مَنْ جَوَّزَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَكَذَا قَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1) - إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ حَسِبَ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا، وَإِخْبَارٌ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ سَيِّءٌ قَبِيحٌ، وَهُوَ مِمَّا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: ""لو أن الله عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ» (2) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ، وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ! وَلِهَذَا قَابَلُوهُ إِمَّا بِالتَّكْذِيبِ أَوْ بِالتَّأْوِيلِ! !
وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، الَّذِينَ قَابَلُوهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَعَلِمُوا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ، قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَعَدَمَ قِيَامِ الْخَلْقِ بِحُقُوقِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، إِمَّا عَجْزًا، وَإِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، وَإِمَّا تَقْصِيرًا فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الشُّكْرِ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَتَكُونَ قُوَّةُ الْحُبِّ والإنابة، والتوكل والخشية والمراقبة
__________
(1) الجاثية 21
(2) هذا جزء من حديث طويل رواه أبو داود: 4699، ورواه ابن ماجه: 77 بأطول منه، وروى بعضه أحمد في المسند 5: 182 - 183، 185، 189 (طبعة الحلبي) . وخفي علي موضعه في مستدرك الحاكم، بعد طول البحث. ولكن الشارح أخطأ في ذكر الصحابة الذين رووه، فلم يروه ابن عباس ولا عبادة بن الصامت وإنما الثابت في هذه الروايات: أن ابن الديلمي سأل أبي بن كعب عن شيء من القدر فأجابه، ثم سأل ابن مسعود فأجابه بمثله، ثم سأل حذيفة بن اليمان فقال له مثل ما قالا، ثم سأل زيد بن ثابت فأجابه كذلك، ولكنه ذكر له أنه سمع هذا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فالحديث موقوف عن أولئك الثلاثة، مرفوع عن زيد بن ثابت وحده، ولكن الموقوف عنهم - هو موقوف لفظا، مرفوع حكما؛ لأنه مما لا يعلم بالرأي، وهو حديث صحيح، رجاله ثقات(1/456)
وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ -: جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهِ، وَمُتَعَلِّقَةً بِهِ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتألهه، بَلْ عَلَى إِفْرَادِهِ بِذَلِكَ، وَاللِّسَانُ مَحْبُوسًا عَلَى ذِكْرِهِ، وَالْجَوَارِحُ وَقْفًا عَلَى طَاعَتِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَقْدُورٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَشِحُّ بِهِ، وَهِيَ فِي الشُّحِّ عَلَى مَرَاتِبَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَأَكْثَرُ الْمُطِيعِينَ تَشِحُّ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْ أَتَى بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَأَيْنَ الَّذِي لَا تَقَعُ مِنْهُ إِرَادَةٌ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ وَمَا يحبه منه؟ ومن [ذا] الَّذِي لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خِلَافُ مَا خُلِقَ لَهُ، وَلَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؟ فَلَوْ وضع سُبْحَانَهُ عَدْلَهُ عَلَى أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ.
وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ، تَوْبَةُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتِرَافُهُ، وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مَحْضُ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ عَذَّبَ عَبْدَهُ عَلَى جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهَا. لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ - بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ تَابَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، فَلَا يَسَعُ الْخَلَائِقَ إِلَّا رَحْمَتُهُ وَعَفْوُهُ، وَلَا يَبْلُغُ عَمَلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْجُوَ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَوْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ أَطْوَعُ النَّاسِ لِرَبِّهِ، وَأَفْضَلُهُمْ عَمَلًا، وَأَشَدُّهُمْ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ وَإِجْلَالًا: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» وَسَأَلَهُ الصِّدِّيقُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الصِّدِّيقِ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - فَمَا الظَّنُّ بِسِوَاهُ؟ بَلْ إِنَّمَا صَارَ صِدِّيقًا بِتَوْفِيَتِهِ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ، وَحَقَّهُ وَعَظَمَتَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةَ تَقْصِيرِهِ. فَسُحْقًا وَبُعْدًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَسْتَغْنِي عَنْ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ وَلَا يَكُونُ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهَا! وَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْجَهْلِ(1/457)
بِاللَّهِ وَحَقِّهِ غَايَةٌ! ! فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ فَهْمُكَ لِهَذَا، فَانْزِلْ إِلَى وَطْأَةِ النِّعَمِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَوَازِنْ مِنْ شُكْرِهَا وَكُفْرِهَا، فَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ) .
ش: اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَمْوَاتَ يَنْتَفِعُونَ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ.
وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، عَلَى نِزَاعٍ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْحَجِّ: فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن: أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَالْحَجُّ لِلْحَاجِّ. وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: ثَوَابُ الْحَجِّ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ إِلَى وُصُولِهَا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ عَدَمُ وُصُولِهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى عَدَمِ وُصُولِ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، لَا الدُّعَاءِ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (1) . وقوله: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) . وَقَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (3) .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عِلْمٌ ينتفع به من
__________
(1) النجم 39
(2) يس 54
(3) البقرة 286(1/458)
بَعْدِهِ» . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِمَا كَانَ تَسَبَّبَ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ تَسَبَّبَ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي [تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ بِأَنَّ النَّوْعَ الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ] (1) النِّيَابَةُ بِحَالٍ، كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، - يَخْتَصُّ [ثَوَابُهُ] (2) بِفَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْحَيَاةِ لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَنُوبُ فِيهِ عَنْ فَاعِلِهِ غَيْرُهُ، [وَقَدْ] (3) رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ» (4) .
وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَا تَسَبَّبَ فِيهِ، الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (5) فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاعِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الْأَحْيَاءِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ، وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ مُسْتَفِيضَةٌ. وَكَذَا الدُّعَاءُ لَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ،
__________
(1) في الأصل سقط وتحريف وتعديل يحيل المعنى، والتصويب من «الروح» المسألة السادسة عشرة. ن
(2) في الأصل سقط وتحريف وتعديل يحيل المعنى، والتصويب من «الروح» المسألة السادسة عشرة. ن
(3) في الأصل سقط وتحريف وتعديل يحيل المعنى، والتصويب من «الروح» المسألة السادسة عشرة. ن
(4) هكذا ذكره الشارح منسوبا للنسائي من حديث ابن عباس مرفوعا! ورفعه وهم يقينا، إما من الشارح وإما من الناسخ، وليس هو في سنن النسائي التي في أيدينا ولكنه في السنن الكبرى موقوف على ابن عباس، نقله الحافظ الزيلعي في نصب الراية 2: 463. وكذلك جاء عن ابن عمر ونحوه موقوفا، ذكره مالك في الموطأ «أنه بلغه» عن ابن عمر، ولم يذكر أحد من شارحيه من رواه موصولا، ولكن الحافظ الزيلعي نقله من مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر، وصرح الزيلعي بما يفيد أنه لم يعرفه مرفوعا قط
(5) الحشر 10(1/459)
فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» .
وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمُ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَقُولُ إِذَا اسْتَغْفَرَتْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ؟ قَالَ: "قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» .
وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ» .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا إِنْ تصدقت عنها؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطَيِ الْمِخْرَافِ صَدَقَةٌ عَنْهَا» . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ.
وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الصَّوْمِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الصَّحِيحِ.
وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ بِالْإِطْعَامِ عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الصِّيَامِ عَنْهُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الْحَجِّ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ(1/460)
أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» . وَنَظَائِرُهُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يُسْقِطُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْ غَيْرِ تَرِكَتِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، حَيْثُ ضَمِنَ الدِّينَارَيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا قَضَاهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ» .
وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ حَقُّ الْعَامِلِ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ هبة ماله له فِي حَيَاتِهِ، وَإِبْرَائِهِ لَهُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَقَدْ نَبَّهَ الشَّارِعُ بِوُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الصَّوْمَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِهِ إِلَى الْمَيِّتِ، فَكَيْفَ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ عَمَلٌ وَنِيَّةٌ؟ !
وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (1) - قَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ: أَصَحُّهَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَعْيِهِ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ اكْتَسَبَ الْأَصْدِقَاءَ، وَأَوْلَدَ الْأَوْلَادَ، وَنَكَحَ الْأَزْوَاجَ، وَأَسْدَى الْخَيْرَ وَتَوَدَّدَ إِلَى النَّاسِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَأَهْدَوْا لَهُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَثَرَ سَعْيِهِ، بَلْ دُخُولُ الْمُسْلِمِ مَعَ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي وُصُولِ نَفْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صَاحِبِهِ، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِدُعَاءِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَعْيِهِمْ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي السبب الذي يوصل إليه ذلك.
__________
(1) النجم 39(1/461)
الثَّانِي: - وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ -: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْفِ انْتِفَاعَ الرَّجُلِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا نَفَى مِلْكَهُ لِغَيْرِ سَعْيِهِ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ مَا لَا يَخْفَى. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا سَعْيَهُ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِسَاعِيهِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَبْذُلَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُبْقِيَهُ لِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (1) - آيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ، مُقْتَضِيَتَانِ عَدْلَ الرَّبِّ تَعَالَى:
فَالْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِجُرْمِ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ مُلُوكُ الدُّنْيَا.
وَالثَّانِيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ إِلَّا بِعَمَلِهِ، لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ نَجَاتِهِ بِعَمَلِ آبَائِهِ وسلفه ومشائخه، كَمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا بِمَا سَعَى.
وكذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} (2) ، وقوله: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3) . عَلَى أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عُقُوبَةُ الْعَبْدِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4) .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» فَاسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلِ انْقَطَعَ انْتِفَاعُهُ، وَإِنَّمَا أخبر نانقطاع عَمَلِهِ. وَأَمَّا عَمَلُ غَيْرِهِ فَهُوَ لِعَامِلِهِ، فَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِ الْعَامِلِ، لَا ثَوَابَ عَمَلِهِ هُوَ، وَهَذَا كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، لكن لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ.
وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ - فقد شرع النبي صلى الله عليه
__________
(1) النجم 38 - 39
(2) البقرة 286
(3) يس 54
(4) يس 54(1/462)
وَسَلَّمَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَيِّتِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ أن الصوم لا تجزي فِيهِ النِّيَابَةُ، [وَكَذَلِكَ] (1) حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ الْكَبْشَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِي أَحَدِهِمَا: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا» ، وَفِي الْآخَرِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ إِرَاقَةُ الدَّمِ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الْحَجِّ بَدَنِيَّةٌ، وَلَيْسَ [الْمَالُ] رُكْنًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَالِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ مَالٍ وَبَدَنٍ، بَلْ بَدَنِيٌّ مَحْضٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَانْظُرْ إِلَى فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ: كَيْفَ قَامَ فِيهَا الْبَعْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؟ وَلِأَنَّ هَذَا [إِهْدَاءُ] (2) ثَوَابٍ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ أُجْرَتَهُ لِمَنْ شَاءَ.
وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُهْدُونَهُ لِلْمَيِّتِ! ! فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَلَا رَخَّصَ فِيهِ. وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَفْسِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَنَحْوِهُ، مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تَصِلُ إِلَى الْغَيْرِ. وَالثَّوَابُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَمَلُ لِلَّهِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً خَالِصَةً، فَلَا يكون [له من] ثَوَابُهُ مَا يُهْدَى إِلَى الْمَوْتَى! ! وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يَكْتَرِي مَنْ يَصُومُ وَيُصَلِّي ويهدي ثواب ذلك إلى
__________
(1) في الأصل: (ولكن) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ولعل الصواب إثباتها من سائر النسخ. ن(1/463)
الْمَيِّتِ، لَكِنْ إِذَا أَعْطَى لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ وَيَتَعَلَّمُهُ مَعُونَةً لِأَهْلِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَنْهُ، فَيَجُوزُ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ: لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطَى شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى قَبْرِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُجْرَةِ، انْتَهَى.
وَذَكَرَ الزَّاهِدِيُّ فِي [الْقُنْيَةِ] (1) : أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ، فَالتَّعْيِينُ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَإِهْدَاؤُهَا لَهُ [تَطَوُّعًا] (2) بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، فَهَذَا يَصِلُ إِلَيْهِ، كَمَا يَصِلُ ثَوَابُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي السَّلَفِ، وَلَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَالْجَوَابُ: إِنْ كَانَ مُورِدُ هَذَا السُّؤَالِ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالدُّعَاءِ، قِيلَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟ وَلَيْسَ كَوْنُ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلُوهُ حُجَّةً فِي عَدَمِ الْوُصُولِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ؟
فَإِنْ قِيلَ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ دُونَ الْقِرَاءَةِ؟ قِيلَ: هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لَهُمْ، فَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ عَنْ مَيِّتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ عَنْهُ، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ - الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ وإمساك - وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟
__________
(1) في الأصل: (الغنية) والتصويب من «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» للقرشي 3 / 460، وهدية العارفين 2 / 423. ن
(2) في الأصل: (طوعا) ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/464)
فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْإِهْدَاءِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قِيلَ: مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ بِدْعَةً، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا مِنْ أُمَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُ، بِاعْتِبَارِ سَمَاعِهِ كَلَامَ اللَّهِ - فَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ. وَلَا شَكَّ فِي سَمَاعِهِ، وَلَكِنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّمَاعِ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ ثَوَابَ الِاسْتِمَاعِ مَشْرُوطٌ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، بَلْ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَمْتَثِلْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الْخَيْرِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: هَلْ تُكْرَهُ، أَمْ لَا بَأْسَ بِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ، وَتُكْرَهُ بَعْدَهُ؟
فَمَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ - قَالُوا: لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْقِرَاءَةُ تُشْبِهُ الصَّلَاةَ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ.
وَمَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا، كَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ - اسْتَدَلُّوا بِمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عَلَى قَبْرِهِ وَقْتَ الدَّفْنِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِمِهَا. وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَمَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ فَقَطْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَخَذَ بِمَا نُقِلَ عن ابن عُمَرَ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ.
وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، كَالَّذِينِ يَتَنَاوَبُونَ الْقَبْرَ لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ - فَهَذَا مَكْرُوهٌ، فَإِنَّهُ لم(1/465)
تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ مِثْلَ ذَلِكَ أَصْلًا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَعَلَّهُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
[قَوْلُهُ] : (وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) . {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) . وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ دَعَاهُ لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا. وَإِجَابَةُ اللَّهِ لِدُعَاءِ الْعَبْدِ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَإِعْطَاؤُهُ سُؤْلَهُ - مِنْ جِنْسِ رِزْقِهِ لَهُمْ، وَنَصْرِهِ لَهُمْ. وَهُوَ مِمَّا تُوجِبُهُ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً فِي حَقِّهِ وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ كُفْرُهُ وَفُسُوقُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» (3) . وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ:
الرَّبُّ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدُّعَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: الْوُجُودُ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يُدْعَى.
الثَّانِي: الْغِنَى، فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَا يُدْعَى.
الثَّانِي: الْغِنَى، فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَا يُدْعَى.
الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.
__________
(1) غافر 60
(2) البقرة 186
(3) رواه ابن ماجه: 3827. ورواه أيضا الإمام أحمد في المسند: 9699، 9717، 10181. وكذلك رواه الترمذي 4: 224. وكذلك رواه البزار، كما ذكر ابن كثير في التفسير 7: 309 - 310. واللفظ الذي هنا هو لفظ الترمذي والبزار(1/466)
الرَّابِعُ: الْكَرَمُ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ لَا يُدْعَى.
الْخَامِسُ: الرَّحْمَةُ، فَإِنَّ الْقَاسِيَ لَا يُدْعَى.
السَّادِسُ: الْقُدْرَةُ، فَإِنَّ الْعَاجِزَ لَا يُدْعَى.
وَمَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ لَا يُقَالُ لَهَا: كُفِّي! وَلَا النَّجْمُ يُقَالُ لَهُ: أَصْلِحَ مِزَاجِي! ! لِأَنَّ هَذِهِ عِنْدَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ طَبْعًا لَا اخْتِيَارًا، فَشَرَعَ الدُّعَاءَ وَصَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ لِيُبَيِّنَ كَذِبَ أَهْلِ الطَّبَائِعِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ [إِلَى] أَنَّ الدُّعَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ! قَالُوا: لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِنِ اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ! ! وَقَدْ يَخُصُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ خَوَاصَّ الْعَارِفِينَ! وَيَجْعَلُ الدُّعَاءَ عِلَّةً فِي مَقَامِ الْخَوَاصِّ! ! وَهَذَا مِنْ غَلَطَاتِ بَعْضِ الشُّيُوخِ. فَكَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - فَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الدعاء أمر أنشئت عَلَيْهِ تَجَارِبُ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ تَقُولُ: ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ، فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ، بِفُنُونِ اللُّغَاتِ، تحلل مَا عَقَدَتْهُ الْأَفْلَاكُ الْمُؤَثِّرَاتُ! ! هَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
وَجَوَابُ الشُّبْهَةِ بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: فَإِنَّ قَوْلَهُمْ عَنِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ: إِمَّا أَنْ تَقْتَضِيَهُ أَوْ لَا -[فـ] ثُمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ: أَنْ تَقْتَضِيَهُ بِشَرْطٍ لَا تَقْتَضِيهِ مَعَ عَدَمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الدُّعَاءُ مِنْ شَرْطِهِ، كَمَا تُوجِبُ الثَّوَابَ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِ، وَكَمَا تُوجِبُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِمَا، وَحُصُولَ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ، وَالزَّرْعَ بِالْبَذْرِ. فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُقَالُ لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْبَذْرِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ. فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ - كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ.(1/467)
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ، مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ! وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا، نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَمَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ، يَتَأَلَّفُ مِنْ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى السَّبَبِ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَرَجَاؤُهُ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرَكَاءَ وَأَضْدَادٍ مَعَ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُسَخِّرْهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ لَمْ يُسَخَّرْ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنِ اقْتَضَتِ الْمَشِيئَةُ الْمَطْلُوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ؟ قُلْنَا: بَلْ قَدْ تَكُونُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلِحَةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ (1) فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ؟ قُلْنَا: بَلْ فِيهِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ، مِنْ جَلْبِ مَنَافِعَ، وَدَفْعِ مَضَارَّ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ مَا يُعَجِّلُ لِلْعَبْدِ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ سُمَيْعٌ قَرِيبٌ قَدِيرٌ عَلِيمٌ رَحِيمٌ، وَإِقْرَارِهِ بِفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَاضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ اللَّهِ مُعَلَّلًا بِفِعْلِ الْعَبْدِ، كَمَا يُعْقَلُ من إعطاء [المسؤول] (2) للسائل، كان السائل قد أثر في المسؤول حَتَّى أَعْطَاهُ؟ !
قُلْنَا: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْعَبْدَ إِلَى دُعَائِهِ، فَهَذَا الْخَيْرُ مِنْهُ، وَتَمَامُهُ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ". وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
__________
(1) في المطبوعة «وإن تقتضيه» ! وهو خطأ ولحن
(2) في الأصل: (المال) . ولعل الصواب ما أثبتناه. ن(1/468)
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1) . فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير [الأمر] ، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ الَّذِي دَبَّرَهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْذِفُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ حَرَكَةَ الدُّعَاءِ، وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِلْخَيْرِ الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ، كَمَا فِي الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ، فَمَا أَثَّرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، بَلْ هُوَ جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ. قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَوَجَدْتُ مَبْدَأَهُ مِنَ اللَّهِ، وَتَمَامَهُ عَلَى اللَّهِ، وَوَجَدْتُ مِلَاكَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ.
وَهُنَا سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ من قد يسأل الله فلا يعطى، أَوْ يُعْطَى غَيْرَ مَا سَأَلَ؟ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ، فِيهَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ مُحَقَّقَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ عَطِيَّةَ السُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَتْ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَالدَّاعِي أَعَمُّ مِنَ السَّائِلِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السَّائِلِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» ؟.
فَفَرْقٌ بَيْنَ الدَّاعِي وَالسَّائِلِ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ وَالْإِعْطَاءِ، وَهُوَ فَرْقٌ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، كَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمُسْتَغْفِرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّائِلِ، فَذَكَرَ الْعَامَّ ثُمَّ الْخَاصَّ ثُمَّ الْأَخَصَّ. وَإِذَا عَلِمَ الْعِبَادُ أَنَّهُ قَرِيبٌ، مجيب دعوة الداعي، [و] علموا قربه منهم، وتمكنهم من سؤاله -: علموا عِلْمَهُ وَرَحْمَتَهْ وَقُدْرَتَهُ، فَدَعَوْهُ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ فِي حَالٍ، وَدُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ فِي حَالٍ، وَجَمَعُوا بَيْنَهُمَا فِي حَالٍ، إِذِ"الدُّعَاءُ"اسْمٌ يَجْمَعُ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ، وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) - بِالدُّعَاءِ، الَّذِي هُوَ الْعِبَادَةُ، وَالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ الطلب. وقوله بعد ذلك:
__________
(1) السجدة 5
(2) غافر 60(1/469)
{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (1) - يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ إِجَابَةَ دعاء السؤال أعم من إعطاء المسؤول، كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ بِهَا إِحْدَى ثلاث خصال: إما أن يعجل دَعْوَتَهُ، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ» (2) . فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْعُدْوَانِ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ مُعَجَّلًا، أَوْ مِثْلِهِ مِنَ الْخَيْرِ مُؤَجَّلًا، أَوْ يَصْرِفُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالسَّبَبُ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ، فَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ غَيْرُهُ. وَهَكَذَا سَائِرُ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ، مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا جَلْبُ مَنَافِعَ أَوْ دَفْعُ مَضَارَّ، فَإِنَّ الْكَلِمَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي يَدِ الْفَاعِلِ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّتِهِ وَمَا يُعِينُهَا، وَقَدْ يُعَارِضُهَا مَانِعٌ مِنَ الْمَوَانِعِ. وَنُصُوصُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي الظَّاهِرِ- مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ أَدْعِيَةً دَعَا بِهَا قَوْمٌ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، وَيَكُونُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالدُّعَاءِ ضَرُورَةُ صَاحِبِهِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ حَسَنَةٌ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، جَعَلَ الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة، أَوْ صَادَفَ وَقْتَ إِجَابَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، فَيَظُنُّ أَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ، فَيَأْخُذُهُ مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي قَارَنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّاعِي.
وَهَذَا كَمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلٌ دَوَاءً نَافِعًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي، فانتفع به،
__________
(1) غافر 60
(2) لم أجده بهذا السياق في صحيح مسلم، وقد روى أحمد نحوه في المسند: 11150 من حديث أبي سعيد الخدري، وهو في مجمع الزوائد 10: 148 - 149. وروى الترمذي 4: 279 - 280 نحو هذا المعنى مختصرا من حديث عبادة بن الصامت. وذكر في الزوائد 10: 147 حديث عبادة مطولا، من رواية الطبراني في الأوسط(1/470)
فَظَنَّ آخَرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الدَّوَاءِ بِمُجَرَّدِهِ كاف في حصول المطلوب، وكان غَالِطًا.
وَكَذَا قَدْ يَدْعُو بِاضْطِرَارٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَيُجَابُ، فَيَظُنُّ أَنَّ السِّرَّ لِلْقَبْرِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ السِّرَّ لِلِاضْطِرَارِ وَصِدْقِ اللَّجْءِ (1) إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالرُّقَى بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا وَالسَّاعِدُ سَاعِدًا قَوِيًّا، وَالْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْمَانِعُ مَفْقُودًا - حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ.
فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانَعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ - لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ.
قَوْلُهُ: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ. وَلَا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ) .
ش: كَلَامٌ حَقٌّ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ. وَالْحَيْنُ، بِالْفَتْحِ: الْهَلَاكُ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} (2) . {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} (4) . {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (5) . {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (6) . ونظائر ذلك كثيرة.
__________
(1) «اللجء» - بفتح اللام وسكون الجيم: مصدر، كاللجوء
(2) المائدة 119
(3) الفتح 18
(4) المائدة 60
(5) النساء 93
(6) البقرة 61(1/471)
وَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْغَضَبِ، وَالرِّضَى، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْحُبِّ، وَالْبُغْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ، وَمَنْعُ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَصْرِفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى. كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: "إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الربوبية - بترك التَّأْوِيلِ، وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ" (1) .
وَانْظُرْ إِلَى جَوَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في صفة [الاستواء] : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ (2) ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهَا، وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: "مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ". وَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ"أَنَّ الْإِسْلَامَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ".
فَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى"- نَفْيُ التَّشْبِيهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الرِّضَى إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ، وَالْغَضَبَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ - فَإِنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلصِّفَةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَشَاؤُهُ، وَيَنْهَى عَمَّا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيُبْغِضُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ وَأَرَادَهُ. فَقَدْ يُحِبُّ عِنْدَهُمْ وَيَرْضَى مَا لَا يُرِيدُهُ، وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيَغْضَبُ لِمَا أَرَادَهُ.
وَيُقَالُ لِمَنْ تَأَوَّلَ الْغَضَبَ وَالرِّضَى بِإِرَادَةِ الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّ الْغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق
__________
(1) مضى في ص: 180
(2) في المطبوعة «في صفة كيف الاستواء معلوم» ! وهو كلام مضطرب لا معنى له، تخليط من الناسخين(1/472)
بِاللَّهِ تَعَالَى! فَيُقَالُ لَهُ: غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فِي الْآدَمِيِّ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْ صِفَةِ الْغَضَبِ، [لَا أَنَّهُ الْغَضَبُ] (1) . وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: وَكَذَلِكَ الإرادة والمشيئة فينا، هي مَيْلُ الْحَيِّ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ وَيُنَاسِبُهُ، فَإِنَّ الْحَيَّ مِنَّا لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يُرِيدُهُ ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينقص بِعَدَمِهِ. فَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَ إِلَيْهِ اللَّفْظَ كَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنْهُ سَوَاءٌ، فَإِنْ جَازَ هَذَا جَازَ ذَاكَ، وَإِنِ امْتَنَعَ هَذَا امْتَنَعَ ذَاكَ.
فإن قالوا: [الْإِرَادَةُ] الَّتِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً؟ قِيلَ لَهُ: فَقُلْ: إِنَّ الْغَضَبَ والرضا الَّذِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً. فَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُهُ فِي الْإِرَادَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، لَمْ يَتَعَيَّنِ التَّأْوِيلُ، بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّكَ تَسْلَمُ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَتَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ تَعْطِيلِ مَعْنَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِلَا مُوجِبٍ. فَإِنَّ صَرْفَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ حَرَامٌ، ولا يكون الموجب للصرف ما دل عَلَيْهِ عَقْلُهُ، إِذِ الْعُقُولُ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَلٌّ يَقُولُ إن عقله دل عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ!
وَهَذَا الْكَلَامُ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِامْتِنَاعِ مُسَمَّى ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ مَا يَعْهَدُهُ حَتَّى فِي صِفَةِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَوُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِهِ، فَوُجُودُهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَمَا سَمَّى بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهِ مَخْلُوقَاتِهِ، مِثْلَ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ، أَوْ سَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِهِ، كَالْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَسَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِ عِبَادِهِ - فَنَحْنُ نَعْقِلُ بِقُلُوبِنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ، وَنَعْقِلُ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا، لَكِنَّ هذا المعنى لا يوجد في
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ولعل الصواب إثباته من سائر النسخ. ن(1/473)
الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا، إِذِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ لَا يُوجَدُ مُشْتَرَكًا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مُعَيَّنًا مُخْتَصًّا. فَيَثْبُتُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا يَلِيقُ بِهِ. بَلْ لَوْ قِيلَ: غَضَبُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ وَغَضَبُ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِكَيْفِيَّةِ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، حَتَّى تَغْلِيَ دِمَاءُ قُلُوبِهِمْ كَمَا يَغْلِي دَمُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ غَضَبِهِ. فَغَضَبُ اللَّهِ أَوْلَى.
وَقَدْ نَفَى الْجَهْمُ وَمَنْ وَافَقَهُ كُلَّ مَا وَصَفَ اللَّهَ بِهِ نَفْسَهُ، مِنْ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَأَسَفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ! !
وَعَارَضَ هَؤُلَاءِ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقَالُوا: لَا يُوصَفُ اللَّهُ بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا، [و] جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ، قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ، فَلَا يَرْضَى فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا يَغْضَبُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فيقولون: لبيك وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» .
فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ ثُمَّ يَسْخَطُ، كَمَا يُحِلُّ السَّخَطَ ثُمَّ يَرْضَى، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَلَّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانًا لَا يَتَعَقَّبُهُ سَخَطٌ.
وَهُمْ قَالُوا: لَا يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَضْحَكُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَغْضَبُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَرْضَى إِذَا شَاءَ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا الرِّضَى وَالْغَضَبَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ هُوَ الْإِرَادَةُ، أَوْ يَجْعَلُوهَا صِفَاتٍ أُخْرَى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذلك(1/474)
لَا بِمَشِيئَتِهِ وَلَا بِقُدْرَتِهِ، إِذْ لَوْ تَعَلَّقَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ مَحَلًا لِلْحَوَادِثِ! ! فَنَفَى هَؤُلَاءِ الصِّفَاتِ [الْفِعْلِيَّةَ] (1) الذَّاتِيَّةَ بِهَذَا الْأَصْلِ، كَمَا نَفَى أُولَئِكَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ. وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَا تُسَمَّى حَوَادِثَ، كَمَا سُمِّيَتْ تِلْكَ صِفَاتٍ، وَلَمْ تُسَمَّ أَعْرَاضًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْتَنِ فِيهِ بِتَرْتِيبٍ.
وَأَحْسَنُ مَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ كِتَابُ أُصُولِ الدِّينِ تَرْتِيبُ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» ، الْحَدِيثَ - فَيَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بِالْكَلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ وَثُمَّ، إِلَى آخِرِهِ.
وَقَوْلُهُ: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ. وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ. وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الروافض والنواصب. وقد أثنى الله عَلَى الصَّحَابَةِ هُوَ وَرَسُولُهُ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَوَعَدَهُمُ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) .
وَقَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
__________
(1) في الأصل: (العقلية) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) التوبة 100(1/475)
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} (1) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (2) .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (4) . {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (5) .
وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَعَلَى الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ غِلًّا لَهُمْ، وَتَتَضَمَّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْفَيْءِ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي الْفَيْءِ نَصِيبًا، بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذُهُبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أحدهم ولا
__________
(1) الفتح 29
(2) الفتح 18
(3) الأنفال 72
(4) الحديد 10
(5) الحشر 8 - 10(1/476)
نَصِيفَهُ» (1) . انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِذِكْرِ سَبِّ خَالِدٍ لِعَبْدِ الرحمن، دون البخاري. فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِخَالِدٍ وَنَحْوِهُ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» ، يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَأَمْثَالَهُ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَنَحْوَهُ هُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا، وَهُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَهُمْ أَفْضَلُ وَأَخَصُّ بِصُحْبَتِهِ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَعْدَ مُصَالَحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهَؤُلَاءِ أَسْبَقُ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمْ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَابْنَاهُ يَزِيدُ وَمُعَاوِيَةُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ نهى من له صحبة أخرى أن يسب من له صحبة أولى، لِامْتِيَازِهِمْ عَنْهُمْ مِنَ الصُّحْبَةِ بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْرَكُوهُمْ فِيهِ، حَتَّى لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ - فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَيْسَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِحَالٍ مَعَ الصَّحَابَةِ؟ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ - مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - هُمُ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا، وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كُلُّهُمْ مِنْهُمْ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. فَإِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِهِ فَضِيلَةً، لِأَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى التَّفْضِيلِ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا دَلَّ عَلَى التَّفْضِيلِ بِالسَّبْقِ إِلَى الْإِنْفَاقِ وَالْجِهَادِ وَالْمُبَايَعَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» - فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قال البزار: هذا حديث
__________
(1) صحيح مسلم 2: 273. وصححنا لفظه هنا منه(1/477)
لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ (1) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ نَاسًا يَتَنَاوَلُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ! فَقَالَتْ: (وَمَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا! انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَمَلُ، فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ لَا يَقْطَعَ عَنْهُمُ الْأَجْرَ) .
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً - يَعْنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) . وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: (خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً» ؟، الْحَدِيثَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» .
وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (2) ، الْآيَاتِ.
وَلَقَدْ صَدَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصْفِهِمْ، حَيْثُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) ذكره الذهبي في الميزان 1: 191 في ترجمة «جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي» ، وهو ممن يضع الحديث، ويروي أحاديث لا أصل لها، ووصف الذهبي هذا الخبر بأنه من بلايا جعفر
(2) التوبة 117(1/478)
فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: (وَقَدْ رَأَى أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا أَنْ يَسْتَخْلِفُوا أَبَا بَكْرٍ) .
وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ..". إِلَخْ، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ".
فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ [حِقْدٌ] عَلَى خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ؟ بَلْ قَدْ فَضَلَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِخَصْلَةٍ، قِيلَ لِلْيَهُودِ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ مُوسَى، وَقِيلَ لِلنَّصَارَى: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ عِيسَى، وَقِيلَ لِلرَّافِضَةِ: مَنْ شَرُّ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ!! لَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَفِيمَنْ سَبُّوهُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّنِ اسْتَثْنَوْهُمْ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ.
وَقَوْلُهُ: "وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ"- أَيْ لَا نَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، كَمَا تَفْعَلُ الشِّيعَةُ، فَنَكُونُ مِنَ الْمُعْتَدِينَ. قَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ (1) .
وَقَوْلُهُ: "وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ"- كَمَا فَعَلَتِ الرَّافِضَةُ! فَعِنْدَهُمْ لَا وَلَاءَ إِلَّا بِبَرَاءٍ، أَيْ لَا يَتَوَلَّى أَهْلَ الْبَيْتِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا!! وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُوَالُونَهُمْ كُلَّهُمْ، وَيُنْزِلُونَهُمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا، بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، لَا بِالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ. فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (2) . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: الشَّهَادَةُ بِدْعَةٌ، وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ. يُرْوَى
__________
(1) النِّسَاءِ: 171
(2) الْجَاثِيَةِ: 17(1/479)
ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهُمْ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالضَّحَاكُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَمَعْنَى الشَّهَادَةِ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ أَنَّهُ كَافِرٌ، بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ - لِأَنَّهُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا [بَعْدِي] ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» (1) .
وَتَسْمِيَةُ حُبِّ الصَّحَابَةِ إِيمَانًا مُشْكِلٌ عَلَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْحُبَّ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَمَلَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَجَازًا.
وَقَوْلُهُ: "وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ"- تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا الْكُفْرُ نَظِيرُ الْكُفْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ) .
__________
(1) الترمذي 4: 360، وقال: «هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . وقال شارحه: «وأخرجه أحمد»
(2) الْمَائِدَةِ: 44(1/480)
ش: اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ كَانَتْ بِالنَّصِّ، أَوْ بِالِاخْتِيَارِ؟ فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ وَالْإِشَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالِاخْتِيَارِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِهَا بِالنَّصِّ أَخْبَارٌ:
مِنْ ذَلِكَ مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: «أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ» . وَذَكَرَ لَهُ سِيَاقًا آخَرَ، وَأَحَادِيثَ أُخَرَ. وَذَلِكَ نَصٌّ عَلَى إِمَامَتِهِ.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُدِئَ فِيهِ، فَقَالَ: ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، ثُمَّ قَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلَا يَطْمَعْ فِي هَذَا الْأَمْرِ طَامِعٌ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «ادْعِي لِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، لِأَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يُخْتَلَفُ عَلِيْهِ، ثُمَّ قَالَ. مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ» .
وَأَحَادِيثُ تَقْدِيمِهِ فِي الصَّلَاةِ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ يَقُولُ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» .
وَقَدْ رُوجِعَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَصَلَّى بِهِمْ مُدَّةَ مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ، عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا(1/481)
شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوُ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ» .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِهِ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ، إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ» .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا رَأَيْتُ مِيزَانًا أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحْتَ أَنْتَ بِأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَحَ عُمَرُ، ثُمَّ رُفِعَ [الْمِيزَانُ] ، فَرَأَيْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "خِلَافَةُ [نُبُوَّةٍ] (1) ، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ» .
فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ وِلَايَةَ هَؤُلَاءِ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْكٌ.
وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعِ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ، بَلْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ، لَمْ يَنْتَظِمْ فِيهِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَلَا الْمُلْكُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَى اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ، قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. واستدركناه من سنن أبي داود 5 / 30 رقم (4634، 4635) . ن(1/482)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْمَنُوطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيَ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا، فَشَرِبَ شُرْبًا ضَعِيفًا، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا، فَانْتُشِطَتْ مِنْهُ، فَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ» .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ (1) ، عَنْ سَفِينَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ أَوِ الْمُلْكَ» .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ بِالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَإِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ، فَلَمْ يَسْتَخْلِفْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ [مِنِّي] ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف] (2)
وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ بِعَهْدٍ مَكْتُوبٍ، وَلَوْ كَتَبَ عَهْدًا لَكَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ، بَلْ قَدْ أَرَادَ كِتَابَتَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَقَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.
فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ مِنْ مُجَرَّدِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ أَقْوَالِهِ
__________
(1) «جمهان": بضم الجيم وسكون الميم بعدها هاء. وفي المطبوعة «جهمان"- بتقديم الهاء، وهو خطأ
(2) رواه بنحوه، الإمام أحمد في المسند: 332. وأبو داود: 2939. ورواه مسلم مطولا 2: 80 - 81 من وجهين. وقد صححناه من إحدى روايتي مسلم. وفي المطبوعة «من هو خير، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مستخلفا لو استخلف» ! وهو كلام مضطرب ناقص!(1/483)
وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْبَرَ بِخِلَافَتِهِ إِخْبَارَ رَاضٍ بِذَلِكَ، حَامِدٍ لَهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ عَهْدًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْكِتَابَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ شَكٌّ: هَلْ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الْمَرَضِ؟ أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ؟ تَرَكَ الْكِتَابَةَ، اكْتِفَاءً بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَخْتَارُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ.
فَلَوْ كَانَ التَّعْيِينُ مِمَّا يَشْتَبِهُ عَلَى الْأُمَّةِ لَبَيَّنَهُ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، لَكِنْ لَمَّا دَلَّهُمْ دَلَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْمُتَعَيِّنُ، وَفَهِمُوا ذَلِكَ - حَصَلَ الْمَقْصُودُ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَهَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: (أَنْتَ خَيْرُنَا وَسَيِّدُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ [[أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ فِي خِلَافَتِهِ إِلَّا بَعْضُ الْأَنْصَارِ، طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَمِيرٌ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ]] (*) أَمِيرٌ، وَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطْلَانُهُ.
ثُمَّ الْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ، إِلَّا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَطُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، لَا عَلِيٌّ، وَلَا الْعَبَّاسُ، وَلَا غَيْرُهُمَا، كَمَا قَدْ قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ!.
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيَّ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَالَ: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَوَ فِي شَكٍّ صَاحِبُكَ؟ نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اسْتَخْلَفَهُ، لَهُوَ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَتَوَثَّبَ عَلَيْهَا (1) .
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَجَمِيعُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ تَوْلِيَةَ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، لَمْ يَذْكُرْ حُجَّةً دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، وَلَا ذَكَرَ أَنَّ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَوْ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنَّمَا نَشَأَ مِنْ
__________
(1) هذا أثر ضعيف الإسناد جدا. محمد بن الزبير الحنظلي: قال البخاري في كتاب الضعفاء، ص 31: «منكر الحديث»
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين المزدوجين ساقط من المطبوعة وأثبته من طبعة المكتب الإسلامي(1/484)
حُبِّ قَبِيلَتِهِ وَقَوْمِهِ فَقَطْ، وَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ (1) أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ، وَعَدَّ رِجَالًا» .
وَفِيهِمَا أَيْضًا، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: [يا رسول الله] ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ] ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ] ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا» (2) . وَمَعْنَى: غَامَرَ: غَاضَبَ وَخَاصَمَ. وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ ذِكْرِ فَضَائِلِهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) في المطبوعة «أي النساء!» وهو خطأ. انظر صحيح مسلم 2: 231
(2) الحديث كان في المطبوعة محرفا وناقصا بعض ألفاظه. فصححناه من رواية البخاري 7: 17 - 18 من الفتح. وقد أوهم الشارح - رحمه الله - في نسبته للصحيحين، فإن مسلما لم يروه في صحيحه. وقد نص الحافظ في الفتح 7: 123 على أنه من أفراد البخاري(1/485)
وَسَلَّمَ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ (1) - فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ - إِلَى أَنْ [قَالَتْ] (2) : وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ! فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ [الصديق] ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ، فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي هَيَّأْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي، خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ! ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، [فَقَالَ حُبَابُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ] (3) ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ، وَأَعَزُّهُمْ أَحْسَابًا، فَبَايِعُوا عُمَرَ، أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَيْرُنَا، وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) ، فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ، فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْد [بن عبادة] ، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ» . وَالسُّنْحُ: الْعَالِيَةُ، وَهِيَ حَدِيقَةٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ بِهَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) .
ش: أَيْ وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، رضي الله عنه لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذَلِكَ بِتَفْوِيضِ أَبِي بَكْرٍ الْخِلَافَةَ إِلَيْهِ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ. وَفَضَائِلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُنْكَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ.
__________
(1) «السنح» ، بضم السين المهملة وسكون النون - ويجوز ضمها - وآخره حاء مهملة: طرف من أطراف المدينة بعواليها، كان بينها وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل، وكان بها منزل أبي بكر. وفي المطبوعة «بالسخ» ! وهو خطأ مطبعي
(2) في الأصل: (قال) والصواب ما أثبتناه. ن
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل واستدركناه من صحيح البخاري (7 / 20 فتح) . ن
(4) الحديث في البخاري 7: 22 - 25 من الفتح، وكان في المطبوعة محرفا، فصححناه منه. وقد أوهم الشارح أيضا في نسبته للصحيحين، فإنه من أفراد البخاري، كما نص عليه الحافظ 7: 123(1/486)
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَوَمَا تَعْرِفُ؟ فَقُلْتُ؟ لَا، قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ عُثْمَانُ! فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ فَقَالَ. مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتُ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرِ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو، أَوْ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا» (1) .
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزْعِهِ مِنَ الْقَلِيبِ، ثُمَّ نَزْعِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَحَالَتِ الدَّلْوُ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ: «اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُكَلِّمْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ -» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ - «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيه يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» .
__________
(1) صحيح مسلم 2: 232(1/487)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ» . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ"مُحَدَّثُونَ": مُلْهَمُونَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) .
ش: أَيْ وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قِصَّةَ قَتْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمْرَ الشُّورَى وَالْمُبَايَعَةِ لِعُثْمَانَ، فِي صَحِيحِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْرُدَهَا، كَمَا رَوَاهَا بِسَنَدِهِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ (1) ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ [بن الخطاب] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ، وَوَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟ أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ؟ قَالَا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، مَا فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ، قَالَ: انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ؟ قَالَا: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهِلِ الْعِرَاقِ لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا، قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ [إلا] أَرْبَعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ. قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ [فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ، أَوِ النَّحْلِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ] ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي، أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَشِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا، فَلَمَّا ظَنَّ [العلج] أَنَّهُ مَأْخُوذٌ، نَحَرَ نَفْسَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ يَلِي عُمَرُ فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى، وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ
__________
(1) صحيح البخاري 5: 15 - 18 (من الطبعة السلطانية) ، و (7: 49 - 56 من الفتح) ، وقد صححناه وأثبتنا ما نقص منه هنا - من الطبعة السلطانية.(1/488)
فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلَاةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي؟ فَجَالَ سَاعَةً، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلَامُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: الصَّنَعُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ! لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ؟ أَيْ: إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا؟ قَالَ: كَذَبْتَ! بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ، وَصَلُّوا قِبْلَتَكُمْ، وَحَجُّوا حَجَّكُمْ؟ فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا بَأْسَ عَلَيْهِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدَمٍ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَاف، لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الْأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ؟ فَحَسَبُوهُ، فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَنَحْوَهُ، قَالَ: إِنْ وَفَى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ، فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَسَلْ فِي بَنِي
عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ، فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ، وَلَا تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ، انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، وَلَا تَقُلْ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ] السَّلَامَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ، قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ [بْنُ عُمَرَ] قَدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، قَالَ. مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ:(1/489)
الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَذِنَتْ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ يَسْتُرْنَهَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَوَلَجْتُ دَاخِلًا لَهُمْ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ؟ قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ، فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ مِنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.
وَقَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا، الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وأن يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الْإِسْلَامِ، وَجُبَاةُ الْأَمْوَالِ، وَغَيْظُ الْعَدُوِّ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ، وَمَادَّةُ الْإِسْلَامِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ، وتُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُوا [إِلَّا طَاقَتَهُمْ] .
فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؟ قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ، قَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ [بْنِ عَوْفٍ] ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ؟ وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانُ، فَقَالَ(1/490)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ؟ وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لَا آلُوَ عَنْ أَفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ، لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ؟ وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ؟ ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ، قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ، فَبَايَعَهُ، فَبَايَعَ لَهُ عَلَيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ.
وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) : (أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ [الرهط] الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، قَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ؟ فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، مَالَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ [الَّتِي] أَصْبَحْنَا فِيهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ، - قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ -: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا؟! فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ الثَّلَاثَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ لِي الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا [لَهُ] ، فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي، فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ، [فَدَعَوْتُهُ] ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَ [أَرْسَلَ] إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ، إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا، فَقَالَ:
__________
(1) وهذا رواه البخاري أيضا 9: 78 (من الطبعة السلطانية) ، و (13: 168 - 171 من الفتح) . وصححناه كسابقه(1/491)
أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ [اللَّهِ وَ] رَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ) .
وَمِنْ فَضَائِلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَاصَّةِ: كَوْنُهُ خَتَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَتَيْهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1) .، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا [فِي بَيْتِهِ] ، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، [ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهَشَّ وَلَمْ تُبَالِهِ] ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» .
وَفِي الصَّحِيحِ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بِيَدِهِ] الْيُمْنَى: "هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ» (2) .
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) .
ش: أَيْ: وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَبَايَعَ النَّاسُ عَلِيًّا صَارَ إِمَامًا حَقًّا وَاجِبَ الطَّاعَةِ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ فِي زَمَانِهِ خِلَافَةَ نُبُوَّةٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَفِينَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
__________
(1) صحيح مسلم 2: 234 - 235. وصححناه منه كسابقيه
(2) هذه قطعة مختصرة، من حديث رواه البخاري 7: 18 - 19 (من الفتح) ، وصححناها منه(1/492)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ» (1) .
