ـ[شرح العقيدة الطحاوية]ـ
المؤلف: علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي (المتوفى: 792هـ)
تحقيق: أحمد شاكر
الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف والدعوة والإرشاد - 1418 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بتعليقات أحمد شاكر رحمه الله]
__________
تم مقابلة الكتاب وموافقته للمطبوع، وإثبات بعض التعليقات اليسيرة
(تنبيه) الكتاب يرتبط بـ 4 نسخ مصورة:
1- النسخة الموافقة للمطبوع (ط وزارة الأوقاف السعودية)
2 - تحقيق أحمد شاكر (ط مكتبة الرياض)
3 - تحقيق الألباني (ط دار الفكر العربي)
4 - تحقيق شعيب الأرنؤوط (ط مؤسسة الرسالة)(/)
بسم الله الرحمن الرحيم.
مقدمة: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ له وليٌّ من الذل وكبره تكبيرًا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فلقد خلق الله الخلق لغاية شريفة سامية وهي عبادته وحده لا شريك له، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) . وإذا كانت الغاية من إيجاد البشرية هي عبادة الله وحده، وبما أن التوحيد هو رأس العبادات وأساسها - فإن أوجب ما يجب على العبد معرفته والتسليم له والإيمان به هو توحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتصديق بما يستلزم ذلك من إيمانٍ بملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر.... ولأجل تحقيق ذلك في حياة البشرية فقد أخذ الله عليها العهد والميثاق على أن تؤمن به، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (2) .
وحتى لا يكون للناس على الله حجة فقد أرسل رسله وأنزل كتبه، قَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (3) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56.
(2) سورة الأعراف آية 172.
(3) سورة النساء آية 164، 165.(1/3)
وبعد ذهاب الرسل وانطماس السبل ... تختلف الغايات وتفسد التصورات وتتعدد الرايات ولا نجاة ولا مخرج من هذا الاختلاف والفساد والتفرق إلا باتباع الكتاب والسنة واقتفاء أثر سلف هذه الأمة.
ومن أجل المساهمة في تحقيق ذلك في حياة الأمة، فقد أولت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الكتاب الإسلامي جل عنايتها ترجمةً وتحقيقًا ونشرًا لتبصير المسلمين بالعقيدة الصحيحة وبيان العقائد الباطلة والانحرافات الشركية التي انتشرت في كثير من بلاد المسلمين.
وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم للقارئ المسلم - (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي رحمه الله - من خير ما يحقق ذلك؛ إذ موضوعه من أشرف الموضوعات وهو علم العقيدة.
وقد تضافر على تأليفه إمامان جليلان هما: الإمام الطحاوي رحمه الله مؤلف المتن، وابن أبي العز رحمه الله مؤلف الشرح.
وقد قامت الرئاسة ممثلة في وكالة الطباعة والترجمة بتصحيح الكتاب وتنقيحه من الأخطاء، وفق الأمور التالية:
1 - جعلت طبعة أحمد محمد شاكر - رحمه الله - أصلًا يُطبع منه.
2- حين يوجد عبارة مشكلة في نسخة أحمد شاكر يتم الرجوع إلى طبعة عام 1349 هـ في المطبعة السلفية بمكة المكرمة، حيث إن طبعة مكة هذه أصلًا لطبعة أحمد شاكر.
3- إذا لم يوجد تصحيح للمشكل في المطبوعتين السابقتين يكون الرجوع إلى النسخ المطبوعة التالية:
أ- الطبعة الأولى للمكتب الإسلامي عام 1392هـ، وقد استفدنا منها إضافة إلى ذلك ترجمة الإمام الطحاوي - رحمه الله.(1/4)
ب- طبعة مؤسسة الرسالة التي حققها وعلق عليها وخرج أحاديثها الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي، والأستاذ: شعيب الإرناؤوط. الطبعة الثالثة 1412هـ.
جـ - طبعة مكتبة دار البيان، الطبعة الأولى 1401هـ. تحقيق وتخريج: شعيب الإرناؤوط.
فإن اتفقت النسخ كلها أو أكثرها على عبارة معينة أثبت الصحيح بين القوسين هكذا [] ، وعلق عليها بما يفيد أن في هذا الأصل كذا، وأن ما أثبت هو من سائر النسخ أو أكثرها أو إحداها أو نحو ذلك. ثم يختم التعليق بالحرف (ن) ليدل على أن هذا التعليق من قبل الناشر وهو الرئاسة.
أما إذا وجد عبارة بين قوسين هكذا [] ولم يعلق عليه بشيء - فهو من فعل أحمد شاكر رحمه الله.
4- إذا كان النص المشكل منقولًا من كتب أحد العلماء يكون التصحيح من الكتاب الذي نقل منه المؤلف مع الإشارة إلى ذلك، إذا وجد النص، أما إذا لم نعثر على هذا النص فيكون التصحيح من سائر النسخ الخطية لهذا الشرح.
نسأل الله أن ينفع بهذا العمل وأن يجزل الأجر والثواب لمؤلفيه ومن قام بتصحيحه وتنقيحه ولكل من ساهم في طبعه ونشره وتوزيعه.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وكالة الطباعة والترجمة
في الرئاسة العامة لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(1/5)
مقدمة: أحمد محمد شاكر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على أشرف المرسلين، وسيد الخلق أجمعين، محمد عبد الله ورسوله الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
هذا شرح نفيس، للعقيدة السلفية التي كتبها"الطحاوي"الإمام العلامة الحافظ، صاحب التصانيف البديعة: أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الأزدي المصري الحنفي، وهو إمام ثقة جليل. وهو ابن أخت المزني صاحب الإمام الشافعي.
قال ابن يونس: كان ثقة ثبتًا فقيهًا عاقلًا، لم يخلَّف مثله.
ولد بمصر سنة 239هـ. ومات بها في مستهل ذو القعدة سنة 321هـ. رحمه الله (1) .
ومخطوطة الشرح التي وجدت، كانت غُفْلًا من اسم المؤلف، فلم يعرف إذْ ذاك من هو؟ وكانت نسخة سقيمة كثيرة الغلط والتحريف. ولما توجد منه مخطوطة صحيحة بعدُ.
ولكن الشرح نفيس، وأبحاثه دقيقة عميقة، وتحقيقاته بديعة متقنة. وقد طبع للمرة الأولى سنة 1349هـ، بمكة المكرمة، في المطبعة السلفية، وكان لها فرع هناك إذ ذاك.
__________
(1) مصادر ترجمته بيناها في التعليق على كلام الشارح، ص: 21.(1/7)
وعني بتصحيحه والإشراف على طبعه لجنة من المشايخ والعلماء، برئاسة العلامة الكبير، الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ، رئيس القضاة في الحجاز (حالا) . فبذلوا جهدًا عظيمًا في تصحيحه، ولكنه لم يخل من أغلاط كثيرة، وكل عمل في أوله عسير. وهم مشكورون على ما أتقنوا من تصحيح، مأجورون - إن شاء الله - على ما اجتهدوا.
وقد قرأت الكتاب عند ظهوره قراءة عابرة، فلم أتقن معرفته، ولم أتعمق في دراسته.
ثم كان من فضل الله عليّ، حين كنت بمدينة (الرياض) في شهر جمادى الأولى من هذا العام، سنة 1373هـ - أن كلفني الأستاذ المفتي الأكبر العالم العلامة الجليل، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وشقيقه الأخ الفاضل، الأستاذ الكبير، الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، مدير المعهد العلمي بالرياض - أن أعيد طبع هذا الشرح النفيس في مصر، وأن أُعنى بتصحيحه ما استطعت.
فما أن شرعت في قراءته، والتحقق منه، حتى وجدت بين يديّ كتابًا يندر أن يؤلف مثله، في دقته وعمقه، وتحقيقه وبيانه، والتزامه مذهب السلف الصالح، من غير حيدة عنه، ولا تأول ولا تمحل.
ووجدتني حُمِّلت عبئًا عظيمًا من تحقيقه، إذ لم أجد منه مخطوطة معتمدة، بل لم أجد المخطوط الأصلي الذي طبع عنه الطبعة السالفة.
فاجتهدت في تصحيح كلام الشارح ما استطعت، وعدت إلى الأحاديث والآثار والنصوص التي ينقلها - فيما أجد من أصولها عندي.
ولعلي- بهذا- أكون قد أدّيت الأمانة في حدود مقدوري واستطاعتي، ولكني لا أزال أرى هذه الطبعة مؤقتة أيضًا، حتى يوفقنا الله إلى أصل محفوظ للشرح صحيح، يكون عمدة في التصحيح. فنعيد طبعه، ونتقنه، ونخرجه إخراجًا(1/8)
سليمًا إن شاء الله ذلك ويسَّره، وكان في العمر بقية.
وقبيل الطبع أرشدني الأخ الجليل النبيل صاحب السعادة الشيخ محمد بن حسين نصيف إلى أن السيد مرتضى الزبيدي ذكر هذا الشارح، وسماه باسمه، ونقل عنه قطعة كبيرة في شرح الإحياء. فرجعت إلى الموضع الذي أشار إليه من شرح الإحياء، وهو 2: 146، فوجدته بعد أن شرح استدلال الغزالي في مسألة الكلام، بقول الشاعر:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعل اللِّسَانُ على الفؤاد دليلًا
- قال ما نصه:
"وقد استرسل بعض علمائنا، من الذين لهم تقدم ووجاهة، وهو: علي بن علي بن محمد الغزي [كذا] الحنفي. فقال في شرح عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي، ما نصه: وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَاسْتَدَلَّ بقول الأخطل المذكور - فَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثٍ فِي الصحيحين لقالوا ... ".
فنقل قول الشارح في هذا الشرح - ابتداء من السطر الأول من (ص: 148) إلى بعض السطر السادس عشر من نفس الصفحة من طبعتنا هذه. ثم قال السيد مرتضى الزبيدي ردًّا عليه وتعقيبًا: "ولما تأملته حق التأمل؛ وجدته كلامًا مخالفًا لأصول مذهب إمامه!! وهو في الحقيقة كالرد على أئمة السنة، كأنه تكلم بلسان المخالفين، وجازف وتجاوز عن الحدود، حتى شبه قول أهل السنة بقول النصارى! فليتنبه لذلك".
فهذه القطعة التي نقلها الزبيدي، وهي تزيد على 14 سطرًا - تدل دلالة قاطعة على أنه ينقل عن هذا الشرح نفسه، خصوصًا وأنها من الكلام الاستقلالي العالي، الذي يكتبه الرجل عن ذات نفسه، لا ينقله عن غيره، ولا يقلد فيه غيره. كما هو بين لا شك فيه.(1/9)
ولكنا نلاحظ أنه أخطأ في نسبة المؤلف، فقال: "الغزي"! وصوابه: "علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي"، كما في ترجمته في الدرر الكامنة 3: 87، وقد وصفه بأنه"قاضي القضاة بدمشق ثم بالديار المصرية، ثم بدمشق"وذكر أنه ولد سنة 731، ومات سنة 792.
والحمد لله على ما وفقنا إليه أولًا وآخرًا.
القاهرة يوم السبت 11 شوال سنة 1373هـ.
كتبه
أحمد محمد شاكر
عفا الله عنه بمنّه.(1/10)
ترجمة الإمام الطحاوي صاحب العقيدة:
هو أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ بن سلمة بن عبد الملك بن سلمة بن سليم بن سليمان بن جواب الأزدي الطحاوي - نسبة إلى قرية بصعيد مصر- الإمام المحدث الفقيه الحافظ.
ولد - رحمه الله - سنة تسع وثلاثين ومائتين، وعندما بلغ سن الإدراك تحول إلى مصر لطلب العلم، وأخذ يتلقى العلم على خاله إسماعيل بن يحيى المزني أفقه أصحاب الإمام الشافعي. وكان كلما اتسعت دائرة أُفقه يجد نفسه حائرًا أمام كثير من المسائل الفقهية، ولم يكن ليجد عند خاله ما يشفي غليله عنها، فأخذ يترقب ما يصنعه خاله عندما تعترضه تلك المسائل، فإذا هو كثير التعريج على كتب أصحاب أبي حنيفة، وإذا هو يختار ما ذهب إليه أبو حنيفة في كثير منها، وقد أودع هذه الاختيارات في كتابه"مختصر المزني".
فلم يسعه بعد ذلك إلا أن ينظر في كتب أصحاب أبي حنيفة ويطلع على منهجهم في التأصيل والتفريع حتى إذا اكتملت معرفته بمذهب الإمام أبي حنيفة تحول إليه واقتدى به وأصبح من أتباعه. ولم يمنعه ذلك من مخالفته لبعض أقوال الإمام وترجيح ما ذهب إليه غيره من الأئمة؛ لأنه- رحمه الله- لم يكن مقلدًا لأبي حنيفة، إنما كان يرى أن منهجه في التفقه أمثل المناهج في نظره فكان يسير عليه، ويأتم به، ولذلك تجده في كتابه"معاني الآثار"يرجح ما لم يقل به إمامه. ومما يؤيد ما ذكرناه ما قاله ابن زولاق: سمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول سمعت أبي يقول وذكر فضل أبي عبيد حربويه وفقهه فقال: كان يذاكرني في المسائل، فأجبته يومًا في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها(1/11)
القاضي: أوكل ما قاله أبو حنيفة أقول به؟ فقال: ما ظننتك إلا مقلدًا. فقلت له: وهل يقلد إلا عصبي. فقال لي: أو غبي. قال: فطارت هذه بمصر حتى صارت مثلًا وحفظها الناس (1) .
وقد تخرج على كثير من الشيوخ، وأخذ عنهم، وأفاد منهم، وقد أربى عددهم على ثلاثمائة شيخ، وكان شديد الملازمة لكل قادم إلى مصر من أهل العلم من شتى الأقطار، حتى جمع إلى علمه ما عندهم من العلوم، وهذا يدلك على مبلغ عنايته في الاستفادة، وحرصه الأكيد على العلم. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم، ووصفوه بأنه ثقة ثبت فقيه عاقل حافظ دين، له اليد الطولى في الفقه والحديث.
قال ابن يونس: كان الطحاوي ثقة ثبتًا فقيهًا عاقلًا لم يخلف مثله.
وقال الذهبي في"تاريخه الكبير": الفقيه المحدث الحافظ أحد الأعلام، وكان ثقة ثبتًا فقيهًا عاقلًا.
وقال ابن كثير في"البداية والنهاية": هو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة.
وأما تصانيفه - رحمه الله- فهي غاية في التحقيق والجمع وكثرة الفوائد وحسن العرض.
فمن مصنفاته: "العقيدة الطحاوية"وهي التي نقدمها مع شرحها في طبعتها الأنيقة للقراء، وهي على صغر حجمها غزيرة النفع سلفية المنهج، تجمع بين دفتيها كل ما يحتاج إليه المسلم في عقيدته. ومنها كتاب"معاني الآثار"وهو كتاب يعرض فيه الأبحاث الفقهية مقرونة بدليلها، ويذكر في غضون بحثه المسائل الخلافية، ويسرد أدلتها ويناقشها، ثم يرجح ما استبان له الصواب منها، وهذا الكتاب
__________
(1) انظر هذا الخبر في «لسان الميزان» لابن حجر في ترجمة المصنف.(1/12)
يدرب طالب العلم على التفقه، ويطلعه على وجوه الخلاف. ويربي فيه ملكة الاستنباط، ويكون له شخصية مستقلة.
ومنها كتاب"مشكل الآثار" (1) في نفي التضاد واستخراج الأحكام منها، ومنها"أحكام القرآن"و"المختصر"و"شرح الجامع الكبير"و"شرح الجامع الصغير"وكتاب"الشروط"و"النوادر الفقهية"و"الرد على أبي عبيد"و"الرد على عيسى بن أبان"وغير ذلك من التصانيف الجليلة المعتبرة.
تُوفي - رحمه الله - سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ليلة الخميس مستهل ذي القعدة بمصر، ودفن بالقرافة.
__________
(1) يقع هذا الكتاب في سبع مجلدات ضخام، وهو من محفوظات مكتبة فيض الله شيخ الإسلام في إستنبول، والقسم المطبوع منه في حيدر آباد في أربعة أجزاء ربما لا يكون نصف الكتاب. وهو كتاب جليل القدر عظيم النفع يسوق الأحاديث التي تبدو لأول وهلة أنها متعارضة، ثم يأخذ في دفع ذلك التعارض بطريقته الفذة التي يرتاح إليها المؤمن المنصف.(1/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة النشر في الطبعة الأولى- بالمطبعة السلفية، بمكة المكرمة:
الحمد لله عالم السر والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات.
(أما بعد) فحيث إن مؤلف هذا الشرح الحافل الجليل، وجامع هذا السفر العديم المثيل، لم يجعل لكتابه المذكور اسمًا، ولم يذكر اسم نفسه، كما هو عادة غالب الشراح والمؤلفين، إما تواضعًا منه - رحمه الله- وهضمًا لحقوق نفسه، وإما لغير ذلك من المقاصد الحسنة. وقد نسب الشرح المذكور في عنوان النسخة الخطية التي بأيدينا إلى أحد تلامذة ابن كثير صاحب التفسير، بلا تعيين، اعتمادًا على ما صرح به الشارح نفسه في موضعين أو ثلاثة من شرحه حيث يقول: قال شيخنا العماد ابن كثير.
فحرصًا على الوقوف على حقيقة الشارح، وخدمة للعلم، وقيامًا بواجبه، راجعنا ما في أيدينا من كتب التراجم والفنون، فلم نجد ما يمكننا معه الجزم بنسبته لشخص بعينه. وإنا نثبت هنا أسماء شارحي هذه العقيدة الذين عدهم صاحب"كشف الظنون"وهم سبعة من علماء الأحناف في مختلف الأزمان.
منهم: محمود بن أحمد الحنفي القونوي المتوفى سنة 770هـ، صدر شرحه بقوله: حمدًا لله المتوحد بكمال صمديته.
ومنهم: المولى أبو عبد الله محمود بن محمد بن أبي إسحاق الفقيه الحنفي، صدر شرحه بقوله: الحمد لله الذي هدانا لهذا.(1/15)
وهاتان الخطبتان مغايرتان لخطبة الشارح.
ومنهم: شجاع الدين هبة الله التركستاني المتوفى سنة 736هـ.
ومنهم: نجم الدين بكبرس التركي المتوفى سنة 952هـ.
والقاضي: سراج الدين عمر بن إسحاق الهندي الحنفي المتوفى سنة 773هـ. ورتب الأصل على مقدمة، ومهمات، وتتمة وفي مقدمته عشر تنبيهات.
ومنهم: المولى كافي الحسن البسنوي الاقحصاري المتوفى سنة 1025هـ.
وكل هؤلاء كما ترى لا يغلب الظن على أحد منهم بأنه صاحب هذا الشرح لتباين ما بينهم وبين الشيخ ابن كثير في الزمن والوطن. ولمغايرة صنيعهم في شروحهم لصنيع صاحب الشرح.
ومنهم: صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الأذرعي الدمشقي الحنفي المتوفى سنة 746هـ، (1)
، وهو الذي يترجح الظن أنه الشارح، لاتفاقه مع الشيخ ابن كثير في الوقت والبلد، والله أعلم.
ولما كانت النسخة الخطية لشرح"العقيدة الطحاوية"التي جرى عليها الطبع كثيرة الغلط والتحريف، حيث إنها لم تصحح، ولم يوجد لها أصل صحيح للمقابلة عليه. فقد اعتنى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ"عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ"بتصحيحها: فشكل لجنة من المشايخ وطلبة العلم النجديين والحجازيين، لا يقل عددهم عن العشرة، فقُرئت على فضيلته بمسمع من المذكورين وصححت بقدر الطاقة والاجتهاد، لتتم الفائدة، ويعم النفع بها للمسلمين.
__________
(1) الصواب أنه ولد سنة 731 ومات سنة 792، كما قلنا في مقدمتنا، وشيخه الحافظ ابن كثير مات سنة 774.(1/16)
مقدمة الشارح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَنشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ، إِذْ شَرَفُ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ. وَهُوَ الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِقْهِ الْفُرُوعِ، وَلِهَذَا سَمَّى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ الله تعالى - مَا قَالَهُ وَجَمَعَهُ فِي أَوْرَاقٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ"الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ"وَحَاجَةُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ حَاجَةٍ، وَضَرُورَتُهُمْ إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْقُلُوبِ، وَلَا نَعِيمَ وَلَا طُمَأْنِينَةَ، إِلَّا بِأَنْ تَعْرِفَ رَبَّهَا وَمَعْبُودَهَا وَفَاطِرَهَا، بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيَكُون مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِمَّا سِوَاهُ، وَيَكُون سَعْيُهَا فِيمَا يُقَرِّبُهَا إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ.
وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ تَسْتَقِلَّ الْعُقُولُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَإِدْرَاكِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَنْ بَعَثَ الرُّسُلَ بِهِ مُعَرِّفِينَ، وَإِلَيْهِ دَاعِينَ، وَلِمَنْ أَجَابَهُمْ مُبَشِّرِينَ، وَلِمَنْ خَالَفَهُمْ مُنْذِرِينَ، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ دَعْوَتِهِمْ، وَزُبْدَةَ رِسَالَتِهِمْ، مَعْرِفَةَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ (1) بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِذْ عَلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تُبْنَى مَطَالِبُ الرِّسَالَةِ كُلِّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا.
ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَعْرِيفُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَهِيَ شَرِيعَتُهُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
__________
(1) لو قال: «معرفة المعبود بإلهيته وأسمائه» إلخ، لكان أحسن.(1/17)
وَالثَّانِي: تَعْرِيفُ السَّالِكِينَ مَا لَهُمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَتْبَعُهُمْ لِلطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَأَعْرَفُهُمْ بِحَالِ السَّالِكِينَ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ رُوحًا، لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَيْهِ، وَنُورًا لِتَوَقُّفِ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ الله تَعَالَى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (2) ، وَلَا رُوحَ إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا نُورَ إِلَّا فِي الِاسْتِضَاءَةِ بِهِ، وَهُوَ الشِّفَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ هُدًى، وَشِفَاءً مُطْلَقًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُنْتَفِعُ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ (4) ، خُصُّوا بِالذِّكْرِ.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَلَا هُدَى إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحِفْظِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وإِلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ.
__________
(1) سورة غَافِر: الآية: 15.
(2) سورة الشُّورَى الآيتان: 52-53.
(3) سورة فُصِّلَت الآية: 44.
(4) في المطبوعة «المؤمنون»(1/18)
وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ: فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قُدَرِهِمْ (1) وَحَاجَاتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ أَوْ عَنْ فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النُّصُوصَ، وَفَهِمَهَا مِنْ عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي الْمُحَدِّثِ وَالْحَاكِمِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ عَجَزَ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَتَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُوَصِّلِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ضَلُّوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (2) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ"، قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ، لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى من غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ
__________
(1) بضم القاف وفتح الدال جمع «قدرة» .
(2) سورة طه، الآيات: 123-126.(1/19)
حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ دِينًا يَدِينُونَ به، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِدِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْعِبَادُ، إِلَّا مَا وَصَفَهُ بِهِ الْمُرْسَلُونَ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، لِسَلَامَةِ مَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، ثُمَّ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ.
وَمَضَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، يُوصِي بِهِ الْأَوَّلُ الْآخِرَ (2) وَيَقْتَدِي فِيهِ اللَّاحِقُ بِالسَّابِقِ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْتَدُونَ، وَعَلَى مِنْهَاجِهِ سَالِكُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) . فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي {أَدْعُو} ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمُ الدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، فَهُوَ صَرِيحٌ أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمْ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ فِيمَا جَاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ.
وَقَدْ بَلَّغَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَأَوْضَحَ الْحُجَّةَ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ خَيْرُ الْقُرُونِ.
ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَافْتَرَقُوا، فَأَقَامَ اللَّهُ لِهَذِهِ
__________
(1) سورة الصَّافَّاتِ، الآيات: 180-182.
(2) في المطبوعة «للآخر» .
(3) سورة يُوسُفَ آية: 108.(1/20)
الْأُمَّةِ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْهَا أُصُولَ دِينِهَا، كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ» .
وَمِمَّنْ قَامَ بِهَذَا الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الْأَزْدِيُّ الطَّحَاوِيُّ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَفَاتَهُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (1) .
فَأَخْبَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَنَقَلَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِمْيَرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَكُلَّمَا (2) بَعُدَ الْعَهْدُ، ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَكَثُرَ التَّحْرِيفُ الَّذِي سَمَّاهُ أَهْلُهُ تَأْوِيلًا لِيُقْبَلَ، وَقَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ. إِذْ قَدْ يُسَمَّى صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فِي الْجُمْلَةِ تَأْوِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْفَسَادُ. فَإِذَا سَمَّوْهُ تَأْوِيلًا قُبِلَ وَرَاجَ عَلَى مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
فَاحْتَاجَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى إِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ، وَدَفْعِ الشُّبَهِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، وَكَثُرَ الْكَلَامُ وَالشَّغَبُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ إِصْغَاؤُهُمْ إِلَى شُبَهِ الْمُبْطِلِينَ، وَخَوْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، الَّذِي عَابَهُ السَّلَفُ، وَنَهَوْا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ
__________
(1) تجد ترجمته مفصلة في: تذكرة الحفاظ للذهبي 3: 28 -29. وتاريخ ابن كثير 11: 174، والمنتظم لابن الجوزي 6: 25، وشذرات الذهب 2: 288، واللباب لابن الأثير 2: 82، والجواهر المضيئة لابن أبي الوفا 1: 102- 105، والفوائد البهية: 31 -34، ولسان الميزان 1: 274-282، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2: 54-55، وابن خلكان 1: 53-55 طبعة مكتبة النهضة بمصر.
(2) في المطبوعة «وكل ما» .(1/21)
وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ، حَيْثُ قَالَ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1) ، فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَشْمَلُهُمْ.
وَكُلٌّ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالِانْحِرَافِ عَلَى مَرَاتِبَ: فَقَدْ يَكُونُ كُفْرًا، وَقَدْ يَكُونُ فِسْقًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً.
فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ، وَاتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ خَتَمَهُمُ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَهُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَجَعَلَ دَعْوَتَهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، بَاقِيَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَانْقَطَعَتْ بِهِ حُجَّةُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ خَبَرًا وَأَمْرًا (2) ، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ طَاعَةً لَهُ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةً لَهُ، وَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوهُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ - وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَدُّوا صُدُودًا، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُحِسَّ (3) الْأَشْيَاءَ بِحَقِيقَتِهَا، أَيْ: نُدْرِكَهَا وَنَعْرِفَهَا، وَنُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا"الْعَقْلِيَّاتِ"، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ: جَهْلِيَّاتٌ! وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الرَّسُولِ، أَوْ نُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ. وَكَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، مِنَ الْمُتَنَسِّكَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْأَعْمَالَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ، آية: 68.
(2) قال العلامة الشيخ عبد الله بن حسن: الخبر هو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. والأمر: هو توحيد الألوهية. انتهى من تقرير شيخنا ووالدنا حسن بن حسين.
(3) في المطبوعة «نحسن» .(1/22)
"حَقَائِقَ"وَهِيَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ. وَكَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَمَلِّكَةِ وَالْمُتَأَمِّرَةِ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِحْسَانَ بِالسِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُحَكِّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا يُخَالِفُهُ - فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَافٍ كَامِلٌ، يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّقْصِيرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَلَامِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْعِبَادِيَّةِ، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِمَارَةِ السِّيَاسِيَّةِ، أَوْ نَسَبُوا إِلَى شَرِيعَةِ الرَّسُولِ، بِظَنِّهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَخْرَجُوا عَنْهَا كَثِيرًا مِمَّا هُوَ مِنْهَا.
فَبِسَبَبِ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ وَتَفْرِيطِهِمْ، وَلَبْس عُدْوَانِ أُولَئِكَ وَجَهْلِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، كَثُرَ النِّفَاقُ، وَدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الرِّسَالَةِ.
بَلِ إنما يكون الْبَحْثُ التَّامُّ، وَالنَّظَرُ الْقَوِيُّ، وَالِاجْتِهَادُ الْكَامِلُ، فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُعْلَمَ وَيُعْتَقَدَ، وَيُعْمَلَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَيَكُونَ قَدْ تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَأَنْ لَا يُهْمَلَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ ذَلِكَ، أَوِ الْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يَنْهَى عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، بَلْ حَسْبُهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ اللَّوْمُ لِعَجْزِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْرَحَ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ، وَيَرْضَى بِذَلِكَ، وَيَوَدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ، وَأَنْ لَا يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِ وَيَتْرُكَ بَعْضَهُ، بَلْ يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، وَأَنْ يُصَانَ عَنْ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، مِنْ رِوَايَةٍ أَوْ رَأْيٍ، أَوْ يَتَّبِعَ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الْبَقَرَةِ، آية: 42.(1/23)
وَهَذِهِ كَانَتْ طَرِيقَةَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَوَّلُهُمُ السَّلَفُ الْقَدِيمُ مِنَ التَّابِعِينَ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الدِّينِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ بِالْإِمَامَةِ.
فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ لِبِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ: الْعِلْمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الْجَهْلُ، وَالْجَهْلُ بِالْكَلَامِ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ رَأْسًا فِي الْكَلَامِ قِيلَ: زِنْدِيقٌ، أَوْ رُمِيَ بِالزَّنْدَقَةِ، أَرَادَ بِالْجَهْلِ بِهِ اعْتِقَادَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ نَافِعٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ أَوْ تَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى اعْتِبَارِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَصُونُ عِلْمَ الرَّجُلِ وَعَقْلَهُ، فَيَكُونُ عِلْمًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.
وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - شِعْرًا:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ ... إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ
الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي الْفَتَاوَى: أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِعُلَمَاءِ بَلَدِهِ: لَا يَدْخُلُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَأَوْصَى إِنْسَانٌ أَنْ يُوقَفَ مِنْ كُتُبِهِ مَا هُوَ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، فَأَفْتَى السَّلَفُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِيهَا مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ. ذُكِرَ ذَلِكَ بِمَعْنَاهُ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ.
فَكَيْفَ يُرَامُ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، بِغَيْرِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؟ !(1/24)
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
أَيُّهَا الْمُغْتَدِي لِيَطْلُبَ عِلْمًا ... كُلُّ عِلْمٍ عَبْدٌ لِعِلْمِ الرَّسُولِ
تَطْلُبُ الْفَرْعَ كَيْ تُصَحِّحَ أَصْلًا ... كَيْفَ أَغْفَلْتَ عِلْمَ أَصْلِ الْأُصُولِ
وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُوتِيَ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، فَبُعِثَ بِالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالأخْرَوِيَّةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَلَكِنْ كُلَّمَا ابْتَدَعَ شَخْصٌ بِدْعَةً اتَّسَعُوا فِي جَوَابِهَا، فَلِذَلِكَ صَارَ كَلَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَثِيرًا، قَلِيلَ الْبَرَكَةِ، بِخِلَافِ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِنَّهُ قَلِيلٌ، كَثِيرُ الْبَرَكَةِ، لَا كَمَا يَقُولُهُ ضُلَّالُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَهَلَتُهُمْ: إِنَّ طَرِيقَةَ الْقَوْمِ أَسْلَمُ، وَإِنَّ طَرِيقَتَنَا أَحْكَمُ وَأَعْلَمُ! وَلا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْهُمْ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِاسْتِنْبَاطِ الفقه وَضَبْطِ قَوَاعِدِهِ وَأَحْكَامِهِ اشْتِغَالًا مِنْهُمْ بِغَيْرِهِ! وَالْمُتَأَخِّرُونَ تَفَرَّغُوا لِذَلِكَ، فَهُمْ أَفْقَهُ!!
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ السَّلَفِ، وَعُمْقِ عُلُومِهِمْ، وَقِلَّةِ تَكَلُّفِهِمْ، وَكَمَالِ بَصَائِرِهِمْ. وَتَاللَّهِ مَا امْتَازَ عَنْهُمُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَطْرَافِ الَّتِي كَانَتْ هِمَّةُ الْقَوْمِ مُرَاعَاةَ أُصُولِهَا، وَضَبْطَ قَوَاعِدِهَا، وَشَدَّ مَعَاقِدِهَا، وَهِمَمُهُمْ مُشَمَّرَةً إِلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. فَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي شَأْنٍ، وَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ آخَرَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
وَقَدْ شَرَحَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ بَعْضَ الشَّارِحِينَ قَدْ أَصْغَى إِلَى أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، وَاسْتَمَدَّ مِنْهُمْ، وَتَكَلَّمَ بِعِبَارَاتِهِمْ.
وَالسَّلَفُ لَمْ يَكْرَهُوا التَّكَلُّمَ بِالْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ اصْطِلَاحًا جَدِيدًا عَلَى مَعَانٍ صَحِيحَةٍ، كَالِاصْطِلَاحِ عَلَى أَلْفَاظِ الْعُلُومِ الصَحِيحَةِ، وَلَا كَرِهُوا أَيْضًا الدَّلَالَةَ عَلَى الْحَقِّ وَالْمُحَاجَّةِ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ.(1/25)
بَلْ كَرِهُوهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أُمُورٍ كَاذِبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْحَقِّ، وَمِنْ ذَلِكَ مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا لَا تَجِدُ عِنْدَ أَهْلِهَا مِنَ الْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَضْلًا عَنْ عُلَمَائِهِمْ، وَلِاشْتِمَالِ مُقَدِّمَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَثُرَ الكلام، وَانْتَشَرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ، وَتَوَلَّدَ لَهُمْ عَنْهَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الصَّحِيحِ وَالْعَقْلِ الصَّرِيحِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ الْمَجَالُ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ الكلام زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: "فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ".
وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَشْرَحَهَا سَالِكًا طَرِيقَ السَّلَفِ فِي عِبَارَاتِهِمْ، وَأَنْسُجَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ، مُتَطَفِّلًا عَلَيْهِمْ، لَعَلِّي أَنْ أُنْظَمَ فِي سِلْكِهِمْ، وَأُدْخَلَ فِي عِدَادِهِمْ، وَأُحْشَرَ فِي زُمْرَتِهِمْ {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) .
وَلَمَّا رَأَيْتُ النُّفُوسَ مَائِلَةً إِلَى الِاخْتِصَارِ، آثَرْتُهُ عَلَى التَّطْوِيلِ وَالْإِسْهَابِ. (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) . وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قَوْلُهُ: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ) .
اعْلَمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) ، وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) ، وَقَالَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) ، وَقَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6) ، وَقَالَ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النِّسَاءِ، آية: 69.
(2) سورة الْأَعْرَافِ، آية: 59.
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية: 65.
(4) سورة الْأَعْرَافِ، آية: 73.
(5) سورة الْأَعْرَافِ، آية: 85.
(6) سورة النَّحْلِ، آية: 36.(1/26)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ، كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ. بَلْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَجْدِيدِ ذَلِكَ عَقِيبَ بُلُوغِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ أَوْ مَيَّزَ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ حِينَئِذٍ بِتَجْدِيدِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبُهُ يَسْبِقُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، لَكِنْ هُوَ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَهُنَا مَسَائِلُ تَكَلَّمَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا - هَلْ يَصِيرُ مُسْلِمًا أَمْ لَا؟ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ. فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا يُدْخِلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَآخِرُ مَا يُخْرَجُ بِهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ وَآخِرُ وَاجِبٍ.
فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ الْأَمْرِ وَآخِرُهُ، أَعْنِي تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ.
فإن التَّوْحِيدَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ. وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيَانُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالثَّالِثُ: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
__________
(1) سورة الْأَنْبِيَاءِ، آية: 25.(1/27)
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ نُفَاةَ الصِّفَاتِ أَدْخَلُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ، كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الْوَاجِبِ! وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا الذِّهْنُ قَدْ يَفْرِضُ الْمُحَالَ وَيَتَخَيَّلُهُ، وَهَذَا غَايَةُ التَّعْطِيلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَفْضَى بِقَوْمٍ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى، فَإِنَّ النَّصَارَى خَصُّوهُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ عَمُّوا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّوْحِيدِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَامِلُو الْإِيمَانِ، عَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ!
وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا اللَّهَ لَا غَيْرَهُ! وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَالزِّنَى وَالنِّكَاحِ، الْكُلُّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ.
وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا عَلَى النَّاسِ.
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ. وَهَذَا التَّوْحِيدُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى نَقِيضِهِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَلِ الْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ كَوْنِهَا مَفْطُورَةً عَلَى الْإِقْرَارِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، كَمَا قَالَتِ الرُّسُلُ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) .
__________
(1) سورة إِبْرَاهِيمَ آية: 10.(1/28)
وَأَشْهَرُ مَنْ عُرِفَ تَجَاهُلُهُ وَتَظَاهُرُهُ بِإِنْكَارِ الصَّانِعِ: فِرْعَوْنُ، وَقَدْ كَانَ مُسْتَيْقِنًا بِهِ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (1) .
وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (2) . وَلِهَذَا [لما] قَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ تَجَاهُلَ الْعَارِفِ - قَالَ لَهُ مُوسَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (3) .
وَقَدْ زَعَمَ طَائِفَةٌ أَنَّ فِرْعَوْنَ سَأَلَ مُوسَى مُسْتَفْهِمًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَسْئولَ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يكُنْ لَهُ مَاهِيَّةٌ، عَجَزَ مُوسَى عَنِ الْجَوَابِ! وَهَذَا غَلَطٌ. وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَجَحْدٍ، كَمَا دَلَّ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَاحِدًا لِلَّهِ، نَافِيًا لَهُ، لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا لَهُ طَالِبًا لِلْعِلْمِ بِمَاهِيَّتِهِ. فَلِهَذَا بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَ رُبُوبِيَّتِهِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ بِمَا هُوَ؟ بَلْ [إنه] أَعْرَفُ وَأَظْهَرُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُجْهَلَ، بَلْ مَعْرِفَتُهُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطَرِ أَعْظَمَ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَعْرُوفٍ.
وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.
فَإِنَّ الثَّنَوِيَّةَ مِنَ الْمَجُوسِ، وَالْمَانَوِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ صَدَرَ عَنْهُمَا -: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَهُوَ الْإِلَهُ الْمَحْمُودُ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ شِرِّيرَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي الظُّلْمَةِ، هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية: 102.
(2) سورة النمل آية: 14.
(3) سورة الشُّعَرَاءِ الآيات: 24-28.(1/29)
مُحْدَثَةٌ؟ فَلَمْ يُثْبِتُوا رَبَّيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى الْقَائِلُونَ بِالتَّثْلِيثِ، فَإِنِّهَمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْعَالَمِ ثَلَاثَةَ أَرْبَابٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، بَلْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ: بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُمْ فِي التَّثْلِيثِ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي الْحُلُولِ أَفْسَدُ مِنْهُ. وَلِهَذَا كَانُوا مُضْطَرِبِينَ فِي فَهْمِهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ، لَا يَكَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِمَعْنًى مَعْقُولٍ، وَلَا يَكَادُ اثْنَانِ يَتَّفِقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ، ثَلَاثَةٌ بِالْأُقْنُومِ! وَالْأَقَانِيمُ يُفَسِّرُونَهَا تَارَةً بِالْخَوَاصِّ، وَتَارَةً بِالصِّفَاتِ، وَتَارَةً بِالْأَشْخَاصِ. وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ. وَبالْجُمْلَةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ خَالِقَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالْفَلْسَفَةِ تَعِبُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَتَقْرِيرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ تَقْرِيرِ هَذَا بِالْعَقْلِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُتَلَقَّى (1) مِنَ السَّمْعِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ إِثْبَاتُهُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ، وَهُوَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَآخَرُ تَسْكِينَهُ، أَوْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَهُ وَالْآخَرُ إِمَاتَتَهُ: فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُمَا، أَوْ مُرَادُ أَحَدِهِمَا، أَوْ لَا يَحْصُلُ مُرَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْأَوَّلُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالثَّالِثُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْجِسْمِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ، وَيَسْتَلْزِمُ أَيْضًا عَجْزَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِذَا حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ هَذَا هُوَ الْإِلَهَ الْقَادِرَ، وَالْآخَرُ عَاجِزًا لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ.
__________
(1) في المطبوعة «يلتقي» .(1/30)
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَلِيلَ التَّمَانُعِ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي قَرَّرُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ، وَدَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاحِدٌ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2) . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا مُشَارِكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ، بَلْ كَانَ حَالُهُمْ فِيهَا كَحَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْأُمَمِ مِنَ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، تَارَةً يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ تَمَاثِيلُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ، وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا كَانَ أَصْلَ شِرْكِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (4) . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِعَيْنِهَا صَارَتْ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية: 22.
(2) سورة لُقْمَانَ آية: 25.
(3) سورة الْمُؤْمِنُونَ الآيتان: 84-85.
(4) سورة نُوح آية: 23.(1/31)
قَبِيلَةً قَبِيلَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ «أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ، وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتُهُ» . وَفِي"الصَّحِيحَيْنِ"عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وَفِي"الصَّحِيحَيْنِ"أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذُكِرَ لَهُ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي"صَحِيحِ مُسْلِمٍ"عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ، وَاتِّخَاذُ الْأَصْنَامِ بِحَسَبِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلْكَوَاكِبِ مِنْ طِبَاعِهَا.
وَشِرْكُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ - فِيمَا يُقَالُ - مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَاتِّخَاذُ الْأَصْنَامِ لَهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ، وَلَكِنِ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) . {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
__________
(1) سورة الزُّمَرِ آية: 3.(1/32)
{مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) . وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عنهم فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ التِّسْعَةِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ، أَيْ: تَحَالَفُوا بِاللَّهِ، لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ. فَهَؤُلَاءِ الْمُفْسِدُونَ الْمُشْرِكُونَ تَحَالَفُوا بِاللَّهِ على قَتْلِ نَبِيِّهِمْ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا بَيّن أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ
إِيمَانَ الْمُشْرِكِينَ.
فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
__________
(1) سورة يُونُسَ آية: 18.
(2) سورة الرُّومِ آية: 30.
(3) سورة الروم الآيات من: 31- إلى 36.
(4) سورة إِبْرَاهِيمَ آية: 10.(1/33)
الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» وَلَا يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُولَدُ سَاذِجًا لَا يَعْرِفُ تَوْحِيدًا وَلَا شِرْكًا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَا تَلُونَا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ» الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: «يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» وَلَمْ يَقُلْ: وَيُسْلِمَانِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: "يُولَدُ عَلَى الْمِلَّةِ"وَفِي أُخْرَى: "عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ".
وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ بِصِدْقِهِ. مِنْهَا، أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَكُونُ حَقًّا، وَتَارَةً مَا يَكُونُ بَاطِلًا، وَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَات، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا. وَنَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ وَأَنْ يُكَذِّبَ وَيَتَضَرَّرَ، مَالَ بِفِطْرَتِهِ إِلَى أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ، وَحِينَئِذٍ فَالِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْإِيمَانُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ نَقِيضُهُ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِطْرَةِ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ الصَّانِعِ وَالْإِيمَانَ بِهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ: إِمَّا أَنْ يكُونَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّتُهُ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةُ مَا يَنْفَعُهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ بِحِسِّهِ. وَحِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ فِطْرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلَّةً بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ لِلْفِطْرَةِ، كَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ، اسْتَجَابَتْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ.(1/34)
وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ قَابِلَةٌ لِلْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ، وَمُجَرَّدُ التَّعْلِيمِ وَالتَّحْضِيضِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ، لَوْلَا أَنَّ فِي النَّفْسِ قُوَّةً تَقْبَلُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَوْ عُلِّمَ الْجُهَّال وَالْبَهَائِمُ وَحُضِّضَا لَمْ يَقْبَلَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُصُولَ إِقْرَارِهَا بِالصَّانِعِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَتَكُونُ الذَّاتُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي قَائِمًا فِي النَّفْسِ وَقُدِّرَ عَدَمُ الْمَعَارِضِ، فَالْمُقْتَضِي السَّالِمُ عَنِ الْمَعَارِضِ يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا، كَانَتْ مُقِرَّةً بِالصَّانِعِ عَابِدَةً لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمُفْسِدُ الْخَارِجُ، وَلَا الْمُصْلِحُ الْخَارِجُ، كَانَتِ الْفِطْرَةُ مُقْتَضِيَةً لِلصَّلَاحِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ فِيهَا لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ قَائِمٌ، وَالْمَانِعَ مُنْتَفٍ.
وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَرَادُوا الْبَحْثَ مَعَهُ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي قَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ سَفِينَةٍ فِي دِجْلَةَ، تَذْهَبُ، فَتَمْتَلِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهَا، وَتَعُودُ بِنَفْسِهَا، فَتَرْسُو بِنَفْسِهَا، وَتُفْرِغُ وَتَرْجِعُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدَبِّرَهَا أَحَدٌ؟ ! فَقَالُوا: هَذَا مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا! فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا كَانَ هَذَا مُحَالًا فِي سَفِينَةٍ، فَكَيْفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ!! وَتُحْكَى هَذِهِ الْحِكَايَةُ أَيْضًا عَنْ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ.
فَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، الَّذِي يُقِرُّ بِهِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ، وَيَفْنَى فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَيَجْعَلُونَهُ غَايَةَ السَّالِكِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ"مَنَازِلِ السَّائِرِينَ"وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْبُدِ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَتَبَرَّأْ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ - كَانَ مُشْرِكًا مِنْ جِنْسِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَبَيَانِهِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ(1/35)
أَنَّهُ يُقَرِّرُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَجْعَلُ الْأَوَّلَ دَلِيلًا عَلَى الثَّانِي، إِذْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ في الْأَوَّلِ، وَيُنَازِعُونَ فِي الثَّانِي، فَيُبَيِّنُ لَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ وحده، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلِمَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَتَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (1) الْآيَاتِ.
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ كُلِّ آيَةٍ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، يَتَضَمَّنُ نَفْيَ ذَلِكَ، وَهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أنه اسْتِفْهَامٌ: هَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ؟ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْكَلَامِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} (2) ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (3) ، لَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ إِلَهًا: {جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} (4) ، بَلْ هُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ فَعَلَ هَذَا، وَهَكَذَا سَائِرُ الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} (6) . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
__________
(1) سورة النَّمْلِ الآيتان: 59-60.
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية: 19.
(3) سورة ص آية: 5.
(4) سورة النمل آية: 61.
(5) سورة الْبَقَرَةِ آية: 21.
(6) سورة الْأَنْعَامِ آية: 46.(1/36)
وَإذَا كَانَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، الَّذِي يَجْعَلُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْغَايَةَ فِي التَّوْحِيدِ -: دَاخِلًا فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، فَلْيُعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَهُ مُتَعَدِّدَةٌ، كَدَلَائِلِ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَدَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ كُلَّمَا كَانَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَحْوَجَ كَانَتْ أَدِلَّتُهُ أَظْهَر، رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ.
وَالْقُرْآنُ قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ مَعْلُومَةً ضَرُورِيَّةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، اسْتُدِلَّ بِهَا، وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا.
وَالطَّرِيقَةُ الفصيحَة فِي الْبَيَانِ أَنْ تُحْذَفَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ، بِخِلَافِ مَا يَدَّعِيهِ الْجُهَّالُ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ طَرِيقَةٌ بُرْهَانِيَّةٌ، بِخِلَافِ مَا قَدْ يَشْتَبِهُ وَيَقَعُ فِيهِ نِزَاعٌ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ مَعْلُومَ الِامْتِنَاعِ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، بِاعْتِبَارِ إِثْبَاتِ خَالِقَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنَّ ثَمَّ خَالِقًا خَلَقَ بَعْضَ الْعَالَمِ، كَمَا يَقُولُهُ الثَّنَوِيَّةُ فِي الظُّلْمَةِ، وَكَمَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، وَكَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَهُ الدَّهْرِيَّةُ فِي حَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ، أَوْ حَرَكَاتِ النُّفُوسِ، أَوِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ أُمُورًا مُحْدَثَةً بِدُونِ إِحْدَاثِ اللَّهِ إِيَّاهَا، فَهُمْ مُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ قَدْ يَظُنُّ فِي آلِهَتِهِ شَيْئًا مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، بِدُونِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ مَوْجُودًا فِي النَّاسِ، بَيَّنَ الْقُرْآنُ بُطْلَانَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ}(1/37)
{إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (1) .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ، بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ الظَّاهِرِ. فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فَاعِلًا، يُوصِلُ إِلَى عَابِدِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ آخَرُ يُشْرِكُهُ فِي مُلْكِهِ، لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَفِعْلٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرْضَى تِلْكَ الشَّرِكَةَ، بَلْ إِنْ قَدَرَ عَلَى قَهْرِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَالْإِلَهِيَّةِ دُونَهُ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْفَرَدَ بِخَلْقِهِ وَذَهَبَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ، كَمَا يَنْفَرِدُ مُلُوكُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمُلْكِهِ، إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمْ عَلَى قَهْرِ الْآخَرِ وَالْعُلُوِّ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ وَسُلْطَانِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ قَهْرِ مَلِكٍ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ الْإِلَهُ، وَهُمُ الْعَبِيدُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَقْهُورُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَانْتِظَامُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَإِحْكَامُ أَمْرِهِ، مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَمَلِكٌ وَاحِدٌ، وَرَبٌّ وَاحِدٌ، لَا إِلَهَ لِلْخَلْقِ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ لَهُمْ سِوَاهُ. كَمَا قَدْ دَلَّ دَلِيلُ التَّمَانُعِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ، فَذَلكَ تَمَانُعٌ فِي الْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ، وَهَذَا تَمَانُعٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ. فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ رَبَّانِ خَالِقَانِ مُتَكَافِئَانِ، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ.
فَالْعِلْمُ بِأَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانُهُ، فَكَذَا تَبْطُلُ إِلَهِيَّةُ اثْنَيْنِ. فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُوَافِقَةٌ لِمَا
__________
(1) سورة الْمُؤْمِنُونَ آية: 91.(1/38)
ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، دَالَّةٌ مُثْبِتَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) .
وَقَدْ ظَنَّ طَوَائِفُ أَنَّ هَذَا دَلِيلُ التَّمَانُعِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ الْخَ، وَغَفَلُوا عَنْ مَضْمُونِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَرْبَابٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِهِمَا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَهُمَا مَوْجُودَتَانِ آلِهَةٌ سِوَاهُ لَفَسَدَتَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {لَفَسَدَتَا} ، وَهَذَا فَسَادٌ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ يُوجَدَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا آلِهَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، بَلْ لَا يَكُونُ الْإِلَهُ إِلَّا وَاحِدا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَنَّ فَسَادَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْآلِهَةِ فِيهِمَا مُتَعَدِّدَةً، وَمِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُمَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ فِيهِمَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا غَيْرُ. فَلَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ لَفَسَدَ نِظَامُهُ كُلُّهُ، فَإِنَّ قِيَامَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالْعَدْلِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الشِّرْكُ، وَأَعْدَلُ الْعَدْلِ التَّوْحِيدُ.
وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ مُتَضَمِّنٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الْعَكْسِ. فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ يَكُونُ عَاجِزًا، وَالْعَاجِزُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. قَالَ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}
__________
(1) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية: 22.
(2) سورة الْأَعْرَافِ آية: 191.(1/39)
{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (1) ، وقال تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (2) .
وَفِيهَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَاتَّخَذُوا سَبِيلًا إِلَى مُغَالَبَتِهِ. وَالثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْقُولُ عَنِ السَّلَفِ، كَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ: لَاتَّخَذُوا سَبِيلًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} (3) ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} (4) .
وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ، بَلْ جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ، وَقَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (5) بِخِلَافِ الْآيَةِ الْأُولَى.
__________
(1) سورة النَّحْلِ آية: 17.
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية: 42.
(3) سورة الإنسان آية: 29.
(4) سورة الْإِسْرَاءِ، آية: 42.
(5) سورة الزُّمَرِ آية: 3.(1/40)
أنواع التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُسُلُ:
ثُمَّ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ وَنَزَلَتْ بِهِ كُتُبُهُ نَوْعَانِ: تَوْحِيدٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَتَوْحِيدٌ فِي الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ.
فَالْأَوَّلُ: هُوَ إِثْبَاتُ حَقِيقَةِ ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ كُلَّ الْإِفْصَاحِ، كَمَا فِي أَوَّلِ"الْحَدِيدِ"وَ"طه"وَآخِرِ"الْحَشْرِ"وَأَوَّلِ"الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ"وَأَوَّلِ"آلِ عِمْرَانَ"وَسُورَةِ"الْإِخْلَاصِ"بِكَمَالِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ، مِثْلَ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1) ، وَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (2) ، وَأَوَّلُ سُورَةِ"تَنْزِيلُ الْكِتَابِ"وَآخِرُهَا، وَأَوَّلُ سُورَةِ"يُونُسَ"وَأَوْسَطُهَا وَآخِرُهَا، وَأَوَّلُ سُورَةِ"الْأَعْرَافِ"وَآخِرُهَا، وَجُمْلَةُ سُورَةِ"الْأَنْعَامِ".
وَغَالِبُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَوْعَيِ التَّوْحِيدِ، بَلْ كُلُّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ. وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ. وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ، فَذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتِهِ. وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ إِكْرَامِهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ. وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ،
__________
(1) سورة الكافرون آية: 1.
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية: 64.(1/41)
وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ (1) فَهُوَ جَزَاءُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.
فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ، وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَجَزَائِهِمْ. فَـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تَوْحِيدٌ، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تَوْحِيدٌ، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تَوْحِيدٌ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) الَّذِينَ فَارَقُوا التَّوْحِيدَ.
وَكَذَلِكَ شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا التَّوْحِيدِ، وَشَهِدَتْ لَهُ بِهِ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ.. قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَالرَّدَّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ الضَّلَالِ، فَتَضَمَّنَتْ أَجَلَّ شَهَادَةٍ وَأَعْظَمَهَا وَأَعْدَلَهَا وَأَصْدَقَهَا، مِنْ أَجَلِّ شَاهِدٍ، بِأَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ.
وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي (شَهِدَ) - تَدُورُ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْإِعْلَامِ، وَالْبَيَانِ، وَالْإِخْبَارِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ.
فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا: عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَثُبُوتِهِ.
وَثَانِيهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعَ نَفْسِهِ وَيَتَذَكَّرُهَا وَيَنْطِقُ بِهَا أَوْ يَكْتُبُهَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ وَيُخْبِرُهُ بِهِ
__________
(1) عبر بقوله: «وما فعل» بصيغة الماضي - لأن ما توعد الله به أهل الشرك متحقق ثابت بموتهم مشركين. فكأنه وقع فعلا، وذلك التعبير - بصيغة الماضي الواقع عما سيكون يوم القيامة - كثير في القرآن.
(2) سورة الفاتحة: 1، 2، 6، 7.
(3) سورة آلِ عِمْرَانَ الآيتان: 18-19.(1/42)
وَيُبَيِّنُهُ لَهُ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأْمُرَهُ بِهِ.
فَشَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ: عِلْمَهُ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ، وَتَكَلُّمَهُ بِهِ، وَإِعْلَامَهُ، وَإِخْبَارَهُ لِخَلْقِهِ بِهِ، وَأَمْرَهُمْ وَإِلْزَامَهُمْ بِهِ.
فَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَضَمُّنُهَا ضَرُورَةٌ، وَإِلَّا كَانَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ» ، وَأَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ.
وَأَمَّا مَرْتَبَةُ التَّكَلُّمِ وَالْخَبَرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (2) . فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُؤَدُّوهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ فَنَوْعَانِ: إِعْلَامٌ بِالْقَوْلِ، وَإِعْلَامٌ بِالْفِعْلِ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرٍ. تَارَةً يُعْلِمُهُ بِهِ بِقَوْلٍ، وَتَارَةً بِفِعْل، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ دَارَهُ مَسْجِدًا وَفَتَحَ بَابَهَا، وَأَبْرَزَهَا بِطَرِيقِهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا -: مُعْلِمًا أَنَّهَا وَقْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مُتَقَرِّبًا إِلَى غَيْرِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَسَارِّ، يَكُونُ مُعْلِمًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِقَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ، يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً، وَبِفِعْلِهِ أُخْرَى. فَالْقَوْلُ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَأَمَّا بَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ بِفِعْلِهِ، فَكَمَا قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شَهِدَ اللَّهُ بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ -: أَنَّهُ لَا إِلَهَإِلَّا هُوَ. وَقَالَ آخَرُ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِد
__________
(1) سورة الزُّخْرُفِ آية: 86.
(2) سورة الزُّخْرُفِ آية: 19.(1/43)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْفِعْلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} (1) فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ بِمَا جَعَلَ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ دَالَّةً عَلَيْهِ، وَدَلَالَتُهَا إِنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَجَعْلِهِ.
وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ وَالْإِلْزَامِ بِهِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، لَكِنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَتَضَمَّنُهُ - فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهِ شَهَادَةَ مَنْ حَكَمَ بِهِ، وَقَضَى وَأَمَرَ وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (6) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (7) ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ.
وَوَجْهُ اسْتِلْزَامِ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَدْ أَخْبَرَ ونبّأ وَأَعْلَمَ وَحَكَمَ وَقَضَى أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَأَنَّ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، كَمَا لَا تَصْلُحُ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ. وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ وَحْدَهُ إِلَهًا، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ مَعَهُ إِلَهًا. وَهَذَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَمَا إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَسْتَفْتِي رَجُلًا أَوْ يَسْتَشْهِدُهُ أَوْ يَسْتَطِبُّهُ وَهُوَ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، فَتَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ وَلَا شَاهِدٍ وَلَا طَبِيبٍ، الْمُفْتِي فُلَانٌ، وَالشَّاهِدُ فُلَانٌ، وَالطَّبِيبُ فُلَانٌ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْهُ وَنَهْيٌ.
__________
(1) سورة التَّوْبَةِ آية: 17.
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية: 23.
(3) سورة النَّحْلِ آية: 51.
(4) سورة البينة آية: 5.
(5) سورة التوبة آية: 31.
(6) سورة الْإِسْرَاءِ آية: 22.
(7) سورة الْقَصَصِ آية: 88.(1/44)
وَأَيْضًا: فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.. فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، تَضَمَّنَ هَذَا الْإِخْبَارُ أَمْرَ الْعِبَادِ وَإِلْزَامَهُمْ بِأَدَاءِ مَا يَسْتَحِقُّه الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَيْضًا: فَلَفْظُ"الْحُكْمِ"و"الْقَضَاءِ"يُسْتَعْمَلُ فِي الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَيُقَالُ لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ: قَضِيَّةٌ، وَحُكْمٌ، وَقَدْ حُكِمَ فِيهَا بِكَذَا. قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (1) . فَجَعَلَ هَذَا الْإِخْبَارَ الْمُجَرَّدَ مِنْهُمْ حُكْمًا. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (2) . لَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا إِلْزَامَ مَعَهُ.
وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مُتَضَمِّنٌ الْإِلْزَامَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ شَهَادَةٍ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ بِهَا، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ. بَلْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الْبَيَانَ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ، كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ مِنَ الْعِبَادِ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ كَتَمَهَا، لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ.
وَإِذَا كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ:
السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ.
أَمَّا السَّمْعُ: فَبِسَمْعِ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا عَرَّفَنَا إِيَّاهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ كُلِّهَا، الْوَحْدَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا، غَايَةَ الْبَيَانِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُعَطِّلَةِ بَعْضِ الصِّفَاتِ مِنْ دَعْوَى احْتِمَالَاتٍ تُوقِعُ فِي الْحَيْرَةِ، تُنَافِي الْبَيَانَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ وَرَسُولَهُ الْكَرِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
__________
(1) سورة الصَّافَّاتِ الآيات: 151-154.
(2) سورة الْقَلَمِ الآيتان: 35-36.(1/45)
{حم} {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (1) ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} (3) ، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (4) ، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (5) ، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (6) .
وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تَأْتِي مُبَيِّنَةً وَمُقَرِّرَةً لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، لَمْ يُحْوِجْنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى رَأْيِ فُلَانٍ، وَلَا إِلَى ذَوْقِ فُلَانٍ، وَوَجْدِهِ فِي أُصُولِ دِينِنَا. وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مُخْتَلِفِينَ مُضْطَرِبِينَ. بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (7) . فَلَا يَحْتَاجُ فِي تَكْمِيلِهِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِيمَا يَأْتِي مِنْ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ الْخَلْقِيَّةُ: فَالنَّظَرُ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ والسَّمْعِيَّةُ، وَالْعَقْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَيَجْزِمُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَتَتَّفِقُ شَهَادَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلْعُذْرِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ - لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا وَمَعَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (8) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا}
__________
(1) سورتا الزُّخْرُفِ والدخان الآيتان: 1-2.
(2) سورة يُوسُفَ آية: 1.
(3) سورة الْحِجْرِ آية: 1.
(4) سورة آلِ عِمْرَانَ آية: 138.
(5) سورة الْمَائِدَةِ آية: 92.
(6) سورة النَّحْلِ آية: 44.
(7) سورة الْمَائِدَةِ آية: 3.
(8) سورة الْحَدِيدِ آية: 25.(1/46)
{أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (4) ، حَتَّى إِنَّ مِنْ أَخْفَى آيَاتِ الرُّسُلِ آيَاتُ هُودٍ، حَتَّى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ) ، وَمَعَ هَذَا فَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَوْضَحِ الْبَيِّنَاتِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي} {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) .
فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ: أَنَّ رَجْلًا وَاحِدًا يُخَاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذَا الْخِطَابِ، غَيْرَ جَزِعٍ وَلَا فَزِعٍ وَلَا خَوَّارٍ، بَلْ هُوَ وَاثِقٌ بِمَا قَالَهُ، جَازِمٌ بِهِ، فَأَشْهَدَ اللَّهَ أَوَّلًا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ دِينِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، إِشْهَادَ وَاثِقٍ بِهِ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ وَغَيْرُ مُسَلِّطٍ لَهُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ إِشْهَادَ مُجَاهِرٍ لَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يُوَالُونَ عَلَيْهَا وَيَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَتِهِمْ لَهَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِهَانَةِ لهمْ وَاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ وَلَوْ (6) يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ عَلَى كَيْدِهِ وَشِفَاءِ غَيْظِهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَاجِلُونَهُ وَلَا يُمْهِلُونَهُ، لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه. ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُمْ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى وَرَبَّهُمُ الَّذِي نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ هُوَ وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ الْقَائِمُ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَا يَخْذُلُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ، وَلَا يُشْمِتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ.
__________
(1) سورة النَّحْلِ الآيتان: 43-44.
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية: 183.
(3) سورة آلِ عِمْرَانَ آية: 184.
(4) سورة الشُّورَى آية: 17.
(5) سورة هُودٍ الآيات: 54-56.
(6) لعله: وأنهم لو.(1/47)
فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ أَحْسَنُ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَرَاهِينِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ؟ وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غَايَةَ الْبَيَانِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى"الْمُؤْمِنُ"وَهُوَ فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ: الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصَّادِقِينَ بِمَا يُقِيمُ لَهُمْ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيَ الْعِبَادَ مِنَ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَهُ رُسُلُهُ حَقٌّ. قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1) ، أَيِ الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (2) ، ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (3) .
فَشَهِدَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَوَعَدَ أَنَّهُ يُرِي الْعِبَادَ مِنْ آيَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْخَلْقِيَّةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَيْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَجَلُّ، وَهُوَ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، فَإِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ"الشَّهِيدَ"الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُشَاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِهِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِقَوْلِهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَاسْتِدْلَاله بِالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ بِأَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ لَا يُعْهَدُ فِي الِاصْطِلَاحِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْدَعَ فِي الْفِطْرَةِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالْجُحُودِ وَالتَّعْطِيلِ، وَلَا بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ، وَمَا خَفِيَ عَنِ الْخَلْقِ مِنْ كَمَالِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهُ، وَمِنْ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ شَهَادَتُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) سورة فُصِّلَتْ آية: 53.
(2) سورة الأحقاف آية: 10.
(3) سورة فُصِّلَتْ آية: 53.(1/48)
وَاطِّلَاعُهُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ ذَرَّةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا: وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعِبَادِ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، وَيَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ؟ وَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ أَنْ يُقِرَّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْكَذِبِ، وَيُخْبِرَ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدَهُ وَيُعْلِيَ شَأْنَهُ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَيُهْلِكَ عَدُوَّهُ، وَيُظْهِرَ عَلَى دينه مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ مَا يَعْجِزُ عَنْ مَثَلِهِ قُوَى الْبَشَرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ؟ !
وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقُدْرَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَعِزَّتَهُ وَكَمَالَهُ الْمُقَدَّسَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْخَوَاصِّ، يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَا يَفْعَلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (1) ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَسْتَدِلُّ أَيْضًا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) . وَأَضْعَافُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ قَلِيلٌ سَالِكُهَا، لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ. وَطَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الشَّاهِدَةِ، لِأَنَّهَا أَسْهَلُ تَنَاوُلًا وَأَوْسَعُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَضِّلُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ.
فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَالشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ. قَالَ تَعَالَى لِمَنْ طَلَبَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ:
__________
(1) سورة الْحَاقَّةِ الآيات: 44-47.
(2) سورة الْحَشْرِ آية: 23.(1/49)
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، كَمَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ - فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَسَّمَ التَّوْحِيدَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، وَجَعَلَ هَذَا النَّوْعَ تَوْحِيدَ الْعَامَّةِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ تَوْحِيدَ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ، وَالنَّوْعَ الثَّالِثَ تَوْحِيدًا قَائِمًا بِالْقِدَمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ!
فَإِنَّ أَكْمَلَ النَّاسِ تَوْحِيدًا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ أَكْمَلُ فِي ذَلِكَ، وَأُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَكْمَلُهُمْ تَوْحِيدًا، وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَكْمَلُهُمْ تَوْحِيدًا الْخَلِيلَانِ: مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ، فَإِنَّهُمَا قَامَا مِنَ التَّوْحِيدِ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمَا عِلْمًا، وَمَعْرِفَةً، وَحَالًا، وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ وَجِهَادًا، فَلَا تَوْحِيدَ أَكْمَلُ مِنَ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ، وَجَاهَدُوا الْأُمَمَ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ قَوْمَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَصِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (2) ، فَلَا أَكْمَلَ مِنْ تَوْحِيدِ مَنْ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَقُولُوا: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: التَّوْحِيدُ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا. وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ: هِيَ شَهَادَةُ
__________
(1) سورة الْعَنْكَبُوتِ آية: 51.
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية: 90.(1/50)
"أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَفِطْرَةُ الْإِسْلَامِ: هِيَ مَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ عُبُودِيَّةً وَذُلًّا وَانْقِيادًا وَإِنَابَةً.
فَهَذَا تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، الَّذِي مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وَكُلُّ مَنْ لَهُ حِسٌّ سَلِيمٌ وَعَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ، لا يَحْتَاجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِلَى أَوْضَاعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ وَاصْطِلَاحِهِمْ وَطُرُقِهِمْ الْبَتَّةَ، بَلْ رُبَّمَا يَقَعُ بِسَبَبِهَا فِي شُكُوكٍ وَشُبَهٍ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا الْحَيْرَةُ بِالضَّلَالِ وَالرِّيبَةِ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا سَلِمَ قَلْبُ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ (2) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ مِنَ التَّوْحِيدِ، الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ وَخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي يُشَمِّرُ إِلَيْهِ غَالِبُ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ دَرْبٌ خَطِرٌ، يُفْضِي إِلَى الِاتِّحَادِ، [انْظُرْ إِلَى مَا أَنْشَدَه] (3) شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ يَقُولُ شعرا:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدُ مَنْ [يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ] ... عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ
وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الِاتِّحَادَ، لَكِنْ ذَكَرَ لَفْظًا مُجْمَلًا مُحْتَمَلًا
__________
(1) سورة الْبَقَرَةِ الآيتان: 130- 131.
(2) في الأصل: (لا يصلح) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(3) في الأصل: (الاتحاد، إلى ما أنشد.) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.(1/51)
جَذَبَهُ بِهِ الِاتِّحَادِيُّ إِلَيْهِ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِ إِنَّهُ مَعَهُ، لَوْ سَلَكَ الْأَلْفَاظَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي لَا إِجْمَالَ فِيهَا كَانَ أَحَقَّ، مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَامَ حَوْلَهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبًا مِنَّا لَنَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ، فَإِنَّ عَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، فَأَيْنَ قَالَ الرَّسُولُ هَذَا تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ؟ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى؟ أو أشار إلى هَذِهِ النُّقُولِ وَالْعُقُولُ [حَاضِرَةٌ] (1) .
فَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّسُولِ، وَهَذَا كَلَامُ خَيْرِ الْقُرُونِ بَعْدَ الرَّسُولِ، وَسَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، هَلْ جَاءَ ذِكْرُ الْفَنَاءِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَإِنَّمَا حَصَلَ هَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، الْمُشْبِهِ لِغُلُوِّ الْخَوَارِجِ، بَلْ لِغُلُوِّ النَّصَارَى فِي دِينِهِمْ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَالَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (2) .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، رَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ) .
اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. وَلَكِنَّ لَفْظَ"التَّشْبِيهِ"قَدْ صَارَ فِي كَلَامِ النَّاسِ لَفْظًا مُجْمَلًا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، مِنْ أَنَّ
__________
(1) في الأصل: (خطرة) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(2) سورة المائدة آية: 77.(1/52)
خَصَائِصَ الرَّبِّ - تَعَالَى - لَا يُوصَفُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) ، رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ الْمُشَبِّهَةِ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ، رَدٌّ عَلَى النُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ. فَمَنْ جَعَلَ صِفَاتِ الْخَالِقِ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ، فَهُوَ الْمُشَبِّهُ الْمُبْطِلُ الْمَذْمُومُ، وَمَنْ جَعَلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ مِثْلَ صِفَاتِ الْخَالِقِ، فَهُوَ نَظِيرُ النَّصَارَى فِي كُفْرِهِمْ، وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ شَيْءٌ مِنَ الصِّفَاتِ، فَلَا يُقَالُ: لَهُ قُدْرَةٌ، وَلَا عِلْمٌ، وَلَا حَيَاةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ! وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ: حَيٌّ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَإِرَادَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهُمْ يُوَافِقُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ، حَيٌّ. وَالْمَخْلُوقُ يُقَالُ لَهُ: مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا تَشْبِيهٌ يَجِبُ نَفْيُهُ، وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ عَاقِلٌ. فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءَ، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءَ، وَسَمَّى بِبَعْضِهَا صِفَاتِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْمُسَمَّى كَالْمُسَمِّي، فَسَمَّى نَفْسَهُ: حَيًّا، عَلِيمًا، قَدِيرًا، رءوفًا، رَحِيمًا، عَزِيزًا، حَكِيمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مَلِكًا، مُؤْمِنًا، جَبَّارًا، مُتَكَبِّرًا. وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَقَالَ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (3) ، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (4) ، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (5) ، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (6) ، {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (7) ، {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} (8) ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (9) ، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} (10) ، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى}
__________
(1) سورة الشُّورَى آية: 11.
(2) سورة الشُّورَى آية: 11.
(3) سورة الْأَنْعَامِ آية: 95.
(4) سورة الصَّافَّاتِ آية: 101.
(5) سورة الذَّارِيَاتِ آية: 28.
(6) سورة التَّوْبَةِ آية: 128.
(7) سورة الإنسان آية: 2.
(8) سورة يُوسُفَ آية: 51.
(9) سورة الْكَهْفِ آية: 79.
(10) سورة السَّجْدَةِ آية: 18.(1/53)
{كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (1) . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُ الْحَيُّ الْحَيَّ، وَلَا الْعَلِيمُ الْعَلِيمَ، وَلَا الْعَزِيزُ الْعَزِيزَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (2) ، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (3) ، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (4) ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (5) ، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (6) .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. قَالَ:
وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ
__________
(1) سورة غافر آية: 35.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية: 255.
(3) سورة النِّسَاءِ آية: 166.
(4) سورة فَاطِرٍ آية: 11.
(5) سورة الذَّارِيَاتِ آية: 58.
(6) سورة فصلت آية: 15.(1/54)
الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» . فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صِفَاتِ اللَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَقُوَّةً.
وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} (1) ، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} (2) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ كَالْعِلْمِ، وَلَا الْقُوَّةُ كَالْقُوَّةِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَهَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ.
فَإِنَّ مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، كَالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ! قِيلَ لَهُ: فَأَنْتَ تُثْبِتُ لَهُ الْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ، مَعَ أَنَّ مَا تُثْبِتُهُ لَهُ لَيْسَ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَقُلْ فِيمَا نَفَيْتَهُ وَأَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلَ قَوْلِكَ فِيمَا أَثْبَتَّهُ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أُثْبِتُ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ! قِيلَ لَهُ: فَأَنْتَ تُثْبِتُ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، مِثْلَ: حَيٍّ، عَلِيمٍ، قَدِيرٍ. وَالْعَبْدُ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَيْسَ مَا يَثْبُتُ لِلرَّبِّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مُمَاثِلًا لِمَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ، فَقُلْ فِي صِفَاتِهِ نَظِيرَ قَوْلِكَ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ.
فَإِنْ قَالَ: وَأَنَا لَا أُثْبِتُ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، بَلْ أَقُولُ: هِيَ مَجَازٌ، وَهِيَ أَسْمَاءٌ لِبَعْضِ مُبْتَدَعَاتِهِ، كَقَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ!
قِيلَ لَهُ: فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ حَقٌّ (3) قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَالْجِسْمُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لَهُ.
فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أُثْبِتُ شَيْئًا، بَلْ أُنْكِرُ وُجُودَ الْوَاجِبِ.
قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا غَيْرُ
__________
(1) سورة الرُّومِ آية: 54.
(2) سورة يُوسُفَ آية: 68.
(3) لعله: حي(1/55)
وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَإِمَّا حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِمَّا مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى خَالِقٍ، وَإِمَّا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا مُفْتَقِرٍ إِلَى خَالِقٍ، وَإِمَّا فَقِيرٌ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَإِمَّا غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ. وَغَيْرُ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ، وَالْحَادِثُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَدِيمٍ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَالِقٍ، وَالْفَقِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَنِيٍّ عَنْهُ. فَقَدْ لَزِمَ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ وُجُودُ مَوْجُودٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ خَالِقٍ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ، وَمَا سِوَاهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وُجُودُ مَوْجُودٍ حَادِثٍ كَائِنٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْحَادِثُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ، وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا خَالِقًا لِمَا سِوَاهُ، وَلَا غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ، فَثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ وُجُودُ مَوْجُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ، وَالْآخَرُ مُمْكِنٌ، أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ، وَالْآخَرُ حَادِثٌ، أَحَدُهُمَا غَنِيٌّ، وَالْآخَرُ فَقِيرٌ، أَحَدُهُمَا خَالِقٌ، وَالْآخَرُ مَخْلُوقٌ. وَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا شَيْئًا مَوْجُودًا ثَابِتًا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مُمَاثِلًا لِلْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَمَاثَلَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ، وَأَحَدُهُمَا يَجِبُ قِدَمُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ قِدَمُهُ وَلَا هُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ، وَأَحَدُهُمَا خَالِقٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِخَالِقٍ، وَأَحَدُهُمَا غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْآخَرُ فَقِيرٌ.
فَلَوْ تَمَاثَلَا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبَ الْقِدَمِ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْقِدَمِ، مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ، خَالِقًا لَيْسَ بِخَالِقٍ، غَنِيًّا غَيْرَ غَنِيٍّ، فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَاثُلِهِمَا. فَعُلِمَ أَنَّ تَمَاثُلَهُمَا مُنْتَفٍ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، كَمَا هُوَ مُنْتَفٍ بِنُصُوصِ الشَّرْعِ.
فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ اتِّفَاقُهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ وَجْهٍ. فَمَنْ نَفَى مَا اتَّفَقَا فِيهِ كَانَ مُعَطِّلًا قَائِلًا للْبَاطِلِ، وَمَنْ جَعَلَهُمَا مُتَمَاثِلَيْنِ كَانَ مُشَبِّهًا قَائِلًا للْبَاطِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا فِي مُسَمَّى مَا اتَّفَقَا فِيهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِوُجُودِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَشْرَكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ(1/56)
ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ أَيْضًا مُخْتَصٌّ بِوُجُودِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَارَكَةِ الْعَبْدِ فِي خَصَائِصِهِ.
وَإِذَا اتَّفَقَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَهَذَا الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ يُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْأَعْيَانِ مُخْتَصٌّ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ اضْطَرَبَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ، حَيْثُ تَوَهَّمُوا أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي مُسَمَّى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ الَّذِي لِلرَّبِّ كَالْوُجُودِ الَّذِي لِلْعَبْدِ. وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ لَفْظَ"الْوُجُودِ"يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، وَكَابَرُوا عُقُولَهُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَامَّةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّقْسِيمِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إِلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ، وَقَدِيمٍ وَحَادِثٍ. وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ كَلَفْظِ"الْمُشْتَرِي"الْوَاقِعِ عَلَى الْمُبْتَاعِ وَالْكَوْكَبِ، لَا يَنْقَسِمُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لَفْظُ"الْمُشْتَرِي"يُقَالُ عَلَى كَذَا أَوْ عَلَى كَذَا، وَمثَالُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَصْلُ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ: تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ يَكُونُ مُسَمَّاهَا الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ هُوَ بِعَيْنِهِ ثَابِتًا فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا كُلِيًّا، بَلْ لَا يُوجَدُ إِلَّا مُعَيَّنًا مُخْتَصًّا، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ إِذَا سُمِّيَ اللَّهُ بِهَا كَانَ مُسَمَّاهَا مُخْتَصًّا بِهِ، فَإِذَا سُمِّيَ بِهَا الْعَبْدُ كَانَ مُسَمَّاهَا مُخْتَصًّا بِهِ. فَوُجُودُ اللَّهِ وَحَيَاتُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، بَلْ وُجُودُ هَذَا الْمَوْجُودِ الْمُعَيَّنِ لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَكَيْفَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا هُوَ ذَاكَ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ لَكِنْ بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
وَبِهَذَا وَمِثْلِهِ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ أَخَذُوا هَذَا الْمَعْنَى وَزَادُوا فِيهِ عَلَى الْحَقِّ فَضَلُّوا، وَأَنَّ الْمُعَطِّلَةَ أَخَذُوا نَفْيَ الْمُمَاثَلَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَزَادُوا فِيهِ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى ضَلُّوا، وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ دَلَّ عَلَى الْحَقِّ الْمَحْضِ الَّذِي تَعْقِلُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ(1/57)
الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا انْحِرَافَ فِيهِ. فَالنُّفَاةُ أَحْسَنُوا فِي تَنْزِيهِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّشْبِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنْ أَسَاءوا فِي نَفْيِ الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْمُشَبِّهَةُ أَحْسَنُوا فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ أَسَاءوا بِزِيَادَةِ التَّشْبِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَفْهَمُ الْمَعَانِيَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَيْنَهَا أَوْ مَا يُنَاسِبُ عَيْنَهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَمُشَابَهَةٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَفَهُّمُ الْمُخَاطَبِينَ بِدُونِ هَذَا قَطُّ، حَتَّى فِي أَوَّلِ تَعْلِيمِ مَعَانِي الْكَلَامِ بِتَعْلِيمِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، مِثْلَ تَرْبِيَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُعَلَّمُ الْبَيَانَ وَاللُّغَةَ، يُنْطَقُ لَهُ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ له وَيُشَارُ لَهُ إِلَى مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ مَشْهُودًا بِالْإِحْسَاسِ الظَّاهِرِ [أَوِ] الْبَاطِنِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَبَنٌ، خُبْزٌ، أُمٌّ، أَبٌ، سَمَاءٌ، أَرْضٌ، شَمْسٌ، قَمَرٌ، مَاءٌ، وَيُشَارُ لَهُ مَعَ الْعِبَارَةِ إِلَى كُلِّ مُسَمًّى مِنْ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمُرَادَ النَّاطِقِ بِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعْلِيمِ السَّمْعِيِّ، كَيْفَ وَآدَمُ أَبُو الْبَشَرِ أَوَّلُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ -
تَعَالَى - أُصُولَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَهِيَ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا، وَكَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ بِخِطَابِ الْوَحْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ. فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى هِيَ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ وَأَرَادَهُ، وَإِرَادَتُهُ وَعِنَايَتُهُ فِي قَلْبِهِ، ولَا يُعْرَفُ بِاللَّفْظِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ حَتَّى يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادَ هُوَ الَّذِي يُرَادُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَيُعْنَى بِهِ. فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ ثُمَّ سَمِعَ اللَّفْظَ مَرَّةً ثَانِيَةً، عَرَفَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِلَا إِشَارَةٍ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُحَسُّ بِالْبَاطِنِ، مِثْلِ الْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَ ذَلِكَ حَتَّى يَجِدَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا وَجَدَهُ استنزله إِلَيْهِ، وَعُرِّفَ أَنَّ اسْمَهُ كَذَا، وَالْإِشَارَةُ تَارَةً تَكُونُ إِلَى جُوعِ نَفْسِهِ أَوْ عَطَشِ نَفْسِهِ
، مِثْلَ أَنْ يَرَاهُ أَنَّهُ قَدْ جَاعَ فَيَقُولُ لَهُ: جُعْتَ، أَنْتَ جَائِعٌ، فَيَسْمَعُ اللَّفْظَ وَيَعْلَمُ مَا عَيَّنَهُ بِالْإِشَارَةِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تُعَيِّنُ(1/58)
الْمُرَادَ، مِثْلَ نَظَرِ أُمِّهِ إِلَيْهِ فِي حَالِ جُوعِهِ وَإِدْرَاكِهِ بِنَظَرِهَا أَوْ نَحْوِهِ أَنَّهَا تَعْنِي جُوعَهُ، أَوْ يَسْمَعُهُمْ يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنْ جُوعِ غَيْرِهِ.
وإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْمُخَاطَبُ الْمُتَكَلِّمُ إِذَا أَرَادَ بَيَانَ مَعَانٍ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَدْرَكَهَا الْمُخَاطَبُ الْمُسْتَمِعُ بِإِحْسَاسِهِ وَشُهُودِهِ، أَوْ بِمَعْقُولِهِ، وَإِمَّا [أَنْ] لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَّا إِلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَمَعْنَى التَّرْكِيبِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} (1) ، أَوْ قِيلَ لَهُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهِمَ الْمُخَاطَبُ بِمَا أَدْرَكَهُ بِحِسِّهِ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَعَانِي الَّتِي يُرَادُ تَعْرِيفُهُ بِهَا لَيْسَتْ مِمَّا أَحَسَّهُ وَشَهِدَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا بِحَيْثُ صَارَ لَهُ مَعْقُولٌ كُلِّيٌّ يَتَنَاوَلُهَا حَتَّى يَفْهَمَ بِهِ الْمُرَادَ بِتِلْكَ
الْأَلْفَاظِ، بَلْ هِيَ مِمَّا [لَا] يُدْرِكُهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، فَلَا بُدَّ فِي تَعْرِيفِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْقُولَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي شَاهَدَهَا مِنَ التَّشَابُهِ وَالتَّنَاسُبِ، وَكُلَّمَا كَانَ التَّمْثِيلُ أَقْوَى، كَانَ الْبَيَانُ أَحْسَنَ، وَالْفَهْمُ أَكْمَلَ.
فَالرَّسُولُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا بَيَّنَ لَنَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا، أَتَى بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ مَعَانِيهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ، وَجَعَلَهَا أَسْمَاءَ لَهَا، فَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا خبرنَا بِأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا، أَخَذَ مِنَ اللُّغَةِ الْأَلْفَاظَ الْمُنَاسِبَةَ لِتِلْكَ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ
__________
(1) سورة الْبَلَدِ الآيتان: 8-9.
(2) سورة النَّحْلِ آية: 78.(1/59)
بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ، وَالْمَعَانِي الشُّهُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَهَا، وَقَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُعْلَمُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُرَادِ، كَتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ، كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "النَّاسُ فِي حُجُورِ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي حُجُورِ آبَائِهِمْ".
وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مِمَّا أَدْرَكُوا نَظِيرَهُ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ، كَإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ الرِّيحَ أَهْلَكَتْ عَادًا، فَإِنَّ عَادًا مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالرِّيحَ مِنْ جِنْسِ رِيحِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ أَشَدَّ.
وَكَذَلِكَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ لَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) .
وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَمْ يُدْرِكُوا مِثْلَهُ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَكِنَّ فِي مُفْرَدَاتِهِ مَا يُشْبِهُ مُفْرَدَاتِهِمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا مَعْنًى مُشْتَرَكًا وتَشبيهًا بَيْنَ مُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مما عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْهَدُوهُ بَعْدُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ يَشْهَدُوهُ مُشَاهَدَةً كَامِلَهً لِيَفْهَمُوا بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْغَائِبِ، أَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَفَعَلَ قَوْلًا يَكُونُ حِكَايَةً لَهُ وَشَبَهًا بِهِ، يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ.
فَيَنْبَغِي أَنْ يعْرفَ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ: أَوَّلُهَا: إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ الْمَعَانِيَ الْحِسِّيَّةَ الْمُشَاهَدَةَ. وَثَانِيهَا: عَقْلُهُ لِمَعَانِيهَا الْكُلِّيَّةِ. وَثَالِثُهَا: تَعْرِيفُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ خِطَابٍ. فَإِذَا أَخْبَرْنَا عَنِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِنَا الْمَعَانِيَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ وَالِاشْتِبَاهَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بِتَعْرِيفِنَا الْأُمُورَ الْمَشْهُودَةَ، ثُمَّ
__________
(1) سورة يُوسُفَ آية: 111.(1/60)
إِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا لَمْ نحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْفَارِقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ، وَإِنْ لَمْ تكُنْ مِثْلَهَا، بَيَّنَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ انْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ كَانَتِ الْإِضَافَةُ وَحْدَهَا كَافِيَةً فِي بَيَانِ الْفَارِقِ، وَانْتِفَاءُ التَّسَاوِي لَا يَمْنَعُ مِنْهُ وُجُودُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ قَطُّ.
قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ) .
ش: لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (2) ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (3) ، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (4) ، "لَا يَئُودُهُ"أَيْ: لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَلَا يُعْجِزُهُ، فَهَذَا النَّفْيُ لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ نَفْيٍ يَأْتِي فِي صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (5) ، لِكَمَالِ عَدْلِهِ، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (6) لِكَمَالِ عِلْمِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (7) لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (8) لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (9) ، لِكَمَالِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الصِّرْفُ لَا مَدْحَ فِيهِ، أَلَا ترَى أَنَّ قَوْلَ الشَّاعِر ِ:
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
لَمَّا اقْتَرَنَ بِنَفْيِ الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ وَبَعْدَهُ،
__________
(1) سورة الْبَقَرَةِ آية: 20.
(2) سورة الْكَهْفِ آية: 45.
(3) سورة فَاطِرٍ آية: 44.
(4) سورة الْبَقَرَةِ آية: 255.
(5) سورة الْكَهْفِ آية: 49.
(6) سورة سَبَإٍ آية: 3.
(7) سورة ق آية: 38.
(8) سورة الْبَقَرَةِ آية: 255.
(9) سورة الْأَنْعَامِ آية: 103.(1/61)
وَتَصْغِيرُهُمْ بِقَوْلِهِ: "قُبَيِّلَةٌ"عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَجْزُهُمْ وَضَعْفُهُمْ، لَا كَمَالُ قُدْرَتِهِمْ وَقَوْلُ الْآخَرِ:
لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ... لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا
لَمَّا اقْتَرَنَ بِنَفْيِ الشَّرِّ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّهِمْ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَجْزُهُمْ وَضَعْفُهُمْ أَيْضًا.
وَلِهَذَا يَأْتِي الْإِثْبَاتُ لِلصِّفَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَصَّلًا، وَالنَّفْيُ مُجْمَلًا، عَكْسَ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ، يَقُولُونَ: لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا شَبَحٍ، وَلَا جُثَّةٍ، وَلَا صُورَةٍ، وَلَا دَمٍ، وَلَا لَحْمٍ، وَلَا شَخْصٍ، وَلَا جَوْهَرٍ، وَلَا عَرَضٍ، وَلَا لَوْنٍ، وَلَا رَائِحَةٍ، وَلَا طَعْمٍ، وَلَا بِجثةٍ، وَلَا بِذِي حَرَارَةٍ، وَلَا بُرُودَةٍ، وَلَا رُطُوبَةٍ، وَلَا يُبُوسَةٍ، وَلَا طُولٍ، وَلَا عَرْضٍ، وَلَا عُمْقٍ، وَلَا اجْتِمَاعٍ، وَلَا افْتِرَاقٍ، وَلَا يَتَحَرَّكُ، وَلَا يَسْكُنُ، وَلَا يَتَبَعَّضُ، وَلَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَأَجْزَاءٍ وَجَوَارِحٍ وَأَعْضَاءٍ، وَلَيْسَ بِذِي جِهَاتٍ، وَلَا بِذِي يَمِينٍ وَلَا شِمَالٍ وَأَمَامٍ وَخَلْفٍ وَفَوْقٍ وَتَحْتٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ مَكَانٌ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَمَاسَّةُ وَلَا الْعُزْلَةُ وَلَا الْحُلُولُ فِي الْأَمَاكِنِ، وَلَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِهِمْ، وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَنَاهٍ، وَلَا يُوصَفُ بِمِسَاحَةٍ، وَلَا ذَهَابٍ فِي الْجِهَاتِ، وَلَيْسَ بِمَحْدُودٍ، وَلَا وَالِدٍ وَلَا مَوْلُودٍ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْأَقْدَارُ، وَلَا تَحْجُبُهُ الْأَسْتَارُ إِلَى آخِرِ مَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَهَذَا النَّفْيُ الْمُحددُ مَعَ كَوْنِهِ لَا مَدْحَ فِيهِ، [فِيهِ] إِسَاءَةُ أَدَبٍ، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلسُّلْطَانِ: أَنْتَ لَسْتَ بِزَبَّالٍ وَلَا كَسَّاحٍ وَلَا حَجَّامٍ وَلَا حَائِكٍ! لَأَدَّبَكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَادِحًا إِذَا أَجْمَلْتَ النَّفْيَ فَقُلْتَ: أَنْتَ لَسْتَ مِثْلَ أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ، أَنْتَ أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَشْرَفُ وَأَجَلُّ، فَإِذَا أَجْمَلْتَ فِي النَّفْيِ أَجْمَلْتَ فِي الْأَدَبِ.(1/62)
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْحَقِّ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ سَبِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَالْمُعَطِّلَةُ يُعْرِضُونَ عَمَّا قَالَهُ الشَّارِعُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ مَعَانِيَهَا، وَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ الْمُحْكَمَ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاعْتِمَادُهُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ فَيَجْعَلُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاعْتِمَادُهُ. وَالَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ إِعْرَاضًا جمليا، أَوْ يُبَيِّنُوا حَالَهُ تَفْصِيلًا، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ غَالِبَ عَقَائِدِهِمُ السُّلُوبُ: "لَيْسَ بِكَذَا"، وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَهِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ، وَأَكْثَرُ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مُتَلَقًّى عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا عَنِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي سَلَكَهَا غَيْرُهُمْ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
فَفِي هَذَا الْإِثْبَاتِ مَا يُقَرِّرُ مَعْنَى النَّفْيِ. فَفُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ انْفِرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَهُ صِفَاتٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُهُ الصَّادِقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي» . وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ طَرِيقَتِهِمْ فِي الصِّفَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ"مِنَ النَّفْيِ الْمَذْمُومِ، فَإِنَّ
__________
(1) سورة الشُّورَى آية: 11.(1/63)
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (1) .
فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ عَلَى دَلِيلِ انْتِفَاءِ الْعَجْزِ، وَهُوَ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ إِنَّمَا يَنْشَأ إِمَّا مِنَ الضَّعْفِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا يُرِيدُهُ الْفَاعِلُ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَدْ عُلِمَ بِبَدَايهِ (2) الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، فَانْتَفَى الْعَجْزُ، لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُدْرَةِ مِنَ التَّضَادِّ، وَلِأَنَّ الْعَاجِزَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ: (وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ) .
ش: هَذِهِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الَّتِي دَعَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِاعْتِبَارِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُقْتَضِي لِلْحَصْرِ، فَإِنَّ الْإِثْبَاتَ الْمُجَرَّدَ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ. وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) ، قَالَ بَعْدَهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (4) . فَإِنَّهُ قَدْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلِغَيْرِنَا إِلَهٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (5) .
وَقَدِ اعْتَرَضَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ عَلَى النَّحْوِيِّينَ فِي تَقْدِيرِ الْخَبَرِ فِي {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} - فَقَالُوا: تَقْدِيرُهُ: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: يَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى.
__________
(1) سورة فَاطِرٍ آية: 44.
(2) «بدايه» : جمع بديهة، وأصلها بالهمزة «بدائه» ثم سهلت الهمزة فجعلت ياء.
(3) سورة الْبَقَرَةِ آية: 163.
(4) سورة الْبَقَرَةِ آية: 163.
(5) سورة الْبَقَرَةِ آية: 163.(1/64)
وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ فِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) (1) ، فَقَالَ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ، فَإِنَّ (إِلَهَ) فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ اسْمُ"لَا"، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ خَبَرٍ للْمُبْتَدَأ، وَإِلَّا فَمَا قَالَهُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْإِضْمَارِ فَاسِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يُضْمَرْ يَكُونُ نَفْيًا لِلْمَاهِيَّةِ - فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ هُوَ نَفْيُ الْوُجُودِ، لَا تُتَصَوَّرُ الْمَاهِيَّةُ إِلَّا مَعَ الْوُجُودِ، ولَا فَرْقَ بَيْنَ"لَا مَاهِيَّةَ""لَا وُجُودَ". وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَاهِيَّةً عَارِيَةً عَنِ الْوُجُودِ، و"إِلَّا اللَّهُ"- مَرْفُوعٌ، بَدَلًا مِنْ"إِلَهَ"لَا يَكُونُ خَبَرًا لِـ"لَا"، وَلَا لِلْمُبْتَدَأ. وَذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا ذِكْرَ الْإِعْرَابِ، بَلِ الْمُرَادُ دَفْعُ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ عَلَى النُّحَاةِ فِي ذَلِكَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَهُوَ فَاسِدٌ: فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: "نَفْيَ الْوُجُودِ"لَيْسَ تَقْيِيدًا، لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (2) .
وَلَا يُقَالُ: لَيْسَ قَوْلُهُ: "غَيْرُهُ"كَقَوْلِهِ: "إِلَّا اللَّهُ"لِأَنَّ"غَيْرُ"مُعْرَبٌ بِإِعْرَابِ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ"إِلَّا"فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لِلْخَبَرِ فِيهِمَا وَاحِدًا. فَلِهَذَا ذَكَرْتُ هَذَا الْإِشْكَالَ وَجَوَابَهُ هُنَا.
__________
(1) في الأصل المخطوط «رأي الظمآن» وهو خطأ. والمرسي هذا: هو شرف الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي الأندلسي، «الأديب النحوي المفسر المحدث الفقيه» ، كما وصفه ياقوت. لقيه ياقوت بمصر سنة 624 هـ، وأخبره أن مولده سنة 570هـ، وذكر كثيرًا من مؤلفاته، منها: «تفسير القرآن، سماه: ري الظمآن في تفسير القرآن، كبير جدا، قصد فيه ارتباط الآي بعضها ببعض» . انظر ترجمته في معجم الأدباء 7: 16-18. وتوفي شرف الدين هذا في طريق العريش سنة 655 هـ. وترجمه ابن كثير في التاريخ 13: 197، وابن العماد في الشذرات 5: 269. وهو الذي سمع منه رضي الدين الطبري «صحيح ابن حبان» ، كما أثبتنا ذلك في مقدمة «صحيح ابن حبان» ص: 27. ومما يستغرب من شأنه، ما ذكره ياقوت: أنه «كانت له كتب في البلاد التي يتنقل فيها، بحيث لا يستصحب كتبا في سفره، اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه» . رحمه الله.
(2) سورة مَرْيَمَ آية: 9.(1/65)
قَوْلُهُ: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ) .
ش: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (1) .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ» . فَقَوْلُ الشَّيْخِ: قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ، هُوَ مَعْنَى اسْمِهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ. وَالْعِلْمُ بِثُبُوتِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرَة، فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، فَأنت تُشَاهِدُ حُدُوثَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَحَوَادِثِ الْجَوِّ كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ وَغَيْرُهَا لَيْسَتْ مُمْتَنِعَةً، فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يُوجَدُ، وَلَا وَاجِبَةَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهَا، فَإِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، وَهَذِهِ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ، فَعَدَمُهَا يَنْفِي وُجُودَهَا، وَوُجُودُهَا يَنْفِي امْتِنَاعَهَا، وَمَا كَانَ قَابِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (2) . يَقُولُ سُبْحَانَهُ: أَحَدَثُوا مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ أَمْ هُمْ أَحْدَثُوا أَنْفُسَهُمْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُحْدَثَ لَا يُوجِدُ نَفْسَهُ، فَالْمُمْكِنُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ، بَلْ إِنْ حَصَلَ مَا يُوجِدُهُ، وَإِلَّا كَانَ مَعْدُومًا، وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ بَدَلًا عَنْ عَدَمِهِ، وَعَدَمُهُ بَدَلًا عَنْ وُجُودِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لَازِمٌ [لَهُ] (3) .
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ غَايَةَ مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ مِنَ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ، وَجَدَ الصَّوَابَ مِنْهَا ما يَعُودُ إِلَى بَعْضِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ بِأَوضَحِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِهَا، وَفِي طُرُقِ الْقُرْآنِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ وَالتَّحْقِيقِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة الْحَدِيدِ آية: 3.
(2) سورة الطُّورِ آية: 35.
(3) لم ترد في الأصل، والصواب إثباتها كما في سائر النسخ. ن.
(4) سورة الْفُرْقَانِ آية: 33.(1/66)
وَلَا نَقُولُ: لَا يَنْفَعُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُقَدِّمَاتِ الْخَفِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ: فَإِنَّ الْخَفَاءَ وَالظُّهُورَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِبَعْضِ النَّاسِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ فِي حَالٍ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ أُخْرَى. وَأَيْضًا فَالْمُقَدِّمَاتُ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً فَقَدْ يُسَلِّمُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُنَازِعُ فِيمَا هُوَ أجل مِنْهَا، وَقَدْ تَفْرَحُ النَّفْسُ بِمَا عَلِمَتْهُ بالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ مَا لَا تَفْرَحُ بِمَا عَلِمَتْهُ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ وُجُودِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِطْرِيٌّ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الشُّبَهِ مَا يُخْرِجُهُ إِلَى الطُّرُقِ النَّظَرِيَّةِ.
وَقَدْ أَدْخَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -"الْقَدِيمَ"، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الله تعالى الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْقَدِيمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ: هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا قَدِيمٌ، لِلْعَتِيقِ، وَهَذَا حَدِيثٌ، لِلْجَدِيدِ. وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هَذَا الِاسْمَ إِلَّا فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِهِ، لَا فِيمَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (1) . وَالْعُرْجُونُ الْقَدِيمُ: الَّذِي يَبْقَى إِلَى حِينِ وُجُودِ الْعُرْجُونِ الثَّانِي، فَإِذَا وُجِدَ الْحديثُ قِيلَ لِلْأَوَّلِ: قَدِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (2) ، أَيْ مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} (3) ، فَالْأَقْدَمُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَدِيمِ، وَمِنْهُ: الْقَوْلُ الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} (4) ؛ أَيْ يَتَقَدَّمُهُمْ، وَيُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْفِعْلُ لَازِمًا وَمُتَعَدَّيًا، كَمَا يُقَالُ: أَخذني مَا قَدُمَ وَمَا حَدُثَ، وَيُقَالُ: هَذَا قَدَمَ هَذَا وَهُوَ يَقْدُمُهُ. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَدَمُ قَدَمًا، لِأَنَّهَا تَقْدُمُ بَقِيَّةَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا إِدْخَالُ"الْقَدِيمِ"فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى- فَهُوَ
__________
(1) سورة يس آية: 39
(2) سورة الْأَحْقَافِ آية: 11.
(3) سورة الشُّعَرَاءِ الآيتان: 75-76.
(4) سورة هُودٍ آية: 98.(1/67)
مَشْهُورٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي نَفْسِ التَّقَدُّمِ، فَإِنَّ مَا يقَدَّم عَلَى الْحَوَادِثِ كُلِّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ غَيْرِهِ. لَكِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ مَا يُمْدَحُ بِهِ، وَالتَّقَدُّمُ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقٌ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الْحَوَادِثِ كُلِّهَا، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
وَجَاءَ الشَّرْعُ بِاسْمِهِ"الْأَوَّلِ". وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ"الْقَدِيمِ"؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ آيِلٌ إِلَيْهِ وَتَابِعٌ لَهُ، بِخِلَافِ الْقَدِيمِ. وَاللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
قَوْلُهُ: (لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ) .
ش: إِقْرَارٌ بِدَوَامِ بَقَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (1) .
وَالْفَنَاءُ وَالْبَيْدُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُوَ أَيْضًا مُقَرِّرٌ وَمُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ) .
ش: هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَالْكَافِرُ أَرَادَ الْكُفْرَ. وَقَوْلُهُمْ فَاسِدٌ مَرْدُودٌ، لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمَعْقُولَ الصَّحِيحَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ الْمَشْهُورَةُ، وَسَيَأْتِي لَهَا زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَسُمُّوا"قَدَرِيَّةً"لِإِنْكَارِهِمُ الْقَدَرَ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ الْمُحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ قَدَرِيَّةً أَيْضًا. وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى أَغْلَبُ.
وأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ قَدَرًا - فَهُوَ
__________
(1) سورة الرَّحْمَنِ الآيتان: 26-27.(1/68)
لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا وَلَا يَأْمُرُ بِهَا، بَلْ يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا وَيَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً، فَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَمْ يَحْنَثْ - إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَحَبَّ اللَّهُ - حَنِثَ - إِذَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا.
وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِرَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ: إِرَادَةٌ قَدَرِيَّةٌ كَوْنِيَّةٌ خَلْقِيَّةٌ، وَإِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ.
فَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْكَوْنِيَّةُ هِيَ الْمَشِيئَةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الْحوادث.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (3) . وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ، فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (5) ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (6) ، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (7) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ}
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية: 125.
(2) سورة هُودٍ آية: 34.
(3) سورة الْبَقَرَةِ آية: 253.
(4) سورة الْبَقَرَةِ آية: 185.
(5) سورة النساء آية: 26.
(6) سورة النِّسَاءِ آية: 27.
(7) سورة النِّسَاءِ آية: 28.(1/69)
{اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (1) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2) .
فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّاسِ لِمَنْ يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ: هَذَا يَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، أَيْ: لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ.
وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ إِرَادَةِ الْمُرِيدِ أَنْ يَفْعَلَ، وَبَيْنَ إِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ. فَإِذَا أَرَادَ الْفَاعِلُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُعَلَّقَةٌ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لِفِعْلِ الْغَيْرِ. وَكِلَا النَّوْعَيْنِ مَعْقُولٌ لِلنَّاسِ، وَالْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الثَّانِيَةَ دُونَ الْأُولَى، فَاللَّهُ - تَعَالَى - إِذَا أَمَرَ الْعِبَادَ بِأَمْرٍ فَقَدْ يُرِيدُ إِعَانَةَ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ وَقَدْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُرِيدًا مِنْهُ فِعْلَهُ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَصْلَ النِّزَاعِ فِي أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى -: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ أَمْ لَا؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ الْخَلْقَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ فِعْلَهُ، فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَيَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ فِعْلَهُ، فَجِهَةُ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، غَيْرُ جِهَةِ أَمْرِهِ لِلْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لِلْعَبْدِ أَوْ مَفْسَدَةٌ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ - إِذْ أَمَرَ فِرْعَوْنَ وَأَبَا لَهَبٍ وَغَيْرَهُمَا بِالْإِيمَانِ - كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وما َيُصْلِحُهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا أَمَرَهُمْ أَنْ يُعِينَهُمْ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ وَجْهُ
__________
(1) سورة الْمَائِدَةِ آية: 6.
(2) سورة الْأَحْزَابِ آية: 33.(1/70)
مَفْسَدَةٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ لَهُ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُ لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةً لِلْمَأْمُورِ إِذَا فَعَلَهُ - أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِلْآمِرِ إِذَا فَعَلَهُ هُوَ أَوْ جَعَلَ الْمَأْمُورَ فَاعِلًا لَهُ. فَأَيْنَ جِهَةُ الْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ؟ فَالْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ يَأْمُرُ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ مُرِيدًا النَّصِيحَةَ وَمُبَيِّنًا لِمَا يَنْفَعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَصْلَحَتِي فِي أَنْ آمُرَ بِهِ غَيْرِي وَأَنْصَحَهُ - يَكُونُ مَصْلَحَتِي فِي أَنْ أُعَاوِنَهُ أَنَا عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتِي إِرَادَةَ مَا يُضَادُّهُ. فَجِهَةُ أَمْرِهِ لِغَيْرِهِ نُصْحًا غَيْرُ جِهَةِ فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ.
وَالْقَدَرِيَّةُ تَضْرِبُ مَثَلًا بِمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ أَقْرَبَ إِلَى فِعْلِهِ، كَالْبِشْرِ وَالطَّلَاقَةِ وَتَهْيِئَةِ الْمَسَانِدِ وَالْمَقَاعِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ الْآمِرِ تَعُودُ إِلَى الْأَمْرِ، كَأَمْرِ الْمَلِكِ جُنْدَهُ بِمَا يُؤَيِّدُ مُلْكَهُ، وَأَمْرِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِمَا يُصْلِحُ مُلْكَهُ، وَأَمْرِ الْإِنْسَانِ شَرِيكَهُ (1) بِمَا يُصْلِحُ الْأَمْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ يَرَى الْإِعَانَةَ لِلْمَأْمُورِ مَصْلَحَةً لَهُ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا أَعَانَ الْمَأْمُورَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى إِعَانَتِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، فَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْآمِرَ إِنَّمَا أَمَرَ الْمَأْمُورَ لِمَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، لَا لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَى الْآمِرِ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ، كَالنَّاصِحِ الْمُشِيرِ وقد رأى أَنَّهُ إِذَا أَعَانَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْآمِرِ، وَأَنَّ فِي حُصُولِ مَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ مَضَرَّةً عَلَى الْآمِرِ، مِثْلَ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى وَقَالَ لِمُوسَى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (2) . فَهَذَا مَصْلَحَتُهُ فِي أَنْ يَأْمُرَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْخُرُوجِ،
__________
(1) في المطبوعة: «شركاه» .
(2) سورة الْقَصَصِ آية: 20.(1/71)
لَا فِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَوْ أَعَانَهُ لَضَرَّهُ قَوْمُهُ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَعِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ أَحَدًا عَلَى مَا بِهِ يَصِيرُ فَاعِلًا. وَإِذَا عُلِّلَتْ أَفْعَالُهُ بِالْحِكْمَةِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا. فَلَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْآمِرِ لَهُ حِكْمَةٌ فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ حِكْمَةٌ، بَلْ قَدْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ فِي الْمَخْلُوقِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ أَنْ يَأْمُرَ لِمَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، وَأَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ لِلْآمِرِ أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ - فَإِمْكَانُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّبِّ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ الْحَكِيمِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِأَمْرٍ وَلَا يُعِينَهُ عَلَيْهِ، فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مَعَ حِكْمَتِهِ. فَمَنْ أَمَرَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ خَلْقُهُ وَأَمْرُهُ إِنْشَاءً وَخَلْقًا وَمَحَبَّةً، فَكَانَ مُرَادًا بِجِهَةِ الْخَلْقِ وَمُرَادًا بِجِهَةِ الْأَمْرِ. وَمَنْ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرُهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ خَلْقُهُ، لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعَلُّقِ الْخَلْقِ بِهِ، وَلِحُصُولِ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِخَلْقِ ضِدِّهِ. وَخَلْقُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُنَافِي خَلْقَ الضِّدِّ الْآخَرِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْمَرَضِ - الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ ذُلُّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَدُعَاؤُهُ وَتَوْبَتُهُ وَتَكْفِيرُ خَطَايَاهُ وَيَرِقُّ بِهِ قَلْبُهُ وَيُذْهِبُ عَنْهُ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ وَالْعُدْوَانَ - يُضَادُّ خَلْقَ الصِّحَّةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ مَعَهَا هَذِهِ الْمَصَالِحُ. وَلِذَلِكَ [كَانَ] خَلْقُ ظُلْمِ الظَّالِمِ - الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَظْلُومِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ بِالْمَرَضِ - يُضَادُّ خَلْقَ عَدْلِهِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْمَصَالِحُ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ هُوَ فِي أَنْ يَعْدِلَ.
وَتَفْصِيلُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، تَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا عُقُولُ الْبَشَرِ.
وَالْقَدَرِيَّةُ دَخَلُوا فِي التَّعطِيلِ عَلَى طَرِيقَةٍ فَاسِدَةٍ: مَثَّلُوا اللَّهَ فِيهَا بِخَلْقِهِ، وَلَمْ يُثْبِتُوا حِكْمَةً تَعُودُ إِلَيْهِ.(1/72)
قَوْلُهُ: (لَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ) .
ش: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (1) . قَالَ فِي الصِّحَاحِ: تَوَهَّمْتُ الشَّيْءَ: ظَنَنْتُهُ، وَفَهِمْتُ الشَّيْءَ: عَلِمْتُهُ. فَمُرَادُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَهْمٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمٌ. قِيلَ: الْوَهْمُ مَا يُرْجَى كَوْنُهُ، أَيْ: يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى صيغةِ كَذَا، وَالْفَهْمُ: هُوَ مَا يُحَصِّلُهُ الْعَقْلُ وَيُحِيطُ بِهِ. وَاللَّهُ - تَعَالَى - لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ سُبْحَانَهُ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَحَدٌ، صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (2) . {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) .
قَوْلُهُ: (وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ) .
ش: هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ، الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) . وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الصِّفَاتِ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْبِدَعِ فَمِنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ: لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا خِلَافُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، وَيَقْدِرُ لَا كَقُدْرَتِنَا، وَيَرَى لَا كَرُؤْيَتِنَا. انْتَهَى. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ
__________
(1) سورة طه: 110.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية: 255.
(3) سورة الْحَشْرِ الآيتان: 23-24.
(4) سورة الشُّورَى آية: 11.(1/73)
وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بشيء فَشَبَّهَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ: علامَةُ جَهْمٍ وَأَصْحَابِهِ دَعْوَاهُمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا أُولِعُوا بِهِ مِنَ الْكَذِبِ -: أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ، بَلْ هُمُ الْمُعَطِّلَةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: عَلَامَةُ الْجَهْمِيَّةِ تَسْمِيَتُهُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ مُشَبِّهَةً، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُفَاةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا يُسَمِّي الْمُثْبِتَ لَهَا مُشَبِّهًا، فَمَنْ أَنْكَرَ أَسْمَاءَ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ غَالِيَةِ الزَّنَادِقَةِ، الْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَالُ لَهُ: عَالِمٌ وَلَا قَادِرٌ-: يَزْعُمُ أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ فِي مَعْنَاهُ، وَمَنْ أَثْبَتَ الِاسْمَ وَقَالَ: هُوَ مَجَازٌ، كَغَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ، يَزْعُمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ حَقِيقَةً؛ قَادِرٌ حَقِيقَةً -: فَهُوَ مُشَبِّهٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ الصِّفَاتِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا إِرَادَةٌ - قَالَ لِمَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ: إِنَّهُ مُشَبِّهٌ، وَإِنَّهُ مُجَسِّمٌ. وَلِهَذَا كُتُبُ نُفَاةِ الصِّفَاتِ، مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، كُلُّهَا مَشْحُونَةٌ بِتَسْمِيَةِ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ مُشَبِّهَةً وَمُجَسِّمَةً، وَيَقُولُونَ فِي كُتُبِهِمْ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَسِّمَةِ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ: الْمَالِكِيَّةُ، يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ!! حَتَّى الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ مِنْهُمْ، كَعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ وَقَالَ بِالرُّؤْيَةِ - مُشَبِّهًا. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ قَدْ غَلَبَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَالِبِ الطَّوَائِفِ.
وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورِينَ: أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ نَفْيَ الصِّفَاتِ، وَلَا يَصِفُونَ بِهِ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ. بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، وَيَقْدِرُ لَا كَقُدْرَتِنَا،(1/74)
وَيَرَى لَا كَرُؤْيَتِنَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، فَنَفَى الْمِثْلَ وَأَثْبَتَ الوصف.
وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الصِّفَاتِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسٍ تَمْثِيلِيٍّ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ، وَلَا بِقِيَاسٍ شُمُولِيٍّ يَسْتَوِي أَفْرَادُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثَّلَ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ (2) قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ يَسْتَوِي أَفْرَادُهَا. وَلِهَذَا لَمَّا سَلَكَتْ طَوَائِفُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ - لَمْ يَصِلُوا بِهَا إِلَى الْيَقِينِ، بَلْ تَنَاقَضَتْ أَدِلَّتُهُمْ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّنَاهِي الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ، لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ فَسَادِ أَدِلَّتِهِمْ أَوْ تَكَافيهَا.
وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى، سَوَاءً كَانَ تَمْثِيلًا أَوْ شُمُولًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (3) . مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثبت لِلْمُمْكِنِ أَوْ لِلْمُحْدَثِ، لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهُوَ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْوُجُودِ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لِلْعَدَمِ بِوَجْهٍ -: فَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ. وَكُلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، ثَبَتَ نَوْعُهُ لِلْمَخْلُوقِ وَالْمَرْبُوبِ الْمُدَبَّرِ-: فَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ وَمُدَبِّرِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَ سَلْبَ هَذَا الْكَمَالِ، إِذَا وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ -: فَإِنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ: أَنَّ مِنْ غُلَاةِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ
__________
(1) سورة الشُّورَى آية: 11.
(2) في المطبوعة «بحيث» ، وهو تصحيف واضح.
(3) سورة النَّحْلِ آية: 60.(1/75)
الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ أو الْأَسْمَاءِ، وَيَقُولُونَ: وَاجِبُ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ كَذَا وَلَا يَكُونُ كَذَا - ثُمَّ يَقُولُونَ: أَصْلُ الْفَلْسَفَةِ هِيَ التَّشبيهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَجْعَلُونَ هَذَا غَايَةَ الْحِكْمَةِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ، وَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» ، فَإِذَا كَانُوا يَنْفُونَ الصِّفَاتِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَخَلَّقُ الْعَبْدُ عَلَى زَعْمِهِمْ؟ ! وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَعَالَى، لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، لَكِنَّ الْمُخَالِفَ فِي هَذَا النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةُ وَالِاتِّحَادِيَّةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَنَفْيُ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ، مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: "وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ"، وَالْأَنَامُ: النَّاسُ، وَقِيلَ: كُلُّ ذِي رُوحٍ، وَقِيلَ: الثَّقَلَانِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} (1) يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَيُّومٌ لَا يَنَامُ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (2) . فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {الم} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (4) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (6) . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ» . الْحَدِيثَ.
لَمَّا نَفَى الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ التَّشْبِيهَ - أَشَارَ إِلَى مَا تَقَعُ بِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ - تَعَالَى - دُونَ خَلْقِهِ: فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ؛ لِأَنَّ
__________
(1) سورة الرَّحْمَنِ آية: 10.
(2) سورة الْبَقَرَةِ: 255.
(3) سورة آلِ عِمْرَانَ الآيات: 1-3.
(4) سورة طَه: 111.
(5) سورة الْفُرْقَانِ آية: 58.
(6) سورة غافر آية: 65.(1/76)
صِفَةَ الْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُمْ يَمُوتُونَ. وَمِنْهُ: أَنَّهُ قَيُّومٌ لَا يَنَامُ؛ إِذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِعَدَمِ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ دُونَ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُمْ يَنَامُونَ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَفْيَ التَّشْبِيهِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ الصِّفَاتِ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، لِكَمَالِ ذَاتِهِ. فَالْحَيُّ بِحَيَاةٍ بَاقِيَةٍ لَا يُشْبِهُ الْحَيَّ بِحَيَاةٍ زَائِلَةٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعًا وَلَهْوًا وَلَعِبًا {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (1) . فَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَالْمَنَامِ، وَالْحَيَاةُ الْآخِرَةُ كَالْيَقَظَةِ، وَلَا يُقَالُ: فَهَذِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ كَامِلَةٌ، وَهِيَ لِلْمَخْلُوقِ -: لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَيُّ الَّذِي الْحَيَاةُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهَا، هُوَ الَّذِي وَهَبَ الْمَخْلُوقَ تِلْكَ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ، فَهِيَ دَائِمَةٌ بِإِدَامَةِ اللَّهِ لَهَا، لَا أَنَّ الدَّوَامَ (2) وَصْفٌ لَازِمٌ لَهَا لِذَاتِهَا، بِخِلَافِ حَيَاةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِهِ، فَصِفَاتُ الْخَالِقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، أَعْنِي"الْحَيَّ الْقَيُّومَ"مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ مَعًا فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمَا الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، فَإِنَّهُمَا يَتَضَمَّنَانِ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلَ تَضَمُّنٍ وَأَصْدَقَهُ، وَيَدُلُّ الْقَيُّومُ عَلَى مَعْنَى الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ"الْقَدِيمِ". وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى كَوْنِهِ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ. وَ"الْقَيُّومُ"أَبْلَغُ مِنَ"الْقَيَّامِ"لِأَنَّ الْوَاوَ أَقْوَى مِنَ الْأَلِفِ، وَيُفِيدُ قِيَامَهُ بِنَفْسِهِ، بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَهَلْ تُفِيدُ إِقَامَتَهُ لِغَيْرِهِ وَقِيَامَهُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يُفِيدُ ذَلِكَ. وَهُوَ يُفِيدُ دَوَامَ قِيَامِهِ وَكل قِيَامِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَزُولُ وَلَا يَأْفُلُ، فَإِنَّ الْآفِلَ قَدْ زَالَ قَطْعًا، أَيْ: لَا يَغِيبُ وَلَا يَنْقُصُ وَلَا يَفْنَى وَلَا يُعْدَمُ، بَلْ هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِي
__________
(1) سورة العنكبوت آية: 64.
(2) في المطبوعة «لأن الدوام» ، وهو خطأ ظاهر.(1/77)
الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. وَاقْتِرَانُهُ بِالْحَيِّ يَسْتَلْزِمُ سَائِرَ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا وَدَوَامِهَا، وَانْتِفَاءِ النَّقْصِ وَالْعَدَمِ عَنْهَا أَزَلًا وَأَبَدًا. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) ، أَعْظَمَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَى (2) هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مَدَارُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كُلِّهَا، وَإِلَيْهِمَا تَرْجِعُ مَعَانِيهَا. فَإِنَّ الْحَيَاةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، ولَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا صِفَةٌ مِنْهَا إِلَّا لِضَعْفِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ - تَعَالَى - أَكْمَلَ حَيَاةٍ وَأَتَمَّهَا، اسْتَلْزَمَ إِثْبَاتُهَا إِثْبَاتَ كُلِّ كَمَالٍ يُضَادُّ نَفْيُهُ كَمَالَ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا"الْقَيُّومُ"فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ كَمَالَ غِنَاهُ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ الْقويمُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَلَا قِيَامَ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِإِقَامَتِهِ. فَانْتَظَمَ هَذَانِ الِاسْمَانِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَتَمَّ انْتِظَامٍ.
قَوْلُهُ: (خَالِقٌ بِلَا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلَا مؤنَةٍ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (4) . {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (5) . {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} (6) . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
__________
(1) سورة الْبَقَرَةِ آية: 255.
(2) في المطبوعة «فعلا» ، وهو خطأ.
(3) سورة الذَّارِيَاتِ الآيات: 56، 57، 58.
(4) سورة فَاطِرٍ آية: 15.
(5) سورة مُحَمَّدٍ آية: 38.
(6) سورة الْأَنْعَامِ آية: 14.(1/78)
فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ - مَا نَقَصَ ذَلِكَ عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ: "بِلَا مؤنَةٍ": بِلَا ثِقَلٍ وَلَا كُلْفَةٍ.
قَوْلُهُ: (مُمِيتٌ بِلَا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلَا مَشَقَّةٍ) .
ش: الْمَوْتُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ، خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) . وَالْعَدَمُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَاللَّهُ - تَعَالَى - يَقْلِبُهُ عَيْنًا، كَمَا وَرَدَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ: أَنَّهُ يَأْتِي صَاحِبَهُ فِي صُورَةِ الشَّابِّ الْحَسَنِ، وَالْعَمَلُ الْقَبِيحُ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى صُورَةِ الشَّابِّ الشَّاحِبِ اللَّوْنِ، الْحَدِيثَ. أَيْ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ. وَوَرَدَ فِي الْأَعْمَالِ: أَنَّهَا تُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَالْأَعْيَانُ هِيَ الَّتِي تَقْبَلُ الْوَزْنَ دُونَ الْأَعْرَاضِ. وَوَرَدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ: أَنَّهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلِقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، كَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا، كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا) .
ش: أَيْ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ: صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ وُصِفَ بِصِفَةٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا، لِأَنَّ صِفَاتِهِ - سُبْحَانَهُ - صِفَاتُ كَمَالٍ، وَفَقْدَهَا صِفَةُ نَقْصٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْكَمَالُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّهِ. وَلَا يَرِدُ
__________
(1) سورة الْمُلْكِ آية: 2.(1/79)
عَلَى هَذا صِفَاتُ الْفِعْلِ وَالصِّفَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَنَحْوُهَا، كَالْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالطَّيِّ، وَالِاسْتِوَاءِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ، وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ وَحَقِيقَتَهُ الَّتِي هِيَ تَأْوِيلُهُ، وَلَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، وَلَكِنَّ أَصْلَ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ لَنَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَإِن كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ تَحْدُثُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُدُوثَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ غَيْرُ مُمْتَنَعٍ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَدَث بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ الْيَوْمَ وَكَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْأَمْسِ لَا يُقَالُ: أَنَّهُ حَدَثَ لَهُ الْكَلَامُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ لِآفَةٍ كَالصَّغِيرِ وَالْخَرَسِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ يُقَالُ: حَدَثَ لَهُ الْكَلَامُ، فَالسَّاكِتُ لِغَيْرِ آفَةٍ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِالْقُوَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَفِي حَالِ تَكَلُّمِهِ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِالْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ الْكَاتِبُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ هُوَ كَاتِبٌ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ كَاتِبًا فِي حَالِ عَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ للْكِتَابَةَ.
وَحُلُولُ الْحَوَادِثِ بِالرَّبِّ تَعَالَى، الْمَنْفِيُّ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، لَمْ يَرِدْ نَفْيُهُ وَلَا إِثْبَاتُهُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَفِيهِ إِجْمَالٌ: فَإِنْ أُرِيدَ بِالنَّفْيِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَحِلُّ فِي ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْمُحْدَثَةِ، ولَا يَحْدُثُ لَهُ وَصْفٌ مُتَجَدِّدٌ لَمْ يَكُنْ - فَهَذَا نَفْيٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ إِذَا شَاءَ، وَلَا أَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى، وَلَا يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْإِتْيَانِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ - فَهَذَا نَفْيٌ بَاطِلٌ.
