ـ[الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام]ـ
المؤلف: ناصر بن حمد بن حمين الفهد
عدد الأجزاء: 1
الناشر: مكتبة الرشد - الرياض
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](1/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فقد كان لمؤلفات أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى أثرٌ عظيمٌ بين العلماء وطلبة العلم، تلقوها بالقبول، وتناولوها بالتعليم والشرح والتلخيص،وانتفع بها من شاء الله من الناس، وأعظم ما ألفه كتابي (الموافقات) - في أصول الشريعة - و (الاعتصام) - في لزوم السنة والتحذير من البدع-، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه، فقد قيل إنه أول من تكلم في مقاصد الشريعة كعلمٍ مستقل وذلك في كتابه الأول، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتابه الثاني، وليس المقصود هنا الكلام على ما تميز به الكتابان فقد ألف في ذلك مؤلفات ورسائل.
ولما كان للشاطبي رحمه الله تعالى جهود في حرب البدعة، وحرب البدع مما اشتهر به السلفيون، فقد انتشر بين الناس أنه سلفي الاعتقاد - حتى بين بعض طلبة العلم- (1) ، والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ كتابيه هذين أنه
__________
(1) مثل محقق كتاب الاعتصام - سليم الهلالي- حيث قال في (الاعتصام - 1/305حاشية (1)) -تعليقاً على كلامٍ للشاطبي رحمه الله تعالى في الصفات: (فمن تتبع عقيدة المصنف رحمه الله من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره) مع أن الشاطبي بعد هذه الحاشية بصفحةٍ واحدةٍ فقط (1/307) صرّح فيها بموافقة الأشاعرة في الكلام النفسي!! وله غير هذا في نفس الكتاب أيضاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ومثل عثمان بن علي بن حسن في كتابه (منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة) حيث قال (1/414حاشية (1)) : (أما في كتابه (الاعتصام) فتجده معتصماً بالكتاب والسنة لا يكاد يخرج عنهما) وهذا الكلام فيه ما فيه كما سترى إن شاء الله تعالى.(1/5)
أشعري المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ومرجعه في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
وموقف الشاطبي رحمه الله تعالى من البدع العملية (وهي البدع في العبادات) في تحذيره منها وبيان مفاسدها والتشديد على التمسك بالسنة فيها موقف جيد، وعمل مشكور، ولكنه مع ذلك وقع في بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية في الصفات والقدر وغيرها.
ولم ينفرد الشاطبي رحمه الله تعالى بهذا الأمر بين العلماء؛ فقد وقع فيه غيره كأبي بكرٍ الطرطوشي رحمه الله تعالى فإنه ألّف كتاب (البدع والحوادث) في التحذير من البدع العملية ومع ذلك فقد وافق الأشاعرة في أصولهم، وكأبي شامة الدمشقي رحمه الله تعالى فإن له كتاب (الباعث في إنكار البدع والحوادث) في البدع العملية وهو أشعري المعتقد، والسبب في ذلك - والله أعلم - أن علماء الكلام لم يتطرقوا لمثل هذه الأمور؛ لهذا لم يفسدوها بأصولهم فلم تلتبس على من أراد الحق وسعى إليه بخلاف الاعتقادات كالأسماء والصفات والقدر والإيمان وغيرها فإن المتكلمين أفسدوها بأصولهم المبتدعة وشبهوا على كثيرٍ من العلماء الفضلاء فيها فوافقوهم في أصولهم وبدعهم - عفا الله عن الجميع بمنه وكرمه -.(1/6)
والمقصود أنني عندما قرأت كتابي الشاطبي (الموافقات) و (الاعتصام) (1) قمت بتقييد مخالفاته لمعتقد أهل السنة والجماعة ورأيت أن أخرجها نصيحة للأمة،وإتماماً للمنفعة (2) ، بحيث تحذر هذه المواضع من كتابيه هذين، وقد رتبتها وجعلتها على ثلاثة أبواب كما يلي:
الباب الأول: مخالفاته في التوحيد، وتحته فصلان:
الفصل الأول: مخالفته في توحيد الربوبية:
الفصل الثاني: مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات:
الباب الثاني: مخالفاته في الإيمان والقدر، وتحته فصلان:
الفصل الأول: في مخالفته في الإيمان:
الفصل الثاني: في مخالفاته القدر:
الباب الثالث: مخالفاته الأخرى، وتحته ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تأثره بعلم الكلام:
الفصل الثاني: تأثره بالصوفية:
__________
(1) والإحالات هنا على (الاعتصام) بتحقيق/سليم الهلالي، و (الموافقات) بتحقيق/مشهور آل حسن.
(2) ألف عبد الرحمن بن آدم بن علي -رحمه الله تعالى- كتاباً بعنوان (الإمام الشاطبي-عقيدته وموقفه من البدع وأهلها) وقد أحسن فيه رحمه الله تعالى، ولكنه لم يذكر إلا بعض مخالفاته في الصفات والإيمان، ولم يتعرض لمخالفاته الأخرى في الصفات أيضاً وفي القدر والنبوات وموافقته لبدع المتكلمين والصوفية في مواضع كما سترى هنا إن شاء الله تعالى، وكذلك فإن محقق كتاب (الموافقات) الشيخ الفاضل/مشهور آل سلمان قد نبه -جزاه الله خيراً-على كثيرٍ من مخالفات الشاطبي رحمه الله تعالى في الصفات وفي التحسين والتقبيح وغيرها إلا أنه ترك التنبيه على مواضع كثيرة من مخالفاته في الصفات وفي القدر والنبوات وغيرها.(1/7)
الفصل الثالث: إنكاره للمهدي:
والطريقة في عرض أقواله ونقضها، أنني أذكر نصوص الشاطبي كلها بلفظها وإن طالت في المسألة محل البحث، ثم أذكر مواطن الخطأ فيها وردها، مستدلاً على ما أقول بالنصوص الشرعية، وأنقل في ذلك ما تيسر من كلام السلف، ومن كلام العلماء الذين كتب الله لهم القبول بين أهل السنة والجماعة، وخصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وقد ذكرت قبل هذه الأبواب مقدمات مختصرة هي:
المقدمة الأولى: في عرض أقوال الرجال عل الكتاب والسنة.
المقدمة الثانية: في أن الرجل الفاضل الجليل قد تكون له زلات وهفوات يجب التنبيه عليها.
المقدمة الثالثة: في عرضٍ مختصرٍ لعقيدة الشاطبي والرد عليها من كلامه.
هذا، وقد اجتهدت في بيان الحق قدر الاستطاعة، فما كان في كلامي من صواب فمن الله والحمد لله على ذلك، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان من ذلك، واستغفر الله منه، وصلى الله على محمد.(1/8)
المقدمة الأولى: "في عرض الأقوال على الكتاب والسنة"
فقد أتت النصوص الشرعية بوجوب عرض كلام العلماء على الكتاب والسنة فما وافقهما قبلناه وما عارضهما رددناه، فإن أقوال الرجال يحتج لها ولا يحتج بها، وقد ضُمِنت لنا العصمة في الكتاب والسنة ولم تضمن لنا في أقوال العلماء، فيُرد ما لم يضمن إلى المضمون الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) والرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول الرد إلى سنته كما ذكر غير واحدٍ من المفسرين، وكما قال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) ، وكانت هذه وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في آخر أيامه ففي صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ياأيها الناس إنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حضّ على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته) وروى أحمد والترمذي وأبو داود من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها الدموع فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا،فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد،(1/9)
وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) وروي مرفوعاً: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) ، وليس المقصود هنا استيعاب النصوص في هذا الباب وإنما المقصود التنبيه عليها.
وكانت هذه وصية السلف أيضاً فقد قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (ليس منا إلا ويؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم) وقال أيضاً: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر) وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: (إذا قلت قولاً كتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله) ، قيل: (إذا كان قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالفه) ، قال: (اتركوا قولي لخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، قيل: (إذا كان قول الصحابة يخالفه) ، قال: (اتركوا قولي لقول الصحابة) ، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: (لايحل لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا) ، وقال مالك رحمه الله تعالى: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) وقال أيضاً: (ما منا إلا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم -) ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد) ، وقال أيضاً: (إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط) ، وقال أحمد رحمه الله تعالى: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال) ، وقال أيضاً: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا(1/10)
الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا) ، وكلامهم رحمهم الله تعالى في هذا الباب كثيرٌ جداً (1) وفي ما مضى كفاية إن شاء الله تعالى لمن أراد الحق.
فالحاصل أنه يجب عرض الأقوال على الكتاب والسنة،ومن فعل ذلك فقد أمِن - بإذن الله- من الزيغ والزلل والوقوع في الباطل، وأما من قدّم أقوال الرجال عليهما فما أحقه بقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى حين قال: (عجبت لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك) (2) نسأل الله تعالى أن يجنبنا أسباب الزيغ وأن يثبتنا على دينه.
وهذه المقدمة ممهدة للمقدمة الثانية وهي:
__________
(1) انظر (جامع بيان العلم وفضله) 2/ 132، و (إعلام الموقعين) 2/ 171،و (فتح المجيد) ص383.
(2) انظر (فتح المجيد) 385-389.(1/11)
المقدمة الثانية: "في أن الرجل الفاضل الجليل قد تكون له زلات وهفوات يجب التنبيه عليها"
اعلم أن سعة العلم وكثرة العبادة وظهور الفضل ليست من موانع الخطأ والزلل مطلقاً، فإن الله سبحانه لم يعصم أحداً من الناس -غير الأنبياء - عن ذلك، وقد يكون العالم مشتهراً بين الخاصة والعامة بالعلم والفضل وله لسان صدقٍ في الأمة ومع ذلك تقع منه الزلات والهفوات والتي قد يكون بعضها عظيماً فلا يتبع فيما زل فيه، بل يجب التنبيه على ذلك سواء كان المنبه فاضلاً أو مفضولاً لأن مراد الجميع الحق، ولهذا الأمر كثر التحذير من زلات العلماء في كلام السلف، لأن العلم مظنة الاتِّباع، ومن ذلك قول عمر - رضي الله عنه -: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) وروي نحوه عن أبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهما، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ويل للاتباع من عثرات العالم، قيل وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ثم تمضي الاتباع) (1) .
ويخطئ في هذا المقام طائفتان من الناس:
الطائفة الأولى: من إذا رأوا صدق العالم وفضله أحبوه وقبلوا جميع أقواله بلا تمحيص، ولم يرضوا بتخطئته، بل يتعدى بعضهم ذلك فلا يأخذ
__________
(1) انظر (جامع بيان العلم وفضله) 2/133ومابعدها.(1/12)
بالكتاب ولا السنة إلا بعد عرضها على قوله، وهذا كله من باب عبادة الأحبار والرهبان والتي ذمها الله سبحانه وتعالى بقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) ، وفي مثل هؤلاء يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) (1) .
الطائفة الثانية: من إذا رأوا العالم أخطأ أو زل في مسألةٍ أو مسائل قاموا بالضرب على أقواله كلها حقها وباطلها صحيحها وسقيمها، وهذا من الإجحاف والظلم واتباع الهوى، فإن سبيل المسلمين اتباع الحق أينما كان، والحق هو موافقة الكتاب والسنة فمن جاء به قُبِل منه أياً كان، ويدل عليه فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قبل الحق من اليهود كما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول أنا الملك، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)) ، وفي النسائي من حديث قُتيلة بنت صيفى رضي الله عنها (أن يهودياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت) ،
__________
(1) رواه ابن عبد البر في الجامع 2/139.(1/13)
بل وأبلغ من ذلك ما في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الطويل عندما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ الزكاة فكان يأتيه رجل في كل ليلة فيحثو من الطعام فيمسكه أبو هريرة في كل مرةٍ ثم يطلقه، فلما كانت الأخيرة أطلقه بعد أن علمه كلمات فقال له: (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح) وفيه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث) فقال: لا، قال: (ذلك شيطان) فقُبِل كلام الشيطان هنا لأنه موافق للحق.
وإلى هاتين الطائفتين أشار معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فيما رواه أبو داود عنه بإسنادٍ صحيح قال: (وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال الراوي: قلت لمعاذ: ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها: ما هذه، ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً) .
فأشار رضي الله عنه إلى الطائفة الأولى بقوله (إن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم) وإلى الطائفة الثانية بقوله: (وأن المنافق قد يقول كلمة الحق) ، وأشار إلى الطريق القويم في هذا الباب بقوله: (اجتنب من كلام الحكيم المشبهات، ولا يثنينك ذلك –أي الخطأ- عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته – يعني من كل من أتى به - فإن على الحق نوراً) .(1/14)
المقدمة الثالثة: "في عرضٍ مختصرٍ لعقيدة الشاطبي رحمه الله تعالى والرد عليه من كلامه"
ذهب الشاطبي رحمه الله تعالى إلى مذهب الأشاعرة - في الجملة -، ففي باب الصفات أوّل بعضها كالفوقية والنزول والكلام وغيرها، وإن ذكر مذهب الصحابة والسلف في هذا وحثّ على اتباعه فإنما يعني به التفويض - تفويض المعنى والكيفية -، وفي باب القدر أنكر الأسباب - تبعاً للأشاعرة- وجعل المسببات لاتدخل تحت قدرة المكلف، وأنكر التحسين والتقبيح العقليين تبعاً لإنكار الأشاعرة للحكمة وجعلهم الأعيان لا تتصف بحسنٍ ولا قبحٍ قبل ورود الشرع وأن الله سبحانه إنما يأمر وينهى لمحض المشيئة فقط، واتبع الشاطبي أيضاً المتكلمين في كثيرٍ من أصولهم الكلامية في إثبات الصانع وحدوث العالم، وفي النبوات، وفي حكم الدلائل اللفظية وغيرها - كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في الفصول القادمة -.
وقد رأيت- قبل أن أذكر كلامه والرد عليه على وجه التفصيل- أن أذكر رداً إجمالياً على جميع ما ذهب إليه، ويكون هذا الرد من كلامه هو رحمه الله تعالى فإن له كلاماً جميلاً فيما يتعلق في البدع عامة، وهذا الرد من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الأقوال التي ذهب إليها المتكلمون والأشاعرة - والتي وافقهم عليها الشاطبي- لو عرضناها على الكتاب والسنة وأقوال السلف لوجدناها مخالفة لها أشد المخالفة، وما كان هكذا فسبيله الرد لا(1/15)
القبول، وقد قرّر الشاطبي رحمه الله تعالى هذا المعنى بقوله (1) : (فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ، ونقف على الاقتداء بمن لا يمتنع عليه الخطأ إذا ظهر في الاقتداء به إشكال، بل نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة، فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه ولا علينا) اهـ.
الوجه الثاني: أن ما ذهب إليه الشاطبي هنا مما وافق فيه الأشاعرة لا يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل هو بناء على أصول عقلية فاسدة أسسوها والتزموا لأجلها لوازم فاسدة، وما كان هكذا فهو من البدع المذمومة، وقد قرّر الشاطبي رحمه الله تعالى هذا المعنى-ويعني به بدع العبادات وهو ينطبق على بدع الاعتقادات- بقوله (2) : (إن البدعة الحقيقية (3) هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل، ولذلك سميت بدعة لأنها على غير مثالٍ سابق، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع إذ هو مدعٍ أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة، لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر، ولا بحسب الظاهر، أما بحسب ما في الأمر فبالعرض، وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شُبَهٌ ليست بأدلة إن ثبت أنه استدل وإلا فالأمر واضح) اهـ.
__________
(1) الاعتصام) 1/277.
(2) الاعتصام) 1/367.
(3) وهي في مقابل البدعة الإضافية – على تقسيم الشاطبي- والإضافية هي التي يكون أصلها مشروعاً دون وصفها كالأذكار الجماعية فإن أصل الذكر مشروع دون وصفه هذا بكونه جماعياً، وأما الحقيقية فهي غير المشروعة أصلاً ووصفاً.(1/16)
الوجه الثالث: أن الشريعة قد اكتملت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين جميع ما نحتاجه فيها، فمن أتى بعده بشرعٍ من عنده أو بيانٍ من عنده – كهؤلاء المتكلمين الذين حرفوا نصوص الصفات وغيرها- فقد زعم أن الشريعة لم تكتمل، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبين للأمة ما تحتاجه في دينها، وكفى بهذا إفكاً وزوراً ودليلاً على بطلان مذهبهم، وقد قرّر الشاطبي رحمه الله تعالى هذا الأمر أحسن تقرير في قوله (1) : (إن الشريعة جاءت متكاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وفي حديث العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) الحديث، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا الأمر لامخالف عليه من أهل السنة، فإذا كان كذلك فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب أن (2) يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضالٌ عن الصراط
__________
(1) الاعتصام) 1/63.
(2) هكذا في الأصل ولعل الصواب (أو) .(1/17)
المستقيم، قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: (من ابتدع بدعة في الإسلام يراها حسنة فقد زعم أن - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم) فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً)) اهـ.
الوجه الرابع: أن هؤلاء المتكلمين الذين ابتدعوا في الصفات والقدر والنبوات وفي غيرها -وقد تبعهم الشاطبي في ذلك- قد سلكوا في استدلالاتهم على بدعهم هذه طرقاً مبتدعة -زعموها عقلية-تلقفوها من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة، وقد قرّر الشاطبي رحمه الله تعالى أن من تعدى الطرق الشرعية التي حصرها الشارع إلى طرقٍ أخرى فإنه معاند للشرع ومشاق له (1) ، وقرّر أيضاً أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول من خمسة وجوه ذكرها في (الموافقات) (2) .
وللشاطبي رحمه الله تعالى تقريرات حسنة كثيرة في هذا الباب، وقد ذكرت من كلامه ما يكفي إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
__________
(1) الاعتصام) 1/65.
(2) الموافقات) 3/208-216.(1/18)
الباب الأول: "مخالفات الشاطبي رحمه الله تعالى في التوحيد"
وتحته فصلان:
الفصل الأول: مخالفته في توحيد الربوبية:
الفصل الثاني: مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات:(1/19)
الفصل الأول: "مخالفته في توحيد الربوبية"
ذهب أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى إلى ما ذهب إليه المبتدعة في إثبات الصانع وإثبات حدوث العالم باتباع طريقة الأعراض وهي طريقة جهمية معتزلية مبتدعة، فقد نقل الشاطبي عن أبي بكرٍ الطرطوشي رحمه الله تعالى -كلاماً طويلاً - وفيه قوله (1) : (لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض) اهـ ثم قال الشاطبي مقرّراً لجميع كلامه: (وهو حسن من التقرير) اهـ.
وهذه الطريقة هي طريقة الجهمية والمعتزلة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، وأول من قال بها الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة (2) وقد التزموا من أجلها لوازم أفسدوا بها الدين،وأحدثوا البدع، وحرفوا النصوص، وخالفوا المنقول والمعقول، وملخص طريقتهم هذه -كما ذكروها في كتبهم الكلامية (3) - أنهم قالوا:إن معرفة صدق الرسول متوقفة على معرفة المرسِل، ومعرفة المرسِل متوقفة على
__________
(1) الاعتصام) 2/ 723.
(2) انظر (النبوات) لشيخ الإسلام ص135،و (منهاج السنة) 1/157.
(3) انظر في ذلك (التمهيد) ص38،و (الإنصاف) وكلاهما للباقلاني ص15 وما بعدها، (شرح الأصول الخمسة) لعبد الجبار المعتزلي ص92 وما بعدها، (الإرشاد) للجويني ص39 وما بعدها، (نهاية الأقدام) للشهرستاني ص11 وما بعدها، (الأربعين) للرازي 1/19وما بعدها.(1/21)
معرفة قِدَمه، وقدمه متوقف على معرفة حدوث العالم، ومعرفة حدوث العالم متوقف على هذه الطريقة (1) .
وهي مبنية على أربع مقدمات:
المقدمة الأولى: إثبات الأعراض. (2)
والمقدمة الثانية: إثبات حدوث هذه الأعراض.
والمقدمة الثالثة: بيان امتناع خلو الأجسام عن هذه الأعراض.
والمقدمة الرابعة: بيان أن ما لا يخلو عن هذه الأعراض فهو حادث، وأن ما لا يخلو من جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها، وكل حادث فلا بد له من محدث.
وهذه الطريقة فاسدة عقلاً، ومحرمة شرعاً، وهي من أعظم أصول المتكلمين الذين ذمهم السلف والأئمة (3) ، بل إن الأشعري نفسه حرمها وذكر
__________
(1) قد يجعلها بعضهم طريقة الأعراض، وقد يجعلها آخرون طريقة الحوادث، أو غيرها، لكنها كلها تتفق في الأصول واللوازم.
(2) ذكر عبد الجبار في (شرح الأصول الخمسة) ص92 أن الأعراض منها المدركات وهي سبعة أنواع: الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والآلام والأصوات، وعرّفه الرازي في (الأربعين) ص20 بأنه كل ماكان حالاً بالمتحيز،وجعل من أنواعه الأكوان وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق -وأكثرهم على قول الرازي-، وعرفه الباقلاني في (الإنصاف) ص 15بأنه هو الذي يعرض للجوهر ولا يصح بقاؤه وقتين.
(3) انظر في تفصيل نقضها عامة كتب شيخ الإسلام ومنها: (الفتاوى) 3/303-305،5/540-546، (الدرء) 1/301،247، 2/99،177،224،302،3/97،98،7/219ومابعدها و 141ومابعدها، (المنهاج) 1/303،2/258، (النبوات) 39ـ65،135،136، (الفتاوى الكبرى) 6/644وما بعدها، (الاستقامة) 1/123.(1/22)
أنه لا يحتج بها إلا أهل البدع والمنحرفين (1) ، بل إنه قال: (وإنما صار من أثبت إحداث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم) (2) ، وفساد هذه الطريقة من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الطريقة لم ترد في الكتاب ولا في السنة ولا ذكرها الصحابة ولا السلف، بل هي متلقاة عن أفراخ الفلاسفة والجهمية.
الوجه الثاني: أنهم أرادوا إثبات حدوث الأعراض والحوادث والأجسام بطرقٍ عقليةٍ سقيمةٍ، وحدوثها لا يحتاج إلى دليلٍ أصلاً فإننا نرى بأعيننا حدوث هذه الأشياء وزوالها فلا يحتاج الأمر إلى استدلال، بل هو كمن أراد أن يستدل على أن الشمس مضيئة!!، والموجود في القرآن هو الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المخلوقات على وجود الله سبحانه، وليس فيه استدلال على حدوثها لأن هذا أمر مسلّم، وفرقٌ بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه، لأن نفس حدوث الحيوان وغيره معلومٌ بالحس والضرورة، فلا يحتاج الأمر إلى أن يستدل بمقارنة الأعراض أو الحوادث له على أنه حادث كما ذهب إليه هؤلاء (3) .
الوجه الثالث: أنهم جعلوا إثبات العالم وإثبات الصانع غير ممكن إلا باتباع هذه الطريقة السقيمة، فكانوا كما قال شيخ الإسلام (4) : (فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون
__________
(1) انظر (رسالة الثغر) ص 52،وهي مطبوعة بعنوان (أصول أهل السنة والجماعة) .
(2) رسالة الثغر) ص 55.
(3) انظر (درء التعارض) 7/219، (النبوات) ص 48.
(4) درء التعارض) 3/97-99.(1/23)
العدو ويقاتلونهم، فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون، وتركوا واحداً، ظناً أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم، ثم إنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بازاء العدو أحد) اهـ، وذلك لأن إثبات الصانع ممكن بطرقٍ كثيرةٍ، كالاستدلال بحدوث الإنسان أو غيره من المحدثات على وجود المحدِث، فإنه يعلم بالحس والضرورة حدوث الإنسان وغيره، ويعلم بالضرورة أن كل حادث فلا بد له من محدِث. (1)
الوجه الرابع: أن مسألة إثبات وجود الله سبحانه لا ينازع فيها إلا شواذ من الناس، فإن معرفته فطرية لا تحتاج إلى دليل، لهذا تجد الرسل صلوات الله عليهم إنما يدعون الناس إلى توحيد العبادة لما استقر في فطر الناس من معرفة الصانع،وهؤلاء المتكلمون قد ملئوا كتبهم الكلامية بمحاولة إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، ومع كثرة الأدلة على هذه المسألة فقد استدلوا بدليلٍ باطلٍ وزعموا أنه الدليل الوحيد!!.
الوجه الخامس: أنهم التزموا لأجل هذا الدليل لوازم فاسدة، فإنهم لما استدلوا بالأعراض على الحدوث، التزم الجهم بن صفوان لأجل هذا الدليل نفي الأسماء والصفات لأنها أعراض بزعمه، والتزم أيضاً القول بفناء الجنة والنار لامتناع دوام الحوادث في دليلهم هذا، والتزم أبو الهذيل العلاف لأجلها انقطاع حركات أهل الجنة والنار، والتزم المعتزلة نفي الصفات لأنها أعراض، والتزم الكلاّبية ومن تبعهم من الأشعرية ومن تأثر بهم نفي الصفات
__________
(1) انظر (الدرء) 3/98،7/219، (الجواب الصحيح) 3/287، وانظر (إيثار الحق على الخلق) ص42-51.(1/24)
الفعلية كالكلام والنزول والمجيء ونحوها لأنها حوادث بزعمهم وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، والتزموا كلهم مع الكرّامية وغيرهم تعطيل الله سبحانه وتعالى عن الفعل في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها ولو قالوا بأن الله قادرٌ على الفعل في الأزل للزم منه قدم العالم (1) ، وغيرها من اللوازم التي أفسدوا بها الدين ونشروا لأجلها البدع ولبّسوا بها على المسلمين.
الوجه السادس: أن هذا الدليل يدل على نقيض مقصودهم، فإنهم استدلوا في مقدمتهم الرابعة في دليلهم هذا على أن كل حادث فلا بد له من محدث لأن كل حادث فلابد له من سبب، ثم إنهم عطلوا الله سبحانه عن الفعل في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها، وقالوا بحدوث هذا العالم من غير تجدد سبب حادث لأنهم ينفون أن يقوم بذات الله الصفات الفعلية لأنها حوادث بزعمهم، فقد أجازوا الحدوث بلا سبب وهذا ينقض أصلهم، لهذا استطال عليهم الفلاسفة وألزموهم بالقول بقدم العالم، لأنهم –أي الفلاسفة-قالوا إنه يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ويمتنع تقدير ذاتٍ معطلةٍ عن الفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب، ولم يستطع المتكلمون أن يجيبوا لفساد أصلهم، والصحيح في ذلك التفريق بين عين الحوادث وجنس الحوادث، فإن كل حادثٍ معينٍ له أول وهو مسبوق بالعدم كما هو مشاهد، أما جنس الحوادث فإنها لا أول لها لأن الله سبحانه لم يزل فعالاً غير معطلٍ عن الفعل كما يزعم
__________
(1) انظر (الفتاوى) 3/303ومابعدها،وانظر كتب شيخ الإسلام التي أشرت إليها أول الفصل.(1/25)
المبتدعة، وهذا لا يدل على قدم شئ من الحوادث بعينه كما تزعم الفلاسفة، بل يدل على تجدد الحوادث حادثاً بعد حادث. (1)
واعلم أن دليلهم هذا هو من أصولهم الكبار والتي بنوا عليها اعتقاداتهم وضللوا من خالفهم فيها، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (أما قولكم إن هذه الطريق هي الأصل في معرفة دين الإسلام ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، فإنه من المعلوم لكل من علم حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وما جاء به من الإيمان والقرآن أنه لم يدع الناس بهذه الطريق أبداً، ولا تكلم بها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، فكيف تكون هي أصل الإيمان؟! والذي جاء بالإيمان وأفضل الناس إيماناً لم يتكلموا بها البتة، ولا سلكها منهم أحد –إلى أن قال – بل هذه الطريقة باطلة في نفسها، ولهذا ذمها السلف وعدلوا عنها، وهذا قول أئمة السلف كابن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي يوسف، ومالك بن أنس، وابن الماجشون عبد العزيز، وغير هؤلاء من السلف، وحفص الفرد لما ناظر الشافعي وقال القرآن مخلوق وكفّره الشافعي كان ناظره بهذه الطريقة، وكذلك أبو عيسى محمد بن عيسى بن برغوث كان من المناظرين للإمام أحمد بن حنبل في مسألة القرآن بهذه الطريقة –إلى أن قال –وكلام السلف في الرد على هؤلاء كثير، وقال لهم الناس: إن هذا الأصل الذي ادعيتم إثبات الصانع به وأنه لا يعرف أنه خالق المخلوقات إلا به، هو بعكس ما قلتم، بل هذا
__________
(1) انظر تفصيل هذا الكلام في: (المنهاج) 1/148-420، (الدرء) 1/301-406،2/342-399.(1/26)
الأصل يناقض كون الرب خالقاً للعالم، ولا يمكن مع القول به القول بحدوث العالم ولا الرد على الفلاسفة، فالمتكلمون الذين ابتدعوه وزعموا أنهم به نصروا الإسلام وردوا به على أعدائه كالفلاسفة، لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل كان ما ابتدعوه مما أفسدوا به حقيقة الإسلام على من اتبعهم، فأفسدوا عقله ودينه واعتدوا به على من نازعهم من المسلمين، وفتحوا لعدو الإسلام باباً إلى مقصوده) اهـ (1) .