وَكَانَتْ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَخِلَافَةُ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَخِلَافَةُ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، [وَخِلَافَةُ الْحَسَنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ] (2) .
وَأَوَّلُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، [وَهُوَ خَيْرُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ] ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِمَامًا حَقًّا لَمَّا فَوَّضَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخِلَافَةَ، فَإِنَّ الْحَسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَظَهَرَ صِدْقُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوْضِعِهَا.
فَالْخِلَافَةُ ثَبَتَتْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمُبَايَعَةِ الصَّحَابَةِ، سِوَى مُعَاوِيَةَ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ.
وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُتِلَ كَثُرَ الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى [مَنْ] (3) كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَعَظُمَتِ الشُّبْهَةُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَالَ، وَقَوِيَتِ الشَّهْوَةُ فِي نُفُوسِ ذَوِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ، مِمَّنْ بَعُدَتْ دَارُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَيحْمِي اللَّهُ عُثْمَانَ أَنْ يَظُنَّ بِالْأَكَابِرِ ظُنُونَ سُوءٍ، وَيَبْلُغَهُ عَنْهُمْ أَخْبَارٌ، مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُحْدَثٌ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ وَجْهُهُ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَهْوَاءُ قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ. وَكَانَ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْخَوَارِجِ، الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ - مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ، وَمَنْ تَنْتَصِرُ لَهُ قَبِيلَتُهُ، وَمَنْ لَمْ
__________
(1) مضى في ص 483
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) في الأصل: (و) ، والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/493)
تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بِمَا فَعَلَهُ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ نِفَاقٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِهِ كُلِّهِ، وَرَأَى طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْتَصَرْ لِلشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ، وَيُقْمَعْ أَهْلُ الْفَسَادِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِلَّا اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ. فَجَرَتْ فِتْنَةُ الْجَمَلِ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ عَلِيٍّ، وَلَا مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا أَثَارَهَا الْمُفْسِدُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ السَّابِقِينَ، ثُمَّ جَرَتْ فِتْنَةُ صِفِّينَ لِرَأْيٍ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ لَمْ يُعْدَلْ عَلَيْهِمْ، أَوْ لَا يُتَمَكَّنْ مِنَ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ كَافُّونَ، حَتَّى تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ، وَأَنَّهُمْ يَخَافُونَ طُغْيَانَ مَنْ فِي الْعَسْكَرِ، كَمَا طَغَوْا عَلَى الشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَوا مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ، فاعْتَقَدَ أَنَّ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَتَيْنِ عَلَيْهِمْ تَحْصُلُ بِقِتَالِهِمْ، فَيُطْلَبُ إِمَامٌ، فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ (1) ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ التَّأْلِيفَ لَهُمْ كَتَأْلِيفِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ مِمَّا يَسُوغُ (2) ، فَحَمَلَهُ مَا رَآهُ - مِنْ أَنَّ الدِّينَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْإِثَارَةِ، دُونَ تَأْلِيفِهِمْ -: عَلَى الْقِتَالِ، وَقَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ أَكْثَرُ الْأَكَابِرِ، لِمَا سَمِعُوهُ مِنَ النُّصُوصِ فِي الْأَمْرِ بِالْقُعُودِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَرْبُو مَفْسَدَتُهَا عَلَى مَصْلَحَتِهَا. وَنَقُولُ فِي الْجَمِيعِ بِالْحُسْنَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) .
وَالْفِتَنُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِهِ قَدْ صَانَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْدِيَنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَصُونَ عَنْهَا أَلْسِنَتَنَا، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَمِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ [مِنْ مُوسَى] ، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» .
__________
(1) هذه الجملة جاءت هكذا في المطبوعة عن أصلها، ولم نوفق لوجه تصويبها!
(2) في المطبوعة «بما يسوغ» . وهو تحريف - فيما أرى
(3) الْحَشْرِ: 10(1/494)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ: ادْعُوا لِي عَلِيًّا، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» .
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} (1) ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: ""اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي» .
قَوْلُهُ: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ) .
ش: تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي السُّنَنِ (2) ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» .
وَتَرْتِيبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي الْفَضْلِ، كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ. وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا فِي الِاقْتِدَاءِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَّا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِمُ وَالِاقْتِدَاءِ [بِهِمْ] (3) ، فَحَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَوْقَ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
__________
(1) آلِ عِمْرَانَ: 61
(2) تقدم في ص: 375
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من سائر النسخ. ن(1/495)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ، عَلَى عَلِيٍّ. [وَعَلَى] هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ» (1) .
قَوْلُهُ: (وَأَنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَهُمْ. أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ) .
ش: تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ فَضَائِلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَمِنْ فَضَائِلِ السِّتَّةِ الْبَاقِينَ مِنَ الْعَشَرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَرِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، [فَقَالَ] : "لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ"، قَالَتْ: وَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ
__________
(1) هذا الحديث رواه البخاري 7: 14، 47 بلفظين آخرين. وهو من أفراده، لم يروه مسلم في صحيحه، كما نص على ذلك الحافظ (7: 123) . وأما اللفظ الذي هنا فهو لفظ أبي داود: 4628، من رواية سالم عن ابن عمر. ورواه أيضا بنحوه، من غير هذا الوجه: أحمد في المسند: 4626، وأبو داود: 4627، والترمذي 4: 322 - 323. فقد تساهل الشارح كثيرا!!(1/496)
أَحْرُسُكَ» - وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ» (1) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: "ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ شُلَّتْ» (2) .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: «لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ» (3) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ» (4) .
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِيَنِي بِخَبَرِهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ، فَقَالَ: "فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) صحيح مسلم 2: 239
(2) رواه البخاري 7: 66. وقد وهم الشارح في نسبته لمسلم. فإنه من أفراد البخاري. وقد نص الحافظ على ذلك 7: 123. وقوله «يوم أحد» ليس في لفظ البخاري. وذكر الحافظ أنه ثابت في رواية الإسماعيلي، يعني في مستخرجه على البخاري
(3) صحيح مسلم 2: 240. ورواه أيضا البخاري 7: 65 - 66. وسها الحافظ في الفتح 7: 123 فجعله من أفراد البخاري
(4) مسلم 2: 240(1/497)
وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» (1) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ. «جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْعَثْ إِلَيْنَا [رَجُلًا] أَمِينًا، فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ، فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ، قَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ» (2) .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ"، وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الْعَاشِرَ، قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: "سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ"، وَقَالَ. لَمَشْهَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَغْبَرُّ مِنْهُ وَجْهُهُ، خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ، وَلَوْ عُمِّرَ عُمُرَ نُوحٍ» (3) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (4) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ""أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، [وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ] (5) . وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ» .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (6) . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَقَدَّمَ فِيهِ عُثْمَانَ
__________
(1) مسلم 2: 241. وكذلك رواه البخاري 7: 73
(2) هذا لفظ مسلم 2: 241 - وأما البخاري فرواه موجزا جدا 7: 73 - 74
(3) هذا لفظ روايتي أبي داود (5 / 39 - 40) . وقد سقط من الأصل: علي والزبير، وقُدم طلحة على عمر وعثمان، فأثبتنا لفظ أبي داود. ن
(4) جمع المؤلف لفظه من روايتين لأبي داود: 4649، 4650. ورواه أحمد في المسند، نحوه، مطولا: 1629
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من المسند 1 / 193، والترمذي رقم
(6) المسند: 1675، والترمذي 4: 334(1/498)
عَلَى عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِرَاءٍ، [هُوَ] وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اهْدَأْ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا (1) . وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ وَتَقْدِيمِهِمْ، لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ. وَمَنْ أَجْهَلُ مِمَّنْ يَكْرَهُ [التَّكَلُّمَ بِلَفْظِ] (2) الْعَشَرَةِ، أَوْ فِعْلَ شَيْءٍ يَكُونُ عَشَرَةً!! لِكَوْنِهِمْ يُبْغِضُونَ خِيَارَ الصَّحَابَةِ، وَهُمُ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَهُمْ يَسْتَثْنُونَ مِنْهُمْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ! فَمِنَ الْعَجَبِ: أَنَّهُمْ يُوَالُونَ لَفْظَ التِّسْعَةِ! وَهُمْ يُبْغِضُونَ التِّسْعَةَ مِنَ الْعَشَرَةِ! وَيُبْغِضُونَ سَائِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (3) .
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» (4) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ غُلَامًا [لحَاطِبِ] (5) بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْتَ، [لَا يَدْخُلُهَا] ، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» (6) .
__________
(1) مسلم 2: 241
(2) في الأصل: (لفظ) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) الْفَتْحِ: 18
(4) مسلم 2: 263، ولكنه ليس من حديث جابر، بل من روايته عن أم مبشر، ولفظه «لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها»
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من صحيح مسلم (4 / 1942) رقم2495. ن.
(6) مسلم 2: 263. وقد صححنا لفظه منه(1/499)
وَالرَّافِضَةُ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ، بَلْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ سَائِرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ، نَحْوَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا!! وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فِي الْعَالَمِ عَشَرَةٌ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ، لَمْ يُهْجَرْ هَذَا الِاسْمُ لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (1) ، لَمْ يَجِبْ هَجْرُ اسْمِ التِّسْعَةِ مُطْلَقًا. بَلِ اسْمُ الْعَشَرَةِ قَدْ مَدَحَ اللَّهُ مُسَمَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (2) . {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (3) . {وَالْفَجْرِ} {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (4) .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يقول: " «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . وَقَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ» . يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ.
وَالرَّافِضَةُ تُوَالِي بَدَلَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ وَصِيُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعْوَى مُجَرَّدَةً عَنِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ الْكَاظِمُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرَّضِيُّ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوَادُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَادِي، ثُمَّ [الْحَسَنُ] (5) بْنُ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيُّ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُغَالُونَ فِي مَحَبَّتِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ!! وَلَمْ يَأْتِ ذِكْرُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، إِلَّا عَلَى صِفَةٍ تَرُدُّ قَوْلَهُمْ وَتُبْطِلُهُ، وَهُوَ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
__________
(1) النَّمْلِ: 48
(2) الْبَقَرَةِ: 196
(3) الْأَعْرَافِ: 142
(4) الْفَجْرِ: 1 - 2
(5) ما بين المعقوفتين سقطت من الأصل. وأثبتناها من سائر النسخ. ن(1/500)
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ، فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: " كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً» (1) .
وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاثْنَا عَشَرَ: الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُهُ يَزِيدُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَوْلَادُهُ الْأَرْبَعَةُ، وَبَيْنَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ أَخَذَ الْأَمْرُ فِي الِانْحِلَالِ.
وَعِنْدَ الرَّافِضَةِ أَنَّ أَمْرَ الْأُمَّةِ لَمْ يَزَلْ فِي أَيَّامِ هَؤُلَاءِ فَاسِدًا، يَتَوَلَّى عَلَيْهِمُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ، بَلِ الْمُنَافِقُونَ الْكَافِرُونَ، وَأَهْلُ الْحَقِّ أَذَلُّ مِنَ الْيَهُودِ! وَقَوْلُهُمْ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، بَلْ لَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا فِي ازْدِيَادٍ فِي أَيَّامِ هَؤُلَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، فَقَدَ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ) .
ش: تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ مِنْ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى: خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي، فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» ،
__________
(1) الروايتان في صحيح مسلم 2: 79 - 80(1/501)
فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، ثَلَاثًا» (1) .
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ» (2) .
وَإِنَّمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَقَدَ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ " - لِأَنَّ أَصْلَ الرَّفْضِ إِنَّمَا أَحْدَثَهُ مُنَافِقٌ زِنْدِيقٌ، قَصْدُهُ إِبْطَالُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَدْحُ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ. فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ أَرَادَ أَنْ يَفْسِدَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَكْرِهِ وَخُبْثِهِ، كَمَا فَعَلَ بُولِسُ بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى سَعَى فِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَلى الْكُوفَةِ أَظْهَرَ الْغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ وَالنَّصْرَ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَطَلَبَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى قرقيس. وَخَبَرُهُ مَعْرُوفٌ فِي التَّارِيخِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جَلَدَهُ جَلْدَ مُفْتَرٍ.
وَبَقِيَتْ فِي نُفُوسِ الْمُبْطِلِينَ خَمَائِرُ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، مِنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ بَابُ الزَّنْدَقَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ (3) عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ إِفْسَادِهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقَالُوا لِلدَّاعِي: يَجِبُ عَلَيْكَ إِذَا وَجَدْتَ مَنْ تَدْعُوهُ مُسْلِمًا أَنْ تَجْعَلَ التَّشَيُّعَ عِنْدَهُ دِينَكَ وَشِعَارَكَ، وَاجْعَلِ الْمَدْخَلَ مِنْ جِهَةِ ظُلْمِ السَّلَفِ لِعَلِيٍّ وَقَتْلِهِمُ الْحُسَيْنَ، وَالتَّبَرِّي مِنْ تَيْمٍ وَعَدِيٍّ، وَبَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَنَّ عَلِيًّا يَعْلَمُ الْغَيْبَ! يُفَوَّضُ إِلَيْهِ خَلْقُ الْعَالَمِ!! وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَعَاجِيبِ الشِّيعَةِ [فإن وجدت منه] (4) ، عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِجَابَةً وَرَشَدًا، أَوْقَفْتَهُ عَلَى مَثَالِبِ عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. انْتَهَى.
__________
(1) مسلم 2: 237 - 238، في حديث طويل: وكان في المطبوعة تحريف، صححناه منه
(2) رواه البخاري عن أبي بكر، في موضعين 7: 63، 75 من فتح الباري
(3) هو أبو بكر الباقلاني، محمد بن الطيب
(4) هذه الزيادة - أو ما في معناها - ضرورية لنسق الكلام(1/502)
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ إِلَى سَبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ آلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْفَاعِلِينَ الضَّالِّينَ.
قَوْلُهُ: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ - أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ - لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) . فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، خُصُوصًا الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ، يُهْدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، إِذْ كُلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا، إِلَّا الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ، فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَالْمُحْيُونَ لِمَا مَاتَ مِنْ سُنَّتِهِ، فَبِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا، وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا، وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينًا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنْ إِذَا وُجِدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ -: فَلَا بُدَّ لَهُ فِي تَرْكِهِ مِنْ عُذْرٍ.
وَجِمَاعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ أَرَادَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ (2) .
__________
(1) النِّسَاءِ: 115
(2) في المطبوعة «محكم منسوخ» ! وهو خطأ ناسخ أو طابع(1/503)
فَلَهُمُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا وَالْمِنَّةُ بِالسَّبْقِ، وَتَبْلِيغِ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا، وَإِيضَاحِ مَا كَانَ مِنْهُ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
قَوْلُهُ: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الِاتِّحَادِيَّةِ [وَجَهَلَةِ] (2) الْمُتَصَوِّفَةِ، وَإِلَّا فَأَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ يُوصُونَ بِمُتَابَعَةِ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَةِ الشَّرْعِ. فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مُتَابَعَةَ الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ، نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا تَرَكَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنَ السُّنَّةِ إِلَّا لِكِبْرٍ فِي نَفْسِهِ. وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلْأَمْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، كَانَ يَعْمَلُ بِإِرَادَةِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا غِشُّ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنَ الْكِبْرِ، فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (5) .
__________
(1) الْحَشْرِ: 10
(2) في الأصل: (وجملة) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) النِّسَاءِ: 64-65
(4) آلِ عِمْرَانَ: 31
(5) الْأَنْعَامِ: 124(1/504)
وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَصِلُ بِرِيَاسَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ، [وَتَصْفِيَةِ] (1) نَفْسِهِ، إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ لِطَرِيقَتِهِمْ!.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ!!