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية: 54، وسورة يونس آية: 3.(1/80)
وَأَهْلُ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ يُطْلِقُونَ نَفْيَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ، فَيُسَلِّمُ السُّنِّيُّ لِلْمُتَكَلِّمِ ذَلِكَ، عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَهُ هَذَا النَّفْيَ أَلْزَمَهُ نَفْيَ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ، وَهُوَ غير لَازِمٍ لَهُ. وَإِنَّمَا أُتِيَ السُّنِّيُّ مِنْ تَسْلِيمِ هَذَا النَّفْيِ الْمُجْمَلِ، وَإِلَّا فَلَوِ اسْتَفْسَرَ وَاسْتَفْصَلَ له لَمْ يَنْقَطِعْ مَعَهُ.
وَكَذَا مَسْأَلَةُ"الصِّفَةِ": هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ لَفْظُهَا مُجْمَلٌ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْغَيْرِ، فِيهِ إِجْمَالٌ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ إِيَّاهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا جَازَ مُفَارَقَتُهُ لَهُ.
وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ أَنَّهُ"غَيْرُهُ"، وَلَا أَنَّهُ"لَيْسَ غَيْرَهُ". لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِثْبَاتِ قَدْ يُشْعِرُ أَنَّ ذَلِكَ مُبَايِنٌ لَهُ، وَإِطْلَاقَ النَّفْيِ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ هُوَ، إِذْ كَانَ لَفْظُ"الْغَيْرِ"فِيهِ إِجْمَالٌ، فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا مَعَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ: فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ هُنَاكَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا مُنْفَصِلَةً عَنِ الصِّفَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا - فَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الصِّفَاتِ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَاهَا غَيْرُ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَى الصِّفَةِ - فَهَذَا حَقٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الصِّفَاتِ، بَلِ الذَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهَا لَا تَنْفَصِلُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَعْرِضُ للذِّهْنُ ذَات وَصِفَة، كُلٌّ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ، فَإِنَّ هَذَا مُحَالٌ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا صِفَةَ الْوُجُودِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْوْجُودِ، وَإِنْ كَانَ الذِّهْنُ يَفْرِضُ ذَاتًا وَوُجُودًا، يَتَصَوَّرُ هَذَا وَحْدَهُ، وَهَذَا وَحْدَهُ، لَكِنْ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي الْخَارِجِ.
وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: الصِّفَةُ لَا عَيْنُ الْمَوْصُوفِ وَلَا غَيْرُهُ. وهَذَا لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ: أَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِ الْمَوْصُوفِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الذِّهْنُ مُجَرَّدَةً بَلْ هِيَ غَيْرُهَا، وَلَيْسَتْ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ، بَلِ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِهِ وَاحِدٌ غَيْرُ(1/81)
مُتَعَدِّدٍ. فَإِذَا قُلْتُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ"، فَقَدْ عُذْتُ بِالذَّاتِ المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الِانْفِصَالَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَإِذَا قُلْت: "أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ"، فَقَدْ عُذْت بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَلَمْ تعُذْ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ"الذَّاتِ"، فَإِنَّ"ذَاتَ"فِي أَصْلِ مَعْنَاهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافَةً، أَيْ: ذَاتُ وُجُودٍ، ذَاتُ قُدْرَةٍ، ذَاتُ عِزٍّ، ذَاتُ عِلْمٍ، ذَاتُ كَرَمٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. فـ"ذَاتُ كَذَا"بِمَعْنَى صَاحِبَةِ كَذَا: تَأْنِيثُ ذُو. هَذَا أَصْلُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ الذَّاتَ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ الصِّفَاتِ عَنْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ الذِّهْنُ قَدْ يَفْرِضُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنِ الصِّفَاتِ، كَمَا يَفْرِضُ الْمُحَالَ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» . وَلَا يَعُوذُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَكَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ» .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمُ: الِاسْمُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ؟ وَطَالَمَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَجَهِلُوا الصَّوَابَ فِيهِ: فَالِاسْمُ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى تَارَةً، وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ أُخْرَى، فَإِذَا قُلْتَ: قَالَ اللَّهُ كَذَا، أَوْ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى نَفْسُهُ، وَإِذَا قُلْتَ: اللَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ، وَالرَّحْمَنُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ، وَالرَّحمن مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَالِاسْمُ هَاهُنَا هُوَ الْمُرَادُ لَا الْمُسَمَّى، وَلَا يُقَالُ غَيْرُهُ، لِمَا فِي لَفْظِ الْغَيْرِ مِنَ الْإِجْمَالِ: فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُغَايَرَةِ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ الْمَعْنَى فَحَقٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَلَا اسْمَ لَهُ، حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ أَسْمَاءً، أَوْ حَتَّى سَمَّاهُ خَلْقُهُ بِأَسْمَاءٍ مِنْ صُنْعِهِمْ - فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ(1/82)
الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: "مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ"إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ - إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ. فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الله - تَعَالَى - صَارَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ صَارَ الْفِعْلُ وَالْكَلَامُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا، وَأَنَّهُ انْقَلَبَ مِنَ الِامْتِنَاعِ الذَّاتِيِّ إِلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ! وابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْفِعْلَ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ.
وَأَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ دَوَامَ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مَبْدَأٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَةٍ، بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعَةٌ! وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَهُوَ حَادِثٌ، وَالْحَادِثُ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدَثًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَالْإِمْكَانُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ، وَمَا مِنْ وَقْتٍ يُقَدَّرُ إِلَّا وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ فِيهِ، فلَيْسَ لِإِمْكَانِ الْفِعْلِ وَجَوَازِهِ وَصِحَّتِهِ مَبْدَأٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْفِعْلُ مُمْكِنًا جَائِزًا صَحِيحًا، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الرَّبُّ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لِأَوَّلِهَا.
قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِمْكَانَ الْحَوَادِثِ لَا بِدَايَةَ لَهُ، لَكِنْ نَقُولُ: إِمْكَانُ الْحَوَادِثِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً بِالْعَدَمِ لَا بِدَايَة لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ عِنْدَنَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ النَّوْعِ، بَلْ يَجِبُ حُدُوثُ نَوْعِهَا وَيَمْتَنِعُ قِدَمُ نَوْعِهَا. لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحُدُوثُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، فَإِمْكَانُ الْحَوَادِثِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً بِالْعَدَمِ لِأَوَّلِهِ، بِخِلَافِ جِنْسِ الْحَوَادِثِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَبْ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ، لَكِنْ يُقَالُ: إِمْكَانُ جِنْسِ الْحَوَادِثِ(1/83)
عِنْدَكُمْ لَهُ بِدَايَةٌ، فَإِنَّهُ صَارَ جِنْسُ الْحُدُوثِ عِنْدَكُمْ مُمْكِنًا، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، وَلَيْسَ لِهَذَا الْإِمْكَانِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ مَا مِنْ وَقْتٍ يُفْرَضُ إِلَّا وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ، فَيَلْزَمُ دَوَامُ الْإِمْكَانِ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ الْجِنْسِ مِنْ الِامْتِنَاعِ إِلَى الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْقِلَابَ حَقِيقَةِ جِنْسِ الْحُدُوثِ، أَوْ جِنْسِ الْحَوَادِثِ، أَوْ جِنْسِ الْفِعْلِ، أَوْ جِنْسِ الإحْدَاثِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ - مِنَ الِامْتِنَاعِ إِلَى الْإِمْكَانِ هُوَ: مُصَيِّرُ ذَلِكَ مُمْكِنًا جَائِزًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبِ تَجَدُّدٍ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَهُوَ أَيْضًا انْقِلَابُ الْجِنْسِ مِنَ الِامْتِنَاعِ الذَّاتِيِّ إِلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ، فَإِنَّ ذَاتَ جِنْسِ الْحَوَادِثِ عِنْدَهُمْ تَصِيرُ مُمْكِنَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً، وَهَذَا الِانْقِلَابُ لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَقْتٍ يُقَدَّرُ إِلَّا وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ هَذَا الِانْقِلَابُ مُمْكِنًا، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْمُمْتَنِعُ مُمْكِنًا! وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قَوْلِنَا: لَمْ يَزَلِ الْحَادِثُ مُمْكِنًا، فَقَدْ لَزِمَهُمْ فِيمَا فَرُّوا إِلَيْهِ أَبْلَغُ مِمَّا لَزِمَهُمْ فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ! فَإِنَّهُ يُعْقَلُ كَوْنُ الْحَادِثِ مُمْكِنًا، وَيُعْقَلُ أَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ لَمْ يَزَلْ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُمْتَنِعِ مُمْكِنًا فَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا قِيلَ: لَمْ يَزَلْ إِمْكَانُ هَذَا الْمُمْتَنِعِ؟ ! وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ نَوْعَ الْحَوَادِثِ هَلْ يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي أَمْ لَا؟ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَطْ؟ أَوِ الْمَاضِي فَقَطْ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ لِأَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَضْعَفُهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ، لَا يُمْكِنُ دَوَامُهَا لَا فِي الْمَاضِي وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي، كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.(1/84)
وَلَا شَكَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْعَالَمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ -تَعَالَى - مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا قَوْلُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ أَنَّ كَوْنَ الْمَفْعُولِ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَعَهُ - مُمْتَنِعٌ مُحَالٌ، وَلَمَّا كَانَ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْآخِرَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَكَذَا تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. فَإِنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَكَلَّمُ إِذَا يَشَاءُ، قَالَ تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (5) .
وَالْمُثْبَتُ إِنَّمَا هُوَ الْكَلام (6) . الْمُمْكِنُ الْوُجُودُ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ النَّوْعُ دَائِمًا فَالْمُمْكِنُ (7) . هُوَ القديم (8) . عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي أَجْزَاءِ الْعَالَمِ شَيْءٌ يُقَارِنُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَأَمَّا دَوَامُ الْفِعْلِ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ فَدَوَامُهُ دَوَامُ الكَمَالٍ.
قَالُوا: وَالتَّسَلْسُلُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، لَمْ يَرِدْ بِنَفْيِهِ وَلَا إِثْبَاتِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، لِيَجِبَ مُرَاعَاةُ لَفْظِهِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى وَاجِبٍ وَمُمْتَنِعٍ وَمُمْكِنٍ: فََالتَّسَلْسُلُ فِي
__________
(1) سورة آلِ عِمْرَانَ آية: 40.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية: 253.
(3) سورة الْبُرُوجِ الآيتان: 15-16.
(4) سورة لُقْمَانَ آية: 27.
(5) سورة الْكَهْفِ آية: 109.
(6) في باقي النسخ «الكمال» . ن.
(7) في باقي النسخ زيادة «وَالْأَكْمَلُ» . ن.
(8) في باقي النسخ «التَّقَدُّمُ» . ن.(1/85)
الْمُؤَثِّرِينَ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اسْتَفَادَ تَأْثِيرَهُ مِمَّا قَبْلَهُ لَا إِلَى غَايَةٍ.
وَالتَّسَلْسُلُ الْوَاجِبُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، مِنْ دَوَامِ أَفْعَالِ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْأَبَدِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا انْقَضَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ نَعِيمٌ أَحْدَثَ لَهُمْ نَعِيمًا آخَرَ لَا نَفَادَ لَهُ، وَكَذَلِكَ التَّسَلْسُلُ فِي أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ طَرَفِ الْأَزَلِ، وَأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَسْبُوقٌ بِفِعْلٍ آخَرَ، فَهَذَا وَاجِبٌ فِي كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَلَمْ تَحْدُثْ لَهُ صِفَةُ الْكَلَامِ فِي وَقْتٍ، وَهَكَذَا أَفْعَالُهُ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ حَيٍّ فَعَّالٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ: الْفِعْلُ، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: الْحَيُّ الْفَعَّالُ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ: كُلُّ حَيٍّ فَعَّالٌ، وَلَمْ يَكُنْ رَبُّنَا - تَعَالَى - قَطُّ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مُعَطَّلًا عَنْ كَمَالِهِ، مِنَ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ.
وَأَمَّا التَّسَلْسُلُ الْمُمْكِنُ: فَالتَّسَلْسُلُ فِي مَفْعُولَاتِهِ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ، كَمَا تَتَسَلْسَلُ فِي طَرَفِ الْأَبَدِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَزَلْ حَيًّا قَادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا، وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَالْفِعْلُ مُمْكِنٌ لَهُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ، وَأَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ مَعَهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَقَدُّمًا لَا أَوَّلَ لَهُ، فَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ أَوَّلُ، وَالْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ - لَا أَوَّلَ لَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْخَالِقُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
قَالُوا: وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى هَذَا فَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَرُدُّهُ وَيَقْضِي بِبُطْلَانِهِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمَا: إِمَّا أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَمْ يَزَلْ وَاقِعًا، وَإِلَّا تَنَاقَضَ تَنَاقُضًا بَيِّنًا، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، لَوْ أَرَادَهُ لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُهُ، بَلْ فَرْضُ إِرَادَتِهِ عِنْدَهُ مُحَالٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُ. وَهَذَا قَوْلٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى(1/86)
مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ - تَعَالَى - لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنِ الْفِعْلِ ثُمَّ فَعَلَ، فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ، بَلْ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو الْمَعَالِي فِي إِرْشَادِهِ وَغَيْرُهُ مِنَ النُّظَّارِ عَلَى التَّسَلْسُلِ فِي الْمَاضِي، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: لَا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا إِلَّا أُعْطِيكَ بَعْدَهُ دِرْهَمًا، كَانَ هَذَا مُمْكِنًا، وَلَوْ قُلْتَ: لَا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا، كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ وَالْمُوَازَنَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، بَلِ الْمُوَازَنَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ تَقُولَ: مَا أَعْطَيْتُكَ دِرْهَمًا إِلَّا أَعْطَيْتُكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا، فَتَجْعَلُ مَاضِيًا قَبْلَ مَاضٍ، كَمَا جَعَلْتَ هُنَاكَ مُسْتَقْبَلًا بَعْدَ مُسْتَقْبَلٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى أُعْطِيَكَ قَبْلَهُ، فَهُوَ نَفْيٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى يَحْصُلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكُونُ قَبْلَهُ (1) . فَقَدْ نَفَى الْمُسْتَقْبَلَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُسْتَقْبَلُ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. أَمَّا نَفْيُ (2) الْمَاضِي حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهُ مَاضٍ، فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ. وَالْعَطَاءُ الْمُسْتَقْبَلُ إيْتَاؤُهُ مِنَ الْمُعْطِي والْمُسْتَقْبل الَّذِي لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ لَا يَكُونُ قَبْلَهُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَإِنَّ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِيمَا يَتَنَاهَى مُمْتَنِعٌ.
قَوْلُهُ: (لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ"الْخَالِق"، وَلَا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ"الْبَارِي") .
ش: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَمْنَعُ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي، وَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ"، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَهْمُ وَأَتْبَاعُهُ، وَقَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لِمَا يَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) في المطبوعة «قبلي» . وهو خطأ.
(2) في المطبوعة «لم ينف» بدل «أما نفي» وهو خطأ، لا يصلح في سياق الكلام.(1/87)
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، مِنَ الْقَائِلِينَ بِحَوَادِثَ لَا آخِرَ لَهَا - فَأَظْهَرُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا، وَالْفِعْلُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يُرِيدُ، كَمَا وَصَفَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، حَيْثُ يَقُولُ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (1) . وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَاقَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِهَذَا الْكَمَالِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (2) وَلما كَانَ مِنْ أَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، لَمْ يَكُنْ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَهُ، فَإِنَّ"مَا"مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ، أَيْ: يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَهَذَا فِي إِرَادَتِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفِعْلِهِ. وَأَمَّا إِرَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ فَتِلْكَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ: فَإِنْ أَرَادَ فِعْلَ الْعَبْدِ وَلَمْ يُرِدْ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَمْ يُوجَدِ الْفِعْلُ، وَإِنْ أَرَادَهُ حَتَّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا (3) وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، وَخَبَّطُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ، لِغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ إِرَادَتِهِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ وَإِرَادَةِ أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِعْلَهُ وَإِرَادَتَهُ مُتَلَازِمَانِ، فَمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فَعَلَ، وَمَا فَعَلَهُ فَقَدْ أَرَادَهُ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ"فَإِنَّهُ يُرِيدُ مَا لَا يَفْعَلُ، وَقَدْ يَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُهُ. فَمَا ثَمَّ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ.
__________
(1) سورة الْبُرُوجِ الآيتان: 15-16.
(2) سورة النَّحْلِ آية: 17.
(3) في الكلام هنا نقص ظاهر. ولعل أصله: «وَإِنْ أَرَادَهُ حَتَّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ (يعينه عليه و) يجعله فاعلا، (وجد الفعل) » .(1/88)
الْخَامِسُ: إِثْبَاتُ إِرَادَاتٍ (1) مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسَبِ الْأَفْعَالِ، وَأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَهُ إِرَادَةٌ تَخُصُّهُ، هَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي الْفِطَرِ، فَشَأْنُهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَلَى الدَّوَامِ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
السَّادِسُ: أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ إِرَادَتُهُ جَازَ فِعْلُهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَنْ يُرِيَ عِبَادَهُ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَتَجَلَّى لَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَيُخَاطِبَهُمْ، وَيَضْحَكَ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ ذَلِكَ عَلَى إخْبَارِ الصَّادِقِ بِهِ، فَإِذَا أمر (2) .، وَكَذَلِكَ (3) مَحْوُ مَا يَشَاءُ، وَإِثْبَاتُ مَا يَشَاءُ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا أَوَّلٌ، يَلْزَمُ مِنْهُ التَّعْطِيلُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ غَيْرَ فَاعِلٍ ثُمَّ صَارَ فَاعِلًا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِدم الْعَالَمِ، لِأَنَّ كل ما سوى الله محدَث مُمْكِنُ الْوُجُودِ، مَوْجُودٌ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْعَدَمُ، وَالْفَقْرُ وَالِاحْتِيَاجُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَازِمٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، غَنِيٌّ لِذَاتِهِ، والغِنى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَازِمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلِلنَّاسِ قَوْلَانِ فِي هَذَا الْعَالَمِ: هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَادَّةٍ أَمْ لَا؟ وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ هَذَا الْعَالَمِ مَا هُوَ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (4) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: «قَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ
__________
(1) في المطبوعة «إرادة» بالإفراد. وهو خطأ.
(2) بياض بالأصل.
(3) في سائر النسخ: (فإذا أَخْبَرَ وَجَبَ التَّصْدِيقُ، وَكَذَلِكَ..) إلخ. ن.
(4) سورة هُودٍ آية: 7.(1/89)
[أَوَّلِ] هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ"، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ؛ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ"، وَفِي لَفْظٍ: "ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» . فَقَوْلُهُ: "كَتَبَ فِي الذِّكْرِ": يَعْنِي اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (1) ؛ يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الذِّكْرِ ذِكْرًا، كَمَا يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الْكِتَابِ كِتَابًا.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ إِخْبَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ مَوْجُودًا وَحْدَهُ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ دَائِمًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ إِحْدَاثَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، فَجِنْسُهَا وَأَعْيَانُهَا مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ، وَأَنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ حَادِثٌ لَا فِي زَمَانٍ، وَأَنَّ اللَّهَ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى حِينِ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ ولا كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ إِخْبَارُهُ عَنْ مَبْدَأ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» . فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ تَقْدِيرَ هَذَا الْعَالَمِ الْمَخْلُوقِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّ عَرْشَ الرَّبِّ - تَعَالَى - كَانَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَاءِ.
دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْيَمَنِ"جِئْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ"، [هُوَ] (2) إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مَشْهُودٍ مَوْجُودٍ، وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ، أَيِ الَّذِي كَوَّنَهُ اللَّهُ
__________
(1) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية: 105.
(2) في الأصل وسائر النسخ: (وهو) ، ولعل الصواب حذف الواو كما أثبتناه من الفتاوى 18 / 215. ن.(1/90)
بِأَمْرِهِ. وَقَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَدْءِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَوْجُودِ، لَا عَنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ عَنْ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ» ، وَقَدْ رُوِيَ (مَعَهُ) ، وَرُوِيَ (غَيْرَهُ) ، وَالْمَجْلِسُ كَانَ وَاحِدًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ أَحَدَ الْأَلْفَاظِ وَالْآخَرَانِ رُوِيَا بِالْمَعْنَى، وَلَفْظُ الْقَبْلِ ثبتَ عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَفِي صحيح مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ» ، الْحَدِيثَ. وَاللَّفْظَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِنَّمَا يَرْوِيهِ بِلَفْظِ الْقَبْلِ، كَالْحُمَيْدِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَابْنِ الْأَثِيرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ تَعَرُّضٌ لِابْتِدَاءِ الْحَوَادِثِ، وَلَا لِأَوَّلِ مَخْلُوقٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَالُ: «"كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ"أَوْ"مَعَهُ"أَوْ"غَيْرَهُ"، "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» . فَأَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْوَاوِ، «وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» رُوِيَ بِالْوَاوِ وَبِثُمَّ، فَظَهَرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِبَدْءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، لَا ابْتِدَاءَ خَلْقِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهِمَا، وَذَكَرَ مَا قَبْلَهُمَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَوُجُودِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِابْتِدَاءِ خَلْقِهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ وَرَدَ بِهَذَا وَهَذَا، فَلَا يُجْزَمُ بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَإِذَا رَجَحَ أَحَدُهُمَا فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَرَادَ الْمَعْنَى الْآخَرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ، فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرِدْ «كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ»(1/91)
مُجَرَّدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ، ولَا يُظَنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِتَعْطِيلِ الرَّبِّ - تَعَالَى - دَائِمًا عَنِ الْفِعْلِ حَتَّى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"كَانَ اللَّهُ وَلم يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ"، أَوْ"مَعَهُ"، أَوْ"غَيْرَهُ"، "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَحْدَهُ لَا مَخْلُوقَ مَعَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» يَرُدُّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ وَهِيَ: «كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» إِمَّا حَالِيَّةٌ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَوْجُودٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ.
قَوْلُهُ: (لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ) .
ش: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ"الرَّبُّ"قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مَرْبُوبٌ، وَمَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ"خَالِقٌ"قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مَخْلُوقٌ.
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الشَّارِحِينَ: وَإِنَّمَا قَالَ: "لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَمَعْنَى الْخَالِقِ"دُونَ"الْخَالِقِيَّةِ"، لِأَنَّ"الْخَالِقَ"هُوَ الْمُخْرِجُ لِلشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ لَا غَيْرُ، وَ"الرَّبُّ"يَقْتَضِي مَعَانِيَ كَثِيرَةً، وَهِيَ: الْمُلْكُ وَالْحِفْظُ وَالتَّدْبِيرُ وَالتَّرْبِيَةُ وَهِيَ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ كَمَالَهُ بِالتَّدْرِيجِ، فَلَا جَرَمَ أَتَى بِلَفْظٍ يَشْمَلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ، وَهِيَ"الرُّبُوبِيَّةُ". انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْخَلْقَ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا، اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ) .
ش: يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ"مُحْيِي الْمَوْتَى"قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ"خَالِقٌ"قَبْلَ خَلْقِهِمْ، إِلْزَامًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.(1/92)
قَوْلُهُ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ شَىْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ إليه يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
ش: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ثُبُوتِ صِفَاتِهِ فِي الْأَزَلِ قَبْلَ خَلْقِهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى (كُلٍّ) وَشُمُولِهَا وَشُمُولِ"كُلٍّ"فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِ مَا يَحْتَفُّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ، يَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ حَرَّفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
فَقَالُوا: إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ، وَأَمَّا نَفْسُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ! وَتَنَازَعُوا: هَلْ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ ! وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالُوا لَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَعْلَمُهُ! وَخَالِقٌ لِكُلِّ مَا يَخْلُقُهُ!
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا. فَسَلَبُوا صِفَةَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي هَذَا. وَأَمَّا الْمُحَالُ لِذَاتِهِ، مِثْلَ كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ، وَلَا يُسَمَّى شَيْئًا، بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: خَلْقُ مِثْلِ نَفْسِهِ، وَإِعْدَامُ نَفْسِهِ! وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَالِ.
وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ الْإِيمَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ التَّامَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِتَمَامِ رُبُوبِيَّتِهِ وَكَمَالِهَا إِلَّا مَنْ آمَنَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ: هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْخَارِجِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
__________
(1) سورة آل عمران آية: 29.(1/93)
مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَكْتُبُهُ، وَقَدْ يَذْكُرُهُ وَيُخْبِرُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1) ، فَيَكُونُ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالْكِتَابِ، لَا فِي الْخَارِجِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) ، [وقَالَ] (3) تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (4) ، أَيْ: لَمْ تَكُنْ شَيْئًا فِي الْخَارِجِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (5) . وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (6) ، رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) ، رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا شبه. فَالْمَخْلُوقُ وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - فَلَيْسَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ كَسَمْعِ الرَّبِّ وَبَصَرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَةِ تَشْبِيهٌ، إِذْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَصِفَاتُ الْخَالِقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ. وَلَا تَنْفي عَنِ اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَمَا وَصَفَهُ بِهِ أَعَرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَأَنْصَحُهُمْ لِأُمَّتِهِ، وَأَفْصَحُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْبَيَانِ. فَإِنَّكَ إِنْ نَفَيْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُنْتَ كَافِرًا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا وَصَفْتَهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَلَا تُشَبِّهْهُ بِخَلْقِهِ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَإِذَا شَبَّهْتَهُ بِخَلْقِهِ كُنْتَ كَافِرًا بِهِ. قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ".
__________
(1) سورة الْحَجِّ آية: 1.
(2) سورة يس آية: 82.
(3) في الأصل: (قال) والصواب ما أثبتناه، كما في أكثر النسخ. ن.
(4) سورة مَرْيَمَ آية: 9.
(5) سورة الإنسان، آية: 1.
(6) سورة الشورى آية: 11.
(7) سورة الشورى آية: 11.(1/94)
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِأَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى، فَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) . فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ مَثَلَ السَّوْءِ - الْمُتَضَمِّنَ لِلْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَسَلْبِ الْكَمَالِ - لِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْثَانِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَثَلَ الْأَعْلَى - الْمُتَضَمِّنَ لِإِثْبَاتِ الْكَمَالِ كُلِّهِ - لِلَّهِ وَحْدَهُ. فَمَنْ سَلَبَ صِفَات الْكَمَالِ عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مَثَلَ السَّوْءِ، وَنَفَى عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ، الْمُتَضَمِّنُ لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ، وَالْمَعَانِي الثُّبُوتِيَّةِ، الَّتِي كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ فِي الْمَوْصُوفِ وَأَكْمَلَ - كَانَ بِهَا أَكْمَلَ وَأَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَلَمَّا كَانَتْ صِفَاتُ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَكْثَرَ وَأَكْمَلَ، كَانَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الْمَثَلِ الْأَعْلَى الْمُطْلَقِ اثْنَانِ، لِأَنَّهُمَا إِنْ تَكَافَآ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَافَآ، فَالْمَوْصُوفُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مِثْلٌ أَوْ نَظِيرٌ.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي"الْمَثَلِ الْأَعْلَى". وَوَفَّقَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ بَعْضُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَهَدَاهُ، فَقَالَ: "الْمَثَلُ الْأَعْلَى"يَتَضَمَّنُ: الصِّفَةَ الْعُلْيَا، وَعِلْمَ الْعَالَمِينَ بِهَا، وَوُجُودَهَا الْعِلْمِيَّ، وَالْخَبَرَ عَنْهَا وَذِكْرَهَا، وَعِبَادَةَ الرَّبِّ - تَعَالَى - بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِ عَابِدِيهِ وَذَاكِرِيهِ.
فَهَاهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ:
ثُبُوتُ الصِّفَاتِ الْعُلْيَا لِلَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سَوَاءً عَلِمَهَا الْعِبَادُ أَوْ لَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا بِالصِّفَةِ.
__________
(1) سورة النَّحْلِ آية: 60.
(2) سورة الرُّومِ آية: 27.(1/95)
الثَّانِي: وُجُودُهَا فِي الْعِلْمِ وَالشُّعُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّهُ مَا فِي قُلُوبِ عَابِدِيهِ وَذَاكِرِيهِ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ أَصْلًا، بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا اخْتَصَّ بِهِ فِي ذَاتِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أن أَهْل السَّمَاوَاتِ يحبونه ويُعَظِّمُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَشْرَكَ بِهِ مَنْ أَشْرَكَ، وَعَصَاهُ مَنْ عَصَاهُ، وَجَحَدَ صِفَاتِهِ مَنْ جَحَدَهَا، فَأَهْلُ الْأَرْضِ مُعَظِّمُونَ لَهُ، مُجِلُّونَ، خَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ، مُسْتَكِينُونَ لِعِزَّتِهِ وَجَبَرُوتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (1) .
الثَّالِثُ: ذِكْرُ صِفَاتِهِ وَالْخَبَرُ عَنْهَا وَتَنزهُهَا مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالتَّمْثِيلِ.
الرَّابِعُ: مَحَبَّةُ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَتَوْحِيدُهُ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ أَكْمَلَ كَانَ هَذَا الْحُبُّ وَالْإِخْلَاصُ أَقْوَى.
فَعِبَارَاتُ السَّلَفِ كُلُّهَا تَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ. فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يُعَارِضُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (2) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) .؟ وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4) عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَيَعْمَى عَنْ تَمَامِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) حَتَّى أَفْضَى هَذَا الضَّلَالُ بِبَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤادَ الْقَاضِي، إِلَى أَنْ أَشَارَ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمَأْمُونِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، حَرَّفَ كَلَامَ اللَّهِ بنْفِي وَصْفَهُ -تَعَالَى - بِأَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ!! كَمَا قَالَ الضَّالُّ
__________
(1) سورة الرُّومِ آية: 26.
(2) سورة الرُّومِ آية: 27.
(3) سورة الشورى آية: 11.
(4) سورة الشورى آية: 11.
(5) سورة الشُّورَى آية: 11.(1/96)
الْآخَرُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ: وَدِدْتُ أَنِّي أَحُكُّ مِنَ الْمُصْحَفِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ أَنْ يُثَبِّتَنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَفِي إِعْرَابِ كَمِثْلِهِ - وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَافَ صِلَةٌ زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ ... خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الْفَضَائِلِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَا إِنْ كَمِثْلِهِمُ فِي النَّاسِ مِنْ بَشَرِ ...
وَقَالَ آخَرُ:
وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ ...
فَيَكُونُ (مِثْلِهِ) خَبَرَ لَيْسَ وَاسْمُهَا شَيْءٌ. وَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ، تَعْرِفُ الْعَرَبُ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهَا، وَلَا يَخْفَى عَنْهَا إِذَا خُوطِبَتْ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْعَرَبِ أَيْضًا زِيَادَةُ الْكَافِ لِلتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ:
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنَ ... (2)
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ...
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّائِدَ (مِثْلِ) أَيْ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِثْلَ اسْمٌ وَالْقَوْلُ بِزِيَادَةِ الْحَرْفِ لِلتَّأْكِيدِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الِاسْمِ.
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 54، وسورة يونس آية 3.
(2) رجز لحطام المجاشعي، كما في اللسان (ثفا) . والصاليات: الحجارة المحترقة و (يؤثفين) : بضم الياء وسكون الهمزة وفتح الثاء المثلثة والفاء وسكون الياء والنون. قال في اللسان: «جاء به على الأصل ضرورة. ولولا ذلك لقال: يثفين. قال الأزهري: أراد يثفين، من أثفى يثفى، فلما اضطره بناء الشعر رده إلى الأصل، فقال يؤثفين، لأنك إذا قلت: أفعل يفعل - علمت أنه كان في الأصل يؤفعل، فحذفت الهمزة لثقلها، كما حذفوا ألف رأيت من: أرى، وكان في الأصل: أرأى، فكذلك من: يرى، وترى، ونرى. الأصل فيها: يرأى، وترأى، ونرأى. فإذا جاز طرح همزتها وهي أصلية - كانت همزة يؤفعل أولى بجواز الطرح، لأنها ليست من بناء الكلمة في الأصل» . و «أثفى القدر» : جعلها على الأثافي، وهي التي تنصب وتجعل القدر عليها.(1/97)
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ زِيَادَةٌ أَصْلًا، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ: أَنْتَ لَا تَفْعَلُهُ، وَأَتَى بِمِثْلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَالُوا فِي مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ هُنَا: أَيْ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ مِثْلٌ لَوْ فُرِضَ الْمِثْلُ، فَكَيْفَ وَلَا مِثْلَ لَهُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
قَوْلُهُ: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ) .
ش خَلَقَ: أَيْ: أَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَأَبْدَعَ. وَيَأْتِي خَلَقَ أَيْضًا بِمَعْنَى: قَدَّرَ. وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَقَوْلُهُ: (بِعِلْمِهِ) فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: خَلَقَهُمْ عَالِمًا بِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (2) . وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَلِيسُهُ، فِي كِتَابِ الْحَيْدَةِ، الَّذِي حَكَى فِيهِ مُنَاظَرَتَهُ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ عِنْدَ الْمَأْمُونِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى: فَقَالَ بِشْرٌ: أَقُولُ: لَا يَجْهَلُ، فَجَعَلَ يُكَرِّرُ السُّؤَالَ عَنْ صِفَةِ الْعِلْمِ، تَقْرِيرًا لَهُ، وَبِشْرٌ يَقُولُ: لَا يَجْهَلُ، وَلَا يَعْتَرِفُ لَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ، فَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: نَفْيُ الْجَهْلِ لَا يَكُونُ صِفَةَ مَدْحٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةَ لَا تَجْهَلُ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْعِلْمِ، لَا بِنَفْيِ الْجَهْلِ. فَمَنْ أَثْبَتَ الْعِلْمَ فَقَدْ نَفَى الْجَهْلَ، وَمَنْ نَفَى الْجَهْلَ لَمْ يُثْبِتِ الْعِلْمَ، وَعَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُثْبِتُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، وَيَنْفُوا مَا نَفَاهُ، وَيُمْسِكُوا عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ.
__________
(1) سورة الْمُلْكِ آية 14.
(2) سورة الْأَنْعَامِ الآيتان 59-60.(1/98)
وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى: أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إِيجَادُهُ الْأَشْيَاءَ مَعَ الْجَهْلِ، وَلِأَنَّ إِيجَادَهُ الْأَشْيَاءَ بِإِرَادَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ الْمُرَادِ، وَتَصَوُّرُ الْمُرَادِ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ، فَكَانَ الْإِيجَادُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْعِلْمِ، فَالْإِيجَادُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ. وَلِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ لَهَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ عَالِمٌ، وَالْعِلْمُ صِفَةُ كَمَالٍ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَكُونُ الْخَالِقُ عَالِمًا. وَهَذَا لَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَالِقَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ أَكْمَلُ مِنَ الْمُمْكِنِ، وَنَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَالِمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ
عَالِمٍ - كَانَ الْعَالِمُ أَكْمَلَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْخَالِقُ عَالِمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُمْكِنُ أَكْمَلَ مِنْهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: كُلُّ عِلْمٍ فِي الْمُمْكِنَاتِ، الَّتِي هِيَ الْمَخْلُوقَاتُ - فَهُوَ مِنْهُ، وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْكَمَالِ وَمُبْدِعُهُ عَارِيًا مِنْهُ بَلْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَلَا يَسْتَوِي هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ، لَا فِي قِيَاسٍ تَمْثِيلِيٍّ، وَلَا فِي قِيَاسٍ شُمُولِيٍّ، بَلْ كُلُّ مَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ بِهِ أَحَقُّ، وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ مَا فَتَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْهُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (4) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
__________
(1) سورة الْفُرْقَانِ آية 2.
(2) سورة الْقَمَرِ آية 49.
(3) سورة الْأَحْزَابِ آية 38.
(4) سورة الْأَعْلَى الآيتان 2-3.(1/99)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» .
قَوْلُهُ: (وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالًا) .
ش يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّرَ آجَالَ الْخَلَائِقِ، بِحَيْثُ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (2) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ سَأَلَتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ أَجَلِهِ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ أَجَلِهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ-: كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» .
فَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ وَقَضَى أَنَّ هَذَا يَمُوتُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَهَذَا بِسَبَبِ الْقَتْلِ، وَهَذَا بِسَبَبِ الْهَدْمِ، وَهَذَا بِسَبَبِ الْحَرْقِ، وَهَذَا بِالْغَرَقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، وَخَلَقَ سَبَبَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ.
وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْمَقْتُولُ مَقْطُوعٌ عَلَيْهِ أَجَلُهُ، وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ إِلَى أَجَلِهِ فَكَأَنَّ لَهُ أَجَلَانِ وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ أَجَلًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، أَوْ يَجْعَلُ أَجَلَهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، كَفِعْلِ الْجَاهِلِ بِالْعَوَاقِبِ، وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ، لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَمُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ الْمَحْظُورَ.
__________
(1) سورة الأعراف آية 34 والنحل آية 61.
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 145.(1/100)
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ» أَيْ: سَبَبُ طُولِ الْعُمُرِ. وَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا يَصِلُ رَحِمَهُ فَيَعِيشُ بِهَذَا السَّبَبِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَلَكِنْ قَدَّرَ هَذَا السَّبَبَ وَقَضَاهُ، وَكَذَلِكَ قَدَّرَ أَنَّ هَذَا يَقْطَعُ رَحِمَهُ فَيَعِيشُ إِلَى كَذَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْقَتْلِ وَعَدَمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَلْزَمُ مِنْ تَأْثِيرِ صِلَةِ الرَّحِمِ فِي زِيَادَةِ الْعُمُرِ وَنُقْصَانِهِ تَأْثِيرُ الدُّعَاءِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «قَدْ سَأَلَتِ اللَّهَ تَعَالَى لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ» الْحَدِيثَ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْأَعْمَارَ مُقَدَّرَةٌ، لَمْ يُشْرَعِ الدُّعَاءُ بِتَغَيُّرِهَا، بِخِلَافِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَإِنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ لَهُ نَافِعٌ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِتَغْيِيرِ الْعُمُرِ لَمَّا تَضَمَّنَ النَّفْعَ الْأُخْرَوِيَّ - شُرِعَ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» ، إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» .
وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ مَشْرُوعَا نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ. وَكَذَلِكَ لَا يُجِيبُ اللَّهُ الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِطُولِ الْعُمُرِ، وَيَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ.(1/101)
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (1) ، فَقَدْ قِيلَ فِي الضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ عُمُرِهِ} أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، وَحُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) ، عَلَى أَنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} . اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ، ثُمَّ قَالَ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، أَيْ: أَصْلُهُ، وَهُوَ
اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَيَنْسَخُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَنْسَخُهُ، وَالسِّيَاقُ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْتِي بِالْآيَاتِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (3) ، أَيْ: إِنَّ الشَّرَائِعَ لَهَا أَجَلٌ وَغَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا، ثُمَّ تُنْسَخُ بِالشَّرِيعَةِ الْأُخْرَى، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ. وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ) .
__________
(1) سورة فَاطِرٍ آية 11.
(2) سورة الرَّعْدِ الآيتان 38-39.
(3) سورة الرَّعْدِ الآيتان 38-39(1/102)
ش: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (1) وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ، وَلَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (2) وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ وَيُوجِدَهُ. وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ، وَسَيَأْتِي لَهَا زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ) .
ش: ذَكَرَ الشَّيْخُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، بَعْدَ ذِكْرِهِ الْخَلْقَ وَالْقَدَرَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4) .
قَوْلُهُ: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ، إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) .
ش قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (5) وَقَالَ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (6) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (7) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} (8) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (9) وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا}
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 28.
(2) سورة الْأَنْفَالِ آية 23.
(3) سورة الذَّارِيَاتِ آية 56.
(4) سورة الْمُلْكِ آية 2
(5) سورة الإنسان آية 30.
(6) سورة التَّكْوِيرِ آية 29.
(7) سورة الْأَنْعَامِ آية111.
(8) سورة الْأَنْعَامِ: 112.
(9) سورة يُونُسَ آية 99.(1/103)
{حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1) وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَكَيْفَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ! وَمَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا وَأَكْفَرُ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ شَاءَ الْكُفْرَ فَغَلَبَتْ مَشِيئَةُ الْكَافِرِ مَشِيئَةَ اللَّهِ!! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (4) ، الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} (5) ، الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (6) فَقَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ جَعَلُوا الشِّرْكَ كَائِنًا مِنْهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ ذَمَّ إِبْلِيسَ حَيْثُ أَضَافَ الْإِغْوَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (7)
قِيلَ: قَدْ أُجِيبَ عَلَى هَذَا بِأَجْوِبَةٍ، مِنْ أَحْسَنِهَا: أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِمَشِيئَتِهِ عَلَى رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ، وَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ ذَلِكَ وَسَخِطَهُ لَمَا شَاءَهُ، فَجَعَلُوا مَشِيئَتَهُ دَلِيلَ رِضَاهُ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. أَوْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرِهِ بِهِ. أَوْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُعَارَضَةَ شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَجَعَلُوا الْمَشِيئَةَ
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 125.
(2) سورة هُودٍ آية 34.