__________
(1) الفتاوى) 5/543-545، وانظر (النبوات) ص 44.(1/27)
الفصل الثاني: "مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات"
تمهيد:
تعددت مخالفات الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا التوحيد تبعاً لمخالفات الأشاعرة، فإنه إنما ينقل الاعتقادات من كتبهم الكلامية، فكان إذا أراد عرض معتقد الصحابة والسلف في الصفات عرضها بما يتوافق مع عقيدة المفوّضة - وهو نفس فهم الأشاعرة لمعتقد السلف -، ويبني أحكامه في الصفات تبعاً لألفاظٍ مجملة، وإذا تكلم عن بعض الصفات أوّلها كتأويلات الأشاعرة والمبتدعة، وإذا تعرض للخلاف بين المذهبين - يعني مذهب السلف ومذهب الخلف في الصفات - هوّن الخلاف بينهم وجعله شبيهاً بالخلافات الواقعة في الفروع، ولكثرة مخالفاته هذه فقد رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث وهي كما يلي:
المبحث الأول: في عقيدة التفويض:
المبحث الثاني: اتباعه للألفاظ المجملة:
المبحث الثالث: في تأويلاته لبعض الصفات:
المبحث الرابع: في تهوينه الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الخلف:
وفيما يلي ذكر هذه المباحث ومنا قشتها على وجه التفصيل:(1/29)
المبحث الأول: "في عقيدة التفويض"
يظهر جلياً واضحاً من كلام الشاطبي رحمه الله تعالى عند تعرضه لمذهب السلف في نصوص الصفات ومدحه له وحثه على اتباعه أنه إنما يقصد به مذهب التفويض - تفويض المعنى والكيفية - أو مذهب (التجهيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضوان الله عليهم) وهو أن نصوص الصفات لا تعقل معانيها ولا يفهم منها شئ بل هي بمنزلة الكلام الأعجمي، لذلك جعل نصوص الصفات من قسم المتشابه الحقيقي (1)
الذي لا سبيل لنا إلى معرفة معناه والمراد منه.
وإليك نصوصه في هذا:
1-قال في (الاعتصام) 1/304،305: (وقد علم العلماء أن كل دليلٍ فيه اشتباه وإشكال فليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه، ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه فليس بدليل لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه ودالاً على غيره وإلا احتيج إلى دليل عليه) اهـ.
__________
(1) قسم الشاطبي رحمه الله تعالى المتشابه إلى قسمين:
متشابه حقيقي: وقال فيه: إنه لم يُجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولانصب - أي الشارع-دليل على المراد منه، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه.
ومتشابه إضافي: وهو الذي حصل بيانه في الشريعة ولكن الناظر قصّر في الاجتهاد فكان التشابه هنا بالنسبة لنظر المجتهد لا إلى وضع الشريعة. انظر (الموافقات) 3/315وما بعدها.(1/30)
2-وقال في (الاعتصام) 2/586: (جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما) اهـ.
3-وقال في (الاعتصام) 2/736: (ومعنى المتشابه ما أشكل معناه ولم يبين مغزاه، كان من المتشابه الحقيقي كالمجمل وما يظهر من التشبيه) اهـ.
4-وقال في (الاعتصام) 2/840-بعد كلامٍ طويلٍ-: (وهو ظاهر قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) يعني الواضح المحكم، والمتشابه المجمل، إذ لا يلزمه العلم به، ولو للزم العلم به لجعل طريقاً إلى معرفته، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق -ثم مثّل على ذلك بالصفات-) اهـ.
5-وقال في (الاعتصام) 2/850: (فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء من السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه -إلى أن قال - وقال الأوزاعي: كان مكحول والزهري يقولان: أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها، ومثله عن مالك والأوزاعي وسفيان بن سعيد -هو الثوري- وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت، نحو حديث النزول، وخلق آدم على صورته، وشبههما، وحديث مالك في السؤال عن الاستواء المشهور، وجميع ما قالوه مستمد من معنى قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..الآية، ثم قال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فإنها صريحة في المعنى الذي قررناه، فإن كل ما لم يجر على المعنى المعتاد في الفهم متشابه،(1/31)
فالوقوف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اهـ.
6- وقال في (الموافقات) 3/323-326 –تحت مسألة التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما يقع في الفروع الجزئية-: (فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع علم القرآن) اهـ.
7-وقال في (الموافقات) 3/328-في مسألة تسليط التأويل على المتشابه-: (فإن كان –أي المتشابه – من الإضافي (1) فلابد منه –إلى أن قال –وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله ... وأيضاً فإن السلف الصالح والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين تأويلٍ من غير دليل وهم الأسوة والقدوة) اهـ (2) .
8-وقال في (الموافقات) 4/137: (إن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه –إلى أن قال –ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) ، وفي الحديث (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) وأشباه ذلك هذا معنى لا يتعلق به تكليف) اهـ.
9-وقال في (الموافقات) 3/318،319-في التشابه-: (وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف فلم يتكلموا فيه بغير التسليم
__________
(1) سبق بيان معنى المتشابه الإضافي والحقيقي في حاشية (1) ص 16.
(2) وهو يعني بهذا نصوص الصفات كما يظهر واضحاً من سياق كلامه كله فراجعه هناك.(1/32)
والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها وهو ظاهر القرآن لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها) اهـ.
10-وقال في (الموافقات) 5/143: (والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه ... ) اهـ.
قلت: والكلام على هذه النصوص من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن ما ذكره من كون نصوص الصفات من المتشابه الحقيقي الذي لايفهم منه شئ ولا يعقل له معنى وأن الصحابة والسلف كانوا لا يخوضون في معانيها وهم جاهلون بهذه المعاني هي عقيدة المفوّضة وهي عقيدة الأشاعرة إذا أحالوا لمذهب السلف، وهو المراد بقولهم (مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم) فمقصودهم بمذهب السلف هنا هو نفس ما ذهب إليه الشاطبي وهو الإيمان بهذه النصوص مع الجهل بمعانيها وجعل نصوص الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يعقل، ونصوص الأشاعرة في هذا كثيرة، فمن ذلك ما ذكره الرازي في كتابه (أساس التقديس) (1) حيث عقد فصولاً في آخر كتابه هذا مقرراً فيه لعقيدة السلف فقال (2) : (الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف، حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها أن مراد الله منها شئ غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها) ، وقال
__________
(1) وقد نقضه شيخ الإسلام في كتابٍ ضخم طُبِع بعضه وفيه خروم وسقط بعنوان (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) .
(2) أساس التقديس) ص 336.(1/33)
الغزالي (1) : (وقد يطلق –أي المتشابه- على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله) (2) .
الوجه الثاني: أن هذا المذهب من أفسد المذاهب وأبعدها عن مذهب السلف، إذ فيه تجهيل لخير الأمة وأنهم كانوا يقرأون ما لا يفهمون معناه، بل إن فيه رمي للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجهل في أعظم أصول الدين وهو معرفة الله سبحانه وما يستحقه من أوصاف الكمال، فإن حقيقة هذا المذهب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ آيات الصفات ولا يفهم معناها، بل ويتكلم بأحاديث الصفات كالنزول والفرح والغضب والقدم والساق والوجه واليدين وبمقتضى كلامهم فهو لا يفهم معنى ما يتكلم به!! بل إن فيه قدح في الله سبحانه وتعالى، فإنه أنزل علينا كتابه وأمرنا بتدبره فقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا) وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها) وقال تعالى: (كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) وقال تعالى: (أفلم يدّبروا القول) وغيرها، فيلزم من كلامهم أنه أمرنا بتدبر القرآن ثم جعل أعظم أصول الدين وهو معرفة الله سبحانه بصفات الكمال طلاسم لا نعقل منها شيئاً بمنزلة أصوات البهائم ورطانة الأعاجم ونحوها وكفى بهذا دليلاً على إبطال هذا المذهب، وقد كان السلف يقرأون القرآن ويعقلون هذه المعاني كما قال أبو عبد الرحمن السلمي قال: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا
__________
(1) المستصفى) 1/203.
(2) وانظر –مثلاً- كلام الشهرستاني في (الملل والنحل) ص 104،105،وكلام السيوطي في (الإتقان) 2/10.(1/34)
إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً) وقال مجاهد: (عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عنها) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى–في أصناف المنحرفين عن مذهب السلف -: (1)
(
وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معاني الآيات ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك، وكذلك قولهم في أحاديث الصفات إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم بها ابتداءً فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(والصنف الثالث: أصحاب التجهيل: الذين قالوا نصوص الصفات ألفاظ لا نعقل معانيها ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرأها ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهي عندنا بمنزلة (كهيعص) و (حم عسق) و (المص) فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيها تمثيلاً ولا تشبيهاً ولم نعرف معناه وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله، وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله:
__________
(1) الفتاوى) 5/34.
(2) الصواعق المرسلة) 2/422.(1/35)
(لما خلقت بيديّ) وقوله: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وقوله: (الرحمن على العرش استوى) وأمثال ذلك من نصوص الصفات، وبنوا هذا المذهب على أصلين:
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه.
والثاني: أن للمتشابه تأويلاً لا يعلمه إلا الله.
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأنهم كانوا يقرأون (الرحمن على العرش استوى) و (بل يداه مبسوطتان) ويروون (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به، ولازم قولهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا: تجرى على ظواهرها وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله، فكيف يثبتون لها تأويلاً ويقولون تجرى على ظواهرها، ويقولون الظاهر منها غير مراد، والرب منفرد بعلم تأويلها؟ وهل في التناقض أقبح من هذا؟ .
وهؤلاء غلطوا في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فأخطئوا في المقدمات الثلاث، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين، وسدوا على نفوسهم الباب، وقالوا لا نرضى بالخطأ ولا وصول لنا إلى الصواب، فهؤلاء تركوا المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبدوا بالألفاظ(1/36)
المجردة التي أنزلت في ذلك، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها) اهـ. (1)
الوجه الثالث: أن مذهب السلف إنما هو تفويض الكيفية دون المعنى، بمعنى أنهم يفهمون آيات الصفات وأحاديثها ويدركون معناها، فيعلمون معنى الاستواء والنزول والفوقية والوجه والعين والقدم ونحوها، ويفرقون بينها فيعلمون أن معنى الوجه غير معنى العين وأن معنى العين غير معنى النزول وهكذا، ولكنهم يفوضون كيفية هذه الصفات إلى الله فلا يعلمونها، وهذا كما ثبت عن الأوزاعي وسفيان ومالك والليث بن سعد وغيرهم من السلف أنهم كانوا في نصوص الصفات: (أمروها كما جاءت بلا كيف) (2) فهنا التفويض في الكيف لا في المعنى، وكما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك لمن سأل عن الاستواء: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول) (3) فذكر هنا أن معنى الاستواء غير مجهول بل هو معلوم، وإنما المجهول هو الكيف.
وقد قرّر علماء السنة هذا الأمر في كل زمانٍ ومكانٍ، فقد قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى في رده على بشر المريسي (4) : (أما قولك إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ، فإنا لا نقول إنه خطأ بل هو عندنا كفر، ونحن لتكييفها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد
__________
(1) وانظر (العلم الشامخ) للمقبلي ص 395.
(2) انظر (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) للصابوني ص 49، (الشريعة) للآجري 3/1146.
(3) انظر (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) لللالكائي 3/398، (عقيدة السلف) للصابوني ص16.
(4) رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) ص22،23.(1/37)
أنفاً منكم، غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذب بها ولا نبطلها بتأويل الضلال –إلى أن قال- فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم ولا نفسرها كتفسيركم) اهـ.
وقال شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي –رحمه الله تعالى-في كتابه (الفصول في الأصول) (1) : (-بعد أن ذكر نصوص الصفات- إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا، اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولا نتأولها وعلى العقول لا نحملها وبصفات الخلق لا نشبهها ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها ولا نزيد عليها ولا ننقص منها بل نؤمن بها، ونكل علمها إلى عالمها (2) كما فعل السلف الصالح وهم القدوة في كل علم) اهـ.
وكما قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى (3) : (- في الكلام على حديث النزول- فلما صح خبر النزول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ماقاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعتقدوا فيه تشبيهاً له بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته إذ لاسبيل إليها بحال) اهـ.
وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (4) : (- تعليقاً على كلام مالك في الاستواء- وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته، ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب فنعلم معنى الاستواء ولا نعلم كيفيته، ونعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته،
__________
(1) نقله عنه شيخ الإسلام في (الفتاوى) 4/175-185.
(2) يعني به –رحمه الله تعالى- العلم بالكيفية كما يظهر من سياق كلامه.
(3) عقيدة السلف وأصحاب الحديث) للصابوني ص 42.
(4) الفتاوى) 5/365.(1/38)
ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة ولا نعلم كيفية ذلك، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك) اهـ.
وكما قال الذهبي رحمه الله تعالى (1) : (-تعليقاً على كلام مالك رحمه في الاستواء- وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً أن الله جل جلاله لا مثيل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً) اهـ.
وكلام الأئمة في هذا الباب كثير وكله متفق على العلم بمعنى الصفة والجهل بكيفيتها وأن هذا هو تفويض السلف، لا كما يزعم المبتدعة أن السلف كانوا يؤمنون بألفاظٍ لا يعلمون معانيها والله تعالى أعلم.
__________
(1) مختصر العلو) ص 141.(1/39)
المبحث الثاني: "اتباعه للألفاظ المجملة"
يذكر الشاطبي رحمه الله تعالى عند كلامه على نصوص الصفات ألفاظاً مجملة ثم يبني عليها أحكاماً تتفق مع بدع الأشعرية، وأكثر هذه الألفاظ ذكراً عنده لفظ (الظاهر) ولفظ (التشبيه) (1) ، وإليك نصوصه في هذا:
1-قال في (الموافقات) 4/223: (كما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله تعالى: (تجري بأعيننا) (مما عملت أيدينا) (وهو السميع البصير) (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا) .
2-وقال في (الموافقات) 4/10-تحت قاعدة إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان-: (كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كلياً عاماً ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمرٍ خاصٍ يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة) اهـ.
3-وقال في (الموافقات) 5/216- تحت مسألة من الخلاف ما يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وذكر من أسبابه-: (التاسع: أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجهٍ يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في
__________
(1) هناك أيضاً لفظ (الجهة) وهو مذكور في المبحث الثالث عند الكلام على صفة العلو.(1/40)
المعنى المراد، وكثيراً ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه) اهـ.
4- وقال في (الاعتصام) 1/306: (إن المشابه للمخلوق في وجهٍ ما مخلوق مثله) اهـ.
5- وسبق ذكر قوله – في المبحث السابق – (كظهور تشبيه) (1) و (الموهمة للتشبيه) (2) وغيرها.
قلت: والكلام على هذا من وجهين:
الوجه الأول:وهو في الكلام عن لفظ (الظاهر) ، فإنه لفظٌ مجمل إذ قد يراد به المعنى الظاهر المعروف من الصفة –على ما يليق بالله عز وجل -، وقد يراد به الظاهر المشاهد من صفات المخلوقين، فهذا اللفظ يحتمل المعنيين، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون المعنى الثاني ظاهراً ولا يرتضون أن يكون النصوص كفراً وباطلاً، والله سبحانه أعلم وأحكم من أن يجعل كلامه لا يظهر منه إلا ماهو كفرٌ وضلال، وأما المعنى الأول فهو الحق، والشاطبي إن كان يريد المعنى الأول فهو حق ولا يوهم تشبيهاً لأنه يثبت معناه على ما يليق به سبحانه، وإن كان يريد الثاني فهو باطل ولا يقتضي إثبات الصفات ذلك، بل يلزمه أن ينفي جميع الصفات بل والأسماء أيضاً لأن ظواهرها واحدة،فإن قد كان نفى بعض الصفات لأن ظواهرها موهمة للتشبيه فلينف الباقي لأنها من بابةٍ واحدة، وإن ادعى أن ما أثبته من صفات على ما يليق بالله ولا تقتضي تشبيهاً فكذلك باقي الصفات، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (3) : (
وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر
__________
(1) الاعتصام) 1/305،2/736.
(2) الموافقات) 3/325،5/143.
(3) التدمرية) ص76-77،وانظر كلاماً جميلاً في هذا الباب في (إيثار الحق على الخلق) ص138..(1/41)
النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شئ عليم، وأنه على كل شئ قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير، كذلك إذا قالوا في قوله: (يحبهم ويحبونه) (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وقوله (ثم استوى على العرش) إنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق ولا حباً كحبه ولا رضا كرضاه، فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيئاً من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفى به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحداً) اهـ.
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى (1) -بعد كلامٍ طويلٍ-: (وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معانٍ قبيحةٍ غير لائقة، والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك، وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر الكتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو عدم معرفة مدعيها، ولأجل هذه البلية العظمى والطامة الكبرى زعم كثير من النظار الذين عندهم
__________
(1) أضواء البيان) 7/443.(1/42)
فهم أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه –ثم قال – وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه، ولا بد أن نتساءل هنا فنقول: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى، وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال: إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة خلقه؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا، فبأي وجهٍ يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفةٍ من صفات الله أثنى بها على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال أيضاً (1) : (
الأمر الثالث: في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات كالاستواء واليد مثلاً: اعلم أولاً أنه غلط خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً لأن اعتقاد ظاهره كفر (2)
لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة
__________
(1) أضواء البيان) 2/319..
(2) وقد بلغ الأمر بالمبتدعة ما هو أعظم من ذلك، حيث قال الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: (الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر) – تعالى الله عما يقول علواً كبيراً- وقد رد عليه أحمد بن حجر آل بوطامي في كتاب (تنزيه السنة والقرآن من أن يكونا من أصول الضلال والكفران) ..(1/43)
معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قيل له: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه ما لا يليق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كتم أن ذلك الظاهر المتبادر منه كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتابٍ أو سنةٍ، سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شئ من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شئ من صفات الحوادث، فمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة تلك الصفة الموصوف بها الخالق وبين شئ من صفات المحدثين) اهـ.
الوجه الثاني: وهو في الكلام على لفظ (الشبه) ، فنفي المشابهة أيضاً لفظٌ مجمل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً:
أما الحق الذي يحتمله فهو أن يكون بمعنى مشابهة الخلق وهو مرادف للتمثيل، وهذا هو الذي يعنيه السلف دائماً عند ذكرهم نفي التشبيه نحو قول نعيم بن حماد رحمه الله تعالى: (من شبه الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه) (1) .
__________
(1) انظر (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) لللالكائي 3/532.(1/44)
وأما الباطل الذي قد يراد به فهو نفي المشابهة مطلقاً حتى في المعنى المشترك الكلي للصفات كمعنى الاستواء والنزول واليد والوجه ونحوها، فإن المعنى الكلي الموجود في الذهن لهذه الصفات تشترك فيها جميع الموجودات، ولولا هذا المعنى الكلي لما عقلنا معنى الاستواء، ولا معنى النزول، ولا معنى اليد ولا معنى الوجه ولا معاني غيرها من الصفات، إذ خاطبنا الله سبحانه بما نفهمه ونعقله من المعاني، وهذا المعنى المشترك الكلي إنما يوجد في الذهن ولا يوجد في الخارج إلا مخصصاً مقيداً، فنزول الله سبحانه يليق بجلاله لا يشبه نزول المخلوق، ونزول المخلوق يليق به لا يشبه نزول الخالق، ولكنهما يشتركان في معنىً كلي موجود في الذهن منه نعقل ونعلم معنى النزول ونفهمه، ولكن هذا الاشتراك في المعنى الكلي لا يقتضي تمثيلاً ولا تكييفاً، فمن نفى هذا المعنى المشترك الكلي فقد نفى معاني الصفات وهذه عقيدة المفوضة كما سبق بيانه وتفصيل القول فيه في المبحث السابق.
والشاطبي رحمه الله تعالى من الواضح جداً أنه يريد في نفيه للتشبيه إدخال هذا المعنى الباطل بدليل تفويضه للمعنى، وقوله (إن المشابه للمخلوق في وجهٍ ما مخلوق مثله) فإن هؤلاء يجعلون الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الذهن تشابهاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) : (إن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وماءاً وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا
__________
(1) التدمرية) ص 97.(1/45)
لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته، فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته، والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم تعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد) وقال رحمه الله تعالى (1) : (وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال) (2) اهـ.
__________
(1) التدمرية) ص 42.
(2) ولهذا الأمر ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مناظرة الواسطية (الفتاوى) 3/166أنه ذكر في (الواسطية) نفي التمثيل ولم يذكر نفي التشبيه، لأن نفي التمثيل هو الوارد في النصوص دون نفي التشبيه، ولأن التشبيه قد يعنى بنفيه معنى صحيح، وقد يعنى به معنى فاسد.(1/46)
المبحث الثالث: "في تأويلاته لبعض الصفات"
وقع الشاطبي رحمه الله تعالى في تحريفات لبعض الصفات، وذلك لأنه يستقي معتقده -كما سبق بيانه-من كتب الأشاعرة وأهل الكلام ويحيل عليها في مواضع كثيرة (1) ، وفي هذا المبحث سوف أذكر الصفات التي حرفها عن موضعها وهي كما يلي:
أولاً: صفة العلو:
1-قال في (الاعتصام) 1/305-بعد كلام-: (ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية (2) في إثبات الجوارح للرب -المنزه عن النقائص - من العين، واليد، والرجل، والوجه، والمحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات) (3) .
2- وقال في (الاعتصام) 2/707: (لا يشك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة) .
3-وقال في (الموافقات) 4/154- تحت مسألة مالا بد من معرفته لمن أراد علم القرآن-: (ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علوم القرآن منه، وإلا وقع في الشُبه والإشكالات التي يتعذر
__________
(1) انظر مثلاً (الموافقات) 1/27،40،2/9،4/13.
(2) سبق الكلام على لفظ (الظاهر) في ص21.
(3) الشاهد هنا هو كلامه في الجهة، أما الصفات الأخرى فهي مذكورة في ص 49.(1/47)
الخروج منها إلا بهذه المعرفة - ثم ذكر أمثلةً على ذلك ومنها قوله-:
والثالث: قوله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم) (ءأمنتم من في السماء) وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة) .
والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن مذهب الشاطبي - كما يتبين من مجموع النصوص السابقة- يدل على نفيه للعلو، ونفي العلو إنما ذهب إليه متأخرو الأشاعرة بعد أن غلب عليهم التجهم والاعتزال، وإلا فالأشعري نفسه كان يثبت صفة العلو (1) ، والباقلاني شيخ الأشاعرة كان يثبتها أيضاً (2) ، وابن كلاب الذي اقتفى الأشعري ومتقدمو الأشاعرة أثره كان يثبتها أيضاً (3) ، بل إن الجهمية الأوائل والمعتزلة الذين امتحنوا الأئمة بخلق القرآن كانوا لا يجرءون على التصريح بهذه العقيدة وإنما يلمحون إليها، كما قال حماد بن زيد وعباد بن العوام ووهب بن جرير وأبو بكر بن عياش وغيرهم رحمهم الله تعالى: (إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شئ (4) .
__________
(1) انظر (الإبانة عن أصول الديانة) ص 69، (المقالات) ص 290، (رسالة الثغر) ص 71 وكلها للأشعري.
(2) انظر (الإنصاف) للباقلاني ص 22.
(3) انظر (درء التعارض) 6/193-194.
(4) انظر (السنة) لعبد الله بن أحمد 1/117-118،127،و (السنة) للخلال 5/91،113،123، (اجتماع الجيوش) ص 137.(1/48)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) -مخاطباً الأشاعرة-: (ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى (2) لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم) اهـ.
وقال ابن رشد الفيلسوف في كتابه (مناهج الأدلة) : (القول في الجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة) (3) اهـ.
الوجه الثاني: أن في الكتاب والسنة من الأدلة على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى ما يفوق الألف دليل (4) ، فآيات الفوقية والاستواء والصعود والعروج إليه وأنه في السماء وأنه العلي والأعلى وغيرها، وأحاديث المعراج والعرش والنزول والرؤية ورفع اليدين والإشارة بالإصبع وأنه في السماء وغيرها كلها تدل على العلو (5) ، فكل هذه النصوص والأدلة - مع أدلة العقل والفطرة - تفيد
__________
(1) الفتاوى الكبرى) 6/630.
(2) هكذا في الكبرى، ولعله (شر من كثير من كلام اليهود والنصارى) .
(3) عن (الصواعق المرسلة) 2/404.
(4) انظر (الفتاوى) 5/226، (الجواب الصحيح) 3/86، (مختصر الصواعق) ص 205، (شرح العقيدة الطحاوية) ص 380.
(5) وقد صُنف في هذه المسألة مصنفات مثل (إثبات صفة العلو) لأبي محمد بن قدامة المقدسي، و (اجتماع الجيوش الإسلامية) لابن القيم، و (العلو للعلي الغفار) للحافظ الذهبي رحم الله الجميع.(1/49)
العلم القاطع الضروري حتى على أصول المبتدعة الذين يجحدون إفادة خبر الآحاد المحتف بالقرائن للعلم، وقد قال الشاطبي نفسه (1) -عن اجتماع الأدلة وإفادتها للقطع-: (وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع) .
وإذا جاز تأويل هذه النصوص على خلاف ظاهرها - كما ذهب إليه الشاطبي - لم يعد هناك ثقة بالأدلة الشرعية، وهذا ما جعل الباطنية يتأولون نصوص الأحكام كالصلوات والزكاة والصيام والحج وغيرها ويحتجون على هؤلاء بتأويلاتهم لنصوص الصفات، وهو ما جعل الفلاسفة يتأولون نصوص المعاد والجنة والنار ويحتجون على هؤلاء بتأويلاتهم لنصوص الصفات، كما قال ابن رشد الحفيد - وهو من كبار الفلاسفة الباطنية-حين ذكر نصوص إثبات العلو في كتابه (مناهج الأدلة) : (إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهاً، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة ... وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع في ذلك) (2) .
وقد ألف ابن سينا (الرسالة الأضحوية) في إنكار المعاد وتأويل النصوص الواردة في ذلك، واحتج على صحة ما ذهب إليه بما ذهب إليه هؤلاء في نفيهم
__________
(1) الموافقات) 1/28.
(2) عن (الصواعق المرسلة) 2/404.(1/50)
للصفات وتأويلاتهم لنصوصها، فقال: (فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقرباً ما لا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب؟! -يعني أمور المعاد-) (1) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) : (إن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح فيما دل عليه القرآن من خلق السماوات والأرض، ومن نعيم الجنة والنار، ولا ريب أن دلالة القرآن على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر ومسألة منكر ونكير، وأعظم دلالة على أن محمداً خاتم الأنبياء وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة، وأعظم دلالة من تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (وكذلك سطا على تأويل المعاد قوم وقالوا: فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات، بل نحن أعذر، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ساغ لكم تأويلها، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟ .
وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر والنهي وقالوا: فعلنا فيها
__________
(1) عن (درء التعارض) 5/17.
(2) درء التعارض) 7/127.
(3) مدارج السالكين) 3/353،وانظر كلاماً لابن الوزير في إلزام الباطنية لمن تأول الصفات (إيثار الحق على الخلق) ص136.(1/51)
كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها وتنوعها، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية) اهـ.
لذا اشتد إنكار السلف لما ظهرت مقولة إنكار العلو، فقد روى الحاكم في (معرفة علوم الحديث) (1) قال: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: (من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر به، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وأُلقي على بعض المزابل حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال - صلى الله عليه وسلم -) (2) اهـ.
الوجه الثالث: أن قوله (فلا يكون فيه على إثبات جهة البتة) وقوله (ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة) وقوله (والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات) يفيد إنكار العلو، وقد سبق الإجابة على ذلك في الوجوه السابقة، والمقصود هنا الكلام على قوله (جهة) ، فإن هذا اللفظ مجمل لا يثبت ولا ينفى، فإن ما يوصف به الله سبحانه توقيفي طريقه الكتاب والسنة، فما أثبتته النصوص أثبتناه، وما نفته نفيناه، وما لم يرد نفيه ولا إثباته لم نثبته ولم ننفه، بل نستفصل عن المراد به، فإن كان حقاً قبلناه، وإن كان باطلاً رددناه، مع توقفنا في نفس اللفظ فلا يثبت ولا ينفى، ومن هذه الألفاظ لفظ (الجهة) فإنه لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، لذلك لا يطلق نفيه ولا إثباته ولكن يستفصل عن مراد قائله، فإن أراد به أن الله سبحانه في جهة مخلوقة تحويه فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل من أن
__________
(1) ص84.
(2) صحح شيخ الإسلام رحمه الله قول ابن خزيمة هذا في (الفتاوى) 5/52.(1/52)
تحويه جهة مخلوقة فينفى هذا المعنى عنه، وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فهذا الأمر نثبته لله سبحانه وقد دلت النصوص عليه (1) ، وكل من نفى الجهة عن الله سبحانه فإنما يريد بذلك نفي العلو والفوقية وقد سبق الرد على ذلك.
الوجه الرابع: أن قوله (إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض) منقوض بأن المشركين كانوا حال شركهم يقرون بأن الله تعالى في السماء وهو إلهٌ لهم، فقد روي من طريق شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين (أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبيه حصين: كم تعبد؟ قال: سبعة، ستاً في الأرض وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) (2) ، فهذا قبل أن يسلم كان مقراً بأن الله تعالى في السماء، ولم ينازع المشركون في ذلك كالجهمية، قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى (3) : (فحصين الخزاعي كان يومئذٍ في كفره أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام التي في الأرض المخلوقة، وقد اتفقت الكلمة بين المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي
__________
(1) انظر التفصيل في مسألة الألفاظ المجملة في (التدمرية) ص 65-68، (الفتاوى) 5/302-305، (الدرء) 5/55-59، (المنهاج) 2/321ومابعدها، (مختصر الصواعق) ص139، (شرح العقيدة الطحاوية) ص266.
