلام الله عز وجل
__________
(1) رواه أبو أحمد الزبيري وغيره عن إسرائيل ح (617)، وأخرجه الدارمي في فضائل القرآن باب القرآن كلام الله (2/317) ح (3357).(1/174)
في المخلوقات، لأن الله عز وجل خلق المخلوقات كلها (بكلامه)، كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}، فكلمة (كن) في الآية هي التي يخلق الله بها ما يشاء من المخلوقات كلها، فالسلف مجمعون على أن المخلوقات كلها -من سموات وأرض وبحار وجبال وأشجار- السموات والأرض وما فيهما وما بينهما كلها من خلق الله لم يشارك اللهَ أحدٌ في الخلق. فله الخلق والأمر.
قال تعالى: {…. ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [ المائدة 17 ] وقال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [ آل عمران 59 ] فكلام الله عز وجل صفة من صفاته والله عز وجل بصفاته خالق وما سواه مخلوق، وقد خلق المخلوقات كلها بقوله للشيء (كن)،(وكن) من كلامه فلا يجوز إدخاله في عموم المخلوقات لأنه من صفاته، والقول بأن صفة من صفات الله مخلوقة كفر.وقد سأل المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصف لهم ربه الذي يدعوهم لعبادته وحده فأنزل الله سورة الإخلاص:{قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد}. ولكن! أتدري أيها القارئ الكريم من أين استقى المؤلف الخليلي هذا التعبير؟ لأنه كما يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، إنه أخذه من سلفه ـ لا من السلف الصالح ـ أخذه من (بشر المريسي) المعتزلي الذي يفتخر الخليلي بأنه يقول بقوله في القرآن الكريم.
وقد تولى مناظرة (بشر المريسي) الإمام (عبدالعزيز الكناني) فدحض كيده وأبطل حجته بين يدي (المأمون) الذي اعتنق مذهب المعتزلة في القرآن الكريم حينما لبسوا عليه بقصد التنزيه لله عز وجل عن مشابهة المخلوقين.(1/175)
وقد حمل المأمون العلماء على القول بأن القرآن مخلوق فامتنع علماء السلف من أهل السنة عن هذه البدعة، فقتل من قتل، وضرب من ضرب، وحبس من حبس، حتى أنقذ الله علماء السلف والأمة الإسلامية من هذا الاعتقاد الباطل المؤدي إلى الكفر بثبات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وقد سميت تلك المحنة بمحنة القول (بخلق القرآن). والغرض هنا الإشارة إلى أن قول الخليلي هو قول (بشر المريسي بعينه) .
وإلى القارئ طرفاً من ذلك ليعلم أن تلك العقائد المخالفة للكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة التي فرقت كلمة المسلمين لا زالت سارية في المجتمع الإسلامي لها دعاتها المناضلون عنها بكتبهم المنشورة. وإليك أدلة (بشر المريسي) في تلك المناظرة التي عقدت بينه وبين الإمام (عبدالعزيز الكناني).قال: بشر للكناني: (تقول القرآن شيء أم غير شيء؟ فإن قلت: إنه شيء أقررت أنه مخلوق، إذ كانت الأشياء كلها مخلوقة بنص التنزيل، وإن قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه وأن حجة الله ليست بشيء). هكذا سرد حجته بهذا الأسلوب، وبعد أن رد الكناني على هذا الأسلوب المخالف لأسلوب المناظرة ودحضه بالحجة والبرهان ـ كما تجد ذلك مبسوطاً في رسالته (الحيدة).رد على هذه المقالة فقال: ((إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً منه للزنادقة والدهرية، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته، وأنكر ربوبيته من سائر الأمم، فقال عز وجل لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} [ الأنعام 19 ] فدل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء، وأنزل في ذلك خبراً خاصاً مفرداً لعلمه السابق أن جهماً وبشراً ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه، ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في(1/176)
الأشياء المخلوقة قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر، تكذيباً لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [ الأعراف 180 ]، ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسم بالشيء ولم يجعله اسماً من أسمائه ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» ثم عدها فلم نجده جعل الشيء اسماً لله عز وجل، ثم ذكر جل ذكره كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بمثل ما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه من ذاته وأنه صفة من صفاته فقال الله عز وجل :{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} [ الأنعام 91 ]، فذم الله اليهودي حين نفى أن تكون التوراة شيئاً، وذلك أن رجلاً من المسلمين ناظر رجلاً من اليهود بالمدينة فجعل المسلم يحتج على اليهودي من التوراة بما علم من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر نبوته فيها حتى أثبت نبوته - صلى الله عليه وسلم - من التوراة فضحك اليهودي وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل تكذيبه، وذم قوله، وأعظم فريته حين جحد أن يكون كلام الله شيئاً، ودل بذلك على أن كلامه شيء ليس كالأشياء، كما دل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء. ثم قال في موضع آخر: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلىّ ولم يوح إليه شيء} [الأنعام:93]، فدل بهذا الخبر أيضاً على أن الوحي شيء بالمعنى وذم من جحد أن كلام الله شيء، فلما أظهر الله عز وجل اسم كلامه لم يظهره باسم الشيء؛ فيلحد الملحدون في ذلك ويدخلونه في جملة الأشياء المخلوقة، ولكنه أظهره عز وجل باسم الكتاب والنور والهدى، ولم يقل: قل من أنزل الشيء الذي جاء به موسى فيجعل الشيء اسماً لكلامه،(1/177)
وكذلك سمى كلامه بأسماء ظاهرة يعرف بها فسمى كلامه نوراً وهدى وشفاءً ورحمة وحقاً وقرآناً وأشباه ذلك؛ لعلمه السابق أن جهماً وبشراً ومن يقول بقولهم أنهم سيلحدون في أسمائه وصفاته التي هي من ذاته، وسيدخلونها في الأشياء المخلوقة)(1) .
وسنكمل هذا عند مناقشة المؤلف في الفصل الرابع من كتابه هذا الذي عقده (لأدلة القائلين بخلق القرآن).
فهذا هو الذي جعل المؤلف الخليلي يدعي تلك الدعوى على السلف بأنهم كانوا مجمعين على أن الله خالق كل شيء، ونقول: نعم خالق كل شيء مخلوق، من سموات وأرض وما بينهما، وقد خلقهما بكلامه الذي هو من صفاته؛ والكلام من الصفات الاختيارية لأن كلامه صفة قائمة بذاته وهي صفة ذات وفعل، قال تعالى :{ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فالله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء ومع من شاء، سبحانه وتعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(2) [ الشورى 11 ].
الباطل لا يقف على ساق وبيان تناقضات الخليلي
1ـ سبق أن قرر الخليلي أن الرعيل الأول من السلف الصالح مضى قبل أن يسمع شيئاً في موضوع القول بخلق القرآن (ص 106)، ثم عاد في الصفحة نفسها فذكر أن هذا الخلاف سببه الغلو، وذلك بمنابذة أهل الحديث ومن سار في ركبهم لأصحاب المدرسة العقلية من المعتزلة وغيرهم واستعداء السلطات عليهم … إلخ، وأنه عندما دالت الدولة للمعتزلة في أواخر أيام المأمون ثم المعتصم انتهزوا فرصتهم للتشفي والانتقام من أهل الحديث فأسرفوا في القتل والتعذيب.
__________
(1) الحيدة للكناني (ص 33،35،36).
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/296 .(1/178)
فامتلأت الصدور بالأحقاد، وأخذت القضية مجرى عاطفياً في البحث، وأخذ كل فريق يندد بالآخر، ويكيل له التهم ويرميه بالبدعة والانحراف، ثم يقول:(وبما أن أصحابنا أهل الاستقامة لم يشتركوا في شيء من تلك الفتن ولم يتلبسوا بهاتيك الإحن، لم يقعوا تحت تأثير العواطف، فكان بحثهم في القضية موضوعياً صرفاً، لأنهم انطلقوا فيه من قاعدة الحجة والدليل، لا من واقع السخائم والأحقاد).
هكذا يدعي أن السلف من أهل الحديث ومن سار على دربهم هم أهل تُهَمٍ وتَشَفٍّ، وليسوا أهل حق في الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم. والجواب:
إن هذه الدعوى دعوى زائفة، لا يقوم عليها دليل من واقع التأريخ والأحداث التي وقعت في محنة القول بخلق القرآن، فلم تجرّ إليها العواطف كما يدعي، وإنما كان السلفُ أهلُ الحديث والسنة يردون على المبتدعة باطلهم المتمثل في دعواهم أن صفة من صفات الله مخلوقة، وهذا القول كفر بالله جل وعلا؛ فالله عز وجل بصفاته واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والقرآن كلام الله وكلامه صفة من صفاته، ودعوى أن القرآن مخلوق ـ لم يتكلم الله عز وجل به ـ هو من قول اليهود وكيدهم، وهو إلحاد في صفات الله تعالى.
واقرأ قول الخليلي نفسه الذي سطره بقلمه في آخر (ص 105)، وأول (ص 106). حيث قال: (وقد أشعل نار هذه الفتنة بعض الدخلاء في الأمة الذين تقمصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها، أهمها إذكاء نار الفتنة بين طوائف الأمة وتقسيمها إلى شيع وأحزاب {كل حزب بما لديهم فرحون} قال: ولعل على رأس هؤلاء أبو شاكر الديصاني الذي قيل عنه أنه يهودي تظاهر بالإسلام، كما كان سلفه بولس اليهودي، الذي مزق أتباع المسيح …).
وأقول: ما الذي أدخله هذا اليهودي على المسلمين لتمزيق وحدتهم؟ هل قال: إن القرآن مخلوق فحدث التفرق بين طوائف الأمة المجتمعة على كلمة سواء؟(1/179)
أو قال: إن القرآن كلام الله تكلّم به كيف شاء فحدث التفرق؟إن الخليلي لم يفصح عن الذي أدخله أبو شاكر الديصاني اليهودي الذي تظاهر بالإسلام لإشعال نار الفتنة كما يقول.ولكن قد أَسالَ الله قلمه بما يبين الحق وهو لا يشعر؛ فقد قال في (ص 106) -بعد كلامه عن أبي شاكر الديصاني اليهودي- قال : (وكان الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع …)، وهذا يوضح لك أيها القارئ الكريم أن الذي أدخله أبو شاكر الديصاني اليهودي الذي تظاهر بالإسلام لحاجة في نفسه وهي تفريق الأمة كما يقول الخليلي- أنه أدخل عليهم القول بخلق القرآن، الذي لم يسمع الرعيل الأول من السلف الصالح الذين مضوا شيئاً من ذلك، ومضوا على كلمة واحدة لا خلاف ولا تفرّق ولا نزاع بينهم في كتاب الله، بل كلهم يؤمنون بأن القرآن كلام الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم غير مخلوق، فهذا هو الأصل الذي كان عليه السلف الصالح، ويشهد لقول الخليلي أن الفتنة أشعلها الدخلاء في الأمة، الذين تقمصوا الإسلام إضافة إلى أبي شاكر الديصاني اليهودي- الذي دخل في الإسلام لحاجة في نفسه كما يقول الخليلي- ما أورده ابن كثير في البداية والنهاية (9/352) في حوادث سنة (124هـ) في ترجمة الجعد بن درهم قال: (هو أول من قال بخلق القرآن وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي، وهو مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية كان شيخه الجعد بن درهم أصله من خراسان.قال ابن عساكر وغيره: وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم زوج ابنته، وأخذها لبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يهودي باليمن، وأخذ ذلك عن الجعد بن درهم الجهم بن صفوان الخزري وقيل الترمذي.(1/180)
ثم قتل الجهم بأصبهان قتله بمرو نائبها سلم بن أحوز وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي دؤاد عن بشر).قال ابن كثير: (وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن فطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه، ثم إن خالداً بن عبدالله القسري قتل الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى بالكوفة؛ وذلك أن خالداً خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر).
قال ابن كثير: (وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم: البخاري، وابن أبي حاتم، وعبدالله بن أحمد، وذكره ابن عساكر في التأريخ )(1).
__________
(1) انظر هامش: (1 ص158).(1/181)
قلت: فهذا هو أصل إشعال هذه الفتنة، وهذه سلسلة إسنادها كلهم يهود، وزنادقة، ممن قضى الإسلام على باطلهم فارادوا الكيد له، والطعن فيه، فتبنوا فكرة القول بخلق القرآن، وهم يعلمون أنه كلام الله عز وجل، وأن أهل الحق لن يسكتوا عن أهل الباطل، فإذا أظهروا باطلهم رد عليهم أهل الحق، وهنا يدبّ الخلاف بين الأمة المسلمة المجتمعة على كلمة سواء، وهذا الذي حدث يشهد لهذا اعتراف (الخليلي) وهو ما جاء في (ص 107) من كتابه هذا حيث قال: (إن إمام الإباضية بالمشرق محمد بن محبوب الذي أراد- حسب قول الخليلي ـ أن يعلن القول بخلق القرآن كما أعلن أهل المغرب إلا أن محمد بن هاشم اشتدت معارضته له في ذلك فانثنى عنه، قال: واتفقت كلمتهم بعد أن اجتمعوا في مدينة دما (السيب حالياً) وهو الاكتفاء بما كان عليه سلف الأمة قصر القول عن التصريح بخلق القرآن أو عدمه). فهذا ما صرَّح به الخليلي من أن الإباضية في المشرق- وقد وصفهم بأنهم أهل الاستقامة ـ قد اجتمعوا في مدينة دما (السيب حالياً) واتفقت كلمتهم على القول بما كان عليه السلف.
وقد صرح بما كان عليه السلف في أول (ص 106) وهو ما نقلته من كلامه وهو قوله (وكان الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع).
وأقول: ألا كان يسع الخليلي ما اتفقا عليه إمام الإباضية الأكبر كما يقول- محمد بن محبوب ـ ومحمد بن هاشم، وهو اتفاقهما على ما كان عليه السلف، ولو وقف الخليلي عند هذا القول لأحسن إلى نفسه ولكن الخليلي لم يكتف بهذا بل قوّلهم ـ أي: المجتمعين من الإباضية ـ ما لم يقولوا، فكما نرى أنه صرح باتفاقهم واجتماعهم على ما كان عليه السلف وقد صرح هو بما كان عليه السلف.
ثم إن مقام الاتفاق بينهم لا يدعو إلى أن يستعمل أحد الفريقين التَّقية مع الفريق الآخر؛ لأن أصحاب هذا المذهب لا يؤمنون بالتقية وإنما يتدينون بالصدق في أقوالهم حسب اجتهادهم.(1/182)
ولكن نقرأ كلام الخليلي ودعواه على هؤلاء المجتمعين على قول السلف (في القرآن) من غير ملجئ لهم على ذلك … يقول في (ص 107):(ولا أراهم وقفوا هذا الموقف الصامت إلا سداً للذريعة وتجنباً لمشايعة الظالمين، فإنهم رحمهم الله من أرسخ مبادئهم وأبرز سماتهم مناهضة الظلم ومصارعة الظالمين، من غير التفات إلى من صدر منه الظلم أو وقع عليه، وكانت الأنباء تترادف إليهم بما يتعرض إليه أبناء الأمة، من أبشع أنواع الظلم وأشنع القسوة في العاصمة العباسية
التي كانوا على مقربة منها، فكانوا كأنما يحسون بأنينهم، وسياط الظالمين تلذع ظهورهم، وبشهيقهم، وصوارمهم تفصل رؤوسهم... إلخ هذا الكلام).
والجواب:أولاً: أنهم لم يقفوا موقف الصامت كما يقول، وإنما اتفقوا واجتمعوا على قول السلف كما صرح بذلك دون أن يلجئهم أحد إلى ذلك، وإنما اتبعوا الحق الواضح.ثانياً: أنه يُقَوِّلهم ما لم يقولوا، فلم يصرحوا بما يتخرّص به، ويدعيه عليهم، وإنما تصريحهم بضده.ثالثاً: وما يدعيه على علماء الإباضية المخالفين له بالتصريح لا بالتلميح، لو فرض أنه صحيح فإنه لم يخفف -حسب دعواه- عن أهل السنة شيئاً من وطأة أهل البدعة، بل استمروا في التسلط على أهل الحق، بالقتل، والحبس، والضرب.
وأهل الحق ثابتون حتى نصر الله الحق وأزهق الباطل، وقد بدأت المحنة حينما أظهر المأمون الدعوة إلى القول بخلق القرآن، وحمل الناس على ذلك سنة (212 هـ)، ويقول: ابن كثير: (وفي ربيع الأول أظهر المأمون فظيعتين أحدهما أطم من الأخرى:الأولى: القول بخلق القرآن.والثانية: تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.قال: أخطأ في كل منهما خطأ كبيراً، وأثم إثماً عظيماً)(1).
__________
(1) البداية والنهاية (10/290)(1/183)
واستمرت المحنة إلى أن رفعت حينما ولي الخلافة المتوكل على الله بعد الواثق في يوم الأربعاء، لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (232 هـ) وسِنُّه ست وعشرين سنة يومئذ، فأظهر الله عز وجل به السنة، وكشف تلك الغمة، فشكره الناس على ما فعل(1).
فكانت مدة المحنة عشرين سنة، ثم عاد الحق إلى نصابه، وأظهر الله على يد المتوكل السُنّة وقمع البدعة.فكان إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: الخلفاء ثلاثة:1ـ أبو بكر الصديق قاتل أهل الردة حتى استجابوا له.2ـ وعمر بن عبدالعزيز ردَّ مظالم بني أمية.3ـ والمتوكل محا البدع وأظهر السنة.
وأورد ابن الجوزي بإسناده عن إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: (في سنة أربع وثلاثين ومائتين أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، وكان فيهم مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبدالله الهروي، وعبدالله وعثمان ابني أبي شيبة، فقسمت بينهم الجوائز، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية.
فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور ووضع له منبر، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً)(2).
موقف الإمام أحمد بن حنبل من مخالفيه
وبيان زيف قول الخليلي:
إن القضية أخذت مساراً عاطفياً وتشفياً من المخالف
__________
(1) المناقب لابن الجوزي (ص 438).
(2) المناقب لابن الجوزي (ص439).(1/184)
أما الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ فقد جعل كل من حضر ضربه أو شارك فيه في حِلٍّ.قال ابن الجوزي: (ثم بعث المتوكل بعد مضي خمس سنين من ولايته بتسيير أحمد إليه، ثم ذكر بإسناده عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: وجه المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بحمل أبي إليه، فوجه إسحاق إلى أبي فقال له: إن أباجعفر قد كتب إلىّ يأمرني بإشخاصك إليه فتأهب لذلك.قال أبي: وقال لي: اجعلني في حل من حضوري ضربك.
فقلت: قد جعلت كل من حضر في حل)(1).ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (( فإن الإمام أحمد قد باشر (الجهمية) الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهّم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق ورد الشهادة... إلى أن قال: ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بنص الكتاب والسنة والإجماع.
وهذه الأقوال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كَفَّر به قوماً معينين.
فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال من كُفَّر بعينه، فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفّر بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم). ثم أورد بعد ذلك الأدلة على هذا الأصل(2).
وأقول: إن ما فعله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مع خصومه
__________
(1) المناقب لابن الجوزي (ص 440).
(2) الفتاوى(12/ 488 ـ 489) .(1/185)
-الذين آذوه بالحبس والضرب، وقتلوا من قتلوا من علماء السنة- من تحليلهم
مما صنعوه به، بل الدعاء للخليفة والاستغفار له يوضح للقارئ زيف دعوى
(الخليلي) وافتراءه من أن القضية بين المعتزلة، وأهل الحديث والسنة، أنها
قضية عواطف وتشفٍّ من بعضهم البعض، وليست مسألة حق وباطل؛
لأن أسلوب التشفي هو أسلوب أهل الحقد الظلمة، الذين يعلمون أنهم
أهل باطل يريدون هدم الإسلام، والفتك بأهله لا سيما علماؤهم، لأنهم
على يقين بأنه لا يرد باطلهم ويكشف تلبيسهم ومغالطاتهم إلا العلماء من
أهل السنة، ولذلك يقسون عليهم ويبطشون بهم إذا سنحت لهم الفرصة
ودالت لهم الدولة، كما حدث من المعتزلة حينما لبَّسوا على المأمون والمعتصم وحملوهم على القول بخلق القرآن، ودعوة علماء السنة إلى تلك البدعة. وأما أهل السنة الدعاة إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والأخذ بما جاء فيهما اعتقاداً وعملاً، فإنهم لا ينتقمون ممن ظلمهم وقسا عليهم ونكل بهم إذا دالت لهم الدولة، وإنما أسلوبهم العفو عند المقدرة كما فعل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وذلك اقتداءً بنبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرجه الكفار من مكة المكرمة بعد تآمرهم على قتله كما قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [ الأنفال 30] وقد أخرجوه من مكة كما قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ(1/186)
يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} [ التوبة40] ثم يعود - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فاتحاً منتصراً ويقول لهم: «ما ترون أني صانع بكم» أي: الذين أخرجوه من مكة، فيقولون: «أخ كريم وابن أخ كريم»، فيقول: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». هذا منهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند المقدرة على من ظلمه، وهكذا أتباعه يطبِّقون سيرته، فإذا قدروا عفوا بل واستغفروا لمن ظلمهم، كما ترى الذي صنعه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مع المأمون والمعتصم، وكل من شارك في ضربه، لأنهم لا ينتصرون لأنفسهم وإنما يقدمون أنفسهم لله في إظهار الحق ونصره.فنقول للخليلي: أين التشفي الذي تدعيه على أهل الحديث والسنة من خصومهم؟ إنها الدعاوي الباطلة والزائفة، والدليل الثابت على خلافها، وهكذا فإن الباطل كان زهوقاً.
وقد سبقت الإشارة إلى هذا تحت عنوان: الباطل لا يقف على ساق وبيان تناقضات الخليلي.
الرد على الفقرة الثالثة:
اعتراف الخليلي بأن علماء عُمَان المتأخرين
هم الذين قالوا بخلق القرآن
ففي (ص 108) من كتابه هذا في الفصل نفسه يقول من بداية الصفحة ما نصه: (وأن الذين جاؤوا بعد الذين امتنعوا عن التصريح بخلق القرآن تحاملوا على من قال بخلقه، وأدى بهم ذلك إلى تناقض عجيب، يظهر لك عندما تقرأ ما كتب في هذا الموضوع في تلك الحقبة من الزمن:1ـ كالجزء الأول من بيان الشرع.2ـ والجزء الأول من الكشف والبيان.3ـ وديوان الإمام ابن النضر).
قلت: إن هؤلاء الذين ذكرهم الخليلي ومثل ببعض ما كتبوا هم
من علماء الإباضية الذين جاؤوا بعد محمد بن هاشم وإمام المشرق الأكبر(1/187)
-كما قال الخليلي- محمد بن محبوب، واتفقت كلمتهم على القول في (القرآن) بما قاله السلف من الرعيل الأول، من أنه كلام الله غير مخلوق، كما سبق الحديث عن ذلك.وهو في كتاب الخليلي هذا (ص 107).وقد جاء هؤلاء العلماء من الإباضية، فقالوا بقول من سبقهم وسلكوا مسلكهم ثم ألفوا الكتب في ذلك، ومنها ما مثل به الخليلي: الجزء الأول من «بيان الشرع»، والجزء الأول من «الكشف والبيان»، و« ديوان الإمام ابن النضر »، وهذه الكتب متداولة عند الإباضية، وقد شهد الخليلي على نفسه بذلك.
وإليك أيها القارئ الكريم نص كلامهم، الذي لا تناقض فيه، بل وافقهم العلامة المحقق ـ كما وصفه الخليلي نفسه ـ أبو الحسن البسيوي الإباضي في كتابه «الجامع» في الجزء الأول (ص 73-81)، والذي أثنى عليه الخليلي بأنه كتاب جمع علم الشريعة، وتمنى أن يمن الله بطبعه وإخراجه، وقد طبعته وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، وتحققت أمنية الخليلي كما قال المحقق، وفيما يلي نص كلام الإمام ابن النضر في قصيدته والتعريف به من كتابه«الدعائم»، تأليف الشيخ أبي بكر أحمد بن النضر العماني(1)
__________
(1) تر جمته: قال سالم بن محمد بن سالم بن سيف الرواحي بتاريخ (18/ربيع الأول من عام 1311هـ) في مقدمة الكتاب:
ترجمة الشيخ العالم الفصيح ابن النضر:
قال الشيخ يحيى بن خلفان بن أبي نبهان الخروصي: «هذه ترجمة الشيخ العالم الفقيه الفصيح النبيه، الناظم المفلق الوجيه، صاحب الدعائم، أحمد بن النضر السموئلي العماني المحبوبي الإباضي، الذي نظم الشعر فأجاد، وأخذ بعنانه فتصرف فيه على ما أراد... إلخ» (ص 3).
ثم قال في (ص 4): هذه ترجمته من كتاب خزانة الأخبار.
قال المصنف: «هو الشيخ ابن النضر صاحب الدعائم فهو أحمد بن سليمان بن عبد الله بن أحمد ابن الخضر العالم الكبير بن سليمان الذي هو من بني النضر السموئلي، بيته بالجابية الفوقية شرقي الجامع، واقتصر الناس على اسم قبيلته لشهرتها فقيل ابن النضر... إلخ».(1/188)
: الطبعة الثانية، (1409هـ ـ 1988م)، سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة.
قال في (ص 32): في الرد على من يقول بخلق القرآن:
يا من يقول بفطرة القرآن
جهلاً ويثبت خلقه بلسان
لا تَنْحَلِ القرآن منك تكلفاً
ببدائع التكليف والبهتان
هل في الكتاب دلالة من خلقه
أو في الرواية؟ فأتنا ببيان
الله سماه كلاماً فادعه
بدعائه في السر والإعلان
إلاّ فهات وما أظنك واجداً
في خلقه، يا غِرُّ من برهان
إن كان من (إنا جعلناه) فما
في الجَعْل إن أنصفت من تبيان
قد قال إبراهيم: رب اجعل لنا
بلداً بفضلك أفضل البلدان
وكذاك فاجعلني مقيماً مخلصاً
حق الصلاة لوجهك المنّان
فانظر أكان وقد دعاه لجعله
أم لم يكن خلقاً من الرحمن
أم لم يكن لما دعاه بمكةٍ
حتى دعا بالأمن والإيمان
فاربع هنا بتفكُّر يا ذا النّهى
واكدح لشأنك قد كدحت لشاني
فبأيَ هذا الجعل قلت بأنه
خلق تبارك منزل الفرقان
فإن احتججت وقلتَ (ذكر محدث)
وجهلت حقَّ تأول القرآن
أعظمت أفكاراً وادعيت خطيئةً
والله أحدثه إلى الإنسان
شاهت وجوه أولى الضلال لقد
عمُوا وتعلَّقوا بمدارج(1)العميان
ارعوا عقولهم رياض تشدّق
فرعى حماها طائف الشيطان
ألاّ تُزغْ عنهم عنانك مقصراً
تصبح عميد البغي والطّغيان
ولئن سألت طريق رشدك تلقه
يا غرُّ إن لم تَعْدُ في العدوان
ما باله أضحى بزعمك محدثاً
ما محدث إلا وشيكاً فاني
ولديه أنْبَاءٌ لِمَا هو كائِنٌ
أو كان أو سيكون في الأزمان
إن كان مخلوقاً بزعمك محدثاً
فمن المنادي (أيها الثقلان)
ومن الذي فرض الفرائض آمراً
بحدودها ونهي عن العصيان
ومن المخاطِبُ خلقَهُ بثوابهم
وعقابهم في الخلد والنّيران
__________
(1) المدارج: المذاهب .(1/189)
ولما كانت هذه القصيدة واضحة وصريحة في الرد على القائلين بخلق القرآن بأصرح الألفاظ وأبينها، ولطولها -حيثُ تقع في خمسة وسبعين بيتاً-فقد رأيت تصوير القصيدة بكاملها من كتاب«الدعائم»(1).
ثانياً: وقد قام بشرحها العالم الشيخ محمد بن وصاف الفقيه العماني، في شرحه لكتاب المؤلف «الدعائم»طبع سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، تحقيق أحمد عامر.
وهي في الجزء الأول من (ص 118) تحت عنوان: القصيدة الرابعة في فتنة خلق القرآن، وتنتهي في (ص 148)، وهي في خمسة وسبعين بيتاً كما في أصل كتاب «الدعائم» فقد رأيت أنه من المناسب تصوير القصيدة(2) بشرح العالم العماني محمد بن وصاف المطبوعة بسلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، ليطلع الإخوة العمانيون على قول علمائهم المخالف لقول الخليلي، ويرى القارئ أن مؤلف القصيدة في الرد على القائلين بخلق القرآن أنه من علماء الإباضية المشهورين، فقد وصفوه بأنه: العلامة الفقيه الفذ، وإن الشارح للقصيدة هو العالم الشيخ محمد بن وصاف الفقيه العماني.
وذلك حتى لا يُقال عُلّق على الأبيات ووضحت معانيها من مخالف للإباضية وبهذا يتحقق معنى قوله تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} [ يوسف 26 ].
وليعلم القارئ أن قول الخليلي: إن علماء الإباضية سكتوا في المحنة عن القول في هذه المسألة حتى لا يشايعوا الظلمة أنه قول باطل، وأنه ادعى على علماء عمان ما لم يفعلوا، فأنت ترى أيها القارئ الكريم من أنهم صرحوا بالرد على أصحاب هذه البدعة، بل الناظم صرح بأن ذلك القول بدعة وتحدى من يقول ذلك بأن يأتي بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن القرآن مخلوق، وبين أنه عاجز عن ذلك وأنه غير واجد شيئاً، ثم ذكر شبههم التي استدلوا بها ورد عليها وهي بعينها شبهة الخليلي التي يتذرع بها في دعوى القول بخلق القرآن.
__________
(1) الملحق رقم (1).
(2) في ملحق رقم (2).(1/190)
ثالثاً: ومن علماء عمان الذين شهد لهم الخليلي بأن كتبهم من أحسن المؤلفات جمعاً وتحقيقاً، العلامة المحقق: الشيخ أبي الحسن علي بن محمد علي البسيوي، صاحب «الجامع» فقد جاء في مقدمة المحقق للجزء الأول (ص 8-9)، وهو يثني على الكتاب.
قال: (ولهذا السبب علق سماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي في نهاية كلمته التي قدم بها بين يدي «مختصر البسيوي»، قال: وهذا المختصر إنما هو اختصار لمؤلف أبي الحسن الكبير المعروف بجامع أبي الحسن، وهو من أحسن المؤلفات جمعاً وتحقيقاً، يجد فيه المتعطش لعلم الشريعة ما يروي ظمأه ويشبع رغبته، وعسى الله أن يمنّ بالتوفيق لنشره كما وفق سبحانه لنشر مختصره إن الله سبحانه ولي التوفيق).
ثم قال المحقق معلقاً على كلام الخليلي: (وهي إشارة عميقة المغزى، إذ تدل على إدراك قيمة هذا الجامع وأهميته، وهذا أيضاً هو الذي وجه همة وزارة التراث القومي والثقافة إلى الاهتمام بهذا المؤلف القيم، ولقد تحقق دعاء سماحة فضيلة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة... وقد كان، وحققت همّة وزارة التراث القومي والثقافة وهمّة وزيرها هذا الرجاء، وذكر المحقق الانتهاء منه في أول المحرم سنة (1404هـ) الموافق (1983م)).
وأقول: بعد هذا الثناء والمدح لهذا العالم ولكتابه من الخليلي، فإليك نص كلامه في مسألة القول بخلق القرآن.
قال (ص 73-81):
مسألة:
اختلاف الناس في كلام الله لموسى عليه السلام
وسأل عن: اختلاف الناس في كلام الله لموسى عليه السلام قيل له: إن الناس قد اختلفوا في ذلك، فقال قوم: إنه أسمعه نفسه متكلماً، وقال آخرون: أسمعه صوتاً أفهمه به الكلام، في نفسه أو في غيره، أو خلقه لا في نفسه ولا في غيره، والقرآن صفته، إلى أن قال:(1/191)
فإن قلت: خلقه في نفسه أحلت؛ لأنّ نفسه ليست بمحل للحوادث، ولا للمخلوقات، وإن قلت: خلقه لا في نفسه ولا في غيره أحلت؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها، والقرآن صفة، وإن قلت خلقه في غيره لم يجز أن يكون متكلماً بكلامه غيره، ولا يكون كلام غيره هو كلامه، فكان قوله لشيء مخلوق كن مخلوقاً بقولٍ ثاني كن، والثاني بالثالث، والثالث بالرابع، وذلك ما لا نهاية له.
وأيضاً قد اتفقنا أن أسماء الله التي تصفونه بها أسماء ذاتية في القرآن، والأسماء الذاتية لا يجوز عندنا وعندكم أن تكون مخلوقة، فلما كانت صفات الله الذاتية غير مخلوقة، وهي في القرآن، كان القرآن غير مخلوق...) إلخ.
ومن أراد المزيد في توضيح هذه المسألة وبيانها فليراجع هذا الكتاب الجزء الأول من (ص 73-81)، فقد ناقش القائلين بخلق القرآن نقاشاً علمياً منطقياً بالأدلّة من القرآن والسنة والإجماع، ودحض كل الشبه التي تشبث بها المدّعون لخلق كلام الله عموماً، ولخلق القرآن خصوصاً، وهي شبه الخليلي نفسها.
وحيث إن الخليلي قد أثنى على هذا الكتاب، وهو مخطوط قبل طبعه وإخراجه للناس حسب تمنيه ذلك، فأقول لعله لم يتمكن قبل طبعه من قراءة مباحثه كلها، ومنها مسألة خلق القرآن، ولذلك فإني أدعوه وطلاب الحق من طلبة العلم مراجعة هذه المسألة بخصوصها في هذا الكتاب، لعل الله يوفق من شاء إلى الحق والصواب.
ثم قال: (وقال قوم: إنه كلمه بالوحي، وقد قال تعالى: {وكلَّم اللهُ موسى تكليماً} [ النساء 164 ]، وذلك حق من الله، وقد كلمه كما قال، كما شاء على ما شاء من ذلك.
ومن حجة الذي قال إن كلامه له بالوحي منه، قول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} [ الشورى 51 ]، وهذا خبر غير منسوخ؛ لأن الأخبار لا تنسخ...) وبعد أن ذكر الأدلة على ذلك إلى نهاية (ص 74). قال: (وسأل فقال: كلام الله مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: قد اختلف الناس في ذلك، فقال قوم إن كلام الله مخلوق.(1/192)
وقال آخرون وهم أكثر الأمة إن كلام الله ليس بمخلوق.
ووقف في ذلك واقفون، قال: وكلام الله تعالى من صفاته وصفاته لم تزل له، ولو جاز لقائل أن يقول: إن الله لم يكن متكلماً ثم تكلم، لجاز لقائل أن يقول: لم يكن الله عالماً ثم علم.
فلما فسد هذا القول على قائله، وكان الإجماع أن الله لم يزل الرحمن الرحيم، الحي العالم القادر السميع البصير المتكلم، فسد قول من يقول كلام الله مخلوق؛ إذ هو المتكلم كما أنه هو العالم، والكلام صفته فدل ذلك أن كلامه غير مخلوق).
ثم رد على شبهة القائلين بخلق كلام الله إلى أن قال في (ص 77):
(فإن قال: القرآن مخلوق أم لم يزل؟
قيل له: قد اتفقنا أن القرآن كلام الله، وأن الله قد سماه كلامه، وقد قام الدليل أن كلام الله غير مخلوق، فالقرآن لا يكون مخلوقاً وهو كلام الله بالاتفاق، وكلامه وصفاته لا يجوز عليها الأضداد).
وبعد اطلاع القارئ الكريم على قول علماء الإباضية في الرد على القائلين بخلق القرآن، وأنه لا تناقض بين كلامهم كما يدّعي الخليلي، نعود إلى ما ذكر الخليلي في (ص 108) عن هؤلاء العلماء من الإباضية (بأنهم تألموا لما حدث لأهل الحق القائلين:« بأن القرآن كلام الله غير مخلوق» من التعذيب على أيدي الظلمة القائلين بخلق القرآن،...وذكروا في حق أولئك الذين ثبتوا على الحق وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ما هو الحق المجمع عليه بين أتباع السلف من أهل السنة من أن أولئك الذين امتحنوا أبطال الأمة وشهداء عقيدتها الحقة الذين حموها بدمائهم وصانوها بتضحياتهم).
قلت: وما شهد به هؤلاء من علماء الإباضية ـ وسخر الله (الخليلي) أن يدونه بقلمه في كتابه ـ هو الحق الذي يشهد به كل منصف، لأن الشهادة لا تقبل إلا بشرطين أولهما العلم، وثانيهما أن تكون بالحق.
كما قال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وقد توفر الشرطان
في هذه الشهادة، فهم شهدوا بالحق وعن علم بما شهدوا به. ولكن ماذا(1/193)
يقول الخليلي في هذه الشهادة التي نقلها لنا هو ولم ندّعها عليه. بل
سطرها بقلمه، وهي شهادة بالحق من الأهل، والله يقول: {وشهد شاهد
من أهلها}.
فهؤلاء الشهود من علماء الإباضية:
ـ شهدوا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وسبق نقل كلامهم
من كتبهم المعتمدة في الرد على القائلين بخلق القرآن، مع إرفاق صور(1)
من كتبهم التي صرحوا فيها بذلك، من مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة
بسلطنة عمان.
ـ كما أنهم شهدوا للذين امتحنوا بأنهم أبطال الأمة وشهداء عقيدتها الحقة.
ولكن المؤلف الخليلي لا يقبل هذه الشهادة بل يردها على علماء طائفته السابقين، ثم يقرر أن علماء (عُمان) المتأخرين هم الذين يقولون بخلق القرآن ويقبل قولهم ويناضل عنه، فيرد الحق ويقبل الباطل، وهو بهذا الأسلوب يخالف منهج السلف وعلماء الأمة وإليك بيان المخالفة:
إن ما يقرره الخليلي مخالف للقواعد المتفق عليها بين علماء الأمة، ومن تلك القواعد أن المتأخرين يرجعون إلى سلفهم الذين سبقوهم علماً وزمناً، فالأصل هو قول العلماء السابقين لاعتبارات كثيرة منها:
1ـ العلماء السابقون أرسخ علماً، وأصح منهجاً، وأصفى قريحة
من المتأخرين الذين اختلطت الأمور على كثير منهم لكثرة الأهواء
وتَشَتُّت الآراء.
2ـ وثانياً فإننا نجد ما يؤيد ذلك الاعتبار، وهو أن آراء العلماء السابقين واجتهاداتهم في هذه المسألة، وهي القول بأن القرآن كلام الله تكلم به حقيقة، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - متفقة مع نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة.
__________
(1) لطولها فقد رأيت إثباتها ملاحق في الكتاب فانظرها.(1/194)
ولذلك فأقوالهم أولى بالقبول، من أقوال المتأخرين المخالفة للأصل الذي يُحتكم إليه عند الاختلاف، وهو الكتاب والسنة واتِّباع سبيل المؤمنين وعدم مشاقتهم. كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر…} [النساء 59] وقال في اتّباع سبيل المؤمنين: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء 115 ] ولكن المؤلف الخليلي ـ هداه الله إلى الحق ـ يعكس هذه القاعدة، فيجعل المتأخرين وهم طائفة من الإباضية هم الأولى بالقبول، لا لدليل ولكن قولهم صادف هوىً فتمكن من قلب الخليلي فقدمه على الحقيقة والحق.
وإليك رده لشهادة علماء الإباضية السابقين، وقبوله لآراء المتأخرين
من إباضية عمان لا من علماء الطائفة كلهم، يقول في (ص 108):
(وكثيراً ما تلمس فيما كتبوه أثر ما كان عقب تلك المحنة من ردة فعل عنيفة تبلورت فيما كتبه الكاتبون عنها، وإظهارهم للمنكوبين فيها، بأنهم أبطال
الأمة وشهداء عقيدتها الحقّة، الذين حموها بدمائهم وصانوها بتضحياتهم.
قال: وقد انعكس أثر هذا المنطق العاطفي الجيّاش على كل ما دوَّنه المؤيدون لهم في تلك الوقفة التي وقفوها، سواء كان هؤلاء المؤيّدون من مشارقة الإباضية، أو من الأشعرية وغيرهم قال: وقد استمرت هذه الفكرة في الوسط الإباضي حتى برز من علماء عمان المتأخرين، من فتحوا بتحريرهم أقفال الإشكال...) إلخ .
قلت: ومع الأسف فإن المؤلف لم يذكر واحداً من أولئك العلماء المتأخرين من علماء عمان، ولم يذكر لنا كيف فتحوا بتحريرهم أقفال الإشكال، ولكن المذكور تحدّث عن نفسه كما سيأتي بيان ذلك.
ولكني أقول -قبل ذكر كلام المؤلف الخليلي - للقارئ الكريم، وأخص شباب الإباضية الباحثين عن الحق النابذين للتقليد الأعمى: إن علماءكم(1/195)
الذين يُعتّد بأقوالهم ويُرجع لما دونوه في كتبهم لعلمهم بهذه المسالة،
وهي دعوى القول بخلق القرآن، ولقربهم من الذين أثاروا تلك الفتنة
وأحدثوا تلك البدعة في كلام الله عز وجل هم الأولى بالاتباع والأخذ
بقولهم، لموافقته للحق الذي يجب على المسلم اتباعه والأخذ به ممن كان، والله يقول عن نفسه: {وكلم اللهُ موسى تكليماً} ويقول: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربُّه …} ثم إن أهل الأفكار الغريبة المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هم الذين فرقوا شمل الأمة بتلك الأفكار الدخيلة على العقيدة الإسلامية، ومعلوم أن رواد تلك الفتنة هم اليهود الذين تستروا باسم الإسلام كما أثبت ذلك المؤلف الخليلي نفسه في (ص 106) من كتابه هذا الذي أسماه (الحق الدامغ) وهو اسم على غير مسمى لمن قرأه واطلع على مغالطة مؤلفه للحق الأبلج.
ولهذا أقول: إن أولئك العلماء من مشارقة (الإباضية) الذين يقرّرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، هم الأولى بالاتباع لموافقة كلامهم الكتاب والسنة وسلف الأمة، وليس أقوال المتأخرين من علماء عمان، المخالفة للكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
وإني لأرجو من كل طالب حق يبحث عن الحق والحقيقة أن يتجه بتفكيره إلى النصوص الواردة في هذا الموضوع من الكتاب والسنة، لأن العصمة من الزلل والخطأ في التمسك بهما، بغض النظر عمن استدل بهما، لأن الهدف هو الوصول إلى الحق الذي ينجي المسلم بين يدي الله عز وجل يوم الحساب، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً} [ آل عمران 30 ]،
وأذكرك بأبيات من قصيدة أبي النضر الإباضي التي سبقت، ولعلك ترجع إليها فقد قال فيها:
هل في الكتاب دلالة من خلقه
أو في الرواية فأتنا ببيان
الله سماه كلاماً فادعه
بدعائه في السر والإعلان
إلى أن قال:
سميته ما لم يسم تقحماً
هانت عليك عقوبة الديّان
ماذا تقول إذا وقفت مُحَاسَباً(1/196)
وسُئِلت عن لقلاقك الفتان
إذ كل نفس عند ذاك رهينة
يوم الحساب وكل وجه عان
ثم نعود لكلام المؤلف:
إن المؤلف بعد أن ردَّ شهادة علماء الإباضية السابقين، الموافقة لنصوص الكتاب والسُنّة، وأيّد علماء (عُمان) المتأخرين كما يقول، إلا أنه لم ينص على أسمائهم ولا على كتبهم التي نقل عنها ما عبر عنه بأسلوبه وهو قوله (وقد استمرت هذه الفكرة في الوسط الإباضي ـ ويعني بها القول أن القرآن كلام الله ـ حتى برز من علماء عمان المتأخرين من فتحوا بتحريرهم أقفال الإشكال …) إلخ.
وكان المفروض أن يذكر أسماءهم وكتبهم التي ورد فيها فتح الإشكال، كما هو أصل البحث العلمي الذي يتطلب من صاحبه توثيق ما ينقله وينسبه للآخرين، وإلا يبقى ذلك دعوى دون دليل.
ولكن المؤلف بدلاً عن ذلك بدأ يتحدث عن نفسه، ولعله يقصد بالمتأخرين من علماء (عُمان) نفسه، ومن يقول بقوله وإليك نص كلامه حيث يقول في آخر (ص 108): (وقد استقريت أسباب اللبس في هذه المسألة حتى اشتد نكير طائفة من المسلمين على من قال بخلق القرآن فوجدته يعود إلى أمرين:
أولهما: التباس القرآن المنزل في أفهامهم بالكلام النفسي الذي يراد به نفي الخرس.
ثانيهما: التباسه بعلم الله سبحانه وتعالى به، مع أن صفتي الكلام والعلم قديمتان. ثم قال: وما مرّ بك في المقدمة من التفرقة بين الكلام المنزّل والكلام النفسي وبينه وبين علم الله كافٍ في رفع هذا اللبس، وتبديد هذه الشبهة وأضيف إلى ذلك أن التكلم لغة وعرفاً لا يكون إلا بمعنى إحداث الكلام) اهـ.(1/197)
قلت: والجواب على هذه المغالطة: أن اللّبس الذي يقصده المؤلف، إنما هو لبس في ذهنه هو، وأما أهل السنّة والجماعة من سلف هذه الأمة وأتباعهم الذين وقفوا سداً منيعاً في وجوه المبتدعة، من جهمية ومعتزلة، الذين لبّسوا على الخليفة (المأمون) وبعده (المعتصم) بالقول بخلق القرآن، وحَمْل العلماء من أهل السنة عليه بالقوة، فلا لبس عندهم ولا اشتباه، لأن النزاع ومحل الخلاف بين أهل السنة والمبتدعة ليس في الكلام النفسي القائم بذات الله، لأن هذا لم يطلّع عليه أحد من البشر كما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة 126] وإنما النزاع في هذا القرآن المسطر في المصحف والذي يقرأه الناس ويتعبدون به، هل هو كلام الله حقيقة تكلم به وسمعه منه جبريل كما قال تعالى لنبيه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [ التوبة 6 ] وكلام الله الذي يسمعه هذا المشرك، هو المكتوب في المصحف، فيسمعه ممن يقرأه عليه، ولا يسمع كلام الله من الله، أو أنه مخلوق كما تقول الجهمية والمعتزلة خلقه كغيره، من المخلوقات، فأهل السنة والجماعة يقولون: هو كلام الله وكلامه صفة من صفاته، والله بصفاته خالق غير مخلوق، ومن قال إن صفة من صفات الله مخلوقة فقد كفر، وهذا ما سبق نقله عن علماء الإباضية المشهورين، أبو النضر من كتابه «الدعائم»، وأبو الحسن البسيوي من كتابه«الجامع»، الذي شهد الخليلي نفسه بأنه العالم المحقق، وأن كتابه من أحسن الكتب جمعاً وتحقيقاً.(1/198)
وحينما نفّذ المعتصم وصية المأمون بحمل علماء السنة على القول بخلق القرآن بالقوة، وحملهم على هذه العقيدة الباطلة، التي هي كفر، وكان ذلك في هذا القرآن المكتوب في المصحف، لا فيما يسمى بالكلام النفسي لأن المأمون والمعتصم لم يتكلما في ذلك مطلقاً، ولم تحدث بدعة الكلام النفسي إلا من عبدالله بن سعيد بن كلاب المُتَوَفَّى بعد سنة 240 هـ،وقف علماء السنة وقفتهم المشهورة، وتحمّلوا في سبيل رد هذه البدعة الباطلة صنوف التعذيب والتنكيل: من الحبس والضرب والقتل، وقد أظهرهم الله ونصرهم، فأظهر الله الحق وأبطل الباطل، بثبات علماء السنة ولا سيما إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
فقد بيّن رحمه الله للمعتصم والمناظرين له: أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته والله بصفاته واحد أحد، فمن قال إن صفة من صفات الله مخلوقة
فقد كفر، ولا يقال في القرآن بخلاف ذلك إلا بنص من كتاب الله عز وجل أو حديث من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وقد عجزوا عن الإتيان بآية من كتاب الله أو سنة من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، واقرأ ما قاله الإمام أحمد ابن حنبل للمعتصم حين دعاه للقول بخلق القرآن، فقد جاء في البداية والنهاية (10/361) وما بعدها بعد مناظرات وحوار طويل قال المعتصم: (يا أحمد، أجبني إلى هذا أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي، فيقول الإمام أحمد: فأقول: يا أمير المؤمنين، يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أجيبهم إليها، فلما لم يجب المعتصم ومن معه ابن أبي دؤاد وغيره، وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، وألحوا على المعتصم حتى حمي واشتد غضبه وأمر بضربه، وكان يقول لمن يباشر ضربه: شدّ قطع الله يديك، أو كلمة نحوها، والإمام أحمد ثابت، صابر، محتسب، لم يجب المعتصم إلى طلبه).(1/199)
وهذا يوضح زيف دعوى الخليلي، أن سبب ذلك هو التباس القرآن المنزل في أفهامهم بالكلام النفسي الذي يراد به نفي الخرس، فهذا كلام باطل لم يعرج عليه أحد ممن أثبت صفة الكلام لله عز وجل من أهل السنة والجماعة، وما سمى بالكلام النفسي لا يُعَدُّ كلاماً لا لغة ولا عرفاً، باعتراف المؤلف ورده هو لما يسمى بالكلام النفسي، وقد سبقت مناقشته في الكلام النفسي واتضح بطلانه فلا حاجة لإعادته، لأن الكلام لا يسمى كلاماً ولا يُحاسب عليه إلا بعد سماعه والنطق به.
والكلام النفسي كما سبق تعريفه: هو القائم بذات المتكلم لم يسمعه منه أحد.
ونواصل كشف تلبيسات المؤلف أو عدم فهمه وإدراكه للموصوف بصفة الكلام لقدرته عليه إن أراد أن يتكلم، وللأخرس الذي لا يستطيع النطق بالكلام، كما تقدم أنه من لازم دعوى الكلام النفسي أن الأخرس يسمى متكلماً، وكذلك عدم التفريق عند المؤلف بين قديم النوع وحادث الآحاد من الكلام.
فيقول في (ص 109): (إن التكلم لغة وعرفاً لا يكون إلا بمعنى إحداث الكلام، فإذا قُلت : تكلم محمد لم يفد قولك هذا إلا أنه أحدث كلاماً في زمن مضى.
وإذا قُلت: يتكلم، لم يفِد قولك إلا أنه أحدث كلاماً في الزمن الحاضر وكذلك صيغة الأمر.
قال: ولا يعني هذا بأي صيغة من صيغه الثلاث الإخبار عن كون الكلام صفة قائمة بذات المتكلم، أو المطلوب منه التكلّم وإلا فما معنى قولك لغيرك تكلّم إن كان الكلام المطلوب قائماً به، وهل هذا إلا تحصيل حاصل؟) أهـ
وأقول: إن هذا الفهم السقيم هو المشكلة القائمة بذهن المؤلف ومن سبقه من المعتزلة، الذين يترسم خطاهم ويأخذ بعقائدهم الباطلة، والفهم السقيم هنا أن المؤلف لا يفرق بين القادر على الكلام، وبين صاحب الآفة العاجز عن الكلام كالأخرس، وذلك أن السليم من الآفة القادر على الكلام يتكلّم متى شاء وكيف شاء، وأما الأخرس فلا يستطيع الكلامَ لأن صفة الكلام غير قائمة به، فلا يقدر على إحداث الكلام.(1/200)
فإذا قُلتَ: -كما مثّل المؤلف ـ تكلم محمد، أو يتكلم محمد، أو تكلم يا محمد، وكان المخاطب سليماً من آفة الخرس، فإن صفة الكلام قائمة به، وما أحدث من كلام في الزمن الماضي أو في الزمن الحاضر أو ما سيحدثه في المستقبل هو من آحاد الصفة القائمة به، وقد أحدث في الماضي والحاضر ما هو قادر عليه،كالقادر على المشي وإن كان جالساً فإنه يستطيع أن يمشي بخلاف المقعد أو الطفل الرضيع فإنه لا يستطيع المشي، لأن صفة المشي والقدرة عليه غير قائمة به.
أما إذا كان المخاطب أخرس وقلت له: تكلّم، فإنه لا يستطيع أن يحدث الكلام لأن صفة الكلام غير قائمة به، وإذا طلبت منه ذلك فقد طلبت منه المستحيل؛ كما تطلب من الطفل الرضيع أن يركض على رجليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الرب تعالى: إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء، أو لم يزل فاعلاً لما يشاء، لم يكن دوام كونه متكلماً بمشيئته وقدرته، ودوام كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته ممتنعاً، بل هذا هو الواجب؛ لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب أحق أن يتصف بالكلام من كل موصوف بالكلام، إذ كل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به)(1) أهـ.
ولكن هل تدري ماذا يقصد المؤلف الخليلي من قوله: (إن التكلّم لغة وعرفاً لا يكون إلا بمعنى إحداث الكلام)؟.
إنه يقصد من ذلك: أن المتكلم يخلق فعله، فمعنى أحدث المتكلم الكلام خلقه، لأن المعتزلة أشركوا مع الله غيره في توحيد الربوبية، فكل مكلف عندهم يخلق فعله، وقد رد عليهم علماء السنة هذه البدعة، ومن أولئك العلماء الإمام البخاري رحمه الله، فقد رد عليهم بكتابه المعروف بـ(خلق أفعال العباد).
__________
(1) الفتاوى (12/157).(1/201)
فالمؤلف ينفي أن تكون صفة الكلام قائمة بذات الله عز وجل، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء، وقد صرّح بذلك في (ص 109) فقال: (وقد خاطب الله عباده بلغتهم التي يعرفونها، ومفاهيمهم التي يألفونها، فإذا أخبرهم أنه كلّم أحداً من خلقه في وقت ما، لم يفد إخباره هذا إلا أنه أحدث التكليم في ذلك الوقت، فلا وجه لجعل ذلك الخطاب الذي سمعه المكلّم أو قرأه صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى).
فقوله: «...لم يفد إخباره هذا إلا أنه أحدث التكليم في ذلك الوقت» يعني أن الله خلق ذلك الكلام في ذلك الوقت، لأنَّ (أَحْدَثَ) عنده بمعنى خلق؛ ولهذا لم يقل: تكلم في ذلك الوقت، ثم وضح ذلك بقوله: «فلا وجه لجعل ذلك الخطاب الذي سمعه المكلَّم أو قرأه صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى».
ويعني بهذا نفي صفة الكلام القائمة بذات الله تعالى وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء.
فهو يقول: إن الكلام الذي سمعه المكلّم ـ مثل قول الله تعالى لموسى عليه السلام حين خاطبه بقوله: {وما تلك بيمينك يا موسى. قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى. قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى. قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [ طه17ـ21] إلى آخر القصة- فهو يقول: هذا الذي سمعه موسى عليه السلام من الله عز وجل بهذا الخطاب خلقه الله عز وجل ولم يتكلم به وهو معنى قوله: أحدثه في ذلك الوقت. ولم يقل تكلم به في ذلك الوقت، ونحن الآن نقرأ هذا الكلام الذي أنزله الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو يقول: لا فرق بين سامع الكلام من الله عز وجل كموسى عليه السلام، أو قارئ كلام الله عز وجل، فإن ذلك كله مخلوق.(1/202)
فهو ينفي أن تكون صفة الكلام قائمة به تعالى، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء وقد سبق قوله: (أنه لو أثبت لله صفة الكلام فإنه -حسب زعمه- يثبت مع الله قدماء) لأنه حسب زعمه وزعم أسلافه المعتزلة أن الصفة تكون منفصلة عن ذات الموصوف قائمة بنفسها، وهذا تصوّر فاسد، ترده النصوص من الكتاب والسنّة والفطر السليمة، فإن الذات لاتوجد إلا بصفاتها والذات التي تُجرد من جميع الصفات معدومة، لا توجد حتى في الذهن إذ لا يتصور وجود ذات بلا صفات، وقد سبق مناقشته في ذلك تحت عنوان: ((شبهة الخليلي: في أن تعدد الصفات يدل على تعدد الموصوف).
والخليلي هنا لم يفرّق بين ما يعبر عنه علماء السلف في صفة الكلام، وهو قولهم: إنه قديم النوع حادث الآحاد، أي: أن صفة الكلام قائمة بذات الله تعالى وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء، وأن من آحاد كلامه التوراة، والإنجيل، والقرآن؛ لأن كلام الله لا يحصى ولا ينفد كما قال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} [لقمان27].
ولما قال ابن القيم في كتابه «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» (2/296ـ298) (وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته، وهي صفة ذات وفعل، قال تعالى: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}) ثم سرد الآيات والأحاديث الدالة على ذلك) .
وقد نقل الخليلي جملة من كلام ابن القيم في كتابه هذا من آخر(1/203)
(ص 109) إلى أول (ص 111)، بدأه بقوله: (وأما قول ابن القيم: «وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته وهي صفة ذات وفعل، قال تعالى: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} »ثم استمر في سرد الآيات التي ذكرها ابن القيم والأحاديث التي يستدل بها على إثبات صفة الكلام، وأن الله يتكلم متى شاء، إلى قوله: ((وأنه كل ليلة يقول: «من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، من يقرض غير عديم ولا ظلوم».
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أحيا أباك وكلّمه كفاحاً» (1)، ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلّمه، وقال له: تمنَّ عليَّ. إلى أضعاف ذلك من نصوص الكتاب
والسنة...» إلخ كلامه، فماذا قال الخليلي بعد سرده لهذه النصوص التي استدل بها ابن القيم رحمه الله: (وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف، على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته، وهي صفة ذات وفعل).
إن الخليلي يغالط قُرَّاءَه ويرد نصوص الكتاب والسنة والمعقول وأقوال السلف، فيقول: (كل ما ذكره ابن القيم، فهو حجة له على صحة ما قرره، من أن المراد بتكليم الله سبحانه (إحداثه للكلام) في الوقت الذي يكون فيه.
قال: وإلا فما معنى تقييد تكليمه بالليل أو النهار، أو الدنيا أو الآخرة، أو غير ذلك من الأزمنة لو كان هذا الكلام نفسه أزلياً).
__________
(1) في قصة جابر بن عبدالله حينما قتل عبدالله شهيداً في غزوة أحد.ذكر ذلك ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة 2/297، وابن كثير في التفسير 2/141.(1/204)
هكذا يقول، وابن القيم يريد بكلامه إيراد الأدلة على أن الله يتكلم متى شاء، وأن صفة الكلام قائمة به، والخليلي لا يوافقه على ذلك، وإنما يريد أن يحمل كلام ابن القيم على أن إحداث الكلام معناه خلق الكلام متى شاء، لا أن صفة الكلام قائمة بالله، ولكنه يغالط من لا يفهم مراده، وذلك بقوله: بأن الله أحدث الكلام في ذلك الوقت، ومقصوده أنه خلقه، ولم تكن صفة الكلام قائمة به تعالى، وإنه تكلّم بذلك الكلام حسب مشيئته، متى شاء وكيف شاء، وفي الفقرة التالية كشف لمغالطاته.
مناقشة الخليلي في دعواه أن ما أورده ابن القيم
حجة له وكشف مغالطاته في ذلك
إن من عادة أصحاب الأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، المخالفة لنصوص الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة، الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، التمويهَ على القراء بعبارات لا يدرك مدلولها إلا من عرف أساليبهم.
ومن أمثلة ذلك قول الخليلي هنا:( إن كلام الإمام ابن القيم الذي أورد النصوص عليه من الكتاب والسنة والمعقول وأقوال السلف ـ من أن الله عز وجل يتكلم متى شاء- إنه حجة له على عقيدته بأن كلام الله مخلوق) ومنه القرآن فإنه مخلوق.
فقوله: (من أن المراد بتكليم الله سبحانه (إحداث الكلام) في الوقت الذي يكون فيه- يقصد بالإحداث الخلق للكلام وقت التكلم- أي أن الله خلقه في هذا الوقت ولم تكن صفة الكلام قائمة بذات الله تعالى، ولهذا لم يقل: إن الله تكلم في الوقت الذي يريد الكلام فيه حسب مشيئته واختياره وإنما عبر عن التكليم بالإحداث، والإحداث عنده خلق الكلام.(1/205)
وابن القيم لا يريد ما غالط به الخليلي قراءه من أن إحداث الكلام في هذه الأوقات المختلفة معناه (خلق الكلام) بل إنه يريد أن يقول: أن الكلام صفة ذات وفعل، وأن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء، ويقول للمعطلة في زمنه ولورثتهم في زماننا ـ كالخليلي وأمثاله-: إن نصوص القرآن والسنة تدل صراحة أن الله يتكلم بمشيئته واختياره في كل وقت وزمن في الليل والنهار، في الدنيا والآخرة.
أما الخليلي فيقول: (إن المراد بتكليم الله سبحانه: إحداث الكلام في الوقت الذي يكون فيه … وإلا فما معنى تقييد تكليمه بالليل أو النهار أو الدنيا أو الآخرة أو غير ذلك من الأزمنة.
ثم أورد مغالطاته وتمويهه فقال: لو كان هذا الكلام نفسه أزلياً).
وأقول: إن ابن القيم لم يصرح فيما نقله عنه الخليلي بكلمة (أزلياً) وإنما قال في بداية كلامه: ((كما دل القرآن: أن كلامه صفة قائمة بذاته وهي صفة ذات وفعل، وأنه يتكلم بمشيئته).
فابن القيم لم يقل مطلقاً: إن كلام الله بالليل والنهار في الدنيا والآخرة أنه أزلي. وإنما يقصد أن صفة الكلام قائمة بذاته تعالى وأنه يتكلم متى شاء. وهذا معنى قول السلف في تعريف الكلام: إنه قديم النوع حادث الآحاد، أي أن صفة الكلام قائمة بذاته تعالى أزلاً وأبداً، وأنه يتكلم متى شاء في الليل أو النهار في الدنيا والآخرة. فهذا معنى تقييد ابن القيم الكلام: بالليل والنهار، وفي الدنيا والآخرة.
وهذا هو المعقول الذي تقبله العقول السليمة والأفهام المستقيمة، فإننا لو نظرنا لصفات الكمال والنقص في المخلوق -ولله المثل الأعلى- لتبين لنا أن الشخص القادر على الكلام، السليم من الآفات.أكمل في هذه الصفة من الأخرس الذي لا يستطيع الكلام.
فإن القادر على الكلام نجد أن صفة الكلام قائمة به، وليست منفصلة عنه كما توهم المعتزلة وأتباعهم.(1/206)
فإذا أراد الكلام، فإنه يتكلم بما شاء لأنه قادر على الكلام، وأما الأخرس فإنه عاجز عن الكلام، لأن صفة الكلام ليست قائمة به، فإذا أراد أن يتكلم لم يستطع.
وبهذا يتضح للقارئ أن المؤلف الخليلي لا يُثبِت لله عز وجل صفة الكلام القائمة به تعالى، وأنه يتكلم متى شاء وكيف يشاء، بكلام لا يشبه كلام البشر فالله تعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ثم يغالط الخليلي قُرَّاءَه، ويلبّس عليهم فيفسر كلام الله مع أنبيائه ورسله مثل قوله تعالى: {وكلم اللهُ موسى تكليماً}[النساء:164] وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربُّه}[ الأعراف: 143].
وكل ما ورد فيه كلام الله مع عباده (بأن تكليم الله معناه إحداث الكلام في ذاك الوقت) ومعنى الإحداث هو خلق الكلام.
ولم يفرّق بين نوع الكلام القائم بذات الله وآحاد ذلك النوع كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، والفرقان كتاب هذه الأمة، وكل ما تكلم الله به بمشيئته واختياره وهو ما قاله السلف: إن الكلام قديم النوع حادث الآحاد. ولنقرأ كلام الإمام الطحاوي في تعريفه للقرآن.
يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدّقه المؤمنون على ذلك حقّاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه ووعده بسقر حيث قال تعالى: {إن هذا إلا قول البشر} [ المدثر 25 ] علمنا وأيقنّا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر) اهـ(1).
يقول ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية شارحاً هذا النص:
__________
(1) شرح الطحاوية (1/172).(1/207)
(هذه قاعدة شرعية وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرها، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة).
ثم قال: (وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال: ثم ذكرها فقال:
الأول: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
الثاني: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه وهذا قول المعتزلة)(1).
قلت: وهذا قول الخليلي، فإن الإباضية في باب أسماء الله وصفاته معتزلة يقولون بقولهم، وقد سبق ردنا على الخليلي في مسألة نفيه رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في الجزء الأول(2).
