بسم الله الرحمن الرحيم
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}.
[الأعراف: آية/56]
الرد الشامل
على
عمر كامل
((نقد علمي موثق لكتاب الدكتور عمر عبد الله كامل الموسوم بـ "كفى تفريقاً للأمة باسم السلف"
وهو الكتاب الذي زعم أنه مناقشة علمية لكتاب الدكتور/سفر الحوالي: "نقد مذهب الأشاعرة في العقيدة")).
د. عبد الله بن حسين الموجان
رمضان 1425هـ
قال تعالى:
{فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}
……[الرعد: آية/17](1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون } [آل عمران، آية: 102]، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } [النساء، آية:1] { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً - يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [الأحزاب، آية:72،71].
أما بعد ...
فقد ظهرت عدة كتب في الآونة الأخيرة للدكتور عمر بن عبد الله كامل تبحث في موضوعات شتى ما كان يُتكلم فيها من قبلُ، ولكن هذا مما ظهر مع الفتن المتتالية التي أدت إلى سقوط النظام في بغداد وما يلي ذلك من ضغوط سياسية وفكرية على المِنْطقة، وكان من الواجب على العلماء والمفكرين من أهل هذه البلاد المباركة أن يتم التلاحم بينهم ضد الوافدات والواردات الدخيلة على عقيدتنا ومجتمعنا، لاسيما أَنَّ النص القطعي بأيدينا قال تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [لبقرة: آية:120] .(2/1)
إن من الواجب في خضم الفتن أن يلتجئ المؤمن إلى ربه وألا يخوض مع الخائضين، وأَن يسأل ربَهُ الهدايةَ والرشادَ كما كان سيدُ الأولين والآخرين - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه: (( اللهم ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطرَ السماواتِ والأرضِ عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنت تحكمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اُخْتُلِفَ فيه من الحقِ بإذنِكَ إِنكَ تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (1) .
لقد سود الدكتور الصحائف بألوان من الفتن لكنْ تحت شعاراتٍ برَّاقةٍ، وتحتَ اسمِ جمعِ الأمةِ وكأنه لا يدري أو يتناسى أن ما يسطره هو تفريقٌ وتشتيتٌ للأمة، فإن الاجتماع لا يكون إلا على الحق وهو الكتاب والسنة، وأنَّ كل من تحزب على مُجتَمَعٍ أو اعتقادٍ يخالفُ الكتاب والسنة فهو مُبْطل أيا كان قولُهُ ونيتُهُ.
وقد رأيت كتاب الدكتور عمر ((كفى تفريقاً للأمة باسم السلف)) من تلك المجموعة، وهو من جنس الكتب التي تطلُّ بأعناقها لإذكاء الفتنة، فهذا الكتاب الذي وسمه بـ ((مناقشة علمية لكتاب الدكتور سفر الحوالي لمنهج الأشاعرة في العقيدة)) وضعه الدكتور عمر للرد على الدكتور سفر الحوالي في كتابه الذي صدر عام 1407هـ، أي أنه بعد صدور الكتاب بسبعَ عشرةَ سنةً يظهر للدكتور عمر أن الرد لازم حتى لا تتفرق الأمة !! .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (1/534-ح770).(2/2)
لقد اطلعتُ علي الكتاب لعلي أجد فيه رداً علمياً كما وصفه مؤلفُه لكني وجدتُ مفازةَ الردِّ العلمي فيه تكلُّ عنها المطايا ولقد كان للدكتور عمر عن امتطاء ثبج هذا مندوحةٌ، وشيمةٌ عند ذوي النهي سنيةٌ مندوحة إذ أنَّ هذا التحصيل غايتُهُ التعطيلُ، فكل من بَقِيَ لديه من محضِ الفطرةِ أثارةٌ، أُلقى في باله ألطفُ إشارةٍ، أن الكتاب ليس رداً علمياً ولا يظهر أن مقصود صاحبه جمعُ الأمة ولا لمُّ الشملِ، فالله المستعان علي هفوةٍ، مكشوفةِ السوأةِ، لم ينزجر عن التعامي عنها جماعة المقلدة وأفراخُ المضِلين، فلا جرمَ لقد اتسع الخرقُ على الراقعِ، وتشعبت طرقُ الإدلال بمطابقة الواقع وأتى الدكتور عمر في كتابه بما يخالف الشرائع فلم يكن إلا مباحثَ ((صحافيةً)) وردوداً منقولةً عن غيره بغير رابط يجمعها ولا أسسٍ شرعيةٍ تشد من أزرِها، وفرح المؤلف بتقدمتين للكتاب سارع إِثْرهما بأن وضع علي غلافه ((قدم له مجموعة من العلماء))، إِحدى التقدمتين ابتدأها صاحبها بحمد الله تعالى ((أن يحصرَهُ زمانٌ أو يحدَّهُ مكَانٌ... أشرك به من أجرى عليه أوصافَ المخلوقات الفانية من الصعودِ والنزولِ والتحوَّلِ والجهةِ والحلولِ))... إلى آخر هذه الألفاظِ المجملةِ المحتملةِ العاريةِ عن الأدلةِ من الكتابِ والسنةِ. ثم تقدمةٌ أخرى ليس فيها إلا التشنيعُ بمخالفةِ الأزهرِ، وكأن الأزهر مَجْمَعُ الكتاب والسنة، علماً أن علماء الأزهر ليسوا كلُّهم أشاعرة، أو ماتُريدية، لكن هو التهويلُ والقعقعةُ والشنشنةُ ليس إِلاَّ، فإذا تصفحنا الكتاب بصفحاته الباقيةِ التي تربو بقليلٍ على المائةِ والخمسين صفحةً لا نجدُ إلا مقتطفاتٍ غيرَ منسقةٍ، وردوداً غيرَ مُنَضَّدةٍ، وتعليقاتٍ غيرَ سديدةٍ، كما سيأتي القولُ عليها في ثنايا الردودِ على هذا الكتابِ إنْ شاءَ الله تعالى .(2/3)
ولما عَرَّف المؤلفُ أو الناشرُ بالكتابِ في الغلافِ الثاني أبان عن عدمِ العلمِ بقولهِ ((الدكتور سفر لا يعتمد في بيانِ رأي المذاهبِ الأربعةِ في الأشاعرةِ على العلماءِ المعتمدين)) ولا ندري هل يقصد بعلماء المذاهبِ الأربعةِ أي الفقهية، أو مذاهب أربعة عقِدية لا يعرفُها إلا هو، فإن كان المقصود علماءَ المذاهب الفقهية فما علاقة ذلك بالقول في الاعتقاد، وهل إذا كان كثيرٌ من متقلدي المذهبِ الحنفيِ معتزلةً وكثيرٌ من متأخريهم ما تريديةً، فماذا يعني هذا في رأي الدكتور عمر فأنى العنقاءُ لِتُطْلَبَ وأين السمندلُ ليُجْلَبَ.
ثم يذكر أن بالكتاب عشراتِ النقولِ عن الأئمة في العلو الحسي، ولا يُدْرَي ما هو العلو الحسي الذي تريد أو ترمي إليه يا دكتور، ومن ذَكَرَ أنَّ عُلُوَّ اللهِ كعلوِ المخلوقاتِ من المتمسلفةِ كما ذكرت؟؟ فإن ذلك دونه خرطُ القتاد، وإن كان المراد العُلوَّ اللائقَ بجلاله؛ فما قيمة عشراتِ النقول التي تذكرها من عشراتِ بل مئاتِ النصوصِ والأدلةِ على ثُبوتها، ومئاتِ النقول عن علماء الأمة على ذلك، ومن حق الباحثِ أن يُدْلِيَ بما يُوافقُ خَصْمُهُ على صحته، أو بحجة قاهرة تؤذن بأن دفعها والتمسك بمعارضتِها قصورٌ أو ضلال .
إن من استحب العمى على الهُدى فإنّي أقرع سمعهُ بتحذيرٍ مُضَمَّنٍ في قوله تعالى: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل آيةٍ } [لبقرة: آية:145]. وكثير ممن يصنف ويكتب ويجمع هو حاطبُ ليلٍ لا يُلتفتُ إلى ذكرِهِ، ولا يُنظرُ إلى ما كتبه، ويقال فيه ما قال الأول:
فَدَعْ عَنْكَ الكِتابةَ لَستَ مِنْهَا *** وَإِنْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالمِدَادِ(2/4)
والعجب كل العجب أن الدكتور عمر كتب ما ظاهره (( الرد على سفر الحوالي)) وباطنه الردُّ على علماء أهل السنة والحديث، ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية، ولذا حشد عدةَ مباحثَ في الردِّ على ابن تيمية ليس لها ذِكْرٌ في ثنايا كتاب الدكتور سفر، وهذا مما يؤكدُ أن الكتابَ ليس المرادُ منه ما زعم، وأن ثمةَ أيدٍ خفيةً ونياتٍ مستترةً خَلْفَ هذا الكتاب الله أعلم بها، لاسيما أنه قد تزامن ذلك مع مناقشات في بعض الفضائيات لآراء ابن تيمية وغيره من علماءِ الدعوةِ السلفيةِ المباركةِ، ولسنا في ردنا هذا نقصد الذبَّ عن ابن تيميةَ ولا عن سفر، فكل ذلك دون الغاية العظمى وإنما الهدفُ الأسمى هو الذبُّ عن عقيدةِ السلفِ، وليس كلُّ ما ذهب إليه الدكتور سفر الحوالي نذهبُ إليه، بل نحن مخالفون له في أمور كثيرةٍ في المنهجِ وغيرهِ، ولكنا نتولى جميع المسلمين ونقول: جزى الله خيراً الدكتور سفر الحوالي فيما كتب وأبان من زيفِ الأشاعرةِ وضلالِهم فيما خالفوا فيه الكتابَ والسنةَ .
ومن العجب أيضاً أن الدكتور عمر في كثير من مباحث الكتاب لم يَعْرِفْ مذهب الأشاعرة !! ولم يحققْهُ أو ربما أن القُصاصاتِ التي وصلت إليه عن المذهب ليس فيها ذلك !! فقد زعم أن الأشاعرةَ يجيزون تكليف ما لا يطاقُ من جهة الشرع، وليته ذكر أن ثمةَ خلافاً عندهم، وليته عرف الأصل الذي تُبنَى عليه هذه القضية لاسيما والمفترض أن رجلاً دَرَّسَ أصول الفقه مثلَهُ لهُ إلمامٌ بشيءٍ من ذلك، فليته حقق مذهبهم في كون ((القدرة مع الفعل لا قبله)) لينظر ابتناءَ مسألةِ تكليفِ ما لا يُطاق عليها، وقل مثلَ ذلك في التحسين والتقبيح والتأويل وغير ذلك.(2/5)
ثم من باب رمتني بدائها وانسلت يزعم أن الدكتور سفر أخطأ في حكاية مذهب ((السادة الأشاعرة))، وهيهات هيهات يا دكتور/ عمر لعلك بعد قراءة سطوري هذه كُلِّها تعرفُ أن الخطأ عند غير الدكتور سفر في فهم أو نقل مذهب ((السادة)) أهلِ الحديث، لا خصومهم من فرقة ((الأشاعرة)) .
وأقول في ختام هذه المقدمة : نعم كفى تفريقاً للأمة، لكن التفريق لا يكون باسم السلف لأن منهج السلف لا يحتاج في نقله أكثرَ من نقل نصوص الكتاب والسنةِ فهم لا يتجاوزون القرآن والحديث في مذهبهم ومعتقدهم ومنهجهم، بل نقول كفى تفريقاً للأمة باسم العرض والجوهر والتسلسل والجزء الذي لا يتجزأ والجسم والأكوان الأربعة و و و ... .
كفى تفريقاً للأمة بهدمِ منهجِ التلقي عن الكتابِ والسنةِ والإحالة إلى شُبَهٍ عقليةٍ عقيمةٍ أفرزتها زبالة عقول المتكلمين على مر العصور .
كفى تفريقاً للأمة بطعن الأمة في عقيدتها وتصوراتها وقد كان ابن الجوزي يمتطي المنبر ثم يقول:
((ليس فوقَ العرشِ إله ولا في المصحفِ كلامُ اللهِ ولا في القبرِ نبيٌ))، يا معشرَ الأشاعرةِ ثلاثُ عورات لكم .
هلا سترتم عوراتِكم معشرَ الأشاعرة وسترتم تاريخاً مليئاً بمخالفاتٍ للكتابِ والسنةِ، واتباعِ مناهجِ القدماءِ من الفلاسفةِ والمتكلمين من هذا الزبد الزائف، قال الله تعالى: { فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } [لرعد: آية:17] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وَصَلَىْ اللهُ عَلَىْ سَيِّدنَاْ مُحَمَّدٍ وَعَلَىْ آْلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْن،،،
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/عبد الله بن حسين الموجان
ص.ب: 9075 جدة 21413
السعودية – هاتف/ 6511648(2/6)
وسائل العلم:
بدأ الدكتور عمر كتابه بمقدمة ذكر فيها وسائل العلم ((السمع والبصر والأفئدة)) ورام من خلال ذلك حسب تسلسل صفحات المقدمة أَن يقولَ إن العقل محمود مطلقاً ثم تدرج إلى عدم ثبوت تعارض العقل والنقل وأن في حالة التعارض يُقَدّمُ القطعي، وإن كانا ظنيين يقدم الأقوى مطلقاً، ثم خلص إلى أن الظني من النقلي ثبوتاً هو أحاديث الآحاد، وأما الظني دلالة فما احتمل أكثر من معنى، ثم تطرق إلى ((أبي الحسن الأشعري)) وأنه بظهوره وردوده على المعتزلة صار هناك تياران: منهجُ علماء الحديث، وموقفٌ جديدٌ معارضٌ للمعتزلة وهو موقفُ الأشاعرة.
ثم حمل على شيخ الإسلام ابن تيمية عندما أخرج الأشاعرة من مصطلح أهل السنة والجماعة، ثم عَرَضَ لمز الدكتور سفر الحوالي في تسميته أهل السنة والجماعة بمصطلح مخترع وهو أهل السنة والاتباع ظناً أن أئمة الاتباع هم الأئمة الأربعة أصحابُ المذاهب الفقهية.(3/1)
وهذه المقدمة خلط فيها الدكتور عمر ((شأنه في ذلك شأنُهُ في بقية كتابه)) بين الحق والباطل، فمنافذ العلم التي هي ((السمع والبصر والفؤاد)) هي منافذ صحيحة، بنص الكتاب، أما تسميته لها بالوسائل فهو محلَّ نظر، لأنه قد يهب الله سبحانه وتعالى علوماً لبعض عبيده ليس من خلال هذه المنافذ فقد تكلم عيسى في المهد بمعجزة من الله، ولا نزال نرى هباتٍ وعلوماً من الله تعالى لمن يشاء من خلقه دون توقفِ ذلك على هذه المنافذِ، فالأصح أن يقال إن هذه من وسائل التعليم لا مِنْ وسائل العلم، وعلى كلٍ فالنتيجة التي وصل إليها الدكتور عمر وهي أن العقل محمودٌ مطلقاً يحتاج مَعَها إلى معرفة تعريفه للعقل، وقد ذكر في موضع آخر من كتابه ((ص83، ص84)) أن العقل آلة لمعرفة الوجوب الثابت لله تعالى، فإن كان مراده كذلك، فهو أشبه بمن يقول: إن العين محمودة مطلقاً، وإن الأذن محمودة مطلقاً، وهو تحصيل حاصل لأن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرم بني آدم، فالعقل بهذا الاعتبار هو الغريزة التي يُمَيَّزُ بها الإنسانُ عن الحيوانِ، فليست هذه الغريزةُ علماً حتى يُتَصَوَّرَ لها تعارض مع النقل كما زعم، بل هي شرطٌ في كل علم عقلي أو سمعي كشرط الحياة، والشرط يمتنع أن ينافي المشروطَ فيه، وإن أريد بالعقل المعارفُ العقليةُ، والعلومُ الحاصلة بالعقل، فهي كثيرةٌ جداً، وليست كلها محمودةً مطلقاً، بل فيها المحمود وفيها المذمومُ فَصِحَّةُ بعض العقليات لا يلزمُ منه صِحَّةُ كل العقليات(1).
__________
(1) للمزيد من ذلك انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/89-90)، مختصر الصواعق، (1/131،132).(3/2)
أما مسألة ((تعارض العقل والنقل)) فالصحيح أنه لا يتعارض معقول صريح مع منقول صحيح، لأنهما إن كانا قطعيين فتعارضهما جمع بين النقيضين، وكل ما زعموه من هذا الباب فيه خلل في حكمهم على أحدهما بأنه قطعي لأنه لم يأت الرسل بمحالات العقل، وإن كان في بعض ما جاء به الرسل ما تحار فيه العقول لكن لا تقطع بأنه محال، وأما تعارض القطعي الشرعي مع الظني العقلي فإننا نجزم عندئذ بتخطئة الظني العقلي، فآدم أبو البشر فمن ظن أن الإنسان أصله ((قرد)) فهذا آثم مكذبٌ بالشرع، فإن توهم ثمة تعارض بين ظني شرعي وقطعي عقلي فإننا نحمل الظني الشرعي على الوجه الذي يوافق القطعي العقلي، وأما إن تعارض الظنيان فنميل للشرعي وننسبُ العقليَّ لأهله ولا ننفيه(1) .
__________
(1) انظر: في ذلك العقل والنقل، (1/79،80)، مختصر الصواعق، (1/129)، تقريب وترتيب الطحاوية (2/871).(3/3)
وعليه فإن كان النقل صحيحاً، فذلك الذي يدعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح، فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ولو فُرِضَ هذا التعارضُ فإن تقديمَ النقلِ أولى، لأنهما مع فرض التعارض لا يمكن الجمع بينهما لأنه جمعٌ بين النقيضين، ورفعُهُما رفعٌ للنقيضين وكلاهما ممتنعٌ، ثم إن تقديمَ العقلِ ممتنعٌ لأن العقلَ دلَّ على صحةِ السمعِ، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديمُ العقلِ موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمُهُ، وهذا بَيِّنٌ واضحٌ، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره فإن جاز أن تكون الدلالةُ باطلةً لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقلُ صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عَنْ أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل(1).
__________
(1) العقل والنقل، (1/170، 171)، شرح الطحاوية، ص:216، 217.(3/4)
وأما ظهور تيارين مع مجيء أبي الحسن الأشعري في أهل السنة، فهو وهم من الدكتور عمر لأن أهل السنة والجماعة ليس مصطلحاً حادثاً جاء بعد ظهور الأشعرية كما أوهمت عبارته(1)، بل هو سابق على ظهور الأشعري بنحو ثلاثة قرون، ففي تفسير قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}[آل عمران: آية:10]، قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والضلالة"(2)، فهذا قبل مولد الأشعري بقرون يا د. عمر، فمن لم يكن على منهج أهل السنة الذين هم الصحابةُ فإخراجه من هذا المصطلح أمر حتم، بل الأشعرية إنما انتسبوا للسنة بنصرهم للأحاديث والآثار في مواضع، لكن الخلل في باقي معتقدهم مَنَعَ من إطلاق الاسم الشريف عليهم كما سيأتي تقريره بعد.
__________
(1) قال د. عمر: في ص: (18) ((فإذا كان أهل السنة والجماعة هم مَنْ سَمَّوْا أنفسهم به وأجمع العلماء على ذلك فبأي حق يأتي اليوم مَنْ يخرجهم من هذه الفرقة)) أهـ وواضح أنه يشير للأشعرية.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو نصر في الإبانة والخطيب في التاريخ، واللالكائي في السنة كما بالدر(2/291)، وانظره كذلك في ابن كثير، (2/390) والبغوي (2/87) في تفسير الآية، وقد رُوِىَ مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، أخرجه الخطيب في رواية مالك، والديلمي، ومن حديث أبي سعيد أخرجه أبو نصر السجزي كما بالدر الموضع السابق، وانظر الفتاوى (19/215).(3/5)
أما مصطلح ((أهل السنة والاتباع)) فهو أيضاً ورد في بعض الآثار، ولكن الغريب أن يفهمه الدكتورُ عمرُ بهذا الفهم العجيب، لأن الاتباع ليس مختصاً بأئمة المذاهب الأربعة، بل أَمَرَ اللهُ تعالى بالاتباع في كتابه لما أنزله، {اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر، آية:55]، وأمر باتباع سبيل المنيبين إليه، { واتبع سبيل من أناب إلي}[لقمان، آية: 15]، وأمر باتباع سبيل المؤمنين جملة وحذر من مخالفةِ اتباعهم وهذه الأوصاف في هذه الآيات كلها تدل على اتباع الكتاب والسنة والسلف الصالح، وليس هذا مختصاً بالأئمة الأربعة يا د. عمر.
وكلمة أخيرة يا د. عمر: إن عقيدتنا مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بخير، بالأسانيد الموثقة قبل مولد ابن تيمية وقبل مولد الأشعري، وكتبُ السنةِ شاهدةٌ بذلك.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(3/6)
بيان من هم أهل السنة:
افتتح د. عمر هذا المبحث بكلام السبكي الأشعري شارحاً عقيدة ابن الحاجب وجعل أهل السنة ثلاث طوائف [أهل الحديث– أهل النظر العقلي- أهل الوجدان والكشف] ثم نقل كلام ابن رشد والسفاريني، وكلُّ هؤلاء من المتكلمين من الأشاعرة أو من وافقهم.
ونقول له يا د. عمر أهكذا يكون استدلالك على مسمى أهل السنة، أتعلم لو أن معتزلياً أراد أن يثبت أن المعتزلة هم أهلُ الحق، وأورد كلاماً لأئمة المعتزلة، ولو أن شيعياً رافضياً أراد إثبات أن الشيعة أهلُ الحق وأَنَّ التشيع هو الصواب فأورد كلاماً لأئمة الرافضة، ولو .... ولو.... أكان هذا مقبولاً عندك يا د. عمر..
ماذا تنتظر من التاج السبكي وهو يقرر مَنْ هم أهل السنة، أترى يراهم جهميةً أو رافضةً، أو حشويةً -على قولك- نابتة؟؟
إن مثل هذا لا يروج إلا على صِغار العقول، إن أردت أن تتعرف على أهل السنة فانظر إلى الأدلةِ وأقوالِ سلفِ الأمةِ، لا أئمة الأشعرية فحديث ((الفرقة الناجية)) والذي تجهرمت فضعفته في آخر كتابك إنما يدل على أن أهل الحق من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإن لم نستدل بالحديث فإن قول الله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}[آل عمران، آية:106]، كافٍ في ذلك فقد فسر ابن عباس الآية بأنه تبيضَّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوهُ أهل البدعة والفرقة(1).
ولقد جمع الخطيب البغدادي في ((شرف أهل الحديث)) الآثار عن كبار علماء السلف أحمد وإسحق وابن المبارك وغيرهم وهي تدور حول أن الفرقةَ الناجيةَ والظاهرةَ على الحق هم أهل الحديث، ومنهم من يقول: إن لم يكونوا أهلَ الحديثِ فلا أدري من هم(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير، (1/390).
(2) انظر: شرف أصحاب الحديث للخطيب.(4/1)
فهؤلاء هُمْ الفرقة الناجية في حين لم يكن الأشعري ولا الماتريدي ولا أهل الكشف قد ولدوا بعد(1)، فكيف تنقطع السلسلة هكذا يا أهل الحجا، إن أهل السنة من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومنا هذا على اتصال لم يحوجهم الله إلى مذاهب مبتدعة ضالة توضح لهم المناهج، وإنهم في كل زمان يتصلون بأسانيدهم إلى القرون المفضلة قبل ظهور أحداث اليونان وأفراخ الرومان ببدعهم الكلامية.
وحيث إنني التزمت الاختصار ما أمكن في ردي هذا فَسَأُحِيلُ القارئ إلى كتب ((السنة)) لابن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد والمروزي وإلى ((شرف أصحاب الحديث)) للخطيب و((شرح أصول الاعتقاد)) للالكائي وغيرها ليرى عشرات بل مئات النقول عن القرون المفضلة وأئمة الدين والدنيا ليعرف الفريقين، ويرى من أي النوعين يكون هؤلاء وهؤلاء.
__________
(1) توفى الأشعري سنة 324هـ، وتوفى الماتريدي 326هـ بينما توفى ابن المبارك سنة181هـ، وتوفى إسحق سنة236هـ، وأحمد سنة 241هـ.(4/2)
بل إن الأشعرية والأشعري لم يُمْدَحُوا قطَّ إلاَّ فيما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وكلُّ من مدحهم من العلماء إنما مدحهم لذلك بل المصنفون منهم عندما يتكلمون عن الفرقة الناجية ويزعمون أنهم الأشاعرة يعللون ذلك بمتابعة الأحاديث الصحيحة، ولذلك لما قال العضد الإيجي بأن الأشاعرة هم الفرقة الناجية، أَوْرَدَ الشارح الجلال الدواني سؤالاً فقال: ((فإن قلت كيف حَكَم بأن الفرقة الناجية هم الأشاعرة وكل فرقة تزعم أنها ناجية، قلت سياق الحديث مشعر بأنهم المعتقدون بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وذلك إنما ينطبق على الأشاعرة بأنهم يتمسكون في عقائدهم بالأحاديث الصحيحة المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه ولا يتجاوزون عن ظواهرها إلا بضرورة(1) ولا يسترسلون مع عقولهم كالمعتزلة))(2).
وقد شرحه الكلنبوي فقال: ((أما كون الفرقة الناجية هم الأشاعرة، فلأن الفرقة الناجية هم المعتقدون بما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكل فرقة معتقدون بذلك هم الأشاعرة))(3)، ينتج من الشكل الأول أن الفرقة الناجية هم الأشاعرة. أهـ(4).
__________
(1) وهل نفى علو الله واستوائه على عرشه ضرورة، وهل نفي صفات الأفعال ضرورة، أو أكد القول بأنه لا داخل ولا خارج العالم ، إنما المراد ههنا إثبات محاولة الأشاعرة إلصاق أنفسهم بأهل الحديث لما علموا أنه لا سبيل للفرقة الناجية إلا باتباع الحديث والأثر.
(2) شرح العقائد العضدية، (38-40) – مطبوع مع حاشية الكلبنوي والخلخالي.
(3) وهذا تحكم فليس أهل الحديث أشاعرة وهم معتقدون بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4) حاشية الكلبنوي 1/39، وبنحوه قال الخلخالي في حاشيته 1/38.(4/3)
وليس المراد ههنا إلا إثبات أن الأشاعرة لما أرادوا إثباتَ فَضْلٍ لهم لم يكن ذلك إلا بانتسابهم إلى السنة والأثر، فأين هذا من الجوهر والعرض، والجزء الذي لا يتجزأ، وَنَفْيِ أن يكونَ الربُّ داخلَ العالمِ أو خارجَهُ وغير ذلك من الترهات التي بنوا عليهاَ اعتقادهم كاملاً موافقة لِلْعَلاَّفِ في نظريةِ الجوهر الفرذ؟ وعليه فلا ننشغل بمناقشة ما أورده الدكتور عمر مِنْ نُقُولٍ عن السبكيِّ وابنِ رشدٍ والسفاريني، ولكنْ أنوه ههنا بِأَنَّ هؤلاء وغيرهم يسلمون أن أهل الحديث هم أهل السنة، ومخالفوهم يقرون بذلك أيضاً وينازعونهم في دخول الأشعرية والماتريدية وغيرهم من الفرق الكلامية في هذا المسمى فصار دخول أهل الحديث ((في أهل السنة)) محلَّ إجماعٍ حتى من الأشعريةِ أنفسِهم وكفى بذلك شرفاً أن يشهد بالفضل الموافقُ والمخالفُ. كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لا يضرهم من خذلهم)) (1).
__________
(1) أخرجه البخاري في آخر باب في كتاب المناقب (6/632-ح3640)، وأخرجه مسلم في الإمارة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق))، (3/1023-ح1921) من حديث المغيرة بن شعبة وهو فيهما من حديث معاوية أيضاً، وأخرجه مسلم من حديث ثوبان وجابر بن سمرة وغيرهم وهو مروي عن جمع من الصحابة أيضاً في غير الصحيحين.(4/4)
هل مذهب الأشاعرة مذهب جمهور الأمة:
عَنْوَن الدكتور عمر بـ [اعتراف الدكتور سفر أن مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور الأمة] وإذا قرأت كلام الدكتور سفر لم تجد شيئاً من ذلك، فالدكتور سفر يذكر عن المذهب الأشعري أنه ((مذهب بِدْعِيٌّ له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي)) ولم يذكر جمهورَ الأمة من قريب ولا بعيد، أفإن جاء رجل وقال إن الرافضة ومذهبهم الخبيث له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي فهل هذا يعني أن جمهورَ الأمةِ من الرافضة!!؟؟
يا دكتور عمر: ليس الرأيُ ما ذهبت إليه، من أن جمهورَ الأمةِ من الأشعرية وانظر حولك في محيطك الذي تعيش فيه، هل عوام الأمة يعرفون الأشعري والماتريدي، وماذا يقولون في علو الله تبارك وتعالى على عرشه، وماذا يعتقد العوام في ((الإسراء والمعراج))، حتى مَنْ يقول منهم إن الله في كل مكان فإذا باحثته لم يكن يريد إلا السلطان والعلم والجبروت وما أشبه ذلك من المعاني الصحيحة ولم يُرِدْ أحدٌ منهم الحلولَ أو الاتحادَ قط، ولا خطر بقلب أحدهم ((لا خارجَ العالم ولا داخلَهُ)) وكذلك قُلْ في أفعال العباد، فكل العوام يثبتون عموم الإرادة والخلق، فكل شيء بإرادة الله وخلقه، ويثبتون مع ذلك اكتسابَ العبدِ لأفعاله، فالله خالقٌ مريدٌ حقيقةً، والعبدُ فاعلٌ حقيقةً ولا تَنافِىَ في شيء من ذلك عندهم ولا يناقضون بين هذا وهذا، ولا يقولون بجبرٍ أو كسبٍ أو نحو ذلك، كما لا يتوقف أحد من العوام عن إثبات شيء من صفات الله تعالى على ما يليق به، لا يمنعه ((حلول حوادث)) ولا ((حوادث لا أول لها)) عن ذلك، وسَلْ يا دكتور عمر أيَّ عاميٍّ هل ربُّنا سبحانه يُوصَفُ برحمةٍ ورضا وغضب، أم المراد ((إرادة الثواب وإرادة العقاب)) وأن الرحمة خور والغضب غليان... الخ من التأويلات الأشعرية الغريبة البعيدة.(5/1)
فكل هؤلاء ليسوا من الأشاعرة، وإثباتهم ليس متلقىً عن أحد بل بفطرتهم النقية التي لم تتلوث بترهات علم الكلام الذي غرسه المتكلمون ومنهم الأشاعرة، وهؤلاء هم جمهور الأمة قبل ((القرن السابع)) وبعده، ولا ندري لماذا خصصت
يا دكتور. عمر ((القرن السابع)) علماً أن ((ابن تيمية)) قد توفي في القرن الثامن لا السابع.
أما الخلاف بين الماتريدية والأشعرية والذي أشرت إليه في آخر كلامك هنا يا د. عمر فهو في مسائل في الأصول لا الفروع، وكونك تنفي هذا فهو من عدم علمك به، وإلا فهلا سألت وبحثت عن مسألة ((التكوين)) هل يقوم بالرب تعالى ((فعل)) أَوْ لا؟ فالأشعرية ينفونه، والماتريدية يثبتونه قديماً ويحتملون لوازمه، ويردون على الأشاعرة بإلزامهم بالإرادة ... الخ، أليست هذه من مسائل الأصول، وإلا فما الأصول عندك يا د. عمر، وما الفروع ؟ .. نبئنا!!؟ .(5/2)
الأشاعرة وأئمة المذاهب الفقهية:
إن من العجب الربطَ بين الأشعريةِ وبين المذاهبِ الفقهيةِ؛ فمذهب الأشعري مذهب عقدي، ونفس الرجل وهو أبو الحسن الأشعري تنازع الناسُ في مذهبه الفقهي ماذا كانَ؟ وكلُّ أصحابِ مذهبٍ يترجمون له في طبقاتهم.
وعلى كلٍّ فالمذهب العقدي لا يعني بالضرورة انتماء صاحبه لمذهب فقهي معين، وإن كان بعض العلماء يذكرون أقوالَ أصحابِ المذاهبِ الأربعة في أبواب الاعتقاد، فإن الظاهر أن المراد منه استمالةُ قلوبِ الناسِ الذين لا يعلمون إلا المذاهبَ الفقهيةَ ويثقون بأئمتها.
ولذا فليس من المناسب الدخولُ في بحثِ آراءِ الأئمةِ الفقهاءِ في مذهبٍ وَنِحْلَةٍ عقدية.
سبب انتشار المذهب الأشعري:
والدكتور عمر سود صفحات كثيرة في التعليق على كلام د. سفر في هذا ، ولم يتعرض للدافع الذي دفع د. سفر لكتابةِ ذلك، وهو بيان أن المذهب الأشعري لم ينتشر إلا في القرن الخامس إثر انتشار كتب الباقلاني، كما أن دخول كثير من الأمراء في هذا المذهب ساعد على انتشاره، كالوزير نظام الملك السلجوقي، فإنه تولى الوزارة ثلاثين سنة، وكان له مواقف عظيمة في القضاء على ما يعرف في التاريخ بفتنة البساسيري، المبتدع الذي أرادها رافضية في بغداد، وتغلب على ذلك مدةَ سنةٍ كاملةٍ، فقضاءُ السلاجقةِ عليه رَبَطَ قلوبَ الناسِ بهم من كونهم أنصارَ السنةِ ضِدَّ بدعِ الرافضةِ، كما كانت لنظام الملك جهودٌ كبيرةٌ في محاربةِ الباطنيةِ كذلك، ولم يكن هذا فحسب بل أنشأ المدارس النظامية في كبرى بلدانِ الخلافةِ آنذاك في بغداد والبصرة وأصفهان والموصل وغيرها، وأوكل التدريس فيها للأشاعرة والصوفية كالجويني والقشيري فكان لذلك أثرٌ عظيمٌ في انتشار المذهب(1).
__________
(1) انظر في ذلك تاريخ دولة آل سلجوق (ص16-20)، المنتظم (9/65-66)، الكامل (9/640-650) حيث أرخ لفتنة البساسيري كاملة.(6/1)
ومن الجدير بالذكر أن هذه المدارس كانت كلها ((شافعية المذهب الفقهي)) وأوقف نظام الملك عليها أوقافاً على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً(1)، فالظاهر أنه انتشر الربط عند الكثيرين بين ((الشافعية والأشعرية)) منذ ذاك الزمان.
كما ساعد على انتشار المذهب الأشعري أن الدولتين: النورية في الشام والصلاحية في مصر ((الدولة الأيوبية))، كان أمراؤها على هذا المذهب، فنور الدين محمود بن زنكيِ القائد العظيمِ في تاريخ الصليبيين كان قد بنى المدارسَ والدورَ العلميةَ، وَأَوْكَلَ مشيخة دار الحديثِ في دمشق إلى الحافظ ابن عساكر المدافع عن الأشعري، كما تولى التدريس في المدرسة النورية النظرية في حلب قطبُ الدينِ مسعود النيسابوري، وهو الذي وضع لصلاح الدين الأيوبي فيما بعدُ العقيدةَ التي التزمها وَدَرَّسَها لأبنائه وحمل الناسَ بمضمونها على المذهبِ الأشعري في الدولة الأيوبية(2)، كما توطدت الصلةُ بين الرازي إمامِ الأشاعرةِ في وقته وبين الملكِ العادلِ محمدِ بن أيوب أخي صلاح الدين (ت615هـ) فألف له الرازي كتاب ((أساس التقديس)) (3)، والذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية فيما بعد بموسوعته الرائعة في ((نقض أساس التقديس)).
فهذا انتشار المذهب الأشعري وهو انتشار سياسي أكثر منه انتشاراً فكرياً.
__________
(1) المنتظم 9/65.
(2) انظر في ذلك: التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص261، الخطط للمقريزي2/343.
(3) أساس التقديس ص:3، سير أعلام النبلاء، (22/120).(6/2)
أضف إلى ذلك وجود كبار من العلماء نصروا هذا المذهب فكان لهم التأثير في انتشاره وعلى رأسهم حُفَّاظٌ كالبيهقي وابن عساكر، وكذلك فقهاءٌ مبرزون كابن فورك والاسفرايني والشيرازي والجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والسبكي وابن العربي المالكي، وكذلك جماعة من العلماء المشْتَهَرِينَ بالتقدم في الأصول والمناظرة كالرازي والآمدي وغيرهم وكلهم كانوا دعاة لهذا المذهب وبعضهم كان متعصباً لذلك تعصباً شديداً كالسبكي تاج الدين.
إن العالم الإسلامي بعد محنة الأئمة من قِبَل الاعتزال وأهله في عهد المأمون ومن جاء بعده كان متشوفاً لرفع هذه المحنة، وقد قيض الله سبحانه إمامَ أهل السنة الصديق الثاني أحمد بن حنبل فوقف طوداً شامخاً أمام هؤلاء حتى زال أمرهم وثبت الناس على السنة، وبعد وفاته كانت المعتزلة قد بدأت تجمع شتاتها من خلال كبار مفكريها، وكان أبو الحسن الأشعري من كبار تلامذة أبي علي الجبائي المعتزلي وكان يُنظَّر لهم ما لم يحسنوا مثله لا قبله ولا بعده، فلما انقلب أبو الحسن على الفكر الاعتزالي ونَصَر مذاهب أهل الحديث في الجملة، اتجه الناس بقلوبهم إلى هذا الفكر الجديد وقبلوه لكثرة الحق الذي يظهر فيه من خلال ظهور الآثار النبوية عندهم، ولتصريح صاحبه في مقدمة الإبانة على أنه على مذهب الإمام أحمد، مما ساعد في قبول هذا الفكر والتغاضي عن أصولٍ عظيمةٍ بقيت فيه من كلام الاعتزال لم يفهمها الكثيرون وظنوا أنها مناوراتٌ فكريةٌ لا تُناقِضُ أصولَ أهلِ السنةِ والجماعةِ، أَضِفْ إلى ذلك احتجاجَ تلامذةِ الأشعريِ بعد ذلك بالآثار ولاسيما محدثيهم كالبيهقي وابن عساكر.(6/3)
ولذلك فقد وضع شيخ الإسلام ابن تيمية الميزان الصحيح في الحكم على الأشعري حيث قال(1):((لا ريب أن قول ابن كلاب والأشعري ونحوهما من المثبتة للصفات ليس هو قولَ الجهميةِ بل ولا المعتزلةِ، بل هؤلاء لهم مصنفاتٌ في الرد على الجهمية والمعتزلة وبيان تضليل مَنْ نفاها، بل هم تارة يكفرون الجهميةَ والمعتزلةَ وتارةً يضللونهم ... "إلى أن قال":وابن كلاب إمام الأشعرية أكثرُ مخالفةً لجهم وأقربُ إلى السلف من الأشعري نفسه، والأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثالُهُ أقربُ إلى السلف من أبي المعالي وأتباعِهِ.. ثم ذَكَرَ أدلةَ ذلك ثم ذكر أن الأشعري انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلةُ كمسألة الرؤية والكلام وإثباتِ الصفاتِ وَنَحْوِ ذلك، لكن كانت خبرتُهُ بالكلام خبرةً مفصلةً وخبرتُهُ بالسنة خبرةً مجملةً، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة كما فعل في مسألة الرؤية والكلام والصفات الخبرية وغيرِ ذلك، والمخالفون له من أهل السنة والحديث ومن المعتزلة والفلاسفة يقولون: إنه متناقض، وإن ما وَاَفَقَ فيه المعتزلةَ يناقضُ ما وافق فيه أهلَ السنة، كما أن المعتزلةَ يتناقضون فيما نصروا فيه دينَ الإسلام فإنهم بنوا كثيراً من الحجج على أصولٍ تُناقضُ كثيراً من دين الإسلام، بل جمهورُ المخالفين للأشعري من المثبتة والنُّفاةِ يقولون: إن ما قاله في مسألة الرؤية والكلام معلومُ الفسادِ بضرورةِ العقلِ، ولهذا يقول أتباعُهُ: إنه لم يوافقنا أحد من الطوائف على قولنا في مسألة الرؤية والكلام فلما كان في كلامه شَوْبٌ من هذا وَشَوْبٌ من هذا صار يَقُوُل مَنْ يَقُولُ: إن فيه نوعاً مَنْ التجهم، وأما مَنْ قال: إن قوله قولُ جهم فقد قال الباطل، ومن قال: إنه ليس
__________
(1) مجموع الفتاوى، (12/202) .(6/4)
فيه شيءٌ من قولِ جهمٍ فقد قال الباطلَ، والله يحبُّ الكلامَ بعلمٍ وعدلٍ، وإعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل الناس منازلهم)) أ هـ، كلام شيخ الإسلام وهو كلام متين رصين يبين الحق بعلم وعدل ويبين سببَ نَصْرِ كثيرٍ من العلماء مَذْهَبَهُ لما اشتمل عليه من حق وظهورٍ لأدلةِ السنةِ مقارنةً بالمعتزلةِ.
وأحسب أن الأشعري في آخر حياته كان أكثر التزاماً بأقوال السلف وفي تلك الفترةِ رجع عن الاعتزال، وذلك لتعلمه مذهب السلف وعلمه بمنهج ومآخذ أصحاب الحديث وطرق استدلالهم فَعَلِمَ ما لم يكن لديه علم به وقت تحوله عن الاعتزال.
ولنعد لقضية المذاهب الفقهية:
سبق أن الدكتور سفر ذكر أقوال أصحاب المذاهب الفقهية استطراداً وليس أصالةً، فماذا فعل د. عمر هداه الله.
أولاً حكم على د. سفر بالتدليس لأن الأشعري ولد بعد وفاة آخر الأئمة موتاً ودعاه إلى أَنْ لا يُدَلِّسَ على الناس، وليس في الأمر تدليسٌ ألبتةَ، بل عَدَمُ فهمٍ من الدكتور عمر لعبارات الحوالي، فالدكتور سفر قال: ((أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء)) ولم يقل أئمة المذاهب المتبوعين، فقوله ((من الفقهاء)) بين مراده وهو فقهاء المذاهب الأربعة لا من انتسب لهم، وهذا لفٌ جاء بعده نشره، فهو ليس تدليساً بل عدم فهم من الدكتور عمر فحسب، فرمى الناس بما هم منه بَرَاءٌ!!.
ثم حاول الدكتور عمر أن يطعن في ((ابن خويز منداد)) و ((الكرجي)) و ((الهروي)) و ((ابن أبي العز))، حتى يحقق أن ((كل)) المالكية و((كل)) الشافعية أشاعرةٌ إلى غير ذلك من الكليات المتوهمةِ، ولا ندري لماذا لم يتكلم عن ((أبي حامد الاسفرايني)) وموقِفِهِ من الأشاعرة والباقلاني مع أن د. سفر ذكره كما ذكر غيره.(6/5)
وكلام د. عمر في ذلك كلِّه يحمل خبطاً وعدمَ وضوحٍ في الرؤية والفهم، فمثلاً ينقل كلام التاج السبكي في الكرجي، وماذا عساه أن يقول السبكي وهو شديد التعصب للأشاعرة، أضف ذلك إلى أن كلامه ضعيف في رد ((قصيدة)) للكرجي إذ هو مبني على الاحتمالِ والظنِ لا غير.
وذكر د. عمر الإمام شيخ الإسلام الهروي الأنصاري، ثم نقل كلام السبكي عن الذهبي أن ابن تيمية كان يقول عن كتابه ((المنازل)) إنه مشتمل على الاتحاد، ففهم د. عمر أن ابن تيمية يقول على الهروي إنه ((اتحادي))، وهذا كمن يذكر عن أبي الحسن الأشعري أن كلامه في إثبات وجود الرب أو ما يسمى بدليل الجواهر والأعراض أنه مشتمل على الاعتزال، فَيَفْهَمُ أمثال الدكتور عمر أن الأشعري معتزلي!!، وكمن يقول إن كلام الحاكم أبي عبد الله مشتمل على تَشَيُّعٍ، فيأتي مَنْ يقول إن الحاكم رافضيٌّ(1)، أو يذكر أن كلام حماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى وأبي حنيفة مشتمل على إرجاء فينسب هؤلاء إلى المرجئة!!(2).
__________
(1) ذكر العلماء عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني والنسائي صاحب السنن والحاكم ونحوهم أنهم من متشيعة أهل السنة لكن لم ينسبوهم إلى الرفض!!.
(2) يذكر العلماء هذا المذهب باسم ((مرجئة أهل السنة)) وليسوا بالمرجئة لاتفاقهم على أن العملَ مطلوبٌ يتوقف عليه الإيمان لكن لا يدخل في مسماه، وكثير من هذا الخلاف هو لفظيٌّ وبعضُهُ معنويٌّ فيما بينهم وبين سائر أهل السنة.(6/6)
غير أن كلام الهروي محتمل ولم يقل ابن القيم في المدارج أنه كلام الاتحادية بل هو مجمل مُوهِمٌ شأنُهُ شأنُ كلام الغزالي في الإحياء حيث ذكر في كتاب التوحيد والتوكل ما نصه: ((فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحداً وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غايةُ علومِ المكاشفاتِ. وأسرارُ هذا العلم لا يجوز أن تُسَطَّرَ في كتابٍ فقد قال العارفون إفشاَءُ سرِّ الربوبيةِ كفرٌ .. ثم شبه ذلك بالإنسان وروحه وجسده ثم قال وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارةً تدومُ وتارة تَطْرَأُ كالبرق الخاطف وهو الأكثر ... ثم ذكر كلام الحلاج في الفناء في التوحيد (1)، ثم ذكر الاتحاد في الفعل وقال: وهكذا كان توحيد السالكين لطريق السالكين التوحيد في الفعل، أعني من انكشف له أن الفاعل واحد(2) أ هـ.
وهذه المواطن وغيرها من المشكلات على الأحياء، وقد نقل الزبيدي الاعتراضاتِ ومحاولةَ الردِّ عليها في شرحه، وعلى كلٍ فهي ألفاظٌ مجملةٌ مُوهِمَةٌ لكنها تصلح على مذهب د. عمر أن يوصف الغزالي عنده بالاتحاد سواءً بسواءٍ كما فهم هو من عبارة الذهبي عن قول شيخ الإسلام في بعض كلام الهروي ، ولشارح الطحاوية كلام لطيف في هذا إذ نقل بعض نَظْمِ الهروي في المنازل بعد وصفه له بشيخ الإسلام ثم قال: ((وإن كان قائله –رحمه الله- لم يرد به الاتحاد ، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه وأقسم بالله جَهْدَ أيمانِهِ أنه معه ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمالي فيها كان أحق))(3).
شارح الطحاوية والحنفية:
__________
(1) إحياء علوم الدين، ((مع شرحه للزبيدي)) 12/19-22.
(2) السابق، 12/ص52 ، 53.
(3) شرح الطحاوية، ص98 ط المكتب الإسلامي.(6/7)
وأما ((شارح الطحاوية)) ابن أبي العز الحنفي، فهو سلفي الاعتقاد، ولم يَرُقْ ذلك للأشاعرة والماتريدية فكالوا له الاتهاماتِ، ونقل د. عمر شيئاً منها، فنقل عن ابن حجر أن الحنفية في الديار المصرية أنكروا عليه، فعد د. عمر هذا كافياً في هدم هذا العالم حيث إن هذا كلام الأئمة فيه، ليوهم القارئ أن ذلك قَدْحٌ في الرحل، ولو أخذنا كلام الأئمة في معاصريهم يا د. عمر لم يبق لنا أحدٌ فهاك ما قاله ابنُ أبي ذئب في مالك، وما قاله ابن عُيَيْنَةَ في الشافعي، وما قاله الثوريُّ فيما نَقَلَهُ الخطيبُ في أبي حنيفةَ وهلم جرا، ولاسيما إن كان الأمر يتعلق بالعقيدة، فالمراد حينئذ لا إلى قول فلان وعلان، بل إلى النصوص والأدلة وهي ليست في جانبكم كما تعلم وتتظاهر بخلافه.(6/8)
وأما ما نقلته يا د. عمر عن أن مما استشنع على ابن أبي العز أنه قال: ((قوله يا خير خلق الله: الراجح تفضيل الملائكة...))، فهذا بتر للنص شأنك شأن السقاف(1)، ولعلك منه نقلت، وزاد السقاف أنه فهم من كلام ابن أبي العز أنه قدح في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، علماً أن كلام ابن أبي العز كان على قصيدة ((ابن أيبك)) والتي ذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ((يا خير خلق الله)) إلى آخر ما ذكره، فاعترض ابن أبي العز على مواطن فيها منها قوله حسبي رسول الله فقال: لا يقال هذا إلا عن الله تعالى، وقوله ((اشفع لي)) فقال: ((لا تطلب منه الشفاعة)) وقوله ((المعصوم مِنْ زَلَلِ)) فقال: إلا زلة العتاب، وقوله: ((يا خير خلق الله)) فذكر الخلاف في تفضيل الملك وغير ذلك، مِنْ مَنْعِ إطلاقِ لفظ العشق في حقه - صلى الله عليه وسلم- والحلف بغير الله أمور أُخر(2).
وقد عُقِدَتْ مجالسُ لمحاكمته في ذلك وَسُئِلَ عما أراد بها فقال: ((ما أردتُ إلا تعظيم جناب النبي - صلى الله عليه وسلم -))، وكل ما ذكره ابن أبي العز في المسائل السابقة فهو حق(3)، ومقابله باطل، إلا الخلاف المعروف في مسألة التفضيل بين الملائكة وصالحي البشر وقد رجح في شرحه للطحاوية الوقف، فما المستشنع في هذا يا د. عمر والمسألة خلافية قديماً وحديثاً!!
__________
(1) فإن هذا هو نفس ما ذكره حسن السقاف في رسالة أسماها: ((تهنئة الصديق المحبوب ونيل السرور المطلوب بمغازلة سفر المغلوب))، وهي مطبوعة عام 1414هـ، وهناك تشابه كبير في النقولات بها وما نقله د. عمر لاسيما في هذا الموضع فتأمل!!.
(2) انظر تاريخ ابن قاضي شهبة ص: 89 حوادث سنة784هـ.
(3) انظر تفصيل ذلك في ترجمته في مقدمة تحقيق التركي والأرناؤوط للطحاوية
ص:88، 107.(6/9)
أما ما جاء في الفقه الأكبر، فقد نقل د. عمر كلاماً يكاد يتطابق مع ما ذكره السقاف ولاسيما في الطعن على أبي مطيع البلخي، وفيه تدليس فيما ترجمه، فمثلاً ذكر د. عمر: ((وقبله السقاف))، أن الذهبي قال عنه في الميزان قال الإمام أحمد لا ينبغي أن يُروى عنه، وعن يحيى بن معين ليس بشيء وذلك في (1/574) من الميزان والعجب أنك إن قصدتَ نفس الصفحة وجدتَ فيها أيضاً عنه: ((كان بصيراً بالرأي، عَلَّامةً كبيرَ الشأن، ولكنه واهٍ في ضبطِ الأثرِ، وكان ابن المبارك يعظمه وَيُجِلُّهُ لدينِهِ وَعِلْمِهِ)) أ هـ.