(2) رواه الترمذي وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والطبراني في الكبير من هذا الطريق وشبيب فيه ضعف وسماع الحسن من عمران فيه كلام أيضاً،ورواه ابن خزيمة في التوحيد والبيهقي في الأسماء والصفات وابن قدامة في إثبات صفة العلو من طريقٍ آخر ضعيف أيضاً، وأصل الحديث صحيح رواه أحمد وابن حبان وغيرهما من طريق ربعي بن حراش عن عمران والله تعالى أعلم.
(3) رد الدارمي على المريسي) ص 24.(1/53)
الضال وأصحابه) اهـ.
وقد ورد في أشعار الجاهليين الإقرار بأن الله تعالى في السماء، كقول عنترة بن شداد العبسي:
يا عبلُ أين من المنية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها (1)
وقال أوس بن حارثة بن ثعلبة-وهو جاهلي-:
فإن تكن الأيام أبلين أعظمي وشيبن رأسي والمشيب مع العمر
فإن لنا رباً علا (2) فوق عرشه عليماً بما نأتي من الخير والشر (3)
وكقول أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
وقوله أيضاً:
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فردٌ موحد (4)
فالقرآن لما نزل بإثبات الفوقية لله سبحانه كان مقرّراً أصلاً لما عليه العقول والفِطر ولما عليه اعتقاد المشركين أيضاً، فإنهم لم يكونوا ينازعون في ذلك حتى يكون إثبات العلو قد جاء لينفي ما عليه اعتقادهم من أن الآلهة في الأرض.
الوجه الخامس: أن قوله (فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة) لو قلنا بتسليم ذلك - جدلاً- فإنما يكون هذا لو أن العلو لم يثبت إلا بالأدلة السمعية فقط، كيف وقد دل العقل ودلت الفطرة الصحيحة عليه؟ كما قال عثمان
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية) ص 322.
(2) في الأصل (عليٌ) وهو خطأ نحوي لوجوب نصبه، وخطأ عروضي لانكسار البيت معه.
(3) الرد على من أنكر الحرف والصوت) للسجزي ص130.
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية) ص 218، (إثبات صفة العلو) لابن قدامة ص 147.(1/54)
الدارمي رحمه الله تعالى: (حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك - أي بالعلو - إذا حزب الصبي شئ يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحدٍ بالله وبمكانه أعلم من الجهمية) (1) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) : (وأما كونه عالياُ على مخلوقاته بائناً منهم فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم) اهـ.
كما في الحكاية المشهورة أيضاً عن أبي جعفر الهمداني وأبي المعالي الجويني حين قال أبو المعالي على المنبر: كان الله ولا عرش -يريد به نفي العلو والاستواء-، فقال الهمداني: يا أستاذ دعنا من ذكر العرش - يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع- أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارفٌ قط (يا الله) إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا؟ قالوا: فلطم الجويني على رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، ونزل (3) .
ثانياً: الاستواء:
1-قال في (الاعتصام) 2/787: (بدعة الظاهرية (4) فإنها تجارت بقومٍ حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى (على العرش استوى) : قاعد، قاعد، وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه) .
2- وسبق ذكر تفويضه للاستواء في موضعين (5) عند الكلام على عقيدة
__________
(1) رد الدارمي على المريسي) ص 25.
(2) الفتاوى) 4/45، وانظر (درء التعارض) 6/209.
(3) انظر (الفتاوى) 4/44.
(4) سبق الكلام على لفظ (الظاهر) ص 21.
(5) انظر (الموافقات) 3/319، 4/137.(1/55)
التفويض (1) .
والكلام على هذا من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن معتقد أهل السنة في الاستواء سبق ذكره عند ذكر كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك فيه (2) ، وهو أن معنى الاستواء معلوم لنا ولكن الكيفية مجهولة، وقد كان نفي الاستواء علامة من علامات الجهمية يُستدل بها عليهم، كما روى عبد الله بن أحمد (3) عن يزيد ابن هارون أنه سئل: من الجهمية؟ قال: من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف ما يقر ذلك في قلوب العامة فهو جهمي.
الوجه الثاني: أن قوله (الظاهرية) إنما يعني بهم الحنابلة لأنهم يأخذون بظاهر نصوص الصفات، وقد أورد الشاطبي قصتهم هذه نقلاً عن أبي بكر بن العربي –وهو أشعري جلد عفا الله عنه- فقال (4) : (حكى ابن العربي في (العواصم) قال: أخبرني جماعة من أهل السنة – ويعني بهم الأشاعرة – بمدينة السلام أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر وحضر فيه كافة الخلق، وقرأ القارئ (الرحمن على العرش استوى) قال لي أخصهم: من أنت –يعني الحنابلة – يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد، قاعد، بأرفع صوتٍ وأبعده مدى، وثار بهم أهل السنة – يعني الأشاعرة – من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان..الخ) اهـ، ويطالب هنا أولاً بتصحيح هذه القصة فإنه نقله عن أشاعرة
__________
(1) انظر ص 15.
(2) انظر ص 19.
(3) السنة) 1/123.
(4) الاعتصام) 2/785.(1/56)
مجهولين، وابن العربي له نقولات من هذا الجنس تحتاج إلى تصحيح (1) ، والفتنة قد حصلت فعلاً في بغداد بين القشيري وأتباعه من الأشعرية وبين أتباع أبي يعلى من الحنابلة، ولكن الحق كان مع الحنابلة في ذلك في الجملة، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) : (وأكثر الحق فيها – أي في هذه الفتنة – كان مع الفرائية-يعني أتباع أبي يعلى بن الفراء- مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل) اهـ.
الوجه الثالث: في الكلام على وصف الله سبحانه بالقعود والجلوس، فهل يوصف بهما؟.
فقد ورد من حديث عبد الله بن خليفة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال (إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد) وروي مرفوعاً بألفاظٍ أخرى (3) .
__________
(1) مثل نقله في (العواصم) أيضاً أن أبا يعلى الحنبلي كان يقول إذا ذكر الله تعالى وصفاته: ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة اهـ قال شيخ الإسلام (درء التعارض) 5/238: (وهذا كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر، وهو من الكذب عليه) .
(2) الفتاوى) 6/54.
(3) الحديث هذا مداره على عبد الله بن خليفة الهمداني الكوفي وقد روى عنه أبو إسحاق السبيعي وابنه يونس كما في (الجرح والتعديل) 5/44، وسكت عنه فلم يذكر جرحاً ولا تعديلاً، وذكره البخاري في تاريخه الكبير5/80وسكت عنه أيضاً، ووثقه ابن حبان (الثقات) 5/28، ومثل هذا الراوي – وهو من طبقة التابعين – وروى عنه أكثر من واحد ووثقه ابن حبان ولم يجرحه أحد ولم يأت بما ينكر –فالقعود والأطيط ورد من روايات غيره – فمثله يصحح حديثه كثير من الأئمة لهذا قال الدشتي في كتابه (إثبات الحد لله عز وجل وأنه قاعد وجالس على عرشه) ورقة 34: (وقد أخرج هذا الحديث عامة العلماء من أئمة المسلمين في كتبهم التي قصدوا بها نقل الأخبار الصحيحة وتكلموا على توثقة رجاله وتصحيح طريقه، وممن رواه الإمام أحمد بن حنبل،وأبو بكر الخلال، وصاحبه أبو بكر عبد العزيز،وأبو عبد الله بن بطة، وقد رواه أبو محمد الخلال في كتاب (الصفات) له، ورواه أبو الحسن الدارقطني في كتاب (الصفات) ، وقد أخرجه شيخنا أبو عبد الله المقدسي في كتاب المسند الصحيح –يعني به الضياء المقدسي في كتابه (المختارة) - ورواه غيرهم من الأئمة والحفاظ) اهـ.
وقد رواه عبد الله بن أحمد في (السنة) 1/301، وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (الفتاوى) 16/434: (وقد رواه أبو عبد الله محمد ابن عبد الواحد المقدسي في (مختاره) ، وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه كأبي بكر الإسماعيلي وابن الجوزي وغيرهم، لكن أكثر أهل السنة قبلوه) .(1/57)
وقال عبد الله بن أحمد (1) : (سئل أبي عما روي في الكرسي وجلوس الرب عليه جل ثناؤه، رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث) وروى عبد الله أيضاً قال (2) : حدثني أبي ثنا وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر (إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي) فاقشعر رجل سماه –أي عند وكيع- فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها اهـ.
وقد روي عن عبد الله بن مسعود والحسن وعكرمة تفسير الاستواء بالجلوس-وفيها ضعف- (3) ولكن ثبت عن بعض السلف تفسيره بذلك (4) ، وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (5) : (وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن، فما جاء في الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب (6) وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
__________
(1) السنة) 1/300،و (إثبات الحد) للدشتي ورقة 38.
(2) السنة) 1/302
(3) رواه الدشتي في كتابه (إثبات الحد) ورقة 40وجادة بإسنادٍ ضعيف منقطع.
(4) انظر (السنة) لعبد الله بن أحمد 1/105،و (السنة) للخلال 5/89،و (إثبات الحد) للدشتي ورقة 43.
(5) الفتاوى) 5/527.
(6) رواه الضياء في المختارة –وعنه الدشتي في (إثبات الحد) ورقة 41-من طريق مكي بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر عن جعفر به، وقال: هذا حديث غريب من حديث سفيان بن عيينة لا أعلم رواه غير مكي بن عبد الله اهـ قلت: ومكي ضعيف، ضعفه العقيلي وغيره.(1/58)
وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد) اهـ.
فالحاصل أن صفة القعود والجلوس كان السلف يذكرونها ولا ينكرونها لأن هذا سبيل الصفات كلها فإنها تثبت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
ثالثاً: صفة الكلام:
1-قال في (الاعتصام) 1/307: (وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناءً على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأصول) .
2-وقال في (الاعتصام) 2/843،844: (كلام الباري إنما نفاه من نفاه وقوفاً مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجاً عن مشابهة المعتاد على وجهٍ صحيحٍ لائقٍ بالرب، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلاً، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجرداً) .
3- وقال في (الموافقات) 2/482 -في التمثيل على الخوارق التي لا تسوغ لمخالفتها لأحكام الشريعة إذا عُرِضت عليها-: (أو يسمع نداءً يحس فيه بالصوت والحرف وهو يقول أنا ربك) .
4- وقال في (الموافقات) 4/274: (إن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجهٍ ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام) .
والكلام عل هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن القول بأن كلام الله سبحانه معنى نفسي وهو واحد لا(1/59)
تعدد فيه وليس بحرفٍ ولا صوت قول محدث مبتدع في الإسلام لم يعرف إلا في القرن الثالث وأول من قاله ابن كُلاّب وتبعه على ذلك الأشعري والأشاعرة وهو مما اختص به الأشاعرة والكلاّبية دون بقية المبتدعة (1) .
ومن قولهم في ذلك: إن كلام الله معنى واحد هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً (2) ، وأن معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين إلى غير هذا من العجائب (3) .
وجميع العقلاء يقولون بأن فساد هذا الكلام معلوم بالضرورة (4) ، لذلك فالأشاعرة يقولون بأن الألفاظ والحروف التي بين أيدينا-في المصحف- مخلوقة -وهو نفس كلام المعتزلة- وقد اعترف علماؤهم بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي، كما قال الرازي في (المحصل) : (فالحاصل أن الذي ذهبوا إليه -يعني المعتزلة - فنحن لا ننازعهم فيه) وقال: (واعلم أننا لا ننازعهم في المعنى) (5) ،
__________
(1) انظر (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص81،109،و (الفتاوى) 5/463،533،553، (الفتاوى الكبرى) 6/499، (مختصر الصواعق) ص 502.
(2) هذا بناءً على إن لسان المسيح عليه السلام سرياني، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذا غلط بل لسانه عبراني كما في (الجواب الصحيح) 1/38،214،2/18.
(3) انظر في عقيدتهم هذه (التمهيد) للباقلاني ص138، (الإرشاد) للجويني ص 109وما بعدها، (نهاية الأقدام) للشهرستاني ص 268وما بعدها، (الأربعين) للرازي1/244وما بعدها، (المحصل) للرازي أيضاً ص 173وما بعدها.
(4) انظر (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص113، (حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدع) لابن قدامة ص 20وما بعدها.
(5) انظر (المحصل) ص 172،173،و (درء التعارض) 7/237، و (الفتاوى الكبرى) 6/495.(1/60)
ولهذا قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى (1) : (ومدار القوم –يعني الأشاعرة - على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة، ولكنهم أحبوا أن لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان، وجحد الحقائق، ومخالفة الإجماع، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم، والقول بشئ لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر، ومن العجب أنهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) -مخاطباً الأشاعرة-: (وكذلك قولكم في القرآن، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم من الذين قالوا القرآن مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك.
وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه.
ذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله، وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع
__________
(1) حكاية المناظرة في القرآن) ص 34،وانظر (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص137،181.
(2) الفتاوى الكبرى) 6/632.(1/61)
الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل، وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء.
وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كُلاّب، أو عبارة عنه كما قاله الأشعري.
ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام ... لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله – كما يقوله سائر المسلمين- وأنتم جعلتموه كلاماً مجازاً ... إلى أن قال: فالمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون لأن حروف القرآن ليس هو عندكم كلام الله، بل ذلك مخلوق إما في الهواء وإما في نفس جبريل وإما في غير ذلك، فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق، لكن قالوا هم: ذلك كلام الله، وقلتم أنتم: ليس كلام الله..فصارت المعتزلة خير منكم في هذا الموضع، إلى أن قال: ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحداً مفرداً هو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به، وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح العقول) (1) .
__________
(1) راجع (الفتاوى الكبرى) 6/632-639، وانظر في إبطال شيخ الإسلام لمذهب الأشاعرة هذا (الكبرى) 6/492-584.(1/62)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (فتأمل الأخوّة التي بين هؤلاء – يعني الأشاعرة- وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل، فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه وهو كلام الله وإنه مخلوق) اهـ.
الوجه الثاني:أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه يتكلم بصوت، وأن القرآن كلام الله تعالى ألفاظه ومعانيه.
وقد ثبت أن الله سبحانه يتكلم بصوت، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت:إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان) وفي رواية لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان) ، وثبت عن الصحابة ومن بعدهم إثبات الصوت لله سبحانه. (2)
قال عبد الله بن أحمد (3) : (سألت أبي رحمه الله عن قومٍ يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت، قال أبي: بلى، إن ربك عز وجل تكلم
__________
(1) مختصر الصواعق) ص 500.
(2) انظر (تفسير الطبري) 10/372، (خلق أفعال العباد) ص 99 وما بعدها، (التوحيد) لابن خزيمة 1/350ومابعدها، (مختصر الصواعق) 465-471.
(3) السنة) 2/280.(1/63)
بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي رحمه الله:حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان) قال أبي: وهذا الجهمية تنكره) .
وقال البخاري رحمه الله تعالى (1) : (وأن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل، وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته) اهـ.
والله سبحانه تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه، وقد ورد إثبات الحروف للقرآن مرفوعاً، فقد روى الترمذي وصححه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، قال أبو نصر السجزي رخمه الله تعالى (2) : (فقول خصومنا إن أحداً لم يقل إن القرآن كلام الله حرف وصوت كذب وزور، بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك) اهـ.
وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى (3) : (وأما إثبات حروف القرآن فإن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هو سور وآيات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، فمن أقر بهذا وعلمه فقد أقر بالحروف، فلا وجه لإنكاره ولمجمجته، ومن أنكر هذا ففي القرآن أكثر من مائة آية ترد عليه، فإجماع المسلمين يكذبه وسنة
__________
(1) خلق أفعال العباد) ص137.
(2) الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص169.
(3) تحريم النظر في كتب الكلام) ص 66.(1/64)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول أصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم يكفره -إلى أن قال-مع أن لفظ الحروف قد نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخباره، وجاء عن أصحابه كثيراً وعن من بعدهم، وأجمع الناس على عد حروف القرآن وآيه وكلماته، وأجمعوا على أن من جحد حرفاً متفقاً عليه فهو كافر، فما الجحد له بعد ذلك إلا العناد) ، وقال أيضاً رحمه الله تعالى (1) -عن الحروف-: (ولم تزل هذه الأخبار، وهذه اللفظة-يعني الحروف- متداولة منقولة بين الناس، لا ينكرها منكر، ولا يختلف فيها أحد، إلى أن جاء الأشعري فأنكرها، وخالف الخلق كلهم مسلمهم وكافرهم، ولا تأثير لقوله عند أهل الحق، ولا تترك الحقائق وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة لقول الأشعري إلا من سلبه الله التوفيق، وأعمى بصيرته، وأضله عن سواء السبيل -ثم تكلم رحمه الله على إثبات الصوت والرد على الأشاعرة في ذلك-) اهـ، والله تعالى أعلم.
رابعاً: الرؤية:
قال في (الاعتصام) 2/843: (رؤية الله في الآخرة جائزة، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجهٍ صحيحةٍ ليس فيها اتصال أشعةٍ ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة، وهو إلى القصور في النظر أميل، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق) .
قلت:
وهذا مبني على مذهب متأخري الأشاعرة الذين جمعوا بين نفي العلو وإثبات الرؤية، فوافقوا أهل السنة في إثبات الرؤية، ووافقوا الجهمية في نفي
__________
(1) حكاية المناظرة في القرآن) ص40.(1/65)
العلو، فتناقضوا في إثبات الرؤية بناءً على ذلك من غير مقابلة ولا مواجهة ولا اتصال أشعة!! كما يقولون (1) ، وهو أمر انفردوا به بين المسلمين سنيهم وبدعيهم كما اعترف بذلك الرازي (2) .
ولقولهم هذا ألزمهم المعتزلة بأن ينفوا الرؤية لنفيهم العلو والمواجهة والمقابلة (3) ، وهذا الإلزام لا محيد عنه فإن العقل لا يتصور رؤية كهذه التي يثبتها الأشاعرة، فحقيقة قولهم نفي الرؤية، ولهذا فسرها الشهرستاني بالعلم (4) ، وفسرها الرازي بالكشف التام (5) ، واعترف حذاقهم بأنه لا خلاف بينهم وبين المعتزلة في هذا، وإنما الخلاف لفظي، كما قال أبو نصر السجزي رحمه الله تعالى (6) : (فهو إذا قال إنه يرى بالأبصار لم يجز في العقل أن تكون الرؤية عن غير مقابلة، وإن قال إن الرؤية لا تخص البصر عاد إلى قول المعتزلة، وصارت الرؤية في معنى العلم الضروري، وقد حكي عن بعض متأخريهم أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية هي العلم لا غير) اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (7) : (ولهذا صار الحذاق من متأخري الأشاعرة على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة
__________
(1) انظر في مذهبهم هذا (الإرشاد) للجويني ص164، (نهاية الأقدام) للشهرستاني ص356، (المحصل) للرازي ص189.
(2) المحصل) 189.
(3) انظر (شرح الأصول الخمسة) لعبد الجبار المعتزلي ص 248.
(4) نهاية الأقدام) ص 356.
(5) المحصل) ص 189.
(6) الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص 119.
(7) درء التعارض) 1/250.(1/66)
فسروها بما تفسرها به المعتزلة، وقالوا: النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي) وقال (1) : (والأشاعرة فسروا الرؤية بمزيد علم (2) لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة) اهـ.
ويكفي في إبطال هذا المذهب مخالفته للمعقول –الذي يدعون اتباعه- ومخالفته للمنقول، أما مخالفته للمعقول فقد اعترف حذاق الأشاعرة كما سبق أن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي وأنهم متفقون على إنكار الرؤية –لأن إثبات الرؤية على قولهم مستحيل-، وأما المنقول فما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث الرؤية الجامعة بين إثباتها وإثبات العلو، فمنها الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (أن ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك) وفي الصحيحين أيضاً عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: (كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا، لا تُضامُّون في رؤيته) وغيرها من الأحاديث.
وهذه الأحاديث جمعت بين إثبات الرؤية وإثبات العلو، حيث شبّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - رؤية الله سبحانه وتعالى برؤية القمر ورؤية الشمس – وقد جمعت رؤية هذين العلو والظهور- وهو تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، ورؤية هذين إنما تحدث بمعاينة ومواجهة، أما رؤية ما لا نعاين ولا نواجه فغير
__________
(1) درء التعارض) 7/237.
(2) قارن بما ذكره الشهرستاني في (نهاية الأقدام) ص356،وما ذكره الرازي في (المحصل) ص189.(1/67)
متصورة في العقل مطلقاً (1) .
خامساً: صفات (الاستهزاء) و (المكر) و (الكيد) ونحوها:
قال في (الموافقات) 2/257: (تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداءً مجازٌ معروف مثله في كلام العرب، وفي الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى (الله يستهزئ بهم) (ومكروا ومكر الله) (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) إلى أشباه ذلك) .
قلت:
وحمل هذه الصفات على المجاز تأويل لها، والصحيح في هذه الصفات إثباتها على الوجه اللائق بالله سبحانه، وكون الاستهزاء والمكر والكيد ونحوها صفات مذمومة من البشر لا يقتضي هذا نفيها عن الله سبحانه لأمرين:
الأمر الأول: أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يقاس بخلقه -كقياسات المعتزلة مشبهة الأفعال- فيجعل كل ما حسن من البشر حسن منه، وما قبح منهم قبح منه، فإن هذا لا يكون إلا للنظيرين، والله سبحانه لا نظير له، فقد يحسن منه ما لا يجوز للبشر الاتصاف به كالعظمة والكبرياء، وقد يحسن من خلقه ما ينزه عنه سبحانه كالعبودية.
الأمر الثاني:إن كون الاتصاف بهذه الصفات مذموم ليس على الإطلاق، لأن هذه الصفات ونحوها لها حالتان:
الحالة الأولى:يكون الاتصاف بها مذموماً وهو إذا ما تضمن ذلك للظلم والكذب والغش ونحوها.
__________
(1) انظر (الفتاوى) 16/85، و6/41،و8/357.(1/68)
الحالة الثانية: يكون الاتصاف بها محموداً وهو ما كان بحقٍ وعدلٍ ومجازاةٍ، فمن مكر بظلم فيحسن أن يمكر به بحقٍ وبعدلٍ.
فمثل هذه الصفات ليست كمالاً على الإطلاق، وليست نقصاً على الإطلاق، بل فيها تفصيل، ومثلها يرد إطلاقها على الله سبحانه في حالة كونها كمالاً وهي التي تكون على سبيل المقابلة، لذلك فليس من أسمائه سبحانه (المستهزئ) ولا (الماكر) ولا (الكائد) ونحوها، لأنها ليست محمودة على الإطلاق، والله سبحانه لم يصف نفسه بها إلا على وجه المقابلة والجزاء لمن فعل ذلك بغير وجه حق.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) -عن صفات المكر والخداع والكيد والاستهزاء ونحوها-: (لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيراً، فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح بخلاف أضدادها، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازاً في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيبٍ وذم.
والصواب: أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب، فما يذم منها إنما لكونه متضمناً للكذب والظلم أو لهما جميعاً، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله ... فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازاً، والحق خلاف هذا الظن، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم، فما كان منها متضمناً للكذب والظلم فهو مذموم، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود، فإن المخادع إذا خادع بباطل
__________
(1) مختصر الصواعق) 290-392.(1/69)
وظلم حسُن من المجازي له أن يخدعه بحقٍ وعدلٍ -إلى أن قال-إذا عرف ذلك فنقول: إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى -إلى أن قال- أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد عُلِم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق سبحانه؟ ، وهذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلاً (1) وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحاً، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحاً البتة، فلا يمتنع وصفه به ابتداءً لا على سبيل المقابلة على هذا التقرير، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه) اهـ.
سادساً: الحب والبغض:
1-قال في (الموافقات) 2/194: (والحب والبغض من الله سبحانه إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام فيرجعان إلى صفات الأفعال، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام فيرجعان إلى صفات الذات، لأن نفس الحب والبغض المفهومين من كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى، وهذا رأي طائفة أخرى، وعلى كلا الوجهين فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام والانتقام وهما عين الثواب والعقاب) .
2-وقال في (الموافقات) 2/195: (إنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات إما أن يستلزم الثواب والعقاب أو لا، فإن استلزم فهو المطلوب، وإن لم يستلزم فتعلق الحب والبغض إما للذات، وهو محال، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى، وهو محال،
__________
(1) وهو ما ذهب إليه الشاطبي والأشاعرة كما يأتي إن شاء الله ص 60.(1/70)
لأن الله غني عن العالمين، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشئ، بل هو الغني على الإطلاق، وذو الكمال بكل اعتبار، وإما للعبد، وهو الجزاء لا زائد يرجع إلى العبد إلا ذلك) .
3-وقال في (الموافقات) 2/202: (صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب) .
قلت: والكلام على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الكلام فيه تأويل لصفتي الحب والبغض، وهو نفس تأويل الأشاعرة فإنهم يؤولون الحب والبغض إما بالمخلوقات فيجعلون الحب هو نفس الإنعام أو الثواب، والبغض هو نفس الانتقام أو العقاب، أو بصفةٍ لازمةٍ للحب والبغض وهذه الصفة يقرون بها، فيجعلون الحب هو إرادة الإنعام، والبغض هو إرادة الانتقام، وهم يثبتون الإرادة (1) .
وهم بذلك اقتفوا أثر الجعد بن درهم –شيخ الجهمية – فإنه أول من أنكر صفة المحبة (2) ، وتبعه الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، مع أن الأشاعرة يلزمهم إثبات المحبة والبغض لأنهم يثبتون الإرادة، فإن كان إثباتهم للإرادة كما يليق بالله عز وجل فليثبتوا الحب والبغض كما يليق بالله أيضاً، فإن قالوا: إن الحب رقة وضعف في القلب، والبغض لا يكون إلا عن منافرة، والله سبحانه ينزه عن هذا، قيل لهم: والإرادة أيضاً هي ميل النفس لجلب منفعة أو دفع مضرة، والله سبحانه ينزه عن هذا فيلزمكم نفي الإرادة كما نفيتم الحب والبغض، فإن قالوا: هذه الإرادة التي تذكرون هي إرادة المخلوقين، ونحن
__________
(1) انظر (الإنصاف) للباقلاني ص 35،وانظر (التمهيد) له أيضاً ص47.
(2) انظر (الفتاوى) 6/476.(1/71)
نثبت الإرادة لله على ما يليق به فلا تشبه غيرها من الإرادات، قيل لهم: وهذا الحب الذي تقولون إنه رقة، والبغض الذي تقولون إنه لا يكون إلا عن منافرة هو أيضاً حب المخلوقين وبغضهم، فأثبتوا الحب والبغض على ما يليق بالله عز وجل، فيلزمهم فيما أثبتوه نظير ما نفوه (1) .
فإذا فهم ما سبق، تبين الجواب على الشاطبي في قوله: (إن نفس الحب والبغض المفهومين من كلام العرب محالان على الله تعالى) ، والكلام عليه من وجهين:
الأول:أن يقال له: ويلزمك أيضاً أن تقول ونفس الحياة المفهومة من كلام العرب محالة على الله تعالى، ونفس العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة وجميع الصفات المفهومة من كلام العرب محالة على الله تعالى، فإن قال: ولكننا نثبت هذه الصفات كما يليق بالله عز وجل ولا نثبتها كثبوتها للمحدثات، قيل له: ويلزمك هذا في الحب والبغض، فأثبتها كما يليق بالله عز وجل، فإن قال: ولكن الحب والبغض المفهومين من كلام العرب محالان على الله، فإن الحب رقة، والبغض عن منافرة، قيل له: والحياة المفهومة من كلام العرب هو بقاء الروح في الجسد كما في الحيوان أو النماء كما في النبات، والسمع المفهوم من كلام العرب هو التقاط الأصوات بآلةٍ كالصماخ ونحوه مع وجود الأسباب وزوال الموانع، وهكذا، فيلزمك نفي الصفات كلها إن جعلت المفهوم من كلام العرب ما نراه في الشاهد، فإن قال: ولكن هذه صفات المحدثات، ونحن نثبت الصفة لله كما يليق به على وجهٍ لا يشبه صفاتها، قيل له: والحب والبغض الذي أحلته على الله هو الثابت للمحدثات،
__________
(1) انظر (التدمرية) ص 31وما بعدها.(1/72)
فأثبت لله سبحانه الحب والبغض اللائق به كما أثبت غيره من الصفات.
الثاني: أن قوله (المفهومين من كلام العرب) مجمل، فإن كان يريد أن المفهوم من كلام العرب هو ما نراه في الشاهد من صفات المخلوقات فهذا ينزه الله تعالى عنه، ولكن ليس هذا هو المفهوم من كلام العرب، فإن الله سبحانه خاطبنا بلغة العرب ووصف نفسه بالحياة وبالعلم وبالقدرة وبغيرها، فأثبتناها على ما نفهمه من لغة العرب ولا يقتضي هذا تشبيهاً لأننا نثبتها كما يليق بالله سبحانه، وإن كان يريد أن معنى المحبة والبغض ينزه الله عنه مطلقاً فهذا باطل، فقد ثبت ذكر المحبة والبغض في الكتاب والسنة فثبتها على ما يليق بالله عز وجل.