ثم ذكر الشارح الأقوال إلى أن قال:
(وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة).
__________
(1) ثم ذكر المؤلف بقية الأقوال في الكلام. ومنها كلام الأشعرية في أنه المعنى النفسي القائم بالذات، ووافقهم الإباضية كما ذكر المؤلف وقد تبين لك أن هذا لا يعد كلاماً.
(2) وقد طبع وحده عن دار الوحدة بالقاهرة سنة (1415هـ).وهو الآن مطبوع في هذا المجلد الجزء الأول منه.(1/208)
قلت: فكون صفة الكلام قائمة به تعالى، يتكلم متى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وآحاده حادثة، بمعنى أنه يتكلم بها متى شاء، مثل كلامه بالتوراة مع موسى، ومن آحاد كلامه القرآن، وسائر الكتب المنزّلة، فهذا مذهب أهل السنة. وإنما يجعل كل حادث من نوع الكلام الذي يتكلم الله به مما أوحاه الله إلى رسله مخلوقاً، المعتزلةُ والجهميةُ ومن يقول بقولهم ممن لُبسِّ عليهم وتغيرت فطرهم؛ ولهذا يقول شارح الطحاوية رحمه الله: (ولو تُرِك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة، لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرّق بها بينهم، {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}) [ البقرة 176 ] والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم.
قال: (وكذلك ظاهِرُ كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في «الفقه الأكبر(1)»، فإنه قال: (والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منزّل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، والقرآن غير مخلوق، وما ذكر الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره وعن فرعون وإبليس، فإن ذلك كلام الله إخبار عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى فلما كلّم موسى كلّمه بكلامه الذي هو من صفاته، لم يزل وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا) (2)اهـ.
قلت: إن عدم تفريق الخليلي في مسألة الكلام بين قديم النوع وحادث الآحاد هو الذي جعله يقول في ص (109- 111) أن كلام ابن القيم الذي نقله من الصواعق المرسلة حجة له.
__________
(1) الطحاوية 1 / 187.
(2) انظر شرح الفقه الأكبر ص204 ،طبع الشؤون الدينية بقطر.(1/209)
ويقول شارح الطحاوية أيضاً: (إن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال، ونادى، وناجى، ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه: أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وإنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: «ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى» (1).
قال: ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه، إذ تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقلٍ قائلٌ متكلمٌ لا يقوم به القولُ والكلامُ، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه، فلا يثبتوا صفة غيره فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات. وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أو حي لا تقوم به الحياة.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر» فهل يقول عاقل إنه - صلى الله عليه وسلم - عاذ بمخلوق؟ بل هذا كقوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك» (2) وقوله: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»(3).
وقوله: «وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» قال: كل هذه من صفات الله تعالى)(4).
ولكن الخليلي يدخل كلام الله عز وجل في المخلوقات التي يجري عليها الإيجاد والإعدام، وصفات الله عز وجل الذاتية لا يجوز أن يقال: أنها تدخل تحت الإيجاد والإعدام، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولبيان ذلك يقول الخليلي في (ص111):( إن الفرق بين إحداث الله لكلامه، وإحداث العبد لكلامه أمران ـ ثم شرحهما … إلى أن قال: -أما كلام الله فهو كسائر أفعاله من إيجاد وإعدام).
__________
(1) البخاري في قصة الإفك، انظر: فتح الباري ح(4750) وهو حديث طويل.
(2) رواه مسلم في السلام ح (2202).
(3) مسلم ح(2708).
(4) الطحاوية (1 / 189).(1/210)
ويتساءل المسلم: كيف يعدم الله صفة من صفاته والله عز وجل واحد أحد بصفاته، ومن صفاته كلامه؟ ولهذا أجمع أهل السنة على أن من قال: كلام الله مخلوق فقد كفر؛ لأنه بقوله هذا يقول: إن صفة من صفات الله مخلوقة وهذا كفر؟.
قال تعالى مجيباً للمشركين واليهود الذين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصف لهم ربه: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد} ولهذا قال السلف عن القرآن الكريم: (وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً …)(1).
فقولهم: كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً: رد على المعتزلة وغيرهم؛ فإن المعتزلة والرافضة -وقبلهم الجهمية وإباضية عمان المتأخرين كما يقول الخليلي- يزعمون أن القرآن لم يبدأ منه وإنما خلقه الله منفصلاً عنه.
وفي (ص 112): يصف الخليلي المخلوق حين يتكلم أنه يحتاج في تكليمه إلى الحنجرة والقصبة الهوائية، والحلق واللسان والأسنان والشفتان …. إلخ أوصاف الإنسان المخلوق.
وأقول: وإلى هنا قام بذهنه التشبيه، فأراد التنزيه فنفى عن الله عز وجل أن يتكلم بمشيئته واختياره على ما يليق بجلاله بكلام لا يشبه كلام البشر فالله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. ولهذا قال الطحاوي في تعريف القرآن:( وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية).
ويواصل الخليلي في التحريف الشنيع لكتاب الله فيستدل بآية كريمة- يستدل بها أهل السنة والجماعة على كيفية إنزال الوحي، الذي أنزله الله تعالى إلى أنبيائه ورسله، وبيان أقسامه- ويجعلها دليلاً له، ويدعم رأيه بقول الأشعرية في الكلام النفسي المتفق عليه بين الأشعرية والإباضية كما سبق ذكره لذلك في (ص 100) كما سبق ذكر رده هو للكلام النفسي وأنه لا دليل عليه لا من كتاب ولا سنة كما في (ص 103) من كتابه هذا.
__________
(1) الطحاوية (1/172).(1/211)
وقد سبق مناقشته في الكلام النفسي وأنه مضطرب فيه، فمرة يثبته ومرة ينفيه، والذي يظهر أن الأمر في نفيه وإثباته عنده حسب الحاجة، ولذا نجده هنا احتاج إليه، فبعد أن ذكر صفات المخلوق وما يحتاج إليه لأداء الكلام من حنجرة ولسان … إلخ قال:(وقد بين لنا تعالى صفة تكليمه لعباده حيث قال: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} [ الشورى 51]. قال: وناهيك أنه سبحانه جعل الوحي تكليماً منه مع أنه إلهام يختص به من يشاء من عباده).
وأقول: ليس كل الوحي إلهاماً، وإنما الإلهام نوع من أنواع الوحي.
وفي أول (ص 113) يبدأ بالتحريف الصريح فيقول: (وإذا عرفت ذلك اتضح لك جواز أن يكون التكليم من وراء حجاب إذا أسند إلى الله، بمعنى خلق صوت مسموع لا يصدر عن شيء ينبئ عن مراد الله، ويتلقفه سمع من اختصه الله بالتكليم، وعلى هذا يحمل تكليم الله لموسى عليه السلام.
ثم يقول: وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما الإمام الطاهر ابن عاشور ـ وهو مالكي المذهب أشعري العقيدة ـ في تكليم الله لملائكته حيث قال: «وكلام الله للملائكة أطلق على ما يفهمون به إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي»)(1).
المناقشة لهذا الاستدلال:
نذكر نص الآية الكريمة فالله سبحانه وتعالى يقول مخاطباً عباده مبيناً لهم وحيه إليهم: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} [ الشورى 51 ].
إن الآية الكريمة قد شملت أنواع الوحي الثلاثة:
1ـ الإلهام 2ـ الكلام من وراء حجاب 3ـ إرسال الرسول وهو جبريل عليه السلام إلى من اختصه الله من عباده بالإيحاء إليه وهم الأنبياء والرسل.
وقد مثلَّ الخليلي بتكليم الله عز وجل لموسى عليه السلام وهو النوع الثاني من أنواع الوحي: التكليم من وراء حجاب.
__________
(1) التحرير والتنوير (6/38) ط/ الدار التونسية للنشر.(1/212)
فلنناقش هذا: يقول الخليلي إن التكليم من وراء حجاب إذا أسند إلى الله، يكون بمعنى خلق صوت مسموع لا يصدر عن شيء ينبئ عن مراد الله، ويتلقفه سمع من اختصّه الله بالتكليم، وعلى هذا يحمل تكليم الله لموسى عليه السلام.
وحيث إن الله عز وجل قد خاطب نبيه موسى عليه السلام في آيات كثيرة وردت في كتاب الله، فمن المناسب أن نورد بعض الآيات الواردة في ذلك لنرى هل شَرْح الخليلي وتوضيحه لها مستقيم مع نصها وفيما تدل عليه لمن يتحدث اللغة العربية، كما شرحها الخليلي بما سبق ذكره، أو أنّه حرّفها تحريفاً شنيعاً أخرجها عن مدلولها الصريح الواضح؟.
فمن ذلك قول الله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر
فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربُّه قال رب أرني أنظر إليك} [ الأعراف 142ـ143 ] فهل الصوت الذي سمعه موسى من لا شيء ؟وهل قال موسى للذي لا شيء حينما سمعه قال له: {رب أرني أنظر إليك}، أي أن نبي الله موسى يقول للاشيء : {رب أرني أنظر إليك}؟ ومثل هذه الآية في قصة تكليم موسى ما جاء في سورة القصص وهو قوله تعالى: {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون- فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} إلى قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [ القصص 29ـ 35 ] فمن الذي يقول: {يا موسى إني أنا الله رب العالمين} غير الله عز وجل، فهل ذلك الصوت الذي سمعه موسى يصدر من لا شيء، وهل ذاك الذي لا شيء يقول لموسى: {إني أنا الله رب العالمين}.(1/213)
ولنقرأ ما جاء في سورة طه في تكليم الله لموسى عليه السلام، يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {وهل أتاك حديث موسى. إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. فلما أتاها نودي يا موسى. إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [ طه 9ـ14 ].
فمِمَّن سمع موسى ذاك الصوت الذي يصدر لا عن شيء ؟ ومن الذي سمعه موسى وهو يقول: {إني أنا ربك}؟ ومن الذي قال: {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} هل سمعه من لا شيء، وهذا الذي لا شيء هو الذي ادّعى أنه رب موسى وطلب من موسى أن يعبده؟.
إن هذا لهو الضلال المبين، وتحريفٌ لكلام الله رب العالمين، رب موسى وهارون عن مواضعه، وهل العقلاء يقولون مثل هذا؟
ولكن الأشعري المعاصر- غير ابن عاشور الذي استشهد الخليلي بكلامه؛ لأنه مالكي المذهب أشعري العقيدة كما يقول، حيث فسّر سماع الملائكة من الله بسماعهم للكلام النفسي الذي سبق أن رده الخليلي نفسه وقال: إنه لا يسمى الكلام النفسي كلاماً ولكن يثبته حسب الحاجة إليه- هذا الأشعري المعاصر هو:
عبدالرحمن حبنكة: فهو يقول في كتابه «أسس العقيدة الإسلامية» (الجزء الثاني ص 249) في تعريف الكلام من وراء حجاب في شرح الآية السابقة يقول: ((إن الله يخلق الصوت في جسم أو حجر أو شجر، قال: ويمثل لهذا بتكليم الله لموسى عليه السلام».(1/214)
وأقول للخليلي: وأنا أضيف لك أشعرياً معاصراً توزع كتبه في مكتباتنا يقول بخلق القرآن كما تقول وبدون مواربة، فأنت تقول: بخلق صوت مسموع لا يصدر عن شيء ينبئ عن مراد الله ـ ولا أدري هل تسمي الهواء شيئاً أولا...؟أما عبدالرحمن حبنكة فيقول: يخلقه في جسم أو حجر أو شجر ويمثل له بتكليم الله لموسى عليه السلام، وصريح كلامه لا لازمه أن ذاك الجسم: الحجر أو الشجر هو الذي قال لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} لأن موسى لم يسمع ذاك الصوت إلا من هذا الجسم الذي خلق فيه الوحي.
ونقول: تعالى الله عن قول هؤلاء المتبعين لأقوال الجهمية والمعتزلة علواً كبيراً، وهذا يبين للقارئ أن المعاصرين ورثة أولئك السابقين، فهم يمثلون بقولهم، وهذا قول من سبقهم من المقلدة لأهل الباطل: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف:23] وكان الواجب عليهم الرجوع إلي كلام الله الواضح الذي لا يجوز تحريفه، فالله عز وجل كلّم موسى، وسمع موسى كلامه بنص القرآن، وفسرت السنة ذلك، وإن من خصائص موسى تكليم الله له كما في محاجة آدم وموسى المروية في الصحيحين، وقد أكذب اللهُ ورسولُه هؤلاء المؤولةَ لكلام الله عز وجل بدون برهان من الله.
تصريح الخليلي بأنه على مذهب المعتزلة
يقول الخليلي في آخر (ص113 ـ 114)
(إن المحقق الخليلي(1) ـ رحمة الله عليه ـ قال: ((قد اتفقنا نحن والأشعرية أنه مخلوق، وصرح بذلك الشيخ أبو سعيد، ومحمد بن محبوب رحمهما الله، واتفق عليه أصحابنا المغاربة، وفاقاً للمعتزلة. ولا منكر ذلك فيما قيل إلا بعض الحنابلة))) (2).
__________
(1) هو غير المؤلف.
(2) مراجع المؤلف: تمهيد قواعد الإيمان (2/6) وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.(1/215)
وفي (ص 114- 116) يؤكد ذلك بما ينقله عن الفخر الرازي من الأشعرية، وعن ابن عاشور الأشعري من التصريح بخلق القرآن(1) فيقول: (وهذا ما يؤكد قول الخليلي من أن موقف الأشعرية من هذا القرآن المنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، المتلو بالألسن، المحفوظ في الصدور، المكتوب في المصحف، لا يختلف عن موقفنا وموقف المعتزلة وغيرهم القائلين بخلقه.
قال: وهذا الذي يعنيه الإمام السالمي حيث جعل الخلاف بيننا وبينهم لفظياً فحسب)(2) اهـ.
هذا ما يقرره هنا ولكنه ينقضه في (ص116 – 124)، فهل تثبت أقدام أهل الأهواء على طريق مستقيم، إن الثبات لا يعرف في منهج من ترك صريح الكتاب والسنة ولهذا نجد الخليلي ينقل عن ابن عاشور كلاماً يؤيد مذهبه، ثم ينقل عنه ما ينقض كلامه ويرد عليه كما في (ص 123- 124).
ومن هنا نجد الخليلي بعد أن نقل اتفاق الإباضية والأشعرية والمعتزلة على أن هذا القرآن المتلو المسموع المكتوب في المصاحف مخلوق، وأن الخلاف لفظي كما نقله عن نور الدين السالمي.
يقول في (ص 116 –124) : (وظهر لي أن هذا الموقف لم تتفق عليه الأشاعرة أو أنهم لم يستقروا عليه).
وخلاصة ما ذكره في هذه الصفحات من اضطراب هو ما وضحه أشعري معاصر، في كتابه المسمى «كبرى اليقينيات الكونية» وهو الدكتور محمد سعيد البوطي فقد قال في (ص 126) في حديثه عن صفة الكلام:
(إذا تأملت فيما ذكرناه أدركت النقطة الخلافية بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة ـ ويعني بهم الأشاعرة ـ وهي أن هناك معنى لألفاظ القرآن يتكون فيه الأمر والنهي والأخبار المتجهة إلى الناس، وهو قديم. فما اسم هذا المعنى؟
المعتزلة: اسمه العِلْم إذا كان أخباراً، والإرادة إذا كان أمراً ونهياً.
الجمهور: ـ وهذا تعبيره ـ اسمه الكلام النفسي وهو صفة زائدة على كل من العلم والإرادة قائم بذات الله تعالى.
__________
(1) التفسير الكبير (1/30) ط دار الكتب العلمية .
(2) مشارق الأنوار ص 245.(1/216)
قال: وأما الكلام الذي هو اللفظ، فاتفقوا على أنه مخلوق، وعلى أنه غير قائم بذاته سبحانه. باستثناء أحمد بن حنبل وبعض أتباعه.
ثم قال: -ولا تدخل بعد أن عرفت نقطة الوفاق والخلاف- في شيء من المناقشة والجدال اللذين قاما حول هذا البحث...) إلخ.
قلت: وبهذا يتضح أن الأشاعرة متفقون مع المعتزلة والإباضية المتأخرين من أهل عُمَان -كما قرر الخليلي- من أن هذا القرآن الموجود في المصحف المتلو بالألسن مخلوق، وأن الخلاف خلاف لفظي كما نقله الخليلي عن نور الدين السالمي، لأن المعتزلة ومثلهم الإباضية المتأخرون يقولون: هذا القرآن المكتوب في المصحف المتلو بالألسن، خلقه الله منفصلاً عنه، والأشاعرة يقولون: إن هناك صفة كلام قائمة بذات الله هي الكلام النفسي، أما الموجود في المصاحف المتلو بالألسن فهو مخلوق. إذاً لا خلاف بينهما إلا في اللفظ.
أما ما يسمونه الكلام النفسي، فقد سبق أن الخليلي رده عليهم وقال: إنه لا يوجد دليل عليه لا من كتاب ولا سنة كما في (ص 100) من كتابه هذا، ثم عاد فناقض نفسه وأثبته كما في (ص 103) وقد سبقت مناقشته والرد عليه.
قلت: وأما أهل السنة والجماعة، سلف هذه الأمة وأتباعهم في كل زمان ومكان، فإنهم يردون على أهل الباطل باطلهم، ويثبتون الحق الذي دلّ عليه الدليل من الكتاب والسنة، فيقولون: إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف المتلو بالألسن هو كلام الباري، الذي قال عنه سبحانه وتعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [ التوبة 6 ] وكلام الله الذي يسمعه المشرك هو هذا الموجود في المصحف، الذي أنزله الله على رسوله، ولا يصح أن يقال هو الكلام النفسي القائم بذات الله، فإن المشرك لا يمكن أن يسمعه، فالمسموع كلام الباري، والصوت صوت القارئ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «زينوا القرآن بأصواتكم».
***
دعوى الخليلي اتفاق الإباضية والحنابلة(1/217)
وأما دعوى الخليلي في (ص125) الاتفاق بين الإباضية والحنابلة فإليك نص كلامه أولاً، ثم نتبعه بالمناقشة يقول الخليلي: (أما نحن ـ معشر الإباضية القائلين بخلق القرآن، ومن قال بقولنا من المعتزلة وغيرهم ـ فقد اتفقنا مع الحنابلة القائلين بقدم النصوص القرآنية، على أن موسى عليه السلام سمع من تكليم الله كلاماً مركباً من الحروف وأنه كان صوتاً، إلا أنّا اختلفنا في قدمه وحدوثه، فقالوا بقدمه وقلنا بحدوثه، وإنما قلنا: إن هذا تكليم حقيقي من الله له، لأنه لم يكن بواسطة بل خلقه الله له حيث شاء فأسمعه إياه من غير أن ينطق به ملك أو مخلوق آخر).
وأقول: إن هذا افتراء، فالحنابلة لم يقولوا: إن تكليم الله لموسى قديم بل هو حادث في وقته، وسيأتي توضيح ذلك في الجواب على هذه الدعوى.
قال الخليلي: (وقد قال كثير بأنه تعالى خلقه في الشجرة وأسمعه منها، وهذا الذي نسبه الفخر الرازي إلى الإمام أبي منصور الماتريدي. ثم رد عليه فقال: ولا يتعين ذلك لعدم ما يدل عليه، وإنما هو أحد الاحتمالات الواردة)أهـ.
والجواب على هذه الدعوى من وجوه:
الوجه الأول: أن سلف هذه الأمة أهل السنة والجماعة، ومن تبعهم وسلك مسلكهم من الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب الأربعة يثبتون لله عز وجل صفة الكلام، وأنه عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء، وأن كلامه تعالى قديم النوع حادث الآحاد غير مخلوق(1).
وأنه تعالى كلّم موسى عليه السلام بكلام سمعه منه مباشرة دون واسطة كما قرر الخليلي وذلك لقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك} الآية. وقوله تعالى في سورة طه: {وهل أتاك حديث موسى}... إلى قوله: {فلما أتاها نودي يا موسى. إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [الآيات من 9- إلى آخر القصة ].
__________
(1) انظر: شرح الطحاوية (1/174).(1/218)
ومثل ذلك الآيات من سورة القصص [ من الآية 29 إلى الآية 35 ]، وقد سبق مناقشة ذلك وبيان فساد استدلالهم بهذه الآيات.
الوجه الثاني: أن السلف ومن يقول بقولهم من الحنابلة وغيرهم، يقولون: إن صفة الكلام قائمة بذات الله تعالى، وهذا معنى قولهم قديم النوع حادث الآحاد، معناه أن الله عز وجل يتكلّم متى شاء، ومن آحاد كلامه: كلامه بالتوراة والإنجيل والصحف والقرآن، وكلّ الكتب المنزلة التي أنزلها على أنبيائه ورسله فهي من كلامه عز وجل، وكلمات ربي لا يحيط بها أحد كما قال تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} [ لقمان 27 ].
ولم يرد عن السلف ومن قال بقولهم واتبع سبيلهم من الحنابلة وغيرهم ما عبّر به الخليلي، ولهذا لم يذكر المرجع الذي أخذ منه ذلك النص الذي نسبه للحنابلة المتبعين لمنهج السلف في إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وأن القرآن كلامه غير مخلوق.
أما معنى القدم والحدوث، فمعناه عند أهل السنة: ما ذكر، وهو أن الكلام قديم النوع أي صفة الكلام قائمة بذاته تعالى، حادث الآحاد أنه يتكلم بمشيئته واختياره متى شاء وكيف شاء {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وأما عند الخليلي وسلفه من المعتزلة، فإنهم ينفون صفة الكلام القائمة بالله تعالى ويعبّرون عن خلق القرآن بالحوادث، فأحدثه معناه خلقه، كما صرحوا بذلك.
الوجه الثالث: أن الخليلي ينقض كلامه بنفسه، فقد قرّر في هذا النص أن موسى عليه السلام سمع من تكليم الله كلاماً مركباً من الحروف، وأنه كان صوتاً ثم يؤكد فيقول: (إن هذا تكليم حقيقي من الله له لأنه لم يكن بواسطة... ولم ينطق به ملك أو مخلوق آخر) ثم يعكس فيقول: (بل خلقه الله له حيث شاء).(1/219)
فكيف يكون كلاماً حقيقياً من الله بلا واسطة؛ ثم يقول: (بل خلقه الله حيث شاء)، إن هذا الشيء الذي خلقه الله فيه هو الواسطة التي ينفيها ثم يثبتها، فهل الذي قال لموسى عليه السلام: {فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} فهل هناك شيء غير الله يجرؤ أن يقول لنبي الله: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}؟ إن هذا هو الضلال المبين والله شهيد بذلك.{قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} [ الأنعام 19 ].
فالله عز وجل يصرح بكلامه أنه هو الذي كلم موسى وقال له: {إني أنا ربك فاخلع نعليك} وقال له: {فاستمع لما يوحى .إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}.
وتقول مع هذه الآيات كلها : إنه خلقه له حيث شاء، وقد قلت في (ص 113) من أولها: (إن التكليم من وراء حجاب إذا أسند إلى الله، أنه بمعنى خَلْقِ صوتٍ مسموعٍ لا يصدر عن شيء).
فهل يصدر هذا الصوت المسموع عن عدم؟
ألا يكفي هذا التناقض بأن أهل الباطل وخلاّن الهوى لا تثبت لهم قدم، ولا يستقيم لهم بنيان، لأنه أسس على جرف هار.
وأما غيرك فكانوا أصرح منك في باطلهم، كما نقلت عنهم وأنطقك الله برد باطلهم، ولكن لم ترده بالحق حيث قُلتَ: (وقد قال كثير بأنه تعالى خلقه في الشجرة وأسمعه منها، وهذا الذي نسبه الفخر الرازي إلى الإمام أبي منصور الماتريدي) ثم قُلتَ: (ولا يتعين ذلك لعدم ما يدل عليه).
قُلتُ: ولكن قد صرح الأشعري المعاصر عبدالرحمن حبنكة في كتابه «أسس العقيدة الإسلامية» (2/249) أن هذا الوحي من وراء حجاب هو أن يخلق الله الكلام في جسم حجر أو شجر، قال: ويمثل لهذا بتكليم الله لموسى؛ كما سبق ذكر ذلك.(1/220)
ومعناه عند (حبنكة)- وهو صريح قوله لا لازمه كما تقدم-: أن ذلك الجسم من الحجر أو الشجر هو الذي قال لموسى عليه السلام: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}؛ لأن موسى عليه السلام- حسب قول حبنكة هذا-لم يسمع ذلك الكلام من وراء حجاب إلا من ذلك الجسم ولهذا أخذ موسى ذلك الوحي.
ولم يبين لنا حبنكة هل موسى عليه السلام عبد ذلك الجسم، أو عَبَدالله الذي كلمه وأمره بعبادته؟ إن هذا من أفسد الاستدلال والتلاعب بكلام الله وتحريفه عن مواضعه.
الوجه الرابع: إن قول الخليلي: (إن هذا تكليم حقيقي من الله له، وأنه سمع من تكليم الله كلاماً مركباً من الحروف وأنه كان صوتاً).
أقول: إن هذه التأكيدات كلها تمنع أن يكون الكلام قام بغيره سبحانه وتعالى، لأن المتكلم هو من قام به الكلام حقيقة، وقد قال: إن هذا تكليم حقيقي من الله له. يقول شارح الطحاوية:
(وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود: {أنطقنا الله} [فصلت 21 ] ولم تقل: نطق الله، بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره، زوراً كان أو كذباً، أو كفراً، أو هذياناً، تعالى الله عن ذلك، وقد طرد ذلك الاتحادية فقال ابن عربي:
وكل كلام في الوجود كلامه
سواء علينا نثره ونظامه
ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير: أعمى، وللأعمى: بصير، لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره...)(1) الخ.
هذا وسنواصل الحديث مع الخليلي عن الفصل الثاني: الذي أسماه تضارب القائلين بقدم القرآن.
فهذا كلام أهل السنة، واقرأ فيما يلي كلام علماء الإباضية، في بيان أن الله يتكلم متى شاء، وأن الكلام صفته، وأن الصفة لا تقوم بنفسها.
__________
(1) انظر: شرح الطحاوية (ص 172).(1/221)
يقول أبو الحسن البسيوي ـ الإباضي ـ في كتابه «الجامع» الذي أثنى عليه الخليلي الجزء الأول (ص 76)، وهو يتحدث عن كلام الله قال: (ويستحيل أن يحدثه قائماً بنفسه؛ لأنه صفة والصفة لا تقوم بنفسها. فلما استحال أن يكون متكلماً بكلام غيره، استحال أن يحدث كلام الله في غيره، وأن يكون به متكلماً فلما فسدت هذه الوجوه التي لا يخلو الكلام منها، صح أنه لم يزل متكلماً؛ لأن من صفته الكلام).
وسبق في (ص 73-74) تصريحه بأن الله كلم موسى بالوحي منه- لا أنه خلق الكلام في لا شيء كما يقول الخليلي، أو خلقه في شجر أو حجر، كما يقوله حبنكه- حيث قال البسيوي: ( مسألة - اختلاف الناس في كلام الله لموسى عليه السلام.
قال: وسأل عن: اختلاف الناس في كلام الله لموسى عليه السلام، قيل له: إن الناس قد اختلفوا في ذلك.(1/222)
فقال قوم: إنه كلمه بالوحي، وقد قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً}، وذلك حق من الله، وقد كلّمه كما قال، كما شاء على ما شاء من ذلك، ومن حجة من قال: إن كلامه له بالوحي منه، قول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} [ الشورى 51 ]، وهذا خبر غير منسوخ؛ لأن الأخبار لا تنسخ، فيجوز أن يكون كلّمه بالوحي منه إليه، وقد سمى الله التوراة نوراً، وسماها كلامه، وذلك قوله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكتاب فقال: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}[البقرة 75 ]، وقد سمى التوراة كلامه، كما ذكر أنه كلّم موسى، وذكر أنه أنزل التوراة والإنجيل وأنزل الفرقان، وقد سمّى القرآن كلامه، لقوله تعالى: {حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6 ]، وسماه نوراً، وذكر أنه أنزله على رسوله، وهو كلامه، وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب}، فذلك أن الكلام لا يكون إلا بالوحي، كما قال: ألا ترى أن الوحي كان ينزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - به، بالاتفاق أن القرآن وحي، وقد سماه الله كلامه، وقال الله تعالى لنبيه: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [ النساء 163 ]، إلى تمام القصة، فذلك بالوحي كما قال الله تعالى)(1).
وفيما يلي الحديث عن الفصل الثاني:
الفصل الثاني (ص 126 – 153): أسماه المؤلف (الخليلي):
تضارب القائلين بقدم القرآن
ثم بدأه بقوله: (إن القول بقدم القرآن ـ وإن تباينت مفاهيمه وتشعبت مسالكه باختلاف أصحابه فيما بينهم ـ ينبجس من نبع واحد، وهو عدم التفرقة بين صفة الكلام الذاتية لله تعالى وبين أثرها، وهو ما أنزل من كتبه على رسله.
__________
(1) جامع أبي الحسن البسيوي ـ الإباضي ـ (1/74) طبع وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان سنة 1404 هـ.(1/223)
قال: وأصحاب هذا القول كلهم ملزمون بأن يقولوا بقدم الحوادث كلها، فإنها آثار لصفات الله تعالى، إذ المخلوقات على اختلافها ما هي إلا آثار لقدرته تعالى، ولإرادته ولعلمه، وكل من هذه صفة ذاتية قديمة لاستحالة اتصاف الله بأضدادها). هذا هو المقطع الأول من الدعوى.
المقطع الثاني في الصفحة نفسها قال: (ومع اتحاد مصدر هذا القول نجد بين أصحابه من التنازع والتدافع ما يقضي العجب العجاب، بحيث لا يمكن أن تجتمع أقوالهم في طريق واحد، ولا تنتهي إلى غاية واحدة، ولم يقف الحد عند هذا بل تجاوزه إلى التراشق فيما بينهم بالتجهيل والتبديع، والتقاذف بالتضليل والتكفير).
المقطع الثالث في الصفحة نفسها والتي تليها وهو المقصود من تأليف الكتاب وهو قوله: (وإذا سكتنا عن طوائفهم المتعددة، وأصغينا إلى ما تقوله طائفة واحدة فحسب ـ وهي الحنابلة ـ وجدنا ذلك أمراً عجباً؛ فقد سلكوا في إثبات وتفسير معتقدهم هذا طرائق قدداً، كل أصحاب طريقة منها يدعون أنهم أسعد بالحق، وأتبع لقول إمامهم أحمد بن حنبل، ومن أمثلة ما اختلفوا فيه:
أ ـ صوت قارئ القرآن وتلاوته.
ب ـ الحروف الهجائية التي تتركب منها كلمات القرآن وغيره.
ج ـ تكلم الله هل هو بمشيئته أو بدونها).
ثم قال في بداية (ص 127) من كتابه هذا:
(وبما أن خلافهم في الحروف والأصوات والتلاوة متداخل، نجمع بينها في عرض أقوالهم فيها ونقدها).
ثم بدأ بالتمثيل والنقاش.(1/224)
وقبل الدخول فيما مثل به والرد عليه نجيب على الخليلي فيما جعله عنواناً وادعى به على الحنابلة، وسوف ترى أن نقاشه ومغالطاته كلها موجهة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم؛ لأنهما شوكة وشجى في حلوق المبتدعة. فهما بيت القصيد من هذا الكتاب، ولا مانع من الرد العلمي على الأخطاء وبيان وجه الحق فيها بدليله، ولكن الخليلي يدعي على ابن تيمية ما لم يقل، ويحمله أخطاء الآخرين التي يردها، ويجعلها قولاً له ويرد عليه فيها، وهذا من أعجب الأمور، وسترى أمثلة ذلك.
ونبدأ بالرد أولاً على المقطع الأول فأقول: إن السلف وأتباعهم من العلماء قبل الإمام أحمد بن حنبل ومعاصريه من علماء السلف، ومن جاء بعده من الأئمة وأتباعهم القائلين: إن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود لم يرد في كلامهم (التعبير بقدم القرآن) مطلقاً وإنما أول من قال هذا (ابن كلاب) وابن تيمية يرد على ابن كلاب كما في الفتاوى (12/301)، ونقله الخليلي نفسه ثم نسبه إلى ابن تيمية ورَدّ عليه، فهذا من أعجب عمل الخليلي!.
وإنما يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، سمعه جبريل من الله عز وجل، ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - فسمعه من جبريل وسمعه المسلمون من نبيهم، ثم بلّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - أمته، ثم بلّغه بعضهم إلى بعض، وليس لأحد من الوسائط فيه إلا التبليغ، وقد تكفل الله بحفظه من التحريف والتبديل.
وإليك أيها القارئ الكريم تعريف السلف -أهل السنة والجماعة- المثبتين لصفة الكلام لله عز وجل القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، إذ لم يصدر عنهم هذا التعبير الذي ادعاه الخليلي وهو قوله: (قدم القرآن) كما سيأتي تصريحه بذلك في كتابه هذا (ص 149) وما بعدها من هذا الفصل.
تعريف القرآن عند أهل السنة(1/225)
يقول الطحاوي رحمه الله في تعريف القرآن: (... وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {إن هذا إلا قول البشر}[ المدثر 25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر)(1).
فهذا قول أهل السنة في وصف القرآن الكريم فلم يصدر منهم القول: بأنه قديم، وإنما قالوا: القرآن كلام الله منه بدأ قولاً... إلخ.
قال شارح الطحاوية ابن أبي العز: (وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن كلام الله غير مخلوق)(2).
المقطع الثاني في (ص 126):
يقول الخليلي: (ومع اتحاد مصدر هذا القول نجد بين أصحابه من التنازع والتدافع ما يقضي العجب العجاب، بحيث لا يمكن أن تجتمع أقوالهم في طريق واحد ولا تنتهي إلى غاية واحدة، ولم يقف الحد عند هذا، بل تجاوزوه إلى التراشق فيما بينهم بالتجهيل والتبديع، والتقاذف بالتضليل والتكفير...).
والجواب:
__________
(1) شرح الطحاوية (1/172).
(2) شرح الطحاوية (1 / 185).
وقال الشيخ حافظ الحكمي في منظومته الجوهرة الفريدة في تحقيق العقيدة في تعريف القرآن:
تكلم الله رب العالمين به قولا
وأنزله وحياً به الرشد
نتلوه نسمعه نراه نكتبه
خطاً ونحفظه بالقلب نعتقد
وكل أفعالنا مخلوقة وكذا
آلاتنا الرق والأقلام والمدد
وليس مخلوقا القرآن حيث تلي
أو خُطَّ فهو كلام الله مسترد
والواقفون فشر نحلة وكذا
لفظية ساء ما راحوا وما قصدوا(1/226)
أولاً: إن عنوان الفصل عام، ويظهر أنه أراد به الخصوص فقد وجّه نقده إلى الحنابلة، بل إنه خص بدعوى التضارب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وليته أنصف فيما ينسبه إلى شيخ الإسلام، ولكن ستجد في النص التالي ما يقضي العجب العجاب من عمل الخليلي فيما يسميه تضارباً، حين ينقل الكلام عن شيخ الإسلام وهو كلام يرد به شيخ الإسلام على المخالف والذي يقول فيه شيخ الإسلام: (إنه لا يقول هذا الكلام إلا جاهل) ثم يترك الخليلي رد شيخ الإسلام على ذلك القول الخطأ، ثم ينسبه لشيخ الإسلام والحنابلة، ثم يبدأ الرد عليه ويناقشه كأنه قول شيخ الإسلام.
إن هذا الأسلوب ـ أي أسلوب المغالطة ونسبة الأقوال إلى غير قائلها- منهج متبع عند أهل الأهواء.
وقد سبق في القسم الأول في إنكار الخليلي (رؤية المؤمنين ربهم في الجنة) أَنْ عَمِلَ مثل هذا التلبيس، وقد كشفت تلك المغالطة للقارئ، ومنها نقله عن شيخ الإسلام من الفتاوى المجلد السادس (جزئية) وتركه ما قبلها وما بعدها كما في (ص 53) من الجزء الأول المخصص للرد عليه في إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة. ثم هو هنا يتبع ذلك الأسلوب؛ فقد نقل مقطعاً من الفتاوى (12/83-85) في كتابه هذا من (ص 127-128) حيث قال: (وقال ابن تيمية: « لما تكلموا، أي: الحنابلة في حروف المعجم صاروا بين قولين: طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت: الحروف حرفان هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا: هذا مخالفة للحس والعقل؛ فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف...») ثم استمر شيخ الإسلام في نقل هذه الأقوال وفي آخر (صفحة 84) قال: ((وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له أن سريّاً السقطي قال: لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أُومر.(1/227)
فقال أحمد: هذا كفر. وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله: كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله: لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس.
وبقول أحمد لأحمد بن الحسن الترمذي: ألست مخلوقاً؟ قال: بلى.
قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً؟ قال بلى قال: فكلامك منك وهو مخلوق) إلى نهاية السطر الثاني من أول (صفحة 85) من الفتاوى المجلد (12).
هذا الذي نقله الخليلي في كتابه من (ص 127- 128) نهاية سطر (15).
ثم قال بعده مباشرة: (وفي هذه الروايات من التناقض ما ليس بعده ـ وإن ادعى ابن تيمية عدم تناقضها -فانظر إليها أخي القارئ الكريم بعين الاستقلال الفكري...) إلخ.
والجواب: إن الخليلي لم يكمل النص عن شيخ الإسلام ابن تيمية كعادته في التدليس وكان الواجب عليه أن ينقل رد شيخ الإسلام على هذه الأقوال؛ لأن عبارة شيخ الإسلام في عدم التناقض منصبّة على جواب الإمام أحمد، لا على الأقوال التي نقلها شيخ الإسلام عن ابن حامد، والقاضي، ونص أنهما من أتباع ابن كلاب، فإنه نقدها ورد على أصحابها. وذلك بعد المقطع الذي اقتصر عليه الخليلي لغرض المغالطة والتلبيس، فقد بدأ شيخ الإسلام من السطر الثالث من (ص 85) فقال: (قلت: الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضاً وليس في كلامه تناقض، وهو أنكره على من قال: إن الله خلق الحروف فإن من قال إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله: إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وإن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد أيضاً على أن كلام الآدميين مخلوق ولم يجعل شيئاً منه غير مخلوق وكل هذا صحيح، والسّري رحمه الله إنما ذكر ذلك عن بكر بن خنيس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهد على ذلك بما بلغهما (أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت: لا أسجد حتى أومر).(1/228)
قال: وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط ليست هي مضطجعة كالباء والتاء فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر.
وأحمد أنكر قول القائل: إن الله خلق الحروف، وروي عنه أنه قال: من قال إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي؛ لأنه سلك طريقاً إلى البدعة، ومن قال إن ذلك مخلوق فقد قال إن القرآن مخلوق.
وأحمد قد صرّح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته.(1/229)
قال وصرح أحمد وغيره من السلف، أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف أن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم أن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال، وأن الله قامت به حروف معينة، أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل يتكلّم إذا شاء مع قولهم إن كلام الله غير مخلوق، وإنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنّف أبو بكر الخلال في «كتاب السنة» وغيره، وما صنّفه أصحابه وأصحاب أصحابه كابنيه صالح وعبدالله وحنبل وأبي داود السجستاني صاحب «السنن» والأثرم والمروذي وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري صاحب «الصحيح»، وعثمان بن سعيد الدارمي وإبراهيم الحربي وعبدالوهاب الوراق) وهكذا استمر في ذكر أسماء علماء السنة وذكر مؤلفاتهم إلى أن قال: (وبسط هذا له موضع آخر، وقد ذكرنا في «المسائل الطبرستانية» و «الكيلانية»(1)، بسط مذاهب الناس وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل).
__________
(1) الكيلانية في هذا المجلد (12/323- 502) وهي جواب على سؤال عن كلام الناس وغيرهم وأنه لا فرق بينه وبين كلام الله... إلخ وقد بسط الكلام على ذلك من جميع جوانبه بالرد على المخطئين وبيان الصواب في ذلك.(1/230)
قال: (والمقصود هنا أن كثيراً من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظّمهم ويقول إنه متبع لهم، مع إنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية، وذلك لجهله بعلمهم بل بما جاء به الرسول من الحق، الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرّع كل قوم عليه فروعاً فاسدة يلتزمونها ثم ضرب الأمثلة لذلك)(1).
ولهذا نقول للخليلي: فأين التضارب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أو التناقض الذي تدعيه ظلماً وجوراً؟.
ولو كنت منصفاً لنقلت هذا النص الذي نقلته ليطّلع عليه القارئ ويحكم على دعوى التضارب، لأن ابن تيمية بعد أن انتهى من المقطع الذي اقتصرت عليه من كلامه آخر السطر الثاني من أول (ص 85)، قال بعده في السطر الثالث: قلت، ثم كتب هذا النص الذي يدفع التضارب أو التناقض، فهو نقل تلك النصوص ثم ردّ عليها وبين أن القاضي وغيره من أتباع ابن كلاب تأولوا كلام الإمام أحمد على أنه أراد بقوله: (إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء وإن الله يتكلم بمشيئته) على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع، لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته.
فهو يرد على هؤلاء، ويوضّح معنى كلام الإمام أحمد المتفق مع كلام أئمة السلف، وأنه كلام لا تضارب فيه، فتعكس الأمر وتضلل القراء بما تدعيه تضارباً ظناً منك بأن كلامك لن يهيئ الله له من يكشفه ويبين زيفه للآخرين.
__________
(1) الفتاوى 12/83-85 .(1/231)
ونقول للقارئ الكريم -الباحث عن الحق-: إنه قد اتضح لك تلك المغالطة والدعوى الزائفة على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن هذا الأسلوب الذي اتبعه الخليلي هو أسلوب متبع عند أهل البدع، فإنهم لا يتورعون عن ظلم الآخرين والافتراء عليهم، ما دام ذلك العمل يؤيد ما يذهبون إليه، وهذا العمل مخالف لما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، فالله أمر بالعدل ونهى عن الظلم، وبين ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فالله يقول: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} [ النساء 112] وأي إثم أعظم من أن تنسب إلى شخص قولاً لم يقله.
ثم يواصل الخليلي في دعواه التناقض عند شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في (ص 129) من كتابه -المقطع الأخير-: (وإن أردت المزيد من تناقضهم فاسمع إلى ما يقوله ابن تيمية أيضاً) ثم نقل عنه ما يأتي قال: (أما القول بأن المداد المكتوب قديم فما علمنا قائلاً معروفاً قال به، وما رأينا ذلك في كتاب أحد من المصنفين لا من أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد، بل رأينا في كتب طائفة من المصنفين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنكار القول بأن المداد قديم، وتكذيب من نقل ذلك، وفي كلام بعضهم ما يدل على أن المداد في المصحف حرفاً قديماً ليس هو المداد؛ ثم منهم من يقول هو ظاهر فيه ليس بحال...).(1/232)
ثم استمر في نقل هذه النصوص من (ص 179) من الفتاوى المجلد (12) وهي أقوال يحكم عليها ابن تيمية بالفساد والبطلان، ثم نختم هذا المقطع بقول شيخ الإسلام: «ولا ريب أن من قال: إن أصوات العباد قديمة فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله، كما أن من قال: إن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله» فأنت ترى أن شيخ الإسلام ينقل هذه الأقوال ويرد على أصحابها، ولكن بماذا يعقب الخليلي على شيخ الإسلام؟ إنه يعقب على هذه النصوص التي صدرها بقوله: (وإن أردت المزيد من تناقضهم فاسمع إلى ما يقوله ابن تيمية).
فيقول في (ص 130) -المقطع الأخير- تعقيباً على ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: ((انظروا إلى هذا التضارب في الأقوال والتحزب في الآراء من غير دليل يستند إليه، إلا بتبرير ما يتصوره كل من هؤلاء القائلين أنه الحق، وإلا فما هي الحجة على ذلك من برهان العقل أو صحيح النقل؟)(1/233)
وأقول: إن أصحاب الأقوال المتضاربة الذين يرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية هم أهل البدع في كلام الله، وقد بدأ هذا الرد من (ص 162 ج 12) بالرد على الجهمية والمعتزلة والأشعرية، وذلك على سؤال وُجِّه إليه وهو ما يسمى (بالمسألة المصرية في القرآن) فرد على ما تضمنه السؤال، بل وصحح السؤال لصاحبه، لأنه سأل عن أشياء ونسب إلى طوائف ما لم تقل بل تعتقد خلافه، على سبيل المثال: جاء في السؤال ذكر (الحشوية) فقال في (ص 176): «وأما قول القائل (حشوية) فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف العام؛ ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد وقال: كان عبدالله بن عمر حشوياً، وأصل ذلك: أن كل طائفة قالت قولاً تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول الحشوية، أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم، فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشوياً، والجهمية يسمون مثبته الصفات حشوية. والقرامطة ـ كأتباع الحاكم ـ يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشوياً.
قال: وهذا كما أن الرافضة يسمون قول أهل السنة والجماعة قول الجمهور، وكذلك الفلاسفة تسمي ذلك قول الجمهور، فقول الجمهور وقول العامة من جنس واحد».
المثال الثاني: جاء في السؤال: إن قوماً يقولون أن القرآن حادث بالصوت والحرف وهم الجهمية.
فقال (ص177): «وأما قوله: وقوم ذهبوا إلى أنه حادث بالصوت والحرف ـ وهم الجهمية ـ فهو كلام من لا يعرف مقالات الناس فإن الجهمية يقولون: إن الله لا يتكلم وليس له كلام، وإنما خلق شيئاً فعبر عنه، ومنهم من قال: إنه يتكلم بكلام يخلقه في غيره وهو قول المعتزلة).(1/234)
قلت: وهو قول المؤلف الخليلي، وهذا يبين للقارئ المنصف أن ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ليس عنده تضارب، وإنما يرد على أهل البدع في كلام الله القدامى وورثتهم -ومن الورثة الخليلي- وهكذا استمر في الجواب على ذاك السؤال الموجه إليه، ذاكراً أقوال الطوائف المنحرفة عن منهج السلف في هذا الباب وذلك من (ص 162- 235) وقد عاد الخليلي وقرر أن ابن تيمية لم يقل بقدم المداد كما في كتابه هذا (ص 134) المقطع الأخير منها.
وحيث إن الخليلي ـ هداه الله ـ لا يبالي بالمغالطة: فإني أستسمح القارئ في نقل ما يتعلق بهذه المغالطات، من كلام شيخ الإسلام الذي اقتطع الخليلي منه فقرات، هي ردود على المخالفين، ولم يستطع الخليلي التصريح بأسماء المخالفين لمنهج السلف، الذين يرد عليهم ابن تيمية لأنه رد عليه فهو وارثهم، فعمم الكلام مدعياً أن هذا الاضطراب -أو التدافع كما يسميه- هو من قول ابن تيمية والحنابلة وابن القيم -وحسب تعبيره: تلميذ ابن تيمية- وقد نقل الخليلي مقاطع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية على غير ترتيب، وإنما للتشويش فقد نقل من: (12/ 83، 85، 179، 169، 135، 54، 55، 88، 207، 208، 209، 359، 363، 442، 443، 427، 96، 91، 93، 571، 572، 574، 336، 85، 87، 86، 54، 301، 567).
وهذه النصوص من هذه الصفحات، وقد كرر بعضها بدأها من كتابه (ص 128 – 152) وحيث إنه ليس بإمكان كل قارئ الحصول على الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، التي ينقل الخليلي مقتطفات منها مبتورة مدعياً التضارب فيها... إلخ.(1/235)
فأقول: جاء في هذه الصفحات التي ذكرها الخليلي من الفتاوى المجلد الثاني عشر رد ابن تيمية على الطوائف المنحرفة عن منهج السلف في كلام الله، مبيّناً أخطاءهم كالجهمية والمعتزلة والكرامية والأشعرية، أو الذين لم يفهموا ما قصده الإمام أحمد من قوله: «من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع»، وقد قال الخليلي: أن هذا القول الذي حكاه ابن تيمة عن الإمام أحمد وكذلك تلميذه ابن القيم متضارب، فإليك قول شيخ الإسلام ابن تيمية لترى هل هو متضارب، أو أن الخليلي مغالط يسلك التمويه على القراء بتقطيع الكلام أوصالاً يفصل بعضه عن بعض، وقد قال شيخ الإسلام في معرض الرد الذي بدأه في (ص 167ـ 179): (... ومنهم من يقول بحلول القديم في المحدث، وليس هذا القول ولا الأقوال قبله قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولم يقل ذلك لا الإمام أحمد ولا أئمة أصحابه ولا غيره من الأئمة؛ بل كلهم متفقون على الإنكار على من قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، فكيف من قال صوتي غير مخلوق؟ فكيف بمن قال: صوتي قديم؟)
ثم قال: (وأما القول بأن المداد الذي في المصحف قديم: فهذا ما رأيناه في كتاب أحد من طوائف الإسلام، ولا نقله أحد عن رجل معروف من العلماء) وهكذا، إلى أول (ص 168) قال: (ورأينا طوائف يكذبون هؤلاء في النقل، قال: وكأن حقيقة الأمر أن أولئك يقولون قول غيرهم بمجرد ما بلغهم من إطلاق قولهم، أو لِمَا ظنوه لازماً لهم، أو لِمَا سمعوه ممن يجازف في النقل ولا يحرره، وربما سمعوه من بعض عوامهم إن كان ذلك قد وقع.(1/236)
قال: وهذا الباب وقع فيه غلط بهذا السبب حتى غلط الناس على من يعظّمونه، وبهذا السبب غلّط أبا طالب الإمامُ أحمدُ فيما نقله عنه فإنه قرأ عليه: {قل هو الله أحد} وسأله هذا مخلوق؟ فقال له أحمد هذا ليس بمخلوق. فبلغه أن أبا طالب حكى عنه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فغضب عليه أحمد وقال: أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال لا ولكن قرأت عليك: {قل هو الله أحد} فقلت لك: هذا غير مخلوق فقلت: نعم. فقال: فلم حكيت عني أني قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لم أحكه عنك وإنما حكيته عن نفسي، قال: فلا تقل هذا فإني لم أسمع عالماً يقول هذا، ولكن قل: القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق.
قال: ولهذا قال البخاري في كتاب «خلق الأفعال»: إن (اللفظية) هؤلاء يذكرون قولهم عن أحمد وهم لا يفهمون دقة قوله، وموضع الشبهة أنه إذا قال هذا فالإشارة تكون إلى الكلام من حيث هو كلام، مع قطع النظر عما بلغ به من حركات العبد وصوته، كما أن الرجل إذا كتب اسم الله ـ تبارك وتعالىـ وسمع قائلاً يذكر الله فقال: هذا ربي، كان صادقاً، ولو قيل له: أتعبد هذا؟ لقال: نعم؛ لأن المشار إليه هو المسمى بذلك، والاسم يراد به من الكلام المؤلف المسمى فإذا قال: {محمد رسول الله والذين معه} فالمراد أن المسمى الذي اسمه محمد هو رسول الله؛ ليس المراد أن نفس اللفظ والخط هو رسول الله.(1/237)
قال: ومن هنا تنازع الناس في (الاسم) هل هو المسمى أو غيره؟ وكان الصواب أن يمنع من كلا الإطلاقين، ويقال كما قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة». والذين أطلقوا أنه المسمى كان أصل مقصودهم أن المراد به هو المسمى، وأنه إذا ذكر الاسم فالإشارة به إلى مسماه، وإذا قال العبد: حمدت الله ودعوت الله وعبدت الله لا يريد إلا أنه عبد المسمى بهذا الاسم. والذين نفوا ذلك رأوا أن نفس اللفظ أو الخط ليس هو الأعيان المسماة بذلك...)إلخ (ص 179).
وفي (ص 170) قال: (وأصل مقصود الطوائف كلها صحيح إلا من توسّل بقوله إلى قول باطل، مثل قول الجهمية إن الاسم غير المسمى، فإنهم توسلوا بذلك إلى أن يقولوا أسماء الله غيره، ثم قالوا: وما كان غير الله فهو مخلوق بائن عنه فلا يكون الله تعالى سمى نفسه باسم ولا تكلّم باسم من أسمائه، ولا يكون له كلام تكلم به بل لا يكون كلامه إلا ما كان مخلوقاً بائناً عنه.
قال: فهؤلاء لما علم السلف أن مقصودهم باطل أنكروا إطلاقهم القول: بأن كلام الله غير الله، وإن علم الله غير الله، وأمثال ذلك؛ لأن لفظ الغير مجمل يحتمل الشيء البائن عن غيره، ويحتمل الشيء الذي ليس هو إياه ولا بائن عنه...) قال: وهكذا أنكر الأئمة قول من قال: ((لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق». وقالوا: من قال هو مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع).(1/238)
أقول: إن الخليلي نقل هذا التعبير الذي بين القوسين ( من قال: لفظي بالقرآن مخلوق..) عن الصواعق ـ لابن القيم ـ كما في (ص 127) من كتابه، كما كرره في أماكن أخرى عن ابن تيمية، ثم قال: (وحكوا عن أحمد قوله: ((من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع)) ثم قال: وفي هذا النص الذي رووه من التناقض ما لا يخفى على عاقل، فإنه لا توسط بين الخلق وعدمه، فالشيء إما أن يكون مخلوقاً أو غير مخلوق، فإن كان مخلوقاً فلماذا يضلل من قال بخلقه؟ وإن كان غير مخلوق فلماذا يبدّع من قال بعدم خلقه؟ )
هكذا يقول في اعتراضه على هذا التعبير الوارد عن الإمام أحمد.
وإليك جواب ابن تيمية على ما يدعيه الخليلي تناقضاً، لتعرف تعبير السلف عن كل شبهة يتعلق بها المبتدعة للوصول إلى أقوالهم الباطلة، يقول شيخ الإسلام في (ص 170 ج12) من الفتاوى، قال: (وهكذا أنكر الأئمة قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا: من قال هو مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع، قال: وكذلك قالوا في (التلاوة والقراءة) ثم بين سبب ذلك، فقال: لأن اللفظ والتلاوة والقراءة يراد بها المصدر الذي هو فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة (1) فمن جعل شيئاً من أفعالهم وأصواتهم وغير ذلك من صفاتهم غير مخلوق فهو مبتدع.
ويراد باللفظ نفس الملفوظ كما يراد بالتلاوة والقراءة نفس الكلام وهو القرآن نفسه.
ومن قال كلام الله الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقرأه المسلمون مخلوق فهو جهمي).
__________
(1) أفعال العباد مخلوقة كما قال الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} فالله خالقهم وخالق أفعالهم، وعند المعتزلة: إن العبد يخلق أفعاله. والخليلي يقول بقول المعتزلة.(1/239)
هكذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في توضيح ما قاله الإمام أحمد، وهو بحمد الله واضح لمن يريد الحق، ولا تناقض فيه بوجه من الوجوه، ثم يزيد ذلك توضيحاً فيقول : (ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلام مُحَدِّثٍ يُحَدِّثُ بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) قالوا: هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو هذا كلامه بعينه، لأنهم قد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه، وتكلم بصوته ثم المبلّغ له عنه بلّغه بصوت نفسه، فالكلام كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تكلم بمعانيه وألّف حروفه بصوته، والمبلّغ له بلّغه بفعل نفسه وصوت نفسه.
فإذا قالوا: هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -،كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته؛ بل يضيفون الصوت إلى المبلّغ فيقولون: صوت حسن وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلّغ له، ولكن يضاف إلى المبلّغ حسن الأداء كتجويد الحروف وتحسين الصوت ولهذا قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6 ].
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي ح (1).(1/240)
قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي» (1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «زينوا القرآن بأصواتكم» (2). وقال: «لله أشد أذناً إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته»(3).
قال: فبين الله ورسوله أن القرآن المسموع كلام الله لا كلام أحد من المخلوقين، والناس يقرؤونه بأصواتهم، فمن قال: إن هذا القرآن المسموع ليس هو كلام الله، أو هو كلام القارئين كان فساد قوله معلوماً بالضرورة شرعاً وعقلاً، كما أن من قال: إن هذا الصوت المسموع ليس هو صوت العبد أو هو صوت الله، كان فساد قوله معلوماً بالضرورة شرعاً وعقلاً، بل هذا هو كلام الله لا كلام غيره سمعه جبريل من الله، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل، وسمعه المسلمون من نبيهم، ثم بلّغه بعضهم إلى بعض وليس لأحد من الوسائط فيه إلا التبليغ بأفعاله وصوته، لم يحدث منهم أحد شيئاً من حروفه ولا نظمه ولا معانيه، بل جميع ذلك كلام الله تعالى)(4).
__________
(1) التوحيد لابن مندة (ح 617) الدارمي/ فضائل القرآن، باب القرآن كلام الله (2/317) (ح 3357).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم» ح(527).
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن.
وأحمد في المسند (1/425) رقم (1340) ورقم (2399).
وابن حبان في صحيحه (1/131) رقم (754).
بلفظ: « لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته».
(4) الفتاوى (12/172).(1/241)
وفي (ص 136): نقل الخليلي كلاماً عن شيخ الإسلام من الفتاوى (12/571) يقول فيه: (إن ابن تيمية بعد أن ذكر أن أحمد وأكثر أصحابه اشتد إنكارهم على الذين قالوا: بأن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة وحكموا عليهم بالبدعة وأمروا بهجرهم، نجد ما يخالف ذلك في كلامه بنفسه حيث يقول: «وأما الحروف هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فالخلاف في ذلك بين الخلف مشهور، فأما السلف فلم ينقل عن أحد منهم أن حروف القرآن وألفاظه وتلاوته مخلوقة ولا ما يدل على ذلك...» إلخ.
ثم قال: ولا داعي إلى التعليق على هذا الكلام، فإذا كانت تلاوة التالي للقرآن غير مخلوقة، مع أنها فعل من أفعاله والتالي نفسه مخلوق، وكل أفعاله كائنة منه بعد أن لم تكن، فحسبي الله آمنت به سبحانه رباً لا شريك له...) إلخ.
والجواب: أقول سبق توضيح هذا من كلام شيخ الإسلام توضيحاً بيناً لم يستطع الخليلي أن يناقشه مطلقاً، وأعيده هنا مرة أخرى ليعرف القارئ أن تحسّر الخليلي سببه عجزه عن الجواب لا تعجباً من الكلام.
فقد جاء في (ص 170- 171) من الفتاوى المجلد (12) الذي ينقل منه هذه المقاطع ما يأتي: (وهكذا أنكر الأئمة قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق. وقالوا: من قال هو مخلوق فهو جهمي- قلت: وهو قول الخليلي- ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قال: وكذا قالوا في التلاوة والقراءة) ثم وضح ذلك فقال: (لأن اللفظ والتلاوة والقراءة يراد بهما المصدر الذي هو فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة، فمن جعل شيئاً من أفعالهم وأصواتهم وغير ذلك من صفاتهم غير مخلوق فهو مبتدع).
فشيخ الإسلام يصرّح بأن فعل العبد الذي هو صوته وحركاته مخلوقة. ولكنه ينفي الجانب الآخر فيقول: (ويراد باللفظ نفس الملفوظ كما يراد بالتلاوة والقراءة نفس الكلام وهو القرآن نفسه.
ومن قال كلام الله الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقرأه المسلمون مخلوق فهو جهمي) اهـ.(1/242)
وقد نقل الخليلي هذا النص ولم يستطع الرد عليه. فأين التضارب وأين الذي يخالف به ابن تيمة كلامه السابق؟ -كما يدعي-.
وقوله: (ومنهم من كفّره).
فإليك نص كلام ابن تيمية في مسألة التكفير لتعرف أن (الخليلي) يَرمي الكلام على عواهنه.
يقول ابن تيمية (ص 180): (وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقصد الحق فأخطأ، لم يكفر؛ بل يُغفر له خطأه، ومَنْ تَبيّن له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين؛ فهو كافر. ومن اتبع هواه وقصّر في طلب الحق وتكلم بلا علم، فهو عاص مذنب. ثم قد يكون فاسقاً وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته.
فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص، فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً...) إلخ.
فأين التكفير المطلق لمن أخطأ في القول في القرآن؟ وأيُّ قول أعدل من هذا الحكم المفصل في المخطئين؟.
ولكن الهوى هو الذي يدفع صاحبه إلى أن يقول عن الآخرين قولاً هم برءاء منه.
ثم إن الخليلي نقل نصاً مطولاً من الفتاوى (12/572- 574) في كتابه هذا آخر (ص 136 – 138) ابتدأه بقوله: (وقال ابن تيمية أيضاً:
((... وهناك ثلاثة أشياء:
أحدها: حروف القرآن التي هي لفظه قبل أن ينزل بها جبريل وبعد ما نزل بها، فمن قال إن هذه مخلوقة فقد خالف إجماع السلف، فإنه لم يكن في زمانهم من يقول هذا... إلخ.
الثاني: أفعال العباد وهي حركاتهم التي تظهر عليها التلاوة، فلا خلاف بين السلف أن أفعال العباد مخلوقة...إلخ.(1/243)
الثالث: التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية، فهذه منهم من يصفها بالخلق،- وأول من قال ذلك فيما بلغنا حسين الكرابيسي وتلميذه أبو داود الأصبهاني وطائفة- فأنكر عليهم ذلك علماء السنة في ذلك الوقت وجمهورهم، وهم اللفظية عند السلف الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة أو القرآن بألفاظنا مخلوق ونحو ذلك، وعارضهم طائفة من أهل الحديث والسنة كثيرون فقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، والذي استقرت عليه نصوص الإمام أحمد وطبقته من أهل العلم أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع، هذا هو الصواب عند جماهير أهل السنة، أن لا يطلق واحد منهما كما عليه الإمام أحمد وجمهور السلف؛ لأن كل واحد من الاطلاقين يقتضي إيهاماً لخطأ.
فإن أصوات العباد محدثة بلا شك، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد، وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ.
فإن جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه، جرياً على منهاج أحمد وغيره من أئمة الهدى وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «زينوا القرآن بأصواتكم» ...) إلخ ما نقله الخليلي وهو كلام واضح لمن أراد الحق الذي تدل عليه الأدلة النقلية والعقلية.
فابن تيمية كما ترى يذكر الشُّبهَة عند صاحبها ثم يرد عليها.
ولكن بماذا يعقب الخليلي على هذا؟. نجده يقول في آخر (ص 138) من كتابه هذا :(وكلامه هذا لا يختلف عن سائر ما سبق نقله عنه، مما يدل على تضارب أقوالهم، ونقض حججهم فهو لا يحتاج إلى تعليق من هذه الحيثية ثم ذكر نقاطاً كلها من جنس ما سبق).
وفي أول (ص 140) قال: (وستوافيك إن شاء الله هذه الحجج في الفصل الأخير المعقود لذلك من هذا المبحث) قال ذلك عقب بيت مشهور أورده عند عجزه عن رد ما سبق من كلام ابن تيمية الواضح حيث قال في آخر (ص 139):
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل(1/244)
تعقيبي على كلام الخليلي، هو بمثل تعقيبه على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال: (وكلامه هذا لا يختلف عما سبق نقله عنه فلا يحتاج إلى تعليق).
وأقول: إن تعقيبه على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هو تكرار لقوله السابق المتكرر وقد عقبت عليه سابقاً فلا يحتاج إلى إعادة والله أعلم.
والخليلي -هداه الله إلى الحق- رجل بارع في المغالطة والمخادعة؛ فإنه بعد أن انتهى من النقل من (ص 572- 574) من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية كر راجعاً إلى (ص 207 – 208) فنقل نصاً طويلاً وفي ثنايا النص مقاطع فيها الإجابة الواضحة على مغالطاته، ولكنه حتى يكثر على القارئ ويشوش عليه حتى يظن الباطل حقاً يصنع هذا الصنيع، وإلا فإن الكلام الذي يعيده لا يتجاوز ما سبق إذ كل الموضوع يدور على (اللفظية) أي القائلين: (لفظي بالقرآن مخلوق) ولهذا قال في أول (ص 140): (وهاك نصاً آخر عن ابن تيمية في تنازعهم في هذه المسألة قال: «القول بأن اللفظ غير مخلوق نسب إلى محمد ابن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي، بل وبعض الناس ينسبه إلى أبي زرعة أيضاً ويقول: إنه هو وأبو حاتم هجرا البخاري لمّا هجره محمد بن يحيى الذهلي والقصة في ذلك مشهورة) ثم واصل في نقل ما أورده شيخ الإسلام من خلاف وقع بين بعض أصحاب أحمد بعد موته وبين طوائف من غيرهم بهذا السبب.
وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية الخلاف الذي وقع في هذه المسالة إلى أن قال في (ص 208): ((وأعظم ما وقعت فتنة (اللفظ) بخراسان وتعصب فيها على البخاري ـ مع جلالته وإمامته ـ وإن كان الذين قاموا عليه أيضاً أئمة أجلاء)).(1/245)
وهنا توقف الخليلي وعلق بسطرين ثم واصل الكلام بعد إسقاط الأسطر التالية بعد قوله... أجلاء قال: (فالبخاري ـ رضي الله عنه ـ من أجل الناس، وإذا حسن قصدهم واجتهد هو وهم أثابه الله وإياهم على حسن القصد والاجتهاد، وإن كان قد وقع منه أو منهم بعض الغلط والخطأ فالله يغفر لهم كلهم، لكن من الجهال من لا يدري كيف وقعت الأمور) إلى هنا. ثم استأنف الخليلي النقل فقال: (وذكر ابن تيمية عقب هذا النص أنه وجد بخط بعض الشيوخ الذين لهم علم ودين يقول: مات البخاري بقرية خرتنك فأرسل أحمد إلى أهل القرية يأمرهم الا يصلوا عليه لأجل قوله في مسألة اللفظ).
قال الخليلي: (وتعقبه ابن تيمية بأن هذا من أبين الكذب على أحمد والبخاري، وكاتبه جاهل بحالهما؛ فإن البخاري ـ رضي الله عنه ـ توفي سنة ست وخمسين، أي ومائتين ـ بعد موت أحمد بخمسة عشر سنة فإن أحمد توفي سنة إحدى وأربعين).
وقد ترك الخليلي النص التالي وهو قوله: (... وكان أحمد مكرماً للبخاري معظماً، وأما تعظيم البخاري وأمثاله لأحمد فهذا أظهر من أن يذكر. والبخاري ذكر في كتابه في «خلق أفعال العباد» إن كلتا الطائفتين لا تفهم كلام أحمد).
ولكن لماذا يعيد الخليلي هذا الكلام هنا وقد كرره قبل ذلك مرات بنقله عن ابن تيمية من هذا المجلد من الفتاوى مرة من أوله، ومرة من وسطه، وأخرى من آخره، ثم يعود مرة أخرى لهذا النص، ولكن نقرأ تعقيبه على ذلك لنفهم الشيء الجديد هنا.
يقول في (ص 141) بعد قوله: (ووفاة البخاري كانت سنة ست وخمسين) قال: (وهذه صورة واضحة من صور التعصب المقيت الذي كان بينهم في هذه المسألة، وناهيك أن ابن تيمية ينسب هذا الكذب إلى من له علم ودين منهم، فكيف بمن خلا منهما أو من أحدهما، وأي دين يبقى لمن يسوغ لنفسه أن يكذب في أمور الدين، ولست أرى هذه الاستساغة للكذب إلا أثراً من آثار اعتقاد العفو عن أهل الكبائر، أو أنهم يعذبون بمقدار ثم يخرجون من النار) اهـ.(1/246)
وأقول: إن الجديد في هذا النص هو القول: بأن مرتكب الكبيرة مخلّد في النار، فهذه عقيدة الخوارج، والمؤلف الخليلي له في كتابه هذا المبحث الثالث (ص 183) وعنوانه ((خلود أهل الكبائر في النار)) ولكنه أراد أن يعجّل للقارئ هذا الحكم على من قال عنه شيخ الإسلام: (وجدت بخط بعض الشيوخ الذين لهم علم ودين يقول: (مات البخاري... إلخ ثم قال ابن تيمية بأن هذا من أبين الكذب على أحمد والبخاري، وكاتبه جاهل بحالهما...) إلخ النص الذي ذكره.
فإذا كان هذا الشيخ الذي لم يسمه شيخ الإسلام ثبت عنه أن ذلك الكلام كتبه بخطه وأخطأ فيه، وبين شيخ الإسلام ابن تيمية خطأه ولم يقرّه عليه، فمن أين لنا دليل أن ذلك الرجل أولاً يسوغ لنفسه الكذب؟.
وإذا فرضنا أنه عمل ذلك، فما ذنب ابن تيمية وقد رد عليه؟.
وأخيراً ما دليل الخليلي على أن أهل الكبائر يخلدون في النار؟ والله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [ النساء 48] وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر: «من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، كررها ثلاثاً»(1).
وفي صحيح أبي داود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»(2). وسيأتي بحث هذا الموضوع عند مناقشته في دعواه (خلود أهل الكبائر في النار) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
في (ص 142- 144) نقل الخليلي عن شيخ الإسلام ابن تيمية من
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز ح(123).
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/625) رقم (2435)، (4/236) رقم (4739) كتاب السنة باب في الشفاعة.(1/247)
(86 ـ 91، 93) المجلد الثاني عشر من الفتاوى مقتطفات من هذه الصفحات. فنقل من (ص 88- 89) عن شيخ الإسلام كلاماً يتعلق بالحروف، وعن ابن عقيل وعن القاضي يعقوب البرزيني، وفي (ص 144) نقل مقطعاً من (ص 86) ثم أتبعه في الصفحة نفسها بمقطع من (ص 91) ثم قال: (وبعد ما نقل ابن تيمية كلامه أردفه بقوله: ((هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله، مع أنه أجل من تكلم في هذه المسألة، ولما كان جوابه مشتملاً على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به).
قال الخليلي: (وبعد أن حكى ابن تيمية رَدّ ابن عقيل عليه أتبعه بقوله:
((فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأ مما قاله البرزيني، فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة).
ثم عقب عليه بقوله: (فانظر كيف يسجل ابن تيمية على أحد كبار أئمتهم ـ يعدّه أجل من تكلم في هذا المسألة ـ مخالفة النص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة، ولم يبرئ ابن عقيل ـ الذي يعتبره أعلم منه بالمذهب ـ من الخطأ وإن عدّ خطأه أقل من خطأ البرزيني، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نجده ينقل عن أئمتهم تكفير من قال قول البرزيني، فقد نقل عن حماد بن زيد أنه سئل عمن قال كلام الناس ليس بمخلوق، فقال: هذا كلام أهل الكفر. كما نقل عن المعتمر بن سليمان أنه قال: هذا كفر ولم يعلق عليهما ابن تيمية إلا بما يقتضي تأييدهما).
ثم قال: (وبما تجده من خلاف حاد بينهم في هذه المسألة بحيث يتعذر الجمع بين أقوالهم، تدرك أنهم لم يتقيدوا فيها بضوابط، ولذلك أرسل بعضهم فيها عنان القول، حتى زعم إن جلد المصحف والوتد الذي يعلق به وما حول الوتد من الحائط كل ذلك من كلام الله، فهو غير مخلوق في زعمهم).
ثم استدرك فقال: (وهو وإن عزاه ابن تيمية إلى جهلتهم فما أدراك لعل أولئك يعدون معارضيهم هم الجهلة، ويزعمون أيضاً مثلهم أنهم أسعد بمذهب الإمام أحمد).(1/248)
ثم قال: (وبهذا أخي القارئ تدرك خطورة هذه العقيدة، وما جرته على الإسلام من بلاء، فإن إضفاء صفة القدم على ما لا يماري عاقل ولا يكابر حس في حدوثه، كالجلود والأوتاد والحوائط أمر لا يبقى بعده إلا إثبات قدم العالم بأسره وإنكار الألوهية رأساً)، ثم استمر في ذكر هذه العبارات الساقطة التي لا يستسيغ قبولها عاقل، إلى أن قال: (وفي هذا ما يكشف لكل ذي عينين أن إثارة بحث هذه القضية في الوسط الإسلامي لم يكن إلا مؤامرة دبرها أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن عقيدة التوحيد الخالصة، وتمزيق شملهم بهذه الأقوال المتباينة والمذاهب المتعارضة) (ص 145) من كتابه هذا.
وأقول: من الذي يثير بحث هذه القضية في الوسط الإسلامي؟ إن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله الذين تركز الرد عليهما قد ماتا في القرن السابع، وبهذا يظهر لكل ذي عينين -كما تقول ـ أن الذي يثير بحث هذه القضية هو أنت بكتابك هذا الذي تنشره، فلماذا ترمي الأبرياء بدائك؟
ولي على هذا التعقيب الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: قوله: إن ابن تيمية يسجل على أحد كبار أئمتهم مخالفة النص والإجماع والعقل ويقصد به ـ البرزيني، ثم يقول: ولم يبرئ ابن عقيل الذي يعتبره أعلم منه بالمذهب.
فالجواب على هذا من وجهين:
الأول: أن هذا يدل على عدم التعصب للأقوال المخالفة للنصوص ولو كان القائل بهذا من علماء المذهب في الفروع، فهذا الموقف يحمد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو دليل قاطع أنه لا يجامل أحداً في الحق.
ثم هو في الوقت نفسه لا يغمط الآخرين حقهم، بل يثني على العالم بما يستحقه ويوضح أن خطأه في مسألة وقع فيها النزاع والاشتباه على العلماء الإجلاء المعروفين بعلمهم إذا أخطؤوا عن اجتهاد وهم من أهل الاجتهاد فخطؤهم معفو عنه عند الله عز وجل للنصوص الواردة في ذلك.(1/249)
ولكن هذا لا يعفي العالم من أن يبين ذاك الخطأ حتى لا يقع فيه الآخرون، وهذا ما صنعه ابن تيمية في حق هؤلاء العلماء.
الوجه الثاني: إن شيخ الإسلام ابن تيمية بين سبب انتقاده لهؤلاء، كما في (ص 94) التي قصر عنها قلم الخليلي حيث وقف على (ص 93) ولذلك فإني أنقل لك أيها القارئ الكريم ما تركه الخليلي عامداً لا ناسياً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (ص 94) من أول السطر الثالث:
«وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كلاب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما، وهو الأصل الذي وافقوا فيه ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري وغيره، وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته؛ لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم لأنها حادثة والله لا يقوم به حادث عندهم، ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل كقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [ التوبة:105] فإن هذا يقتضي أنه سيرى الأعمال في المستقبل. وكذلك قوله: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس:14]وكذلك قوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}[آل عمران:31] فإن هذا يقتضي أنه يحبهم بعد اتباع الرسول. وكذلك قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف:11] فإن هذا يقتضي أنه قال لهم بعد خلق آدم. وكذلك قوله تعالى: {فلما أتاها نودي}[طه:11] يقتضي أنه نودي لما أتاها، لم يناد قبل ذلك. وكذلك قوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}[ يس:82 ] ومثل هذا في القرآن كثير، ثم قال: وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر بهجره وهجر الكلابية).(1/250)
ثم واصل ابن تيمية الحديث فقال في (ص 95): (وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وافقوا ابن كلاب على هذا الأصل كما بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر.
قال: واختلف قول ابن عقيل في هذا الأصل، فتارة يقول بقول ابن كلاب، وتارة يقول بمذهب السلف وأهل الحديث أن الله تقوم به الأمور الاختيارية ويقول: إنه قام به أبصار متجددة حين تجدد المرئيات لم تكن قبل ذلك، وقام به علم بأن كل شيء وجد غير العلم الذي كان أولاً أنه سيوجد كما دل على ذلك عدة آيات في القرآن الكريم كقوله تعالى: {لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة:143] وغير ذلك.
قال: وكلامه في هذا الأصل وغيره يختلف، تارة يقول بهذا، وتارة يقول بهذا، فإن هذه المواضع مواضع مشكلة، كثر فيها غلط الناس لما فيها من الاشتباه والالتباس)(1/251)
ثم قال في أول (ص 96) : (والجواب الحق أن كلام الله لا يماثل كلام المخلوقين، كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين...) إلى أن قال في آخر (ص97): (... والقرآن عند الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه، وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئاً من أصوات العباد). ثم قال في أول (ص 98): (ثم إذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب، فالقرآن الذي نقرؤه هو كلام الله مبلغاً عنه لا مسموعاً منه، وإنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع العقل قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [ التوبة 6 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «زينوا القرآن بأصواتكم» وقال الإمام أحمد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» قال يزينه ويحسنه بصوته كما قال: «زينوا القرآن بأصواتكم») ثم واصل شيخ الإسلام ابن تيمية في توضيح هذا الموضوع بذكر الأدلة من الكتاب والسنة.
فنقول للخليلي الذي قصّر قلمه عن نقل ما يوضح كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في نقده للقاضي وابن عقيل: أليس ما ذكره ابن تيمية هو الحق الذي يجب على العاِلم أن يقوله وأن لا تأخذه في الصدع به لومة لائم؟. ومع ذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية يحترم العالم لعلمه، ويذكر الفضل الذي له، ثم يبين الخطأ الذي وقع فيه حتى لا يقع فيه غيره، لأن العصمة للأنبياء وحدهم ولا ينقص هذا من قدر العالم شيئاً، وهذا هو أسلوب السلف وأتباعهم لا سيما في الأمور المشكلة التي فيها الاشتباه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(1/252)
وأما أهل الباطل الذين يعرفون الحق ويتعسفون في رده، وهم الدخلاء على الإسلام ومن أخذ بآرائهم، كما قال الخليلي: إن هذه المسالة من كيد اليهود، كما مثل في (ص 106) من كتابه فقال: (ولعل على رأس هؤلاء أبا شاكر الديصاني الذي قيل عنه إنه يهودي تظاهر بالإسلام).
فإن أهل السنة يردون عليهم الرد القوي بالكتاب والسنة، ويبينون للناس خداعهم وأهدافهم التي يقصدون من ورائها هدم هذا الدين، وذلك بهدم أصوله (الكتاب والسنة).
الملاحظة الثانية: من الذي يثير بحث هذه القضية في الوسط الإسلامي، أليس هو الخليلي بنشره لكتابه هذا كما سبق التنبيه على ذلك؟.
ثم يواصل الخليلي في نقده لشيخ الإسلام ودعواه تضارب أقواله، فبعد أن قال في (ص 144): (إن ابن تيمية: لم يبرئ ابن عقيل...) إلخ قال: (ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل نجده ينقل عن أئمتهم تكفير من قال: قول البرزيني، فقد نقل عن حماد ابن زيد أنه سئل عمن قال: كلام الناس ليس بمخلوق فقال: هذا كلام أهل الكفر، كما نقل عن المعتمر بن سليمان أنه قال: هذا كفر، ولم يعلق عليهما ابن تيمية إلا بما يقتضى تأييدهما) ثم وضع رقم (4) وكتب في الهامش المرجع السابق (ص 93).
وأقول: إن الهامش خطأ وليس هذا الكلام في (ص93)، وإنما كلام حماد بن زيد ومعتمر بن سليمان هو في (ص326) وقد نقل منها الخليلي، وقد عرفنا أسلوبه وهو بتر الكلام فيأخذ الجزئية التي يريد أن يشوش بها على القارئ ويترك ما يوضحها ـ قبلها أو بعدها- ولهذا فإني سأنقل أَسْطُراً وردت قبل هذا الكلام الذي ذكره عن حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان ليعلم القارئ تصرفات أهل الباطل في تأييد باطلهم بأي وسيلة كانت، ثم أتبعها بالقاعدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة في بيان الفرق بين القول والقائل.(1/253)
فأقول: جاء كلام حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان في معرض رد شيخ الإسلام ابن تيمية على سؤال وجه إليه بدأ من (ص 323) ونص السؤال: «عن قوم يقولون: كلام الناس وغيرهم قديم -سواء كان صدقاً أو كذباً، فحشاً أو غير فحش، نظماً أو نثراً ـ ولا فرق بين كلام الله وكلامهم في القدم...» إلخ، وهذا في بداية الرسالة المسمى (بالكيلانية) وقد سبقت الإشارة إليها وقد بسط شيخ الإسلام فيها هذه المسألة وختمها بالقول بالفرق بين القول والقائل، والكفر المطلق وتكفير المعين.
وبدأ الجواب بقوله: «الحمد لله، بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأ محرماً بإجماع المسلمين، وقد قالوا قولاً منكراً من القول وزوراً بل كفراً ومحالاً يجب نهيهم عنه، ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك …» إلخ
ثم قال في (ص 324): ((وأنه لا ريب أن الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله وبعده من الأئمة نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق نصاً مطلقاً، بل نص أحمد وكثير من الأئمة على (أفعال العباد) عموماً وعلى (كلام الآدميين) خصوصاً، ولم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لهؤلاء المبتدعة المخالفين، حتى يقول قائل منهم أو من غيرهم: أنه لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق لأجل شبهتهم، أو لكون الكلام في ذلك بدعة...» إلخ وفي (ص325) ذكر أقوال العلماء في (اللفظية) فقال: «روي في (كتاب السنة) في الكلام على اللفظية عن أبي بكر بن زنجويه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ولا يكلم»(1).
قال الخلال: «وأخبرنا أبو داود السجستاني قال: سمعت أبا عبدالله يتكلم في (اللفظية) وينكر عليهم كلامهم ...» إلخ.
__________
(1) تقدم توضيح هذا رداً على الخليلي.(1/254)
وفي (ص 326) التي نقل منها الخليلي نص التكفير قال الخلال: ((وأخبرني أبو بكر المروزي حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثني مسدد قال: كنت عند يحيى القطان وجاء يحيى بن إسحاق بن توبة العنبري، فقال له يحيى: حدث هذا يعني مسدداً كيف قال حماد بن زيد فيها؟ أي (مسألتنا) فقال سألت حماد بن زيد عمن قال: كلام الناس ليس بمخلوق، فقال: هذا كلام أهل الكفر، وقال يحيى بن إسحاق: سألت معتمر بن سليمان عمن قال: كلام الناس ليس بمخلوق فقال: هذا كفر)) اهـ.
فهذا هو سياق الكلام في هذه المسألة، ليس فيها نص على شخص معين لا البرزيني ولا غيره.
أما دعوى الخليلي أن ابن تيمية لم يعلق عليهما ـ أي على حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان إلا بما يقتضي تأييدهما-
فالجواب على هذا: أن الخليلي لا يفرق بين الكفر المطلق والتكفير المعين، ولهذا ادعى على ابن تيمية هذه الدعوى، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية وضح هذا في آخر بحث هذه المسألة في (ص 487) و الخليلي قد طوف بصفحات هذا المجلد من الفتاوى فنقل من (ص 326) هذا الذي يريده، كما نقل من (ص 384، 567) وغيرها من الصفحات كما سبقت الإشارة لذلك، ولا شك ولا ريب أنه اطلع على كلام شيخ الإسلام في (ص 487) في قضية (التكفير) ورأى كلام شيخ الإسلام في بيان الفرق بين (التكفير) المطلق و (تكفير المعين) ولكنه لم يشأ نقل ذلك، لأنه يفسد دعواه على شيخ الإسلام في قوله: ((ولم يعلق عليهما ابن تيمية إلا بمقتضى تأييدهما)).
وأقول: سبق نص كلام حماد بن زيد حيث قال: ((من قال كلام الناس ليس بمخلوق قال: هذا كلام أهل الكفر، وقال معتمر بن سليمان: هذا كفر)).
فهو -كما ترى ـ كلام مطلق ولم يكن معيناً لشخص بعينه بحيث قال: إن فلاناً كافر، واقرأ كلام شيخ الإسلام في هذا فقد قال في (ص 487) وهو يتحدث عما أصاب الناس في فهم الألفاظ المطلقة العامة من كلام أئمتهم في مسألة (التكفير).(1/255)
فقال: ((وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في لفظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع)).
ثم ضرب مثالاً واقعاً يبين هذا الأصل العظيم عند أهل السنة وذلك بما عمله الإمام أحمد بن حنبل فقال في (ص 488 –489): «يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة، الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإن الإمام أحمد ـ مثلاً ـ قد باشر (الجهمية) الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل ..»إلخ.
ثم قال: ((ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.
قال: ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر.
قال: ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة.(1/256)
ثم قال: وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قوماً معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال: من كُفِّر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير (1)وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم)). ثم ذكر الأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار...إلخ اهـ.
ولهذا نقول للقارئ لا للخليلي، لأنه مطلع على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: أين تكفير (المعين) من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؟.
فابن تيمية ينقل كما ترى عن الإمام أحمد أنه لم يكفر المعينين من الجهمية الذين دعوه إلى المقالة، التي هي كفر بل حللهم من عملهم لوجود شبهة عندهم.
فكيف يقول: إنه يكفر من أخطأ كالبرزيني وابن عقيل. ثم إن لفظ حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان هو لفظ عام وهو إطلاق لفظ الكفر على هذا القول. وليس إطلاقاً على معين، لأن المعين لا يجوز تكفيره إلا بعد إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه، وهذا هو مذهب السلف وأتباعهم.
ولكن إليك القول السخيف الذي يرده شيخ الإسلام على قائله ويقول عنه بأنه لغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل. وإليك تعبير الخليلي ودعواه على القائلين بأن القرآن كلام الله لفظه ومعانيه وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ينصب له العداء باطلاً، وسنتبع قوله بنقل النص عن شيخ الإسلام ابن تيمية لتعلم زيفه في القول وتحميله شيخ الإسلام بما هو منه براء.
__________
(1) بين هذه الشروط في (ص466) من هذا الجزء فقال: وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.(1/257)
يقول الخليلي الواصف لطائفته الإباضية بأنهم أهل الاستقامة وهو يمثلهم في العصر الحاضر في (ص 144 – 145) قال: (وبما تجده من خلاف حاد بينهم في هذه المسألة بحيث يتعذر الجمع بين أقوالهم، تدرك أنهم لم يتقيدوا فيها بضوابط، ولذلك أرسل بعضهم فيها عنان القول، حتى زعم أن جلد المصحف والوتد الذي يعلق به وما حول الوتد من الحائط، كل ذلك من كلام الله فهو غير مخلوق في زعمهم).
ولعلم الخليلي أنه كلام مرذول مردود استدرك فقال:
(وهو وإن عزاه ابن تيمية إلى جهلتهم(1)، فما أدراك لعل أولئك يعدون معارضيهم هم الجهلة ويزعمون أيضاً مثلهم أنهم أسعد بمذهب الإمام أحمد).
ثم قال: (وبهذا تدرك أخي القارئ خطورة هذه العقيدة وما جرته على الإسلام من بلاء، فإنّ إضْفَاء صِفَةِ القِدَم على ما لا يماري عاقل ولا يكابر حس في حدوثه، كالجلود والأوتاد والحوائط، أمر لا يبقي بعده إلا إثبات قِدَم العالم بأسره ...إلخ).
وأقول للقارئ الكريم الباحث عن الحق:
إليك نص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لتعلم زيف الخليلي في كلامه، ومغالطاته للقراء الكرام من أبناء طائفته وغيرهم، ممن يظن بكل من ادعى العلم أنه لا ينقل عن الآخرين ولا ينسب إليهم إلا أقوالهم، ولا يدعي عليهم خلاف ما يقولون؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم مخوفاً ومحذراً عباده من سوء حصائد ألسنتهم: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ ق 18 ].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بداية هذا النص من (ص 380-381).
قال: (((فصل): ثم إن فروخ (اللفظية النافية) الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله، تَرْوي عن منازعيها أنهم يقولون:
القرآن ليس هو إلاّ الأصوات المسموعة من العبد، وإلا المداد المكتوب في الورق، وإن هذه الأصوات وهذا المداد قديمان.
__________
(1) فتاوي ابن تيمية 12 / 381.(1/258)
قال: وهذا القول ما قاله أحد ممن يقول: إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات، بل أنكروا ذلك وردوه وكذبوا من نقل عنهم (إن المداد قديم) .
((ولكن هذا القول قد يقوله الجهال المتطرفون، كما يحكى عن أعيانهم مثل سكان بعض الجبال: إن الورق والجلد والوتد وما أحاط به من الحائط كلام الله، أو ما يشبه هذا اللغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل)).
فهذا كلام شيخ الإسلام في هؤلاء الجهال الذين قالوا هذا القول الباطل.
وأترك للقارئ الكريم الباحث عن الحق أن يقارن بين ما نسبه الخليلي لشيخ الإسلام ابن تيمية وبين ما نقلته عنه في هذا النص، ورده على أولئك الجهال المتطرفين كما وصفهم وأن ذلك القول لا يقوله مسلم ولا عاقل.
وإنما أعلق على قول الخليلي السابق في تعقيبه المشار إليه ونصه:
(وبهذا تدرك أخي القارئ خطورة هذه العقيدة وما جرّته على الإسلام من بلاء)، هذا قول الخليلي.
فأقول: إن هذا الكلام ينطبق على المثل السائر (رمتني بدائها وانسلَّتْ).
فما هي العقيدة الخطيرة التي جرت على الإسلام والمسلمين البلاء، هل هي عقيدة سلف الأمة والمتبعين لهم بإحسان من أن القرآن كلام الله عز وجل تكلم به بمشيئته وقدرته، وقد سمعه جبريل عليه السلام من الله ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - ،وكل مسلم يعلم أن الأمة الإسلامية من عهد الصحابة رضوان الله عليهم وأتباعهم كانوا على كلمة سواء في عقائدهم وعباداتهم وجميع شؤون حياتهم.
ينهلون من المعين الصافي كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - التي ضمن لمن تمسك بهما أن لا يضل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي» (1).
ولم يحدث بين المسلمين ما يفرق كلمتهم، ويشتت شملهم، ويكفر بعضهم بعضاً، إلا عندما دخلت على المسلمين هذه العقيدة الخطيرة التي هي القول (بخلق القرآن) من اليهود.
__________
(1) سنن الدارقطني (4/245) رقم (149).(1/259)
كما اعترف الخليلي نفسه بذلك في كتابه هذا (ص 105 –106) وهو يتحدث عمن أشعل هذه الفتنة، وهل القرآن مخلوق أو غير مخلوق قال:
(وقد أشعل نار هذه الفتنة بعض الدخلاء في الأمة الذين تقمصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها، أهمها إذكاء نار الفتنة بين طوائف الأمة، وتقسيمها إلى شيع وأحزاب {كل حزب بما لديهم فرحون}. ولعل على رأس هؤلاء أبا شاكر الديصاني الذي قيل عنه أنه يهودي تظاهر بالإسلام...)، هذا قول الخليلي في كتابه هذا.(1/260)
ونقول: يا خليلي اتق الله وعد إلى الحق، فقد أثبتَّ على نفسك بقلمك في هذه الصفحة (ص 106) فقلت بعد كلامك السابق: (وكان الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع)، فإذا كان أول من أشعل نار هذه الفتنة بين المسلمين (اليهود) كما قلت، فكيف يصح لك أن تقول: (إن الذي يقول القرآن كلام الله عز وجل وإن الله يتكلم بمشيئته وقدرته متى شاء وكيف شاء على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.وقوله {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ويرد على من خالف السلف الذين مضوا ولم تسمع آذانهم طنيناً من القول (بخلق القرآن) وأن أول من قال ذلك اليهود، وأخذ ذلك الفكر الدخيل الجعد بن درهم، وضحى به خالد القسري، فهو أول من قال: القرآن مخلوق ثم صاحبه الجهم بن صفوان، فكيف يسوغ لك وبأي منطق تجعل من ردَّ على هؤلاء باطلهم، بأن عقيدتهم خطيرة وجرّت على الإسلام والمسلمين البلاء؟ ألم يجر البلاء على الإسلام والمسلمين، وتسفك الدماء بسبب عقيدة (القول بخلق القرآن)؟ ألم يكن الدعاة لهذه العقيدة المعتزلة الذين تفتخر بالانتساب إلى عقيدتهم في كل ما يقولون؟ إن قلب الحقائق وجعل الباطل حقاً ليس من أسلوب العلماء اتباع السلف الذين يَدْعُون الناس إلى التمسك بالكتاب والسنة، وإنما هذا أسلوب أهل الباطل، ولا شك أن الباطل مدفوع وزاهق كما قال الله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}. [الإسراء 81].(1/261)
إن باطل أولئك المعتزلة الذين لبّسوا على المأمون والمعتصم قد أزهقه الله بثبات أهل السنة على عقيدة الحق؛ وأن القرآن كلام الله، وعلى رأس أولئك إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ـ بإجماع الأمة، وقد أثنى عليه حتى علماء الإباضية، وقد ذكرت ذلك الثناء في كتابك هذا، وقد أزهق الله ذلك الباطل وأعاد الحق إلى نصابه، على يد من امتحن وهو الإمام أحمد، وقد طلب منه خليفة المسلمين المعتصم أن يجيبه إلى ما يدعوه إليه من القول، (بخلق القرآن) ويكافئه بأن يجعله يطأ بساطه، هكذا قال له المعتصم فبماذا أجابه؟ قال له: يأتوني على ما يدعون إليه بآية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعجزوا، فكان موقفه موقف العالم الذي لا يريد إلا نصر الحق مقتدياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينتقم لنفسه، وإنما يغضب لله ويقدم نفسه في سبيل الله فإذا انتهكت حدود الله فلا يقوم لغضبه - صلى الله عليه وسلم - أحد حتى ينفذ أمر الله، ولهذا فإن الإمام أحمد عفا عن الذين امتحنوه وآذوه في نفسه حين انتصر الحق ودمغ الباطل.
ونقول: إن كلام أهل الباطل وتلبيساتهم مدموغة بالحق ومردودة على أصحابها، ونختم الرد على هذا الفصل بكشف هذه المغالطة التي يكررها في كتاباته، فقد ختم هذا الفصل من (ص 150 إلى 153) بعد تكراره لنقل مقتطفات من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المجلد (12 / من ص 86، 54، 301، 567).
حيث قال: (ويستخلص من كلامه هذا ما يلي:
1ـ تفسير قدم كلامه تعالى بكونه سبحانه قد كان في الأزل متكلماً ... إلخ.
2ـ أن ابن تيمية وجميع علماء سلفه الذين يعتمد عليهم لا يقولون في القرآن المنزل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قديم العين، كما لا يقولون ذلك في شيء من الكتب المنزلة، ولا أي كلام ينسب إليه تعالى كالذي كلّم به موسى عليه السلام، ولا يقولون في شيء من ذلك إنه صفة قديمة أو أنه قائم بذات الحق تعالى.(1/262)
قال: وهذا لا خلاف بيننا وبينهم فيه، وإنما هو مخالف لما نص عليه كثير من الأشعرية والكلابية أو الحنابلة أنفسهم من كون القرآن موصوفاً عينه بالقدم... إلخ.
3ـ أنهم مع اعترافهم بعدم قدم القرآن وسائر الكتب المنزلة ينفون عنها صفة المخلوقية ويضللون أو يكفرون من قال بخلقها.
قال: وهذا محط العجب وموضع الاستغراب).
ثم علل عجبه هذا بقوله: (فإن الكائنات بأسرها إما أن تكون قديمة أزلية لم يسبق وجودها عدم، وإما تكون حادثة كانت بعد أن لم تكن، وهي في هذا الكون بحاجة إلى من أخرجها من العدم إلى الوجود.
قال: وهذا هو معنى الخلق كما سبق في مقدمة هذا المبحث.
ثم قال: ولا أدل على وجود الخالق سبحانه من حدوث مخلوقاته، ثم قال: ولذلك نجد في القرآن التعجيب من حال أولئك الذين ينكرونه تعالى، أو يشكّون فيه مع قيام هذه الشواهد الدالة عليه من خلقه، كما تجد ذلك واضحاً في قوله سبحانه: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض} [ إبراهيم 10] مع النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خلق الأشياء كلها كقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الرعد 16]).
ثم أضاف مغالطة أخرى فقال في (ص 152): (وقد يتبادر أن الخلاف بيننا وببينهم لا يعدو أن يكون لفظياً ما داموا يعترفون بحدوثه، وإنما أمسكوا عن القول بخلقه الذي أقدمنا عليه).
ثم قال: (والجواب يمكن أن يكون كذلك لو أنهم اكتفوا بالإمساك ولم يضللوا أو يكفّروا من أطلق القول بموجب ما أفادته نصوص القرآن المشار إليها...)، إلى أن قال: (وإن كنا نقنع في القضية باعتقاد أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله)، ثم نقض هذا بقوله: (وإن ما عدا الله مخلوق ولو لم يخص القرآن باعتقاد خلقه، لاندراجه في العموم وهذا الذي مضى عليه السلف من الصحابة فمن بعدهم قبل نشوب فتنة الخلاف في القضية وعليه مضى المتقدمون السابقون من علماء عمان كما سبق).
قال: (وقد صرح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقدمه).(1/263)
قال: (وإذا كانوا لم يقولوا بقدمه فمن أين لهم أنهم قالوا بنفي خلقه؟ مع أن هذه القضية لم يثر بحثها إلا بعد انطواء عصورهم؟)
قال: (ومن المعلوم قطعاً أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا لينفوا صفة المخلوقية عن شيء غير الله سبحانه... مع إجماع العقلاء أن ما لم يكن قديماً فهو حادث، وأن كل حادث لا بد له من محدث أحدثه أي أخرجه من العدم إلى الوجود وهذا هو عين الخلق).
فهذه هي الخلاصة التي توصل إليها الخليلي من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء سلفه كما يقول.
والجواب على ذلك:
أولاً: أن ما جاء في الفقرة الأولى، وهو قوله: أن ابن تيمية يفسر قدم كلام الله تعالى أنه سبحانه قد كان متكلماً في الأزل.
وفي الفقرة الثانية: أن ابن تيمية وجميع علماء سلفه لا يقولون في القرآن إنه قديم (العين) ولا في الكتب المنزلة ولا الذي كلّم به موسى... ولا في شيء من ذلك أنه صفة قديمة أو أنه قائم بذات الحق.
وقوله: إنه لا خلاف في ذلك بينه وبين ابن تيمية وعلماء سلفه.
فأقول: إن الكلام تكرر على هذا مراراً بسبب تكراره له لأنه ليس عنده حجة على دعواه في خلق القرآن إلا ما يسميه بالحدوث؛ أي أن آحاد الكلام الذي يتكلم الله به ـ من قرآن، وتوراة وغيرها- أنه خلقه لأنه لا يصف الله عز وجل بصفة الكلام مطلقاً وقد سبق هذا مكرراً.
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وجميع علماء السلف يقولون أن الله عز وجل متصف بصفة الكلام وأن هذه الصفة صفة كمال قائمة بالله عز وجل لا كما يدعي أنهم يقولون (إن صفة الكلام ليست قائمة بذاته تعالى) وأنه سبحانه يتكلم متى شاء وكيف شاء، ويقولون: إن الكلام قديم النوع حادث الآحاد.
فمن كلامه تعالى (القرآن) تكلم به، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وسمعه محمد من جبريل، وبلّغه أمته وأمرهم بتبليغه. وإن من كلامه جميع الكتب المنزلة كالصحف والتوراة والإنجيل وغيرها.(1/264)
وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله حين كلمه كما قال تعالى:
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}.
أما الأشعرية والكلابية فقد تكرر أيضاً: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرد عليهم دعواهم ـ أن صفة الكلام هي الكلام النفسي القائم بالذات، وأن القرآن عبارة أو حكاية عن ذلك المعنى النفسي القائم بالذات.
وأما الفقرة الثالثة: وهي قوله: (وأنهم مع اعترافهم بعدم قدم القرآن وسائر الكتب المنزلة ينفون عنها صفة المخلوقية، ويضللون أو يكفرون من قال بخلقها. قال: وهذا محط العجب وموضع الاستغراب).
فأقول: إن هذه هي المشكلة المستعصية عند الخليلي وسلفه القائلين بخلق القرآن.
فإن الشبهة القائمة بأذهانهم أنهم إذا وصفوا الله بصفة (الكلام) وكذلك جميع الصفات الاختيارية. فقد شبّهوه بخلقه لأنهم ينفون عن الله عز وجل هذه الصفات فعندهم أنهم إذا وصفوه بصفة الكلام فهذه الصفة تحتاج من المتكلم إلى هذه الجوارح التي يشاهدونها في المخلوق من اللسان واللهاة والحنجرة، والله منزه عن ذلك.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الله عز وجل منزّه عن هذه الجوارح لأنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته وهو السميع البصير.
ويقولون: إن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء، ولا يشترط للكلام ما قام بأذهان هؤلاء من التشبيه للخالق بالمخلوق. ثم انتقلوا إلى التعطيل وهو نفي صفة الكلام عن الله عز وجل لأن الله عز وجل قد أخبر أن هذه الجوارح تنطق يوم القيامة كما قال تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [ يس 65 ] فهذه الأيدي والأرجل تنطق ولا لسان لها... إلخ.
وقد نص الله في كتابه أنه يكلّم عباده متى شاء وكيف شاء.(1/265)
فقد كلّم موسى عليه السلام حين جاءه لميقاته، ويكلّم ملائكته ويسألهم عن عباده وهو أعلم بهم يقول لهم: «كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم وهم يصلون وجئناهم وهم يصلون» (1)، وغير ذلك من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة.
وأما تعليله لتعجّبه وهو قوله: (فإن الكائنات بأسرها إما أن تكون قديمة أزلية لم يسبق وجودها عدم، وإما أن تكون حادثة بعد أن لم تكن وهي في هذا الكون بحاجة إلى من أخرجها من العدم إلى الوجود. وإن هذا معنى الخلق. وقوله: و لا أدل على وجود الخالق سبحانه من حدوث مخلوقاته مع النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خلق الأشياء كلها كقوله: {الله خالق كل شيء}).
فأقول: نعم إن الكائنات بأسرها محدثة وليست قديمة، وأن الذي أخرجها من العدم إلى الوجود هو الله عز وجل ، والله عز وجل بصفاته هو الأول الذي ليس قبله شيء.
ومن صفاته عز وجل (الكلام) وقد أخرج هذه المخلوقات الدالة على وجوده بكلامه فقال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مواقيت الصلاة باب في فضل صلاة العصر ،ح (555).(1/266)
وقال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت9-11]، وقوله تعالى: {خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. هذا خلق الله فاروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ظلال مبين} [ لقمان10ـ11]، وقال تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف 54]، فالله هو الخالق لهذه الكائنات كلها. خلقها بأمره وهو قوله للشيء إذا أراده (كن) فيكون.
كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}.
وقول الخليلي: ((مع النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خلق الأشياء كلها كقوله تعالى: {الله خالق كل شيء}).
فنقول: نعم، إن الأشياء كلها مخلوقة ولكن كلامه ليس من الأشياء المخلوقة، بل كلامه صفة من صفاته، وبكلامه خلق هذه الأشياء كلها، وقد سبق نقاشه في استدلاله بقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} وبَيَّنَّا أن عموم (كل) لا يدخل فيه كلام الله عز وجل،لأنه من صفاته والله بصفاته هو الخالق وما سواه مخلوق.
وأما قوله: (فلو اكتفوا بالإمساك ولم يضللوا أو يكفروا من أطلق القول بموجب هذه النصوص) ويعني بالنصوص قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} والنصوص الأخرى التي ذكرها.
والجواب: أن هذه النصوص التي منها قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} لم يدخل في عمومها كلامه عز وجل، بل بكلامه خلق هذه الأشياء كلها.
وقوله: (لم يضللوا أو يكفروا).(1/267)
وأقول: أما تضليل من ابتدع بدعة محدثة فقد نصت السنة على تضليله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
فأهل السنةلم يضللوا ولم يبدّعوا ولم يفسّقوا إلا من حكم الله ورسوله عليه بذلك.
فالقول بأن القرآن مخلوق بدعة محدثة لم يرد بذلك نص لا من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال الخلفاء الراشدين، لأن قولهم وعملهم سنة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
ولم يقل بهذا القول لا الصحابة ولا التابعون ولا الأئمة الأربعة المتبعون ولا التابعون لهم بإحسان، وإنما هذا القول بدعة محدثة أحدثها الجعد بن درهم، ثم أخذها عنه صاحبه الجهم بن صفوان، وأخذ ذلك عنه المعتزلة، وورثهم الخليلي ومن يقول بقولهم.
وأما التكفير فإن له شروطه وموانعه عند أهل السنة والجماعة.
فالقول أو الفعل قد يكون كفراً ولكن القائل أو الفاعل لا يكون كافراً حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، وهذا هو الفرق بين الكفر المطلق وتكفير المعين، وقد سبق ما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية مما نقله عن الإمام أحمد بن حنبل أيام المحنة بالدعوة إلى القول بخلق القرآن بسبب ما زينه المعتزلة سلف الخليلي للمأمون والمعتصم، وتحليل الإمام أحمد للذين دعوه إلى هذه البدعة، وما نقله عنه بالتفصيل في الكفر المطلق وتكفير المعين (ص 274) وما بعدها.
ونوضح للقارئ معنى الكفر المطلق وتكفير المعين بمثال فنقول: القرآن كلام الله عز وجل وكلامه صفة من صفاته، والله بصفاته واحد أحد كما قال تعالى: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد}.
فالقول: بأن صفة من صفات الله مخلوقة كفر.(1/268)
ولهذا قال أهل السنة: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، لأنه قال: إن صفة من صفات الله مخلوقة فهذا كفر وهذا هو التكفير المطلق.
وأما تكفير المعين: فهو القول بأن زيداً أو بكراً من الناس كافر.
فقال أهل السنة: إن هذا الشخص المعين لا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة.
ولهذا قال ابن تيمية -الذي يدعي عليه الخليلي أنه يكفر المعينين- في (ص 466 المجلد 12) من الفتاوى الذي يختار منه الخليلي الجزئية التي يريدها مقطوعة الجناح، مبتورة الأعضاء، وذلك بترك أولها وآخرها.
قال ـ أي شيخ الإسلام: ((وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامة بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة)).
وذلك في الأمور الخفية التي يشكل على المسلم تبين الحق فيها.
فنقول للمؤلف: فأين تكفير ابن تيمية للمعين؟ فمن قال هذا القول الذي هو كفر قبل إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه لا يكفر، وقد أورد بعد هذا موقف الإمام أحمد بن حنبل ممن امتحنوه و غيره ودعوهم إلى هذه البدعة الضلالة ولم يكفرهم.
وأما قوله: ((وإنّ ما عدا الله مخلوق ولو لم يخص القرآن باعتقاد خلقه لاندراجه في العموم، وهذا الذي مضى عليه السلف من الصحابة ومن بعدهم قبل نشوب فتنة الخلاف في القضية، وعليه مضى السابقون من علماء عمان) كما سبق.
وأقول: وقد سبق هناك في المقدمة: الرد على هذه الدعوى الزائفة على الصحابة.
وقوله (ولو لم يخص القرآن باعتقاد خلقه).
أقول: هذا اعتراف منه بأنه لم يرد نص في القرآن يدل على أن القرآن مخلوق وكفى بذلك حجة عليه.
وأما قوله (لاندراجه في العموم) ويقصد به اندراجه في عموم قوله تعالى: {الله خالق كل شيء}[الأنعام:102].?(1/269)
فقد سبق الكلام عن ذلك وهو: أن كلام الله عز وجل لا يدخل في الأشياء المخلوقة، لأن كلامه صفة من صفاته وبه خلق هذه الأشياء. كما في قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}.
وأما قوله: (وهذا الذي مضى عليه السلف من الصحابة فمن بعدهم قبل نشوب فتنة الخلاف) فهذا هو الضلال المبين والدعوى الزائفة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليه بما يأتي:
أولاً: بقوله هو في المقدمة (ص 106) بعد قوله: إن هذه الفتنة أدخلها الذين تقمّصوا الإسلام لأغراض في نفوسهم، وعلى رأس أولئك أبو شاكر الديصاني الذي قيل عنه أنه يهودي تظاهر بالإسلام.
ثم قال بعد ذلك : ((وكان الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنينا من القول في هذا الموضوع).
فهذا الذي مضى عليه الرعيل الأول، ولم يتكلموا بما تدعي من خلق القرآن، وحتى لم يسمعوا كما تقول من أحد قال تلك البدعة التي أحدثها الجعد بن درهم، فهو أول من قالها، وأخذها عنه تلميذه الجهم بن صفوان، كما تقدم ذلك في (ص 158).
الثاني: إن الذين تَزَعَّموا هذه الفتنة في عهد المأمون والمعتصم لم يستطيعوا أن يأتوا بنص واحد من الكتاب ولامن السنة على أن القرآن مخلوق، وذلك حين طلب المعتصم من الإمام أحمد بن حنبل أن يقول القرآن مخلوق ويفك عنه قيوده بنفسه.
فقال له الإمام أحمد: ((يأتوني على ذلك - بآية أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجزوا))(1).
وقد اعترف الخليلي هنا أنه لم يخص القرآن باعتقاد خلقه في الأدلة التي ذكرها.
__________
(1) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 402)، البداية والنهاية (10/321).(1/270)
والثالث: وهو قوله: (أن الصحابة مضوا على ذلك) فمع تصريحه أنهم مضوا ولم تسمع آذانهم طنيناً من القول في هذا الموضوع، فإن أسلافه أيضاً عجزوا بل اعترفوا أن هذا القول لم يقل به لا أبو بكر ولاعمر ولا عثمان ولا علي(1) رضي الله عنهم، فكيف يدعي على الصحابة رضوان الله عليهم هذه الدعوى الزائفة؟.
وفي (ص 153) قال: (وقد صرح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقدمه)(2)، ثم قال: (وإذا كانوا لم يقولوا بقدمه فمن أين لهم أنهم قالوا بنفي خلقه، مع أن هذه القضية لم يثر بحثها إلا بعد انطواء عصورهم؟ ومن المعلوم قطعاً أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا لينفوا صفة المخلوقية عن شيء غير الله سبحانه... إلى قوله: وهذا قليل من كثير من الاضطراب الذي وقع فيه القائلون بقدم القرآن وغيره من كلام الله المنزل على أنبيائه ورسله، قال: ولم أرد به إلا التنبيه، ومن أراد استقصاء ذلك فليرجع إلى مؤلفات أصحاب هذا القول، كفتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر الذي بلغت صفحاته ستمائة صفحة...).
قلت: إن شيخ الإسلام ابن تيمية كلامه واضح في (مسألة القرآن) خاصة، وفي مسألة صفة (الكلام) لله عز وجل . فهو يقول: إن الله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وأن الله لم يزل متكلماً متصفاً بهذه الصفة أزلاً وأبداً. أي أن الكلام قديم النوع حادث الآحاد ومن آحاد كلام الله عز وجل (القرآن الكريم) الذي تكلّم به وسمعه منه جبريل عليه السلام ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم فسمعه منه وبلّغه أمته وأمرهم بتبليغه إلى من بعدهم.
وهذا معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي اقتصر الخليلي منه على هذا السطر وهو مسبوق بما يوضح هذا.
__________
(1) تأريخ بغداد (4/152)، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 350-352).
(2) الفتاوى (12/301).(1/271)
ولكن الخليلي لما كان ينفي عن الله صفة الكلام مطلقاً وإنما يقول: إن كلام الله مخلوق؛ وأنه لا يتكلم متى شاء وكيف شاء قال: (وإذا كانوا لم يقولوا بقدمه فمن أين لهم أنهم قالوا بنفي خلقه).
وأقول: إن أهل السنة والجماعة كلهم يقولون: إن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء، ومن كلامه جميع الكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، وأنه كلم موسى حين جاء لميقات ربه.
فهم نفوا عنه (صفة الخلق) لأن الكلام من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة، فالله بصفاته واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وقول الخليلي: (مع أن هذه القضية لم يثر بحثها إلا بعد انطواء عصورهم).
قلت: وهذه حجة عليك وليست لك وقد ذكرت في المقدمة (ص 106) أن أول من أثارها الذين تقمصوا الإسلام لأغراض في نفوسهم فلماذا تثيرها أنت الآن؟.
وقوله: (ومن المعلوم قطعاً أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا لينفوا صفة المخلوقية عن شيء غير الله سبحانه).
قلت: والجواب: نعم، لم ينفوا صفة المخلوقية عن شيء سوى الله من المخلوقات، ولكن الله بصفاته واحد أحد، ومن صفاته كلامه وصفته القائمة بذاته ليست سواه، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء، أما أنك تقطع على الصحابة بأنهم سيقولون (القرآن مخلوق) فهذه الجرأة منك عليهم ستحاسب عليها بين يدي الله عز وجل، بل هذا من القول على الآخرين بلا علم، وذلك حسب ما تعتقده في القرآن وأنهم لن ينفوا عنه صفة المخلوقية، ونقول لك: فمن أين لك هذا؟
فاستغفر ربك وتب إليه من أن تنسب إلى صفوة الأمة هذا الاعتقاد الباطل.
وقوله: (هذا قليل من كثير من الاضطراب الذي وقع فيه القائلون بقدم القرآن وغيره من كلام الله المنزل على أنبيائه ورسله...) إلى قوله: (ومن أراد استقصاء ذلك فليرجع إلى مؤلفات أصحاب هذا القول كفتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر الذي بلغت صفحاته ستمائة صفحة).(1/272)
قلت: إن الاضطراب بحمد الله لم يوجد عند القائلين بأن (القرآن كلام الله) وإنما كلامهم متسق مع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وما جاء في المجلد الثاني عشر من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي بلغ
-كما قال الخليلي- ستمائة صفحة لم ينقض بعضه بعضاً بل هو منتظم كالعقد. وهو رد على كل من خالف نهج السلف في إثبات صفة الكلام لله عز وجل وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء، وأن من كلامه (القرآن الكريم) الذي سمعه منه جبريل عليه السلام ونزل به بأمر ربه على محمد صلى الله عليه وسلم فسمعه منه وبلغه أمته فسمعوه منه وبلغوه إلى من بعدهم.
وبما أن الخليلي طوف في صفحات المجلد الثاني عشر من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، واقتطف منه جملاً وأسطراً مقطوعة الرأس والعجز لقصد التلبيس والتشويش على قرائه وادعائه الاضطراب في كلام ابن تيمية والأئمة قبله، وبما أنه اقتصر في آخر (ص 152) من كتابه على هذا السطر والنصف من كلام شيخ الإسلام وهو قوله: (وقد صرح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقدمه)(1).
فقد رأيت أنه من المناسب أن أنقل النص الذي اقتطع منه الخليلي هذا السطر، ليطلع القارئ على مجموع النص ويحكم بنفسه عليه إن وجد فيه اضطراباً.
وقد بدأ هذا النص من (ص 296) فقال:
(فصل)
__________
(1) الفتاوى (12/301).(1/273)
قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6] وهو منزل من الله كما قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاًوالذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [ الأنعام 114] فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك والعلم لا يكون إلا حقاً وقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}[الزمر:1] {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} [غافر:2 ] {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} [فصلت:2 ] وقوله تعالى: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}[السجدة:13] وقال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى}[طه:129] وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق}[النحل:102].
فأخبر سبحانه أنه منزل من الله ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه، بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك، ولهذا كان المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
فإن من قال إنه مخلوق يقول إنه خُلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها فمن ذلك المخلوق نزل وبدأ لم ينزل من الله، فإخبار الله تعالى أنه منزل من الله يناقض أن يكون قد نزل من غير الله، ولهذا فسر الإمام أحمد قوله (منه بدأ) أي هو المتكلم به، وقال أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن عنه.(1/274)
وأيضاً: فلو كان مخلوقاً في غيره لم يكن كلامه؛ بل كان يكون كلاماً لذلك المخلوق فيه، وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضى والغضب والمقت، وغير ذلك من الأمور لو كان مخلوقاً في غيره لم يكن الرب تعالى متصفاً به، بل كان يكون صفة لذلك المحل، فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفاً بصفة موجودة قائمة بغيره؛ لأن ذلك فطري فما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به وهذا مبسوط في مواضع أخر، ولم يقل السلف: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته}[آل عمران:164] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأ علّي القرآن فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه من سورة النساء حتى بلغت هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} قال: حسبك، فنظرت فإذا عيناه تذرفان من البكاء»(1).
والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة قال تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة:97].
وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين .على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين} [الشعراء:193-195]وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق}[النحل:102].
فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس ـ وهو الروح الأمين وهو جبريل ـ من الله بالحق.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير ح(4582).(1/275)
ولم يقل أحد من السلف: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من الله، وإنما قال ذلك بعض المتأخرين )... إلى قوله (ص 300): (وقد بين الله أنواع الوحي في قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء}[الشورى:51] فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحياً، وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى، وتارة يرسل رسولاً فيوحي الرسول بإذن الله ما يشاء. وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}[الحج:75] فإذا أرسل الله تعالى رسولاً كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به كما قال تعالى: {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} [التوبة:94] وإنما نبأهم بواسطة الرسول والرسول مبلغ به كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة:67] وقال تعالى: {ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم} [الجن:28] وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [العنكبوت:18]. والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه، ففي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، لما خطب المسلمين قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (1)»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «نَضَّر الله أمرأ سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، وفي السنن عن جابر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي»(2).
__________
(1) البخاري/ الحج ح(1741).
(2) الدارمي/ فضائل القرآن/ باب القرآن كلام الله2/317-ح3357.(1/276)
ثم قال ابن تيمية: (وكما أنه لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من (الأئمة الأربعة) ولا غيرهم؛ بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله.
ولما ظهر من قال: إنه مخلوق قالوا رداً لكلامه: إنه غير مخلوق ولم يريدوا بذلك أنه مُفْتَرَى، كما ظنه بعض الناس، فإن أحداً من المسلمين لم يقل إنه مفترى، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا إنه مخلوق خلقه الله في غيره، فردّ السلف هذا القول كما تواترت الآثار عنهم بذلك، وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود، وأول من عُرف أنه قال هومخلوق: الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان؛ وأول من عُرف أنه قال هو قديم: عبد الله بن سعيد بن كلاب)(1).
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي اقتطع منه الخليلي تلك الجزئية التي أوردها في كتابه هذا آخر (ص 152). ونص كلامه: (وقد صرح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقدمه).
وأقول: إن اعترافك بهذا القول وإثباتك له في هذا الفصل من كتابك إبطال لهذا الفصل كله، الذي جعلت عنوانه: تضارب القائلين بقدم القرآن (ص 126).
لأنك تثبت عن شيخ الإسلام أنه نقل عن الصحابة والتابعين أنه لم يصرح أحد بقدمه، ثم صببت جام غضبك في المناقشة على شيخ الإسلام وتطوف في المجلد الثاني عشر من الفتاوى له، الذي تقول إنه اشتمل على ستمائة صفحة وتنقل منه ما هو صريح في الرد على عنوان فصلك هذا.
__________
(1) الفتاوى لشيخ الإسلام (12/301).(1/277)
ثم إن شيخ الإسلام بين أن أول من عرف عنه القول بخلق القرآن الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف عنه القول أن القرآن قديم عبدالله بن سعيد بن كلاب، وهذا النص في الصفحة (301) التي نقل منها الخليلي قوله: (وقد صرح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقدمه).
وإذاً ففيم المناقشة لشيخ الإسلام ابن تيمية في (قدم القرآن) وهو لم يقل به؟! وإنما الذي قاله عبدالله بن سعيد بن كلاب ومن تبعه من الأشاعرة من أتباع الأئمة جميعاً الذين يرد شيخ الإسلام عليهم أقوالهم هذه. وذلك لأنهم ينفون عن الله عز وجل صفة الكلام ويسمون كلامه الكلام النفسي القائم بالذات. وأن (القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله). وأما القرآن الموجود في المصحف فيقولون عنه (إنه مخلوق).
ونختم الرد على هذا الفصل بما يأتي:
أ ـ اعتراف الخليلي بأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يقل (بقدم القرآن) وهذا رد على عنوان فصله: تضارب القائلين بقدم القرآن. لأنه ركز الفصل كله من (ص 126 ـ153) في الرد على شيخ الإسلام.
ب ـ بين شيخ الإسلام أن أول من عرف عنه القول: بقدم القرآن عبدالله ابن سعيد بن كلاب. وهذا هو قول الأشاعرة القدامى والمعاصرين.
ج ـ أن قول شيخ الإسلام هو ما سبق ذكره مراراً بسبب تكرار الخليلي للنقل عن شيخ الإسلام ردوده على القائلين بخلق القرآن صراحة وهم الجهمية والمعتزلة و(الخليلي) واحد منهم يقول بأقوالهم، وعلى الكلابية الآخذين بقول ابن كلاب من أشاعرة وغيرهم من أتباع الأئمة.
ثم نسبة الخليلي هذه الردود إلى شيخ الإسلام ظلماً وعدواناً، ويكرر في كتابه أنها أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وجميع علماء سلفه كما يقول في
(ص 150) ويسميه تضارباً.(1/278)
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في صفة الكلام لله وفي (القرآن) لا تضارب فيه مطلقاً، بل كلام متسق منتظم كالعقد، فقد ذكر أقوال الطوائف في صفة كلام الله وفي القرآن المخالفة لمذهب السلف فقال في (ص 173) من الفتاوى المجلد الثاني عشر: ((القول السادس) قول الجمهور وأهل الحديث وأئمتهم: أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء وأنه يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار والقرآن وغيره من الكتب الإلهية كلام الله تكلم الله بمشيئته وقدرته، ليس ببائن عنه مخلوقاً، ولا يقولون إنه صار متكلماً بعد إن لم يكن متكلماً، ولا أن كلام الله تعالى من حيث هو حادث، بل ما زال متكلماً إذا شاء، وإن كان كلم موسى وناداه بمشيئته وقدرته فكلامه لا ينفد كما قال تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}[ الكهف: 109] قال: ويقولون: ما جاءت به النصوص النبوية الصحيحة ودلت عليه العقول الزكية الصريحة فلا ينفون عن الله تعالى صفات الكمال سبحانه وتعالى؛ فيجعلونه كالجمادات التي لا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر فلا تكلم عابديها، ولا تهديهم سبيلاً، ولا ترجع إليهم قولاً، ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً).
هذا وقد عقد الخليلي الفصل الثالث من (ص 154- 162) أسماه «أدلة النافين لخلق القرآن» أورد فيه ما يريد، ورد عليها كما يريد، وقد أجملها في ستة أمور سنذكرها في الصفحات التالية فإلى ذلك الفصل.
الفصل الثالث (ص 154 –162)
عنوانه: أدلة النافين لخلق القرآن(1/279)
صدّر المؤلف الخليلي هذا الفصل بتمهيد بنى عليه حكماً ـ مدعياً على القائلين بنفي خلق القرآن أنه قولهم الذي بنوا عليه القول بنفي خلق القرآن ـ وهو افتراء عليهم، لأنه يركز في ردّه على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم، ثم ينسب إليهما ظلماً وافتراء أقوال الكلابية والأشعرية ومن يقول بقولهم، وهو افتراء في النسبة وظلم في الحكم، لأنه حكم مرتب على افتراء وبهتان.
لأن من نسب قولاً أو فعلاً لغير قائله أو فاعله فقد بهته.
ففي هذا التمهيد يقول في (ص154): (سبق في صدر هذا المبحث بيان الشبهة التي نشأ عنها القول بعدم خلق القرآن وسائر الكلام المنزل: وهي التباسه عند قائلي ذلك بصفة الكلام التي يراد بها نفي الخرس …) إلخ.
قلت: وهو يقصد بصفة الكلام التي يراد بها نفي الخرس ما ذكره في (ص 99- 100) في مقدمة البحث بعد أن ذكر صفة الخلق وأن القرآن والكتب المنزلة مخلوقة كسائر المخلوقات كما وضح ذلك في (ص101 – 103) ثم قال: (وأما الفرق بين الكلام النفسي وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة فهو أن الكلام النفسي صفة ذاتية لله تعالى يثبت بها كماله عز وجل?وينفي بها عنه صفة النقص، ذلك لأن إثبات الكلام نفي لضده وهو الخرس.(1/280)
قال: وذهبت المعتزلة إلى الاكتفاء في نفي الخرس عنه سبحانه بصفة القدرة، قال: ولعل بعض أصحابنا يرون هذا الرأي، وأصحابنا الذين أثبتوا الكلام النفسي اتفقوا مع الأشعرية في كونه يختلف عن سائر الكلام فهو ليس حروفاً ولا أصواتاً، ولا جملاً ولا كلمات تقوم بذاته عز وجل إذ ليس المراد به إلا انتفاء صفة الخرس عنه سبحانه). إلى أن قال في (ص 103): (ونحن عندما نتحدث عن خلق القرآن فإنما نتحدث عن هذا القرآن المتلو بالألسن المكتوب في المصاحف ـ السابق تعريفه ـ ولسنا نتحدث عن الكلام النفسي، إذ لم يقم شاهد من الكتاب نفسه ولا من السنة على تسميته قرآناً، وإنما اصطلحت الأشاعرة على تسميته بذلك، ولا مشاحة في الاصطلاح، غير أنهم لم يستندوا في اصطلاحهم هذا على شيء ثابت سماعه، فلذلك لم نعوّل عليه ونحن نثبت لله صفة الكلام كما قال الإمام ضياء الدين عبدالعزيز الثميني رحمه الله في معالمه: « اعلم أن الكلام يضاف تارة إلى الله تعالى على معنى نفي الخرس فيكون صفة ذات على ما مر في الصفات، وتارة يضاف إليه على معنى أنه فعل له فيكون فعلاً من أفعاله سبحانه، فمعنى كونه متكلماً على الأول أنه ليس بأخرس وعلى الثاني أنه خالق الكلام» وفي (ص 108) قال: (وقد استقريت أسباب اللبس في هذه المسألة حتى اشتد نكير طائفة من المسلمين على من قال بخلق القرآن فوجدته يعود إلى أمرين اثنين:
أولهما: التباس القرآن المنزل في أفهامهم بالكلام النفسي الذي يراد به نفي الخرس.
ثانيهما: التباسه بعلم الله سبحانه وتعالى به مع أن صفتي الكلام والعلم قديمتان).
قلت: إن ما ادعاه المؤلف الخليلي من أن الشبهة التي نشأ عنها القول بعدم خلق القرآن وسائر الكلام المنزل... إلخ.(1/281)
لا يقول بها أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة، ومن يقول بقولهم ويتبع نهجهم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم؛ لأن المؤلف الخليلي يركز في رده عليهما وهما يردان على من يدعي الكلام النفسي، ولا يعدان الكلام النفسي كلاماً، وإنما هذا قول الكلابية والأشعرية وقد اعترف المؤلف الخليلي بأن أصحابه الإباضية اتفقوا مع الأشعرية على إثبات ما يسمى بالكلام النفسي والأشعرية والكلابية -وكل الذين يقولون بالكلام النفسي -متفقون مع المعتزلة على أن هذا القرآن الموجود بين أيدينا مخلوق.
وهذا القول هو قول المؤلف الخليلي والمعتزلة بنص كلام الخليلي كما في (ص 117- 118) فقد نقل نصاً عن الفخر الرازي من تفسيره (27/ 187-188) ونصاً عن ابن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير» لسورة النساء (6/38) ثم قال: (ومن قول هذين الإمامين الأشعريين يتبين لك ثبوت ما قاله المحقق الخليلي(1) من أن موقف الأشعرية من هذا القرآن المنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، المتلو بالألسن، المحفوظ في الصدور، والمكتوب في الصحف، لا يختلف عن موقفنا وموقف المعتزلة وغيرهم القائلين بخلقه، وهذا الذي يعنيه الإمام نور الدين السالمي رحمة الله عليه حيث جعل الخلاف بيننا وبينهم لفظياً فحسب)(2) اهـ.
قلت: وهؤلاء هم الذين يرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية المعتزلة والإباضية -الذين يمثل المؤلف الخليلي بعضاً منهم- والأشاعرة الذين يقولون بالكلام النفسي؛ وأما القرآن الموجود في المصاحف المقروء بالألسن فإنهم جميعاً يقولون إنه مخلوق.
فكيف يستسيغ المؤلف الخليلي لنفسه أن ينسب كلام الأشاعرة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية؟ ثم يناقشه في كلام غيره. وهو الآن يثبت أن الأشاعرة يقولون بقوله في أن القرآن مخلوق، كما يقول بذلك المعتزلة، وأن الخلاف بينهم خلاف لفظي فحسب.
__________
(1) هو غير المؤلف الخليلي المردود عليه هنا.
(2) مشارق الأنوار (ص 245).(1/282)
وأقول: إن ما نسبه نور الدين السالمي الإباضي إلى أن الخلاف بينهم وبين الأشاعرة في القرآن المتلو بالألسن المحفوظ في الصدور المكتوب في الصحف خلاف لفظي وأن هذا القرآن الموجود في المصحف مخلوق، صحيح، وهو الذي يصرح به الأشاعرة المعاصرون ومنهم على سبيل المثال:
1ـ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد صرح به في كتابه (اليقينيات الكبرى) (ص 126) الطبعة الثامنة (1402 هـ) حيث قال: ((وأما الكلام الذي هو اللفظ، فاتفقوا ـ يعني الأشاعرة والمعتزلة ـ على أنه مخلوق وعلى أنه غير قائم بذات الله سبحانه باستثناء أحمد بن حنبل وبعض أتباعه... إلخ).