وأبو مطيع مصدَّقٌ عند الحنفية فيما ينقلُهُ مِنْ مسائلَ فقهية عن أبي حنيفة، وحكايتُهُ في نَقْلَ إثباتِ العلو عنه نقلها الذهبي(1) وعزاها إلى كتاب الفاروق عن أبي مطيع البلخي بالإسناد وفيها أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن اللهَ يقولُ: {الرحمن على العرش استوى}[طه، آية:5]، وعرشه فوق سبع سماوات قلت فإن قال: إنه على العرش ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. أ هـ.
وقد عَلَّقَ ابنُ أبي العز على هذا النقلِ بقوله: ((ولا يُلْتَفَتُ إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائفُ معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير مِنْ اعتقاداته، وقد يُنْسَبُ إلى مالك والشافعي وأحمد مَنْ يخالفهم في بعضِ اعتقاداتِهم، وقصة أبي يوسفَ في استتابتِهِ لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورةٌ رواها عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حاتم وغيره))(2).
__________
(1) العلو (ص: 103).
(2) شرح الطحاوية، تحقيق التركي والأرناؤوط ص387.(6/10)
وأما ما نقلته يا د. عمر عن شارح الفقه الأكبر أنه قال: ((ومبتدعةُ الحنابلةِ قالوا كلامُهُ حروفٌ وأصواتٌ تقومُ بذاته وهو قديمٌ وَبَالغَ بعضُهم جهلاً حتى قال الجلدُ والقرطاسُ قديمان..الخ)) فأحب أن تذكر لي اسماً مِمَّنْ يقول بهذا من الحنابلة يا د. عمر علماً أن ابن تيمية وابن القيم لم يقولا شيئاً من ذلك، ولعلمك يا د. عمر فقد كان مُلاَّ على القاري مُعَظِّماً لهما ومما قاله: ((وَمَنْ طالع شرحَ منازلِ السائرين تبين له أنهما من أكابرِ أهلِ السنةِ والجماعةِ وَمِنْ أولياء هذه الأمة))(1).
البخاري وابن كلاب:
وأما ما يتعلق بـ((ابن كلاب)) فقد استدل د. عمر بكلام الذهبي في ترجمته وبما ذكره ابن حجر كذلك، علي كونه من أهل السنة ولا ندري كيف فهم د. عمر ذلك، فأما الذهبي فقد نقل الدكتورُ عنه أنه قال في سِيَرِ أعلام النبلاء (11/175): ((والرجلُ أقربُ المتكلمين إلى السنة بل هو في مناظريهم))، وهذا واضحٌ في أنه ليس من أهل السنة بل أقربُ إليهم يعني مُقارنةً بالمعتزلة والجهمية وَنَحْوِ هؤلاء، وأنه كان يناظر على السنة وأما ما ذكره ابن حجر مِنْ أن البخاري كان يستمد مباحثه الكلامية من ابن كلاب والكرابيسي وما استدل به د. عمر على ذلك من مسألة اللفظ، فهو من العجب أيضاً.
فأولاً: لم ندر أين المسائل الكلامية في كلام البخاري، إلا أن يراد بها كل ما يتعلق بالاعتقاد أو مسائل ((كلام الله)).
وثانياً: أن يقال: لا شك أن ابن كلاب والكرابيسي والأشعري لهم أقوال محمودة في الدفاع عن بعض معتقد أهل الحديث، فإذا استمد أحد منهم- البخاري أو غيره – ذلك منهم فهل يعني هذا أن البخاري كلابي؟!! ما هذا الفهم السقيم؟
__________
(1) مرقاة المفاتيح، 8/251-252 و للاستزادة جلاء العينين ص42 وما بعدها.(6/11)
وثالثاً: صدر البخاري باب ((وكان عرشه على الماء)) من كتاب التوحيد بأثر أبي العالية: استوى إلى السماء ارتفع(1)، وهذا ليس مذهب ابن كلاب، وقال في باب ((ما جاء في تخليق السموات والأرض: فالرب بصفاته وفعله وأمره وهو الخالقُ المكونُ غير مخلوق، وما كان بفعلِهِ وأمرِهِ وتخليقِهِ وتكوينِهِ فهو مفعولٌ مخلوقٌ مكون، وهذا أيضاً يخالف كلام ابن كلاب)) (2)، وفي خلق أفعال العباد ذكر أن: ((حِدَثَ اللهِ ليس كحِدَثِ المخلوقين))(3)، وهذا أيضاً مخالف لما يقوله ابن كلاب فكيف يَدَّعِى على البخاري أنه كلابي أو على مذهبه أو كان يستمد مباحثه الكلامية منه، وهذه الأصول كلها ضد مذهب الكلابية.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، (13/403).
(2) ونص ذلك ابن حجر، (13/440).
(3) خلق أفعال العباد، ص ... .(6/12)
ورابعاً: أن مسألة ((اللفظ)) ليس فيها مخالفة على التحقيق بين البخاري ومسلم وبين الإمام أحمد، والعجب أن د. عمر ذكر أولاً أن البخاري ومسلماً كانا على خلافٍ للإمام أحمد، ثم ناقضَ نَفْسَهُ فقال: لا مخالفةَ على التحقيق، وعلى كلٍ فقد اختلف الناس بعد موت الإمام أحمد حول مسألة اللفظ والبخاري ذكر في كتابه في ((خلق الأفعال)) أن كلتا الطائفتين لا تَفْهَمُ كلامَ أحمدَ، من قال : ((لفظي بالقرآن مخلوق))، ومن قال: ((غير مخلوق)) والأشعري والباقلاني وأبو يعلي يوافقون أحمدَ على الانكار على الطائفتين، ويجعلون سبب الكراهة كون القرآن لا يُلْفَظُ لأن اللفظ الطرح والرمي، وهذا غير صحيح قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}[ق،آية:18]، ولكن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة قالوا: من قال: لفظي بالقرآن وتلاوتي أو قراءتي مخلوقةٍ فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع لأن اللفظ والتلاوة والقراءة يراد به مصدر لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظاً، ومصدر قَرَأَ يَقْرَأُ قراءة، وتلا يتلو تِلاوةً، ويراد بالمصدر فعل العبد وحركاته فهذا المعنى ليس هو قديم باتفاق سلف الأمة وأئمتها.. والسلف والأئمة أنكروا على من قال: إن أقوال العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وقد يراد بالتلاوة والقراءة واللفظ نفس القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم- الذي هو كلام الله، ((أي اسم المفعول)) ومن قال إن كلام الله الذي أنزله على نبيه مخلوق فهو جهمي، ولهذا قال أحمد وغيره من السلف: القرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف والأئمة إن أصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة أو قديمة، ولا قال أيضاً أحد منهم إن المداد الذي يكتب به القرآن قديمٌ أو غيرُ مخلوقٍ، فمن قال: إن شيئاً من أصوات العباد أو أفعالهم أو حركاتهم أو مدادهم قديم أو غير مخلوق فهو مبتدعٌ ضال مخالفٌ لإجماعِ السلفِ والأئمةِ(1)
__________
(1) مجموع الفتاوى، (12/209-211) بتصرف.(6/13)
.
وفي هذا الأمر يقول ابن القيم في النونية:
وتلاوة القرآن في تعريفها ... باللام قد يُعْنَيا بها شيئان
يُعْنَيا بها المتْلُوُّ فهو كلامُهُ
ج ... هو غيرُ مخلوقٍ كذي الأكوانِ
وَيُرادُ أفعالُ العباد كصوتهم ... وأدائهم وكلاهما خَلْقَان
هذا الذي نصت عليه أئمةُ الـ ... إسلام أهلُ العلم والعرفان
وهو الذي قصد البخاريُّ الرضا ... لكن تَقَاصَرَ قاصرُ الأذهان
عن فهمه كتقاصُرِ الأفهامِ عن ... قول الإمامِ الأعظمِ الشيباني
في اللفظ لَمَّا أن نفى الضدين عنه ... واهتدى للنفي ذو عرفان
فاللفظ يصلح مصدراً هو فِعْلُنا ... كتلفظٍ بتلاوة القرآن
وكذاك يصلح نفس ملفوظ به ... وهو القُرانُ فذان محتملان
فلذاك أنكر أحمدُ الإطلاقَ في ... نفيٍ وإثباتٍ بلا فُرْقان(1).
الإمام أحمد:
تجهرم د. عمر على الإمام أحمد فقال: كان الإمام أحمد يُؤَوِّلُ بعضَ النصوص في الصفات التي يفيد ظاهرها التجسيم والتشبيه، قال ابن كثير في البداية والنهاية ((روى البيهقيُّ عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى {وجاء ربك}[الفجر، آية: 22]، أنه جاء ثوابُهُ ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبارَ عليه، ثم قال ابن كثير: ((وكلامه أي الإمام أحمد في نفيِ التشبيهِ وتركِ الخوض في الكلام والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه...)).
__________
(1) نونية ابن القيم بشرح ابن عيسى، (1/325).(6/14)
هكذا أورد د. عمر هذا الكلام، وبالرجوع إلى البداية والنهاية(1) تبين أن هذا النقل عن البيهقي من زيادة النساخ وليس من أصل كلام ابن كثير، والنسخة التي بها الزيادةُ بها كثيرٌ من النقول استدركها الناسخُ على ابن كثير كإعادةِ تراجمِ الحسنِ وابن سيرين وغيرهما، وقد اختلط كلام الناسخ بكلام ابن كثير في كثير من مواطنِ هذه النسخةِ كالموضعِ المشار إليه في إعادة ترجمتَيْ الحسنِ وابنِ سيرين.
__________
(1) البداية والنهاية تحقيق الملحم وآخرين، (10/341، 342).(6/15)
والنقل الثاني الذي أورده د. عمر هو في الأصل متقدمٌ على النقلِ الأولِ، ولكنَّ الدكتور عمر لم يراجع ما ورد إليه من قصاصات على أصولها، ثم إن الكلام مبتور لا يدرى ما آخره ، وأما رواية ((حنبل)) هذه فلم يَنْقُلْ هذا عن أحمدَ غيرُ حنبل مِمَّنْ نقل مناظرتَهُ في المحنةِ كعبد الله بن أحمد، وصالح بن أحمد، والمروزيِّ وغيرِهم، فاختلف أصحابُ أحمد في ذلك، فمنهم من قال: غلط حنبل، لم يقل أحمد هذا، وقالوا: حنبل له غلطاتٌ وهذا منها وهذه طريقةُ أبي إسحقَ بنِ شاقلا، ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم، يقول: إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيءِ والإتيان ولم يكن ذلك دليلاً على أنه مخلوق بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره، فلذلك قولوا: ثواب القرآن لا أنه هو نفسه الجائي(1) ، فإن التأويل هنا ألزم، فإن المرادَ هنا الأخبارُ بثوابِ قارئِ القرآنِ وثواب عمل له لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن، فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه ثم تأولتم ذلك بأمره فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فَلأَنَ تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأَوْلَى والأحْرَىا وإِذا قاله لهم على سبيل الإلزام لم يلزم أن يكون موافقاً لهم عليه وهو لا يحتاج إلى أَنْ يَلْتَزِمَ هذا، فإن هذا الحديث له نظائرُ كثيرة في مجيء أعمال العبادِ، والمراد مجيءُ قراءةِ القارئِ التي هي عملُهُ، وأعمالُ العبادِ مخلوقةٌ، وثوابُها مخلوقٌ ولهذا قال أحمدُ وغيره إنه يجيء ثوابُ القرآن والثوابُ يقع على أعمالِ العبادِ لا على صفاتِ الربِّ وأفعالِهِ(2)
__________
(1) يعني في حديث: ((تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافَّ))، وهو في مسلم،(ح804)، وكان الكلام عليه آنذاك في المحنة احتجت به المعتزلة على خلق القرآن، وهو احتجاجٌ باطلٌ، بل المرادُ ((قراءةُ)) العبدِ للبقرةِ وآلِ عمران.
(2) مجموع الفتاوى،(5/398)، (16/409)، دَرْءُ التعارضِ (7/149-150)، الاستقامة (1/75-76).(6/16)
.
فلا حجةَ لمن جعل هذا التأويلَ روايةً عن أحمد كابن عقيل وابن الجوزي فإن المنقولَ المتواترَ عن أحمدَ يناقضُ هذه الروايةَ، ويبينُ أنه لا يقول: إن الرب يجيءُ ويأتي وينزلُ أمره بل هو منكر على من يقول ذلك(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى، (5/401)، وأما ما نقله د. عمر عن الإمام أحمد في ((التجسيم)) فسيأتي بحثه في المراد من التجسيم والتشبيه إن شاء الله تعالى.(6/17)
تحقيق مذهب الأشاعرة في التفويض والتأويل وغيرهما:
إن مذهب الأشاعرة والماتريدية اِنْبَنَىا في حقيقةِ أمرهِ على التلقي من العقل لا السمع شاء ذلك الدكتور عمر أو لم يشأ، وقد أوضح صاحبُ المسامرةِ حقيقةَ ذلك بِأَنَّ ((الشرع إنما يثبت بالعقل، فإن ثبوته يتوقف على دلالةِ المعجزةِ على صِدْقِ المبلِّغِ، وإنما ثبتت هذه الدلالةُ بالعقل، فلو أتى الشرعُ بما يُكَذِّبُ العقلَ وهو شاهدُهُ لبطل الشرعُ والعقلُ معاً))(1)وعلى هذا بنى الرازي دليلَهُ الكليَّ في أساسِ التقديسِ(2) وسار عليه الأشعريةُ والماتريديةُ وطوائفُ كثيرةٌ.
والذي أحب أن أوضحه ههنا أن هذا الأصل في مصدر التلقي تفرع عنه الأصول الأخرى التي منها التفويضُ والتأويلُ وغيرُهما من المخارج التي يهرب بها المتكلمون من نصوص الشرع.
فإذا كانت الأدلةُ العقليةُ هي الأصلُ، وقد تقرر بموجبها كذا وكذا فأيُّ نص يخالف ذلك فلا بد أن يتم التعاملُ معه بحيث لا يخالف ما قرره العقل عندهم وذلك:
إما بتأويله بغريبِ الألفاظ ووحشيِّ الكلماتِ وإخراجه عن مراد قائله وإبعاده عن أن يتلقى منه الهدى والحق.
وإما برده بحجة كونه من أخبار الآحاد التي لا تثبت بها الحقائق وإنما تثبت الحقائق بالمقاييس العقلية التي أصَّلها من جاء بعد القرون المفضلة.
وإما القول بأن هذه النصوص من ((المجاز)) وَزِدْ وانقُصْ وحَرِّفْ بلا حُسْبَان فكلها مجازاتٌ بغير النظر إلى سياق أو دلالة.
وإما القول بأن هذه النصوص ((دلالات لفظية)) لا برهان تحتها وإنما البرهان فيما دلت عليه العقول لا غير.
وإما القول بِأَنَّ هذا ظاهر وهناك باطن، والظاهر لا يَحِلُّ تأويلُه لكنه حَلَّ لذي العرفان وصاحب الفلسفة والبرهان، وإنما جاء اللفظ هكذا لمصلحة الجمهور وأشار فيه إلى الحق إشارات خفية.
__________
(1) المسامرة شرح المسايرة لابن الهمام، ص31 ، 32.
(2) أساس التقديس (ص:172 ، 173).(7/1)
وإما أَنْ يُقَالَ هو لفظٌ جاء بغير معنى وإنما جاء هكذا للامتحان بقبوله أو رده فيجب ((تفويضه)) دون الاعتماد عليه في معرفة حق أو رد باطل.
وغير ذلك من المخارج التي يُلْقِيها المتكلمون ويعبأون بها في كتبهم.
فالمسألة ليست تفويضاً ولا تأويلاً، بل هو منهجُ تقديمِ العقلِ وتقديسِهِ وردِّ كلِّ ما يخالفه.
وكان الجَعْدُ بنُ درهم أصرحَ في الرد، فقال: ((ما اتخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً ولا كلم موسى تكليماً))، فكانت نهايتُهُ بسبب ذلك، أَنْ قَتَلَهُ خالدُ بنُ عبدِاللهِ القسري وذبحه في أصل المنبر يوم العيد.
يقول ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بجعدٍ خالدُ ... القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيمُ ليس خليلَهُ ... كلا ولا موسى الكليم الدان
شكر الضحية كل صاحب سنة
ج ... لله درك من أخي قربان(1).
ولم يجرؤ أحد هؤلاء المتكلمين بعد ((الجعد))، أن يفصح بالمخالفة والرد الصريح لنصوص الكتاب والسنة، فتستروا وراء التأويل والتفويض ورد الآحاد والظواهر اللفظية والباطن ... إلخ وإلا فالمحصل في الأخير واحد وهو رد دلالات الكتاب والسنة التي تخالف ما أَصَّلُوهُ.
__________
(1) نونية ابن القيم ((بشرح ابن عيسى))، ص50، 51، وقد روى هذه القصة ابن أبي حاتم والبخاري في خلق أفعال العباد وابن أبي عاصم وعبد الله بن أَحمد والطبراني وغير واحد كما بالشرح المذكور.(7/2)
والدكتور عمر لم يفترق عن هؤلاء، فهو يزعم أن مذهب أهل السنة كذا وكذا، فيُدخل فيه أموراً عقلية، مصادمةً للنصوص، فهو في (ص41) يقول ((لأن الاسم والصورة والكيف منتفيان عن الله تعالى))، وكأنه ما دري أن هذا الكلام مجمل يشتمل على باطل من حيثُ ظَنَّ أنه حقٌّ، لأنه ورد في النصوص لفظ ((الصورة)) كما في الصحيحين ((فيأتيهم الرب في صورته التي يعرفون)) (1). وفي حديث: ((إن الله خلق آدم على صورته)) (2)، وحديث: ((رأيت ربي في أحسن صورة)) (3)، وكذلك فإن نفي الكيف هو نفي للشيء، وإنما نَفَى السلفُ عِلْمَهُمْ بالكيف لاَ نَفْيَ الكيف في حدِّ ذاتِهِ ولذلك قالوا الكيف مجهول(4) أي غير معلوم لنا كما سيأتي تفصيله.
وكذلك نفى الدكتور عمر تأصيلاً كلَّ ما أَسْمَاهُ ((لازم الأجسام)) مثل: الكون في الأمكنة والحركة والحيز والكيف والتركيب وغير ذلك، وهذه كلها ألفاظ مجملة توسلوا بها إلى نفيِ عُلُوِ اللهِ تعالى على عرشه وأفعاله الاختيارية ومئات النصوص الدالة على ذلك.
__________
(1) وذلك في حديث الشفاعة، أخرجه البخاري في التوحيد، باب ((وجوه يومئذٍ ناضرة)) (13/419- ح7439)، وأخرجه مسلم في الإيمان، باب ((طريق الرؤية)) (1/167-ح183) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه البخاري في الاستئذان باب رد السلام (11/3-ح6227)، ومسلم في البر باب ((النهي عن ضرب الوجه)) (4/2017-ح2612).
(3) أخرجه الإمام أَحمد 5/343/378، وأخرجه الدارمي في الرؤيا باب ((في رؤية الله تعالى في النوم)) (2/170-ح 2149).
(4) وهي مقولةُ الإمامِ مالكٍ وربيعةَ وأُمِّ سلمةَ – رضي الله عنهم- .(7/3)
فالدكتور عمر لم يخرج عن هذا المنطق الفاسد من تأصيلِ أمورٍ عقليةٍ ثم رد وتحريف نصوص الكتاب والسنة المخالفة لهذا على أن المخالفين للكتاب والسنة وسلف الأمة – من المتأولين لهذا الباب- في أمر مَرِيجٍ، فإن مَنْ أنكر الرؤيةَ يزعم أن العقلَ يُحِيلُها، وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن يكون لله عِلْمٌ وقدرة، ويزعم أن كلامه مخلوقٌ ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل؛ بل من ينكر حقيقةَ حَشْرِ الأجسادِ والأكل والشرب الحقيقي في الجنة: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يَزْعُمُ أن الله ليس فوقَ العرش: يزعمُ أن العقلَ أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدةٌ مستمرةٌ فيما يُحيلُهُ العقلُ، بل منهم من يزعم أن العقل جَوَّز و أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة!؟ فرضي الله عن الإمام مالك ابن أنس حيث قال: ((أوكلما جاءنا رجل أَجْدلُ من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد- صلى الله عليه وسلم - لجدل هؤلاء)).
وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وبيانه من وجوه:
((أحدها)): بيان أن العقل لا يحيل ذلك.
و((الثاني)): أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.
و((الثالث)): أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان؛ فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية، في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبواتُ.
((الرابع)): أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص؛ وإن كان في النصوص من التفصيل ما يَعْجِزُ العقل عن دَرْكِ تَفْصِيلِهِ، وإنما يعلمه مجملاً إلى غير ذلك من الوجوه. على أن الأساطين من هؤلاء الفحول: معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامةِ المطالب الالهية.(7/4)
وإذا كان هكذا فالواجب تَلَقِّي علمِ ذلك من النبواتِ. على ما هو عليه، ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودينِ الحقِ؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأنه بَيَّنَ للناس ما أخبرهم بِهِ من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر.
والإيمان بالله واليوم الآخر: يتضمن الإيمانَ بالمبدأِ والمعادِ. وهو الإيمان بالخلق والبعث. كما جمع بينهما في قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا
بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}[البقرة، آية:8]، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}[لقمان، آية:28]، وقال تعالى:{وهو الذي
يبدأ الخلق ثم يعيده}[الروم، آية:27]، وقد بين الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى اللهُ به عبادَهُ، وكشف به مرادَهُ.
ومعلوم للمؤمنين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمُ مِنْ غيره بذلك، وأنصح من غيره للأمة، وأفصح من غيره عبارة وبياناً بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة، وأفصحهم فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدر والإرادة.
ومعلوم أن المتكلم، أو الفاعل، إذا كمل علمه وقدرته وإرادته: كمل كلامه وفعله، وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه، وأما من عجزِهِ عن بيانِ عِلْمِهِ، وإما لعدم إرادته البيان.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الغايةُ في كمال العلم، والغايةُ في كمالِ إرادةِ البلاغِ المبين والغاية في قدرته على البلاغ المبين- ومع وجود القدرة التامة، والإرادة الجازمة؛ يجب وجود المراد؛ فعلم قطعاً أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك أكمل العلوم. فكلُّ مَنْ ظن أن غير الرسول أعلمُ بهذا منه، أو أكملُ بياناً منه أو أحرصُ على هدى الخلق منه: فهو من الملحدين لا منِ المؤمنين.(7/5)
والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم في هذا الباب: على سبيلِ الاستقامةِ(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/28-31) .(7/6)
رجوع الرازي والجويني وموقف النووي وابن حجر:
حشد د. عمر خيله ورجله في مسألة رجوع الرازي والجويني وصدر كلامه بالنقل عن د. سفر في حيرةِ وتوبةِ ورجوعِ الجويني والرازي والغزالي، فقام الدكتور عمر بترديد ما قاله بعضهم من أن الرازي والجويني رجعوا إلى التفويض عوضاً عن التأويل ولم يتكلم عن الغزالي. علماً أن سؤال الدكتور سفر والذي أورده د. عمر في كتابه لا يزال جَذَعاً ((إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا؟)).
وإذْ لَمْ يرُدَّ عليه الدكتور عمر فأغلب الظن أنه لم يفهمه، فأحاول الآن أن أبينه لك يا د. عمر:
إن كنتَ كأسلافك تزعم أن مذهب السلف هو إما التأويل وإما التفويض، فعليه مَنْ أَخَذَ بأحدِهما – على زَعْمِكَ- يكون على الحقِ، فلم كانت حيرةُ هؤلاء وتذبذبهم ؟!!
فإن زعمت أنهم اختاروا التأويل أولاً ثم رجعوا إلى التفويض الذي هو مذهب السلف فهذا ينقض أصلك بأن كُلاً من التفويض والتأويل حق.
وإن زعمت أنه ترجيح منهم لأحد الأمرين وأنه كان لابد من التأويل أولاً لأنه ((الآلة التي تذبح بها خراف الباطل))، على حد تعبيرك، ثم لما حانت الوفاة عدل إلى ((التفويض)) لأنه هو السلامة، فهو اعتراف ضمني بمفهوم المخالفة أن المؤولَ ليس على السلامة، فكيف يكون التأويلُ هو مذهبُ السلف.
ثم ألم تتأولْ المَلاحِدَةُ نصوص الشريعة والمعاد واليوم الآخر بهذه الآلة التي تذبح بها خراف الباطل؟ ماذا جنى التأويل على الأمة؟ ألم يقتل عثمان بالتأويل الفاسد؟ ألم تَرْفُضْ الرافضةُ وتَخْرُجْ الخوارجُ بالتأويل الفاسد؟ ألم يَجْنِ التأويلُ على الأمة ما جنى في الفتن كلها من مقتل علي - رضي الله عنه - ثم كربلاء والحَرَّة وغيرها؟؟
ماذا استفدنا من التأويل يا د. عمر؟!(8/1)
إن الصواب أن يقال في التأويل: إنه السكين الذي تذبح به الحقيقةُ، وهو الآلةُ التي يُهْدَمُ بها أصلُ الدين فاتقِ الله يا د. عمر.
أما الجويني وحيرتُهُ:
فهذا مشهور، وتعظيمه لطريقة السلف ظهرت في كتاب ((الغياثي))، وهو من أواخر كتبه، بل ألفه بعد النظامية لأنه أحال فيه عليها، وقد أوصى فيه مغيث الدولة ((نظام الملك)) قائلاً: ((والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء، وكانوا - رضي الله عنهم - ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون - رضي الله عنهم - عما تعرض له المتأخرون عَنْ عِيٍّ وَحَصَرٍ، وَتَلَبُّدٍ في القرائح، هيهات، قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجَحَهُمْ بياناً...)) (1).
ولما دخل عليه الهمذاني وهو يُقَرِّرُ نَفْيَ العلوِ فذكر له الضرورة التي في النفوس في طلب العلو لا يمنة ولا يسرة، بكى حتى أَخْضَلَ لِحيته قائلاً: حيرني الهمذاني وهي قصة مشهورة صحيحة(2).
وحكى أبو الفتح الطبري أنه دخل على أبي المعالي في مرضه فقال: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأَني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور(3).
__________
(1) غياث الأمم في التياث الظلم (ص190-191).
(2) العلو للذهبي ص188، سير أعلام النبلاء(18/474-475 ، 477)، وقال عنها الألباني:إسناد هذه القضية صحيح مسلسل بالحفاظ، كما في مختصر العلو ص277.
(3) السير، (18/474).(8/2)
فهل كانت مقالته بالتأويل قبل ذلك ((تُخالفُ السنةَ))، يا د. عمر، وإلا فعن أي شيء رَجَعَ؟ لا يزال سؤال د. سفر جَذَعاً، وأصرح منه ما قاله كما بالسير: ((قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى عَنْهُ أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى "كلمة الحق"، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني)) (1).
فإذا كان رجوعه إلى كلمة الحق، فما الذي كان عليه قبل ذلك، وما الذي نهى أهل الإسلام عنه مما دخل فيه يا د. عمر ولا يزال سؤال د. سفر جَذَعاً !!!
ووصيته تبقى لأمثالكم: قال أبو الحسن القيرواني الأديب- وهو من تلاميذ الجويني- سمعت أبا المعالي يقول: ((يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به)) (2).
فإذا كان الكلامُ حقاً فما الذي بلغ به الجويني ما بلغ عند الاشتغال به ولِمَ نهى أصحابه عنه.
ومع كل هذا ينفي حيرةَ رجوعِ الجويني ويطالب بالبرهان.
وأضيف إلى ذلك أيضاً يا د. عمر أن الجويني رجع في النظامية في مسائل أشهرها مسألتان:
مسألة القدرة الحادثة وقوله: إنها مؤثرة بعد أن كان يرى أنها غير مؤثرة.
__________
(1) السير، (18/474).
(2) سير أعلام النبلاء، (18/474)، المنتظم لابن الجوزي، (9/19).(8/3)
مسألة الصفات الخبرية، فإنه قال: ((اختلفت مسالكُ العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزم هذا المنهج في آي الكتاب وما يصح من سنن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقلاً اِتِّباعُ سلفِ الأمةِ، فالأَوْلَى الاتباعُ وتركُ الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة. وقد درج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة... )) (1)، ورجوع الجويني في النظامية لم يكن رجوعاً كاملاً إلى مذهب السلف في جميع مسائل العقيدة وعلم الكلام، والدليل على ذلك:
أن رجوعه بالنسبة للصفات كان إلى التفويض، وليس هذا مذهب السلف ((تفويض المعاني)).
أن الجويني أبقى على بعض المسائل وعرضها كما هي في مذهبه الأول، ومنها مسألة حدوث الأجسام، وكلام الله، ومنع حلول الحوادث التي هي مسألة الصفات الاختيارية، والرؤية بلا مقابلة، كما أنه أول بعض الصفات مثل المحبة أولها بالإرادة، وفي الإيمان ذكر أولاً أنه التصديق، ثم ذكر عند الكلام على زيادة الإيمان ونقصانه قول السلف: إنه معرفة بالجنان وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وقال: ((هذا غيرُ بعيد في التسمية))، لكنه ذكر بعدُ القولَ الآخر؛ أنه التصديق، ولم يرجح بينهما(2).
الرازي ورجوعه:
__________
(1) النظامية، ص32-33.
(2) موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود، 2/621.(8/4)
إن المطالع لكتب الرازي ((المطالب العالية))، و((أقسام اللذات))، وكذا ((وصيته))، يعلم تمام العلم أن الرازي لم يكن رجوعه قط إلى اختيار التفويض على التأويل بل رجوع عن مناهج الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بـ((الحكماء)) ثم رجوعه عن مذهب المتكلمين، والظاهر أن هذا الرجوع كان تدريجياً،فهو كان يرى صحة هذا المذهب، ثم رأى أن طريقة القرآن أقرب وأصوب، ثم رآها الأصلح وصرح بالندم على التوغل في الطرق الكلامية والفلسفية، بل وتمنى أنه لم يولد أصلاً.
ففي المطالب العالية لما ذكر أدلة وجود الله رجح طريقة القرآن ثم قال: ((ونختم هذه الفصول بخاتمة عظيمة النفع، وهي أن الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية، إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة ولسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات، وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد، وهو المنع من التعمق، والاحتراز عن فتح باب القيل والقال، وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وَجَرَّبَ مثلَ تجربتي عَلِمَ أن الحق ما ذكرتُهُ)) (1).
وفي وصيته المشهورة قال فيها: ((لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن))، ثم قال: ((ديني متابعةُ الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي القرآنُ العظيمُ وتعويلي في طلب الدين عليهما))(2).
__________
(1) المطالب العالية عن ((فخر الدين الرازي وآراؤه الفكرية والفلسفية)) لمحمد صالح الزركاني [ط.دار الفكر] ص 198.
(2) تاريخ الإسلام للذهبي، (18/242-243).(8/5)
وفي أقسام اللذات- آخر كتبه- قال: ((وأما اللذة العقلية فلا سبيل إلى الوصول إليها والتعلق بها، فلهذا السبب نقول يا ليتنا بقينا على العدم الأول وليتنا ما شهدنا هذا العالم، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن، وفي هذا المعنى قلت:
نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ
ج ... وغايةُ سَعْىِ العالمين ضلالُ
وأرواحُنا في وحشة من جسومنا ... وحاصلُ دنيانا أذًى ووبالُ
ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عَمْرِنا ... سِوَىا أَنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا
فكم قد رأينا من رجالٍ ودولةٍ ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتِها ... رِجَالٌ فزالوا والجبال جبال(1).
ثم قال- ((واعلم أن بعد التوغل في هذه المضائق، والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل...)) (2).
وقال: ((لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات)): {الرحمن على العرش استوى} [ طه ،آية:5]، و{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر،آية:10 ]، وأقرأ في النفي {ليس كمثله شيء} [الشورى،آية:11]، {ولا يحيطون به علما} [طه،آية:110]، ثم قال من جرب مِثْلَ تجربتي عرف مِثْلَ معرفتي))(3) أ هـ.
وحتى من تكلم عن الرازي ذكر حيرته واضطرابه ورجوعه.
__________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي، (18/242-243) وتقي الدين في طبقات السبكي(8/90) والزركاني، (ص638)، سير أعلام النبلاء21/500.
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، (ص194-195).
(3) سير أعلام النبلاء (21/500)، شرح الطحاوية ص228، مجموع الفتاوى، (4/72-73)، (5/562)، العقل والنقل (1/159-160)، البداية والنهاية (13/61 ، 62).(8/6)
فقد ترجم له الذهبي في الميزان فقال: رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري عن الآثار، وله تشكيكات على مسائل دعائم الدين تورث الحيرة، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى(1).
وقال في سير أعلام النبلاء عنه: ((وقد ثبت في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة والله يعفو عنه فإنه توفى على طريقة حميدة والله يتولى السرائر))، وساق الذهبي كلامه في وصيته المتقدمة(2).
وترجمه الشهرزوري (ت687هـ) فقال عنه: ((له مصنفات في أكثر العلوم إلا أنه لا يذكر في زمرة الحكماء المحققين ولا يعد في الرعيل الأول من المدققين، أورد على الحكماء شكوكاً وشبهاً كثيرة وما قدر أن يتخلص منها، وأكثر من جاء بعده ضل بسببها، وما قدر على التخلص منها)) ... وقال عنه ((هو شيخ مسكين، متحير في مذاهبه التي يخبط فيها خبط عشواء))(3).
__________
(1) ميزان الاعتدال، (3/340)، في ترجمته في حرف الفاء [الفخر الرازي].
(2) سير أعلام النبلاء (21/500).
(3) نزهة الأرواح (2/144-146).(8/7)
وترجمه ابن كثير في البداية فقال عنه: ((وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه ثم نقل عن أبي شامة أنه قامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله: قال محمد البادي يعني العربي يريد به النبي- صلى الله عليه وسلم - نسبة إلى البادية، وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة بين جهة الخصوم بعبارات كثيرة، ويجيب عن ذلك بأمر في إشارة وغير ذلك))(1)، وفي هذا الأخير ينقل ابن حجر في اللسان عن بعض المغاربة أن الرازي ((يورد الشبه نقداً ويحلها نسيئة))(2).
ولو أردنا أن ننقل الحيرة والاضطراب والتناقض في كلام الرازي لطال المقام بنا جداً(3)وفيما سبق إشارات تؤكد أن د. عمر لم يطلع على كلام الرازي ولا على كتبه، وكتاب المطالب العالية التي ينقل منه د. عمر ((دون بيان الموضع))، ذكر الرازي فيه الاعتماد على السحر والتنجيم وذكر من أدلة صحة هذا: إطباق العالم من قديم الدهر على التمسك بعلم النجوم ثم ذكر وجوب ذلك في كلام غريب(4)، وذكر اتخاذ القرابين وإراقة الدماء لغير الله وقال ((إنه لما دلت التجارب عليها وجب المصير إليها)) (5).
__________
(1) البداية والنهاية، (13/61)، حوادث 606هـ، وانظر ذيل الروضتين ص68.
(2) لسان الميزان 4/427.
(3) انظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/654-678) لترى شيئاً من ذلك مما نقله المحمود عنه.
(4) المطالب العالية (ص210، 216) جزء النبرات وانظر (ص219-223) منه.
(5) المطالب العالية (ص243)، وانظر المحمود (2/667).(8/8)
وصرح كذلك في المباحث المشرقية بالجبر فقال: ((فثبت بهذا أن أفعال العباد بقضاء الله وقدره وأن الإنسان مضطر باختيار، وأنه ليس في الوجود إلا الجبر))(1)، وقال في المحصول بلزوم الجبر أيضاً(2).
فإذا كان تراجع الرازي عن مذهبه كذب على أهل الحق فماذا يبقى لنا من كلامه: تأكيدٌ للفلسفة وتحسينٌ لها(3)، وقولٌ بالسحرِ والتنجيمِ والجبرِ، وقانونٌ كليٌّ في نَقْضِ أدلةِ السمعِ وغير ذلك.
يا د. عمر ارفق بالرازي فإن القول برجوعه عن الضلالات أيسر من القول ببقائه على هذه الطامات.
__________
(1) المباحث المشرفية 2/517.
(2) المحصول (1/2/380).
(3) ولاسيما في شرحه للإشارات (2/144).(8/9)
الغزالي والنووي وابن حجر:
لم يتعرض د. عمر للغزالي، ولذا فلن أطيل في الكلام على رجوعه، وذلك لأن النقل الذي نقله د. عمر عن د. سفر الحوالي (ص:40) كان يشمل الغزالي إضافة للجويني والرازي وقد نقل الغزالي في إحياء علوم الدين كلاماً طويلاً عن ذم السلف لأهل الكلام، وقد ذكر أولاً الخلافَ فيه وأن من الناس من قال: ((إنه بدعةٌ محرمٌ، ومنهم من قال: إنه واجبٌ على الكفاية، والأعيان، قال: ((وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف..))(1).
ثم ذكر نماذَج عديدةً من أقوالهم في ذمه، وبعد أن ذكر رأيَ الطائفة الأخرى المجوزة وحججها(2)، قال: ((فإن قلت فما المختار عندك فيه فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال أو بحمده في كل حال خطأ ... فالأَوْلَى والأبْعَدُ عن الالتباس أن يُفَصَّل، فنعود إلى علم الكلام ونقول: إن فيه منفعة وفيه مضرة، فهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.
أما مضرته: فإثارةُ الشبهات وتحريكُ العقائد وإزالتُها عن الجزمِ والتصميمِ، فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاصُ، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، ولهُ ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعةِ للبدعةِ، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليها.
__________
(1) إحياء علوم الدين، (1/94-95)، ودرء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام، (7/146-266).
(2) إحياء علوم الدين، (1/94-95).(9/1)
وأما منفعته: فقد يُظَن أن فائدتَهُ كشْفُ الحقائقِ ومعرفَتُها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيطَ والتضليلَ فيه أكثرُ من الكشفِ والتعريفِ، وهذا إذا سمعته من مُحدثٍ أو حَشْوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداءُ ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قَلاَهُ بعْدَ حَقِيقَةِ الخِبْرَةِ، وبعد التغلْغُلِ فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور))(1).
وقد علق على ذلك صاحب شرح الطحاوية فقال: ((وكلام مثله في ذلك حجة بالفقه، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبةٍ مخالفةٍ للحق، ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهلٌ فَيُرْتَقَى ولاسمينٌ فيُنتقى، وأحسنُ ما عندهم فهو في القرآن أصحُّ تقريراً، وأحسنُ تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلفُ والتطويلُ والتعقيدُ كما قيل:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد
يحللون بزعم منهم عقداً ... وبالذي وضعوه زادت العقد
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وصفوه الشُّبهَ والشُّكوكَ، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك))(2).
* النووي وابن حجر:
يا ليتك يا دكتور عمر قرأت ما كتبه د. سفر في هذا الجانب حتى لا تكلفني عناء أن أنقله لك حيث قال:
__________
(1) الإحياء، (1/96-97)، درع التعارض، (7/162-164).
(2) شرح الطحاوية ص224، والمغني والعمد للقاضي عبد الجبار في الكلام.(9/2)
((على أن الموضوع الذي يجب التنبه له هو التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم، وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد، أو متابعة خاطئة، أو جهل بعلم الكلام، أو لاعتقادِهِ أنه لا تعارض بين مآخذهم وبين النصوص.
ومن هذا القسم أكثر الأفاضل الذين يحتج بذكرهم الصابوني وغيره وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر- رحمه الله- .
ولست أشكُّ أن الموضوعَ يحتاج لبسط وإيضاح ومع هذا فإنني أقدم للقراء لمحةً موجزة عن موقف ابن حجر من الأشاعرة:
من المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضَبَطَ المذهبَ وَقَعّدَ أصولَهُ هو الفخر الرازي (606هـ) ثم خلفه الآمدي (631هـ) والأرموي (655هـ) فنشرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب.
وَنَقْدُ فِكْرِ هؤلاء الثلاثةِ هو الموضوعُ الرئيسُ في كتابِ دَرْء التعارض لشيخ الإسلام.
وأعقبهم الإيجي صاحب المواقف- الذي كان معاصراً لشيخ الإسلام ابن تيمية- فألف "المواقف" الذي هو تقنينٌ وتنظيمٌ لفكر الرازي ومدرسته، وهذا الكتاب هو عمدةُ المذهب قديماً وحديثاً.
وقد ترجم الحافظ الذهبي - رحمه الله - في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هم أهلُهُ، ثم جاء ابن السبكي- ذلك الأشعري المتعصب – فتعقبه وعنف عليه ظلماً.
ثم جاء ابن حجر – رحمه الله- فألف لسان الميزان فترجم لهما بطبيعة الحال- ناقلاً كلام ابن السبكي ونقده للذهبي- ولم يكن يخفَىا عليه مكانتهما وإمامتهما في المذهب كما ذكر طرفاً من شنائع الأرموي ضمن ترجمة الرازي.
فماذا كان موقف ابن حجر؟ لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءَهُ لفكر هؤلاء القوم أو عدمه؟
إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول: إن ابن حجر على مذهبهما أبداً، كيف وقد أورد نقولاً كثيرة مُوَثَّقَةً عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلاً عمن هو في عِلْمِ الحافظ وفضلِهِ.(9/3)
على أنه قال في آخر ترجمته للرازي: "أَوْصَي بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده".
وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا، فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف.
فبعد هذا نسأل:
أكان ابن حجر يعتقد أو يؤيد عقيدة الرازي التي في كتبه أم عقيدته التي في وصيته؟ الإجابة واضحة من عبارته نفسها.
هذه واحدة، والأخرى: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم فمثلاً:
خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير.
ونقدهم في مسألة المعرفة وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره.
كما أنه نقد شيخهم في التأويل "ابن فورك" في تأويلاته التي نقلها عنه في شرح كتاب التوحيد من الفتح، وذم التأويل والمنطق مرجحاً منهج الثلاثة القرون الأولى.
كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا.
والذي أراه أن الحافظ – رحمه الله- أقرب شيء إلى عقيدة مُفَوِّضَةِ الحنابلة كأبي يعلي ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل، ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها لكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية.
وقد كان من الحنابلة من ذهب إلى أبعد من هذا كابن الجوزي وابن عقيل وابن الزاغوني، ومع ذلك فهؤلاء كانوا أعداء ألداء للأشاعرة ولا يجوز بحال أن يعتبروا أشاعرة فما بالك بأولئك!!
والظاهر أن سبب هذا الاشتباه في نسبة بعض العلماء للأشاعرة أو أهل السنة والجماعة هو أن الأشاعرة فرقة كلامية انشقت عن أصلها "المعتزلة" ووافقت السلف في بعض القضايا وتأثرت بمنهج الوحي، في حين أن بعض مَنْ هم على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصل تأثروا بسبب من الأسباب بأهل الكلام في بعض القضايا وخالفوا فيها مذهب السلف.(9/4)
فإذا نظر الناظر إلى المواضع التي يتفق فيها هؤلاء وهؤلاء ظن أن الطائفتين على مذهب واحد، فهذا التداخل بينهما هو مصدر اللبس.
وكثيراً ما تجد في كتب الجرح والتعديل – ومنها لسان الميزان للحافظ ابن حجر- قولهم عن الرجل: إنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم وهكذا، ومع هذا لا يعتبرونه معتزلياً أو خارجياً.
وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي وأمثالهما لم يصح اعتبارُهم أشاعرةً؛ وإنما يقال وافقوا الأشاعرة في أشياء مع ضرورة بيان هذه الأشياء واستدراكها عليهم حتى يمكن الاستفادة من كتبهم بلا توجس في موضوعات العقيدة))(1).
يا د. عمر ليس كل من وافق الرافضة في أمر يكون رافضياً، وكذا ليس كل من وافق الجهمية في أمرٍ يكون جهمياً وهكذا دواليك.
وإلا فقد نقل البخاري عن محمد بن يوسف الفريابي أنه ذكر ((محمد بن الحسن الشيباني)) بالتجهم لأجل قوله في القرآن، وعلى هذا النحو جماعة من الأعلام كان بهم تشيع يسير كالحاكم أبي عبد الله والنَّسائي وعبد الرزاق الصنعاني، وما قيل في عكرمة مِنْ قوله بالسيف، وفي جماعة من أهل البصرة بقولٍ في القدر كقتادة والدستوائي. وَنُسِبَ للإِرجاءِ أبو حنيفة وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان وجماعة، وهذا كله يكون موافقه في مسألة وليس في جملة الأقوال(2).
__________
(1) منهج الأشاعرة في العقيدة لسفر الحوالي ص14-ص17.
(2) تقريب وترتيب الطحاوية ط20 ص277.(9/5)
قال ابن حزم في الملل والنحل: ((فأما المرجئة، فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر، فمن قال إن العبادة من الإيمان، وأنه يزيد وينقص ولا يكفر مؤمناً بذنب، ولا يقول إنه يخلد في النار، فليس مرجئاً، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم، وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال القرآن مخلوق وأثبت القدر ورؤية الله تعالى في القيامة وأثبت صفاتِه الواردةَ في الكتاب والسنة وأن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي وإن وافقهم في سائر مقالاتهم وساق بقية ذلك))(1).
فهذا أمر مُتَيَقَّنٌ به في طوائفَ كثيرةٍ وأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل يفرع منها، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير(2).
وأما كلامك على النووي بأنه كان أشعرياً، وأردت يا د. عمر إثبات ذلك بمواضع من التأويل، فهو خبط، لأن ابنَ الجوزي وابنَ عقيل وأمثالَهما كانوا يتأولون ولم يكونوا أشاعرة بل حطُّ ابن الجوزي على الأشاعرة مشهورٌ وقد ذكرت ذلك أنت أيضاً(3)، فكيف تثبت أشعريته من ذلك يا د. عمر!!
وأماَ وصْفُ التاج السبكي للنووي بالأشعرية، فهو انتحال، كما تقدم، فإن أهل الأهواء ينتحلون الصفة التي هي عليها لطائفة من المشاهير فلا يُعَوّلُ عليه.
وأما قول النووي ((أصحابنا المتكلمون)) فواضح، لكن عُمِّيَ عليك وعلى سَقَّافِكَ مِنْ قِبَلِ فَهْمِ ذلك، فمراد النووي أي ((الشافعية المتكلمون)) ولم يرد ((الأشاعرة)) من غير الشافعية ألبتةَ قطُّ أبداً، أي مراده: قال بذلك الشافعية أصحابنا ممن اشتغل بالكلام كالإسفرايني مثلاً، ويكون الكلام في قضيةٍ فَرْعيةٍ متعلقةٍ بالتوحيد كالنقل الذي ذكرته يا د. عمر.
__________
(1) في أول الفصل ونقله الحافظ مستحسناً له في الفتح، (13/346).
(2) شرح الطحاوية ، ص 358.
(3) الظاهر أنك تابعت ((السقاف)) في هذا أيضاً فالنقول واحدة وتكاد تكون العبارات كذلك فسبحان الله.!!(9/6)
يا د. عمر أين قال النووي بالجزء الذي لا يتجزأ، وبالجبر ، وبأن الله
لا داخلَ العالم ولا خارجَ العالم صراحةً، وبالمنع مِنْ صفات الأفعال لأن إثباتها يمنع إثبات حدوث العالم، وأين قال برد الأحاديث للقانون الكلي.. إلخ.
اتق الله يا دكتور عمر قبل أن تنشر سُوءَ ما كتبتَهُ على الناس.(9/7)
التشبيه والتجسيم :
التشبيه:
عقد د. عمر مطلباً لبيان المقصود بالتشبيه والتجسيم، فعرض أولاً للتشبيه وذكر المعنى اللغوي ثم بنى عليه المعنى الاصطلاحي، وبادئ ذي بدء فلا علاقة بين ما ذكره لغة واصطلاحاً، فقد ذكر من معاني التشبيه لغة: ((المثل والتماثل والتمثيل... الخ)) ثم قال وعلى هذا فالتشبيه: هو إثبات المماثلة بين الله تعالى وبين شيء من خلقه بوجه من الوجوه، ثم ذكر سبب التقييد بوجه من الوجوه حذراً من التشبيه في صفة واحدة (ص52).
وإنا لنعجب مثل الدكتور عمر وهو الذي درس وعلَّم شطراً من حياته أصول الفقه، وما فيه من حدودٍ وتعاريفَ كيف قصَّر في ذلك، حتى إنه لم ينسب هذا التعريف الاصطلاحي لأحد وحُقَّ له ذلك، فمن ذا الذي يعرف بهذا التعريف المتهرئ!!
يا دكتور عمر: إن قولك ((بوجه من الوجوه)) يدخل فيه التماثل في اللفظ والمعنى العام الكلي الذي لا يمكن الاحتراز منه، فالله سبحانه وصف نفسه بأنه سميع بصير، ووصف الإنسان بذلك {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا}[الإنسان، آية:2]، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير وإن كانت المشابهةُ واقعةً في اللفظ ومادته، وفي المعنى العام الكلي، فالسمع متعلق بالأصوات والبصر متعلق بالمرئيات، ولكن حقيقة سمع الله وبصره لا تماثلها حقيقةُ سمعِ الإنسان وبصره، فلكلٍّ ما يخصه بَعْدَ القيدِ والإضافةِ .(10/1)
فإذا نفينا المشابهة ههنا وقعنا في إشكال عظيم يؤدي إلى نفيِ وجودِ اللهِ وقيامِهِ بالنفسِ، لأن المخلوقَ موجودٌ قائمٌ بالنفس ... إلخ، وهذا كله يدخل تحت تعريف د. عمر المبتَدَع ((بوجه من الوجوه)) لذلك نَصَّ أئمةُ الإسلام أن مجرد الاعتماد فيما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدَّسٌ عنه، فإن هذه طريقةٌ صحيحةٌ(1).
ولذلك فإن حذاقَ المتكلمين لما ذكروا التماثلَ الممتنعَ ذكروا أنه الذي يلزم منه أن يكون قد جاز على الرب ما يجوز على المخلوق، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه، وإذا قلنا إن الأمر كذلك، فإن هذا القدر المشترك في اللفظ والمعنى العام الكلي لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه، ولا ينفي ما يستحقه.
فإذا قيل إنه سبحانه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حياً سميعاً بصيراً فإن ذلك لا يقتضي حدوثاً ولا إمكاناً ولا نقصاً ولا شيئاً مما ينافي صفات الربوبية، وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر أو السميع أو البصيرأو القدرة أو القدير، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه.