الوجه الثاني: أن قول الشاطبي (لأن الله غني عن العالمين، تعالى أن يفتقر لغيره، أو يتكمل بشئ، بل هو الغني على الإطلاق) .
فيقال له: ما المقصود بهذا؟ .
إن كان يريد بقوله (تعالى أن يفتقر لغيره، أو يتكمل بشئ) نفي المحبة والبغض فيلزمه أن يقول هذا الكلام على باقي الصفات، فإذا كان اتصافه بالمحبة والبغض افتقاراً لغيره وتكملاً بغيره، فقل مثل هذا في ما أثبته من صفات، فإن قال:إنها من صفاته وهو بصفاته سبحانه كامل لا نقص فيه ولا افتقار، فقل مثل هذا في المحبة والبغض.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) : (قول القائل يتكمل بغيره، أيريد به شئ منفصل عنه؟ أم يريد بصفة من لوازم ذاته؟ أما الأول فممتنع، وأما الثاني فهو حق، ولوازم ذاته لا يمكن وجود ذاته بدونها كما لا يمكن وجودها
__________
(1) الفتاوى) 6/97.(1/73)
بدونه وهذا كمال بنفسه لا بشئ مباين لنفسه) .
والسبيل في هاتين الصفتين هو سبيل أهل السنة والجماعة في باقي الصفات وهو إثباتها على ما يليق بالله عز وجل، والله تعالى أعلم.
سابعاً: الدنو:
قال في (الموافقات) في موضعين:2/164 و 4/202-عن الله سبحانه-: (منزه عن مداناة العباد) .
قلت:
وقوله (منزه عن مداناة العباد) يحتمل أحد معنيين:
المعنى الأول: أن يكون أراد أن الله سبحانه منزهٌ عن الاختلاط بالمخلوقات، أو أن يحويه شئ منها، ونحو هذه المعاني فهذا حق، ولكن الخطأ في التعبير لأن لفظ (الدنو) ثابت في الأحاديث.
المعنى الثاني: أن يكون مراده نفي صفة الدنو، وأن الله سبحانه لا يدنو بنفسه، ولا يدني بعض عباده إليه فهذا باطل، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه..الحديث) وغيره من الأحاديث، فهذه الصفة من صفات الأفعال كالنزول والمجئ والإتيان ونحوها فتثبت بما يليق بالله عز وجل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) : (وأما دنوه نفسه، وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه (2) يوم
__________
(1) الفتاوى) 5/466، وانظر (مختصر الصواعق) ص 466.
(2) هكذا، ولعل الصواب: كمجيئه.(1/74)
القيامة، ونزوله واستوائه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر، وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة، وكانوا ينكرون الصفات والعلو على العرش، ثم جاء ابن كلاب فخالفهم في ذلك وأثبت الصفات والعلو على العرش، لكن وافقهم على أنه لا تقوم به الأمور الاختيارية ولهذا أحدث قوله في القرآن أنه قديم لم يتكلم به بقدرته، ولا يعرف هذا القول عن أحد من السلف، بل المتواتر عنهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته -إلى أن قال- فالذين يثبتون أنه كلم موسى بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً به هم الذين يقولون أنه يدنو ويقرب من عباده بنفسه، وأما من قال القرآن مخلوق أو قديم فأصل هؤلاء أنه لا يمكن أن يقرب من شئ ولا يدنو إليه) اهـ.
ثامناً: الحكمة:
1-قال في (الموافقات) 2/294: (وضع الشريعة إما أن يكون عبثاً أو لحكمة، فالأول باطل ... وإن كان لحكمة ومصلحة، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال، لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد) .
2-وقال في (الموافقات) 1/234: (الشرائع إنما جئ بها لمصالح العباد، فالأمر والنهي والتخيير راجعة إلى حظ المكلف، لأن الله غني عن الحظوظ، منزه عن الأغراض) .
3-وقال في (الموافقات) 1/324: (ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع(1/75)
إلى الأسباب والوسائط، ولكن وضعها للعباد ليبتليهم) .
قلت: والكلام على هذا من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنه هنا خالف الأشاعرة في الحكمة ووافق المعتزلة (1) – وهم خير من الأشاعرة في هذه المسألة- في إثبات حكمة تعود إلى العباد، ونفي أن تعود الحكمة إلى الله سبحانه، وهذا على أصول المعتزلة الذين ينفون قيام الصفات بالله سبحانه فهم يثبتون حكمة منفصلة عنه، والأقوال في مسألة إثبات الحكمة تعود في جملتها إلى ثلاثة أقوال هي:
القول الأول: قول من ينفي الحكمة مطلقاً وهو قول الجهمية والأشعرية ونحوهم.
القول الثاني: قول من يثبت حكمة تعود إلى العباد فقط، وهو قول المعتزلة –ووافقهم الشاطبي هنا-.
القول الثالث: وهو قول أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون الحكمة لله سبحانه وتعالى، وهذه الحكمة تتضمن أمرين:
الأمر الأول: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها.
الأمر الثاني: حكمة تعود إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها ويلتذون بها (2) .
والأدلة على هذا كثيرة جداً (3) ، وقد اتفق الصحابة والسلف الصالح وأئمة الدين على أن حكمته سبحانه وصفه العظيم القائم به الناشئ عنه وقوع الأشياء في أحسن
__________
(1) ولعله خالف الأشاعرة هنا لأنهم اضطربوا في هذا الموضع، ففي الاعتقاد ينفون الحكمة والتعليل مطلقاً، وفي الفقه وأصوله يثبتونها، وقد أشار الشاطبي إلى اضطرابهم هذا في (الموافقات) 2/9-13.
(2) انظر (الفتاوى) 8/35 وما بعدها، (تجريد التوحيد) للمقريزي ص 37.
(3) انظرها بالتفصيل في (شفاء العليل) لابن القيم ص319 وما بعدها.(1/76)
صنع وأكمل نظام، وإحكام أحكامه بالحكمة التي صارت بها أحسن الأحكام (1) .
الوجه الثاني: أن قوله (منزه عن الأغراض) يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أن يكون منزهاً عن أغراض المخلوقات التي نراها في الشاهد، فهذا صحيح.
الأمر الثاني: أن يراد بهذا نفي أن يفعل الله شيئاً لشئ آخر، وأن يفعل أمراً لأجل أمرٍ آخر، فهذا باطل وهو نفي للحكمة، وقد ذكر الله سبحانه في آياتٍ كثيرة إثبات الحكمة وأنه يخلق بعض المخلوقات ويفعل بعض الأشياء من أجل شئ آخر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (الأصل الخامس: أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها – ثم ذكر اثنين وعشرين نوعاً وذكر في كل نوع بعض الأدلة عليه -) اهـ.
الوجه الثالث: أما قوله (ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط) فالجواب عليه ماقاله ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (أنه سبحانه إذا كان قادراً على تحصيل ذلك بدون الوسائط وهو قادر على تحصيله بها كان فعل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة، وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه
__________
(1) انظر (مجموعة ابن سعدي) –العقيدة – ص282.
(2) شفاء العليل) ص 319-346.
(3) شفاء العليل) ص360، وانظر (الفتاوى) 8/389.(1/77)
لا يفعل إلا بأحد النوعين، والرب تعالى تتنوع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته، فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق منفصل وبدون إحداثه، بل ربما (1) يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه، فمحبوبه يحصل بهذا وبهذا، وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين) اهـ.
تاسعاً: النزول والنور:
1-قال في (الموافقات) 5/202- تحت مسألة أسباب الخلاف بين حملة الشريعة، وهي نقلاً عن غيره وأقرها -: (والثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، وجعله ثلاثة أقسام -ومنها-: ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول، و (الله نور السماوات والأرض)) .
2- وسبق ذكر تفويضه لمعنى النزول في ثلاثة مواضع (2) .
والجواب على هذا من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن النزول الإلهي ثابت لله سبحانه كما تواترت بذلك الأحاديث (3) كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) وغيره من الأحاديث، ولا يجوز حمله على المجاز (4) لأن هذا نفي
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: وبما.
(2) الاعتصام) 2/850، (الموافقات) 4/137،3/318، وانظر ص 17.
(3) انظر كتاب (النزول) للدارقطني فقد ذكر فيه روايات الصحابة وعدتهم أيضاً، وانظر (مختصر الصواعق) ص423 فقد ذكر عدتهم وبعض رواياتهم..
(4) انظر رد ابن القيم على من جعل النزول مجازاً في المثال الثامن من طاغوت المجاز في (مختصر الصواعق) ص 420.(1/78)
له، ولنفي المبتدعة له فقد أودعه الأئمة مصنفاتهم في العقائد (1) ، والحق في هذا أن نؤمن بهذه الصفة، ونفوض العلم بكيفية النزول إلى الله سبحانه وتعالى كالحال في باقي الصفات.
الوجه الثاني: أما جعل قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض) مجازاً فهو أيضاً من تحريفات المبتدعة للصفات، وإنكار (النور) إنما كان من الجهمية والمعتزلة، وتبعهم على ذلك متأخرو الأشاعرة، وإلا فابن كلاب –الذي اقتفى أثره الأشعري- والأشعري كانا يثبتانها (2) ، وقد جاءت النصوص بإثبات هذه الصفة، فقد قال الله تعالى (الله نور السماوات والأرض) وقال تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قام من الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض) ، وروى مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هل رأيت ربك) فقال (نورٌ أنى أراه) وفي لفظ (رأيت نوراً) ، وروى مسلم أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وغيرها من الأحاديث.
__________
(1) انظر (السنة) لعبد الله بن أحمد1 / 272، و (السنة) لابن أبي عاصم 1 / 223، و (الشريعة) للآجري 3 / 1124، و (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي 2 / 434، و (التوحيد) لابن خزيمة1 / 289.
(2) انظر (الفتاوى) 6/379، (مختصر الصواعق) ص 403، و (الإبانة) للأشعري ص75.(1/79)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (إن النص قد ورد بتسمية الرب نوراً، وبأن له نوراً مضافاً إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه النور، فهذه أربعة أنواع:
فالأول: يقال عليه بالإطلاق، فإنه النور الهادي.
والثاني: يضاف إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته وقدرته وعلمه ...
والثالث: وهو إضافة نوره إلى السماوات والأرض كقوله (الله نور السماوات والأرض) .
والرابع: كقوله (حجابه النور) .
فهذا النور المضاف إليه يجئ على أحد الوجوه الأربعة) (2) اهـ.
أما شبهة هؤلاء بجعل (نور السماوات والأرض) يطلق على الله مجازاً فهو ظنهم أن النور هو الواقع على الجدران المرئي في الشاهد، وقد ذكر ابن القيم هذا القول ورده من أربعة عشر وجهاً (3) ومنها قوله (4) : (أسأتم الظن بكلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث فهمتم أن حقيقة مدلوله أن نوره سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان والجدران، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره وجحده، وجمعتم بين الفهم الفاسد وإنكار المعنى الحق، وليس ما ذكرتم من النور هو نور الرب القائم به الذي هو صفته، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه، فإن هذه الأنوار المخلوقة إنما تكون في محل دون
__________
(1) مختصر الصواعق) ص 401.
(2) وانظر (الفتاوى) 6/386.
(3) مختصر الصواعق) ص 398-409.
(4) مختصر الصواعق) ص 400.(1/80)
محل..ليس هو نور جميع السماوات والأرض، فمن ادعى أن ظاهر القرآن وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نور الرب سبحانه هو هذا النور الفائض فقد كذب على الله ورسوله فلو كان لفظ النص: الله هو النور الذي تعاينونه وترونه في السماوات والأرض لكان لفهم هؤلاء وتحريفهم مستند ما، أما ولفظ النص (الله نور السماوات والأرض) فمن أين يدل هذا بوجه ما أنه النور الفائض عن جرم الشمس والقمر والنار، فإخراج نور الرب تعالى عن حقيقته وحمل لفظه على مجازه إنما استند إلى هذا الفهم الباطل الذي لم يدل عليه اللفظ بوجه) اهـ.
الوجه الثالث: أننا لو سلمنا بوجود المجاز في اللغة (1) فقد اتفق القائلون به على أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يحمل الكلام على مجازه إلا بقرينة تصرفه عن الحقيقة إلى المجاز، وفي هاتين الصفتين لا توجد قرينة مطلقاً لصرف الحقيقة إلى المجاز.
فإن قالوا: إن القرينة هي تنزيه الله عن صفات الحوادث، وهذه من صفاتهم، قيل لهم: فيلزمكم هذا نفسه فيما أثبتموه – والخطاب مع الأشاعرة -، فيلزمكم نفي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام لنفس العلة وحملها كلها على المجاز، فإن قالوا: ولكن نثبتها كما يليق بالله على وجهٍ لا يشبه صفات الحوادث، قيل لهم: فأثبتوا ما نفيتموه على ما يليق بالله على وجهٍ لا يشبه صفات الحوادث، فإن قالوا: لكن الصفات التي أثبتناها قد دل عليها العقل مع السمع بخلاف التي نفيناها، قيل لهم:
أولاً: إن السمع وحده كافٍ في إثبات هذه الصفات، فإنها توقيفية ولا
__________
(1) انظر في ذلك (الفتاوى) 7/87وما بعدها، (مختصر الصواعق) ص 271.(1/81)
طريق لمعرفتها إلا السمع.
ثانياً: إننا لو سلمنا أن العقل لا يدل على الصفات التي نفيتموها، فإنه لا يدل على انتفائها، بل غايته أن يتوقف فيها، وقد أثبتها السمع فيثبتان.
ثالثاً: إننا نستطيع أن نستدل على ما نفيتموه كالنزول مثلاً بالعقل، فنقول: لو عقلنا موجودان أحدهما يذهب ويجئ وينزل ويصعد ويدنو ويقرب بمشيئته وقدرته، والآخر لا يفعل ذلك بمشيئته وقدرته، لدل العقل على أن الأول أكمل من الثاني قطعاً، والله سبحانه هو معطي الكمال فهو أولى به، فدل العقل على ذلك، مع أننا نقول هذا تنزلاً، فإن طريق إثبات الصفات-في الجملة- هو السمع.
فالحاصل، أن جميع ما ثبت في الكتاب والسنة من الصفات فإنها تُثبت على حقيقتها على ما يليق بالله عز وجل مع نفي التمثيل، والله تعالى أعلم.
عاشراً: الصفات الخبرية كالوجه واليد والرجل والعين ونحوها:
1-قال في (الاعتصام) 1/305: (ويتأول الجزئيات حتى ترجع إلى الكليات، ومثاله في الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب - المنزه عن النقائص - من العين واليد والرجل والمحسوسات والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات) .
2- وسبق ذكر تفويضه لليد والقدم والوجه (1) .
قلت:والجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه الصفات (الوجه واليدين والعينين والرجل) ونحوها كان متقدمو الأشاعرة يثبتونها (ويسمونها الصفات الخبرية -يعني التي ثبتت بالخبر-) ،
__________
(1) انظر (الموافقات) 3/318، وانظر ص 17.(1/82)
فكان الأشعري والباقلاني وغيرهم من متقدمي الأشاعرة يثبتونها (1) ، وإنما ذهب إلى نفيها وتأويلها متأخرو الأشاعرة عندما غلب عليهم التجهم والاعتزال، والصواب في هذه الصفات هو ما قيل في غيرها من الصفات وهو أنها تثبت على حقيقتها على ما يليق بالله عز وجل، وهذا هو معتقد السلف والأئمة.
الوجه الثاني: أنه ذكر في كلامه هذا ألفاظاً مجملة وهو قوله (الظاهرية) وقوله (الجوارح) ، فأما اللفظ الأول فسبق الكلام عليه في المبحث الثاني (2) ، والكلام هنا على لفظ (الجوارح) ، فيقال:
إن لفظ (الجوارح) لم يرد نفيه ولا إثباته في النصوص الشرعية، فلا يثبت ولا ينفى لأن الصفات توقيفية لا تقال بالرأي، ولكن يستفصل عن المراد بهذه الكلمة:
فإن كان المراد بنفي الجوارح هو نفي ما نراه في الشاهد من جوارح المخلوقات، فهذا صحيح ولكن اللفظ مبتدع.
وإن كان المراد بذلك نفي أن يكون لله سبحانه وتعالى يداً وعيناً ووجهاً ونحوها مما جاءت به النصوص فهذا باطل، بل تثبت هذه الصفات كما جاءت بها النصوص ولا يضر مع ذلك إن أطلق المبتدعة على من أثبتها تلك الإطلاقات، والله المستعان.
__________
(1) انظر (المقالات) ص290، (الإبانة) ص77، (رسالة الثغر) ص69،والثلاثة للأشعري، و (التمهيد) ص295، (الإنصاف) ص21 وكلاهما للباقلاني.
(2) انظر ص 22.(1/83)
المبحث الرابع: "تهوين الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الخلف"
سبق أن ذكرت في المبحث الأول أنه فسر مذهب السلف بمذهب المفوّضة، وقد ذهب بالإضافة إلى خطئه في هذا التفسير إلى خطأ آخر وهو تهوين الخلاف بين مذهب السلف في إثبات الصفات على ما يليق بالله، وبين مذهب ما يسمى بالخلف وهو التجهم ونفي الصفات عن الله سبحانه، وجعل الخلاف هذا في إثبات النصوص وفي تحريفها أشبه ما يكون بالخلافات الواقعة في الفروع، وإليك نصوصه في ذلك:
1-قال في (الاعتصام) 2/695: (فقد ظهر منهم -أي أصحاب البدع- اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلبٍ واحد، وهو الانتساب للشريعة، ومن أشهر مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف في الفروع) .
2-وقال في (الاعتصام) 2/840: (إذا وجد في الشرع أخباراً تقتضي ظاهراً خرق الجارية المعتادة، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار بإطلاق، بل له سعة في أحد أمرين:
=إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه، وهذا ظاهر قوله تعالى (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) يعني الواضح(1/84)
المحكم، والمتشابه المجمل، إذ لا يلزمه العلم به، ولو لزم العلم به لجعل له طريقاً إلى معرفته، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق.
=وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه.
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصف الباري بها نفسه، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين، وهذا منفي عند الجمهور، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي التشبيه، والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد) .
3-وقال في (الموافقات) 3/328-في مسألة تسليط التأويل على المتشابه-: (فإن كان –أي المتشابه- من الحقيقي فغير لازم تأويله ... وأيضاً فإن السلف الصالح والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين تأويل من غير دليل وهم الأسوة والقدوة) .
4- وقال في (الموافقات) 5/222-بعد كلام -: (وأيضاً فقد ظهر منهم –أي أهل الأهواء- اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد وهو اتباع الشريعة، وأشد مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً) .
قلت: والكلام على هذا من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن سبب تهوين الخلاف بين الفريقين هو الجهل بمذهب(1/85)
السلف، فإن هؤلاء لما اعتقدوا أن مذهب السلف هو الإقرار بمجرد الألفاظ فقط مع الجهل بالمعاني، وأن المعاني الظاهرة منها منفية في حق الله، هوّنوا الخلاف بينهم وبين من نفى الصفات وحرفها عن موضعها، لاعتقادهم أن الفريقين متفقان على نفي الظاهر، وإنما الخلاف في ترك الألفاظ على ما هي عليه مع نفي الظاهر، أو تأويلها عن ظاهرها، وهو خلاف سهل لاتفاقهم على مبدأ نفي ما يظهر من المعاني، وهؤلاء جمعوا الجهل بمذهب السلف، وتهوين الخلاف بينهم وبين مذاهب الجهمية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) : (ولا يجوز أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن (طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المعروفة من حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف بالكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة
__________
(1) الفتاوى) 5/8.(1/86)
دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة) اهـ وقد سبق الرد التفصيلي على مسألة التفويض، ومسألة الظاهر فيما سبق (1) .
الوجه الثاني: أن التهوين بين المذهبين كلام فاسد لا يصح مطلقاً، وكيف يكون الخلاف هيناً بين أتباع الأنبياء والمرسلين ومن اقتفى أثر الصحابة والتابعين وبين من اقتفى أثر الفلاسفة والمتكلمين وأفراخ الجهمية والصابئين؟! وكيف يكون الخلاف هيناً وقد كفّر السلف الجهمية (2) ، وكفروا من يقول بخلق القرآن (3) ، وكفروا من أنكر العلو (4) ،وكفروا رؤوس الجهمية ومحرفة الصفات (5) ، بل وأمروا بهجر من تلبس بشئ من كلامهم ولو قليلاً (6) ، بل وشنعوا على أهل الكلام أشد تشنيع وذموهم كثيراً وحذروا منهم وأجلبوا عليهم نصيحة للأمة (7) جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (8) : (ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص
__________
(1) انظر في التفويض ص17، وفي الظاهر ص 22.
(2) انظر (خلق أفعال العباد) ص17، (السنة) لعبد الله1/106، (السنة) للخلال5/89، (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 3/377، (شرح السنة) للبربهاري ص 43 وغيرها.
(3) انظر (خلق أفعال العباد) ص9، (السنة) لعبد الله1/172، (السنة) للخلال5/101، (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 2/313، (الشريعة) للآجري1/489، (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص106.
(4) انظر (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) للصابوني ص19.
(5) انظر (خلق أفعال العباد) ص17،21 (السنة) لعبد الله1/167، (السنة) للخلال5/84،100،117، (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 3/384.
(6) انظر (ذم الكلام وأهله) 4/290وما بعدها، (شرح السنة) للبربهاري ص48.
(7) انظر جميع الكتب السابقة وكتب اعتقادات أهل السنة عموماً.
(8) الفتاوى) 5/11.(1/87)
المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون أولئك المحجوبون، المفضولون، المسبوقون، الحيارى، المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب أحكم ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة، ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة – لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (ومن المحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثة الصابئين وأفراخ اليونان الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب وأشهدوا الله وملائكته عليهم به وشهد به عليهم الأشهاد من اتباع الرسل أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان وفضلهم على من سبقهم زمن يجئ بعدهم إلى يوم القيامة ما خلا النبيين والمرسلين، وهل يقول هذا إلا غبي جاهل لم يقدر قدر السلف ولا عرف الله ورسوله وما جاء به) (2) اهـ.
__________
(1) الصواعق المرسلة) 1/161.
(2) المقصود في النقل عن شيخ الإسلام وتلميذه رحمهما الله المقارنة بين السلف والخلف والفرق بينهما.(1/88)
الوجه الثالث: أن يقال كيف يكون الخلاف هيناً وقد اعترف أئمة ما يسمى بمذهب الخلف من المتكلمين بأنهم كانوا على باطل وفي حيرة وشك من أمرهم؟ واعترفوا بأن الحق هو ما كان عليه السلف؟.
فقد قال أبو المعالي الجويني – وهو من أئمة الأشاعرة وممن قرّب مذهبهم إلى الاعتزال-: (لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي) وقال الغزالي: (أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام) ،وقال الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وقال الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (الرحمن على العرش استوى) ، واقرأ في النفي (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) (ولا يحيطون به علماً)(1/89)
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) (1) .
فهذه - وغيرها - اعترافات رؤوس الخلَفيّة وأئمة المتكلمين قد اعترفوا ببطلان ما هم عليه وبحيرتهم وشكهم وصواب ما عليه السلف، وهذا أوضح دليل على بطلان ما هم عليه من الاعتقادات، والله المستعان.
__________
(1) انظر في ذلك (نهاية الأقدام) للشهرستاني ص 3،4، و (الفتاوى) 5/11ومابعدها، (المنهاج) 5/268-282، (درء التعارض) 1/159،8/47، (الصواعق المرسلة) 2/665-666، (طبقات الشافعية) 8/96، (سير الأعلام) 21/501، (شرح العقيدة الطحاوية) ص 244.(1/90)
الباب الثاني: "مخالفات الشاطبي في الإيمان والقدر "
وتحته فصلان:
الفصل الأول: مخالفته في الإيمان
الفصل الثاني: مخالفاته في القدر(1/91)
الفصل الأول: "مخالفته في الإيمان"
لم أجد للشاطبي رحمه الله تعالى في الإيمان إلا نصاً واحداً (1) ، وهو قول في (الموافقات) 1/84: (وأما الإيمان فإنه عمل من أعمال القلوب وهو التصديق وهو ناشئ عن العلم) اهـ.
قلت: والكلام على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن جعل الإيمان هو مجرد التصديق القلبي هو مذهب الأشاعرة (2) ، وهو نفسه مذهب الجهمية في قولهم الإيمان هو المعرفة ولا فرق بينهما (3) وهو أيضاً قول ابن الراوندي والمريسي وغيرهم من الزنادقة (4) .
وهذا القول باطل قطعاً، وقد كفر الأئمة كوكيع وأحمد وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول (5) ، فإنه يلزم على هذا القول أن يكون كل من عرف الله
__________
(1) أعني به الكلام الذي يظهر به عقيدته في الإيمان، وهذا النص وإن كان غير كافٍ للجزم بموافقته للأشاعرة في الإيمان إلا أنني رجحت أنه يوافقهم فيه لأمرين:
الأمر الأول: أنه نص هنا على أن الإيمان هو التصديق كقول الأشاعرة، بل ونصه هذا قريب جداً من قول الباقلاني في (التمهيد) في تقرير عقيدتهم هذه ص389: (الإيمان هو التصديق بالله تعالى وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب) اهـ.
الأمر الثاني: أن مرجعه في المعتقد كتب الأشاعرة كما سبق بيانه مراراً.
(2) انظر (التمهيد) ص388و (الإنصاف) وكلاهما للباقلاني ص 48، (الإرشاد) للجويني ص333، (المحصل) للرازي ص237.
(3) انظر (الفتاوى) 7/398، (مقالات الإسلاميين) 1/219.
(4) انظر (الملل والنحل) 1/144.
(5) انظر (الفتاوى) 7/120،189،307،508.(1/93)
بقلبه مؤمناً وإن كفر بلسانه أو عمله، ولو سب الله ورسوله وعادى أولياء الله ووالى أعداءه وأهان المصحف وهدم المساجد وفعل الأفاعيل بالمسلمين والمصلين، وقد التزم الأشاعرة بهذا الأمر، فإذا أقيمت عليهم الحجة من الكتاب والسنة والإجماع على أن هذا الفعل كفر قالوا: بأن هذا دليل على انتفاء التصديق من قلبه (1) .
وقد روى عبد الله بن أحمد والخلال (2) وغيرهما أن معقل بن عبيد الله قال لنافع مولى ابن عمر: إنهم يقولون -يعني المرجئة- نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر، وروى الخلال (3) عن وكيع قال: الجهمية تقول الإيمان معرفة بالقلب، فمن قال الإيمان معرفة بالقلب يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، روى الخلال (4) أيضاً عن الإمام أحمد قال: الجهمية تقول: إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه –يعني فهو مؤمن- وهذا كفر، إبليس قد عرف ربه بقلبه فقال (رب بما أغويتني) ، وروى اللالكائي (5) عن عبد الله بن الزبير الحميدي قال: أخبرت أن ناساً يقولون من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن ترك ذلك إذا كان يقر بالفرائض
__________
(1) انظر (الفتاوى) 7/188،189.
(2) السنة) لعبد الله 1/382، (السنة) للخلال4/31.
(3) السنة) 5/122، وانظر (خلق أفعال العباد) ص9.
(4) السنة) 5/122.
(5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 3/887.(1/94)
واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل المسلمين، قال الله عز وجل (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) ، وروى اللالكائي أيضاً (1) عن أحمد أنه قال: (من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) : (وقولهم – يعني الجهمية ومن وافقهم- في غاية المباينة لقول السلف ليس في الأقوال أبعد عن قول السلف منه، وقول المعتزلة والخوارج والكرامية في اسم الإيمان والإسلام (3) أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية) اهـ.
الوجه الثاني:أن عمدة هؤلاء بجعلهم الإيمان هو التصديق هو معنى الإيمان في اللغة ومنه قوله تعالى- عن أخوة يوسف- (وما أنت بمؤمن لنا) (4) .
والجواب على هذا الدليل من وجوه (5) :
الوجه الأول: منع الترادف بين الإيمان والتصديق، ومما يدل على ذلك ثلاثة أمور:
الأول:أن التصديق يتعدى بنفسه فيقال (صدقه) والإيمان لا يتعدى
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 3/887.
(2) الفتاوى) 7/158، وانظر (شرح العقيدة الطحاوية) ص 460..
(3) المعتزلة والخوارج يقولون إن الإيمان قول وعمل لكنهم يكفرون بالكبيرة، والكرامية يقولون إن الإيمان قول باللسان –يعني في أحكام الدنيا -.
(4) انظر (الإنصاف) ص 48، (الإرشاد) ص 338.
(5) انظرها في (الفتاوى) 7/290-294، (شرح العقيدة الطحاوية) 470-474.(1/95)
بنفسه فلا يقال (آمنه) بل يقال (آمن له) كقوله تعالى (فآمن له لوط) كما يقال أقرّ له، فتفسيره بالإقرار أقرب من تفسيره بالتصديق.
الثاني:أن لفظ التصديق يستعمل في الإخبار عن الغيب والشهادة، فلو أخبر مخبر عن الجنة أو النار ونحوهما من أمور الغيب، أو أخبر عن شروق الشمس ونحوها من أمور الشهادة لصح أن يقال له صدقت في الحالتين، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب فقط.
الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب فقط.
الوجه الثاني: لو سلم أن معناه التصديق فلا يسلم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب لأمرين:
الأول: أن الأفعال تسمى تصديقاً كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وكما ورد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر بالقلب وصدقته الأعمال) .