2ـ عبدالرحمن حبنكة الميداني: في كتابه (العقيدة الإسلامية وأسسها) (2/249) الطبعة الأولى (1385 هـ) قال: ((النوع الثاني ـ من الوحي ـ ما كان بواسطة إسماع الكلام الإلهي من غير أن يرى السامع من يكلّمه، كأن يخلق الله الأصوات في بعض الأجسام من حجر أو شجر، ومن هذا النوع ما كان لموسى عليه السلام حين مناجاته ربه في جانب الطور، وهذا النوع الثاني هو ما أشار إليه الله بقوله في الآية: {أو من وراء حجاب} أي: وحياً من وراء حجاب بواسطة خلق الله الأصوات كما ذكرنا أو بصورة أخرى يختارها الله عز وجل )).
قلت: ومناجاة موسى ربه من جانب الطور هو ما جاء في قوله تعالى:
{فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} [ القصص30] ومعنى هذا عند حبنكة الأشعري أن الشجرة التي خلق فيها الصوت وهو القرآن، قالت لموسى: إني أنا الله رب العالمين!.(1/283)
وبهذا يتضح لك أيها القارئ الكريم أن ما ادعاه المؤلف شبهة إنما هو شبهة عنده وعند من يقول بذلك من إباضية وأشعرية وكلابية، فهم عندما أدركوا أن نفي صفة الكلام عن الله نقص ـ وهي من صفات الكمال ـ لأن الله عز وجل قد نعى على بني إسرائيل الذين اتخذوا العجل إلهاً حيث وصفه الله عز وجل بصفات النقص التي يتنزه الباري عنها، ومنها أنهم اتخذوا ذلك إلهاً وهو لا يتكلم فقال: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين} [ الأعراف 148].
فنعى الله على بني إسرائيل ضلالهم وجهلهم وعبادتهم عجلاً اتخذوه إلهاً، وهم يرون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم إلى خير، فالذي لا يتكلم كيف يصح أن يكون إلهاً.
فلما رأى هؤلاء المنحرفون عن منهج السلف أن نفي صفة الكلام عن الله عز وجل نقص- لأن الكلام من صفات الكمال- لجأ الكلابية والأشاعرة وبعض الإباضية إلى ما يسمى (بالكلام النفسي) وأما ألفاظ القرآن فصرحوا بأنها مخلوقة.
وأما المعتزلة، فصرحوا بأن القرآن مخلوق ونفوا عن الله صفة الكلام وسيأتي ذكر شبهة القائلين بخلق القرآن التي سماها المؤلف الخليلي أدلة في (ص 163) من كتابه هذا وسنناقشها في موضعها إن شاء الله تعالى.
ثم إن المؤلف الخليلي وهو يذكر أدلة القائلين بنفي خلق القرآن
كما يراها هو ويختار منها ما يريد فيذكره ويرد عليه ولذا فقد اختار لهم ستة أدلة نقلية، حيث قال في (ص 154): (وبجانب ما ذكرته -ويعني به (نفي الخرس) الذي سبق الرد عليه- تعلق أصحاب هذا القول بأمور:(1/284)
أحدها: إن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم القرآن لا بخلقه حيث قال: {الرحمن علم القرآن} [الرحمن 1- 2 ] -ثم قال في الرد على هذا:-وهو كما ترى احتجاج سلبي بما لا ينص على عدم الخلق ولا يفهم منه ذلك بحال، فإن الامتنان بالتعليم لو كان دليلاً على عدم الخلق لاقتضى ذلك أن يكون البيان كله غير مخلوق لقوله سبحانه إثر ذلك: {خلق الإنسان. علمه البيان} [الرحمن 3-4] ولم يقل: خلق له البيان، وإنما الامتنان في الموضعين كان بالتعليم لا بالخلق لأنه منشأ الانتفاع بهما وقد امتن الله على عباده بتسخير المخلوقات لهم قال: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} [ الجاثية 13] فهل يقال بأن ذلك حجة على عدم خلق ما في السموات وما في الأرض).
فالحجة التي ذكرها لأهل السنة في أن القرآن كلام الله غير مخلوق هي هذه الآيات من كلام الله عز وجل : {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان} [ الرحمن 1-4 ] ثم اتبع هذا الدليل لنفاة الخلق عن القرآن بخمسة أدلة هي:
1ـ قوله: {ألا له الخلق والأمر}، 2ـ قوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق}، 3ـ الاستعاذة بكلمات الله التامات، 4ـ ما رواه أبو القاسم اللالكائي من قول علي بن أبي طالب للخوارج: ((ما حَكَّمت مخلوقاً))، 5ـ ما روي عن ابن عباس من إنكاره على من قال: ((ورب القرآن)).
وسنبدأ بالرد على ما جاء منه على الدليل الأول والجواب على رده يتلخص في الأمور التالية:
أولاً: أن هذا النص الذي رد به على استدلال أهل السنة والجماعة سلف الأمة وأتباعهم نقله من كتاب الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار المعتزلي (ص445).(1/285)
ثانياً: أن استدلال أهل السنة والجماعة سلف الأمة وأتباعهم بهذه الآيات من سورة الرحمن لأن الله فرق فيها بين القرآن والإنسان، فأخبر عن القرآن بالتعليم وعن الإنسان بالخلق، ويقررون في تفسيرهم أن هذه من أجل النعم وبدأ عز وجل بأجل نعمة أنعم بها على عباده وهي تعليمهم القرآن الذي هو مدار سعادة الدارين فقال: {الرحمن. علم القرآن}. قال قتادة: ((نعمة والله عظيمة))(1) ثم أتبع ذلك بنعمة الخلق فقال: {خلق الإنسان} ثم أتبع ذلك بنعمة ثالثة وهي تعليمه البيان الذي يكون به التفاهم ويدور عليه التخاطب، فلم يكن الاستدلال بالآية سلبياً كما يقول المؤلف الخليلي، وإنما هو استدلال إيجابي بكلام الله عز وجل وإخباره، ومن أصدق من الله قيلاً.
فهو الذي أخبر بتعليم القرآن، ثم أتبعه بخلق الإنسان، ولو كان القرآن مخلوقاً لقال الله عز وجل (خلق القرآن) ولكنه لم يخبر عنه بذلك في كلّ المواضع التي ورد فيها ذكر القرآن بجميع صيغ الإخبار عنه (بالخلق)، مع أنه أخبر تعالى في كل موضع ورد فيه ذكر الإنسان (بالخلق).
__________
(1) ابن جرير (27/114).(1/286)
يقول الإمام الكناني رحمه الله في مناظرته(1)لبشر المريسي بين يدي المأمون قال في كتاب الحيدة (ص 85) قال: ((إن الله أخبر في كتابه عن خلق الإنسان في ثمانية عشر(2) موضعاً ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه، وذكر القرآن في أربعة وخمسين(3)
__________
(1) وقد أثبت مناظرة الكناني لبشر المريسي بين يدي المأمون تلميذ الكناني ابن طيفور في كتابه «كتاب بغداد». (ص 47) الناشر مكتبة الخانجي الطبعة الثانية (1415هـ).
(2) الآيات التي ورد فيها ذكر خلق الإنسان هي قوله تعالى في سور النساء: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً} [ النساء 28 ] ثم إليك أرقام الآيات الأخرى: [ الحجر 26 ] ـ [ النحل 4 ] ـ [ السجدة 7 ] ـ [ الإنسان 2 ] ـ [ الانفطار 6-7 ] ـ [ مريم 67 ] ـ [ يس 77 ] ـ [الطارق 5 ] ـ [ الأنبياء 37 ] ـ [ الرحمن 3، 14 ] ـ [ التين 4 ] ـ [ المؤمنون 12 ] ـ [ المعارج 19 ] ـ [ العلق 2 ].
(3) الآيات التي ورد فيها ذكر القرآن ولم يخبر بخلقه ولا أشار إليه: ـ [ البقرة 185 ]
ـ [المائدة 101 ] ـ [ يوسف 2، 3 ] ـ [ الإسراء 82، 106، 102 ] ـ [ طه 2، 113] ـ [ الزخرف 31 ] ـ [ الحشر 31 ] ـ [ الإنسان 23 ] ـ [ الأنفال 19، 41 ] ـ [ الفرقان 32،6 ].
كما ورد ذكر إنزال الكتاب، وإنزال القرآن في عدد من الآيات ولم يشر إلى خلقه في موضع منها ولا إلى أي شيء من صفات الخلق من ذلك قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} [الإسراء 105] ـ [ النحل 89،102،101،44،24،30،40،91 ] ـ [ الكهف 18 ] ـ [ الحج 116 ] ـ [ الشعراء 193، 198 ] ـ [ البقرة 97،99،159 ] ـ [ الشورى 15،17] ـ [ ص 49 ].
{ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} [ البقرة 176 ] ـ [ النساء 136،140 ] ـ [ الأعراف 196 ] ـ [ الفرقان 25 ] ـ [ الزمر 23 ] ـ [ محمد 26 ].
نزلنا: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [ البقرة 23 ] ـ [ النساء 47 ] ـ [ الحجر 9 ].
{وننزل من القرآن ما هو شفاء} [ الإسراء 82 ] ـ [ الحديد 9،25 ] ـ [ المائدة 101 ]
ـ [ البقرة90،147، 170، 230، 231 ].
[ آل عمران 4،7 ] ـ [ النساء 61، 113، 136، 105 ] ـ [ المائدة 44، 45، 47، 48، 49،104] ـ [ الأنعام 93، 92، 155 ] ـ [ البقرة 41 ] ـ [ آل عمران 53 ] ـ [ يونس 94]
ـ [ الأنبياء 10 ] ـ [ النور 1، 34، 46 ] ـ [ العنكبوت 47، 51 ] ـ [ الزمر 2، 41 ] ـ [المجادلة 5 ] ـ [ الحشر 21 ] ـ [ إبراهيم 1 ] ـ [ الدخان 3 ] ـ [ القدر 1 ].(1/287)
موضعاً من كتابه، فلم يخبر عن خلقه في موضع منها، ولا أشار إليه بشيء من صفات الخلق، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد وأخبر عن خلق الإنسان ونفى الخلق عن القرآن فقال عز وجل:{الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان} [الرحمن 1- 3]، ففرق بين القرآن وبين الإنسان فزعم بِشْر أن الله عز وجل فرط في الكتاب، وكان يجب عليه أن يخبر عن خلق القرآن وقال الله - عز وجل -:{ما فرطنا في الكتاب من شيء} [ الأنعام 38])) اهـ.
فهل الخليلي يجرؤ فيقول أو يزعم كما زعم سلفه بشر أن في كتاب الله تفريطاً إذ لم ينص الله عز وجل فيه على خلق القرآن ولا في آية واحدة، وقد طلب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بين يدي المعتصم أن يأتي ابن أبي دؤاد بآية واحدة أو نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها النص على أن القرآن مخلوق وقد عجز أن يقدم شيئاً. فهل عند المؤلف الخليلي نص من الكتاب أو السنة على دعواه أن القرآن مخلوق وقد عجز سلفه ومن يعتز بالانتماء إليهم ـ الجهمية والمعتزلة ؟ـ وللقارئ الكريم أن ينظر في الآيات التي ذكرنا أرقامها في الحاشية التي أشار إليها الإمام الكناني رحمه الله والتي تشير إلى (خلق الإنسان) في كل موضع ورد ذكره فيه في كتاب الله عز وجل.
وينظر إلى بعض الآيات التي ورد فيها ذكر القرآن أو إنزال الكتاب أو الآيات البينات، وسيجد ما أشار إليه الإمام الكناني من أن الله عز وجل لم يخبر عن القرآن ولا في موضع واحد أنه خلقه أو ذكر ما يشير إلى شيء من صفات الخلق.
وأخيراً جمع الله بين القرآن والإنسان في موضع واحد، وأخبر عن خلق الإنسان ونفى الخلق عن القرآن فقال: {الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان}. فهل هذا الاستدلال سلبي كما يقول المؤلف الخليلي، أو استدلال إيجابي بما لا يدع مجالاً للشك عند أولي العقول النيرة المستضيئة بهدي الكتاب والسنة أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأنه عز وجل?يتكلم متى شاء وكيف شاء؟.(1/288)
وإنما الشك والشبه عند المؤلف الخليلي وأسلافه من الجهمية والمعتزلة الذين توهموا أنهم إذا أثبتوا لله ?عز وجل صفة الكلام فقد أثبتوا تعدداً في القدماء لوهمهم أن صفات الباري عز وجل?منفصلة عن ذاته.
كما صرح المؤلف بهذا في كتابه هذا (ص 104): (من أنه لو أثبت لله صفة الكلام لكانت التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن وجميع الوحي كله قديماً موجوداً في الأزل مع الله تعالى بهذه الألفاظ المخلوقة المحدثة على كثرتها... وهذا باطل إذ لا قديم سواه). فهذا تصور الخليلي، وهو تصور المعتزلة في إثبات الصفات لله عز وجل ومنها صفة الكلام، والخليلي يقول بقول المعتزلة في صفات الله تعالى ومنها صفة الكلام فهو كما ترى يتصور أن صفة الكلام منفصلة عن الله قائمة بذاتها.
فخوفاً من هذا الوهم حتى لا يثبت قدماء مع الله نفى صفة الكلام.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن صفات الباري قائمة به عز وجل فهو واحد أحد بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ومن صفاته (الكلام) فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء، وهو الذي كلم موسى عليه السلام حين جاء لمناجاته كما قال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} وقال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} ولم يؤثر عن أحد من السلف القول بخلق القرآن بل كلهم مجمعون أنه كلام الله - عز وجل -.(1/289)
وأن أول من أحدث القول بخلق القرآن في الأمة الإسلامية (الجعد بن درهم) وقد ضحى به خالد القسري في عيد الأضحى حيث قال في خطبته في عيد الأضحى: ((أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مُضَحّ (بالجعد بن درهم) حيث زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً)) ثم نزل وذبحه عند المنبر، ثم أخذ عنه مقالته الجهم بن صفوان، وهكذا أخذ المعتزلة هذه المقالة حتى زينوها للمأمون والمعتصم ومن بعدهما، وقد حمل المأمون والمعتصم العلماء عليها بالقوة كما هو معروف في (محنة القول بخلق القرآن)(1).
فالقائلون بخلق القرآن ـ ومنهم المؤلف الخليلي ـ هم أهل الشُبَه.
وأما أهل السنة سلف هذه الأمة وأتباعهم بإحسان فهم أهل الدليل الصريح من كتاب الله عز وجل والصحيح من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم المقيدين ذلك بفهم السلف الصالح للكتاب والسنة.
كما سيأتي تفصيل ذلك بعد الرد على المؤلف الشبه التي ظنها أدلة وسردها في فصله الرابع (ص 163) وسماها أدلة القائلين بخلق القرآن.
ولكن نتابع هنا ما سماه ـ بأدلة النافين لخلق القرآن.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية. 10 / 404 الطبعة الثانية دار المعرفة 1417 هـ(1/290)
وقد قرأت الرد على نفيه الاستدلال بآية سورة الرحمن التي فرق الله فيها بين القرآن والإنسان، حيث جمعهما في مكان واحد، فأخبر عن خلق الإنسان ونفى الخلق عن القرآن، فقال: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان} وقبل أن أكمل الرد على رده على الأدلة التي أجملها مدعياً أنها أدلة نفاة القول بخلق القرآن ورده لها، أرى أنه من المناسب أن أورد ما قاله الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير سورة الرحمن لأن المؤلف الخليلي قد نعى على الشوكاني تركه لعقيدته (الزيدية) وتأثره بعقيدة الحنابلة وما يسمى (بالعقيدة السلفية)كما يقول، حيث قال عنه في كتابه هذا (ص 145): (وقد أدرك ذلك أحد العلماء المتأخرين الذين تأثروا بعقيدة الحنابلة تأثراً أفضى به إلى التعصب الذي يجب على الباحث المسلم أن يكون بعيداً عنه، وهو الإمام الشوكاني الذي ترك عقيدته الزيدية واعتنق ما يسمى بالعقيدة السلفية، فقد قال في تفسيره المشهور: (ولقد أصاب أئمة السنة من امتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيهم عن الابتداع...) وما عدا هذا من النص الذي نقله عن الشوكاني فسيأتي عليه الجواب في محله.
ولكن المقصود هو نقل كلام الإمام الشوكاني من تفسير سورة الرحمن لقوله تعالى: {الرحمن .علم القرآن .خلق الإنسان}، لنعلم وجه الامتنان في تعليم الله تعالى القرآن، ثم خلقه الإنسان وليتضح زيف ما نقله المؤلف الخليلي في تفسير هذه الآيات عن القاضي عبدالجبار المعتزلي من كتابه (الأصول الخمسة) الذي سبق ذكره في رد الخليلي على الاستدلال بهذه الآيات التي فرق الله فيها بين القرآن وخلق الإنسان وكلها نعم من الله.(1/291)
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: ((قال الزجاج: معنى (علم القرآن): يسره))، وبعد نقله الأقوال عن العلماء قال: ((ولما كانت هذه السورة لتعداد نعمه التي أنعم بها على عباده قدم النعمة التي هي أجلها قدراً، وأكثرها نفعاً، وأتمها فائدة، وأعظمها عائدة، وهي نعمة تعليم القرآن، فإنها مدار سعادة الدارين، وقطب رحى الخيرين، وعماد الأمرين. ثم قال: ثم امتن بعد هذه النعمة بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ومرجع جميع الأشياء فقال: {خلق الإنسان}. ثم امتن ثالثاً بتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم ويدور عليه التخاطب، وتتوقف عليه مصالح المعاش والمعاد، لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر ولا إظهار ما يدور في الخلد إلا به، قال قتادة والحسن: المراد بالإنسان آدم، والمراد بالبيان أسماء كل شيء، وقيل المراد به اللغات...)) إلخ الأقوال التي نقلها.
ثم قال: ((والأولى: حمل الإنسان على الجنس، وحمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به))(1).
فنراه فرق بين القرآن، وخلق الإنسان، و تعليم البيان، وكلها نعم ولكن أعظمها القرآن الذي هو كلام الله.
هذا وقد أورد المؤلف الخليلي بعد الدليل الذي سبق ذكره من أدلة نفاة خلق القرآن خمسة أدلة وهي:
1ـ قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [ الأعراف 4].
2ـ وقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق}
[ الحجر 85].
3ـ الاستعاذة بكلمات الله التامات كما جاء في الحديث: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق».
4ـ ما رواه أبو القاسم اللالكائي عن الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه لما قيل له حكمت رجلين: (( ما حكمت مخلوقاً، ما حكمت إلا القرآن)).
5ـ ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر على رجل قوله:
((رب القرآن)).
وقد أجاب على هذه الأدلة التي اختارها بما يراه صواباً.
__________
(1) فتح القدير للإمام الشوكاني (5/128) مطبعة الحلبي.(1/292)
وحيث إن لنفاة الخلق عن القرآن أدلة غير ما ذكر المؤلف، وهو سيورد فصلاً خاصاً لأدلة القائلين بخلق القرآن، عقلية و نقلية، كما يقول تبدأ من
(ص 163 – 179) تحت الفصل الرابع.
فإننا سنورد أدلته على دعواه وبيان وجهة استدلاله. وبعد مناقشتها ودحضها إن شاء بما هو الحق، فسنورد عقبها أدلة النفاة لخلق القرآن، وضمن ذلك سنوضح الشبه التي استدل بها حسب زعمه في الرد على أدلة النفاة التي اختارها ورد عليها. وهي هذه الخمسة الأدلة التي سبق ذكرها، فإلى الفصل الرابع.
الفصل الرابع:
أدلة القائلين بخلق القرآن
وهو من (ص 163 - 179) وهو آخر بحث خلق القرآن وسوف يورد في هذا الفصل:
أ- أدلة من القرآن حسب زعمه وهي شبه.
ب- وأدلة من السنة وهي كذلك كما سيرى القارئ ذلك.
وسنبدأ بذكر أدلته من القرآن وبيان وجهة استدلاله بها، ثم مناقشة كل دليل مباشرة بأسلوب المناقشة العلمي إن شاء الله، ثم نتبع ذلك بأدلته من السنة. وفي كل ذلك نبين بالدليل نسبته أقوالاً لمن يرد عليهم ليست لهم مع بيان علمه بذلك الدليل من قوله إن شاء الله.
فنقول: إن المؤلف الخليلي يركز في رده على ـ الحنابلة ـ ولكنه يخص بالذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، هكذا يعبر عنهما وليته يقول الحق ولكنه يصدر هذا الفصل بتمهيدٍ، لا يقول بما جاء فيه سلفُ هذه الأمة ولا أتباعُهم ولا شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلميذُه ابن القيم ولا غيرهما، وإنما يورد كلام ابن كلاّب، والأشعرية ومن يقول بقولهم من أتباع المذاهب، وينسب أقوالهم لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا افتراء في النقل وظلم في النسبة والحكم، والله يقول: {ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}[المائدة 8](1/293)
ثم إن الخليلي يعيد هنا ما سبق أن ادعاه في الفصل الثالث الذي أسماه: (أدلة النافين لخلق القرآن) فيقول في التمهيد لهذا الفصل (ص163): (بعد ما سمعت أخي القارئ ما في هذه المسألة من خلاف وتبين لك بالمقارنة الدقيقة، الاضطراب الواضح في أقوال الذين أثبتوا للقرآن وغيره من كتب الله المنزلة صفة القدم وتبين لك ضعف ما يتشبثون به، أعرض عليك حجج الفريق الآخر وهم القائلون بأنه مخلوق).
والجواب على هذا التمهيد بما يأتي:
1ـ سبق ذكر كلام السلف (في القرآن) وأنهم لم يقولوا بقدمه كما نقل الخليلي ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ينسب إليه قول ابن كلاب ظلماً وافتراء، وإنما قولهم: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويقولون: إن الله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء، ولم يقل أحد من السلف أن القرآن قديم، فليس عند السلف وأتباعهم بإحسان اضطراب في إثبات صفة الكلام لله عز وجل، بل قولهم واحد وهو أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود.
2ـ وقد نقل المؤلف الخليلي هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية من كتابه الفتاوى من موضعين.
قال الخليلي في (ص149) نقلاً عن شيخ الإسلام من الفتاوى (12/54):(أن السلف قالوا: القرآن كلام منزل غير مخلوق، وقالوا: لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا: إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلاً منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء، فجنس كلامه قديم).
إلى هنا نقل الخليلي وترك تكملة النص وهو قوله: (فمن فهم قول السلف وفرّق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض) اهـ.(1/294)
وبهذا يتضح أن المؤلف الخليلي ينسب إلى شيخ الإسلام خلاف ما يصرح به وينقله عن السلف، وقد شهد الخليلي على نفسه بنقله هذا النص من الفتاوى وفيه قول شيخ الإسلام: (إن السلف لم يقل أحد منهم إن القرآن قديم، وأن السلف يفرقون بين صفة الكلام التي يثبتونها لله وهي من صفات الكمال، ويقولون أن الله عز وجل لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء ومتى شاء، فجنس الكلام قديم وأما الكلام المعين فلم يقل أحد بقدمه وإنما الله يتكلم متى شاء.
وقد تكلم بالقرآن كما تكلّم بغيره من الكتب المنزلة، كما قال تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} [ الكهف 109 ]، ولكن كما قال شيخ الإسلام في المقطع الذي تركه الخليلي (فمن فهم قول السلف)... إلخ. فيظهر والله أعلم أن الخليلي لم يفهم قول السلف، أو أراد أن لايفهم، وهذا هو الأقرب، فهو يرد القول عناداً بدليل أنه ينقل التصريح عن شيخ الإسلام بأن السلف لم يقولوا بقدم القرآن كما في هذا النص وفي النص الآخر الذي أثبته في هذه الصفحة من كتابه (ص 164).
فقد نقل من الفتاوى (12/301) النص التالي: (وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق، فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا مَنْ بعدهم مِن الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله، ولما ظهر من قال: إنه مخلوق قالوا رداً لكلامه: إنه غير مخلوق). إلى هنا نقل الخليلي، وترك تكملة النص لأنه لا يريد أن يسجل ما فيه على نفسه في كتابه ليراه أتباعه الذين يضللهم عن الحق. ولهذا فإني أقوم بتكملته للقارئ ليعرف من هو سلف الخليلي الذي هو أول من قال بهذه البدعة المنكرة في كلام الله عز وجل، وقد وجد جزاءه في الدنيا كما ترى ذلك في الحاشية.(1/295)
وتكملة النص كالتالي: (... ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس، فإن أحداً من المسلمين لم يقل إنه مفترى، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا إنه مخلوق خلقه الله في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: (منه بدأ وإليه يعود ) وأول من عرف أنه قال مخلوق: الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف أنه قال هو قديم: عبدالله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول(1).
__________
(1) فهؤلاء سلف المؤلف الخليلي فأما الجعد بن درهم فقد قتله خالد بن عبدالله القسري يوم عيد الأضحى لهذه البدعة الكفرية التي أصر عليها حيث قال بعد خطبة عيد الأضحى:" أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً ثم نزل فذبحه عند المنبر". البداية والنهاية (9/404)،كما أن الجهم مات مقتولاً سنة (128هـ).(1/296)
ـ وأقول: هل يجوز لمن يدعي العلم أن ينسب لآخر ما لم يقل؟ إن المؤلف الخليلي يُصِر على هذا المنهج، لأنه بنفسه ينقل عن شيخ الإسلام قوله: (( إن السلف لم يقل أحد منهم بقدم القرآن)) وأنه لم ينقل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا مَن بعدهم مِن الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وإنما قاله عبدالله بن سعيد بن كلاب ثم يصر على نسبة هذا الكلام إلى شيخ الإسلام، بل ويطلع على قوله في أن أول من قال (بقدم القرآن) عبدالله بن سعيد بن كلاب، وشيخ الإسلام يرد على ابن كلاب ومن يقول بقوله من الأشاعرة. فكل هذا يعرفه الخليلي ويخفيه ولكن من حكمة الله ودفعه عن المظلومين يُسّخِر الله الخليلي فيثبت على نفسه وبقلمه هذه الشهادة التي يُبرِئُ بها ابن تيمية فيما ينسب إليه؛ والإقرار على النفس سيد البينات. ثم إن المؤلف الخليلي استثقل أن يكمل النص الذي نقله عن شيخ الإسلام من الفتاوى (12/301)؛ لأن فيه التصريح بأول من قال: القرآن مخلوق، وهو الجعد بن درهم، وصاحبه الجهم بن صفوان؛ لأن هذين الاسمين. تعطي إيحاءً سيئاً في نفوس المسلمين، فأراد أن يتجنب ذلك وإن كان لا يأنف من الانتساب إلى الجهمية، فقد قال في أول هذا الكتاب (ص 32) في إنكاره رؤية المؤمنين ربهم وهم في الجنة: (وذهب إلى هذا أصحابنا الإباضية ـ وهو قول المعتزلة والجهمية والزيدية والإمامية والشيعة).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أول من قال (بقدم القرآن) عبدالله بن سعيد بن كلاب في صفحات كثيرة من المجلد (12) من الفتاوى ومن ذلك (ص 566 - 567)، ونقل ذلك الخليلي في كتابه هذا، وبهذا يظهر أن شنشنة المؤلف الخليلي على شيخ الإسلام ابن تيمية لا محل لها من الإعراب، لأنه ينقل عن شيخ الإسلام قول السلف من أنهم لم يقولوا (بقدم القرآن) وإنما يثبتون أن الله عز وجل متصف بصفة الكلام، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق.(1/297)
وهذا كافٍ في الرد على الخليلي كل افتراءاته على ابن تيمية؛ لأنه ينسب إليه ما لم يقل.
ولكن لنواصل مع المؤلف الخليلي فيما يدعيه أدلة على خلق القرآن، وهي في الحقيقة شُبَه لن تثبت أمام الحجج القاطعة من الكتاب والسنة، لأن الزبد يذهب جفاءً. فقد قال في (ص 163): إنه سيعرض حجج القائلين بخلق القرآن فقال: (وهي تنقسم إلى قسمين عقلية ونقلية: ثم قال ونبدأ بالعقلية وهي كما يلي:
1ـ الدليل الأول: إن تجويز تعدد القدماء منافٍ للوحدانية التي هي أخص صفاته تعالى، لأنه يفضي إلى جواز تعدد الآلهة، فإن الإله الحق سبحانه وتعالى إنما استحق الألوهية لسبقه على كل شيء في الوجود، فلو كان له مقارن في الأزلية لجاز لذلك المقارن أن يشاركه في الألوهية، إذ لا يمنع مانع من كونه خالقاً رازقاً مدبراً حكيماً).
والجواب على هذه الشبهة التي أوقعت المؤلف الخليلي في (( نفي صفة الكلام عن الله عز وجل )) ودعوى أن القرآن مخلوق. هي شبهة المعتزلة بعينها التي جعلتهم ينفون عن الله عز وجل جميع الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة الثابتة، ورسول الله أعلم الناس بالله وأتقاهم وأخشاهم له. ولكن المعتزلة -والمؤلف الخليلي يقول بقولهم- تصوروا بعقولهم القاصرة، معرضين عن هدي كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا أثبتوا لله عز وجل تلك الصفات ومنها (صفة الكلام) فقد أثبتوا قدماء مع الله عز وجل ، وهذا فيه إثبات مقارن قديم لله عز وجل في الأزل فيكون هناك تعدد الآلهة؛ لأن القدم أخص وصف لله، هكذا يقولون.
وسبب ذلك أنهم تصوروا بعقولهم الضالة عن هدي الكتاب والسنة، المنحرفة عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أن هذه الصفات قائمة بذاتها منفصلة عن الله تعالى، ولم يوفقوا إلى القول الحق وهو أن هذه الصفات كلها قائمة بذاته عز وجل غير منفصلة عنه.(1/298)
فالله عز وجل واحد أحد، فرد صمد، هو الأول والآخر بصفاته، فهو السميع البصير، الحي القيوم، العليم الحكيم، القادر القوي، المتكلم متى شاء وكيف شاء، كما قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} فهذه الأسماء والصفات قائمة به تعالى غير منفصلة عنه وفي صحيح البخاري «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة »(1)، وله أسماء لا تعد ولا تحصى، وكلها لها معاني دلت عليها وليست أسماء مجردة كما يقول المعتزلة، فالله يقول في كتابه العزيز: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فالمسلمون يدعون الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا دعاء عبادة ودعاء مسألة، ويفرقون بين معاني هذه الأسماء في دعائهم. ولِفَهْم المعتزلة الفاسد ومثلهم المؤلف الخليلي في نفي صفات الله عز وجل سمى المعتزلة أنفسهم: أهل التوحيد وهو أحد أصولهم الخمسة، وتوحيدهم هو نفي جميع الصفات عن الله عز وجل وإثبات الأسماء مجردة عن المعاني التي دلت عليها.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (13/344) بعد ذكره للفرق الضالة عن طريق الحق والصواب، فعدد منهم الجهمية، والخوارج، والرافضة، والمعتزلة.
ثم قال: (وهؤلاء الفرق الأربع هم رؤوس المبتدعة، وقد سمى المعتزلة أنفسهم (أهل العدل والتوحيد) وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه ومن شبه الله بخلقه أشرك، قال: وهم في النفي موافقون للجهمية.
__________
(1) صحيح البخاري، ح (7392).(1/299)
قال: وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل(1).
قال: أبو القاسم التميمي في كتاب (الحجة): (( التوحيد مصدر وحّد يوحد، ومعنى وحدت الله اعتقدته منفرداً بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه))اهـ. وهذا توحيد الربوبية.
وقال الشهرستاني في الملل والنحل (1/143- 145): (قال: ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، والذي يعمّ طائفة المعتزلة من الاعتقاد القول: بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به، لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية، واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل) اهـ.
قلت: وهذا هو كلام المؤلف الخليلي بعينه كما سبق ذكره والرد عليه، وبيان فساده ومخالفته لنصوص الكتاب والسنة والفطر السليمة، فإن لكل ذات صفات وصفاتها قائمة بها غير منفصلة عنها، حتى المخلوق نفسه، فإن الإنسان يتصف بالسمع والبصر والقدرة والحياة، وبصفة الكلام إن لم يكن مصاباً بآفة الخرس، ولم يقل عاقل يعرف ما يقول أن صفة من صفاته منفصلة عنه قائمة بذاتها.
2ـ قال: الدليل الثاني: (أن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه...) إلخ.
وقد سبق الجواب على مسألة القدم وبيان أن السلف لم يقولوا بقدم القرآن وإنما قالوا: أن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء، وأن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأن أول من قال: بخلق القرآن (( الجعد بن درهم)).
__________
(1) وفي صحيح البخاري كتاب التوحيد/ باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى، وساق حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن. وفي شرح الباب قال ابن حجر رحمه الله: ((المراد بتوحيد الله تعالى: الشهادة بأنه إله واحد))، فتح الباري (13/360).(1/300)
وأول من قال: بقدم القرآن عبدالله بن سعيد بن كلاب، وبهذا يتبين أن المؤلف يأخذ كلام أهل البدع في القرآن وينسبه للسلف وأتباعهم ظلماً وافتراء.
3ـ ثم يقول: إن آثار الصنعة بادية عليه، فإن كل حرف منه يفتقر إلى غيره لتتألف منها كلماته. ثم يقول: وهو بهذا التركيب صنعة دالة على الصانع، والصانع لابد أن يتقدم المصنوع... الخ.
والجواب على هذا الادعاء: أنه لا فرق بينه وبين من ادعى أنه مثل كلام البشر، لأنه لا يفهم من صفات الخالق إلاما يفهمه من صفات المخلوق، ثم يعبر بما قام في ذهنه بأن الصفة منفصلة عن الموصوف، ولهذا يقول: إن القرآن مصنوع والصانع لابد أن يتقدم على المصنوع، وأهل السنة يقولون القرآن المسموع بالآذان المتلو بالألسن المحفوظ في الصدور كلام الله بحروفه ومعانيه، تكلّم الله به حقيقة، وسمعه منه جبريل، ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة الكلام قائمة بذات الله تعالى وقد تقدم الكلام عن ذلك.
4ـ الدليل الرابع: أنطقه الله بما هو دليل عليه فهو يقول: (جواز تعليله كما تعلل سائر أفعاله تعالى فيقال: كلّم الله موسى ليصطفيه على غيره بهذه المزية).
ونقول له: نعم إنه كلم موسى عليه السلام ليميزه على غيره، ولهذا قال له آدم في محاجته: (( أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده))(1).
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب وفاة موسى ح (3409)، وكتاب التوحيد باب ما جاء في قوله - عز وجل -:{وكلم الله موسى تكليماً} ح(7515).
ومسلم كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام.ح2652.(1/301)
ولم يعرف أحد من البشر من الكلام إلا الذي يسمعه من المتكلم به، ونقول للخليلي: فهذا أبوك وأبو البشر جميعاً آدم عليه السلام يقول لموسى عليه السلام: إن الله اصطفاه بكلامه ليميزه على غيره، كما قلت فهل تقبل كلامه وفهمه لمعنى الكلام؟؛ لأن موسى عليه السلام قال لآدم: (( أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده))، فقبل آدم كلام موسى وصدقه لأن الله ميز آدم على غيره بأن خلقه بيده.
ونقول للخليلي هل تقبل ما قبله آدم عليه السلام فتثبت لله عز وجل صفة اليد كما قال موسى عليه السلام.
5ـ الدليل الخامس: وهو كالرابع؛ دليل عليه لا له فيقول: (إقترانه بالزمان نحو قوله: (وكلم الله موسى عندما ذهب إلى الطور).
ونقول نعم: هو كما قلت كلم الله موسى عليه السلام عندما ذهب إلى الطور كما في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني...} [ الأعراف 142 - 143 ].
فنص الآية صريح في أن الله عز وجل كلم موسى عليه السلام في الوقت الذي حدده الله لموسى وهو تمام أربعين ليلة، فكلمه ربه بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه، وقد سمع موسى كلام ربه وطمع أن يزيده تشريفاً برؤية الله عز وجل فطلب منه النظر إليه، وسمع الله عز وجل طلب موسى منه ذلك فقال له: لن تراني أي لن تقدر على رؤيتي في الدنيا. لأن الله تعالى تجلى للجبل وهو جماد وأقوى بنية من موسى عليه السلام فجعله دكاً.(1/302)
وكونه كلمه في هذا الزمن المحدد هو معنى قول أهل السنة والجماعة إن صفة الكلام قائمة بالله عز وجل وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء مع من شاء، وقد تكلم مع موسى عليه السلام وميزه على غيره من الأنبياء بهذه الميزة ـ كما سبق توضيح ذلك في الدليل الرابع وذكرنا أن آدم عليه السلام احتج على موسى بأن الله عز وجل اصطفاه بكلامه.
فإذا كان كلام الله كله مخلوقاً -كما يقول الخليلي- فأي ميزة لموسى عليه السلام على غيره؟ وقد قرر الخليلي في الدليل الرابع ـ أن الله ميز موسى على غيره بتكليمه له.
حيث قال في (ص 164): (فيقال: كلم الله موسى ليصطفيه على غيره بهذه المزية)، هذا كلام الخليلي الذي يصرح به.
6ـ الدليل السادس من الأدلة العقلية وهو آخرها قال: (إن حروف القرآن هي نفس الحروف التي ينتظم منها كلام العرب نثره ونظمه، وسجعه ومرسله، رجزه وقصيده، ويشاركه فيها سائر كلام البشر، فإن كان القرآن قديماً لزم قدم كلام الناس لتركب كلامهم من هذه الحروف بعينها...).
قلت: وهذه العبارة التي يكررها دائماً، وهي القول بقدم القرآن سبق الجواب عليها، وهو أن السلف لم يقل أحد منهم إن القرآن قديم، كما لم يقل أحد منهم إنه مخلوق، وإن أول من قال: إنه مخلوق الجعد بن درهم.
وأول من قال: إنه قديم. عبدالله بن سعيد بن كلاب.
وإنما كانوا يقولون رداً على من ادعى أنه مخلوق: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. وقد نقل الخليلي هذا الكلام عن شيخ الاسلام ابن تيمية مراراً وتكراراً فلماذا يعيده؟.(1/303)
وقد جاء في السنن عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي»(1)، ولهذا نقول للمؤلف الخليلي: إن التعبير بالقدم هو قول ابن كلاب وأنت تنسبه لشيخ الاسلام ابن تيمية افتراء ثم ترد عليه، فاتق الله في نفسك فإن الله محاسبك.
ونقول: إن القرآن الكريم تكلم الله به حقيقة وهو كلام عربي بلسان عربي مبين كما قال الله تعالى: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [ النحل 103].
فالقرآن المنتظم في المصحف عربي، وحروفه ومعانيه كلام الله عز وجل، وقد تحدى الله العرب الذين نزل القرآن بلغتهم أن يأتوا بسورة من مثله كما في سورة البقرة آية 22 .
أو بعشر سور مثله كما في سورة يونس آية 13 ثم قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} [ الإسراء 88 ] فهذا كلام الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، وقد تحدى العرب الذين نزل هذا القرآن بلغتهم فعجزوا عن معارضته.
__________
(1) التوحيد لابن منده (3/169) رقم (617)، والدارمي كتاب فضائل القرآن باب القرآن كلام الله (2/317) رقم (1357)، الفتاوى (12/301)، وقد رجع إليها الخليلي.(1/304)
وبهذا يظهر للقارئ الباحث عن الحق أن أدلة المؤلف الخليلي العقلية التي أوردها للاحتجاج بها على أن القرآن مخلوق إنما هي شبه قامت بذهنه، ولهذا لم يصح له منها دليل واحد، بل هي أدلة عليه وليست له، فقد صرح فيها بأن الله عز وجل كلّم موسى عليه السلام، وهذا هو الذي يقوله أهل السنة والجماعة، كما صرح بأن ذلك التكليم من الله لموسى عليه السلام ليصطفيه على غيره بهذه الميزة، وكفى بهذا التصريح حجة ودحضاً لشبهته، وفيما يلي شهادة عليه من عالم إباضي هو العلامة المحقق البسيوي -كما يصفه الخليلي {وشهد شاهد من أهلها}-، ولكنه يرد على الخليلي بالدليل العقلي أن كلام الله صفة من صفات الله غير مخلوق.
قال في (ص 75) في سياق إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق:
(وسأل وقال: كلام الله مخلوق أو غير مخلوق؟
قيل له: قد اختلف الناس في ذلك، فقال قوم: إن كلام الله مخلوق، وقال آخرون ـ وهم أكثر الأمة ـ : إن كلام الله ليس بمخلوق، ووقف واقفون.
قال: وكلام الله تعالى من صفاته، وصفاته لم تزل له، ولو جاز لقائل أن يقول: إن الله لم يكن متكلماً ثم تكلم، لجاز لقائل أن يقول: لم يكن عالماً ثم علم، فلما فسد هذا القول على قائله، وكان الإجماع أن الله لم يزل الرحمن الرحيم، الحي العالم القادر السميع البصير المتكلم، فسد قول من يقول: إن كلام الله مخلوق إذ هو العالم، والكلام صفته، فدل بذلك أن كلامه غير مخلوق)(1).
فماذا يقول الخليلي في شهادة هذا العالم الإباضي أبي الحسن البسيوي، وقد شهد له الخليلي بأنه العلامة المحقق؟.
__________
(1) هذا كلام العالم الإباضي أبي الحسن البسيوي في كتابه الجامع (1/75) الذي قدم لمختصره الخليلي نفسه، وأثنى عليه، وتمنى على الله أن ينشر أصله الذي هو هذا، وطبعته وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان سنة (1404هـ)، فماذا يقول الخليلي في شهادة البسيوي؟.(1/305)
ثم تابع الخليلي ذكر أدلته فقال في آخر (ص165) -وهي كما سيظهر شبه وليست أدلة، فقد عجز عن تقديم دليل صريح من الكتاب والسنة على أن القرآن مخلوق شيوخ المعتزلة حين ناظروا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بين يدي الخليفة المعتصم- وإليك ما يدعيه أدلة نقلية حيث قال: (وأما الأدلة النقلية: فبعضها من القرآن وبعضها من السنة.
قال: أما من القرآن فكثيرة وإنما أقتصر منها على مايلي:
1ـ قوله تعالى: {خالق كل شيء} [ الأنعام 102 ] و [ الرعد 16 ]
و [ الزمر 62 ] و [ غافر 62 ]، ثم قال: ووجه الاستدلال به أن القرآن إما أن يكون شيئاً أو لا شيء، فإن لم يكن شيئاً فعلام الاختلاف إن كان المختلف عليه معدوماً؟ وما الذي أنزله الله وفصّله وأحكمه إن كان غير واقع على شيء، وإن كان شيئاً فما الذي يخرجه من هذا العموم؟
وأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة كما في المثل المعروف، ذلك أن هذا الاستدلال هو بعينه استدلال بشر المريسي على الإمام (عبدالعزيز الكناني) وقد سبق ذكره، ولكن لهذه المناسبة لا بد من إعادته ليعرف القارئ الكريم أن المؤلف الخليلي يردد حجج المعتزلة التي دحضت منذ قرون طويلة وقد قضي على تلك الفتنة التي فرقت كلمة الأمة.
والمؤلف الخليلي ينعي على الذين يشتتون كلمة الأمة ويقول: إن الذين أدخلوا هذه الأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية هم الذين تقمصوا لباس الإسلام ومثّل بأبي شاكر الديصاني اليهودي كما في (ص106) من كتابه هذا، ثم هو الآن يثير هذه الفتنة ويحييها من جديد بنشره لكتابه هذا، وكما قلت: إن ما قاله المؤلف الخليلي هو بعينه الذي قاله بشر المريسي للإمام عبدالعزيز الكناني. وإليك نص المناظرة والدليل الذي بدأ بذكره بشر هو الذي بدء به الخليلي.(1/306)
قال بشر للكناني: (تقول القرآن شيء أم غير شيء. فإن قلت: إنه شيء أقررت أنه مخلوق، إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل، وإن قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت، لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه وأن حجة الله ليس بشيء).
وبعد أن رد الكناني على هذا الأسلوب الإلزامي وهو إصدار الحكم قبل أن يسمع كلام من يناظره حتى يسلم لقوله أو يرده، وبعد ذلك يحكم عليه بالكفر أو غيره وهو أسلوب مخالف لأسلوب المناظرة، لكن الكناني بعد أن ردّ هذا الاستدلال بهذا الأسلوب الذي اتبعه بشر قال: (إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يَتَسَمَّ بالشيء ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً منه للزنادقة والدهرية ومن تقدمهم، ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} [ الأنعام 19 ]، فدل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء، وأنزل في ذلك خبراً خاصاً مفرداً لعلمه السابق أن جهماً وبشراً ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه ويشبهون على خلقه ويدخلونه وكلامه في الأشياء المخلوقة قال عز وجل : {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيباً لمن ألحد في كتابه وافترى عليه وشبهه بخلقه. قال عز وجل: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذي يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [ الأعراف 180 ].
ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسمّ بالشيء ولم يجعله اسماً من أسمائه،(1/307)
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»، ثم عدها فلم نجده جعل الشيء اسماً لله عز وجل، ثم ذكر جل ذكره كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بمثل ما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه من ذاته وأنه صفة من صفاته(1) فقال الله عز وجل: {وما قدروا الله حق قدره إذْ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} [ الأنعام 91 ].
فذم الله اليهودي حين نفى أن تكون التوراة شيئاً، وذلك أن رجلاً من المسلمين ناظر رجلاً من اليهود بالمدينة، فجعل المسلم يحتج على اليهودي من التوراة بما علم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نبوته فيها حتى أثبت نبوته صلى الله عليه وسلم من التوراة فضحك اليهودي وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل تكذيبه وذم قوله وأعظم فريته حين جحد أن يكون كلام الله شيئاً ودل بذلك على أن كلامه شيء ليس كالأشياء، كما دل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء، ثم قال في موضع آخر: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء} [الأنعام:93]، فدل بهذا الخبر أيضاً على أن الوحي شيء بالمعنى وذم من جحد أن كلام الله شيء، فلما أظهر الله عز وجل اسم كلامه لم يظهره باسم الشيء فيلحد الملحدون في ذلك ويدخلونه في جملة الأشياء المخلوقة، ولكنه أظهره عز وجل باسم الكتاب والنور والهدى ولم يقل: قل من أنزل الشيء الذي جاء به موسى فيجعل الشيء اسماً لكلامه.
وكذلك سمى كلامه بأسماء ظاهرة يعرف بها فسمى كلامه نوراً وهدى وشفاء ورحمة وحقاً وقرآناً، وأشباه ذلك لعلمه السابق أن جهماً وبشراً ومن يقول بقولهما أنهم سيلحدون في أسمائه وصفاته التي هي من ذاته وسيدخلونها في الأشياء المخلوقة)اهـ(2).
__________
(1) وهي: صفة ذات وفعل.
(2) كتاب الحيدة للكناني (ص 33، 35-36).(1/308)
وأما قول الخليلي: (وإن كان شيئاً فما الذي يخرجه من هذا العموم)؟ يعني قوله في الآية: {خالق كل شيء}. فقد سبق قول الإمام الكناني في الرد على بشر المريسي أن الله أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه لأن كلامه عز وجل صفة من صفات ذاته وهي صفة ذات وفعل، والله عز وجل بصفاته خالق غير مخلوق كما قال تعالى جواباً للمشركين الذين سألوا رسول الله (أن ينسب لهم ربه فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد}.
فالذي يخرج كلام الله عز وجل من عموم كل: أن كلامه صفة من صفاته، ومن قال: إن صفة من صفات الله مخلوقة فقد كفر.
فعموم (كُلِّ) يشمل كل المخلوقات التي خلقها الله بكلامه كما قال تعالى:
{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [ يس 82 ]. كما أن عموم كُلّ لا يشمل كل شيء وإنما يكون بحسبه في السياق وقد دل على ذلك القرآن الكريم قال تعالى في وصف الريح التي دمرت قوم عاد: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم .تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم...} [ الأحقاف 24- 25 ] فمساكنهم شيء ولم يشملها عموم كل بنص الآية: {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} فلم تدمرها الريح التي دمرت كل شيء.
وكذلك في قوله تعالى في قصة ملكة سبأ كما حكى الله عز وجل قول الهدهد الذي توعده سليمان عليه السلام بالعذاب قال تعالى: {فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} [ النمل 22- 23 ].(1/309)
فقوله: {وأوتيت من (كل) شيء}، يعني: يؤتاه الملوك، ولكنها مع ذلك لم تؤت ملك سليمان الذي سخر الله له الطير والجن والريح، وهي أشياء، ولم يشملها عموم {كل شيء} كما يدعي الخليلي ومن سبقه، فتبين بهذا أن لا دليل له في هذه الآية الكريمة على خلق القرآن الكريم لا نصاً ولا عموماً، وإنما هي شبهة داحضة كالسراب يحسبه الضمآن ماءً.
وقد رد على هذا الاستدلال العالم الإباضي، أبو النضر في قصيدته التي سبق بعض أبياتها ومنها قوله:
ولئن نكصت وقلت شيء محدث
والله أحدث كل شيء فانِ
جئناك في رفق بأيسر حجة
بالشيء مختصاً من القرآن
في ملك بلقيس وما قد أوتيت
من كل شيء نازح أو داني
لم تؤت مما قبلها أو بعدها
شيئاً فكن ذا خبرة وبيان
وستجد القصيدة كاملة في الملحق رقم (1) ورقم (2).
وبعد أن سرد الخليلي بعض الآيات التي فيها لفظ الخلق لكل شيء كقوله تعالى:
1ـ {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [ الفرقان 2 ].
2-{إنا كل شيء خلقناه بقدر} [ القمر 49 ].
وهي كالآية السابقة تشمل عموم كل شيء مخلوق، ولا تشمل القرآن الكريم الذي هو كلام الله وكلامه صفة من صفاته وبه خلق الأشياء. فإنه خلق كل شيء بقوله (كن) فكان كما أراد الله - عز وجل -.
وفي (ص 166) انتقل إلى دليل آخر من القرآن وهو (الجعل) فقال:
(3ـ قوله تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [ الزخرف 3 ].
ثم قال: ووجه الاستدلال به من وجهين:
أولهما: الإخبار عنه أنه مجعول، والمجعول هو المصيّر من حال إلى حال، وهذا لا يكون إلا في المخلوق.
ثانيهما: تعليل جعله عربياً بقصد عقل المخاطبين له).
وقال في (ص 169): (فمعنى (جعل) أينما وجد، خلق ودبّر وأحدث، وأنشأ، وكل ذلك بمعنى واحد وإن اختلفت ألفاظه). قال: ومثل هذه الآية سائر الآيات الناصة على أنه مجعول كقوله تعالى: {ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} [ الشورى 52 ].(1/310)
ثم قال: وقد شرح حجية الجعل على ثبوت الخلق الإمام محمد بن أفلح رضي الله عنه بقوله: ((إن الأمة اجتمعت على أن كل فاعل قبل فعله، وأن الجاعل قبل المجعول، وأن الصانع قبل صنعه، وأن الجاعل غير المجعول، فلما ثبت بينهما التغاير والقبل صح أنهما شيئان وأن الأول المتقدم هو الجاعل القديم، والثاني المجعول هو الحادث الكائن بعد إن لم يكن )). بعد هذا النص قال في الهامش المرجع السابق.
قلت: وقد سبق في هامش (ص 165) بعد ذكر الحجج العقلية والنقلية حسب دعواه قال في الهامش من الصفحة المذكورة: (هذه الحجج ملخصة ـ مع زيادة وتهذيب من رسالة الإمام محمد بن أفلح بن عبدالوهاب الرستمي رحمه الله تعالى (في خلق القرآن)... إلخ).
ثم سرد بعد ذلك عدداً من الآيات التي ورد فيها ذكر الجعل مثل قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} [ الأنعام 1 ]، {وجعل منها زوجها}
[ الأعراف 189 ]، {وجعل الشمس سراجاً} [ نوح 16 ]، {وجعلنا الليل والنهار آيتين}، [ الإسراء 12 ]، يستدل بها: على أن معنى (جعل) خلق.
ومعلوم أن هذا التلبيس لجأ إليه المؤلف الخليلي عند عجزه عن إيراد نص صريح من كتاب الله يدل على أن القرآن مخلوق، وقد أخذ هذا التلبيس عمن قبله من المعتزلة ومن أخذ بقولهم، لأن الخليلي أخذه عن محمد بن أفلح وهو مأخوذ من تركة مَنْ أدخلوا هذه الأفكار الغريبة والعقائد الفاسدة على المسلمين، ثم راجت على بعضهم فقبلها منهم ظناً منه أنهم على شيء، لأنهم لبسوا لباس التنزيه لله عز وجل عن مشابهة المخلوقين وكل مسلم عقيدته التنزيه لله عز وجل.
وإليك أيها القارئ الكريم الباحث عن الحق ذكر أوّل من بدأ بهذا التلبيس عند عجزه عن تقديم نص صريح من كتاب الله عز وجل يدل على أن القرآن مخلوق.(1/311)
إن أول من ادعى أن (جعل) في القرآن الكريم وفي لغة العرب لا تأتي إلا بمعنى (خلق) هو بشر المريسي حينما ناظر الإمام عبدالعزيز الكناني بين يدي المأمون، فأول ما بدأ به قوله تعالى: {الله خالق كل شيء}، وبعد أن دحضت حجته في الاستدلال بهذه الآية كما دحضت حجة الخليلي هنا لأنه أخذ ذلك عنه، انتقل للاستدلال بكلمة (جعل) مثل ما عمل الخليلي هنا فهو يتبعه حذو القذة بالقذة.
فقال بشر للكناني: ((قد خطبت وتكلمت وهذيت وتركتك حتى تفرغ مما ادعيت من إبطال (خلق القرآن) بنص التنزيل ومعنا من كتاب الله آية لا يتهيأ لك معارضتها ولا دفعها ولا التشبيه فيها قال تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} [ الزخرف 2 ].
فقال الكناني: لا أعرف أحداً من المؤمنين إلا وهو يؤمن بهذا ويقول: إن الله جعل القرآن عربياً ولا يخالف ذلك فأي شيء في هذا من الحجة لك والدليل على خلقه؟.
فقال بشر: وهل في الخليقة أحد يشك في هذا أو يخالف عليّ فيه أن معنى جعلناه خلقناه؟.
فقال الكناني: فقلت لبشر: أخبرني عن (جعل) هذا حرف محكم لا يحتمل غير الخلق.
فقال بشر: نعم هو حرف محكم لا يحتمل معنى غير الخلق، وما بين جعل وخلق فرق عندي، ولا عند غيري من سائر الناس، ولا عند أحد من العرب ولا من العجم... إلخ.
قال الكناني: فقلت: أخبرني بإجماع الخلق بزعمك على أن معنى جعل وخلق لا فرق بينهما في هذا الحرف وحده أو في سائر القرآن من الجعل؟.
قال: بل في سائر القرآن من ذلك وفي سائر الكلام والأخبار والأشعار.
قال الكناني: فقلت لبشر: زعمت أن معنى جعلناه خلقناه قرآناً عربياً.
قال: نعم هكذا قلت وهكذا أقول أبداً.
قال الكناني: فقلت: الله عز وجل تفرد بخلقه ولم يشاركه فيه أحد، أو شاركه في خلقه أحد.
قال: بل الله خلقه وتفرد بخلقه ولم يشاركه في خلقه أحد)).
ثم بعد ذلك وجه الكناني لبشر عدداً من الأسئلة نذكر بعضها فيما يلي: فمن تلك الأسئلة قوله:(1/312)
((قلت لبشر: أخبرني عمّن قال: إن بعض ولد آدم خلقوا القرآن من دون الله أمؤمن هو أم كافر؟
فقال: بل كافر حلال الدم... إلخ.
قلت: فأخبرني عمّن قال إن التوراة خلقها اليهود من دون الله تعالى أمؤمن هو أم كافر؟
قال: بل كافر حلال الدم.
قلت: فأخبرني عمّن قال: إن بني آدم خلقوا الله، وأن الله أخبر بذلك أمؤمن هو أم كافر؟
قال: بل كافر حلال الدم.
قلت: فأخبرني يا بشر أليس الله خلق الخلق كلهم أجمعين؟
قال: بلى.
قلت: فهل شاركه في خلقهم أحد؟
قال: لا.
قلت: فمن قال: إن بعض بني آدم خلقوا الله أمؤمن هو أم كافر؟
قال بل كافر حلال الدم)).
وبعد أن انتهى من إيراد الأسئلة التي من هذا النوع بدأ بالجواب ليبين أن (جعل) في القرآن الكريم ترد لمعاني أخرى، وليست مقصورة على معنى (الخلق) وبيَّن بالأدلة عدم صِحَة دعوى بشر من أنه لا فرق بينها وبين خلق كما يدعي بشر، وأن من قصرها على معنى الخلق فقط فإنه يقع في أخطاء فضيعة تؤدي بمن يعتقدها إلى الكفر بالله عز وجل .
ثم أورد الآيات بعد ذلك التي فيها لفظ (جعل) وهي تؤدي بمن اعتقد أنها بمعنى خلق إلى الكفر بالله ?فقال: قال الله عز وجل: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} [ النحل91 ] قال: ((ومعنى ذلك عند بشر ومن يقول بقوله: وقد خلقتم الله عليكم كفيلاً، لا معنى لذلك غيره. وقال عز وجل: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [ البقرة 124 ] ومعنى ذلك: لا تخلقوا الله عرضة لأيمانكم لا معنى له غير ذلك عند بشر ومن يقول بقوله.
وقوله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} [ النحل 57 ] فيزعم بشر ومن يقول بقوله أن بني آدم يخلقون لله البنات لا معنى له غير ذلك حسب زعمه.(1/313)
وقوله تعالى: {وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله} [ إبراهيم 30 ]، أي: وخلقوا لله أنداداً وقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن} [ الأنعام 100 ]، معناها عند بشر ومن يقول بقوله: وخلقوا له شركاء الجن ويزعم أن الله أخبر أنهم يخلقون له شركاء الجن)).
ثم سرد عدداً من الآيات مشتملة على لفظة (الجعل) التي تدل في سياقها على فساد هذا الاعتقاد وقبحه وشناعته. ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان معنى (جعل) في كتاب الله عز وجل فقال: ((إن جعل في كتاب الله عز وجل يحتمل معنيين عند العرب:
ـ معنى: خلق.
ـ ومعنى: صيّر غير خلق.
قال: فلما كان (خلق) حرفاً محكماً لا يحتمل معنى غير الخلق -يعني على زعم بشر- ولم يكن من صناعة العباد لم يتعبد به العباد فيقول لهم: اخلقوا أو لا تخلقوا، إذ كان الخلق ليس من صناعة المخلوقين وكان من فعل الخالق سبحانه وتعالى.
قال: ولما كان (جعل) على معنى صيّر لا على معنى الخلق خاطب الله به العباد بالأمر والنهي فقال: اجعلوا ولا تجعلوا. ولما كان (جعل) كلمة تحتمل معنيين، معنى خلق، ومعنى صيّر لم يدع الله في ذلك اشتباهاً على خلقه ولبساً على عباده فيلحد الملحدون في ذلك ويشبهون على خلقه، كما فعل بشر وأصحابه حتى جعل على كل كلمة علماً ودليلاً، فرق به بين الجعل الذي على معنى الخلق وبين الجعل الذي يكون على معنى التصيير.
فأما الجعل الذي هو على معنى الخلق، فإن الله عز وجل جعله من القول المفصل وأنزل القرآن به مفصلاً وهو بيان لقوم يفقهون، والقول المفصل هو الذي يستغني به السامع إذ أخبر به قبل أن توصل الكلمة بغيرها من الكلام إذ كانت قائمة بذاتها تدل على معناها، ثم مثّل لذلك فقال: فمن ذلك قول الله عز وجل : {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} [ الأنعام 1 ]، قال: فسواء عند العرب قال: وجعل، أو قال: وخلق، لأنها قد علمت أنه أراد بهذا الجعل الخلق لأنه أنزل من القول المفصل.(1/314)
وقال عز وجل: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} [ النحل 72 ]، فعقلت العرب عنه أن معنى هذا وخلق لكم إذ كان قولاً مفصلاً. وقال تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [ الملك 23 ]، فعقلت العرب عنه أنه عنى بهذا الجعل الخلق إذ كان من القول المفصل، وسواء عندها قال: جعل أو خلق؛ لأنها قد علمت ما أراد وما عنى. قال: فهذا وما كان على مثاله من القول المفصل الذي يستغني المخاطب به والسامع له بكل كلمة عما بعدها.
ثم قال: وأما جعل الذي هو بمعنى التصيير الذي هو غير خلق فإن
الله عز وجل أنزله من القول الموصل الذي لا يدري المخاطب به حتى تصل الكلمة بالكلمة التي بعدها فيعلم ما أراد بها، وإن تركها مفصلة لم يصلها بغيرها من الكلام لم يعقل السامع لها ما أراد بها ولم يفهمها ولم يقف على ما عنى بها حتى يصلها بغيرها.
ثم مثّل لذلك فقال: فمن ذلك قول الله عز وجل: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض}، فلو قال: {إنا جعلناك}، ولم يصلها بما بعدها لم يعقل داود عليه السلام ولا أحد سمع هذا الخطاب ما أراد الله به، ولا ما عنى بقوله، لأنه خاطبه بهذا القول وهو مخلوق فلما وصلها بـ{خليفة في الأرض} عقل داود وكل من سمع هذا الخطاب ما أراد بقوله وما عنى به. ومثل ذلك قوله تعالى لأم موسى: {أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [ القصص 7 ]، فلو لم يصل {جاعلوه} بـ{المرسلين} لم تعقل أم موسى ما خاطبها به ولا ما عنى بقوله، إذ كان خلق موسى عليه السلام قد تقدم لرده إليها فلما وصل الكلمة بالمرسلين عقلت أم موسى ما أراد بخطابها.
وقوله عز وجل: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} [ الأعراف 143 ]، وقد كان الجبل قبل أن يتجلى له مخلوقاً، فوصل الجعل بدكاً، ولو لم يصله لم يعقل السامع له ما أراد الله بقوله.(1/315)
وقوله عز وجل : {ربنا واجعلنا مسلمين لك} [ البقرة 128 ]، فلو لم يصل الكلمة وفصلها لم يعقل أحد ممن سمع ما أراد بدعوتهما، وقد كانا قبل دعوتهما مخلوقين فلما وصلها بمسلمين علم كل من سمع ذلك ما أراد بدعوتهما، ومثل ذلك قول إبراهيم عليه السلام: {رب اجعل هذا البلد آمناً} [ إبراهيم: 35 ].
قال: ومثل هذا كثير في القرآن، والذي تتعارفه العرب وتتعامل به في لغاتها وخطابها ومعنى كلامها ومخارج ألفاظها هو الذي جرت به سنة
الله عز وجل في كتابه، إذ كان إنما أنزل بلسانها واكْتُتِبَ على تبيانها، فخاطبهم
الله عز وجل بما عقلوه وعرفوه ولم ينكروه، ولم يكونوا يعرفون سواه وهو القول الموصل والمفصل.
ثم قال: فأرجع أنا وبشر لما اختلفنا فيه من قول الله عز وجل: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} [ الزخرف 3 ]، إلى سنة الله في كتابه في الجعلين جميعاً وإلى سنة العرب أيضاً وما تتعارفه وتتعامل به، فإن كان من القول الموصل فهو كما قلت أنا: إن الله جعله قرآناً عربياً بأن صيّره عربياً، أي: أنزله بلغة العرب ولسانها ولم يصيره أعجمياً فينزله بلغة العجم، وإن كان من القول المفصل فهو كما قال ولن يجد ذلك أبداً.
وإنما دخل الجهل على بشر ومن قال بقوله لأنهم ليسوا من العرب، ولا علم لهم بلغة العرب ومعاني كلامها فتناولوا القرآن على لغة العجم...)) اهـ(1).
فهذا ما ادعاه بشر بين يدي المأمون في مناظرته مع الإمام الكناني، وهذا بيان الإمام الكناني تلميذ الإمام الشافعي لمعنى (جعل) في القرآن الكريم.