(3) سورة الْأَنْعَامِ آية 39.
(4) سورة الْأَنْعَامِ آية 148.
(5) سورة النَّحْلِ آية 35.
(6) سورة الزُّخْرُفِ آية20.
(7) سورة الْحِجْرِ آية 39.(1/104)
الْعَامَّةَ دَافِعَةً لِلْأَمْرِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَشِيئَةَ عَلَى جِهَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهَا مُعَارِضِينَ بِهَا لِأَمْرِهِ، دَافِعِينَ بِهَا لِشَرْعِهِ، كَفِعْلِ الزَّنَادِقَةِ، وَالْجُهَّالِ إِذَا أُمِرُوا أَوْ نُهُوا احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ. "وَقَدِ احْتَجَّ سَارِقٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: وَأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ". يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1) فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُمُ التَّكْذِيبُ، فَهُوَ مِنْ قَبْلِ الْفِعْلِ، مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ؟ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ؟!
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يَقُولُونَ فِي احْتِجَاجِ آدَمَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالْقَدَرِ، إِذْ قَالَ لَهُ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا؟ وَشَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ آدَمَ حَجَّ مُوسَى، أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ؟ قِيلَ: نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، لِصِحَّتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَتَلَقَّاهُ بِالرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ لِرَاوِيهِ، كَمَا فَعَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةِ. بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ بِرَبِّهِ وَذَنْبِهِ، بَلْ آحَادُ بَنِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَبِيهِ وَبِذَنْبِهِ مِنْ أَنْ يَلُومَ آدَمَ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ، وَإِنَّمَا
وَقَعَ اللَّوْمُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَخْرَجَتْ أَوْلَادَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَاحْتَجَّ آدَمُ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، لَا عَلَى الْخَطِيئَةِ، فَإِنَّ الْقَدَرَ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، لَا عِنْدَ الْمَعَائِبِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ. فَمَا قُدِّرَ مِنَ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ، وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ. فَيَتُوبَ مِنَ الْمَعَائِبِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا}
__________
(1) سورة يُونُس آية 39.
(2) سورة غافر آية 55.(1/105)
{وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (1)
وَأَمَّا قَوْلُ إِبْلِيسَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (2) ، إِنَّمَا ذُمَّ عَلَى احْتِجَاجِهِ بِالْقَدَرِ، لَا عَلَى اعْتِرَافِهِ بِالْمُقَدَّرِ وَإِثْبَاتِهِ لَهُ. أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ ... وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ قَالَ: نَظَرْتُ فِي الْقَدَرِ فَتَحَيَّرْتُ، ثُمَّ نَظَرْتُ فِيهِ فَتَحَيَّرْتُ، وَوَجَدْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقَدَرِ أَكَفَّهُمْ عَنْهُ، وَأَجْهَلَ النَّاسِ بِالْقَدَرِ أَنْطَقَهُمْ بِهِ.
قَوْلُهُ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا. وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا) .
ش: هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ فِعْلِ الْأَصْلَحِ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْهُدَى مِنَ اللَّهِ: بَيَانُ طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالْإِضْلَالُ: تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ ضَالًّا، أَوْ حُكْمُهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّلَالِ عِنْدَ خَلْقِ الْعَبْدِ الضَّلَالَ فِي نَفْسِهِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ: أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (4) وَلَوْ كَانَ الْهُدَى بَيَانُ الطَّرِيقِ - لَمَا صَحَّ هَذَا النَّفْيُ عَنْ نَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الطَّرِيقَ لِمَنْ أَحَبَّ وَأَبْغَضَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (5) {يُضِلُّ}
__________
(1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ آيَة 120.
(2) سورة الحجر آية 39.
(3) سُورَةُ هُودٍ آيَة 34.
(4) سُورَةُ الْقَصَصِ آيَة 56.
(5) سُورَةُ السَّجْدَةِ آيَة 13.(1/106)
{اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) وَلَوْ كَانَ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ الْبَيَانُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ- لَمَا صَحَّ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (2) وَقَوْلُهُ {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3)
قَوْلُهُ: (وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ، بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ) .
ش: فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (4) فَمَنْ هَدَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ فَبِفَضْلِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَبِعَدْلِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْكَلَامَ فِي الْقَدَرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ فَرَّقَهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ) .
ش: الضِّدُّ: الْمُخَالِفُ، وَالنِّدُّ: الْمِثْلُ. فَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ، بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا مِثْلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ - إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ.
قَوْلُهُ: (لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا غَالِبَ لِأَمْرِهِ) .
ش: أَيْ: لَا يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ رَادٌّ، وَلَا يُعَقِّبُ، أَيْ لَا يُؤَخِّرُ حُكْمَهُ، مُؤَخِّرٌ، وَلَا يَغْلِبُ أَمْرَهُ غَالِبٌ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
قَوْلُهُ: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِهِ)
__________
(1) سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ آيَةُ 31.
(2) سورة الصَّافَّاتِ آيَةُ57.
(3) سُورَةُ الْأَنْعَامِ آية 39.
(4) سُورَةُ التَّغَابُنِ آيَة 2.
(5) سُورَةُ الْإِخْلَاصِ آيَة 4.(1/107)
ش: أَمَّا الْإِيمَانُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِيقَانُ: الِاسْتِقْرَارُ، مِنْ يَقِنَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ إِذَا اسْتَقَرَّ. وَالتَّنْوِينُ فِي (كُلًّا) بَدَلُ الْإِضَافَةِ، أَيْ: كُلُّ كَائِنٍ مُحْدَثٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) .
ش: الِاصْطِفَاءُ وَالِاجْتِبَاءُ وَالِارْتِضَاءُ: مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالُهُ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ، فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ الْعَبْدِ فِي أَشْرَفِ الْمَقَامَاتِ، فَقَالَ فِي ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (3) وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (4) وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (5) وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٌ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. فَحَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مُحَمَّدًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ. لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْمُولُ الْقَوْلِ، أَعْنِي: قَوْلَهُ (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ) .
__________
(1) سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ آيَة 26.
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية 1.
(3) سُورَةُ الْجِنِّ آيَة 19.
(4) سُورَةُ النَّجْمِ آيَة 10.
(5) سُورَةُ الْبَقَرَةِ آيَة 23.(1/108)
وَالطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ، تَقْرِيرُ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْمُعْجِزَاتِ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ نُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ رُوُيَ (1) ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُضْطَرِبَةٍ، وَالْتَزَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنْكَارَ خَرْقِ الْعَادَاتِ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى أَنْكَرُوا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالسِّحْرِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ إِنَّمَا يَدَّعِيهَا أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ أَوْ أَكْذَبُ الْكَاذِبِينَ، وَلَا يَلْتَبِسُ هَذَا بِهَذَا إِلَّا عَلَى أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ. بَلْ قَرَائِنُ أَحْوَالِهِمَا تُعْرِبُ عَنْهُمَا، وَتُعَرِّفُ بِهِمَا (2) ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِيمَا دُونَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، فَكَيْفَ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ؟ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالْخَبَرِ
وَمَا مِنْ أَحَدٍ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنَ الْكَذَّابِينَ إِلَّا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَاسْتِحْوَاذِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِ - مَا ظَهَرَ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ. فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِأُمُورٍ وَيَأْمُرَهُمْ بِأُمُورٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ أُمُورًا [يُبَيِّنُ بِهَا صِدْقَهُ] . وَالْكَاذِبُ يَظْهَرُ (3) فِي نَفْسِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ وَمَا يَفْعَلُهُ مَا يَبِينُ بِهِ كَذِبُهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَالصَّادِقُ ضِدُّهُ. بَلْ كُلُّ شَخْصَيْنِ ادَّعَيَا أَمْرًا: أَحَدُهُمَا صَادِقٌ وَالْآخَرُ كَاذِبٌ - لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ صِدْقُ هَذَا وَكَذِبُ هَذَا وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ، إِذِ الصِّدْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبِرِّ، وَالْكَذِبُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفُجُورِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ
__________
(1) هَكَذَا وَرَدَ فِي الْأَصْلِ، وفي النسخ الأخرى: وقرروا. ن.
(2) في المطبوعة: «بل قرائن أحوالها تعرب عنهما، وتعرب بها» وسياق الكلام يدل على أن الصواب ما أثبتنا.
(3) في المطبوعة «ينظر» : ولا معنى لها هنا.(1/109)
وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» . (1) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (2) . فَالْكُهَّانُ وَنَحْوُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَحْيَانًا يُخْبِرُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِيَّاتِ، وَيَكُونُ صِدْقًا - فَمَعَهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي يُخْبِرُونَ بِهِ لَيْسَ عَنْ مَلَكٍ، وَلَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلِهَذَا «لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صَيَّادٍ: قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَقَالَ: هُوَ الدُّخُّ - قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ يَعْنِي: إِنَّمَا أَنْتَ كَاهِنٌ» . وَقَدْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. وَقَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ عَرْشُ الشَّيْطَانِ وَبَيَّنَ أَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، وَالْغَاوِي: الَّذِي يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضِرًّا لَهُ فِي الْعَاقِبَةِ.
فَمَنْ عَرَفَ الرَّسُولَ وَصِدْقَهُ وَوَفَاءَهُ وَمُطَابَقَةَ قَوْلِهِ لِعَمَلِهِ (3) - عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَلَا كَاهِنٍ.
وَالنَّاسُ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى فِي الْمُدَّعِي
__________
(1) الزيادتان ثابتتان 2: 289، وكان في المطبوعة (ولا يزال) في الموضعين، وأثبتنا ما في مسلم أيضًا، لأن الرواية التي نقلها المؤلف أقرب الألفاظ إلى رواية مسلم، من طريق وكيع وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش. وكذلك رواه أحمد: 4108، عن وكيع وأبي معاوية، بنحوه. وقد تساهل المؤلف في نسبة الحديث بهذا اللفظ للصحيحين. لأن البخاري إنما روى بعضه بنحو معناه مختصرًا من طريق آخر. ولعله تبع في ذلك المنذري في الترغيب والترهيب 4: 26- 27، فقد تساهل أيضًا ونسبه للبخاري. انظر فتح الباري 10: 422- 423.
(2) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ الْآيَات 221-226.
(3) في المطبوعة (لعلمه) وهو خطأ.(1/110)
لِلصِّنَاعَاتِ وَالْمَقَالَاتِ، كَمَنْ يَدَّعِي الْفِلَاحَةَ وَالنِّسَاجَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَعِلْمَ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْفِقْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالنُّبُوَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّسُولُ بِهَا، وَهِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُ الْأَعْمَالِ. فَكَيْفَ يَشْتَبِهُ الصَّادِقُ فِيهَا بِالْكَاذِبِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ: قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ رِضَى الرَّجُلِ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ وَفَرَحَهُ وَحُزْنَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ، بِأُمُورٍ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ، قَدْ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (1) ثُمَّ قَالَ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . وَقَدْ قِيلَ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.
فَإِذَا كَانَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَكَذِبُهُ يُعْلَمُ بِمَا يَقْتَرِنُ مِنَ الْقَرَائِنِ، فَكَيْفَ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، كَيْفَ يَخْفَى صِدْقُ هَذَا مِنْ كَذِبِهِ؟ وَكَيْفَ لَا يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَاذِبِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ؟
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَعْلَمُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الصَّادِقُ الْبَارُّ، قَالَ لَهَا لَمَّا جَاءَهُ الْوَحْيُ: «إِنِّي قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي (2) ، فَقَالَتْ: كَلَّا - وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقِرِّي الضَّيْفَ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» . فَهُوَ لَمْ يَخَفْ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لَهُ عَارِضُ سُوءٍ، وَهُوَ الْمَقَامُ الثَّانِي، فَذَكَرَتْ خَدِيجَةُ مَا يَنْفِي هَذَا، وَهُوَ مَا كَانَ مَجْبُولًا عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
__________
(1) سُورَةُ مُحَمَّدٍ آيَة 30.
(2) في المطبوعة «على عقلي» ! وهو خطأ فاحش، لعله من الناسخ، بل هو كلام غير معقول، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا. بل إن بعض العلماء فسر خشيته على نفسه، في هذا الحديث، بأنه خشي الجنون! واستنكره الحافظ في الفتح 1: 23، قال وأبطله أبو بكر بن العربي، وحق له أن يبطل «.(1/111)
وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ أَنَّ مَنْ جَبَلَهُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَنَزَّهَهُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ: فَإِنَّهُ لَا يُخْزِيهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّجَاشِيُّ لَمَّا اسْتَخْبَرَهُمْ عَمَّا يُخْبِرُ بِهِ وَاسْتَقْرَأَهُمُ الْقُرْآنَ فَقَرَؤُوا عَلَيْهِ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ وَرَقَةُ ابْنُ نَوْفَلٍ، لَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَآهُ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ مَا يَقُولُ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى فَقَالَ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى.
وَكَذَلِكَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، طَلَبَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ قَدِمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ، وَأَمَرَ الْبَاقِينَ إِنْ كَذَبَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ، فَصَارُوا بِسُكُوتِهِمْ مُوَافِقِينَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ، سَأَلَهُمْ: هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَقَالُوا: لَا، قَالَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَقَالُوا: لَا، وَسَأَلَهُمْ: أَهْوَ ذُو نَسَبٍ فِيكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَقَالُوا: لَا، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا، وَسَأَلَهُمْ: هَلِ اتَّبَعَهُ ضُعَفَاءُ النَّاسِ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَذَكَرُوا أَنَّ الضُّعَفَاءَ اتَّبَعُوهُ؟ وَسَأَلَهُمْ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سُخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقَالُوا: لَا، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَسَأَلَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ؟ فَقَالُوا: يُدَالُ عَلَيْنَا مَرَّةً وَنُدَالُ عَلَيْهِ أُخْرَى، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَسَأَلَهُمْ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَقَالُوا: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. وَهَذِهِ أَكْثَرُ مِنْ(1/112)
عَشْرِ مَسَائِلَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَقَالَ: سَأَلْتُكُمْ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، قُلْتُ: لَوْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكُمْ هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِيكُمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكُمْ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكُمْ أَضُعَفَاءُ النَّاسِ يَتْبَعُونَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتُمْ: ضُعَفَاؤُهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، يَعْنِي فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَسَأَلْتُكُمْ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَقُلْتُمْ، بَلْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكُمْ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سُخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُةُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ، فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْكَشِفَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، فَيَرْجِعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَيَمْتَنِعَ عَنْهُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَالْكَذِبُ لَا يَرُوجُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْكَشِفُ.
وَسَأَلْتُكُمْ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُمْ: إِنَّهَا دُوَلٌ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَهَا، قَالَ: وَسَأَلْتُكُمْ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَهُوَ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِعَادَةِ الرُّسُلِ وَسُنَّةِ اللَّهِ فِيهِمْ أَنَّهُ تَارَةً يَنْصُرُهُمْ وَتَارَةً يَبْتَلِيهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَغْدِرُونَ - عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ عَلَامَاتُ الرُّسُلِ، وَأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا(1/113)
لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» .
وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ مَا فِي إِدَالَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْحِكْمَةِ فَقَالَ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ، الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الم} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) ، الْآيَاتِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ وَحِكْمَتِهِ الَّتِي بَهَرَتِ الْعُقُولَ.
قَالَ: وَسَأَلْتُكُمْ عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ؟ فَذَكَرْتُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.
وَكَانَ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كَافِرٌ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بُغْضًا وَعَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي وَنَحْنُ خُرُوجٌ، لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لَيُعَظِّمُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ وَأَنَا كَارِهٌ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ: أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ، قَدْ لَا يَسْتَقِلُّ بَعْضُهَا بِهِ، بَلْ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ - مِنْ شِبَعٍ وَرِيٍّ (3) وَشُكْرٍ وَفَرَحٍ وَغَمٍّ -
__________
(1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ آيَة 139.
(2) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ الآيتان 1-2.
(3) في الأصل: (شفيع ووزير) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.(1/114)
فَأُمُورٌ مُجْتَمِعَةٌ، لَا يَحْصُلُ بِبَعْضِهَا، لَكِنْ بِبَعْضِهَا قَدْ يَحْصُلُ بَعْضُ الْأَمْرِ. (1)
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِخَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُحَصِّلُ لِلْقَلْبِ نَوْعَ ظَنٍّ، ثُمَّ الْآخَرُ يُقَوِّيهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعِلْمِ، حَتَّى يَتَزَايَدَ وَيَقْوَى. وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْقَى فِي الْعَالَمِ الْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ بِأَنْبِيَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمَا فَعَلَهُ بِمُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، كَثُبُوتِ الطُّوفَانِ، وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا بَعْدَ نَبِيٍّ، فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، كَقِصَّةِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ، يَقُولُ فِي آخِرِ كُلِّ قِصَّةٍ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (2)
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا اتَّبَعُوهُمْ، وَأَنَّ أَقْوَامًا خَالَفُوهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ نَصَرَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَعَاقَبَ أَعْدَاءَهُمْ: هُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْعُلُومِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَجْلَاهَا. وَنَقْلُ أَخْبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنْ نَقْلِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ مِنَ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَعُلَمَاءِ الطِّبِّ، كَبُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ وَبَطْلَيْمُوسَ وَسُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ.
وَنَحْنُ الْيَوْمَ إِذَا عَلِمْنَا بِالتَّوَاتُرِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْلِيَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ - عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ عَلَى الْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا الْأُمَمَ بِمَا سَيَكُونُ مِنِ انْتِصَارِهِمْ وَخِذْلَانِ أُولَئِكَ وَبَقَاءِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ. وَمِنْهَا: مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ نَصْرِهِمْ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، إِذَا عُرِفَ الْوَجْهُ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ، - كَغَرَقِ فِرْعَوْنَ وَغَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ وَبَقِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ - عُرِفَ صِدْقُ الرُّسُلِ.
__________
(1) كذلك جاءت هذه الفقرة في المطبوعة! ولم نستطع تصحيحها.
(2) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ الآيتان 121-122.(1/115)
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهَا، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَذَّابٍ جَاهِلٍ، وَأَنَّ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَدَلَالَةِ الْخَلْقِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُمْ -مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَاحِمٍ بَرٍّ يَقْصِدُ غَايَةَ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلْخَلْقِ.
وَلِذِكْرِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا النَّاسُ بِمُصَنَّفَاتٍ، كَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ.
بَلْ إِنْكَارُ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعْنٌ فِي الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَنِسْبَتُهُ لَهُ إِلَى الظُّلْمِ وَالسَّفَهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ جَحْدٌ لِلرَّبِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْكَارٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ صَادِقٍ، بَلْ مَلِكٌ ظَالِمٌ، فَقَدْ تَهَيَّأَ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ وَيَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَمِرَّ حَتَّى يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَيَفْرِضَ الْفَرَائِضَ، وَيُشَرِّعَ الشَّرَائِعَ، وَيَنْسَخَ الْمِلَلَ، وَيَضْرِبَ الرِّقَابَ، وَيَقْتُلَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ، وَيَسْبِيَ نِسَاءَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَيَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْتَحَ الْأَرْضَ، وَيَنْسِبَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُشَاهِدُهُ وَهُوَ يَفْعَلُ بِأَهْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَيُعْلِي أَمْرَهُ، وَيُمَكِّنُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُ، وَيَرْفَعُ لَهُ ذِكْرَهُ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَأَبْطَلَ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَبَدَّلَهَا وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَهُ، وَاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقْطَعُ مِنْهُ الْوَتِينَ. فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا صَانِعَ لِلْعَالَمِ(1/116)
وَلَا مُدَبِّرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبِّرٌ قَدِيرٌ حَكِيمٌ، لَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَابَلَهُ أَعْظَمَ مُقَابَلَةٍ، وَجَعَلَهُ نَكَالًا لِلصَّالِحِينَ. إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَظْهَرَ دَعْوَتَهُ وَالشَّهَادَةَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَذَّابِينَ قَامَ فِي الْوُجُودِ، وَظَهَرَتْ لَهُ شَوْكَةٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، بَلْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَقَطَعُوا دَابِرَهُ وَاسْتَأْصَلُوهُ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى إِنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} (1) أَفَلَا تَرَاهُ يُخْبِرُ أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (2) وَهُنَا انْتَهَى جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ: أَنَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (3) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْإِرْسَالَ وَالْكَلَامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فُرُوقًا بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، وَأَحْسَنُهَا. أَنَّ مَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، إِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، فَهُوَ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، فَهُوَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَسُولٍ. فَالرَّسُولُ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا، وَلَكِنَّ الرِّسَالَةَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، فَالنُّبُوَّةُ جُزْءٌ مِنَ الرِّسَالَةِ، إِذِ الرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا، بِخِلَافِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. فَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا.
__________
(1) سُورَةُ الطُّورِ الآيتان 30-31.
(2) سورة الشُّورَى آية 24.
(3) سورة الْأَنْعَامِ آية 91.(1/117)
وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَخُصُوصًا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ) .
ش قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بِنَاؤُهُ، وَتُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ، فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ، إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، لَا يَعِيبُونَ سِوَاهَا، فَكُنْتُ أَنَا سَدَدْتُ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِيَ الْبُنْيَانُ وَخُتِمَ بِيَ الرُّسُلُ» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (4) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي، يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ، الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ، الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ
__________
(1) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 164.
(2) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية 107.
(3) سُورَةُ الْأَحْزَابِ آيَة 40.
(4) كتب مصححوا الطبعة السلفية، استدراكًا في آخر الكتاب، على هذا الموضع، نصه: قد اطلعنا في الصحيحين، كما نبه الشارح - على مظان الحديث، فوجدنا أنه روي بعدة وجوه، ليس فيها ما ذكره الشارح، ومما هو في البخاري في باب خاتم النبيين؛ ما نصه: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية. فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» .(1/118)
الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» .
قَوْلُهُ: (وَإِمَامُ الْأَتْقِيَاءِ) .
ش هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْإِمَامُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، أَيْ: يَقْتَدُونَ بِهِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) وَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ فَهُوَ مِنَ الْأَتْقِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ) .
ش قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي أَوَّلِ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» .
فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِسَاقِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي هَلْ أَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ؟» خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» .
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ قَالَ يَهُودِيٌّ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَلَطَمَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ: أَتَقُولُ هَذَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ فَجَاءَ الْيَهُودِيُّ فَاشْتَكَى مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَطَمَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 31.(1/119)
الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَهَوَى النَّفْسِ كَانَ مَذْمُومًا، بَلْ نَفْسُ الْجِهَادِ إِذَا قَاتَلَ الرَّجُلُ حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً كَانَ مَذْمُومًا، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْفَخْرَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (2) فَعُلِمَ أَنَّ الْمَذْمُومَ إِنَّمَا هُوَ التَّفْضِيلُ عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الِانْتِقَاصِ بِالْمَفْضُولِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ، إِنْ كَانَ ثَابِتًا، فَإِنَّ هَذَا قَدْ رُوِيَ فِي نَفْسِ حَدِيثِ مُوسَى، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: إَنَّ فِيهِ عِلَّةً، بِخِلَافِ حَدِيثِ مُوسَى، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ لَا عِلَّةَ فِيهِ بِاتِّفَاقِهِمْ.
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى» ، وَقَوْلَهُ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ الْخَاصِّ، أَيْ: لَا يُفَضَّلُ بَعْضُ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» فَإِنَّهُ تَفْضِيلٌ عَامٌّ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَهَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ: فُلَانٌ أَفْضَلُ أَهْلِ الْبَلَدِ، لَا يَصْعُبُ عَلَى أَفْرَادِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْكَ. ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ الطَّحَاوِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَجَابَ بِهَذَا الْجَوَابِ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ، وَأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ قَالَ: لَا يُفَسِّرُ لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى يُعْطَى مَالًا جَزِيلًا، فَلَمَّا أَعْطَوْهُ فَسَّرَهُ بِأَنَّ قُرْبَ يُونُسَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ كَقُرْبِي مِنَ اللَّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَعَدُّوا هَذَا تَفْسِيرًا عَظِيمًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَبِكَلَامِ رَسُولِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 55.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية 253.(1/120)
اللَّفْظِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ قَالَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ» . وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَ نَفْسَهُ عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، لَيْسَ فِيهِ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُفَضِّلُوا مُحَمَّدًا عَلَى يُونُسَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، أَيْ: فَاعِلٌ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) فَقَدْ يَقَعُ فِي نَفْسِ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ يُونُسَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، إِذْ لَا يَفْعَلُ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَمَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدَ كَذَبَ، بَلْ كُلُّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ يَقُولُ مَا قَالَ يُونُسُ: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) ، كَمَا قَالَ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ وَآخِرُهُمْ، فَأَوَّلُهُمْ: آدَمُ، قَدْ قَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وَآخِرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ، مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، بَعْدَ قَوْلِهِ (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) إِلَى آخِرِهِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفَتْ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَكَذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4) وَأَيْضًا: فَيُونُسُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ فِيهِ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (5) ، فَنُهِيَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِ، وَأَمَرَهُ
__________
(1) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية 87.
(2) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية 87.
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 23.
(4) سورة الْقَصَصِ آية 16.
(5) سورة الْقَلَمِ آية 48.(1/121)
بِالتَّشَبُّهِ بِأُولِي الْعَزْمِ حَيْثُ قِيلَ لَهُ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (1) ، فَقَدْ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ: وَلَيْسَ لِلْأَفْضَلِ أَنْ يَفْخَرَ عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» . فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى أَنْ يُفْخَرَ عَلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ؟ فَلِهَذَا قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . فَهَذَا نَهْيٌ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَيَفْتَخِرَ عَلَى يُونُسَ. وَقَوْلُهُ: «مَنْ قَالَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ» ، فَإنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَصِيرُ نَقْصًا، فَيَكُونُ كَاذِبًا، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ، بَلْ هُوَ تَقْدِيرٌ مُطْلَقٌ، أَيْ: مَنْ قَالَ هَذَا فَهُوَ كَاذِبٌ، وَإِنْ
كَانَ لَا يَقُولُهُ نَبِيٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (2) ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا مِنَ الشِّرْكِ، لَكِنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ لِبَيَانِ مَقَادِيرِ الْأَعْمَالِ.
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، لِأَنَّا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ إِلَّا بِخَبَرِهِ، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يُخْبِرُنَا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَنَا هُوَ بِفَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ وَلَا فَخْرَ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ. وَهَلْ يَقُولُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنَّ مَقَامَ الَّذِي أُسْرِيَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ مُقَرَّبٌ مُعَظَّمٌ مُكَرَّمٌ - كَمَقَامِ الَّذِي أُلْقِيَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَهُوَ مُلِيمٌ؟! وَأَيْنَ الْمُعَظَّمُ الْمُقَرَّبُ مِنَ الْمُمْتَحَنِ الْمُؤَدَّبِ؟! فَهَذَا فِي غَايَةِ التَّقْرِيبِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّأْدِيبِ. فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّفِ لِلَفْظٍ لَمْ يَقُلْهُ الرَّسُولُ، وَهَلْ يُقَاوِمُ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الْقَطْعِيَّةَ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى
__________
(1) سورة الْأَحْقَافِ آية 35.
(2) سورة الزُّمَرِ آية 65.(1/122)
خَلْقِهِ، الَّتِي تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ دَلِيلٍ، كَمَا يَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
ش: ثَبَتَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمَحَبَّةِ، وَهِيَ الْخُلَّةُ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَقَالَ: وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ» . وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ وَهُمَا يُبْطِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْمَحَبَّةُ لِمُحَمَّدٍ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ حَبِيبُهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ» . وَالْمَحَبَّةُ قَدْ ثَبَتَتْ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (1) . {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) .
فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ خَصَّ الْخُلَّةَ بِإِبْرَاهِيمَ وَالْمَحَبَّةَ بِمُحَمَّدٍ، بَلِ الْخُلَّةُ خَاصَّةٌ بِهِمَا، وَالْمَحَبَّةُ عَامَّةٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الَّذِي فِيهِ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ» : لَمْ يَثْبُتْ (3) .
وَالْمَحَبَّةُ مَرَاتِبُ:
أَوَّلُهَا: الْعَلَاقَةُ، وَهِيَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. وَالثَّانِيَةُ: الْإِرَادَةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَطَلَبُهُ لَهُ. الثَّالِثَةُ: الصَّبَابَةُ، وَهِيَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ، كَانْصِبَابِ الْمَاءِ فِي الْحُدُورِ.
الرَّابِعَةُ: الْغَرَامُ، وَهِيَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ، لِمُلَازَمَتِهِ، وَمِنْهُ:
__________
(1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ الآيتان 134و76.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية 222.
(3) هذا جزء من حديث طويل، رواه الدارمي في سننه 1 / 26، عن عبيد الله بن عبد المجيد، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواه الترمذي 4 / 294-295، عن علي بن نصر بن علي الجهضمي، عن عبيد الله بن عبد المجيد. بهذا الإسناد، وقال: «هذا حديث غريب» . وحق للشارح رحمه الله أن يقول هنا إنه «لم يثبت» - لأن زمعة بن صالح راويه: ضعيف.(1/123)
{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (1) الْخَامِسَةُ: الْمَوَدَّةُ، وَالْوُدُّ، وَهِيَ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ وَخَالِصُهَا وَلُبُّهَا، قَالَ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (2) . السَّادِسَةُ: الشَّغَفُ، وَهِيَ وُصُولُ الْمَحَبَّةِ إِلَى شَغَافِ الْقَلْبِ. السَّابِعَةُ: الْعِشْقُ: وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ، وَلَكِنْ لَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى وَلَا الْعَبْدُ فِي مَحَبَّةِ رَبِّهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْمَنْعِ، فَقِيلَ: عَدَمُ التَّوْقِيفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ امْتِنَاعَ إِطْلَاقِهِ: أَنَّ الْعِشْقَ مَحَبَّةٌ مَعَ شَهْوَةٍ. الثَّامِنَةُ: التَّيْمُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعَبُّدِ (3) . التَّاسِعَةُ: التَّعَبُّدُ. الْعَاشِرَةُ: الْخُلَّةُ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ الْمُحِبِّ وَقَلْبَهُ. وَقِيلَ فِي تَرْتِيبِهَا
غَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ تَقْرِيبٌ حَسَنٌ، يُعْرَفُ حُسْنُهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ هُوَ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بِالْإِرَادَةِ وَالْوُدِّ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ، حَسْبَمَا وَرَدَ النَّصُّ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ، نَحْوَ ثَلَاثِينَ قَوْلًا. وَلَا تُحَدُّ الْمَحَبَّةُ بِحَدٍّ أَوْضَحَ مِنْهَا، فَالْحُدُودُ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا خَفَاءً. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْوَاضِحَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَحْدِيدٍ، كَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ (4) فَغَيٌّ وَهَوًى) .
ش لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، عُلِمَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى بَعْدَهُ النُّبُوَّةَ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَلَا يُقَالُ: فَلَوْ جَاءَ الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ وَالْبَرَاهِينِ الصَّادِقَةِ كَيْفَ يُقَالُ بِتَكْذِيبِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجَدَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ فَرْضِ
__________
(1) سورة الْفُرْقَانِ آية 65.
(2) سورة مَرْيَمَ آية 96.
(3) التيم بفتح التاء وسكون الياء. وفي المطبوعة «التقسيم» وهو خلط.
(4) في المطبوعة «دعوة» وهو خطأ واضح.(1/124)
الْمُحَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَأْتِيَ مُدَّعٍ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَلَا يُظْهِرُ إِمَارَةَ كَذِبِهِ فِي دَعْوَاهُ. وَالْغَيُّ: ضِدُّ الرَّشَادِ. وَالْهَوَى: عِبَارَةٌ عَنْ شَهْوَةِ النَّفْسِ. أَيْ: أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَى بِسَبَبِ هَوَى النَّفْسِ، لَا عَنْ دَلِيلٍ، فَتَكُونُ بَاطِلَةً.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ) .
ش: أَمَّا كَوْنُهُ مَبْعُوثًا إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْجِنِّ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (1) وَكَذَا سُورَةُ الْجِنِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَبْلَهُ. وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (2) ، وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمِنَ الْجِنِّ نُذُرٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْجِنِّ: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (3) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنِّ رُسُلًا، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ، وَهِيَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَقَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (4) وَالْمُرَادُ: مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مَبْعُوثًا إِلَى كَافَّةِ الْوَرَى، فَقَدْ قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ}
__________
(1) سورة الْأَحْقَافِ آية 31.
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية 130.
(3) سورة الْأَحْقَافِ آية 30.
(4) سورة الرَّحْمَنِ آية 22.
(5) سورة سَبَإٍ آية 28.(1/125)
{اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) أَيْ: وَأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (3) وَقَالَ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (4) ، الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (5) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} (6) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْمَعُ بِي رَجُلٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ النَّصَارَى أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً: فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا صَدَّقُوا بِالرِّسَالَةِ لَزِمَهُمْ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَالرَّسُولُ لَا يَكْذِبُ، فَلَزِمَ تَصْدِيقُهُ حَتْمًا، فَقَدْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَبَعَثَ كُتُبَهُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ وَالْمُقَوْقِسِ وَسَائِرِ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ.
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 128.
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية 19.
(3) سورة النِّسَاءِ آية 39.
(4) سورة يُونُسَ آية 2.
(5) سورة الْفُرْقَانِ آية 1.
(6) سورة آلِ عِمْرَانَ آية20.(1/126)
وَقَوْلُهُ: (وَكَافَّةِ الْوَرَى) فِي جَرِّ (كَافَّةِ) نَظَرٌ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ تُسْتَعْمَلْ كَافَّةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا حَالًا، وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (1) ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْنَاكَ وَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: إِلَّا كَافًّا لِلنَّاسِ عَنِ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: هِيَ مَصْدَرُ كَفَّ (2) ، فَهِيَ بِمَعْنَى كَفًّا أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُفَّ النَّاسَ كَفًّا، وَوُقُوعُ الْمَصْدَرِ حَالًا كَثِيرٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا حَالٌ مِنَ النَّاسِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ حَالَ الْمَجْرُورِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنِ الْعَرَبِ كَثِيرًا فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِلنَّاسِ كَافَّةً. الثَّالِثُ: أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِرْسَالَةً كَافَّةً. وَاعْتُرِضَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا لَمْ تُسْتَعْمَلْ إِلَّا حَالًا.
وَقَوْلُهُ: (بِالْحَقِّ وَالْهُدَى وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ) . هَذِهِ أَوْصَافُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ. وَالضِّيَاءُ: أَكْمَلُ مِنَ النُّورِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (3) .
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ. فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ
__________
(1) سورة سَبَإٍ آية 28.
(2) في المطبوعة "فيه" بدل "فهي"! ولا يستقيم بها سياق الكلام.
(3) سورة يُونُسَ آية 5.(1/127)
ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (1) - فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (2) عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ) .
ش: هَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ، وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، ضَلَّ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُمَا، وَشَهِدَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ الَّتِي لَمْ تُغَيَّرْ بِالشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ.
وَقَدْ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ مَعَانِي، إِمَّا مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الصَّابِئَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ، هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّهِ كَانَ تَوْرَاةً، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ أَزَلِيَّةٌ مُجْتَمِعَةٌ فِي الْأَزَلِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، لَكِنْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّ كَلَامَهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُحْدِثُهُ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ، وَهَذَا يَقُولُهُ صَاحِبُ الْمُعْتَبَرِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ.
__________
(1) سورة الْمُدَّثِّرِ آية 26.
(2) سورة الْمُدَّثِّرِ آية 25.(1/128)
وَسَابِعُهَا: أَنَّ كَلَامَهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى قَائِمًا بِذَاتِهِ هُوَ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ.
وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ وَبَيْنَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَصْوَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ، وَأَنَّ نَوْعَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ قَدِيمًا، وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.
وَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ) . إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ) ثُمَّ قَالَ: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) . وَكَسْرُ هَمْزَةِ إِنَّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهَا مَعْمُولُ الْقَوْلِ، أَعْنِي قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ) .
وَقَوْلُهُ: (كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا) : -رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآَنَ لَمْ يَبْدُ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ، قَالُوا: وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ! وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ.
فَإِنَّ الْمُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَانٍ وَأَعْيَانٌ، فَإِضَافَةُ الْأَعْيَانِ إِلَى اللَّهِ لِلتَّشْرِيفِ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ، كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، بِخِلَافِ إِضَافَةِ الْمَعَانِي، كَعِلْمِ اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَجَلَالِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَكَلَامِهِ، وَحَيَاتِهِ، وَعُلُوِّهِ، وَقَهْرِهِ - فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَخْلُوقًا.
وَالْوَصْفُ بِالتَّكَلُّمِ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَضِدُّهُ مِنْ أَوْصَافِ النَّقْصِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا}(1/129)
{أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} (1) فَكَانَ عُبَّادُ الْعِجْلِ - مَعَ كُفْرِهِمْ - أَعْرَفَ بِاللَّهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِمُوسَى: وَرَبُّكَ لَا يَتَكَلَّمُ أَيْضًا. وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْعِجْلِ أَيْضًا: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} (2) فَعُلِمَ أَنَّ نَفْيَ رُجُوعِ الْقَوْلِ وَنَفْيَ التَّكَلُّمِ نَقْصٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ أُلُوهِيَّةِ الْعِجْلِ.
وَغَايَةُ شُبْهَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَلْزَمُ مِنْهُ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا قُلْنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ انْتَفَتْ شُبْهَتُهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} (3) فَنَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ تَتَكَلَّمُ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (4) وَكَذَلِكَ تَسْبِيحُ الْحَصَا وَالطَّعَامِ، وَسَلَامُ الْحَجَرِ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا فَمٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ الصَّاعِدُ مِنَ الرِّئَةِ، الْمُعْتَمِدُ عَلَى مَقَاطِعِ الْحُرُوفِ.
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا) ، أَيْ: ظَهَرَ مِنْهُ وَلَا نَدْرِي كَيْفِيَّةَ تَكَلُّمِهِ بِهِ. وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ (قَوْلًا) ، أَتَى بِالْمَصْدَرِ الْمُعَرِّفِ لِلْحَقِيقَةِ، كَمَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى التَّكْلِيمَ بِالْمَصْدَرِ الْمُثْبِتِ النَّافِي لِلْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (5) فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟!
وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ - أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ: أُرِيدُ أَنْ تَقْرَأَ: وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى، بِنَصْبِ اسْمِ اللَّهِ، لِيَكُونَ مُوسَى هُوَ الْمُتَكَلِّمَ لَا اللَّهُ! فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هَبْ أَنِّي قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ كَذَا، فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 148.
(2) سورة طَه آية 89.
(3) سورة يس آية 65.
(4) سورة فُصِّلَتْ آية 21.
(5) سورة النِّسَاءِ آية 164.(1/130)
تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (1) ؟! فَبُهِتَ الْمُعْتَزِلِيُّ!
وَكَمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى تَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (2) ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (3) ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَتَبْقَى بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَإِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ، وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ، وَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الرَّبِّ كُلُّهُ مَعْنًى وَاحِدًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (4) ، فَأَهَانَهُمْ بِتَرْكِ تَكْلِيمِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ تَكْلِيمَ تَكْرِيمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، إِذْ قَدْ أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ فِي النَّارِ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (5) ، فَلَوْ كَانَ لَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، لَكَانُوا فِي ذَلِكَ هُمْ وَأَعْدَاؤُهُ سَوَاءً، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَخْصِيصِ أَعْدَائِهِ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ فَائِدَةٌ أَصْلًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَاقَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ. فَأَفْضَلُ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رُؤْيَةُ وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَكْلِيمُهُ لَهُمْ. فَإِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِرُوحِ الْجَنَّةِ. وَأَعْلَى نَعِيمِهَا وَأَفْضَلِهِ الَّذِي مَا طَابَتْ لِأَهْلِهَا إِلَّا بِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (6) ، وَالْقُرْآنُ
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 143.
(2) سورة يس آية 58.
(3) سورة يس آية 58.
(4) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 77
(5) سورة الْمُؤْمِنُونَ آية 108.
(6) سورة الرَّعْدِ آية 16.(1/131)
شَيْءٌ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ كُلٍّ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا!! فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ. وَذَلِكَ: أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهَا الْعِبَادُ جَمِيعَهَا، لَا يَخْلُقُهَا اللَّهُ فَأَخْرَجُوهَا مِنْ عُمُومِ كَلٍّ، وَأَدْخَلُوا كَلَامَ اللَّهِ فِي عُمُومِهَا، مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، بِهِ تَكُونُ الْأَشْيَاءُ الْمَخْلُوقَةُ، إِذْ بِأَمْرِهِ تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (1) فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا بِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْآخَرُ بِآخَرَ، إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَطَرْدُ بَاطِلِهِمْ: أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةً، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْكُفْرِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ شَيْءٌ، وَقُدْرَتَهُ شَيْءٌ، وَحَيَاتَهُ شَيْءٌ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ كَلٍّ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ؟ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ كَلَامَهُ! وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ، لَا يُفَرَّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نَطَقَ وَأَنْطَقَ. وَإِنَّمَا قَالَتِ الْجُلُودَ: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ} سورة (2) ، وَلَمْ تَقُلْ: نَطَقَ اللَّهُ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكُلِّ كَلَامٍ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، زُورًا كَانَ أَوْ كَذِبًا أَوْ كُفْرًا أَوْ هَذَيَانًا!! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ طَرَّدَ ذَلِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ، فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ:
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ!