الثاني: أنه وإن كان أصله التصديق، فهو تصديق مخصوص، كما أن الصلاة في اللغة الدعاء، ولكنها في الشرع دعاء مخصوص، وكما أن الحج في اللغة القصد ولكنه في الشرع قصد مخصوص، وهكذا، فكذلك هنا، فالتصديق هنا دل الشرع على أن الأعمال من لوازمه.(1/96)
الوجه الثالث: أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (1) ، وقد دل على هذا الكتاب والسنة والإجماع:
فمن ذلك قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) –وقد ذكر المفسرون أن المقصود بالإيمان هنا هو الصلاة (2) -، وكما قال تعالى (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) وقال (ويزداد الذين آمنوا إيماناً) وغيرها من الآيات الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه وهي تبطل مذهب المرجئة عموماً، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) –واللفظ لمسلم وفي لفظٍ للبخاري (والحياء شعبة من الإيمان) - وما في السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً) وغيرها من الأحاديث.
وهو مذهب السلف كما قد روى الخلال (3) عن أحمد قال: (الإيمان قول وعمل) ، وروى اللالكائي (4) عن البخاري رحمه الله تعالى أنه قال: (كتبت عن ألف نفرٍ من
__________
(1) مسألة الزيادة والنقص عند الأشاعرة مختلف فيها، فبعضهم ينص على أن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص (انظر (المحصل) ص232) وبعضهم يقول بالزيادة والنقصان ولكن لاعتبارات أخرى غير الطاعة والمعصية (انظر (الإنصاف) ص50، (الإرشاد) ص336) ، والشاطبي رحمه الله تعالى قد أثبت الزيادة والنقص في الإيمان كما في (الموافقات) 3/444.
(2) انظر (تفسير الطبري) 2/19.
(3) السنة) 4/14.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 3/889.(1/97)
العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال الإيمان قول وعمل) .
وقال البغوي رحمه الله تعالى (1) : (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان لقوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى قوله (ومما رزقناهم ينفقون) فجعل الأعمال كلها إيماناً، وكما نطق به حديث أبي هريرة (2) ، وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء (3) ، وروي عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله) ، وعن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استمل الإيمان) – إلى أن قال – واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته، قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل) اهـ.
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى (4) :
(أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد وينقص) اهـ.
__________
(1) شرح السنة) 1/78.
(2) يعني حديث (الإيمان بضع وسبعون – أو وستون – شعبة) والذي مضى.
(3) يعني حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين مرفوعاً (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) .
(4) التمهيد) 9/238.(1/98)
الفصل الثاني: "مخالفاته في القدر"
تمهيد:
ذهب الشاطبي رحمه الله تعالى إلى مذهب الأشاعرة في القدر، وهم جبرية في ذلك (1) ، ويتضح هذا من تتبع نصوص الشاطبي، بل إنه قال في مقدمة كتابه (الموافقات) 1 /4: (حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار، وتوجهت إليه أطماع أهل الافتقار، لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار، وثبت في مكتسبات الأفعال حكم الاضطرار) وهذا يوحي بالتصريح بعقيدة الجبر، وأن أفعال المكلفين اضطرارية (2) ، كما أنه ذهب إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين والتشنيع على من يقول بهما، ونفي التحسين والتقبيح مستند أساساً على نفي الحكمة الإلهية، وجعل الله سبحانه يأمر وينهى لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة، وذهب أيضاً إلى أن الأسباب هو ما يحصل الشئ عندها لا بها -وهو نفي لتأثير الأسباب - بل وجعل اعتقاد تأثير الأسباب شركاً - كما يقوله الجبرية تماماً-، وجعل المسببات لا تدخل تحت قدرة المكلف، وغير ذلك مما سيتضح
__________
(1) وصرح الرازي وغيره أنهم يقولون بالجبر كما في (إيثار الحق) ص317.
(2) قارن هذا بما ذكره الرازي في (الأربعين) 1/319، (المحصل) ص 199.(1/99)
من خلال المباحث التالية إن شاء الله تعالى:
المبحث الأول: مسألة التحسين والتقبيح العقليين:
المبحث الثاني: مسألة الأسباب والمسببات:
المبحث الثالث: مسألة الظلم:(1/100)
المبحث الأول: "مسألة التحسين والتقبيح العقليين"
ذهب الشاطبي إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين، وشنع على من يقول به وبدعه، بل وجعله من البدع الحقيقية -التي لا أصل لها في الشرع -، ومن البدع الكلية - التي يكون ضررها كلياً في الشريعة -، وإليك نصوصه في ذلك:
1-قال في (الاعتصام) 1/147-بعد كلام-: (فلا يصح بناءً على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع، وكل بدعة ضلالة) .
2-وقال في (الاعتصام) 1/191: (إن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح العقلي) .
3-وقال في (الاعتصام) 1/221-وقد ذكر البدع الحقيقية (1) -: (قال:وهي أعظم وزراً لأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر، قال: كالقول بالقدر، والقول بالتحسين والتقبيح) .
4- وقال في (الاعتصام) 1/136: (والتحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة أعني التحسين والتقبيح بالعقل) .
5-وقال في (الاعتصام) 1/487: (والعقل لا يحسن ولا يقبح) (2) .
__________
(1) البدع الحقيقية هي التي يكون أصلها غير مشروع، وأما الإضافية فالتي يكون أصلها مشروعاً ولكن وصفها غير مشروع.
(2) وانظر (الاعتصام) 1/61 ففيها إشارة إلى ذلك.(1/101)
6-وقال في (الاعتصام) 2/543-عندما قسم البدع إلى كلية في الشريعة وجزئية، ثم تكلم عن الكلية-: (ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين) .
7- وقال في (الاعتصام) 2/594: (ومن ذلك – يعني الابتداع- القول بالتحسين والتقبيح العقلي) اهـ.
8-وقال في (الاعتصام) 2/872-تحت أمثلة من زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال-: (والعاشر: رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع) .
9-وقال في (الموافقات) 1/125: (ما تبين في علم الكلام أن العقل لا يحسن ولا يقبح) .
10-وقال في (الموافقات) 2/534،535: (كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناءً على نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة، وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح) .
11- وقال في (الموافقات) 3/28: (إن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال وتروك متماثلة عقلاً بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح) (1) .
قلت: والكلام على هذا من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الأقوال في التحسين والتقبيح أصلها ناشئ عن الاعتقاد،
__________
(1) وانظر (الموافقات) 3/210ففيها إشارة إلى هذا أيضاً.(1/102)
فلما كان الأشاعرة نفاةً للحكمة قائلين بالجبر، ويقولون إن الله سبحانه لا يفعل ولا يأمر ولا ينهى لحكمة بل لمجرد المشيئة، فالله عندهم لا يأمر بشئ لشئ ولا ينهى عن شئ لشئ بل كل ذلك لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة، لهذا الأمر قالوا بنفي التحسين والتقبيح العقليين (1) ، وجعلوا الأعيان والأفعال والتروك لا تتصف بصفاتٍ في نفسها تجعلها حسنة أو قبيحة قبل ورود الشرع، فلا فرق بين التوحيد والشرك، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين النكاح والزنا، ولا بين الطيب والخبيث، ونحوها قبل ورود الشرع، بل لما أمر الله بالتوحيد صار حسناً ولما نهى عن الشرك صار قبيحاً،ولو أمر بالشرك ونهى عن التوحيد لانقلب الأمر وصار التوحيد قبيحاً والشرك حسناً، وكذلك باقي الأفعال والتروك، وكل هذا أوجبه فرارهم من تعليل أفعال الله سبحانه، فلو قالوا بأن الأعيان والأفعال والتروك تتصف بالحسن والقبح في نفسها قبل ورود الشرع لكان فيها صفات لأجلها شرع الله فعلها أو تركها، فيكون قد أمر بالتوحيد لحسنه ونهى عن الشرك لقبحه، وأمر بالصدق لحسنه ونهى عن الكذب لقبحه، وشرع النكاح لحسنه ونهى عن الزنا لقبحه، وهكذا، وهم يهربون من التعليل فالله عندهم لا يأمر بشئ لشئ ولا ينهى عن شئ لشئ –كما سبق بيانه-.
فإذا علم هذا تبين أن معنى قول الشاطبي فيما مضى (فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء
__________
(1) انظر (الإرشاد) ص228، (نهاية الأقدام) ص370، (الأربعين) 1/346، (المحصل) ص202.(1/103)
للعقل فيها بحسن ولا قبح) (1) وقوله (إن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال وتروك متماثلة عقلاً بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح) (2) هو ما سبق ذكره من مذهب الأشاعرة في جعلهم الأفعال والتروك متماثلة عقلاً قبل ورود الشرع فلا يحكم العقل فيها بلا حسن ولا قبح، وأن الله سبحانه لم يأمر بالمأمورات لحسنها ولم ينه عن المنهيات لقبحها، بل كل ذلك لمحض المشيئة.
ولا شك أن هذا القول قول مبتدع في الإسلام، ولم يقل أحد من الأئمة والسلف أن العقل لا يحسن ولا يقبح، أو أنه لا يعلم بالعقل حسن الفعل أو قبحه، بل هذا قول محدث مبتدع، وعده جماعة من الأئمة من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها (3) .
الوجه الثاني: أن هذا القول مخالف للمنقول وللمعقول:
أما مخالفته للمنقول فما تواتر من الآيات والأحاديث التي فيها إن الله سبحانه ذو حكمة بالغة لا يأمر إلا لحكمة ولا ينهى إلا لحكمة ولا يفعل إلا لحكمة سبحانه وتعالى (4) ، وأنه يأمر بأفعال لطيبها وحسنها وينهى عن أخرى لخبثها وقبحها كقوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فهذا صريح في أن الحلال كان طيباً قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثاً قبل حرمته، لا
__________
(1) الموافقات) 2/534،535.
(2) الموافقات) 3/28.
(3) انظر (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص95،140،و (الفتاوى الكبرى) 6/611، (درء التعارض) 9/50، (المنهاج) 1/450، (العلم الشامخ) للمقبلي ص 109.
(4) انظر هذه الأدلة بالتفصيل في (شفاء العليل) 319-346.(1/104)
كما يقول نفاة الحسن والقبح العقليين أن الطيب لم يصر طيباً إلا بعد الأمر به، والخبيث لم يصر خبيثاً إلا بعد النهي عنه،، ولو كان لا حسن إلا للمأمور ولا قبح إلا للمنهي لكان معنى الآية (ويحل لهم ما يحل لهم، ويحرم ما يحرم عليهم) وهذا باطل فإنه لا فائدة فيه (1) .
ونحو قوله تعالى (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) والقول فيها كالقول في الآية السابقة.
ونحو قوله تعالى (إن الله لا يأمر بالفحشاء) فإنها تدل على أن الفواحش لها صفات في أنفسها من أجلها حرمت، لذلك نزه الله نفسه أن يأمر بها، ولو كان الأمر كما يقول نفاة الحسن والقبح لكان معنى الآية (إن الله لا يأمر بما ينهى عنه) وهذا لا فائدة فيه، وينزه آحاد العقلاء أن يقول مثل هذا الكلام، فكيف بالله سبحانه، والآيات في هذا كثيرة.
وأما مخالفته للمعقول:
فإن كل عاقل من مسلم أو كافر يدرك بعقله حسن الصدق والعدل والإحسان ونحوها، ويدرك بعقله قبح الكذب والظلم والإساءة ونحوها، ولا يقول عاقل قط بالمساواة بين الصدق والكذب، والعدل والظلم، والإحسان والإساءة،والطيبات والخبائث، بل لو قال أحد بذلك لعدوه مجنوناً، فانظر إلى هذا المذهب الباطل كيف بنى باطلاً- وهو نفي الحسن والقبح العقليين -على باطل -وهو نفي الحكمة -.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) :
__________
(1) انظر (مفتاح دار السعادة) ص 324، (الفتاوى) 8/433.
(2) الفتاوى) 7/433.(1/105)
(
وأما الطرف الآخر في مسألة التحسين والتقبيح فهو قول من يقول إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام، ولا على صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر، لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر.
ويقولون أنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله، وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش، وينهى عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط وليس المعروف في نفسه معروفاً عندهم، ولا المنكر في نفسه منكراً عندهم، بل إذا قال (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم، وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم –إلى أن قال- فهذا القول ولوازمه هو أيضاً قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضاً للمعقول الصريح، فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء فقال: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وقال (أفنجعل المسلمين كالمجرمين - مالكم كيف تحكمون) وقال (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) وعلى قول النفاة لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء، وبين تفضيل بعضهم على بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر) اهـ.(1/106)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (فإن من المستقر في العقول والفطر أن قضاء هذا الوطر في الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والجدات مستقبح في كل عقل، مستهجن في كل فطرة، ومن المحال أن يكون المباح من ذلك مساوياً للمحظور في نفس الأمر ولا فرق بينهما إلا مجرد التحكم بالمشيئة سبحانك هذا بهتان عظيم، وكيف يكون في نفس الأمر نكاح الأم واستفراشها مساوياً لنكاح الأجنبية واستفراشها وإنما فرق بينهما محض الأمر.
وكذلك من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساوياً للخبز والماء والفاكهة ونحوها وإنما الشارع فرق بينهما فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر، وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية لا يكون مساوياً لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية حتى يكون إباحة هذا وتحريم هذا راجعاً إلى محض الأمر والنهي المفرق بين متماثلين.
وكذلك الظلم والكذب والزور والفواحش كالزنا واللواط وكشف العورة بين الملأ ونحو ذلك كيف يسوغ عقل عاقل أنه لا فرق قط في نفس الأمر بين ذلك وبين العدل والإحسان والعفة والصيانة وستر العورة، وإنما الشارع يحكم بإيجاب هذا وتحريم هذا.
وهذا مما لو عرض على العقول السليمة التي لم تدخل ولم يمسها ميل للمثالات الفاسدة وتعظيم أهلها وحسن الظن بهم لكانت أشد إنكاراً له، وشهادة ببطلانه من كثير من الضروريات، وهل ركّب الله في فطرة عاقلٍ قط أن الإحسان والإساءة والصدق والكذب والفجور والعفة والعدل والظلم وقتل
__________
(1) مفتاح دار السعادة) ص322.(1/107)
النفوس وإنجاءها، بل السجود لله وللصنم سواء في نفس الأمر لا فرق بينهما، وإنما الفرق بينهما الأمر المجرد، وأي جحد للضروريات أعظم من هذا؟ وهل هذا إلا بمنزلة من يقول إنه لا فرق بين الرجيع والبول والدم والقئ وبين الخبز واللحم والماء والفاكهة والكل سواء في نفس الأمر وإنما الفرق بالعوائد؟ وأي فرقٍ بين مدعي هذا الباطل وبين مدعي ذلك الباطل؟ وهل هذا إلا بهت للعقل والحس والضرورة والشرع والحكمة؟ .
وإذا كان لا معنى للمعروف عندهم إلا ما أمر به فصار معروفاً بالأمر، ولا للمنكر إلا ما نهي عنه فصار منكراً بنهيه، فأي معنى لقوله (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه؟ وهذا كلام ينزه عنه آحاد العقلاء فضلاً عن كلام رب العالمين، وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر؟ فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقلٍ سليم، ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض على العقول السليمة أنكرته أشد الإنكار، كما أمر بما إذا عرض على العقل قبله أعظم قبول وشهد بحسنه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل بم عرفت أنه رسول الله؟ فقال: (ما أمر بشئ فقال العقل ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شئ فقال ليته أمر به) ، فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء) اهـ (1) .
الوجه الثالث: أن الذي يظهر من كلام الشاطبي رحمه الله تعالى أنه لا
__________
(1) وقد خصّص ابن القيم رحمه الله تعالى أكثر كتابه (مفتاح دار السعادة) للكلام على مسألة التحسين والتقبيح العقليين فراجعه فإنه مفيد جداً في هذه المسألة جزاه الله خير الجزاء.(1/108)
يعرف مذهب أهل السنة في المسألة، بل لا يعرف إلا مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة، وهذا يحصل كثيراً في كتب الأشاعرة والمتكلمين-وهي موارد الشاطبي-حيث يذكرون مذهبهم والمذاهب الأخرى أما المذهب الحق فلا يذكرونه لجهلهم به لا لشئ آخر (1) .
فالحاصل أنه لما كان مذهب أهل السنة إثبات الحسن والقبح العقليين، وكان مذهب المعتزلة كذلك، التبس مذهب أهل السنة بمذهب المعتزلة على بعض الفضلاء، واعتقد أن كل من قال بالحسن والقبح العقليين فإنه يقول كقول المعتزلة فإن من قولهم أن الأعيان والأفعال والتروك حسنها وقبحها ذاتي وتعلم بالعقل، والشرع مجرد كاشفٍ لهذا لا منشئ له، وعلى هذا فهم يرتبون الثواب والعقاب على مجرد الحسن والقبح العقليين ولو لم تبلغ الرسالة (2) .
والفرق بين المذهبين من وجوه:
الأول: أن أهل السنة أثبتوا لله سبحانه الحكمة في أفعاله وأوامره ونواهيه وهذه الحكمة تتضمن أمرين: حكمة تعود إليه سبحانه، وحكمة تعود إلى عباده، أما المعتزلة فلم يثبتوا إلا الحكمة المنفصلة عنه بناءً على مذهبهم في نفي الصفات القائمة بالله سبحانه- وقد سبق تفصيل القول في هذا-. (3)
الثاني: أن أهل السنة لم يضعوا شريعة لله سبحانه بعقولهم، فجعلوا ما يحسن منهم يحسن منه فيجب عليه فعله، وما يقبح منهم يقبح منه ويحرم عليه فعله
__________
(1) انظر (الفتاوى) 5/484.
(2) انظر (شرح الأصول الخمسة) ص 301، (المعتمد) لأبي الحسين البصري المعتزلي 1/363.
(3) انظر ص 43.(1/109)
كما فعله المعتزلة - مشبهة الأفعال- حين وضعوا لله شريعة بعقولهم، بل الله سبحانه لا شبيه له في أفعاله كما لا شبيه له في ذاته وصفاته، وليس كل ما حسن من خلقه حسن منه ولا ما قبح منهم قبح منه (1) .
الثالث: أن أهل السنة يجعلون الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل، وأن الشرع جاء لتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن وتقبيح القبيح، ولكنهم لم يرتبوا العقاب على مجرد التحسين والتقبيح العقليين بل لابد من وجود الرسالة والبلاغ، بخلاف المعتزلة فإنهم يرتبون الثواب والعقاب على مجرد الحسن والقبح العقليين (2) .
الرابع: أن أهل السنة يثبتون أقسام الحسن والقبح الثلاثة وهي:
الأول: أن يكون نفس الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم بالعقل حسن العدل وقبح الظلم، فهذا حسنه وقبحه راجع إلى نفس الفعل وهو يعلم بالعقل.
الثاني: أن الشارع إذا أمر بشئ صار حسناً، وإذا نهى عن شئ صار قبيحاً، فهذا اكتسب فيه الفعل صفة الحسن والقبح من خطاب الشارع،كالأمر بالصلاة مثلاً فإن صفتها لا تعلم بالعقل بل بخطاب الشارع، فلما أمر بها علمنا حسن هذه الصفة.
الثالث: أن تكون المصلحة ناشئة من نفس الأمر لا من الفعل، وذلك كأن يأمر الشارع بشئ ليمتحن به العبد كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فالحكمة هنا والمصلحة من نفس الأمر لا من المأمور به.
__________
(1) مفتاح دار السعادة) ص 378.
(2) مفتاح دار السعادة) ص 357،377، وانظر (الفتاوى) 7/435.(1/110)
فأهل السنة يثبتون الجميع، أما المعتزلة فلم تثبت إلا القسم الأول، وزعموا أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع (1) .
فمما سبق يتبين الفرق الكبير بين مذهب أهل السنة وبين مذهب المعتزلة، وأن من سوى بينهما فقد أبعد، والله تعالى أعلم.
__________
(1) الفتاوى) 7/434-436، (مفتاح دار السعادة) ص 436.(1/111)
المبحث الثاني: "مسألة الأسباب والمسببات"
ذهب الشاطبي إلى ما ذهب إليه الأشاعرة في الأسباب، وكلامه في هذا الباب كثير جداً، لذلك رأيت أن أقسم كلامه إلى أربع مسائل كما يلي:
المسألة الأولى: "تأثير السبب في المسبب"
ذهب الشاطبي إلى أن السبب هو ما يحصل المسبب عنده لا به، وأن الله قد أجرى العادة في الخلق أن يحدث المسبب عند السبب- بلا تأثير منه-، وإليك نصوصه في هذا:
1-قال في (الاعتصام) 1/497: (فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات) .
2-وقال في (الموافقات) 1/314: (السبب غير فاعل بنفسه، بل إنما وقع المسبب عنده لا به، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب والعبد مكتسب له - ثم ذكر أدلة وقال1/315- والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع، وإذا كان كذلك، فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه، فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أن يكون) .(1/112)
3- وقال في (الموافقات) 1/316: (وإنما قصده – أي الشارع- وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق، وهو أن يكون خلق المسببات على إثر إيقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ويشقى من شقي) .
4-وقال في (الموافقات) 1/317-في مسألة وقوع المسببات- (التفات إلى العادة الجارية) وذكر نحو هذا الكلام من كون وقوع المسببات على أثر الأسباب قد أجرى الله العادة به في مواضع منها (الموافقات) 1/326،328،354،359.
5- وقال في (الموافقات) 1/322: (أن يدخل – يعني المكلف- في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة) .
6-وقال في (الموافقات) 1/335-336: (إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أو لا، لأنه لما جعل مسبباً له في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرة، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات، إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار، والإسهال إلى السقمونيا، وسائر المسببات إلى أسبابها، فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا) .
قلت:
وهذا الكلام هو كلام الأشاعرة –الذين اقتفوا آثار الجهمية في إنكار الأسباب-، فإنهم أنكروا أن يكون للأسباب أي تأثير على المسببات، وقالوا: إنه ليس في النار قوة الإحراق، ولا في الماء قوة الإغراق، ولا في السكين قوة القطع، قالوا: ولكن الله يخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب لا بها، فعند وجود النار يخلق الله الإحراق بلا تأثير من النار، وعند وجود السكين يخلق الله القطع(1/113)
بلا تأثير من السكين، وهكذا، ويقولون: إن الله قد أجرى العادة بخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب (1) -وكل هذا طرداً لعقيدتهم في الجبر وأنه لا فاعل إلا الله-.
ومن المعلوم أن هذا باطل في الشرع والعقل، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل في الأسباب قوة تؤثر في مسبباتها، وهو خالق السبب والمسبب، والمسبب إنما حدث بالسبب لا عند السبب –كما يقوله الجبرية-، وأهل السنة لا ينكرون تأثير القوى والطبائع والأسباب الطبيعية، بل يقرون بها كإنزال المطر بالسحاب، وإنبات الأرض بالماء، ونحو ذلك، وقد ذكر الله سبحانه تأثير الأسباب في المسببات في كتابه كقوله تعالى: (فسقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) ، وقال تعالى: (وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) وغيرها من الآيات، وهو أمر معلوم بالعقل والمشاهدة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) : (جمهور أهل السنة المثبتة للقدر (3) من جميع الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة حقيقية، واستطاعة حقيقية، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا
__________
(1) انظر (الإرشاد) ص 173، (نهاية الأقدام) ص 54، (البحر المحيط) للزركشي 2/9.
(2) منهاج السنة) 3/12.
(3) يعني رحمه الله بأهل السنة هنا مثبتي خلافة أبي بكر وعمر ومن هم خلاف الرافضة وفي هؤلاء مبتدعة، ولا يقصد بهم أهل السنة والجماعة.(1/114)
تأثير لها، بل يقرون أن لها تأثيراً لفظاً ومعنى، حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى (ونكتب ما قدموا وآثارهم) وإن كان التأثير هناك أعم منه في الآية، لكن يقولون: هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خالق السبب والمسبب، ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه، ولا بد له من معارض يمانعه، فلا يتم أثره – مع خلق الله له – إلا بأن يخلق الله السبب ويزيل الموانع.
ولكن هذا القول الذي حكاه (1) هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى وطبائع، ويقولون: إن الله فعل عندها لا بها، ويقولون: إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل) اهـ.
وقال رحمه الله تعالى (2) : (ومذهب الفقهاء أن السبب له تأثير في مسببه، ليس علامة محضة، وإنما يقول إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم – إلى أن قال-ومملوء – يعني القرآن- بأنه يخلق الأشياء بالأسباب، لا كما يقوله أتباع جهم: أنه يفعل عندها لا بها، كقوله تعالى (أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقوله (وأنزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد - والنخل باسقات لها طلع نضيد - رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً) وقوله (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) وقوله (يهدي به الله من
__________
(1) يعني الرافضي صاحب (منهاج الندامة) والذي يرد عليه شيخ الإسلام رحمه الله هنا، وقد ذكر الرافضي أن أهل السنة ينكرون أن يكون للعبد تأثير في شئ.
(2) الفتاوى) 8/486.(1/115)
اتبع رضوانه سبل السلام) وقوله (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ونحو ذلك) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (وعندهم – يعني الجهمية الجبرية- أن الله لم يخلق شيئاً بسبب، ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر، فليس في النار قوة الإحراق، ولا في السم قوة الإهلاك، ولا في الماء والخبز قوة الري والتغذي به، ولا في العين قوة الإبصار، ولا في الأذن والأنف قوة السمع والشم، بل الله سبحانه يحدث هذه الآثار عند ملاقاة هذه الأجسام، لا بها، فليس الشبع بالأكل، ولا الري بالشرب، ولا العلم بالاستدلال، ولا الانكسار بالكسر، ولا الإزهاق بالذبح – إلى أن قال- بل عندهم صدور الكائنات والأوامر والنواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجحت مثلاً على مثل بغير مرجح، فعنها يصدر كل حادث، ويصدر مع الحادث حادث آخر مقترناً به اقتراناً عادياً لا أن أحدهما سبب الآخر ولا مرتبط به –إلى أن قال- وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين، بل ولسائر أديان الرسل، ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها (2) ، ولم يمكنهم ذلك فإنهم لا بد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم، فإن قيل لهم: هلا أسقطتم ذلك؟ قالوا: لأجل الاقتران العادي، فإن قيل لهم هلا قمتم بما أسقطتموه لأجل الاقتران العادي أيضاً، فهذا المذهب قد فطر الله سبحانه الحيوان ناطقه وأعجمه على خلافه، وقوم طردوه فتركوا له الأسباب الأخروية) (3) اهـ.
__________
(1) مدارج السالكين) 3/496.
(2) وهذا ما ذهب إليه الشاطبي كما يأتي إن شاء الله تعالى في المسألة الرابعة.
(3) وانظر (شفاء العليل) ص 315.(1/116)
المسألة الثانية: "اعتقاد تأثير الأسباب"
ذهب الشاطبي إلى أن اعتقاد تأثير السبب في المسبب شرك، وهذا امتداد للمسألة السابقة، فإن الجبرية يعتقدون أنه لا فاعل إلا الله، لذلك فمن نسب التأثير إلى غيره فقد أشرك،وإليك نصوصه في ذلك:
1-قال في (الموافقات) 1/321: (أن يدخل فيها - يعني في الأسباب- على أنه فاعل للمسبب أو مولد له، فهذا شرك مضاهٍ له والعياذ بالله، والسبب غير فاعل بنفسه، والله خالق كل شئ، (والله خلقكم وما تعملون) ، وفي الحديث (اصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام) .
2- وقال في (الموافقات) 1/323: (فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله، فالله هو المسبب لا هي إذ ليس له شريك في ملكه، وهذا كله مبين في علم الكلام، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه وهو صحيح) (1) .
3-وقال في (الموافقات) 1/328: (اعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية) .
__________
(1) وانظر (الموافقات) 1/328ففيها ما يشير إلى هذا.(1/117)
قلت: والكلام على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا القول هو قول الأشاعرة –كما سبق-، وهو خلاف ما عليه أهل السنة، فإنهم يثبتون تأثير الأسباب في المسببات، والله هو خالق السبب والمسبب، وليس في جعل السبب مؤثراً في المسبب شرك لأن الله سبحانه هو الذي جعله كذلك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) : (والتأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع، فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشا لله لم يقله سني، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال.
وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجهٍ من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات، فهو أيضاً باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل، وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق.
وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات، وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً، وقد قال الحكيم الخبير (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) (أنبتنا به حدائق ذات بهجة)
__________
(1) الفتاوى) 8/389.(1/118)
وقال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) فبين أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم) (1) .
وقال أيضاً (2) : (والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار، وإلى أسبابها باعتبار، فهي من الله مخلوقة له في غيره، كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه، وهي من العبد صفة قائمة به، كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جماداً، فكيف إذا كان حيواناً؟ وحينئذٍ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة، كما أنا إذا قلنا: هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته، ومن الله بمعنى أنه خلقه، لم يكن بينهما تناقض.وإذا قلنا: هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من هذا الأرض بمعنى أنه حدث فيها، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها، لم يكن بينهما تناقض) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (ويا لله العجب!! إذا كان الله خالق السبب والمسبب، وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته، منقادة لحكمته، إن شاء أن يبطل سببية الشئ أبطلها، كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم، وإغراق الماء على كليمه وقومه، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها، وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا، فأي قدحٍ يوجب ذلك في التوحيد؟ وأي شركٍ يترتب على ذلك بوجهٍ من الوجوه؟.
ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق، والماء لا يغرق،
__________
(1) وانظر (الفتاوى) 8/134، (منهاج السنة) 3/12،13،114،415.
(2) منهاج السنة) 3/146.
(3) شفاء العليل) ص 317.(1/119)
والخبز لا يشبع، والسيف لا يقطع، ولا تأثير لشئ من البتة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا، قالت: هذا التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاءوا به كما تراه عياناً في كتبهم، ينفرون الناس عن الإيمان) اهـ.
الوجه الثاني: أن قول الشاطبي (وفي الحديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه) خطأ، ففي الحديث (وأما من قال مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب) ولم يقولوا (أمطرنا نوء كذا وكذا) والفرق بين الأمرين ظاهر، فقولهم (مُطِرنا) مبني للمفعول، ولو بنيته للفاعل لكان التقدير (أمطرنا الله) فهم نسبوا الفعل إلى الله سبحانه ولكنهم جعلوا النوء سبباً في ذلك بدليل (باء السببية) الداخلة على (نوء كذا) ، والله سبحانه لم يجعل النوء سبباً قدرياً للمطر، والقاعدة المعلومة من النصوص أن جعل ما ليس بسببٍ سبباً شركٌ أصغر، كالطيرة مثلاً فقد جاء النص على أنها شرك لأن المتطير جعل ما لم يجعله الله سبباً للتطير، وكالتمائم فإن صاحبها جعلها سبباً في الحفظ وليست كذلك، وكالتولة فإن صاحبها جعلها سبباً للمحبة وليست كذلك، بخلاف الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله سبحانه أسباباً فإن نسبة مسبباتها إليها لا شئ فيها -كما سبق-، فهؤلاء لو قالوا (مُطِرنا بالسحاب) لكان الكلام صحيحاً ولا شئ فيه البتة، فإن السحاب سبب للمطر جعله الله كذلك، وذكره في كتابه، فالفرق بين المسألتين أن أولئك جعلوا ما ليس بسببٍ سبباً وهو النوء، وهؤلاء ذكروا سبباً قدرياً صحيحاً، والله تعالى أعلم.(1/120)
المسألة الثالثة: "مسألة التولد"
والمقصود بالتولد: وجود مسبب تولد من سبب مباشر من العبد، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، وزهوق النفس عن القتل، ونحوها، فذهب الشاطبي في هذه المسألة -كعادته-إلى مذهب الأشاعرة، وهو أن هذه الأمور من فعل الله سبحانه لا كسب فيها للمكلف ولا قدرة له عليها، وإليك نصوصه في ذلك:
1-قال في (الموافقات) 1/302: (ثبت في الكلام أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه لا كسب فيه للمكلف)
2-وقال في (الموافقات) 1/306: (فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات، فإذاً لا يتعلق التكليف إلا بمكتسب، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف، لأنها ليست من مقدورهم، ولو تعلق بها لكان تكليفاً بما لا يطاق) .
3- وقال في (الموافقات) 1/308: (إن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبِّب، وإنها ليست من مقدور المكلف) .
4-وقال في (الموافقات) 1/312: (إن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم) .
5-وقال في (الموافقات) 1/337: (المسببات التي حصل بها النفع والضر ليست من فعل المتسبب) .(1/121)
6-وقال في (الموافقات) 1/355: (قد تبين أن المسبب ليس للمكلف، ولم يكلف به، بل هو لله وحده) .
7-وقال في (الموافقات) 1/356: (- فسر حديث (وإن أصابك شئ فلا تقل:لو أني فعلت كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) – قال: فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان، لأنه التفات إلى المسبب في السبب، كأنه متولد عنه أو لازم عقلاً، بل ذلك قدر الله وما شاء فعل، إذ لا يعينه وجود السبب، ولا يعجزه فقدانه) (1) .
8-وقال في (الموافقات) 3/36: (المسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى، فالله هو خالق الولد من الماء، والسكر عن الشرب، كالشبع مع الأكل، والري مع الماء، والإحراق مع النار) .
9-وقال في (الموافقات) 3/440: (كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي، وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى) .
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه المسألة وتسمى (مسألة التولد) ويُمثل لها باندفاع الحجر عند اعتماد العبد عليه، فهل اندفاعه هذا مقدور للعبد ومن فعله أو من فعل الله سبحانه ولا قدرة للمكلف عليه؟ ذهب الأشاعرة تبعاً لمذهبهم في الجبر أنه فعلٌ لله سبحانه ولا قدرة للعبد عليه مطلقاً، وطردوا هذا في كل المسببات المتولدة عن الأسباب كالشبع من الأكل، والري من الشرب، والزهوق من القتل، وهكذا (2) ، أما المعتزلة فقد ذهبوا –طرداً لقاعدتهم في
__________
(1) وكلامه من هذا الجنس كثير في فصل الأسباب في (الموافقات) 1/301-405.
(2) انظر في مذهب الأشاعرة (التمهيد) ص334، (الإرشاد) ص 206، (الأربعين) 1/341، (المحصل) ص 200.(1/122)
القدر- إلى أن هذه المتولدات من فعل العبد فقط (1) .
والحق في هذه المسألة هو ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) :
(والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد، وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله، فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة على حصول الشبع، وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد، وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق السببين جميعاً، ولهذا كان العبد مثاباً على المتولدات، والله تعالى يكتب له بها عملاً، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة (3)
في آيتين في القرآن، قال تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولداً، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات، وكذلك غيظ الكفار، وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك، ثم قال الله تعالى (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم) فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه (إلا كتب لهم) ولم يقل: به عمل صالح، وأما الجوع والعطش
__________
(1) انظر (شرح الأصول الخمسة) ص 363.
(2) درء التعارض) 9/31-33.
(3) المباشرة هي: التي تكون متصلة بالعبد كالأكل والشرب والمشي والحركة.
والمتولدة هي: التي تكون منفصلة عن العبد بسبب فعل مباشر له كالشبع الناتج عن الأكل، والري الناتج عن الشرب.(1/123)
والنصب وغيظ الكفار وما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه (إلا كتب لهم به عمل صالح) فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان عمل بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله-إلى أن قال-ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة، وينهى عنها أخرى كما قال تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (1) وقال (إن تنصروا الله ينصركم) وقال تعالى (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) (2) وقال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) (3) فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين، وهذا مبسوط في موضعٍ آخر (4) .
الوجه الثاني: أن قوله –في تفسير الحديث- (فقد نبهك على أن (لو) تفتح عمل الشيطان لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم له عقلاً) فإنه تفسير على ما يوافق مذهبه في القدر وفي الأسباب والمسببات، وليس هذا تفسير الحديث، بل كانت (لو) تفتح عمل الشيطان لأنها دليل على الجزع والتسخط والتأسف على ما فات، وعدم الرضا بالقدر، وهذا هو المذموم هنا، فعلى العبد عند المصائب أن ينظر إلى القدر وأن لا يتحسر على الماضي (5) .
__________
(1) وزهوق أنفس المشركين متولد من فعل المسلمين، وهو هنا أمر به.
(2) والنصر في الآيتين متولد من جهاد المسلمين.
(3) وتعذيب الله للمشركين هنا وإخزاؤهم ونصر المسلمين عليهم وإشفاء صدور المؤمنين كلها متولدات من قتال المسلمين.
(4) انظر في هذا (الدرء) 9/338-343، (الفتاوى) 8/521،522، (تلخيص الاستغاثة) ص 221-224.
(5) انظر (الفتاوى) 8/77، (شفاء العليل) ص 34، (فتح المجيد) ص 462.(1/124)
ولو كان الأمر كما قال الشاطبي لما جاز استعمال (لو) مطلقاً لأنها بالمعنى الذي ذكره، وقد جاء في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولأهللت بالعمرة) فسوق الهدي هنا هو السبب في عدم إحلاله من عمرته، وفي الحديث الآخر الصحيح -في الرجل المتمني الخير- (لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان) فالسبب في عدم عمله عدم ملكه مثل ماله، وفي الحديث الآخر (لو صبر أخي موسى ليقص الله علينا من نبئهما) فالسبب في عدم القص عدم صبر موسى، فعلى تفسير الشاطبي لا يجوز استعمال (لو) في مثل هذا لأنها التفات إلى المسبب في السبب، وهذا لا يصح لما سبق بيانه من القول الصحيح في مسألة الأسباب، وللأحاديث التي ثبت فيها استعمال (لو) في حالة تمني الخير، وإنما المذموم استعمالها في التسخط حال المصيبة، والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: "ترك الأسباب نظراً إلى القدر"
1-قال في (الموافقات) 1/329-بعد كلام-: (إن غلّب الثاني -الأسباب بيد خالق المسببات- فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة، فإنه إذا جاع مثلاً فأصابته مخمصه فسواء عليه أتسبب أم لا، إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى، فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك، لأن علمه بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعيين، بل السبب وعدمه في ذلك سواء) .(1/125)
2-وقال في (الموافقات) 1/331: (من تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق صح أن يقال إنه لا يجب عليه التسبب فيه، ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال ويقتحمون الأخطار ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكة فلا يكون كذلك بناءً على أن ما هم فيه من مواطن الضرر وأسباب التهلكة يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن وأسباب النجاة) .
قلت:
وهذا الكلام فيه نَفَسٌ صوفي، فإن مضمون كلامه إسقاط الأسباب نظراً إلى القدر، وهذا ما يسمى عند الصوفية (توحيد الخاصة) (1) ، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال) -ثم ذكر كلام الصوفية في هذا ونقضه-. (2)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (3) -في ترك الأسباب نظراً إلى القدر-: (ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين، ومخالف لصريح المعقول، ومخالف للحس والمشاهدة، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إسقاط الأسباب نظراً إلى القدر فرد ذلك كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (ما منكم من أحدٍ إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا: (يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب) فقال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وفي الصحيح أيضاً أنه قيل له (يا رسول الله، أرأيت ما يكدح الناس فيه اليوم ويعملون، أشئ قضي عليهم ومضى، أم فيما
__________
(1) مدارج السالكين) 3/495.
(2) تلبس إبليس) ص 314.
(3) منهاج السنة) 5/362-366.(1/126)
يستقبلون مما أتاهم فيه الحجة؟) فقال: (بل شئ قضي عليهم ومضى فيهم) قالوا: (يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا) فقال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له (أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟) قال: (هي من قدر الله) - ثم أخذ يذكر الأدلة في ذلك إلى أن قال- وهو مسبب الأسباب وخالق كل شئ بسبب منه لكن الأسباب قال فيها أبو حامد وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما: (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (القول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية أتباع الجهم بن صفوان في الجبر فإنه كان غالياً فيه –إلى أن قال- وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين، بل ولسائر أديان الرسل، ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها، ولم يمكنهم ذلك، فإنهم لابد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم، فإن قيل: هلا أسقطتم ذلك؟ قالوا: لأجل الاقتران العادي، فإن قيل لهم: هلا قمتم بما أسقطتموه من الأسباب لأجل الاقتران العادي أيضاً، فهذا المذهب قد فطر الله سبحانه الحيوان – ناطقه وأعجمه- على خلافه –إلى أن قال- وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره يبطل هذا المذهب ويرده، كما تبطله العقول والفطر والحواس) اهـ.
__________
(1) مدارج السالكين) 3/495.(1/127)
المبحث الثالث: "تفسير الظلم"
قال في (الموافقات) 2/354: (بل لو عذب أهل السماوات والأرض لكان ذلك بحق الملك) .
قلت:
وكلامه هذا موافق لمذهبه في القدر -وهو نفس كلام الأشاعرة- فإن الأشاعرة يفسرون الظلم بأنه التصرف في ملك الغير،والله سبحانه وتعالى له كل شئ فيمتنع عليه الظلم (1) ، لذلك قالوا: بأن كل ما يقدره الذهن من الممكنات فليس بظلم إن فعله الرب لأن هذا له بحق الملك.
والصحيح ما عليه أهل السنة أن الظلم هو وضع الشئ في غير موضعه، وأن الله سبحانه قادر على الظلم لكنه منزه عنه كما قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) يعني:فلا يخاف أن يحمل عليه سيئات غيره فيعاقبه عليها، ولا لا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها-كما قال أهل التفسير (2) -،وكما قال تعالى (ولا يظلمون نقيرا) وقوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) وقوله تعالى (وما ربك بظلام للعبيد) وقوله (فلا تظلم نفس شيئاً) وغيرها من الآيات،
__________
(1) انظر (إحياء علوم الدين) 1/133، وانظر (منهاج السنة) 1/135، (النبوات) ص 97.
(2) تفسير الطبري) 8/462.(1/128)
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي إني حرمت الظلم عل نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فكل هذه النصوص تدل على أن الظلم ينزه الله عنه مع قدرته عليه، إذ لا ينزه عن ممتنع عليه، وأن الله سبحانه حرمه على نفسه.
وأما حديث ابن الديلمي –في السنن-: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم) فليس ذلك (بحق الملك) كما قال الشاطبي، فإن الله سبحانه له كل شئ ومع ذلك تنزه عن أشياء، وإنما معنى الحديث أنه لو عذبهم لكان ذلك تعذيباً يستحقونه لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم، كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لن ينجي أحداً منكم عمله) قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(
فرحمته ليست في مقابلة أعمالهم، ولا هي ثمناً لها، فإنها خير منها، كما قال في الحديث نفسه: (ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) أي فجمع بين الأمرين في الحديث أنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ولم يكن ظالماً لهم، وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه لا بأعمالهم، إذ رحمته خير من أعمالهم، فصلوات الله وسلامه على من خرج هذا الكلام أولاً من شفتيه، فإنه أعرف الخلق بالله وبحقه وأعلمهم به وبعدله وفضله وحكمته وما يستحقه على عباده.
وطاعات العبد كلها لا تكون مقابلة لنعم الله عليهم ولا مساوية لها، بل ولا
__________
(1) مفتاح دار السعادة) ص 428.(1/129)
للقليل منها، فكيف يستحقون بها على الله النجاة؟. وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكراً، والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله، فما نجا منهم أحد إلا بعفوه ومغفرته، ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته.
وإذا كانت هذه حال العباد فلو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم لا لكونه قادراً عليهم وهم ملكه، بل لاستحقاقهم، ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم) اهـ (1) .
__________
(1) وانظر (منهاج السنة) 1/134-141،3/20وما بعدها.(1/130)
الباب الثالث: "في مخالفاته الأخرى"
وتحته ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تأثره بعلم الكلام.
الفصل الثاني: تأثره بالصوفية.
الفصل الثالث: إنكاره المهدي.(1/131)
الفصل الأول: "تأثره بعلم الكلام"
تمهيد:
تأثر الشاطبي رحمه الله تعالى بعلم الكلام تأثراً ظاهراً، بل إنه كما يتضح من كثير من كلامه يعظم هذا العلم، وما سبق في مباحث التوحيد والإيمان والقدر جزء من تأثره به، وقد ذكرت أن كتب الكلام هي موارده في تقرير العقائد ويحيل إليها دائماً (1) ، وفي هذا الفصل سوف أذكر بعض المسائل الأخرى التي ظهر فيها تأثره بهم من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: كلامه في النبوات.
المبحث الثاني: كلامه في الميزان.
المبحث الثالث: كلامه في الأخبار.
المبحث الرابع: في تعظيم علم الكلام.
__________
(1) ومن الأمثلة على إحالاته عليها -مما لم يسبق ذكره- (الموافقات) 1/27،40،2/9،4/13.(1/133)
المبحث الأول: "كلامه في النبوات"
1-قال في (الموافقات) 2/484: (إنه لولا أن اطراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله، فضلاً أن تعرف فروعه، لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارنٍ للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترناً بالدعوة خارقاً للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفاً لما اطرد عليه الأمر والداعي صادق، فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقه اضطراراً لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن بدون اقتران الدعوة والتحدي، لكن العلم بصدقه حاصل، فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضاً وهو المطلوب) .
2-وقال في (الموافقات) 2/486: (إذا رأينا جزئياً انخرقت فيه العادة على شرط ذلك دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اقترنت بالتحدي، أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك) .
قلت:
ويظهر في الكلام السابق تأثره بأهل الكلام من وجوه:(1/134)
الوجه الأول: أن قوله (لا سبيل إلى الاعتراف بالنبوة إلا بواسطة المعجزة) موافق لما ذهب إليه المتكلمون في إثبات النبوة من المعتزلة (1) والأشاعرة (2) وغيرهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (3) -عن طريقتهم في ذلك-: (هذه الطريقة هي من أتم الطرق عند أهل الكلام والنظر حيث يقررون نبوة الأنبياء بالمعجزات ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لتقرير نبوة الأنبياء، لكن كثير من هؤلاء بل كل من بنى إيمانه عليها يظن أنا لا نعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، ثم لهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق متنوعة وفي بعضها من التنازع والاضطراب ما سننبه عليه، والتزم كثير من هؤلاء إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك-إلى أن قال- ومنهم من يجعل المعجزة دليلاً ويجعل أدلة أخرى غير المعجزة وهذا أصح الطرق، ومن لم يجعل دليلها إلا المعجزة اضطر لهذه الأمور (4) التي فيها تكذيب لحق أو تصديق لباطل، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون الكلام المبتدع فإن أصحابه يخطئون إما في مسائلهم وإما في دلائلهم فكثيراً ما يثبتون دين المسلمين في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على أصولٍ ضعيفة بل فاسدة، ويلتزمون لذلك لوازم يخالفون بها السمع الصحيح
__________
(1) انظر (شرح الأصول الخمسة) ص568.
(2) انظر (الإنصاف) ص 54، (الإرشاد) ص260، (نهاية العقول) ص 417، (المحصل) ص207.
(3) شرح العقيدة الأصفهانية) ص88.
(4) يعني بهذه الأمور إما إنكار الكرامات والسحر كما ذهب إليه المعتزلة وغيرهم، وإما التسوية بين خوارق الأنبياء والأولياء والسحرة والتفريق بينها بمجرد الدعوى والتحدي ونحوه مما سيأتي إن شاء الله تعالى.(1/135)
والعقل الصريح، وهذا حال الجهمية من المعتزلة وغيرهم) اهـ.
واعلم أن ما ذهب إليه الأشاعرة في هذا –ووافقهم عليه الشاطبي-هو بناءً على معتقدهم في القدر من نفي الحكمة والتحسين والتقبيح العقليين (1) وتجويزهم على الله فعل كل ممكن، فهم يجوزون على الله إرسال كل أحد، فليست الرسالة عندهم اصطفاء من الله سبحانه لسبب أو حكمة، فالنبوة عندهم صفة إضافية راجعة إلى خطاب الشارع فقط، وليست صفة ثبوتية في نفس النبي،كما يقولون ذلك في الأعيان والأفعال وأن حسنها وقبحها راجع إلى خطاب الشارع لا إلى صفاتٍ فيها، كالصدق عندهم فليس حسناً لذاته بل لأمر الله به، ولو انعكس فنهى عنه لصار قبيحاً، وكذلك قولهم في النبوة أنها ليست اصطفاء من الله للنبي بسبب صفات يتميز بها على غيره بل هو اصطفاء من غير سبب ولا حكمة (2) ، ولما كان هذا مذهبهم احتاجوا إلى تمييز الصادق من الكاذب بالمعجزة-لتجويزهم على الله أن يرسل كل أحد سواء كان معروفاً بالصفات الحسنة أو السيئة قبل النبوة-.
وهذا الكلام فاسد –سبق إبطال بعضه في مبحث التحسين والتقبيح- فإن الصحيح أن النبوة صفة ثبوتية وإضافية معاً (3) ، فقد قال الله تعالى (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) ، وقوله تعالى –عن موسى- (ولتصنع على عيني) ،وقال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فهو سبحانه حكيم يضع الأمور في مواضعها، فهو أعلم بمن يصلح لرسالته ممن يتصف بالأخلاق الجميلة والبريء من الأخلاق الدنيئة (4) ، وهو ذو الحكمة البالغة في أمره ونهيه وأفعاله،
__________
(1) راجع ص61.
(2) انظر (النبوات) ص100،195،256.
(3) النبوات) ص256، (شرح العقيدة الأصفهانية) ص124.
(4) انظر (تفسير ابن كثير) 2/194، (تفسير ابن سعدي) 2/66.(1/136)
لهذا فالكلام على النبوة فرع على إثبات الحكمة (1) .
وقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت في القرن الذي كنت فيه) ، وروى مسلم عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ، وروى أحمد عن العباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً) وروى أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته) .
فالله سبحانه حكيم في أفعاله، لا يبعث أي أحد –كما يقوله هؤلاء-، بل يصطفي من يشاء من خلقه ممن يتصف بصفات تؤهله لذلك كما في الأحاديث السابقة، فإذا ثبت هذا الأمر فحصر دليل النبوة على المعجزة خطأ، بل النبوة تعلم بطرقٍ كثيرة غير طريق المعجزات، فإن الناس إذا قويت حاجتهم إلى معرفة الشئ يسر الله أسبابه (2) .
لهذا كان إيمان خديجة رضي الله عنها قبل ظهور المعجزات، بل إنها
__________
(1) النبوات) ص233.
(2) انظر (الجواب الصحيح) 1/32،33، (شرح العقيدة الأصفهانية) 88-106.(1/137)
استدلت بأحواله قبل النبوة على صدقه بعدها فقالت –كما ثبت في الصحيحين- (كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) ، وكذلك إيمان أبي بكرٍ - رضي الله عنه - وغيره من السابقين كان قبل ظهور المعجزات بل لما يعلمون من أحواله وصدقه وأمانته، وكذلك هرقل استدل على صدقه بخصاله وصفاته قبل أن يوحى إليه، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان - رضي الله عنه - حدثه -بالحديث الطويل في إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه للإسلام وإرسال هرقل لأبي سفيان يسأله وكان مشركاً- وفيه قول هرقل (وسألتك عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، -وفيه- وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، -وفيه- إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي) (1) .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى (2) :
(
وإذا تأمل المنصف ما قدمناه من جميل أثره، وحميد سيره، وبراعة علمه، ورجاحة عقله وحلمه، وجملة كماله، وجميع خصاله، وشاهد حاله وصواب مقاله، لم يمتر في صحة نبوته وصدق دعوته، وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به، فروينا عن الترمذي وابن قانع بأسانيدهم أن عبد الله بن سلام قال لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جئته لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت
__________
(1) انظر (الجواب الصحيح) 4/387 وما بعدها.
(2) الشفا) 1/246-248.(1/138)
أن وجهه ليس بوجه كذاب ... وعن أبي رمثة التيمي:أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابن لي فأريته، فلما رأيته قلت: هذا نبي الله، وروى مسلم وغيره أن ضماداً لما وفد عليه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، قال له: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فلقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك، وقال جامع بن شداد: كان رجل منا يقال له طارق فأخبر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فقال: هل معكم شئ تبيعونه؟ قلنا:هذا البعير، قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا وسقاً من تمر، فأخذ بخطامه وسار إلى المدينة، فقلنا: بعنا من رجل لا ندري من هو؟ ومعنا ظعينة، فقالت: أنا ضامنة لثمن البعير، رأيت وجه رجلٍ مثل القمر ليلة البدر، لا يخيس بكم، فأصبحنا فجاء رجل بتمر فقال: أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر وتكتالوا حتى تستوفوا، ففعلنا، وفي خبر الجولندى ملك عمان لما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام قال الجولندى: والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شئ إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي، وقال نفطويه في قوله
تعالى (يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار) هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يقول: يكاد منظره يدل على نبوته وإن لم يتل قرآناً كما قال ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر) اهـ.
الوجه الثاني: قوله (ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة) فإن هذا تعريف المتكلمين للمعجزة، فإنهم جعلوا حدها الذي تعرف به أنها الفعل(1/139)
الخارق للعادة، وهذا هو المحظور، فالخارق للعادة جنس عام يدخل فيه معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق الشياطين، ولأنهم حدوا المعجزة بهذا –ولم يميزوا بينها وبين غيرها-فقد افترقوا إلى حزبين:
الحزب الأول: وهم الذين أنكروا الكرامات وخوارق السحرة ونحوهم لئلا يلتبس عندهم النبي بغيره إذا خرقت العادة لكل واحد منهم –لأن جنس الخوارق عندهم واحد-، وهؤلاء هم المعتزلة (1) ، وغيرهم كابن حزم الظاهري (2) .
والحزب الثاني: وهم الذين أجازوا أن يكون كل خرقٍ لعادة من معجزات الأنبياء حتى لو كان من جنس خوارق الشياطين، وهم الأشاعرة ومن تبعهم (3) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (4) :
(
ومن هنا دخل الغلط على كثير من الناس، فإنهم لما رأوا آيات الأنبياء خارقة للعادة لم يعتد الناس مثلها، أخذوا مسمى خرق العادة ولم يميزوا بين ما يختص به الأنبياء ومن أخبر بنبوتهم، وبين ما يوجد معتاداً لغيرهم، واضطربوا في مسمى هذا الاسم كما اضطربوا في مسمى المعجزات، ولهذا لم يسمها الله في كتابه إلا آيات وبراهين، فإن ذلك اسم يدل على مقصودها ويختص بها لا يقع على غيرها، لم يسمها معجزة ولا خرق عادة، وإن كان ذلك من بعض صفاتها، فهي لا تكون آية وبرهاناً حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس
__________
(1) شرح الأصول الخمسة) ص 572.
(2) الأصول والفروع) لابن حزم ص 132، و (الدرة فيما يجب اعتقاده) ص 192، وانظر (النبوات) ص2،102.
(3) انظر (النبوات) ص210،219،268.
(4) النبوات) ص207.(1/140)
عن الإتيان بمثلها، لكن هذا بعض صفاتها وشرط فيها وهو من لوازمها، لكن شرط الشئ ولوازمه قد يكون أعم منه، وهؤلاء جعلوا مسمى المعجزة وخرق العادة هو الحد المطابق لها طرداً وعكساً، كما أن بعض الناس يجعل اسمها أنها عجائب، وآيات الأنبياء إذا وصفت بذلك فينبغي أن يقيد بما يختص بها، فيقال: العجائب التي أتت بها الأنبياء وخوارق العادات والمعجزات التي ظهرت على أيديهم، أو التي لا يقدر عليها البشر، أو لا يقدر عليها الإنس والجن، أو التي لا يقدر عليها إلا الله، بمعنى أنه لا يقدر عليها أحد بحيلة أو اكتساب كما يقدرون على السحر والكهانة، فبذلك تتميز آياتهم عما ليس من آياتهم) وقال رحمه الله تعالى (1) : (
إن آيات الأنبياء هي الخوارق التي تخرق عادة جميع الثقلين فلا تكون لغير الأنبياء ولغير من شهد لهم بالنبوة، وهذا كلام صحيح فصلنا به بين آيات الأنبياء وغيرهم بحد مطرد منعكس، بخلاف من قال هي خرق العادة ولم يميز بينها وبين غيرها وتكلم في خرق العادة بكلام متناقض، تارة يمنع وجود السحر والكهانة، وتارة يجعل هذا الجنس من الآيات ولكن الفرق عدم المعارضة-إلى أن قال- وأما آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم وبها وجب على الناس الإيمان بهم فهي أمر يخص الأنبياء لا يكون للأولياء ولا لغيرهم، بل يكون من المعجزات الخارقة للعادات، الناقضة لعادات جميع الإنس والجن غير الأنبياء) (2) اهـ.
__________
(1) النبوات) ص 217..
(2) وانظر في هذا (النبوات) 4،14،189،193-195،207،212،217-218، (الجواب الصحيح) 4/280.(1/141)
فتبين مما مضى أن جعل حد المعجزة أنها الأمر الخارق للعادة فقط قصور جعل بعض المبتدعة ينكرون خوارق الأولياء وخوارق السحرة والكهنة لئلا تلبتس بزعمهم بخوارق الأنبياء إذ الجميع خرق للعادة، وجعل آخرين يجوزون أن يكون كل خارق للعادة معجزة للنبي أو خارقاً لساحر أو كاهن، والحد الصحيح للمعجزات أن تقيد بأنها خوارق العادات التي تختص بالأنبياء ونحوه كما سبق.
الوجه الثالث: قوله (إذا اقترنت بالتحدي) وقوله (لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترناً بالدعوة خارقاً للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفاً لما اطرد إلا والداعي صادق) وقوله (إذا رأينا جزئياً انخرقت فيه العادة على شرط ذلك دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اقترنت بالتحدي، أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك) فهذا كله على أصل الأشاعرة في نفي الحكمة وأن الله سبحانه يفعل بلا سبب بل لمحض المشيئة، وذلك أنهم جوزوا أن تكون معجزة النبي أي خارقٍ للعادة حتى ولو كانت من خوارق السحرة والكهنة ونحوهم،والعكس، فجوزوا أن يخرق للسحرة والكهنة ما يخرق للأنبياء، فإذا قيل لهم: فما الفرق بين خارق النبي وغيره إذا كان جنسه واحداً، وكيف التمييز بين هذه الخوارق؟ قالوا: يكون الخارق معجزة للنبي إذا قارنه التحدي ودعوى النبوة وعدم المعارضة، فهذا هو الفرق بين معجزات الأنبياء وغيرهم عندهم (1) .