__________
(1) الحيدة (ص 59-71).(1/316)
وحيث إن القائلين بخلق القرآن قد توارثوا هذه الشبهة، فإليك ما قاله الإمام المحقق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان معنى (جعل) ودحض شبهة المستدلين بها، فقد تناول معنى (الجعل) في القرآن وهو يتحدث عن مشيئة الله وقدرته وعن القرآن الكريم في المجلد (8/27) فقال: ((والصواب هو ما كان موافقاً للشرع مبيناً في العقل، فإن الله سبحانه أخبر أن القرآن منزل منه، وأنه تنزيل منه، وأنه كلامه، وأنه قوله، وأنه كَفَّر من قال إنه قول البشر، وأخبر: أنه قول رسول كريم من الملائكة ورسول كريم من البشر، والرسول يتضمن المُرْسِل فبين أن كلاً من الرسولين بلغه لم يحدث هو منه شيئاً، وأخبر أنه جعله قرآناً عربياً، وقال عما ينزل منه جديداً بعد نزول غيره قديماً: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}، وأخبر أن للكلام المعين وقتاً معيناً كما قال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى}، وقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}. والذين قالوا إنه (مخلوق) ليس معهم حجة إلا ما يدل على أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وهذا حق لكن ضموا إلى ذلك أن ما كان بمشيئته لا يقوم بذاته، فغلطوا ولبسوا الحق بالباطل، فضموا ما نطق به القرآن الموافق للشرع والعقل إلى ما أحدثوه من البدع والشبهات.(1/317)
وكذلك الذين قالوا: إنه (قديم) ليس معهم إلا ما يدل على أنه قائم بذاته لكن ضموا إلى ذلك أن ما يقوم بذاته لا يكون بمشيئته وقدرته، فأخطؤوا في ذلك ولبسوا الحق بالباطل، وأولئك فسروا قوله تعالى: {إناجعلناه قرآناً عربياً}[الزخرف:43] بأنه جعله بائناً عنه مخلوقاً، وقالوا: (جعل) بمعنى خلق، وهؤلاء قالوا: جعلناه سميناه كما في قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً}[الزخرف:19]، وهذا إنما يقال فيمن اعتقد في الشيء صفة حقاً أو باطلاً إذا كانت الصفة خفية فيقال: أخبر عنه بكذا، وكون القرآن عربياً أمر ظاهر لا يحتاج إلى الإخبار، ثم كل من أخبر بأنه عربي فقد جعله عربياً بهذا الاعتبار، والرب تعالى اختص بجعله عربياً فإنه هو الذي تكلم به وأنزله، فجعله قرآناً عربياً بفعل قام بنفسه وهو تكلم به واختاره لأن يتكلم به عربياً عن غير ذلك من الألسنة باللسان العربي وأنزله به. ولهذا قال أحمد: (الجعل) من الله قد يكون خلقاً وقد يكون غير خلق، فالجعل فعل والفعل قد يكون متعدياً إلى مفعول مباين له: كالخلق وقد يكون الفعل لازماً وإن كان له مفعول في اللغة كان مفعوله قائماً بالفعل: مثل التكلم فإن التكلم فعل يقوم بالمتكلم والكلام نفسه قائم بالمتكلم، فهو سبحانه جعله قرآناً عربياً، فالجعل قائم به والقرآن العربي قائم به فإن (الكلام) يتضمن شيئين: يتضمن فعلاً: هو التكلم، والحروف المنطوقة، والأصوات الحاصلة بذلك الفعل، ولهذا يجعل القول تارة نوعاً من الفعل وتارة قسيماً للفعل.
قال: وقد ذكرت في غير هذا الموضع أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل إلا وذلك الدليل إذا أعطي حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به، وأنه دليل لأهل الحق، وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقاً، والحق لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضاً والله أعلم)) اهـ.(1/318)
وحيث إن الخليلي قد ادعى بأن الكتاب والسنة يدلان على (خلق القرآن) وقد عرفنا استدلاله بآية: {خالق كل شيء}، وبقوله: {إنا جعلناه قرآناً عربياً}، وقد اتضح للقارئ الكريم الباحث عن الحق بما سبق ذكره بأن الآيتين الكريمتين لا تدلان على (خلق القرآن) لا نصاً صريحاً ولا دلالة؛ لأن قوله تعالى: {خالق كل شيء}، أي: من المخلوقات كلها من سماء وأرض وما بينهما وقد خلق الله ذلك بكلامه وهو قوله: للشيء (كن) فيكون، وكلامه صفة من صفاته فمن قال: إن صفة من صفات الله مخلوقة فقد كفر.
وأما (الجعل) فقد اتضح لك من كلام العلماء أن (جعل) في القرآن الكريم وفي كلام العرب تدل على معنيين هما الخلق والتصيير.
وأن جعل في هذه الآية الكريمة: تدل على التصيير أي جعل الله القرآن عربياً، فتكلم به باللسان العربي، فهو اختار إنزاله باللسان العربي على غيره من الألسنة.
وقال أبو النضر ـ العالم الإباضي- في الرد على الاستدلال بجعل على خلق:
لا تَنْحَلِ القرآن منك تكلفاً
ببدائع التكليف والبهتان
هل في الكتاب دلالة من خلقه
أو في الرواية فأتنا ببيان
الله سماه كلاماً فادعه
بدعائه في السر والإعلان
إلاّ فهات وما أظنك واجداً
في خلقه، يا غِرُّ من برهان
إن كان من (إنا جعلناه) فما
في الجَعْل إن أنصفت من تبيان
قد قال إبراهيم: رب اجعل لنا
بلداً بفضلك أفضل البلدان
وكذاك فاجعلني مقيما مخلصاً
حق الصلاة لوجهك المنان
فانظر أكان وقد دعاه لجعله
أم لم يكن خلقاً من الرحمن
أم لم يكن لما دعاه بمكة
حتى دعا بالأمن والإيمان
فاربع هنا بتفكر يا ذا النهى
واكدح لشأنك قد كدحت لشاني
فبأي هذا الجعل قلت بأنه
خلق؟ تبارك منزل الفرقان(1/319)
ثم إن الخليلي أتبع تلك الآية بآيات أخرى من كتاب الله يدعي أنها تدل على (خلق القرآن) ومن تلك الآيات قوله تعالى: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} [ الأنبياء 2 ]، وقوله تعالى: { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين} [ الشعراء 5 ].
قال: ووجه الاستدلال وصف الذكر فيهما بالإحداث وهو الخلق.
قلت: وقد بين علماء السنة أن المقصود بالمحدث في الآية الكريمة هو ما ينزل منه جديداً بعد نزول غيره قديماً. كما تقدم نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وكما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية من سورة الأنبياء: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}، أي: جديد إنزاله كما قال ابن عباس (ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يشب). رواه البخاري بنحوه(1).
ولكن الخليلي يركز على كلمة (الإحداث) وأنها تعني الخلق، لأنه ينفي عن الله صفة الكلام، وأهل السنة يثبتون لله صفة الكلام بالأدلة القطعية كقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}، فهذا التكليم أُحدث وقت مجيء موسى وسمعه موسى من الله عز وجل وحين سمعه طلب من الله عز وجل الرؤية حيث قال: {رب أرني أنظر إليك}. فقال له: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً...} الآية.
__________
(1) تفسير ابن كثير (5/325).
البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} و{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} ح7522.(1/320)
فهذا كله كلام الله عز وجل تكلم به مع موسى عليه السلام حين خاطبه لأن الله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء، ولا يصرف نص هذه الآية عن ظاهرها إلا من أضله الله عن سبيل الهدى، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً، ذلك لأن القائلين بخلق القرآن يقولون: إن الله خلقه منفصلاً عنه في شجر أو حجر أو هواء، وأن ذلك المخلوق الذي خلق الله الكلام فيه هو الذي قال لموسى: {لن تراني}، وهو الذي قال له: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}، وهو الذي قال له: {وما تلك بيمينك يا موسى}، وهو الذي قال له: {فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى...}، إلخ الآيات التي جاءت في قصة تكليم الله لموسى عليه السلام وإرساله إلى فرعون.
وكفى بمن يعتقد هذا ضلالاً وعمي، {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
ثم أورد الخليلي بعد ذلك آيات أبعد في الاستدلال بها مما سبق ذكره، وسنوردها ليعلم القارئ أن المؤلف ومن سبقه لم يستطيعوا إيراد نص صريح من كتاب الله عز وجل يدل على أن (القرآن مخلوق) وإنما يلبسون على من لا علم عنده من أتباعهم بتحريف الكلم عن مواضعه، متبعين في ذلك أسلوب الترغيب والترهيب. ومن رجع لما كتب في محنة القول بخلق القرآن أيام المأمون والمعتصم علم فساد هذا المذهب وكيف رده علماء السنة، ولم يستطع الخليفة المأمون والمعتصم حمل الناس على هذه العقيدة الباطلة، لأن الفطر السليمة لا تقبلها، ولذلك حملا الناس عليها بالقوة ولم يفلحا.
أما الآيات التي حشرها الخليلي في كتابه فهي قوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [ هود 1 ].
وقوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [ الأعراف 52 ].
وقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [ البقرة 106 ].
وقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [ البقرة 185 ].(1/321)
وقوله تعالى: {نزّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل} [ آل عمران 3، 4 ].
وقوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات...} [ آل عمران 7 ].
وقوله: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [ العنكبوت 49 ].
وقوله: {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ} [ البروج 21 -22].
وقوله: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة 48 ].
وقوله: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً} [ الإسراء 106 ].
فهذه الآيات التي أوردها الخليلي للاستدلال بها على (خلق القرآن).
فنقول للخليلي: فما وجه الدليل فيها على دعواك بأنها دالة على
(خلق القرآن)؟
فنجده يقول: (إن وجه الاستدلال بآية هود، وآية الأعراف: أن الله وصفه بالإحكام والتفصيل، وكل منهما أثر صادر عن مؤثر، ولا يجوز أن يكون الأثر قديماً أزلياً.
وَوَجَّه الاستدلال بآية البقرة: {ما ننسخ من آية...}: أن الله سبحانه أخبر عن نسخ بعض آياته والنسخ هو المحو والإزالة، وهو مستحيل على القديم. واستحالته فيما إذا كان لفظياً أشد، وقد أثبته جمهور العلماء وفيهم القائلون بقدم القرآن.
وقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}، قال: ووجه الاستدلال به: أنه منزل، والإنزال نقل من مكان إلى آخر وهو مستحيل على القديم.
وقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [ النحل 44 ].
وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [ الدخان 3 ].
قال: وفي تنزيله دلالة أخرى على حدوثه، وهي أنه نزل منجماً فهو منقسم، والانقسام مستحيل على القديم.
وفي آية آل عمران: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}، قال: ووجه الاستدلال به أنه منقسمة آياته إلى قسمين محكمات ومتشابهات، وإن المحكمات أم ـ أصل ـ للمتشابهات يرجع بها إليها في التأويل وهو مستحيل فيما كان قديماً.(1/322)
وقوله: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}، قال: ووجه الاستدلال به أن صدور العلماء حادثة والحادث لا يكون وعاء للقديم.
وقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}[الإسراء:106]، قال: ووجه الاستدلال به أن الله أخبر عنه بأنه مفروق، والمفروق مصنوع، والمصنوع لا يكون إلا حادثاً.
قال: فهذه نماذج من الأدلة القرآنية على حدوثه.
قلت: والجواب على هذه الدعوى فيما يلي:
إن هذه الآيات الكريمة التي يستدل بها المؤلف الخليلي على
(خلق القرآن) كما يراها القارئ الباحث عن الحق ليس فيها تصريح بذلك، لا من قريب ولا من بعيد، لا بالمنطوق ولا بالمفهوم، ومن رجع لكتب التفسير التي ألّفها علماء السلف يجد شرح تلك الآيات واضحاً ببيان ما دلت عليه من أحكام.
ولذلك لم يستطع المؤلف أن يدعي أنها صريحة في ذلك، بدليل أنه استدل بتحريفها عن مواضعها، ولذا فهو يركز في بيان وجه استدلاله بها على أمرين:
الأول: القول بقدم القرآن.
الثاني: حدوث القرآن وهو يعني بالحدوث الخلق.
وقد سبق الجواب على الأمرين ولكن نعيده هنا للحاجة إليه فنقول: أما القول (بقدم القرآن) الذي يركز عليه المؤلف في استدلاله بهذه الآيات، فإن أهل السنة والجماعة سلف هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان لم يقل أحد منهم (بقدم القرآن)، ومن الظلم أن ينسب أحد إلى آخر قولاً هو بريء منه براءة الذئب من دم يوسف، ثم يرد عليه، لا سيما والمنسوب إليه القول ظلماً هو يرد على ذلك القول المنسوب إليه، وهذا ما يفعله الخليلي هداه الله إلى الحق، فهو ينسب القول (بقدم القرآن) إلى السلف وأتباعهم ويخص ابن تيمية وابن القيم ـ لأنهما شوكة في حلوق المبتدعة قديماً وحديثاً؛ وقد تكرر الرد عليه، إلا أنه يعيده مرة بعد أخرى؛ لأنه لم يجد حجة إلا ذلك.(1/323)
وإليك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في نفي ما يدعيه المؤلف على السلف من القول (بقدم القرآن) وبيان من قال به، وقد نقله الخليلي نفسه في كتابه هذا (ص 149) يقول رحمه الله: ((وكما لم يقل أحد من السلف إنه (مخلوق) فلم يقل أحد منهم (إنه قديم) لم يقل واحد من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا مَنْ بعدهم مِن (الأئمة الأربعة) ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله. ولما ظهر من قال: إنه مخلوق قالوا رداً لكلامه: إنه غير مخلوق (1)، ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس، فإن أحداً من المسلمين لم يقل إنه مفترى، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا إنه مخلوق خلقه الله في غيره، فرد السلف هذا القول كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود)).
ثم قال: ((وأول من عرف أنه قال: (مخلوق) الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان.
وأول من عرف أنه قال هو (قديم) عبدالله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول)).
وحيث سبق في كتاب الخليلي هذا (ص 146 – 150) أن نقل نصوصاً من الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية المجلد (12) من صفحات مختلفة من (ص 85،86، 87، 54، 301، 567).
__________
(1) إلى هنا نقل الخليلي النص وأسنده إلى الفتاوى (12/301)، وترك تكملة النص لأنه ينقض دعواه، وهذه طريقة أهل الأهواء قديماً وحديثاً.(1/324)
ثم قال في (ص 148): (وما أعجب التناقض والاضطراب في قول ابن تيمية: ((إن كلام الله غير مخلوق وإنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتداء من غيره))(1)، حيث نفى الخلق عن الكلام وأثبت له البداية وهل البداية إلا خلق وقوله في آخره: ((ليس بمخلوق ابتداء من غيره)).
قلت: وهذا الجزء المقتطع كله من سطر واحد من نصٍ ذكره شيخ الإسلام فقوله: (في آخره) ليس كذلك بل هو من وسطه، وابن تيمية يقصد بقوله: ((وإنه منه بدأ... إلخ))، للرد على القائلين أنه بدأ من ذلك الشيء الذي خلق فيه القرآن لأنهم ينفون عن الله صفة الكلام فهو يقول: إن ابتداء القرآن من الله، وأنه تكلم به حقيقة، وسمعه منه جبريل، وبلغه محمداً صلى الله عليه وسلم وليس ابتداء القرآن من ذلك الشيء، الحجر أو الشجر أو الهواء كما يدعون.
وحيث إن الخليلي أورد تلك المقاطع التي اختارها حسب ما يهوى، وهي نصوص أوردها شيخ الإسلام، منها ما يرد على قائله ويبين خطأه، ومنها ما يبين فيه مقصود قائله، فيسميه الخليلي اعتذار ابن تيمية عن ذلك القول وأنه لا يجدي فتيلاً كما يقول فقد رأيت أنه من المناسب نقلها لبيان أنه لا اضطراب فيها ولا اعتذار.
وإليك النص الذي ذكره شيخ الإسلام وقد نقل الخليلي منه ما يريد وترك ما لا يريد، قال شيخ الإسلام في معرض رده على من قال: الحروف مخلوقة وذلك في كلام طويل؛ وقد سبق الحديث عن ذلك.
__________
(1) ما بين القوسين في الفتاوى ص 86 وهو سطر واحد من مقطع نقله شيخ الإسلام من كلام الإمام أحمد وغيره ابتدأه بقوله (وصرح الإمام أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف أن الله تكلم بغير مشيئة...) إلخ.(1/325)
قال: ((وأحمد أنكر قول القائل: إن الله لما خلق الحروف...، وروي عنه أنه قال: من قال: إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي لأنه سلك طريقاً إلى البدعة، ومن قال: إن ذلك مخلوق فقد قال إن القرآن مخلوق)). إلى هنا اقتصر الخليلي(1)، وسماه اعتذاراً، وتكملة النص: ((وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع، لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته)).
ثم واصل الحديث للرد على أتباع ابن كلاب القاضي وغيره فقال:
__________
(1) من كتاب الخليلي هذا (ص 129) نقلاً عن الفتاوى (12/85)، وترك باقي النص المشار إليه، وهذه عادته في النقل، وهذا خلل في أمانة النقل.(1/326)
((وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى عليه السلام أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال، وأن الله قامت به حروف معينة، أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله، ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء مع قولهم: (إن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتداء من غيره) (1)، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في (كتاب السنة)، وغيره، وما صنفه عبدالرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه: كابنيه صالح وعبدالله وحنبل ……إلخ))(2).
ونقول للقارئ: هذا نص كلام شيخ الإسلام الذي يدعي الخليلي أن فيه تضارباً فأين التضارب فيه؟.
إن المؤلف الخليلي يعرف تمام المعرفة كلام شيخ الإسلام، وأنه لا تضارب فيه بل هو كالعقد المنتظم.
ولكن لعقيدة رسخت في ذهنه ورثها عن سلفه المعتزلة، لم ير غيرها مع وجود الأدلة الصريحة على خلافها، وكون الإنسان يصمم على رأي وعقيدة لا يرى غيرها، لا يبيح له ذلك أن ينقل أقوال طائفة وإن كانت في الظاهر ترد على المعتزلة، إلا أنها في موضوع (خلق القرآن) متفقة مع المعتزلة ثم ينسب أقوالهم لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يرد عليهم وعلى المعتزلة ثم يدعي تضارب قوله زوراً وبهتاناً.
__________
(1) ومثل هذا العمل يترفع عنه المنصف الذي يبحث عن الحق. ((وهذا السطر هو الذي أخذه الخليلي من هذا النص تاركاً ما قبله وما بعده)) .
(2) الفتاوى (12/86).(1/327)
إن شيخ الإسلام يصرح بعبارات متكررة وينقلها عنه الخليلي في كتابه هذا كما تقدم، إن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والأئمة الأربعة وغيرهم من أتباع السلف لم يقل أحد منهم (إن القرآن قديم)، ثم بين شيخ الإسلام أن أول من عرف عنه هذا القول (عبدالله بن سعيد بن كلاب)
كما عرف أن أول من قال (القرآن مخلوق) الجعد بن درهم وصاحبه الجهم ابن صفوان، وقد نقل ذلك كله الخليلي في كتابه هذا، ثم يلبس الآن على القراء وينسب هذه الأقوال التي يرد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى ابن تيمية، وهذا من أعظم الظلم والافتراء فالله يقول: {ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} [ النساء 112 ]، ولعله قد ظهر للقارئ المنصف ما يأتي:
الأول: عدم أمانة المؤلف في نسبة الأقوال إلى أصحابها.
الثاني: وهو أشد ظلماً وهو نسبة القول إلى شخص وهو بريء من ذلك القول، بل إنه يرد على صاحبه ويبين خطأه.
الثالث: أن الآيات القرآنية التي يدعي أنها تدل على (خلق القرآن) لا دليل فيها على دعواه لا منطوقاً ولا مفهوماً.
وقد عجز أسلافه بين يدي الخليفة المأمون والمعتصم عن الاستدلال بنص صريح من كتاب الله عز وجل.
كما عرف القارئ أن هذه الأدلة التي أوردها الخليلي هي بعينها أدلة بشر المريسي وابن أبي دؤاد وأضرابهم، وهو بعمله هذا يثير قضية قد قضي عليها من عدة قرون، وهذا عكس ما يدعيه على غيره من إثارة الفتن التي تمزق شمل الأمة، وكما يقال: رمتني بدائها وانسلت، فمن الذي يثير الفتن؟
وحيث إن دعوى الخليلي أن الأدلة النقلية على (خلق القرآن) التي يحتج بها من الكتاب والسنة، وقد عرفنا أن الأدلة التي ساقها من الكتاب لا دلالة فيها وإنما هو تحريف لها عن مواضعها فإليك ما يدعيه أدلة من السنة.
أدلة الخليلي من السنة
ـ حسب زعمه ـ على خلق القرآن(1/328)
وسوف أورد نص الأحاديث التي ذكرها كلها وهي ستة أحاديث، وبيان وجه استدلاله بها ليرى القارئ تخبط من لم يوفق لاتباع سلف الأمة في الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة.
فقد قال الخليلي في (ص 177): وأما الأدلة من السنة فكثير من الروايات وإنما نقتصر منها على ما يلي:
1ـ أخرج الإمام أحمد والبخاري، وأبو داود عن أبي سعيد بن المعلى قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم}؟ ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
2ـ روى الإمام الربيع بن حبيب في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد} ويرددها، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فكأن الرجل يتقللها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأَنَّهَا تعدل ثلث القرآن». وأخرجه الإمام البخاري من طريق أبي سعيد بلفظ: «والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن».
3ـ روى البخاري عن أبي سعيد أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة، فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن».
4ـ روى الإمام أحمد عن أبي سعيد كذلك قال:« بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله بـ {قل هو الله أحد}، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(1/329)
«والذي نفسي بيده إنها لتعدل نصف القرآن، أو ثلثه» وأخرج نحوه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، ونحوه عند الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طريق أبي أيوب الأنصاري، وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي سعيد وقتادة بن النعمان وأبي هريرة وأنس وابن عمر وأبي مسعود، وروى مثله الإمام أحمد والنسائي من طريق أبي بن كعب، والإمام أحمد والنسائي كذلك من طريق أبي مسعود، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مرفوعاً، وروياه مع مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
5ـ روى أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش فوصلت بها».
6ـ أخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».
فهذه الأحاديث الستة هي التي استدل بها المؤلف الخليلي على أن القرآن مخلوق. فما وجه استدلاله بها على ذلك؟.
والجواب:
سبق أنه لم يستطع أن يورد آية من كتاب الله تدل على خلق القرآن، وحينما عجز ذهب إلى تأويل تلك الآيات وصرفها عن ظاهرها، وهذه الأحاديث التي أوردها -كما يرى القارئ- لا دلالة فيها على خلق القرآن لا نصاً ولا مفهوماً.(1/330)
ولهذا لم يستطع أن يقول: إن حديثاً واحداً منها هو نص صريح في خلق القرآن، ولم يستطع أن يقول: إن مفهوم حديث واحد منها يدل على ذلك، ولذلك لجأ إلى منهج أسلافه الذين عجزوا أن يقدموا على دعواهم عند الخليفة العباسي -المأمون وبعده المعتصم- آية من كتاب الله الكريم أو سنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما طالبهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى بذلك فلجؤوا بعد التحريف للنصوص إلى القوة لفرض عقيدتهم الباطلة.
وإذا عجز ابن أبي دؤاد، وبشر المريسي عن تقديم ذلك عند الخليفة في ذلك العصر، فمن أين للخليلي أن يقدم نصاً من كتاب الله المحفوظ بحفظ الله من الزيادة والنقص، وكذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما هيأ الله لحفظها الجهابذة من علماء السنة أهل الحديث؟.
إنه لا يستطيع ذلك، ولهذا لجأ إلى مسلك أسلافه المعتزلة والجهمية الذين يفتخر بسلوك مذهبهم، لأنه يقول: إن مذهبه ومذهب المعتزلة القول: بخلق القرآن، ومنهجهم في ذلك هو تحريفهم لنصوص السنة كما حرفوا نصوص القرآن، وهو تحريف للكلم عن مواضعه ولهذا يقول: (ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على خلقه أنها ناصة على أن بعضه أعظم من بعض وأفضل، وأن بعضه سنام لسائره، وأن بعضه كان مفصولاً عن غيره ثم وصل به، قال: وكل ذلك غير جائز على القديم).
والجواب على هذا الاستدلال بأمور:
الأول:( قوله: وكل ذلك غير جائز على القديم) نقول: إن أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة وأتباعهم لم يقولوا: إن القرآن قديم، وإنما هذا هو قول عبدالله بن سعيد بن كلاب ومن قال بقوله من الأشاعرة، بل هو أول من قال ذلك، وقد سبق بيان ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ونقله الخليلي نفسه ثم نسبه ظلماً وزوراً إلى شيخ الإسلام وإلى أهل السنة عموماً.(1/331)
وبثبوت هذا يتضح سقوط استدلاله لأنه يستدل على من يقول بقدم القرآن، وقول أهل السنة والجماعة كما سبق بيانه أكثر من مرة بسبب تكرار كلام الخليلي ومغالطاته يتحدثون عن الكلام فيقولون: إنه قديم النوع حادث الآحاد، فالله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء حسب مشيئته واختياره، ومن أفراد كلامه التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.
ـ أما كون القرآن بعضه أعظم من بعض وأفضل، كما في الحديث الأول الذي أورده الخليلي وقال: أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي سعيد قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم}؟ ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سور القرآن؟ قال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
فهذا السورة أعظم سورة كما قال صلى الله عليه وسلم لأنها اشتملت على ما تضمنه كتاب الله عز وجل فقد افتتحت بحمد الله والثناء عليه وأنه رب العالمين جميعاً وهذا توحيد الربوبية، واشتملت على توحيد الله في أسمائه وصفاته الرحمن الرحيم، وهذا توحيد الأسماء والصفات، الذي ينكره الجهمية والمعتزلة ومن يقول بقولهم من فرق الخوارج كلهم والرافضة والزيدية، والمؤلف الخليلي يعتز بهم جميعاً فقد قال في أول كتابه هذا (ص 32) في مبحث إنكار رؤية المؤمنين ربهم في الجنة قال: (وذهب إلى استحالتها في الدنيا والآخرة أصحابنا الإباضية، وهو قول المعتزلة والجهمية والزيدية والإمامية من الشيعة).
وقد سبق الرد على قوله هذا في الجزء الأول.
كما اشتملت هذه السورة العظيمة على توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة كما في قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}، وهي معنى قوله تعالى:(1/332)
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [ النحل 36 ]، كما اشتملت على جزاء العباد في الآخرة كما في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} وهو يوم القيامة وهو سبحانه وحده مالك يوم القيامة، الذي فيه الجزاء على الأعمال في الدنيا، فللمطيعين الجنة، وللكفار والمنافقين النفاق الاعتقادى والمشركين النار، وتخصيص الملك بيوم الدين لأنه لا يدَّعي أحد شيئاً يوم القيامة ولا تكلم نفس إلا بإذنه، وهناك أحاديث أخرى ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك الفضل والعِظَم.
فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «إن أعظم آية في كتاب الله قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [ البقرة: 255].
والجواب عن الأحاديث الأخرى التي أوردها الخليلي وهي حديث
(رقم 2، 3، 4).
نقول عنها إن الذي قال: إن بعض السور أو الآيات أفضل من بعض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولم يقل إنها مخلوقة، فهل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، والله يقول: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [ المائدة 67 ]، ويقول: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة 3 ]، فالدين كمل، والرسول بلغ البلاغ المبين، ولم يبلغ الأمة أن القرآن مخلوق، فهل قصر في البلاغ حتى جاء شيوخ الخليلي للقيام بهذه المهمة، وحديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه البخاري وغيره وفيه: أن ذلك الرجل الذي كان يؤم قومه في الصلاة ويختم بسورة الإخلاص {قل هو الله أحد...}، في كل ركعة قد قال له الذين يأتمون به في الصلاة: إما تقتصر على هذه السورة ولا تضيف إليها غيرها أو تكتفي بالسورة الأخرى؟ فامتنع عن ذلك.(1/333)
فلما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصنيع ذلك الرجل قال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك قال: لأن فيها صفة الرحمن وأنا أحبها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أخبروه أن الله يحبه، وأدخله الجنة»(1).
فهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال في الحديث الآخر من رواية أبي سعيد الذي أخرجه البخاري وغيره، ولفظه كما أورده الخليلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن»(2).
فهذه السورة القصيرة الكريمة فيها صفة الرحمن، وهي سورة الإخلاص، ولذلك كانت أفضل من غيرها، لما اشتملت عليه من تعظيم الرب وبيان صفاته التي ينكرها الخليلي وكل الجهمية والمعتزلة، فهم جميعاً ينفون صفات الله عز وجل ونقول للخليلي: ويشاركك في نفي الصفات وردِّ هذا الحديث الذي تعترف بصحته وأنه رواه البخاري (ابن حزم الظاهري) ويحاول تضعيفه؛ لأن ابن حزم عفا الله عنه- وهداك للأخذ بالحق والرجوع إليه- في باب الصفات جهمي لا يثبت الصفات لله عز وجل.
فلما جاء في هذا الحديث لفظة (صفة الرحمن) كما قال الصحابي وأنه يحبها وبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله يحبه وأدخله الجنة، ادعى ابن حزم تضعيف الحديث، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري كتاب التوحيد (13/ 356) وهذا من شؤم البدع على أصحابها تجرهم إلى رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانت في أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل وهو صحيح البخاري بإجماع المسلمين، فكل من قيل له في حديث رواه البخاري أو مسلم لا يبحث فيه بل يأخذه ويعمل به دون تردد.
ثم نقول للخليلي: دلنا على اللفظ الذي ورد في نص هذا الحديث على خلق القرآن منطوقاً أو مفهوماً.
__________
(1) البخاري ح/7375.ومسلم ح/813.
(2) البخاري ح/5015.(1/334)
وإلى القارئ الكريم نص الحديث وهو في صحيح البخاري كتاب التوحيد ولفظه كما نقله الخليلي في كتابه هذا (ص 178) من مسند الإمام الربيع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد}، ويرددها فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فكأن الرجل يتقللها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لأنها لتعدل ثلث القرآن»(1). قال: وأخرجه الإمام البخاري من طريق أبي سعيد بلفظ: «والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن»، ونقول: لا فرق بين الروايتين فكلاهما نص في أن سورة {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
ولكن السؤال الموجه للخليلي ونريد الجواب عليه هو:
س1: هل قوله:{ قل هو الله أحد} مخلوق؟.
س2: هل {الله الصمد} مخلوق؟.
س3: هل {لم يلد} مخلوق.
س4:هل {ولم يولد} مخلوق.
س5:هل {ولم يكن له كفواً أحد: مخلوق}(2)، وانظر في الحاشية كلام عالم إباضي شهد له الخليلي بالعلم والتحقيق.
فهل يستطيع الخليلي أن يقول: نعم؟.
__________
(1) البخاري/ح 7374.
(2) يقول أبو الحسن البسيوي الإباضي في كتابه الجامع (1/75) وهو يرد على القائلين بخلق القرآن، قال: «وأيضاً قد اتفقنا أن أسماء الله التي تصفونه بها أسماء ذاتية في القرآن، والأسماء الذاتية لا يجوز عندنا وعندكم أن تكون مخلوقة، فلما كانت صفات الله الذاتية غير مخلوقة، وهي في القرآن، كان القرآن غير مخلوق». وقد شهد الخليلي لأبي الحسن هذ وكتابه بأنه كتاب جمع العلم والتحقيق، كما سبق ذكر ذلك.(1/335)
وإن لم يصرح بذلك فما معنى القرآن مخلوق؛ لأن {قل هو الله أحد...}، من القرآن بصريح كلام الخليلي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} الآية أعظم آية في كتاب الله، فهل: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم...} مخلوق(1)؟
فأين عقول من يخاطبهم الخليلي ويدعوهم إلى هذا الاعتقاد الباطل؟ الذي لا يتردد في بطلانه العامي فضلاً عن المتعلم، بل إن هذا الاعتقاد هو الكفر بعينه، وهو ما يقول به أهل السنة من قال: القرآن مخلوق فهو كافر لأن القرآن كلام الله مشتمل على أسماء الله عز وجل وصفاته، قال تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} [ الأنعام 19 ].
وقد قال الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد باب (21)
{قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} فسمى الله نفسه شيئاً وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله، وقال: {كل شيء هالك إلا وجهه}.
قال: حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: «أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها»(2). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث قوله: «وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله» يشير إلى الحديث الذي أورده من حديث سهل بن سعد وفيه: «أمعك من القرآن شيء» وهو مختصر من حديث طويل في قصة الواهبة تقدم بطوله مشروحاً في (كتاب النكاح) وتوجيهه :أن بعض القرآن قرآن وقد سماه شيئاً.
__________
(1) وجاء في سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون (ص 294): (وقال ابن نباتة: «دخل على الجعد ابن درهم يوماً بهلول، فقال: أحسن الله عزاءك في {قل هو الله أحد} فإنها ماتت! قال: وكيف تموت؟ قال: لأنك تقول: إنها مخلوقة، وكل مخلوق يموت»).
(2) البخاري/ح7417.(1/336)
قال: «وأشار ابن بطال إلى أن البخاري انتزع هذه الترجمة من كلام عبدالعزيز ابن يحيى المكي فإنه قال في (كتاب الحيدة) سمى الله تعالى نفسه شيئاً إثباتاً لوجوده ونفياً للعدم عنه، وكذا أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه ولم يجعل لفظ (شيء) من أسمائه، بل دل على نفسه أنه شيء تكذيباً للدهرية ومنكري الإلهية من الأمم، وسبق في علمه أنه سيكون من يلحد في أسمائه ويلبس على خلقه ويدخل كلامه في الأشياء المخلوقة فقال: {ليس كمثله شيء} فأخرج نفسه وكلامه من الأشياء المخلوقة، ثم وصف كلامه بما وصف به نفسه فقال: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء}، وقال تعالى: {…أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء}، فدل على كلامه بما دل على نفسه ليعلم أن كلامه صفة من صفات ذاته(1)، فكل صفة تسمى شيئاً بمعنى أنها موجودة، وحكى ابن بطال أيضاً أن في هذه الآيات والآثار رداً على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله شيء كما صرح به عبدالله الناشيء المتكلم وغيره»(2) اهـ.
فهذا الإمام البخاري يصرح بأن القرآن كلام الله، وأنه صفة من صفات الله بنص كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله سمى نفسه شيئاً في قوله - عز وجل -: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله}، إثباتاً لوجوده وتكذيباً للدهرية ومنكري الألهية من الأمم، كما قال الإمام الكناني، فهل يستطيع الخليلي أن يصرح بأن قول الله: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} مخلوق. لا أعتقد ذلك، فإن صرح فقوله عين الكفر، لأنه زعم أن الله مخلوق، وإن عجز بطلت حجته بأن القرآن مخلوق لا محيد له عن أحد الأمرين والرجوع إلى الحق خير له وأحسن مآلاً.
__________
(1) قلت: من صفات ذاته الفعلية الاختيارية فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء [وليس على قول الأشاعرة في تعريف الكلام، أنه المعنى النفسي القائم بالذات].
(2) فتح الباري (13/414).(1/337)
6ـ وأما ما جاء في الحديثين اللذين أوردهما الخليلي برقم (5، 6) وهو قوله: روى أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش فوصلت بها».
قال: وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».
فنقول: هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال ذلك، وقال: أعظم آية في القرآن {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ومعنى ذلك أن ما اشتمل على أسماء الله وتعظيمه من كلامه أعظم من غيره مما لم يشتمل على ذلك، وكله كلام الله.
وسنام الشيء أعلاه، ولهذا جاء في الحديث: «البقرة سنام القرآن وذروته» فذروة الشيء أعلاه، وجاء أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وكيف لاتكون البقرة سنام القرآن وفيها أعظم آية وهي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة 255 ]، والله عز وجل لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وحده ويخلصوا له العبادة و {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} هي كلمة التوحيد، أي لا إله بحق إلا الله، وهو معنى العبادة في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي ليوحدون.(1/338)
وبهذا يتضح للقارئ الكريم معنى العظم، والفضل في كلام الله عز وجل كما ورد في هذه الأحاديث فالقرآن كلام الله تكلم الله به كيف شاء، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال لنا بعظم هذه السور وفضلها على غيرها، فنحن نصدقه ونؤمن بما جاء به ونعتقده ونؤمن بقوله صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن كله فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل مسلم قرأ القرآن بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. ثم قال: لا أقول (ألم) حرف. بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف».
هكذا قال صلى الله عليه وسلم عن القرآن كله.
أما أن الكلام يفضل بعضه بعضاً، فهذا وارد حتى في كلام البشر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: أفضل كلمة قالها لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
مع أن للبيد كلاماً غير هذا لكن هذا أفضل كلامه.
والله عز وجل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته، والقرآن كلام الله وكلامه صفة ذاتيه فعليه اختيارية يتكلم متى شاء وكيف شاء، فمن يجرؤ أن يقول: {الله أحد. الله الصمد}. {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} مخلوق.
إن هذا القول: هو الكفر بعينه فالله عز وجل بصفاته هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، فمن قال: إن صفة من صفات الله مخلوقة فقد كفر.
والله عز وجل خلق المخلوقات كلها بكلامه وهو قوله للشيء إذا أراده (كن) فيكون كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس:82].
وقال تعالى في وصف المخلوقات التي تفرد بها إذ لا يشركه في الخلق أحد: {خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} [ لقمان 10، 11 ].(1/339)
فهذه السموات والأرض وما فيهما من مخلوقات الله عز وجل خلقها ، وبأي شيء خلقها؟ إنه عز وجل خلقها بكلامه بقوله (كن).
قال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين .ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [ فصلت 9-11 ].
ونفى صفة الخلق عن جميع المخلوقات واختص بها وحده سبحانه فقال: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج 73 ]. فبين تعالى أن المخلوقات كلها عاجزة أن تخلق ذباباً ولو اجتمعوا له.
فالمخلوق لا يخلق غيره {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [ الطور 35 ].
فكيف يجوز لك أيها المسلم أن تقول: إن القرآن مخلوق؟ والقرآن كلام الله والله بكلامه خلق المخلوقات كلها.
قال تعالى: {(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [ آل عمران:59].
فهل يجوز لك أيها المسلم أن تقول إنّ (كن) مخلوقة؟. ثم تقول: إنّ
(كن) هذه المخلوقة خلقت عيسى؟ والله عز وجل يقول: إن المخلوقات كلها لو اجتمعت أن تخلق ذباباً فلن تستطيع خلقه.
إن من يقول ذلك ويعتقده فقد ضل الضلال المبين.
إن هذه النماذج من الأدلة الكثيرة الدالة على أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وسمعه منه جبريل عليه السلام وهو الرسول الأمين، نقله كما سمعه وتلقاه منه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وبلّغه أمته هو كلام الله وكلام الله صفة من صفاته غير مخلوق، ومن قال إن صفة من صفات الله مخلوقة فقد كفر.(1/340)
ولهذا قدم أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة أنفسهم في سبيل الله دفاعاً عن الحق وامتناعاً عن قول الكفر، وقد قتل من قتل في زمن المحنة بالقول بخلق القرآن حينما لبس الجهمية والمعتزلة على الخليفة المأمون والمعتصم أمثال ابن أبي دؤاد وبشر المريسي، فاعتنق المأمون ومن بعده هذه البدعة وحملوا الناس عليها بالقوة، ومن امتنع عن قول الكفر هذا قتلوه، أو ضربوه أو حبسوه، وقد وقف شوكة في حلوقهم وغصّوا بها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الذي طلب منه المعتصم أن يقول: القرآن مخلوق ويفك القيود من رجليه بنفسه، فطلب منه الإمام أحمد أن يقدم له آية من كتاب الله عز وجل، أو سنة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يقول وهو يجيبه، ولكنه عجز أن يقدم شيئاً من ذلك.
وحين عجز عن الحجة استعمل قوته وجبروته، فأمر بضربه الضرب الشديد الذي أفقده وعيه، ولكنه ثبت رحمه الله على الحق، فنصره الله وأعلا شأنه، وهو وعدٌ من الله والله لا يخلف وعده: {ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد7] فذهب الباطل جفاء وثبت الحق الذي ينفع الله به الناس.
وإذا كان ابن أبي دؤاد وغيره عجزوا عن تقديم دليل من الكتاب والسنة للمعتصم الخليفة العباسي، ليقدمه للإمام أحمد بن حنبل في تلك المناظرة فعدلوا للقوة والبطش.
فمن أين للخليلي الذي يثير الفتنة من جديد ليمزق شمل الأمة أن يأتي بدليل من الكتاب والسنة على هذه البدعة وهي القول (بخلق القرآن)؟.
وحيث تبين للقارئ الكريم الباحث عن الحق من الإباضية الذين يمثلهم الخليلي ويدعي أنهم أهل الاستقامة كما قال في مقدمة كتابه هذا من (ص 7) وما بعدها حيث قال: ولست أبالغ إن قلت: إن الإباضية أهل الحق والاستقامة تمتاز عقيدتهم وتتسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور:(1/341)
1ـ سلامة المنزع فإنهم جمعوا في الاستدلال على صحة معتقداتهم بين صحيح النقل وصريح العقل، فلم يضربوا بالنصوص الصحيحة عرض الحائط.
2ـ عدم التعصب لأئمتهم تعصباً يجعلهم يتصاممون عن النقول الصحيحة، ويتعامون عن العقول الصريحة.
3ـ المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة، ومثل لهذا المنزع الثالث بمقطع من خطبة أبي حمزة المختار بن عوف السلمي من خطبته التي ألقاها كما يقول على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها قوله: «الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة: مشرك عابد وثن، أو كافر من أهل الكتاب، أو إمام جائر»(1).
وبغض النظر عما جاء في هذه الخطبة من تأييد المؤلف الخليلي لأبي حمزة في الخروج على الإمام الجائر بل تكفيره، لأنه قرنه بالمشرك وعابد الوثن وتبرأ منهم جميعاً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم شدد في عدم الخروج على إمام المسلمين ما دام يصلي ولم يظهر منه الكفر البواح الذي فيه من الله برهان، بل قال: «وإن جلد ظهرك وأخذ مالك»، وهي أحاديث في الصحيحين وغيرهما وهو يقول: إن منزعهم الاستدلال بالأحاديث الصحيحة وعدم ضربهم بها عرض الحائط.
فأقول: إني أدعو الإباضية عموماً أن يقرؤوا كتاب المؤلف هذا المسمى (بالحق الدامغ) ويقرؤوا المناقشة الهادئة له في الجزء الأول الرد على إنكاره رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في الجنة، ويقرؤوا هذا الجزء في الرد على دعواه (خلق القرآن).وأن يكونوا في حال قراءتهم متصفين بالصفة الثانية وهي: عدم التعصب لأئمتهم تعصباً يجعلهم يتصاممون عن النقول الصحيحة، ويتعامون عن العقول الصريحة.
كما يقرؤوا الجزء الثالث-الذي سيأتي- وهو الرد على دعواه (تخليد الفساق في النار).
__________
(1) أبو الفرج الأصبهاني كتاب الأغاني (2/104) طبعة بولاق.(1/342)
ثم يختاروا لأنفسهم ما يرون به النجاة عند الله عز وجل فالله يعلم أننا لا نريد بهذا الرد إلا إظهار الحق والوصول إلى ما به نجاتنا جميعاً عند الله عز وجل، فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وأختم هذا المبحث بذكر المناظرة المشهورة التي حدثت عند الخليفة الواثق المهتدي بالله بين ابن أبي دؤاد والشيخ الأزدي أبي عبدالرحمن عبدالله بن محمد بن إسحاق، التي رواها الآجري في الشريعة (1/540)، والخطيب البغدادي في تأريخ بغداد (10/75)، والذهبي في تاريخ الإسلام (ص 140- 141)، وابن كثير في البداية والنهاية (10/321)، وأشار إليها الحافظ ابن حجر في التهذيب (6/5) وقال: ((القصة مشهورة حكاها المسعودي وغيره))، وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص 432)، وإليك نصها من كتاب ابن الجوزي:(1/343)
قال أخبرنا أبو منصور عبدالرحمن القزاز وأبو السعود أحمد بن علي بن المجلي، ثم ساقه بإسناده إلى صالح بن علي بن يعقوب الشاشي الهاشمي، قال: حضرت المهتدي بالله(1) أمير المؤمنين، وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها وينشأ الكتاب عليها، وتحرر وتختم وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك واستحسنت ما رأيت، فجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إليَّ، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرار ثلاثاً، وفيه قال المهتدي لصالح: أقول: إنك استحسنت ما رأيت منا، قلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: (القرآن مخلوق) فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك؟ وهل تموتين إلا مرة؟ وهل يجوز الكذب في جدّ أو هزل؟
فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت فأطرق ملياً ثم قال: ويحك؟ اسمع مني ما أقول فوالله لتسمعن الحق، فسري عني فقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين(2)
__________
(1) قال الذهبي: «لما خلعوا المعتز أحضروا محمد بن الواثق فبايعوه ولقب بالمهتدي بالله، وكانت دولته سنة واحدة، وكان أسمر مليح الصورة ديناً ورعاً صارماً شجاعاً، لكنه لم يجد ناصراً على الحق، وكان قد سد باب اللهو والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم، وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه، ثم إن الأمراء خرجوا عليه، فلبس سلاحه في حاشيته وشهر سيفه وحمل عليهم فجرح، ثم أحاطوا به وقتلوه، في رجب سنة ست وخمسين ومائتين»،تأريخ الإسلام (1/154-155).
(2) قد أنكر هذا اللفظ شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، قال أبو جعفر الطبري في تفسير قوله تعالى:{إني جاعل في الأرض خليفة..} أي مستخلف في الأرض خليفة ومصير فيها خلفاً، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة لأنه خلف الذي كان قبله. ج1 / 199.
وقال ابن كثير: أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} 10 /99.(1/344)
، وابن عم سيد المرسلين.
فقال: ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدراً من أيام الواثق، حتى أقدم أحمد ابن أبي دؤاد علينا شيخاً من أهل الشام من أهل أذنه، فأدخل الشيخ على الواثق مقيداً، وهو جميل الوجه تام القامة حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلّم الشيخ فأحسن ودعا فأبلغ، فقال له الواثق: اجلس فجلس. فقال: يا شيخ: ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤاد يقلّ ويصبأ ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق وعاد مكان الرقة له غضباً عليه، وقال: أبو عبدالله (ابن أبي دؤاد) يقلّ ويصبأّ ويضعف عن مناظرتك أنت؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وأذن في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه ما نقول.
قال: أفعل. قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه بما قلت.
قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده هل ستر شيئاً مما أمره الله عز وجل به في أمر دينهم؟ قال لا.
فقال الشيخ: فدعا رسول الله الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: تكلم فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين واحدة. فقال الواثق واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن الله تعالى حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [ المائدة 3 ] هل كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه، أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجب، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان فقال الواثق: اثنتان.(1/345)
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه علمها رسول الله أم جهلها؟ قال ابن أبي دؤاد: علمها. قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث، فقال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول الله أن علمها وأمسك عنها كما زعمت ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؟
قال ابن أبي دؤاد: نعم، فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق.
فقال يا أمير المؤمنين: قد قدمت القول إن أحمد يقلّ ويصبأّ ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة بما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم.
فقال الواثق: نعم؛ إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله علينا. اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطعوا القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في كمّه.
فقال له الواثق: يا شيخ لم جاذبت الحداد عليه؟
قال: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذ أنا متُّ، أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب: سل عبدك هذا لم قيدني، وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك عليّ؟
وفي قصة المناظرة هذه: أن الواثق طلب من الشيخ أن يجعله في حل وسعة مما ناله فقال له الشيخ: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراماً لرسول الله إذ كنت رجلاً من أهله، فقال الواثق: لي عليك حاجة.(1/346)
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت. فقال له الواثق: تقيم قبلنا ننتفع بك وينتفع بك فتياننا. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إيايّ إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك، أصير إلى أهلي وولدي فأكفّ دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك، فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك، فقال: يا أمير المؤمنين لا تحل لي أنا عنها غنيّ وذو ميسرة سَويّ، فقال: سل حاجة فقال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تأذن أن يخلى لي السبيل الساعة إلى الثغر.
قال: قد أذنت لك، فسلّم وخرج.
قال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة، وأظن أن الواثق رجع عنها منذ ذلك الوقت.
وأما رفع المحنة عن أهل السنة، ونشر السنة وترك هذه البدعة فكانت في عهد المتوكل على الله.
قال الإمام الذهبي في كتابه (دول الإسلام) (ص 141)، تحت عنوان: (خلافة المتوكل على الله):
قال: بويع بالخلافة في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين بعد أخيه الواثق، فرفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة، وأمر بنشر الآثار النبوية ولله الحمد.
قلت: وفي عصرنا الحاضر يعيد الخليلي الكرة مرة أخرى ظناً منه أن الجو خلا من أهل السنة الذين سيبينون للأمة ضلال هذه البدعة التي قضى عليها المتوكل رحمه الله فنشر السنة بين المسلمين، وأخمد البدعة لأن البدع مثل الظلام، ولا يذهب الظلامَ إلا ضوءُ الشمس.
فكذلك البدع لا يذهبها إلا نور السنة والحمد لله.
وحيث انتهى الرد على الشبه التي أثارها الخليلي وظن أنها أدلة على دعواه ان القرآن مخلوق، وقد اتضح أن كل ما أورده من النصوص لا تدل على الدعوى لا بمنطوق تلك النصوص ولا بمفهومها، وإنما هي شبه يرددها أهل البدع عن أسلافهم. وقد أثبتنا زيف دعواه، من كتب الأباضية أنفسهم، من أن المدعي خلق القرآن لا دليل عنده لا من الكتاب ولامن السنة.(1/347)
فقد رأيت أنه من المناسب أن أورد أسماء عدد من علماء السلف نصوا على أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وكذلك أسماء بعض، علماء الإباضية القائلين بأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ومن قال: إنه مخلوق فقد كفر.
أولا علماء السلف:
ونبدأ بالإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله من كتابه الشريعة(1) ج1/489ـ525.
باب 16
قال: «ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله تعالى، وأن كلامه ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر».
ثم قال: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله، وعلم الله لا يكون مخلوقاً، تعالى الله عن ذلك.
ثم قال: دل على ذلك القرآن والسنة، وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول أئمة المسلمين لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمي عند العلماء كافر.
ثم شرع في ذكر الأدلة فقال: قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله.....} الآية [التوبة / 6].
وقال تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه.......} [البقرة / 75].
وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته.....} [الأعراف / 158 ]. وهو القرآن.
وقال لموسى - عليه السلام -: {إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي..} [الأعراف/144].
ثم قال: قال محمد بن الحسين - وهو المؤلف -ومثل هذا في القرآن كثير.
وقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم..} [آل عمران/61].
__________
(1) كتاب الشريعة / للإمام المحدث أبي بكر محمد بن الحسين الآجري المتوفي سنة 360 هـ تحقيق د.عبدالله الدميجي. الطبعة الأولى سنة 1418. دار الوطن.(1/348)
وقال تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} [البقرة/145 ].
ثم قال: قال محمد بن الحسين:
«لم يزل الله عالماً متكلماً سميعاً بصيراً بصفاته قبل خلق الأشياء، من قال غير هذا فقد كفر».
قال: وسنذكر من السنن والآثار وقول العلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم، ما إذا سمعها من له علم وعقل زاده علماً وفهماً، وإذا سمعها من في قلبه زيغ، فإن أراد الله هدايته إلى طريق الحق رجع عن مذهبه، وإن لم يرجع فالبلاء عليه أعظم.
ثم أورد بعد ذلك عدداً من الأحاديث والآثار، وأقوال الأئمة التي تثبت أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وذلك من ص 489 ـ 525.
ثم قال: قال محمد بن الحسين:
فيما ذكرته في هذا الباب بلاغ لمن عقل وسلم له دينه، والله الموفق لكل رشاد. أهـ
2 ـ الإمام الحافظ ابن منده المتوفى سنة 395 هـ
قال في كتابه التوحيد ج3 / 129:
«ذكر ما يستدل به من الكتاب والأثر على أن الله تعالى لم يزل متكلماً آمراً ناهياً بما شاء لمن شاء من خلقه موصوفاً بذلك».
قال الله عز وجل واصفاً لكلامه وأمره وإرادته الذي به خلق الخلق:
{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل / 40 ].
وقال عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف / 54 ].
فبان بقوله أن أمره غير خلقه، وبأمره خلق ويخلق، وقال عز وجل: {حم والكتاب المبين} إلى قوله: {أمراً من عندنا..} الآيات [الدخان / 1 ـ 5 ].
ثم قال: «ذكر الأدلة الواضحة من الأثر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ببيان ما تقدم والفرق بين القول والعلم والإرادة والفعل ».
ثم أورد الأدلة الدالة على ذلك الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعظمها في الصحيحين وذلك من الحديث رقم 546 ـ 615.
ثم أتبع هذا الفصل بقوله: «ذكر ما يدل على أن المتلو والمكتوب والمسموع من القرآن كلام الله عز وجل الذي نزل به جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم».(1/349)
ثم سرد عدداً من الآيات الدالة على ذلك. فقال: قال الله عز وجل:
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} [الكهف / 1].
{نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه} [آل عمران / 2].
{والذي أنزل عليك من ربك الحق} [الرعد / 1].
ثم ذكر عدداً من الآيات مستدلاً بها على ذلك.
وأتبعها بالأحاديث من رقم 617 ـ 635.
بدأها بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف ويقول: «إن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»، رواه أبو أحمد الزبيري وغيره عن إسرائيل.
قلت: أخرجه الدارمي في فضائل القرآن / باب القرآن كلام الله 2/317 ح3357.
3 ـ ونختم هذا بما أورده الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، فتح الباري 13/444.
قال الإمام البخاري: باب قول الله تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}.
{ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}، {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
ثم أورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وفيه: «وتصديق كلمته».
قال الحافظ بن حجر رحمه الله في شرح الحديث عن معمر عن قتادة أن المشركين قالوا في هذا القرآن: يوشك أن ينفد فنزلت: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر} الآية...
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي سمعت بعض أهل العلم يقول: قول الله عز وجل: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} وقوله: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر..}الآية، يدل على أن القرآن غير مخلوق لأنه لو كان مخلوقاً لكان له قدر، وكانت له عناية، ولنفد كنفاد المخلوقين، وتلا قوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} إلى آخر الآية.(1/350)
وفي ص453 قال:
باب 32 قوله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}. ولم يقل ماذا خلق ربكم.
وقال جل ذكره: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} .
وقال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق.
ويذكر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان» .
ثم أورد عدداً من الأحاديث تثبت صفة الكلام لله عز وجل على ما يليق بجلاله وكماله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وأورد ابن حجر اتفاق السلف على ذلك في باب 34 قول الله تعالى: {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} فتح الباري 13/ 462 ـ 463.
قال: والمنقول عن السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، تلقاه جبريل عن الله، وبلغه جبريل الى محمد عليه الصلاة والسلام وبلغه صلى الله عليه وسلم أمته.
قلت: ومعنى تلقاه جبريل عن الله سمعه منه، ثم نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكر الأدلة على أن الله عز وجل يتكلم متى شاء وكيف شاء مع من شاء، كما كلم موسى عليه السلام كما في قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}.
ثم أتبعه البخاري بقوله / باب 35 قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} {إنه لقول فصل. وما هو بالهزل}: باللعب.
ثم أورد عدداً من الأحاديث تثبت لله عز وجل صفة الكلام على ما يليق بجلاله وكماله، وأنه تعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء، لأن صفة الكلام من الصفات الذاتية الاختيارية، فهي صفة ذات وفعل يتكلم متى شاء وكيف شاء.(1/351)
وفي ص 473 قال: باب 36 كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. وأورد فيه عدداً من الأحاديث منها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة». ح رقم 7512.
وأحاديث في الشفاعة منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: «فَأَخِرُّ له ساجداً فأحمده بتلك المحامد ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله». ح رقم 7510. ففي هذا الحديث التصريح بأن الله عز وجل يكلم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ويقول له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط....الحديث.
ثم أتبعه بباب 37 ما جاء في قوله عز وجل: {وكلم الله موسى تكليماً}
وأورد فيه عدداً من الأحاديث أولها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة، قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق. فحج آدم موسى» ح رقم 7515.
يقول الحافظ بن حجر رحمه الله في شرح أحاديث هذا الباب قوله: {وكلم الله موسى تكليماً} قال الأئمة: هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة، قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، فإذا قال (تكليماً) وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة التي تعقل. قال: وأورد البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: أن خالد بن عبد الله القسري قال: إني مضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً.(1/352)
وفي هذه النصوص الصريحة من كتاب الله عز وجل التي تثبت لله ما أثبته لنفسه من صفات الجلال والكمال ومنها صفة الكلام.
والأحاديث الثابتة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم التي تثبت صفة الكلام لله مع أنبيائه ورسله.
وما يقول به علماء السلف من إثبات تلك الصفات لله عز وجل كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}
في هذه النصوص الكفاية لمن أراد الله توفيقه، ومن لم يسعه ما وسع سلف هذه الأمة فلا وسع الله عليه.
ثانياً: علماء الإباضية: الذين أثبتوا في كتبهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم ردوا على القائلين بخلقه:
1 ـ الشيخ أحمد بن النضر العماني في كتابه الدعائم ـ طبع سلطنة عمان وزارة التراث القومي والثقافة الطبعة الثانية 1409 ـ 1988 م.
قال ص 31 في الرد على من يقول بخلق القرآن:
يا من يقول بفطرة القرآن
جهلاً ويثبت خلقه بلسان
لا تنحل القرآن منك تكلفاً
ببدائع التكليف والبهتان
هل في الكتاب دلالة من خلقه
أو في الرواية فأتنا ببيان
الله سماه كلاما فادعه
بدعائه في السر والإعلان
الا فهات وما أظنك واجداً
في خلقه ـ يا غر ـ من برهان
إن كان من (إنا جعلناه) فما
في الجعل إن أنصفت من تبيان
قد قال إبراهيم رب اجعل لنا
بلدا بفضلك أفضل البلدان
وكذاك فاجعلني مقيما مخلصاً
حق الصلاة لوجهك المنان
فانظر أكان وقد دعاه لجعله
أم لم يكن خلقاً من الرحمن
وهكذا استمر في ذكر هذه القصيدة التي اشتملت على خمسة وسبعين بيتاً. وقد سبق ذكر مطلعها في ص333 وهي في ملاحق الكتاب ملحق رقم(1) وشرحها ملحق رقم (2)(1/353)
ثانياً: الشيخ أبو الحسن علي بن محمد البسيوي صاحب كتاب (الجامع) فقد رد على من يقول بخلق القرآن في كتابه هذا رداً مقنعاً بالأدلة من القرآن الكريم، وبالأدلة العقلية، وقد أثنى الخليلي نفسه على هذا العالم الإباضي وعلى كتابه هذا حين كان الكتاب مخطوطاً، وقد سبق التنبيه على هذا الكتاب ص6، ونقل نص كلامه حاشية (3) في ص 10 ـ85. وانظره ملحق رقم (3).
ثالثاً: محمد بن محبوب إمام أهل المشرق ومحمد بن هاشم ـ وقد اتفقا على ما كان عليه من السلف، وقد نقل هذا الخليلي نفسه في كتابه هذا ص 107 كما تقدم ذكره ص 201.
الجزء الثالث
الردّ على دعواه
تخليد الفساق في النار
وهي القضية الثالثة
المسألة الثالثة:
وهي قول الخليلي في كتابه هذا (ص 183 – 237) نهاية كتابه.
المبحث الثالث: خلود أهل الكبائر في النار
وهذا قول الخوارج ومن يسلك مسلكهم ويقول بقولهم، وسوف نصدر الرد بقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في الخوارج، الذي أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب استتابة المرتدين .
قال البخاري: وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: « إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين»(1).
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..} [النساء / 48].
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة الله للعالمين، القائل:
«أتاني آتٍ من ربي فأخبرني -أو قال، بشرني - أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق» رواه البخاري ح1237. والقائل: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
أما بعد: فقبل الدخول في مناقشة الخليلي في الشبه التي استند إليها وجعلها دليلاً على (تخليد أصحاب الكبائر من الموحدين في النار) يحسن أن نذكر للقارئ الكريم الأمور التالية باختصار:
__________
(1) فتح الباري (12/282).(1/354)
1 ـ مذهب أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة من عصاة الموحدين.
2 ـ مذهب الخوارج في ذلك.
3 ـ مذهب المعتزلة .
4 ـ مذهب الإباضية.
أولاً: مذهب أهل السنة والجماعة:
أهل السنة والجماعة يقولون: من مات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على التوحيد لا يخلد في النار، مهما ارتكب من الذنوب، دون الشرك بالله، وذلك استدلالاً بالآية السابقة، وبالحديث السابق المتفق على صحته.
والمراد من الحديث «دخل الجنة» أي صار إليها إما ابتداء من أول الحال، وإما بعد أن يقع ما يقع عليه من العذاب، كما في أحاديث الشفاعة المتواترة بأن يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والتي سيرد ذكر بعضها في موضعه.
وسوف نورد طائفة منها في خاتمة البحث.
وأما في الدنيا فهو مسلم عاص يعامل معاملة المسلمين.
ثانياً ـ الخوارج:
قالوا: إن مرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كافر في الدنيا لا يرث ولا يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وفي الآخرة مخلد في النار. واستدلوا على رأيهم هذا بآيات نزلت في الكفار فطبقوها على المسلمين.
ثالثاً ـ المعتزلة:
قالوا: إن مرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا أنه في منزلة بين المنزلتين خرج من الإيمان، ولم يدخل الكفر.
هذا من حيث التسمية.
وأما الحكم: فقالوا إنه في الدنيا يعامل معاملة المسلمين، يرث ويورث، ويغسل ويكفن، ويدفن في مقابر المسلمين.
وأما في الآخرة فهو خالد مخلد في النار (1).
وذلك إنفاذاً لأحد أصولهم الخمسة، وهو وجوب إنفاذ الوعيد، أي أنه يجب على الله أن يدخل النار كل من ارتكب معصية توعد الله عليها بالنار.
__________
(1) الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص666. تحقيق عبد الكريم عثمان. الطبعة الأولى 1384 هـ الناشر مكتبة وهبة.(1/355)
وإذا أدخل العاصي النار فلا يخرج منها، لأنهم أنكروا أحاديث الشفاعة لأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفسروا الشفاعة في الآيات الواردة في كتاب الله برفع الدرجات(1)لأهل الجنة فقط.
رابعاً ـ الإباضية :
قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر في الدنيا كفر نعمة، وأما في الآخرة فهو خالد مخلد في النار، هذا قول ومعتقد الإباضية.
وهو ما يعبر عنه الخليلي بأن المعتزلة يوافقونه في القول بتخليد العصاة في النار.
وقال محمد بن يوسف اطفيش في كتابه «الجامع الصغير» ص7: هذه عقيدة على مذهب أهل الاستقامة من المسلمين، وقال فيها ص12 بعد إنكار الميزان والصراط والرؤية: ومن عصاه ففي النيران مسكنه ولم يجد مفزعاً عنها فينتقلا(2).
ومن العجب أنه يرد عليهم في الحكم على مرتكب الكبيرة في الدنيا وعلى الخوارج ويقول: إنهم خالفوا النصوص من الكتاب والسنة، وكأنه هو لم يخالف النصوص بدعواه ـ تخليد أصحاب الكبائر الموحدين في النار.
والأعجب من هذا قول أبي بكر أحمد بن عبدالله بن موسى الكندي النزواني «أن كل من مات على الدين الإباضي مقطوع له بالجنة»(3).
__________
(1) الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 689 ـ 69.
(2) انظر كتاب الجامع الصغير / تصنيف محمد بن يوسف اطفيش الجزء الأول ص12 طبع وزارة التراث القومي والثقافة / سلطنة عمان ـــ 1416 هـ ـ 1986 م.
-وكتاب معالم الدين / لعبد العزيز التميني المصعبي ج1/286، ج2/196. طبع سلطنة عمان وزارة الثقافة سنة 1417هـ ـ 1986م.