__________
(1) انظر في ذلك: الرسالة التدمرية ضمن مجموع الفتاوى، (3/74).(10/2)
فإذا كان القدرُ المشتركُ الذي اشتركا فيه صفة كمال، كالوجود والحياة والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذورٌ أصلاً، بل إثباتُ هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وُجودِ كلِّ موجودٍ، ولهذا لما اطلع الأئمةُ على أن هذا حقيقةُ قولِ الجهميةِ سموهم معطلة ... فإن نَفْيَ القدر المشترك مطلقاً يلزم منه التعطيل العام(1).
وكثير من نصوص السلف في نفي التشبيه تكون مقرونة بالإثبات كما قال نعيم ابن حماد ((من شبه الله بشيء من خلقه كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه)) وكما قال إسحق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاتِه بصفاتِ أحدٍ من خَلْقِ الله فهو كافر بالله العظيم، وقال علامة جهم وأصحابه: دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أُولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة(2).
فالمشهور من استعمال هذا اللفظ ((نفي التشبيه)) عند علماء السنة المشهورين أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله على النحو المتقدم.
وعليه يمكن فهم جمع النصوص الواردة عن السلف في ذلك.
ومن ذلك ما نقله د. عمر عن البيهقي بإسناده عن الأوزاعي ومالك وسفيان والليث بإمرار النصوص كما جاءت بلا كيفية فهذا يقتضي الإثبات لا النفي كما تقدم وسيأتي زيادة بيان له(3).
__________
(1) الرسالة التدمرية ضمن مجموع الفتاوى (3/74-75) بتصرف يسير.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص120-121، وانظر ابن كثير 2/220 .
(3) في مبحث التأويل لأن نفي العلم بالكيفية لا يجامعُ التفويضَ المطلقَ وهذا واضح لمن تأمله لكنْ سبحان الله.(10/3)
وكذلك ما نقله عن بكر بن عبد الله المزني، فإنه نفى نزول المخلوق وأثبت نزول الله ثم قال:((جل الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشبهة علوا كبيراً)).
وأما ما نقله من الخطابي ((وهو متأثر بالمذهب الأشعري)) فإنما نفى فيه نزول المخلوق وهذا لا ينفي صفةَ النزول لله تعالى فلا حاجة للتأويل ههنا بل تأويل النزول بالرحمة والمغفرة هو من جنس تأويلات الجهمية.
وبناء على ما تقدم يتبين ضلال اللقاني في جوهرته حيث يقول:
((وكل نص أوهم التشبيها ** أوله أو فوض و رم تنزيها))
فإن السلف لم يتأولوا ولم يفوضوا المعنى، بل أثبتوه وَأَمَرُّوه كما جاء فإنه جاء بمعنى معروف في اللغة ولم يجيء بغير معنى، هذا بالإضافة إلى ما تقدم مِنْ أن التشبيه المحذور هو ما يقتضي النقص لا مطلق هذا اللفظ وأن استعمال السلف له ليس كاستعمال اللقاني وأضرابه.
وأما قول الدكتور عمر (ص: 55) ((إذا علم هذا تبين غلط من قال: إن التفويض الذي عليه السلف هو عِلْمُ المعنى وتفويضُ الكيفِ لأن الذي عَلِمَ المعنى لا يقال له فَوَّضَ ، وكيف يفوض شيئاً عَلِمَ معناه فهذا تناقض يضاف إليه مخالفةُ السلف في إثباتِ الكيفِ لله تعالى))أ هـ.
فهذا يدل على الجهل التام بكلام السلف لأنا نقول إن السلف لم يفوضوا المعنى فالتناقض في فهمك يا د. عمر، بل نقول إن السلف فهموا المعاني ولم يفوضوها، هل سمعت من يقول: ((اللهم اغفر لي إنك أنت المنتقم)) !! أو إنما يقول: ((اللهم اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم)) أليس هذا إثباتاً للمعنى وفهماً له، فلو كان التفويض للمعاني أيضاً لما قالوا ذلك أو لاستوى الأمران عندهم.(10/4)
وَأَطَمَّ مِنْ ذلك ما ذكره د. عمر بعد ذلك حيث قال (ص56): ((نرى اَلْمُشَبِّهةَ يثبتون لله تعالى كيفاً يفوضون معرفته لله)) ويستدل على ذلك بما ورد عن السلف ((بلا كيفية)) وهو فهم عقيم، فإن المرادَ نَفْيُ العلم بالكيف، ولذلك جاء في الروايات الصحيحة الصريحة عن مالك ((الاستواء معلوم والكيف مجهول)) فأثبت الجهالة بالكيف، وحتى ما نقله د. عمر عن الحافظ ((بإحالته إلى صفحة غلط كالعادة))(1)، فليس فيه هذا الفهم العقيم فإن عبارة "الكيف غير معقول" هو إثبات للكيف مع عدم عَقْلِهِ أي فَهْمِهِ لقصورنا عن ذلك، فإن الكيف في اللغة للاستفهام عن الحال(2)، وذات الله وصفاته غيرُ معقولةِ الحالِ بالنسبةِ لنا، فكما أننا نثبت ذات الله إثباتَ وجود وعلم فكذلك صفاتُهُ، فنحن نعلم الله ولا نحيط به علماً، ونعلم صفاتِهِ ولا نحيط بها علماً، ولا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، وبنحو ذلك جاءت النقول عن السلف، ولذلك قالوا: يتكلم إذا شاء كيف شاء، وينزل كيف شاء وكما شاء.
قال إسحق بن راهويه: ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا كما شاء وكيف شاء(3)، وقال حرب عن مذهب أئمة العلم وأصحاب الحديث والأثر وأهل السنة المعروفين بها وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه والحميدي وغيرهم كان قولهم: إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء وعن ابن المبارك مِثْلُه(4).
وقال أحمدُ وابنُ المباركِ والبخاري وَغَيْرُ واحدٍ إِنَّ الله يتكلم إذا شاء كيف شاء متى شاء(5).
__________
(1) ذكر أنه في (13/342) وإنما هو في (13/403) وما بعدها وقد يكون في طبعة غير معلومة لنا!! على أنه أحال على طبعتنا غير مرة.
(2) معجم مقاييس اللغة، (2/430) مادة: كيف، مختار الصحاح ص515، مادة: كيف.
(3) مجموعه الفتاوى، (5/386).
(4) هذه الآثار رواها ابن منده كما بمجموع الفتاوى، (5/392).
(5) منهاج السنة، (2/362)، مجموع الفتاوى، (17/166).(10/5)
فكل هذه النصوص عن السلف تبين أن مرادهم ((بلا كيفٍ)) أي بلا كيف نعلمه خلافاً للفهم العقيم الذي أتحفنا به د. عمر ولم يذكر لنا سلفه في ذلك(1).
__________
(1) إلا أن يكون سلفه هو السقاف، فهو مَنْ أذاع ذلك ونشره في كتاب في رده على د. سفر وفي كتابه الذي أسماه زوراً ((صحيح شرح العقيدة الطحاوية))، وتبعه على ذلك شراذم، والعجب أن النقول التي يوردها هذا السقاف بترتيبها أو قريب منه تجدها في كلام د. عمر ولم يشر إلى أنه اعتمد نقلها عنه، فإن لم يكن في الأمر ((سرقة علمية)) فهو تشابه عجيب ((تشابهت قلوبهم)) وعلى كلٍ فهي شبهة أشباه الدخان يرقى إلى السماء ثم يهوي إلى الحضيض.(10/6)
التجسيم وبيان عقيدة الإمام أحمد:
بدأ الدكتور عمر هذا المبحث بتعريف التجسيم لغة بأنه جماعة البدن والأعضاء من الناس والإبل من الأنواع عظيمة الخلق أي ((الجسامة))، ثم بعد أن عرفه في اصطلاحه بأنه ((نسبته تعالى إلى الجسمية والتحيز والحد)) قال بعد ذلك إنه يدخل في التجسيم إثبات الحد لله تعالى وإثبات ظواهر آيات الصفات أو الإضافات وحملها على المعنى اللغوي والمعقول على المخلوق مع عدم نفي المماثلة والجسمية ونحو ذلك.
وعليه فالتجسيم الذي ذكره د. عمر هو شيء انقدح في عقله هو، ثم صار يرمي الناس إذا خالفوا اصطلاحه، شأنه في ذلك شأن أهل البدع والضلال.
وحيث إن الدكتور عمر يعرف أنه لا مشاحةَ في الاصطلاح، فماذا تقول يا د. عمر في من زعم أن الجسم هو الموجود أو القائم بنفسه، فهل يصح نفيه حينئذ عن الله عندك يا د. عمر، وهو نفي لوجوده أو قيامه بنفسه!!.
وعليه فإثبات المعنى أو نفيه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ الحادثة والسلف لم يثبتوا قط ((الجسم)) صفةً لله، ولا نفوا قط ((الجسم)) إذ لم يتكلموا في ذلك أصلاً، وَحَِرٌّي بِمَنْ بَعْدَهُمْ أن يكونوا كذلك إلا أنه إن أثبت أو نَفَى أحدهم ذلك فَيُسْتَفْصَلُ ويستفسر منه عن مراده بالجسم هل يراد به الموجود أو القائم بنفسه أو الجثة أوأعضاء المخلوقات أو ... أو ... أو ... .
أما التجاسر على الإثبات والنفي للألفاظ الحادثة الموضوعة على اصطلاحات متباينة فهو ضلال بين، وننصحك ألا تكون يا د. عمر على هذا النحو.(11/1)
وما ذكره د. عمر عن الإمام أحمد فليس بصحيح عنه ألبتةَ، ومحنة الإمام أحمد معروفة وكان لا يتكلم في هذا مع مناظريه، فقد كان الذين امتحنوا أحمد وغيره من هؤلاء الجاهلين فابتدعوا كلاماً متشابها نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لَمَّا ناظروه في المحنة وذكروا الجسم ونحو ذلك، بأني أقول كما قال الله تعالى: {قل هو الله أحد الله الصمد}[الإخلاص، آية:1،2]، أي أن لفظ الجسم لفظ مبتَدَعٌ محَدثٌ، ليس على أحد، أن يتكلم به ألبتةَ، والمعنى الذي يراد به مجملٌ، ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال ما أدري ما تقولون لكن أقول: {الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد}[سورة الإخلاص].
فكأنه يقول:ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه، إذا لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه، إن لم نَدْرِ معناه الذي عناه المتكلم، فإنْ عَنَى في النفي والإثبات ما يوافق الكتاب والسنة وافقناه، وإن عنى ما يخالف الكتاب والسنة في النفي والإثبات لم نوافقه.
ولفظ ((الجسم)) و ((الجوهر)) ونحوهما لم يأت في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين- التكلم بها في حق الله تعالى، لا بنفي ولا إثبات، ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل: لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، وأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.(11/2)
وذكر أيضاً فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون: ليس فيه كذا ولا كذا ولا كذا، وهو كما قال، فإن لفظ الجسم له في اللغة التي نزل بها القرآن معنى، كما قال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم}[المنافقون، آية: 4]، وقال تعالى: {وزاده بسطة في العلم والجسم}[البقرة، آية: 247]، قال ابن عباس: كان طالوتُ أعلمَ بني إسرائيل بالحرب وكان يفوق الناسَ بمنكبيه وعنقه ورأسه، و((البسطة)) السعة، قال ابن قتيبة: هو من قولك بسطت الشيء إذا كان مجموعاً ففتحته ووسعته قال بعضهم: والمراد بتعظيم الجسم فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً كان أكثر قوة.
فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن. قال الجوهري: قال أبو زيد الأنصاري: الجسم: الجسد، والجسمان والجثمان، وقال الأصمعي: الجسم والجسد، والجثمان: الشخص، وقال جماعةٌ: جسم الإنسان يقال له الجثمان، وقد جَسَمَ الشيء أي عَظُمَ، فهو جسيم وجسام، والجِسَام: بالكسر جمع جسيم. قال أبو عبيدة تَجَسَّمْتُ فلانا من بين القوم . أي اخترته كأنك قصدت جسمه. كما تقول: تأتيته أي قصدت أَتْيَهُ وشخصَهُ وأنشد أبو عبيدة.
تجسمته من بينهن بمرهف
وتجسمت الأرض إذا أَخَذْتَ نحوها تريدُها، وتجسم من الجسم وقال ابن السكيت: تجسمت الأمر: أي ركبت أُجْسَمَه، وجسيمه أي معظمه، قال: والأجسم: الأضخم قال عامر بن الطفيل:
لقد علم الحي من عامر ... بأن لنا الذروةَ الأجسما
فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء جسم، ولا للنَّفَسِ الخارج من الإنسان جسم، ولا لروحه المنفوخة فيه جسم، ومعلوم أن الله سبحانه لا يماثل شيئاً من ذلك، لا بَدَنَ الإنسان ولا غيره، فلا يوصف الله تعالى بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال: هو جسم، ولا جسد.(11/3)
((وأما أهل الكلام))؛ فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافاً كثيراً عقلياً، واختلافاً لفظياً اصطلاحياً، فهم يقولون كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا فقال كثير منهم: كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر الفردة، ثم منهم من قال: الجسم أقل ما يكون جوهراً، بشرط أن ينضم إلى غيره.
وقال آخرون من أهل الفلسفة: كل الأجسام مركبة من الهيولي والصورة لا من الجواهر الفَرْدَةِ.
وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل الكلام: ليست مركبة من هذا ولا من هذا، ولا من هذا، ولا من هذا، وآخرون يَدَّعُونَ إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تَجَزُّئها وانقسامها حتى تصير أفراداً، ومع هذا فقد شك هو فيه، وكذلك شك فيه أبو الحسين البصري. وأبو عبيد الله الرازي.
ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة العلم المشهورين من المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام، طائفة من الجهمية والمعتزلة وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حَكَى هذا الإجماع مَنْ لم يعرف مِنْ أصول الدين إلا ما في كتب الكلام ولم يجد إلا من يقول بذلك فاعْتَقَدَ هذا إجماع المسلمين، والقول بالجوهر الفرد باطل، والقول بالهيولي والصورة باطل.
وقال آخرون: الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه جسم، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه، واختلفوا في الأجسام هل هي متماثلة أم لا؟ على قولين مشهورين.(11/4)
وإذا عرف ذلك فمن قال: إنه جسم، وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله {ليس كمثله شيء}[سورة الشورى، آية:11]، في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مِثْلاً في شيء من صفاته فهو مُبْطِلٌ، ومن قال إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل، ومن قال إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يُرَى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرُهما من الصفات، ولا تُرْفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عُرِجَ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولا يُصْعَدُ إليه الكلم الطيب ولا تَعْرُجُ الملائكة والروح إليه، فهذا قوله باطل. وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله، وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسميةٍ ذلك تجسيماً تلبيس منه، فإنه إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسماً فقد أبطل، وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسماً، والأجسام متماثلة، قيل له أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون: إِن الهواء مثل الماء.
وأما ما جاء في الشرع فعليه أن يبينه بالألفاظ الشرعية، وإن قَدَّرَ أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن يدعُوَ الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى، (17/313-319) بتصرف، وانظر كذلك: (5/210-220) منه.(11/5)
هذا هو التجسيم يا د. عمر، لفظ مبتدع تدعون الناس إلى الولاء والبراء بمقتضاه، وتؤولون مئات النصوص بحجة التجسيم وإذا بحثت في أصله تجد ((أسطورة)) الجوهر الفرد، والتي راجت على عقول مريضة سابقاً، ولكن كيف راجت عليك وأمثالك يا د. عمر في هذا العصر الذي تبين فيه عدم وجود هذا ((الجزء الذي لا يتجزأ)) بعد انشطار الذرة ومعرفة مكوناتها وحساب أوزان كل مكوناتها ومستحقاتها بطرق دقيقة.... الخ.
أخلف الله عليكم معشر الأشاعرة عقولاً، وأخلف عليكم معتقداً صحيحاً تدينون الله به بعد سقوط هذه الأساطير والخرافات التي بنيتم عليها أصل معتقدكم في الله وصفاته.
وأما ما نقلته يا د. عمر عن ((عقيدة الإمام أحمد))، فلقد وقعت في أخطاء عظيمة في هذا وبيان ذلك من وجوه:
أولاً: خطأ بالنسبة للكتاب حيث ذكرت في [ص59] أنه ورد في ((طبقات الحنابلة))، وفي [ص60] قلت ((وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلي))، وهذا كله غير صحيح وكأنك تابعت ((السقاف)) على هذا الخطأ، وبيانه أن هذه النقول ليست في طبقات الحنابلة وليست لأبي يعلي وإنما هي في رسالة في الاعتقاد لأبي الفضل عبد الواحد التميمي، وإنما جاء الوهم لأنها طبعت في آخر طبقات ابن أبي يعلي(1).
ثانياً: هذه الرسالة جمع فيها أبو الفضل التميمي جملة اعتقاد أحمد على حسب ما فهمه هو ولم ينقل ألفاظ أحمد، أو غيره من العلماء الحنابلة، بل وغيرهم منازعون له في كون ذلك معتقداً للإمام أحمد.
__________
(1) وحتى الطبقات ليست لأبي يعلي كما قال د. عمر بل للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلي فتنبه.(11/6)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنه: ((ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد – لما ذكر اعتقاده- اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي. وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه مِن اعتقاد أحمد ما فهمه؛ ولم يذكر فيه ألفاظه، وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه، وجعل يقول: "وكان أبو عبد الله". وهو بمنزلة من يصنف كتاباً في الفقه على رأي بعض الأئمة، ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه، وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصد؛ فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة. ومن المعلوم: أن أحدهم يقول: حكم الله كذا وكذا، أو حُكْمُ الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة، بحسب ما بلغه وفهمه، وإن كان غيره أعلم بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده.
فهذا أيضاً من الأمور التي يكثر وجودها في بني آدم. ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الأئمة، كما يختلف بعض [أهل] الحديث في النقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، ولكنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ. فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة. ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ، وأما غيرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بمعصوم فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين . وأمرين متناقضين ولم يشعر بالتناقض.(11/7)
لكنْ إذا كان في المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة- وقد تختلف الروايات حتى يكون بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالاستدلال بينهم اختلاف كثير – لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره؛ بل هو أولى بذلك . لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حقظ ما يُؤْثَرُ عن غيره. لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يُعْرَفُ سبيلُهُ وهو حجتُهُ على عباده فلو وقع فيه ضلال لم يُبَيَّنْ لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعميت سبيلُهُ؛ إِذْ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه؛ بل هذا الرسول آخر الرسل. وأمته خير الأمم. ولهذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله. لا يضرها من خالفها ولا من خذلها. حتى تقوم الساعة))(1).
ثالثاً: لقد نقلت يا د. عمر عن ابن عساكر العلاقة الوطيدة التي كانت بين الباقلاني والتميميين من الحنابلة وذلك في [ص66، ص76]، وذلك لأن أبا الحسن وأبا الفضل التميميَيْنِ كانا على قرب من معتقد الباقلاني وعلى طريقة ابن كلاب، فإذا وضع أبو الفضل اعتقاد أحمد، وكان على طريقة ابن كلاب ويظنها حقاً، فماذا تنتظر بعد ذلك؟!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربةً لأقواله [أي الباقلاني] وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب، وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما أراد أن يذكر عقيدته، وهذا بخلاف أبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن بطة وأبي عبد الله بن حامد، فإنهم مخالفون لأصل قول الكلابية))(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى، (4/167-69).
(2) درء تعارض العقل والنقل، (2/27).(11/8)
وقال أيضاً في مكان آخر: ((ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد، وأبو بكر البيهقي موافق لابن الباقلاني في أصوله، ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صنفه عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر))(1).
رابعاً: نفس هذه الرسالة فيها ما يدل على أنها ليست صريح أقوال الإمام أحمد ففيها مثلاً: ((وقال عليه الصلاة والسلام:سبحان من وسع سمعُهُ الأصواتَ))(2)، وهذا ليس مرفوعاً، بل هو من قول عائشة في قصة ظهار خولة كما بالحديث(3)، ومثل هذا لا يخفى على الإمام أحمد، وكذلك ذكر حديث سعد بن أبي وقاص في الإيمان والإسلام فنسبه لأعرابي، وذكر جملة أحاديث مما لا يصح كـ ((استجيدوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط))، وحديث عمر في منكر ونكير وغيرها، ومثل هذه النصوص لا يَحْتجُّ بها أحمد ويترك الصحيح، وكذا جملة اعتقادات لا يُعقد عليها قلب إلا بنص وليس حديث صحيح فيها كاعتقاد أن الميت يعلم بزائره يوم الجمعة بعد الفجر وقبل طلوع الشمس(4).
خامساً: أُهدي لك يا د. عمر من هذه الرسالة بعض ما يفسد عليك مذهبك واحتجاجك بها، وهي مخالفة لمذهبك ومذهب أصحابك الأشاعرة، ففيها أنه كان يقول: ((إن الله تكلم بالصوت والحرف وكان يبطل الحكاية ويضلل القائل بذلك وعلى مذهبه أن من قال إن القرآن عبارة عن كلام الله عز وجل ففيه جهل وغلط...))(5).
وكذا ذكر أن مذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل أن لله عز وجل وجهاً.. ومن ادعى أن وجهه نفسه فقد ألحد ومن غَيّر معناه فقد كفر(6).
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، (2/100).
(2) اعتقاد أحمد للتميمي مطبوع بذيل طبقات الحنابلة لابن أبي يعلي (2/492).
(3) علقه البخاري في كتاب التوحيد، باب : وكان الله سميعاً بصيراً، بصيغة الجزم (13/372) وهو موصول عند أحمد والنسائي وابن ماجه.
(4) اعتقاد أحمد (2/303 ، 304).
(5) السابق (2/296).
(6) السابق(2/294).(11/9)
وأمثال ذلك مما لا يتناقض مع مذهبكم، فماذا تقول فيه إلا أن تكيل بمكيالين كالسقاف.
وأما كلامك على ابن الجوزي، فهو كما ذكرت ليس أشعرياً، ثم إن كلامه الذي تحتج به في دفع شبه التشبيه وصيد الخاطر وغيرهما من كتبه ليس هو كل كلامه فإنه متناقض في هذا الباب، كما قال شيخ الإسلام فإنه لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات؛ بل له من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أَثْبَتَ به كثيراً من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف. فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة، وينفون أخرى، كما هو حال أبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى، (4/169).(11/10)
مناقشة النقول التي أوردها د. عمر في التعطيل:
أما النقول التي أوردتها يا د. عمر التي تدعيِ أنها تدل على تنزيه الله عن المكان والجهة، فقبل مناقشتك فيها، أحب أن أذكرك أنَّا لا نَصِفُ اللهَ إلا بما وصف به نفسه، فلسنا متعبدين بإثباتِ ولا نَفْيِ هذه الألفاظ الحادثة، بل نستفصل من صاحبه ماذا تريد بالمكان؟؟، ماذا تريد بالجهة؟؟ إن أراد الجهات المخلوقة، فليس الله تعالى حالاً في مخلوقاته وإن أراد ما فوق العرش، فالله سبحانه فوق العرش وقد وصف نفسه بالاستواء، وَوَصَفَهُ رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - بأنه فوق العرش وأنه في السماء، وأشار إليه في المجمع الأعظم يوم عرفة، فنثبت ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات .
أما النقول التي زعمت فإنها تنقسم إلى أقسام:
أولا: نقول عن أشاعرة ومؤولة ضلوا في هذه المسائل، فماذا عساهم أن يذكروا في هذا الباب إلا مُعْتَقَدَهُمْ الضالَّ في هذه المسائل.
ثانياً: ألفاظ مجملة محتملة زعمت أنها تدل على ما فهمته زوراً وبطلاناً.(12/1)
ثالثاً: آثار عن السلف غير مسندة لا يدرى فيها ((قال.. حدثنا)) ثم هي غير صريحة أيضاً، فأين الإسناد عن علي بأن الله ((كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان)) وقد نقلته من الفَرْقِ بين الفِرَقِ وهو مصنف لرجل أشعري، وهو أيضاً ليس صريحاً، فإنه يمكن حمله على المكان الوجودي أي الجهة المخلوقة وأين الإسناد عنه أن ((من زعم أن إلهنا محدودٌ فقد جهل الخالقَ المعبودَ)) وآثار الوضع لائحة عليه، فلم يكن السجع من أساليبهم، ثم إن لفظ ((الحد)) مجمل محتمل، فقد يراد به حد يحده عن المخلوقات أي ليس حالاًّ فيهم ولا متحدا بهم ولذا فقد جاء عن جماعة من السلف إثباته كابن المبارك(1)، ويحتمل أنه يُرادُ به المعنى الباطل وهو أن يكون لله أو لصفات الله حداً بمعنى العلم والقول وهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة(2)، وقريب منه ما نَقَلْتَهُ عن زَيْنِ العابدين إن صح سنده أو كان له سند أصلاً لأن مثل هذا يعجز العثور على سند صحيح له، ثم ما جاء به ((أنت الذي لا يحويك مكان)) فلم تكن هذه من ألفاظَهم، غير أنه محتمل فيمكن حمله على المكان الوجودي المخلوق فيكون هذا نفياً للحلول ليس بِنَفْيٍ للعلو.
وأما ما جاء في نُقُولك عن القشيري فيما زعمت أن أبا عبد الله جعفر الصادق قاله فلا يصح ألبتةَ، أولاً أنه ليس له إسناد يعتمد عليه وثانياً أنه خطأ في نفسه فإن فيه ((من زعم أن الله على شيء فقد أشرك)) فماذا تقول يا دكتور عمر في قوله:{الرحمن على العرش استوى} وإن كان بقية الأثر يدل على أنه أراد أن يكون محمولاً على شيء والسلف القائلون بالعلو يقولون كما قال الطحاوي ((وهو مستغن عن العرش وما دونه محيط بكل شيء وفوقه)).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، (ص427).
(2) شرح الطحاوية ص239 ط السابق – المكتب الإسلامي.(12/2)
وأما النقول عن أبي حنيفة فهي أيضاً ألفاظ محتملة فَسَّرَتْها النقولُ الأخرى المتقدمة التي تثبت أن أبا حنيفة يثبت العلو، فما نقلته يا د. عمر عنه في كتابك هو نفي للمكان الوجودي المخلوق، أي نفي للحلول، وفيها أيضاً أنه على العرش استوى وفي النص الآخر الذي نقله أبو مطيع البلخي عنه، وهو إمام مُعْتَمَدُ النقلُ عن أبي حنيفة وإن كان مطعوناً عليه في الحديث لا في نقل مسائل الإمام، فإنه كما يقول الذهبي في الميزان: ((كان بصيراً بالرأي علامةً كبيرَ الشأنِ، ولكنه وَاهٍ في ضبطِ الأثرِ، وكان ابنُ المبارك يعظمه وَيُجِلُّهُ لدينه وعلمه)) (1).
قال أبو مطيع: سألت أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر لأن الله يقول {الرحمن على العرش استوى}[طه، آية: 5]، وعرشه فوق سبع سمواته، قلت: فإن قال: إنه على العرش ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر(2).
قال ابنُ أبي العزِ الحنفي تعليقاً على هذا النقل عن أبي حنيفة: ((ولا يُلْتَفَتُ إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائفُ معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبدالرحمن بن أبي حاتم وغيره))(3) أ هـ .
__________
(1) ميزان الاعتدال (1/574).
(2) رواه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي، وأورده شارح الطحاوية (ص322)، وعنه ملا على القاري في شرح الفقه الأكبر (ص171).
(3) شرح الطحاوية، ص322.(12/3)
وأما النقل عن الشافعي ((كان الله ولا مكان فخلق المكان..)) الخ، فلا يُدْرَىا في أي كتاب من كتب الشافعي ذاك الكلام، ولا يدرى من نقله عنه من أصحابه بالسند الصحيح، وقد أحال د. عمر على ((اتحاف السادة المتقين)) ، وليس في الصفحة التي أحال إليها (ص24) بل هي صفحة ((بيضاء))، وإنما هو في 2/36، وكأنه أيضاً ساقط منه اسم الرجل الشافعي الذي قال ذلك علماً أنه من كلام الغزالي الذي أورده في كتابِ قواعدِ الاعتقادِ وهو في إتحافِ السادة المتقين بعد صفحتين من النقل الأول.
وأما الإمامُ أحمدُ فما نقلته يا د. عمر عن ابن حجر الهيتمي، فهو هُراءٌ، بل متعصب كالزبيدي نقل عَنْ غيره حيث ذكر أن المحدثين والفقهاء على الجهة بمعنى صفة الاستواء لا تشبه استواء المخلوقين، وصفة الفوقية أي على العرش وأن الإمام أحمد بن حنبل صرح بذلك(1)، ثم نصوص الإمام أحمد التي نَقَلَهَا عنه أصحابُهُ وهي معلومة بل فيها رسالته إلى مسدد بن مَسَرْهَد، وفيها أنه سبحانه ينزل في ثلث الليل الآخر ولا يخلو منه العرش وهي رسالة مشهورة عند أهل الحديث والسنة من أصحاب أحمد وغيرهم تلقوها بالقبول، وقد ذكرها أبو عبد الله بن بطةَ في كتاب الإبانة واعتمد عليها غير واحد كالقاضي أبي يعلي وكتبها بخطه(2).
وأما افتراؤك يا د. عمر على البخاري أن الشراح فهموا أنه كان ينزه الله عن الجهة والمكان، فليس كل شراح البخاري أشاعرة، والبخاري بَوَّبَ في كتاب التوحيد باب: ((وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع ... وقال مجاهد: استوى: علا على العرش)) (3).
__________
(1) إتحاف السادة المتقين 2/171.
(2) مجموع الفتاوى 5/396.
(3) الجامع الصحيح مع الفتح (3/403).(12/4)
وأما كلامك على الطحاوي، فليس بمقبول أيضاً لأنه قال: ((لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)) أهـ، فواضح أنه أراد الجهات المخلوقة، وقد استدرك العلماء عليه أيضاً أن سطح العالم ليس بمحوى في جهة مخلوقة وهو استدراك صحيح إلا إن أريد بسائر أي الأغلب من السؤر، لا الكل من السور والله أعلم(1).
أما كلام أبي حاتم بن حبان البُسْتِي والخطابي والبيهقي وابن عساكر وابن الحاجب وابن حجر الهيثمي وغير هؤلاء فهم أشاعرة، ولذا فنقولاتهم لا تخالف الأشاعرة فعلام تحتج بأقوالهم، وكذلك التميمي الحنبلي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم من الحنابلة المؤولة الذين مشوا على هذا النهج.
وإلا فما بالك بعشرات من مئات النصوص التي فيها إثبات عُلُوِّ الله تعالى عَلَى خلقه واستوائه على عرشه واتصافه بالصفات، وكذا عشرات بل مئات النصوص الواردة عن السلف في إثبات ذلك ، وأنصحك يا دكتور عمر بقراءة((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم، فقد نقل جملة حسنة من ذلك مَعْزُوَّةً إلى مخرجيها، وكذلك ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي ومختصره للألباني ففيه ما هو كالشوكة في حلوق الأشاعرة، وكذا في كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم جمل صالحة من ذلك، هذا إضافةً إلى كتب السنة للخَلاَّلِ وابن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد وغيرهم وكتاب اللالكائي، ومواطن من تفسير ابن جرير الطبري تكلم فيها علي ذلك، وكذا ما علقه الترمذي على بعض الأحاديث والآثار، بل ما رواه كذلك البيهقي وأخرجه مسنداً عن السلف وغير ذلك، من الواضح يا د.عمر أنك لم تقرأ شيئاً من ذلك، وإلا لما ذكرت هذه النقولات الهزيلة التي ذكرتها.
__________
(1) راجع شرح الطحاوية ص243.(12/5)
بل لفظ ((المكان)) ذكر الذهبي أنه في الصحيح(1)، ووردت آثار عن السلف بهذا اللفظ ، فقد روى الخلال في كتاب السنة قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد بن محمد المقدمي ثنا سليمان بن حرب قال سأل بشر بن السري حماد ابن زيد فقال يا أبا إسماعيل: الحديث الذي جاء((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)) يتحول من مكان إلى مكان، فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء(2).
وهذا يؤكد ما سبق أن ذكرتُ أن الخلاف هو في تحديد معنى اللفظ، فإن كان المراد المكان الوجودي المخلوق، فهذا هو الممتنع ، وإن كان المراد المكان أو الجهة العدمية أي ما وراء العالم، فالمعنى صحيح وأن كان التعبير عنه إنما يكون بالألفاظ الشرعية لا الألفاظ الحادثة.
__________
(1) ولعل الذهبي أراد حديث الإسراء وفيه ((فَعَلاَ إلى الجبار جل جلاله وهو في مكانه)) وإن كان السياق ليس مجزوماً فيه أن المراد الرب تعالى.
(2) ورواها ابن بطةَ في الإبانة وأوردها شيخ الإسلام كما في الفتاوى(5/376) وقال عنها إنها حكاية صحيحة رُواتُها أئمةٌ ثِقاتٌ أ هـ، وانظر: وتأمل في قوله ((كيف شاء)) لتعلم أن مرادهم بنفي الكيفية، نفي العلم بها كما تقدم ذلك.(12/6)
وبهذا يتبين أن نُفَاةَ لفظِ ((المكان)) أو لفظ ((الجهة)) لم يفهموا، فهم ينفون اللفظ ويستدلون بذلك على نفي العلو، ويذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال إنه في جهة يلزم القول بقدم شيء من العالم، وأنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سُمِّيَ جهة أو لم يُسَمَّ، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً، بل أمر اعتباري ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، ومالا يوجد فيما لانهاية له فليس بموجود، إذ ما من جهة إلا وراءها جهة، فالجهات لا نهائية، فإذا قدر نفي الجهة مطلقاً عن الله فيلزم من ذلك أنه غير موجود لأن الذي لا يوجد في اللانهائي فليس له وجود(1)، فهذا الخلط وهذا التلبيس يا د. عمر لا يروج إلا على الضعاف وَمَنْ لا علمَ له.
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص242، وتقريب وترتيب شرح الطحاوية 1/494، وكذا الكلام فيمن يذكر أن الاستواء بغير جلوس وَلاَ اِسْتِقْرَاَرِ، فهو لم يفهم كلام السلف لأن اللوازم واحدة وإنما المراد من كلامهم الاستواء اللائق به لا استواء المخلوقين وسيأتي زيادة بحث في ذلك عند مبحث ((الصفات)).(12/7)
وعليه فكل ما ذكرته بعد ذلك من أصل نشوء التشبيه عند أهل الإسلام(1)وكذلك الأصول المنهجية لعقائد المشبهة والمجسمة، فهذا جناية عظيمة على أهل السنة وأصحاب الحديث أن تلحقهم بالمشبهة ومقاتل بن سليمان
واليهود، وهذه جرأة عظيمة تذكرنا بما قاله خلق كثير من السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ، قال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، وقال إسحقُ بنُ راهَوَيْه من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم، وقال: عَلاَمَةُ جهم وأصحابه: دعواهم على أهل السنة والجماعة أنهم مشبهة بل هم المعطلة أهـ.
وصدق الإمام: بل هم المعطلة بل هم المعطلة بل هم المعطلة.
فلا تكن يا د. عمر جهمياً من المعطلة!
__________
(1) وذكر في أثنائها تأويل ابن حزم للصورة مع أنه لم يذكر إلا نقلاً عن التوراة، وحديث: ((إن الله خلق آدم على صورته))، صريح في إثبات الصورة لله، وليس فيه تمثيل الله بخلقه، وإنما المراد أن الله تعالى خلق آدم وخلق له سمعاً وبصراً ووجهاً وعيناً، والله سبحانه له سمع وبصر ووجه وعين، وليست صفات الله كصفات المخلوقين، بل لكلٍّ ما يخصه، فكما أن ذات الله لا تشابهها الذوات، فكذلك صفاتُ الله لا تشابهها الصفات، وهذا الأسلوب في الحديث شائع أن المراد المشابهة من وجه دون وجه كما في حديث: ((أول زمرة تدخل الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر))، وليس المراد أن وجوههم حجارة، وإنها المراد المشابهة في الاستنارة ونحوها والله أعلم.(12/8)
تفسير المقام المحمود:
وعلى عادة الدكتور عمر هداه الله التي جرى عليها في كتابه، فإنه ذكر قولاً حكاه كل من شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم في معنى المقام المحمود، ولا يدري ما علاقة ذلك بالدكتور سفر الحوالي أو بكتابه الذي يرد عليه ؟؟!
وابتداء نذكّر الدكتور عمر أن لا يكتفي بقصاصات تأتيه دون أن يراجع بنفسه فإن هذا الذي ينقلونه من الكتب قد يكون غير محقق أنه من قول فلان كما سبق أن نقل الصابوني عن ((ابن تيمية)) أن الأشعرية أنصار أصول الدين.. إلخ، وهذا الكلام هو كلام الفقيه أبي محمد لا ابن تيمية.
وسبب التقدمة بذلك هنا أن الدكتور عمر قال: ((جاء في مجموع الفتاوى (4/373) إذا تبين هذا فقد حدث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُجْلِسُهُ ربه على العرش معه.. ثم ذكر قول ابن جرير)) ثم قال: وهكذا أيضاً يقع ابن تيمية -رحمه الله- وعفا عنا وعنه في خطأ على ابن جرير... إلى آخر ما نقله الدكتور عمر.
وبالرجوع إلى موضع الصفحة المذكورة لم نجد هذا النقل إنما هو في
(ص: 374) وقد يكون هذا من اختلاف الطبعات ((وهو مستبعد عندي))، وعلى كل فالدكتور عمر كأسلافه لم يقرأ المبحث من أوله، فإن الكلام في المسألة المشهورة بين الناس في التفضيل بين الملائكة والناس)) كما جاء في (ص:350) في أول الفصل.(13/1)
وقال في أولها: ((وقد وضع ابن المرزبان كتاب : ((تفضيل الكلاب على كثير ممن لَبِسَ الثياب)) في (ص:351)، وفي إبان الكلام يقول: ((قال ......)) كما في (356) فيحتمل أنه أراد ابن المرزبان وإن كان ليس في الجزء المطبوع من كتابه ويحتمل عندي أيضاً أنه لغيره كَأَنْ يكون تلخيصاً من شيخ الإسلام لكتاب شيخه ((تاج الدين الفزاري الفركاح)) المسمى ((الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك))(1)، مع ما أضافه إليه فالعبارة التي نقلها الدكتور عمر ليست من جنس عبارات شيخ الإسلام، التي نعرفها عنه، فابن تيمية من كبار حفاظ الحديث ولا يخفى عليه حال الليث بن أبي سليم، الراوي عن مجاهد إلا إِنْ اعتبر الأثر بما يتابعه أو يراد بالأئمة المرضيين أي من رواه وأخرجه كابن جرير (8/132) والبغوي (5/121) ممن أخرج الأثر أو ذكره.
وعلى كل فقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن المقام المحمود هو الشفاعة فذكر في تفسيره سورة النساء ((مجموع الفتاوى 14/190)) قول قتادة في قوله:{إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا}[طه، آية: 109]، قال: كان أهل العلم يقولون: إن المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا}[الإسراء، آية: 79]، هو ((شفاعته يوم القيامة)) ثم بعد ذلك بصفحات قال (14/394): ((ولهذا كان من أعظم ما يكرم به الله تعالى عَبْدَهُ محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الشفاعة التي يختص بها، وهي المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون)) أ هـ. فهذا النص الصريح منه يَمْنَعُ ما يخالفه عنه.
وعلى كل فسنسير مع الدكتور عمر برهة في كون ذلك كلاماً لشيخ الإسلام أو كلاماً ارتضى أن ينقله دونما تعليق منه عليه، لننظر تلبيس الدكتور عمر فيما ذكره عنه.
__________
(1) ذكره شارح الطحاوية. انظر : ص338 وما بعدها ط7 المكتب الإسلامي .(13/2)
فيقال أولاً للدكتور عمر: ما أنكرته على ابن تيمية وجعلته خطأ على الطبري أن الصحيح في المقام المحمود هو الشفاعة، هو ما ينكر عليك أيضاً يا د. عمر لما قدمته لك من كلام ابن تيمية أن المقام المحمود هو الشفاعة أيضاً، فما كان جواباً لك كان جواباً لنا.
وثانياً: قولك: ((ثم ابن جرير يبين أن القول بإجلاس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش ليس مدفوعاً من جهة الخبر أو النظر))، وهذا بخلاف قول ابن تيمية في قوله ((يجلسه ربه على العرش معه)) فأين هذا من كلام ابن جرير، وجلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش لا محذورَ فيه أما الممنوعُ فهو نسبة الجلوس إلى الله تعالى، فابن جرير يقول: ((فإن ما قاله مجاهد من أن الله يَقْعِدُ محمداً - صلى الله عليه وسلم - على عرشه قَوْلٌ غيرُ مدفوعٍ صِحَّتُهُ لا مِنْ جهة خبر ولا نظر، "فابن جرير لا يقول بجلوس الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يقول بجلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش جوازاً عقلياً، وابن جرير إمامٌ منزه يمنع القول بالجهة كما هو معلوم)).
هذا كلامك يا دكتور عمر، وهو يؤكد لي أنك لم تراجع كلام ابن جرير، ولم تفهم كلام شيخ الإسلام فصرت تخبط يمنة تارة ويسرة تارة بلا هدى؛ فابتداء نص العبارة التي أنكرتها هي عبارة الخبر الوارد عن مجاهد الذي رواه ابن جرير حيث قال: ((8/132ـ ط. دار الكتب العلمية)) حدثنا عَبَّادُ بنُ يعقوبَ الأسدي قال حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}[الإسراء، آية: 79]، قال: يجلسه معه على عرشه . وصدّر ذلك ابن جرير بقوله ((وقال آخرون : بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يبعثه إياه هو أن يقعده معه على عرشه)) أهـ.(13/3)
فهذا هو الخبر، وهذا فهم ابن جرير للخبر، ثم قال بعد أن ذكر القول بأنه الشفاعة (8/134)، ((وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}[الإسراء، آية: 79]، فقد ذكرنا من الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمداً - صلى الله عليه وسلم - على عرشه قول غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ولا عن التابعين بإحالة ذلك، فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة... ثم ذكرها وهي أن الله مباين للمخلوقات، أو لا مباين ولا مماس، أو مماس للعرش جالساً عليه!! إلى أن قال: ((فإن قال قائل بأنا لا ننكر إقعاد الله محمداً على عرشه وإنما ننكر إقعاده إياه معه، قيل: أفجائز عندك أن يقعد عليه لا معه؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه، أو إلى أن يقعده واللهُ للعرشِ مباينٌ، أو لا مماسٌّ ولا مباينٌ، وبأي ذلك قال كان منه دخولاً في بعض ما كان ينكره، وإن قال: ذلك غير جائز، كان منه خروجاً من قَوْلِ جميعِ الفرقِ التي حكينا قولهم، وذلك فِرَاقٌ لقولِ جميعِ مَنْ يَنْتَحِلُ الإسلامَ، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها وغير محال في قولٍ منها ما قال مجاهد في ذلك)) أ هـ .
هذا هو كلام ابن جرير يا دكتور عمر وهو الذي روى اللفظ الذي أنكرته على ابن تيمية وجعلته غَيْرَ مُحَالٍ في قول جميع من ينتحل ملة الإسلام.(13/4)
ثم يا دكتور عمر، لا ندري من أين أتيت بالفهم لهذا النقل، وهو قولك: ((أما الممنوع فهو نسبة الجلوس إلى الله تعالى)) من أين فهمت من قول مجاهد ((يجلسه معه على عرشه)) أن الله يجلس على العرش!؟ هذه من العجائب يا دكتور عمر فغاية اللفظ -إن صح- أن الله على عرشه والنبي يجلسه الله على عرشه ولا تعرض فيه لـ((جلوس الرب))، ولا نقول بذلك ولا نرتضيه، لأنا نثبت الاستواء لوروده ولا نثبت ألفاظاً أخرى كالقعود والجلوس لعدم ورود ذلك، وأما عبارتك فقد تريد منها وهماً آخر فإنه مردود كما قال شيخ الإسلام: ((وقد يظن المتوهم أنه إذا وُصِفَ سبحانه بالاستواء كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفُلْكِ والأنعامِ كقوله{وسخر لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره}[الزخرف، آية: 12، 13]، فيتخيل له أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينةُ لسقط المستوِي عليها، ولو عثرت الدابةُ لخر المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار. وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم))(1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/50) القاعدة الرابعة من الرسالة التدمرية.(13/5)
ولم تبين يا دكتور عمر لماذا منعت من نسبة الجلوس إلى الله إلا أن تكون قد فهمت من الجلوس ما يكون للمخلوقين وهذا منتف عن الله حقاً فليس كمثله شيء، أو أنك لا تثبت الاستواء اللائق بجلال الله وتذهب إلى تأويله تأويلات الجهمية الملاحدة وتقول إن الله في كل مكان ولا تنزهه عن الحشوش والنجاسات،ونحن نجلك يا دكتور عمر أن تذهب إلى ذلك أو إلى مذهب الأشعرية بأنه لا داخل العالم ولا خارجه وترد مئات النصوص التي تثبت علوه ، فإن هذا المذهب مصادِمٌ أيضاً للنصوص مما لا يليق بعاقل أن يعتقده، أما ما نقلت عن أبي حيان في النهر الماد مشنعاً على شيخ الإسلام في الرسالة العرشية ، فأبو حيان مناوٍئٌ لابن تيمية لا يُقبل قوله فيه ، ولاسيما وكتاب العرش ، وهو الرسالة العرشية مطبوع(1)، وليس فيه هذا الذي نقله أبو حيان، وتقدم نقل كلام شيخ الإسلام من التدمرية، وقد يشبه ما ذكره أبو حيان ما جاء في تفسير ابن جرير في تفسير آية الكرسي (3/12) حيث ذَكَرَ خلافَ المفسرين في معنى الكرسي ثم قال: ((ولكل قول من الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال حدثنا عبيد الله ابن موسى قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع –ثم قال بأصابعه فجمعها– وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)) وساق له متابعا موصولاً عن عمر، وآخر نحوه.
__________
(1) مجموع الفتاوى (6/545 – 584)، ويقال لها أيضاً ((مسألة الإحاطة)) .(13/6)
وقد رواه بعضهم بلفظ ((ما يفضل منه إلا أربع أصابع)) وقد علق على ذلك شيخ الإسلام فقال (16/435 ، 436) ((واعتقد القاضي وابن الزاغواني ونحوهما صحة هذا اللفظ فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء، وذكر عن ابن العايذ أنه قال: هو موضع جلوس محمد - صلى الله عليه وسلم -))، والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره ولفظه ((وإنه ليجلس عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع)) بالنفي، فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين هذه تنفي ما أثبتت هذه، ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوي عليها الرب، وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات، بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر، وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة وللعقل، ويقتضي أيضاً أنه إنما عرّف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق، وقد جعل العرش أعظم منه، فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق وهو أعظم من الرب، وهذا معنى فاسد مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل...إلى أن ذكر حديث الأطيط في سنن أبي داود والترمذي وحديث ((لا أحد أغير من الله)) ثم قال: وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة، فالرب مستو عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع، وهذا غاية مَا يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان كما يقدر في الميزان قدره فيقال: ما في السماء قدر كف سحاباً، فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم الكف فإذا أرادوا نفي القليل والكثير قدروا به فقالوا: ما في السماء قدر كف سحاباً كما يقولون في النفي العام{إن الله لا يظلم مثقال ذرة}[النساء، آية: 40] و{ما يملكون من قطمير}[فاطر، آية: 13] ونحو ذلك، فبين الرسول أنه لا يفضل من العرش شيء ولا هذا القدر اليسير الذي هو أيسر ما يقدر به وهو أربع أصابع، وهذا(13/7)
معنى صحيح موافق للغة العرب، وموافق لما دل عليه الكتاب والسنة، وموافق لطريقة بيان الرسول، وله شواهد، فهو الذي يجزم بأنه في الحديث ومن قال ((ما يفضل إلا مقدار أربع أصابع)) فما فهموا هذا المعنى فظنوا أنه استثنى فاستثنوا فغلطوا))..إلى أن قال: ((والعرش صغير في عظمة الله .. ثم قال وهذا قد بسط في موضع آخر في ((مسألة الإحاطة)) وغيرها والله أعلم(1).
فأنت ترى أن شيخ الإسلام بَرِيءٌ مما اتهه به أبو حيان، وأن أبا حيان اختلط عليه ذلك بما ذكره شيخ الإسلام عن ابن العايذ ولم يرتضه لأنه لم يرتض الرواية التي انبنى عليها هذا الفهم، فكيف يكون قائلاً بذلك!!
وأبو حيان حصل بينه وبين شيخ الإسلام جفوة لَمَّا تكلم ابن تيمية في أخطاء ((سيبويه)) في ((الكتاب)) وبالتالي فلا يقبل قوله فيه مجرداً كما هو معلوم في علم المصطلح في كلام الأقران بعضهم في بعض(2).
أما ما نقله الدكتور عمر عن ابن القيم في بدائع الفوائد فلا يدري لماذا نقله، وما غرضه في ذلك إلا أن يذكر أن ابن القيم يثبت ما قال ابن جرير أنه غير مدفوع خبراً ولا نظراً!!.
__________
(1) مجموع الفتاوى (16/435 – 439 ) وانظر الكلام على سند الحديث و متنه وكلام العلماء فيه في مجموع الفتاوى (16/434 – 435) ..