__________
(1) انظر (الإنصاف) ص54، (الإرشاد) ص269، (نهاية الأقدام) ص421، (المحصل) ص 207،وانظر في نقضه (النبوات) 102-122،189-190.(1/142)
وهذا باطل، وقد سبق في الوجه الأول ذكر الحد الصحيح لمعجزات الأنبياء، وأن آيات الأنبياء مختصة بهم لا تلتبس بغيرها، وأن جنس معجزات الأنبياء لا يستطيع أحد من الإنس والجن أن يأتي بمثلها كانشقاق القمر، وكجعل العصا حية تسعى والتي بسببها ألقي السحرة سجداً لعلمهم بأن هذا ليس في مقدور أحد من الإنس أو الجن، وغيرها من الآيات، وهذا بخلاف خوارق السحرة والكهنة فإنها من جنس مقدورات المخلوقات عموماً (1) ، وآيات الأنبياء ليس من شرطها أن يستدل بها أو يتحدى بها، بل هي دليل على نبوته وإن خلت عن التحدي، بل لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التحدي إلا في القرآن خاصة، ولا نقل التحدي عن غيره من الأنبياء في الجملة (2) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (3) :
(
والجهمية المجبرة الذين قالوا إن الله قد يفعل كل ممكن مقدور، لا ينزهونه عن فعل شئ، ويقولون إنه يفعل بلا سبب ولا حكمة، وهو الخالق لجميع الحوادث، لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة ولا ما تأتي به الشياطين، بل الجميع يضيفونه إلى الله على حدٍ واحد، ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم حتى يأتي الرسول، فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شئ من الخير والشر والحسن والقبيح، فلهذا لم يفرقوا بين آيات الأنبياء وخوارق السحرة والكهان، بل قالوا: ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الأنبياء، وما يأتي به الأنبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان، لكن
__________
(1) انظر (النبوات) ص 107.
(2) انظر (النبوات) ص106،121،141.
(3) النبوات) ص210.(1/143)
إن دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله، لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله، فهؤلاء لما رأوا ما جاءت به الأنبياء وعلموا أن آياتهم تدل على صدقهم، وعلموا ذلك إما بضرورة أو بنظر، واحتاجوا إلى بيان دلائل النبوة على أصلهم، كان غاية ما قالوا: إن كل شئ يمكن أن يكون آية للنبي بشرط أن يقترن بدعواه، وبشرط أن يتحدى بالإتيان بالمثل، فلا يعارض، ومعنى التحدي بالمثل أن يقول لمن دعاهم: ائتوا بمثله، وزعموا أنه إذا كان هناك سحرة وكهان وكانت معجزته من جنس ما يظهر على أيديهم من السحر والكهانة فإن الله لا بد أن يمنعهم عن فعل ما كانوا يفعلونه، وأن من ادعى منهم النبوة فإنه يمنعه من تلك الخوارق، أو يقيض له من يعارضه بمثلها، فهذا غاية تحقيقهم، وفيه من الفساد ما يطول وصفه) (1) .
وقال أيضاً (2) : (إن هؤلاء حقيقة قولهم إنه ليس للنبوة آية تختص بها (3) ، كما أن حقيقة قولهم إن الله لا يقدر أن يأتي بآية تختص بها (4) ، وأنه لو كان قادراً على ذلك لم يلزمه أن يفعله، بل ولم يفعله، فهذان أمران متعلقان بالرب،إذ هو عندهم لا يقدر أن يفعل شيئاً لشئ، والآية إنما تكون آية إذا فعلها لتدل ولو قدر أنه قادر فهم يجوزون عليه فعل كل شئ فيمكن أنه لم يجعل على صدق النبي دليلا، وأما الذي ذكرناه عنهم هنا فإنه يقتضي أنه لا دليل عندهم على نبوة النبي، بل كل ما قدر دليلاً فإنه يمكن وقوعه مع عدم النبوة فلا يكون
__________
(1) وانظر في التفريق بين المعجزات وخوارق السحرة والكهان (النبوات) 127،275،279-286.
(2) النبوات) ص199.
(3) لجعلهم آيات الأنبياء من جنس خوارق الشياطين.
(4) لنفيهم الحكمة وأن الله سبحانه لا يفعل شيئاً لشئ.(1/144)
دليلاً، فهم هناك (1) حقيقة قولهم:إنا لا نعلم على النبوة دليلاً، وهنا (2) حقيقة قولهم إنه لا دليل على النبوة، ولهذا كان كلامهم في هذا منتهاه إلى التعطيل) اهـ.
الوجه الرابع: قوله (حصل العلم بتصديقه اضطراراً) فهذا الكلام اتبع فيه الجويني (3) وغيره، وذلك بناءً على أصلهم –والذي سبق ذكره مراراً-بتجويز أن يفعل الله كل شئ، وأن خوارق الأنبياء والسحرة والكهان جنسها واحد، فأرادوا التفريق بين ما يظهر من النبي والمتنبي فقالوا بأنه يحصل العلم الضروري عند حدوث المعجزة على يد النبي، مع أن هذا يستلزم بطلان ما أصلوه من أن الله سبحانه لا يخلق شيئاً لشئ ونفيهم للحكمة والسببية (4) .
أما حصول العلم الضروري عند وقوع المعجزات فقد يقع، وقد يحصل العلم بالنظر والاستدلال ولا يقع ضرورة، بحسب المعجزة، وبحسب الناظر فيها، فإن الناس يختلفون في الإدراك، فمنهم من يحصل له العلم الضروري لعلمه بلوازمها علماً بيناً لا يحتاج فيه إلى استدلال، ومنهم من يحتاج إلى النظر والاستدلال ليتبين له ذلك (5) ، والله تعالى أعلم.
__________
(1) أي في باب أفعال الرب لنفيهم للحكمة وأن الله لا يفعل شيئاً لشئ،فلا يستدلون بأنه أتى بالخارق ليدل على النبوة.
(2) أي في باب النبوات وتسويتهم بين خوارق الأنبياء وخوارق الشياطين، فلا دليل يختص بالنبوة.
(3) الإرشاد) ص 275.
(4) انظر (النبوات) ص268.
(5) انظر (النبوات) ص223،224، (الجواب الصحيح) 4/326.(1/145)
المبحث الثاني: "كلامه في الميزان"
قال في (الاعتصام) 2/842: (الميزان يمكن إثباته ميزاناً صحيحاً على ما يليق بالدار الآخرة وتوزن فيه الأعمال على وجهٍ غير عادي، نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض وهي الأعمال لا توزن وزن الموزونات عندنا في العادات وهي الأجسام، ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه، أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها، فالأخلق الحمل إما على التأويل، وإما على التسليم، وهذه الأخيرة طريقة الصحابة -ثم قال- فإن قيل: فالتأويل إذاً خارج عن طريقتهم، فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارجة، قيل: لا، لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضاً، أو مع التأويل نظر لا يبعد، إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع) .
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أنه هنا سوّغ ما سماه (التأويل) للميزان -بمعنى إنكار أن يكون ميزاناً حسياً توزن فيه الأعمال يوم القيامة- وهو خلاف ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة (1) ، وخلاف ما ذهب إليه الأشاعرة متقدموهم (2)
__________
(1) انظر (الفتاوى) 4/302، (شرح العقيدة الطحاوية) ص608، (لوامع الأنوار) 2/184، (معارج القبول) 2/844.
(2) انظر (المقالات) ص472، (الإنصاف) ص46.(1/146)
ومتأخروهم (1) ، بل وخلاف ما ذهب إليه المعتزلة البصريون، فإن تأويل الميزان هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصريين (2) ، والبغداديون أعظم ابتداعاً وأشد غلواً من البصريين (3) .
وقد روى حنبل بن إسحاق رحمه الله تعالى في كتاب (السنة) عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال رداً على من أنكر الميزان ما معناه (قال الله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان يوم القيامة، فمن رد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد رد على الله عز وجل (4) .
الوجه الثاني: أن قوله (ولم يأت في النقل أنه كميزاننا من كل وجه) إن أراد به أنه ليس كميزاننا هذا في حقيقته وكيفيته ومقداره ونحو ذلك فهذا صحيح، فإن هذا من علم الغيب، ولا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله سبحانه، وإن أراد بذلك نفي أن يكون له كفتان حسيتان مشاهدتان فإن هذا غير صحيح، بل ورد في النقل ما يثبت ذلك، فقد روى أحمد والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً، أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، ويقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله
__________
(1) انظر (الإرشاد) ص320، (المحصل) ص 235.
(2) انظر (درء التعارض) 5/348.
(3) انظر (الفتاوى) 6/320،13/300، (الفتاوى الكبرى) 6/553.
(4) انظر (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي 3/1173، (فتح الباري) لابن حجر 13/658ح7563.(1/147)
وأن محمداً عبده ورسوله) فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) وفي رواية (فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة) ، وروى اللالكائي والآجري وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي عثمان النهدي عن سلمان - رضي الله عنه - أنه قال (يوضع الميزان وله كفتان) (1) ، وغيرها من النصوص.
الوجه الثالث: أن قوله (أو أنه عبارة عن الثقل-يعني لم يأت في النقل-) غير صحيح، بل ورد ما يدل على ذلك، ومن ذلك حديث البطاقة السابق وفيه (وثقلت البطاقة) ، ومنه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، ومنه ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود وغيرهم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (ما من شئ أثقل في ميزان المؤمن من الخلق الحسن) وغيرها.
الوجه الرابع: أن قوله (أو أنفس الأعمال توزن بعينها) فغير صحيح أيضاً فقد ورد أن الأعمال نفسها توزن، كالحديثين السابقين في الكلمتين الثقيلتين في الميزان وفي الخلق الحسن، ومنه ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (الطهور شطر الميزان، والحمد لله تملأ الميزان) .
وقد وردت أحاديث تدل على أن الأعمال نفسها توزن كهذه الأحاديث، ووردت أحاديث تدل على أن صحائف الأعمال توزن كحديث البطاقة
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 3/1173، (الشريعة) 3/1329.(1/148)
السابق، ووردت أحاديث تدل على أن صاحب العمل يوزن أيضاً كما روى أحمد وغيره عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن ساقي عبد الله ابن مسعود – وكانتا دقيقتين- (والذي نفسي بيده هما في الميزان أثقل من أحد) ، ولا مانع يمنع من أن يكون الوزن للجميع كما دلت عليه هذه النصوص (1) ، والله تعالى أعلم.
الوجه الخامس: أن قوله (فإن قيل فالتأويل إذاً خارج عن طريقتهم –يعني طريقة الصحابة- قيل: لا) لا يصح، بل هو مخالف لطريقتهم أشد المخالفة، ومخالف لما دل عليه الكتاب ودلت عليه السنة والأحاديث الصحيحة، وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة (2) ، ولم يذهب إلى تأويل ذلك وإنكاره إلا غلاة المبتدعة.
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى (3) :
(فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات، فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان، ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقّال والفوّال!! وما أحراه أن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً) اهـ.
__________
(1) انظر (تفسير ابن كثير) 2/226، (معارج القبول) 2/845.
(2) حكى الإجماع غير واحد منهم ابن حجر في (فتح الباري) 13/659، والسفاريني في (لوامع الأنوار) 2/185.
(3) شرح العقيدة الطحاوية) 613.(1/149)
المبحث الثالث: "كلامه في الأخبار"
1-قال في (الموافقات) 1/27: (ووجود القطع فيها -أي في الأدلة الشرعية- على الاستعمال المشهور معدوم، أو في غاية الندور، أعني في آحاد الأدلة، فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنياً، فإنها تتوقف على: نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز والنقل الشرعي أو العادي والإضمار والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي،وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر، وقد اعتصم من يقول بوجودها بأنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادر أو متعذر) .
2-وقال في (الموافقات) 2/79-80: (إن المتمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنياً، فإنها تتوقف على: نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي أو العادي، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص للعموم، وعدم التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، وجميع ذلك أمور ظنية) .
3-وقال في (الموافقات) 3/310: (والأدلة التي يتلقى معناها من(1/150)
الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب، وذلك عسير جداً) .
قلت:
وهذا القول هو قول المبتدعة، وقد تزعم القول بذلك رأس الأشاعرة ومتكلمهم (الرازي) (1) ، وذكر بعض المتكلمين أنه مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة (2) ، بل قال في ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (3) : (فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم، وهذان هما مقدمتا الزندقة) وذكر في موضع آخر أنها من قواعد الإلحاد (4) ، وقال في هذا أيضاً (5) : (ولا ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق يبطل العلم بما بعث الله به رسوله،تارة يقول: لا نعلم أنهم قالوا ذلك (6) ، وتارة يقول: لا نعلم ما أراده بهذا القول (7) ، ومتى انتفى العلم بقولهم أو بمعناه لم يستفد من جهتهم علم، فيتمكن بعد ذلك أن يقول ما يقول من المقالات وقد أمن على نفسه أن يعارض بآثار الأنبياء، لأنه قد وكل ثغرها بذينك الدامحين الدافعين لجنود
__________
(1) انظر كتب الرازي: (المحصول في أصول الفقه) 1/1/548، (أساس التقديس) 234،235، (الأربعين) 2/251-254، (المحصل) ص51، وقد قال المعلمي رحمه الله تعالى (التنكيل) 2/326: (وأصل التشكيك كله للرازي كما يعلم من بعض كتب أصول الفقه) .
(2) انظر (التنكيل) للمعلمي 2/332.
(3) الفتاوى) 4/104.
(4) درء التعارض) 5/335.
(5) الفتاوى) 4/89.
(6) يعني لقولهم أخبار الآحاد ظنية.
(7) يعني لقولهم إن دلائل الألفاظ موقوفة على عشر مقدمات ظنية.(1/151)
الرسول عنه، الطاعنين لمن احتج بها. وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة، وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم إقرار من لا يتلقى من جهتهم علماً، فيكون الرسول عنده بمنزلة خليفة يعطى السكة والخطبة رسماً ولفظاً، كتابة وقولاً، من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع، فله صورة الإمامة بما جعل له من السكة والخطبة، وليس له حقيقتها) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين، وانتهكوا بها حرمة القرآن، ومحو بها رسوم الإيمان) ثم قال (وهذه الطواغيت الأربع: هي التي فعلت بالإسلام ما فعلت، وهي التي محت رسومه، وأزالت معالمه، وهدمت قواعده، وأسقطت حرمة النصوص من القلوب، ونهجت الطعن فيها لكل زنديق وملحد، فلا يحتج عليه المحتج بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله إلا لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت واعتصم به، واتخذه جنة يصد به عن سبيل الله، والله تعالى بحوله وقوته ومنه وفضله قد كسر هذه الطواغيت طاغوتاً طاغوتاً، على ألسنة خلفاء رسله وورثة أنبيائه، فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشهب الوحي، وأدلة المعقول، ونحن نفرد الكلام عليها طاغوتاً طاغوتاً) ثم قال: (الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين، قال متكلمهم-ويعني به الرازي وتبعه الشاطبي هنا-: مسألة الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة: عصمة رواة تلك الألفاظ، وإعرابها وتصريفها، وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص
__________
(1) الصواعق المرسلة) 2/632.(1/152)
بالأشخاص والأمكنة، وعدم الإضمار والتقديم والتأخير والنسخ، وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه، إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل لافتقاره إليه،فإذا كان المنتج ظنياً فما ظنك بالنتيجة؟) ثم بدأ في كسر هذا الطاغوت ونقضه في أكثر من سبعين وجهاً رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء (1) .
وقال رحمه الله في موضع آخر (2) :
(
الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك، ومدعي غير ذلك على المتكلم والقاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه، قال الشافعي:"وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظاهره بت"، ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء فهو ملبوس عليه، ملبِّس على الناس، فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط، وبطلت فائدة التخاطب، وانتفت خاصية الإنسان، وصار الإنسان كالبهائم بل أسوأ حالاً، ولما عُلِمَ غرض هذا المصنف من تصنيفه، وهذا باطل بضرورة الحس والعقل، وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجهاً مذكورة في غير هذا الموضع) (3) اهـ.
__________
(1) الصواعق المرسلة) 2/635-794.
(2) إعلام الموقعين) 3/121.
(3) ذكر أكثر من سبعين وجهاً في (الصواعق) كما سبق، وانظر في الرد على هذا القول أيضاً (التنكيل) للمعلمي2/325-333.(1/153)
المبحث الرابع: "في تعظيم علم الكلام"
ذكر في (الاعتصام) 1/202قصة طويلة نقلاً عن ابن العربي في كتابه (العواصم) وفي هذه القصة ما نصه:
(أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال: كنت أُبغِّض الناس فيمن يقرأ (علم الكلام) ، فدخلت يوماً إلى (الري) ، ودخلت جامعها أول دخولي واستقبلت سارية أركع عندها، وإذا بجواري رجلان يتذاكران (علم الكلام) ، فتطيّرت بهما، وقلت: أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره، وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما، فعلق بي من قولهما: "أن هؤلاء الباطنية أسخف خلق الله عقولاً، وينبغي للنحرير ألاّ يتكلف لهم دليلاً، وليكن يطالبهم بـ (لِمَ) فلا قِبل لهم بها "، وسلمت مسرعاً.
وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من الإسماعيلية القناع في الإلحاد، وجعل يكاتب (وشمكير) الأمير يدعوه إليه ويقول له: إني لا أقبل دين محمد إلا بالمعجزة، فإن أظهرتموها رجعنا إليكم.
وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلاً له دهاء ومُنَّة، فورد على (وشمكير) رسولاً، فقال له:إنك أمير، ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العوام ولا تقلد في عقيدتها، وإنما حقهم أن يفحصوا عن البراهين، فقال (وشمكير) : اختر رجلاً من أهل مملكتي، ولا أنتدب للمناظرة بنفسي، فيناظرك بين يدي، فقال الملحد: أختار (أبا بكر الإسماعيلي) -لعلمه(1/154)
بأنه ليس من أهل التوحيد، وإنما كان إماماً في الحديث، ولكن (وشمكير) بعامية فيه كان يعتقد أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم -، فقال (وشمكير) :ذلك مرادي، فإنه رجل جيد.
فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بـ (جرجان) ليرحل إليه إلى (غزنة) ، فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين وقال: سيبهت الإسماعيلي الكافر مذهباً الإسماعيلي الحافظ مذهباً (1) ، ولم يمكنهم أن يقولوا للملك: إنه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم، فلجئوا إلى الله في نصر دينه.
قال الإسماعيلي الحافظ: فلما جاءني البريد، وأخذت في المسير، وتدانت لي الدار قلت: إنا لله، وكيف أناظر فيما لا أدري؟ هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ويعلم بحجج الله على دينه؟ ندمت على ما سلف من عمري ولم أنظر في شئ من (علم الكلام) .
ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري، فقويت نفسي، وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي، وبلغت البلد، فتلقاني الملك ثم جميع الخلق، وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب، وقال الملك للباطني: اذكر قولك يسمعه الإمام، فلما أخذ في ذكره واستوفاه، قال له الحافظ: لِمَ؟ فلما سمعها الملحد قال:هذا إمام قد عرف مقالتي، فبُهِت.
قال الإسماعيلي: فخرجت من ذلك الوقت، وأمرت بقراءة (علم الكلام) ، وعلمت أنه عمدة من عمد الإسلام) اهـ.
قلت: والكلام على هذه القصة من وجوه:
الوجه الأول: المطالبة بتصحيحها، فإنها ذكرت بلا زمام ولا خطام،
__________
(1) كذا ولعله (نسباً) .(1/155)
ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وابن العربي –عفا الله عنه- له نقولات من هذا الجنس مر بعضها (1) .
الوجه الثاني: أن علامات الوضع ظاهرة على هذه القصة لأمرين:
الأول: أنه ذكر عن أبي بكر الإسماعيلي إنه كان يبغض الناس في علم الكلام، ثم لما طلب للمحاجة –قبل أن يتذكر تلك الكلمة ويعلم أن علم الكلام عمدة من عمد الإسلام-ندم على ما فاته من هذا العلم، فإن كان يعلم أن هذا العلم هو علم التوحيد وهو عمدة من عمد الإسلام-وهذا لم يعلمه إلا بعد المحاجة كما تدل عليه القصة- فلا مكان لبغضه له، وإن كان –على ما عليه أهل الحديث- يعلم أن هذا العلم طريق للبدع بل وللزندقة فلا مكان للندم عليه!!.
الثاني:أن عمدة القصة هي كلمة (لِمَ) ، ومن العجائب أن هذه الكلمة فعلت الأفاعيل التي قد لا نسمع مثلها عن آية أو حديث، فإنها خفيت على الإسماعيلي المحدث حتى سمعها من علماء الكلام، وهي التي حجت الإسماعيلي الكافر وألقته لليدين والفم، ونصرت الإسلام بعد أن يئس العلماء منه، وهي التي جعلت الإسماعيلي المحدث ينقلب من مبغض لعلم الكلام إلى آمر بقراءته وجعله عمدة من عمد الإسلام!! فهل يعقل أن هذه الكلمة تفعل هذا إلا في أساطير علماء الكلام لتعظيم علمهم؟!.
فالذي يظهر أن هذه القصة من وضع أحد معظمي علم الكلام لترويج هذا العلم، وللإزراء بعلماء الحديث.
الوجه الثالث: أنها لو صحت ففيها قدح في الحافظ الإسماعيلي من وجوه:
__________
(1) انظر ص31.(1/156)
الأول: أنه كان جاهلاً يحذر من علمٍ لا يدري ما هو.
الثاني: أن كلمة كهذه خفيت عليه حتى تعلمها من علماء الكلام.
الثالث: أن ما يعلمه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وغيرهم وطلبه للحديث ومزاحمته لعلمائه بالركب لم تفده أبداً،ولم يفده إلا هذه الكلمة!.
الرابع: أنه تطيَّر من علماء الكلام لما سمعهم، والتطير منهي عنه، بل هو شرك.
الخامس: أنه لما انتهت المناظرة أمر الناس بقراءة علم الكلام وجعله عمدة من عمد الإسلام وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة.
الوجه الرابع:أن العلماء –رحمهم الله -قد اتفقوا في كل عصر ومصر على ذم الكلام وأهله، وصنفت في ذلك مصنفات (1) ، ومن ذلك ما قاله أبو حنيفة: (لعن الله عمرو بن عبيد لأنه فتح للناس الطريق إلى الكلام) وقال أبو يوسف: (العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم) وقال: (من طلب العلم بالكلام تزندق) وقال الشافعي: (لئن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام) وقال: (حكمي على علماء الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام) وقال: (ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح) وقال أحمد: (لا يفلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة) وقال: (لا يرى أحد نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل) (2) .
__________
(1) ككتاب أبي إسماعيل الهروي (ذم الكلام وأهله) ، وكتاب أبي عبد الرحمن السلمي (ذم الكلام) ، وكتاب أبي محمد بن قدامة (تحريم النظر في كتب الكلام) ، وغيرها من الكتب.
(2) انظر (جامع بيان العلم وفضله) 2/116، (تلبيس إبليس) ص96، (تحريم النظر في كتب الكلام) ص41، (شرح العقيدة الطحاوية) ص17.(1/157)
وقال البربهاري (1) : (واعلم أنها لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة) .
وقال ابن خويز منداد (2) : (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها) .
وقال ابن عبد البر (3) : (وأجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار من طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه) .
وقال ابن الجوزي (4) : (وقد تنوعت أحوال المتكلمين، وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد، ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزاً، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا، ثم يرد الصحيح عليلاً، فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه) .
وقال محمد بن عبد الله القحطاني الأندلسي (5) :
لا تلتمس علم الكلام فإنه يدعو إلى التعطيل والهيمان
لا يصحب البدعي إلا مثله تحت الدخان تأجج النيران
__________
(1) شرح السنة) له ص38.
(2) جامع بيان العلم) 2/117.
(3) جامع بيان العلم) 2/117.
(4) تلبيس إبليس) ص95.
(5) نونية القحطاني) ص 45.(1/158)
علم الكلام وعلم شرع محمد يتغايران وليس يشتبهان
أخذوا الكلام عن الفلاسفة الألى جحدوا الشرائع غرة وأمان
حملوا الكلام على قياس عقولهم فتبلدوا كتبلد الحيران
لحجاجهم شبه تخال ورونق مثل السراب يلوح للظمآن
دع أشعريهمُ ومعتزليهم يتناقرون تناقر الغربان
كل يقيس بعقله سبل الهدى ويتيه تيه الواله الهيمان
وكلام الأئمة في هذا الباب كثير جداً، وفيما تقدم كفاية إن شاء الله تعالى (1) .
الوجه الخامس: أن بطلان علم الكلام لم يأت فقط من أهل السنة، بل حتى كبار علماء الكلام قد اعترفوا ببطلانه وأن الحق في تركه واتباع الكتاب والسنة –وقد تقدم شئ من ذلك (2) -.
ومن ذلك ما قاله أبو حامد الغزالي في (إحياء علوم الدين) (3) -عن علم الكلام-:
(
وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر علم
__________
(1) انظر في ذلك (ذم الكلام وأهله) للهروي،وكثير من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكتاب ابن قدامة (تحريم النظر في علم الكلام) ، وكتب الذهبي وتراجمه لعلماء الكلام، رحم الله الجميع.
(2) انظر ص54.
(3) 1/117، في الفصل الثاني من (كتاب قواعد العقائد) من الإحياء.(1/159)
الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود) .
ومن ذلك ما قاله الشهرستاني في مقدمة كتابه (نهاية الأقدام في علم الكلام) (1) :
(فعليكم بدين العجائز فهو من أسنى الجوائز) .
وما قاله الرازي: (من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز) (2) .
ومن ذلك ما قاله أبو الوفا بن عقيل -وكان من المتكلمين ثم تاب (3) -:
(أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) وقال: (وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين) (4) .
وقد سبق بعض النقولات من هذا الباب أيضاً عن غيرهم.
فإذا كان هذا واقع كبار علماء الكلام، ومن أمضوا فيه السنوات الطوال تعلماً وتعليماً وتأليفاً، فكيف يقال بعد ذلك عن علم الكلام أنه (عمدة من عمد الإسلام) ؟!.
الوجه السادس: أن أهل الحديث أقدر على المناظرة والدعوة إلى
__________
(1) ص 4.
(2) البداية والنهاية) 13/55.
(3) وله في توبته قصة مشهورة، وقد ألف أبو محمد بن قدامة كتابه (تحريم النظر في كتب الكلام) رداً على ابن عقيل هذا.
(4) تلبيس إبليس) ص98.(1/160)
الإسلام والمحاجة من أهل الكلام لأمور منها:
الأول: أن أهل الحديث على بينة من أمرهم لا تتفرق بهم الأهواء، ومعتقدهم واحد، ولا يعتنقون كل يوم ديناً كما يفعل علماء الكلام –باعترافهم-، فإذا كان علماء الكلام لم يثبتوا على دين، وهم من أعظم الناس شكاً واضطراباً، بل أصل علمهم التشكيك، فكيف يطلب منهم دعوة غيرهم؟.
الثاني: أن الصحابة –وهم أعلم الخلق بعد الأنبياء-أجهل الناس بعلم الكلام، ومع ذلك دعوا إلى الإسلام بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الأمم من لا يحصيهم إلا الله، وهدى الله على أيديهم من لا يحصيهم إلا الله، وكذلك التابعون والأئمة ومن سار على نهجهم وهم أهل الحديث في كل عصر ومصر، وأما المتكلمون فقد ضل على أيديهم –وبسبب تآليفهم-من لا يحصيه إلا الله، فكيف يقارن بين الفريقين بعد ذلك؟.
الثالث: أن أساس الدعوة للإسلام والمناظرة تستلزم أن يكون المناظر عالماً بالكتاب والسنة وأقوال العلماء والسلف، وهذا لا يكون إلا لأهل الحديث ومن سار على دربهم، وأما أهل الكلام فمن أجهل الناس بالكتاب والسنة وبأقوال السلف، فكيف يدعون ويناظرون ويجادلون عن شئ يجهلونه؟!.
والكلام في هذا يطول، ولا مقارنة بين الفريقين لولا هذه القصة الباطلة (1) ، ولكن الذي غر كثير من الناس وجعلهم يقولون إن المتكلمين أقدر من أهل الحديث على المناظرة أن أهل الكلام يتعلمون ويعلمون
__________
(1) وانظر في المقارنة بين الفريقين (الفتاوى) 4/9وما بعدها، (درء التعارض) 7/172وما بعدها.(1/161)
ويؤلفون في المغالبات وأنواع المجادلات والمناظرات والاستدلالات والقوادح في كلام الخصوم لأن قصدهم في الجملة التعالي على الخصوم والغلبة عليهم وإن كان الخصم محقاً، أما أهل الحديث والسنة فدعوتهم ومناظرتهم ليست للمغالبة، بل لبيان الحق،كما قال السجزي رحمه الله (1) : (وليكن من قصْد من تكلم في السنة اتباعها وقبولها لا مغالبة الخصوم، فإنه يعان بذلك عليهم، وإذا أراد المغالبة ربما غلب) ثم ذكر أن الإمام مالك رحمه الله سئل:يا أبا عبد الله، الرجل يكون عالماً بالسنة يجادل عليها؟ قال: لا، يخبر بالسنة، فإن قبلت منه، وإلا أمسك، وذكر عن الإمام أحمد رحمه الله نحوه، والخصم أحد رجلين: إما مريد للحق ضل عنه فببيانه له ينقاد إليه- ولا يعرف الحق إلا أهله وهم أهل الحديث-، وإما معاند فلن يرده للحق محدث ولا متكلم، والله المستعان.