- وكتاب الاستقامة / لأبي سعيد محمد الكدمي ج3/243، طبع سلطنة عمان وزارة الثقافة سنة 1415هـ ـ 1985م.
- وكتاب كشف الكرب ج1/61،62. طبع سلطنة عمان سنة 1415 هـ ـ 1985م.
-الإباضية بين الفرق الإسلامية / لعلي يحيى معمر ج2/ 287، طبع سلطنة عمان وزارة التراث سنة 1416هـ ـ 1986م.
(3) الجوهر المقتصر ص 116، تحقيق سيد إسماعيل كاشف، طبع سلطنة عمان وزارة التراث القومي سنة 1416هـ ـ1985م.(1/356)
ومن المناسب أن نشير إلى سبب مخالفة هؤلاء لنصوص الكتاب والسنة الصريحة في بيان أن أصحاب الكبائر تحت مشيئة الله عز وجل، وأن مصير مرتكب الكبيرة إلى الجنة إما من أول الحال، وإما بعد أن يقع ما يقع عليه من العذاب.
وأولى من يعبر عن سبب هذا الانحراف عن نصوص الكتاب والسنة الصحابي الجليل عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما.
فقد جاء في صحيح البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم.
قال البخاري (باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم)
وقول الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}.
قال: وكان عبد الله بن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: «إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين».
فهذا وصف عبدالله بن عمر رضي الله عنه للخوارج وبيان جهلهم بكتاب الله.
وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهل وعدم الفقه في الدين، مع الجلد في العبادة، فقال صلى الله عليه وسلم مخاطباً الصحابة رضوان الله عليهم:
«تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وقراءتكم مع قراءتهم».
وفي رواية لمسلم «قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يعد تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية» (1).
وأما الذين جاؤوا من بعدهم - من معتزلة وإباضية - ممن يقول بقولهم في تخليد الفساق من الموحدين في النار، فقد بين العلماء أنهم إزاء النصوص الواردة في أهل المعاصي ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول- يجهلون هذه النصوص. أي نصوص الوعد والوعيد.
والقسم الثاني- معاندون لها مقلدون لأئمتهم، فيتعمدون في تأويل تلك النصوص لتوافق مذهبهم، ويشاركون الجهال في إنزال النصوص الواردة في الكفار فيطبقونها على المؤمنين كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) البخاري كتاب استتابة المرتدين ح 6934.
مسلم ـ كتاب الزكاة / باب الخوارج شر الخلق والخليقة ح 1068.(1/357)
وسيجد القارئ في هذا البحث أن الخليلي من هذا القسم الذي يتصف بالعناد والجهل في آن واحد، فيعرف أن النص وارد في الكفار ثم ينزله على المؤمنين.
وبعد الانتهاء من هذا التمهيد الذي أشرنا فيه إلي بيان سبب دخول فكرة دعوى خلود أصحاب الكبائر من الموحدين في النار، نبدأ في مناقشة ما أورده الخليلي في كتابه هذا من شبه جعلها أدلة استند إليها في الحكم على عصاة الموحدين بالتخليد في النار، كتخليد الكفار والمشركين الشرك الأكبر والمنافقين النفاق الاعتقادي.
ليتضح للقارئ هل الآيات التي استدل بها على دعواه نزلت في عصاة الموحدين، أو نزلت في الكفار فأنزلها على المؤمنين، كما صنع الخوارج الذين وصفهم عبدالله بن عمر.
ونبدأ فيما يلي بمناقشته والرد عليه فيما أورده في مقدمة بحثه.
(( المقدمة ))
بدأ ـ الخليلي ـ في ص 185 بمقدمة قال فيها:
مقدمة في تعريف الخلود والكبائر
ثم أورد تعريف الخلود من لسان العرب ج2 ص1225ط دار المعارف1119م
فذكر له معنيين:
الأول: البقاء الدائم ـ قال: وكلام صاحب اللسان يدل على أن الخلد موضوع لغة للدوام الأبدي، وهو مذهب الزمخشري. وابن عطية والقرطبي والشوكاني من المفسرين.
والثاني: أن الخلود موضوع للمكث الطويل. مع قطع النظر عن دوامه أو انقطاعه، وذهب إلى هذا المعنى الرازي وأبو حيان وأبو السعود وقطب الأئمة.
فهو عند هؤلاء من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود، كاقترانه بالأبد في قوله تعالى في اللذين آمنوا وعملوا الصالحات: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً..}[البينة:8].
وقوله: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً..}[الجن:23].
وما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما وإجماع الأمة.(1/358)
قال: وهؤلاء نظروا إلى إطلاق الخلود على المكث المنقطع في كلام العرب كبيتي لبيد والأعشى، وإن الحقيقة هي الأصل في الاستعمال.
والبيتان هما ـ قول لبيد في معلقته:
صما خوالد مايبين كلامها
وقول الأعشى:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال
قال فهذا محمول عند هؤلاء على التجوز.
قال: وتعقبهم العلامة البطاشي بقوله: (كما أخذت العرب من الخلد قولهم للأحجار (خوالد) فقد أخذوا من الأبد قولهم للوحوش (أوابد) ثم ذهب يرد على الاستدلال اللغوي في مسألة (الخلود) فرتب سبب الخلاف على المفهوم اللغوي فقال في أول ص 187 (وبحسب هذا المفهوم ـ وهو الدوام الأبدي ـ كان اختلاف الأمة في خلود المجرمين في النار، كما سيأتي بيانه إن شاء الله).
هذا ما ذكره في تعريف الخلود، ثم رتب الخلاف عليه ولم يتعرض لذكر الأدلة التي أشار إليها من الكتاب والأحاديث الصحيحة الصريحة في إخراج الموحدين من النار، وبيان أن المخلدين في النار هم الكفار، والمشركين الشرك الأكبر، والمنافقين النفاق الاعتقادي.
«الرد»
ونقول إن قوله: إن الخلود في اللغة يأتي بمعنى الدوام الأبدي، ويأتي بمعنى طول المكث. فهذا كلام صحيح.
وأما بالنسبة للزمخشري. وأنه يقول: إنه موضوع لغة للدوام الأبدي فنسبة هذا القول للزمخشري صحيحة، لأن الزمخشري رأس المعتزلة، وعقيدة المعتزلة في أهل الكبائر: أنهم في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، فمن ارتكب كبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، هذا حكمه في الدنيا، ويعاملونه معاملة المسلم إذا مات فيرث ويورث، ويغسل ويكفن، ويدفن في مقابر المسلمين.(1/359)
وأما حكمه في الآخرة عندهم: فإنه مخلّد في النار، تنفيذاً لأحد أصولهم الخمسة وهو تنفيذ الوعيد ومعناه: أن كل من ارتكب ذنباً عليه وعيد بالنار يجب على الله عز وجل ـ عندهم ـ أن يدخله النار(1)، ومن دخل النار لا يخرج منها، لأنهم يردون أحاديث الشفاعة المتواترة عند أهل السنة والجماعة التي سيرد ذكرها.
وعقيدة الزمخشري هذه هي عقيدة المؤلف الخليلي وهي عقيدة (الإباضية) فهكذا يعاملون مرتكب الكبيرة، غير أنهم في الدنيا يسمونه كافر نعمة. أما في الآخرة فمخلد في النار.
ولكن نسبة الخليلي هذا القول إلى ابن عطية، والقرطبي، والشوكاني، دعوى غير صحيحة، ونأسف لمثل الخليلي- وإن كان ذلك لا يستغرب منه وممن هو على شاكلته ـ أن ينسب إليهم قولاً ولا يذكر مرجعه ولا الكتاب الذي أخذه منه. مع أن مؤلفاتهم في متناول يده، وعمله هذا مخالف لأصول البحث العلمي.
وحيث إنه أورد في ص 186 في هذا المبحث الذي هو تعريف الخلود، قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} [الجن/23].
فإني رجعت لتفسير هذه الآية في تفسير ابن عطية، والقرطبي، والشوكاني.
لنعرف رأيهم في تفسير (المعصية) في الآية وتفسير (الخلود) وهل المقصود بذلك عصاة الموحدين؟
وإليك نص كلامهم:
يقول ابن عطية: {ومن يعص الله} يريد الكفر بدليل الخلود المذكور(2).
ويقول القرطبي: {ومن يعص الله ورسوله} في التوحيد والعبادة (3).
ويقول الشوكاني: {ومن يعص الله ورسوله} في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه (4).
فهذه أقوال من نسب إليهم القول في دوام الخلود، فإنهم يقصدون به تخليد الكفار في النار، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة والجماعة.
__________
(1) الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 621 ـ 666.
(2) تفسير ابن عطية المحرر الوجيز ج 15/ 150الطبعة الأولى سنة 1412هـ ـ 1991م ـ بدولة قطر.
(3) تفسير القرطبي ج 19 / 26.
(4) تفسير الشوكاني ج 5 / 301 مطبعة الحلبي.(1/360)
وقد فسروا المعصية هنا بالكفر بالله، وترك التوحيد الذي دعاهم الله إليه وأمرهم به.
ولم يفسروا المعصية بالكبيرة كما هو رأي المؤلف وعقيدته، وعقيدة من تبعهم.
لأنهم كما قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -: (انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين).
قلت: ومنها هذه الآية كما سيأتي مثيلاتها في استدلال المؤلف.
أما دعواه أن سبب الخلاف في تخليد الفساق في النار أو عدم تخليدهم في النار بين أهل السنة والجماعة وغيرهم هو الخلاف اللغوي في معنى الخلود، فليس ذلك هو السبب وحده كما يدعي، لأن الأمر المتفق عليه بين أهل السنة والجماعة في تفسير كتاب الله -الذي هو الأصل للأحكام الشرعية ـ أن يفسر أولاً:
القرآن بالقرآن، لأنه ما أجمل في آية فقد بين بآية أخرى...
ثم بالسنة المبينة والموضحة والشارحة للقرآن الكريم كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم..} [النحل/44].
وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..} [الحشر/7].
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -:لا ينطق عن الهوى . إن هو إلى وحي يوحى.
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» يعني السنة، فالسنة وحي تنزل عليه كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن (1).
ثم بأقوال الصحابة، لأنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح..
ثم بأقوال التابعين ومنهم: مجاهد بن جبر ـ الذي ثبت عنه أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وابن عباس رضي الله عنهما هو الصحابي الجليل ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله بالفقه في الدين وتعليمه التأويل ـ أي التفسير.
ثم بعد ذلك يرجع الى اللغة التي نزل بها.
__________
(1) تفسير ابن كثير، المقدمة ج1 / 12 ـ 15 .(1/361)
فهذا هو الأصل في تفسير كتاب الله الكريم، وهو نزل باللغة العربية ولا أحد ينكر دلالة اللغة العربية على المعنيين الواردين في الخلود وهما الدوام والمكث الطويل، ولكن هذه دلالة لغوية فقط.
ولكن ما دلت عليه اللغة يفسر بما دلت عليه النصوص الشرعية، وذلك في جميع الأحكام الشرعية العقدية والعملية.
فمثلا جاء في كتاب الله عز وجل الأمر بإقام الصلاة، وجاء فيه الأمر بحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
فإذا قرأنا الآيات الكثيرة التي فيها الأمر بإقام الصلاة.
ورجعنا لكتب اللغة لتفسير الصلاة فسنجد أن الصلاة لغة: الدعاء.
ولن تجد في المصحف -من أوله إلى آخره - أن صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والفجر ركعتين.
ولا تجد أن افتتاح الصلاة بالتكبير وختامها التسليم.
وإنما وجدنا ذلك كله في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشارحة والمبينة لما جاء في كتاب الله تعالى، فقد صلى جبريل عليه السلام صبيحة الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس كلها.
وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة قولاً وفعلاً وقال لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(1) .
ومثال آخر وهو الحج وأعماله، وهو ركن من أركان الإسلام، فرضه الله على عباده بقوله: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران/97].
وقال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج /29].
فإذا رجعنا لمعنى الحج لغة: وجدناه: القصد.
فهل يكفي المسلم أن يذهب إلى مكة قاصداً لها ولا يعمل شيئاً من مناسك الحج؟.
__________
(1) البخاري/ح6008.(1/362)
وإذا رجعنا إلى السنة لمعرفة ما يجب على المسلم أن يعمله ليتم حجه، وجدنا فيها بيان مناسك الحج التي يبدأ المسلم فيها بالإحرام من ميقاته على الصورة المعروفة من البدء بالنية، والتجرد من المخيط، والتلبية بالحج أو العمرة، والطواف بالبيت سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، إلى آخر أعمال الحج القولية والفعلية، والتي لم ينص عليها في القرآن الكريم، ولم نتمكن من معرفة تلك الأحكام من اللغة وإنما أخذناها من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال لأصحابه بعد كل عمل يعمله من أعمال الحج: «خذوا عني مناسككم».
وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي يجب على المسلم معرفتها، وأن لا يحكم على المسلمين بخلافها، لأن الحكم على مسلم- يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويؤدي فرائض الله- بالخلود في النار، مصادم لحكم الله.
وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..} [النساء / 116].
فجعل كل الذنوب -دون الشرك به، تحت المشيئة.
ولقوله صلى الله عليه وسلم:«أتاني آت فأخبرني -أو قال بشرني- أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق»(1).
وبهذا يتبين أن الخلاف بين الخوارج ومن يسلك مسلكهم في تخليد أهل الكبائر في النار، وبين أهل السنة القائلين بعدم التخليد، إنما هو ورود النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على أنه لا يخلد في النار إلا الكافر الكفر الأكبر، أو المشرك الشرك الأكبر، أو المنافق النفاق الاعتقادي.
وليس السبب في الخلاف بين الأمة -كما ادعى الخليلي- أنه بحسب المفهوم اللغوي من لفظ الخلود، هل هو موضوع للدوام الأبدي، أو للمكث الطويل.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز. ح 1237 .(1/363)
لأن أهل السنة يقولون: هو موضوع للدوام الأبدي لمن نص عليهم كتاب الله أنهم خالدون مخلدون في النار أبداً، وهم الذين كفروا بآيات الله كما قال تعالى:
{إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} [النساء / 56].
وهو شامل للمشركين والمنافقين كما تقدم.
وقال في المؤمنين: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً} [النساء 57].
وهي تشمل كل موحد مات على التوحيد، ولكن منهم السابقون، ومنهم المقتصدون، ومنهم الظالم لنفسه بالمعاصي، فبعد تطهيره من ذنوبه أو عفو الله عنه يدخل الجنة كما جاء في أحاديث الشفاعة المتواترة، وكما جاء في وعد الله للأصناف الثلاثة كما في سورة فاطر الآيات / 32ـ33 وهي قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفوز الكبير. جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} فالظالم لنفسه بفعل بعض المعاصي مآله إلى الجنة إن لم يعفو الله عنه أول الحال.
وفي آخر ص 187 ـ انتقل إلى ذكر الفقرة الثانية مما جاء في عنوان المقدمة، وهو تعريف الكبائر فقال: (وأما الكبائر فهي جمع كبيرة، وهي كل ما عظم من المعصية، فترتب على ارتكابها وعيد في القرآن أو السنة الصحيحة، سواء شرع لها حد في الدنيا كالزنا والسرقة وقذف المحصنات، أم لم يشرع كأكل الربا والدم ولحم الخنزير).
هذا ما قاله في حد الكبيرة.
وقد ذكر شارح الطحاوية في شرحه لقول الإمام الطحاوي رحمه الله:
وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون.(1/364)
قال: وهذا رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم من الإيمان لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين المنزلتين. -أي في الدنيا - أما في الآخرة فيخلدون في النار.
إلى أن قال: واختلف العلماء في الكبائر على أقوال فذكرها إلى أن قال:
وقيل: إنها ما يترتب عليها حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال (1).
وهؤلاء المرتكبون لتلك الكبائر ـ إن كانت من الكبائر المخرجة من الملة فهم يستحقون التخليد في النار لكفرهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:« أكبر الكبائر الشرك بالله»(2) وأما ما دون الشرك بالله فهي تحت المشيئة بنص الآية والحديث.
وبعد أن انتهى من المقدمة انتقل إلى الفصل الأول فقال في ص 188 ـ 191: الفصل الأول وعنوانه:
«في اختلاف الناس في خلود الجنة والنار»
ثم ذكر أن جماعة ادعوا فناءهما وعدم دوامهما.
قال: وهؤلاء الشاذون طائفتان:
أولاهما: محسوبة على هذه الأمة، وهي الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان.
ثانيتهما: لا صلة لها بالأمة المحمدية لعدم إيمانها بالكتاب، وبنائها أفكارها على أسس مادية بحتة.
ثم ذكر شبهة الطائفة الأولى ـ الجهمية ـ ورد على الشبهة التي استندت إليها في دعواها فناء النار والجنة.
كما رد على الطائفة الثانية وذلك في ص 188 ـ 189.
__________
(1) شرح الطحاوية 1 /524 ـ 525.
(2) فالشرك أكبر الكبائر، وصاحبه مخلد في النار لشركه بالله. كما في البخاري ح 6919.(1/365)
قلت: وأهل السنة والجماعة لا يخالفونه في الرد على الطائفتين لمخالفة أفكارهما كتاب الله والثابت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من دوام الجنة التي أعدت للمؤمنين المتقين الذين ماتوا على توحيد الله، وإخلاص العبادة له، وعدم الشرك به من السابقين بالخيرات، والمقتصدين، والظالمين لأنفسهم بالمعاصي وذلك بعد تطهيرهم من ذنوبهم إن شاء الله ذلك، وإن شاء عفا عنهم من أول الحال، ودوام النار التي أعدها الله للكافرين، والمشركين بالله الشرك الأكبر، والمنافقين النفاق الاعتقادي الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فهذا هو قول أهل السنة والجماعة في دوام الجنة ونعيم أهلها، ودوام النار وعذاب أهلها الذين هم أهلها.
ولكن المؤلف الخليلي له فلسفة أخرى يخالف بها رأي أهل السنة في اعتقادهم دوام النار ودوام عذاب الكفار، حيث ينسب إليهم ما سترى أن أقوالهم صريحة في مخالفة دعواه، بل إنه يصرح أن بعض المعاصرين صرحوا بما يوافق قوله في موضع من كتبهم، ثم يأسف عليهم كما يقول لوقوعهم في نفس ما سماه أحبولة اليهود.
أما ابن القيم رحمه الله فهو خصمه اللدود، فإنه يدعي عليه أنه وافق الجهمية في القول بفناء النار، قال ذلك بعد أن ذكر أسطراً في أول ص 190 ليدخل من ورائها إلى رأيه، فقال بعد الرد على الطائفتين المدعية لفناء النار قال:
(ولعالم الغيب طبائع تكوينية خاصة تختلف كل الاختلاف عن طبائع عالم الشهود، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر، كما أن للبقاء المطلق أحوالا تميزه عن البقاء المحدود).
قال: (وإذا أدركت أن الحياة في الدار الآخرة لا تتصرم لأنها حياة مصيرية وليست حياة مرحلية، وحياة جزاء لا حياة كسب، فاعلم أن جزاءها جزاء أبدي، سعادة كان أو شقاء، إذ لا فرق بين ثوابها وعذابها.(1/366)
ثم قال: وإن ذهبت طوائف من الناس إلى التفرقة بينهما، وفي مقدمة هؤلاء اليهود، الذين حكى الله عنهم هذا القول في سلسلة تعداد مثالبهم، وأنكره عليهم وطالبهم بدليل يستندون إليه فيه، وبين بأصرح عبارة أن الحق خلاف ما يقولون، وذلك حيث يقول: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون . بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة / 80ـ81].
ثم قال: وبهذا تعلم أخي القارئ أن القول بتحول الفجار من العذاب إلى الثواب ما هو إلى أثر من آثار الغزو اليهودي للفكر الإسلامي، قال: وقد تنبّه لذلك العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا، فقال في مقدمة تفسيره لسورة البقرة من المنار (القاعدة السادسة أن الجزاء على الإيمان والعمل معا لأن الدين إيمان وعمل، ومن الغرور أن يظن المنتمي إلى دين نبي من الأنبياء أنه ينجو من الخلود في النار بمجرد الانتماء، والشاهد عليه ما حكاه الله لنا عن بني إسرائيل من غرورهم بدينهم، وما رد به عليهم حتى لا نتبع سننهم فيه، وهو: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} وما حكاه عن اليهود والنصارى جميعاً من قولهم:{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم..} الآيتين [111ـ112]، ولكننا قد اتبعنا سننهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، مصداقاً لما ورد في الحديث الصحيح، وإنما نمتاز عليهم بأن المتبعين لهم بعض الأمة لا كلها، وبحفظ نص كتابنا كله وضبط سنة نبينا في بيانه، وبأن حجة أهل العلم والهدى منا قائمة إلى يوم القيامة(1).
__________
(1) المنار ج1 / 112 الطبعة الرابعة ـ دار المنار.(1/367)
قلت: إن ـ الخليلي ـ قد نقل هذا النص عن السيد محمد رشيد رضا واصفاً له بالعلامة الجليل، ظناً منه أنه على رأيه في تخليد أصحاب المعاصي من المسلمين ممن مات على التوحيد في النار، أو أنه يعرف رأيه في ذلك وأنه يقول بما يقوله أهل السنة، ولكنه كعادة أهل البدع الذين يريدون ترويج ما يدعون إليه بأن أهل السنة يقولون بقولهم.
مع أن ما نقله عن السيد محمد رشيد رضا لا يدل على ما يريد،ولكن مع هذا فقد كفانا الخليلي نفسه الرد على دعواه هذه، وذلك بما نقله عن السيد محمد رشيد رضا نفسه، مظهراً الأسى والحزن عليه فقال بعد الانتهاء من النص السابق من المنار وفي الصفحة نفسها (191) من كتابه هذا حيث قال : (وإذا كنا نسر بإماطة هذا العلامة الكبير لحجاب التقليد عن عينيه حتى أبصر الحقيقة واضحة، فإنا نأسف على وقوعه نفسه في هذه الأحبولة حتى تردد في هذه المسألة فقال تارة بالتمييز بين عصاة الموحدين وغيرهم، كما في تفسيره لسورة يونس.
وذهب تارة أخرى إلى القول بانقطاع عذاب النار على الإطلاق متأثراً بقول ابن القيم الموافق للجهمية في ذلك كما في تفسيره لسورة الأنعام. قال: وسأنقل إليك أخي القارئ ما يمكنني نقله من نصوص عباراته موثقة حسب اقتضاء المقام.
ومن خلال هذا الذي ذكرته تعلم أخي القارئ أن ابن القيم قد أخذ في هذه القضية بشطر من مذهب الجهمية كما سيأتي بيانه إن شاء الله).
قلت: وما وعد به من زيادات من النقل عن ابن القيم جاء في ص197 وهو سطر واحد في الفصل الثاني عقب به على قول المدعين لفناء النار،حيث قال: (وأما النظريات الفلسفية فمنها ما تقدم نقله عن الجهمية ومنها ما أورده ابن القيم في كتابيه الصواعق المرسلة وحادي الأرواح) ثم قال في الحاشية رقم (2) انظر الصواعق المرسلة ص 22/24. مطبعة الإمام.
وحادي الأرواح ص 252/277 دار الكتب العلمية.
والجواب على ذلك فيما يأتي:(1/368)
فأقول: أما الذي ادعاه على محمد رشيد رضا صاحب المنار فقد كفانا بنفسه الرد عليه، حيث نقل عنه خلاف ما ادعاه عليه متأسفاً عليه.
حيث قال في ص191: (فإنا نأسف على وقوعه نفسه في هذه الأحبولة حتى تردد في هذه المسألة، فقال تارة بالتمييز بين عصاة الموحدين وغيرهم كما في تفسيره لسورة يونس..)الخ ما سبق ذكره.
قلت: وإذا تأملت كلام محمد رشيد رضا لا تجد فيه ما يدعيه عليه، وإنما قال: إن انتماء الإنسان إلى الدين دون عمل فإن هذا الانتماء لا ينفعه، وصاحب الكبيرة من عصاة الموحدين لا ينطبق عليه ذلك، فهو يعمل ولكنه مع ذلك بشر يخطئ فيرتكب المعصية، وقد جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وفيه: يقول الله: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. إلى قوله: ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة»(1).
ونقول: وهذا هو قول محمد رشيد رضا، موافقاً لأهل السنة والجماعة، فهو يقول بقولهم مستدلاً على ذلك بالنصوص من الكتاب والسنة.
وأما دعواه على الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله من أنه يقول بقول الجهمية في فناء النار وأن محمد رشيد رضا قال ذلك متأثراً بابن القيم فإليك أيها القارئ الكريم قول ابن القيم من كتبه التي نقل عنها ـ الخليلي ـ دعواه عليه:
__________
(1) صحيح مسلم فضل الذكر ح (7862) .(1/369)
يقول ابن القيم في كتابه «الصواعق المنزلة» ـ وهي في المختصر من المطبوع 1 /352.وفي «شفاء العليل» ص 258 ـ 260 في القول (بدوام النار وفنائها) وفي كتابه «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» من ص254 ـ 289 في الباب السابع والستين، الذي عقد تحته أربعة فصول أورد فيها الأقوال في أبدية (الجنة والنار) وبعد أن أورد الأقوال: قال: (فصل: والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق- وبعد أن ذكر تلك الطرق قال في آخر ص 27: وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضاً على انقطاعه في حق الموحدين، وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهذا معترك النزال، فمن كان السمع من جانبه فهو أسعد بالصواب.
ثم بدأ في الفصل الذي يليه فذكر الفرق بين دوام الجنة والنار عقلاً وشرعاً، فسرد خمسة وعشرين وجهاً، وحينما انتهى من الوجه الخامس والعشرين،قال: فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب.
ثم قال: فإن قيل: فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إن ربك فعال لما يريد}.
إلى هذا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء.
وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء، بل وإلى هنا انتهت أقدام الخلائق.
قال: وما ذكرناه في هذه المسألة بل في الكتاب كله من صواب فمن الله سبحانه وهو المانّ به، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه، وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده والله أعلم.أهـ(1/370)
فنقول: من هذا الكلام أخذ الخليلي ومن يوافقه في رأيه أن ابن القيم يقول بفناء النار وعدم دوامها، وأقول: إن هذا الكلام ليس فيه دليل لمن يدعي عليه ذلك، وإذا كان كلام ابن القيم في هذا المكان غير صريح في القول (بدوام النار) فيجب على الباحث أن يرجع إلى كتبه الأخرى لينظر هل كلامه في هذه المسألة في جميع كتبه غير صريح، لأنه إذا وجد كذلك فيكون هذا قوله بهذا الاستقراء، وإن وجد في مكان آخر صريح إما بالقول بفناء النار وإما بالقول بدوامها، فيحمل القول غير الصريح على القول الصريح.
وعلى هذه القاعدة نبدأ بكتاب ابن القيم ـ «حادي الأرواح» الذي أورد فيه هذه الأقوال كما سبق ذكرها وتحديد صفحاتها.
فنقول: النص الأول: جاء في «حادي الأرواح» وفي الطبعة نفسها ص 39 التصريح بأن النار لا تفنى حيث قال: (وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله عز وجل، وخلق الخلق لهما ولا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبداً، فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل: {كل شيء هالك إلا وجهه} وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا.أهـ
فهو في هذا النص يقطع ببقاء النار ودوامها.
2 ـ النص الثاني ـ هو ما جاء في مقدمة كتابه ((زاد المعاد...)) ص 14ـ15
قال فيه: (فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار، فجعل الدور ثلاثة:
* دار أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين، وقد جمعت كل طيب وهي الجنة.
* ودار أخلصت للخبيث والخبائث، ولا يدخلها إلا الخبيثون وهي النار.
* ودار امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما.. إلى أن قال:(1/371)
وإقامة هذا النوع من الناس في النار حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، فأسرعهم زوالاً وتطهيراً أسرعهم خروجاً، وأبطؤهم أبطؤهم خروجاً، جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد، ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان (1)، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حرم الله على المشرك الجنة.)أهـ
3ـ وأصرح منه النص الثالث وهو ما جاء في كتابه «الوابل الصيب..» ص49حيث قال: (ولما كان الناس على ثلاث طبقات، طيب لا يشينه خبث، وخبث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب.
فكانت الدور ثلاثة:
* دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان.
* ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض.أهـ
وبنقل هذه النصوص من كتبه يتضح للقارئ الذي يريد الحق أن مذهب ابن القيم هو مذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بدوام النار وأبديتها، وأن الكفار والمشركين والمنافقين النفاق الاعتقادي هم أهل النار الذين لا يموتون فيها ولا يحيون، بل عذابهم دائم كما قال تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيماً} [ النساء / 56 ].
وهذا القول هو الواجب بأن ينسب إلى ابن القيم رحمه الله لأنه هو ما صرح به في كتبه، وهو المتفق مع نصوص الكتاب والسنة، ولهذا قال في «حادي الأرواح» ص27. بعد نقله للأقوال في هذه المسألة قال:
__________
(1) ويدل على ذلك قوله تعالى عن الكفار: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين. بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام 27 ـ 28].(1/372)
(إن من كان السمع من جانبه فهو أسعد بالصواب، ولهذا نقل النصوص الدالة على دوام النار وعدم فنائها، وأن القائلين بفناء النار هم أهل البدع.
وأن النار لا تفنى، وأن الكفار يعذبون فيها كما قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر / 36].
ثم قال في ص 191 : (وذهب الأشعرية ومن حذا حذوهم من الطوائف المنتسبة إلى السنة، إلى خلود الدارين، وعدم انقطاع ثواب الأبرار، وعذاب غير الموحدين من الفجار، أما الموحدون، فقالوا: إنهم يعذبون إلى أمد ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فيتنعمون ويخلدون فيها مع الأبرار.
قلت: وهذا قول أهل السنة قاطبة ومنهم ابن القيم، وكل أتباع السلف يقولون ذلك ومنهم محمد رشيد رضا.
ثم قال: (وعقيدتنا معشر ـ الإباضية ـ أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد، كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها، إذ الداران دارا خلود.
قال: ووافقنا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم.
قال: وإنما خالفنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة.
فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة).أهـ
إلى هنا انتهى كلام الخليلي.
قلت: وقد أبان عن عقيدة الإباضية في الحكم على عصاة الموحدين بالخلود في النار، مخالفين بقولهم هذا جميع الطوائف المنتسبة للسنة، كما يقول مبيناً أن هذه العقيدة -وهي القول ـ بخلود العصاة من الموحدين في النار- وافقهم فيها:
* المعتزلة.
* والخوارج على اختلاف طوائفهم، قال:
(وإنما خالفهم الخوارج في مسألة واحدة وهي حكمهم على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة).
ثم ادعى على الخوارج أنهم في هذه المسألة خالفوا نصوص الكتاب والسنة والإجماع.(1/373)
ومعنى هذا أن الخليلي وطائفته ـ الإباضية ـ لم يخالفوا في هذه المسألة وهي دعواهم خلود عصاة الموحدين في النار، لا الكتاب ولا السنة ولا الإجماع.
« الرد»:
مناقشة الخليلي في فقرات هذا النص الذي نقلناه عنه كاملاً ليتضح للقارئ زيف ما ادعاه الخليلي.
فنقول: اشتمل هذا النص على الفقرات التالية:
1 ـ دعواه على أهل السنة أنهم أخذوا القول بخروج عصاة الموحدين من النار من اليهود.
2 ـ دعواه على صاحب المنار أنه يقول بقوله في خلود عصاة الموحدين في النار، ولكن سبق نقل اعترافه بأن صاحب المنار يقول بقول أهل السنة وأبدى تحسره وأسفه عليه، إلا أنه ادعى عليه أنه تابع في ذلك ابن القيم ـ لا بخروج العصاة من النار فحسب، بل بالقول بانقطاع عذاب النار على الإطلاق كما تقول الجهمية.
3 ـ دعواه أن مذهبه ومذهب الخوارج واحد، وأنه لا خلاف بينهم إلا في الحكم على مرتكب كل معصية في الدنيا تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة، وأنهم في حكمهم هذا خالفوا نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ومعنى هذا ـ أن من خالف نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، يضرب بقوله عرض الحائط ولا يلتفت إليه، وينبغي من باب العدل والإنصاف أن يساوى بين الطوائف في الحكم، وهو أن من خالف نصوص الكتاب والسنة والإجماع، أن لا يلتفت لقوله.
ونبدأ بالرد على المسألة الأولى: (وهي دعواه: أن أهل السنة أخذوا مذهبهم بالقول بعدم خلود عصاة الموحدين في النار من اليهود).
فنقول: إن أهل السنة والجماعة أخذوا مذهبهم بعدم خلود عصاة الموحدين في النار من:
1 ـ كتاب الله - عز وجل -.
2 ـ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المعصوم من الزلل.
3 ـ ومن إجماع سلف الأمة الصحابة والتابعين والأئمة المهديين.
* أما نص كتاب الله - عز وجل -:
فالله يقول: {إن الله لا يغفر إن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..} [النساء116].(1/374)
فكل المعاصي دون الشرك بالله عز وجل تحت مشيئته، يغفر لمن يشاء بفضله ورحمته، ويعذب من يشاء بعدله وحكمته. {لا يسأل عما يفعل} سبحانه وتعالى.
2 ـ ومن السنة: في صحيح مسلم كتاب الذكر باب فضل الذكر والدعاء والتقرب.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله - عز وجل -: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر.. إلى قوله: ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة (1)».
فهذا الحديث القدسي نص صريح في أن الله عز وجل يغفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ولو ملأت الأرض، إذا جاءه صاحبها موحداً بالله غير مشرك به أحداً، وهو نص الآية السابقة ذكرها وهي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء/116 ].
2 ـ ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر.
وفي رواية مسلم قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.
فهذه الأدلة من الكتاب والسنة صريحة في أنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، وأنه مهما عذب في النار فإنه سيكون مآله الى الجنة بدون شك ولا تردد، لقول الصادق المصدوق بإخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما في أحاديث الشفاعة المتواترة.
__________
(1) مسلم / الذكر والدعاء ح22 (2687)، البخاري / كتاب الجنائز باب من كان آخر كلامه لاإله إلا الله، فتح الباري 3/109. ومسلم / كتاب الإيمان / باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ح 94.(1/375)
3 ـ الإجماع: فقد أجمع أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة: الصحابة ومن جاء بعدهم وسلك مسلكهم، أنه لا يخلد في النار إلا الكفار والمشركون الشرك الأكبر، والمنافقون النفاق الاعتقادي، مستندين إلى نصوص الكتاب والسنة.
ولم يخالف في ذلك إلا أهل الضلال من الخوارج والمعتزلة ومن يقول بقولهم، وهؤلاء لا يعتد بخلافهم.
ثم يقرر الخليلي أن الخوارج على اختلاف طوائفهم وافقوا الإباضية في تخليد أصحاب الكبائر في النار، وكذلك المعتزلة، ومعنى هذا أن الإباضية في الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار هم الأصل وإنهم السابقون لذلك، والخوارج تبع لهم، إلا أنه قال: إن الخوارج خالفوا الإباضية من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة.
ثم قال: (فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة والإجماع) ص119.
هكذا يقول. وكأن قوله: بتخليد الفساق في النار لا يخالف نصوص الكتاب ولا السنة ولا الإجماع!!.
ولكن ارجع إلى ص 187، واقرأ تعريفه لحد الكبيرة، وإليك نص كلامه:
قال في ص 187: (وأما الكبائر فهي جمع كبيرة، وهي كل ما عظم من المعصية فترتب على ارتكابها وعيد في القرآن أو السنة الصحيحة، سواء شرع لها حد في الدنيا كالزنا والسرقة وقذف المحصنات، أو لم يشرع كأكل الربا والميتة والدم ولحم الخنزير).
والسؤال: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة بل الحديث المتفق عليه في البخاري ومسلم:
من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتاني آت من ربي فأخبرني- أو قال بشّرني- أنه من مات من أمتي لايشرك بالله شيئاً دخل الجنة. فقلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق»(1).
__________
(1) البخاري/ الجنائز ح1237؛ ومسلم/ باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ح94.(1/376)
ألم يخالف الخليلي وطائفته الإباضيه هذا النص النبوي الثابت في أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وكذلك الآية الكريمة: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. والأحاديث التي سبق ذكرها وهي في الصحيحين، وفيها النص على أن من لقي الله بالتوحيد ولو ملأت ذنوبه الأرض فإن الله بمنه وفضله يغفرها له.
وبهذا يتضح أن الخليلي ومن يقول بقوله من الإباضية خالفوا نصوص الكتاب والسنة المتواترة في إخراج عصاة الموحدين من النار.
وبناء على ما اعترف به الخليلي ورد به على الخوارج في أنهم خالفوا نصوص الكتاب والسنة والإجماع ـ حيث جعلوا كل معصية يستحق صاحبها الخلود في النار، فخالفوا بذلك الكتاب والسنة والإجماع- فيرد قولهم ويضرب به عرض الحائط.
أقول: إن من العدل والإنصاف تطبيق هذه القاعدة على كل مخالف لنص الكتاب والسنة والإجماع.
وقد ثبت أن الخليلي والإباضية الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة الذي يموت على التوحيد بالخلود في النار أنهم مخالفون لنصوص الكتاب والسنة والإجماع، فيجب أن يضرب بقولهم عرض الحائط تطبيقاً لقاعدة العدل والمساواة.
فإلى الفصل الثاني الذي جعل الخليلي عنوانه أدلة القائلين بانقطاع العذاب.
في ص192ـ عقد الفصل الثاني وعنوانه:
«في أدلة القائلين بانقطاع العذاب»
قال: (وقد علمت أن هؤلاء طائفتان، طائفة تقول: بانقطاع عذاب كل من في النار من موحد ومشرك، وهم جهم وأصحابه ومن سار في ركابهم كابن القيم. وطائفة تقول: بانقطاع عذاب الموحدين دون عذاب المشركين).
قلت: وقد علمت أن ما نسبه الخليلي إلى ابن القيم من القول بفناء النار قول باطل، وقد تقدم بيان قول ابن القيم من كتبه، بدوام النار ودوام عذاب المشركين الشرك الأكبر، والمنافقين النفاق الاعتقادي، والكفار، كما ذكر ابن القيم أن القول بفناء النار هو قول الجهمية.(1/377)
فكيف ينسب إليه قولاً هو يرد على القائلين به، وكتبه التي يرد فيها على أهل البدع بين يدي المؤلف الخليلي فما حجة الخليلي إذا وقف بين يدي الله هو وابن القيم يوم القيامة.
وأما الطائفة الثانية التي يقول عنها: إنها تقول: بانقطاع عذاب الموحدين دون المشركين .
فنقول: نعم، هذا قول أهل السنة والجماعة كلهم، ومنهم الإمام ابن القيم وذلك للأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة والتي سيرد ذكرها بعد أن نورد ما ذكره الخليلي من الآيات التي نزلت في الكفار فطبقها على الموحدين كما فعل الخوارج، وقد قال عبدالله بن عمر رضي الله عنه في وصف الخوارج: بأنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (1).
قال في ص 193 وهو يتابع تعليقه على آية سورة هود /108: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} وترك هنا خاتمة الآية: {عطاء غير مجذوذ}.
قال: فالاستثناء كالاستثناء والتعليق كالتعليق ـ ويعني به ما جاء في الآية الكريمة: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [هود106-107].
وقد أوردها مستدلاً بها للقائلين بانقطاع عذاب الكفار والموحدين جميعاً، لأن بقاءهم في النار منوطاً بدوام السموات والأرض، مع العلم أن السموت والأرض فانية والمعلق وجوده على وجود الفاني فهو فان.
ثم قال ـ في آية السعداء ـ إن التعليق عليها مثل التعليق على الآية السابقة أي ـ أن نعيم الجنة منقطع.
ثم قال: وهذا الإلزام خاص بابن القيم ومن نحا نحوه من المفرقين بين الثواب والعذاب، دون الجهمية لأنهم يقولون بانقطاع كل منهما.
__________
(1) البخاري ـ كتاب استتابة المرتدين / باب قتل الخوارج / فتح الباري 12 / 282 .(1/378)
قلت: وهذا نقض من الخليلي لدعواه على ابن القيم في أول ص 192: من أن ابن القيم صار في ركاب الجهمية فقال بانقطاع عذاب كل من في النار من موحد ومشرك.
وهكذا كل مبطل يدعي على أهل الحق خلاف ما يقولون، فهل رأيت أحداً يدعى في أول ص 192 دعوى ثم ينقضها في الصفحة المقابلة لها، أي أن كلامه السابق لم تغط عليه الصفحة حتى يقال إنه نسي ما قاله، ولكن أهل الأهواء يعمي الله أبصارهم كما عميت بصائرهم.
ولذلك نجد الخليلي في الصفحة التالية (194) ينزل الآيات النازلة في الكفار في دوام عذابهم واستمراره على أصحاب المعاصي من المسلمين ولهذا قال: (وكما دل قوله: {عطاء غير مجذوذ} على استمرار النعيم.
دل قوله: {وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167]. وقوله: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر:36]. وقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 2]. وقوله: {إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقراً ومقاماً} [الفرقان/ 65ـ66]. وقوله: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم}[ المائدة/37] . وقوله: {وما هم عنها بغائبين}[ الانفطار / 16].
وقوله: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف /40].
على استمرار العذاب وحرمان أهله من نعيم الجنة، وكفى بهذه النصوص دليلاً على أن الله لم يشأ بهم إلا العذاب).
قلت: وللقارئ الكريم الطالب للحق أن يرجع لسياق هذه الآيات ولكتب التفسير المعتمدة، ليعلم صدق قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن هؤلاء انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فطبقوها على المؤمنين.(1/379)
فهذه الآيات التي أوردها الخليلي مستدلاً بها على دوام عذاب العصاة من الموحدين واستمراره وعدم انقطاعه عنهم، هي نازلة في الكفار الذين كذبوا بآياته تعالى، وكفروا به وبرسوله، واتخذوا مع الله الآلهة والأنداد، فآية البقرة /167 هي في سياق قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب. إذ تبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتَّبَعُوا لو أن لنا كَرَّة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 165ـ167 ].
فهذه الآيات التي وردت في النعي على المشركين -المتخذين الأنداد لله تعالى من الأصنام والأوثان ـ جاءت بعد قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة:164].(1/380)
فالله عز وجل يقول لعباده هذه الآيات الدالة على قدرة الله تعالى، المبينة أنه لا يقدر عليها أحد غيره، فيها الدلالة الواضحة البينة للعقلاء بأنه لا يستحق العبادة غيره، ومع هذه البراهين القاطعة يتخذ فريق من الناس من دون الله أصناماً وأوثاناً يجعلونهم نضراء لله، ويعطونهم من المحبة والتعظيم والطاعة ما لا يليق إلا بالله وحده، والمؤمنين أعظم حباً لله من حب هؤلاء الكفار لآلهتهم، لأن المؤمنين أخلصوا المحبة كلها لله، وأولئك أشركوا في المحبة، ولو يعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك في الحياة الدنيا حين يشاهدون عذاب الآخرة، أن الله هو المتفرد بالقوة جميعاً، وأن الله شديد العذاب، لمن اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم من دونه ويتقربون بهم إليه، كما قال الله عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهكذا فسياق الآيات في الكفار، الرؤساء المتبعون، والتابعون لهم، وعند معاينتهم العذاب يتبرأ الرؤساء المتَّبَعون ممن اتبعهم على الشرك، وتتقطع بينهم كل الصلات التي ارتبطوا بها في الدنيا {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا}
قال الله تعالى: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
وهكذا يقتطع الخليلي آخر هذه الآية التي ختمت بمصير الكفار الذين أشركوا بالله غيره، وهذا جزاؤهم الذي لا يخالف فيه أحد وهو خلود المشركين في النار.
فيجعل ذلك دليلاً على تخليد أصحاب الكبائر من أمة محمد الذين ماتوا على التوحيد ولم يشركوا بالله شيئاً.
وقد وعدهم أكرم الأكرمين بأنهم تحت مشيئته إن شاء غفر لهم من أول وهلة، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ثم يدخلهم الجنة كما هو مقتضي النصوص والإجماع،كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..} [النساء / 116 ].(1/381)
وفي الحديث القدسي عن أبي ذر رضي الله عنه: «ومن لقيني بقراب الأرض
خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» (1).
فالله أرحم بعباده الموحدين من الأم بولدها.
وليس للخليلي ولا لغيره من أهل البدع أن يضيقوا واسعاً، وأن يتألوا على الله عز وجل، ويردوا ما نص عليه كتاب الله الكريم، وسنة رسوله الأمين بأهوائهم {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}.
والأعجب من ذلك آية فاطر / 36 التي أوردها الخليلي وقد حذف أولها وآخرها؛ فذكر منها: قوله تعالى: { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} مستدلاً بها على تخليد العصاة في النار.
وإليك نص الآية كاملة لترى أنها نزلت في الكفار ولا تحتمل موضوع عصاة الموحدين بأي وجه قال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} [فاطر:36].
وهكذا يعمل: يأخذ جزء الآية تلبيساً على القراء من أجل تبرير مذهبه، لأنه يعلم أنه لا خلاف في تخليد الكفار في النار واستمرار عذابهم ودوامه، فلا يخالف أهل السنة في ذلك قاطبة، وهو ما صرح به ابن القيم في كتبه كما سبق نقل ذلك عنه، وصرح به كل سني سلم من داء الهوى والابتداع.
ومثلها آية السجدة، التي أوردها تاركاً أولها وخاتمتها المصرحة بأن ذلك جزاء الكفار الذين يكذبون بآيات الله وينكرون البعث، فذكر الله جزاءهم مقارناً لهم بالمؤمنين حيث قال تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون. وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة / 18ـ20].
__________
(1) صحيح مسلم ح (2687) .(1/382)
فهؤلاء كفار مكذبون بما جاءت به الرسل، منكرون للعذاب يوم القيامة ومكذبون به، والكفار فساق بنص القرآن الكريم، وليس المقصود بالفسق في هذه الآية وأمثالها المعصية التي تحدث من المسلم الموحد.
فقد قال تعالى في وصف المنافقين النفاق الاعتقادي بأنهم فساق بعد أن وصفهم بالكفر: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة/80].
وقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة: 84].
وكذلك استدلاله بآيتي الفرقان (65ـ66):{إن عذابها كان غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً}.
فهاتان الآيتان جاءت في سياق استعاذة عباد الرحمن بربهم من عذاب جهنم، التي أعدت للكفار مستقراً ومقاماً.
ونص الآيات التي جاءت هاتان الآيتان في سياقها هي قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً}.
فهل يوجد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يجادل في أن عذاب جهنم غرام لمن كفر وأشرك بالله، وأنها الدار التي تسوء ساكنيها من الكفار والمنافقين، فهؤلاء الصالحون الأبرار يسألون ربهم ألا يخزيهم وأن لايدخلهم النار التي أعدها الله لمن ورد ذكرهم قبل هذه الآيات، من المشركين به المستكبرين عن عبادته، كما قال عنهم في الآية (60) من سورة الفرقان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً}.(1/383)
فهؤلاء هم الذين أعدت لهم نار جهنم مستقراً ومقاماً، وعباد الرحمن يستعيذون بربهم منها.ثم هم يستعيذون منها ويخبرون أنها أسوأ مقر ومقام لمن يدخلها، وهي كذلك، وهذا لايفيد تأبيد الخلود والمقام والاستقرار لكل من دخلها، بل نصوص الشرع دلت على أن الخلود فيها للكافرين، وأن الموحدين -ممن استحقها لذنب- يخرجون منها.
وأما آية المائدة: (37) فإليك سياقها، يقول تعالى: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم. يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} [المائدة:36ـ37 ].
فمن يجادل ممن يفقه ويعقل عن الله خطابه في أن هذا جزاء الكفار، وأنهم خالدون مخلدون في نار جهنم لا يخرجون منها، ولا يقول أحد ممن وفقه الله للقول بما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا جزاء أهل المعاصي، بل قد جاء بعد هذه الآية مباشرة ذكر أصحاب الكبائر، وبين الله عز وجل حكمهم ولم يدخلهم مع الكفار في حكم من شملهم حكم الآيتين السابقتين اللتين فيهما الحكم بالخلود على الكفار في نار جهنم، قال تعالى في الآية (38): {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم}.(1/384)
فلو كان مرتكب الكبيرة في الدنيا يستحق الخلود في النار مثل هؤلاء الكفار لأمر الله بقطع رقبتي السارق والسارقة بدلا من أيديهما، لأنه لا يخلد في نار جهنم إلا الكافر أو المنافق النفاق الاعتقادي، لأنه كفر بالله ورسوله، كما سبق ذكر حكم المنافقين في الآيات السابقة، والمرتد بعد إسلامه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»(1)، ومرتكب الكبيرة لم يبدل دينه، ولهذا حكم الله على السارق بقطع يده ولم يحكم عليه بقطع رأسه، وكفى بهذه الآية وأمثالها رداً على الخليلي ومن يقول بقوله، ويعتقد معتقده، المخالف لنصوص كتاب الله الكريم، وسنة نبيه المطهرة.
وقوله في آية (16) من سورة الانفطار: {وما هم عنها بغائبين} يعني بهم الكفار المخلدين في النار، فما هم عن عذاب جهنم بغائبين لا بخروج منها ولا بموت.
كما قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر:36].
وقال تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} [النساء:56].
والكفار فجار، وقد جاء وصفهم في الآيتين قبل الآية التي استدل بها الخليلي مصرحة بحكمهم في مقابلة حكم الله بالجنة للأبرار، قال تعالى عن المؤمنين الأتقياء الأبرار: {إن الأبرار لفي نعيم}.
كقوله عنهم في سورة آل عمران: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار} [آل عمران:198].
وقال هنا عن الكفار: {وإن الفجار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين. وما هم عنها بغائبين}.
كما قال في سورة آل عمران: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}[ آل عمران: 197].
__________
(1) البخاري/ح6922.(1/385)
وأما آية الأعراف (40) وهي قوله: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فهي جزء الآية، وإليك الآية بكاملها قال تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين. لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين} [الأعراف: 40ـ41].
فهذا جزاء هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآيات ربهم واستكبروا عن اتباعها، فقد حرم الله عليهم الجنة.
كما قال تعالى: {... إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة / 72].
وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً} [النساء / 116].
وهكذا نرى أن أدلة الخليلي التي أوردها من كتاب الله عز وجل مستدلاً بها على تخليد أصحاب المعاصي الموحدين في النار، كلها آيات نزلت في الكفار، فحملها الخليلي على الموحدين، وهذا هو عمل الخوارج كما سبق نقل كلام عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في الخوارج من صحيح البخاري.
ثم إن الخليلي بعد انتقائه لما يقول: إنه أدلة القائلين بانقطاع العذاب في هذا الفصل، من ص 199 ـ 201 وتوجيهه هو لاستدلالهم، ثم رده على ذلك الاستدلال حسب ما يرى ـ وقد سبق ذلك مناقشته في أدلته التي استدل بها هو، والرد على جميع الشبه التي استدل بها في تخليد عصاة الموحدين ودحضها- عقد فصلاً بعنوان:
« أدلة القائلين بخلود جميع مرتكبي الكبائر في النار » فإلى ذلك الفصل لمناقشته والرد عليه، ثم نتبعه بأدلة القائلين بعدم خلود أصحاب الكبائر من الموحدين في النار، فإلى ذلك الفصل.
الفصل الثالث من ص202 ـ 225 عنوانه:
«أدلة القائلين بخلود جميع مرتكبي الكبائر في النار»
قال: (وهي قسمان، بعضها من الكتاب وبعضها من السنة:
أما من الكتاب فكثيرة نذكر منها ما يلي:(1/386)
1 ـ قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة / 80ـ81].
ثم قال: ودلالته عليه من وجوه:
أولها: أن هذه العقيدة يهودية المنبت، كما هو ظاهر من هذا النص.
ثانيها: ما فيه من الاستنكار لهذا القول الوارد مورد الاستفهام المقصود به التحدي...الخ.
ثالثها: ما فيه من البيان الصريح بأن مصير كل من ارتكب سيئة وأحاطت به خطيئته لعدم تخلصه منها بالتوبة النصوح أنه خالد في النار مع الخالدين، وهو رد على هذه الدعوى يستأصل أطماع الطامعين في النجاة مع الإصرار على الإثم.
ثم قال: واعترض على الاستدلال بأمرين:
أولهما: أن السيئة هنا هي الشرك، كما روي عن طائفة من المفسرين، وإذا كان هذا الوعيد للمشركين فهو لا يعم الموحدين.
ثانيهما: أن الخلود لم يرد به التأبيد وإنما أريد به المكث الطويل.
قال: ويرد الاعتراض الأول، أن حمل السيئة على الشرك وحده خروج بالآية عما يقتضيه لفظها، فإن لفظ (سيئة) نكرة مطلقة في سياق الشرط، والنكرات إذا وردت في الشرط فهي محمولة على العموم.
قال: وإن أردت مزيد البيان في ذلك فانظر في قول القائل لعبيده: من جاءني بعمله فهو حر، فإنه يعتق بقوله هذا من جاءه بأي شيء يصدق عليه أنه عمله.
ولو حلف أحد أنه لم يرتكب سيئة وقد زنى أو سرق أو شرب الخمر، أو أكل الربا أما يعد حانثاً؟
ثم قال: ولا متعلق لهم في قوله تعالى: {وأحاطت به خطيئته} وإن زعموا أن مرتكب الكبيرة إن كان موحداً لم تحط به خطيئته، لأن له حسنات لا يحرم ثوابها، ذلك لأنا نقول إن عدم التخلص من المعصية بالتوبة النصوح يجعلها محيطة بصاحبها..
إلى أن قال: وهذا معنى ما روي عن السلف، ودونكم بعض النصوص المروية في ذلك).
ثم سرد نصوصاً من تفسير ابن جرير عن الضحاك {وأحاطت به خطيئته} قال: مات بذنبه.(1/387)
وعن الربيع بن خثيم: {وأحاطت به خطيئته} قال: مات عليها.
وعن ابن عباس: {وأحاطت به خطيئته} قال: يحيط كفره بما لَه من حسنة، والكفر يعم الكبائر كلها لأنها من كفران النعم....الخ.
«الجواب»:
نقلنا هذا النص الطويل عن المؤلف الخليلي الذي أورد فيه ما يستدل به على خلود مرتكبي الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار، وإن ماتوا على التوحيد الذي وعد الله في كتابه -وهو لا يخلف الميعاد ـ أن الذي لا يشرك به شيئاً أنه تحت مشيئته، إن شاء غفر له من أول الحال، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم مآله إلى الجنة كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه قال الله: «ولو لقيني عبدي بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة».
إن الخليلي قد ذكر أن أدلته على تخليد أصحاب الكبائر تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : آيات من كتاب الله تعالى، وقد بدأها بهاتين الآيتين من كتاب الله: آية (80- 81) من سورة البقرة التي ادعى فيها اليهود أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، وقد أكذبهم الله في دعواهم تلك، وبين أن ذلك الأمر لا يتحقق إلا لمن أعطاه الله عهداً بذلك، لأن الله لا يخلف وعده، ولم يُعْطِهم الله عهداً بذلك، فتبين أنهم قالوا على الله مالا يعلمون.
ثم بين أن من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فهو خالد في النار، وهو صاحبها الملازم لها.
وقد ادعى الخليلي أن من يقول بإخراج الموحدين من النار إن شاء الله عَذَّبهم بذنوبهم، ثم بعد تمحيصهم وتطهيرهم يدخلون الجنة.
قال: إن هذه العقيدة ورثها أهل السنة من اليهود، وليست من كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهل اليهود كفار أو مؤمنون أصحاب كبائر؟.(1/388)
وهذه الدعوى تؤكد للقارئ الكريم ما قاله الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنه كما جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله في كتاب استتابة المرتدين /باب قتل الخوارج، أن الخوارج انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فطبقوها على المسلمين، وأنه كان يراهم شرار الخلق.
والخليلي الإباضي في استدلاله بهاتين الآيتين الكريمتين النازلتين في دعوى اليهود أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، ينزلها على أصحاب المعاصي الموحدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بشبهة علقت في ذهنه، وهي أنه ورد لفظ (سيئة) في الآية الكريمة ففسرها بالمعصية، دون الشرك، ثم لبس كما هي عادته فنقل عن ابن جرير ما أورده عن بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وأحاطت به خطيئته} على أن هذا هو تفسير السلف لهذه الآية، ومعلوم أن الخليلي لم يجعل ابن جرير رحمه الله سلفاً له يوماً من الأيام.
ولكن ما دام وهو ادعى أنه سلفه في تفسير هذه الآية فإليك أيها القارئ الكريم الباحث عن الحق تفسير ابن جرير لهذه الآية عموماً، ولقوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} خصوصاً، ليظهر لك خطأ الخليلي في هذه الدعوى، وإن كان السياق طويلاً فأرجو من القارئ أن لا يمل حتى يصل إلى الحقيقة.
يقول ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية ج1/380، وهو يعبر بالتأويل عن التفسير للآية قال: (القول في تأويل قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون} [الآية:80].
قال: يعني بقوله: {وقالوا} اليهود، يقول: وقالت اليهود {لن تمسنا النار} يعني لن تلاقي أجسامنا النار، ولن ندخلها {إلا أياماً معدودة}.
وإنما قيل معدودة وإن لم يكن مبيناً في التنزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام التي يوقتونها لمكثهم في النار، فلذلك ترك تسمية عدد الأيام وسماها معدودة لما وصفنا.(1/389)
ثم ذكر اختلاف أهل التفسير في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود القائلون بما أخبر الله عنهم من ذلك.
وبعد أن ذكر الأقوال في ذلك عن المفسرين في تحديد عدد الأيام التي عينها اليهود ومنها قول مجاهد: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} من الدهر، وسموا عدة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة يوماً يهود تقوله.
ثم قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون}.
قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} على ما قد بينا من تأويل ذلك، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمعشر اليهود: {أتخذتم عند الله عهداً} أخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقاً، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده، أم تقولون على الله الباطل جهلاً وجرأة عليه.
ثم أورد الآثار عن الصحابة والتابعين التي يرد بها على دعواهم، ومنها رواية ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله جل ثناؤه لمحمد: {قل أتخذتم عند الله عهدا} يقول: أدخرتم عند الله عهداً، يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا، ولم تكفروا به، فإن كنتم قلتموها فارجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: كنتم قلتم: لا إله إلا الله، ولم تشركوا به شيئاً، ثم متم على ذلك لكان لكم ذخر عندي، ولم أخلف وعدي لكم أني أجازيكم بها.
ثم يواصل في شرح الآيتين فيقول قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة 81].
قال: وقوله: {بلى من كسب سيئة} تكذيب من الله القائلين من اليهود {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} وإخبار منه لهم أنه يعذب من أشرك وكفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه فخلد في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده.(1/390)
وهكذا كما يرى القارئ أن ابن جرير يفسر السيئة في الآية بأنها: الشرك والكفر بالله وبرسله. ويفسر الإحاطة بالذنوب التي عملها الكفار مع كفرهم، وأن من سلك مسلكهم فذلك جزاؤه.
ثم أورد الآثار الدالة على ذلك فأورد بإسناده قال كما حدثنا محمد بن حميد ثم ساقه بإسناده إلى ابن عباس: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط كفره بما لَه من حسنة {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
قال: وأما السيئة التي ذكر الله في هذا المكان فإنها الشرك بالله.
كما حدثنا محمد بن بشار ثم ساقه بإسناده عن أبي وائل:
{بلى من كسب سيئة} قال: الشرك بالله.
حدثني محمد بن عمرو ثم ساقه بإسناده عن مجاهد: {بلى من كسب سيئة} شركاً.
ثم أورد ذلك بأسانيده عن قتادة: {بلى من كسب سيئة} قال: أما السيئة فالشرك.
وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: {بلى من كسب سيئة} قال: الشرك.
وعن الربيع قوله: {بلى من كسب سيئة} يعني: الشرك.
ثم بين ابن جرير رحمه الله أن (السيئة) في هذه الآية لا يقصد منها مطلق السيئات التي هي دون الشرك بالله، ولذلك نقل أقوال العلماء التي سبق ذكرها أنهم جميعا فسروا (السيئة التي تحيط بصاحبها) بالشرك.(1/391)
ورد على الخوارج الذين يستدلون بهذه الآية على تخليد أصحاب الكبائر من الموحدين فقال: (وإنما قلنا: إن السيئة التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار المخلدين فيها في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاماً لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار، والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}، فكان معلوماً بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان.
ثم بين ما دلت عليه هذه الآية من الرد على أهل الظنون من الذين لم يوفقوا إلى جمع أطراف النصوص من الكتاب والسنة، التي أوضحت أن الخلود في النار إنما هو لأهل الكفر بالله وبرسوله، وليس ذلك لأهل الإيمان المرتكبين للكبائر، لأنها غير داخلة في قوله: {بلى من كسب سيئة} في هذا الموضع لأن هذا خاص من السيئات وليس عاما في جميعها فقال:
(فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا هم الذين عملوا الصالحات دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار الله أنه مكفر باجتنابنا كبائر ما ننهي عنه من سيئاتنا، ومدخلنا المدخل الكريم، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل أي ـ في تفسير -قوله: {بلى من كسب سيئة} بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها.(1/392)
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهي عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: {بلى من كسب سيئة}؟ قيل: لِمَا صح من أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعني بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه، وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة، فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية.
فأما أهل الكبائر فإن الأخبار القاطعة عُذْرَ من بلغته قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها، فمن أنكر ذلك ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة، فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد، إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان مَنْ جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية يأتي عاماً في صنفٍ ظاهرُها، وهي خاص في ذلك الصنفِ باطنُها.
ثم قال: ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء ـ سؤالنا منكرَ رجمِ الزاني المحصن، وزوالِ فرضِ الصلاةِ عن الحائض في حال الحيض، فإن السؤال عليهم نظير السؤال على هؤلاء سواء (1).
ثم قال: والقول في تأويل قوله تعالى: {وأحاطت به خطيئته} يعني بقوله جل ثناؤه: {وأحاطت به خطيئته} اجتمعت عليه فمات عليها قبل الإنابة والتوبة منها، وأصل الإحاطة بالشيء: الإحداق به، بمنزلة الحائط الذي تحاط به الدار فتحدق به، ومنه قوله - عز وجل -: {ناراً أحاط بهم سرادقها}.
فتأويل الآية إذاً: من أشرك بالله واقترف ذنوباً جمة، فمات عليها قبل الإنابة والتوبة فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبداً.
ثم قال: وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون -أي المفسرون.
__________
(1) ابن جرير 1 / 386 ـ مطبعة الحلبي سنة 1373هـ.(1/393)
فأورد بإسناده قال: حدثنا أبو كريب وساق الإسناد عن لضحاك: {وأحاطت به خطيئته} مات بذنبه.
حدثنا أبو كريب وساقه بإسناده عن الربيع بن خثيم: {وأحاطت به خطيئته} قال: مات عليها.
ثم ذكر الروايات في ذلك عن مجاهد، وقتادة، والحسن، وأبي رزين، والأعمش، والسدي. وما ذكره عن هؤلاء موافق لما قاله ابن جرير، فقد فسروا الخطيئة بالشرك مع اقتراف الذنوب الجمة التي أحاطت به، ومات على كفره، فهم يقولون: مات بذنبه، مات قبل أن يتوب، (الخطيئة الكبيرة الموجبة) وهكذا.
ولكن الخليلي بارع في التلبيس والتدليس.
وإليك كشف ذلك: إن الخليلي اطلع على تفسير هاتين الآيتين عند ابن جرير وعرف قوله فيها، وهو ما نقلناه في الصفحات السابقة.
فماذا صنع الخليلي؟ إنه بعد أن فسر الآية على مذهبه، وأن المقصود من السيئة جميع المعاصي، فمن ارتكب كبيرة من أهل التوحيد ولم يتب فهو خالد مخلد في النار. ثم ادعى أن رأيه هذا هو ما روي عن السلف ثم استشهد على رأيه فقال: ودونكم بعض النصوص المروية في ذلك:
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال ثنا ابن يمان عن سفيان عن الأعمش عن أبي روق عن الضحاك {وأحاطت به خطيئته} قال: مات بذنبه.