وَلَوْ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ أَحَدٌ بِصِفَةٍ قَامَتْ بِغَيْرِهِ، لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ لِلْبَصِيرِ: أَعْمَى، وَلِلْأَعْمَى: بَصِيرٌ! لِأَنَّ الْبَصِيرَ قَدْ قَامَ وَصْفُ الْعَمَى بِغَيْرِهِ، وَالْأَعْمَى قَدْ قَامَ وَصْفُ الْبَصَرِ بِغَيْرِهِ! وَلَصَحَّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 54.
(2) فُصِّلَتْ آية 21.(1/132)
الَّتِي خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ، مِنَ الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَلْزَمَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ (1) ، بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ مَعَهُ مُلْتَزِمًا أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ نَصِّ التَّنْزِيلِ، وَأَلْزَمَهُ الْحُجَّةَ، فَقَالَ بِشْرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَدَعْ مُطَالَبَتِي بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَيُنَاظِرْنِي بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَهُ وَيَرْجِعْ عَنْهُ، وَيُقِرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ السَّاعَةَ وَإِلَّا فَدَمِي حَلَالٌ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: تَسْأَلُنِي أَمْ أَسْأَلُكَ؟ فَقَالَ بِشْرٌ: اسْأَلْ (2) أَنْتَ، وَطَمِعَ فِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: يَلْزَمُكَ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثٍ لَا بُدَّ مِنْهَا: إِمَّا أَنْ تَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ عِنْدِي أَنَا كَلَامُهُ - فِي نَفْسِهِ، أَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، أَوْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: أَقُولُ: خَلَقَهُ كَمَا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا. وَحَادَ عَنِ الْجَوَابِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: اشْرَحْ أَنْتَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَدَعْ بِشْرًا فَقَدِ انْقَطَعَ. فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: إِنْ قَالَ خَلَقَ كَلَامَهُ فِي نَفْسِهِ، فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ الْمَخْلُوقَةِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ (3) وَإِنْ قَالَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ فِي النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ كَلَامُهُ، فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يُلْزِمُ قَائِلَهُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ - هُوَ كَلَامُ اللَّهِ! (4) وَإِنْ قَالَ خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ، فَهَذَا مُحَالٌ: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إِلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ، كَمَا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إِلَّا مِنْ مُرِيدٍ، وَلَا الْعِلْمُ
__________
(1) عبد العزيز المكي: هو عبد العزيز بن يحيى الكناني، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي. قدم بغداد أيام المأمون، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في خلق القرآن بحضرة الخليفة المأمون، وصنف كتاب «الحيدة"أثبت فيه نص مناظرته لبشر. ومات عبد العزيز الكناني سنة 240 رحمه الله. وكتابه «الحيدة"طبع مرارًا، آخرها بمطبعة الإمام بمصر، بعناية الابن الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ، في هذا العام 1373هـ.
(2) الزيادة ضرورية لصحة المعنى، من «الحيدة"، ص: 80.
(3) في المطبوعة: «ولا يكون منه شيء مخلوقًا» وصححناه من «الحيدة"ص: 82.
(4) في المطبوعة: «وإن قال خلقه في غيره، فهو كلامه» ! وهي جملة ناقصة لا معنى لها، ولخصنا ما ذكرنا من «الحيدة"، ص: 82.(1/133)
إِلَّا مِنْ عَالِمٍ، وَلَا يُعْقَلُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُتَكَلِّمٌ (1) . فَلَمَّا اسْتَحَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، عُلِمَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ. هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي"الْحَيْدَةِ".
وَعُمُومُ كُلٍّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِهِ، وَيُعَرَفُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (2) ، وَمَسَاكِنُهُمْ شَيْءٌ، وَلَمْ تَدْخُلْ فِي عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ دَمَّرَتْهُ الرِّيحُ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التَّدْمِيرَ بِالرِّيحِ عَادَةً وَمَا يَسْتَحِقُّ التَّدْمِيرَ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ بِلْقِيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (3) ، الْمُرَادُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُفْهَمُ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ. إِذْ مُرَادُ الْهُدْهُدِ أَنَّهَا مَلِكَةٌ كَامِلَةٌ فِي أَمْرِ الْمُلْكِ، غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى مَا يَكْمُلُ بِهِ أَمْرُ مُلْكِهَا، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) ، أَيْ: كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ حَتْمًا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ الْخَالِقُ تَعَالَى، وَصِفَاتُهُ لَيْسَتْ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَصِفَاتُهُ مُلَازِمَةٌ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، لَا يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ صِفَاتِهِ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: (مَا زَالَ قَدِيمًا بِصِفَاتِهِ قَبْلَ خَلْقِهِ) . بَلْ نَفْسُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مَخْلُوقًا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (5) ، فَمَا أَفْسَدَهُ مِنِ اسْتِدْلَالٍ! فَإِنَّ (جَعَلَ) إِذَا كَانَ بِمَعْنَى خَلَقَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
__________
(1) في المطبوعة «يتكلم» ، وصححناه.
(2) سورة الْأَحْقَافِ آية 25.
(3) سورة النَّمْلِ آية 23.
(4) سورة الرَّعْدِ آية 16.
(5) سورة الزُّخْرُفِ آية 3.(1/134)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (1) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (2) . وَإِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى خَلَقَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (5) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (6) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (7) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (8) . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (9) .
وَمَا أَفْسَدَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (10) . عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى مِنْهَا! وَعَمُوا عَمَّا قَبْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} ، وَالنِّدَاءُ هُوَ الْكَلَامُ مِنْ بُعْدٍ، فَسَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النِّدَاءَ مِنْ حَافَّةِ الْوَادِي، ثُمَّ قَالَ: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} . أَيْ: أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ، كَمَا يَقُولُ سَمِعْتُ كَلَامَ زَيْدٍ مِنَ الْبَيْتِ، يَكُونُ مِنَ الْبَيْتِ
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 1.
(2) سورة الْأَنْبِيَاءِ الآيات 30، 31، 33.
(3) سورة النَّحْلِ آية 91.
(4) سورة الْبَقَرَةِ آية 224.
(5) سورة الْحِجْرِ آية 91.
(6) سورة الْإِسْرَاءِ آية 29.
(7) سورة الْإِسْرَاءِ آية 39.
(8) سورة الزُّخْرُفِ آية 19.
(9) سورة الزُّخْرُفِ آية 3.
(10) سورة الْقَصَصِ آية30.(1/135)
لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَا أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ! وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي الشَّجَرَةِ، لَكَانَتِ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . وَهَلْ قَالَ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، غَيْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَدَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} صِدْقًا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ قَدْ قَالَهُ غَيْرُ اللَّهِ! وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ ذَاكَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ، وَهَذَا كَلَامٌ خَلَقَهُ فِرْعَوْنُ!! فَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَاعْتَقَدُوا خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (2) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ، إِمَّا جِبْرَائِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: ذِكْرُ الرَّسُولِ مُعَرَّفٌ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ مُرْسِلِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بَلَّغَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ بِهِ، لَا أَنَّهُ أَنْشَأَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا: فَالرَّسُولُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ جِبْرِيلُ، وَفِي الْأُخْرَى مُحَمَّدٌ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّبْلِيغِ، إِذْ لَوْ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا امْتَنَعَ أَنْ يُحْدِثَهُ الْآخَرُ. وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُ رَسُولٌ أَمِينٌ (3) ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي أُرْسِلَ بِتَبْلِيغِهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، بَلْ هُوَ أَمِينٌ عَلَى مَا أُرْسِلَ بِهِ، يُبَلِّغُهُ عَنْ مُرْسِلِهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَّرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة القصص آية 30.
(2) سورة التكوير آية 19.
(3) الآية التي ذكرها الشارح (إنه لقول رسول كريم) - جاءت مرتين: في سورة الحاقة: 40، وليس فيما بعدها الوصف بلفظ (آمين) والأخرى في سورة التكوير: 19، ثم بعدها: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثم أمين) - 20، 21. فتعبير الشارح بقوله: وأيضًا فقوله «رسول أمين"- فيه شيء من التساهل، لم يرد به حكاية التلاوة، وإنما أراد المعنى فقط. ولو قال: «وأيضًا فوصف الرسول بأنه (أمين) ..» كان أدق وأجود.(1/136)
بَشَرٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَهُ - فَقَدْ كَفَرَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنَّهُ قَوْلُ بَشَرٍ، أَوْ جِنِّيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، وَالْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لَا مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا. وَمَنْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمُنْزِلِ ...
- قَالَ: هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَمَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرئٍ مَا نَوَى» : قَالَ: هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) : قَالَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ خَبَرُ ذَلِكَ، وَإِلَّا قَالَ: لَا أَدْرِي كَلَامُ مَنْ هَذَا؟ وَلَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ لَكَذَّبَهُ. وَلِهَذَا مَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا، يَقُولُ لَهُ: هَذَا كَلَامُ مَنْ؟ هَذَا كَلَامُكَ أَوْ كَلَامُ غَيْرِكَ؟
وَبِالْجُمْلَةِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ كُلُّهُمْ، مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ، أَوْ أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَأَنَّ نَوْعَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ.
وَقَدْ يُطْلِقُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلَقٍ مُفْتَرًى مَكْذُوبٌ، بَلْ هُوَ حَقُّ وَصِدْقٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالنِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا خَلَقَهُ اللَّهُ، أَوْ هُوَ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَقَامَ بِذَاتِهِ؟ وَأَهْلُ السُّنَّةِ إِنَّمَا سُئِلُوا عَنْ هَذَا، وَإِلَّا فَكَوْنُهُ مَكْذُوبًا مُفْتَرًى مِمَّا لَا يُنَازِعُ مُسْلِمٌ فِي بُطْلَانِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَشَايِخَ الْمُعْتَزِلَةِ
__________
(1) سورة الفاتحة الآيات 2-3-4-5.(1/137)
وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ لَمْ يَتَلَقَّوْهُ لَا عَنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَقْلَهُمْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْا مِنَ الْأَئِمَّةِ الشَّرَائِعَ.
وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطَرِهِمُ السَّلِيمَةِ وَعُقُولِهِمُ الْمُسْتَقِيمَةِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ، وَلَكِنْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ أُغْلُوطَةً مِنْ أَغَالِيطِهِ، فَرَّقَ بِهَا بَيْنَهُمْ. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (1) .
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَأَنَّ نَوْعَ كَلَامِهِ قَدِيمٌ. وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ مَكْتُوبٌ، وَفِي الْقُلُوبِ مَحْفُوظٌ، وَعَلَى الْأَلْسُنِ مَقْرُوءٌ، وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّلٌ، وَلَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ] وَكِتَابَتُهُ لَنَا مَخْلُوقَةٌ، وَقِرَاءَتُنَا لَهُ مَخْلُوقَةٌ [وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ] حِكَايَةً [عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ - فَإِنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ إِخْبَارًا عَنْهُمْ، وَكَلَامُ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُمْ، وَسَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَلَّمَ مُوسَى كَلَّمَهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا خِلَافُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، وَيَقْدِرُ لَا كَقُدْرَتِنَا، وَيَرَى لَا كَرُؤْيَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُ لَا كَكَلَامِنَا. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَلَمَّا كَلَّمَ (2) مُوسَى كَلَّمَهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ - يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ حِينَ جَاءَ كَلَّمَهُ، لَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ أَزَلًا وَأَبَدًا يَقُولُ يَا مُوسَى، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (3) ، فَفُهِمَ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ
__________
(1) سورة الْبَقَرَةِ آية 176
(2) في المطبوعة (ولما كان) ، وهو خطأ.
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 143.(1/138)
لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُسْمَعَ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ الصَّوْتَ فِي الْهَوَاءِ، كَمَا قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ حَدَثَ لَهُ وَصْفُ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَكُلُّ مَا تَحْتَجُّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ قَبُولُهُ. وَمَا يَقُولُ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ. وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْمَوْصُوفِ: فَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ قَبُولُهُ وَالْقَوْلُ بِهِ. فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِمَا فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الصَّوَابِ، وَالْعُدُولِ عَمَّا يَرُدُّهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ مِنْ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
فَإِذَا قَالُوا لَنَا: فَهَذَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْحَوَادِثُ قَامَتْ بِهِ. قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ مُجْمَلٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَبْلَكُمْ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهَذَا الْمَعْنَى بِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَئِمَّةِ؟ وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا، مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ خَاطَبُوا النَّاسَ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَالَ وَنَادَى وَنَاجَى وَيَقُولُ، لَمْ يُفْهِمُوهُمْ أَنَّ هَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، بَلِ الَّذِي أَفْهَمُوهُمْ إِيَّاهُ: أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ، وَالْكَلَامُ قَائِمٌ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَقَالَهُ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ خِلَافَ مَفْهُومِهِ لَوَجَبَ بَيَانُهُ، إِذْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.
وَلَا يُعْرَفُ فِي لُغَةٍ وَلَا عَقْلٍ قَائِلٌ مُتَكَلِّمٌ لَا يَقُومُ بِهِ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنَ التَّشْبِيهِ، فَلَا يُثْبِتُوا صِفَةً(1/139)
غَيْرَهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، قُلْنَا: وَيَتَكَلَّمُ لَا كَتَكَلُّمِنَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ.
وَهَلْ يُعْقَلُ قَادِرٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْقُدْرَةُ، أَوْ حَيٌّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ؟ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ» (1) ، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاذَ بِمَخْلُوقٍ؟ بَلْ هَذَا كَقَوْلِهِ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ» ، وَكَقَوْلِهِ: «أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» . وَكَقَوْلِهِ: «وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا» . كُلُّ هَذِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِنَّمَا أُشِيرُ إِلَيْهَا هُنَا إِشَارَةً.
وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَالتَّعَدُّدُ وَالتَّكَثُّرُ وَالتَّجَزُّؤُ وَالتَّبَعُّضُ حَاصِلٌ فِي الدَّلَالَاتِ، لَا فِي الْمَدْلُولِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مَخْلُوقَةٌ، وَسُمِّيَتْ كَلَامَ اللَّهِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ وَتَأَدِّيهِ بِهَا، فَإِنْ عُبِّرَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآنٌ، وَإِنْ عُبِّرَ بِالْعِبْرِيَّةِ فَهُوَ تَوْرَاةٌ، فَاخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ لَا الْكَلَامُ. قَالُوا: وَتُسَمَّى هَذِهِ الْعِبَارَاتُ كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا!
وَهَذَا الْكَلَامُ فَاسِدٌ، فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (2) ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (3) وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِي هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ! وَمَعْنَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ هُوَ مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (4) . وَكُلَّمَا
__________
(1) جاءت في الاستعاذة، في حديث مرسل، رواه مالك في الموطأ: 950-951، عن يحيى بن سعيد مرسلًا. وذكر السيوطي في شرحه 3: 126 أنه «وصله النسائي، من طريق محمد بن جعفر بن يحيى ابن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عياش السلمي عن ابن مسعود"وأنه وصله البيهقي في الأسماء والصفات. ومراده برواية النسائي أنه في عمل اليوم والليلة، لا في السنن. ووجدته من وجه آخر في مسند الإمام أحمد: 15526، 15527 (ج 3ص 419 من طبعة الحلبي) ، من حديث عبد الرحمن بن خنبش. ورواه من حديثه أيضًا: ابن السني في عمل اليوم والليلة، رقم: 631. وذكره الحافظ في الإصابة 4: 157، في ترجمة عبد الرحمن بن خنبش) .
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية 32.
(3) سورة الْبَقَرَةِ آية 43.
(4) سورة الْمَسَدِ آية 1.(1/140)
تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْقَوْلَ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ السَّلَفِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَنَاهَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ إِذَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
وَلَوْ كَانَ مَا فِي الْمُصْحَفِ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ، لَمَا حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ مَسُّهُ، وَلَوْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ لَمَا حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ قِرَاءَتُهُ (3) .
بَلْ كَلَامُ اللَّهِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسُنِ، مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا حَقِيقَةٌ، وَإِذَا قِيلَ: فِيهِ خَطُّ فُلَانٍ وَكِتَابَتُهُ: فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِذَا قِيلَ: فِيهِ مِدَادٌ قَدْ كُتِبَ بِهِ: فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِذَا قِيلَ: الْمِدَادُ فِي الْمُصْحَفِ: كَانَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِيهِ غَيْرَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَفِيهِ مُحَمَّدٌ وَعِيسَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مُغَايِرَانِ لِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: فِيهِ خَطُّ فُلَانٍ الْكَاتِبِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مُغَايِرَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ. وَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِلْفُرُوقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَلَّ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلصَّوَابِ. وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْقَارِئِ، وَالْمَقْرُوءِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْبَارِي، مَنْ لَمْ يَهْتَدِ لَهُ فَهُوَ ضَالٌّ أَيْضًا، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا وَجَدَ فِي وَرَقَةٍ مَكْتُوبًا:
__________
(1) سورة الْكَهْفِ آية 109.
(2) سورة لُقْمَانَ آية 27.
(3) في المطبوعة (مسه) ، وهو خطأ واضح يأباه السياق. وقد سبق الكلام على (مسه) في الجملة قبلها.(1/141)
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ...
مِنْ خَطِّ كَاتِبٍ مَعْرُوفٍ. لَقَالَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ لَبِيدٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا خَطُّ فُلَانٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا كُلُّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا خَبَرٌ حَقِيقَةً، وَلَا تَشْتَبِهُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بِالْأُخْرَى.
وَالْقُرْآنُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرٌ، فَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . وَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَقْرُوءُ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. فَالْحَقَائِقُ لَهَا وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَلَكِنَّ الْأَعْيَانَ تُعْلَمُ، ثُمَّ تُذْكَرُ، ثُمَّ تُكْتَبُ. فَكِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ وَاسِطَةٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا لِسَانٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، أَوْ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، أَوْ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ: وَاضِحٌ.
فَقَوْلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (4) ، أَيْ ذِكْرَهُ وَوَصْفَهُ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ. إِذِ الْقُرْآنُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، لَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى غَيْرِهِ أَصْلًا، وَلِهَذَا قَالَ فِي الزُّبُرِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي الصُّحُفِ، وَلَا فِي الرَّقِّ، لِأَنَّ الزُّبُرَ جَمْعُ زَبُورٍ وَالزُّبُرَ هُوَ: الْكِتَابَةُ وَالْجَمْعُ، فَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (5) أَيْ
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 78
(2) سورة النَّحْلِ آية 98.
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 204.
(4) سورة الشُّعَرَاءِ آية 196.
(5) سورة الشُّعَرَاءِ آية 196.(1/142)
مَزْبُورِ الْأَوَّلِينَ، فَفِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَاشْتِقَاقِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، وَيُبَيِّنُ كَمَالَ بَيَانِ الْقُرْآنِ وَخُلُوصِهِ مِنَ اللَّبْسِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} (1) ، أَيْ: ذِكْرَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ. {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (2) وَ {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (3) وَ {كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (4) ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَامَّةِ، مِثْلَ الْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْحُصُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَدَّرُ: مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ، أَوْ فِي رَقٍّ. وَالْكِتَابُ: تَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مَحَلُّ الْكِتَابَةِ، وَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَكْتُوبُ. وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كِتَابَةِ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ، وَكِتَابَةِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فِيهِ - فَإِنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يُكْتَبُ ذِكْرُهَا. وَكُلَّمَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْمَعْنَى وَضَحَ لَهُ الْفَرْقُ.
وَحَقِيقَةُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِجِيَّةُ: هِيَ مَا يُسْمَعُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ. فَكَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعٌ لَهُ مَعْلُومٌ مَحْفُوظٌ، فَإِذَا قَالَهُ السَّامِعُ فَهُوَ مَقْرُوءٌ لَهُ مَتْلُوٌّ، فَإِنْ كَتَبَهُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ مَرْسُومٌ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ. وَالْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا: مَا قَرَأَ الْقَارِئُ كَلَامَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (5) . وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنْ مُبَلِّغِهِ عَنِ اللَّهِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْمَسْمُوعَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (6) ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَسْمَعَ مَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمَصَاحِفِ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ: فَقَدْ خَالَفَ
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 156.
(2) سورة الطُّورِ آية 3.
(3) سورة الْبُرُوجِ آية 22.
(4) سورة الْوَاقِعَةِ آية 78.
(5) سورة التَّوْبَةِ آية 6.
(6) سورة التَّوْبَةِ آية 6(1/143)
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسَلَفَ الْأُمَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ ضَلَالًا.
وَكَلَامُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يُتَصَوَّرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَسْمُوعَ الْمُنَزَّلَ الْمَقْرُوءَ (1) وَالْمَكْتُوبَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ. فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ (2) رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ، وَيَقُولُونَ: مِنْهُ بَدَا، وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَإِنَّمَا قَالُوا: مِنْهُ بَدَا، لِأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي مَحَلٍّ، فَبَدَأَ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ. فَقَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَا أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، فَمِنْهُ بَدَا، لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (3) . {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (4) . {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (5) . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: وَإِلَيْهِ يَعُودُ-: يُرْفَعُ مِنَ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ، فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ. كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ.
َوقَوْلُهُ"بِلَا كَيْفِيَّةٍ" أَيْ: لَا تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ تَكَلُّمِهِ بِهِ قَوْلًا لَيْسَ بِالْمَجَازِ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، أَيْ: أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ، فَسَمِعَهُ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ مِنَ اللَّهِ، وَسَمِعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَلَكِ، وَقَرَأَهُ (6) عَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (7) . وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (8) . وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) في المطبوعة «المقدر"وليس لها معنى.
(2) في المطبوعة: «قال الطحاوي» ، وهو خطأ واضح.
(3) سورة الزُّمَرِ آية 1.
(4) سورة السَّجْدَةِ آية 13.
(5) سورة النَّحْلِ آية 102
(6) في الأصل: (وقرأ) ، والصواب ما أثبتناه، كما في أكثر النسخ. ن.
(7) سورة الْإِسْرَاءِ آية 106.
(8) سورة الشُّعَرَاءِ آية 193- 195.(1/144)
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ نَظِيرُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنْزَالِ الْحَدِيدِ، وَإِنْزَالِ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ فِيهِ مَذْكُورٌ أَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (5) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (7) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (8) . وَإِنْزَالُ الْمَطَرِ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (9) . وَالسَّمَاءُ: الْعُلُوُّ. وَقَدْ جَاءَ فِي مَكَانٍ آخَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ الْمُزْنِ، وَالْمُزْنُ: السَّحَابُ. وَفِي مَكَانٍ آخَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ الْمُعْصِرَاتِ. وَإِنْزَالُ الْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ مُطْلَقٌ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهُ هَذَا الْإِنْزَالُ بِهَذَا الْإِنْزَالِ، وَهَذَا الْإِنْزَالُ بِهَذَا الْإِنْزَالِ؟! فَالْحَدِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَعَادِنِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ، وَهِيَ عَالِيَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ مَعْدِنُهُ أَعْلَى كَانَ حَدِيدُهُ أَجْوَدَ. وَالْأَنْعَامُ تُخْلَقُ بِالتَّوَالُدِ الْمُسْتَلْزِمِ إِنْزَالَ الذُّكُورِ الْمَاءَ مِنْ أَصْلَابِهَا إِلَى أَرْحَامِ الْإِنَاثِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَنْزَلَ وَلَمْ يقل"نَزَّلَ" (10) ثُمَّ الْأَجِنَّةُ تَنْزِلُ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَمِنَ
__________
(1) سورة غَافِرٍ آية 1-2.
(2) سورة الزُّمَرِ آية 1.
(3) سورة فُصِّلَتْ آية 2.
(4) سورة فصلت آية 42.
(5) سورة الدُّخَانِ الآيات 3-4-5.
(6) سورة الْقَصَصِ آية 49.
(7) سورة الْأَنْعَامِ آية 114.
(8) سورة النَّحْلِ آية 102.
(9) سورة الرَّعْدِ آية 17.
(10) في المطبوعة «ولم ينزل» وهو كلام لا معنى له هنا. وما أثبتنا هو الذي يقتضيه السياق.(1/145)
الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْعَامَ تَعْلُو فُحُولُهَا إِنَاثَهَا عِنْدَ الْوَطْءِ، وَيَنْزِلُ مَاءُ الْفَحْلِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى رَحِمِ الْأُنْثَى، وَتُلْقِي وَلَدَهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ. وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} (1) : وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ يُحْتَمَلَانِ فِي قَوْلِهِ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} (2) .
وَقَوْلُهُ: "وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا" الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَإِنْزَالِهِ، أَيْ: هَذَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَأَنَّ هَذَا حَقٌّ وَصِدْقٌ.
وَقَوْلُهُ: وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ. رَدُّهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بِهَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ. وَفِي قَوْلِهِ: "بِالْحَقِيقَةِ"رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ: أَنَّ هَذَا كَلَامٌ حَقِيقَةً، وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَخْرَسُ مُتَكَلِّمًا، وَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْقُرْآنُ وَلَا كَلَامَ اللَّهِ، وَلَكِنْ عِبَارَةً عَنْهُ لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ، كَمَا لَوْ أَشَارَ أَخْرَسُ إِلَى شَخْصٍ بِإِشَارَةٍ فَهِمَ بِهَا مَقْصُودَهُ، فَكَتَبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عِبَارَتَهُ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَخْرَسُ، فَالْمَكْتُوبُ هُوَ عِبَارَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَهَذَا الْمَثَلُ مُطَابِقٌ غَايَةَ الْمُطَابَقَةِ لِمَا يَقُولُونَهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُسَمِّيهِ أَحَدٌ أَخْرَسَ، لَكِنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَلَكَ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِهِ، لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا، بَلْ فَهِمَ مَعْنًى مُجَرَّدًا، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهُ، فَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَتَأْلِيفَهُ الْعَرَبِيَّ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَالْهَوَى الَّذِي هُوَ دُونَ الْمَلَكِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ.
__________
(1) سورة الزُّمَرِ آية 6.
(2) سورة الشُّورَى آية 11.(1/146)
وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ إَِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ: هَلْ سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعَ الْمَعْنَى أَوْ بَعْضَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: سَمِعَهُ كُلَّهُ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ. وَإِنْ قَالَ: بَعْضَهُ، فَقَدْ قَالَ يَتَبَعَّضُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ.
وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) . وَلَمَّا قَالَ لَهُمْ. {اسْجُدُوا لِآدَمَ} (2) . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: هَلْ هَذَا جَمِيعُ كَلَامِهِ أَوْ بَعْضُهُ؟ فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ جَمِيعُهُ (3) ، فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ قَالَ: بَعْضُهُ، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِتَعَدُّدِهِ.
وَلِلنَّاسِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظُ الْإِنْسَانِ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ مَعًا، وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ.
الثَّانِي: اسْمٌ لِلَفْظٍ فَقَطْ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ، بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْنَى فَقَطْ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْكِلَابِيَّةِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ خَامِسٌ (4) يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ، حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ تَقُومُ بِهِمْ، فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ، بِخِلَافِ كَلَامِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاللَّهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْأَخْطَلِ:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا: فَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ. وَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَقَالُوا
__________
(1) سورة الْبَقَرَةِ آية 30.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية 34.
(3) في المطبوعة (جميع) بدون الضمير. وإثباته أجود.
(4) في المطبوعة (ثالث) ، وقد سبقه أربعة، فهو خامس.(1/147)
هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ! وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ! فَكَيْفَ وَهَذَا الْبَيْتُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَخْطَلِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي دِيوَانِهِ؟! وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ:
إِنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ ...
وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ ضَلُّوا فِي مَعْنَى الْكَلَامِ، وَزَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَاتَّحَدَ اللَّاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ! أَيْ: شَيْءٌ مِنَ الْإِلَهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّاسِ! أَفَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِ نَصْرَانِيٍّ قَدْ ضَلَّ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ، وَيُتْرَكُ مَا يُعْلَمُ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ؟! وَأَيْضًا: فَمَعْنَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَازِمُهُ أَنَّ الْأَخْرَسَ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا لِقِيَامِ الْكَلَامِ بِقَلْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا أُشِيرُ إِلَيْهِ إِشَارَةً.
وَهُنَا مَعْنًى عَجِيبٌ، وَهُوَ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِقَوْلِ النَّصَارَى الْقَائِلِينَ بِاللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ! فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ سَمَاعُهُ، وَأَمَّا النَّظْمُ الْمَسْمُوعُ فَمَخْلُوقٌ، فَإِفْهَامُ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ بِالنَّظْمِ الْمَخْلُوقِ يُشْبِهُ امْتِزَاجَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ الَّذِي قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الشَّبَهِ مَا أَعْجَبَهُ!
وَيَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا (1) . أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ بِأُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَطَلَبٍ، لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَّكَلُّمُ بِذَلِكَ. فَعُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ.
__________
(1) في الأصل (وإنما) . والتصويب من البخاري 13 / 496 (فتح) ، وأحمد 1 / 463. ن.(1/148)
وَأَيْضًا: فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إِلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللِّسَانُ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ.
وَأَيْضًا فَفِي السُّنَنِ: «أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ. فَلَفْظُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا، مِنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَاسْمِ فَاعِلٍ -: إِنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا كَانَ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبِدَعِ، ثُمَّ انْتَشَرَ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا - لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ شَاعِرٍ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ، كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ تَعَالَى وَإِنَّ الْمَتْلُوَّ الْمَحْفُوظَ الْمَكْتُوبَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (1) . أَفَتُرَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُشِيرُ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ أَوْ إِلَى الْمَتْلُوِّ الْمَسْمُوعِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِنَّمَا هِيَ
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 88.(1/149)
إِلَى هَذَا الْمَتْلُوِّ الْمَسْمُوعِ، إِذْ مَا فِي ذَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مُشَارٍ إِلَيْهِ، وَلَا مُنَزَّلٍ وَلَا مَتْلُوٍّ وَلَا مَسْمُوعٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (1) أَفَتُرَاهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ يَسْمَعُوهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، وَمَا فِي نَفْسِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ لَا حِيلَةَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى حِكَايَةِ مَا فِي نَفْسِهِ وَعِبَارَتِهِ وَهُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَكْتُوبُ الْمَسْمُوعُ، فَأَمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى ذَاتِهِ فَلَا - فَهَذَا صَرِيحُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ أَكْفَرُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ حِكَايَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَشَبَهِهِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ مَحْكِيَّةٌ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ التِّلَاوَةُ حِكَايَةً لَكَانَ النَّاسُ قَدْ أَتَوْا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ، فَأَيْنَ عَجْزُهُمْ؟! وَيَكُونُ التَّالِي - فِي زَعْمِهِمْ - قَدْ حَكَى بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ مَا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ. وَلَيْسَ الْقُرْآنُ إِلَّا سُوَرًا مُسَوَّرَةً، وَآيَاتٍ مُسَطَّرَةً، فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (2) . {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (3) . {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (4) . وَيُكْتَبُ لِمَنْ قَرَأَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» . وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي صُدُورِ الْحَافِظِينَ الْمَسْمُوعُ مِنْ أَلْسُنِ التَّالِينَ. قَالَ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ((الْمَنَارِ)) : إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَمَا يُنْسَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَجْزَأَهُ - فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ - وَقَالَ: لَا يَجُوزُ
__________
(1) سورة الإسراء آية 88
(2) سورة هُودٍ آية 13.
(3) سورة الْعَنْكَبُوتِ آية 49.
(4) سورة عَبَسَ الآيتان 13-14.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ سَمِعَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ، فَقَدْ كَفَرَ)(1/150)
الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالُوا: لَوْ قَرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا فَيُدَاوَى، أَوْ زِنْدِيقًا فَيُقْتَلَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْإِعْجَازُ حَصَلَ بِنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ سَمِعَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ، فَقَدْ كَفَرَ)
لَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، بَلْ قَالَ إِنَّهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ، مَلَكًا كَانَ أَوْ بَشَرًا. وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، ثُمَّ أَوَّلَ وَحَرَّفَ فَقَدْ وَافَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. فِي بَعْضِ مَا بِهِ كَفَرَ، وَأُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ - وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ)
يَعْنِي أَنَّهُ أَشْرَفُ وَأَفْصَحُ وَأَصْدَقُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ. (2) وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} (3) وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (4) . فَلَمَّا عَجَزُوا - وَهُمْ فُصَحَاءُ الْعَرَبِ، مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ - عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، تَبَيَّنَ صِدْقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِعْجَازُهُ مِنْ جِهَةِ نَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ، لَا مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ قُرْآنٌ عَرَبِيٌّ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، أَيْ بِلُغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ، وَمِنْ حَيْثُ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ الْكَلِمَاتُ وَالْحُرُوفُ. وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، أَيْ: أَنَّهُ فِي أُسْلُوبِ كَلَامِهِمْ وَبِلُغَتِهِمُ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ؟ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم} {ذَلِكَ}
__________
(1) سورة النِّسَاءِ آية 87.
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية 88.
(3) سورة هُودٍ آية 13.
(4) سورة يُونُسَ آية 38.(1/151)
{الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (1) {الم} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (2) {المص} {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (3) . {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (4) . وَكَذَلِكَ الْبَاقِي يُنَبِّهُهُمْ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ لَمْ يَأْتِكُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُونَهُ، بَلْ خَاطَبَكُمْ بِلِسَانِكُمْ.
وَلَكِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ يَتَذَرَّعُونَ بِمِثْلِ هَذَا إِلَى نَفْيِ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِهِ، وَسَمَاعِ جِبْرِيلَ مِنْهُ، كَمَا يَتَذَرَّعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (5) ، إِلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ. وَفِي الْآيَةِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) . كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (7) مَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ يَنْفِي الْحَرْفَ، فَإِنَّهُ قَالَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} (8) ، وَلَمْ يَقُلْ فَأْتُوا بِحَرْفٍ، أَوْ بِكَلِمَةٍ. وَأَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إِنَّ أَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ (9) . الْإِعْجَازُ بِدُونِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ، فَقَدْ كَفَرَ. مَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَرَ. وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ. وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ) .
ش: لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، مِنْهُ بَدَا، نَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ، نَفْيًا لِلتَّشْبِيهِ عَقِيبَ الْإِثْبَاتِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ وُصِفَ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ، لَكِنْ لَا يُوصَفُ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ الَّتِي يَكُونُ الْإِنْسَانُ بِهَا مُتَكَلِّمًا، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَمَا أَحْسَنَ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ لِلْمُثْبِتِ لِلصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، بِاللَّبَنِ الْخَالِصِ السَّائِغِ لِلشَّارِبِينَ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثِ التَّعْطِيلِ وَدَمِ التَّشْبِيهِ.
__________
(1) سورة البقرة 1، 2.
(2) سورة آل عمران الآيات 1- 3.
(3) سورة الأعراف آية 1-2.
(4) سورة يُونُسَ آية 1.
(5) سورة الشُّورَى آية 11.
(6) سورة الشورى آية 11.
(7) سورة يُونُسَ آية 38.
(8) سورة يونس آية 38.
(9) في المطبوعة: (يقطع) بدل (يقع) ، وهو خطأ.(1/152)
وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالْمُشَبِّهُ يَعْبُدُ صَنَمًا. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ، (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) . وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَهُوَ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ) أَيْ: دِينُ الْإِسْلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعْطِيلَ شَرٌّ مِنَ التَّشْبِيهِ، بِمَا سَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ تَشْبِيهًا، بَلْ صِفَاتُ الْخَالِقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: (فَمَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَرَ) . أَيْ: مَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِ فِيمَا قَالَهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَصْفِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَوَعِيدِ الْمُشَبَّهِ اعْتَبَرَ وَانْزَجَرَ عَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ.
قَوْلُهُ: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ، لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) .
ش: الْمُخَالِفُ فِي الرُّؤْيَةِ: الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْإِمَامِيَّةِ. وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ قَالَ بِثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُونَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَسَائِرُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَشْرَفِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ وَأَجَلِّهَا، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا الْمُشَمِّرُونَ، وَتَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَحُرِمَهَا الَّذِينَ هُمْ عَنْ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ، وَعَنْ بَابِهِ مَرْدُودُونَ.
__________
(1) سورة الْقِيَامَةِ الآيتان 22، 23.(1/153)
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) . وَهِيَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا مَنْ أَبَى إِلَّا تَحْرِيفَهَا بِمَا يُسَمِّيهِ تَأْوِيلًا، فَتَأْوِيلُ نُصُوصِ الْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ، أَسْهَلُ مِنْ تَأْوِيلِهَا عَلَى أَرْبَابِ التَّأْوِيلِ. وَلَا يَشَاءُ مُبْطِلٌ أَنْ يَتَأَوَّلَ النُّصُوصَ وَيُحَرِّفَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا إِلَّا وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ السَّبِيلِ مَا وَجَدَهُ مُتَأَوِّلُ هَذِهِ النُّصُوصِ.
وَهَذَا الَّذِي أَفْسَدَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ. وَهَكَذَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي نُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَحَذَّرَنَا اللَّهُ أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُمْ. وَأَبَى الْمُبْطِلُونَ إِلَّا سُلُوكَ سَبِيلِهِمْ، وَكَمْ جَنَى التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ مِنْ جِنَايَةٍ. فَهَلْ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ! وَكَذَا مَا جَرَى فِي يَوْمِ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، وَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحَرَّةِ؟ وَهَلْ خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ، وَاعْتَزَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَرَفَضَتِ الرَّوَافِضُ، وَافْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ؟ ! وَإِضَافَةُ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ، الَّذِي هُوَ مَحِلُّهُ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِأَدَاةِ إِلَى الصَّرِيحَةِ فِي نَظَرِ الْعَيْنِ، وَإِخْلَاءُ الْكَلَامِ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِه (2) . حَقِيقَةٍ مَوْضُوعَةٍ صَرِيحَةٍ فِي أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِذَلِكَ نَظَرَ الْعَيْنِ
الَّتِي فِي الْوَجْهِ إِلَى الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
فَإِنَّ النَّظَرَ لَهُ عِدَّةُ اسْتِعْمَالَاتٍ، بِحَسَبِ صِلَاتِهِ وَتَعَدِّيهِ بِنَفْسِهِ: فَإِنْ عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَمَعْنَاهُ: التَّوَقُّفُ وَالِانْتِظَارُ، {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (3) . وَإِنْ عُدِّيَ بِـ"فِي"فَمَعْنَاهُ: التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ، كَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) . وَإِنْ عُدِّيَ بِـ"إِلَى"فَمَعْنَاهُ: الْمُعَايَنَةُ بِالْأَبْصَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (5) . فَكَيْفَ إِذَا
__________
(1) سورة الْقِيَامَةِ الآيتان 22، 23.
(2) في المطبوعة (خلاف) بدون الضمير، وهو خطأ يختل به سياق الكلام.
(3) سورة الْحَدِيدِ آية 13.
(4) سورة الْأَعْرَافِ آية 185.
(5) سورة الْأَنْعَامِ آية 99.(1/154)
أُضِيفَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ الْبَصَرِ؟ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (1) قَالَ: مِنَ الْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) ، قَالَ فِي وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: نَظَرَتْ إِلَى رَبِّهَا فَنُضِّرَتْ بِنُورِهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (4) ، قَالَ: مِنَ النَّعِيمِ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (5) ، قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا نَظَرًا، ثُمَّ حَكَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مُفَسِّرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (6) . قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (7) فَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَسَّرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (8) ، قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنَ النَّارِ؟ فَيُكْشِفُ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ» . وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَلْفَاظٍ أُخَرَ، مَعْنَاهَا أَنَّ الزِّيَادَةَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ ذَلِكَ (9) . عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو مُوسَى
__________
(1) سورة القيامة الآيتان 22، 23.
(2) سورة القيامة آية 23.
(3) سورة القيامة آية 23.
(4) سورة القيامة آية 22.
(5) سورة القيامة آية 23.
(6) سورة ق آية 35.
(7) يونس آية 26.
(8) سورة يُونُسَ آية 26
(9) الزيادة ضرورية لاتساق الكلام. وانظر الطبري 11: 73- 76.(1/155)
الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1) . احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَضَرْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ، وَقَدْ جَاءَتْهُ رُقْعَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ فِيهَا: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2) ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا أَنَّ حُجِبَ هَؤُلَاءِ فِي السُّخْطِ، كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} (3) ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (4) . فَالْآيَتَانِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ.
الْآيَةُ الْأُولَى: فَالْاسْتِدْلَالُ مِنْهَا عَلَى ثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِكَلِيمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ وَأَعْلَمِ النَّاسِ بِرَبِّهِ فِي وَقْتِهِ - أَنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ، وَلَمَّا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ نَجَاةَ ابْنِهِ أَنْكَرَ سُؤَالَهُ، وَقَالَ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (5) .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لَنْ تَرَانِي} (6) ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي لَا أُرَى، أَوْ لَا تَجُوزُ رُؤْيَتِي، أَوْ لَسْتُ بِمَرْئِيٍّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ ظَاهِرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي كُمِّهِ حَجَرٌ فَظَنَّهُ رَجُلٌ طَعَامًا فَقَالَ: أَطْعِمْنِيهِ، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، أَمَّا إِذَا كَانَ طَعَامًا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَأْكُلَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَرْئِيٌّ، وَلَكِنَّ مُوسَى لَا تَحْتَمِلُ قُوَاهُ رُؤْيَتَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، لِضَعْفِ قُوَى الْبَشَرِ فِيهَا عَنْ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى. يُوَضِّحُهُ:
__________
(1) سورة الْمُطَفِّفِينَ آية 15.