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ بِاللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ!! وَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ!! وَيَكُونُ ذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ لَهُ صَانِعٌ مُبَايِنٌ لَهُ، لَكِنَّ هَذَا يَقُولُ: هُوَ اللَّهُ! وَفِرْعَوْنُ أَظْهَرَ الْإِنْكَارَ بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ فِي الْبَاطِنِ أَعْرَفَ بِاللَّهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ مُثْبِتًا لِلصَّانِعِ، وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الْوُجُودَ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْوُجُودُ الْخَالِقُ، كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ!! وَهُوَ لَمَّا رَأَى أَنَّ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ لَا سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِهِ - قَالَ: النُّبُوَّةُ خُتِمَتْ، لَكِنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تُخْتَمْ! وَادَّعَى مِنَ الْوِلَايَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَمَا يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَفِيدُونَ مِنْهَا! كَمَا قَالَ:
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ ... فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيِّ!
وَهَذَا قَلْبٌ لِلشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) . وَالنُّبُوَّةُ أَخَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَالرِّسَالَةُ أَخَصُّ مِنَ النُّبُوَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ أَيْضًا فِي فُصُوصِهِ: وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ بِالْحَائِطِ مِنَ اللَّبِنِ فَرَآهَا قَدْ كَمُلَتْ إِلَّا لَبِنَةً، فَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ، وَأَمَّا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ، فَيَرَى مَا مَثَّلَهُ النَّبِيُّ
__________
(1) في الأصل: (ويضيف) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) يُونُسَ: 62 - 63(1/505)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرَى نَفْسَهُ فِي الْحَائِطِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَتَيْنِ!! وَيَرَى نَفْسَهُ تَنْطَبِعُ فِي مَوْضِعِ اللَّبِنَتَيْنِ، فَيُكْمِلُ الْحَائِطَ!! وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِكَوْنِهِ يَرَاهَا لَبِنَتَيْنِ: أَنَّ الْحَائِطَ لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَاللَّبِنَةُ الْفِضَّةُ هِيَ ظَاهِرُهُ وَمَا يَتْبَعُهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَمَا هُوَ أَخْذٌ عَنِ اللَّهِ فِي الشَّرْعِ مَا هُوَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ مُتَّبَعٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَرَى الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ هَكَذَا، وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ فِي الْبَاطِنِ! فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَإِنْ فَهِمْتَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ لَكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ!!
فَمَنْ أَكْفَرُ مِمَّنْ ضَرَبَ لِنَفْسِهِ الْمَثَلَ بِلَبِنَةِ ذَهَبٍ، وَلِلرُّسُلِ الْمَثَلَ بِلَبِنَةِ فِضَّةٍ، فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ مِنَ الرَّسُولِ؟! تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} (1) . وَكَيْفَ يَخْفَى كُفْرُ مَنْ هَذَا كَلَامُهُ؟ وَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ أَمْثَالُ هَذَا، وَفِيهِ مَا يَخْفَى مِنْهُ الْكُفْرُ، وَمِنْهُ مَا يَظْهَرُ، فَلِهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَاقِدٍ جَيِّدٍ، لِيُظْهِرَ زَيْفَهُ، فَإِنَّ مِنَ الزَّغَلِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ نَاقِدٍ، وَمِنْهُ مَا لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِلنَّاقِدِ الْحَاذِقِ الْبَصِيرِ. وَكُفْرُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ فَوْقَ كُفْرِ الْقَائِلِينَ: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} (2) . وَلَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالَهُ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ، [اتِّحَادِيَّةٌ] (3) فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَالْمُنَافِقُونَ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ، لِإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ، كَمَا كَانَ يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُونَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ. فَلَوْ أَنَّهُ ظَهَرَ [مِنْ أَحَدٍ] (4) مِنْهُمْ مَا يُبْطِنُهُ مِنَ الْكُفْرِ، لَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ. وَلَكِنْ فِي قَبُولِ
__________
(1) غَافِرٍ: 56
(2) الْأَنْعَامِ: 124
(3) في الأصل: (والاتحادية) ، ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/506)
تَوْبَتِهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ قَبُولِهَا، وَهِيَ رِوَايَةُ مُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ) .
ش: فالْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ تَعُمُّ كُلَّ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، وَ [كذلك الكرامة] فِي عُرْفِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُفَرِّقُونَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُونَ الْمُعْجِزَةَ لِلنَّبِيِّ، وَالْكَرَامَةَ لِلْوَلِيِّ. وَجِمَاعُهُمَا: الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ.
والْكَمَالُ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْغِنَى. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا تَصْلُحُ عَلَى الْكَمَالِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ دَعْوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (1) .
وَكَذَلِكَ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا أَوَّلُ أُولِي الْعَزْمِ، وَأَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهَذَا خَاتَمُ الرُّسُلِ، وَخَاتَمُ أُولِي الْعَزْمِ، وَكِلَاهُمَا تَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُطَالِبُونَهُمْ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (2) ، وَتَارَةً بِالتَّأْثِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الْآيَاتِ (3) ، وَتَارَةً يَعِيبُونَ عَلَيْهِمُ الْحَاجَةَ الْبَشَرِيَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (4) الْآيَةَ.
فَأُمِرَ الرَّسُولُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ بِقَدْرِ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ، فَيَعْلَمُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَيَسْتَغْنِي عَمَّا
__________
(1) الْأَنْعَامِ: 50
(2) النَّازِعَاتِ: 42
(3) الْإِسْرَاءِ: 90
(4) الْفُرْقَانِ: 7(1/507)
أَغْنَاهُ عَنْهُ، وَيَقْدِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، أَوْ لِعَادَةِ أَغْلَبِ النَّاسِ. فَجَمِيعُ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ مَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.
ثُمَّ الْخَارِقُ: إِنْ حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ، كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا دِينًا وَشَرْعًا، إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ، كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، كَانَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ أَوِ الْبُغْضِ، كَالَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا: بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَا، [لكن قد يكون صاحبها معذورا] (1) لِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ نَقْصِ عَقْلٍ أَوْ عِلْمٍ، أَوْ غَلَبَةِ حَالٍ، أَوْ عَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ.
فَالْخَارِقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ، وَمَذْمُومٌ، وَمُبَاحٌ. فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَانَ نِعْمَةً، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ: كُنْ طَالِبًا لِلِاسْتِقَامَةِ، لَا طَالِبًا لِلْكَرَامَةِ، فَإِنَّ نَفْسَكَ مُتَحَرِّكَةٌ فِي طَلَبِ الْكَرَامَةِ، وَرَبُّكَ يَطْلُبُ مِنْكَ الِاسْتِقَامَةَ.
قَالَ الشَّيْخُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي عَوَارِفِهِ: [وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْبَابِ] (2) ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ [وَالْمُتَعَبِّدِينَ] (3) سَمِعُوا [عن] (4) سَلَفِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمَا مُنِحُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَنُفُوسُهُمْ لَا تَزَالُ تَتَطَلَّعُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُرْزَقُوا شَيْئًا مِنْهُ، وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ، مُتَّهِمًا لِنَفْسِهِ فِي صِحَّةِ عَمَلِهِ، حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ خَارِقٌ، وَلَوْ عَلِمُوا بِسِرِّ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ عَلَى بَعْضِ [الْمُجتهِدِينَ] (5) الصَّادِقِينَ مِنْ ذَلِكَ بَابًا، وَالْحِكْمَةُ [فِيهِ] (6) أَنْ يَزْدَادَ بِمَا [يَرَى] (7) مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ - يَقِينًا، فَيَقْوَى عَزْمُهُ عَلَى الزُّهْدِ فِي
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ولا يستقيم الكلام إلا به، وهو بنصه في فتاوى ابن تيمية 11/319 فنقلناه منه. ن
(2) انظر كلام السهروردي في عوارف المعارف له (مطبوع ضمن الإحياء 5/54) وفي مجموع الفتاوى 11/320، والتصحيح الذي بين المعقوفتين منهما. ن
(3) انظر كلام السهروردي في عوارف المعارف له (مطبوع ضمن الإحياء 5/54) وفي مجموع الفتاوى 11/320، والتصحيح الذي بين المعقوفتين منهما. ن
(4) انظر كلام السهروردي في عوارف المعارف له (مطبوع ضمن الإحياء 5/54) وفي مجموع الفتاوى 11/320، والتصحيح الذي بين المعقوفتين منهما. ن
(5) انظر كلام السهروردي في عوارف المعارف له (مطبوع ضمن الإحياء 5/54) وفي مجموع الفتاوى 11/320، والتصحيح الذي بين المعقوفتين منهما. ن
(6) انظر كلام السهروردي في عوارف المعارف له (مطبوع ضمن الإحياء 5/54) وفي مجموع الفتاوى 11/320، والتصحيح الذي بين المعقوفتين منهما. ن
(7) انظر كلام السهروردي في عوارف المعارف له (مطبوع ضمن الإحياء 5/54) وفي مجموع الفتاوى 11/320، والتصحيح الذي بين المعقوفتين منهما. ن(1/508)
الدُّنْيَا، وَالْخُرُوجِ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى. فَسَبِيلُ الصَّادِقِ مُطَالَبَةُ النَّفْسِ بِالِاسْتِقَامَةِ، فَهِيَ كُلُّ الْكَرَامَةِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْقُلُوبِ مِنَ التَّأْثِيرِ أَعْظَمَ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا. فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى تَارَةً، وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ. وَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهُمُ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ، وَيَعُدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ أَنَّهُ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا الْكَرَامَةُ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكْرِمْ عَبْدًا بِكَرَامَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ، مِنَ السِّرِّ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِالضَّرَّاءِ - فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا هَوَانِهِ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ سَعِدَ بِهَا قَوْمٌ إِذَا أَطَاعُوهُ، وَشِقِيَ بِهَا قَوْمٌ إِذَا عَصَوْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي} {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي} {كَلَّا} (1) .
وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ، وَقِسْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتَنَوُّعُ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ كَلِمَاتِ اللَّهِ. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ نَوْعَانِ: كَوْنِيَّةٌ، وَدِينِيَّةٌ:
__________
(1) الْفَجْرِ: 15 - 17(1/509)
فَكَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ هِيَ الَّتِي اسْتَعَاذَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ» . قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (2) . وَالْكَوْنُ كُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَسَائِرِ الْخَوَارِقِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ، وَهِيَ الْقُرْآنُ وَشَرْعُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهَا الْعِلْمُ بِهَا، وَالْعَمَلُ، وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ حَظَّ الْعِبَادِ عُمُومًا وَخُصُوصًا الْعِلْمُ بِالْكَوْنِيَّاتِ وَالتَّأْثِيرُ فِيهَا، أَيْ بِمُوجَبِهَا. فَالْأُولَى تَدْبِيرِيَّةٌ كَوْنِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ شَرْعِيَّةٌ دِينِيَّةٌ. فَكَشْفُ الْأُولَى الْعِلْمُ بِالْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ، وَكَشْفُ الثَّانِيَةِ الْعِلْمُ بِالْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقُدْرَةُ الْأُولَى التَّأْثِيرُ فِي الْكَوْنِيَّاتِ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ كَمَشْيِهِ عَلَى الْمَاءِ، وَطَيَرَانِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَجُلُوسِهِ فِي النَّارِ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ، بِإِصْحَاحٍ وَإِهْلَاكٍ، وَإِغْنَاءٍ وَإِفْقَارٍ.
وَقُدْرَةُ الثَّانِيَةِ التَّأْثِيرُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ فَيُطَاعُ فِي ذَلِكَ طَاعَةً شَرْعِيَّةً.
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الْخَوَارِقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَلَمْ يُسَخَّرْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَوْنِيَّاتِ -: لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ فِي مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُ، فَإِنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الدِّينُ وَإِلَّا هَلَكَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ مَعَ الدِّينِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِهِ، أَوْ فَسَادِهِ، أَوْ نَقْصِهِ.
فَالْخَوَارِقُ النَّافِعَةُ تَابِعَةٌ لِلدِّينِ، خَادِمَةٌ لَهُ، كَمَا أَنَّ الرِّيَاسَةَ النَّافِعَةَ هِيَ
__________
(1) يس: 82
(2) الْأَنْعَامِ: 115(1/510)
[التَّابِعَةُ] (1) لِلدِّينِ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ النَّافِعُ، كَمَا كَانَ السُّلْطَانُ وَالْمَالُ النَّافِعُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَمَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمَقْصُودَةَ، وَجَعَلَ الدِّينَ تَابِعًا لَهَا، وَوَسِيلَةً إِلَيْهَا، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الْأَصْلِ -: فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَلَيْسَتْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ تَدَيَّنَ خَوْفَ الْعَذَابِ، أَوْ رَجَاءَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَشَرِيعَةٍ صَحِيحَةٍ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَمَّهُ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ أَوْ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ - يَجْعَلُ هَمَّهُ بِدِينِهِ أَدْنَى خَارِقٍ مِنْ خَوَارِقِ الدُّنْيَا!! ثُمَّ إِنَّ الدِّينَ إِذَا صَحَّ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجِبَ خَرْقَ الْعَادَةِ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (5) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} » (6) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
__________
(1) في الأصل: (النافعة) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ ومن الفتاوى 11 / 334. ن
(2) الطَّلَاقِ: 2 - 3
(3) الْأَنْفَالِ: 29
(4) النِّسَاءِ: 66 - 68
(5) يُونُسَ: 62 - 64
(6) الْحِجْرِ: 75(1/511)
وَقَالَ تَعَالَى، فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لِأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» . فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ حَظُّ الرَّبِّ، وَطَلَبَ الْكَرَامَةِ حَظُّ النَّفْسِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِنْكَارِ الْكَرَامَةِ: ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِنْكَارِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ صَحَّتْ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْتِبَاسِ النَّبِيِّ بِالْوَلِيِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ! وَهَذِهِ الدَّعْوَى إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ يَأْتِي بِالْخَارِقِ وَيَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَهَذَا لَا يَقَعُ، وَلَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا، بَلْ كَانَ مُتَنَبِّئًا كَذَّابًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: " وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُجْتَبَى وَنَبِيُّهُ الْمُصْطَفَى ".
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ هَاهُنَا: أَنَّ الْفِرَاسَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
إِيمَانِيَّةٌ، وَسَبَبُهَا نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا خَاطِرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ، يَثِبُ عَلَيْهِ كَوُثُوبِ الْأَسَدِ عَلَى الْفَرِيسَةِ، وَمِنْهَا اشْتِقَاقُهَا (1) ، وَهَذِهِ الْفِرَاسَةُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، فَمَنْ كَانَ أَقْوَى إِيمَانًا أَخَذَ فِرَاسَتَهُ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفِرَاسَةُ مُكَاشَفَةُ النَّفْسِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ، وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ. انْتَهَى.
وَفِرَاسَةٌ رِيَاضِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالتَّخَلِّي، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا
__________
(1) في الأصل «إشعالها» ! ولا معنى لها، ولعل ما أثبتناه هو الصواب(1/512)
تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَوَائِقِ صَارَ لَهَا مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِهَا، وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى إِيمَانٍ، وَلَا عَلَى وِلَايَةٍ، وَلَا تَكْشِفُ عَنْ حَقٍّ نَافِعٍ، وَلَا عَنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، بَلْ كَشْفُهَا مِنْ جِنْسِ فِرَاسَةِ الْوُلَاةِ وَأَصْحَابِ [عِبَارَةِ الرُّؤَيا وَالْأَطِبَّاءِ] (1) وَنَحْوِهِمْ.