ثم سرد تلك الروايات عمن ذكرت أسماءهم، مجاهد، وقتادة، والحسن، وأبو رزين، والأعمش، والسدي، الذين استشهد ابن جرير بأن أقوالهم في تفسير الآية كما قال به، وأن الخطيئة التي أحاطت بصاحبها هي الشرك بالله مع اقتراف الذنوب الجمة التي أحاطت بمقترفها، وأن أصل الإحاطة بالشيء الإحداق به بمنزلة (الحائط) الذي تحاط به الدار فتحدق به، وان معنى الآية (من أشرك بالله واقترف ذنوباً جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبداً).
فهذا هو المعنى الذي قال به هؤلاء، فحوله الخليلي إلى الذنوب دون الشرك بالله، ومعلوم بالنصوص أن الشرك يسمى كبيرة كما في صحيح البخاري، إن من الكبائر الموجبة الشرك بالله وأنه أكبر الكبائر.(1/394)
ولكن الله عز وجل قد يكشف ستر المغالط الذي يريد تحويل الحق إلى الباطل فيظهر ذلك على فلتات قلمه، كما يظهره على فلتات لسانه.
فقد أورد الخليلي نصاً مما أورده ابن جرير في تفسير هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه في ص204 من كتابه هذا ضمن النصوص التي أوردها ـ وترتيبه الثالث منها، ولما لم يأت على هواه فقد أضاف إليه سطراً ولم يصرح بأنه قوله، لأن العادة المتبعة عند المؤلفين إذا أرادوا إضافة شيء إلى النص المنقول عن غيرهم يقولون: (قلت)، أو عبارة نحوها، ليميز قوله عن القول المنقول، وإليك النص والزيادة:
قال الخليلي نقلاً عن ابن جرير ج1/386:
حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، قال أخبرني ابن إسحاق قال حدثني محمد ابن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس {وأحاطت به خطيئته} قال: يحيط كفره بما له من حسنة. هذا قول ابن عباس. إلى هنا النص في ابن جرير.
فما هي الزيادة التي أضافها الخليلي لنص ابن عباس ؟
قال: (والكفر يعم الكبائر كلها، لأنها من كفران النعم) وجعل هذا التحريف بالزيادة في سياق النص، ولم يذكر ما يميزه ويوضح أنه قوله، ولم يظهر لي ذلك إلى بعد رجوعي لابن جرير فوجدت النص خال من هذه الزيادة، ويظهر والله أعلم أن الخليلي لم يتنبه لهذا النص عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنه فسر فيه الخطيئة التي أحاطت بصاحبها أنها الكفر إلا بعد إثباته، فاضطر إلى تلك الزيادة، بدليل أنه ترك نصاً أورده ابن جرير من طريق القاسم، فقد أورد ابن جرير من طريق القاسم نصين اختار الخليلي أحدهما ضمن النصوص التي سبق ذكرها ومنها قول الأعمش: مات بذنبه.
وترك النص الآخر وهو قوله: حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حسان، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: {وأحاطت به خطيئته} قال: الشرك، ثم تلا: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل:90].
فنسأل الخليلي لماذا ترك هذا النص ونقل الذي قبله مباشرة دون فاصل؟.(1/395)
وأظن أن إجابته لا تَعْدُ أن يقول: إن هذا النص لا ينطبق على ما أردت نسبته لابن جرير من أنه فسر الخطيئة بالكبيرة، لأنه هنا يستشهد بقول عطاء على قوله بأن الخطيئة هي: الشرك، بخلاف الأقوال الأخرى، ففيها تفسير الخطيئة بقولهم: مات بذنبه، أو قبل أن يتوب......الخ. ففيها ما يظن القارئ أن الذنب هو المعصية فقط، دون ارتكابه الشرك المخرج من الملة، ولهذا ترك كل ما قاله ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية الكريمة، لأنه لا يستطيع الرد عليه، وقد فصل ابن جرير الرد على المستدلين بهذه الآية على خلود أصحاب الكبائر من الموحدين في النار، ودحض كل الشبه التي ينتحلونها في استدلالهم بالآية وبكل ما جاء في القرآن ظاهره العموم وهو خاص، وبين أن الله عز وجل جعل بيانه لمن أحال إليه البيان وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بين ذلك بسنته وهي وحي كما قال تعالى: {.. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} فالذكر هنا هو السنة؛ إذ كان تأويل القرآن - أي تفسيره- غير مدرك إلا ببيان مَنْ جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية يأتي عاماً في صنفٍ ظاهرُها، وهي خاص في ذلك الصنفِ باطنُها.
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء سؤالنا منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض، فإن السؤال عليهم نظير السؤال على هؤلاء سواء(1).
__________
(1) ابن جرير 1 / 386 ـ الطبعة الثانية 1373.(1/396)
يقول ابن جرير: إن الآيات في كتاب الله قد يأتي ظاهرها عاماً في صنف والمقصود منه الخصوص في ذلك الصنف، وذلك غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه البيان، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: {.. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} فهو يقول: أن قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المقصود من (السيئة) الكفر والشرك بالله، لأن حكم الخلود في النار، هو للمشرك والمنافق النفاق الاعتقادي، للأخبار المستفيضة بذلك، وأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ثم قال: القول في تأويل - أي تفسير- قوله تعالى: {وأحاطت به خطيئته} يعني بقوله جل ثناؤه: {وأحاطت به خطيئته} اجتمعت عليه، فمات عليها قبل الإنابة والتوبة منها. وأصل الإحاطة بالشيء: الإحداق به بمنزلة الحائط الذي تحاط به فتحدق به، ومنه قول الله جل ثناؤه: {ناراً أحاط بهم سرادقها} [ الكهف 29 ].
فتأويل الآية إذاً - أي تفسيرها-: من أشرك بالله واقترف ذنوباً جمة، فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبداً.
فهو هنا يصرح بأن الخطيئة التي تحيط بصاحبها هي الشرك بالله واقتراف الذنوب الجمة حتى تحيط بمقترفها.
ومعلوم أنه قد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه «إن أكبر الكبائر الشرك بالله»(1).
ثم إن ابن جرير أورد أقوال العلماء في تفسير الآية: {وأحاطت به خطيئته}
ثم قال: وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون - يعني المفسرون- ثم سرد أقوالهم كما تقدم، ومن الأدلة على أن السنة مفسرة ومبينة لما جاء في القرآن ما رواه جابر وأبو سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:«إن الحائض تدع الصلاة أيام حيضها».
__________
(1) صحيح البخاري/ الأدب ح5976.(1/397)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة قال: حدثتني معاذة: أن امرأة قالت لعائشة:« أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت: أحرورية أنت؟ كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله»(1).
قال ابن حجر في شرح الحديث:
قوله: باب لا تقضِ الحائض الصلاة، نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على ذلك، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه فقال: اجتمع الناس عليه.
وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه.
وهذا ما قصده ابن جرير بقوله: وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال المحيض.
يعني أن ظاهر القرآن وجوب الصلاة مطلقاً.
ولكن هذا الظاهر من القرآن بينت السنة سقوط فرض الصلاة عن الحائض حال حيضها، وإلا لو بقينا على ظاهر القرآن لأوجبنا عليها قضاء الصلاة كما وجب عليها قضاء الصوم.
ولهذا فإن بعض الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها للسائلة: أحرورية أنت؟.
وحروراء قرية أو بلدة تبعد عن الكوفة ميلين، لأن أول فرقة من الخوارج حين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه نزلوا بها، فصار من يعتقد مذهب الخوارج ينسب إليها.
قال ابن حجر: وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن، ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً، ولهذا استفهمت عائشة معاذة استفهام إنكار(2).
وممن فسر (السيئة) في هذه الآية بالكفر والشرك:
1ـ ابن كثير: فقد أورد بإسناده إلى ابن عباس: {بلى من كسب سيئة}، أي من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره فما لَه من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس، قال: الشرك (3).
__________
(1) البخاري/ح321.
(2) فتح الباري 1/ 421 ـ 422
(3) تفسير ابن كثير 1 / 170(1/398)
2 ـ ابن عطية: ونقل ابن عطية عن عدد من علماء السلف أن (السيئة) الشرك، كقوله {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل:90]، قال: والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول في العصاة، وإن علم انقطاعه كما يقال: ملك (خالد)، ويدعى للملك (بالخلد).
وقوله تعالى: {والذين آمنوا}الآية، يدل هذا التقسيم على أن قوله: {من كسب سيئة} الآية، في الكفار لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضاً قوله: {وأحاطت} لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته، ويدل على ذلك أيضاً أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة فهم المراد بالخلود(1)والله أعلم.
3 ـ القرطبي: قال: الثانية: قوله تعالى: {سيئة} السيئة الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: {من كسب سيئة} قال: الشرك، وتلا: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} [النمل: 90]، وكذا قال الحسن وقتادة. قالا: والخطيئة الكبيرة.
الثالثة: لما قال تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته}، دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} وقوله صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبدالله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم»(2). رواه مسلم .
4 ـ البغوي: في كتابه ـ « معالم التنزيل »: {من كسب سيئة} يعني الشرك.
{وأحاطت به خطيئته} قرأ أهل المدينة {خطيئاته} بالجمع، والإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع نواحيه، قال ابن عباس وعطاء والضحاك وأبو العالية والربيع وجماعة: هي الشرك يموت عليه. وقيل: السيئة الكبيرة، والإحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب قاله عكرمة والربيع بن خثيم.
__________
(1) المحرر الوجيز لابن عطية 1/ 370 ـ 371 طبع سنة 1398 هـ قطر.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2 / 12 طبعة دار الكتب المصرية.(1/399)
ثم قال: قال الواحدي رحمه الله في تفسيره «الوسيط»: المؤمنون لا يدخلون في حكم هذه الآية، لأن الله تعالى أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئته، وتقدمت منه سيئة وهي الشرك، والمؤمن وإن عمل الكبائر لم يوجد منه الشرك(1).
5 ـ الشوكاني: قال الشوكاني: (والسيئة المراد بها الجنس، ومثله قوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به، قيل هي الشرك، وقيل هي الكبيرة، وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود، وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)(2).
ثم إن الخليلي أتبع الآية الأولى وهي قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}- التي استدل بها على خلود أصحاب الكبائر من الموحدين في النار. وقد سبق تفصيل الرد عليه. أتبع ذلك في ص 207 بقوله تعالى:
2 ـ {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}- [البقرة: 275].
قال: (ووجه الاستدلال بالآية أنها وعيد لأكلة الربا وهم غير مشركين، لأن الآية في معرض التحذير من أكل الربا بعد تحريمه.
ثم قال: واعترض بأن هذا الوعيد ليس على أكل الربا، بل هو على استحلاله بدليل ما جاء في صدرها من حكاية قولهم المعارض لحكم الإسلام في الربا: {إنما البيع مثل الربا} [البقرة:275] والمستحل لما حرم الله بالنص القطعي كالربا مشرك بالإجماع، فلا يعم حكم الخلود مرتكبي الكبائر دون الشرك). وهو هنا لم يذكر المرجع.
ثم راح يرد على ذلك دون دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر، بل ذهب ينقل كلاماً عن صاحب المنار.
__________
(1) معالم التنزيل ج1 / 89 ـ90 الطبعة الأولى سنة 1406 هـ ـ 1986م دار المعرفة.
(2) فتح القدير للشوكاني 1 /88.(1/400)
وختم نقله عنه في أول ص210، ثم عقب عليه بقوله: (وكلامه صريح في أن مذهب السلف الصالح هو ما عليه أهل الاستقامة والحمد لله).
وأقول: إن أقوال السلف الصالح تخالف قول الخليلي المعبر عنه بأهل الاستقامة، ويعني بهم الإباضية ـ وإليك فيما يلي أقوال السلف في تفسير هذه الآية:
1 ـ ابن جرير الطبري: يقول: {ومن عاد} لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقول قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله: {إنما البيع مثل الربا} {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. يعني ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم فيها خالدون(1).
2 ـ البغوي: يقول {ومن عاد} بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(2).
3 ـ ابن عطية: قال في تفسيره «المحرر الوجيز»: قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} معناه عند جميع المتأولين ـ يعني المفسرين ـ في الكفار(3)، وأنه قول بتكذيب الشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المرابين، ولهم قيل: {فله ما سلف} ولا يقال ذلك لمؤمن عاص(4)ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية، إلى أن قال: وقوله تعالى:{ومن عاد} يعني إلى فعل الربا والقول: إنما البيع مثل الربا.
قال: (وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي).
وإن لحظناها في مسلم عاص، فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب:
(ملك خالد) عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي (5).
4 ـ القرطبي: قال: السادسة والعشرون: قوله تعالى: {ومن عاد} يعني إلى فعل الربا حتى يموت، قاله سفيان، وقال غيره: من عاد فقال: إنما البيع مثل الربا فقد كفر.
__________
(1) ابن جرير 3 / 104.
(2) معالم التنزيل للبغوي 1 /263.
(3) أي في ربا الجاهلية .
(4) بل يفسخ عقده ويرد عمله وإن كان جاهلاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
(5) المحرر الوجيز 2 / 481 ـ 483.(1/401)
قال ابن عطية: إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي(1).
5 ـ الشوكاني ـ يقول: {ومن عاد} إلى أكل الربا والمعاملة به {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} والإشارة إلى من عاد، وجمع أصحاب باعتبار معنى (من) وقيل: إن معنى من عاد هو أن يعود إلى القول بأنما البيع مثل الربا وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، قال: وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب ملك خالد أي طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار (2).
فهذه أقوال علماء السلف السابقين ابن جرير، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، ثم الشوكاني، وكلها متفقة في أن أكل الربا من كبائر الذنوب وأن عليه وعيد شديد من الله عز وجل، وأن متعاطيه متوعد بهذا العقاب الشديد، ولكنهم اتفقوا جميعاً أنه لا يخلد في النار إلا من اعتقد حله، وأنه مثل البيع الذي أحله الله، فمن قال ذلك فهو كافر، فله الخلود في النار مثل الكفار، وأما من لا يعتقد ذلك فإنه معرض للعقاب ولكنه لا يخلد في النار، للأحاديث الثابتة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان من الموحدين.
ونختم أقوال المفسرين لهذه الآية بقول مفسر معاصر من أتباع السلف ذكر تفسير الآية وبين أنه لا حجة للخوارج فيها، لأن القول بتخليد أصحاب الكبائر هو قول الخوارج كما قال عبدالله بن عمر رضي الله عنه: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فطبقوها على المسلمين، كما سبق نقل ذلك عنه من صحيح البخاري.
أما المفسر المعاصر فهو:
__________
(1) القرطبي ج 3 / 362.
(2) فتح القدير 1/266.(1/402)
6 ـ الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، يقول في كتابه « تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» ـ ص97 تفسير آية 275 من سورة البقرة قال:
(لما ذكر الله حالة المنفقين وما لهم من الله من الخيرات، وما يكفر عنهم من الذنوب والخطيئات، ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة، وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم، فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين، عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي من الجنون والصرع. وذلك عقوبة وخزي وفضيحة لهم وجزاء لهم على مراباتهم ومجاهرتهم بقولهم: {إنما البيع مثل الربا} فجمعوا- بجراءتهم - بين ما أحل الله وبين ما حرم الله واستباحوا بذلك الربا.
ثم عرض تعالى العقوبة على المرابين وغيرهم، فقال: {فمن جاءه موعظة من ربه} بيان مقرون به الوعد والوعيد: {فانتهى} عما كان يتعاطاه من الربا: {فله ما سلف} مما تجرأ عليه وتاب منه: {وأمره إلى الله} فيما يستقبل من زمانه، فإن استمر على توبته، فالله لا يضيع أجر المحسنين، {ومن عاد} بعد بيان الله وتذكيره وتوعده لأكل الربا {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها، وذلك لشناعته، ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان.
وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها، قال: وليس فيها حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد. فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة، فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص، مِنْ خروج مَنْ في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من الإيمان من النار، ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار إن لم يتب منها(1).
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص97 الطبعة الأولى سنة 1419هـ ـ 1998م.(1/403)
ثم واصل الخليلي في ذكر الأدلة من القرآن الكريم على عقيدته ـ تخليد أصحاب الكبائر في النار فقال في ص 210:
3 ـ قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [آل عمران: 24].
قال: ووجه الاستدلال به ما سبق في نظيره من إثبات أن هذه العقيدة من عقائد اليهود، وأنها جرأتهم على معصية الله وقادتهم إلى الإعراض عن كتابه، وذكرت في معرض تفنيد ظلالهم وتبكيتهم على عيوبهم).
وأقول: والجواب على وجه الاستدلال، هو ما سبق في الرد على استدلاله السابق بهذه الآية وهو الذي يشير إليه في استدلاله بقوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة:80ـ81 ].
فقد فندنا استدلاله بما نقلناه عن علماء التفسير للآيتين وأن (السيئة التي تحيط بصاحبها) هي الشرك والكفر، كما نقل المفسرون ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه.وعن عطاء وأبي وائل ومجاهد والربيع وقتاده وغيرهم من علماء السلف وقد تقدم ذلك من ص 408 وما بعدها.
وفي ص213 قال:
(4ـ قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} [النساء / 14 ].
قال: ووجه الاستدلال به أنه جاء بعد تبيان أحكام المواريث والنص على أنها من حدود الله، ووعد من يطيع الله ورسوله بالخلد في جنات تجري من تحتها الأنهار، فثبت من ذلك بأن من جاوز حكماً من أحكام الله صدق عليه هذا الوعيد).
هكذا يقرر الخليلي بأن من ارتكب معصية من المعاصي فإنه مخلد في النار، مدعياً أن محمد عبده ورشيد رضا تحدثا في تفسير الآية بما يؤيد هذا القول.(1/404)
والجواب على هذه الشبهة بأقوال علماء التفسير من سلف هذه الأمة، وقد عهدنا من الخليلي أنه يعرج على أقوال السلف كما يقول، فينقل عن ابن جرير الطبري الأقوال التي فيها تعميم لبعض الأحكام ويترك الصريح منها في الصفحة نفسها.
ولكنه هنا لم يعرج على تفسيره لهذه الآية، ونحن نبدأ بتفسيره فهو شيخ المفسرين بحق لكتاب الله فإن اعتماده في تفسيره على كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة والتابعين.
1 ـ ابن جرير يقول في تفسير هذه الآية 4/291 بعد ذكر معناها الإجمالي:
(حدثنا المثنى قال: ثنا عبدالله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده}....الآية، في شأن المواريث التي ذكر قبل، قال ابن جريج: {ومن يعص الله ورسوله}، قال: من أصاب من الذنوب ما يعذب الله عليه.
ثم قال: فإن قال قائل: أو يخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟(1/405)
قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكّاً في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما، على ما ذكر ابن عباس، من قول من قال، حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}....إلى تمام الآيتين، أيورث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدو، ولا يحوز الغنيمة، نصف المال أو جميع المال؟ استنكاراً منهم قسمة الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده، فمن خالف قسمة الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على قسمه في كتابه، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكاراً منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرهم ابن عباس، ممن كان بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكم الله في تلك، يصير بالله كافراً، ومن ملة الإسلام خارجاً)(1).
فهذا هو كلام إمام المفسرين في تفسير هذه الآية، وما نقله عن الصحابي الجليل ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله بالفقه في الدين، وتعليمه التأويل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، وأن المعصية هي الكفر بالله لمعارضته حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ورأي الخليلي في استدلاله بهذه الآية على شاكلة ماسبق؛ من تنزيله الآيات التي نزلت في الكفار على عصاة المؤمنين!.
فهذا ابن عباس رضي الله عنه يقول: إن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول ابن جرير: إن حكم هذه الآية في أولئك وفي أشكالهم، فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكم الله في تلك، يصير بالله كافراً، ومن ملة الإسلام خارجاً.
2 ـ ابن عطية: ويقول ابن عطية في تفسيره «المحرر الوجيز»:
(وقوله: {ومن يعص الله ورسوله}......الآية.
__________
(1) تفسير ابن جرير 4/291 .(1/406)
قال: وهذه آيتا وعد ووعيد، وتقدم الإيجاز في ذلك. ورجى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة، وقد كلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن وغيره)(1).
3 ـ ابن كثير: يقول: ({ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} أي: لكونه غير ما حكم الله به وضادَّ الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به. ولهذا يجازيه بالإهانه في العذاب الأليم المقيم)(2).
قلت: وهو يشير بهذا إلى أن من كانت تلك صفته فقد خرج من الإسلام، فالله يقول في كتابه الكريم: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء:65].
فالمعصية هنا هي الكفر لكونه لم يرض بحكم الله ورسوله في قسمة الميراث، وهذا ما سبق نقله عن الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية، ونختم هذا بنقل قول أحد المفسرين المعاصرين وهو العلامة السعدي رحمه الله.
4 ـ عبد الرحمن بن ناصر السعدي يقول في كتابه «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان»: {ومن يعص الله ورسوله }....الخ.
قال: (ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج، القائلين بكفر أهل المعاصي، فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله، ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب، ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية.
__________
(1) المحرر الوجيز 3 / 526 .
(2) تفسير ابن كثير 2 / 203 .(1/407)
وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين، الذين معهم طاعة التوحيد غير مخلدين في النار. فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها(1).
فهذه أقوال علماء التفسير من السلف وأتباعهم في تفسير هذه الآية، فهم لا يضربون نصوص الكتاب الكريم بعضها ببعض، وإنما يقولون بها جميعاً، ويأخذون تفسيرها وبيانها ممن جعل الله البيان لما أنزله إليه وهو رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى مبيناً ذلك وآمراً للأمة بأن تأخذ ما أمرها به رسوله وأن تنتهي عما نهاها عنه:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.....}[ الحشر:1].
ومما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تواترت به النصوص من إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأنه لا يخلد من مات على التوحيد في النار، وإنما يخلد فيها الكافر والمشرك والمنافق النفاق الاعتقادي.
ثم يواصل الخليلي في استدلاله على تخليد أصحاب المعاصي من القرآن فيقول في ص213:
(5 ـ قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} [النساء:93].
قال: ووجه الاستدلال بالآية، أن الله تعالى توعد فيها قاتل المؤمن ـ فيما توعده به ـ بالخلود في النار مع أن القتل كبيرة دون الشرك.
ثم قال: وقد حاولوا التخلّص مما دل عليه هذا النص بضروب من التأويلات التي أنكر فيها بعضهم على بعض ولم يتفقوا على شيء).
ثم راح ينقل أقوالاً عن الفخر وغيره ويؤيد بها الاختلاف في تفسير الآية وأنهم لم يتفقوا على شيء كما يقول، وأنهى نقاشه وأقواله تلك في أول ص220.
وأقول رداً على دعواه الاختلاف بين أهل السنة وعلى وجه استدلاله بما يأتي:
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / للشيخ عبد الرحمن السعدي ص136.(1/408)
1 ـ أولاً ـ أن أهل السنة من سلف هذه الأمه وأتباعهم، لم يختلفوا في أن أصحاب الكبائر التي هي دون الشرك بالله - عز وجل -، أن أصحابها لا يخلدون في النار، بل قولهم في ذلك واحد لا يختلف، وهو عدم تخليد أصحاب المعاصي دون الشرك بالله في النار، معتصمين في ذلك بالنصوص من كتاب الله الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المتواترة في ذلك.
2 ـ ثانياً ـ وأما استدلاله بهذه الآية الكريمة التي ورد فيها هذا الوعيد الشديد لقاتل المؤمن عمداً فإنهم يعطون هذا النص حقه ويبينون عظمه تحذيراً من ارتكابه، فإن مرتكبه يعرض نفسه لسخط الله وغضبه وعقابه، ومع بيانهم لذلك فإنهم يبينون الحق فيه بالنصوص الأخرى.
وإليك أيها القاريء الكريم أقوال المفسرين من سلف هذه الأمة وأتباعهم في تفسير هذه الآية، ونبدأ بإمام المفسرين ابن جرير الطبري من علماء السلف الذي لم يعرج ـ الخليلي ـ على تفسيره لهذه الآية:
يقول ابن جرير رحمه الله: القول في تأويل ـ أي تفسير ـ قوله تعالى:
{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} [النساء / 93].
قال: (يعني جل ثناؤه: ومن يقتل مؤمناً عامداً قتله، مريداً إتلاف نفسه، {فجزاؤه جهنم}، يقول: فثوابه من قتلِه إياه جهنم، يعني: عذاب جهنم، {خالداً فيها}، يعني باقياً فيها، والهاء والألف في قوله: فيها من ذكر جهنم، {وغضب الله عليه}، يقول: {وغضب الله عليه} بقتله إياه متعمداً، {ولعنه}، يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه، {وأعد له عذاباً عظيماً}، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره).
هذا تفسير ابن جرير الإجمالي لهذه الآية الكريمة.
فقد وضح فيها ما يستحقه قاتل المؤمن المتعمد.
ثم بعد ذلك شرع في ذكر أقوال علماء السلف في تفسير هذه الآية وبيان مافيها من أحكام.
فذكر أقوالهم في صفة قتل العمد، ثم في أسباب نزول الآية، ثم في قبول توبة القاتل عمداً وعدم قبولها، ثم قال:(1/409)
(قال أبو جعفر: وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال: معناه ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه إن جازاه جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره، إما أن يعفو بفضله، فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها، ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله:
{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}.
ثم قال: فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} والقتل دون الشرك (1)).
2 ـ البغوي، يقول: (قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً...} الآية، نزلت في مقيس بن صبابة الكندي وكان قد أسلم) ثم ذكر سبب ارتداده عن الإسلام وقتله لرجل من بني فهر خدعة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استثناه يوم فتح مكة عمّن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبه، ثم أورد الأقوال في ذلك، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،...إلى أن قال:
(وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر، ثم ذكر الرد على المستدل بالآية فقال :
1 ـ لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر وهو مقيس بن صبابة.
2 ـ وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمناً مستحلاً لقتله بسبب إيمانه، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافراً مخلداً في النار.
3 ـ وقيل: قوله تعالى: {فجزاؤه جهنم خالداً فيها} معناه هي جزاؤه إن جازاه، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج5/215 ـ 221.(1/410)
ثم قال: حُكي أن عمرو بن عبيد(1)جاء إلى عمرو بن العلاء فقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا، فقال: أليس قد قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمية أتيت يا أبا عثمان، إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفاً وذماً وإنما تعد إخلاف الوعد خلفاً وذماً وأنشد:
وإني وإن أوعدته، أو وعدته .. لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال: والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار، ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة»(2).
ثم ساق بإسناده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد يوم بدر وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه:
«بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً ثم ستره الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك(3).
قلت: وقد جاء في هذا الحديث ذكر هذه الكبائر من القتل والزنا والسرقة، وأن من لم يعاقب عليها في الدنيا، فهي تحت مشيئة الله في الآخرة، إن شاء عفا عن صاحبها وإن شاء عاقبه أما الشرك بالله، فقد قال تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
__________
(1) عمرو بن عبيد من رؤوس المعتزلة، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار.
(2) البخاري / الجنائز ح 1238.
(3) تفسير البغوي / معالم التنزيل ج 1 / 464 ـ 466؛ وأخرجه البخاري في كتاب الإيمان ح 11.(1/411)
3 ـ ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر ابن القيم ـ في كتابه القيم «مدارج السالكين» ج1/392، بعد أن أورد عدداً من نصوص الوعيد من الكتاب والسنة، ثم ذكر اختلاف الناس فيها فذكر رد أهل السنة والجماعة على الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل تلك الجرائم في النار، وإن اختلفوا في حكمهم في الدنيا.
ثم بعد إيراد أقوال غير الخوارج والمعتزلة في تأويل تلك النصوص ومنها قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.
قال في ص396: وقالت فرقة: هذه النصوص وأمثالها ما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده. فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه.
وغاية هذه النصوص: الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع، فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص، فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها.والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص.
ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين، ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتباراً بمقتضى العقاب ومانعه وإعمالاً لأرجحها.
قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما، وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية، والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقاً وأمراً، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضداً يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما، فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة وفعل القوة، والحكم للغالب منهما، وكذلك قوي الأدوية والأمراض.
والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.(1/412)
قال: ومن هنا يعلم انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة، ولا يدخل النار وعكسه، ومن يدخل النار ثم يخرج منها، ويكون مكانه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه.
قال: ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبره الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي العين، ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه وربوبيته وعزته وحكمته. وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة خلاف ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.
وهنا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان: يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله بعدد أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله(1).
4 ـ ويقول الشيخ السعدي في تفسير الآية وهي قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} [النساء/93].
قال: تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا، وعيد القاتل عمداً وعيداً ترجف له القلوب، وتنصدع له الأفئدة، وينزعج منه أولو العقول.
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا: وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم. أي: فهذا الذنب العظيم، قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار، فعياذاً بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.
قال: وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار أو حرمان الجنة.
__________
(1) مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ج1 / 392 ـ 398. تحقيق حامد فقي، الناشر دار الكتاب العربي في بيروت سنة 1392 هـ ـ 1972م.(1/413)
قال: وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين.
ثم قال: والصواب في تأويلها، ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين ابن القيم في (المدارج). فإنه قال: بعد ما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال: وقالت فرقة: إن هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه.
قلت: وهو ما سبق نقله عن ابن القيم قبل هذه الصفحات، فإنه نقله كله في تفسير هذه الآية وأيده (1).
وحيث إن الخليلي قد اختار عشر آيات من كتاب الله ويزعم أنها تدل على تخليد أصحاب المعاصي من الموحدين في النار، وفسرها على رأيه، فكان من اللازم إيراد تلك الآيات كلها مع ذكر وجهة استدلاله بها، ثم الرد عليه، في تلك الشبه التي ظنها أدلة على عقيدته التي هي عقيدة الخوارج والمعتزلة.
وقد سبق الحديث عن خمس آيات، وإليك أيها القارئ الكريم نص الآية السادسة ووجهة استدلاله بها فقد جاء في ص220 قوله:
6 ـ قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [يونس / 26 ـ 27].
قال: والاستدلال بها من وجوه:
أولها: أن الله وعد بالجنة الذين أحسنوا وحصرها فيهم بقوله: {أولئك أصحاب الجنة} فعرف المسند والمسند إليه ووسط بينهما ضمير الفصل لتأكيد الحصر.
ثانيهما: أنه أخبر عنهم أنهم لا يصيبهم قتر ولا ذلة، ولا يعقل أن يصلى أحد النار ولو لمدة ثواني فلا يرهقه فيها قتر ولا ذلة.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 157 ـ 158.وهو في «مدارج السالكين» ج1/392 ـ 398.(1/414)
ثالثهما: أنه توعد الذين عملوا السيئات بالنار مخلدين فيها، وهذا الحكم يصدق على من أتى أي سيئة، فإن السيئات جنس غير محصورة أفراده، وما كان كذلك فحكمه يصدق على كل فرد من أفراده سلباً وإيجاباً، ثم مثل لذلك فقال: ألا ترى أن قول القائل: تزوجت النساء لا يعني أنه تزوج جميع أفراد النساء، بل يصدق على مالو تزوج ولو واحدة منهن.......إلخ، ثم أورد حسب دعواه أدلة المانعين ورد عليها.
«الجواب»:
والجواب على استدلاله بهذه الآية لا يخرج عما سبق ذكره وهو أن الخليلي اتبع من سبقه في هذا السبيل وهو إنزال الآيات النازلة في الكفار -الذين حكم الله عليهم بالخلود في النار لكفرهم بالله ورسوله- على الموحدين،كما قال عبدالله بن عمر .
والشبهة عند الخليلي أن الله عز وجل سمى الكفر والشرك به {سيئة} فحملها الخليلي على كل معصية.
ولبيان خطئه في تفسير (السيئة) بمطلق المعصية، نورد للقارئ الكريم تفسير سلف الأمة لهذه الآية الكريمة، ونبدأ بتفسير الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله، يقول في تفسير الآيتين التي استدل بها الخليلي وهما قوله تعالى:
{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [يونس / 26].
(يقول الله تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا من خلقه، فأطاعوه فيما أمر ونهى، الحسنى.
قال: ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحسنى والزيادة اللتين وعدهما المحسنين من خلقه، فقال بعضهم:
الحسنى: هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء، والزيادة عليها النظر إلى الله تعالى.
ثم أورد بإسناده من قال ذلك، فبدأ بالصحابة فذكر: أبا بكر الصديق، وحذيفة، وأبا موسى الأشعري، ثم ذكر عدداً من التابعين ـ كلهم يفسرون: الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى الله عز وجل وهم في الجنة.(1/415)
وسبق أن الخليلي ينكر رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة وهم في الجنة في أول كتابه هذا، وقد سبق الرد عليه في الجزء الأول.
ثم تابع ابن جرير تفسير الآية فقال: القول في تأويل قوله تعالى:{ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}.
قال: يعني جل ثناؤه بقوله: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} لا يغشى وجوههم كآبة ولا كسوف حتى تصير من الحزن كأنما علاها قتر، والقتر: الغبار، وهو جمع قترة ومنه قول الشاعر:
متوج برداء الملك يتبعه .. موج ترى فوقه الرايات والقترا
يعني بالقتر: الغبار، ولا ذلة: ولا هوان، أولئك أصحاب الجنة.
يقول: هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أهل الجنة وسكانها ومن هم فيها {خالدون} يقول: هم فيها ماكثون أبداً، لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتنتغص عليهم لذتهم) ثم أورد ذكر من قال ذلك، وبين أن معنى الزيادة النظر إلى وجهه تعالى وما يتفضل به على عباده من صنوف النعم، ثم أتبع ذلك بتفسير الآية الأخرى فقال:
(القول في تأويل قوله تعالى:
{والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [يونس/27].
ثم شرع في تفسيرها فقال:
يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله، جزاء سيئة من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا بمثلها من عقاب الله في الآخرة {وترهقهم ذلة} يقول: وتغشاهم ذلة وهوان بعقاب الله إياهم {مالهم من الله من عاصم} يقول: مالهم من الله من مانع يمنعهم إذا عاقبهم يحول بينه وبينهم.
وقوله: {أولئك أصحاب النار} يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهل النار الذين هم أهلها {هم فيها خالدون} يقول: هم فيها ماكثون(1).
__________
(1) تفسير ابن جرير ج11 / 104 ـ 111.(1/416)
هكذا يفسر علماء السنة الآية الكريمة بما يبين أن السيئة المقصود بها في هذا السياق الكفر بالله عز وجل وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جاء عقابه بمثل عمله السيئ في الدنيا.
فكان جزاء الذين أحسنوا أعمالهم فآمنوا بالله ولم يشركوا به شيئاً وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم فأطاعوه فيما أمر وانتهوا عما نهاهم عنه وعملوا الصالحات الحسنى التي هي الجنة، وزادهم ما شاء من فضله وكرمه جل ثناؤه.
وقد وضح سياق الآيات ما فسر به أهل السنة هذه الآية الكريمة وهو أن (السيئة) هنا الكفر بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم مع ارتكاب المعاصي فقال تعالى بعد قوله: {.... أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
قال: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}[ يونس28].
2 ـ ويوضح ذلك صاحب المحرر الوجيز فيقول:
{والذين كسبوا السيئات} رفع بالابتداء، وتعم السيئات هنا الكفر والمعاصي، فمثل سيئة الكفر، التخليد في النار، ومثل سيئة المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تبارك وتعالى(1).
3 ـ ويقول أبو السعود في تفسير الآية: {والذين كسبوا السيئات} أي الشرك والمعاصي.
{أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قال: وحيث كانت الآية الكريمة في حق الكفار بشهادة السياق والسباق لم يكن فيها تمسك للوعيدية (2).
أي ـ الخوارج والمعتزلة ـ وهو صريح في الرد على من يوجبون على الله إنفاذ الوعيد في العصاة من الموحدين ـ ومنهم الخليلي في استدلاله بهذه الآية.
__________
(1) المحرر الوجيز ـ لابن عطية ج7/ 139.
(2) تفسير أبي السعود 2/656 تحقيق / عبد القادر أحمد عطا / مكتبة الرياض الحديثة.(1/417)
فهو- أي أبو السعود- يقول كما قال ابن جرير وابن عطية: إن السيئة هنا المقصود بها الشرك بالله، فإن الوعيد عليها بالخلود في النار دال على ذلك، فالكفار والمشركون هم المخلدون في النار، وليس عصاة الموحدين فإنهم في مشيئة الله، إن شاء عذبهم بقدر ما ارتكبوا من معاصي وإن شاء عفا عنهم، لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ومآلهم إلى الجنة. هذا ما دل عليه كتاب الله - عز وجل -، والأحاديث المتواترة التي لا مدفع لها فإنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، هكذا قال المعصوم صلى الله عليه وسلم. ثم يتابع أبو السعود في تفسير الآية فيقول: وقوله في الآية التي هي في السياق: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم..}.
فيقول : (وضمير نحشرهم لكلا الفريقين الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات لأنه المبادر من قوله تعالى: {جميعاً} ومن أفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله تعالى: {ثم نقول للذين أشركوا} أي: نقول للمشركين من بينهم، ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الأشهاد أفظع، والإخبار بحشر الكل في تهويل اليوم الآخر، وتخصيص وصف إشراكهم بالذكر في حيز الصلة من بين سائر ما كسبوه من السيئات لابتناء التوبيخ والتقريع عليه، مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم(1).
4 ـ ويقول العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير الآية:
__________
(1) تفسير أبي السعود 2 / 656.(1/418)
لما ذكر الله أصحاب الجنة بقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان.... إلى قوله: فهؤلاء لهم: {الحسنى} وهي الجنة الكاملة في حسنها، {وزيادة} وهي: النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه، والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون ويسأله السائلون.
{أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} الملازمون لها لا يحولون ولا يزولون ولا يتغيرون. ثم ذكر بعد ذلك: {أصحاب النار} فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب وأصناف المعاصي.
و {جزاء سيئة بمثلها} أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم. {وترهقهم} أي تغشاهم {ذلة} في قلوبهم وخوف من عذاب الله.... {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟ {وجوه يومئذ ناظرة. إلى ربها ناظرة. ووجوه يومئذ باسرة. تظن أن يفعل بها فاقرة})(1).
فهذه نماذج سقناها لك أيها القارئ الكريم من تفسير القدامى والمعاصرين لهذه الآية الكريمة، اتفقت أقوالهم جميعاً على تفسير قوله تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [يونس/27].
إن هؤلاء هم أهل النار الذين هم أهلها، وإن السيئة هي الكفر، والتكذيب، وجميع أنواع المعاصي.
وقد دل على ذلك سياق الآيات في هذه السورة.
وليس الموحدون من أهل المعاصي داخلين في حكم المخلدين في النار.
وإنما هذا جهل من الخوارج ومن يسلك مسلكهم في تخليد الموحدين في النار.
__________
(1) تفسير السعدي ص 318 ـ 319.(1/419)
كما قال الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن هؤلاء انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المسلمين، كما سبق نقل ذلك عنه من صحيح الإمام البخاري رحمه الله.
ثم إن الخليلي واصل في استدلاله بالآيات من كتاب الله الكريم على رأيه فقال في ص221:
(7 ـ قوله تعالى: {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً} [الفرقان / 65].
قال: فإن وصفها بالغرام يدل على عدم انقطاعه، قال في اللسان: والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم، والبلاء، والحب، والعشق ...
وقال الزجاج: هو أشد العذاب في اللغة، قال الله - عز وجل -: {إن عذابها كان غراماً} .
والجواب على هذا، نقول: نعم إن عذابها كان غراماً، فهو ملازم لأصحاب النار، الذين هم أهلها من الكفار، والمشركين الشرك الأكبر، والمنافقين النفاق الاعتقادي، فهؤلاء خالدون مخلدون في النار بنص القرآن والسنة وإجماع أهل السنة.
8 ـ ثم قال في ص222: (قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً} [الفرقان: 68 ـ 69 ]
قال: فقد توعد الله فيه قاتل النفس المحرمة بغير الحق، والزاني، بما توعد به من دعا مع الله إلهاً آخر من الخلود في النار.
والجواب على استدلال الخليلي بأن الله توعد في هذه الآية قاتل النفس بغير حق، والزاني بما توعد به من دعا مع الله إلهاً آخر.-وعلى ذلك فإنه لا فرق عنده بين المشرك بالله عابد الوثن، والموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً ولكنه ارتكب معصية كبيرة من الكبائر كالقتل، أو الزنا أو غيرهما من الكبائر، وأن الجميع مخلدون في النار-
فنقول: إن دعواه هذه تصادم نصوصاً كثيرة من كتاب الله الكريم، وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .(1/420)
فالله عز وجل لم يساو بين الموحد والمشرك كما يدعي المؤلف، وقد بين العلماء ذلك بما جاء في السنة الثابتة التي قال الله فيها مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {... وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم....} [النحل: 40].
ونبدأ في تفسير هذه الآية وبيان دلالتها وسبب نزولها.
ونبدأ بتفسير ابن جرير رحمه الله الذي جمع في تفسيره بين الدراية والرواية.
1 ـ ابن جرير يقول: (القول في تأويل قوله تعالى:
{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً. إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً. ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً} [الفرقان/68ـ 71 ].
يقول رحمه الله في تفسير هذه الآيات:
(يقول تعالى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلهاً آخر فيشركون في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة، ولا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، إما بكفر بالله بعد إسلامها ـ ويعني به المرتد ـ أو زنىً بعد إحصانها، أو قتل نفس فتقتل بها، ولا يزنون فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج {ومن يفعل ذلك} يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع الله إلهاً آخر، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وزنى {يلق آثاماً} يقول: يلق من عقاب الله عقوبة ونكالاً، كما وصفه ربنا جل ثناؤه وهو أنه: {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً}.(1/421)
قال: وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب، فخافوا ألا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام، فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يعلمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم. ثم قال: ذكر الرواية في ذلك.
فذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعونا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون}، ونزلت: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}.....إلى قوله:{ من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون}[ الزمر55] قال ابن جريج: وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء.
ثم أورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم ما الكبائر؟ قال: «أن تدعو لله نداً وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}(1).
وهكذا استمر في إيراد الروايات بهذا عن الصحابه والتابعين الذين هم أعلم بكتاب الله عز وجل، فقد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا مافيها من العلم والعمل.
وعلى القول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية الكريمة ورد فيها أن التخليد هو لمن أشرك بالله عز وجل واتخذ له ندّاً، والإشراك بالله من أكبر الكبائر لما جاء في حديث عبدالله بن مسعود السابق ذكره.
__________
(1) تفسير ابن جرير 19/40 ـ41.(1/422)
ثم إن المشرك جمع مع إشراكه هذه الكبائر، فتخليده لأجل شركه بالله - عز وجل -، فالشرك هو سبب التخليد.
2 ـ وقد أوضح هذا وبينه ابن عطية في تفسير الآية فقال: (وقوله تعالى:{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الآية، إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في: عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات، وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات، وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً، وفي نحو هذه الآية قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : قلت يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، ثم قرأ رسول الله هذه الآية» (1).
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبالقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين، ولهم من الوعيد بقدر ذلك.
قال: والحق الذي تقتل به النفس هو قتل النفس، والكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين).
3 ـ كما وضح ذلك وبينه العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: ({والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} بل يعبدونه وحده، مخلصين له الدين حنفاء، مقبلين عليه، معرضين عما سواه، {ولا يقتلون النفس التي حرم الله} وهي نفس المسلم، والكافر المعاهد، {إلا بالحق} لقتل النفس بالنفس، وقتل الزاني المحصن، والكافر الذي يحل قتله، {ولا يزنون} بل يحفظون فروجهم، {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}،{ومن يفعل ذلك} أي: الشرك بالله، أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو الزنا، فسوف {يلق أثاماً} ثم فسره بقوله: {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه}، أي: في العذاب {مهاناً}.
__________
(1) البخاري/التوحيد ح7520.(1/423)
ثم قال: فالوعيد بالخلود لمن فعلها كلها ثابت لا شك فيه، وكذا لمن أشرك بالله، وكذا الوعيد الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة لكونها إما شرك، وإما أكبر الكبائر.
قال: وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود، لأنه قد دلت النصوص القرآنية، والسنة النبوية، أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار، ولا يخلد فيها مؤمن، ولو فعل من المعاصي ما فعل.
ونص تعالى على هذه الثلاثة، لأنها أكبر الكبائر:
* فالشرك فيه فساد الأديان.
* والقتل فيه فساد الأبدان.
* والزنا فيه فساد الأعراض).
قلت: فهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو الفقه في الدين، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ومن توفيق الله لهم أنهم يجمعون بين النصوص الواردة في كتاب الله الكريم، والنصوص الثابتة في سنة المصطفى الأمين، فالله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..}،ويقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر الذي رواه البخاري في كتاب الجنائز، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتاني آت من ربي فأخبرني، أو قال بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق»(1).
وهذا التفصيل الذي ذكره السعدي رحمه الله في الوعيد على هذه الثلاثة لأنها أكبر الكبائر:
أولها: الشرك بالله، فصاحبه يخلد في النار للنصوص الواردة في ذلك وأنه أكبر الكبائر.
وثانيها وثالثها: معصية القتل، والزنا وهما من الكبائر، يستحق صاحبهما من الوعيد بقدر ذنبه ولا يخلد في النار مؤمن، وهو ما ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز، وابن جرير، وقد سبق نقل ذلك في الصفحات السابقة.
وعوداً للردّ على وجهة استدلال الخليلي فقد قال في ص222، حين ذكر أن هؤلاء يخلدون جميعاً في النار وأنه لا فرق عنده بين المشرك والموحد العاصي.
__________
(1) البخاري / الجنائز ح 1237.(1/424)
قال: (واعترض بأن هذا الوعيد خاص بمن جمع بين الكبائر الثلاث دون من أتى واحدة منها.
ثم قال: وأجيب بأن هذا يعني أن من أشرك مع الله إلهاً آخر ولم يجمع مع شركه بين الزنا وقتل النفس المحرمة، لم يصدق عليه هذا الوعيد، وهذا لا يقوله أحد منكم.
ثم قال: فإن قيل: إن خلود المشرك ثبت بنصوص أخرى دلت على أن شركه كاف في استحقاقه هذا العذاب، فالجواب أن النصوص لم تفرق بين الشرك وغيره في الخلود، بل دلت على خلود غير المشرك بالنص على بعض الكبائر،كالقتل تارة، والتوعد به على مطلق المعصية تارة أخرى كما في الآية الآتية).
9 ـ ثم أورد الآية التاسعة من أدلة الكتاب وهي قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} [ الجن /23].
قال: (ولا يماري أحد يؤمن بما أنزل الله أن مقارفة الكبيرة معصية لله ولرسوله، فإن قيل: إن هذا الوعيد خاص بالمعصية الكبرى وهي الإشراك بالله تعالى.
قلنا: هذه مخالفة لصريح اللفظ دون داع).
والجواب على هذا الجدل بقال وقيل لرد النصوص الصريحة من الكتاب والسنة، لا يسلكه إلا من لم يرض بحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع.
والله عز وجل لم يأمر المتنازعين بالرد إلى قيل وقال، وإنما قال في كتابه الكريم: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء /59].(1/425)
وهذه الآية الكريمة هي التي صدر بها الخليلي كتابه هذا في مقدمته ص6، وإليك نص عبارته التي دعا فيها المتنازعين إلى الرد إلى كتاب الله الكريم وسنة رسوله الصحيحة فقال- وهو يذكر ما صارت اليه الأمم من الخلاف، وأن الله ميز هذه الأمة بحفظ كتابه، وجعل لها مخلصاً عند الشقاق والنزاع قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر / 90 ] ومكن لها من معرفة الصحيح الثابت من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وجعل لها مخلصاً من الشقاق والنزاع بالاحتكام إلى الله ورسوله حيث قال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء / 59].
قال: ولا يكون الاحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه فتستلهم منه الحقيقة ويستبان به الحق، وكذلك الاحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا الرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة.أهـ
هذا ما يقرره الخليلي عند الاختلاف وهو الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله الثابتة الصحيحة.
فأنت تدعي أن أصحاب الكبائر من الموحدين يخلدون في النار كما يخلد المشركون الذين يدعون مع الله إلهاً آخر.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا يخلد في النار إلا المشرك بالله الشرك الأكبر، والكافر، والمنافق النفاق الاعتقادي.
وأما المؤمن الموحد العاصي فإنه مهما ارتكب من كبائر فإنه لا يخلد في النار وإن دخلها بذنبه.
وفيما يلي النصوص الواردة في كتاب الله الكريم، والآحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدالة بمنطوقها أن من ارتكب ذنباً دون الشرك بالله أنه لا يخلد في النار.
قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء/116].(1/426)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه: «من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة» (1).
* وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر... إلى قوله: ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً، لقيته بمثلها مغفرة»(2).
* وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك دخل الجنة.
قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق.قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن رغم أنف أبي ذر.
فكان أبو ذر يحدث هذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر»(3).
وبناء على ما قرره الخليلي أن الاحتكام عند التنازع هو الرد إلى الله - عز وجل -، وبيان أن الرد إلى الله لا يكون إلا بالرجوع إلى كتابه.
والاحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا الرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة.
فقد رأيت أيها القارئ الكريم أن كتاب الله صريح في أن الله عز وجل لا يغفر لمشرك به تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وفي الحديث القدسي الذي سبق نصه، أن الله وعد من جاءه لا يشرك به شيئاً بالمغفرة ولو جاءه بقراب الأرض خطيئة، والله عز وجل لا يخلف الميعاد.
__________
(1) البخاري / الجنائز ح 1238؛ مسلم / في الإيمان / باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ح15.
(2) مسلم / باب الذكر والدعاء ح22 (2687).
(3) البخاري في اللباس ح 5827، ومسلم في الإيمان / باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ح 154.(1/427)
كما أن حديث أبي ذر المتفق عليه أن من ارتكب كبيرة الزنا والسرقة ومات على التوحيد دخل الجنة من أول وهلة، أو بعد أخذه بذنبه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن رغم أنف أبي ذر.
وأبو ذر الصحابي الجليل، لا يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرد قوله ولهذا رضي وسلم بأن من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر، ثم صار يحدث بهذا الحديث ويذكر لفظه كاملاً.
وإذا كان أبو ذر رضي بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ممتثلاً لقول المصطفى هذا ولقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65 ].
فنقول: إن العصاة من الموحدين لن يخلدوا في النار إن دخلوها، رغم أنف الخوارج ومن يقول بقولهم ويسلك مسلكهم.
و للخليلي أسوة حسنة بأبي ذر رضي الله عنه وقد قال: بأن الحكم في كل قضية يتنازع فيها إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا حكم الله ورسوله في أهل المعاصي من أهل التوحيد.
أما آية 23 من سورة الجن: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} .
فقد أوردها في أول بحثه هذا عند تعريف الخلود ص377. وادعى أن لفظ الخلود موضوع للدوام الأبدي، وأنه مذهب الزمخشري، وابن عطية، والقرطبي والشوكاني من المفسرين.
وقد بينت أن نسبة هذا القول للزمخشري لا ننازعه فيه، فإن الخليلي يسلك مسلك الزمخشري المعتزلي، وإن لم يذكر الخليلي المصدر الذي أخذ منه ذلك.
أما نسبته هذا القول لابن عطية، والقرطبي، والشوكاني من المفسرين، ولم يذكر المرجع إلا أنه أورد هذه الآية في سياق حديثه هذا في ص 186.
فإني رجعت لتفسير الآية المذكورة عند ابن عطية، والقرطبي، والشوكاني كما في ص379 من هذا البحث ونص قول ابن عطية في تفسيره: {ومن يعص الله} يريد الكفر بدليل الخلود المذكور(1).
__________
(1) تفسير ابن عطية المحرر الوجيز ج 15 / 15.(1/428)
ويقول القرطبي: ومن يعص الله في التوحيد والعبادة(1).
ويقول الشوكاني: {ومن يعص الله ورسوله} في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه(2).
وهكذا ترى أنه لم يفسر واحد منهم المعصية بالكبيرة، وإنما فسروها بالشرك بالله عز وجل لأنه أكبر الكبائر.
ثم ختم الخليلي أدلته على تخليد عصاة الموحدين في النار من الكتاب بقوله في ص223 وهو الدليل العاشر حيث قال:
(10 ـ قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين. وما هم عنها بغائبين} [ الانفطار 13ـ16].
قال: ووجه الاستدلال به ما فيه من تقسيم الناس إلى طائفتين، أبرار وفجار، وتقسيم جزائهم إلى مصيرين، نعيم وجحيم، مع النص على عدم غياب أصحاب الجحيم عنها، وذلك على حد قوله تعالى: {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى /7]).
فهذا تفسير الخليلي للآية، وهو يعلم رد هذا الاستدلال عليه.
ولهذا أورد بعد ذلك وجه الاعتراض عليه فقال:
(واعترض بأن المراد بالفجار الكاملون في الفجور الذين وصفهم الله بقوله: {أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس /42]، قال: حتى إن الفخر الرازي قال:«نسلّم أن صاحب الكبيرة فاجر».
ثم أورد رداً على هذه الجملة سوف نورده بعد أن نذكر تفسير السلف لهذه الآية.
ونبدأ بتفسير ابن جرير رحمه الله:
1 ـ يقول ابن جرير: (قوله تعالى: {... إن الأبرار لفي نعيم} [الانفطار /13].
يقول تعالى ذكره: ليس الأمر أيها الكافرون كما تقولون، من أنكم على الحق في عبادتكم غير الله، ولكنكم تكذبون بالثواب والعقاب والجزاء والحساب. ثم أورد أسماء من قالوا بهذا التفسير للآية فذكر مجاهداً، وقتادة، وأيوب.
__________
(1) تفسير القرطبي ج19 /26.
(2) تفسير الشوكاني ج5 / 301.(1/429)
ثم قال: قوله: {إن الأبرار لفي نعيم} يقول جل ثناؤه: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه لفي نعيم الجنان ينعمون فيها. وقوله تعالى: {إن الفجار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين. وما هم عنها بغائبين} [الانفطار14ـ16].
يقول تعالى ذكره: {وإن الفجار} الذين كفروا بربهم {لفي جحيم} وقوله: {يصلونها يوم الدين} يقول جل ثناؤه: يصلى هؤلاء الفجار الجحيم يوم القيامة، يوم يدان العباد بالأعمال فيجازون بها، وقوله: {وما هم عنها بغائبين} يقول تعالى ذكره: وما هؤلاء الفجار من الجحيم بخارجين أبداً فغائبين عنها، ولكنهم مخلدون ماكثون. وكذلك الأبرار في النعيم، وذلك نحو قوله: {وما هم منها بمخرجين})(1).
2 ـ ويقول ابن عطية في تفسير الآية:
({الأبرار} جمع بر، وهو الذي قد اطّرد برّه عموماً، فبر ربه في طاعته إياه، وبر أبويه، وبر الناس في رفع ضره عنهم، وجلب ما استطاع من الخير لهم، وبر الحيوان وغير ذلك في أن لم يفسد منها شيئاً عبثاً وبغير منفعة مباحة.
{والفجار} الكفار، و{ يصلونها} معناه يباشرون حرها بأبدانهم، و {يوم الدين} هو يوم الجزاء.
قوله تعالى: {وما هم عنها بغائبين} قال بعض المتأولين ـ يعني المفسرين ـ: هذا تأكيد في الإخبار عن أنهم يصلونها، وأنهم لا يمكنهم المغيب عنها يومئذ، وقال آخرون: المعنى: وما هم عنها بغائبين في البرزخ، كأنه تعالى لما أخبر عن صليهم إياها يوم الدين أخبر بعد ذلك عن المدة التي قبل يوم الدين، وذلك أنهم يرون مقاعدهم من النار غدوة وعشية فهم مشاهدون لها، ثم عظم تعالى قدر هول يوم الدين بقوله سبحانه: {وما أدراك}، {ثم ما أدراك})(2).
3 ـ ويقول ابن كثير في تفسيره: {إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين. وما هم عنها بغائبين}[ الانفطار /13 ـ 16].
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 30 / 88 ـ 89.
(2) المحرر الوجيز ج15 / 349.(1/430)
يقول:(يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل ولم يقابلوه بالمعاصي.
ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم، ولهذا قال: {يصلونها يوم الدين} أي: يوم الحساب والجزاء والقيامة: {وما هم عنها بغائبين} أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يوماً واحداً)(1).
قلت: وهو يشير بهذا إلى تخليد أهل النار الذين هم أهلها، كما قال تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} [الزخرف / 74ـ77].
4 ـ وهكذا قال الشوكاني في تفسير الآية:
({إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم} والجملة مستأنفة لتقرير هذا المعنى الذي سيقت له وهي كقوله سبحانه: {فريق في الجنة وفريق في السعير} وقوله: {يصلونها يوم الدين} أي يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به، ومعنى يصلونها أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرها يومئذ، {وما هم عنها بغائبين} أي: لا يفارقونها أبداً ولا يغيبون عنها بل هم فيها(2).
5 ـ وقال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير الآية:
{وإن الفجار} الذين قصروا في حقوق الله، وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم {لفي جحيم} أي: عذاب أليم في دار الدنيا، ودار البرزخ، وفي دار القرار. {يصلونها} ويعذبون بها أشد العذاب {يوم الدين} أي: يوم الجزاء على الأعمال. {وما هم عنها بغائبين} أي: بل هم ملازمون لها، لا يخرجون منها)(3).
قلت: وعلى تسليم أن لفظ الفجار يشمل العصاة فإن دخولهم النار ليس دخول خلود بدليل النصوص الأخرى.
__________
(1) ابن كثير ج8 / 366.
(2) فتح القدير ج 5/ 385.
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص845.(1/431)
وبعد هذه الجولة مع الخليلي في حشره لهذه الآيات الكريمة للاستدلال بها على تخليد العصاة من الموحدين في النار.
حيث تبين بالأدلة الصريحة من كتاب الله الكريم، ومن سنة نبيه الذي لا ينطق عن الهوى، ومن أقوال المفسرين من أهل السنة والجماعة أن تلك الآيات كلها في الكفار والمشركين، الذين هم أهل النار الذين حكم الله عليهم بالخلود في النار لكفرهم بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم.
وليست في عصاة الموحدين الذين قال الله عنهم:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله - عز وجل -:«من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة أو أغفر... إلى قوله: ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة»(1) وأحاديث أخرى متواترة في عدم تخليد العصاة في النار.
ونقول للقارئ الكريم: هذا قول الله عز وجل في وعده لعباده الذين أسرفوا على أنفسهم بارتكاب المعاصي. ولكنهم لم يشركوا معه إلهاً آخر، ووعده حق وصدق فهو لا يخلف الميعاد كما أخبر عن نفسه في كتابه، وهذا ما يقول به أهل السنة والجماعة.
فأي الفريقين أولى بالاتباع؟ الإباضية ـ الذين يمثلهم الخليلي ـ القائلين بمذهب الخوارج الذين انطلقوا لهذه الآيات التي سبق استدلال الخليلي بها النازلة في الكفار المبينة لحكم الله فيهم في الآخرة، لكفرهم بالله ورسوله، ثم تنزيلها على العصاة الموحدين الذين لقوا الله ولم يشركوا به شيئاً. كما سبق قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه في ذلك؟.
__________
(1) مسلم / باب الذكر والدعاء ح 22 (2687) وقد تقدم ذكره.(1/432)
أم أتباع أهل السنة الذين يقولون بما قال به الله عز وجل، وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين، وهو عدم تخليدهم في النار إن دخلوها؟.
وحيث تبين للقارئ الكريم أن كل الآيات التي أوردها الخليلي للاستدلال بها على تخليد عصاة الموحدين في النار لا دليل فيها على ما يدعي، فإن له جولة أخرى في السنة النبوية حيث يزعم أنها اشتملت على أدلة في تخليد العصاة لا تحصى كثرة، ولذلك فقد اقتصر على عشرة منها لتقابل العشر آيات التي أخذها من كتاب الله - عز وجل -.
فيقول في آخر ص223، بعد أن انتهى من ذكر الآيات العشر:
(وأما من السنة فكثير من الروايات الصحيحة التي لا يمكنني جمعها إلا بعد جهد جهيد، وإنما أقتصر منها على ما يأتي:
1 ـ روى البخاري ومسلم وغيرهما من طريق ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل هو خالد فيما هو فيه».
قال: وروى مثله البخاري من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه -، والطبراني والحاكم وصححه من طريق معاذ رضي الله عنه.
ثم قال: ودلالته على صحة عقيدة القائلين بخلود أهل الكبائر في النار لا غبار عليها، فإنه يفيد أن ذلك يعقب دخول الطائفتين في الدارين).
فبين وجه استدلاله بهذا الحديث.
أما الأحاديث التسعة الأخرى فقد سردها واكتفى بدلالة ألفاظها، إذ ورد فيها ذكر الخلود، والأبد، فعلّق على دلالتها جملة بعد أن سردها ولم يذكر الكتاب ولا الجزء ولا الصفحة التي أخذ منها تلك النصوص.
وقد رأيت من المناسب أن أورد نصوص تلك الأحاديث كلها كما سردها وذلك لاستقصاء أدلته كلها، ثم بيان وجهة الرد عليه في استدلاله بها على تخليد أهل الكبائر في النار.
فالحديث الثاني قوله:(1/433)
(2 ـ أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولوقيل لأهل الجنة أنكم ماكثون فيها عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد».
3 ـ وروى أحمد والبزار والحاكم والنسائي عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر» وفي رواية: «ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة، مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث»، وهو الذي يقر السوء في أهله.
4 ـ روى الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة» قال: وهو كناية عن حرمانه من دخول الجنة، لأن أهل الجنة لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، فلا يحرمون من شيء.
5 ـ أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة».
6 ـ روى الإمام الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» فقال رجل وإن كان شيئاً قليلاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وإن كان قضيباً من أراك» رواه الإمام مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
7 ـ أخرج الشيخان وغيرهما من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً».(1/434)
8 ـ روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».
9 ـ روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام» وفي رواية قتات.
10 ـ روى الشيخان عن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»).
ثم عقب على هذه الروايات كلها في آخر ص225 فقال:
(والروايات ـ كما قلت ـ في ذلك كثيرة، تارة تدل على الخلود بالنص عليه، وتارة بالجمع بينه وبين التأبيد، وأخرى بالتوعد بحرمان الجنة أو حرمان شم ريحها، قال: ومحصلها واحد وإن اختلفت ألفاظها، فإن حرمان الجنة ينافي دخولها في أي وقت من الأوقات، كما أن نفي دخولها يعم جميع الأزمنة، وقد تقدم تحرير ذلك في نظيره).
هذه الأحاديث التي اختارها الخليلي مدعياً أنها تدل على تخليد أهل الكبائر في النار.
وفيما يلي الرد على وجهة استدلاله بهذه الأحاديث:
1 ـ أما الحديث الأول المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقد اخرجه البخاري في كتاب الرقاق / باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. فتح الباري 11 / 6544. وفي باب صفة الجنة والنار ح 6548.
ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء. ح 43.
ولفظه في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(1/435)
«إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار، أُتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادياً: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم» وفي رواية لمسلم ح42: «يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه» وهو اللفظ الذي اختاره الخليلي.
ولفظ البخاري:
«يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لاموت، ويا أهل الجنة لاموت خلود» ح 6544، و ح 6548.
لفظه مثل لفظ رواية مسلم التي سبق لفظها.
ولكن ماهو الشاهد من لفظ هذا الحديث عند الخليلي على تخليد أهل الكبائر في النار؟
إنه يقول في ص224 بعد إيراد لفظ الحديث:
(ودلالته على صحة عقيدة القائلين بخلود أهل الكبائر في النار لاغبار عليها، فإنه يفيد أن ذلك يعقب دخول الطائفتين في الدارين).
والجواب على هذا الاستدلال:
نقول: إن على هذا الاستدلال أشد الغبار؛ لأن الله عز وجل قد أخبر في كتابه الكريم أن الخلق يوم القيامة ينقسمون إلى فريقين على ما قدّره الله عز وجل وقضاه كما قال: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير}[ الشورى: 7 ].
وقد جاء توضيح هذه الآية وبيانها في تقسيم الخلق إلى شقيٍّ، مخلد في النار: وهم الذين كفروا بالله ورسوله، فهم في نار جهنم {لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها...} {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها...}، وإلى سعداء خالدين مخلدين في الجنة، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، عطاؤهم غير منقطع.(1/436)
قال تعالى: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد.وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود:105-108].