(2) سورة الْمُطَفِّفِينَ آية 15.
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 143.
(4) سورة الْأَنْعَامِ آية 103.
(5) سورة هُودٍ آية 46.
(6) سورة الأعراف آية 143.(1/156)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} . فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ قُوَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ لَا يَثْبُتُ لِلتَّجَلِّي فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَكَيْفَ بِالْبَشَرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ ضَعْفٍ؟ الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْجَبَلَ مُسْتَقِرًّا، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَقَدْ عَلَّقَ بِهِ الرُّؤْيَةَ، وَلَوْ كَانَتْ مُحَالًا لَكَانَ نَظِير أَنْ يَقُولَ: إِنِ اسْتَقَرَّ الْجَبَلُ فَسَوْفَ آكُلُ وَأَشْرَبُ وَأَنَامُ. وَالْكُلُّ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ.
السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (1) ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ جَمَادٌ لَا ثَوَابَ لَهُ وَلَا عِقَابَ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَلَّى لِرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْجَبَلَ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لِرُؤْيَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَالْبَشَرُ أَضْعَفُ.
السَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى وَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ، وَمَنْ جَازَ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ وَالتَّكْلِيمُ وَأَنْ يُسْمِعَ مُخَاطِبَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ - فَرُؤْيَتُهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَلِهَذَا لَا يَتِمُّ إِنْكَارُ رُؤْيَتِهِ إِلَّا بِإِنْكَارِ كَلَامِهِ، وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ تَأْيِيدُ النَّفْيِ بِـ ((لَنْ)) وَأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَفَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّأْبِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ النَّفْيِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ إِذَا أُطْلِقَتْ؟ قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (2) ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (3) . وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ الْمُطْلَقِ لَمَا جَازَ تَحْدِيدُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} (4) . فَثَبَتَ أَنَّ ((لَنْ)) لَا تَقْتَضِي النَّفْيَ الْمُؤَبَّدَ.
قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِلَنْ مُؤَبَّدًا ... فَقَوْلُهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ مِنْ وَجْهٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ،
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 143.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية 95.
(3) سورة الزُّخْرُفِ آية 77.
(4) سورة يُوسُفَ آية 80.(1/157)
وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سِيَاقِ التَّمَدُّحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ، وَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَيْسَ بِكَمَالٍ فَلَا يُمْدَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُمْدَحُ الرَّبُّ تَعَالَى بِالنَّفْيِ إِذَا تَضَمَّنَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، كَمَدْحِهِ بِنَفْيِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ الْقَيُّومِيَّةِ، وَنَفْيِ الْمَوْتِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ الْحَيَاةِ، وَنَفْيِ اللُّغُوبِ وَالْإِعْيَاءِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ الْقُدْرَةِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالظَّهِيرِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَقَهْرِهِ، [وَنَفْيِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ صَمَدِيَّتِهِ وَغِنَاهُ، وَنَفْيِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ تَوَحُّدِهِ وَغِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ] (1) ، وَنَفْيِ الظُّلْمِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ عَدْلِهِ وَعِلْمِهِ وَغِنَاهُ، وَنَفْيِ النِّسْيَانِ وَعُزُوبِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، وَنَفْيِ الْمِثْلِ، الْمُتَضَمِّنِ لِكَمَالِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَتَمَدَّحْ بِعَدَمٍ مَحْضٍ لَمْ يَتَضَمَّنْ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُشَارِكُ الْمَوْصُوفَ فِي ذَلِكَ الْعَدَمِ، وَلَا يُوصَفُ الْكَامِلُ بِأَمْرٍ يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْمَعْدُومُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (2) ، يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ لَا يُدْرَكُ بِحَيْثُ يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} {قَالَ كَلَّا} (3) ، فَلَمْ يَنْفِ مُوسَى الرُّؤْيَةَ، وَإِنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ، فَالرُّؤْيَةُ وَالْإِدْرَاكُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُوجَدُ مَعَ الْآخَرِ وَبِدُونِهِ، فَالرَّبُّ تَعَالَى يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ مِنَ الْآيَةِ، كَمَا ذُكِرَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَلْ هَذِهِ الشَّمْسُ الْمَخْلُوقَةُ لَا يَتَمَكَنُّ رَائِيهَا مِنْ إِدْرَاكِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، الدَّالَّةُ عَلَى
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من النسخ الأخرى. ن.
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية 103.
(3) سورة الشُّعَرَاءِ الآيتان 61-62.(1/158)
الرُّؤْيَةِ فَمُتَوَاتِرَةٌ، رَوَاهَا أَصْحَابُ الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ. فَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» ، الْحَدِيثَ، أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) بِطُولِهِ.
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) نَظِيرُهُ. وَحَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» ، أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) . وَمِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَلَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ، بَلَى يَا رَبِّ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
وَقَدْ رَوَى أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا. وَمَنْ أَحَاطَ بِهَا مَعْرِفَةً يَقْطَعُ بِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَهَا، وَلَوْلَا أَنِّي الْتَزَمْتُ الْاخْتِصَارَ لَسُقْتُ مَا فِي الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُوَاظِبْ سَمَاعَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ فِيهَا مَعَ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ يُكَلِّمُ مَنْ شَاءَ إِذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ(1/159)
قَرُبَ، وَأَنَّهُ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ يَضْحَكُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَاعُهَا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّوَاعِقِ.
وَكَيْفَ تُعْلَمُ أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؟ وَكَيْفَ يُفَسَّرُ كِتَابُ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا فَسَّرَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُ رَسُولِهِ، الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ؟ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (1) . مَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ وَلَيْسَ تَشْبِيهُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَشْبِيهًا لِلَّهِ، بَلْ هُوَ تَشْبِيهُ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ، لَا تَشْبِيهُ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَإِلَّا فَهَلْ تُعْقَلُ رُؤْيَةٌ بِلَا مُقَابَلَةٍ؟ وَمَنْ قَالَ: يُرَى لَا فِي جِهَةٍ، فَلْيُرَاجِعْ عَقْلَهُ!! فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ أو فِي (2) عَقْلِهِ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَإِذَا قَالَ يُرَى لَا أَمَامَ الرَّائِي وَلَا خَلْفَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، رَدَّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ بِفِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ.
وَلِهَذَا أَلْزَمَ الْمُعْتَزِلَةُ مَنْ نَفَى الْعُلُوَّ بِالذَّاتِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا: كَيْفَ تُعْقَلُ رُؤْيَةٌ بِغَيْرِ جِهَةٍ.
وَإِنَّمَا لَمْ نَرَهُ فِي الدُّنْيَا لِعَجْزِ أَبْصَارِنَا، لَا لِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ، فَهَذِهِ الشَّمْسُ إِذَا حَدَّقَ الرَّائِي الْبَصَرَ فِي شُعَاعِهَا ضَعُفَ عَنْ رُؤْيَتِهَا، لَا لِامْتِنَاعٍ فِي ذَاتِ الْمَرْئِيِّ، بَلْ لِعَجْزِ الرَّائِي، فَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْمَلَ اللَّهُ قُوَى الْآدَمِيِّينَ حَتَّى أَطَاقُوا رُؤْيَتَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِلْجَبَلِ، خَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ سورة الْأَعْرَافِ آية 143، بِأَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَشَرُ يَعْجِزُونَ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ،
__________
(1) سورة عَبَسَ آية 31.
(2) في الأصل: (لعقلها وفي) والصواب ما أثبتناه، كما في بعض النسخ. ن.(1/160)
إِلَّا مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ كَمَا أَيَّدَ نَبِيَّنَا، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} (1) . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَا يُطِيقُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ، فَلَوْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ بِشَرٍ، وَحِينَئِذٍ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ: هَلْ هُوَ بَشَرٌ أَوْ مَلَكٌ؟ وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا أَنْ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا.
وَمَا أَلْزَمَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا الْإِلْزَامَ إِلَّا لَمَّا وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ. لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا يُرَى لَا فِي جِهَةٍ، أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يُرَى وَلَا فِي جِهَةٍ.
وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ الْجِهَةُ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَمْرًا وُجُودِيًّا أَوْ أَمْرًا عَدَمِيًّا؟ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَمْرًا وُجُودِيًّا كَانَ التَّقْدِيرُ: كُلُّ مَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٌ لَا يُرَى، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى إِثْبَاتِهَا، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ سَطْحَ الْعَالَمِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَى، وَلَيْسَ الْعَالَمُ فِي عَالَمٍ آخَرَ. وَإِنْ أَرَدْتَ بِالْجِهَةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا، فَالْمُقْدِمَةُ الثَّانِيَةُ مَمْنُوعَةٌ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الْاعْتِبَارِ.
وَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي أُصُولِ الدِّينِ مَنْ لَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ؟! وَإِذَا زَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَتَلَقَّى تَفْسِيرَ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ، وَلَا يَنْظُرُ فِيهَا، وَلَا فِيمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا عَنِ الثِّقَاتِ النَّقَلَةِ، الَّذِينَ تَخَيَّرَهُمُ النُّقَّادُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا نَظْمَ الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، بَلْ نَقَلُوا نَظْمَهُ وَمَعْنَاهُ، وَلَا كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ كَمَا يَتَعَلَّمُ الصِّبْيَانُ، بَلْ يَتَعَلَّمُونَهُ بِمَعَانِيهِ. وَمَنْ لَا يَسْلُكُ سَبِيلَهُمْ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِرَأْيِهِ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِرَأْيِهِ وَمَا يَظُنُّهُ دِينَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَلَقَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 8.(1/161)
وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مَأْثُومٌ وَإِنْ أَصَابَ، وَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مَأْجُورٌ وَإِنْ أَخْطَأَ، لَكِنْ إِنْ أَصَابَ يُضَاعَفُ أَجْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ) تَخْصِيصُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالذِّكْرِ، يُفْهَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَلَا شَكَّ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ يَرَوْنَهُ فِي الْمَحْشَرِ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} (1) . وَاخْتُلِفَ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
الثَّانِي: يَرَاهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنِ الْكُفَّارِ وَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: يَرَاهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنَافِقُونَ دُونَ بَقِيَّةِ الْكُفَّارِ. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي تَكْلِيمِهِ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ.
وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً: مِنْهُمْ مَنْ نَفَى رُؤْيَتَهُ بِالْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ"الشِّفَا"اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْكَارَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِمَسْرُوقٍ حِينَ سَأَلَهَا: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شِعْرِي مِمَّا قُلْتَ، ثُمَّ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ، وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
__________
(1) سورة الْأَحْزَابِ آية 44.(1/162)
وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ: أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا وَفَوَائِدَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ وَلَا نَصٌّ، وَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَةِ النَّجْمِ، وَالتَّنَازُعُ فِيهَا مَأْثُورٌ، وَالْاحْتِمَالُ لَهَا مُمْكِنٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا مُمْكِنَةٌ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُمْكِنَةً، لَمَا سَأَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، بَلْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ نُورًا» . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، (وَفِي رِوَايَةٍ: النَّارُ) ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» . فَيَكُونُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ «رَأَيْتُ نُورًا» : أَنَّهُ رَأَى الْحِجَابَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ""نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» : النُّورُ الَّذِي هُوَ الْحِجَابُ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَأَنَّى أَرَاهُ؟ أَيْ فَكَيْفَ أَرَاهُ وَالنُّورُ حِجَابٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَمْنَعُنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ؟ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَنَحَا (1) إِلَى تَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ لِجِبْرِيلَ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى تَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ الرَّبِّ تَعَالَى أَعْظَمَ وَأَعْلَى، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ.
__________
(1) ذكر مصحح المطبوعة أن في الأصل"ونحن"واستظهر أن تكون"ونحا". وأنا أراه الصواب الذي لا محيص عن إثباته.(1/163)
وَقَوْلُهُ: "بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ"
هَذَا لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ وَبَهَائِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ، كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا. قَالَ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (2) .
وَقَوْلُهُ: "وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ وَعَلِمَهُ"إِلَى أَنْ قَالَ: "لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا"أَيْ كَمَا فَعَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْفَاسِدُ الْمُخَالِفُ لَهُ. فَكُلُّ تَأْوِيلٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَلَا مَعَهُ قَرِينَةٌ تَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُبَيِّنُ الْهَادِي بِكَلَامِهِ، إِذْ لَوْ قَصَدَهُ لَحَفَّ بِالْكَلَامِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِظَاهِرِهِ، حَتَّى لَا يُوقِعَ السَّامِعَ فِي اللَّبْسِ وَالْخَطَأِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ بَيَانًا وَهُدًى، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يَحُفَّ بِهِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ، لَمْ يَكُنْ بَيَانًا وَلَا هُدًى. فَالتَّأْوِيلُ إِخْبَارٌ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ لَا إِنْشَاءٌ.
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فَهْمُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَعْنَى اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ إِخْبَارًا بِالَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَبَرُ مُطَابِقًا كَانَ كَذِبًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَيُعْرَفُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
مِنْهَا: أَنْ يُصَرِّحَ بِإِرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّفْظَ الَّذِي لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِالْوَضْعِ، وَلَا يُبَيِّنُ بِقَرِينَةٍ تَصْحَبُ الْكَلَامَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَيْفَ إِذَا حُفَّ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ حَقِيقَتَهُ وَمَا وُضِعَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3) . و «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 103.
(2) سورة طه آية 110.
(3) سورة النِّسَاءِ آية 164.(1/164)
تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» . فَهَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ السَّامِعُ لَهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ مُرَادِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ لَفْظِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُؤَكِّدَةِ، كَانَ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ. وَأَمَّا إِذَا تَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ هَذَا مُرَادُهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِالرَّأْيِ، وَتَوَهُّمٌ بِالْهَوَى.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَحْمِلُهُ عَلَى كَذَا، أَوْ: نَتَأَوَّلُهُ بِكَذَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ، فَإِنَّ مُنَازِعَهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ وُرُودِهِ، دَفَعَ مَعْنَاهُ، وَقَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ لِلْحَمْلِ مَعْنًى آخَرَ، لَمْ تَذْكُرُوهُ، وَهُوَ: أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ، اسْتَدْلَلْنَا بِوُرُودِهِ وَعَدَمِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مَجَازَهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ دَلَالَةً لَا ابْتِدَاءً.
قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَهُ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ وَإِمَّا كَذِبٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، بَلْ يَقْرُنُ بِكَلَامِهِ مَا يُؤَكِّدُ إِرَادَةَ الْحَقِيقَةِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، إِذَا قَصَدَ التَّعْمِيَةَ عَلَى السَّامِعِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُنْكَرَ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ الْبَيَانَ وَالْإِيضَاحَ وَإِفْهَامَ مُرَادِهِ! كَيْفَ وَالْمُتَكَلِّمُ يُؤَكِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي الْمَجَازَ، وَيُكَرِّرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ.
وَقَوْلُهُ: "فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ".
أَيْ: سَلَّمَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهَا بِالشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِضِدِّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ! وَالْعَقْلُ أَصْلُ النَّقْلِ! ! فَإِذَا عَارَضَهُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ! ! وَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ. لَكِنْ إِذَا جَاءَ مَا يُوهِمُ مِثْلَ ذَلِكَ: فَإِنْ(1/165)
كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَذَلِكَ الَّذِي يُدَّعَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِنَّمَا هُوَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ لَظَهَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ غَيْرَ صَحِيحٍ فَلَا يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَارَضَ عَقْلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ أَبَدًا. وَيُعَارَضُ كَلَامُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ بِنَظِيرِهِ، فَيُقَالُ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ النَّقْلِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَدْلُولَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَرَفَعُهُمَا رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ، وَتَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ وَوُجُوبِ قَبُولِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ أَبْطَلْنَا النَّقْلَ لَكُنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ، وَلَوْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلنَّقْلِ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُوجِبًا عَدَمَ تَقْدِيمِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ. وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى صِدْقِ السَّمْعِ وَصِحَّتِهِ، وَأَنَّ خَبَرَهُ مُطَابِقٌ لِمُخْبِرِهِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ بَاطِلَةً لِبُطْلَانِ النَّقْلِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْلُ دَلِيلًا صَحِيحًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَّبَعَ بِحَالٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ، فَصَارَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ قَدْحًا فِي الْعَقْلِ.
فَالْوَاجِبُ كَمَالُ التَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ، وَتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، دُونَ أَنْ يُعَارِضَهُ بِخَيَالٍ بَاطِلٍ يُسَمِّيهِ مَعْقُولًا، أَوْ نُحَمِّلَهُ شُبْهَةً (1) أَوْ شَكًّا، أَوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَزُبَالَةَ أَذْهَانِهِمْ، فَيُوَحِّدَهُ بِالتَّحْكِيمِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ، كَمَا وَحَّدَ الْمُرْسِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ.
فَهُمَا تَوْحِيدَانِ، لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا بِهِمَا: تَوْحِيدُ الْمُرْسِلِ، وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، فَلَا يُحَاكِمُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ،
__________
(1) في المطبوعة «بشبهة» وهو خطأ.(1/166)
وَلَا يَقِفُ تَنْفِيذَ أَمْرِهِ وَتَصْدِيقَ خَبَرِهِ عَلَى عَرْضِهِ عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ وَإِمَامِهِ وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ وَمَنْ يُعَظِّمُهُ، فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ نَفَّذَهُ وَقَبِلَ خَبَرَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ فَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ وَأَعْرَضَ عَنْ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ، وَإِلَّا حَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَسَمَّى تَحْرِيفَهُ تَأْوِيلًا وَحَمْلًا، فَقَالَ: نُؤَوِّلُهُ وَنَحْمِلُهُ. فَلَأَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ - مَا خَلَا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَذِهِ الْحَالِ.
بَلْ إِذَا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَعُدُّ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَ قَبُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى رَأْيِ فُلَانٍ وَكَلَامِهِ وَمَذْهَبِهِ؟ ! بَلْ كَانَ الْفَرْضُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى امْتِثَالِهِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَشْكَلُ قَوْلُهُ لِمُخَالَفَتِهِ رَأْيَ فُلَانٍ، بَلْ تُسْتَشْكَلُ الْآرَاءُ لِقَوْلِهِ، وَلَا يُعَارَضُ نَصُّهُ بِقِيَاسٍ، بَلْ تُهْدَرُ الْأَقْيِسَةُ، وَتُلْغَى لِنُصُوصِهِ، وَلَا يُحَرَّفُ كَلَامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، لِخَيَالٍ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ مَعْقُولًا، نَعَمْ هُوَ مَجْهُولٌ، وَعَنِ الصَّوَابِ مَعْزُولٌ! وَلَا يُوقَفُ قَبُولُ قَوْلِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ فُلَانٍ دُونَ فُلَانٍ، كَائِنًا مَنْ كَانَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، أَقْبَلْتُ أَنَا وَأَخِي، وَإِذَا مَشْيَخَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً، إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَتَمَارَوْا فِيهَا، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ، وَيَقُولُ: مَهْلًا يَا قَوْمِ! بِهَذَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمُ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ(1/167)
مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» (1) .
وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (3) فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَيُصَدِّقُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ خَالَفَهُ أَوْ وَافَقَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُجْمَلًا لَا يَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِهِ، أَوْ قَدَ عَرَفَ مُرَادَهُ لَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ جَاءَ الرَّسُولُ بِتَصْدِيقِهِ أَوْ بِتَكْذِيبِهِ - فَإِنَّهُ يُمْسِكُ عَنْهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِعِلْمٍ، وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.
وَقَدْ يَكُونُ عِلْمٌ عَنْ غَيْرِ الرَّسُولِ، لَكِنْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِثْلَ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْفِلَاحَةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الدِّينِيَّةُ، فَهَذِهِ الْعِلْمُ فِيهَا مَا أُخِذَ عَنِ الرَّسُولِ لَا غَيْرَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) .
ش: هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، إِذِ الْقَدَمُ الْحِسِّيُّ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ شَيْءٍ. أَيْ لَا يَثْبُتُ إِسْلَامُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِنُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ، وَيَنْقَادُ إِلَيْهَا، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا وَلَا يُعَارِضُهَا بِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ وَقِيَاسِهِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ،
__________
(1) هو الحديث: 6702 في مسند الإمام أحمد، بتحقيقنا. وهو حديث صحيح. ومعناه ثابت في المسند أيضًا، مختصرًا، برقم: 6668. وثابت أيضًا باختصار، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن شعيب، رواه أحمد: 6741، عن عبد الرزاق، ورواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ص: 78، من طريق عبد الرزاق: وروى مسلم في صحيحه 2: 304، نحو معناه من رواية عبد الله بن رباح عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهو كذلك في المسند: 6801.
(2) سورة الْأَعْرَافِ آية 33.
(3) سورة الْإِسْرَاءِ آية 36.(1/168)
وَمِنَ الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ. وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ نَافِعٌ.
وَمَا أَحْسَنَ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ لِلنَّقْلِ مَعَ الْعَقْلِ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَقْلَ مَعَ النَّقْلِ كَالْعَامِّيِّ الْمُقَلِّدِ مَعَ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، بَلْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ الْعَامِّيَّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا، وَلَا يُمْكِنُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَصِيرَ نَبِيًّا رَسُولًا، فَإِذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ الْمُقَلِّدُ عَالِمًا، فَدَلَّ عَلَيْهِ عَامِّيًّا آخَرَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفْتِي وَالدَّالُّ، فَإِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي، دُونَ الدَّالِّ، فَلَوْ قَالَ الدَّالُّ: الصَّوَابُ مَعِي دُونَ الْمُفْتِي، لِأَنِّي أَنَا الْأَصْلُ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّهُ مُفْتٍ، فَإِذَا قَدَّمْتَ قَوْلَهُ عَلَى قَوْلِي قَدَحْتَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي بِهِ عَرَفْتَ أَنَّهُ مُفْتٍ، فَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي فَرْعِهِ! فَيَقُولُ لَهُ الْمُسْتَفْتِي: أَنْتَ لَمَّا شَهِدْتَ لَهُ بِأَنَّهُ مُفْتٍ، وَدَلَلْتَ عَلَيْهِ، شَهِدْتَ لَهُ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِ دُونَكَ، فَمُوَافَقَتِي لَكَ فِي هَذَا الْعَلَمِ الْمُعَيَّنِ، لَا تَسْتَلْزِمُ مُوَافَقَتَكَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَخَطَؤُكُ فِيمَا خَالَفْتَ فِيهِ الْمُفْتِيَ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، لَا يَسْتَلْزِمُ خَطَأَكَ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّهُ مُفْتٍ، هَذَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُفْتِيَ قَدْ يُخْطِئُ.
وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ مَعْصُومٌ فِي خَبَرِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لَهُ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِلرَّسُولِ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تُلْقِيهِ عَلَيْنَا، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي جِئْتَنَا بِهَا، قَدْ تَضَمَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تُنَاقِضُ مَا عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا، وَنَحْنُ إِنَّمَا عِلِمْنَا صِدْقَكَ بِعُقُولِنَا، فَلَوْ قَبِلْنَا جَمِيعَ مَا تَقُولُهُ مَعَ أَنَّ عُقُولَنَا تُنَاقِضُ ذَلِكَ لَكَانَ قَدْحًا فِي مَا عَلِمْنَا بِهِ صِدْقَكَ، فَنَحْنُ نَعْتَقِدُ مُوجِبَ الْأَقْوَالِ الْمُنَاقِضَةِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِكَ، وَكَلَامُكَ نُعْرِضُ عَنْهُ، لَا نَتَلَقَّى مِنْهُ هَدْيًا وَلَا عِلْمًا، لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُ الرَّسُولُ بِهَذَا، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَوْ سَاغَ لَأَمْكَنَ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ لَا يُؤْمِنَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، إِذِ الْعُقُولُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالشُّبُهَاتُ كَثِيرَةٌ، وَالشَّيَاطِينُ لَا تَزَالُ تُلْقِي الْوَسَاوِسَ فِي النُّفُوسِ، فَيُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ(1/169)
مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا أَمَرَ بِهِ! ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (1) وَقَالَ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) . {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) . {حم} {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (5) . {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (6) {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (7) {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (8) وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
فَأَمْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ تَكَلَّمَ فِيهِ (بِمَا يَدُلُّ) (9) عَلَى الْحَقِّ أَمْ لَا؟ الثَّانِي بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ مُحْتَمِلَةٍ، فَمَا بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ خَيْرُ الْقُرُونِ بِالْبَلَاغِ، وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُبَلِّغِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الْإِيمَانِ) .
ش: هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَزِيَادَةُ تَحْذِيرٍ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ - بَلْ وَفِي غَيْرِهَا- بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (10) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ}
__________
(1) سورة المائدة آية 99.
(2) سورة النَّحْلِ آية 35.
(3) سورة إِبْرَاهِيمَ آية 4.
(4) سورة الْمَائِدَةِ آية 15.
(5) سورة الزخرف الآيتان 1، 2.
(6) سورة الشعراء آية 2.
(7) سورة يُوسُفَ آية 111.
(8) سورة النَّحْلِ آية 89.
(9) الزيادة ضرورية لصحة الكلام. لم تذكر في المطبوعة.
(10) سورة الْإِسْرَاءِ آية 36.(1/170)
{النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (4) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} (5) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصيمُ» . خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلرَّسُولِ نَقَصَ تَوْحِيدُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، أَوْ يُقَلِّدُ ذَا رَأْيٍ وَهَوًى بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَيَنْقُصُ مِنْ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ خُرُوجِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنَّهُ قَدِ اتَّخَذَهُ فِي ذَلِكَ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (6) أَيْ: عَبَدَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. وَإِنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْعَالَمِ مِنْ ثَلَاثِ فِرَقٍ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
__________
(1) سورة الْحَجِّ آية 3، 4.
(2) سورة الْحَجِّ آية 8، 9.
(3) سورة الْقَصَصِ آية 50.
(4) سورة النَّجْمِ آية 23.
(5) سورة الزُّخْرُفِ آية 58.
(6) سورة الْجَاثِيَةِ آية 23.(1/171)
فَالْمُلُوكُ الْجَائِرَةُ يَعْتَرِضُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالسِّيَاسَاتِ الْجَائِرَةِ، وَيُعَارِضُونَهَا بِهَا، وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَحْبَارُ السُّوءِ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْخَارِجُونَ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِآرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، الْمُتَضَمِّنَةِ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ، وَاعْتِبَارَ مَا أَلْغَاهُ، وَإِلْغَاءَ مَا اعْتَبَرَهُ، وَإِطْلَاقَ مَا قَيَّدَهُ، وَتَقْيِيدَ مَا أَطْلَقَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالرُّهْبَانُ وَهُمْ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ، الْمُعْتَرِضُونَ عَلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالشَّرْعِ، بِالْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْخَيَالَاتِ وَالْكُشُوفَاتِ الْبَاطِلَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، الْمُتَضَمِّنَةِ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَإِبْطَالَ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّعَوُّضَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ بِخُدَعِ الشَّيْطَانِ وَحُظُوظِ النَّفْسِ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: إِذَا تَعَارَضَتِ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ! وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ! وَقَالَ أَصْحَابُ الذَّوْقِ: إِذَا تَعَارَضَ الذَّوْقُ وَالْكَشْفُ، وَظَاهِرُ الشَّرْعِ قَدَّمْنَا الذَّوْقَ وَالْكَشْفَ.
وَمِنْ كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ، أَوْ أَجَلِّهَا: فَإِنْ قُلْتَ: فَعِلْمُ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ مَذْمُومٌ كَعِلْمِ النُّجُومِ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا غُلُوًّا وِإِسْرَافًا فِي أَطْرَافٍ. فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ وَحَرَامٌ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَى الشِّرْكِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِالْكَلَامِ. وَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ فَرْضٌ، إِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَعْلَى الْقُرُبَاتِ، فَإِنَّهُ تَحْقِيقٌ لِعِلْمِ التَّوْحِيدِ وَنِضَالٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ. قَالَ: وَإِلَى التَّحْرِيمِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَسُفْيَانُ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ وَسَاقَ الْأَلْفَاظَ عَنْ هَؤُلَاءِ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا.
لَا يَنْحَصِرُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِيهِ، [وقَالُوا] : (1)
__________
(1) في الأصل: (قالوا) ، والتصحيح من الإحياء 1 / 95. ن.(1/172)
مَا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ - مَعَ أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالْحَقَائِقِ وَأَفْصَحُ بِتَرْتِيبِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِهِمْ - إِلَّا لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الشَّرِّ. [وَلِذَلِكَ] (1) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» . أَيِ الْمُتَعَمِّقُونَ فِي الْبَحْثِ وَالِاسْتِقْصَاءِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنَ الدِّينِ لَكَانَ أَهَمَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلَمُ طَرِيقُهُ وَيُثْنِي عَلَى أَرْبَابِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ اسْتِدْلَالِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْمُخْتَارُ عِنْدَكَ؟ فَأَجَابَ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ: فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ: فهو [باعتبار منفعته] (2) فَهُوَ فِي وَقْتِ الْانْتِفَاعِ حَلَالٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ. وَهُوَ بِاعْتِبَارِ مَضَرَّتِهِ فِي وَقْتِ الْاسْتِضْرَارِ وَمَحِلِّهِ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَمَّا مَضَرَّتُهُ، فَإِثَارَةُ الشُّبُهَاتِ، وَتَحْرِيفُ الْعَقَائِدِ وَإِزَالَتُهَا عَنِ الْجَزْمِ وَالتَّصْمِيمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْابْتِدَاءِ، وَرُجُوعُهَا بِالدَّلِيلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَشْخَاصُ. فَهَذَا ضَرَرُهُ فِي اعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَلَهُ ضَرَرٌ فِي تَأْكِيدِ اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ، وَتَثْبِيتِهَا فِي صُدُورِهِمْ، بِحَيْثُ تَنْبَعِثُ دَوَاعِيهِمْ وَيَشْتَدُّ حِرْصُهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الضَّرَرَ بِوَاسِطَةِ التَّعَصُّبِ الَّذِي يَثُورُ مِنَ الْجَدَلِ.
قَالَ: وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فَائِدَتَهُ كَشْفُ الْحَقَائِقِ وَمَعْرِفَتُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ [وَهَيْهَاتَ] (3) فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ وَفَاءٌ بِهَذَا الْمَطْلَبِ الشَّرِيفِ، وَلَعَلَّ التَّخْبِيطَ وَالتَّضْلِيلَ [فِيهِ] (4) أَكْثَرُ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ. قَالَ: وَهَذَا إِذَا سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَدِّثٍ أَوْ حَشْوِيٍّ رُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِكَ أَنَّ النَّاسَ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، فَاسْمَعْ هَذَا مِمَّنْ خَبَرَ الْكَلَامَ، ثُمَّ [قَلاهُ] (5) بَعْدَ حَقِيقَةِ الْخِبْرَةِ وَبَعْدَ التَّغَلْغُلِ فِيهِ إِلَى مُنْتَهَى دَرَجَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَمُّقِ فِي عُلُومٍ أُخَرَ [تناسب] (6) نَوْعِ الْكَلَامِ،
__________
(1) في الأصل: (وكذلك) . والتصحيح من الإحياء 1 / 95. ن.
(2) سقطت من الأصل، وأثبتت من الإحياء 1 / 97. ن.
(3) في الأصل: (وهيئتها) ، وما أثبتناه من الإحياء 1 / 97. ن.
(4) سقطت من الأصل، وأثبتناها من الإحياء 1 / 97. ن.
(5) في الأصل: (قاله) وما أثبتناه من الإحياء 1 / 97. ن.
(6) في الأصل: (سوى) وما أثبتناه من الإحياء 1 / 97. ن.(1/173)
وَتَحَقَّقَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَسْدُودٌ. وَلَعَمْرِي لَا يَنْفَكُّ الْكَلَامُ عَنْ كَشْفٍ وَتَعْرِيفٍ وَإِيضَاحٍ لِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ عَلَى النُّدُورِ. انْتَهَى مَا نَقَلْتُهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَلَامُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ، وَالسَّلَفُ لَمْ يَكْرَهُوهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ اصْطِلَاحًا جَدِيدًا عَلَى مَعَانٍ صَحِيحَةٍ، كَالْاصْطِلَاحِ عَلَى أَلْفَاظٍ لِعُلُومٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا كَرِهُوا أَيْضًا الدَّلَالَةَ عَلَى الْحَقِّ وَالْمُحَاجَّةِ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، بَلْ كَرِهُوهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أُمُورٍ كَاذِبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْحَقِّ. وَمِنْ ذَلِكَ: مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ عُلُومٍ صَحِيحَةٍ، فَقَدَ وَعَّرُوا الطَّرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَأَطَالُوا الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِهَا مَعَ قِلَّةِ نَفْعِهَا، فَهِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَى (1) وَأَحْسَنُ مَا عِنْدَهُمْ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَصَحُّ تَقْرِيرًا، وَأَحْسَنُ تَفْسِيرًا، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا التَّكَلُّفُ وَالتَّطْوِيلُ وَالتَّعْقِيدُ. كَمَا قِيلَ:
لَوْلَا التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا لَمَا وُضِعَتْ ... كُتْبُ التَّنَاظُرِ لَا الْمُغْنِي وَلَا الْعَمَدُ
يُحَلِّلُونَ بِزَعْمٍ مِنْهُمُ عُقَدًا ... وَبِالَّذِي وَضَعُوهُ زَادَتِ الْعُقَدُ
فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِالَّذِي وَضَعُوهُ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ، وَالْفَاضِلُ [الذَّكِيُّ] (2) الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ زَادَتْ بِذَلِكَ.
وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يَحْصُلَ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْيَقِينُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَيَحْصُلَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَيِّرِينَ. بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَتَدَبَّرَ مَعْنَاهُ وَيَعْقِلَهُ، وَيَعْرِفَ بُرْهَانَهُ وَدَلِيلَهُ إِمَّا الْعَقْلِيُّ وَإِمَّا الْخَبَرِيُّ السَّمْعِيُّ، وَيَعْرِفَ دَلَالَتَهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَيَجْعَلَ أَقْوَالَ النَّاسِ الَّتِي تُوَافِقُهُ وَتُخَالِفُهُ مُتَشَابِهَةً مُجْمَلَةً، فَيُقَالُ لِأَصْحَابِهَا: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَحْتَمِلُ كَذَا
__________
(1) في المطبوعة «فَيُنْتَقَلُ» . وهو خطأ مطبعي واضح.
(2) في الأصل: (الذي) والصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن.(1/174)
وَكَذَا، فَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ قُبِلَ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُخَالِفُهُ رُدَّ. وَهَذَا مِثْلُ لَفْظِ الْمُرَكَّبِ وَالْجِسْمِ وَالْمُتَحَيِّزِ وَالْجَوْهَرِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْعَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَمْ تَأْتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ أَهْلُ الْاصْطِلَاحِ، بَلْ وَلَا فِي اللُّغَةِ، بَلْ هُمْ يَخْتَصُّونَ بِالتَّعْبِيرِ بِهَا عَنْ مَعَانٍ لَمْ يُعَبِّرْ غَيْرُهُمْ عَنْهَا بِهَا، فَتُفَسَّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي بِعِبَارَاتٍ أُخَرَ، وَيُنْظَرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ.
مِثَالُ ذَلِكَ، فِي التَّرْكِيبِ. فَقَدْ صَارَ لَهُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا. التَّرْكِيبُ مِنْ مُتَبَايِنَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَيُسَمَّى: تَرْكِيبَ مَزْجٍ، كَتَرْكِيبِ الْحَيَوَانِ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ وَالْأَعْضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ.
وَالثَّانِي: تَرْكِيبُ الْجِوَارِ، كَمِصْرَاعَيِ الْبَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ ثُبُوتِ صِفَاتِهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ هَذَا التَّرْكِيبِ.
الثَّالِثُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ، وَتُسَمَّى: الْجَوَاهِرَ الْمُفْرَدَةَ.
الرَّابِعُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ، كَالْخَاتَمِ مَثَلًا، هَيُولَاهُ: الْفِضَّةُ، وَصُورَتُهُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَالُوا: إِنَّ الْجِسْمَ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، وَلَهُمْ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ يَطُولُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ: هَلْ يُمْكِنُ التَّرْكِيبُ مِنْ جُزءَيْنِ، أَوْ مِنْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ مِنْ سِتَّةٍ، أَوْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ؟ وَلَيْسَ هَذَا التَّرْكِيبُ لَازِمًا لِثُبُوتِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْجِسْمَ غَيْرُ مُرَكَّبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُمْ مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.(1/175)
الْخَامِسُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، هُمْ سَمَّوْهُ تَرْكِيبًا لِيَنْفُوا بِهِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي اسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ، فَلَسْنَا نُوَافِقُهُمْ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَلَا كَرَامَةَ. وَلَئِنْ سَمَّوْا إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ تَرْكِيبًا، فَنَقُولُ لَهُمْ: الْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ، سَمُّوهُ مَا شِئْتُمْ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّسْمِيَةِ بِدُونِ الْمَعْنَى حُكْمٌ! فَلَوِ اصْطُلِحَ عَلَى تَسْمِيَةِ اللَّبَنِ خَمْرًا، لَمْ يَحْرُمْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ.
السَّادِسُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا، وَهَذَا يَفْرِضُهُ الذِّهْنُ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ، وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ، هَلْ يُمْكِنُ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ وُجُودِهَا، وَوُجُودُهَا مُجَرَّدٌ عَنْهَا؟ هَذَا مُحَالٌ. فَتَرَى أَهْلَ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: هَلْ ذَاتُ الرَّبِّ وُجُودُهُ أَمْ غَيْرُ وُجُودِهِ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ كَثِيرٌ. وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً رَأْيُ الْوَقْفِ وَالشَّكِّ فِي ذَلِكَ. وَكَمْ زَالَ بِالْاسْتِفْسَارِ وَالتَّفْصِيلِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَضَالِيلِ وَالْأَبَاطِيلِ.
وَسَبَبُ الْإِضْلَالِ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَدَبُّرِ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِكَلَامِ الْيُونَانِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ: أَهْلَ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفِيدُوا عِلْمًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا أَتَوْا بِزِيَادَةِ كَلَامٍ قَدْ لَا يُفِيدُ، وَهُوَ مَا يَضْرِبُونَهُ مِنَ الْقِيَاسِ لِإِيضَاحِ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ وَأَمْثَالُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَعَ مَنْ يُنْكِرُ الْحِسَّ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَذَوْقِهِ وَسِيَاسَتِهِ - مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، أَوْ عَارَضَ النَّصَّ بِالْمَعْقُولِ - فَقَدْ ضَاهَى إِبْلِيسَ، حَيْثُ لَمْ يُسَلِّمْ لِأَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى}
__________
(1) سورة ص آية 76.
(2) سورة النِّسَاءِ آية 80.
(3) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 31.(1/176)
{يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا نَبِيَّهُ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِهِ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
قَوْلُهُ: (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، مُوَسْوِسًا تَائِهًا، شَاكًّا، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا) .
ش: يَتَذَبْذَبُ: يَضْطَرِبُ وَيَتَرَدَّدُ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي وَصَفَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَالُ كُلِّ مَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى عِلْمِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَأَوَّلُ النَّصَّ وَيَرُدُّهُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَئُولُ أَمْرُهُ إِلَى الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ وَالشَّكِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَقَالَاتِهِمْ، فِي كِتَابِهِ"تَهَافُتِ التَّهَافُتِ": "وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟ ". وَكَذَلِكَ الْآمِدِيُّ، أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَاقِفٌ فِي الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ حَائِرٌ. وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، انْتَهَى آخِرُ أَمْرِهِ إِلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الطُّرُقِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَحَادِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَاتَ وَالْبُخَارِيُّ عَلَى صَدْرِهِ. وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ، قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي [أَقْسَامِ] اللَّذَّاتِ (2)
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا
__________
(1) سورة النِّسَاءِ آية 65.
(2) في المطبوعة «اللذات"فقط. ولم أجد اسم هذا الكتاب إلا في هامش كتاب «مختصر الصواعق المرسلة» لابن القيم، طبعة السلفية بمكة المكرمة سنة 1348 ج1 ص10، وقد ذكرت الثلاثة الأبيات الأولى هناك. والأبيات الخمسة مذكورة في ترجمة الفخر الرازي من كتاب طبقات الشافعية لابن السبكي 5: 40. ومنها بيتان في ترجمته عند الحافظ ابن كثير في تاريخه 13: 56.(1/177)
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ ... فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا ... رِجَالٌ، فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ
لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تُرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (2) وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4) ثُمَّ قَالَ: "وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي".
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيُّ، إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، حَيْثُ قَالَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ: يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ، فَلَوْ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إِلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْتُ بِهِ. وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ، وَخَلَّيْتُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ، وَدَخَلْتُ فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالْآنَ فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي، أَوْ قَالَ: عَلَى عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ. وَكَذَلِكَ قَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْخُسْرَوْشَاهِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ تَلَامِذَةِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَالَ: مَا تَعْتَقِدُ؟ قَالَ: مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: وَأَنْتَ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ لِذَلِكَ مُسْتَيْقِنٌ بِهِ؟ أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ، وَاللَّهِ مَا
__________
(1) سورة طَهَ آية 5.