(2) وللسبكي قاعدة مستقلة في ذلك في الرد على طعن ابن مَعِين في الشافعي ، ونحو طعن ابن أبي ذئب في مالك ....الخ .(13/8)
أما ما نقله د. عمر عن الذهبي في ميزان الاعتدال من إنكار أثر مجاهد فأنا أنقل لك ما ذكره الذهبي في كتاب العلو حيث قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن المبارك أنبأنا عبد الله بن أحمد الفقيه، أنبأ ابن البطي، أنبأ ابن خيرون. أنبأ أبو علي ابن شاذان، أنبأنا أبو سهل القطان، ثنا عبد الكريم الدير عاقولي، ثنا يحيى بن عبد الحميد وغيره قال: أنبأنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}[الإسراء : 79] ، قال: يجلسه أو يقعده على العرش، لهذا القول طرق خمسة. وأخرجه ابن جرير في تفسيره، وعمل فيه المروذي مصنفاً، ثم قال الذهبي بعد ذلك: فأما قضية قعود نبينا على العرش، فلم يثبت في ذلك نص، بل في الباب حديثٌ واهٍ، وما فسر به مجاهد الآية كما ذكرناه، فقد أنكره بعض أهل الكلام فقام المروذي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك، وجمع فيه كتاباً، وطَرّق قول مجاهد(1)، منه رواية ليث ابن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات، وجابر بن يزيد، فممن أفتى في ذلك العصر بأن هذا الأثر سليم ولا يُعَارَض, أبوداود السجستاني صاحب ((السنن)) وإبراهيم الحربي وخلق، حيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل من رد هذا الحديث، وهو عندي رجلُ سوءٍ مُتَّهَمٌ، سمعته من جماعة، وما رأيت محدِّثاً ينكره. وعندنا إنما تنكره الجهمية. وقد حدثنا هارون بن معروف، ثنا محمد بن فضيل، عن ليث عن مجاهد في قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }[الإسراء : 79]، قال: يقعده على العرش، فحدثت به أبي رحمه الله، فقال: لم يقدر لي أن أسمعه من ابن فضيل، بحيث أن المروذي روى حكاية ((ينزل)) عن إبراهيم بن عرفة: سمعت ابن عمير يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا قد تلقتْهُ العلماءُ بالقبول. وقال المروذي: قال أبو داود السجستاني ثنا ابن أبي صفوان الثقفي ثنا يحيى ابن كثير، ثنا سالم بن جعفر وكان ثقة، ثنا
__________
(1) أي جمع طرقة ومروياته .(13/9)
الجريري، ثنا سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة جيئ بنبيكم - صلى الله عليه وسلم -، حتى يجلس بين يدي الله عز وجل على كرسيه.. الحديث.
وقد رواه ابن جرير في تفسيره، أعني قول مجاهد، ثم قال ابن جرير، ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا لا من يقر أن الله فوق العرش ولا من ينكره، وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره, كذلك رد شيخُ الشافعية ابنُ سريجٍ على من أنكره. انتهى.
فأنت ترى أن الذهبي رد هذا الأثر من باب الرواية لا الدراية، وقد أوهمت
يا دكتور عمر أن كلام الذهبي ينكره دراية بما أوردتَهُ من الرواية الباطلة عن مقاتل بن سليمان.
ثم إن الإمام الذهبي ساق رواية حديث الأطيط من طريق ابن اسحق ثم قال: هذا حديث غريب جداً فَرْدٌ، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم، هل قال - صلى الله عليه وسلم - هذا أم لا؟ والله عز وجل ليس كمثله شيء، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره. والأطيط الواقع بذات العرش من جنس الأطيط الحاصل في الرحل ، فذاك صفة للرحل وللعرش، وَمَعَاَذَ الله أن نعده صفة لله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت. وقولنا في هذه الأحاديث إننا نؤمن بما صح منها، وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال، واختلف العلماءُ في قبوله وتأويله، فإنا لا نتعرض له بتقرير، بل نرويه في الجملة، ونبين حاله، وهذا الحديث إنما سقناه لما فيه مما يَتَوَاَتَرُ من علو الله تعالى فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب. انتهى كلامه، فأنت ترى أنه لم يَرُدَّهُ أيضاً درايةً فيا سبحان الله، لو راجعت بنفسك يا دكتور عمر لما كان كذلك، ونقول أخيراً يا دكتور عمر: ألا ترى إثبات الذهبي للعلو لله فوق عرشه، فماذا يقول أصحابك الأشاعرة في ذلك.(13/10)
أما كون الإجلاس عقيدة رغم أنه لم يرد إلا عن مجاهد، فهذا موضع اجتهاد ونظر، ومجاهد بن جبر من أخص تلاميذ ابن عباس، ومثل هذه الآثار مظنة أخذها عن ابن عباس قريبةٌ، ولاسيما وهو مما لا يقال من جهة الرأي، ومجاهد أَجَلُّ مِنْ أن يتكلم في ذلك بغير علم- إن صح الإسناد عنه -، ولذلك نجد الحافظ ابن حجر في فتح الباري يقبله في الجملة حيث يقول في المقام المحمود وبعد أن حكى أقوالاً (11/427) ((ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءَهُ على ربه وكلامَهُ بين يديه وجلوسَهُ على كرسيه، وقيامَهُ أقربَ من جبريل، كل ذلك صفات للمقام المحمود))أ هـ (1) .
ومع ذلك فقول الشيخ الألباني بأنه: ((لا يجوز أن يتخذ ديناً وعقيدة ما دام أنه ليس له شاهد من الكتاب والسنة))، متجه، وإنما المراد فقط هنا الاعتذار عمن اعتمده من كبار الأئمة كما تقدم، وبيان أن الألباني لم يَرُدَّهُ إلا من جهة الرواية لا من جهة الدراية كما أوهم كلام الدكتور عمر. سامحك الله يا دكتور عمر.
__________
(1) وقد نقل الحافظ قولَ مجاهد قبل ذلك ، وتعقيب ابن جرير عليه بأنه ليس بمدفوع من جهة النقل ولا من جهة النظر ، وقول ابن عطية هو كذلك إذا حمل على ما يليق به ، ...الخ ، ثم قال والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة .. ثم ذكر ما تقدم من الجمع (11/426،427).(13/11)
القدم النوعي للعالم :
هذه المسألة من المسائل الواضحة التي أبانت عن مدى علم الدكتور عمر بأقوال السلف فهو لم يكلف نفسه عناء المطالعة لأي من الكتب السلفية ليفهم حقيقتها، ولم تدفعه نفسه ليتعلمها من المشايخ والعلماء، وليته فعل، فإن هذا كان يمنع من هذا الخبط الذي سود به الصحائف، حتى إنه نقل أموراً متباينة متناقضة وظنها تفيده، وإذا هي تأتي إلى قواعده فتنسفها.
وقبل بيان ((زيغ)) الكلام الذي ذكره الدكتور عمر، أحب أن أعرض سؤالين، ولا محيص لك يا دكتور عمر من أن تختار واحداً من أمرين كلاهما لا يروقك:
السؤال الأول: هل ربنا تبارك وتعالى لم يزل قادراً على الفعل؟
السؤال الثاني: هل الفعل لم يزل ممكناً لله تعالى؟
وحتى لا تتسرع يا دكتور في جواب السؤالين أوضح لك المراد منهما، فالسؤال الأول يعني في عبارة أخرى، هل ربنا تبارك وتعالى كان فيما لا أول موصوفاً بالعلم والإرادة والقدرة والحياة، فهذه الأربعة موجبات الفعل بمعنى أن الفعل يستند إليها، فهل عندك يا دكتور أنه كان الرب تعالى معطلاً في زمان ما عن أحد هذه الصفات الأربع، أو هو سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بالعلم والإرادة والقدرة والحياة؟! سنحسن بك الظن يا دكتور عمر أنك ستقول ما يقوله كل المسلمين: ((إن الرب تعالى لم يزل متصفاً بذلك، وما من وقت يقدر إلا والرب تعالى فيه حي عليم قدير مريد)).
ثم السؤال الثاني مفاده هل الفعل كان ممتنعاً في نفسه ثم استحال وصار مقدوراً ممكناً من غير ترجيح، وهذا أمر عقلي ومضيق يعسر الجواب عليه عند الأشاعرة وسنحسن بك الظن أيضاً يا دكتور إنك ستلتزم أن الفعل كان ممكناً لله، وما من وقت يقدر إلا والرب تعالى قادر على الفعل، والفعل ممكن له، ليس ممتنعاً عليه، بحيث لو أراده لم يمتنع عليه، لأن اختيار القول الآخر ((وهو اختيار الجهمية)) يؤدي، بك إن قلت به، إلى القول بفناء ((الجنة)) وأنت لا تشعر.(14/1)
وبهذين الجوابين أستطيع وكل عاقل معي أن يحكم عليك يا دكتور عمر أنك تقول بإمكان حوادث لا أول لها أي تقر بما شنعت به جهلاً.
فإن أضفت إلى ما سبق أن الله تبارك وتعالى يفعل، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل وأن يخلق أكمل من أن لا يخلق كما قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق}[سورة النحل، آية:17]، فلقد قلت بإمكان مخلوقات لا أول لها شئتَ أو أبيتَ، ولا محيص عن ذلك ألبتةَ لمن يعقله لا من شغب بقعاقع وفراقع وجهل وتقليد!!
أما الرد التفصيلي على ما ذكره الدكتور عمر فهو أن يقال:(14/2)
أولاً: تصويرك للمسألة بداية يُفْهَمُ منه أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هو مركب من قولي الفلاسفة والفرق الإسلامية، كأنه أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة، وما ذكرته عن البغدادي لا يفيدك ولا يُدْرَىا لماذا أقحمته في السياق، وذلك لأنه يتكلم عمن يزعم أن المعدوم له ثبوت في العدم قبل وجوده، وهذا باطل، لكن ما علاقة ذلك بمسألتنا إلا أن تشير إلى آخر الفقرة التي نقلتها وهي ((وقول هؤلاء يؤدي إلى القول بقدم العالم والقول الذي يؤدي إلى الكفر كفر)) وكأنك تستدل بقوله على تكفير من قال ((بقدم العالم)) وهذا نحن لا نخالف فيه باعتبار قِدَمِ العينِ، لأنه إذا كان العالم قديماً عيناً. لم يكن مخلوقاً لله، لأن المخلوق المفعول متراخ عن الفاعل، وكأنك تلمز من قال بدوام أفعال الله بهذا القول الذي لم تحققه، فيا الله، والعجب كل العجب ممن نقل أسطراً لا يدري في أي شيء هي، ولا لأي شيء أوردها، فلم يقل أحد من السلف إن الفرد من النوع قديم، ولا يلزم من قدم النوع قدم أفراده، بل لما قال ((سعد الدين التفتازاني)) ذلك رد عليه ((الجلال الدواني)) في شرحه للعقائد العضدية وعد ذلك ((سخافة)) منه، لأن مراد الفلاسفة بالقدم قدم النوع بمعنى لا يزال فرد من أفراد النوع موجوداً بحيث لا ينقطع بالكلية، لكن حدوث كل فرد لا ينافي ذلك أصلاً وضرب لذلك مثلاً بالورد الذي لا يبقى منه فرد أكثر من يوم أو يومين مع أن ((نوع الورد)) باق أكثر من شهر أو شهرين(1).
__________
(1) حاشية الكلنبوي: (1/108/109) .(14/3)
فلا يلزم يا دكتور عمر من حدوث كل فرد مع كون الحوادث متعاقبة لا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعل المتكلم معطلاً عن الفعل والكلام، ثم حدث ذلك بلا سبب، كما لم يلزم مثل ذلك في المستقبل، فإن كل فرد من المستقْبَلاتِ المنقضية فانٍ، وليس النوع فانياً كما قال تعالى: {أكلها دائم وظلها} [الرعد، آية:35 ]. وقال:{إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}[ص، آية:54]، فالدائم الذي لا ينفد أي لا ينقضي هو النوع، وإلا فكل فرد من أفراده نافد منقض ليس بدائم(1).
بل حتى الرازي لم يرتضِ هذا الهراء فقال في المباحث المشرقية: ((لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد ثبوت الأول للكل إذ من الجائز أن يكون الكل مخالفاً لحكم الآحاد لأن كل واحد من آحاد العَشرة ليس بِعَشرة، والكل عشرة، فكل واحد من الأجزاء ليس بكل مع أن كلها كل، وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم))(2) .
ولعلك بعد فهمك ما تقدم يا دكتور عمر تدرك الخطأ الذي وقع في كلام ابن حزم الذي نقلته، فالإجماع منعقد على أن الله خلق الأشياء كلها كما شاء وأن النفس مخلوقة يعني خلافاً للفلاسفة، والعرش مخلوق خلافاً لمن زعمه علم الله، والعالم كله مخلوق خلافاً لمن جعله علة قديمة، لكن أين البرهان على أنه تعالى ((لم يزل وحده ولا شيء غيره معه)) وإن شئت جعلت العبارة هكذا: أين البرهان على أنه تعالى كان لم يزل معطلاً عن كماله من الفعل والكلام حتى ابتدأ جنس ونوع الحوادث أو الحدوث أو الإحداث أو ما أشبه هذه العبارات، لا شك أنه ليس لديك يا دكتور عمر جواب على هذا كما لم يكن لأسلافك جواب عليه، فتعطيل الله عن كماله ليس أمراً هيناً.{وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} [ النور، آية: 15].
__________
(1) منهاج السنة (1/426 وما بعدها)، تعارض العقل والنقل: 9/137 - 158.
(2) المباحث المشرقية (1/781) وقارن بالمطالب العالية (4/275) ..(14/4)
ومن هنا تدرك يا دكتور عمر أنك نقلت كلام ابن دقيق العيد المذكور بفتح الباري دون أن تعرف المسألة، فإن كلامه حول مسألة ((حدوث العالم)) أو ((قدم العالم)) ومسألتنا على قدم أفعال الرب تعالى.
فحرف المسألة أن ((الحوادث)) إما أن يراد بها فعل الرب فلا أول لها، أو أنها المخلوقات فهذه لها أول من حيث أفرادها وآحادها، لأنها مسبوقة بعدم، أما من حيث جنسها ونوعها فهي قديمة لتعلقها بأفعال الرب تعالى.
ومن هنا أيضاً تدرك يا دكتور عمر مدى خلطك فيما نقلته من كلام الشيخ الألباني – رحمه الله- فأين ((أن الشيخ الألباني أنكر الفعل على الرب في وقت ما؟ أو قال إنه كان ممتنعاً لذاته أو منه)) كما يقول أهل البدع، فليس هناك خلاف بين ابن تيمية والألباني في أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء وأن الكلام من الصفات التي تتعلق بالقدرة والمشيئة، ليس صفة ذات ومعنى واحد يقوم بالله تعالى كما يقوله الأشعرية، كما أَنَّهُ ليس هناك خلاف بين الألباني وابن تيمية في أن الله تعالى لم يكن معطلاً عن الفعل بمعنى أنه كان يمتنع عليه الفعل في وقت ما كما يقول الأشعرية والجهمية، وإنما الخلاف في ثبوت ((أول)) المخلوقات، وإن شئت فقل إن كلام الشيخ الألباني في التفرقة بين التسلسل في أفعال وكلام الله والتسلسل في مفعولاته، فالأول ثابت عن الشيخ الألباني، وهو دوام فاعلية الرب تعالى ولذا لما ذكر شارح الطحاوية مذهب أهل السنة ((أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء.. وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً وهذا المأثور عن أئمة السنة والحديث)) لم يتعقبه الألباني بشيء، بل نَقَلَهُ في تعليقه على الطحاوية [ص 41 – ط المكتبة الإسلامية]، نَقْلَ راضٍ عَنْهُ.(14/5)
وأما مسألة التسلسل في المفعولات فهو التسلسل الممكن لا الواجب، وكلام الشيخ الألباني لا يمنع الإمكان، وإنما نقطة النزاع هي: هل ورد في النصوص ما يحدد أن للمخلوقات أول أو لا، بغض النظر عن إمكانية ذلك قبل هذا المخلوق الذي يقال له أول المخلوقات، سواء كان القلم أو العرش أو غيرهما.
فأئمة السلف مجتمعون على أن الله تعالى لم يكن مسلوبَ الكمال في وقتٍ من الأوقات من كلامه وأفعاله، فقد سئل ابن عباس عن قوله:{وكان الله غفوراً رحيماً}[النساء، آية:96] {عزيزاً حكيما}[النساء، آية:56] {سميعاً بصيرا}[لنساء، آية:58] فقال: ((لم يزل كذلك))(1). وذكره الحميدي بلفظ ((فإن الله جعل نفسه وسمى نفسه ذلك ولم يَنْحَلْهُ أحد غيره وكان الله: أي لم يزل كذلك))، وهذا معناه أنه إذا نحل ذلك غيره كان ذلك مخلوقاً بخلق ذلك الغير، فلا يخبر عنه بأنه كان كذلك، وأما إذا كان هو الذي سمى به نفسه، ناسب أن يقال إنه كان كذلك، وما زال كذلك، لأنه هو لم يزل سبحانه وتعالى، وهذا التفريق إنما يصح إذا كان غير مخلوق ليصح أن يقال لما كان هو المسمي لنفسه بذلك كان لم يزل كذلك(2) .
وكذا قال جعفر الصادق لما سئل عن قوله:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}[المؤمنون، آية:115] لم خلق الله الخلق؟ فقال: ((لأن الله كان محسناً بما لم يزل إلى ما لم يزل، فأراد أن يضيف إحسانه إلى خلقه)) أهـ، وكذلك الدارمي قال: كل حي لابد أن يكون فعالاً وما ليس بفاعل فهو ليس بحي فالحياة والفعل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود (3) . أ هـ.
__________
(1) رواه البخاري في تفسير سورة فصلت، (8/555، 556)، في الترجمة معلقاً عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ثم وصله في آخره .
(2) التسعينية لابن تيمية (2/578) .
(3) انظر: شرح هراس على النونية، (1/170) .(14/6)
وكذلك قال أحمد في رده على الجهمية حيث قال: ((ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً. فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام. ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة)) (1).أهـ.
وكذلك قال ابن المبارك: لم يزل الله متكلماً إذا شاء(2).
وكذلك قال أبو عبد الله البخاري في: ((خلق الله أفعال العباد)) (3)، قال أبو عبدالله: ((ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة))، فضيق عليه حتى مضى لسبيله وتوجع أهل العلم لما نزل به.
وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيماً، ومن نحا نحوه ليس بمفارق ولا مبتدع بل البدع والرَّمْيُ بالجهل بغيرهم أولى، إذ يفتون بالآراء المختلفة، مما لم يأذن به الله.
فهذه نصوص أئمة السلف في دوام فاعلية الرب سبحانه وتعالى والألباني لا يخالف ذلك بإثباته أول المخلوقات، فحيث كان الرب تعالى لم يزل قادراً على الفعل، فالقول بإمكان تأخر الفعل ووجود أول للمخلوقات هو قول بجواز حوادث لا أول لها، على ما اقتضاه الفرق بين التسلسل في الفعل والتسلسل في المفعولات، ولا أظن أن الدكتور يفرق بينهما.
فلا يظن ظان أن المسألة خلاف بين ابن تيمية والمتكلمين وأن الألباني رجح رأي المتكلمين حاشاه ذلك.
وأختم هنا بالنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ليفهم مَنْ لا يفهم هذا القول:
أولا: تكفير مَنْ قال بقدم عين العالم:
__________
(1) الرد على الجهمية للإمام أحمد، ص:34 .
(2) نقله شيخ الإسلام في: مناهج السنة، (2/383).
(3) خلق أفعال العباد، ص: 107.(14/7)
يقول شيخ الإسلام(1): ثم يقال لهؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم السماوات والأرض ودوامهما فهو كفر وهو قول بقدم العالم(2).
وهذا النقل يهدم قولك يا دكتور عمر عن كلام شيخ الإسلام، ((ولشناعة هذا القول واقترابه إن لم يكن تطابقه مع مذهب الفلاسفة تبرأ منه الألباني)). فأين اقتراب ذلك من مذهب الفلاسفة وهو يكفر القائلين بقدم العالم منهم؟ وأين تطابق ذلك يا دكتور عمر مع مذهب الفلاسفة؟ لكن الدكتور قطعاً لم يفهم الفرق بين قدم النوع وقدم العين وإلا لما قال ذلك.
يقول شيخ الإسلام أيضاً(3): ((بل القول بقدم العالم قَوْلٌ اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق لكل شيء والعرب المشركون كلهم كانوا يعترفون بأن الله خالق كل شيء وأن هذا العالم كله مخلوق والله خالقه وربه(4).أ هـ، وأوضح رحمه الله الفرق بين القدم بالنوع وبالعين في عدة مواضع من كتبه لمن قرأها وفهمها ومن ذلك(5).
((كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه، وما ثَمَّ قديمٌ أزليٌّ إلا الله وحده، وإذا قيل لم يزل خالقاً فإنما يقتضي قدم نوع الخليقة، ودوام خليقته لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات فيجب التفريق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل أن منها شيئاً أزلياً، ومن قال بقدم شيء من العالم كالفلك أو مادته، فإنه يجعله مخلوقاً بمعنى أنه كان بعد أن لم يكن ولكن إذا أوجده القديم.
ولكن لم يزل فعالاً خالقاً ((ودوام خالقيته)) من لوازم وجوده فهذا ليس قولاً بقدم شيء من المخلوقات بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه)) .
__________
(1) الفتاوى، (2/188).
(2) الفتاوى، (8/380).
(3) نقله شيخ الإسلام في: مناهج السنة، (5/539).
(4) انظر: (6/31) وما بعدها.
(5) انظر: مجموع الفتاوى، (16/95).(14/8)
ويقول ابن القيم: في ((النونية)) في بيان مذهب أهل الحديث في هذه المسألة وقد أتى به نظماً ما عجز عنه نثراً قال رحمه الله:
والآخرون أولو الحديث كأحمد ... ذاك ابن حنبل الرضا الشيباني
قد قال إن الله حقا لم يزل ... متكلماً إن شاء ذو إحسانِ
جعل الكلام صفات فعل قائم ... بالذات لم يفقد من الرحمنِ
وكذا نص على دوام الفعل بالإحسان ... أيضاً في مكان ثانِ
وكذا ابن عباس فراجع قوله ... لما أجاب مسائل القرآنِ
وكذاك جعفر الإمام الصادق المقبول ... عند الخلق ذو العرفانِ
قد قال لم يزل المهيمن محسناً ... براً جواداً عند كل أوانِ
وكذا الإمام الدارمي فإنه ... قد قال ما فيه هدى الحيرانِ
قال الحياة مع الفعال كلاهما ... متلازمان فليس يفترقانِ
صدق الإمام فكل حيٍ فهو فعالٌ ... وذا في غاية التبيانِ
إلا إذا ما كان ثم موانِع ... من آفة أو قاسر الحيوانِ
والرب ليس لفعله مِنْ مانعٌ ... ما شاء كان بقدرة الديانِ
ومشيئة الرحمن لازمة له ... وكذاك قدرة ربنا الرحمنِ
هذا وقد فطر الإله عباده ... إن المهيمن دائم الإحسانِ
أولست تسمع قول كل موحد ... يا دائم المعروف والسلطانِ
وقديم الاحسان الكثير ودائم الجود ... العظيم وصاحب الغفرانَ
من غير إنكار عليهم فطرة ... فُطِروا عليها بِلاَ تَوَاصٍ ثانِ
أوليس فعل الرب تابع وصفه ... وكماله أفذاك ذو حد ثانِ
وكماله سبب الفعال وخلقه ... أفعالهم سبب الكمال الثانيِ
أو ما فعال الرب عين كماله ... أفذاك ممتنع على المنانِ
أزلاَ إلى أن صار فيما لم يزل ... متمكناً والفعل ذو إمكانِ
تالله قد ضلت عقول القوم إذ ... قالوا بهذا القول ذي البطلانِ
ماذا الذي أضحى له متجدداً ... حتى تمكن فانطقوا ببيانِ
والرب ليس معطلا عن فعله ... بل كل يوم ربنا في شانِ
والأمر والتكوين وصفُ كمالِهِ ... ما فَقْدُ ذَا ووجودُهُ سيانِ
وتخلف التأثير بعد تمام مو ... جبه محال ليس في الإمكانِ(14/9)
والله ربي لم يزل ذا قدرة ... ومشيئة ويليهما وصفانِ
العلم مع وصف الحياة وهذه ... أوصاف ذاتِ الخالق المنانِ
وبها تمامُ الفعل ليس بدونها ... فعل يتم بواضح البرهانِ
فلأي شيء قد تأخر فعله ... مع موجب قد تم بالأركانِ
ما كان ممتنعا عليه الفعلُ بل ... ما زال فعلُ الله ذا إمكانِ
والله عاب المشركين بأنهم ... عبدوا الحجارةَ في رضا الشيطانِ
ونعى عليهم كونها ليست بخا ... لقةٍ وليست ذا نطق بَيَانِ
فأبان أن الفعل والتكليم من ... أوثانهم لا شك مفقودانِ
إن كان رب العرش لم يزل ... أبداً إله الحق ذا سلطانِ
فكذاك أيضاً لم يزل متكلما ... بل فاعلاً ما شاء ذا إحسانِ
هذا وما دون المهيمن حادث ... ليس القديمُ سواه في الأكوانِ
والله سابقُ كلِ شيء غيره ... ما ربنا والخلق مقترنانِ
والله كان وليس شيءٌ غيره ... سبحانه جل العظيم الشان
لسنا نقول كما يقول الملحد الز ... نديق صاحب منطق اليونان
بدوام هذا العالم المشهود والأ ... رواح في أزلِ وليس بفانِ
هذى مقالات الملاحدة الأُلى ... كفروا بِخَلْقَةِ هذه الأكوانِ
فصل في اعتراضهم على القول بدوام فعالية الرب تعالى وكلامه والانفصال عنه.
فإذا زعمتم أن ذاك تسلسل ... قلنا صدقتم وهو ذو إمكانِ
كتسلسل التأثير في مستقبل ... هل بين ذينك قط من فرقانِ
ج
والله ما افترقا لذي عقل ولا ... نقل ولا نظر ولا برهانِ
ج
في سلب إمكان ولا في ضده ... هذي العقول ونحن ذو أذهانِ
فَلْيأْتِ بالفرقان مَنْ هو فارق ... فرقاً يبين لصالح الأذهانِ
جج
وكذاك سَوَّى الجهمُ بينهما ... كذا العلاف في الإنكار والبطلانِ
ولأجل ذا حَكَمَا بحكم باطلٍ ... قطعاَ على الجنات والنيرانِ
ج
فالجهم أفنى الذات والعلاف ... للحركات أفنى قاله الثورانِ
وأبو علي وابنه والأشعري ... وَبُعَيْدَهُ ابن الطيب الربانيِ
وجميع أرباب الكلام الباطل ... المذموم عند أئمة الإيمانِ
فرقوا وقالو ذاك فيما لم يزل ... حق وفي أزل بلا إمكانِ(14/10)
قالوا لأجل تناقض الأَزَلِيِّ والإ ... حداث ما هذان يجتمعانِ
لكنْ دوامُ الفعل في مستقبلٍ ... ما فيه محذورٌ من النكرانِ
فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق تَْر ... وِيجاً على العوران والعميانِ
ما قال ذو عقل بأن الفرد ذو ... أزلٍ لذي ذات ولا أعيانِ
بل كل فرد فهو مسبوق بفر ... د قبله أبداً بلا حسبانِ
ونظير هذا كل فرد فهو ... ملحوق بفرد بعده حكمانِ
النوع والآحاد مسبوق وملحوق ... وكلٌ فَهُوَ مِنْهَا فانِ
والنوع لا يفنى أخيراً فهو لا ... يفنى كذلك أولا بِبَيَانِ(1) .
ولعلك يتضح لك هذا الأمر يا دكتور الآن فتقلع عما رميت به شيخ الإسلام ابن تيمية وتعرف خطأك في هذا وتتوب إلى الله تعالى من ذلك .
والعجب أنك يا دكتور أقحمت هذه المسألة في كتابك ولم تبين وجه ((الرد على د. سفر)) وأين قال سفر بما قاله(2) لكنها شِنْشِنَةٌ أعرفُها من أَخْزَم.
أصل ضلال المتكلمين في هذه المسائل:
لما أراد المتكلمون تقرير كون الله سبحانه وتعالى خالقاً لكل شيء فالعالم مخلوق لله مخالفةً للفلاسفة القائلين بقدم العالم، ظنوا أن معنى ذلك أنه سبحانه وتعالى لم يزل معطلاً لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء أصلاً، بل هو وحده موجود بلا كلام يقوله ولا فعل يفعله. ثم إِنه أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته المنفصلة عنه فأحدث العالم. وظنوا أن ما جاءت به الرسل واتفق عليه أهل الملل – من أنَّ كل ما سوى الله مخلوق، والله خالق كل شيء – هذا معناه، وأن ضد هذا قولُ من قال بقدمِ العالم أو بقدمِ مادتِهِ، فصاروا في كتبهم الكلامية لا يذكرون إلا قولين:
__________
(1) ويمكن مراجعة شرح هذه الأبيات في شرحي أحمد بن عيسى، وخليل هراس، ولولا الإطالة لنقلتها بتمامها.
(2) ونهدي لك يا دكتور مقدمة د . سفر لكتابه (قدم العالم وتسلسل الحوادث لشيخ الإسلام ابن تيمية) للباحثة النابهة/ كاملة الكواري، لعلك تكون على رأي د . سفر في ذلك .(14/11)
((أحدهما)): قولُ المسلمين وغيرهم من أهل الملل أن العالم مُحْدَثٌ، ومعناه عندهم ما تقدم.
((والثاني)): قول الدهرية الذين يقولون: العالم قديم، وصاروا يحكون في كتب الكلام والمقالات أن مذهب أهل الملل قاطبة من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم أن الله كان فيما لم يزل لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بشيء، ثم إنه أحدث العالم؛ ومذهب الدهرية أن العالم قديم والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له؛ فينكرون الصانع جل جلاله.
فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القولُ بقدم العالم، إلا عمن ينكر الصانع. فلما أظهر مَنْ أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولاً آخر للقائلين بقدم العالم، أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا أيضاً يطلقون ألفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي، لا يريدون بذلك أن الله أحدث شيئاً بعد أن لم يكن، وإذا قالوا: إن الله خالق كل شيء، فهذا معناه عندهم؛ فصار المتأخرون من المتكلمين يذكرون هذا القول، والقول المعروف عن أهل الكلام في معنى حدوث العالم الذي يحكونه عن أهل الملل.
وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام من امتناع دوام فعل الله، وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين، فقالوا: الأجسام لا تخلو من الحوادث، ومالا يخلو عن الحوادث، فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، لأن مالا يخلو عنها ولا يسبقها يكون معها أو بعدها، وما كان مع الحوادث أو بعدها فهو حادث.(14/12)
ولما كانت حقيقة هذا القول أن الله سبحانه لم يكن قادراً على الفعل في الأزل؛ بل صار قادراً على الفعل بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ كان هذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء، حتى أنه كان من البدع التي ذكروها من بدع الأشعري في الفتنة التي جرت بخراسان لما أظهروا لعنة أهل البدع، والقصة مشهورة.
ثم إن أهل الكلام وأئمتهم كالنظام والعلاف وغيرهما من شيوخ المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من سائر الطوائف يقولون: إن دين الإسلام إنما يقوم على هذا الأصل، وأنه لا يعرف أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الأصل؛ فإن معرفة الرسول متوقفة على معرفة المرسِلِ، فلا بد من إثبات العلم بالصانع أولاً، ومعرفة ما يجوز عليه ومالا يجوز عليه.
قالوا: وهذا لا يمكن معرفته إلا بهذه الطريقة،فإنه لا سبيل إلى معرفة الصانع فيماً زعموا إلا بمعرفة مخلوقاته، ولا سبيل إلى معرفة حدوث المخلوقات إلا بهذه الطريق فيما زعموا، ويقول أكثرهم: أول ما يجب على الإنسان معرفة الله؛ ولا يمكن معرفته إلا بهذا الطريق.
ويقول كثير منهم: إِن هذه طريقة إبراهيم الخليل - عليه السلام - المذكورة في قوله: {لا أحب الآفلين}[الأنعام، آية: 76]، قالوا: فإن إبراهيم استدل بالأفول – وهو الحركة والانتقال- على أَنَّ المتحرك لا يكون إلهاً.
قالوا: ولهذا يجب تأويل ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالفاً لذلك من وصف الرب بالإتيان والمجيء والنزول وغير ذلك؛ فإن كونه نبياً لم يعرف إلا بهذا الدليل العقلي فلو قدح في ذلك لزم القدح في دليل نبوته فلم يعرف أنه رسول الله، وهذا ونحوه هو الدليل العقلي الذي يقولون إنه عَاَرضَ السمعَ والعقلَ. ونقول إذا تَعَارَضَ السمعُ والعقلُ امتنع تصديقُهما وتكذيبُهما وتصديقُ السمع دون العقل؛ لأن العقل هو أصل السمع، فلو جُرِحَ أصلُ الشرعِ كان جرحاً له.(14/13)
ولأجل هذه الطريق أنكرت الجهمية والمعتزلة الصفات والرؤية، وقالوا: القرآن مخلوق؛ ولأجلها قالت الجهمية بفناء الجنة والنار؛ ولأجلها قال العلاف بفناء حركاتهم؛ ولأجلها فرع كثير من أهل الكلام.
وهذه الطريق مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام. فإنه من المعلوم لكل مَنْ عَلِمَ حالَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء به من الإيمان والقرآن، أنه لم يدعُ الناس بهذه الطريق أبداً ولا تكلم بها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، فكيف تكون هي أصلَ الإيمان؟! والذي جاء بالإيمان وأفضل الناس إيماناً لم يتكلموا بها أَلْبتةَ، ولا سلكها منهم أحد(1).
فالحاصل أن المذهب كان بداية رد على الفلاسفة، ثم صاروا إلى هذا الدليل ((الجواهر والأعراض)) والتزموا لوازمه الباطلة، كل فريق بحسب ما يراه، فردوا النصوص لأجل هذه الالتزامات وابتدعوا التأويل والتفويض ونحو ذلك مما تقدم.
والدكتور عمر لم يخرج في الجملة عن هذا الطريق الباطل، فَأَصَّلَ أُصولاً مجملة من عنده ثم ذكر أن النصوص تنزل عليها كما تقدم، بل وادعى أن ((التأويل والتفويض)) هما مذهبا السلف، وسيأتي بيانُ وَهَاءِ ذلك عند مبحث ((الصفات))
و ((التأويل)) ، وخلاصته أن السلف كانوا يثبتون مع التنزيه كما قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[الشورى، آية:11]، و{ليس كمثله شيء} رد على الممثلة، و{وهو السميع البصير} رد على المعطلة.
__________
(1) مجموع الفتاوى، (5/539-543) بتصرف.(14/14)
ولم يكن السلف يُمِرُّونَ ألفاظ النصوص بلا فهمٍ لمعناها، ولذلك قالوا نُمِرُّها كما جاءت بلا كيف وهي جاءت عربية بمعنى بغير علم بكيفيتها فهكذا إِمرارُها بمعنى بغيرِ عِلْمٍ بالكيفية، ولذا قال الإمام مالك: ((الاستواء معلوم والكيف مجهول)) ولم يقل لا نعلم معنى الاستواء، ولم يقل إن الاستواء مثل ((الم)) متشابه في معناه، وأنا خوطبنا بما لا نعرف معناه، وهذا كله يصادم عدة نصوص كقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن}[محمد، آية: 24] و {كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته}[ص، آية: 29] فكيف نتدبر ما لا نعلم معناه يا د. عمر وأما الحروف المقطعة في أوائل السور على أنها ليست بآيات عند جمهور العادّين إلا أن الناس تكلموا في معانيها، ومنهم من قال إنها سرٌّ لله في القرآن فإن كانت معلومة المعنى، فالقرآن كله يكون كذلك، وإن كانت سراً فما سواها ليس بسر، فليس للتفويض الذي ذكرتَهُ محلٌّ يرِدُ عليه
يا د. عمر وأخلف الله على الأشاعرة عقيدة صحيحة يفهمون بها هدي الكتاب والسنة.(14/15)
مصدر التلقي عند الأشاعرة وقانون الرازي الكلي:
قَدَّم د. عمر في تعليقه على د. سفر بأنه اتخذ سبيل التلبيس حيث ذكر
د. سفر أن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل، ثم شرحه بأن أئمتهم صرحوا بتقديم العقل على النقل عند التعارض وأن منهم من صرح بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
والواقع أنه لم يتضح وجه إنكار د. عمر، فالدكتور سفر أخذ من مبدأ تقديم العقل على النقل، أن العقل أصل يقدم على ما سواه، فيكون مصدراً للتلقي، وحيداً عِنْدَ التعارض، ومع غيره عند عدم التعارض.
فأين التلبيس وهذا هو مذهب القوم، وصرح به الجويني في الإرشاد والرازي في أساس التقديس حيث جعل نصوص السمع إنما يوردها على سبيل ((التبرع)) لبيان موافقتها أو مخالفتها للعقل أي ليقوم بتأويلها وإخراجها عن ظواهرها احتراماً للدليل العقلي(1)، أليس هذا واضحاً في تقديم العقل وجعله مصدراً للتلقي.
ثم إن الدكتور سفر ذكر جملة من الأشاعرة أحال على مؤلفاتهم في الحاشية بالجزء والصفحة ونقل نقولاً عن بعضهم كقانون الرازي الكلي وكقول السنوسي في شرح الكبرى ((وأما من زعم أن الطريق بدأ إلى معرفته الحق بالكتاب والسنة ويحرم ما سواهما، فالرد عليه أن حجيتها لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر مَنْ اعتقدها على ظاهرها كَفَر عند جماعة وابتداع أي عند آخرين إلى أن قال عن أصول الكفر الستة قال في سادسها: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عَرْضٍ على البراهين العقلية والقواطع الشرعية))(2).
ولو أردنا أن ننقل من هذه الكتب وغيرها ما يؤيد كلام د. سفر لطال المقام بنا.
فماذا فعل د. عمر؟؟، لقد أعرض عن كل ذلك وقام بالتلبيس الواضح فأطلق القول بأنه لا يمكن د. سفر إثبات ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين، علماً أن
__________
(1) الإرشاد، ص359-360، أساس التقديس (ص172-173).
(2) شرح الكبرى للسنوسي، ص502.(15/1)
د. سفر نقل نقولاً واضحة في ذلك وأحال في الحاشية على غيرها لكن د. عمر أوقع نفسه في مأزق، فصار الأمر لا يخلو من أن يكون لم يقرأ ما كتبه د. سفر ((وهو بصدد الرد عليه)) أو أنه لم يفهم ما كتبه د. سفر، أو تكون الثالثة، وهي أن القصاصات التي وردت إليه لم يكن فيها غير ذلك ولم يراجع بنفسه ما كتبه د. سفر، ولا ما أحال عليه وعلى كلٍ فالأمر يحتاج إلى أن يوضح لنا د. عمر لماذا تناقض هكذا؟
وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أنه ينقل عن إشارات المرام أن العقل معتبر وآلة لمعرفة ذلك ((أي الوجوب الثابت لله تعالى ....الخ)) بدون السمع أليس هذا من العجيب، فما نقله د. عمر أن العقل معتبر وآلة بدون السمع.. وطبعاً لا يمكن أن نتخيل أشعرياً يثبت لله الصفات الخبرية بموجب ذلك لأن العقل معتبر وآلة بدون السمع، فأنى للعقل أن لله يداً أو وجهاً أو أصابع ولذلك ينكرون على ذلك بالتأويل والتفويض والتعطيل، ثم يقال هم أنصار الحديث والسنة!!.
ويتمادى د. عمر في هذا الغَي الواضح فينقل في تعليقه على قانون الرازي عن صاحب كتاب نظرة عابرة(1)، بأن ((التقعر بالاحتمالات العشرة لا يمت إلى أي إمام من أئمة الدين بصلة)).. فهل هذا رد على الرازي، فهو إقرار بأن الرازي أخطأ في قانونه الكلي، ورغم أنه تابعه عليه الكثيرون، فهذا غايته أن يكون بعض عقلاء الأشاعرة استشعروا فداحة ما قرره الرازي وأنه مِعْوَلُ هَدْمٍ للشريعة ((وهو كذلك)) لكن هذا لا يمنع أن الأشاعرة عند تعارض المفاهيم العقلية عندهم على نصوص الشرع فإنهم يقدمون مفهوم العقل وإن كانت طريقتهم ليست بالأسلوب ((اَلْفِجِّ)) الذي ذكره الرازي.
__________
(1) لم يذكر الدكتور عمر اسم الكتاب كاملاً ولا المصنف ومن الواضح من السياق أنه من المعاصرين.(15/2)
والظاهر أن الأشاعرة يتناقضون عند ذكر المنهج الكلي وعند الجزئيات فقد قال محشي شرح العقائد العضدية: ((أصول الكلام وأمهات مسائله التي تفيد التصديق بوجوده سبحانه وتعالى وسائر صفاته وأسمائه اْلعُلَىا على ما ورد به الكتاب والسنة في الاقتصار على ما ورد به الشرع وملازمة حدوده فيما أثبته ونفى ما نفاه والسكوت عما عداه، وهذا هو الفقه الأكبر وأصول الدين ثم رد بقوة على المتكلمين بأن أقوالهم التي اخترعوها واخترعتها أوهام المتكلمين باطلة من أن وجوده زائد على ذاته أو عينه وأن صفاته كيت و كيت من الكيفية والكمية سبحانه وتعالى عما يصفون))(1).
وهذا كلام فيه حق كثير، إلا أنه كعادة الأشاعرة أَغْفَلَ ((توحيدَ الأُلوهيةِ)) الذي هو أساس دعوة الرسل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
أما عن الجزئيات، فهم ينفون كلَّ الصفات الفعلية حذراً من حلول الحوادث وحوادث لا أول لها زعموا، كما يقولون بالجبر المغلف باسم ((الكسب)) ويقولون بتأويل الرؤية بالعلم وينكرون العلو وغير ذلك مما هو مصادم لمئات النصوص من الكتاب والسنة، ثم يكون بعد ذلك التشدق بالمتابعة للنصوص وهيهات.
__________
(1) انظر: في ذلك حاشية الخلخالي والمرجاني على شرح العضدية (1/6).(15/3)
الكلام على إثبات وجود الله :
هذا المطلب في كتاب الدكتور عمر على صغر حجمه (ص:90) إلا أنه أبان عن تناقض عظيم، وتلبيسٍ كبير، إن لم يكن عدم فهمٍ من الدكتور لما يكتبه أو ربما لما جاءه من قصاصات متناثرة.
وذلك أنه أتى بكلام الدكتور سفر حول ما يقال له ((دليل الجواهر والأعراض)) ثم علق عليه بأن استدلال الأشاعرة ليس به بأسٌ طالما كان الدليل صحيحاً، وَرَدَّ على الاعتراض بطوله وصعوبته بما ذَكَرَ مِنْ أن غرض الأشاعرة الرد على الفرق المتأثرة بالفلاسفة، وإلا فالمقَّدم عندهم الأدلة السمعية مع تفويض معناها..)).
ما هذا يا دكتور عمر؟ ما هذا؟ ما هذا؟
استمع يا دكتور للرد:
أولاً: دليل الجواهر والأعراض ليس صحيحاً في نفسه، وأبو الحسن الأشعري ذكر أنه محرم في شريعة الأنبياء، وإن كان يظنه صحيحاً، لكن ماذا عسى أن يفعل أشاعرةُ اليوم؟ وقد نسف ((العلم الحديث)) أسطورةَ الجوهر الفرد وهو ((الجزء الذي لا يتجزأ)) وليس له عَرْضٌ ولا عُمْقٌ ولا طولٌ ولا وزنٌ
ولا... ولا... .
لقد صار طلاب المدارس المتوسطة بل الابتدائية يعرفون أن المواد تتكون من الجزئيات والذرات وأن الذرة تتألف من الالكترونات والبروتونات والنيترونات والبوزيترونات.. وكل هذه الجسيمات لها طولٌ وعرضٌ وعمقٌ ووزنٌ وشحنٌ كهربائية بغير هذا ((الخَبَل)) الذي زعمه أبو الهذيل العلاف ((ومنه تلقف الأشاعرة)) الجوهر الفرد، وأخلف اللهُ على الأشاعرة في هذا الذي بنوا عليه أصل دينهم، ويمكنك يا دكتور عمر أن تسأل أحد أحفادك عما ذكرتُهُ لك إن لم تكن تذكر دراستك له.(16/1)
ثانياً: قولك إن الأشاعرة أرادوا الردَّ على الفرق المتأثرة بالفلاسفة..إلخ، فهل تقرير إثبات وجود الله مَسُوقٌ للردِ على فلان أو علان، فإن لم يكن تقريره بالفطرة كما هو مذهب السلف والمسلمين كلهم ، فإثباته بهذا الدليل المتهاوي الضعيف يكون رداً على مَنْ؟؟ هلا سددتم خرق مذاهبكم حيث اتسعت خروقها ولم يعد ترقيعها ممكنا، هل تقرير ((أصل الاعتقاد)) والذي يتفرع منه غيره يكون للرد على هؤلاء أو أولئك؟؟
ثالثاً: ثم تأتيك الطامة الثالثة، وهي أن المقدم عِنْد الأشاعرة الأدلة السمعية مع تفويض معناها؟ ولعمر الله لم يكن أحد من الأشاعرة ليرضى أن يكتب مثل هذا لئلا يضحك عليه العقلاء، فالمقدم عند الأشاعرة في ماذا؟ هل في تقرير الاعتقاد كيف وكتبهم طافحة بأن الأدلة السمعية كالمدد لجيش مُسْتَغْنًي عنه، وكالشهود الزائدين على النصاب.
ثم ما الذي تقرره الأدلة السمعية عن الأشاعرة وهم يفوضون معناها، فهل هذا كلام مترابط؟ يا دكتور عمر. إن كان التفويض للمعنى أي لا يفهم من المعنى شيء مع القطع بأن ظاهرة غير مراد، فما الذي يستفيده الأشاعرة من هذه الأدلة السمعية.
تناقض تناقض تناقض.
وهذا شأن مَنْ ترك الكتاب والسنة إلى تُرَّهاتِ الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ...إلخ .(16/2)
تقسيم التوحيد :
بدأ الدكتور عمر تعليقه على هذا الجزء بالتعجب كيف يجزم د. سفر بأن الأشاعرة يجهلون معنى التوحيد ومعنى ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)).
ونحن نقول يا دكتور عمر نعم يجهلون معناها الذي أُرسِلَ به نبينا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فإنهم حرفوا معناها، فجعلوا ((إله)) بمعنى ((اَلهِ)) أي لا قادر على الاختراع إلا الله ، ولا يعرفون أن ((إله)) بمعنى ((مألوه)) أي معبود.
أليس هذا تحريفاً؟؟ أليس هذا يدل على أنهم لم يعرفوا التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب؟؟.
ألم يكن يقر المشركون الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله ((إلهٌ)) خالق، {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}[ الزمر، آية:38]، {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}[الزخرف، آية: 87].
فلِمَ كفرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتَلَهُمْ، ولِمَ لما دعاهم إلى ((لا إله إلا الله)) قالوا: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب}[ص، آية: 5]. لماذا لما دعاهم إلى كلمة واحدة ((لا إله إلا الله)) نفروا منه، ما دام معناها لا قادر على الاختراع إلا الله وهم يقرون بأن الله هو الخالق ولا مشارك له في ذلك كما قال تعالى: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته}[الزمر، آية: 38]. وقد جاء عن قتادة أنهم قالوا: لا لكنها تنفع وتضر.
يا دكتور عمر لعلك تراجع ما درستَهُ في مراحل الدراسة الأولى حتى تعلم أن هؤلاء لم يكفروا بجحدهم الربوبية، فإنهم مثبتون لأصولها ((وإن كان قد يكون ثَمَّةَ مَنْ أشرك في بعض جزئياتها))، لكنهم لم يأتوا بلازم الربوبية وهو عبادة الله وحده لا شريك له ألست معي الآن أن الأشاعرة لم يعرفوا معنى ((لا إله إلا الله)) فعلاً .(17/1)
وأما قولهم ((محمد رسول الله)) فإنهم جعلوا تصديق الرسول يتوقف على بحوث عقلية عقيمة حتى يتأولوا من أقواله ما يتأولونه، ويردوا منها ما يردُّونه، تارة بتقديم ما يسمى ((العقل)) عليه، وتارة بالتمسك بالمجاز، وتارة بقولهم بأن النصوص آحاد لا تفيد اعتقاداً وأن الاعتقاد هو ما يقررونه بعقولهم لا غير.
ولو تصورنا أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ما جئتنا به من الحكمة والهدى لا نقبله منك حتى نعرضه على عقولنا، فما وافق عقولنا وهي الأصل الذي به صدقناك أخذنا به، وإلا فنحن نُعْرِضُ عما تقول ونلتمس الهدى في غيره من أصول عقلية ورثناها عن الفلاسفة وأذنابهم، وهم الشيوخ لنا في ذلك فهل مثل هذا الرجل مؤمن بالنبي وهل يرضى النبي منه ذلك، فما فعل الأشاعرة بنصوص الهدى التي جاء بها النبي، أولوها بِوَحْشِيِّ الألفاظ وغريب الكلمات. وأعرضوا عنها جميعاً فماذا بقي لهم من الإيمان برسول الله؟ فإن قلت إنهم أثبتوا أنه نبي قيل لك فهل هذا كاف، إن اليهود كانوا يثبتون أن محمداً نبي بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل ومشركو قريش قال الله عنهم {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام، آية: 33] .
وأبو الجن اللعين كان يعرف أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبي، فهل هذا هو الإيمان؟؟ لكن كل هذا فرع عن اعتقاد الأشاعرة في تصورهم للإيمان، فهم قد تابعوا الجهم في جعلهم الإيمان هو التصديق على نحو ما قال الجهم بأنه هو المعرفة، ولم يدخلوا الأعمال في مسمى الإيمان، وفي هذا الاعتقاد الفاسد يقول ابن القيم في النونية:
فاسأل أبا جهل وشيعته مَنْ
ج ... والاهمُ من عابدي الأوثان
وسل اليهود وكل أقلف مشركٍ
ج ... عبد المسيح مُقَبِّل الصلبان
واسأل ثمود وعاد بل سل قبلهم ... أعداء نوح أمة الطوفان
واسأل أبا الجن اللعين أتعرف الـ ... خلاق أم أصبحت ذا نكران(17/2)
واسأل شرار الخلق أغلى أمة ... لوطية هم ناكحوا الذكران
واسأل كذاك إمام كلِّ مُعَطِّلٍ ... فرعون مَعْ قارون مَعْ هامان
هل كان فيهم منكر للخالق الرب ... العظيم مُكَوِّنِ الأكوان
فليبشروا ما فيهم من كافرٍ
جج ... هم عند جهم كاملو الإيمان(1).
ونحن يا دكتور عمر نوجه هذا السؤال لكم أيضاً، هل الاعتقاد بأن الله هو الخالق والاعتراف بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول وليس بكاذب هل هذا يكفي من غير انقياد وإذعان؟؟
فإن كان قولكم إنه كاف فنقول: ((فليبشروا ما فيهم من كافر هم عند الدكتور عمر كاملو الإيمان)) ونحن ننزهك عن هذا، بل لابد من مفارقة المشركين بالاتباع والإذعان والإيمان.
أما مسألة تقسيم التوحيد:
فقد ذكر د. عمر ((التوحيد)) وأبطل تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية وأسماء الله وصفاته، وسماه ((التقسيم الثلاثي)) وزعم أنه لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري، ثم ادعى أن هذا التقسيم أفضى إلى استحلال دم المسلمين والتكفير.. إلخ كلامه.