وَفِرَاسَةٌ خَلْقِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ، الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِصِغَرِ الرَّأْسِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ عَلَى صِغَرِ الْعَقْلِ، وَبِكِبَرِهِ عَلَى كِبَرِهِ، وَسِعَةِ الصَّدْرِ عَلَى سِعَةِ الْخُلُقِ، وَبِضِيقِهِ عَلَى ضِيقِهِ، وَبِجُمُودِ الْعَيْنَيْنِ وَكَلَالِ نَظَرِهِمَا عَلَى بَلَادَةِ صَاحِبِهِمَا وَضَعْفِ حَرَارَةِ قَلْبِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا) .
ش: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ [تَبُوكَ] ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ [مِنْ] أَدَمٍ، فَقَالَ: " اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» . وَرُوِيَ " رَايَةً "، بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ، وَهُمَا بِمَعْنًى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ (2) .
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: «اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ
__________
(1) في الأصل: (عبادة الرؤساء والأظناء) . ولعل الصواب ما أثبتناه من مدارج السالكين 2 / 487. ن
(2) رواه البخاري 6: 198 - 199 من (الفتح) . ورواية «راية» بالراء - هي رواية أبي داود، كما نص عليه الحافظ. وفي معناه حديث لعبد الله بن عمرو بن العاص. رواه أحمد في المسند: 6623(1/513)
نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: " مَا تَذَاكَرُونَ "؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: " إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ [قَبْلَهَا] عَشْرَ آيَاتٍ "، [فَذَكَرَ] : " الدُّخَانُ، وَالدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ» .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَأَنْذَرَ قَوْمَهُ الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ، أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَ فَ رَ» ، فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةٍ: " أَيْ كَافِرٌ ".
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (2) (3) .
وَأَحَادِيثُ الدَّجَّالِ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَقْتُلُهُ، وَيَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فِي أَيَّامِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ، فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ: يَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ بَسْطِهَا.
__________
(1) مسلم 2: 366 - 367
(2) النِّسَاءِ: 159
(3) رواه البخاري 13: 329 (من الفتح)(1/514)
وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّابَّةِ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ - فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (1) .
وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (2) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» (3) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» (4) . أَيْ أَوَّلُ الْآيَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مَأْلُوفَةً، وَإِنْ كَانَ الدَّجَّالُ وَنُزُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، كُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ مَأْلُوفَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ، مُشَاهَدَةُ مِثْلِهِمْ مَأْلُوفَةٌ، [أَمَّا خُرُوجُ الدَّابَّةِ بِشَكْلٍ غَرِيبٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ] (5) ، ثُمَّ مُخَاطَبَتُهَا النَّاسَ وَوَسْمُهَا إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ. وَذَلِكَ أَوَّلُ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، كَمَا أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا الْمَأْلُوفَةِ - أَوَّلُ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ.
__________
(1) النَّمْلِ: 82
(2) الْأَنْعَامِ: 158
(3) البخاري 8: 223 (فتح) . والمسند: 7161
(4) مسلم 2: 279. ورواه أحمد في المسند مطولا. 6881
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وقد استدركناه من سائر النسخ. ن(1/515)
وَقَدْ أَفْرَدَ النَّاسُ [في] أَحَادِيثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مُصَنَّفَاتٍ مَشْهُورَةٍ، يَضِيقُ عَلَى بَسْطِهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافًا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ) .
ش: رَوَى مُسْلِمٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» .
وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَرَّافِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالُ السَّائِلِ، فَكَيْفَ بِالْمَسْئُولِ؟.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ؟ فَقَالَ: " لَيْسُوا بِشَيْءٍ "، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا [أَكْثَرَ مِنْ] مِائَةِ كَذْبَةٍ» (1) .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ» . وَحُلْوَانُهُ: الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ حَلَاوَتَهُ.
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وقد استدركناه من سائر النسخ. ن(1/516)
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُعْطَاهُ الْمُنَجِّمُ وَصَاحِبُ الْأَزْلَامِ الَّتِي يُسْتَقْسَمُ بِهَا، مِثْلُ الْخَشَبَةِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا " اب ج د " وَالضَّارِبُ بِالْحَصَى، وَالَّذِي يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ. وَمَا تَعَاطَاهُ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ. وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَالْبَغَوِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» (1) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» (2) .
وَالنُّصُوصُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ، بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَتَّسِعَ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهَا.
وَصِنَاعَةُ التَّنْجِيمِ، الَّتِي مَضْمُونُهَا الْإِحْكَامُ وَالتَّأْثِيرُ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ [بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ أَوِ التَّمْزِيجِ بَيْنَ الْقُوَى الْفَلَكِيَّةِ وَالْغَوَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ] (3) -: صِنَاعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ}
__________
(1) البخاري 2: 433 - 434، و7: 338 (فتح) . ومسلم 1: 34
(2) مسلم 1: 256. والمسند 5: 342 - 343 (طبعة الحلبي)
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) طه: 69(1/517)
{إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} (1) . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ: الْجِبْتُ السِّحْرُ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، [عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ] (2) : (كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مِمَّ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي، فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ) (3) .
وَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكُلِّ قَادِرٍ أَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ وَالْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالْقَرْعِ وَالْفَالَاتِ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْحَوَانِيتِ وَالطُّرُقَاتِ، أَوْ يَدْخُلُوا عَلَى النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ لِذَلِكَ. وَيَكْفِي مَنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَلَا يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ - قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) . وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ يَقُولُونَ الْإِثْمَ وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِوَايَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» .
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَنْوَاعٌ:
نَوْعٌ مِنْهُمْ: أَهْلُ تَلْبِيسٍ وَكَذِبٍ وَخِدَاعٍ، الَّذِينَ يُظْهِرُ أَحَدُهُمْ طَاعَةَ الْجِنِّ لَهُ، أَوْ يَدَّعِي الْحَالَ مِنْ أَهْلِ الْمُحَالِ، مِنَ الْمَشَايِخِ النَّصَّابِينَ، وَالْفُقَرَاءِ الْكَذَّابِينَ،
__________
(1) النِّسَاءِ: 51
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) البخاري 7: 117 (من الفتح)
(4) الْمَائِدَةِ: 79(1/518)
وَالطُّرُقِيَّةِ الْمَكَّارِينَ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، كَمَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ، أَوْ يَطْلُبُ تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَنَوْعٌ يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ، بِأَنْوَاعِ السِّحْرِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ قَتْلَ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ، كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُكَفَّرُ بِالسِّحْرِ؟ أَمْ يُقْتَلُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ؟ وَقَالَ طَائِفَةٌ: إِنْ قَتَلَ بِالسِّحْرِ قُتِلَ، وَإِلَّا عُوقِبَ بِدُونِ الْقَتْلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ كُفْرٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ: وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي مَوْتِ الْمَسْحُورِ وَمَرَضِهِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِ شَيْءٍ ظَاهِرٍ إِلَيْهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ.
وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ خِطَابِهَا، أَوِ السُّجُودِ لَهَا، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالْخَوَاتِمِ وَالْبَخُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشِّرْكِ، فَيَجِبُ غَلْقُهُ، بَلْ سَدُّهُ. وَهُوَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} الْآيَاتِ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2) .
__________
(1) الصَّافَّاتِ: 88 - 89
(2) الْأَنْعَامِ: 76- 82(1/519)
وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُلَّ رُقْيَةٍ وَتَعْزِيمٍ أَوْ قَسَمٍ، فِيهِ شِرْكٌ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَإِنْ أَطَاعَتْهُ بِهِ الْجِنُّ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ كُفْرٌ لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ لَا يُتَكَلَّمُ بِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ لَا يُعْرَفُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا» .
وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْجِنِّ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (1) . قَالُوا: كَانَ الْإِنْسِيُّ إِذَا نَزَلَ بِالْوَادِي يَقُولُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ، فَيَبِيتُ فِي أَمْنٍ وَجِوَارٍ حَتَّى يُصْبِحَ، {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} يَعْنِي الْإِنْسُ لِلْجِنِّ، بِاسْتِعَاذَتِهِمْ بِهِمْ، رَهَقًا، أَيْ إِثْمًا وَطُغْيَانًا وَجَرَاءَةً وَشَرًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ سُدْنَا الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ! فَالْجِنُّ تَعَاظَمُ فِي أَنْفُسِهَا وَتَزْدَادُ كُفْرًا إِذَا عَامَلَتْهَا الْإِنْسُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (2) . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ، وَأَنَّهَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ -: ضَالُّونَ، وَإِنَّمَا [تَنَزَّلُ] (3) عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (4) . فَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِيِّ بِالْجِنِّيِّ: فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَإِخْبَارِهِ بِشَيْءٍ مِنَ
__________
(1) الْجِنِّ: 6
(2) سَبَأٍ: 40 - 41
(3) في الأصل: (ينزل) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) الْأَنْعَامِ: 128(1/520)
الْمُغَيَّبَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: تَعْظِيمُهُ إِيَّاهُ، وَاسْتِعَانَتُهُ بِهِ، وَاسْتِغَاثَتُهُ وَخُضُوعُهُ لَهُ.
وَنَوْعٌ مِنْهُمْ [يَتَكَلَّمُ] (1) بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، [وَالْكُشُوفِ وَمُخَاطَبَةِ] (2) رِجَالِ الْغَيْبِ، وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ! وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُعِينُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ! وَيَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا!! وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ إِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ.
وَالنَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْزَابٍ:
حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ رِجَالِ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ قَدْ عَايَنَهُمُ النَّاسُ، وَثَبَتَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ أَوْ حَدَّثَهُ الثِّقَاتُ بِمَا رَأَوْهُ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا رَأَوْهُمْ وَتَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ.
وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى الْقَدَرِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ!.
وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا وَلِيًّا خَارِجًا عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ، فَقَالُوا: يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ. فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمُ الْجِنُّ، وَيُسَمَّوْنَ رِجَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (3) . وَإِلَّا فَالْإِنْسُ يُؤْنَسُونَ، أَيْ يظهرون (4) وَيُرَوْنَ، وَإِنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا، لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ " الْإِنْسِ " فَمِنْ غَلَطِهِ وَجَهْلِهِ. وَسَبَبُ الضَّلَالِ فِيهِمْ، وَافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأَحْزَابِ الثَّلَاثَةِ - عَدَمُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ.
__________
(1) في الأصل: (ونوع منهم بالأحوال الشيطانية والتسوف ومخاطبته) . والصواب ما أثبتناه من إحدى النسخ. ن
(2) في الأصل: (ونوع منهم بالأحوال الشيطانية والتسوف ومخاطبته) . والصواب ما أثبتناه من إحدى النسخ. ن
(3) الْجِنِّ: 6
(4) في الأصل «يشهون» ، ولا معنى لها. ولعل ما أثبتنا أقرب إلى تصحيح الكلمة(1/521)
وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: الْفُقَرَاءُ يُسَلَّمُ إِلَيْهِمْ حَالُهُمْ! وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ، بَلِ الْوَاجِبُ عَرْضُ أَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَمَا وَافَقَهَا قُبِلَ! وَمَا خَالَفَهَا رُدَّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
فَلَا طَرِيقَةَ إِلَّا طَرِيقَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَقِيقَةَ إِلَّا حَقِيقَتُهُ، وَلَا شَرِيعَةَ إِلَّا شَرِيعَتُهُ، وَلَا عَقِيدَةَ إِلَّا عَقِيدَتُهُ، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ، مُلْتَزِمًا لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ، فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبَدَانِ -: لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْفَقَ مِنَ الْغَيْبِ، وَأَخْرَجَ الذَّهَبَ مِنَ الْخَشَبِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ!! فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ، مَعَ تَرْكِهِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ وَعَمْلِ الْمَحْظُورِ - إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمُقَرِّبَةِ إِلَى سُخْطِهِ وَعَذَابِهِ. لَكِنْ مَنْ لَيْسَ يُكَلَّفُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ، قَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْقَلَمُ، فَلَا يُعَاقَبُونَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ،
وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ. لَكِنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (1)
فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْبُلْهِ أَوِ الْمُولَعِينَ، مَعَ تَرْكِهِ لِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مُتَّبِعِي طَرِيقَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ، مُخْطِئٌ فِي اعْتِقَادِهِ. فَإِنَّ ذَاكَ الْأَبْلَهَ، إِمَّا أَنْ
__________
(1) الطُّورِ: 21(1/522)
يَكُونَ شَيْطَانًا زِنْدِيقًا، أَوْ زُوكَارِيًّا (1) مُتَحَيِّلًا، أَوْ مَجْنُونًا مَعْذُورًا! فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ؟! أَوْ يُسَاوَى بِهِ؟! وَلَا يُقَالُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُتَّبِعًا فِي الْبَاطِنِ [وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لِلِاتِّبَاعِ فِي الظَّاهِرِ] (2) ؟ فَإِنَّ هَذَا خَطَأٌ أَيْضًا، بَلِ الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ صَاحِبَنَا اللَّيْثَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَصَّرَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَاب (3) .
وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اطَّلَعْتُ عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْبُلْهَ " فَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَنْبَغِي نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ (4) ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ إِنَّمَا خُلِقَتْ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ أَرْشَدَتْهُمْ عُقُولُهُمْ وَأَلْبَابُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَوْصَافِهِمْ فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَوْصَافِهِمُ الْبَلَهَ، الَّذِي هُوَ ضَعْفُ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» (5) . وَلَمْ يَقُلِ الْبُلْهَ!.
وَالطَّائِفَةُ الْمُلَامِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُلَامُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ
__________
(1) هذه لفظة مولدة. وفي شرح القاموس 3: 240 «الزواكرة: من يتلبس فيظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد. نقله المقري في نفح الطيب»
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) هكذا وردت القصة في الأصل. وانظر القصة في تفسير ابن كثير 1 / 80. ن
(4) ذكره العجلوني في كشف الخفا 2: 164، بلفظ: «أكثر أهل الجنة البله» . ومجموع ما قيل فيه: أنه لا أصل له
(5) رواه أحمد والشيخان، من حديث ابن عباس - ورواه البخاري والترمذي، من حديث عمران بن حصين. وانظر كشف الخفا 2: 139(1/523)
مُتَّبِعُونَ فِي الْبَاطِنِ، وَيَقْصِدُونَ إِخْفَاءَ الْمُرَاسِينَ (1) (2) ! رَدُّوا بَاطِلَهُمْ بِبَاطِلٍ آخَرَ!! وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ بَيْنَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَنْغَامِ الْحَسَنَةِ، مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ! وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مَا يَكُونُ سَبَبَ زَوَالِ عَقْلِهِ! وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) . وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (4) .
وَأَمَّا الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِخَيْرٍ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ، فَأُولَئِكَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ، ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ. وَمِنْ عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ، أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ فِي جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنَ الصَّحْوِ، تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ. وَيَهْذُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَكَلَّمَ إِذَا حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ إِفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيَهْذُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ. وَمَنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا، لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ جُنُونِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، يَكُونُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ. وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولَهًا أَوْ وَلِهًا، لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالٍ، بَلْ حَالُ صَاحِبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ أَوْ يَنْقُصُهُ،
__________
(1) في سائر النسخ: (المرائين) . ن
(2) كذا في المطبوعة، فيحرر
(3) الْأَنْفَالِ: 2
(4) الزُّمَرِ: 23(1/524)
وَلَكِنَّ جُنُونَهُ يَحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ، وَلَا يَمْحُو عَنْهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ.
وَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَنْغَامِ الْمُطْرِبَةِ، مِنَ الْهَذَيَانِ، وَالتَّكَلُّمِ ببَعْضِ اللُّغَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلِسَانِ الْمَعْرُوفِ مِنْهُ!! فَذَلِكَ شَيْطَانٌ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ! وَكَيْفَ يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ تَقَرُّبًا إِلَى وِلَايَةِ اللَّهِ، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ؟ ! حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:
هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَّقُوا الـ ... سِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلُ
مَجَانِينُ، إِلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ ... عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ
وَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ، بَلْ كَافِرٍ، يَظُنُّ أَنَّ [فِي] الْجُنُونِ سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ!! لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ، أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ [بِسَبَبِ] (1) مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ! فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ خُبِلَ (2) أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ!! وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (3) . فَكُلُّ مَنْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ كَذِبٌ وَفُجُورٌ.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِالرِّيَاضَاتِ وَالْخَلَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الْجُمَعَ وَالْجَمَاعَاتِ، فَهُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) في الأصل: (سبب) والتصويب من الفتاوى (10 / 445) . ن
(2) الذي في الفتاوى: (كاشف) . ن
(3) الشُّعَرَاءِ: 221 - 222(1/525)
قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» . وَكُلُّ مَنْ عدَلَ عَنِ اتِّبَاعِ [سُنَّةِ] الرَّسُولِ، إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَهُوَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ ضَالٌّ. وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، مِنَ النَّبِيِّينِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
وَأَمَّا مَنْ يَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي تَجْوِيزِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، الَّذِي يَدَّعِيهِ بَعْضُ مَنْ عَدِمَ التَّوْفِيقَ -: فَهُوَ مُلْحِدٌ زِنْدِيقٌ. فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَضِرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ، إِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى، أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ -: فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَشْهَدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ مُفَارِقٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ
أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ، [وَحَرِّكْ تَرَ] (1) .
وَكَذَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِرِجَالٍ مِنْهُمْ حَيْثُ كَانُوا!! فَهَلَّا خَرَجَتِ الْكَعْبَةُ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَطَافَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُحْصِرَ عَنْهَا، وَهُوَ يَوَدُّ مِنْهَا نَظْرَةً؟! وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شَبَهٌ بِالَّذِينِ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} (2) ، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
[قَوْلُهُ] : (وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا) .
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) الْمُدَّثِّرِ: 52(1/526)
ش: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (4) . فَجَعَلَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ مُسْتَثْنَيْنَ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (5) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يَعْنِي الْأَهْوَاءَ - كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . فَبَيَّنَ أَنَّ عَامَّةَ الْمُخْتَلِفِينَ هَالِكُونَ إِلَّا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ [الشَّيْطَانَ] ذِئْبُ الْإِنْسَانِ، كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ، [وَالنَّاحِيَةَ] ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَالْعَامَّةِ، وَالْمَسْجِدِ» (6) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ " {أَوْ}
__________
(1) آلِ عِمْرَانَ: 103
(2) آلِ عِمْرَانَ: 105
(3) الْأَنْعَامِ: 159
(4) هُودٍ: 118 - 119
(5) الْبَقَرَةِ: 176
(6) المسند 5: 232 - 233 (طبعة الحلبي) . وصححناه وأتممناه منه ومجمع الزوائد 5: 219(1/527)
{مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ "] (1) ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (2) قَالَ: " هَاتَانِ أَهْوَنُ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، مَعَ بَرَاءَةِ الرَّسُولِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَهُمْ فِيهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ. وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ قَرْحٍ (3) أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ - فَهُوَ هَدْرٌ، نَزَّلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (4) . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اقْتَتَلُوا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْمَلْ بِذَلِكَ صَارَتْ فِتْنَةٌ وَجَاهِلِيَّةٌ، وَهَكَذَا تَسَلْسَلَ النِّزَاعُ.
[وَالْأُمُورُ] الَّتِي تَتَنَازَعُ فِيهَا الْأُمَّةُ، فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ - إِذَا لَمْ تُرَدَّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ - لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا الْحَقُّ، بَلْ يَصِيرُ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ [إِنْ] رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَمْ يَبْغِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي وَلَا يُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْحَمُوا وَقَعَ بَيْنَهُمْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْمُومُ، فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا بِالْقَوْلِ، مِثْلَ تَكْفِيرِهِ وَتَفْسِيقِهِ، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، مِثْلَ حَبْسِهِ وَضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ. وَالَّذِينَ امْتَحَنُوا النَّاسَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ، ابْتَدَعُوا بِدْعَةً، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَاسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقِّهِ وَعُقُوبَتِهِ.
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدركناه من صحيح البخاري (8 / 291 فتح) . ن
(2) الْأَنْعَامِ: 65
(3) هكذا بالأصل ولعل صوابها: (فرج) . ن
(4) الْحُجُرَاتِ: 9(1/528)
فَالنَّاسُ إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ: إِمَّا عَادِلُونَ وَإِمَّا ظَالِمُونَ، فَالْعَادِلُ فِيهِمْ: الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَالظَّالِمُ: الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ. وَأَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا يَظْلِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (1) . وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْعَدْلِ، أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُمْ نُوَّابًا عَنِ الرَّسُولِ، وَقَالُوا: هَذَا غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ، وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مُقَلِّدِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا، وَيَذُمُّ مَنْ خَالَفَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ أَنْوَاعَ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَصْلِ قِسْمَانِ: اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ، وَاخْتِلَافُ تَضَادٍّ:
وَاخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ عَلَى وُجُوهٍ:
مِنْهُ مَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْفِعْلَيْنِ حَقًّا مَشْرُوعًا، كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى زَجَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ "، وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَحَلِّ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا قَدْ شُرِعَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ أَرْجَحَ أَوْ أَفْضَلَ.
ثُمَّ تَجِدُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا أَوْجَبَ اقْتِتَالَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ عَلَى شَفْعِ الْإِقَامَةِ وَإِيتَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ! وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهَوَى لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخَرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ -: مَا
__________
(1) آلِ عِمْرَانَ: 19(1/529)
دَخَلَ بِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى الْقَوْلَ الْآخَرَ، لَكِنِ الْعِبَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَلْفَاظِ الْحُدُودِ، وَصَوْغِ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ الْجَهْلُ أَوِ الظُّلْمُ يَحْمِلُ عَلَى حَمْدِ إِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ وَذَمِّ الْأُخْرَى وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى قَائِلِهَا! وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّضَادِّ، فَهُوَ الْقَوْلَانِ الْمُتَنَافِيَانِ، إِمَّا فِي الْأُصُولِ، وَإِمَّا فِي الْفُرُوعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَالْخَطْبُ فِي هَذَا أَشَدُّ، لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ يَتَنَافَيَانِ، لَكِنْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي مَعَ مُنَازِعِهِ فِيهِ حَقٌّ مَا، أَوْ مَعَهُ دَلِيلٌ يَقْتَضِي حَقًّا مَا، فَيَرُدُّ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، حَتَّى يَبْقَى هَذَا مُبْطِلًا فِي الْبَعْضِ، كَمَا كَانَ الْأَوَّلُ مُبْطِلًا فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ. وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً وَنُورًا رَأَى مِنْ هَذَا مَا يُبَيِّنُ لَهُ مَنْفَعَةَ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ تُنْكِرُ هَذَا، لَكِنْ نُورٌ عَلَى نُورٍ.
وَالِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ، الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ، الذَّمُّ فِيهِ وَاقِعٌ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَى الْآخَرِ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى حَمْدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَحْصُلْ بَغْيٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (1) . وَقَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْأَشْجَارِ، فَقَطَعَ قَوْمٌ، وَتَرَكَ آخَرُونَ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
__________
(1) الْحَشْرِ، آية: 5(1/530)
وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (1) فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.
وَكَمَا فِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَلِمَنْ أَخَّرَهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .
وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي، هُوَ مَا حُمِدَ فِيهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَذُمَّتِ الْأُخْرَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} (2) . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} (3) الْآيَاتِ.
وَأَكْثَرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَئُولُ إِلَى الْأَهْوَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ - مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. لِأَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَعْتَرِفُ لِلْأُخْرَى بِمَا مَعَهَا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا تُنْصِفُهَا، بَلْ تَزِيدُ عَلَى مَا مَعَ نَفْسِهَا مِنَ الْحَقِّ زِيَادَاتٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْأُخْرَى كَذَلِكَ. [وَلِذَلِكَ] (4) جَعَلَ اللَّهُ مَصْدَرَهُ الْبَغْيَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (5) . لِأَنَّ الْبَغْيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَذُكِرَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عِبْرَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
__________
(1) الْأَنْبِيَاءِ: 78 - 79
(2) الْبَقَرَةِ: 253
(3) الْحَجِّ: 19
(4) في الأصل: (وكذلك) ، ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(5) الْبَقَرَةِ: 213(1/531)
«ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا كَانَ كَثْرَةَ السُّؤَالِ ثُمَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الرُّسُلِ بِالْمَعْصِيَةِ.
ثُمَّ الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ، مِنَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ - عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ.
وَالثَّانِي: اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ. وَكِلَاهُمَا فِيهِ إِيمَانٌ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.
فَالْأَوَّلُ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا الْكَلَامُ حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقُمْ بِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَعَتْ فِي كَلَامِهَا بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَآمَنَتْ بِبَعْضِ الْحَقِّ، وَكَذَّبَتْ بِمَا تَقُولُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِهِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَثِيرٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، هَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ وَهَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ، فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: " أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا وُكِّلْتُمْ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ انْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (1) . وَفِي رِوَايَةٍ: «يَا قَوْمُ بِهَذَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَضَرْبِهِمِ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِتَضْرِبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَإِنَّ الْمِرَاءَ
__________
(1) المسند: 6845، 6846، بنحو هذا(1/532)
فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» . وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ.
وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ «حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ» (1) .
وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِهِ، مُؤْمِنُونَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، يُقِرُّونَ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يُخَالِفُهُ: إِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا يُحَرِّفُونَ فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا (2) : [هَذَا مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، فَيَجْحَدُونَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ] وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّفْظِ بِلَا مَعْنًى هُوَ مِنْ جِنْسِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (4) أَيْ: إِلَّا تِلَاوَةً مِنْ غَيْرِ فَهْمِ مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْمُؤْمِنِ الَّذِي فَهِمَ مَا فَهِمَ مِنَ الْقُرْآنِ فَعَمِلَ بِهِ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَوَكَلَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ، كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» "، فَامْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (5) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ
__________
(1) مسلم 2: 304. وكذلك رواه أحمد في المسند، من هذا الوجه: 6801 وهو من حديث «عبد الله بن عمرو بن العاص» . وكان في المطبوعة هنا «عبد الله بن عمر» ، وهو خطأ
(2) في الأصل: (يقول) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) الْجُمُعَةِ: 5
(4) الْبَقَرَةِ: 78
(5) آلِ عِمْرَانَ: 19(1/533)
الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
وَهُوَ بَيْنَ [الْغُلُوِّ وَ] التَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ) .
ش: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) - عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَلَكِنَّ الشَّرَائِعَ تَتَنَوَّعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (3) .
[فَدِينُ الْإِسْلَامِ] (4) هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَأُصُولُ هَذَا الدِّينِ وَفُرُوعُهُ مَوْرُوثَةٌ عَنِ الرُّسُلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ غَايَةَ الظُّهُورِ، يُمْكِنُ كُلُّ مُمَيِّزٍ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَفَصِيحٍ وَأَعْجَمَيٍّ، وَذَكِيٍّ وَبَلِيدٍ - أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِأَقْصَرِ زَمَانٍ، وَإِنَّهُ يَقَعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ إِنْكَارِ كَلِمَةٍ، أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، أَوْ كَذِبٍ عَلَى اللَّهِ، أَوِ ارْتِيَابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ رَدٍّ لِمَا أَنْزَلَ، أَوْ شَكٍّ فِيمَا نَفَى اللَّهُ عَنْهُ الشَّكَّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.
فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ظُهُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَسُهُولَةِ تَعَلُّمِهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَلَّمُهُ الْوَافِدُ ثُمَّ يُوَلِّي فِي وَقْتِهِ. وَاخْتِلَافُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَنْ يَتَعَلَّمُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْوَطَنِ، كَضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ النَّجْدِيِّ، وَوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، عَلَّمَهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ دِينَهُ سَيَنْتَشِرُ فِي الْآفَاقِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يُفَقِّهُهُمْ فِي سَائِرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ قَرِيبَ الْوَطَنِ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ كُلَّ وَقْتٍ، بِحَيْثُ يَتَعَلَّمُ عَلَى التَّدْرِيجِ، أَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ - أَجَابَهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَاجَتِهِ عَلَى مَا تَدُلُّ
__________
(1) الْمَائِدَةِ: 3
(2) آلِ عِمْرَانَ: 85
(3) الْمَائِدَةِ: 48
(4) في الأصل: (فالدين) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/534)
قَرِينَةُ حَالِ السَّائِلِ، كَقَوْلِهِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» .
وَأَمَّا مَنْ شَرَّعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ أُصُولَهُ الْمُسْتَلْزِمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ هُوَ بَاطِلٌ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ.
وَقَوْلُهُ: " بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ " - قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (2) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (3) . وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ: سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ، فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا (4) .
وَذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ،
__________
(1) الْمَائِدَةِ: 77
(2) الْمَائِدَةِ: 87 - 88
(3) مسلم 1: 394. ورواه البخاري أطول قليلا 9: 89 - 90. ورواه أيضا ابن حبان في صحيحه، رقم 13 بتحقيقنا. وكذلك رواه أحمد في المسند: 13568، 13763، 14090 - كلهم من حديث أنس بن مالك. وقد وهم الحافظ ابن كثير، فذكره في التفسير 3: 214، فذكر أنه «في الصحيحين عن عائشة» ! وقلده في وهمه تلميذه الشارح، هنا. وما وجدته من حديث عائشة قط، لا في الصحيحين ولا في غيرهما، ما استطعت
(4) بل هذه بمعناها في صحيح البخاري في هذا الحديث(1/535)
وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فِي أَصْحَابِهِ (1) - تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ، وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) ، يَقُولُ: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الِاخْتِصَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِيهِمْ، بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا، صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَصَلُّوا وَنَامُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا» ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا وَاتَّبَعْنَا مَا أَنْزَلْتَ (3) .
وَقَوْلُهُ: " وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ " - تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُوصَفَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ، فَلَا يُقَالُ: سَمْعٌ كَسَمْعِنَا، وَلَا بَصَرٌ كَبَصَرِنَا، وَنَحْوُهُ، وَمِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ، فَلَا يُنْفَى عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ: رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَنَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ: " وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ ". وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) . فَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} - رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} - رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ.
وَقَوْلُهُ: " وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ " - تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعَبْدَ
__________
(1) في تفسير ابن جرير (12348 شاكر) : «في أصحاب» . ن
(2) الْمَائِدَةِ: 87
(3) رواية ابن جريج عن عكرمة - ذكرها ابن كثير في التفسير 3: 216، وهكذا بدون إسناد
(4) الشُّورَى: 11(1/536)
غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَأَنَّهَا [لَيْسَتْ] بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ بِالرِّيَاحِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلْعَبْدِ، بَلْ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَكَسْبُهُ وَخَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: " وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ " - تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَائِفًا مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ، رَاجِيًا رَحْمَتَهُ، وَأَنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنَاحَيْنِ لِلْعَبْدِ، فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَحْنُ بُرَآءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ، مِثْلِ الْمُشَبِّهَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِا، مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ والْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلَالَةَ، وَنَحْنُ مِنْهُمْ بُرَآءُ، وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلَّالٌ وَأَرْدِيَاءُ. وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ) .