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآيات، بعد أن ذكر المعنى الإجمالي:
(وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء في قوله: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك}.
على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه زاد المسير، وغيره من علماء التفسير، ونقل كثير منها الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري في كتابه، واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان، والضحاك، وقتادة وأبي سنان، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضاً:
أن الاستثناء عائد إلى العصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، من الملائكة والنبيين والمؤمنين حين يشفعون في أهل الكبائر، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين، فتخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، وقال يوماً من الدهر: لا إله إلا الله.
كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك، من حديث أنس، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديماً وحديثاً في تفسير هذه الآية الكريمة).
ثم قال في تفسير قوله تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود: 108].(1/437)
(يقول تعالى: {وأما الذين سعدوا} وهم أتباع الرسل، {ففي الجنة} أي: فمأواهم الجنة، {خالدين فيها} أي: ماكثين مقيمين فيها أبداً، {ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك}.
ثم قال: معنى الاستثناء ها هنا، أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنّة عليهم، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس.
وقال الضحاك، والحسن البصري: هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار، ثم أخرجوا منها، وعقب ذلك بقوله: {عطاء غير مجذوذ} أي: غير مقطوع، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية وغير واحد، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكر المشيئة أن ثم انقطاعاً أو لبساً أو شيئاً، بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع.
كما بين هنا أن عذاب أهل النار في النار دائماً مردود إلى مشيئته، وأنه بعدله وحكمته عذبهم، ولهذا قال: {إن ربك فعال لما يريد}، كما قال: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}. وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله: {عطاء غير مجذوذ}.
قال: وقد جاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت») (1).
قلت: وهذا الحديث هو الذي استدل به الخليلي على تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار، وادعى أنه لا غبار عليه لأنه جاء بعد إدخال الطائفتين في الدارين.
ونقول: نعم إنه جاء بعد إدخال الطائفتين في الدارين.
أما الطائفة التي دخلت النار وحكم عليها بالخلود فيها فهم الكفار بالله ورسوله من الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير 4 / 279 ـ 282.
(2) مسلم/ح153 .(1/438)
والمشركون بالله الشرك الأكبر، والمنافقون النفاق الاعتقادي الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، هؤلاء هم الطائفة الأولى الذين قال الله عنهم: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} [هود:103-106].
وأما الطائفة الثانية: فهم الذين قال الله عنهم: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود:108]. وهو مادل عليه قوله تعالى في سورة الشورى: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير} [ الشورى:7 ].
وهم الموحدون الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ومنهم العصاة بعد تطهيرهم من ذنوبهم وإخراجهم بشفاعة الشافعين، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فتخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، وقال يوماً من الدهر: لا إله إلا الله.
كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سرد ابن كثير أسماء عدد من الصحابة الذين رووا تلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الصحيحين وغيرها، وسوف نورد طائفة منها بعد أن نبين وجه الرد على بقية الأحاديث التي استدل بها الخليلي على دعواه تخليد أصحاب الكبائر في النار.
وأما الجواب على بقية الأحاديث التسعة التي سردها الخليلي وألفاظها:
1 ـ «لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر».
2 ـ«من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة» ـ قال: وهو كناية عن حرمان دخول الجنة، لأن أهل الجنة لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم فلا يحرمون من شيء.
قال: الحديث أخرجه الشيخان.
3 ـ وحديث ـ «من استرعاه الله رعيه فلم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة».(1/439)
4 ـ وحديث ـ «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة».
5 ـ وحديث ـ «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها».
6 ـ وحديث ـ «ونساء كاسيات عاريات..... لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.....»
7 ـ وحديث ـ «لا يدخل الجنة نمام، وفي رواية قتات».
8 ـ وحديث ـ «من ادعى لغير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وبعد سرده لهذه الروايات قال: ومحصلها واحد وإن اختلفت ألفاظها، فإن حرمان الجنة ينافي دخولها في أي وقت من الأوقات، كما أن نفي دخولها يعم جميع الأزمنة.
هكذا يقول الخليلي بأن هؤلاء الذين ورد الوعيد في حقهم وإن ماتوا على التوحيد وعدم الإشراك بالله، أنهم لن يدخلوا الجنة، في أي وقت وأي زمن من الأزمنة، وتحديده بالنفي والحرمان لهؤلاء من دخول الجنة في أي وقت وأي زمن من الأزمنة، يدل دلالة قاطعة أنه مطلع على أحاديث الشفاعة الثابتة المستفيضة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الدالة على إخراج عصاة الموحدين من النار، وذلك بعد مضي الوقت أو الزمن الذي يشاءه الله لمن عصاه، ثم يدخله بعد ذلك الجنة.
ومن هنا نجد أن الخليلي لم يعرّج على أحاديث الشفاعة، التي يردها المعتزلة، وهو يقول عن المعتزلة أنهم يقولون بقوله.
وإذا كان الخليلي يورد الأحاديث عن البخاري ومسلم وغيرهما ويستدل بها على رأيه فنحن نجيب على أدلته بما قرره علماء السنة.
ثم نورد بعد ذلك الأحاديث - من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما- الصحيحة الصريحة في إخراج العصاة الموحدين من النار، ونجعل الحكم إلى القارئ الذي يؤمن بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة، وجميع شرائع الإسلام فالله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].(1/440)
فهذه الآية الكريمة تحتم على كل مؤمن بالله - عز وجل -، وبرسوله صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً أن يرضى ويسلّم لما جاء به عليه الصلاة والسلام.
وقد استدل الخليلي بتلك الأحاديث التي أوردها على رأيه، ولم يعرج على أحاديث أخرى ورد فيها لفظ الكفر، والشرك، على أعمال يرتكبها المسلم ولم يقل أحد بخروجه من الإسلام.
كما أنه لم يعرج على أحاديث الشفاعة المتواترة، ونصها صريح في إخراج الموحدين من النار، مروية في الصحيحين وغيرها.
ولهذا نبدأ بذكر الأحاديث التي أوردها الخليلي وننظر لكلام أهل السنة في بيان ما دلت عليه:
نبدأ بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة».
هذا الحديث كما قال الخليلي أخرجه الشيخان:
* البخاري في كتاب الأشربة / باب قول الله تعالى: {إنما الخمر والميسر...} الآية، برقم 5575.
وقد أورد ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث أقوالاً -منها ما ذكره الخليلي - ونص على أنه مذهب غير مرضي حيث قال: (قال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدعون عنها، ولا ينزفون، فلو دخلها ـ وقد علم أن فيها خمراً أو أنها حُرِمَها عقوبة له ـ لزم وقوع الهمّ والحزن في الجنة، ولا هَمَّ فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: لا يدخل الجنة أصلاً. قال: وهو مذهب غير مرضي.
ثم قال: ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث: جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه)(1).
__________
(1) فتح الباري /10/ 32.(1/441)
قلت: وقوله في المشيئة لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:116 ].
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه بأن مرتكب الكبيرة يدخل الجنة إذا مات على التوحيد.
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ. فجلست إليه، فقال: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق كررها ثلاثاً. وفي الرابعة قال: وإن رغم أنف أبي ذر. فكان أبو ذر يحدث هذا ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر»(1).
وقد أورد ابن منده في كتاب الإيمان عدداً من الروايات لهذا الحديث(2).
أما بقية الأحاديث التي استدل بها الخليلي فقد أوردها ابن منده في كتابه الإيمان وهي كالتالي:
1 ـ حديث ـ «من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه فقد حرم الله عليه الجنة».ح555.
2 ـ وحديث ـ «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» . ح (576) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه .
3 ـ وحديث ـ «من قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً» ح (627) .
4 ـ وحديث حذيفة رضي الله عنه: «لا يدخل الجنة نمام»، وفي رواية قتات. والقتات: النمام . ح (609).
5 ـ وحديث سعد وأبي بكرة رضي عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام». ح (584)
فهذه الأحاديث كلها أوردها الإمام الحافظ ابن منده في كتابه الإيمان / في فصل 90، ذكر ما يدل على أن النفاق على ضروب: نفاق كفر، ونفاق قلب ولسان وأفعال وهي دون ذلك. ج 2 / 613 ـ 621. وأورد فيه أربعين رواية.
__________
(1) البخاري في اللباس / باب الثياب البيض .ح 5827.
(2) ابن منده / كتاب الإيمان 2/574 .(1/442)
وفصل 91 [ذكر الأخبار الدالة على حرمة مال المسلم]ج2/622 ـ 634 وأورد فيه 22 رواية .
وفصل 92 [ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم« من ادعى لغير أبيه فليس منا»، واختلاف الألفاظ فيه] ج 2 / 635ـ687 وأورد فيه 93 رواية.
وقد بين أن هذه الأحاديث، ليس الغرض منها أن مرتكب تلك الأعمال خارج من الإسلام، وأنه يستحق بها الخلود في النار والحرمان من دخول الجنة، وإنما هي كبائر يستحق بسببها ذاك العقاب إن شاء الله عقابه، ومآله إلى الجنة.
فقوله: «من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة».
يقول النووي: (ومعنى حرم الله عليه الجنة إن كان مستحلاً لذلك لأنه باستحلاله له يكون كافراً، وإلا كان كأصحاب الكبائر، فيحرم عليه دخولها أول وهلة مع الفائزين، أي: وبعد تمحيصه إن لم يعف الله عنه يدخل الجنة بشفاعة الشافعين).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار».
يقول الإمام النووي في شرح مسلم 2/161 في باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.
قال: (يدخل في هذا سائر الحقوق التي ليست بمال، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:« فقد أوجب الله تعالى له النار، وحرم عليه الجنة» ففيه الجوابان المتقدمان المتكرران في نظائره:
أحدهما: أنه محمول على المستحلّ لذلك إذا مات على ذلك، فإنه يكفر ويخلد في النار.
والثاني: معناه فقد استحق النار، ويجوز العفو عنه، وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً».
يقول النووي رحمه الله في شرح مسلم 2/125 في شرح الحديث: (فيه أقوال:
أحدهما: أنه محمول على من فعل ذلك مستحلاً له مع علمه بالتحريم، فهذا كافر وهذه عقوبته.
والثاني: أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام).(1/443)
قلت: لأن عمله هذا كبيرة من كبائر الذنوب، دون الشرك بالله، فهو في المشيئة {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما « من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام».
وقد أورد الحافظ ابن منده في كتابه الإيمان 2/635 باب من ادعى لغير أبيه فليس منا واختلاف الألفاظ فيه، أربعاً وتسعين رواية، وقد اشتملت تلك الروايات للحديث والأحاديث التي هي بمعناه على ألفاظ نذكر بعضها ثم نعقبها بقول أهل السنة في تأويلها:
منها: حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فإنه كافر».وفي رواية: فقدكفر.
وحديث أبي ذر « من ادعى لغير أبيه فليس منا». فمعنى ادعى إلى غير أبيه أي: انتسب إليه واتخذه أباً.
ومعنى:« لا ترغبوا عن آبائكم»، يقال: رغب عن أبيه، أي: ترك الانتساب إليه وجحده. يقال: رغبت عن الشيء تركته وكرهته، ورغبت فيه اخترته وطلبته.
وقد ذهب علماء السنة إلى تفسير هذه الأحاديث وما شابهها، من إطلاق لفظ الكفر، أو الشرك، أو نفي الإيمان، أو البراءة، كقوله: «من غشنا فليس منا»، أو «الجنة عليه حرام»، أو «لا يدخل الجنة نمام»، وبينوا أنه ليس المقصود منها خروج مرتكبها من الإسلام، وإنما المراد الزجر لفاعل ذلك، وأنه يستحق ذلك العقاب إن كان مستحلاً له لأنه باستحلاله يكون كافراً، وإن لم يكن كذلك فهو تحت المشيئة، ونفيد هنا الخليلي بأكثر مما أورده من ألفاظ يستدل بها على تخليد عصاة الموحدين في النار فنذكر للقارئ قول علماء السنة في تفسيرها وبيان ما دلت عليه.
فقد جاء في رواية أبي ذر المشار إليها، عند البخاري في كتاب المناقب: «من ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله».(1/444)
يقول ابن حجر في فتح الباري 6/540 -في شرح الحديث-: (كذا وقع هنا كفر بالله، ولم يقع قوله (بالله) في غير رواية أبي ذر، ولا في رواية مسلم ولا الإسماعيلي وهو أولى، وإن ثبت ذلك، فالمراد من استحل ذلك مع علمه بالتحريم، وعلى الرواية المشهورة، فالمراد كفر النعمة، وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد باطلاق الكفر أن فاعله فعل فعلاً شبيهاً بفعل الكفار).
ويقول النووي في شرح مسلم 2/50ـ52 في شرح هذا الحديث: (قوله صلى الله عليه وسلم فيمن ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه كفر، قيل فيه التأويلان:
أحدهما: أنه في حق المستحل.
والثاني: أنه كفر النعمة، والإحسان، وحق الله تعالى، وحق أبيه، وليس المراد الكفر الذي يخرجه من ملة الإسلام.
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: في حق النساء «يكفرن» ثم فسره بكفرانهن الإحسان، وكفران العشير.
قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فالجنة عليه حرام، ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه محمول على من فعله مستحلاً له.
والثاني: أن جزاءه أنها محرمة عليه أولاً عند دخول الفائزين وأهل السلامة، ثم أنه قد يجازى فيمنعها عند دخولهم ثم يدخلها بعد ذلك، وقد لا يجازى بل يعفو الله سبحانه وتعالى عنه).
ثم إن الحافظ ابن منده أورد هذه الروايات الكثيرة المشتملة على هذه الألفاظ التي ورد فيها الوعيد على من عملها التي يتمسك الخوارج ومن يقول بقولهم في تكفير من ارتكبها في الدنيا والآخرة مثل الخوارج. أو من يرى أن مرتكبها في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، ويعامله معاملة المسلم في الدنيا ويحكم عليه في الآخرة بالخلود في النار.
أو يقول أنه في الدنيا كافر كفر نعمة، وفي الآخرة مخلد في النار، كما تقول الإباضية، يمثلهم الخليلي في كتابه هذا.
فأراد ابن منده وغيره من علماء أهل السنة أن يبينوا أن هذه الروايات التي ورد فيها:(1/445)
إطلاق اسم الكفر على بعض المعاصي، كالنياحة على الميت، والطعن في الأنساب، وكفران العشير، وانتساب المرء إلى غير أبيه، والولي الغاش لرعيته.
ونفي الإيمان عن مرتكب بعض المعاصي، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولايشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن...»(1).
وذلك ليعرف القارئ أنه ليس المقصود من هذه الأعمال التي ارتكبت، وهذه الألفاظ التي وردت فيها، ليس المقصود منها الكفر المخرج من الملة، إلا على المستحل لذلك العمل، العالم بحكمه. وإنما المقصود من ذلك كفر النعمة والإحسان.
وذلك لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فكل معصية دون الشرك تحت المشيئة بنص الآية الكريمة.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني آت من ربي، فأخبرني، أو قال بشرني، أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق»(2).
ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر في صحيح مسلم:«... ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة»(3).
وإنما أطلق اسم الكفر على هذه المعاصي، ونفي الإيمان عمن ارتكب بعض المعاصي، والوعيد بحرمانه من دخول الجنة، وذلك لعظمها فكان ذلك للزجر عنها.
ثم بيان أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، ولذلك لا يخلد في النار إن دخلها بذنبه.
وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
من الأحاديث الواردة
في شفاعة الشافعين للعصاة الموحدين
__________
(1) البخاري/2475.
(2) البخاري/1237.
(3) مسلم/ح2687 .(1/446)
وحيث انتهى الرد على الشُّبَه التي أوردها الخليلي ظناً منه أنها أدلة على تخليد الفساق من أهل التوحيد في النار، وقد وعدنا بأننا سنورد في آخر هذا البحث طائفة من الأحاديث تبين مذهب أهل السنة والجماعة في عصاة الموحدين، وأنهم لا يخلدون في النار، وإنما يخلد في النار الكفار والمنافقون النفاق الاعتقادي والمشركون الشرك الأكبر. وأن من دخل من الموحدين النار بالمعاصي يخرج منها بشفاعة الشافعين، وسوف نقتصر على بعض الأحاديث الواردة في الشفاعة وهي متواترة، والغريب أن الخليلي في بحثه هذا لم يعرج عليها، بل أعرض عنها لأنه لا يقول بما ورد فيها، والإعراض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وعيد شديد نحذر الخليلي منه.
ونبدأ بما أورده الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار.
وقد أورد فيه عدداً من الروايات عن عدد من الصحابة مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صريحة في إخراج الموحدين من النار، نذكر منها:
1 ـ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الله أهل الجنة الجنة. يدخل من يشاء برحمته. ويدخل أهل النار النار. ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه. فيخرجون منها حمماً قد امتحشوا(1)، فيلقون في نهر الحياة أو الحيا(2)، فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السيل، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية(3)» مسلم ح (304/184)وتقدم مطولاً برقم (183).
وأخرجه البخاري في الرقاق / باب صفة الجنة والنار ح (6560).
__________
(1) امتحشوا: احترقوا.
(2) الحيا: الحيا هو المطر. سمي حيا لأنه تحيا به الأرض. وكذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون، وتحدث فيهم النضارة كما يحدث ذلك المطر في الأرض .
(3) ملتوية: أي ملفوفة مجتمعة .(1/447)
2 ـ ورواية أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال بخطاياهم) فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل». فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان في البادية(1).
فقد فرق في هذا الحديث بين أهل النار المخلدين فيها، وهم الذين لا يحيون فيها ولا يموتون. وهم الكفار. وبين الموحدين من أهل المعاصي.
ثم أتبعه بباب «آخِرُ أهل النار خروجاً» وأورد فيه:
حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة. رجل يخرج من النار حبواً. فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى. فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى. فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة. وفي الثالثة فيقول له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. وإن لك عشرة أمثال الدنيا. قال: فيقول: أتسخر بي (أو تضحك بي) وأنت الملك» .
قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه.
قال: فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة. مسلم برقم 308(186).
ثم ساقه بأطول من ذلك برقم 310 (187).
ثم أتبعه بباب « أدنى أهل الجنة منزلة فيها». وأورد فيه:
رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ورواية أبي ذر رضي الله عنه من رقم ـ 311/188 ـ 314/190
__________
(1) مسلم برقم (306/185).(1/448)
ورواية حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه برقم 316/191 وفيه: «ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة...» الحديث.
وفيه قول جابر إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة».
كما أورد رواية زيد الفقير ـ الذي شغفه رأي الخوارج ـ عن جابر رضي الله عنه، وفيها بيان السبب الذي جعل الخوارج ومن يقول بقولهم يحكمون على أصحاب المعاصي من الموحدين بالخلود في النار، وأنه الجهل وعدم الفقه في الدين، حيث انطلقوا إلى آيات من كتاب الله نزلت في الكفار فطبقوها على المسلمين؛ جهلاً منهم بالسنة المبينة للقرآن.
كما سبق نقل قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وإليك نص الحديث:
فقد ساق الإمام مسلم الحديث بإسناده إلى أبي عاصم محمد بن أبي أيوب قال: حدثني يزيد الفقير، قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج(1)، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج. ثم نخرج على الناس (2)، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبدالله يحدث القوم، جالس إلى سارية، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران:192].
و{كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة:20]
__________
(1) وهو أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، ولا يخرج منها من دخلها.
(2) ثم نخرج على الناس) أي مظهرين رأي الخوارج وندعوا إليه ونحث عليه.(1/449)
فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد - صلى الله عليه وسلم - ( يعني الذي يبعثه الله فيه ) قلت: نعم. قال فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج .. قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنه قد زعم(1)أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم. قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه. فيخرجون كأنهم القراطيس. فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجعنا. فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد. أو كما قال أبو نعيم. مسلم ح 191.
فهذا الحديث عن يزيد الفقير(2)يبين لك أيها المسلم أن سبب ضلال الخوارج ومن يقول بقولهم بالحكم على عصاة الموحدين بالخلود في النار، سواء كانوا خوارج، أو سموا أنفسهم بأهل الاستقامة، كما يقول الخليلي في وصف الإباضية أو المعتزلة، يوضح لك أن سبب ضلالهم هو الإعراض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، المروية في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، لأنها هي المبينة والموضحة لكتاب الله عز وجل. فهذا يزيد الفقير يستدل بقوله تعالى: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192].
وبقوله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 20]
والآيتان نزلتا في الكفار المكذبين بالبعث، المنكرين لليوم الآخر وما فيه من جزاء، وذلك جزاء الكافر المكذب باليوم الآخر.
__________
(1) زعم بمعنى قال.
(2) يزيد الفقير) هو يزيد بن صهيب الكوفي ثم المكي أبو عثمان، قيل له (الفقير) لأنه أصيب في فقار ظهره فكان يألم منه حتى ينحني له. شرح النووي 3 / 5.(1/450)
ويزيد الفقير كان جاهلاً بهذا الحديث وهو يبحث عن الحق، فحين سمع جابر ابن عبدالله رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار أناساً بعد أن ساروا حمماً أو مثل عيدان السماسم، قال لأصحابه الذين قد شغفهم رأي الخوارج: أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو استفهام إنكار، أي أنه لا يمكن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الحق وتركوا الباطل حين سمعوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد سبق في استدلال الخليلي بالآيات من كتاب الله التي يستدل بها على تخليد عصاة الموحدين في النار، إيراد هاتين الآيتين مستدلاً بهما على رأيه.
فندعوه إلى مراجعة هذا الحديث في صحيح مسلم وهو موجود عنده. وله في يزيد الفقير أسوة في عدم تكذيب جابر بن عبدالله رضي الله عنه في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخراج عصاة الموحدين من النار، ولا يجوز له بأي حال من الأحوال -وهو يدعي أن الإباضية أهل الاستقامة- أن يَرُدَّ هذه الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم البالغة حد التواتر في إخراج عصاة الموحدين من النار بالشفاعة.
والله عز وجل يقول: {وما آتاكم الرسول فخذوه}.
وإليك قول أهل السنة في بيان أن أحاديث الشفاعة بلغت بمجموعها حد التواتر:
يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم ج 3 / 35، في شرح أحاديث/باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار:
قال: (قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً، ووجوبها سمعاً، بصريح قوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً} [طه:109]. وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28 ]. وأمثالهما.(1/451)
وبخبر الصادق صلى الله عليه وسلم وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنة عليها.
قال: ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار. واحتجوا بقوله تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48].
وبقوله تعالى: { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } [غافر:18].
قال: وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها زيادة في الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار) ثم ذكر بعد ذلك أنواع الشفاعة.
فهذه بعض أحاديث الشفاعة في إخراج عصاة الموحدين من النار التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، وبيان مذهب أهل السنة في العمل بها، وبيان القاضي عياض أن أحاديث الشفاعة في إخراج عصاة الموحدين من النار بلغت بمجموعها حد التواتر، وأجمع أهل السنة على القول بالشفاعة.
وذكر الإمام الحافظ اللالكائي في كتابه / شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة «باب الشفاعة لأهل الكبائر» .
ثم قال: سياق ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة لأمته، وأن أهل الكبائر إذا ماتوا على غير توبة يدخلهم الله إن شاء النار، ثم يخرجهم منها بفضل رحمته ويدخلهم الجنة.
قال: وقد مضى في حديث جابر وغيره في فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي وذكر منها الشفاعة ».
1 ـ ثم قال: رواية أبي هريرة:
وساق بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني أحب أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة »(1).
__________
(1) ورواه البخاري ح 7474. ومسلم ح 198.(1/452)
ثم ساق عنه عدداً من الروايات ختمها برواية المقبري عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: «لقد ظننت أن لا يسألني عن ذلك أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه» أخرجه مسلم.
2 ـ رواية جابر بن عبدالله.
ثم ساق عنه عدداً من الروايات بإسناده منها:
عن حماد بن زيد قال: قلت لعمرو بن دينار: يا أبا محمد سمعت جابر بن عبدالله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة، قال: نعم» . أخرجه البخاري ومسلم(1). وقد ساق عنه عشر روايات.
3 ـ رواية أبي سعيد الخدري:
وقد ساق عنه أربع روايات مرفوعة في إخراج الموحدين من النار بالشفاعة.
4 ـ رواية أنس بن مالك:
وقد ساق عنه عدة روايات منها:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»(2).
5 ـ رواية عبدالله بن مسعود:
وساق عنه بإسناده ثلاث روايات.
6 ـ رواية أبي ذر:
وساق عنه الحديث بإسناده عن المعرور عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لقد علمت آخر الناس خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يؤتى فتعرض عليه سيئاته وتخبأ عنه كبائره، فيقال: أتذكر يوم عملت كذا وكذا، فيقول: نعم وهو مشفق من الكبائر أن تعرض عليه، فإذا فرغ من عرض السيئات قيل له: اذهب فإن لك بكل سيئة حسنة. فيقول: قد كانت لي ذنوب لا أراها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر هذا الحديث ضحك حتى تبدو نواجذه» أخرجه مسلم (3).
7 ـ رواية عبد الله بن عمر:
وقد ساق عنه روايتين .
__________
(1) البخاري بلفظ آخر ح 6558. ومسلم ح 191.
(2) قال الشيخ الألباني في تخريجه لرواية ابن أبي عاصم في السنة ح 830: وهو حديث صحيح وكذا قال في حاشية مشكاة المصابيح 3 / 81.
(3) مسلم ح 190 والترمذي ح 2596.(1/453)
8 ـ رواية أبي موسى الأشعري.
9 ـ رواية عوف بن مالك:
وساق عنه روايتين.
10 ـ أبو أمامة:
وساق عنه روايتين.
11 ـ رواية حذيفة.
12 ـ ورواية عبد المطلب بن ربيعة.
13 ـ ورواية أم سلمة.
14 ـ ورواية عمر بن الخطاب.
فهؤلاء الصحابة جميعاً رووا أحاديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج الموحدين ممن ارتكبوا الكبائر من النار بالشفاعة (1).
3 ـ وذكر أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب الشريعة ج3/1198: باب 62« وجوب الإيمان بالشفاعة » .
ثم قال: (قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمكم الله أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها، وهذا مذهب المعتزلة، يكذبون بها، وأشياء سنذكرها إن شاء الله مما لها أصل في كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، وقول فقهاء المسلمين، فالمعتزلة يخالفون هذا كله، لا يلتفتون إلى سنن الرسول، ولا إلى سنن أصحابه، وإنما يعارضون بمتشابه القرآن، وبما أراهم العقل عندهم.
قال: وليس هذا طريق المسلمين، إنما هذا طريق من قد زاغ عن طريق الحق، وقد لعب به الشيطان.
وقد حذرنا الله عز وجل ممن هذه صفته، وحذرناهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحذرناهم أئمة المسلمين قديماً وحديثاً.
ثم قال: أما ما حذرنا الله عز وجل، وأنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} إلى قوله: {وما يذكر إلا أولو الألباب} [آل عمران: 7 ]).
__________
(1) كتاب شرح أصول أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي ج 3/ 77ـ99. تحقيق/الدكتور أحمد سعد الغامدي.(1/454)
ثم أورد الحديث بإسناده عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} الآية..[آل عمران7]، فقال: «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله عز وجل فاحذروهم» ح رقم (769، 770، 771) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
2 ـ ثم أتبعه برواية: عمر بن الخطاب قال: « إن ناساً يجادلوكم بمتشابه القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل». ح رقم (772).
3 ـ رواية يزيد الفقير عن جابر التي سبق ذكرها في الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحه في باب إثبات الشفاعة. ح(773) (774).
وقد ساق الحديث بإسناده... قال حدثنا مبارك بن فضالة قال: حدثنا يزيد(1) ابن صهيب، قال: مررت بجابر بن عبدالله وهو في حلقة يحدث أناساً فجلست إليه، فسمعته يذكر أناساً يخرجون من النار، قال: وكنت يومئذ أنكر ذلك، قال: فقلت: والله ما أعجب من الناس ولكن أعجب منكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله عز وجل:{يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} [المائدة:73] فانتهرني أصحابه، وكان أحلمهم، فقال: دعوا الرجل، ثم قال: إنما قال الله عز وجل كما قال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم. يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} [المائدة: 36، 37].
قال: أَومَا تقرأ القرآن: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}[ الإسراء: 79].
قال: فإن الله عز وجل عذب قوماً بخطاياهم، فإن شاء أن يخرجهم أخرجهم، قال: فلم أكذب به بعد ذلك.
__________
(1) قلت: هو يزيد الفقير، كما سبق التعريف به.(1/455)
قلت: فكما يرى القارئ أن يزيد بن صهيب أخذ الآية 37 من سورة المائدة واستدل بها على رأيه، ولم يلتفت لسياق الآيات السابقة لها.
فلفت انتباهه إلى ما قبلها فقال له: إنما قال الله: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً...}.
وأن المقصود منها هم الكفار، فهم الذين لهم العذاب المقيم وأنهم لا يخرجون منها.
فعرف ذلك ورجع إلى الحق وقال: فلم أكذب به بعد ذلك.
ثم قال المؤلف الآجري- واسمه محمد بن الحسين:
(إن المكذب بالشفاعة أخطأ في تأويله خطأ فاحشاً، خرج به عن الكتاب والسنة، وذلك أنه عمد إلى آيات من القرآن نزلت في أهل الكفر، وأخبر الله ـ عز وجل ـ أنهم إذا دخلوا النار أنهم غير خارجين منها، فجعلها المكذب بالشفاعة في الموحدين، ولم يلتفت إلى أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إثبات الشفاعة أنها إنما هي لأهل الكبائر، والقرآن يدل على هذا، فخرج بقوله السوء عن جملة ما عليه أهل الإيمان واتبع غير سبيلهم، قال الله عز وجل: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 115].
قال محمد بن الحسين الآجري :
فكل من رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن الصحابة رضي الله عنهم فهو ممن شاقق الرسول وعصاه، وعصى الله عز وجل بتركه قبول السنن، ولو عقل هذا الملحد وأنصف من نفسه، علم أن أحكام الله تعالى وجميع ما تعبد به خلقه، إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لخلقه ما أنزل عليه مما تعبدهم به، فقال جل ذكره:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل:44].(1/456)
وقد بين صلى الله عليه وسلم لأمته جميع ما فرض الله عز وجل عليهم من جميع الأحكام. وبين لهم أمر الدنيا وأمر الآخرة، وجميع ما ينبغي أن يؤمنوا به، ولم يدعهم جهلة لا يعلمون، حتى أعلمهم أمر الموت، والقبر وما يلقى المؤمن، وما يلقى الكافر، وأمر المحشر والوقوف، وأمر الجنة والنار حالاً بعد حال، يعرفه أهل الحق، وسنذكر كل باب في موضعه إن شاء الله.
ثم أورد بعد ذلك الآياتِ القرآنيةَ الدالةَ على نفي الشفاعة عن الكفار لما رأوا الشفاعة لغيرهم قال: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل.......} [الأعراف:53].
وقوله: {فكبكبوا فيها هم والغاوون. وجنود إبليس أجمعون}...إلى قوله: {فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم} [الشعراء / 94ـ101].
وقوله عز وجل في سورة المدثر وقد أخبر أن الملائكة قالت لأهل الكفر:
{ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخائضين. وكنا نكذب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين. فما تنفعهم شفاعة الشافعين}[ الآيات:42 ـ 48].
قال محمد بن الحسين الآجري: (هذه كلها أخلاق الكفار، فقال عز وجل: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} فدل على أن لا بد من شفاعة، وأن الشفاعة لغيرهم لأهل التوحيد خاصة.
وقال عز وجل: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين. ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر:1ـ2]).
ثم ذكر الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية، عن ابن عباس وغيره، ثم قال معقباً على ما دلت عليه الآيات والأحاديث التي سبق ذكرها:
(بطلت حجة من كذب بالشفاعة، الويل له إن لم يتب، وقد روي عن أنس ابن مالك قال: «من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب».
فقال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح العكبري، قال: حدثنا هناد ابن السري، قال: حدثنا أبو معاوية الضرير، عن عاصم، عن أنس بن مالك قال:
«من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب».(1/457)
قال المحقق: إسناده صحيح، وأبو معاوية هو الضرير، وعاصم هو الأحول. رواه سعيد بن منصور بسند صحيح، قاله الحافظ في الفتح 11 / 426.
ثم أتبع المؤلف - الآجري- ذلك بالأبواب التالية:
باب 63«ما روي أن الشفاعة إنما هي لأهل الكبائر»
وأورد فيه الأحاديث من ح 778 ـ 785
وباب 64«ما روي أن الشفاعة لمن لم يشرك بالله تعالى»
وأورد فيه الأحاديث من الحديث رقم (786 ـ 788)
وباب 65 ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكل نبي دعوة يدعو بها، واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي».
وأورد فيه الأحاديث من الحديث رقم (789 ـ 792)
وباب 66، ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة».
وأورد فيه الأحاديث من الحديث رقم (793 ـ 797).
وباب 67 «الإيمان بأن قوماً يخرجون من النار فيدخلون الجنة بشفاعة النبي وشفاعة المؤمنين».
وأورد فيه الأحاديث من الحديث رقم (798 ـ 810).
وباب 68 «ذكر شفاعة العلماء والشهداء يوم القيامة»
وأورد فيه الأحاديث من الحديث رقم (811 ـ 821)
ثم أتبع هذه الأبواب التي أورد فيها الروايات المرفوعة الصحيحة والحسنة، والروايات الموقوفة الصحيحة إلى من رويت عنه من الصحابة، أو من التابعين.
ثم قال: فأنا أرجو لمن آمن بما ذكرنا من الشفاعة، وبقوم يخرجون من النار من الموحدين، وبجميع ما تقدم ذكرنا له، وبجميع ما سنذكره إن شاء الله من المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته وذريته وصحابته، وأزواجه ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أن يرحمنا مولانا الكريم، ولا يحرمنا وإياكم من تفضله ورحمته، وأن يدخلنا وإياكم في شفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشفاعة من ذكرنا من الصحابة وأهل بيته وأزواجه رضي الله عنهم أجمعين.
ومن كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب كما قال أنس بن مالك(1).
__________
(1) وقد تقدم حديث أنس برقم (777) مما نقلناه في الصفحات السابقة وهو بسند صحيح.(1/458)
فهذا بعض ما نقله هذا الإمام من أئمة أهل السنة والجماعة في كتابه، «الشريعة» من المجلد الثالث باب 62 ص 1198 ـ 1251 نهاية الباب 68.
وقد بين في هذه الأبواب -التي أورد فيها الأدلة على إثبات الشفاعة لأهل الكبائر- أن المنكرين للشفاعة سلكوا في ذلك:
1 ـ تنزيل الآيات من كتاب الله الكريم التي نزلت في نفي الشفاعة عن الكفار، فأنزلوها بجهلهم على الموحدين.
2 ـ أنهم لم يلتفتوا للسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخراج عصاة الموحدين من النار.
وكفى بمن حرَّف نصوص الكتاب الكريم عن دلالتها، وترك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الموضحة والمبينة لما في كتاب الله، ضلالاً وبعداً عن قول الحق والصواب.
«ونختم أحاديث الشفاعة في إخراج الموحدين من النار بما رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد».
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما وألفاظها متقاربة ونورد حديث أبي سعيد رقم: 7438.(1/459)
قال أبو سعيد الخدري:« قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم قال: ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون، قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس، فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا.(1/460)
قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون الساق. فيكشف عن ساقه. فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم. قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد يقال لها السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوش في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها}.(1/461)
فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه (1).
فهذه رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
ومثلها رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ورواية أنس - رضي الله عنه -. وفيها:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فأستأذن على ربي فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حداً فأخرجهم فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته أيضاً يقول: فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة»، وهكذا تتكرر الشفاعة حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود.
وقد ختمنا أحاديث الشفاعة الثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بما روي في أصح كتاب بعد كتاب الله ألا وهو صحيح البخاري.
وبحديث أبي سعيد الخدري الذي ورد فيه النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ـ على رد الشبه التي ادعاها الخليلي وسود بها كتابه هذا الذي أسماه «الحق الدامغ» وضمنه إنكار ثلاث مسائل ثابتة بكتاب الله عز وجل، وبالسنة المتواترة، وبإجماع أهل السنة وهي:
1 ـ إنكار رؤية المؤمنين ربهم وهم في الجنة يوم القيامة.
2 ـ إنكار كلام الله عز وجل ـ وأنه خلق القرآن ولم يتكلم به ـ لأن إثبات صفة الكلام لله تشبيه عند الخليلي والمعتزلة.
__________
(1) البخاري /التوحيد،ح 7438.(1/462)
3 ـ القول بخلود أصحاب المعاصي من الموحدين في النار.
وهذا الحديث الصحيح والصريح فيه الرد على ما جاء في الكتاب كله، ففيه :
1 ـ إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
2 ـ وفيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل ـ على ما يليق بجلاله ـ ففيه: يقول الله تعالى: «اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار».
3 ـ وفيه إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار.
بل وفيه شفاعة رب العالمين وإخراج عدد لا يعلم قدرهم إلا الله من النار بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه.
وكفى بمن رد هذه الأحاديث بعداً وضلالاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
- - -
ثبت المصادر والمراجع
القرآن الكريم
أ
أولوية الحركة الإسلامية، للدكتور يوسف القرضاوي/ الطبعة الثانية 1411هـ
الإيمان، لابن منده، تحقيق الدكتور علي بن محمد ناصر الفقيهي/ الطبعة الثانية. مؤسسة الرسالة
الاعتقاد، للبيهقي، تحقيق عصام الكاتب/ الطبعة الأولى سنة 1401هـ.
أسس العقيدة الإسلامية، عبد الرحمن حبنكة/ الطبعة الأولى سنة 1385هـ - 1966م.
الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار المعتزلي/ الطبعة الأولى 1384هـ مكتبة وهبة.
ب
البداية والنهاية، ابن كثير/ الطبعة الثانية سنة 1418 هـ.
ت
التصديق بالنظر، للآجري، تحقيق محمد حامد الفقي/ الناشر أنصار السنة
التوحيد، لابن منده، تحقيق الدكتور علي بن محمد ناصر الفقيهي/ مطابع الجامعة الإسلامية
تأريخ الإسلام للذهبي، طبعة الهيئة المصرية للكتاب 1974م وسمي «دول الإسلام» تحقيق فهيم محمد شلتوت ومحمد مصطفى إبراهيم.
تأريخ بغداد، للخطيب البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت
تفسير أبي السعود، مكتبة الرياض.
تفسير ابن جرير، الطبعة الثانية 1373 هـ.
تفسير ابن عطية «المحرر الوجيز»/ الطبعة الأولى سنة 1412 هـ.
تفسير ابن كثير، طبعة الشعب.(1/463)
تيسير الكريم الرحمن للسعدي / الطبعة الأولى سنة 1419 هـ.
تفسير البغوي، طبعة دار المعرفة بيروت.
تنبيهات على رسالة محمد عادل عزيزة ، للدكتور عبد الرزاق العباد البدر/ دار الفتح بالشارقة سنة 1414هـ.
التحرير والتنوير، دار النشر التونسية للنشر.
التفسير الكبير، طبعة دار الكتب العلمية بطهران.
التوحيد لابن منده، الطبعة الثانية سنة 1414هـ مكتبة الغرباء الأثرية.
ج
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي/ الطبعة الثانية.
ح
حادي الأرواح، لابن القيم/ الطبعة الأولى سنة 1412 هـ.
الحيدة، للإمام الكناني /مكتبة دار العلوم والحكم 1415 هـ.
ر
الرد على الجهمية، لابن منده، تحقيق الدكتور علي بن محمد ناصر الفقيهي/ الطبعة الثانية/مؤسسة الرسالة.
الرد على الجهمية، للدارمي،… تحقيق بدر البدر/ الدار السلفية .
الرؤية، للدارقطني،…تحقيق إبراهيم وأحمد فخري/ الناشر مكتبة المنار الأردن سنة 1411هـ
رسالة السجزي لأهل زبيد، تحقيق الدكتور محمد باكريم/ طبع المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية سنة 1414هـ.
ز
زاد المعاد، لابن القيم / المطبعة المصرية ومكتبتها سنة 1379 هـ.
س
السنة، لابن أبي عاصم /تحقيق الشيخ الألباني .
سنن النسائي/ الطبعة الأولى سنة 1383هـ مع المجتبى .
سنن الترمذي، مع تحفة الأحوذي، المكتبة السلفية
سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط/ مؤسسة الرسالة .
سرح العيون ، شرح رسالة ابن زيدون.
سنن أبي داود ـ الطبعة الأولى سنة 1388 هـ.
سنن ابن ماجه/ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي
سنن البيهقي/ الطبعة الأولى سنة 1344هـ مجلس دائرة المعارف حيدر أباد.
سنن الترمذي/مطبعة المدني الطبعة الثانية سنة 1383 هـ.
سنن الدارقطني /تصحيح عبدالله هاشم يماني المدينة المنورة 1386هـ.
سنن الدارمي / طبعة الهيئة المصرية للكتاب.
ش
شرح أصول اعتقاد أهل السنة، اللالكائي، تحقيق أحمد سعد الغامدي.(1/464)
شرح الطحاوية / الطبعة الأولى سنة 1408 هـ.
شرح النووي لصحيح مسلم / الطبعة الأولى سنة 1347 هـ.
شفاء العليل لابن القيم / مكتبة الرياض الحديثة.
شرح الطحاويه، لابن أبي العز الحنفي الطبعة الثانية.
ص
صحيح البخاري، للإمام البخاري/ الطبعة السلفية سنة 1380هـ.
صحيح مسلم، للإمام مسلم/ ترتيب محمد فؤاد عبدالباقي.
صحيح ابن حبان /الطبعة الأولى سنة 1390 هـ.
صحيح البخاري / طبع بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع الرياض 1419هـ.
صحيح مسلم / طبع بيت الأفكار الدولية 1419 هـ.
الصواعق المرسلة، لابن القيم / توزيع الرئاسة العامة والإفتاء ـ الرياض.
الصواعق المنزلة، لابن القيم …مطابع الجامعة الإسلامية.
ف
الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف 1416هـ.
فتح الباري شرح صحيح البخاري /الطبعة السلفية سنة 1380 هـ.
فتح القدير للشوكاني/ مطبعة الحلبي سنة 1351 هـ.
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد /الطبعة الأولى سنة 1417 هـ.
الفرق بين الفرق، للبغدادي، تحقيق محمد محيي الدين / الناشر دار المعرفة لبنان.
ق
القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد، للدكتور عبد الرزاق العباد/ طبعة دار الغرباء سنة 1414هـ.
ك
كتاب بغداد لابن طيفور /الطبعة الثانية سنة 1415هـ.
الكامل، لابن الأثير/ طبعة عام 1402هـ دار صادر.
ل
لسان الميزان / الطبعة الثانية سنة 1390 هـ.
اللباب في تهذيب الأنساب/ دار صادر بيروت.
م
الملل والنحل للشهرستاني / الطبعة الثانية 1413 هـ.
المنار ـ محمد رشيد رضا / الطبعة الرابعة.
مدارج السالكين، لابن القيم/ طبعة دار الكتاب العربي بيروت 1392هتحقيق حامد الفقي
مسند الإمام أحمد بن حنبل / طبعة بيت الأفكار الدولية سنة 1419 هـ الرياض.
مصنف ابن أبي شيبة / طبعة الدار السلفية / بومباي الهند.
معالم التنزيل للبغوي / الطبعة الأولى سنة 1406 هـ.(1/465)
مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي /الطبعة الأولى سنة 1399 هـ.
ميزان الاعتدال، للذهبي /الطبعة الأولى سنة 1382.
المعرفة والتأريخ ، …ليعقوب الفسوي.
الموطأ، للإمام مالك، ترتيب محمد فواد عبدالباقي/ طبعة الشعب.
المختار في أصول السنة، لابن البنا.
المسند، للإمام أحمد، طبعة دار صادر
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات، للشيخ الشنقيطي /طبعة الجامعة الإسلامية.
ن
نقض التأسيس، لابن تيمية
النونية، لابن القيم، شرح ابن عيسى/ الطبعة الثانية سنة 1406هـ
النجوم الزاهرة/ الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر سنة 1390 هـ.
و
الوابل الصيب، لابن القيم /نشر وتوزيع الرئاسة العامة والإفتاء / الرياض.
وفيات الأعيان / دار صادر 1398 هـ.
كتب الإباضية
أولاً: الكتب التي فيها الرد على القائلين بخلق القرآن :
الجامع، لأبي الحسن البيسوي ، طبع وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان 1404هـ
الدعائم، لابن أبي النضر / الطبعة الثانية سنة 1409 هـ سلطنة عمان / وزارة التراث القومي والثقافة.
شرح الدعائم ـ للشيخ محمد بن وصاف الفقيه العماني / سلطنة عمان وزارة التراث القومي والثقافة، تحقيق عبد المنعم عامر / مطبعة عيسى البابي الحلبي.
ثانيا: الكتب التي فيها الحكم على أصحاب المعاصي بالخلود في النار :
الإباضية بين الفرق الإسلامية، لعلي يحيي معمر / طبع وزارة التراث القومي والثقافة /سلطنة عمان سنة 1406 هـ.
الجامع الصغير، لمحمد بن يوسف اطفيش / طبع وزارة التراث القومي والثقافة / سلطنة عمان سنة 1406 هـ ـ 1986م.(1/466)
الجوهر المقتصر، لأبي بكر أحمد بن عبدالله الكندي النزواني / تحقيق سيدة إسماعيل كاشف / سلطنة عمان وزارة التراث القومي والثقافة سنة 1406 هـ.(1)
كتاب الاستقامة، لأبي سعيد الكدمي / سلطنة عمان وزارة التراث القومي والثقافة 1405هـ.
كتاب كشف الكرب لمحمد بن يوسف اطفيش / طبع وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان سنة 1405 هـ.
معالم الدين، لعبد العزيز بن إبراهيم الثميني المصعبي / سلطنة عمان / وزارة التراث القومي والثقافة سنة 1407 هـ.
فهرس الموضوعات
الموضوع
الصفحة
تقريظ فضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان .....................................................
5
المقدمة .................................. .................................. ......................................
7
المرجع عند التنازع .................................. .................................. .....................
14
مناقشة المؤلف في دعواه إن الإباضية أهل الحق والاستقامة......................................
19
دعواه في تسامح طائفته، وأنهم مشوا على مارسمه لهم أبو حمزة السالمي....................
21
لافرق بين مذهب المؤلف والمعتزلة في تقديم العقل على النص ................................
المنهج السليم ماجاء به الرسول.................................. .........................................
24
دعوى المؤلف على من أثبت الصفات بالتشبيه.................................. ...................
25
__________
(1) وقد جاء فيه في صفحة 116 الباب الثالث والعشرون / باب المسألة الإباضية... وهي: أن كل من مات على الدين الإباضي مقطوع بأنه من أهل الجنة أم لا؟ قال: مقالتنا: فقولنا في هذه المسألة إنا لا نشك في ذلك ولا نرتاب فيه، وأن هذا لازم القطع به وإن لم يقطع به فقد شك في الدين الإباضي أنه دين الله تعالى أم لا؟.... الخ.(1/467)
جعله الفخر الرازي، والسبكي والصاوي، والكوثري، من أهل السنة في باب الصفات.................................. .................................. .....................................
26
تذرعه بحكم هؤلاء المعطلة على مثبتي الصفات بأنهم مشبهة...................................
26
تصريحه بأن ابن القيم مشبه ليصل إلى الحكم بتكفيره.................................. ..........
27
كشف تمويهات المؤلف وبيان منهج المعطلة.................................. ........................
27
أسماء الله وصفاته من المحكم ودليل ذلك.................................. ...........................
28
سأل الصحابة عما أشكل عليهم وجاء الجواب من الله، ولم يسأل أحد منهم عن اسم من أسماء الله ولا عن صفة من صفاته.................................. .........................
29
مناقشة المؤلف في دعواه على ابن القيم تكفير المعطلة.........................................
30
من هو المشبه عند أهل السنة وماحكمه .................................. ............................
30
تلفيق المؤلف وتدليسه.................................. .................................. ..................
33
دعوى المؤلف أن -الإباضية تسعى لجمع كلمة الأمة .................................. ........
35
متى يكون تعدد المذاهب سبباً في تفريق كلمة الأمة ............................................
36
اعتزاز المؤلف بآراء الجهمية ...إلخ.................................. ..................................
37
الموضوع
الصفحة
سلسلة إسناد الجهمية .................................. .................................. .................
38
موضوع كتاب المؤلف .................................. .................................. ...............
41(1/468)
عقيدة المؤلف.................................. .................................. ..............................
42
عدم إلتزام المؤلف بما يدعو إليه .................................. .......................................
42
الجزء الأول : الرد على الخليلي إنكاره رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة ......................
45
القضية الأولى: إنكار المؤلف رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة..
47
خلط المؤلف في رده على مثبتي الرؤية بين الأشعرية والماتريدية والسلفية ..................
48
تعريف أهل السنة وكشف مغالطات المؤلف.................................. ......................
49
تسمية بعض الطوائف بأهل السنة في مقابلة الروافض والنواصب والخوارج .إلخ........
50
من أنكر الرؤية حرم منها فالجزاء من جنس العمل ................................................
51
السلف لايقيسون وجود الحق على الخلق في إثبات الرؤية ولاغيرها وبيان زيف المؤلف في ذلك.................................. .................................. ...........................
53
رد افتراء المؤلف على نبي الله موسى.................................. ................................
69
نفي حصول الرؤية في الدنيا لاخلاف فيه بين سلف الأمة.......................................
73
من مغالطات المؤلف المكشوفة .................................. ........................................
76
بيان معاني النظر.................................. .................................. ..........................
81
بيان فساد تأويل المؤلف.................................. .................................. ................
82
كشف سخافة مضحكة.................................. .................................. ...............
84(1/469)
ليس للنفاة أدلة في نفي الرؤية.................................. ...........................................
85
رد المؤلف لتفسير رسول الله الزيادة في قوله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} . .................................. .................................. ................................
86
عدد الذين فسروا(الزيادة) بالرؤية لوجه الله عز وجل ...........................................
88
بيان سقوط كلام المؤلف.................................. .................................. .............
89
الموضوع
الصفحة
الرد على المؤلف دعواه أن الأخذ بظواهر النصوص يرده العقل ويكذبه البرهان .......
90
أحاديث إثبات الرؤية متواترة.................................. ...........................................
91
شناعة ارتكبها المؤلف.................................. .....................................................
92
قول المؤلف: الأخذ بظاهر ما في الصحيحين يرده العقل ويكذبه البرهان ................
92
سبب جهل المؤلف بصفات الله تعالى هو عدم تقدير الله تعالى حق قدره ...............
93
هل يتأسى المؤلف بقول عمر بن الخطاب وفعله رضي الله عنه في قصة صلح الحديبية.................................. .................................. .....................................
94
أدلة نفاة الرؤية، وبيان تدليس المؤلف.................................. ...............................
97
نفي الإدراك لايدل على نفي الرؤية.................................. ..................................
98
بيان تدليس المؤلف بإيراده، أدلة نفي الرؤية في الدنيا، وتعميمها في نفي الرؤية في الدنيا والآخرة .................................. .................................. ...........................
100(1/470)
النفي المحض ليس كمالاً، وبيان الفرق بين الإدراك والرؤية.....................................
102
ذكر ابن جرير للأقوال في تفسير قوله تعالى:{لاتدركه الأبصار} ........................
106
كشف تمويهات المؤلف، والرد عليها.................................. ...............................
113
لماذا مناقشة المؤلف في إنكاره الرؤية.................................. ..................................
117
التحاكم إلى الله ورسوله في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة..........................
119
الأدلة من كتاب الله الكريم.................................. ............................................
120
الأدلة من السنة.................................. .................................. ..........................
129
أحاديث الرؤية متواترة.................................. .................................. ................
132
إجماع الصحابة ومن تبعهم ومنهم الأئمة الأربعة على إثبات الرؤية.........................
135
لافرق بين قول: الصاوي، والمؤلف الخليلي في رد النصوص وهي جرأة تحتاج إلى توبة
137
قول ابن جرير: ليس لأهل هذه المقالة دليل ؛لاآية محكمة ولا رواية صحيحة ولا سقيمة . .................................. .................................. ..................................
140
الموضوع
الصفحة
أسماء بعض الكتب المؤلفة في إثبات الرؤية .................................. ........................
141
الجزء الثاني
ـ مقطع من قصيدة ابن النضر العماني في الرد على من يقول بخلق القرآن ................
147
ـ المبحث الأول في ما ورد في المقدمة :
ـ تعريف الخليلي للخلق والرد عليه .................................. ..................................
149(1/471)
ـ تعريف الخليلي للقرآن ومناقشة تعريفه .................................. ..........................
153
ـ النصوص التي تدحض دعوى الخليلي في تعريفه للقرآن .......................................
154
ـ تعريف أهل السنة للقرآن الكريم .................................. ..................................
157
ـ أول من قال بخلق القرآن .................................. .............................................
158
ـ قول الخليلي في التفرقة بين القرآن وسائر الكتب المنزلة والكلام النفسي ...............
159
ـ مناقشة الخليلي في بدعة الكلام النفسي .................................. .........................
161
ـ كلام ابن أبي العز الحنفي في الكلام ..................... ..................... .....................
162
ـ الدليل على رد ما يسمى بالكلام النفسي .................................. ......................
163
ـ استناد الخليلي إلى أحد علماء الإباضية في تقرير معنى الكلام ..................... .........
165
ـ استدلال الخليلي بقول الأخطل على تقرير الكلام النفسي والرد عليه ...................
166
ـ توضيح أن الله خلق عيسى بكلامه ..................... ..................... .....................
167
ـ رد الخليلي على نفسه في الكلام النفسي ..................... ..................... ...............
169
ـ تصور فاسد يرتب عليه حكما باطلاً ..................... ..................... ...................
171
ـ توهمهم أن من أثبت صفة لله فقد شبه الله بخلقه والرد عليه ..................... .........
172
ـ توهمهم أن من أثبت الصفات فقد قال بتعدد الآلهة والرد على ذلك .....................
173(1/472)
ـ قول ابن حجر في ذكر رؤوس الفرق المبتدعة ..................... ..................... .........
175
ـ مناقشة شبهة الخليلي ومن اقتدى بهم في تعدد الصفات ..................... ................
179
الموضوع
الصفحة
ـ الرد على الفصل الأول من كتابه :
185
ـ قول الخليلي في الفقرة الأولى .
ـ قول الخليلي في الفقرة الثانية .
ـ قول الخليلي في الفقرة الثالثة .
ـ الرد على الفقرة الأولى ..................... ..................... ..................... .................
187
ـ كلام ابن الأثير عن التعطيل والتصريح بأول من قال بخلق القرآن ................. ........
190
ـ الرد على الفقرة الثانية ................. ................. ................. ................. ............
192
ـ مناظرة الكناني لبشر المريسي ................. ................. ................. ....................
194
ـ الباطل لا يقف على ساق وبيان تناقضات الخليلي ................. ................. ..........
199
ـ بيان موقف الإمام أحمد بن حنبل من مخالفيه وبيان زيف الخليلي ................. ........
205
ـ الرد على الفقرة الثالثة (اعتراف الخليلي بأن علماء عمان المتأخرون وهم الذين قالوا بخلق القرآن) ................. ................. ................. ................. ................. .........
207
ـ مقطع من قصيدة ابن النضر في الرد على من قال بخلق القرآن ................. ...........
209
ـ مسألة اختلاف الناس في كلام الله لموسى عليه السلام ................. .....................
212
ـ دعوى الخليلي أن التكلم لا يكون إلا بمعنى إحداث الكلام أي خلقه ...................
221
ـ نقل الخليلي لكلام ابن القيم من كتابه الصواعق المرسلة ................. .....................
223(1/473)
ـ مناقشة الخليلي في دعواه أن ما أورده ابن القيم حجة له ................. ................. ..
227
ـ مناقشة الخليلي في استدلاله بآية { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} .........
233
ـ عبد الرحمن حبنكة يوافق الخليلي ................. ................. ................. ..............
236
ـ تصريح الخليلي بأنه على مذهب المعتزلة ................. ................. ................. .....
237
ـ دعوى الخليلي اتفاق الإباضية والحنابلة على القول بقدم النصوص القرآنية ............
و الجواب على هذه الدعوى من وجوه. ................. ................. ................. ........
241
الموضوع
الصفحة
ـ الفصل الثاني تضارب القائلين بقدم القرآن كما يدعيه الخليلي ................. ...........
247
ـ الرد على المقطع الأول وبيان رد ابن تيمية على ابن كلاب القائل بقدم القرآن .......
248
ـ تعريف القرآن عند أهل السنة والجواب على المقطع الثاني. ................. ..............
249
ـ ادعاء الخليلي تناقض كلام ابن تيمية والرد على هذه الدعوى ................. ...........
250
ـ اعتراض الخليلي على قول أحمد بن حنبل والجواب عليه ................. ....................
251
ـ تحسر الخليلي سببه عجزه عن الجواب ................. ................. ................. .........
262
ـ قول الخليلي بأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ................. ................. ...............
266
ـ ادعاء الخليلي بهتانا على ابن تيمية ................. ................. ................. ..............
267
ـ الجواب على قول الخليلي أن ابن تيمية يسجل على كبار أئمتهم مخالفة النص والإجماع والعقل . ................. ................. ................. ................. ..................
269(1/474)
ـ مواصلة الخليلي لآفتراءاته على ابن تيمية . ................. ................. .....................
271
ـ الرد على هذه الفرية ................. ................. ................. ................. ..............
273
ـ مغالطات الخليلي وتلبيساته على ابن تيمية والجواب على هذه المغالطات ..............
282
ـ توضيح الكفر المطلق والكفر المعين ................. ................. ................. .............
286
ـ اعتراف الخليلي بأن شيخ الإسلام لم يقل بقدم القرآن ................. ......................
294
ـ الفصل الثالث أدلة النافين لخلق القرآن كما يزعم الخليلي ................. .................
297
ـ كلام البوطي وحبنكة في القرآن ................. ................. ................. .................
299
ـ اختيار الخليلي لستة أدلة نقلية في نفي صفة الخلق ورده عليه ................. .............
301
ـ الرد على الخليلي في الدليل الأول ................. ................. ................. ...............
302
ـ كلام الشوكاني في تفسير سورة الرحمن ................. ................. ................. .....
307
ـ الفصل الرابع أدلة القائلين بخلق القرآن ................. ................. ..........................
309
ـ اقتطاع الخليلي لكلام ابن تيمية والرد عليه ................. ................. ....................
310
ـ حجج القائلين بخلق القرآن العقلية والنقلية كما قسمها الخليلي ................. ..........
313
الموضوع
الصفحة
ـ الدليل الثاني قوله إن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه ................. ......................
216
ـ الدليل الرابع وهو رد عليه ................. ................. ................. .........................
316(1/475)
ـ الدليل الخامس وهو رد عليه أيضا ................. ................. ................. ..............
317
ـ الدليل السادس قوله (إن حروف القرآن هي نفس الحروف التي ينتظم فيها كلام العرب) ................. ................. ................. ................. ................. .................
318
ـ أدلة الخليلي من القرآن على أنه مخلوق حسب زعمه ................. ........................
320
ـ مناظرة الكناني لبشر المريسي ................. ................. ................. ....................
321
ـ قول الخليلي وإن كان شيئا فما الذي يخرجه من هذا العموم والرد عليه ...............
321
ـ استدلال الخليلي بكلمة جعل على الخلق ................. ................. .......................
325
ـ بيان أن أول من قال أن جعل تأتي بمعنى خلق هو بشر المريسي وذكر مناظرة الكناني له في ذلك. ................. ................. ................. ................. .................
326
ـ ما قاله شيخ الإسلام في معنى جعل ودحض شبهة المستدلين بها ................. .......
331
ـ رد أبو النضر العماني ـ الإباضي ـ على من استدل بجعل على خلق القرآن ............
333
ـ استدلال الخليلي بالإحداث على الخلق والرد عليه ................. ................. ..........
334
ـ ايراد الخليلي لبعض الآيات ليستدل بها على خلق القرآن ................. .................
335
ـ الرد على الخليلي في ذلك ................. ................. ................. ................. .......
337
ـ كلام ابن تيمية في نفي أن القرآن قديم ................. ................. ................. .......
338
ـ رد ابن تيمية على أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره ................. ................. ......
339(1/476)
ـ أدلة الخليلي من السنة حسب زعمه على خلق القرآن ................. ................. .....
343
ـ الجواب على هذا الاستدلال ................. ................. ................. .....................
345
ـ المناظرة التي حدثت عند الواثق بين ابن أبي داؤد والشيخ الأزدي ................. ......
356
ـ كلام الإمام الآجري في كلام الله عز وجل في كتابه الشريعة ................. ...........
362
ـ كلام الإمام ابن مندة في كلام الله عز وجل في كتابه التوحيد ................. ..........
363
الموضوع
الصفحة
ـ كلام الإمام البخاري في كلام الله عز وجل في صحيحه ................. .................
364
ثانياً: علماء الإباضية الذين أثبتوا أن القرآن كلام الله غير مخلوق ثم ردوا على القائلين بخلقه .
-كلام أحمد بن النضر ................. ................. ................. ................. .............
368
-كلام أبو الحسن البسيوي ................. ................. ................. ................. ........
368
-كلام محمد بن محبوب ................. ................. ................. ................. ............
368
الجزء الثالث
ـ تمهيد ................. ................. ................. ................. ................. ..............
371
ـ الرد على المقدمة ................. ................. ................. ................. ..........
377
ـ الرد على الفصل الأول : اختلاف الناس في خلود الجنة والنار. ................. .....
385
ـ الفصل الثاني ـ في أدلة القائلين بانقطاع العذاب ـ ومناقشته والرد عليه . ..........
398
ـ الفصل الثالث ـ أدلة القائلين بخلود جميع مرتكبي الكبائر في النار . ......
407(1/477)
ـ الجواب على ما استدل به المؤلف من آيات وبيان أقوال علماء السلف في تفسيرها. ................. ................. ................. ................. ................. ..............
408
ـ الجواب على استدلاله بقوله تعالى { للذين أحسنوا الحسنى ....} الآية
436
ـ الجواب على استدلاله بقوله تعالى { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم } وقوله : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس } .......
442
-الجواب على استدلاله بقوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ..} الآية.
450
دحض ما نسبه لابن عطية والقرطبي والشوكاني في تفسير ( المعصية ) . ...............
451
أي الفريقين أولى بالإتباع في تفسير الآيات الإباضية الذين يمثلهم ـ الخليلي ـ أم أهل السنة . ................. ................. ................. ................. ................. ...........
455
ثانيا ـ أدلة ـ الخليلي ـ من السنة . ................. ................. ................. ...............
456
وجه استدلاله بها والرد عليه ................. ................. ................. ......................
458
الموضوع
الصفحة
الخليلي ـ لا يعرج على أحاديث الشفاعة المتواترة ................. ................. .............
464
استدلاله بالأحاديث التي ورد فيها وعيد على بعض المعاصي وبيان أهل السنة لمعناها.
464
باب إثبات الشفاعة عند الإمام مسلم ................. ................. ................. ............
471
رواية يزيد الفقير لقصته مع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -..........................................
473
الحافظ اللآلكائي : باب الشفاعة لأهل الكبائر ................. ................. ...........
476(1/478)
الإمام الآجري في كتاب الشريعة ................. ................. ................. .................
481
باب من كذب بالشفاعة ليس له فيها نصيب . ................. ................. ..............
482
باب ما روي أن الشفاعة إنما هي لأهل الكبائر . ................. ................. ..........
483
باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : واختبأت دعوتي شفاعة . ................. ................. ............
483
و باب أن الله خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة. ................. ................. ................. ................. ................. .............
483
باب الإيمان بأن قوما يخرجون من النار بالشفاعة . ................. ................. ...........
483
نختم أحاديث الشفاعة بما رواه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد . ..............
484
ملاحق الكتاب ................. ................. ................. ................. ................. ......
489
الفهارس ................. ................. ................. ................. ................. ..............
515
ثبت المصادر والمراجع . ................. ................. ................. ................. ............
517
فهرس الموضوعات . ................. ................. ................. ................. .................
523(1/479)