يا د. عمر لا تكن مردداً لما قاله غيرك دون أن تفهم وتبحث وتناقش، فليس هذا التقسيم وليد القرن السابع، وليس وليد كلام ابن تيمية، بل هو مذكورٌ في كتب العلماء معروفٌ في أقوالهم، ولما تكلم ((السقاف)) بنحو هذا الهراء(2)، رد عليه الشيخ العباد، وقدم له د. صالح الفوزان، ووضع أمامه أقوال الإمام أبي يوسف وأقوالَ ابنِ منده وابنِ بطةَ وكلها فيها هذا التقسيم الصريح، فهلا راجعت كتابه واستفدت منه بيان الضلال الواقع في كلام السقافِ وغيره.
__________
(1) نونية ابن القيم، مع شرح ابن عيسى (1/65).
(2) رسالة له سماها ((التنديد بمن عدد التوحيد)) ولم يأت فيها بشيء يذكر إلا السفاهات التي لم تزل تعرف عنه فيما يسود به الصفات سباً فيمن يُسَمِّيهم بالتمسلفة فهو شأن الدكتور عمر مؤخراً أيضاً.(17/3)
إن هذا التقسيم هو حقيقة شرعية مأخوذ بالاستقراء التام لنصوص الكتاب والسنة، وليس مجردَ اصطلاحِ كاصطلاحات الفنون التي يقال لا مشاحة فيه، فإن الاستقراء يا د. عمر وأنت ممن يعرف أصول الفقه يكون دليلاً وحجة إذا كان تاماً(1)، كما قسم النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف والعرب لم تتكلم بذلك، ولم يأتِ من يعيب عليها هذا التقسيم على شَوْبِ ذلك بالاصطلاح، فكيف بالاستقراء التام للنصوص الشرعية والمؤيد بأقوال السلف والأئمة(2).
قال الإمام ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}[يوسف، آية:106].
((يقول تعالى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عز وجل صفتهم بقوله: {وكأين من ءآية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء إلا وهم به مشركون في عبادتِهم الأوثانَ والأصنامَ واتخاذِهم من دونه أرباباً وزعْمِهم أن له ولداً تعالى الله عما يقولون وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ....)).
فروي عن ابن عباس أنه قال: ((من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون)).
وعن عكرمة أنه قال: ((تسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره)).
وعن مجاهد قال: ((إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شِرْكِ عبادتهم غيره)).
__________
(1) وذلك بالاتفاق، انظر شرح الكوكب المنير (4/418)، المحلي والبناني على جمع الجوامع 2/245 ، 246 .
(2) راجع هذا الاستقراء في أضواء البيان للشنقيطي (3/410-414)، وانظر التحذير من مختصرات الصابوني في السنة لبكر أبو زيد(ص:30) .(17/4)
وعن ابن زياد قال: ((ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أفرءيتم ما كنتم تعبدون أنتم وءاباؤكم الأقدمون فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين}[سورة الشعراء، آية: 76] قَدْ عَرَفَ أنهم يعبدون ربَّ العالمين مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا)) (1).
وقال الإمام أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطةَ العكبري (ت387):
((أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقادُهُ في إثباتِ الإيمانِ به ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً.
والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وَصَفَ به نفسه في كتابه.
وإذ قد علمنا أن كثيراً ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده في صفاته قادحاً في توحيده.
ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة من هذه الثلاث والإيمان بها.
فأما دعاؤه إياهم إلى الإقرار بربانيته ووحدانيته فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه، ولأن الجهمي يدعى لنفسه الإقرار بهما وإن كان جَحْدُهُ للصفات قد أبطل دعواه لهما...)) (2).
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (8/77 - 79).
(2) الإبانة لابن بطة (693 -694) عن القول السديد (ص:36).(17/5)
وقد ذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحق بن منده (ت395هـ) هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد وضمنها كتابه (التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الإتفاق والتفرد) (1)، وقد نقل أيضاً كلاماً نفيساً للقاضي أبي يوسف صاحب الإمام حنيفة (ت182هـ) وفيه أنواع التوحيد الثلاثة ومن كلامه:
((إن الله عز وجل خلقك وجعل فيك آلاتٍ وجوارحَ عجز بعض جوارحك عن بعض وهو ينقلك من حال إلى حال لتعرف أن لك رباً وجعل فيك نفسك عليك حجة بمعرفته تتعرف بخلقه، ثم وصف نفسه فقال: أنا الرب وأنا الرحمن وأنا الله وأنا القادر وأنا المالك فهو يوصف بصفاته ويسمى بأسمائه، قال الله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعون فله الأسماء الحسنى}[سورة الإسراء، آية: 110]، وقال: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يُلحدون في أسمائه} [سورة الأعراف، آية: 180]، وقال: {له الأسماء الحسنى يُسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [سورة الحشر، آية:24]، فقد أمرنا الله أن نوحده، وليس التوحيد بالقياس؛ لأن القياس يكون في شيء له شبه ومثل، فالله تعالى وتقدس لا شبه له ولا مثل له تبارك الله أحسن الخالقين)) (2).
وقال العلامة ملا علي سلطان القاري: ((فابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقرير توحيد الربوبية، المترتب عليه توحيد الألوهية، المقتضي من الخلق تحقيق العبودية، وهو ما يجب على العبد أولا من معرفة الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) انظر مقدمة التوحيد لابن منده (1/27 - 28)، (33- 42).
(2) التوحيد لابن منده (3/304 - 306).(17/6)
والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية؛ لقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}، وقوله سبحانه حكاية عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، بل غالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما. فإن القرآن إما خبرٌ عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوتُهُ إلى عبادتِهِ وَحْدَهُ لا شريك له وَخَلْعِ ما يُعْبَدُ من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإِما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في العقبى فهو جزاءُ توحيدِهِ، وإما خبرٌ عن أهل الشرك وما فَعَلَ بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال، فهو جزاء مَنْ خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوق أهله وثنائهم وفي شأن ذم الشرك وعقوق أهله وجزائهم)) (1)أهـ.
فهذه النقول وأشباهها يعرف منها وَهَاءُ القولِ الذي جاء به د. عمر في زعمه أن التقسيم الثلاثي لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري.
ثم لم يبين لنا د. عمر كيف كان التقسيم للتوحيد يفضي إِلى استحلال دم المسلمين واتهامهم بالشرك وعبادة القبور؟؟، فإذا كان هناك من يعبد القبر ويشرك بالله فما علاقةُ تقسيمٍ اصطلاحيٍّ بفعله هو؟؟ إلا إن كان د. عمر يرى أن دعاء غير الله من المقبورين وطلب العون منهم والرزق والشفاء ...إلخ ليس شركاً، فهذا يحتاج إلى أن يبدأ د. عمر بتعلم ما هو الشرك وما هو التوحيد؟، ولعمر الله فظاهر كلامه يدل على شيء من ذلك مما نود أن يجهد برده والتبرؤ منه.
__________
(1) شرح الفقه الأكبر (ص:15) .(17/7)
أما الأوجه التي زعم أنها تبطل تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية، فهي دخان يرقى إلى السماء ثم ينحط إلى الحضيض الأسفل التحتاني، وقد بدأ ذلك بِزَعْمِ أَنَّ ابنَ تيميةَ هو أول من قرره وقد تقدم أن هذا التقسيم قبل ابن تيمية بخمسة قرون، وأما كون هذا التقسيم غير معقول فهذا باعتبار فهم د. عمر ومن نقل عنهم وكما قيل.
وما ضر نور الشمس إِذْ كان ناظراً ... إليها عيونٌ لم تزل دَهْرَهَا غُمَّضاً
بل قولك يا د. عمر ((والله تعالى هو الرب والرب هو الإله فهما متلازمان يقع كل منهما موضع الآخر)) فهو كلام عجيب في جعل ((المتلازم)) هو ((المترادف))، وكأنك لا تفرق بينهما وأنت مَنْ يُعَلِّمُ الطلابُ ((أصول الفقه)) ثم من أنكر أن الله تعالى هو الإله الحق وهو الرب الحق وهو المتصف بكامل الصفات المسمى بالأسماء الحسنى، ومن أنكر توحيد الربوبية مستلزم للألوهية، لقد سقت على إثبات استلزام توحيد الربوبية للألوهية نصوصاً نشكرك على إيرادها، وقد صدرتها بقوله تعالى: {رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم، آية: 65]، وقلت ((فرتب العبادة على الربوبية، فإننا إذا لم نعتقد أنه رب ينفع ويضر فلا معنى لأن نعبده)) وهذا الذي قلت لا يخالفك فيه أحدٌ، ونحن نصوغه بـ((توحيد العبادة)) و ((توحيد الربوبية)) فما الإشكالُ عندك في ذلك!.(17/8)
وكذلك قُلْ فيما ذكر من الآيات، وأما قولك عقب قول الله تعالى عن يوسف {ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار}[يوسف، آية: 39]، ((فهل كان سيدنا يوسف عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية؟!))، فنقول لك هلا أتممت الآيات {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} [سورة يوسف، آية:40]، فالآيات تأمر بعبادة الله وحده وهو ما نسميه ((توحيد الألوهية)) فرسول الله يوسف الصديق عليه السلام احتج عليهم بما ثبت عندهم من أن الله الواحد القهار خير من الأرباب المتفرقين فيلزم منه عبادة الواحد القهار وحده {إن الحكم إلا لله أمر إلا تعبدوا إلا إياه}[سورة يوسف، آية: 40] فالقضية هي الدعوة إلى عبادة الله وحده، وهو ما نسميه ((توحيد الألوهية)).
فماذا أنكرت يا د. عمر؟!
وقل كذلك في الآية التي تليها حيث أوردها الدكتور عمر ولم يكمل الآية وهي قوله{وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي}[سورة الرعد، آية: 30]، فإن تمامها: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}[سورة يوسف، آية: 30]، فجمعت الآية بين توحيد الربوبية والألوهية يا دكتور عمر، لكنك حذفْتَ آخِرَها لأمرٍ اللهُ أعلمُ به!! وكذلك شأنك في سائر ما استدللت به.(17/9)
أما ((الميثاق)) فإن الآيات دلت على أن الميثاق على توحيد الربوبية وهو مستلزم للإلهية والصحيح في معنى الميثاق هو الميثاق الحالي لا المقالي وهو الفطرة على التوحيد وبسط ذلك معروف في موضعه(1)، وأيضاً فالآيات نعت على المشركين الشرك كما في قوله تعالى:{أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }[سورة الأعراف، آية: 173]،وهذا يشمل الشركَ في الألوهية والربوبية(2)، ومن الواضح أنك يا دكتور عمر لم تفهم معنى كونِ الله تعالى رباً وهو الإله المستحقُّ للعبادة ولذالك حَشَدْتَ ما لا دلالة فيه على رأيك.
وكذلك سؤال الملكين فإنهم يسألون الميت عن ربه، ودينه، ونبيه، وهذا يدخل فيه كل الدين توحيداً للربوبية والألوهية ورسالةً وشريعةً.
__________
(1) انظر تفسير الآيات من سورة الأعراف في تفسير ((ابن كثير)) وانظر شرح الطحاوية ص: 265-274.
(2) هناك عبارة ((بشعة)) ذكرها الدكتور عمر حيث قال: ((وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية حيث إن توحيد الربوبية غير كاف)) [ص:95] وهذا من الجرأة، فليس هناك واجب على الله إلا ما أَحَقَّهُ اللهُ على نفسه((وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)) وفي الحديث: ((أتدري ما حق الله على العباد وحق العباد على الله)) فهذا حق أَحَقَّهُ الله على نفسه، ومسألة ((الصلاح والأصلح)) بدعة اعتزالية فيها سوءُ أدبٍ مع مقام الربوبية فتنبه إلى ذلك.(17/10)
أما آية سورة الزمر :{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }، فقد حاول د. عمر أن يذكر أن المشرك كاذبٌ في ذلك، فكأنك تريد أن الشرك هو محو وجود الله، وأن التوحيد هو الإقرار بوجود الله، وتالله لو كان هذا مرادك يا د. عمر لكنت أسرفت في الغي إسرافاً كثيراً، وكأنك ما سمعت أن المشركين كانوا يقرون بوجود الله في غير ما آية من القرآن، بل لم يذكر القرآن عن أحد من الأمم أنه أنكر وجود الله، وحتى فرعون إمام الجاحدين جحدها بلسانه لا بقلبه كما قال الله عنهم: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا }[سورة النمل، آية: 14]، ولذلك قال له موسى {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} [سورة الإسراء، آية: 102] .(17/11)
أما اعتلالك يا د. عمر باللغة والعرف، فلم تذكر لنا ما وجه اللغة في ذلك، وأن الرب تطلق على السيد المدبر وأن الإله على المستحق للعبادة، ولو فعلت لكنت قد علمت وَهَاءَ هذا المبحثِ الذي سَوَّدْتَ به الصحائف نقلاً عن غيرك، وأما العرف فقد اعتللت أنه لم يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى ((المشركين)) ((موحدين توحيد الربوبية))، وهل هذا يقوله عاقل يا د. عمر أن يسمى المشرك موحداً، ونحن لا نقول ذلك، بل نقول سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مشركين وإن كانوا معتقدين بربوبية الله للعالم لأنهم لم يأتوا بتوحيد الإلهية وهو التوحيد التي طالبهم النبي صلى الله عليه وسلم به فقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} [سورة ص، آية: 5]، بل بالنظر إلى كل الأسئلة المتعلقة بالربوبية في القرآن نجدها استفهاماتِ تقريرٍ، يُرَاُد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار، لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورةً نحو قوله تعالى: {أفي الله شك} وقوله: {قل أغير الله أبغي ربا} لأن استقراء القرآن دل على الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهامَ تقريرٍ وليس استفهامَ إنكارٍ لأنهم لا ينكرون الربوبية(1) كما هو معلوم لكل طالب علم، بل صغار طلاب المدارس يعرفونه، وحتى تعريفك للإيمان(2) بأنه الإتيان بالشهادة لساناً مع الإقرار القلبي بكل ما جاء عن الله تعالى ورسوله مع الإذعان فهو يشمل ((الإذعان)) وهو الانقياد لكل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله وأساس ذلك توجيه العبادة.
__________
(1) أضواء البيان للشنقيطي 3/414.
(2) في: ((ص: 97)).(17/12)
أما الطامة الكبرى في كلامك فهو ما أقررته في ((ص: 97)) ((من أن مسمى العبادة شرعاً لا يدخل فيه شيء مما عداه كالتوسل (1)، والاستغاثة وغيرهما، وقلت بل لا يشتبه بالعبادة أصلاً، فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية..)) إلى آخر كلامك فأنت لم تفهم شيئاً عن العبادة، فإذا كان الحلف بالله عبادة وبغير شِرْك كما في الحديث ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) والحلف تعظيم فكيف لا يدخل التعظيم في العبادة؟!، وإذا كانت الاستغاثة بالله توحيداً {إذ تستغيثون ربكم}[سورة الأنفال، آية: 9]، ونهينا عن الاستغاثة بغيره ((إني لا يستغاث بي ، إنما يستغاث بالله وحده)) فكيف لا تكون الاستغاثة داخلة في العبادة، أنت يا د. عمر بكلامك هذا أوضحت أنك لم تفهم التوحيد رغم عمرك الذي أمضيته في هذه البلاد، ولم تفهم الشرك، ولا عذر لك عندنا إلا أن يكون ذلك من بحث غيرك.وضعته في كتابك دون تَرَوٍّ أَوْ فَهْمٍ.
أما قضية ((النفع والضرر الاستقلالي)) فهذا لم يقل به أحد ولا المشركون، بل كانوا يقولون في تلبيتهم ((لبيك لا شريك لك إلا شريكاً لك تملكه وما ملك)) ومع ذلك كَفَّرَهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم وَأَهَلَّ ولَبَّى بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
__________
(1) التوسل إن كان يراد به الاستغاثة، فهو داخل في العبادة، وإن كان المراد كيفيته في الدعاء كأن يقول: ((اللهم إني أتوسل إليك بفلان)) فهذا ليس من الشرك، وإنما هي كيفية مبتدعة في الدعاء لم يأت بها الشرع، كما أَنها قد تكون ذريعة إلى الشرك لبعض الناس، والتوسل هذا متنازع فيه لكنه خارج عن قضيتنا، والأظهر من قَوْلَيْ العلماء التحريم لما تقدم والله أعلم.(17/13)
وأما ما ذكرته في آخر ((ص: 97)) من أن المشركين منهم من اعتقد التأثير والتدبير في معبوداته، فهذا يا د. عمر شرك في الربوبية لكنه ليس في أصل الربوبية أي باعتقاد وجود خالقين متكافئين من كل وجه، أما كون الشرك في الربوبية موجوداً فهذا صحيح حتى في هذه الأمة، كما في الحديث ((الطيرة شرك)) والتطير اعتقاد النفع والتأثير للطائر الذي يطير يمنة أو يسرة، فهو شرك في الربوبية، وكاعتقاداتٍ وخرافاتٍ للعوامِّ في أسبابٍ ومسبباتٍ ليست شرعيةٍ ونحو ذلك. وكاعتقاد القبوريين التأثير والنفع والضر لبعض الموتى فهذا كله شرك في الربوبية وهو محرم وكأنك ((أو من نقلت عنه)) فهمت من قولنا إن المشركين كانوا يقرون بالخالق أنهم كانوا يوحدون توحيد الربوبية توحيداً تاماً، وهذا خلل عندك لا يَرِد على ساحتنا والحمد لله.
وبالتالي فما تلاه من بحث ((ص: 98-102)) حول أن الربوبية ليست فقط ((الخالق)) بل كذلك المدبر، فإن هذا أيضاً من سوء الفهم لمعنى ((توحيد الربوبية)) لأنه توحيد الله تعالى بأفعاله هو، فهو الخالق المدبر الرزاق المحيى المميت، وَكُتُبُ التوحيد تطلق عليه أحياناً ((توحيد الله بأفعاله)).
وكون أن أحداً لم يفهم من قولنا ((توحيد الربوبية)) إلا الخلق فهذا شأنه هو، كما قيل :
علىَّ نحت القوافي من مقاطعها *** وما علىَّ إذا لم تفهم البقرُ(17/14)
وأما الخلاصة التي ذكرتها في ((ص: 102)) من أن ربوبية الله عبارة عن مدبريته للعالم لا عن خالقيته فقط وأَنها تشمل الخلق والتدبير وأن هناك بعض الفرق اعتقدت بمدبرية غير الله لبعض الكون فهذا هو ما تقدم، وأما أن يكون هناك مَنْ اعتقد مدبريةَ غير الله لبعض الكون، فهو هو ما تقدم، وأما أن يكون هناك من اعتقد مدبرية غير الله للكون كله، فلم تتحفنا بهذه الفرقة، من هي؟ وما أقوال العلماء في ذلك، وعمن نقلت هذا، ولا تشنع بجاحدي اللسان، فمن أقر في الظاهر لا في الباطن كفرعون، فهؤلاء لا يَرِدون على هذه المسألة وكذلك من نسب الإهلاكَ للدهرِ، فليس في القرآن ذكرٌ عنهم بنسبته تدبير الكون كله لغير الله إنما الذي في القرآن هو نسبةُ الإهلاكِ للدهرِ ومسكوت عما سواه.
أما كونك بعد ذلك قلت في ((ص102)) ((فيمكن أن يكون بعض الفِرَق موحداً في الثاني "أي الربوبية" ومشركاً في القسم الأول ((التشريع)) ومثلت لذلك باليهود والنصارى، فأولاً هذا منك تناقض لما سبق من كلامك حيث أنكرت أن المشركين عندهم توحيد ربوبية، وأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، وها أنت الآن تقع فيما نهيتَ عنه، وهكذا دائماً شأن من خالف الكتاب والسنة فإنه يتناقض قوله في المحل الواحد والموضع الواحد.(17/15)
ثم ثانياً هل اليهود والنصارى تورطوا في الشرك التشريعي فحسب؟! أين شركهم في ادعائهم الولد لله، تعالى الله عن قولهم، وأين شركهم في دعائهم غير الله والله تعالى يقول: {وَ أَنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [سورة الجن، آية: 18]، وأين شركهم في جحودهم الرسالة، ثم إن شرك التشريع الذي ذكرتَهُ لا يختص باليهود والنصارى، فكل من حكَّم غير شرع الله فهو داخل في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}[سورة المائدة، آية: 44]، وذلك بشروطه المعروفة عند أهل العلم وأما ما زَعَمْتَ أنه ((شبهة أخيرة)) وأن التقسيمَ اصطلاحيٌّ، وردك على أن هذا التقسيم للتوحيد ينقض الاستقرار، فهذا مبني على ما تقدم من عَدَمِ فَهْمِ التقسيمِ وعدمِ محاولةِ الفهمِ وكما قيل:
ومن يك ذا فم مرٍ مريضٍ *** يجد مراً به الماءَ الزلالا
وأما قولك إن مجرد تغيير اصطلاح من غير فائدة في قوة الخطأ، فإنا نسألك ماذا عن الاصطلاح الحادث الذي أتيت به ((ص: 102)) ((الربوبية في التشريع)) و ((الربوبية في التكوين)) فما كان جواباً لك عن اصطلاحك كان جواباً لِمُنَازِعِكَ، فالاصطلاح على تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية وأسماء وصفات هو للبيان والفهم لا للحكم على أهل القبلة بالشرك، و إلا فلو لم نقل بهذا التقسيم، فهل عدم قولنا يمنع الحكم على المشرك أو مَنْ فَعَلَ الشركَ بما هو أهله، ليس الحكم فرعاً عن الاصطلاح، ولاسيما وقضيةُ التكفيرِ تستلزمُ استيفاءَ الشروطِ وَنَفْيَ الموانع ونحن بحمد الله تعالى أبعدُ الناس عن تكفير المسلمين من أهل القبلة، وَمِنْ مَمَادِحِ أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون، ومن معايب أهل البدع أنهم يكفرون كلَّ مَنْ خالفهم بهوى منهم في التكفير.(17/16)
نعم إذا قامت الحجة الرسالية على معين بالتكفير فإن تكفيره موجب للشرع، كما حكم العلماء بهدر دم جماعة من الزنادقة والمرتدين على مر العصور، ولكن كل من ثبت له عقد الإسلام بيقين ثم وقع في شرك قولي أو فعلي أو اعتقادي بشبهة أو جهل أو تأويل يُعْذَرُ مَعَهُ، فليس هناك من العلماء الراسخين من يكفره قبل قيام الحجة التي ينقطع معها العذر.
ولعل هذا كاف في رد سؤال أَوْرَدْتَهُ آخر البحث عن عباد القبور أهم مسلمون أم مشركون، أم مشركون مع إيقاف التنفيذ؟؟ فديننا واعتقادنا ومنهجنا واضح يا د. عمر ولكن كما قيل:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ *** وينكر الفم طعم الماء مِنْ سَقَمِ(17/17)
أول واجب عند الأشاعرة :
هنا أيضاً زلق الدكتور عمر في مزلق عظيم، فهو أراد أن يدافع عن الأشاعرة فإذا هو يفتح أبواب الزندقة وهو لا يشعر.
فكيف هذا؟؟
لقد قال الدكتور عمر معتذراً عن أصحاب الأشاعرة أن الذي قصد أَنَّ أَوَّلَ الواجبات النطقُ بالشهادتين قَصَدَ أنه لا يمكن تحريم دم الكافر الأصلي ومعاملته كالمسلم إلا إذا نطق بهما ثم سلسل على ذلك أن ذلك لا يمكن إلا مع العلم، والعلم طريقه النظر، والنظر لابد من القصد له، وأول جزء منه هو الواجب.. الخ، ونقول له: لِمَ لَمْ تكمل السلسلة يا دكتور، وهي ما قاله أبو هاشم الجبائي: ((وينسب أيضاً للباقلاني)) أنه لا يمكن القصد للنظر إلا بالشك فيكون أولُ الواجباتِ هو الشكُّ في الله.
فيا سبحان الله أولُ الواجب على العبد ((الشكُّ)) حتى ((يقصد)) إلى النظر ثم ((ينظر)) ثم ((يعلم)) ثم ((ينطق)) .
وذكر أبو محمد بن حزم: أنه لم يُرَ في مقالة أحد من الناس مقالة أَكْفَر من هذه المقالة، فكيف يكون أول واجب هو الشك في الله؟؟
فإن قلت ليس كل الأشاعرة يقولون بهذا، قلنا لك هذا هو اللازم من التسلسل الطبيعي للاعتذار الذي اعتذرت به عنهم، واللازم الفاسد يدل على فساد المذهب.
أتدري يا دكتور عمر لماذا ظن الأشاعرة صحةَ هذا الأمر، ماذا كان منهم؟؟ لقد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدأ به هو دعوة قومه بأن بين لهم حِدَثَهم وأنهم محدثون ولهم مُحْدِثٌ أَحْدَثَهُمْ ..الخ.
فبالله عليك يا دكتور عمر، هل قرأت في حديث أو نظرت في سيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام على الصفا مثلاً وقال يا قريش إنكم محدَثون ولكم محدِث أحدثكم ...الخ. كيف هذا؟ وأين هذا ؟ ومتى هذا؟؟
لكن هذا أول واجب عند الأشاعرة فلابد أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بدأ بالدعوة إليه .(18/1)
ثم لم تَرُدَّ يا دكتور عمر عما أورده الدكتور سفر من أن الواجب عند الأشاعرة أن الإنسان إذا بلغ سن التكليف وجب عليه النظر ثم الإيمان واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو في إثنائه أيحكم له بالإسلام أو بالكفر؟
فما هو جوابك يا دكتور عمر، ولنتصور حالة ولد يذهب مع أبيه للمسجد منذ أن بلغ سن العشر سنوات أو قبل ذلك ((من سن السبع السنوات)) وهو مع والده دائماً يذهب ويجيء، فإذا بلغ وأراد أن يذهب إلى المسجد معه، وإذا بأبيه يقول له لا.. لا.. لقد أصبحت مكلفاً فيجب عليك النظر فاقصد إلى النظر ثم اشهد الشهادتين حتى تصح صلاتك، ((ولو كان بهشمياً في هذا الصدد)) لقال له ابدأ بالشك ثم انظر.. الخ.
بالله عليك يا دكتور عمر هل هذا مقبول عندك؟؟ علماً أن الفقهاء أجمعوا أنه لا يشترط ولا يجب على الولي أن يأمر الولد إذا بلغ بتجديد الشهادتين(1).
لكن ماذا يُفعل مع ميراث الأشاعرة الذي تغلغل في نفوس بعض الناس فصاروا يقدمونه على مقتضى الشرع.
__________
(1) انظر: شرح الطحاوية، ص: 74، 75.(18/2)
الفطرة:
لا يزال الدكتور عمر يعرض المسألة تلو المسألة دون أن يحرر محل النزاع، ولا أن يفهم أصولها، فيظن ظناً، ويتوهم وهماً، ويبني عليه، فإذا هو منتقض القواعد فيخر سقفه من حيث لا يدري لقد كتب الدكتور عمر مطلباً في الفطرة، صدر فيه كلام د. سفر الحوالي بأن الأشاعرة ينكرون المعرفة الفطرية، وأن من آمن بالله بغير طريق النظر فهو مقلد ورجح بعضهم كفره، وهذا ما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر... إلخ كلام د. سفر .
وههنا انبرى الدكتور عمر معلقاً بأن هذا ((كلام يتلقفونه وينكرونه بلا فهم حاصله أنه لا حاجة للناس إلى الاستدلال ولا حاجة لهم إلى علم الكلام... إلى أخر ما ذكره)).
ونقول يا دكتور عمر: حنانيك، هلا راجعت كلام الحافظ ابن حجر الذي أشار إليه الدكتور سفر حتى تعرف ما هو الخلاف قبل أن تَهْرِفَ بما لا تَعْرِف.(19/1)
وسأنقل لك كلام الحافظ بحروفه على طولٍ فيه لتعلم الإشكال الذي أوقعت نفسك فيه؛ قال في أول كتاب التوحيد في باب: (( ما جاء في دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تعالى))(1). فذكر أول واجب على المكلف عند إمام الحرمين وهو ((المعرفة)) ثم ذكر الأقوال في أن أول واجب هل هو النظر أو القصد إليه ثم قال: وقد ذكرتُ في ((كتاب الإيمان)) مَنْ أَعْرَضَ عن هذا من أصله وتمسك بقوله تعالى:{فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها}[سورة الروم، آية: 30]، وحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (2). فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلةٌ بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله- صلى الله عليه وسلم -:((فأبواه يهودانه أو ينصرانه)) وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة ؛ وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك انتهى.
وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه: أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت بين مفرّطٍ وَمُفْرِطٍ ومتوسطٍ، فالطرف الأول قول من قال يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية، ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام كما سيأتي بيانه .
__________
(1) 13/349-354).
(2) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات، (3/219- ح1358، 1359)، وأخرجه مسلم في القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، (4/2047-ح2658).(19/2)
والطرف الثاني: قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، ونسب ذلك لأبي إسحاق الإسفراينى، وقال الغزالي: أسرفت طائفة فكفروا عوامَّ المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فيضيقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تُكَلَّفَ العوامُّ اعتقادَ الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية.(19/3)
وأما المذهب المتوسط فذكره وسأذكره ملخصاً بعد هذا، وقال القرطبي في المفهم: في شرح حديث ((أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِمُ)) الذي تقدم شرحه في أثناء ((كتاب الأحكام)) وهو في أوائل ((كتاب العلم)) من صحيح مسلم: ((هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعةَ الحق وَرَدَّهُ بالأوجه الفاسدة والشبه الْمُوهِمَةِ، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شُبَهٌ ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمائها ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعاً من المحال لا يرتضيها الْبُلْهُ ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها، وفي الكلام: هل هو متحد أو منقسم، وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع أو الوصف، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثاً، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلاً وهو نفس الأمر لعمرو بالزكاة، إلى غير ذلك مِمَّا ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تُعْلَمُ كيفيتُهُ بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حُجِبَ عن كيفيةِ نفسهِ مَعَ وُجُودِهَا، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم(19/4)
أن يقطع بوجود فاعلٍ لهذه المصنوعات منزهٍ عن الشبيه مقدَّسٍ عن النظيرِ متصفٍ بصفات الكمالِ، ثم متى ثبت النقلُ عنه بشيء من أوصافِهِ وأسمائِهِ قَبِلْناه واعتقدْناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي، وقد قطع بعضُ الأئمةِ بأن الصحابةَ لم يخوضوا في الجوهرِ والعرضِ وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالا، قال: وأفضي الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضُهم عن نصوصِ الشارعِ وتطلبُهُم حقائقَ الأمورِ من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحِكَم التي استأثر بها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: ((ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نَهَى عنه أهلُ العلم في طلب الحق فِرارا من التقليد والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف)) هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته ((يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أنه يبلغ بي ما بلغتُ ما تشاغلتُ به)) إلى أن قال القرطبي: ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم: إحداهما قول بعضهم إن أولَ واجب الشكُّ إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله ركبت البحر.(19/5)
ثانيتهما قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أُورِدَ على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال لا تشنع على بكثرة أهل النار، قال وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعاً، لجعله الشك في الله واجباً، ومعظم المسلمين كفار حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النَّفَسِ في هذا الموضوع لما شاع بين الناس من هذه البدعة حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء انتهى.(19/6)
وقال الآمدي في أبكار الأفكار: ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر، لأن ضد المعرفة النُّكْرة، والنُّكرة كفر، قال: وأصحابنا مجمعون على خلافه وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقاً لكن عن غير دليل، فمنهم من قال إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق وإن لم يكن عن دليل وسماه علماً، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوبُ النظر، وقال غيره: من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طرق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يَخْلُو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفاً صحيحاً وتنتج العلم، لكنه لو سئل كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير به، وقيل الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها، فمهما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مقطوعاً عنده بصدقه فإذا اعتقده لم يكن مقلداً لأنه لم يأخذ بقول غيرِهِ بغيرِ حجةٍ، وهذا مُسْتَنَدُ السلفِ قاطبةً في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن وأحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قال من قال إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على مَنْ لم يُثْبِتْ النبوةَ فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن،(19/7)
فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان.
واحتج بعض من أوجب الاستدلال باتفاقهم على ذم التقليد، وذكروا الآيات والأحاديث الواردة في ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال لا يدري أي الأمرين هو الهدى، وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل فهو دعوى لا يُعمَلُ بها، وبأن العلم اعتقادُ الشيء على ما هو عليه من ضرورةٍ أو استدلالٍ وكل ما لم يكن علماً فهو جهل، ومن لم يكن عالماً فهو ضال .
والجواب عن الأول أن المذمومَ من التقليد أخذُ قولِ الغير بغيرِ حجةٍ، وهذا ليس منه حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله أوجب اتباعه في كل ما يقول وليس العمل فيما أمر به أو نهى عنه داخلاً تحت التقليد المذموم اتفاقاً، وأما مَنْ دونه ممن اتبعه في قول قاله، واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به فهو المقلد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله ورسوله فإنه يكون ممدوحاً، وأما احتجاجهم بأن أحداً لا يدري قبل الاستدلال أي الأمرين هو الهدى فليس بمسلم بل من الناس من يطمئن وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة، ومنهم من يتوقف على الاستدلال، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار لقوله تعالى:
{قوا أنفسكم وأهليكم نارا}[سورة التحريم،آية: 6] ويجب على كل من استرشده أن يُرْشِدَهُ ويبرهن له عَلَى الحق وعلى هذا مضى السلف الصالح من عهد النبي- صلى الله عليه وسلم - وبعده.(19/8)
وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقاً من الله وتيسيراً. فهم الذين قال الله في حقهم {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم... الآية}[سورة الحجرات، آية: 7]، وقال: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام...الآية}[سورة الأنعام، آية: 125], وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لرؤسائهم لأنهم لو كفر آباؤهم أو رؤسائهم لم يتابعوهم بل يجدون النُّفْرَةَ عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعةَ وأما الآيات والأحاديث فإنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا مَنْ نُهُوا عن إتباعه وتركوا اتباعَ مَنْ أُمِرُوا باتباعه. وإنما كلفهم اللهُ الإتيانَ ببرهانٍ على دعواهم بخلاف المؤمنين فلم يرد قط أنه أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان. وكل من خالف اللهَ ورسولَهُ فلا برهان له أصلاً وإنما كُلِّفَ الإتيانَ بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً.
وأما من اتبع الرسولَ فيما جاء به فقد اتبع الحقَّ الذي أمر به وقامت البراهينُ على صحته، سواء عَلِمَ هو بتوجيهِ ذلك البرهانِ أم لا.
وقول من قال منهم إن الله ذكر الاستدلال وأمر به مُسَلَّمٌ لكنْ هو فعلٌ حسنٌ مندوبٌ لكلِّ مَنْ أطاقه، وواجبٌ على كلِّ مَنْ لم تسكنْ نفسُهُ إلى التصديقِ كما تقدم تقريره وبالله التوفيق.(19/9)
وقال غيره قول من قال طريقةُ السلف أسلم، وطريقةُ الخلف أحكم ليس بمستقيم، لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده، وليس مَنْ سَلَكَ طريقَ الخلف واثقاً بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم في ((العلم)) فزادوا في التعريف عن ضروة أو استدلال. وتعريف العلم، انتهى عند قوله ((عليه)) فإن أبوا إلا الزيادة فليزدادوا عن تيسير الله له ذلك وخلقه ذلك المعتقد في قلبه، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع فلا دلالة فيه وبالله التوفيق.
وقال أبو المظفر بن السمعاني تعقب بعض أهل الكلام قول مَنْ قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب:
أما أولاً: فإن الشارع والسلف الصالح نَهَوْا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نَهَوْا عن الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب.
وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا مَنْ ترك النص الصحيح وقدم عليه القياس، وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يُحْفَظُ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك، لأن الحوادثَ في المعاملات لا تنقضي وبالناس حاجة إلى معرفةِ الحكمِ، فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف علم الكلام.(19/10)
وأما ثانياً: فإن الدين كمل لقوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم}[سورة المائدة، آية: 3] فإذا كان أكمله وأتمه وتلقاه الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقده مَنْ تلقى عنهم واطمأنت به نفوسهم، فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول والرجوع إلى قضاياها وجعلها أصلاً، والنصوص الصحيحة الصريحة تعرض عليها فتارة يعمل بمضمونها، وتارة تُحَرَّفُ عن مواضِعِها لتوافق العقول.
وإذا كان الدين قد كمل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصاناً في المعنى، ومثل زيادة أصبع في اليد فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك، وقد توسط بعض المتكلمين فقال: لا يكفي التقليد بل لابد من دليل ينشرح به الصدر. وتحصل به الطمأنينة العلمية، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية بل يكفي في حق كلِّ أحدٍ بحسب ما يقتضيه فهمه انتهى.
والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص كافٍ في هذا القدر، وقال بعضهم المطلوب من كل أحد التصديقُ الجزميُّ الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى والإيمان برسله وبما جاءوا به كيفما حصل وبأي طريق إليه يُوصَلُ، ولو كان عن تقليدٍ مَحْضٍ إذا سَلَمَ من التزلزلِ .(19/11)
قال القرطبي: هذا الذي عليه أئمة الفتوى وَمَنْ قَبْلَهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزامَ أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل ما، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعاً من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبياً سيبعث وينتصر على مَنْ خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد - صلى الله عليه وسلم - بادروا إلى الإسلام، وصدقوه في كل شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة والزكاة وغيرهما، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوارُ النبوةِ وبركاتُها تشملُهم فلا يزالون يزدادون إيماناً ويقيناً، وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضاً ما ملخصه: إن العقل لا يُوجبُ شيئاً ولا يُحَرِّمُ شيئاً، ولاحَظَّ له في شيء من ذلك، ولو لم يَرِدْ الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}[سورة الإسراء، آية: 15]، وقوله { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}[سورة النساء، آية: 165]، وغير ذلك من الآيات.(19/12)
فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقلَ هو الداعي إلى الله دون الرسولِ ويلزمه أن وجودَ الرسولِ وعدمِهُ بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالاً. ونحن لا ننكر أن العقل يرشدُ إلى التوحيدِ وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصحَّ إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلافَ ما دلت عليه آياتُ الكتاب والأحاديثُ الصحيحة التي تواترت ولو بالطرق المعنوي، ولو كان كما يقول أولئك لبطلت السمعياتُ التي لا مجالَ للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته، على وفق مراد الله سبحانه وتعالى انتهى.(19/13)
ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس ((أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنشدك الله آلله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى؟ قال: نعم. فأسلم))(1)، وأصله في الصحيحين في قصة ضمام بن ثعلبة(2)، وفي حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أنه ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما أنت؟ قال: نبي الله. قلت: آلله أرسلك؟ قال نعم. قلت: بأي شيء؟ قال: أُوحِّد الله لا أشرك به شيئا)) الحديث، وفي حديث أسامة بن زيد، في قصة قتله الذي قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث المقداد في معناه، وقد تقدما في ((كتاب الديات)) وفي كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد؛ إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواترَ المعنويَّ الدالَّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصَدقوه فيما جاء به عنه، فمن فَعَلَ ذلك قُبِلَ منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظراً أم لا، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذعن أو يستمر على عنادِهِ.
__________
(1) أخرجه الدارمي في الوضوء، باب: الوضوء والصلاة (1/172-ح651) عن ابن عباس.
(2) حديث ضمام أخرجه البخاري في العلم، باب: ما جاء في العلم (1/179-ح63) ط. الريان، وأخرجه مسلم في الإيمان باب السؤال عن أركان الإسلام (1/41-ح12).(19/14)
وقال البيهقي في ((كتاب الاعتقاد)) سلك بعض أئمتنا في إثباتِ الصانع وحدوثِ العالَمِ طريق الاستدلال بمعجزات الرسالة فإنها أصل في وُجُوبِ قَبُولِ ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا الوجه وقع إيمانُ الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصةَ النجاشي وقول جعفر بن أبي طالب له ((بعث الله إلينا رسولاً نعرف صِدْقَهُ فدعانا إلى الله وتلا علينا تنزيلاً من الله لا يشبهه شيء فصدقناه وعرفنا أن الذي جاء به الحق)) الحديث بطوله، وقد أخرجه ابن خزيمة في ((كتاب الزكاة)) من صحيحه من روايةِ ابنِ إسحاقَ وحالهٌ معروفةٌ وحديثُهُ في درجةِ الحسن، قال البيهقي فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي، فآمنوا بما جاء به من إثبات الصانع ووحدانيته وحدوث العالم وغير ذلك مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن وغيره، واكتفاءُ غالبِ مَنْ أسلم بمثل ذلك مشهورٌ في الأخبار، فوجب تصديقُهُ في كلِّ شيءٍ ثَبَتَ عنه بطريق السمع لا يكون ذلك تقليداً بل هو اتباع والله أعلم، وقد استدل مَنْ اشترط النظَر في الآياتِ والأحاديثِ الواردةِ في ذلك، ولا حجة فيها لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطريق الكلامية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جَعْلُهُ شرطاً، واستدل بعضُهم بأن التقليد لا يفيد العلم إذ لو أفاده لكان العلم حاصلاً لمن قَلَّدَ في قدم العالم ولمن قَلَّدَ في حدوثه. وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين. وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما تقليده - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه فلا يتناقض أصلاً واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر بأن ذلك كان لضرورة المبادئ، وأما بعد تَقَرُّرِ الإسلامِ وَشُهْرته فيجب العمل بالأدلة، ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار، والعجب أن من اشترط(19/15)
ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول داع إليه، حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها وهذا هو محض التقليد، فآل أمرهم إلى تكفير مَنْ قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى والقول بإيمان من قلدهم وكفى بهذا ضلالاً، وما مَثَلُهُمْ إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفراً فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقاً شتى فانقسموا إلى قسمين فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريقٌ النجاةِ منها واحدةٌ فاتبعوني فيها تَنْجُوا فتبعوه فَنَجَوْا، وتخلف عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارةٍ ظَهَرَ لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أولى منها، ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي: يمكن أن يفصِّل فيقال : من لَيْسَ له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلاً وحصل له اليقين التام بالمطلوب إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفي منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يُكْتَفَ منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلُّمُ إلى أن تزول عنه، وقال فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة، وأما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضاً فقال لا يجوز النظر في الأدلة لما يلزم منه أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر انتهى ملخصًا المرادُ نَقْلُهُ من كلام الحافظ في الفتح .
وإنما أطلت في نقله لأمور:
الأول: ما فيه من الفوائد العديدة ولاسيما بيان مذهب الأشاعرة في وجوب النظر والرد عليه.(19/16)
الثاني: إثبات حصول ((المعرفة الفطرية)) التي ينكرها د. عمر.
الثالث: توضيح خطورة القول برد هذه المعرفة الفطرية والالتجاء إلى أهل الكلام المفضي إلى تكفيرِ العوامِّ وازدراءِ السلفِ وهذا لازم لكلام الدكتور عمر وفحواه.
أما مناقشة الدكتور عمر في أدلته فالعجيب أنه ذكر أدلة القائلين بالفطرة، لكن لم ينشرح صدره لها فصار يورد عليها العجائب، فمن ذلك حديث: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) حيث ذكر روايةَ مسلم وفيها: ((فإن كانا مسلمين فمسلم)) عقب عليها أن ((هذه الزيادة توضح بجلاء أن الطفل تابع في التأثر للأبوين وَيَلْتَحِقُ بهما في الحكم إن كانا يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، وكذلك إن كانا مسلمين فمسلم، وهذا يبين بجلاء أن الفطرة في الحديث لا تعني ما يريده المتمسلفة وهذا يدل على أن الطفل لا يقال له مسلم أو كافر ولكن الحكم عليه بالكفر أو الإيمان أي الإسلام، وإنما هو حكم تَبَعِيٌّ إلحاقيٌّ لا أصليٌّ، أي أن حاله يلحق بحال والديه والدار التي وُجِدَ فيها أو غير ذلك مما هو مذكور في كتب الفقه)) أ. هـ.
وهذه الجملة فيها تخليط وتخبط كبير.(19/17)
فأولاً: رواية مسلم مؤكدة لباقي الروايات لا تخالفها، ولا تؤدي إلى هذا الفهم العقيم الذي ذكره بتكلف، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((يهودانه – ينصرانه – يمجسانه)) ولم يقل ((يسلمانه))، بل ((وإن كانا مسلمين فمسلم)) أي على الأصل، فهي مقررة للفطرة موافقة للروايات الأخرى التي فيها ((كل مولود يولد على هذه الملة))، فالربوبية حق والإنسان مفطور على الحق، فهو مفطور على الربوبية وفي حديث عياض بن حمار مرفوعاً يقول الله تعالى: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم)). وفي رواية لحديث عياض ((حنفاء مسلمين))(1)، والحنيفيةُ هي الإسلام، كما أنه لو لم يكن المراد بالفطرة في هذا الحديث الإسلام لما سألوا عقب ذلك: ((أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير)) لأنه لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه، و العلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير، وكذلك قوله: ((فأبواه ينصرانه ويمجسانه)) بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها، وأيضاً فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعةَ الخلق لا نقص فيه، ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها، وأيضاً فإن الحديث مطابق للقرآن لقوله تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها}[سورة الروم،آية:30]، وهذا يعم جميعَ الناس، فَعُلِمَ أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة، وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرةٌ محمودةٌ لا مذمومةٌ(2).
__________
(1) أخرجه مسلم (4/2197-2198) بدون لفظ ((مسلمين))، وحنفاء تدل عليها، وانظر: الكلام على هذه اللفظة في العقل والنقل(8/368-369) .
(2) العقل والنقل(8/371-372).(19/18)
إن ما تذهب إليه يا دكتور عمر في هذا الحديث لم تستحدثه بل سُبِقْت إليه لكن أتدري من سلفك في هذا؟، إنهم القدرية الذين يقولون إن الإنسان يخلق فعله، وصاروا يحتجون بهذا الحديث على قولهم الفاسد، وقد قيل للإمام مالك بن أنس: إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال: احتجوا عليهم بآخره وهو قوله ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، فبين أنه لا حجة فيه للقدرية، فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تَهَوُّدَهُ وَتَنَصُّرَهُ، بل هو تهويد وتنصير باختياره، لكن كانا سبباً في ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهما بهذا الاعتبار، فَلأَنْ يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى، لأن الله وإن خلقه مولوداً على الفطرة سليماً، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغيره وعلم ذلك(1)، ثم إن هذا التفسير للفطرة بالإسلام هو تفسير الراوي الصحابي الجليل أبي هريرة، فإنه روى هذا الحديث ثم قال: اقرؤا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها}[سورة الروم، آية:30]، وقد أورد ابن جرير وَغَيْرُهُ في التفسير عن عكرمةَ ومجاهدٍ والحسنِ وإبراهيمَ والضحاكِ وقتادةَ في هذه الآية قالوا: دين الله الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا لدين الله(2).
وأسلافُك المعتزلة يا دكتور عمر يقولون: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى، والحديث لا يساعد هذا الفهمَ السقيمَ بل إن آخره أيضاً دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة، هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين أو يغيرونها فيصيرون كفاراً(3).
__________
(1) السابق، (8/362).
(2) تفسير ابن جرير(10/183، 184) ط . دار الكتب العلمية.
(3) العقل والنقل(8/378) .(19/19)
وأما ما ختمت به كلامك يا دكتور عمر من أن الفطرة ليست نوعاً من المعارف، فيقال لك: إن الحديث لم يدل على أنه إذا خرج الطفل من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده فإن الله تعالى يقول {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً}[سورة النحل: آية،78]، ولكن فطرتَهُ مقتضيةٌ موجبةٌ لدين الإسلام لمعرفته ومحبته.
فنفسُ الفطرة تستلزمُ الإقرار بخالقِهِ ومحبتِهِ وإخلاصِ الدينِ له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تَحْصُلُ شيئاً بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يُولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه. وهذا من قوله تعالى:{ربنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى}[سورة طه:50]، وقوله:{الذي خلق فسوى - والذي قدر فهدى} [سورة: الأعلى: 302]، فهو سبحانه خلق الحيوانَ مهتدياً إلى طلب ما ينفعُهُ، ودَفْعِ ما يضرُّهُ، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئاً فشيئاً بحسب حاجتِهِ. ثم قد يَعْرِضُ لكثيرٍ من الأبدان ما يُفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة.
وقد أطال شيخ الإسلام البحث في ذلك في كتابه القيم ((العقل والنقل (1)، حيث قال رحمه الله:
قال ابن عبد البر(2): ((وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وما كان مثله، فقالت فرقة:الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خُلِقَ عليها المولود من المعرفة بربه، فكأنه قال: ((كل مولود يولد على خِلْقَةٍ يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة)) يريد خلقةً مخالفةً لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك)).
((قالوا: لأن الفاطر هو الخالق)).
__________
(1) العقل والنقل (8/384 ، 385).
(2) في ((تجريد التمهيد)) ص295-296.(19/20)
قال: ((وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار))، قلت إن شيخ الإسلام: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيف. فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفاً.
ثم ليس هذا معناه التمكن من المعرفة والقدرة على ذلك بمجرده، فإن القدرة المجردة لا تقتضي أن يكون حنيفاً ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته، حتى، يُسأل عمَّن مات صغيراً. ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير، وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان، فقالوا: إنهم أولاد المشركين. قال: أليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
ولو أريد القدرة؛ لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل.
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجودَ المرادِ المقدور، فدلَّ على أنهم فُطِرُوا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان والإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه، فإنه كان يقول: إن صبيان أهل الحرب إذا سُبُوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإن كانوا معهما فهم على دينهما، وإن سُبُوا مع أحدهما، فعنه روايتان، وكان يحتج بالحديث. أ هـ
أما ما ذكرته يا د. عمر عن الفقهاء في ذلك فأنقل لك شيئاً مما جاء عنهم وذلك فيما نقله شيخ الإسلام:
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب ((أحكام أهل الملل)): ((أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سَبْيِ أهل الحرب: إنهم مسلمون إذا كانوا صغاراً، وإن كانوا مع أحد الأبوين. وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فأبواه يُهودانه أو ينصرانه...))، قال: ((وأما أهل الثغر فيقولون: إذا كان مع أبويه: إنهم يجبرونه على الإسلام))، قال: ((ونحن لا نذهب إلى هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه...)).(19/21)
قال الخلال: أنبأ عبد الملك الميموني قال: سألت أبا عبد الله قبل الحبس
-أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية- عن الصغير يُخْرَجُ من أرض الروم وليس معه أبواه. قال: إذا مات صلى عليه المسلمون. قلت يُكْرّهُ على الإسلام؟ قال: إذا كانوا صغارا يصلون عليه أُكره من يليه إلا هم، وحكمه حكمهم.