ش: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: " فَهَذَا " إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هُنَا. وَالْمُشَبِّهَةُ: هُمُ الَّذِينَ شَبَّهُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي صِفَاتِهِ، وَقَوْلُهُمْ عَكْسُ قَوْلِ النَّصَارَى، شَبَّهُوا الْمَخْلُوقَ - وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْخَالِقِ وَجَعَلُوهُ إِلَهًا، وَهَؤُلَاءِ شَبَّهُوا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ، كَدَاوُدَ الْجَوَارِبِيِّ وَأَشْبَاهِهِ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ: هُمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ وَأَصْحَابُهُمَا، سُمُّوا بِذَلِكَ لَمَّا اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ، فَيَقُولُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ.
وَقِيلَ: إِنَّ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ هُوَ الَّذِي وَضَعَ أُصُولَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ تِلْمِيذُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ صَنَّفَ لَهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ كِتَابَيْنِ، وَبَيَّنَ مَذْهَبَهُمْ، وَبَنَى مَذْهَبَهُمْ عَلَى الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ، الَّتِي سَمَّوْهَا: الْعَدْلَ، وَالتَّوْحِيدَ، وَإِنْفَاذَ الْوَعِيدِ، وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ(1/537)
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ! وَلَبَّسُوا فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، إِذْ شَأْنُ الْبِدَعِ هَذَا، اشْتِمَالُهَا عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
وَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا مَا يَحْسُنُ مِنَ الْعِبَادِ يَحْسُنُ مِنْهُ، وَمَا يَقْبُحُ مِنَ الْعِبَادِ يَقْبُحُ مِنْهُ! وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ!! فَإِنَّ السَّيِّدَ مِنْ بَنِي آدَمَ لَوْ رَأَى عَبِيدَهُ تَزْنِي بِإِمَائِهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَعُدَّ إِمَّا مُسْتَحْسِنًا لِلْقَبِيحِ، وَإِمَّا عَاجِزًا، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ؟! وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
فَأَمَّا الْعَدْلُ، فَسَتَرُوا تَحْتَهُ نَفْيَ الْقَدَرِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ وَلَا يَقْضِي بِهِ، إِذْ لَوْ خَلَقَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا!! وَاللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَجُورُ. وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَيُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ، وَلَازِمُهُ وَصْفُهُ بِالْعَجْزِ! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَسَتَرُوا تَحْتَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ!! وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ، أَوِ التَّنَاقُضُ!.
وَأَمَّا الْوَعِيدُ، فَقَالُوا: إِذَا أَوْعَدَ بَعْضَ عَبِيدِهِ وَعِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَيُخْلِفَ وَعِيدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَلَا يَعْفُو عَمَّنْ يَشَاءُ، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُرِيدُ، عِنْدَهُمْ!!.
وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ!!.
وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، فَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَ غَيْرَنَا بِمَا أُمِرْنَا بِهِ، وَأَنْ نُلْزِمَهُ بِمَا يَلْزَمُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَمَّنُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ(1/538)
الْخُرُوجُ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِالْقِتَالِ إِذَا جَارُوا!! وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ هَذِهِ الشُّبَهِ الْخَمْسِ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ السَّمْعِ إِلَّا بَعْدَهَا، وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، إِنَّمَا يَذْكُرُونَهَا لِلِاعْتِضَادِ بِهَا، لَا لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ: لَا نُثْبِتُ هَذِهِ بِالسَّمْعِ، بَلِ الْعِلْمُ بِهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ! فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُهَا فِي الْأُصُولِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهَا لِيُبَيِّنَ مُوَافَقَةَ السَّمْعِ لِلْعَقْلِ، وَلِإِينَاسِ النَّاسِ بِهَا، لَا لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا! وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ فِيهِ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى النِّصَابِ! وَالْمَدَدِ اللَّاحِقِ بِعَسْكَرٍ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمْ! وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَاتَّفَقَ أَنَّ الشَّرْعَ مَا يَهْوَاهُ!! كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إِذَا وَافَقَ هَوَاهُ، وَيُخَالِفُهُ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ، فَإِذًا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا وَافَقْتَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكْتَهُ مِنْهُ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا اتَّبَعْتَ هَوَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَكَمَا أَنَّ " الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى "، وَالْعَمَلُ يَتْبَعُ قَصْدَ صَاحِبِهِ وَإِرَادَتَهُ، فَالِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ يَتْبَعُ أَيْضًا عِلْمَ ذَلِكَ وَتَصْدِيقَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ كَانَ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِذَا كَانَ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَانَ صَالِحًا، وَإِلَّا فَلَا، فَقَوْلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّابِعُ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، كَعَمَلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ التَّابِعِ لِغَيْرِ قَصْدِ أَهْلِ الصَّلَاحِ. وَفِي الْمُعْتَزِلَةِ زَنَادِقَةٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهِمْ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.
وَالْجَهْمِيَّةُ: هُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ السَّمَرْقَنْدِيِّ (1) ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلَ، وَهُوَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطَ، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ
__________
(1) في المطبوعة «الترمذي» . وانظري ما مضى ص: 438 - 439(1/539)
بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا! ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ الْجَهْمُ بَعْدَهُ بِخُرَاسَانَ، فَأَظْهَرَ مَقَالَتَهُ هُنَاكَ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا نَاسٌ، بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا شَكًّا فِي رَبِّهِ! وَكَانَ ذَلِكَ لِمُنَاظَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُقَالُ لَهُمُ السُّمَنِيَّةُ، [مِنْ] فَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ، الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ، قَالُوا لَهُ: هَذَا رَبُّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، [هَلْ] (1) يُرَى أَوْ يُشَمُّ أَوْ يُذَاقُ أَوْ يُلْمَسُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالُوا: هُوَ مَعْدُومٌ!! فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، ثُمَّ لَمَّا خَلَا قَلْبُهُ مِنْ مَعْبُودٍ يُؤَلِّهُهُ، نَقَشَ الشَّيْطَانُ اعْتِقَادًا نَحَتَهُ فِكْرُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ!! وَنَفَى جَمِيعَ الصِّفَاتِ، وَاتَّصَلَ بِالْجَعْدِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجَعْدَ كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِالصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَنَّهُ أَيْضًا أَخَذَ شَيْئًا عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ الْمُحَرِّفِينَ لِدِينِهِمُ الْمُتَّصِلِينَ بِلَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُتِلَ جَهْمٌ بِخُرَاسَانَ، قَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ وَلَكِنْ كَانَتْ قَدْ فَشَتْ مَقَالَتُهُ فِي النَّاسِ، وَتَقَلَّدَهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَلَكِنْ كَانَ الْجَهْمُ أَدْخَلَ فِي التَّعْطِيلِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةً، وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الْأَسْمَاءَ بَلِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَهْمِيَّةِ: هَلْ هُمْ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَمْ لَا؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ.
وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَةُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا وَكَثُرُوا، فَإِنَّهُ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً
__________
(1) في الأصل: (هذا) والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/540)
وَاجْتَمَعَ بِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طَرَسُوسَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا مَاتَ، وَرَدُّوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ، وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ بِالْكَلَامِ، فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانَهُمْ إِيَّاهُمْ -: جَهْلٌ وَظُلْمٌ، وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إِطْلَاقَهُ، أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ، لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ! فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتِ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ، وَخَافُوا،
فَأَطْلَقُوهُ. وَقِصَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ.
وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْجَهْمُ: أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ، وَالْكُفْرَ هُوَ الْجَهْلُ فَقَطْ، وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا يُقَالُ تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ، وَدَارَ الْفَلَكُ، وَزَالَتِ الشَّمْسُ! وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً ... إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ؟ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ، هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا.
وَالْجَبْرِيَّةُ: أَصْلُ قَوْلِهِمْ مِنَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طُولِهِ وَلَوْنِهِ! وَهُمْ عَكْسُ الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ إِنَّمَا نُسِبُوا إِلَى الْقَدَرِ لِنَفْيِهِمْ إِيَّاهُ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ لِنَفْيِهِمُ الْإِرْجَاءَ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ مُرْجَأٌ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ " قَدَرِيَّةً " لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَكَمَا يُسَمَّى الَّذِينَ لَا يَجْزِمُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بَلْ يَغْلُونَ فِي إِرْجَاءِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْأَنْوَاعِ، فَلَا يَجْزِمُونَ بِثَوَابِ مَنْ تَابَ، كَمَا لَا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَكَمَا لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ. وَكَانَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأُولَى يُرْجِئُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَلَا يَشْهَدُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ!!.(1/541)
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ: مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» (1) . وَرُوِيَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ، تَكَلَّمَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، بِخِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ فِيهِمْ فِي الصَّحِيحِ وَحْدَهُ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةً، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ سَائِرَهَا. وَلَكِنَّ شَبَهَهُمْ لِلْمَجُوسِ ظَاهِرٌ، بَلْ قَوْلُهُمْ أَرْدَأُ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ، فَإِنَّ الْمَجُوسَ اعْتَقَدُوا وُجُودَ خَالِقَيْنِ، وَالْقَدَرِيَّةَ اعْتَقَدُوا خَالِقِينَ!!.
وَهَذِهِ الْبِدَعُ الْمُتَقَابِلَةُ حَدَثَتْ مِنَ الْفِتَنِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى، يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدًا. ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدًا. ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ، فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ، أَيْ عَقْلٌ وَقُوَّةٌ.
فَالْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ حَدَثُوا فِي الْفِتْنَةِ الْأُولَى، وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي الْفِتْنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْجَهْمِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الثَّالِثَةِ. فَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا - يُقَابِلُونَ الْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ، أُولَئِكَ غَلَوْا فِي عَلِيٍّ، وَأُولَئِكَ كَفَّرُوهُ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي الْوَعِيدِ، حَتَّى خَلَّدُوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي الْوَعْدِ حَتَّى نَفَوْا بَعْضَ الْوَعِيدِ أَعْنِي الْمُرْجِئَةَ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي التَّنْزِيهِ حَتَّى نَفَوُا الصِّفَاتِ، وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْإِثْبَاتِ، حَتَّى وَقَعُوا فِي التَّشْبِيهِ! وَصَارُوا يَبْتَدِعُونَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، وَفِيهِمْ
__________
(1) أبو داود: 4691. وروى أحمد نحوه بمعناه، في المسند: 5584، من وجه آخر عن ابن عمر. وفصلنا القول فيه هناك(1/542)
مَنِ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا كُتُبَهُمْ، فَصَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ مَا أَدْخَلُوهُ فِي مَسَائِلِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ، وَغَيَّرُوهُ فِي اللَّفْظِ تَارَةً، وَفِي الْمَعْنَى أُخْرَى! فَلَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتَمُوا حَقًّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا وَتَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالتَّجْسِيمِ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.
وَسَبَبُ ضَلَالِ هَذِهِ الْفِرَقِ وَأَمْثَالِهِمْ عُدُولُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) . فَوَحَّدَ لَفْظَ " صِرَاطِهِ " وَ " سَبِيلِهِ "، وَجَمَعَ " السُّبُلَ " الْمُخَالِفَةَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَقَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ "، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَقَالَ: " هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ "، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} » (3) .
وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ أَنَّ اضْطِرَارَ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، إِمَّا فَرْضًا أَوِ إِيجَابًا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، لِاحْتِيَاجِ الْعَبْدِ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ وَأَجَلِّهَا. فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ
__________
(1) الْأَنْعَامِ: 153
(2) يُوسُفَ: 108
(3) الْأَنْعَامِ: 153(1/543)
تَعَالَى أَنْ نَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1) . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟!» .
قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: مَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى. فَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، حَتَّى إنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَسْتَحْسِنُونَ طَرِيقَتَهُمْ، وَكَذَا شُيُوخُ الْمُعْتَزِلَةِ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَهُودِ وَيُرَجِّحُونَهُمْ عَلَى النَّصَارَى. وَأَكْثَرُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْعُبَّادِ، مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَلِهَذَا يَمِيلُونَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَشُيُوخُ هَؤُلَاءِ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ وَأَهْلَهُ، وَشُيُوخُ أُولَئِكَ يَعِيبُونَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ وَيُصَنِّفُونَ فِي ذَمِّ السَّمَاعِ وَالْوَجْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا هَؤُلَاءِ.
وَلِفِرَقِ الضُّلَّالِ فِي الْوَحْيِ طَرِيقَتَانِ: طَرِيقَةُ التَّبْدِيلِ، وَطَرِيقَةُ التَّجْهِيلِ. أَمَّا أَهْلُ التَّبْدِيلِ فَهُمْ نَوْعَانِ: أَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، وَأَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ.
فَأَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِأُمُورٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ! لَكِنَّهُمْ خَاطَبُوهُمْ بِمَا يَتَخَيَّلُونَ بِهِ وَيَتَوَهَّمُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ شَيْءٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ، وَأَنَّ الْأَبَدَانَ تُعَادُ، وَأَنَّ لَهُمْ نَعِيمًا مَحْسُوسًا، وَعِقَابًا مَحْسُوسًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ
__________
(1) الْفَاتِحَةِ: 6 - 7(1/544)
الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ لِمَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ!! وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ قَانُونَهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
وَأَمَّا أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا! ثُمَّ يَجْتَهِدُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّأْوِيلَاتِ!! وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ، بَلْ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كَذَا. وَغَايَةُ مَا مَعَهُمْ إِمْكَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا أَهْلُ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، الَّذِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ، لَا يَعْرِفُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ! وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّصِّ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَعْلَمُهُ جَبْرَائِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (2) . {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) . وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ! بَلْ مَعْنَاهَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى!! وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ!!.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ [بِهَا] (4) خِلَافُ مَدْلُولِهَا الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، كَمَا لَا يُعْلَمُ وَقْتُ السَّاعَةِ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا وَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا!! وَمَعَ هَذَا، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَيَتَنَاقَضُونَ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَقَالُوا مَعَ هَذَا: إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا!!
__________
(1) طه: 5
(2) فَاطِرٍ: 10
(3) ص: 75
(4) في الأصل: (بهذا) . والتصويب من درء تعارض العقل والنقل 1 / 16. ن(1/545)
وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مُشْكِلَةً أَوْ مُتَشَابِهَةً، وَلِهَذَا يَجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ الْمُشْكِلَ مِنْ نُصُوصِهِ غَيْرَ مَا يَجْعَلُهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ مُشْكِلًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَعْلَمْ مَعَانِيَهَا أَيْضًا! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَعَلَى مَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ تِلْكَ النُّصُوصِ!! [[فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الرَّسُولَ [لَمْ يَأْتِ بِهَا] عَلَى مَا يُوَافِقُ مَعْقُولَنَا (1) ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَقْلِيَّاتِ!! وَلَا يَفْهَمُونَ السَّمْعِيَّاتِ]] (*) !! وَكُلُّ ذَلِكَ ضَلَالٌ وَتَضْلِيلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاهِيَةِ، الْمُفْضِيَةِ بِقَائِلِهَا إِلَى الْهَاوِيَةِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (2)
__________
(1) زدنا هذه الزيادة، ليمكن بها فهم الكلام. إذ هو من غيرها - أو غير ما في معناها - كلام مضطرب يحتاج إلى تصحيح
(2) والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والحمد لله الذي هدانا لهذا. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: ما بين معكوفين مزدوجين، جاء في ط المكتب الإسلامي هكذا: "فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعلم أَوْ لَمْ يُعلم، بَلْ نَحْنُ عَرَفْنَا الْحَقَّ بِعُقُولِنَا ثُمَّ اجْتَهَدْنَا فِي حَمْلِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عُقُولَنَا، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ لا يعرفون العقليات!! ولا يفهمون السمعيات!! "(1/546)