__________
(1) الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص235.(1/162)
الفصل الثاني: "تأثره بالصوفية"
تمهيد:
على الرغم من جهود الشاطبي رحمه الله تعالى في التحذير من البدع في العبادات، والتي كان للصوفية فيها النصيب الأكبر، فقد تأثر ببعض ما ذهبوا إليه، وكان لرجوعه لكتب المتكلمين وعلمائهم أثر في ذلك، وكان كثير الرجوع لكتب أبي حامد الغزالي وخاصة (إحياء علوم الدين) (1) ، وسوف أذكر في هذا الفصل بعض مظاهر تأثره بالصوفية في المباحث التالية:
المبحث الأول: العمل رغبة في الجنة وخوفاً من النار.
المبحث الثاني: شطحات التصوف.
المبحث الثالث: التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله.
__________
(1) انظر (الموافقات) 1/361،362،458،2/356،3/527،542،4/252،255.(1/163)
المبحث الأول: "العمل رغبة في الجنة وخوفاً من النار"
1-قال في (الموافقات) 1/357-في ترك النظر إلى المسبب وأن ذلك أعلى مرتبة وأزكى عملاً-: (فالملتفت إليها عامل بحظه، ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي عامل على إسقاط الحظوظ وهو مذهب أرباب الأحوال) .
2-وقال في (الموافقات) 2/355-بعد كلام طويل عن العامل لحظه-: (ولذلك عن جماعة من السلف المتقدمين: العامل للأجر كخديم السوء وعبد السوء، وفي الآثار من ذلك أشياء) .
3-وقال في (الموافقات) 2/359: (فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر قليل إن وجد، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص، والإخلاص البرئ عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جداً، لا يصل إليه إلا خواص الخواص، وهو قليل) .
قلت:
وهذا الكلام يتضح فيه نَفَس التصوف، وذلك أنه جعل العمل لأجل الجنة والفرار من النار من العمل لحظ النفس، وجعل التجرد من ذلك والعمل لمجرد الأمر والنهي بدون النظر إلى ذلك من مراتب (خواص الخواص) ومذاهب (أرباب الأحوال) ، وهذا شبيه بكلام أهل التصوف كقول القائل: (ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا رغبة في جنتك، بل كرامة لوجهك ومحبة فيك) ، وكقول القائل:(1/164)
يعبدون الله خوفاً من لظى فلظى قد عبدوا لا ربنا
ولدار الخلد صلوا لا له شبه قومٍ يعبدون الوثنا
وسمى بعضهم من يعمل للأجر وطمعاً في الجنة أجير السوء، ونصوصهم في هذا الباب كثيرة (1) .
وهذا الكلام خلاف الكتاب والسنة وما عليه الأنبياء والمرسلين ومن بعدهم من الصديقين والصالحين، وهم (خواص الخواص) -إن صحت العبارة-، فإن الله سبحانه قال بعد أن ذكر أنبياءه -إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوطاً ونوحاً وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى صلى الله عليهم أجمعين- (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) فهؤلاء –وهم أفضل الخلق- كانوا يدعون الله سبحانه رغبة ورهبة، فأي رتبة أعلى من رتبتهم؟ وقال تعالى –عن إبراهيم خليله- (واجعلني من ورثة جنة النعيم) ، وقال تعالى عن عباده –مثنياً عليهم- (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) ، وقال تعالى (ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) ، وهذا كان حال سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين أحاديث كثيرة فيها تعوذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عذاب النار ومن جهنم وسؤاله الجنة وتعليمه ذلك للمسلمين، وروى أحمد وابن ماجه وغيرهم من طريق جبر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمها
__________
(1) انظر بعضها في (دراسات في التصوف) لإحسان ظهير ص70 وما بعدها.(1/165)
أن تقول دعاءً وفيه: (وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل) والأحاديث في هذا كثيرة ومعروفة.
والعمل المجرد من الخوف والرجاء هو الذي أدخل الزندقة في كثير من المتصوفة الذين زعموا تجردهم عن الالتفات للجنة أو النار وإنما يعبدون الله لمحبتهم له، فصاروا يحتقرون عذاب الله وناره ويتهاونون بالجنة ونعيمها،ولهذا قال بعض العلماء: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري (1) ،ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى –رداً على هؤلاء (2) -:
(أن الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياماً، أو ألقي في بعض عذابها،طار عقله، وخرج من قلبه كل محبة، ولهذا قال سمنون:
وليس لي فيما سواك حظ فكيفما شئت فامتحني
فابتلي بعسر البول، فصار يطوف على المكاتب ويقول (ادعوا لعمكم الكذاب) ، وأبو سليمان لما قال (قد أعطيت من الرضا نصيباً لو ألقاني في النار لكنت راضياً) ذكر أنه ابتلي بمرض فقال (إن لم تعافني، وإلا كفرت) ، أو نحو هذا، والفضيل بن عياض ابتلي بعسر البول فقال (بحبي لك إلا فرجت عني) فبذل حبه في عسر البول، فلا طاقة لمخلوق بعذاب الخالق، ولا غنى به عن رحمته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل: (ما تدعو في صلاتك) قال: (أسأل الله
__________
(1) يعني من الخوارج الذين يكفرون بالذنوب.
(2) النبوات) ص68،69.(1/166)
الجنة وأعوذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ) فقال: (حولها ندندن)) .
وقال أيضاً (1) : (وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق الأنبياء والمرسلين، وجميع أولياء الله السابقين المقربين وأصحاب اليمين، كما في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بعض أصحابه: (كيف تقول في دعائك؟) قال: (أقول اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حولها ندندن) ، فقد أخبر أنه هو - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ –وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحدٍ فوق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار؟) اهـ.
__________
(1) الاستقامة) 2/110.(1/167)
المبحث الثاني: "شطحات التصوف"
1-قال في (الموافقات) 2/497: (وحديث أبي يزيد -يعني البسطامي- مع خديمه لما حضرهما (شقيق البلخي) و (أبو تراب النخشبي) ، فقالا للخديم: كل معنا، فقال: أنا صائم، فقال له أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة فقطعت يده) .
2-وقال في (الموافقات) 5/399-400-تحت مسألة ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أو لا يفهم-: (ما عهد بالتجربة من الاعتراض على الكبراء قاضٍ بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ، ولا سيما عند الصوفية، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل، والزلة لا تقال، ومن ذلك: حكاية الشاب الخديم لأني يزيد البسطامي، إذ كان صائماً فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي: كل معنا يا فتى، فقال: أنا صائم، فقال أبو تراب: كل ولك أجر شهر، فأبى،فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده) .
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه القصة منكرة جداً، ولا أظنها تصح، فإن شقيقاً البلخي مات في سنة أربعٍ وتسعين ومائة (194) ، بينما كان أبو يزيد -يوم مات(1/168)
شقيق- له ست سنوات فقط لأنه ولد في سنة ثمان وثمانين ومائة (188) ، فهذا مما يدل على أن هذه القصة مكذوبة من أساسها.
الوجه الثاني: أن هذه القصة فيها من المنكرات أمور وهي:
الأول: قول أبي تراب للخديم –لما رفض الأكل لصيامه- (كل ولك أجر صوم شهر) .
الثاني: قول شقيق أيضاً (كل ولك أجر صوم سنة) .
وهذان القولان من العجائب!! فهل أطلعهم الله سبحانه على غيبه؟ أو أعطاهم خزائن رحمته؟! وهذا الأمر لا يملكه الأنبياء، فكيف بهؤلاء؟ وأعجب من هذين القولين إقرار الشاطبي –عفا الله عنه- لهذه القصة!! بل واستشهاده بها على عدم الاعتراض على الكبراء، فاستشهد بباطل على باطل.
الثالث من المنكرات: قول أبي يزيد –لما رفض الخديم الأكل لصيامه- (دعوا من سقط من عين الله) ، وهذا من التألي على الله سبحانه، أو من ادعاء علم الغيب، وأيهما كان فهو من الموبقات! فقد روى مسلم عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) وفي رواية لأبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحو هذا – وفيه قصة، وفيه أن المقسم رجل عابد والآخر مذنب- وفيه قال أبو هريرة: (تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه) ، فإذا كان هذا حال من فعل هذا مع من أسرف على نفسه بالمعاصي وله شبهة في نصوص الوعيد، فكيف بمن يقول ما قاله أبو يزيد فيمن صام نفلاً طاعة لله سبحانه؟ ، ومن مثل هذه الشطحات دخل التزندق والإلحاد من باب التصوف، والله المستعان.(1/169)
الوجه الثالث: أن قول الشاطبي (ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أو لا يفهم) مردود بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والسلف -قبل أن تعرف الصوفية-، فإن ترك الاعتراض محمود إذا كان المعترض عليه معصوم لا ينطق عن الهوى وهذا لا يكون إلا للكتاب والسنة، أما ما سواهما فقد قال تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) وهؤلاء هم الكبراء -أي الأحبار والرهبان- وإنما اتخذهم النصارى أرباباً من دون الله لما اتبعوهم في أقوالهم وتركوا الاعتراض عليهم فيما يخالف شرائع الله، ولهذا كان الصحابة يعترض بعضهم على بعض حتى لو كان المعترض عليه من الكبراء وحوادثهم في ذلك مشهورة (1) .
وهذا القول إنما هو انسياق مع طقوس الصوفية في تذليل المريدين لشيوخهم ليتخذوهم أرباباً من دون الله، والله تعالى أعلم.
__________
(1) اومن ذلك اعتراض عمر وغيره على أبي بكر لما أراد حرب مانعي الزكاة حتى بين لهم بالدليل، واعتراض ابن عباس على من اتبع أبي بكر وعمر في نهيهم عن متعة الحج، واعتراض أبي عبيدة على عمر لما أراد عدم الدخول إلى الشام لانتشار الطاعون فيها، واعتراض علي وعمران على عثمان لنهيه عن متعة الحج، واعتراض ابن مسعود وغيره على عثمان لما أتم الصلاة في منى، والآثار في هذا الباب كثيرة.(1/170)
المبحث الثالث: "الاقتداء بأفعال الله والتخلق بصفاته"
1-قال في (الموافقات) 2/163-169-بعد أن ذكر سبعة أمثلة من القرآن-: (إن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهة أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال) .
2-وقال في (الموافقات) 4/200-تحت مسألة أقسام العلوم المضافة إلى القرآن-: (وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى، من جعله عربياً يدخل تحت أفهامهم، مع أنه المنزه القديم، وكونه تنزل عليهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به -إلى أن قال- وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله) .
3- وقال في (الموافقات) 4/203،204: (ومن ذلك أشياء ذكرت في باب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال والتخلق بالصفات) .
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن أصل التخلق بصفات الله والتشبه به مأخوذ أصلاً من الفلاسفة، فإنهم يقولون عن الفلسفة (إنها التشبه بالإله على قدر الطاقة) ، واقتفى أثرهم الغزالي ومن تبعه في هذا في محاولة التشبه بالإله، وألف الغزالي كتاب (شرح أسماء الله الحسنى) وضمنه التشبه بالله في كل اسم من أسمائه، وسماه (التخلق) ، حتى في أسمائه المختصة به بالإجماع كالإله(1/171)
والجبار والمتكبر، وصار مثل هذا الأمر موقع لكثير من الصوفية في الحلول والاتحاد (1) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الفلاسفة ومن ذهب إلى مذهبهم في هذا (2) :
(ثم من العجب أن القوم يدعون التوحيد، ويبالغون في نفي التشبيه، حتى نفوا الصفات، وشنعوا على أهل الكتاب لما جاء من الصفات في التوراة وغيرها، وأنكروا قوله في التوراة (إنا سنخلق بشراً على صورتنا يشبهنا) ، وهم يدعون أن أحدهم يجعل نفسه شبيهاً لله، فإن كان هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحاً عندهم لإمكان المشابهة من وجه دون وجه، فالله أقدر على أن يفعل ذلك من الواحد منهم (3) ، وإن كان هذا ممتنعاً مطلقاً، فما بالهم زعموا أنهم يتشبهون بالله تعالى؟!) .
الوجه الثاني: أن الله سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يقاس خلقه به، وليس بين صفات الله وأفعاله وصفات خلقه وأفعالهم مشاكلة ومقاربة حتى يتشبهوا به ويتخلقوا بصفاته، ويقتدوا بأفعاله، فالله سبحانه له الكمال المطلق من كل وجه، وله الصفات العلا، وليس كل ما اتصف به الله يجوز أن يتصف به الخلق، بل هناك صفات لله سبحانه يجب إثباتها له، ويحرم على الخلق أن يتصفوا بها، كالإلهية والكبرياء والجبروت والعظمة والعلو المطلق ونحوها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال –عن الله سبحانه-: (العز إزارى، والكبرياء رداؤى، فمن
__________
(1) انظر (الصفدية) لشيخ الإسلام 2/332-338، (الفتاوى) 5/465.
(2) الصفدية) 2/336.
(3) يعني أن يخلق بشراً على صورته يشبهه من وجه دون وجه.(1/172)
ينازعني عذبته) ، كما أن هناك صفات للخلق هي كمال لهم وينزه الله عن الاتصاف بها كالذل والتواضع والعبودية ونحوها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (1) : (فإن من أسمائه وصفاته ما يحمد العبد على الاتصاف به: كالعلم، والرحمة، والحكمة، وغير ذلك، ومنها ما يذم على الاتصاف به: كالإلهية، والتجبر، والتكبر، وللعبد من الصفات التي يحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الرب به: كالعبودية، والافتقار، والحاجة، والسؤال،ونحو ذلك، وهو في كل ذلك كماله في عبادته لله وحده، وغاية كماله أن يكون الله هو معبوده) .
الوجه الثالث: أن ما أسماه الشاطبي (الاقتداء بالأفعال) ويعني به الاقتداء بأفعال الله سبحانه والتخلق بصفاته لم نؤمر به -مع ما فيه من المفاسد التي أدت إلى وحدة الوجود كما سبق-، وإنما العبد مأمور شرعاً بالاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما لا يختص به- كما قال تعالى: (لقد لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ، والله تعالى أعلم.
__________
(1) الصفدية) 2/338.(1/173)
الفصل الثالث: "إنكار المهدي"
قال في (الاعتصام) 2/585-بعد أن ذكر أقوال المهدي بن تومرت وزعمه أنه هو المهدي المنتظر -: (وكذب فالمهدي عيسى عليه السلام) .
قلت: والكلام على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله هذا بناءً على الحديث الذي رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهما من طريق محمد بن خالد الجَنَدي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا المهدي إلا عيس بن مريم) وهذا الحديث فيه علل:
الأولى: أن مدار الحديث على (محمد بن خالد الجندي) ، وقد أجمع الحفاظ على ضعفه إما لجهالته أو لنكارة حديثه (1) .
الثانية: أنه اضطرب في إسناده، فرواه مرة عن أبان بن صالح، ومرة عن أبان بن أبي عياش -وهو متروك- (2) .
الثالثة: أن بعض الأئمة كالحاكم والبيهقي ذكر أن فيه انقطاعاً بين الحسن
__________
(1) انظر (التمهيد) لابن عبد البر 23/39، (العلل المتناهية -تلخيصها للذهبي-) ص 320، (تهذيب الكمال) 25/ 146، (منهاج السنة) 4/102، (ميزان الاعتدال) 3/535، (تقريب التهذيب) ص840، وكتب الرجال في ترجمته.
(2) انظر (المستدرك) للحاكم4/441، (تلخيص العلل المتناهية) ص321.(1/175)
وأنس. (1)
الرابعة: أن ابن حجر (2) نقل عن الأزدي قوله عن حديثه هذا: ولا يتابع عليه، وإنما يحفظ عن الحسن مرسلاً، رواه جرير بن حازم عنه اهـ.
لهذا فقد أجمع الحفاظ على تضعيف هذا الحديث كالنسائي، والحاكم، والبيهقي، وابن الجوزي، وابن تيمية، وابن القيم، والمزي، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، والصاغاني، والشوكاني،وغيرهم (3) .
الوجه الثاني: أن الأحاديث التي وردت في المهدي كثيرة جداً رواها جماعة من الصحابة والحديث الصحيح فيها كثير، ومن ذلك ما رواه أحمد قال ثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، قال: ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً) -وهذا الإسناد رجاله رجال الشيخين -، وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي) وغيرها
__________
(1) انظر (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ليوسف بن يحيى المقدسي ص62.
(2) تهذيب التهذيب) 5/88.
(3) انظر (تلخيص العلل) ص320، (منهاج السنة) 4/102،8/256، (المنار المنيف) ص148، (ميزان الاعتدال) 3/535، (القول المختصر) لابن حجر الهيتمي ص 32، (الفوائد المجموعة) ص 439.(1/176)
من الأحاديث (1) .
وقد ذكر غير واحدٍ من أهل العلم أن أحاديث المهدي متواترة (2) ، وألفت في ذلك مؤلفات (3) ، وإذا كثر الدجالون والمنتحلون للمهدية فلا يعني ذلك أن تنكر هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة، والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر أحاديثه بالتفصيل في (عقد الدرر) للمقدسي، و (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر) لحمود التويجري.
(2) نقله المزي (تهذيب الكمال) 25/149، (القول المختصر) لابن حجر الهيتمي ص 32، (لوامع الأنوار) للسفاريني، 2/70، (الإذاعة) لصديق حسن ص 95، (إتحاف الجماعة) للتويجري 2/289، (الاحتجاج بالأثر) له أيضاً ص 43وغيرها.
(3) منها (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ليوسف بن يحيى المقدسي، و (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر) لابن حجر الهيتمي، و (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح) ، و (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر) للتويجري، وانظر في المؤلفات في ذلك (الاحتجاج بالأثر) 28-29.(1/177)
الخاتمة
وأختم ماسبق بكلمةٍ جميلةٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (درء تعارض العقل والنقل) 2/102-بعد أن ذكر مجموعة من العلماء -من جنس الشاطبي رحمه الله-لهم علم وفضل ولكنهم شاركوا المبتدعة في بعض أصولهم- حيث قال:
(ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة (1) ، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) ،
__________
(1) يعني به (إثبات حدوث العالم بطريقة الأعراض ونحوها) والتي كانت سبباً لكثير من البدع في الصفات وغيرها وقد سبق تفصيل القول فيها في ص 19.(1/179)
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه والمؤمنين حيث قالوا (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) اهـ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/180)
المراجع
- (الإبانة عن أصول الديانة) لأبي الحسن الأشعري - ط2-1410هـ-دار الكتاب العربي-بيروت.
- (إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة) للشيخ حمود التويجري-ط2-1414هـ-دار الصميعي -الرياض.
- (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي -ط1-1407هـ -دار الكتب العلمية -بيروت.
- (إثبات صفة العلو) لأبي محمد بن قدامة المقدسي-ت: أحمد الغامدي-ط1-1409هـ -مؤسسة علوم القرآن-بيروت.
- (اجتماع الجيوش الإسلامية) لابن القيم -ت: عواد المعتق-ط1-1408هـ.
- (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر) للشيخ حمود التويجري -ط2-1406هـ -دار العليان -بريدة.
- (إحياء علوم الدين) للغزالي-ط2-1409هـ -دار الفكر -بيروت.
- (الإذاعة لما كان ولما يكون بين يدي الساعة) لصديق حسن-ت: إبراهيم أحمد-1406هـ -دار المدني-جدة.
- (الأربعين في أصول الدين) للرازي-ت: أحمد السقا-ط1-1948م-مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة.
- (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) للجويني -ت: أسعد(1/181)
تميم-ط1-1405هـ -مؤسسة الكتب الثقافية-بيروت.
- (أساس التقديس) للرازي-ت: أحمد السقا-1406هـ-مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة.
- (الاستقامة) لشيخ الإسلام ابن تيمية -ت: محمد رشاد سالم-ط2-1409هـ.
- (أصول أهل السنة والجماعة المسماة برسالة الثغر) لأبي الحسن الأشعري-ت: محمد السيد الجليند-ط2-1410هـ-دار اللواء -الرياض.
- (الأصول والفروع) لابن حزم -ط1-1404هـ-دار الكتب العلمية - بيروت.
- (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) للشنقيطي-عالم الكتب -بيروت.
- (الاعتصام) للشاطبي -ت: سليم الهلالي-ط1-1412هـ-دار ابن عفان -الخبر.
- (إعلام الموقعين عن رب العالمين) لابن القيم-ت: محمد محيي عبد الحميد-1407هـ-المكتبة العصرية-بيروت.
- (الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به) للباقلاني-ت: الكوثري-المكتبة الأزهرية للتراث-القاهرة.
- (إيثار الحق على الخلق) لابن الوزير-ط1-1318هـ -دار الكتب العلمية - بيروت.
- (البداية والنهاية) لابن كثير-دار المعارف-بيروت.
- (التاريخ الكبير) للبخاري-دار الفكر -بيروت.(1/182)
- (تجريد التوحيد) للمقريزي-مكتبة السلام العالمية.
- (تحريم النظر في كتب الكلام) لأبي محمد بن قدامة -ت: عبد الرحمن دمشقية-ط1-1410هـ-دار عالم الكتب-الرياض.
- (التدمرية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -ت: محمد السعوي-ط1-1405هـ.
- (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير-ط1-1410هـ-مكتبة طيبة-المدينة.
- (تقريب التهذيب) لابن حجر-ت: أبو الأشبال الباكستاني-ط1-1416هـ -دار العاصمة-الرياض.
- (تلبيس إبليس) لابن الجوزي-ط2-1407هـ -دار الكتب العلمية - بيروت.
- (تلخيص كتاب الاستغاثة) -ط1-تصوير دار أطلس.
- (تلخيص كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي) للذهبي-ت: ياسر بن إبراهيم-ط1-1419هـ -دار الرشد-الرياض.
- (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل) للباقلاني-ت: عماد الدين حيدر-ط3-1414هـ -مؤسسة الكتب الثقافية-بيروت.
- (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) لابن عبد البر-ت: مجموعة-الطبعة المغربية.
- (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) للمعلمي-ت: الألباني-ط2-1406هـ -مكتبة المعارف-الرياض.
- (تهذيب التهذيب) لابن حجر-ت: خليل مأمون شيحا ومن معه-ط1-1417هـ -دار المعرفة-بيروت.(1/183)
- (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للمزي-ت: بشار معروف-ط1-1413هـ -مؤسسة الرسالة-بيروت.
- (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لابن خزيمة-ت: عبد العزيز الشهوان-ط2-1411هـ -مكتبة الرشد-الرياض.
- (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) لابن سعدي-1408هـ -دار المدني-جدة.
- (الثقات) لابن حبان -ط1-1393هـ -تصوير دار الكتب العلمية - بيروت.
- (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر -دار الفكر -بيروت.
- (جامع البيان في تأويل القرآن) للطبري-ط1-1412هـ -دار الكتب العلمية - بيروت.
- (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم-ط1-1372هـ -تصوير دار إحياء التراث العربي-بيروت.
- (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية -دار المدني.
- (حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة) لأبي محمد بن قدامة-ت: عبد الله الجديع-ط1-1409-مكتبة الرشد-الرياض.
- (خلق أفعال العباد) للبخاري-ت: محمد السعيد بن بسيوني-مكتبة التراث الإسلامي-القاهرة.
- (درء تعارض العقل والنقل) لشيخ الإسلام ابن تيمية-ت: محمد رشاد سالم-ط جامعة الإمام.(1/184)
- (دراسات في التصوف) لإحسان إلهي ظهير-ط1-1409هـ -ترجمان السنة-لاهور.
- (الدرة فيما يجب اعتقاده) لابن حزم -ت: أحمد الحمد وسعيد القزقي -ط1-1408هـ.
- (ذم الكلام وأهله) لأبي إسماعيل الهروي-ت: عبد الرحمن الشبل-ط1-1416هـ -مكتبة العلوم والحكم- المدينة.
- (رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) -ت: محمد حامد الفقي-ط1-1358هـ -تصوير دار الكتب العلمية - بيروت.
- (الرد على من أنكر الحرف والصوت) للسجزي-ت: محمد با عبد الله-ط1-1414هـ -دار الراية -الرياض.
- (السنة) لعبد الله بن أحمد -ت: محمد القحطاني-ط2-1414هـ -رمادي للنشر-الدمام.
- (السنة) لابن أبي عاصم-ت: الألباني-ط1-1406هـ -المكتب الإسلامي.
- (السنة) للخلال -ت: عطية الزهراني-ط1-1415هـ-دار الراية -الرياض.
- (سير أعلام النبلاء) للذهبي-ت: شعيب الأرناؤوط ومن معه-ط4-مؤسسة الرسالة.
- (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي -ت: أحمد حمدان-ط2-1411هـ -دار طيبة-الرياض.
- (شرح الأصول الخمسة) لعبد الجبار بن أحمد -ت: عبد الكريم عثمان(1/185)
-ط2-1408هـ -مكتبة وهبة-القاهرة.
- (شرح السنة) للبربهاري-ت: محمد القحطاني-ط1-1408هـ -دار ابن القيم -الدمام.
- (شرح السنة) للبغوي -ت: علي معوض وعادل عبد الموجود-ط1-1412هـ-دار الكتب العلمية - بيروت.
- (شرح العقيدة الأصفهانية) لشيخ الإسلام ابن تيمية-ت: حسنين محمد مخلوف-دار الكتب الإسلامية-مصر.
- (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز-ت: عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط-ط2-1413هـ -مؤسسة الرسالة.
- (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) لابن القيم-ط1-1407هـ-دار الكتب العلمية - بيروت.
- (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض-دار الكتب العلمية - بيروت.
- (الشريعة) للآجري-ت: عبد الله الدميجي-ط1-1418هـ-دار الوطن-الرياض.
- (الصفدية) لشيخ الإسلام ابن تيمية-ت: محمد رشاد سالم-ط2-1406هـ-مكتبة ابن تيمية-القاهرة.
- (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) لابن القيم-ت: علي الدخيل الله -ط2-1412هـ-دار العاصمة-الرياض.
- (طبقات الشافعية) لتاج الدين السبكي-ت: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي-دار إحياء الكتب العربية.(1/186)
- (عقد الدرر في أخبار المنتظر وهو المهدي) ليوسف بن يحيى المقدسي-ت: مهيب البوريني-ط2-1410هـ-مكتبة المنار-الأردن.
- (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) لأبي عثمان الصابوني-ت: نبيل السبكي-ط1-1413هـ.
- (العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ) للمقبلي -ط2-1405هـ-دار الحديث-بيروت.
- (الفتاوى الكبرى) لشيخ الإسلام ابن تيمية-ت: محمد ومصطفى عبد القادر عطا -دار الكتب العلمية - بيروت.
- (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن حجر-ت: ابن باز ومن معه-ط1-1410هـ-دار الكتب العلمية - بيروت.
- (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبد الرحمن بن حسن-ت: محمد حامد الفقي-تصوير دار الكتب العلمية - بيروت.
- (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) للشوكاني-ت: المعلمي-ط3-1407هـ-المكتب الإسلامي.
- (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر) لابن حجر الهيتمي-ت: محمد زينهم عزب-ط1-1407هـ-دار الصحوة-القاهرة.
- (لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية) للسفاريني-ط3-1411هـ-المكتب الإسلامي.
- (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) جمع عبد الرحمن بن قاسم-دار عالم الكتب-الرياض.
- (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن سعدي) -مركز(1/187)
صالح بن صالح الثقافي-عنيزة-1412هـ.
- (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين) للرازي-ت: طه عبد الرؤوف سعد-مكتبة الكليات الأزهرية -القاهرة.
- (المحصول في علم أصول الفقه) للرازي-ت: طه العلواني-ط1-1399هـ-ط جامعة الإمام.
- (مختصر الصواعق المرسلة) للموصلي -ت: سيد إبراهيم-ط1-1412هـ-دار الحديث-القاهرة.
- (مختصر العلو للعلي الغفار) للذهبي-ت: الألباني-ط2-1412هـ-المكتب الإسلامي.
- (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) لابن القيم-ت: محمد حامد الفقي-بدون ذكر الدار والطبعة.
- (المستصفى من علم الأصول) للغزالي-ت: محمد الأشقر-ط1-1417هـ-مؤسسة الرسالة.
- (معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول) للحكمي-ت: عمر أبو عمر-ط1-1410هـ-دار ابن القيم-الدمام.
- (المعتمد في أصول الفقه) لأبي الحسين البصري-ت: خليل ألميس-ط1-1403هـ-دار الكتب العلمية - بيروت.
- (معرفة علوم الحديث) للحاكم -ط1-1406-دار إحياء العلوم-بيروت.
- (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) لابن القيم-ط1-1413هـ-دار الكتب العلمية - بيروت.(1/188)
- (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) لأبي الحسن الأشعري-ت: هلموت رفير-ط3-1400هـ-نشر وانز سفانز.
- (الملل والنحل) للشهرستاني -ت: عبد العزيز الوكيل-دار الفكر -بيروت.
- (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) لابن القيم-ت: عبد الفتاح أبو غدة-ط6-1414هـ-مكتبة المطبوعات الإسلامية-حلب.
- (منهاج السنة النبوية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -ت: محمد رشاد سالم-ط جامعة الإمام.
- (الموافقات) للشاطبي-ت: مشهور آل سلمان-ط1-1417هـ-دار ابن عفان -الخبر.
- (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) للذهبي-ت: علي البجاوي-دار المعرفة-بيروت.
- (النبوات) لشيخ الإسلام ابن تيمية -ت: محمد حامد الفقي-مكتبة السنة المحمدية.
- (نهاية الأقدام في علم الكلام) للشهرستاني-ت: ألفرد جيوم-مكتبة المتنبي-القاهرة.
- (نونية القحطاني) -ت: محمد بن أحمد سيد-ط3-1410هـ-مكتبة السوادي-جدة.(1/189)