قلت: فإن كان معه أبواه؟ قال: إذا كان معه أبواه – أو أحدهما- لم يُكره، ودينه على دين أبويه. قلت: إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((كل مولود يولد على الفطرة)): حتى يكون أبواه ؟ قال: نعم.
قال: وعمر بن عبد العزيز نادى به؟ قال: فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم. قلت: ((في الحديث كان معه أبواه؟ قال: لا، وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه)).
قال الخلال: ((ما رواه الميموني قولٌ أولُ لأبي عبد الله ولذلك نقل إسحاق بن منصور أن أبا عبد الله قال: إذا لم يكن مَعَهُ أبواه فهو مسلم. قلت: لا يجبرون على الإسلام، إذا كان معه أبواه أو أحدهما؟ قال: نعم)).
قال الخلال: ((وقد روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خلقٌ كلُّهم قال: إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم. وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس، وبعضهم قبلُ وبعدُ، والذي أذهبُ إليه: ما رواه الجماعة)).
وقال الخلال: ((ثنا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بواسط، فسألوني عن الذي يموت هو وامرأتهٌ، ويدعان طفلين ولهما عم، ما تقول فيهما؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها، وقالوا: إنهم قد كتبوا إليك. فقال: أكره أن أقول فيها برأيي دع حتى أنظر، لعل فيها عمَّن تقدَّم. فلما كان بعد شهر عاودتُه، فقال: قد نظرتُ فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه أوينصرانه...))، وهذا ليس له أبوان. قلت: ((يُجْبَرُ على الإسلام؟ قال: نعم، هؤلاء مسلمون، لقول النبي صلى الله عليه وسلم)).(19/22)
((وكذلك نقل يعقوبُ بنُ بختان قال: قال أبو عبد الله: الذمّيّ إذا مات أبواه وهو صغير جُبِرَ على الإسلام. وذكر الحديث: فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه...)).
((ونقل عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيَيْن يولد لهما ولد فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين، ثم يتوفى؟ قال: ذاك يدفنه المسلمون. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه...)).
((وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يزوِّجون بناتهم من قوم، على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم، وما كان من أنثى فهي مشركة: يهودية أو نصرانية أو مجوسية؟ فقال: يُجبر هؤلاء مَنْ أَبَىا منهم، على الإسلام، لأن آباءهم مسلمون لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه)) يُردُّون كلهم إلى الإسلام)).
قال ابن تيمية: ومثل هذا كثير في أجوبته، احتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافراً بأبويه، فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرة: الإسلام، لم يكن بعدم أبويه يصير مسلماً. فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة. ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى.(19/23)
قال الخلال: ((أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه، معناه: أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا؟ فقال لي: نعم، ولكن يدخل عليك في هذا. فتناظرنا بما يدخل عليّ من هذا القول، وبما يكون بقوله. قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها، وإلى أي شيء تذهب؟ قال: إيش أقول أنا؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كما ترى، ثم قال لي: والذي يقول: كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضاً إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له: فما الفطرة الأولى: هي الدين؟ قال لي: نعم. فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)). قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرف قولك، قال: أقول: إنه على الفطرة الأولى)).
قال ابن تيمية: ((فجوابه أنه على الفطرة الأولى، وقوله: إنها الدّين- يوافق القول بأنه على دين الإسلام))(1).أهـ
قال شيخ الإسلام: ((واحتجاج الفقهاء، كأحمد وغيره، بهذا الحديث على أنه متى سُبِيَ منفرداً عن أبويه يصير مسلماً، لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفرداً عنهما، لم يكن هناك من يغير دينه، وهو مولود على الملة الحنيفية، فيصير مسلماً بالمقتضى السالم عن المُعَارِضِ، ولو كان الأبوان يجعلانه كافراً في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين، لكان الصبي الْمَسْبِيُّ بمنزلة البالغِ الكافرِ.
ومعلومٌ أن البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلماً، لأنه صار كافراً حقيقة. فلو كان الصبي التابع لأبويه كافراً حقيقة، لم ينتقل عن الكفر بالسباء، فعلم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تَبَعاً لأبويه، لا لأنه صار كافراً في نفس الأمر.
__________
(1) العقل والنقل8/390-395.(19/24)
يبين ذلك أنه لو سباه كفار، لم يكن معه أبواه ولم يَصِْر مسلماً، فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه.
فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه. وذكر صلى الله عليه وسلم الأبوين، لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال، فإن كل طفل غُيِّر فلا بد من أبوين، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما، بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لِسَبْيِ الولد عنهما أو غير ذلك.
ومما يُبينُ ذَلك قوله في الحديث الآخر: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفورا))(1). فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يثبت له أحد الأمرين، ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين، لكان ذلك حين يولد، قبل أن يُعرب عنه لسانُه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح، حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وَأَمرتْهُمْ أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانا))(2)، صريح في أنهم خُلقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم وحرَّمتْ عليهم الحلال وأمرتْهم بالشرك، فلو كان الطفل يصير كافراً في نفس الأمر من حين يولد، لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يُعَلِّمَه أحد الكفرٌ ويلقنَهُ إياه، لم يكن الشياطين هم الذين غيَّروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك، بل كانوا مشركين من حين وُلدوا تبعاً لآبائهم(3).
__________
(1) رواه أحمد في المسند (3/353 ، 435)، (4/24).
(2) أخرجه مسلم في الجنة، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهلُ الجنة وأهلُ النار (4/2197-ح2865)، ومعنى اجتالتهم: أي استخفُّوهم فذهبوا بهم وصالوا معهم في الباطل.
(3) العقل والنقل، (8/431-432).(19/25)
وقال رحمه الله: ((فالمقصود أن هذا الحديث لم يُرَدْ به أحكامُ الدنيا، بل في نفس الأمر ولهذا لما قال هذا سألوه يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، فإن مَنْ بلغ منهم فهو مسلم أو كافر بخلاف من مات، ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم، وكذلك الطفل إذا مات أبواه الكافران أو أحدهما لا يحكم بإسلامه، وهو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها. فقد عُلم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، وأرض اليمن وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولد صغير، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى أهل الذمة. وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان، وفيهم من يتامى أهلِ الذمة عددٌ كثير، ولم يحكموا بإسلام أحد منهم، فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضاً، فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولَّيانِ حضانة أولادهما.(19/26)
والخلاصة: أنه يمكن أن يقال: إن الناس يولدون على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفةَ على الإنكار، والإيمانَ على الكفر، وأن هذه المعرفة لا تتوقف على أدلة يَتَعَلمَها من خارج بل يلزم حصول المعرفة فيها بدون ما تسمعه من أدلة المعرفة، ولاقتضاء الفطرة للمعرفة كاقتضائها للأكل، فالطفل مفطور على أنه يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزمه أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد المعارِض، والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة، لَمَّا عُرِضَ عليه الخمر واللبن، واختار اللبن فقال له جبريل أصبت الفطرة ولو اخترتَ الخمرَ لَغَوَتْ أمتك(1).
ففي الفطرة قوةٌ موجبةٌ لحبِ الله والذلِّ له وإخلاصِ الدينِ له وأنها موجبةٌ لمقتضاها إذا سلمت من المُعَارِضِ، كما أن فيها قوةً تقتضي شربَ اللبن الذي فُطِرَتْ على محبته وطلبه(2).أ هـ من كلام شيخ الإسلام.
أما أن يقال كما قال الدكتور عمر: أنها الاستعداد، وأنها تعين بعض الناس على معرفة الله لا أنها موجبة للمعرفة، فباطل، لأن الطفل لا يولد وعنده استعداد وإعانة لشرب اللبن، ولا يمكن أن يختار غيره، بل ليس له إلا الارتضاع الفطري، فكذلك ليس له إلا معرفة الله فإن كان أبواه مسلمين، فهو مسلم على الفطرة الموجبة لمعرفة الله ومحبته ورعايته.
يا دكتور عمر: هلا تأنيت وسألت قبل أن تُصْدِرَ كتابك!!.
__________
(1) أخرجه البخاري، في كتاب:التفسير، باب: قول الله تعالى: {أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام}(8/391-ح4709) ومسلم في الأشربة باب جواز شرب اللبن (3/1592-ح168).
(2) العقل والنقل: (8/448، 449).(19/27)
الإيمان
ذكر الدكتور عمر كلام د. سفر في أن الأشاعرة في الإيمان مرجئةٌ جهميةٌ، وأَن كتبهم قاطبةً دلت على أن الإيمان هو التصديق القلبي، واختلفوا في النطق بالشهادتين أيكفي عنه تصديق القلب أم لابد منه ..... إلى آخر كلام د. سفر.
ولما جاء د.عمر للتعليق لم يعلق إلا بتقرير ما قاله د. سفر حذو القُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، فقد قرر أن الإيمان لغة هو التصديق، وكذا شرعاً وكرر الخلاف في النطق بالشهادتين، وَذَكَرَ قولَ من قال إن العملَ شِطْرُ الإيمان أي جُزْءُ مسماه ثم رده، والعجب أنه ذكر هذا القول على أنه قول الخوارج، ولم يدرِ أن أهل السنة من المحدثين والفقهاء وغيرهم يقولون بهذا القول أي أن العمل جزءُ مسمى الإيمان، وأن الإيمان ((إقرار باللسان والتصديق بالجنان وعمل الأركان)) إلا أنهم يخالفون الخوارج فيقولون إِن من ترك أو أخل بشيء من العمل فإنه لا يكفر، فإن الخوارج تكفره لفقد جزئه، وأهل السنة لا يكفرونه.
فالدكتور عمر في سطوره هذه لم يرد على د. سفر، بل قرر كلامه تماماً ولم يعلق عليه ألبتةَ مما يدل على موافقته عليه، ثم أحال على حاشية البيجوري على الجوهرة، وشرحِ اللقاني عليها والمسايرة للكمال بن الهمام.(20/1)
ونقول يا دكتور عمر، قد نقلت عن د. سفر أن في رسالته ((فصل طويل عن هذه القضية)) فهلا راجعت هذا الفصل لتتأكد من أن مذهب الأشاعرة هو مذهب المرجئة في الإيمان، بل هلا ذكرت أن أهل الحديث قاطبةً، في القرون المفضلة يقولون: الإيمان قول وعمل، حتى جاء الجهميةُ وأفراخُهم فقالوا: هو المعرفة أو التصديق وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، بل هلا ذكرت أن مَنْ يقال لهم مرجئة أهل السنة، يخالفون الأشاعرة والماتريدية في جعل الإقرار باللسان رُكْناً من الأركان وليس على الخلاف الذي ذكرته في كلامك ، وهلا ذكرت بعض النصوص التي يحتج بها من قال إن الإيمان يدخل فيه الأعمال نحو قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}[سورة البقرة، آية: 143]، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس باتفاق المفسرين وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) (1)، وقوله لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده"ثم ذكر لهم معنى ذلك وهو ((العمل))، فقال: "شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا الخُمسَ من الغنم"(2)، وغير ذلك من النصوص المتكاثرة الواردة على هذا الأمر وردها هو التكُّلفُ بعينه.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان، باب: أمور الإيمان (1/67-ح9) بلفظ بضع وستون، ومسلم في الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (1/63-ح35) واللفظ له.
(2) رواه البخاري في الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان (1/157-536)، ومسلم في الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى (1/46-67) من حديث ابن عباس.(20/2)
الظاهر أن الدكتور عمر لم يراجع المسألة بنفسه، والاعتماد فيما نقله على أن العمل بعطفه على الإيمان يكون مغايراً له، هي حجة ساقطة كرجل يزعم أن ((جبريل وميكال)) ليسا من الملائكة لعطفهما على الملائكة في قوله:{من كان عدواً لله وملائكتة ورسله وحبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}[البقرة، آية:98]، واعتماده كذلك على أن ثبوت الإيمان قبل الأوامر والنواهي من نفس الجنس لأن الإيمان يفسر بما يشمل الأوامر والنواهي كما في حديثِ وَفْدِ عبدِ القيسِ المتقدم ذكره، أما ما ذكره د. عمر مِنْ أن المراد بالظلم من قوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}[الأنعام، آية:82]، هو المعصية ، ليس صحيحاً فالحديث الصحيح فيه تفسير هذا الظلم بالشرك وذلك فيما رواه الشيخان عن ابن مسعود قال: لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال أصحابه وأينا لم يظلم فنزلت {إن الشرك لظلم عظيم}(1)[لقمان، آية:13].
قال الحافظ بن حجر: ((والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عمومِ الشرك فما دونه... وبين لهم النبي- صلى الله عليه وسلم - أن ظاهرها غيرُ مرادٍ بل هو من العامِّ الذي أريد به الخاصُّ، فالمرادُ بالظلم أعلى أنواعِهِ وهو الشركُ))(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) ، (8/64- ح4629) وأيضاً أخرجه في كتاب الإيمان، (ح3).
(2) فتح الباري (1/110) ط الريان.(20/3)
فهذا الذي فهمه الصحابة وجاء النص بالبيان لَهُ، ثم الدكتور عمر يأخذ المعنى الآخر المخالف للنص!! وإني أنصحك يا د. عمر أن تقرأ أي كتاب من كتب السلف في الإيمان، وترى بنفسك نصوص الشريعة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وعلى مسألة الاستثناء في الإيمان (أنا مؤمن إن شاء الله) وغيرها من هذه المسائل التي خالفتها الأشاعرة، فليس ثمة زيادة في الإيمان عندهم ولا نقصان أيضاً، ولا استثناء، بل لَمَّا ذهب أبو الحسن الأشعري في أحد قوليه إلى جواز الاستثناء أي يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله خالفه جميع الآخذين عنه حتى الباقلاني، ورأوا أن ذلك تناقضاً، فإن الإيمان إذا كان شيئاً واحداً وهو التصديق، فلا يجري عليه استثناء، ونصروا قَوْلَ جَهْمٍ في ذلك، وإنما مثلك يا دكتور عمر كمثل من قال فيهم شيخ الإسلام: ((ومن لم يقف إلا على كتب الكلام ولم يعرف ما قاله السلف وأئمةُ السنة في هذا الباب فيظن أن ما ذكروه هو قولُ أهل السنة، وهو قولٌ لم يقله أحدُ أئمةِ من السنة، بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن، وهو عندهم شر من قول المرجئة، ولهذا صار من يعظم الشافعي من الزيدية والمعتزلة ونحوِهم يطعن في كثير ممن ينتسب إليه: يقولون الشافعي لم يكن فليسوفاً ولا مرجئاً، وهؤلاء فلاسفة أشعرية مرجئة وغرضهمُ ذمُّ الإرجاء))(1)أ.هـ.
لو قرأت يا دكتور عمر بنفسك لما أوقعت نفسك في ذلك، ولاسيما وأنت فيما نظن لا تفتقر إلى أهليه الفهم والترجيح إذا انضم إليها الحرص على العلم وحسن القصد وهو ما نأمله فيك أيضاً.
وأما ما جاء محتملاً في الكتاب، فلعل الرد المجمل عليه كاف ولو ذكرت شبهاً سودت بها مجلدات، لأتاك الردُّ على كلٍّ، فمذهب السلف ((حاكمٌ)) وغيره ((متناقض)).
__________
(1) مجموع الفتاوى، (7/120-121) .(20/4)
القرآن
عرض الدكتور عمر كلام د. سفر في الرد على الأشاعرة في قولهم في ((القرآن)) ثم عقب عليه بأن د. سفر لم يحرر والخلاف في ((الكلام)) وليس في ((القرآن)) ووصفه بالتدليس، ثم أعقب ذلك بالتفصيل، وليته لم يفصّل، لأن ما فصّله دلّ على أمور أيسرها أن الدكتور عمر لم يفهم لا كلام الأشاعرة ولا كلام د. سفر ولا غير ذلك!!! في هذه المسألة.
أما أولاً: فلأن الكلام جنس يندرج تحته أفراد ومنها ((القرآن))، فما كان من كلام على ((خلق القرآن)) كان بحجج عندهم تستوعبُ جنسَ الكلامِ، ولذلك فالمسألةُ المشهورةُ في التاريخ يا د. عمر هي ((خلق القرآن)) لا محنة ((خلق الكلام))، ولذلك فإن اختيار د. سفر للعنوان والخلاف في ((القرآن)) أدقُّ وأصوبُ من أن يكون في ((الكلام)) كما عبت أنت عليه دون وعي لذلك.
وأما ثانياً: فالتفصيل الذي ذكرته سواء كان منك ((أو بما وصلك)) فهو ساقط في نفس الأمر، فقد بنيته على تمثيل الخالق بالمخلوق حيث ذكرت أن المعنى المشهور للكلام بين الناس هو ما كان ((بصوت وحرف صادريْنِ من المتكلم بآلة معينة))، ثم ذكرتَ أن هذا يلزم فيه قيام الحوادثِ بالله والحوادثُ دليل النقص..الخ.
ونقول يا د. عمر رويدك رويدك ، إن تعريفك للكلام هو ((ذلك الكلام المخلوق)) الذي يحتاج إلى آلة، فمن أين لك أن كلام الله مثلُ كلامِ المخلوقين عند مَنْ يثبته من السلف، و والله لو عُمِّرتَ عُمْرَ نوح تبحث في أقوال السلف، فإنك لن تجد ذلك عن أحد منهم فأنت ((تتوهم)) مسألةً في رأسك ثم تذهب تنفيها، فتنفي حقاً في ضمنِ ما تراه من باطلٍ، ولو فصلت ما كان مجملاً، أو أمعنت النظر لبان لك الفرقان في ذلك.(21/1)
فأنت كمن ينفي عن الله الإرادة لأنها ((ميل القلب إلى ما ينفعه))، فكيف ترد على هذا يا د. عمر، لا شك أنك تبين له أن هذا التعريفَ لإرادة المخلوق أما الخالق سبحانه فإرادتهُ تليقُ بجلاله، فكذلك نقول لك يا د. عمر أن الآلة المعينة للكلام هذه للمخلوق، وكلام الخالق كلام بصوت وحرف كما يليق بجلاله، أما كونه بصوت فللنصوص الواردة في ذلك كما في آيات ((النداء)) في القرآن وكذلك ((النجاء)) وفرق ما بين النداء والنجاء رفع الصوت وخفضه كما هو معلوم، وكما في قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم}[سبأ، آية:23 ]، حيث فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسبة ((الصوت)) لله تعالى فجاء البخاري بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضي الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير(1)، وأخرج البخاري في الموضوع نفسه حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تُخْرِجَ من ذريتك بعثاً إلى النار))(2).
وعلق البخاري في نفس الموضوع عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعهُ من بَعُدَ كماَ يسمعه من قَرب: أنا الملك أنا الديان))(3).
__________
(1) أخرجه البخاري، في كتاب التوحيد، باب: قوله الله تعالى:{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له..}(13/453-ح7481).
(2) أخرجه في نفس الموضع، (13/453-ح7483).
(3) علقه في نفس الموضع (13/453)، والحديث أخرجه البخاري بتمامه في الأدب المفرد وأحمد وأبو يعلي والطبراني.(21/2)
ولما حاول بعضهم تأويل ((الصوت)) في هذه النصوص بأن المراد المجاز أو بصوت مخلوق أو برد الرواية رد عليهم ابن حجر فقال: ((وهذا حاصل كلام مَنْ ينفي الصوتَ من الأئمة، ويلزم منه أن الله لم يُسْمِع أحداً من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه ، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوعُ إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عُهِدَ أنها ذات مخارج، ولا يخفى ما فيه، إِذْ الصوتُ قد يكون من غير مخارج.. إلى أن قال وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به، ثم إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق))(1).
وكلام ابن حجر سديد إلا العبارة الأخيرة وهي: ((إما التفويض أو التأويل))، فإن أراد بالتفويض تفويض الكيف فمسلَّم وإن أراد تفويض المعاني فهو باطل ويلزم منه أنا خوطبنا في القرآن بما لا نفهم معانيه وهو ممتنع على كِتَابِ الهدايةِ والبيانِ، وأما التأويل فسيأتي تفصيل ما فيه في مبحث مستقل لاحقاً.
والحاصل أن النصوص من القرآن، والسنة ((رواية)) ثبت فيها وصف الله تعالى بالصوت الذي ينكره الأشعرية ويتابعهم عليه د. عمر.
وأما ((الحرف)) فهو ظاهر في القرآن، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا أقول آلم حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف))(2).
وأما مسألة ((قيام الحوادث بذات الله تعالى)) فهو أَمْرٌ مُجْمَلٌ، وهكذا دائماً
__________
(1) فتح الباري، (13/458).
(2) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن (5/161-ح2910) وقال حسن صحيح غريب، وصححه الألباني والأرناؤوط.(21/3)
يا د. عمر تتعلق وأصحابك بالأمور المجملة، فماذا تقصد بقيام الحوادث بذات الله تعال، إن أردت أن الله يكون مَحِلاً للمخلوقات، أو تقوم به صفة لم تكن، فهذا ممتنع، وإن أردت أن لا يقوم به فعل، يفعل مَايشاءُ وقت شاء متى شاء، فقد خالفت عشرات بل مئات النصوص الدالة على أفعال الله سبحانه{كل يوم هو في شأن}[الرحمن، آية: 29]، وقولك ((ومن المعلوم أن الحدوثَ دليلُ النقصِ)) دعوى مجردة عن برهانها ، قال تعالى:{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}[الطلاق، آية: 1]، وقال:{الله نزل أحسن الحديث كتاباً}[الزمر، آية: 23]، فسماه حديثا، وقال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}[الأنبياء، آية: 2]، وقد جمع البخاري هذه النصوص وَغَيْرَها في كتاب التوحيد وقال: ((وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين)) لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[الشورى، آية: 11]، وقال ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل يُحْدِثُ من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة .... الخ )) (1).
وماذا تقول يا دكتور عمر في مثل حديث الشفاعة: ((إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مِثْلَهُ ولن يغضبَ بعده مِثْلَهُ))(2)، فشدة الغضب تحدث في هذا اليوم لا قبله ولا بعده.
__________
(1) انظر: باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} من كتاب التوحيد في البخاري، كامل الترجمة (13/496)، وحديث ابن مسعود أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي وابن حبان وصححه وأصله في الصحيحين.
(2) أخرجه البخاري، في الأنبياء، (6/37-ح3340) ومسلم في الأيمان(4/184-ح194).(21/4)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً))(1)، فيستدل بهذا الحديث على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت ، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط ، كما يحل السخط ثم يرضى، لكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يتعقَّبُهُ سخط.
ومن هذا الباب الحديث الوارد في الممتنعة من فراش زوجها وفيه ((إلا باتت والذي في السماء عليها غضبان)) ولو كان الغضب صفةَ ذاتٍ لازمة لدخلت هذه المرأة النار لزوماً، وهذا خلاف الظاهر من النصوص، وكذلك حديث: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربَهم وعجَمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب ... )) الحديث، فلو كان المقت لازماً لكان هؤلاء كلُّهم في النار، وهذا خلاف المقطوع به من أن منهم من آمن وَحَسُنَ إسلامه(2) .
وهذا كله يا دكتور عمر يَرِدُ على قولك: ((من قام به الحادث فهذا دليل على نقصانه)) على أنها عبارة مجملة أيضاً كما تقدم، ويَرِدُ على قولك: ((ونزهوه -أي أهل السنة عندك- تعالى في صفتة هذه عن سمات النقص كقيام الحوادث في ذاته تعالى كالصوت والحرف وغير ذلك)).
وهذا كله غير صحيح كما تقدم.
ثم ذهب د. عمر فأورد ((محاولةَ)) العديدِ من العلماء الاستدلالَ على صفة الكلام بالأدلة العقلية، ((وإن النصوص فيها القطع بنسبة الكلام إلى الله تعالى، وأما كون الكلامِ المنسوبِ إليه تعالى هو صفة فهذا ليس مأخوذاً من النقل على سبيل القطع أي أن دلالة النقل على كونه كلامَ اللهِ تعالى صفة له قائمة بذاته هي دلالة لم تَرْتَقِ إلى مرتبة القطعيات، وأهل السنة في قولهم بأن الكلام ثابت لله تعالى على سبيل أنه صفة له قائمة بذاته هي دلالة لم تَرْتَقِ إلى مرتبة القطعيات)) أ هـ.
__________
(1) أخرجه البخاري، في الرقاق (11/415-ح6549) ومسلم في الجنة (4/2176-ح2829).
(2) تقريب وترتيب الطحاوية، (1/579).(21/5)
ولا ندري ما هذا الاضطراب في كلامك يا دكتور عمر هل وصف الله بالكلام لا يرتقي إلى مرتبة القطعيات، فكيف القطعيات عندك ، هل هي الجوهرُ الفردُ والجزءُ الذي لا يتجزأُ أو مَنْعُ التسلسلِ في الزمن الماضي أو مَنْعُ قيامِ الحوادثِ بذاتِ الربِ، ......الخ ما يذكرونه وَتُتَابعُهُمْ عليه، ما هي القطعيات وكيف إثباتها عندك ما دام كلامُ الرب تعالى وَنِسْبَةُ ذلك له صفة كان مبنياً على دلالة من النقل لم ترتق لمرتبة القطعيات!!!
ولما جاء د. عمر يذكر مذهب مَنْ سماهم ((أهل السنة)) في الكلام ذكر أنه صفة أزلية .. إلخ. وذكر أن الدليل عليها هو إخبار الأنبياء وأنه ليس حرفاً ولا صوتاً بل هو كلام نفسي قائم بذاته تعالى.
ولا ندري لما هذا التخبط تارة يميل إلى قول المعتزلة وتارة إلى قول الأشاعرة وهذا شأن مَنْ ترك الوحي وذهب إلى هذه ((القطعياتِ)) المزعومةِ، لأن هذه القطعيات تتعارضُ وتتكافأ فتتساقط، ولهذا كان الغالبُ على هؤلاء الحيرة والاضطرابُ وترجيحُ القولِ ونقيضِهِ.
ومثلاً فمسألتنا هذه نجد الرازي وهو من أساطين الأشاعرة المتأخرين يذكر أقولاً في كتبه فيرجح بعضها في كتب دون أخرى، فمسألة حلول الحوادث ذكرها في الأربعين وقال: ((وأمّا أبو البركات البغدادي – وهو من أكابر الفلاسفة المتأخرين – فإنه صرح في كتابه "المعتبر" بإثبات إراداتٍ مُحْدَثَةٍ وعلومٍ مُحْدَثَةٍ في ذات الله تعالى، وزعم أنه لا يَتَصَوَّرُ الاعتراف بكونه تعالى إلها لهذا العالم إلا مع هذا المذهب ... إلى أن قال: فإذا حصل الوقوف على هذا التفضيل ظهر أن هذا المذهب قال به أكثرُ فرقِ العقلاءِ وإن كانوا ينكرونه باللسان))(1).
__________
(1) الأربعين، للرازي 1/170.(21/6)
وهذه العبارة هي خاتمةُ إلزاماتٍ ألزم الرازيُّ بها المعتزلة بحلول الحوادث لصفة المريدية والكارهية في ذات الله، وألزم الأشعرية بذلك بإثباتهم النسخ بكونه رَفْعاً للحكمِ الثابتِ، وبقولهم بِتَعَلُّقِ العلمِ بما سيقعُ، بأنه سيقعُ وزوال التعلق بعد وقوعه، وبقولهم نحو ذلك بتعلق القدرة بالخلق قبل وبعد حصوله، وكذلك رؤية الموجود بعد أن لم يكن مرئياً حال عدمه، ثم عرج على الفلاسفة وختم بالعبارة السابقة.
ولما ذكر الرازي في هذا الكتاب ((كلام الله تعالى)) ذكر الحجةَ النقليةَ والعقليةَ على الحدوثِ بتفصيلٍ معهودٍ مِنْهُ، ولما جاء إلى الجواب أجمله إجمالاً مخلاً حتى إن محقق الكتاب تعجب من ذلك(1) حيث إنه في نفس الوقت قد ذكر الرازي في ((المطالب العالية)) أن قول من قال إنه تعالى متكلم بكلام يقول بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلاً وعقلاً وأطال في تقرير ذلك، ونقله الحافظ عنه في الفتح(2).
فهذا من أمثلة الاضطرابات عند المتكلمين، وقد بين شيخ الإسلام سبب هذا الاضطراب وأرجعه إلى عدم معرفتهم بأقوال السلف، وبحثهم البحث المطلق بحيث يرجح في كل حال ما يظهر له بغض النظر عن مذهب فلان أو غيره.
يقول شيخ الإسلام: ((وصار طائفة أخرى قد عرفت كلام هؤلاء وكلام هؤلاء كالرازي والآمدي وغيرهما- يصنفون الكتب الكلامية، فينصرون فيها ما ذكره المتكلمون المبتدعون عن أهل الملة من ((حدوث العالم)) بطريقة المتكلمين المبتَدَعَةِ هذه، وهو امتناع حوادث لا أول لها، ثم يصنفون الكتب الفلسفية كتصنيف الرازي ((المباحث الشرقية)) ونحوها؛ ويذكر فيها ما احتج به المتكلمون على امتناع حوادث لا أول لها، وأن الزمان والحركة والجسم لها بداية، ثم ينقض ذلك كله، ويجيب عنه، ويقرر حجة مَنْ قال: إِن ذلك لا بداية له.
__________
(1) الأربعين، (1/257).
(2) الفتح، (13/455).(21/7)
وليس هذا تعمداً منه لنصر الباطل؛ بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه. فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما يقدح به في كلام الفلاسفة قدح به، فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له، فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء، وكذلك يصنع بالآخرين ومن الناس من يسيء به الظن وهو أنه يعتمد الكلام الباطل، وليس كذلك، بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له، وهو متناقض في عامة ما يقوله: يقرر هنا شيئاً ثم ينقضه في موضع آخر، لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المبتدع المذموم عند السلف، ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة، يشتمل على كلام باطل – كلام هؤلاء وكلام هؤلاء:- فيقرر كلام طائفة بما يقرر به ثم ينقضه في موضع آخر بما ينقض به.
ولهذا اعترف في آخر عمره فقال: لقد تأملت الطرقَ الكلاميةَ والمناهجَ الفلسفيةَ فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق ((طريقة القرآن)) اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى}[سورة طه، آية: 5]، {إليه يصعد الكلم الطيب}[سورة فاطر، آية: 10]، واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء}[سورة الشورى، آية: 11]، {ولا يحيطون به علماً}[سورة طه، آية: 110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف معرفتي.
والآمدي تَغْلِبُ عليه الحيرةُ والوقفُ في عامة الأصول الكبار، حتى أنه أورد على نفسه سؤلاً في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً، وبنى إثبات الصانع على ذلك؛ فلا يقرر في كتبه لا إثبات الصانع ولا حدوث العالم، ولا وحدانية الله، ولا النبوات، ولا شيئاً من الأصول التي يحتاج إلى معرفتها.(21/8)
والرازي- وإن كان يقرر بعض ذلك- فالغالب على ما يقرره أنه ينقضه في موضع آخر، لكن هو أحرص على تقرير الأصول التي يحتاج إلى معرفتها من الآمدي. ولو جمع ما تبرهن في العقل الصريح من كلام هؤلاء وهؤلاء لوجد جميعه موافقاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووجد صريح المعقول مطابقاً لصحيح المنقول.
لكنْ لم يعرفْ هؤلاء حقيقةَ ما جاء به الرسول، وحصل اضطرابٌ في المعقول به؛ فحصل نقصٌ في معرفة السمع والعقل، وإن كان هذا النقص هو منتهى قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته، فالعجز يكون عذراً للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام. هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يُعَذَّبْ به.
وأما من قال من الجهمية ونحوهم: إنه قد يعذب العاجزين، ومن قال من العتزلة ونحوهم من القدرية: إن كل مجتهد فإنه لابد أن يعرف الحق، وأن من لم يعرفه فلتفريطه، لا لعجزه، فهما قولان ضعيفان، وبسببهما صارت الطوائف المختلفة من أهل القبلة يكفر بعضُهم بعضاً، ويلعن بعضُهم بعضا))(1).
هذا هو حال هؤلاء المضطربين، وقد تابعهم د. عمر في هذا التيه الفكري، فقرر أولاً: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم قال والمنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عبارة عن حروف وكلمات مقطعات محدودات، وهو مُعَبِّرٌ عن الصفة القائمة بذات الله تعالى، وهذا أولُ الاضطراب، فإذا كان القرآن معبراً به بالحروف والكلمات عن الكلام فليس هو ((كلام الله))، وإن كان هو كلام الله فليس معبراً به، بل يكون قديماً نوعه، وبحروف وأصوات، وهذا الاضطراب جعل الدكتور عمر يخلط بين أمرين:
الأول: قول من قال: إن القرآن ((العربي)) الذي بين أيدينا هو كلام الله مجازاً.
__________
(1) مجموع الفتاوى، (5/561- 563)، (16/231).(21/9)
والثاني: قول من قال: إن القرآن ((العربي)) الذي بين أيدينا هو كلام الله حقيقة والمعنى القديم أيضاً كلام الله حقيقةً فهو مشترك لفظي.
وكلا الأمرين باطل رغم أنه لا يُعْرَفُ مَنْ خَلَطَ بينهما قبل الدكتور عمر.
أما الأول: فهذا يتوقف على معرفة المجاز، وأن المجاز يجوز نفيه، فإن الدكتور عمر جعل هذا فهماًً غلطاً محضاً وقال: ((والتحقيق في الأمر أن المجاز من حيث إنه مجاز باعتبار علاقاته اللغوية لا يجوز نفيه مطلقاً، بل نفيه غَلَطٌ محضٌ، ويدل على عجزٍ في فهم كلام العرب)).
وهذه العبارة من د. عمر طنطنة لا عِلْمَ تحتها، لأنه إن أراد أن العلاقات اللغوية والقرائن تحدد معنى واحداً للمجاز، فقد صار المجاز حقيقة عندئذ، وصارت القرائن تدل على الحقيقة، وهذا قول من نفى المجاز، فكل كلام بقرينته حقيقة، وهو المتبادر للذهن، فمن سمع أن خالداً سيف من سيوف الله لم يفهم قط أن خالداً صفيحة حديدية، ومن سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فرس أبي طلحة: ((وإنْ وجدناه لبحراً)) لم يتبادر لذهنٍ قَطُّ البحرُ المتلاطمُ الأمواج وما به مِنْ أسماك وأصداف .. كلا، ولذلك فالقول بأن الحقيقة هي ما يتبادر للذهن يلزم منه في واقع الأمر أن لا مجاز فلو قال إنسان ((رأيت أسداً على المنبر)) لفهم كل سامع أنه أراد الرجل الشجاع بقرينة ((على المنبر))، ولو فرضنا أن أسداً حيواناً مفترساً صعد المنبر حقاً لاحتاج إلى قرينة أخرى حتى يفهم السامع أنه لم يُرِدْ الرجلَ الشجاعَ، كأن يقول: رأيت أسداً في عرينه بحديقة الحيوانات على المنبر وما أشبه ذلك.(21/10)
ولذلك كان أصح قولي العلماء أن الكلام يحتاج إلى قرينة لِيُفْهَمَ، وكل كلام بقرينتة حقيقة ولا مجاز فيه، ولذا لم يعرف القول بالمجاز في القرون المفضلة الأولى، ((وهذا الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، بل لا يعرف في كلامه مع كثرة استدلاله وتوسعه ومعرفته الأدلةَ الشرعية أنه سمى شيئاً منه مجازاً، ولا ذكر في شيء مِنْ كتبه ذلك لا في الرسالة ولا في غيرها))(1).
ولهذا فما أورده القائلون بالمجاز من إيرادات كجناح السفر وذيل الطريق ليس محلاً للنزاع حقيقة لأن واضع اللغة سواء قلنا توقيفية أو توفيقية وضع ((الجناح)) و ((الظهر)) للطائر والإنسان للمعاني المعروفة، ولم يضعهما مضافتين إلى السفر و الطريق، فهذا استعمال مضاف إلى غير ما أضيف إليه ذاك إذا كان مضافاً كما إذا قال القائل ((الخمسة))، حقيقية في الخمسة، وخمسة عشر مجاز كان جاهلاً، لأن هذا اللفظ ليس هو ذاك، وإن كان لفظ الخمسة موجوداً في الموضعين لأنها ركبت تركيباً آخر(2).
بل إن السكوت والفصل يعطي معنى غير الوصل، فالمتكلم تارة يسكت ويقطع الكلام ويكون مراده معنىً، وتارة يصل ذلك الكلام بكلام آخر يُغير المعنى الذي كان يدل عليه اللفظ الأول إذا جرد، فيكون اللفظ الأول له حالان: حال يقرنه المتكلم بالسكوت وترك الصلة، وحال يقرنه بزيادة لفظ آخر، ومن عادة المتكلم أنه إذا أمسك أراد معنى آخر، وإذا وصل أراد معنى آخر، وفي كلا الحالين قد تبين مراده وقرن لفظه بما يبين مراده(3).
__________
(1) الحقيقة والمجاز، لشيخ الإسلام ضمن مجموع الفتاوى (20/403).
(2) السابق، (20/410).
(3) السابق، (20/413).(21/11)
ونحن نسألك يا دكتور عمر في لفظ ((السيارة)) هل هو حقيقة في ذات العجلات، أو مجاز لأن السيارةَ الجماعةُ التي تسير، قال تعالى: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم}[يوسف، آية:19]، وقال: {متاعاً لكم وللسيارة}[المائدة، آية:96]، فأين المجاز وأين الحقيقة يا دكتور عمر!!؟
وإن تعللت بحجج الأقدمين من أن المجاز موجود في مثل {واشتعل الرأس شيباً}[مريم، آية:4]، و{واخفض لهما جناح الذل}[الإسراء، آية:24]، و{واسأل القرية}[يوسف، آية:82]. إلى آخر ما ذكروه فأحيلك على ما ذكره شيخ الإسلام في بيان حقيقة ذلك كله فيما رد به على الآمدي وابن عقيل وغيرِهما في ذلك برسالته الفذة ((الحقيقة والمجاز))(1).
وأما الأمر الآخر وهو قولك بالاشتراك اللفظي، فهي الطامة على أصحابك الأشاعرة دون أن تدري، فقد هَدَمْتَ مذهبهم بالكلية، ولستَ وَحْدَكَ في هذا، فقد سبق إلى هذا الهراء أسلافٌ لك، فهو قول أبي المعالي الجويني، وسبب فساد هذا القول وكونه هادماً لأصول الأشعرية في ردهم على المعتزلة، أن المعتزلة زعمت أن القرآن العربي المبدوء بالفاتحة والمنتهي بالناس هو كلام الله حقيقة، وهو مخلوق قام بغيره، فانبرى الأشاعرة لهم فذكروا أن كلام الله حقيقةً هو القائمُ به لا ما قام بغيره وأن الذي بين أيدينا هو المجاز، لأنه لم يقم بالله حقيقة، فلما جاء الجويني -وهو القول الذي نَصَرْتَهُ أنت يا دكتور- فذكر أنه يطلق على المعنى القديم وعلى اللفظ الحادث ((المخلوق)) بالاشتراك، فانهدم هذا الأصلُ، فإن الكلام
لا يقوم إلا بالمتكلم لا يقوم بغيره، فلو جوزتم أن يكون لله ما هو كلام له، وهو مخلوق منفصل عنه بطل هذا الأصل(2).
__________
(1) ضمن مجموع الفتاوى، وانظر: على الخصوص، (20/464-497).
(2) انظرفي ذلك شرح النونية: (1/284)، مجموع الفتاوى، (17/148)، (17/70).(21/12)
فما دام ما بين أيدينا كلامَ الله حقيقةً وهو مخلوق، فلم أنكرتم على المعتزلة وبنيتم الرد على استدلالاتهم بأن الكلام لا يقوم بغير المتكلم.
حقاً لقد اتسع الخرق على الراقع، وليس لديكم ما تُوَجِّهُونَ به هذه الوقائع، فسدوا خرقكم وَارْفُو مذاهبكم إن كان ذلك في الإمكان.
والعجب أن الدكتور عمر وَاصَلَ غَيَّهُ لإثباتِ ما هرف به فأتى بنصوص لإثبات الكلام النفساني {ويقولون في أنفسهم}[المجادلة: آية، 8]، {واذكر ربك في نفسك}[الأعراف: آية،205]، وقول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أحدث نفسي بالشيء..)) إلى آخر ما ذكره.
ونقول لك يا دكتور عمر هذه كلها مُقَيَّدَةٌ، فهل المقيدُ عندك كالمطلقِ، فأربعة أو خمسة نصوص فيها الكلام مقيداً بأنه في النفس هذه تكون في نفس معاني عشرات -إن لم يكن مئات- النصوص التي فيها إطلاق الكلام.
كيف أنت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلمْ به أو تعملْ به))(1) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، فَفَرَّق بين حديث النفس وبين الكلام وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب.
وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن صلاتنا لا يصح فيها شيء من كلام الناس))(2)، وقال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تَكَلَّمُوا في الصلاة))(3).
__________
(1) أخرجه البخاري، في العتق، (5/ج2528)، وفي الأيمان والنذور، (1/548- ح666) ومسلم في الأيمان، (1/116-ح127) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أخرجه مسلم في المساجد، (1/381-ح537).
(3) أخرجه أبو داود، في الصلاة، (1/243-ح924)، والنسائي في الصلاة، (3/19-ح221).(21/13)
واتفق العلماء على أن المصلى إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب، لا يُبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين أن هذا ليس بكلام.
وأيضاً فقد قال معاذ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))(1).
فبين أن الكلام إنما هو باللسان.
وأيضاً فإذا كان الكلام نَفْسَانيا عند الإطلاق والتقييد، للزم أن يقال له هذا كلام حقيقة وللزم أن يكون الأخرس متكلماً لأنه قام به كلام حقيقي، وهذا فاسد.
ولم يكن في مسمى ((الكلام)) نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من أهل البدع ثم انتشر وجاريتَهُمْ عليه يا دكتور عمر.
وأختم بجنس عبارتك التي ختمت بها يا دكتور عمر.
فلا تَلُمْ د. سفر الحوالي والشرع ولغة العرب معه، وعليك بلوم أصحابك الأشاعرة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأيمان، (5/13-ح2616) وقال حسن صحيح وأخرجه أحمد (5/231).(21/14)
القدر:
خلط د. عمر كعادته في هذا البحث بين ما يقوله الأشاعرة في القدر وبين ما يفهمه هو من كلامهم، وفهمه لم يكن صائباً بل باطلاً، وخلط في هذا المبحث بين كلام الأشعرية والماتريدية وزعم في آخره أن كلام الماتريدية هو مقصود الأشاعرة مع اختلاف العبارة في التحسين والتقبيح، والعجب أن د. عمر أفرد مبحثاً للتحسين والتقبيح لاحقاً ولم يُورِدْ هذا فيه ولعله اختلاف التوقيت الذي تلقى فيه القصاصات !!
أما مسألة القدر، فإنَّ ما قاله له د. سفر عن الأشاعرة من أن مذهبهم ((الجبر)) صحيح، بل ما ذكره د. عمر في ملخص الأمر يشير إلى أصل هذا القول فقد قال: (ص: 127) ((فالقدرة يهبها الله للعبد بعد عقد النية والعزم، فهو الخالق سبحانه، والعابد كاسب بِنِيته، ويستحيل عقلاً إثبات خالقين لمخلوق واحد)).
وبقى أن يضيف د. عمر أن النية أيضاً موهوبةٌ للعبد، فَلَمْ يَسْتَقِلَّ العبدُ بنيته، وبقى أن يضيف أن القدرة لا تأثير لها في الفعل بعد أن يهبها الله، ولم يقل أحد من الأشاعرة- خلا الجويني- أن للقدرة تأثيراً في الفعل ، بل صرحوا بأن القدرة لا تأثير لها في الفعل.
فأما أبو الحسن نفسه، فقد ذكر الشهرستاني عند ذلك في الملل والنحل ونهاية الإقدام، حيث قال: ((ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرةِ الحادثةِ في الإِحداثِ، لأن جهةَ الحدوث قضيةٌ واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعَرَضِ، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل مُحْدَثٍ حتى تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماع على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سننه بأن يحقق عقيبَ القدرةِ الحادثةِ أو تحتها أو معها: الفعلَ الحاصلَ إذا أراده العبدُ وتجرد له، ويسمى هذا الفعلُ كسباً، فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد: حصولاً تحت قدرته.(22/1)
والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلاً، فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وُجُوهُهُ واعتباراتهُ على جهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أُخُر هُنَّ وراء الحدوث من كون الجوهر جوهراً متحيزاً، قابلاً للعرض، ومن كون العرض عرضاً، ولونا، وسواداً، وغير ذلك ... قال: فجهة كون الفِعِل حاصلاً بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبةٌ خاصةٌ، ويسمى ذلك كسباً، وذلك هو أَثرُ القدرةِ الحادثةِ ... فأثبت القاضي تأثيراً للقدرةِ الحادثةِ وأثرها...
ثم إن إمام الحرمين ((أبو المعالي الجويني)) تخطى عن هذا البيان قليلاً، قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحِسُّ، وأما إثباتُ قدرةٍ لا أَثَرَ لها بوجه فهو كَنَفْيِ القدرة أصلاً، وأما إثباتُ تأثيرٍ في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير، خصوصاً والأحوالُ على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم، فلابد إذن من نسبةِ فِعْلِ العبدِ إلى قدرته حقيقةً لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال....))(1). فهذا النص – عن الشهرستاني – يوضح كيف أن قول الأشاعرة في أفعال العباد لم يثبت على قدم الاستقرار، ولم يكن مقنعاً لكبار علمائهم الذين بحثوا هذه المسألةَ، ويلاحظ في عرض هذا التطور لمذهب الأشاعرة أنهم يسيرون نحوَ القولِ الحقِّ الذي يقول به أهل السنة والجماعة مع العلم بأن الذي استقر عليه مذهبُ الأشاعرة موافقٌ لما قالوه أولاً، والذي ذكر الشهرستاني أنه قول أبي الحسن الأشعري، وأنه لا تأثير للقدرة الحادثة(2).
__________
(1) الملل والنحل، للشهرستاني (1/96-99)، وانظر: نهاية الأقدام له (ص: 72-78)، وانظر: مذهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي (1/557-561).
(2) موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 3/1337.(22/2)
أما ما ذكرته يا د. عمر من الآيات المذكورة في القرآن ويحتمل لفظ ((الكسب))، فهو تلبيسٌ واضحٌ، لأن الكسب في القرآن هو ما يعود على المكلف، وليس في الآيات نفي تأثير القدرة في الفعل الذي ذكروه، ثم ما نقلتَهُ عن ابن حجر يؤكد ذلك لأنه ذَكَرَ القولَ المعتمدَ عند الأشاعرة، فذكر أن للعبد قدرةً غير مؤثرةٍ، وذكر الآخر على أنه قول لبعضهم، وهو قول الجويني كما تقدم(1).
وأما أهم أقوال الأشاعرة في الكسب فهي كما يلي(2):
1- قول جمهور الأشاعرة ومتأخريهم، وهؤلاء يقولون إن الله خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكن يقولون: ((إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما، فيكون الفعل مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثيرٌ أو مُدْخلٌ في وجوده سوى كونه محلاً له)) (3).
فأفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، وهي كسبٌ للعباد وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل، وهذا قول جمهور الأشاعرة وهو القول الذي شنع بسببه المعتزلة على الأشاعرة لأنهم لما لم يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين عن قول الجبرية ((الجهمية)).
وللكسب عند هؤلاء تعريفات، أهمها:
__________
(1) ذكر ذلك في (11/490) وإنما أحال د. عمر على (11/429) ولا يدرى ما السبب!!.
(2) باختصار من: كتاب المحمود السابق (3/1338 – 3341).
(3) شرح المواقف: للجرجاني (237)، تحقيق الدكتور أحمد المهدي، وانظر: عيون المناظرات، لأبي علي عمر السكوني (ص:164 ، 176 ، 224).(22/3)
1- ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به(1).
2- ما يقع به المقدور في محل قدرته(2).
3- وبعض الأشاعرة يعرف الكسب بأنه: ((ما وجد بالقادر وله عليه قدرة مُحْدَثَةٌ)) (3). ويضرب بعضهم للكسب مثلاً: ((في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل، ويقدر آخر على حمله منفرداً به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملاً، كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد قدر عليه ووجد مقدوره، فوجوده على الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلاً وإن وجد الفعل بقدرة الله تعالى))(4).
__________
(1) الإنسان هل هو مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:11)، الطبعة الأولى1980م، مكتبة الخانجي القاهرة. وانظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري (ص: 219)، ط1392هـ.
(2) شرح جوهرة التوحيد (ص:219).
(3) المعتمد في أصول الدين: (ص: 128)، وانظر: التعليقات على شرح الدواني للعقائد العضدية: لجمال الدين الأفغاني (ص:309) من الجزء الأول، ضمن الأعمال الكاملة لمؤلفات جمال الدين الأفغاني، تحقيق: محمد عمارة، ط1979م.
(4) أصول الدين للبغدادي، (ص: 133-134)، وانظر: نشأة الأشعرية وتطورها، د: جلال محمد موسى (ص:238)، وهذا تشبيه باطل ثم إن الرجل الذي لا يستقل بالحمل إنما يحمل شيئاً من الحجر في حالة حمل الآخر معه، وهذا الشيء ((وإن كان قليلاً)) إلا أن الآخر لا يحمله، فيكون قد أثر بقدرته ما استقل به عن قدرة الله، وهذا مذهب المعتزلة. وما هو إلا شرك دون شرك كما سيأتي تفصيله.(22/4)
وكسب الأشعري هذا هو الذي قيل فيه: ثلاثة أشياء لا حقيقةَ لها ومنها كسب الأشعري(1)، وقد دار حوله نقاش طويل وعريض، ولم ينته الأشاعرة فيه إلى قول مستقيم(2).
2- قول أبي بكر الباقلاني: وهو كقول جمهور الأشاعرة إلا أنه خالفهم بأن الأفعال واقعة بمجموع القدرتين ((على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته، أعني بكونه طاعة ومعصية، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعالُهُ تعالى، كما في لطم اليتيم تأديباً أو إيذاء، فإن ذات اللطم واقعة بقدرةِ الله وتأثيره، وكونه طاعة على الأول، ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره))(3)، يقول الباقلاني في رسالة الحرة: ((ويجب أن يعلم أَنَّ العبد له كسب وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعته ومعصيته لأنه تعالى قال: {لها ما كسبت}[سورة البقرة: آية 286]، يعني من ثواب طاعة {وعليها ما اكتسبت}[سورة البقرة: آية 286]، يعني من عقاب معصية ... ويدل على صحة هذا أيضاً: أن العاقلَ منا يُفَرِّقُ بين تحريك يده جبراً وسائر بدنه عند وقوع الحُمَّى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضواً من أعضائه قاصداً إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسبٌ لهم وهي خلق الله تعالى، فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق))(4).
__________
(1) وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، انظر: مجموع الفتاوى(8/128).
(2) انظر مثلاً: النشر الطيب على شرح الطيب، إدريس بن أحمد الوزاني الفاسي، (1/461)، ط الأولى1348هـ، وانظر: كتاب المسامرة، للكمال بن أبي شريف، بشرح المسايرة لابن الهمام (ص: 107)، ط الأولى، بولاق، 1317هـ، وانظر: حاشية الكلنبوي على شرح الدواني، مع حاشية المرجاني والخلجاني (ص: 1/251)، ط1317هـ.
(3) شرح المواقف (ص: 239) – الجزء المحقق.
(4) رسالة الحرة – المطبوعة باسم الإنصاف (ص: 43-44).(22/5)
إذن فمذهب الباقلاني أن الفِعْلَ واقع بقدرة العبد بوصفه طاعة أو معصية يترتب عليه الثواب والعقاب(1).
__________
(1) انظر: نهاية الإقدام (ص:73) وما بعدها، والملل والنحل للشهرستاني (1/97) وما بعدها، وحاشية الكلنبوي على شرح الدواني (1/251)، والنشر الطيب (1/464) وما بعدها، وانظر أيضاً: في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه، إبراهيم مدكور (2/118)، وانظر: في علم الكلام، أحمد محمود صبحي (1/513) وما بعدها، وانظر: العقائد النسفية مع شرح التفتازاني- وحواشيها (ص:117) ط عام 1326هـ .(22/6)
3- قول أبي المعالي الجويني: كان في أول أمره يقول بقول عامة الأشاعرة وقد صرح بمذهبه هذا في الإرشاد: قال: ((اتفق سلف الأمة قبل ظهور البدع والأهواء واضطراب الآراء على أن الخالقَ المبدع ربُّ العالمين، ولا خالق سواه، ولا مخترع إلا هو، فهذا هو مذهبُ أهلِ الحقِ، فالحوادثُ كلُّها حدثت بقدرة الله تعالى، ولا فرق بين ما تعلقت قدرة العباد به، وبين ما تفرد الرب بالاقتدار عليه، ويخرج من مضمون هذا الأصل أن كلَّ مقدور لقادر فالله تعالى قادر عليه وهو مخترعه ومنشئه))(1). ثم قال: ((فالوجه القطع بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلاً، وليس من شرط تعلق الصفة أن تؤثر في مُتَعَلَّقِها، إذ العِلْمُ مَعْقُولٌ تعلقُهُ بالمعلوم مع أنه لا يؤثر فيه، وكذلك الإرادةُ المتعلقةُ بفعل العبد لا تؤثر في متعلَّقها))(2). وواضح من هذا الكلام تمسك الجويني بمذهب الأشاعرة، ولكننا نجده في ((العقيدة النظامية)) – وهي آخر ما كتب في العقيدة – يرد قوله هذا وقول عموم الأشاعرة(3) وقد أطال الكلام في هذه المسألة ووضح مذهبه الذي انتهى إليه، وهو يتوافق مع مذهب أهل السنة والجماعة.
__________
(1) الإرشاد (: 187).
(2) المصدر السابق (ص:210).
(3) انظر: العقيدة النظامية (ص:43-56) ، تحقيق أحمد حجازي السقا، ط الأولى1398هـ، وانظر: في مذهب الجويني: النشر الطيب (1/464)، والملل والنحل للشهرستاني (1/98)، ونهاية الإقدام (ص: 78) وما بعدها. وفي الفلسفة الإسلامية (2/118) وما بعدها، ومذاهب الإسلاميين (1/739) وما بعدها.(22/7)
4- قول أبي حامد الغزالي: وهو أن أفعال العباد واقعة بمجموع القدرتين على فعل واحد، وجَوَّزَ اجتماع المؤثرين على فعل واحد، يقول: ((وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، وهذا هو إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما، فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال))(1)، فالمؤثر عنده مجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العباد(2).
القول الخامس: قول أهل السنة والجماعة، وهؤلاء يقرون بالمراتب الأربع الثابتة للقدرة، والتي دلت عليها النصوص، وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، أما أفعال العباد فهي داخلة في المرتبة الرابعة، ولذلك فهم يقولون فيها: إن الله خالق أفعالِ العبادِ كُلِها، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم قدرةٌ حقيقيةٌ على أعمالهم ولهم إرادةٌ، ولكنها خاضعة لمشيئة الله الكونية فلا تخرج عنها، فالله سبحانه يُخْرِجُ فعلَ العبدِ بتوسطِ قدرةِ العبدِ وإرادتِهِ.
تحرير موضع النزاع في ذلك:
يرجع أصل قولهم إلى قضية هل الفعل هو المفعول أو هو غيره؟ فالأشاعرة يقولون الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق فراراً من إثبات أفعال تقوم بالله حَذَرَ ما يدعونه بـ ((حلول الحوادث)).
فلما جاءوا إلى مسألة القدر وأفعال العباد واعتقدوا أنها مفعولة لله، قالوا: هي فعله، لأن الفعل عندهم هو المفعول، فقيل لهم في ذلك : أهي فعل العبد؟ فاضطربوا في الإجابة، وانقسموا حيالها إلى أقوال ثلاثة:
جمهورهم قالوا: هي كسب العبد لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بِفَرْقٍ مُحقَّقٍ.
ومنهم من قال: بل هي فعلٌ بين فاعلين. وهو قول الغزالي الذي سبق.
__________
(1) الاقتصاد (ص: 58-59)، ط دار الكتب العلمية.
(2) انظر: الأربعين للرازي (ص: 13)، ط دار الآفاق.(22/8)
ومنهم من قال: بل الرب فَعَلَ ذاتَ الفعلِ والعبدُ صِفَتَهُ وهذا قول الباقلاني- كما سبق-(1).
((والتحقيق الذي عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعول لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعالُ هي فعلُ العبدِ القائم به، ليست قائمة بالله ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال المتصف بها، وله عليها قدرةٌ، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كلُّه مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعول للرب))(2).
وأما ما سودت به يا د. عمر الصحائف حول ((السبب وأفعال المخلوقات))، فإنما يفهم في ضوء ما تقدم ليس إلاّ، وقولك في بداية تعليقك ((إن جميع الأفعال مخلوق لله بلا واسطة وهو نقيض ما ذكرته في (ص: 130) أن فاعل الاحتراق بِخَلْقِ السوادِ في القطنِ والتفرقِ في أجزائه، وَجَعْلِهِ رماداً هو الله تعالى إما بواسطة ((الملائكة)) أو بغير واسطة)) أهـ .
ونحن نضيف لك أيضاً أن أفعال الحيوان الإرادية إنما يخلقها الله بواسطة قدرة الحيوان وإرادته، وهذا حقيقة ليس عن مجردِ اقترانٍ كما زعم الأشاعرةُ.
ولعل ذلك يتضح من خلال ما يلي(3):
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (2/119).
(2) المصدر السابق (2/119-129)، وانظر: منهاج السنة (1/322-326)-ط دار العروبة المحققة.
(3) انظر: رسالة المحمود3/1342 وما بعدها.(22/9)
1- أن كسب الأشعري لا حقيقة له، لأنهم فسروه بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، وقالوا الخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وما دام العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل فالزعم بأنه كاسب، وتسميةُ فِعْلِهِ كسباً لا حقيقة له، لأَنَّ القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقاً بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له. وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى أن قول الأشاعرة هذا قريب من قول الجهم الذي يصرح بالجبر(1).
2- أما زعمهم بأنهم يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق بأن الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة، وقولهم أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه، وزعمهم أن هذا يُبْعِدُ قولَهم عن قول الجهم الذي يقول بالجبر المحض(2)- أما مزاعمهم هذه فمردودة بما يلي:-
أ- أن قولهم هذا ((لا يوجب فرقاً بين كون العبد كَسَبَ، وبين كونه فَعَلَ، وأوجد، وأحدث، وصنع، وَعَمِلَ، ونحو ذلك، فإن فعلَه وإحداثَه وعملَه وصنعَهُ هو أيضاً مقدورٌ بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة))(3).
__________
(1) انظر في مناقشة شيخ الإسلام لمسألة الكسب وأنه لا حقيقة له، وأنه كطفرة النظام وأحوال أبي هاشم، والرد عليهم في مسألة القدرة الحادثة، الصفدية (1/149-153)، والنبوات (ص:199)- ط دار الكتب العلمية- ، ومجموع الفتاوى (8/387، 403-467-468)، وشرح الأصفهانية (ص:149-150، 350) ت السعوي، والاستغاثة (2/173)، ومنهاج السنة (1/323)- ط دار العروبة المحققة (1/358 ، 2/5/)، مكتبة الرياض الحديثة، أقوم ما قيل في القضاء والقدر- مجموع الفتاوى- (8/128 ، 136-137)، درء التعارض (1/82-84 ، 4/65 ، 6/49 ، 7/247-248، 9/167 ، 10/114-115).
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/118-119).
(3) مجموع الفتاوى (8/119).(22/10)
ب- ((وأيضاً فإنه فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك، والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في كل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجاً عن محلها وفي ذلك نزاع طويل))(1).
فالأشاعرة بَنَوْا أقوالهم في الكسب وقدرة العبد على أصول غير مسلمة.
ج- وتفسيرهم بمجرد الاقتران يقتضي أن لا يكون هناك فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل(2).
د- أن ((من المستقر في فطر الناس، أن مَنْ فَعَلَ العدلَ فهو عادل ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلاً لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم))(3)، وهذا من أعظم الباطل. ويقال للأشاعرة أيضاً: يقال لكم هنا ما تقولونه أنتم للمعتزلة في مسألة الكلام وأن من قام به الكلام فهو المتكلم وأن الكلام إذا كان مخلوقاً كان كلاماً للمحل الذي خلقه فيه. فكذلك إرادة العبد وقدرته(4).
هـ- أن القرآن مملوء بذكر إضافة أفعال العباد إليهم،ومن ذلك قوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون}[سورة السجدة: آية17]، وقوله:{اعملوا ما شئتم}[سورة فصلت:آية40]، وقوله: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم}[سورة التوبة: آية 105]، وقوله: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات}[سورة البقرة: آية 277]، وغيرها كثير جداً(5).
__________
(1) نفسه.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/119).
(3) انظر: السابق (8/119-120) .
(4) انظر: المصدر نفسه (8/120).
(5) انظر: المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.(22/11)
و- ((أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يُحْمَدُ وَيُذَمُّ على فعله، ويكون حسنةً له أو سيئةً، فلو لم يكن إلا فِعْلَ غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها))(1).
ثالثاً: أن التفصيل الذي ذكره السلف، هو الحق وبه يزول الإشكال الذي توهمه هؤلاء في مسألة العباد، وكونها مخلوقة لله تعالى، وفي فعل العباد حقيقة. وقد بنى السلف ذلك على أن الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق.
ومع وضوح مذهب السلف فإن شيخ الإسلام شرح بعض القضايا الغامضة حول مذهبهم، ومنها:
1- ما يقال من أنه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله، وهي فعل لهم حقيقة، فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟
يجيب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: ((قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا: لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر، فيقول فعلت هذا أفعلُه فعلاً، وعملت هذا أعملُه عملاً، فإذا أريد بالعمل نفسُ العملِ الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كَنِساجَةِ الثوبِ وبِنَاءِ الدارِ ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب، وتماثيل، وجفانٍ كالجواب وقدورٍ راسيات}[سورة سبأ: آية13]، فجعل المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالى:{والله خلكقم وما تعملون}[سورة الصفات: آية96]،أي والله خلقكم وخلق الأصنامَ التي تنحتونها... والمقصود أن لفظ ((الفعل)) و ((العمل)) و ((الصنع)) أنواعٌ وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول وكذلك لفظ التلاوة والقراءة والكلام والقول يقع على نفس مسمى المصدر وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.
__________
(1) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.(22/12)
والمقصود أن القائل إذا قال: هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق))، ثم وضح المسألة فقال: ((وأما من قال "وهم جمهور أهل السنة": خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فِعْلاً له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعماً مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسببا لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره))(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى (8/121-123).(22/13)
2- ومن الأمور التي تحتاج إلى بيان: مسألة قدرة العبد وهل لها تأثير أو لا؟ يوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: ((إن التأثير إذا فُسِّرَ بوجود شرط الحادث أو بسببٍ يتوقفُ حدوثُ الحادِث به على سببٍ آخرَ، وانتفاء موانع – وكل ذلك بخلق الله تعالى- فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقلٌّ بالأثر غيرُ مشاركٍ معاونٍ ولا معاوقٍ مانعٍ، فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا نِدَّ له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .... فإذا عرف ما في لفظ "التأثير" من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة، وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين"))(1)، ويقول في موضع آخر: ((الذي عليه السلف وأتباعُهم وأئمةُ أهلِ السنة وجمهورُ أهل الإسلام المثبتون للقدر، المخالفون للمعتزلة: إثباتُ الأسبابِ، وأن قدرةَ العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أُخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعُها، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضدادَهُ المعارضةَ له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوةُ القائمةُ بالإنسان؛ فلابد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كَالْعَدُوِّ وغيره))(2).
__________
(1) المصدر السابق (8/134-135).
(2) مجموع الفتاوى (8/487-488).(22/14)
وقد أوضح شيخ الإسلام هذه القضية توضيحاً تاماً فقال: ((التأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير الانفرادُ بالابتداعِ والتوحيدُ(1) بالاختراعِ فإن أُريدَ بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشا لله، ولم يقله سني، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد بالتأثير نَوْعُ معاونةٍ إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات، فهو أيضاً باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرةٍ أو فيلٍ، وهل هو إلا شِرْكٌ دونَ شِرْكٍ وإن كان قائلُ هذه المقالةِ ما نحا إلا نحو الحق.
وإن أريد أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات، وليس إضافةُ التأثيرِ بهذا التفسيرِ إلى قدرةِ العبدِ شركاً، وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركا))(2).
ويعلق د. المحمود فيقول: ((وكلام ابن تيمية في هذين الموضوعين واضح تمام الوضوح، وفيه حل لإشكالات كثيرة، وما وجدت أحداً قبل شيخ الإسلام – رحمه الله – بين هذا البيان في هذه القضايا المهمة التي كثر فيها الكلام، واختلط فيها الحق بالباطل. فلقد كان شرحه وافياً، شافياً، دقيقاً. وما وجدت مَنْ كتب في القدر ككتابة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى -))(3).
__________
(1) هكذا في النص ولعلها : التوحد.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/389-390).
(3) موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود (3/1347).(22/15)
3- ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها: معنى الكسب عند أهل السنة، فكثيراً ما يذكر علماء السنة أن أفعال العباد كسبٌ لهم، وقد يقع إيهام في ذلك خاصة أن الأشاعرة يعبرون عن مذهبهم في هذا الموضوع بالكسب، فيقع الإيهام أحياناً، كما فعل د. عمر فيما ذكره في كتابه، ونوضح هذا بِأنَّ أهل السنة عندما يقولون: إِن أفعال العباد كسب لهم، معناه: أنها أفعالهم التي تعود على فاعليها بنفع أو ضر، كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}[سورة البقرة: آية286]، فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، والناس يقولون: فلان كسب مالاً أو حمداً أو شرفاً كما أنه ينتفع بذلك، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين، صح إثبات السبب، إِذْ كمالُهم وصلاحُهم من أفعالِهم)) (1) فمقصود أهل السنة أنها كسب لهم واقعة بقدرتهم وإرادتهم وكل أفعالهم مخلوقة لله سبحانه وتعالى(2).
ولعل هذا مقنع يا د. عمر إن كنت راغباً في الهداية، والله أعلم.
وأما ما ذكرتَهُ في (ص:132) من أن من ((خلق الولد من الصخرة أو الإبصار بالخد أو الإحراق بالماء لا يتأتى، وليس من الحكمة)) فهذا كذب على أهل السنة، فإنهم يثبتون أن الأيدي والجلود تشهد يوم القيامة بموجب نص القرآن مع عدم وجود آلة الكلام لها من اللسان واللهوات وغيرها، فهذا كله من الهراء الفاضح، وإنما مراد الأئمة إثبات الأسباب وتأثيرها وإلا فَلِمَ نحكم على القاتل بالقتل إذا كان ليس له تأثير في فعله؟ ... هلا عقلت هذا يا د. عمر.
وبالمناسبة فالعالم النحوي الذي هدم نظرية العامل هو ابن مضاء الأندلسي وكتابه ((الرد على النحاة)) مطبوع بتحقيق د. شوقي ضيف، وحيث لم تطلع عليه شكّكت في وجوده أصلاً.
__________
(1) السابق.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/387).(22/16)
تكليف مالا يطاق:
قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}[سورة البقرة، آية:286]، وقال: {لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها}[سورة الطلاق، آية:7].
وهذه الآيات صريحة في الدلالة في منع تكليف مالا يطاق، إلا أن الأشاعرة أثبتوا وجود تكليف مالا يطاق شرعاً وذلك تفريعاً عن مسألة الاستطاعة، فإن الأشاعرة عندما جعلوا الاستطاعة مقارنةً للفعل ونفوا أن يكون للعبد استطاعة قبل الفعل، التزموا أنه لا استطاعة إلا لِمَنْ فَعَلَ الفعل، فيكون قبل الفعل قد كلف بما لا استطاعة له(1).
والعجب أن الدكتور عمر بَادِيَ الرأيِ يذكر قول ابن الجوزي في زاد المسير على أن تكليف مالا يطاق ليس ممتنعاً بقوله تعالى: {ولا تحملنا مالا طاقة لنا به}[سورة البقرة، آية:286]، وخفي على الدكتور عمر أن هذه الآيات تحتمل وجهين:
الأول: أن مالا طاقة به هو على ظاهره، لكن ليس فيها تكليفٌ، فقد يُحَمَّل الإنسان جبلاً فيموت.
__________
(1) دلت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على رفع الحرج عن هذه الأمة المرحومة، ولم يَدَّعِ أحدٌ أن الله كلف الناس مالا يطيقون، حتى خرج الجهم ببدعة الجبر، وصار الجبرية يصرحون بأن الله كلف الناس مالا يطيقون، ولذا فالمخالف في هذه المسألة لأهل السنة والجماعة هم الجبرية وَمَنْ وافقهم من الأشعرية ونحوهم. وهذه المسألةُ متعلقةٌ بمسألةِ الاستطاعةِ، لأنه إن كانت القدرة مع الفعل فقط وليس هناك قدرةٌ قبل الفعل، فالقدرةُ التي مع الفعل لا تصلحُ للترك، وعليه فكل مَنْ فَعَلَ شيئاً فلا يقدر على أن لا يفعله وهذا هو الجبر المحض الذي يلزم منهُ سقوطُ حكمة التكاليف، انظر: تقريب الطحاوية (2/1131).(23/1)
الثاني: أنه لو كان المراد التكليف، فهي على قانون لغة العرب، وهو التعبير عما يشق بذلك، كما تقول لا أطيق النظر إليك أي يشق عليّ، فالمراد لا تكلفنا ما يشق علينا وإن كان ذلك داخلاً تحت القدرة. قال ابن الأنباري: أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلِ مكروهٍ، قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه(1).
ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
قال شارح الطحاوية عن مذهب الأشاعرة في ذلك:
((ومنهم من يقول: يجوز تكليف الممتنع عادة، دون الممتنع لذاته، لأن ذلك(2)، لا يتصور وجوده، فلا يعقل الأمر به، وبخلاف هذا(3).
__________
(1) من مجموع الفتاوى بلفظه (14/102-103).
(2) أي الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين.
(3) أي الممتنع عادة كحمل جبل.(23/2)
ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى، لكنْ كونُهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده – بدعة في الشرع واللغة. فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا، لقولهم: إن الطاقة- التي هي الاستطاعة وهي القدرة- لا تكون إلا مع الفعل! فقالوا: كل مَنْ لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، وخلاف ما عليه عامة العقلاء(1).
وقال شارح الطحاوية أيضاً:
وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف مالا يطاق جائز عقلاً(2)، ثم تردد أصحابه أنه: هل ورد به الشرع أم لا؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين وهو محال.
__________
(1) ووجه ذلك أنهم لما جعلوا الاستطاعة مقارنةً للفعل، ونفوا أن تكون هناك استطاعة قبل الفعل، وجعلوا المشتغل بالشيء مستطيعاً له وَغَيْرَ مستطيعٍ لغيره، فإذا كلف بغيره في وقت انشغاله بالشيء، فقد كلف ما لا استطاعة له عليه، فيكون من باب مالا يطاق، أما عند أهل السنة: فهو في حالة انشغاله بالشيء له استطاعته مقارنة له، وفي نفس الوقت يملك آلاتِ وأسبابَ الفعل الآخر، والتكليف إنما يقع على الاستطاعة التي قبل الفعل لا التي هي مقارنةٌ للفعل فإذا كلف بغير ما هو مشتغلٌ به كان تكليفُهُ بما يطاق، وبما في وُسْعِهِ، وَضِمْنَ حدودِ قدرته، فهؤلاء جعلوا التكليف على القدرة المقارنة، مع أنها ليست شرطاً في التكليف، ثم كلامهم فيه غفلة عن الإرادة الجازمة، والتكليف لا يتعلق بالاستطاعة التي تقارنها الإرادةُ كما تقدم بيانه والله أعلم. انظر: تقريب وترتيب الطحاوية (2/1134، 1135).
(2) انظر: مجموع الفتاوى (3/318-326).(23/3)
والجواب عن هذا بالمنع: فلا نسلم بأنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان، فما كلف إلا بما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة(1).
ولا يلزم قوله تعالى للملائكة: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}[سورة البقرة، آية:31]. مع عدم علمهم بذلك، ولا للمصورين يوم القيامة: ((أحيوا ما خلقتم))(2)، وأمثال ذلك(3)- لأنه ليس بتكليفِ طلبِ فعلٍ يثاب فاعلهٌ ويعاقَبُ تاركُهُ بل هو خطابُ تعجيز(4).
وقال أيضاً(5): ومالا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه: فهذا لم يكلفه الله أحداً.
__________
(1) ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بعد نزول هذه الآية بالإيمان، بل هذا من جنس مَنْ عاين الملائكة وقت الموت، ومن جنس قوم نوح حينما أخبر الله نبيَّه نوحاً بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فهؤلاء وأمثالهم انقطع تكليفهم، ولم ينفع إيمانهم حينئذ كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}[سورة غافر، آية:85]. انظر: مجموع الفتاوى (8/302، 348، 374-474)، ودرء التعارض (1/63-64). وتقريب وترتيب الطحاوية (2/1133).
(2) أخرجه البخاري في الأدب، باب: عذاب المصورين يوم القيامة من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- (10/396-ح5951).
(3) ومن ذلك قوله: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون). انظر: مجموع الفتاوى (8/302).
(4) شرح الطحاوية (ص: 503-504).
(5) شرح الطحاوية (ص: 493).(23/4)
ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده: فهذا هو الذي وقع فيه التكليف(1)، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف! ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة(2).
__________
(1) تعارض العقل والنقل (1/63).
(2) إلا أن الأئمة أنكروا أن يسمى هذا المعنى تكليف ما لا يطاق، انظر: تقريب الطحاوية، 2/1132.(23/5)
الحكمة الغائية :
لقد خلط د. عمر في هذا المبحث خلطاً عجيباً يقتضي أنه لم يحرر المسألة؛ شأنه فيها كأكثر مباحث الكتاب؛ فقوله بداية التعليق أن الأشاعرة لم ينفوا اشتمالَ أفعالِ اللهِ على الحكمة بل نَفَوْا أن يكون ذلك واجباً على الله ليس هو موضع النزاع، وليس صحيحاً في نفسه، لأن الأشاعرة لم يثبتوا أصلاً أفعالاً لله حتى يثبتوا لها حكمة بل فعله عندهم مفعوله كما تقدم، وخلاصة الأمر أن يقال(1):
كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى: يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمةٌ عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكون في المأمورات وفي المخلوقات(2).
فهو ((سبحانه حكيم، لا يفعل شيئاً عبثاً ولا بغير معنًى ومصلحةٍ وحكمةٍ، هي الغايةُ المقصودةُ بالفعلِ، بل أفعالهُ سبحانه صادرةٌ عن حكمهٍ بالغةٍ لأجلها فَعَلَ، كما هي ناشئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَلَ، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى))(3)، وقد ذكر ابن القيم بعضها(4).
وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:
1- قول من نفى الحكمةَ وأنكر التعليلَ، وهؤلاء يقولون: إِن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فَعَلَ ذلك لمَحْضِ المشيئةِ، وَصَرْفِ الإرادة وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله(5).
__________
(1) انظر: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة، 3/1310.
(2) انظر: مجموع الفتاوى(8/35-36).
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 400-434) .
(4) شفاء العليل لابن القيم (ص:400) ط التراث.
(5) انظر: الإرشاد للجويني (ص:268) وما بعدها، ونهاية الإقدام (ص: 297)، ومحصل أفكار المتقدمين للرازي (ص:205)، الفصل (3/174)- ط المعرفة.الأحكام لابن حزم (8/1110) وما بعدها.(24/1)
2- إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودةٍ، لكنْ هذه الحكمةُ مخلوقةٌ، منفصلةٌ عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة وَمَنْ وافقهم(1).
3- قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن يجعلها قديمة غير مقارِنَةٍ للمفعول.
4- إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، فالله تعالى خلق الخلق ليحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم يثبتون حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقاً له(2).
5- قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن لله حكمةً في كلِّ ما خلق، بل له في ذلك حكمةٌ ورحمةٌ- كما سبق بيانه في بداية هذه المسألة.
هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ونلاحظ أنها تنتهي إلى قولين:
أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة وَمَنْ وافقهم.
والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمةً تعودُ إلى العباد ولا تعودُ إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى(3).
__________
(1) نظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل. لعبد الجبار الهمذاني (6/48، 11/92-93).
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/39).
(3) انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر – مجموع الفتاوى (8/83-93 ، 97-98)، منهاج السنة (1/97-89)- ط دار العروبة المحققة، والاستغاثة (ص: 2/27)، جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى – (17/198-203)، درء التعارض (8/54)، مجموع الفتاوى (8/377-381)، ومنهاج السنة (1/94-95) – ط دار العروبة المحققة.(24/2)
ويلاحظ أن مَنْ نفى الحكمةَ والتعليلَ – كالأشاعرة- دفعه ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب والقدرة غير المؤثرة للعبد. ومن أثبت حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة.
أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر- كما سيأتي إن شاء الله- .
والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، واحتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها:
أ- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضاً حادثة فتفتقر إلى علة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل.
وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه:
1- يقال لهم في الحكمة ما يقولونه هم في ((الفعل)) وذلك بأن يقال لهم: ((لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك. فإن جاز أن يكون قديمَ العينِ أو قديمَ النوعِ، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قديمةَ العينِ أو قديمةَ النوعِ)) (1). ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديمُ ((العينِ)) هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاةٌ للحكمة - فهم موافقون للأشاعرة في هذا- فهذا الإلزامُ صالحٌ لهم. ومن قال هذا ممتنعٌ – أي قِدَمَ العينِ أو النوعِ في العقلِ- قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها، ((وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العينِ ولا قديمَ النوعِ، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك)) (2).
فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة ((كأنه يفعل مراداً لمرادِ آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوباً لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل)) (3).
__________
(1) شرح الأصفهانية (ص: 363-364)- تحقيق السعوي.
(2) المصدر السابق (ص: 364) .
(3) المصدر نفسه، ونفس الصفحة.(24/3)
2- يقال لهم في هذه الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئاً بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمةٍ لا حكمةَ فوقها(1).
3- أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلية لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلاً لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل- والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم،والجنة أكلها دائم(2).
ب- والحجة الثانية للأشاعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها – عندهم – أن الله ((لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكْمَلاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكْمَلاً بها فيكون قبلها ناقصاً))(3)، وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث.
وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، وعند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث.
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا – في مبحث التعليل – من وجوه:
1- ((أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جواباً في المفعولات، كان جواباً عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله))(4).
2- أن قولهم ((مستكمل بغيره)) باطل ، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته))(5).
__________
(1) انظر: المصدر نفسه (ص: 365).
(2) انظر: المصدر نفسه.
(3) مجموع الفتاوى (8/183)، وانظر: الأربعين للرازي (ص:149-150).
(4) مجموع الفتاوى (8/146)، وانظر: شرح الأصفهانية (ص: 360) – ت السعوي.
(5) مجموع الفتاوى (8/146).(24/4)
3- ((أن العقل الصريح يعلم أن مَنْ فعل فعلاً لا لحكمة، فهو أولى بالنقص ممن لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أَحَبَّ كَوْنَها فيه، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمه لا نقص فيه))(1).
4- ((أنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفعل لحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم ...))(2).
وهناك أوجه أخرى في مناقشة هذه الحجة(3)، كما أن لشيخ الإسلام مناقشاتٍ عديدةً للأشاعرة حول نفيهم للحكمة التي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة(4).
كما أشار – أحيانا – إلى تناقضهم في هذا الباب(5).
والأدلة على إثبات الحكمة والتعليل على وفق مذهب أهل السنة كثيرة جداً، ذكر طرفاً منها شيخ الإسلام(6).
__________
(1) شرح الأصفهانيى (ص: 362)- ت السعوي.
(2) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 363) – ت السعوي.
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 357-363)، ومجموع الفتاوى (8/146-147)، ودرء التعارض (4/203)، ومنهاج السنة (1/297-298) – ط دار العروبة المحققة.
(4) انظر: شرح الأصفهانية (ص:354-379)- حيث استقصى حججهم كما ذكرها الرازي وناقشها، وانظر أيضاً: منهاج السنة (1/97-98 ، 398-301) – ط دار العروبة المحققة، ونقض التأسيس- طبوع – (1/199-217)، والنبوات (ص: 131-134 ، 357-361)- ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (16/130-132)، والجواب الصحيح (4/257-259).
(5) انظر: أمثلة على ذلك في الاستغاثة (2/228)، ومجموع الفتاوى (14/183-184).
(6) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 157-159) – ت السعوي، موقف شيخ الإسلام من الأشعرية للمحمود (3/1315).(24/5)
التحسين والتقبيح:
وأيضاً وقع الدكتور عمر في مزلق عند تقريره هذا المبحث، وتساءل في أول تعليقه هل أنت موافق للمعتزلة يا د. سفر؟، وهذا عجيب لأن لمنازعك يا دكتور عمر أَنْ يقول وهل أنت موافق للجبرية يا د. عمر؟.
وليس شيء من هذين المذهبين صحيح، وليس كلام سفر الحوالي هو كلام المعتزلة وإنما أُتيتَ يا د. عمر مِنْ قِبَلِ الفهم ليس إلا.
فأهل السنة يرون أن التحسين والتقبيح ليس كما تقول المعتزلة عقلياً محضاً وهو ليس كما يقول الأشاعرة شرعياً محضاً؛ بل إن العقل قد يدرك حُسْنَ وَقُبْحَ بعضِ الأشياءِ، ولكن ما يترتب عليه من الثواب والعقاب إنما يكون من الشرع لا من العقل. وبذلك فَهُمْ وسطٌ أيضاً بين طرفين.
استدلوا بقوله تعالى:{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء}[سورة الأعراف: آية 28].
قال المفسرون(1): إن الفحشاء المذكورة لأنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ويزعمون أنه لا يطوف الإنسان في ملابسَ عَصَى اللهَ فيها فَسَمَّى اللهُ ذلك فاحشةً.
والدلالة في قوله: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} لأن الأشاعرة تقول لما نهى الله عنها صارت فاحشة، وظاهر الآية أن الله لم ينه عنها لأنها فحشاء عند المخاطبين فعلم أن كونها فحشاء معروفة بالفطرة والعقل، ولا يتوقف ذلك على مجيء الشرع فقط. قال شيخ الإسلام:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (3/160) ط دار الفكر. وانظر محمد رشيد رضا طود وإصلاح (ص: 176-180).(25/1)
((فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء. فقال: {إن الله لا يأمر بالفحشاء}، كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال: {أم حسب الذي اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}[سورة الجاثية: آية21]، وقال: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}، وقال: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}[سورة ص: آية28]، وعلى قول النفاة: لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء، وبين تفضيل بعضهم على بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، وهذا خلاف المنصوص والمعقول)) (1) أ هـ .
وكذلك أخبر الله سبحانه عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول أي قبل ورود الشرع كقوله لموسى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى}[سورة النازعات: آية 17-19]، وأما الآيات والأدلة الناطقة على أن الله لا يعذب إلا بذنب وبعد بلوغ الحجة فكثيرة كقوله تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا}[سورة القصص: آية 59]، وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}[سورة النساء: آية 165]، وقوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير}[سورة الملك: آية 9]، قال شيخ الإسلام:
__________
(1) انظر: الفتاوى 8/43.(25/2)
((وما فعلوه قبل مجيء الرسل كان سيئاً وَقُبْحاً وشراً، ولكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسل: هذا هو قول الجمهور. وقيل: إنه لا يكون قبيحاً إلا بالنهي، وهو قول من لا يثبت حَسَناً و لا قَبيحاً إلا في الأمر والنهي، كقول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبو يعلي وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل مجيء الرسل من الشرك والجاهلية كان شيئاً قبيحاً وكان شراً، ولكنْ لا يستحقون العذابَ إلا بعد مجيء الرسول. ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال:
((قيل)): إن قبحها معلوم بالعقل، وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة، وإن لم يأتهم الرسول، كما يقول المعتزلةُ، وكثيرٌ من أصحاب أبي حنيفة، وحكوه عن أبي حنيفةَ نفسِهِ، وهو قول أبي الخطاب، وغيره.
((وقيل)): لا قبح، ولا حسن، ولا شر فيهما قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل فيه لا تفعل، والحسن ما قيل فيه افعل، وأما ما أذن في فعله كما تقوله الأشعرية، ومن وافقهم.
((وقيل)): إن ذلك سيء، وشر، وقبيح؛ قبل مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول. وعلى هذا عامة السلف، وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح، وسيئ قبل الرسول وإن كانوا لا يستحقون العقوبة إلا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -(1).
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 11/676 ، 677.، وانظر: المسألة أيضاً 8/90 ، 91 من مجموع الفتاوى، 3/114-116 مجموع الفتاوى، شرح النونية لابن عيسى (ص:58-64/1) مفتاح دار السعادة 2/3 وما بعدها مدارج السالكين 1/231 ، 237(25/3)
وقال أيضاً: ((وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع "أحدها": أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة، إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يَبْعث الله إليهم رسولاً. وهذا خلاف النص قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}[سورة الإسراء: آية 15]، وقال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}[سورة النساء: آية165 ]، وقال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً، يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}[سورة القصص: آية 59])).
وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتيكم نذير! قالو : بلى قد جاءنا نذير، فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}[سورة الملك: آية8-10].
وفي الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: ((ما من أحد أحب إليه العُذْرُ من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين))(1). والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم)).
((النوع الثاني)): أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: لا شخص أغير من الله (13/399-ح7416)، ومسلم في التوبة، باب: غيرة الله تعالى (4/2114-ح2760/35)(25/4)
((والنوع الثالث)): أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه! ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك، وسخط على صاحبيك.
فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعرية ادّعوا: أن جمع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب(1) أهـ.
ولزيادة البيان فليعلم أن أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: ((إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع))(2)، وبنى على ذلك أن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقاً لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية(3).
وَمِنْ ثَّم وقع الخلاف حوله على ثلاثة أقوال:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/434-436).
(2) الملل والنحل (1/88) ت كيلاني.
(3) انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/346)، والتجسيم عند المسلمين – مذهب الكرامية سهير مختار- (ص:363)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/1319.(25/5)
1- أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب الكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم(1).
2- أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: لو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً. وهذا قول الأشاعرة ومن وافقهم(2).
3- التفصيل لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها غير صحيح كما سبق.
وهذا النوع والذي قبله لم تفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب)) (3).
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقاً فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان:
__________
(1) انظر: المغني لعبد الجبارجـ6- القسم الأول- (ص:26- 34، 59-60)، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (1/363)، والبحر الزخار لابن المرتضى (1/59)، والعقل عند المعتزلة(ص:98-10)، والمعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية (ص:137).
(2) انظر: الإرشاد (ص:258) وما بعدها، والمحصل للرازي (ص:202)، وشرح المواقف (8/181-182).
(3) مجموع الفتاوى (8/434-436).(25/6)
أحدهما: كون الفعل ملائماً للفاعل نافعاً له أو كونه ضاراً له منافراً فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يُعْلَمُ بالعقل(1).
الثاني: كونه سبباً للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
- فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
- والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسل، وإنما الحُسَنَ ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل فيه لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.
- جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسل، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول(2).
وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ ثُمَّ تقدم في المائة الثالثة من الهجرة(3).
والأشاعرة لأنهم يميلون إلى ((الجبر)) في القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحاً.
__________
(1) انظر: المصدر السابق (8/90 ، 309-310)، ومنهاج السنة (1/364)- مكتبة الرياض الحديثة.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686 ، 11/676-677).
(3) انظر: التسعينية (ص:247).(25/7)
ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من شيء}[سورة الأنعام: آية148]، فإنهم نَفَوْا قُبْحَ الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك – إنصافاً لخصومه- فيقول: ((لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكنْ المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين. لكن يوجد في المتكلمين من المتصوفة طوائفُ يغلب عليهم الجبر حتى يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولاً وإما حالاً وعملا....)) (1).
ولا شك أن الأشاعرة- وكذلك المعتزلة- ليس لهم حجة على قولهم في التحسين والتقبيح، سوى أخذهم ببعض النصوص دون بعض، وشيخ الإسلام كثيراً ما يفصل الخلاف في ذلك مبيناً المذهب(2).
وبهذا التقرير الكامل يتضح أن لنا أن الدكتور عمر لم يوفق في عرض المسألة ربما لأنه لم يفهمها، فقوله اخرها ((فاعتراض الدكتور سفر إنما هو خروج عن محل النزاع.... الخ)) ليس صحيحاً، بل ينكره أيضاً الأشعرية كما تقدم، والله أعلم.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (16/246-247)، وانظر: التسعينية (ص:247).
(2) انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر- مجموع الفتاوى- (8/90)، قاعدة في المعجزات والكرامات- مجموع الفتاوى (11/347-355)، منهاج السنة (1/316-317)- ط دار العروبة المحققة، الدرء (8/22 ، 492 ، 9/49-62)، شرح الأصفهانية (ص: 161) ت مخلوف، الرد على المنطقيين (ص:420-437)، النبوات (ص:139) وما بعدها، ط دار الكتب العلمية. الجواب الصحيح (1/314-315)، مجموع الفتاوى (16/498).(25/8)
التأويل
لقد أورد الدكتور عمر كلام الدكتور سفر في أول هذا المطلب ثم علق عليه، فماذا ترى في التعليق؟؟ لا شيء!!، فكلام د. سفر في واد وكلام الدكتور عمر في أودية أخرى مظلمة، فالدكتور سفر وفقه الله يقرر أن التأويل بمعنى ((صرف اللفظ عن ظاهرة الراجح إلى احتمال مرجح لقرينة)) هو أصل منهجي من أصول الأشاعرة وأنهم أدخلوه ليس فقط في باب الأسماء والصفات، بل في أبواب الإيمان والوعد الوعيد والعصمة والتكليف، ولم يرد أَنْ يعلق د. عمر عَلَى شيء من هذا ألبتة وكذلك د. سفر بَيَّنَ الدافع والمنزع لقول الأشاعرة ذلك بأنهم وقعوا في مأزق لما رأوا التعارض بين نصوص الشريعة، وبين ما قرروه بعقولهم، فذهبوا إلى التأويل ولم يعلق كذلك د. عمر على شيء من ذلك ألبتة، فماذا قال الدكتور عمر، ذهب يؤصل التأويل ويحاول أن يهتدي إلى ذلك بسراب لا يلحق به.. رويدك يا د. عمر أعط القوس باريها، وأسألك بالله هل قرأت شيئاً من ((الكتب السلفية)) في هذا الباب، لا شك أنك لم تفعل، أو قد نسيت لأن ما ذكرته كله ليس يرِدُ إلى باب التأويل من قريب أو بعيد كما سيتضح لك، فإن الأحاديث التي قدمت بها تعليقك وزعمت أن من لم يلجأ إلى التأويل يقع في ورطة كبيرة، ليست من هذا الباب، فإن كان التأويل صرف ((ظاهر اللفظ)) فظاهر اللفظ لا يدل على المعنى الذي في رأسك بل ظاهر اللفظ على التنزيه ولا يحتاج إلى تأويل...
ونقول لك حتى تتضح لك القضية يا د. عمر، ما ظاهر اللفظ في قوله: {لا تقربوا الصلاة}[سورة النساء، آية:43]، وقوله: {فويل للمصلين}[سورة الماعون، آية:4]، هل يصح أن يجتزئ أحد جزءاً من النص ويقول هذا هو الظاهر ويجب تأويله، ماذا تقول لمن دخلت عليه وهو يقرأ {أنا ربكم الأعلى}[سورة النازعات، آية:24]، هل تقول إنه يدعي الربوبية، ما هذا يا دكتور عمر؟ ليس هكذا تورد الإبل يا عمر؟!.(26/1)
إن أردت أن تستدل فإتِ بالدليل كاملاً، لا أن تجتزئ منه شيئاً وتزعم أن هذا معناه كذا ثم تذهب إلى تأويله.. حنانيك رويدك..
أما الحديث الأول: فهو ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه))، ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفراً لأنه محتاج إلى التأويل؟ مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس موقوفاً عليه(1).
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى، (3/43)، العقل والنقل، (1/149) والحكاية أن الإمام أحمد لم يتأول ثلاثة إلا أشياء أي هذين الحديثين وحديث (قلوب العباد مكذوبة) مكذوبة على الإمام أحمد، وانظر مجموع الفتاوى، (5/398)(26/2)
وأما الحديث الآخر: فهو في الصحيح: يقول الله عبدي جُعت فلم تطعمني، فيقول رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته لوجدتني عنده، وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعَه، ومرضَه مرضَه، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل(1) فهذا كله جاء يا د. عمر من أخذك طرفاً من النص وترك باقيه ثم لفتة يا د. عمر لقد جعلت حديث: ((استطعمتك فلم تطعمني ومرضت فلم تزرني)) حديثين وهما حديث واحد، ولو رجعت إلى أصول الكتب دون القصاصات التي ترد لك لبان لك ذلك واضحاً، ولبان لك أنه لا يوجد شيء من التأويل في ذلك كله لأن آخر النص يفسر أوله وبين المراد منه، فهذا هو الظاهر، كما أن الظاهر في قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}[سورة النساء، آية:43] و {ويل للمصلين الذي هم عن صلاتهم ساهون}[سورة الماعون، آية:4،5]، هو النص بتمامه لا بِجُزْءٍ مِنْهُ، وهذا واضح لا يحتاج إلى كبير تأمل لمن وفقه الله.
ثانياً: ساق الدكتور عمر أمثلة على تأويل السلف هي ((ثلاثة عشر)) مثالا، لم يسلم له منها في الدلالة على التأويل شيء صحيح ألبتة، ولنأت عليها بترتيبها كما ذكره:
1- الساق :
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/44).(26/3)
في قوله {يوم يكشف عن ساق}[القلم: آية،42] ، ذكر الدكتور عمر أن ابن عباس أوَّل الساق بالشدة، ونقول للدكتور عمر هل في الآية أن الساق هي ساق الرب؟ فالآية مطلقة والصحابة قد تنازعوا في تفسير الآية هل المراد به الكشف عَنْ الشدة؟ أو المراد به أنه يكشف الرب عن ساقه؟ ولم تتنازع الصحابة والتابعين فيما يذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية، وهو تنازع مبني على هل هذه الآية من آيات الصفات أو لا؟! وأنقل لك في هذا المقام يا د. عمر بعض ردود شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى- على الاستدلال الغلط في ذلك:
قال شيخ الإسلام:
وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد – إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم، بل المعروف عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله يخالف كلام المتأولين مالا يحصيه إلا الله. وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.
وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [سورة القلم، آية:42] فرُوي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة، [أي] أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة(1)، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين(2).
__________
(1) وانظر تفسير ابن كثير: (4/407).
(2) أخرجه البخاري، في التفسير باب: {يوم يكشف عن ساق} (8/663-ح4919) وفيه ((يكشف ربنا عن ساقه)).(26/4)
ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال يوم يكشف عن ساق نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، ولكن كثيراً من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً، ثم يريدون صرفه عنه، ويجعلون هذا تأويلاً، وهذا خطأ من وجهين(1).
__________
(1) ثم بين ذلك، انظر: مجموع الفتاوى، (6/394، 395).(26/5)
ويقول ابن القيم – رحمه الله لمنازعه في ذلك-: ((من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقاً؟ وليس معك إلا قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [سورة القلم، آية:42] والصحابة متنازعون في تفسير الآية؛ هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة الله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجرداً عن الإضافة منكراً، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: ((فيكشف الرب عن ساقه، فيخرون له سجداً))، ومن حمل الآية على ذلك؛ قال: قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود}[سورة القلم، آية:42]، مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فيكشف عن ساقه، فيخرون له سجداً))، وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة؛ جلت عظمتها، وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبيه، قالوا: وَحَمْلُ الآية على الشدة لا يصح بوجه فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: ((كشف الشدة)) عن القوم، لا كشف عنها؛ كما قال الله تعالى: {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون} [سورة الزخرف، آية:50]، وقال: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر} [سورة المؤمنون، آية:75]؛ فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضاً فهناك تحدث الشدة وتشتد ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة)) أهـ(1).
__________
(1) الصواعق المرسلة، (1/252)، وانظر: كلاماً لشيخ الإسلام نحو هذا الكلام في نقض أساس التقديس (ورقة216) وقد نقله جماعةٌ عنه .(26/6)
لعلك يا دكتور عمر قد اتضح لك أن لا تأويل وإنما هو نزاع في التفسير والأرجح هو القول بأن المراد ساق الرب تعالى كما جاء مفسراً في رواية البخاري، ولو كان النص ((عن ساقه)) لما وجد هذا النزاع والحمد لله.
2- الأييد :
ذكر د. عمر أن ابن عباس أَوَّلَ قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأييد}[الذريات: آية، 47] بالقوة ولا ندري أين التأويل، إلا أن ظن د. عمر أن ((أييد)) هي جمع يد، فماذا تقول يا د. عمر في قوله تعالى: {ولا يؤوده حفظهما}، إن أْيٍد مصدر آد يأيد إذ قَوِيَ، قال ابن فارس: ((الهمزة والياء والدال أصل واحد يدل على القوة والحفظ، يقال أيده الله أي قواه الله، قال تعالى:{والسماء بنيناها بأييد}فهذا معنى القوة))(1).أهـ. وهذا نظير قوله تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد}[سورة ص، آية:17] أي القوة فأين التأويل ههنا يا د. عمر؟؟!
3- النسيان :
ذكر د. عمر أن ابن عباس تأول النسيان بالترك، وهو من جنس ما سبق لأن النسيان يأتي في اللغة أيضاً بمعنى الترك كما ذكر ابن فارس في مجمل اللغة(2)، وأسوق لك يا د. عمر كلاماً رائعاً للشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث قال(3): للنسيان معنيان: أحدهما: الذهول عن شيء معلوم، مثل قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}[سورة البقرة، آية: 286] وضرب مجموعِة من الأمثلة لذلك، ثم قال: وعلى هذا، فلا يجوز وصف الله بالنسيان بهذا المعنى على كل حال.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، (1/88).
(2) مجمل اللغة، ص866.
(3) مجموع الفتاوى والرسائل، (3/54- 56 ، برقم: 354) .(26/7)
والمعنى الثاني للنسيان: الترك عَنْ علم وعمد، مثل قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء..}[سورة الأنعام، آية: 44] الآية، ومثل قوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى ءآدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما}[سورة طه، آية:115]. على أحد القولين، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في أقسام أهل الخيل: ((ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، ولم ينسَ حق الله في رقابها وظهورها فهي له كذلك ستر))(1)، وهذا المعنى من النسيان ثابت لله عز وجل، قال الله تعالى:{فذوقوا بما لقيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم}[سورة السجدة، آية:14]، وقال تعالى في المنافقين: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}[سورة التوبة، آية: 67]، وفي ((صحيح مسلم)) في كتاب الزهد والرقائق عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر الحديث، وفيه: ((أن الله تعالى يلقى العبد فيقول: أفظننت أنك ملاقِيَ؟ فيقول: لا فيقول: فإني أنساك كما نسيتني)) (2).
وتركه سبحانه وتعالى للشيء صفة من صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته التابعة لحكمته، قال الله تعالى: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون}[سورة البقرة، آية:17]، وقال الله تعالى:{وتركنا بعضهم يومئذِ يموج في بعض}[سورة الكهف، آية:99] وقال: {ولقد تركنا منها آية بينة}[سورة العنكبوت، آية:35]. والنصوص في ثبوت الترك وغيره من أفعاله المتعلقة بمشيئته كثيرة معلومة وهي دالة على كمال قدرته وسلطانه. وقيام هذه الأفعال به سبحانه لا يماثل قيامها بالمخلوقين، وإن شاركه في أصل المعنى، كما هو معلوم عند أهل السنة. أ هـ.
__________
(1) أخرجه البخاري، في المناقب بعد باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (6/633- ح3646).
(2) أخرجه مسلم، في الزهد فاتحته، (4/2279-ح2968).(26/8)
وبالجملة فلو كان المراد بالنسيان الذهول والغفلة لما عوقبوا، فإن الله تجاوز لهذه الأمة عن ذلك، وإنما المراد أنهم تركوا عن عمد وعلم فاستحقوا العقوبة، ثم إن الآية فيها أنهم ((نسوا))، ولم ينسَ أحد الموت طيلة عمره وإن كان قد يغفل عنه أحياناً، لكن المراد ترك العمل له، فكان الجزاء من جنس العمل بأنه تركهم الله تعالى في النار والله أعلم.
وبالتالي فليس ثمة تأويل يا دكتور عمر.
4- {وجاء ربك} .
نقل د. عمر عن البداية والنهاية لابن كثير أن الإمام أحمد تأول {وجاء ربك}[سورة الفجر، آية:22]، وبالرجوع للبداية والنهاية في الموضع الذي أشار إليه، وهو في ترجمة الإمام أحمد نجد أن هذا الذي نقله د. عمر زيادة عن بعض النسخ لا من كلام ابن كثير نفسه، والزيادات على هذه النسخ في الطبعات؛ كثيرٌ منها غير محرر، وبعضها يمتنع أن يكون من كلام ابن كثير كما في تكرار تراجم بعض التابعين كابن سيرين والحسن، وهو قطعاً ليس من كلام ابن كثير فإن الناسخ قال بعد أن ترجم ابن كثير للحسن وابن سيرين. ((فصل: كان اللائق بالمؤلف أن يذكر تراجم هؤلاء العلماء الأخيار قبل تراجم الشعراء المتقدم ذكرهم فيبدأ ثم يأتي بتراجم الشعراء ... إلى أن قال: والمؤلف غالباً في التراجم سيحيل على ما ذكره في التكميل الذي صنفه في أسماء الرجال، وهذا الكتاب لم نقف نحن عليه ولا من سألناه عنه من العلماء... ثم قال نقول وبالله التوفيق أما الحسن......))أ هـ. وأعاد الترجمة له ولابن سيرين مطولة، فهذا قطعاً ليس من كلام ابن كثير، فالزيادة التي ذكرها الدكتور عمر أيضاً تحتاج إلى أن يُحرر كونها من كلام ابن كثير حتى يصح تعليق د. عمر أنه ((انتهى كلام ابن كثير من غير انتقاد على الرواية)).(26/9)
أما الرواية في نفس الأمر فغير ثابتة عن أحمد، وقد وقع النزاع بين أصحابه في ذلك يقول شيخ الإسلام بعد أن ذكر احتجاجهم عليه بمجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أي فهما مخلوقتان(1).
ثم إن الإمام أحمد في المحنة عارضهم بقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} [البقرة: آية، 210]، قال قيل: إنما يأتي أمره هكذا نقل عنه حَنْبَلٌ ولم ينقل هذا غيره ممن نقل مناظرته في المحنة كعبد الله بن أحمد وصالح بن أحمد والمروزي وغيره فاختلف أصحاب أحمد في ذلك؛ فمنهم من قال غلط حنبل، لم يقل أحمد هذا. وقالوا حنبل له غلطات وهذا منها وهذه طريقة أبي إسحاق بن شاقلا. ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم يقول إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان ولم يكن ذلك دليلاً على أنه مخلوق بما تأولتم ذلك على أنه جاء أمره فكذلك قولوا جاء ثوب القرآن، لا أنه نفسه هو الجائي، فإن التأويل هنا ألزم، فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن وثوابه عمل له لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن. فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه ثم تأولتم ذلك بأمره فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى.
وإذا قاله لهم على سبيل الإلزام لم يلزم أن يكون موافقاً لهم عليه وهو يحتاج إلى أن يلتزم هذا. فإن هذا الحديث له نظائر كثيرة في مجيء أعمال العباد، والمراد مجيء قراءة القارئ التي هي عمله، وأعمال العباد مخلوقة وثوابها مخلوق(2).
5- {ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث} .
__________
(1) يأتي رد هذه الشبهة الاعتزالية في كلام د. عمرقريباً في المثال (12).
(2) أي أن المراد بـ(القرآن) أي قراءة العبد فهو مصدر قرأ وسيأتي زيادة بيان لذلك وانظر تقريب الطحاوية (1/550-551).(26/10)
والكلام في نقل الدكتور عمر عن ابن كثير نحو الكلام في نقله السابق لأن هذا أيضاً من الروايات وليست مما يجزم أنه من كلام ابن كثير ثم يقال لك أين التأويل الذي أردته، فإن الكلام على ((الحدوث)) يحتمل أن المراد ((المخلوق)) ويحتمل أن يكون المراد ما هو ضد القديم، فكان الكلام في المناظرة مع من يقول إنه مخلوق احتجاجاً بهذه الآية بأن يقال إنها ليست نصاً في ذلك للاحتمال.
وكذلك فإنه لما قال: {ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث}[سورة الأنبياء، آية:2] علم أن الذكر منه محدث وفيه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاماً حلالاً، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمية، ولكن الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب كما قال {كالعرجون القديم}[سورة يس، آية:39]، وقال{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}[سورة يوسف، آية:95]، وقال{وإذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}[سورة الأحقاف، آية:11](1).
فعلم أنه يصح بأن يقال القرآن ((محدث غير مخلوق بالتقييد))، وذلك لأن الإطلاقات قد توهم خلال المقصود، فإن أردت بقولك ((محدث)) أَنه مخلوق منفصل عن الله فهذا باطل لا نقوله، وإن أردت بقولك أنه كلام تكلم الله به بمشيئته بعد أن لم يتكلم به بعينه، وإن كان قد تكلم بغيره قبل ذلك، مع أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، فإنا نقول بذاك، وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وهو قول السلف وأهل الحديث(2).
6- ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي:
__________
(1) مجموع الفتاوى، (12/522).
(2) مجموع الفتاوى، (6/161).(26/11)
وهنا أورد الدكتور عمر أن الإمام أحمد قال لما أوردوا عليه هذا الحديث يوم المحنة: إن الخلق ههنا على السماء والأرض وهذه الأشياء لا على القرآن. ورأى الدكتور عمر أن هذا دليل على التأويل.
وهذا يدل على أنك يا د. عمر لم تفهم وجه استدلالهم بالحديث ولا وجه رد الإمام أحمد، وإلا لما تورطت في هذا الأمر فإنهم احتجوا بأن السياق يقتضي أن تكون آية الكرسي مخلوقة وهي أعظم من مخلوقات أخرى كالسماء والأرض، فالقرآن مخلوق، وانفصل الإمام أحمد بأن السياق لا يقتضي ذلك، وإنما يقتضي أن السموات والأرض والأشياء مخلوقة لا القرآن، يعني على قانون اللغة، فإنه إذا قيل لا رجل أفضل من عائشة لا يقتضي أن تكون عائشة من جنس الرجال، فكذلك لا مخلوق أعظم من آية الكرسي لا يقتضي أن الآية مخلوقة(1).
وهذا واضح جداً، فواعجباً أنك قد نقلت كلام الإمام أحمد ولم تفهم مراده وأعجب من ذلك أنك حملته على أنه يجيز التأويل، وهو حمل عجيب من فهم باطل هداك الله(2).
ويستمر العجب عندما ينقل د. عمر عن طبقات الحنابلة أن الإمام أحمد ذكر أن الله لا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعده، وأنه ينكر على من يقول بالجسم، ولم يبين أين التأويل في هذا النفي الذي نقله عن أبي يعلي علماً أن هذا الكلام حق بمعناه الذي رآه الإمام أحمد، فالحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة فالعباد لا يعلمون لله حداً بهذا المعنى لا قبل خلق العرش ولا بعده(3).
__________
(1) تقريب وترتيب الطحاوية، (2/1210).
(2) وأعجب من ذلك أنه بعد صفحات نقل كلام ابن عيينة في تفسير الحديث وهو قوله: ((لأن آية الكرسي كلام الله وكلام الله أعظم من خلق الله من السموات والأرض)) وهو واضح لكنه ادعاه تأويلاً ليروج على من لا يعلم.
(3) تقريب وترتيب الطحاوية، (1/491).(26/12)
وأما الحد بمعنى أنه سبحانه منفصل عن خلقه ليس حالاًّ فيهم ولا متحداً بهم فهذا أيضاً ليس فيه نزاع، فقد سئل عبد الله بن المبارك بم نعرف ربنا؟ قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل: بحد؟ قال بحد انتهى(1). فهو سبحانه القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته(2).
وأما الجسمية فأين التأويل في أن الله لا يوصف بالجسم المعروف عند أهل اللغة قال تعالى: {وزاده بسطة في العلم والجسم}[سورة البقرة، آية:247]، وقال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم}[سورة المنافقون، آية:4].
فهذا أيضاً لا تنازعه في أن الله يوصف بذلك، لكن لم أدخلت ذلك تحت عنوان ((تأويل الإمام أحمد)) وأظن أن لا جواب عندك ولا عند من زودك بهذا إن لم يكن من بنات أفكارك!!.
7- القدم :
جاء الدكتور عمر بعجيبة ههنا، فقد نقل عن البيهقي أنه ذكر أن النضر بن شميل قال: ((حتى يضع الجبار فيها قدمه)) أي أن ما سبق في علمه أنه من أهل النار، ولم يورد لنا الإسناد الصحيح عن النضر بذلك، ولم يعلق كعادته بأي شيء لعلمه بعدم ثبوت ذلك، ونقول يا دكتور عمر [أثبت العرش ثم انقش] فالحديث في البخاري في تحاجج الجنة والنار فيه ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط قط(3)، فإن كان تأويل ((القدم)) بمن يُقَدِّمهم إلى النار، فكيف تأويل ((الرِّجل)) حينئذ، وإن أردت تأويل الرِّجْل بالجراد فكيف تأويل القدم والحديث واحد))!!!
__________
(1) الأسماء والصفات للبيهقي، (427).
(2) تقريب وترتيب الطحاوية، (1/491).
(3) أخرجه البخاري، (4850)، وعند مسلم قدمه، (2846).(26/13)
يا دكتور عمر ألا تركت الأمر وتمسكت بما قاله ابن حجر أن طريق السلف فيه ((أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله)) (1)، أما هذه التشقيقات والتقعرات فمالك وبها.
إننا نعتقد أن لله قدمين كما جاء ذكر القدم في هذا الحديث، وكما في أثر ابن عباس وأبي موسى قال: ((الكرسي موضع القدمين)) (2)، والشأن في هذا كالشأن في باقي الصفات؛ إثباتٌ مع التنزيهِ، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[سورة الشورى، آية:11].
ثم إن التأويل بأن القدمَ مَنْ سَبَقَ في علمه أنه من أهل النار مخالف لسياق الحديث، فإن سياقه أن جهنم لا تزال يلقى فيها وتقول هل من مزيد، وكل هؤلاء الملْقَوْن ممن سبق في علم الله أنهم في النار، فأين الغاية المذكورة بقوله: ((حتى يضع الله قدمه أو رجله فتقول: قط)) لأن هذا التأويل يقتضي أنها تقول قط عند دخول مَنْ سبقه في علم الله أنه من أهل النار، أو من يقدمهم إليها فيكون ذلك مع أول فوج والحديث خلاف ذلك فتنبه.
8- وأما ما نقله عن هشام بن عبد الله:
بأن القرآن غير مخلوق فهو حق وأما قوله ((محدث إلينا وليس عند الله بمحدث)) فقد تقدم الكلام أن المراد أنزله جديداً، وليس هذا بالتأويل يا دكتور عمر(3).
9- المعية :
ولا يزال الدكتور عمر ممعناً في الخطأ فيدعي على سفيان الثوري التأويل عندما قال: {وهو معكم أينما كنتم}[سورة الحديد، آية:4]، قال عِلْمُهُ، وقال عن أحاديث الصفات: ((أَمِرُّوها كما جاءت))، ونحن نتساءل نفس السؤال أين التأويل المزعوم يا د. عمر؟؟
__________
(1) فتح الباري، (11/596).
(2) أخرجه الحاكم عن ابن عباس، وصححه على شرطها، (2/282)، ووافقه الذهبي، وأخرجه عبد الله بن أحمد موقوفاً في السنة، وابن جرير وصححه الألباني في مختصر العلو موقوفاً عليه، (ص123- 124)، وانظر: الجواب الصحيح، 3/151 .
(3) راجع رقم : (5) في هذا المطلب.(26/14)
إن ((مع)) يا دكتور عمر في جميع استعمالاتها في الكتاب والسنة لا توجب اتصالاً واختلاطاً، فلم يكن بنا حاجة إلى أن نجعل ظاهرها الملاصَقَةَ ثم نحتاج إلى أن نصرفه بالتأويل كما زعمتم(1).
إن ((مع)) في اللغة بمعنى مطلق المصاحبة والمقارنة، ثم يتحدد المراد منها من السياق، فقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا} [سورة النحل، آية: 128] هي مَعِيَّةٌ أخصُّ من قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: آية، 4] إذ إن المقيدة مع المتقين تفيد النصرة والتأييد لا مجرد العلم، وإلا فلم يكن هناك فائدة في تخصيصهم لأنه مع الجميع بالعلم، وآية: {وهو معكم} مُفْتَتَحَةٌ بالعلم، ومختومةٌ بالعلم، فدل السياقُ على أنها معيةُ العلم، وقوله: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: آية، 46] هي معية بالسمع والرؤية كما دل السياق، وهكذا يدل السياق على المعنى المقيد لا على مطلق المصاحبة والله أعلم(2).
10- الكنف:
ونستمر مع د. عمر في ادعاءاته العجيبة أن السلف تأولوا، وههنا يذكر تفسير ابن المبارك لحديث ((يدنوا أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه)) قال ابن المبارك: يعني الستر، فيظن د. عمر أن هذا تأويلٌ.
يا د. عمر إن الكنف في اللغة هو: ((الستر)) كما في معجم مقاييس ابن فارس(3)، كما يأتي بمعنى الناحية وبهذا فسر ابراهيم الحربي والأصمعي هذا الحديث ففي السنة للخلال عن إبراهيم الحربي قال: قوله: فيضع عليه كنفه، يقول ناحيته، وعن الأصمعي: نزل في كنف بني فلان أي في ناحيتهم، وعن ابن شميل: رحمته وبره.
__________
(1) مجموع الفتاوى، (6/22-23).
(2) تقريب وترتيب الطحاوية، (1/564).
(3) معجم مقاييس ابن فارس، (2/426).(26/15)
وابن حجر لما تعرض لتفسير الحديث في كتاب التوحيد قال: ((المراد بالكنف: الستر، وقد جاء مفسراً بذلك في رواية عبد الله بن المبارك عن محمد بن سواء عن قتادة، فقال آخر الحديث: قال عبد الله بن المبارك: كنفه ستره، أخرجه المصنف في كتاب خلق أفعال العباد))(1)، وقال الشيخ الغنيمان في شرحه أيضاً: جاء الكنف مفسراً في الحديث بأنه الستر، والمعنى: أنه تعالى يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يُفْتَضح أمامهم فيُخزى؛ لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة(2).
فهذا تفسيرُهُ يا د. عمر لا تأويلُهُ، وأنت ههنا أشبه بمن قال العين هي الباصرة، وأما من قال العين إنها هي عين الماء، أو الجاسوس فهو مؤول!! يا دكتور عمر، هلا راجعت بنفسك!!
11- حديث الإدلاء:
ثم يأتي الدكتور عمر إلى حديث ضعيف يُروى عن الحسن عن أبي هريرة، ثم يأتي د. عمر إلى كلام للترمذي في التعليق عليه وفيه ((لو أنكم دليتم رَجُلاً بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}[سورة الحديد، آية:3])) فيحذف منه ما يدل على تضعيفه، إذ قال الترمذي: ((ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه))أهـ.
فأنت ترى أن هذا التفسير ليس من كلام الترمذي، وإنما هو يقرر عُلُوَّ الرب تبارك وتعالى. ثم إن معنى الحديث معلق على شرط ممتنع ((كما قال شيخ الإسلام)).
__________
(1) الفتح، (13/477).
(2) شرح كتاب التوجيه للغنيمان، (2/423).(26/16)
حديث قال: ((لو أُدْلِيَ لهبط؛ أي لو فُرِضَ أن هناك إدلاءً لفُرِضَ أن هناك هبوطاً، وهو يكون إدلاء وهبوطاً إذا قدر أن السموات تحت الأرض، وهذا التقدير منتف؛ ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن يدلي ولا يتصور أن يهبط على الله شيء لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه هبوطاً عليه.
كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض، فإن الله قادر على ذلك كله، ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير من أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار، أو من جهةٍ أمامنا إلى جهةٍ خلفنا، أو من جهةِ رؤوسِنا إلى جهةِ أرجلِنا إذا مر الحبل بالأرض، فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر، مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض فالحبل الذي قُدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه إدلاء ولا هبوطاً.
وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تَحْتٌ لنا، وما فوق رؤوسنا فَوْقٌ لنا، وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطاً على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا، والمقصود به بيان إحاطة الخالق سبحانه وتعالى، كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات.
ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم} [سورة الحديد، آية:3]. وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله، وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في الحديث ما يدل على قولهم الباطل؛ وهو أنه حال بذاته في كل مكان، وأن وجودَه وجودُ الأمكنة ونحو ذلك.(26/17)
والتحقيق: أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتاً، فإن قوله: ((لو أدلى بحبل لهبط)) يدل على أنه ليس في المدلي ولا في الحبل، ولا في الدلو ولا في غير ذلك، وأنها تقتضي أنه من تلك الناحية؛ وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، ومن جنس تأويلات الجهمية؛ بل بتقدير ثبوته يكون دالاً على الإحاطة والإحاطة قد عُلِمَ أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة، وليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقلَ ولا الشرعَ؛ لكن لا نتكلم إلا بما نعلم ومالا نعلمه أمسكنا عنه، وما كان مقدمةُ دليله مشكوكاً فيها عند بعض الناس كان حقُّه أن يشك فيه، حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لم يعلم(1).
ثم يقسم د. عمر قائلاً: ((فوالله يا د. سفر لن تجد مخرجاً في بعض الآيات إلا بالتأويل، وإلا فاشرح لنا قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}[سورة الفتح، آية:10]، والمعلوم أن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت فوق أيديهم وليست يد الله)) أ هـ.
ونقول لك يا دكتور عمر، والله لقد حنثت في يمينك فليس لنا ما يحوجنا إلى التأويل الفاسد، وما ذكرته من الآية أين التأويل فيها، إن فهمك للآية قاصر، فأنت تقول: ((إن يد الرسول كانت فوق أيديهم))، وهذا هو حق، ثم تقول: ((وليست يد الله)) وهذا فهم باطل، فأنت فهمت من ((الفوقية)) المماسة من أين لك هذا؟ فهذا السحاب فوق الأرض فهل هو مماس لها؟، فإذا كان ذلك ممكنا في اللغة والمخلوق، فشأن الله أعظم، بل نحن نقسم بالله إن يد الله فوق أيديهم، والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.
12- إثبات قراءة العبد للقرآن يوم القيامة:
__________
(1) مجموع الفتاوى، (6/572-574).(26/18)
ورد في شأن القرآن أنه ((يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون))(1) يوم القيامة، والمقصود في الحديث أن عمل الإنسان يأتيه، وأطلق على القراءة التي هي أفعال العباد: قرآناً، وليس المراد بالقرآن هنا: المكتوب بين دفتي المصحف، بل القراءة والذي يدل على أنه ليس المراد نفس القرآن: تعدد المجيء ويلزم منه الثواب(2).
وقد نص الإمام أحمد على أن الثواب مخلوق لما احتجوا عليه بمثل هذا الحديث فإن الذي يأتي يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن وثواب القرآن مخلوق(3).
ومثله ما ورد في سورة البقرة وآل عمران: أنهما يوم القيامة ((يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فِرْقَانِ من طير صوافَّ)) (4).
__________
(1) من حديث بريدة كما في سنن ابن ماجه، ومسند أحمد وفيه: ((وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب...)) الحديث، أخرجه ابن ماجه في الأدب باب ثواب القرآن، (2/1242-ح3781)، وأخرجه أحمد، (5/348 ، 352)، وأخرجه الدرامي في كتاب فضائل القرآن من السنن باب في فضل سورة البقرة وآل عمران، (2/543-ح3391)، وفيه بشير بْنُ المهاجر لذا حكم عليه الشيخ الألباني بأن حديثه يحتمل التحسين، (ص126)، وكذا الأرناؤوط، (ص94).
(2) تقريب وترتيب الطحاوية، (2/972)، مجموع الفتاوى، (12/79).
(3) مجموع الفتاوى، (12/79).
(4) أخرجه الدرامي، وأحمد ، وابن ماجه، وهو قطعة من حديث بريدة السابق. والغياية والغمامة: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها، والغياية أقل من الغمامة في الكثافة وأقرب إلى رأس صاحبها، وقوله: ((أو فِرْقَان من طير صواف)): أي طائفتان من طير باسطات أجنحتها متصلاً بعضها ببعض .(26/19)
فالذي يأتي هو القرآن أي قراءة العبد للقرآن، فقرآن مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، ونفس كلام الترمذي يدل على ذلك فإنه قال: كذا فسر بعض: أهل العلم هذا الحديث وما يُشْبِهُ هذا من الأحاديث بأن يجيء ثواب قراءة القرآن، وفي حديث النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ما فسروا، إذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأهله الذين يعملون به في الدنيا، ففي هذا دلالة على أنه يجيء ثواب العمل)) أ هـ.
وهذا الكلام نقله د. عمر ولا أدري هل ما فطن لدلالته حتى قال ما قال؟، فإن القرينة التي ذكرها واضحة في أن المراد القرآن الذي هو القراءة، أي قراءة العبد للقرآن فلا تأويل حينئذ.
وأما كلام سفيان بن عيينة في حديث: ((ما خلق الله سماء ولا أرض ..)) الحديث فقد سبق الكلام على هذا الحديث وبيان معناه وأنه لا تأويل ألبتةَ في هذا الكلام.
13- الهرولة:
أورد د. عمر كلام الأعمش في الهرولة في الحديث أن المراد الهرولة بالمغفرة والرحمة وظن أن ذلك تأويلٌ، والهرولة صفة ثابتة على نحو ما جاء في الحديث وليس كلام الأعمش تأويلاً، فسياق الحديث دل على المراد فإن كان المراد أن تقرب العبد للرب بالشبر وبالذراع والمشي هو التقرب بالطاعات لا التقرب الحسي، فيكون تقرب الرب بالثواب، وهذا واضح بحمد الله وإلا لو ادعى مدع أن التقرب لله بالشبر والذراع والمشي هو المعروف لزمه أن يبين كيفيته فإن قال لا أعلم له كيفية، أبطل دون أن يشعر دلالة الحديث لأن الحديث جاء ليحث على العمل كما لا يخفى. ولعل هذا هو الأقرب في معنى الحديث.(26/20)
فيكون تقرب العبد من الله بالطاعة، وهرولة الرب بالثواب ولذلك جاء في رواية المسند للحديث: قال قتادة: فالله أسرع بالمغفرة(1)، وقال شيخ الإسلام كما في نقض التأسيس (2): ((فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه لنفسه، وقد علم أن قرب الرب إليه حين ذلك، فيكون المعنى الآخر أيضاً ظاهراً في الخطاب)) (3) أ هـ.
وقريب من ذلك ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {فاذكروني أذكركم}[سورة البقرة، آية: 152]، قال: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي(4).
فهذا كله ليس من التأويل يا د. عمر هداك الله.
__________
(1) المسند، (3/138).
(2) 3/221- مخطوط) ونقله الشيخ الغنيماني في شرح كتاب التوحيد (2/469).
(3) تقريب وترتيب الطحاوية، (1/554).
(4) تفسير ابن جرير، (2/37)، ابن أبي حاتم، (3/140)، ابن كثير، (1/196).(26/21)
الصفات
أورد د. عمر كلام الدكتور سفر حول عقيدة الأشاعرة في الصفات ثم علق عليه تعليقاً استفدنا منه أمرين:
الأمر الأول: عدم فهم د. عمر لمنهج السلف في الصفات.
والثاني: عدم فهمه لمنهج الأشاعرة فيه.
فإن السلف أثبتوا الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله، والأشاعرة أولوا أو فوضوا، وإذا بالدكتور عمر يأتي بشيء جديد، فهو ينقل عن الأشاعرة التأويل، ثم ينقل ترجيح التفويض، ولم يعلق على شيء من ذلك.
ولقد تأملت كثيراً في عباراته، ثم تبين لي سبب ذلك الخبط، فالدكتور عمر نقل من كتب وسائط ولم يرجع للمصادر، فهو ينقل عن ((ابن حجر)) في الفتح آخر المبحث، في حين أن ما نقله عن ابن دقيق العيد في أول تعليقه وما يليه أيضاً هو في ((فتح الباري)) في نفس الموضع الذي أشار إليه آخر ولو راجع بنفسه لتبين الأمر على أن الحافظ أورد تعقيباً في نفس الموضع ولم يراجعه الدكتور عمر، وبقى في كلامه أمور أنبه عليها.
التنبيه الأول:
كلام ابن دقيق العيد في التأويل وغيره مما كان من كلامٍ على التأويل، فقد تقدم بيان الصواب والخطأ في هذا الباب في المبحث السابق، وأما ما كان من قوله: ((وما كان منها معناه ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب حملناه عليه))، وهذا الكلام هو أصل الحقيقة عند مَنْ قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، فإنه جعل من علاقة الحقيقة السبق إلى الفهم وشرطوا في كونها حقيقة الاستعمال، وعند الاستعمال لا يسبق إلى الفهم غيرُ المعنى الذي استُعْمِلَ اللفظُ فيه.(27/1)
وقد فصل الإمام ابن القيم في ذلك تفصيلاً فريداً فقال: ((فلا يسبق إلى فهم أحد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفرس الذي ركبه "إن وجدناه لبحرًا" الماء الكثير المستبحر فإنّ في "وجدناه" ضميراً يعود على الفرس يمنع أن يراد به الماء الكثير ولا يسبق إلى فهم أحد من قوله- صلى الله عليه وسلم -: "إن خالداً سيف سله الله على المشركين" أن خالداً حديدة طويلة لها شفرتان بل السابق إلى الأفهام من هذا التركيب نظير السابق من قولهم يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، ونظير السابق إلى الفهم من قوله أنه لا إله إلا الله بعد ما علوته بالسيف، فكيف كان هذه حقيقة وذاك مجازاً؟؟ والسبق إلى الفهم في الموضعين واحد، كذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: في حمزةٌ إنه أسد الله وأسد رسوله وقول أبي بكر في أبي قتادة لا يَعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سَلَبه لم يسبق إلى فهمه أنه الحيوان الذي يمشي على أربع بل يسبق إلى فهمه معناه، كما يسبق من قوله أن ((ثلاثة حفروا زُبيّة أسد فوقعوا فيها فقتلهم الأسد)) معناه ولا يفهم أحد من قوله تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف}[سورة النحل، آية:112]، أن الجوع والخوف طعام يؤكل بالفم بل هذا التركيب لهذا المفعول مع هذا الفعل حقيقة في معناه كالتركيب في قوله: {أطعمهم من جوع}[سورة قريش، آية:4]، ونسبة هذا إلى معناه المراد به كنسبة الآخر إلى معناه، وَفَهْمُ أحد المعنيين من هذا العقد والتركيب كفهم المعنى الآخر، والسبق كالسبق، والتجريد عن كل قرينة ممتنع، وكذلك من سمع قوله ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه))، لم يسبق إلى فهمه من هذا اللفظ معناه الذي سيق له وقصد به وأن تقبيل الحجر الأسود ومصافحته منزل منزلة تقبيل يمين الله ومصافحته، فهذا حقيقة هذا اللفظ فإن المتبادر السابق إلى الفهم منه لا يفهم(27/2)
الناس منه غير ذلك ولا يفهم أحد منه أن الحجر الأسود هو صفة الله القديمة القائمة به فهذا لا يخطر ببال أحد عند سماع هذا اللفظ أصلاً)) (1).
والخلاصة: أنهم شغبوا علينا بالتأويل في الصفات لما جردوا ألفاظ الصفات عن مساق الآيات والأحاديث، وقد تقدم التنبيه على هذا الأمر.
وأما ما ذكره د. عمر بعد كلام ابن دقيق العيد عن ((غيره)) من اتفاق المحققين على أن حقيقةَ الله مخالفةٌ لسائر الحقائق، وذهب بعض أهل الكلام إلى أنها من حيث إنها ذاتٌ مساوية لسائر الذوات، وإنما تمتاز عنها بالصفات التي تختص بها كوجوب الوجود والقدرة التامة والعلم التام... إلخ، فلا ندري لماذا نقل د. عمر هذه العبارة الأخيرة، لاسيما وقد أوردها الحافظ في الفتح ولم يرتضها حيث قال: ((وتُعِقب بأن الأشياء المتساوية في تمام الحقيقة يجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر، فيلزم من دعوى التساوي المُحال، وَبِأَنَّ أَصْلَ ما ذكروه قياسُ الغائبِ على الشاهدِ وهو أَصْلٌ كل خبط)) (2). أ هـ.
ويقال أيضاً: الصواب أنه لا توجد ذاتٌ منفصلةٌ عن الصفات، فهذا ليس له وجود إلا في الذهن، فليس الوجود قدراً زائداً على الماهية، فلا فرق بين ((لا موجود)) و ((لا ماهية))، فهم قد توهموا ذاتاً مجردة ثم ذكروا التساوي أو التفاضل، علماً أن لفظ ((ذات)) هو مؤنث ((ذو)) وهي إنما وضعت لما يتصف بالصفات لا للمجرد، فيقال: ((ذات علمٍ وذات قدرةٍ))، كما يقال: ((ذو علمٍ وذو قدرةٍ)).
التنبيه الثاني:
نَقْلُهُ لمذهب السلف، فقد نقل عن الإمام أحمد في أحاديث الصفات((نؤمن بها ونصدق بها بلا كيف ولا معنى)). وَنَقْلُهُ للترمذي عن السلف أنهم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيفَ... ونؤمن بها ولا نفسر ولا نتوهم ولا نقول كيفَ..
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة (2/64 ، 65) .
(2) فتح الباري، (13/383).(27/3)
ثم علق د. عمر على ذلك بقوله: هذا هو مذهب السلف –رحمهم الله- فهم يفوضون في المعنى ولا يفسرون، فأين هذا المذهب من قول من يفسر((وينسب لله تعالى اليد والجارحة والاستواء الذي هو جلوس واستقرار ومماسة ونزولٌ هو حركةُ وانتقالٌ وغير ذلك من ترهات وتوهمات)).
ونقول:لقد أبنت بهذا يا د. عمر عن عدم فهمك لمذهب السلف فمن أين لك أنهم ((يفوضون في المعنى))، وهل ما نقلته عن الإمام أحمد والترمذي يدل على ذلك، بل الحق أنه يدل على نقيض ذلك تماماً، فإن نفي الكيفية يتناقض مع التفويض الذي تذكره، فإنه ((لا يُحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يُحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أُثبتت الصفات))، وأيضاً فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهبُ السلف نفيَ الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف.
وأيضاً: فقولهم: أَمِرُّوها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أَمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم فيها غير مراد، أو أَمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقته، وحينئذ فلا تكون قد أَمِرَّتْ كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفى الكيف عما ليس بثابت لَغْوٌ من القول(1)، وعليه فالمنفي في كلامهم هو تفسيرُ الجهةِ لا الإثبات(2).
ونقول أيضاً للدكتور عمر: من ترى نسب إلى الله تعالى ((الجارحة))
__________
(1) مجموع الفتاوى، (الفتوى الحموية) (5/41 ،42) .
(2) السابق (الفتوى الحموية) (5/51).(27/4)
و((المماسة)) و ((الانتقال)) إن إثبات ((اليد)) لله تعالى تقتضي أنها كما يليق بجلاله لإضافتها له سبحانه، كما أن الاستواء هو صفة تليق بالله، وأما قولك منكراً: ((والاستواء الذي هو جلوس أو استقرار ومماسة)) فأيضاً يظهر أنك لم تفهم مذهب السلف، فإنهم لا يصفون الله إلا بما يصف به نفسه، فإثبات مَنْ أثبت ((الاستواء)) وَعَقَّبَ ذلك بقوله ليس بقعود ولا استقرار، هو دال على أنه وقع في التشبيه، فظن أنه سبحانه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفُلْكِ والأنعام فيتخيل له أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستويِ على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينة لسقط المستويِ عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستويِ عليها، فقياس هذا عنده أنه لو عُدِمَ العرشُ لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك؛ فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فإثبات أحدهما ونفي الآخر تَحكُّمٌ .. وكأن هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش حيث ظن أنه مِثْلَ استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفُلْكِ، وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأييد، كما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى وأمثال ذلك، فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مِثْلَ ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى، (الرسالة التدمرية)، 3/49 ، 50 .(27/5)
وأما ما ذكرته يا د. عمر من ((من الحركة والانتقال)) فإنه وهم ومجمل، والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعاً ، كمن قال: إنه ينزل فيتحرك ويتنقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من قال: إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغاً لمكان وشغلاً لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه(1).
وأما لفظ الحركة فقد ذكر إثباته عثمان بن سعيد الدارمي ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني ونسبه لأهل السنة وذكر ممن لقي منهم على ذلك أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه، وكثير من أهل السنة والحديث: يقول المعنى صحيح لكن لا يطلق هذا اللفظ لعدم مجيء الأثر به كما ذكره ابن عبد البر في كلامهم على حديث النزول، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات(2).
__________
(1) شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى:5/578.
(2) السابق، (5/576).(27/6)
وخلاصة ذلك أن مَنْ أثبت أراد معنى ومن نفى أراد معنى آخر، فمن أثبت اللفظ أو ما يتضمنه من المعنى أراد ما يطلقه عموم أهل اللغة من لفظ الحركة ومرادهم جنس الفعل، كما في قوله تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح}[سورة الأعراف، آية:154]، وفي قراءة ابن مسعود {ولما سكن}، فوصف غضبه بالسكوت والسكون، وكذا يستعملون لفظ الحركة وأنواعها في الصفات والمعاني ((جاءت الحمى، جاء الشتاء.. الخ)) ، وكذلك منه تسمية الزوجة سكنا {وجعل منها زوجها ليسكن إليها}[سورة الأعراف، آية:189] وما أشبه ذلك، فالحركة جنس تحته أنواع مختلفة باختلاف الموصوفات بذلك، وما يوصف به نفس الإنسان من إرادة ومحبة وكراهة وميل ونحو ذلك كلها فيها تَحَوَّلَ النفس من حال إلى حالٍ وعملٍ للنفس ، وذلك حركة لا بحسبها(1)، فهذا كله من أنواع جنس الحركة العامة والحركة العامة هي التحول من حال إلى حال، فالغضب والرضا والفرح والدنو والقرب والاستواء والنزول والخلة والإحسان وغير ذلك يدخل في هذا المعنى، ومن هنا أثبت هذا المعنى السلفُ وإن كان التعبير عنه بالألفاظ الشرعية هو الواجب.
وأما حركة المخلوق والانتقال من مكان إلى مكان فقد تقدم نفي ذلك عن الرب تعالى(2).
التنبيه الثالث:
عقب الدكتور عمر بعد ذلك بقوله: ((فلا يجوز لنا أن ننفي معنىً ثبت بالنص في حق الله تعالى)) ونقول لك صدقت يا د. عمر، وكل الصفات التي يثبتها السلف إنما هي معانٍ ثبتت بالنص، والنفي يتضمن أموراً، منها التأويل لأنه نفي لمعنى النص الظاهر بمعنى آخر، ومنها تفويض الأشاعرة لأنهم ينفون المعنى الظاهر، فقولك هذا يا د. عمر نَسْفٌ لكل ما قلته وذكرته عن الأشاعرة، إذ مذاهبهم لا تعدو ذلك.
التنبيه الرابع:
ضرب د. عمر المثل بعد ذلك بالسمع، وذكر أنه يثبت أصل السمع وينفي أن يكون لله أذن وأن ذلك المثل في اللفظ الذي له معنى واحد فقط.
__________
(1) السابق، (5/572).
(2) السابق، 5، 574 ، 576 .(27/7)
ونقول لك: ما هكذا تورد الإبل يا سعد، من أين لك هذا النفي فمن كان مثبتاً، فليثبت بنص وحجة، وكذلك من نفي فإنما ينفى بنص وحجة، فطريقة سلف الأمة إثبات الصفات حسب ورودها واعتقادها صفات حقيقية لها معان مفهومة، ونفي التشبيه عنها، وإبعاد كل ما يتوهم فيه التشبيه وما هو من خصائص المخلوقين، مع الاقتصار في النفي والإثبات على ما وردت به النصوص، فنحن نثبت صفة السمع والبصر والكلام مع إثباتِ الحقيقةِ ونفيِ التشبيهِ، فأما ما ذكر من الأذن فلا نتعرض لها بنفي ولا إثبات، وننكر على من أثبتها وعلى من نفاها، مع وصف الله تعالى بأنه الأحد الصمد، وقد فسر الصمد بأنه المصمت الذي لا جوف له، أو بالسيد الذي كمل في سؤدده وكلاهما معروفٌ في اللغة(1).
التنبيه الخامس:
ثم قعّد الدكتور عمر بعدها قاعدةً بأن التفويض إنما يكون في اللفظ الذي ليس له إلا معنى واحد، وأما ما يحتمل أكثر من معنى فالتأويل، ولا ندري ما هذه القاعدة ومن سلفه فيها، لأن كل الألفاظ عند المؤولة تحتمل عدة معانٍ، وكلها عند السلف إذا أضيفت لله فهي على معنى واحد فقط ولذلك كانت هذه القاعدة باطلة في هذا الباب.
ويذكر ابن القيم شيئاً من ذلك إذ يقول: ((ومثل قول الجهمي الْمُلَبِّسِ: إذا قال لك المشبه {الرحمن على العرش استوى}[سورة طه، آية:5]، فقل له: العرش له عدة(2) معانٍ، والاستواء له خمس معانٍ فأي ذلك المراد؟ فإن المشبِّه يتحير ولا يدري ما يقول.
فيقال لهذا الجاهل: ويلك ما ذنب الموحِّد الذي سميته أنت وأصحابك مشبِّها؟ وقد قال لك نفس ما قال الله تعالى. فوالله لو كان مشبِّها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك لأنه لم يتعد النص.
__________
(1) الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ص5.
(2) كذا بالأصل ولعله (سبع) كما في باقي السياق بَعْدُ.(27/8)
(وأما قولك): العرش له سبعة معانٍ ونحوها، والاستواء له خمسة معانٍ فتلبيس منك على الجهال وكذب ظاهر، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلا معنى واحد، وإن كان العرش من حيث الجملة عدة معانٍ فاللام للعرش(1)، وقد صار بها للعرش معيناً وهو عرش الرب تعالى الذي هو سرير ملكه، الذي اتفقت عليه الرسل، وأقرت به الأمم إلا من نابذ، الرسل وقولك الاستواء له عدة معان تلبيس آخر منك، فإن الاستواء المعدى بأداة (على) ليس له إلا معنى واحد. وأما الاستواء المطلق فله عدة معان فإن العرب تقول: ((استوى كذا)) انتهى وكمل ومنه قوله تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى}[سورة القصص، آية:14]، وتقول: ((استوى وكذا)) إذا ساواه، نحو قولهم: استوى الماء والخشبة، واستوى الليل والنهار، ونقول ((استوى إلى كذا)) إذا قصد إليه علوا وارتفاعاً نحو استوى إلى السطح والجبل، ((واستوى على كذا)): أي ارتفع عليه وعلا عليه. ولا تعرفُ العرب غيرَ هذا . فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه كما هو نص في قوله تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى}[سورة القصص، آية: 14]، لا يحتملُ غيرَ معناه، ونص في قولهم: ((استوى الليل والنهار)) في معناه ولا يحتمل غيره))(2)أ هـ.
التنبيه السادس: ختم الدكتور عمر مبحثه هذا بكلام الحافظ في ترجيح التفويض على التأويل وهو ينتقض بذلك القاعدة التي قررها قريباً وهو أن التفويض إنما يكون في اللفظ الذي ليس له إلا معنى واحد... إلخ، وهو يدل على تفكك مباحثه وقد يكون سببه تعدد القصاصات التي وردت له فألصق بعضها إلى بعض دون أن ينتبه إلى تناقضها في نفسها والله أعلم.
__________
(1) كذا بالأصل ولعله (للعهد) .
(2) مختصر الصواعق المرسلة، (1/17 ، 18) .(27/9)
الفرقة الناجية
تَزَيَّا د. عمر في هذا المبحث بزي المحدِّثين، فصار يصحح ويضعف، فبدأ تعليقه بذكر تضعيف الحديث قائلاً: ((فالحديث الذي رواه الترمذي مداره على محمد ابن ((عمر)) بن علقمة بن وقاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء في تهذيب التهذيب علم أن الرجل متكلَّم فيه مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وأن أحداً لم يوثقْه بالإطلاق وكل ما ذكروه أنهم رجحوه على من هو أضعفُ منه، وقال الحافظ في التقريب صدوقٌ له أوهام، والصدق لا يكفي ما لم ينضم إليه الضبطُ فكيف إذا كان معه أوهامٌ)) أهـ كلام الدكتور عمر.
وهذه الجملة اشتملت على ((أوهام)) كثيرة منها:
أولاً: التصحيفُ في اسم الراوي بأنه ((محمد بن عمر)) وهذا غلط إنما هو ((محمد بن عمرو)) وليس ((عمر)).
ثانياً: الوهم بأن الحديث حتى يكون حجةً لابد أن يرويَهُ الثقةُ، وأن الصدوقَ لا يصلح حديثُهُ للاحتجاج، وهذا رَغْمَ سقوطِهِ بداهته عند كل مَنْ له مسكة من علم الحديث، فإنه من المعلوم أن المقبولَ المحتجَّ به يشملُ الصحيحَ والحسنَ ((لذاتيهما أو لغيرهما))، علاوةً على أنه قد ورد في خصوص هذا الراوي النصُّ على تحسينِ حديثه من أئمةِ المحدِّثين.
فمحمد بن عمرو بن علقمة أخرج له مسلم في المتابَعَات فأخرج له مقروناً في الصحيح في غيرما موضع، وقد نص الذهبيُّ علي أنه حسن الحديث وكذا نص الحافظُ الهيثمي كما في مجمع الزوائد (10/308) حيث قال في حديث ((لا أجمع لعبدي أمنين)) رجال الصحيح ..غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث.
ونص العلامة الألباني على تحسين حديثه أيضاً في غير ما موضع من مؤلفاته كالصحيحة (2/ 38، 103، 378) ونص على أن الكلام فيه لا يضر فيها أيضاً (2/175).(28/1)
بل صحح الحاكمُ أحاديثَ من طريقه كما في حديث ((إن كان في شيء مما تداوون به خيرٌ ففي الحجامةِ)) [المستدرك 4/410] ، حيث قال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحديث ((خيركم خيركم لأهلي بعدي)) [المستدرك3/311] حيث قال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وحديث ((موضعُ سوطِ أحدِكم في الجنة ...)) [2/299] قال أيضاً صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وهذه كلها من طريق ((محمد بن عمرو)) الذي قال فيه ((د. عمر ما قال)).
ولم يطعنْ أحدٌ فيما أعلمُ في أحاديث محمدِ بنِ عمرٍو إلا إِنْ كانت مخالفة لما هو أولى منها، وهذا يكون حتى في أحاديث الثقات وهو ما يسمى بالشاذ والمحفوظ، أما أَنْ يُطْلَقَ القول بالتضعيف للتفرد فهو مما ابتكره د. عمر وحده
وإلا فما معنى ((قبول زيادة الثقة)).
ثالثاً: أن حديث الافتراق صحيح، أخرجه أبو داود (ح4596) والترمذي (ح2640) وابن ماجه (3991) وأحمد (2/332) وابن أبي عاصم(66) وقد صححه ابن حبان (ح2614) والحاكم (1/128) ووافقه الذهبي من حديث أبي هريرةَ، وهي الطريق التي تجهرم د. عمر فقال(ضعيفة) كما أخرجه أبو داود (4597) وأحمد (4/102) والدارمي (2/241) واللالكائي في شرح السنة (150) وابن أبي عاصم(1)، (65) والطبراني في الكبير(19/884)، (885) والآجُرِّي في الشريعة (ص18) من طريق معاويةَ بلفظ ((كلها في النار إلا واحدةً وهي الجماعة))، وهذا أيضاً صحيحٌ أو حسنٌ، فقد صححه الألبانيُّ في تخريجِ الطحاويةِ (ص290) وفي الصحيحة (ح204)، وحسنه الأرناؤوط في تخريجِ الطحاويةِ (ص340),(28/2)
رابعاً: إن تصحيح هذه الروايات لا يعني الإيغالَ في التكفير، فإن هذا ليس من مقتضى الحديث، وإنما هو دالٌّ على أن ((الناجية)) هي الجماعةُ وهي كما في روايةِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو ((وحسنها الأرناؤوط بشواهدها)) مفسرة بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي))، وقد ذكر د. عمر أن كونَها في النار لا يعني التخليدَ وهو صحيحٌ لكنه يعني الحذرَ من هذه المخالفةِ لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُهُ.
ومعلوم قطعاً أنه لم يكن في الصدرِ الأولِ يتكلم الصحابة في العقيدة معتمدين على ((الجوهر)) و ((العرض)) و ((الجزء الذي لا يتجزأ)) و ((و نسبة الأمكنة إليه واحدة وهي البينونة الكبرى)) ، ونحو ذلك مما يقتضي تضليلَ مَنْ بني عقيدته على ذلك بهذا الحديث أو بغيره، لكن هذا التضليلَ في الاعتقاد عامٌّ، وقد يكون هناك موانع عند التخصيص فالتكفير لابد له من استيفاءِ شروطٍ وانتفاءِ موانعَ، ولذا كان أهلُ السنة أبعدَ الناسِ عن التكفير الذي عليه أهلُ الأهواءِ.
هذا آخرُ ما ورد في كتاب الدكتور عمر، وأختم بمقولة ابن الجوزي عن الأشاعرة ((ليس فوق العرش إلهٌ ولا في القبر نبيٌّ ولا في المصحف كلامُ الله يا معشرَ الأشاعرةِ ثلاثُ عوراتٍ لكم)).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،(28/3)
الخاتمة :
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، لقد أنهيت الرد على الدكتور عمر كامل وسلكت فيه سبيل الاختصار ما أمكن، وأحب أن أختم بجملة تفيد فضل علم السلف على الخلف، وذلك لأن من الأشاعرة من ذكر أن الخلف أعلم وأحكم من السلف، وتارة يعتذرون عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، وتارة يطلقون هذا القول على عواهنه.
يقول شيخ الإسلام: وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها، وهم يظنون أنها أصول صحيحة، وأن الدين لا يتم إلا بها، وللصحابة –رضي الله عنهم- أيضاً من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه، حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة، كما أخذوا من التجهم شعبة، وذلك دون ما أخذته من المعتزلة من الرافضة والجهمية، حين غلب على الرافضة التجهم وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم، إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام. ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا محمد بن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم، حتى انسلخوا من الإسلام، فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين الذي لا يتم الدين إلا بها، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتليهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال فيها الحق والباطل، ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة، ولم يكن القدح فيهم، فأخذوا يقولون: كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه، وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة، وعلمهم، ودينهم، وقتالهم، ومن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم، فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد المنتسبين إلى القبلة أو(29/1)
عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم، أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد كما فعلته الصحابة –رضوان الله عليهم-، ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقاً، باطناً وظاهراً، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله، وفعلهم لأمر الله ... والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل: العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدّعي من أهل الزهد والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة(1).
ويقول أيضاً: ((وكل من له لسان صدق مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم، ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة(2)، ولا تجد إماماً في العلم والدين كمالك، والاوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومثل الفضيل، وأبي سليمان ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقتهم، المتبعون لها وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر. فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهم أبو حامد))(3).
__________
(1) التسعينية (ص: 256-257).
(2) انظر: المنقذ من الضلال (ص: 89). فذكر فرق الطالبين للحق (المتكلمون والباطنية، والفلاسفة والصوفية) وأن ذلك منحصر فيهم.
(3) شرح الأصفهانية (ص:128).(29/2)
ويقول شيخ الإسلام: ((ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول،وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض. والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق ٍ بعيد}[سورة البقرة: آية 176]، ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية: ((الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضالٍ تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب...)) (1).
ويقول أيضاً: ((وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علماً ، وأبر قلوباً، وأقل تكلفاً، وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم، وقبلوا الحق وردوا الباطل)) (2).
__________
(1) انظر: درء التعارض (2/301-302) وكلام الإمام أحمد في أول الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 52)، ضمن عقائد السلف، و (ص:85) – ت عميرة.
(2) انظر: درء التعارض (3/454)، وانظر: أيضاً (7/387).(29/3)
ويشرح شيخ الإسلام سبب كونهم أعلم وأحكم فيقول: ((وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم، وأن مخالفيهم أحق بالجهل والحشو، فنبين ذلك بالقياس المعقول من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول، كما قال الله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}[سورة فصلت: آية 53]، فأخبر أنه سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق، ثم قال: {أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}[سورة فصلت: آية 35]، أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة، والمكاشفة والمخاطبة والوجد، والذوق ، ونحو ذلك، وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً، وهذا هو للمسلمين بالسنة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل، فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك مُمَتَعِين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال الله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى}[سورة محمد: آية 17]، وقال: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما ولهديناهم صراطاً مستقيما}[سورة النساء: آية 66-68])) أهـ(1).
__________
(1) نقص المنطق (ص:7-8).(29/4)
وبهذا يتبين لك أيها القارئ فضل علم السلف على الخلف، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحشرنا في زمرتهم وأن يعافينا وإخواننا ومن نحب مضلات الفتن وزيغ الحكماء، وانحراف الفرق، والأهواء. ونسأله سبحانه هداية من ضل من هذه الأمة والتأليف بين قلوب المؤمنين على الحق والهدى والدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(1).
د. عبد الله بن حسين الموجان
مكة المكرمة- ص ب 6859
__________
(1) انتهى من تصحيح تجاربه ومسوداته ليلة عيد الفطر عام 1425هـ والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(29/5)
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 3-7
وسائل العلم ... 8-11
بيان من هم أهل السنة ... 12-14
هل مذهب الأشاعرة مذهب جمهور الأمة ... 15-16
الأشاعرة وأئمة المذاهب الفقهية ... 17-28
تحقيق مذهب الأشاعرة في التفويض والتأويل وغيرهما… ... 29-33
رجوع الرازي والجويني وموقف النووي وابن حجر ... 34-41
الغزالي والنووي وابن حجر ... 42-47
التشبيه والتجسيم ... 48-52
التجسيم وبيان عقيدة الإمام أحمد ... 53-60
مناقشة النقول التي أوردها الدكتور/ عمر في التَّعْطيل ... 61-66
تفسير المقام المحمود ... 67-75
القِدَمُ النوعي للعالم ... 46-85
أصلُ ضلال المتكلمين في هذه المسائل ... 86-89
مصدرُ التلقي عند الأشاعرة وقانون الرازي الكلي ... 90-92
الكلامُ على إثبات وجود الله ... 93-94
تقسيمُ التوحيد ... 95-108
أولُ واجب عند الأشاعرة ... 109-110
الفطرة ... 111-129
الإيمان ... 130-132
القرآن ... 133-144
القدر ... 145-158
تكليف مالا يطاق ... 159-162
الحكمة الغائية ... 163-167
التحسين والتقبيح ... 168-147
التأويل ... 175-192
الصفات ... 193-200
الفرقة الناجية ... 201-203
الخاتمة ... 204-207
فهرس الموضوعات ... 208-209
تم بحمد الله تعالى،،،(30/1)