(2) سورة فَاطِرٍ آية 10.
(3) سورة الشُّورَى آية 11.
(4) سورة طَهَ آية 110.(1/178)
أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ، وَبَكَى حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ. وَلِابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الْفَاضِلِ الْمَشْهُورِ بِالْعِرَاقِ:
فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ ... حَارَ أَمْرِي وَانْقَضَى عُمُرِي
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا ... رَبِحَتْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ
فَلَحَى اللَّهُ الْأُلَى زَعَمُوا ... أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَرِ
كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا ... خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَرِ
وَقَالَ الْخَوْفَجِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ: مَا عَرَفْتُ مِمَّا حَصَّلْتُهُ شَيْئًا سِوَى أَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُرَجَّحِ، ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ، أَمُوتُ وَمَا عَرَفْتُ شَيْئًا وَقَالَ آخَرُ: أَضْطَجِعُ عَلَى فِرَاشِي وَأَضَعُ الْمِلْحَفَةَ عَلَى وَجْهِي، وَأُقَابِلُ بَيْنَ حُجَجِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ.
وَمَنْ يَصِلْ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَإِلَّا تَزَنْدَقَ، كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ: لَقَدِ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا ظَنَنْتُ مُسْلِمًا يَقُولُهُ، وَلَأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ -مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ. انْتَهَى.
وَتَجِدُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْمَوْتِ يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ الْعَجَائِزِ، فَيُقِرُّ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ وَيُعْرِضُ عَنْ تِلْكَ الدَّقَائِقِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ، الَّتِي كَانَ يَقْطَعُ بِهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُهَا، أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّتُهَا، فَيَكُونُونَ فِي نِهَايَاتِهِمْ - إِذَا سَلِمُوا مِنَ الْعَذَابِ - بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَعْرَابِ.
وَالدَّوَاءُ النَّافِعُ لِمِثْلِ هَذَا الْمَرَضِ، مَا كَانَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَقُولُهُ - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ -: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ(1/179)
وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. تَوَسَّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَبِّهِ بِرُبُوبِيَّةِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، إِذْ حَيَاةُ الْقَلْبِ بِالْهِدَايَةِ. وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ بِالْحَيَاةِ: فَجِبْرِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ، وَمِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَإِسْرَافِيلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْعَالَمِ وَعَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى أَجْسَادِهَا. فَالتَّوَسُّلُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْعَظِيمَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِالْحَيَاةِ، لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ، إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ، وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى [الرُّبُوبِيَّةِ] (1) - بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ، وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ، الْحَدِيثَ: أَدْخَلَ ((كَافَ)) التَّشْبِيهِ عَلَى ((مَا)) الْمَصْدَرِيَّةِ [أَوِ] الْمَوْصُولَةِ بِ"تَرَوْنَ"الَّتِي تتأول مَعَ صِلَتِهَا إِلَى الْمَصْدَرِ (2) الَّذِي هُوَ"الرُّؤْيَةُ"، فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي الرُّؤْيَةِ لَا فِي الْمَرْئِيِّ. وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ وَتَحْقِيقُهَا، وَدَفْعُ الْاحْتِمَالَاتِ عَنْهَا. وَمَاذَا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذَا الْإِيضَاحِ؟ ! فَإِذَا سُلِّطَ التَّأْوِيلُ
__________
(1) في الأصل: (الرؤية) . ولعل الصواب ما أثبتناه من أكثر النسخ وسائر المتون. وانظر ص 472. ن.
(2) في المطبوعة «على ما المصدرية الموصولة"وهو تخليط من الناسخ، إذ حذف (أو) . لأن «ما» المصدرية حرف، و «ما» الموصولة اسم. وهي في الحالين تؤول مع الفعل بعدها بمصدر.(1/180)
عَلَى مِثْلِ هَذَا النَّصِّ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِنَصٍّ مِنَ النُّصُوصِ؟! وَهَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا النَّصُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ رَبَّكُمْ كَمَا تَعْلَمُونَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟! وَيَسْتَشْهِدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (1) وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا اسْتُعْمِلَ فِيهِ ((رَأَى)) الَّتِي مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ! ! وَلَا شَكَّ أَنَّ رَأَى تَارَةً تَكُونُ بَصَرِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ قَلْبِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ رُؤْيَا الْحُلْمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا يَخْلُو الْكَلَامُ مِنْ قَرِينَةٍ تُخَلِّصُ أَحَدَ مَعَانِيهِ مِنَ الْبَاقِي. وَإِلَّا لَوْ أَخْلَى الْمُتَكَلِّمُ كَلَامَهُ مِنَ الْقَرِينَةِ الْمُخَلِّصَةِ لِأَحَدِ الْمَعَانِي لَكَانَ مُجْمَلًا مُلْغِزًا، لَا مُبَيِّنًا مُوَضِّحًا. وَأَيُّ بَيَانٍ وَقَرِينَةٍ فَوْقَ قَوْلِهِ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» ؟ فَهَلْ مِثْلُ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ، أَوْ بِرُؤْيَةِ الْقَلْبِ؟ وَهَلْ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا إِلَّا عَلَى مَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: أَلْجَأَنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، حُكْمُ الْعَقْلِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ إِمْكَانُهَا! فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى مِنْكُمْ، خَالَفَكُمْ فِيهَا أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهَا، بَلْ لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعَقْلِ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ لَحُكِمَ بِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ.
وَقَوْلُهُ: "لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ"، أَيْ تَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرَى عَلَى صِفَةِ كَذَا، فَيَتَوَهَّمُ تَشْبِيهًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا التَّوَهُّمِ - إِنْ أَثْبَتَ مَا تَوَهَّمَهُ مِنَ الْوَصْفِ - فَهُوَ مُشَبِّهٌ، وَإِنْ نَفَى الرُّؤْيَةَ مِنْ أَصْلِهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ - فَهُوَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ. بَلِ الْوَاجِبُ دَفْعُ ذَلِكَ الْوَهْمِ وَحْدَهُ، وَلَا يَعُمُّ بِنَفْيِهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَيَنْفِيَهُمَا رَدًّا عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الْبَاطِلَ، بَلِ الْوَاجِبُ رَدُّ الْبَاطِلِ وَإِثْبَاتُ الْحَقِّ.
__________
(1) سورة الْفِيلِ آية 1.(1/181)
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ بِهَذَا النَّفْيِ! وَهَلْ يَكُونُ التَّنْزِيهُ بِنَفْيِ صِفَةِ الْكَمَالِ؟ فَإِنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِصِفَةِ كَمَالٍ، إِذِ الْمَعْدُومُ لَا يُرَى، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَنَفْيِ إِدْرَاكِ الرَّائِي لَهُ إِدْرَاكَ إِحَاطَةٍ، كَمَا فِي، فَإِنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ بِهِ لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْإِحَاطَةِ بِهِ عِلْمًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً، كَمَا لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا.
وَقَوْلُهُ: "أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ" أَيِ ادَّعَى أَنَّهُ فَهِمَ لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَمَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ مِنْ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ قَدْ صَارَ اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَعْنَى التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَبِهَذَا تَسَلَّطَ الْمُحَرِّفُونَ عَلَى النُّصُوصِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَتَأَوَّلُ مَا يُخَالِفُ قَوْلَنَا، فَسَمَّوُا التَّحْرِيفَ تَأْوِيلًا، تَزْيِينًا لَهُ وَزَخْرَفَةً لِيُقْبَلَ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ زَخْرَفُوا الْبَاطِلَ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (1) وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ. فَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُزَخْرَفٌ عُورِضَ بِهِ دَلِيلُ الْحَقِّ. وَكَلَامُهُ هَنَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: "لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا". ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: "إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ - وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ: تَرْكَ التَّأْوِيلِ، وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ". وَمُرَادُهُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ [الَّذِي] يُسَمُّونَهُ تَأْوِيلًا، وَهُوَ تَحْرِيفٌ. وَلَكِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَأَدَّبَ وَجَادَلَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وَلَيْسَ مُرَادُهُ تَرْكَ كُلِّ مَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا، وَلَا تَرْكَ شَيْءٍ مِنَ
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 112.
(2) سورة النَّحْلِ آية 125.(1/182)
الظَّوَاهِرِ لِبَعْضِ النَّاسِ لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَإِنَّمَا مُرَادُهُ تَرْكُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، الْمُخَالَفَةِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ، الَّتِي يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى فَسَادِهَا، وَتَرْكُ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ.
فَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، تَأْوِيلُ أَدِلَّةِ الرُّؤْيَةِ، وَأَدِلَّةِ الْعُلُوِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا! ثُمَّ قَدْ صَارَ لَفْظُ التَّأْوِيلِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ.
فَالتَّأْوِيلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ. فَتَأْوِيلُ الْخَبَرِ: هُوَ عَيْنُ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ نَفْسُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)) يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» . وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (1) . وَمِنْهُ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، وَتَأْوِيلُ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (2) . وَقَوْلِهِ: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} (3) . وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4) . وَقَوْلِهِ: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (5) ، إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (6) . فَمَنْ يُنْكِرُ وُقُوعَ مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْعِلْمَ بِمَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْهُ؟ وَأَمَّا مَا كَانَ خَبَرًا، كَالْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَهَذَا قَدْ لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ، الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ، إِذْ كَانَتْ لَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ، فَإِنَّ الْمُخْبَرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُخْبَرَ بِهِ، أَوْ مَا يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ، الَّتِي هِيَ تَأْوِيلُهُ، بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ. وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 53.
(2) سورة يُوسُفَ آية 100.
(3) سورة يُوسُفَ آية 6.
(4) سورة النِّسَاءِ آية 59.
(5) سورة الْكَهْفِ آية 78.
(6) سورة الْكَهْفِ آية 82.(1/183)
الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ نَفْيُ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَ الْمُخَاطِبُ إِفْهَامَ الْمُخَاطَبِ إِيَّاهُ، فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَا أَنْزَلَ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ مَا عَنَى بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَأْوِيلِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَهَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ.
وَالتَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَابْنِ جَرِيرٍ وَنَحْوِهِ، يُرِيدُونَ بِهِ تَفْسِيرَ الْكَلَامِ وَبَيَانَ مَعْنَاهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ خَالَفَ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ كَالتَّفْسِيرِ، يُحْمَدُ حَقُّهُ، وَيُرَدُّ بَاطِلُهُ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1) ، الْآيَةَ - فِيهَا قِرَاءَتَانِ. قِرَاءَةُ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ {إِلَّا اللَّهُ} ، وَقِرَاءَةُ مَنْ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ. وَيُرَادُ بِالْأُولَى الْمُتَشَابِهُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ. وَيُرَادُ بِالثَّانِيَةِ الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ تَفْسِيرَهُ، وَهُوَ تَأْوِيلُهُ. وَلَا يُرِيدُ مَنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ {إِلَّا اللَّهُ} أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمَعْنَى، فَإِنَّ لَازِمَ هَذَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ كَلَامًا لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ وَلَا الرَّسُولُ، وَيَكُونُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا سِوَى قَوْلِهِمْ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (2) . وَهَذَا الْقَدْرُ يَقُولُهُ غَيْرُ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَجِبُ امْتِيَازُهُمْ عَنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ. وَلَقَدْ صَدَقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَدُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُرَدُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّقُولُ
__________
(1) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 7.
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 7.(1/184)
عَنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْ آيَةٍ: إِنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْأُصُولِ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ (1) الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا، فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَهِيَ الْمُتَشَابِهُ، كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومَ الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَطْلُوبُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (2) . وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ (3) الْعَادِّينَ.
وَالتَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الْاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلَالَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَنَازَعُ النَّاسُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ وَالطَّلَبِيَّةِ. فَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ مِنْهُ: الَّذِي يُوَافِقُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَذُكِرَ فِي ((التَّبْصِرَةِ)) أَنَّ نُصَيْرَ بْنَ يَحْيَى الْبَلْخِيَّ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُؤَدِّي ظَاهِرُهُ إِلَى التَّشْبِيهِ؟ فَقَالَ: نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا، وَلَا نَقُولُ: كَيْفَ وَكَيْفَ. وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الْكُفْرِيَّ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ النَّصِّ وَلَا مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ مَنْ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْهُ فَهُوَ لِقُصُورِ فَهْمِهِ وَنَقْصِ عِلْمِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
__________
(1) في المطبوعة «المتشابهة» . وهو خطأ.
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 7.
(3) في المطبوعة «الجمهور» . وهو خطأ.(1/185)
وَقِيلَ:
عَلَيَّ نَحْتُ الْقَوَافِي مِنْ مَقَاطِعِهَا ... وَمَا عَلَيَّ لَهُمْ أَنْ تَفْهَمَ الْبَقَرُ (1)
فَكَيْفَ يُقَالُ فِي قَوْلِ اللَّهِ، الَّذِي هُوَ أَصْدَقُ الْكَلَامِ وَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2) . إِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ إِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هُوَ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا يَصْلُحُ مِنَ الْاعْتِقَادِ، وَلَا فِيهِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ؟ ! هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْمُتَأَوِّلِينَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ. وَالْمُنَازِعُونَ يَدَّعُونَ دَلَالَتَهُ عَلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ!
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْبَابُ الَّذِي فَتَحْتُمُوهُ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى إِخْوَانِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ حَقِيقَةً، فَقَدْ فَتَحْتُمْ عَلَيْكُمْ بَابًا لِأَنْوَاعِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى سَدِّهِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَوَّغْتُمْ صَرْفَ الْقُرْآنِ عَنْ دَلَالَتِهِ الْمَفْهُومَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَمَا الضَّابِطُ فِيمَا يَسُوغُ تَأْوِيلُهُ وَمَا لَا يَسُوغُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَتِهِ تَأَوَّلْنَاهُ، وَإِلَّا أَقْرَرْنَاهُ! قِيلَ لَكُمْ: وَبِأَيِّ عَقْلٍ نَزِنُ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ؟ فَإِنَّ الْقِرْمِطِيَّ الْبَاطِنِيَّ يَزْعُمُ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى بُطْلَانِ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ! وَيَزْعُمُ الْفَيْلَسُوفُ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى بُطْلَانِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ! وَيَزْعُمُ الْمُعْتَزِلِيُّ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ عِلْمٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ رَحْمَةٍ بِهِ تَعَالَى! ! وَبَابُ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَدَّعِي أَصْحَابُهَا وُجُوبَهَا بِالْمَعْقُولَاتِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ مَحْذُورَانِ عَظِيمَانِ:
__________
(1) هو من قصيدة للبحتري، من أجود قصائده. وهي في ديوانه 2: 182- 184 (طبعة الجوائب سنة 1300) ، ص 673- 675 (طبعة بيروت سنة 1911) . وأثبت في المطبوعة محرفًا. وصوابه ما أثبتنا عن الديوان.
(2) سورة هُودٍ آية 1.(1/186)
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا نُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى نَبْحَثَ قَبْلَ ذَلِكَ بُحُوثًا طَوِيلَةً عَرِيضَةً فِي إِمْكَانِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ! وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَيَؤُولُ الْأَمْرُ إِلَى الْحَيْرَةِ.
الْمَحْذُورُ الثَّانِي (1) : أَنَّ الْقُلُوبَ تَتَخَلَّى عَنِ الْجَزْمِ بِشَيْءٍ تَعْتَقِدُهُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ. إِذْ لَا يُوثَقُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْمُرَادُ، وَالتَّأْوِيلَاتُ مُضْطَرِبَةٌ، فَيَلْزَمُ عَزْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا أَنْبَأَ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ، وَخَاصَّةُ النَّبِيِّ هِيَ الْإِنْبَاءُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ. وَلِهَذَا نَجِدُ أَهْلَ التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلِاعْتِضَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ، إِنْ وَافَقَتْ مَا ادَّعَوْا أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَيْهِ قَبِلُوهُ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ أَوَّلُوهُ! وَهَذَا فَتْحُ بَابِ الزَّنْدَقَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) .
ش: النَّفْيُ وَالتَّشْبِيهُ مَرَضَانِ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ أَمْرَاضَ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ: مَرَضُ شُبْهَةٍ، وَمَرَضُ شَهْوَةٍ، وَكِلَاهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (2) . فَهَذَا مَرَضُ الشَّهْوَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (4) . فَهَذَا مَرَضُ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ أَرْدَأُ مِنْ مَرَضِ الشَّهْوَةِ، إِذْ مَرَضُ الشَّهْوَةِ يُرْجَى لَهُ الشِّفَاءُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَمَرَضُ الشُّبْهَةِ لَا شِفَاءَ لَهُ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.
وَالشُّبْهَةُ الَّتِي فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ نَفْيُهَا وَتَشْبِيهُهَا، وَشُبْهَةُ النَّفْيِ أَرْدَأُ مِنْ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ شُبْهَةَ النَّفْيِ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُبْهَةَ التَّشْبِيهِ غُلُوٌّ وَمُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) في الأصل: (الحيرة المحذورة. الثاني) . والصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن.
(2) سورة الْأَحْزَابِ آية 32
(3) سورة الْبَقَرَةِ آية 10.
(4) سورة التَّوْبَةِ آية 125.(1/187)
وَتَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كُفْرٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) ، وَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) . وَهَذَا أصل نَوْعَيِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ نَوْعَانِ: تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَهَذَا الَّذِي يَتْعَبُ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ، وَأَهْلُهُ فِي النَّاسِ أَقَلُّ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ تَشْبِيهِ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ، كَعُبَّادِ الْمَشَايخ، وَعُزَيْرٍ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْأَصْنَامِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّارِ، وَالْمَاءِ، وَالْعِجْلِ، وَالْقُبُورِ، وَالْجِنِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَتْ لَهُمُ الرُّسُلُ يَدْعُونَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالَّذِي هُوَ وَصْفُهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَكَلَامُ الشَّيْخِ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ. فَقَوْلُهُ: (مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ) مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وَقَوْلُهُ: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} . وَقَوْلُهُ: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (3) . وَهُوَ أَيْضًا مُؤَكِّدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ. وَالْوَصْفُ وَالنَّعْتُ مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: مُتَقَارِبَانِ. فَالْوَصْفُ لِلَذَّاتِ، وَالنَّعْتُ لِلْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ الْوَحْدَانِيَّةُ وَالْفَرْدَانِيَّةُ. وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إِنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ لِلَذَّاتِ، وَالْفَرْدَانِيَّةَ لِلصِّفَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى مُتَوَحِّدٌ فِي ذَاتِهِ، مُتَفَرِّدٌ بِصِفَاتِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ وَلَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَكِنْ فِي اللَّفْظِ نَوْعُ تَكْرِيرٍ. وَلِلشَّيْخِ نَظِيرُ هَذَا التَّكْرِيرِ فِي
__________
(1) سورة الشُّورَى آية 11.
(2) سورة الشُّورَى آية 11.
(3) سورة الإخلاص كاملة.(1/188)
مَوَاضِعَ مِنَ الْعَقِيدَةِ، وَهُوَ بِالْخُطَبِ وَالْأَدْعِيَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْعَقَائِدِ، وَالتَّسْجِيعُ (1) بِالْخُطَبِ أَلْيَقُ. وَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) . أَكْمَلُ فِي التَّنْزِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ) .
ق
َوْلُهُ: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) .
ش: أَذْكُرُ بَيْنَ يَدَيِ الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ: أَنَّ النَّاسَ فِي إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَطَائِفَةٌ تَنْفِيهَا، وَطَائِفَةٌ تُثْبِتُهَا، وَطَائِفَةٌ تُفَصِّلُ، وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلسَّلَفِ، فَلَا يُطْلِقُونَ نَفْيَهَا وَلَا إِثْبَاتَهَا إِلَّا إِذَا بُيِّنَ مَا أُثْبِتَ بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ، وَمَا نُفِيَ بِهَا فَهُوَ مَنْفِيٌّ. لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ فِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، فَلَيْسَ كُلُّهُمْ يَسْتَعْمِلُهَا فِي نَفْسِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ النُّفَاةُ يَنْفُونَ بِهَا حَقًّا وَبَاطِلًا، وَيَذْكُرُونَ عَنْ مُثْبِتِيهَا مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا يُدْخِلُ فِيهَا مَعْنًى بَاطِلًا، مُخَالِفًا لِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ. وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ بِنَفْيِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُونَ.
فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي هَذَا الْبَابِ، أَعْنِي بَابَ الصِّفَاتِ، فَمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثْبَتْنَاهُ، وَمَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَفَيْنَاهُ. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّصُّ يُعْتَصَمُ بِهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَمْ
__________
(1) التسجيع، بالسين المهملة، يعني السجع. وفي المطبوعة (التشجيع) بالشين معجمة! وهو تصحيف سخيف.
(2) سورة الشُّورَى آية 11(1/189)
يَرِدْ نَفْيُهَا وَلَا إِثْبَاتُهَا فَلَا تُطْلَقُ حَتَّى يُنْظَرَ فِي مَقْصُودِ قَائِلِهَا: فَإِنْ كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا قُبِلَ، لَكِنْ يَنْبَغِي التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ النُّصُوصِ، دُونَ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، مَعَ قَرَائِنَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَالْحَاجَةَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مَنْ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ مَعَهُ إِنْ لَمْ يُخَاطَبْ بِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ بِهَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ، كَدَاوُدَ الْجَوَارِبِيِّ وَأَمْثَالِهِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ، وَإِنَّهُ جُثَّةٌ وَأَعْضَاءٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ النَّفْيِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا حَقٌّ، لَكِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مَنْ أَدْخَلَ فِي عُمُومِ نَفْيِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ. وَهُوَ: أَنَّ السَّلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ حَدًّا، وَأَنَّهُمْ لَا يَحُدُّونَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَشَرِيكٌ وَأَبُو عَوَانَةَ - لَا يَحُدُّونَ وَلَا يُشَبِّهُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ، يَرْوُونَ الْحَدِيثَ وَلَا يَقُولُونَ: كَيْفَ؟ وَإِذَا سُئِلُوا قَالُوا بِالْأَثَرِ. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ: وَقَدْ أَعْجَزَ خَلْقَهُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللَّهَ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِحَدِّهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ خَلْقِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُمْ مُبَايِنٌ لَهُمْ. سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: بِمَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، قِيلَ: بِحَدٍّ؟ قَالَ: بِحَدٍّ، انْتَهَى.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَدَّ يُقَالُ عَلَى مَا يَنْفَصِلُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ حَالٍّ فِي خَلْقِهِ، وَلَا قَائِمٍ بِهِمْ، بَلْ هُوَ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِمَا سِوَاهُ. فَالْحَدُّ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ نَفْيِهِ إِلَّا نَفْيُ وُجُودِ الرَّبِّ وَنَفْيُ حَقِيقَتِهِ. وَأَمَّا الْحَدُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَحُدَّهُ الْعِبَادُ، فَهَذَا مُنْتَفٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيَّ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ(1/190)
التُّسْتَرِيَّ يَقُولُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: ذَاتُ اللَّهِ مَوْصُوفَةٌ بِالْعِلْمِ، غَيْرُ مُدْرَكَةٍ بِالْإِحَاطَةِ، وَلَا مَرْئِيَّةٍ بِالْأَبْصَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، مِنْ غَيْرِ حَدٍّ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا حُلُولٍ، وَتَرَاهُ الْعُيُونُ فِي الْعُقْبَى، ظَاهِرًا فِي مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ حَجَبَ الْخَلْقَ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ، فَالْقُلُوبُ تَعْرِفُهُ، وَالْعُيُونُ لَا تُدْرِكُهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُ بِالْأَبْصَارِ، مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا إِدْرَاكِ نِهَايَةٍ.
وَأَمَّا لَفْظُ الْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ - فَيَسْتَدِلّ بِهَا النُّفَاةُ عَلَى نَفْيِ بَعْضِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ((الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ)) : لَهُ يَدٌ وَوَجْهٌ وَنَفْسٌ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالنَّفْسِ، فَهُوَ لَهُ صِفَةٌ بِلَا كَيْفٍ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ يَدَهُ قُدْرَتُهُ وَنِعْمَتُهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ الصِّفَةِ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) . {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3) . {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (5) . وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (6) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (7) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (8) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «لَمَّا يَأْتِي النَّاسُ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ
__________
(1) سورة ص آية 75.
(2) سورة الزُّمَرِ آية 67.
(3) سورة الْقَصَصِ آية 88.
(4) سورة الرَّحْمَنِ آية 27.
(5) سورة الْمَائِدَةِ آية 116.
(6) سورة الْأَنْعَامِ آية 54.
(7) سورة طَهَ آية 41.
(8) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 28.(1/191)
شَيْءٍ» ، الْحَدِيثَ. وَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْقُدْرَةُ (1) ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) . لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِقُدْرَتِي مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَدِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَقَالَ إِبْلِيسُ: وَأَنَا أَيْضًا خَلَقْتَنِي بِقُدْرَتِكَ، فَلَا فَضْلَ لَهُ عَلَيَّ بِذَلِكَ. فَإِبْلِيسُ -مَعَ كُفْرِهِ - كَانَ أَعْرَفَ بِرَبِّهِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ. وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3) . لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمْعَ الْأَيْدِي لَمَّا أَضَافَهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ، لِيَتَنَاسَبَ الْجَمْعَانِ، فَاللَّفْظَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ. وَلَمْ يَقُلْ: ((أَيْدِيَّ)) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ، وَلَا ((يَدَيْنَا)) بِتَثْنِيَةِ الْيَدِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ. فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (4) نَظِيرَ قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (5) . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «حِجَابُهُ النُّورُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ إِنَّهَا أَعْضَاءٌ، أَوْ جَوَارِحٌ، أَوْ أَدَوَاتٌ، أَوْ أَرْكَانٌ، لِأَنَّ الرُّكْنَ جُزْءُ الْمَاهِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لَا يَتَجَزَّأُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْأَعْضَاءُ فِيهَا مَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالتَّعْضِيَةِ (6) ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (7) . وَالْجَوَارِحُ فِيهَا مَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَالِانْتِفَاعِ. وَكَذَلِكَ الْأَدَوَاتُ هِيَ الْآلَاتُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ صَحِيحَةُ الْمَعَانِي، سَالِمَةٌ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، لِئَلَّا يَثْبُتَ مَعْنًى فَاسِدٌ، أَوْ يُنْفَى مَعْنًى صَحِيحٌ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ عُرْضَةٌ لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.
__________
(1) في الأصل: (بالقدرة) والصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن.
(2) سورة ص آية 75.
(3) سورة يس آية 71.
(4) سورة يس آية71.
(5) سورة ص آية 75.
(6) «التعضية» : التقطيع، وجعل الشيء أعضاء.
(7) سورة الْحِجْرِ آية 91.(1/192)
وَأَمَّا لَفْظُ الْجِهَةِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَعْدُومٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَخْلُوقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْصُرُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَإِذَا قِيلَ: "إِنَّهُ فِي جِهَةٍ"بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ حَيْثُ انْتَهَتِ الْمَخْلُوقَاتُ فَهُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، عَالٍ عَلَيْهِ.
وَنُفَاةُ لَفْظِ الْجِهَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْعُلُوِّ، يَذْكُرُونَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ: أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْجِهَاتِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي جِهَةٍ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْجِهَةِ ثُمَّ صَارَ فِيهَا. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَنَحْوُهَا إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ جِهَةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ، وَهَذَا حَقٌّ. وَلَكِنَّ الْجِهَةَ لَيْسَتْ أَمْرًا وُجُودِيًّا، بَلْ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ (1) ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجِهَاتِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَمَا لَا يُوجَدُ (2) فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ.
وَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: ((لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ)) هُوَ حَقٌّ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ: أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ. فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ كَلَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) وَقَوْلُهُ (3) : (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحْوِيهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، كَمَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْعَالِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.
__________
(1) في المطبوعة «بل أمرًا اعتباريًّا» ، وهو لحن.
(2) في المطبوعة «فيها» بدل «فيما» وهو خطأ، يفسد به المعنى ويضطرب.
(3) في المطبوعة «وبين قوله» . وزيادة بين لا معنى لها هنا.(1/193)
لَكِنْ بَقِيَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ إِطْلَاقَ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ - مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ - كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، وَإِلَّا تَسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمَ بِالتَّنَاقُضِ فِي إِثْبَاتِ الْإِحَاطَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَنَفْيِ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ نَفَى أَنْ يَحْوِيَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَالِاعْتِصَامُ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: (كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ مُبْتَدَعٍ إِلَّا وَهُوَ مَحْوِيٌّ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مَحْوِيٌّ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ، فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ فِي عَالَمٍ آخَرَ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ أَرَادَ أَمْرًا عَدَمِيًّا، فَلَيْسَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ فِي الْعَدَمِ، بَلْ مِنْهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي غَيْرِهِ، كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الْكُرْسِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُنْتَهَى الْمَخْلُوقَاتِ، كَالْعَرْشِ. فَسَطْحُ الْعَالَمِ لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ ((سَائِرَ)) بِمَعْنَى الْبَقِيَّةِ، لَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا أَصْلُ مَعْنَاهَا، وَمِنْهُ ((السُّؤْرُ)) ، وَهُوَ مَا يُبْقِيهِ الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ. فَيَكُونُ مُرَادُهُ غَالِبَ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا جَمِيعَهَا، إِذِ السَّائِرُ عَلَى الْغَالِبِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مَحْوِيٍّ - كَمَا يَكُونُ أَكْثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ مَحْوِيًّا، بَلْ هُوَ غَيْرُ مَحْوِيٍّ - بِشَيْءٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا يُظَنّ بِالشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَقُولُ إَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ بِنَفْيِ النَّقِيضَيْنِ (1) ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، بَلْ مُرَادُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَضْدَادَهُ قَدْ شَنَّعُوا عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ أَهْوَنَ مِنْهُ، فَلَوْ سَمِعُوا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَشَاعَ
__________
(1) في الأصل: (التعيينين) والصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن.(1/194)
عَنْهُمْ تَشْنِيعُهُمْ عَلَيْهِ بِهِ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ عَنْهُ إِثْبَاتَ الْعُلُوِّ، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي نَفْيَهُ، وَلَمْ يَرِدْ بِمِثْلِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ: إِنَّ فِي ثُبُوتِهِ عَنِ الْإِمَامِ نَظَرًا، وَإِنَّ الْأَوْلَى التَّوَقُّفُ فِي إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِمِثْلِهِ خَطَرٌ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ بِمَا وَرَدَ عَنِ الشَّارِعِ، كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَنْ ظَنَّ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّهُ إِذَا"نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا"كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَهُ، وَيَكُونُ مَحْصُورًا بَيْنَ طَبَقَتَيْنِ مِنَ الْعَالَمِ. فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو عُثْمَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيُّ: سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ حماد - بَعْدَ رِوَايَتِهِ حَدِيثَ النُّزُولِ - يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ مَنْ تَوَقَّفَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ، لِضَعْفِ عِلْمِهِ بِمَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ، وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ، بَلْ يَقُولُ: لَا مُبَايِنَ، وَلَا مُحَايِثَ، لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، فَيَصِفُونَهُ بِصِفَةِ الْعَدَمِ وَالْمُمْتَنِعِ، وَلَا يَصِفُونَهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَقُولُ: هُوَ وُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَسَيَأْتِي لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى زِيَادَةُ بَيَانٍ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ، إِلَى السَّمَاءِ. ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَا وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) .
ش: ((الْمِعْرَاجُ)) : مِفْعَالٌ، مِنَ الْعُرُوجِ، أَيِ الْآلَةِ الَّتِي يُعْرَجُ فِيهَا، أَيْ يُصْعَدُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ، لَكِنْ لَا يُعْلَمُ كَيْفَ هُوَ، وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ(1/195)
الْمُغَيَّبَاتِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ - اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِسْرَاءِ.
فَقِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ وَلَمْ يُفْقَدْ جَسَدُهُ، نَقْلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَقَلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ. فَعَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَقُولَا: كَانَ مَنَامًا، وَإِنَّمَا قَالَا: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يُفْقَدْ جَسَدُهُ، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِذْ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ قَدْ يَكُونُ أَمْثَالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ، فَيَرَى كَأَنَّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَرُوحُهُ لَمْ تَصْعَدْ وَلَمْ تَذْهَبْ، وَإِنَّمَا مَلَكُ الرُّؤْيَا ضَرَبَ لَهُ الْمِثَالَ. فَمَا أَرَادَا (1) أَنَّ الْإِسْرَاءَ مَنَامًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الرُّوحَ ذَاتَهَا أُسْرِيَ بِهَا، فَفَارَقَتِ الْجَسَدَ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلَانِ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا تَنَالُ ذَاتُ رُوحِهِ الصُّعُودَ الْكَامِلَ إِلَى السَّمَاءِ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً يَقَظَةً، وَمَرَّةً مَنَامًا. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْجَمْعَ بَيْنَ حَدِيثِ شَرِيكٍ وَقَوْلِهِ: ((ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ)) وَبَيْنَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ. وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ كَانَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً قَبْلَ الْوَحْيِ، وَمَرَّةً بَعْدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَرَّةً قَبْلَ الْوَحْيِ، وَمَرَّتَيْنِ بَعْدَهُ. وَكُلَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ لَفْظٌ زَادُوا مَرَّةً، لِلتَّوْفِيقِ! وَهَذَا يَفْعَلُهُ ضُعَفَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّقْلِ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ، بَعْدَ الْبِعْثَةِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
__________
(1) قوله: «فما أرادا» - يعني عائشة ومعاوية. وفي المطبوعة «فيما أرادا» ! وهو كلام فاسد، ولا معنى له.(1/196)
قَالَ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ: يَا عَجَبًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ مِرَارًا! كَيْفَ سَاغَ لَهُمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ، ثُمَّ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ رَبِّهِ وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى تَصِيرَ خَمْسًا، فَيَقُولُ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، ثُمَّ يُعِيدُهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ يَحُطُّهَا إِلَى خَمْسٍ؟ ! وَقَدْ غَلَّطَ الْحُفَّاظُ شَرِيكًا فِي أَلْفَاظٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَمُسْلِمٌ أَوْرَدَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ. وَلَمْ يَسْرُدِ الْحَدِيثَ. وَأَجَادَ رَحِمَهُ اللَّهُ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ شَمْسُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ، عَلَى الصَّحِيحِ، مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، رَاكِبًا عَلَى الْبُرَاقِ، صُحْبَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَزَلَ هُنَاكَ، صَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ بَيْتَ لَحْمٍ وَصَلَّى فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ عُرِجَ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ لَهُ جِبْرِيلُ، فَفُتِحَ لَهُمَا، فَرَأَى هُنَاكَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَحَّبَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ. فَاسْتَفْتَحَ لَهُ، فَرَأَى فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَلَقِيَهُمَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَرَدَّا عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَرَحَّبَا بِهِ، وَأَقَرَّا بِنُبُوَّتِهِ ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَرَأَى فِيهَا يُوسُفَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَرَأَى فِيهَا إِدْرِيسَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَرَأَى فِيهَا هَارُونَ بْنَ عِمْرَانَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَلَقِيَ فِيهَا مُوسَى فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ بَكَى مُوسَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَلَقِيَ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لَهُ الْبَيْتُ(1/197)
الْمَعْمُورُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ، جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعَ حَتَّى مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ؟ بِخَمْسِينَ صَلَاةً، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَالْتَفَتَ إِلَى جَبْرَائِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ فِي مَكَانِهِ - هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي ((صَحِيحِهِ)) وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ - فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ نَزَلَ حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسًا، فَأَمَرَهُ مُوسَى بِالرُّجُوعِ وَسُؤَالِ التَّخْفِيفِ، فَقَالَ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا نَفَذَ، نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَقَوْلُهُ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (1) ، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْمَرْئِيَّ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (2) ، فَهُوَ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي الْمَذْكُورَيْنِ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ هُوَ دُنُوِّ جِبْرِيل وَتَدَلِّيهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (3) . فَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمُعَلِّمِ الشَّدِيدِ الْقُوَى، وَأَمَّا الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي الَّذِي
__________
(1) سورة النَّجْمِ الآيتان 11، 13.
(2) سورة النجم آية 8.
(3) سورة النَّجْمِ الآيات 5-8.(1/198)
فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ دُنُوُّ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَدَلِّيهِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ: أَنَّهُ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَهَذَا هُوَ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ، وَمَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (1) . وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. فَيَكُونُ الْإِسْرَاءُ بِهَذَا الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا، وَلَوْ جَازَ اسْتِبْعَادُ صُعُودِ الْبَشَرِ لَجَازَ اسْتِبْعَادُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ كُفْرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا؟ فَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِصِدْقِ دَعْوَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْرَاجَ حِينَ سَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ نَعْتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَعَتَهُ لَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ عِيرِهِمُ الَّتِي مَرَّ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِ، وَلَوْ كَانَ عُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ مَكَّةَ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَى مَا فِي السَّمَاءِ لَوْ أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ، وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِنَعْتِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ، لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَوْضُ - الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ - حَقٌّ) .
ش: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، رَوَاهَا مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا، وَلَقَدِ اسْتَقْصَى طُرُقَهَا شَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، فِي آخِرِ تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ، الْمُسَمَّى
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 11.(1/199)
بِ"الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ".
فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» . وَعَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أُصَيْحَابِي، فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) ، حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ الْكَوَاكِبِ، يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: «هُوَ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَالْبَاقِي مِثْلُهُ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ، وَالْحَوْضُ فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ الصِّرَاطِ، لِأَنَّهُ يُخْتَلَجُ عَنْهُ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ أَقْوَامٌ قَدِ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يُجَاوِزُونَ الصِّرَاطَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» . وَالْفَرَطُ: الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْمَاءِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ
__________
(1) سورة الكوثر آية 1.(1/200)
عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ [وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا] فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ: فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِي فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَقَالَ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» . سُحْقًا: أَيْ بُعْدًا.
وَالَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ: أَنَّهُ حَوْضٌ عَظِيمٌ، وَمَوْرِدٌ كَرِيمٌ، يُمَدُّ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ، مِنْ نَهْرِ الْكَوْثَرِ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الِاتِّسَاعِ، عَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ، كُلُّ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهُ كُلَّمَا شُرِبَ مِنْهُ وَهُوَ فِي زِيَادَةٍ وَاتِّسَاعٍ، وَأَنَّهُ يَنْبُتُ فِي حَالٍ مِنَ الْمِسْكِ وَالرَّضْرَاضِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ قُضْبَانَ الذَّهَبِ، وَيُثْمِرُ أَلْوَانَ الْجَوَاهِرِ، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّ حَوْضَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَكْثَرُهَا وَارِدًا» . جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ((التَّذْكِرَةِ)) : وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ: أَيُّهُمَا يَكُونُ قَبْلَ الْآخَرِ؟ فَقِيلَ: الْمِيزَانُ، وَقِيلَ: الْحَوْضُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشًا مِنْ قُبُورِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فَيُقَدَّمُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ ((كَشْفِ عِلْمِ الْآخِرَةِ)) : حَكَى بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّصْنِيفِ، أَنَّ الْحَوْضَ يُورَدُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ كَمَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، بَلْ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ، أَرْضٍ بَيْضَاءَ كَالْفِضَّةِ، لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ، تَظْهَرُ لِنُزُولِ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ لِفَصْلِ(1/201)
الْقَضَاءِ. انْتَهَى.
فَقَاتَلَ اللَّهُ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الْحَوْضِ، وَأَخْلِقْ بِهِمْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُرُودِهِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ.
قَوْلُهُ: (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ) .
ش: الشَّفَاعَةُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْهَا مَا خَالَفَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الشَّفَاعَةُ الْأُولَى، وَهِيَ الْعُظْمَى، الْخَاصَّةُ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ.
مِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ مِنْهَا الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ [وَاحِدٍ يَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ] ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَبُوكُمْ آدَمُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ نُوحٌ:(1/202)
إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى: فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، قَالَ: هَكَذَا هُوَ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتُونِي، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَقُومُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبَلِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لِمَا(1/203)
بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى» .
أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) بِمَعْنَاهُ، وَاللَّفْظُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ (1) .
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، مِنْ إِيرَادِ الْأَئِمَّةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَكْثَرِ طُرُقِهِ، لَا يَذْكُرُونَ أَمْرَ الشَّفَاعَةِ الْأُولَى، فِي مَأْتَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، كَمَا وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمُقَامِ، وَمُقْتَضَى سِيَاقِ أَوَّلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَسْتَشْفِعُونَ إِلَى آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ النَّاسِ وَيَسْتَرِيحُوا مِنْ مُقَامِهِمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيَاقَاتُهُ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الْجَزَاءِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ الشَّفَاعَةَ فِي عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَكَانَ مَقْصُودُ السَّلَفِ - فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الْحَدِيثِ - هُوَ الرَّدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا، فَيَذْكُرُونَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْأَحَادِيثِ.
وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَسُقْتُهُ بِطُولِهِ، لَكِنْ مِنْ مَضْمُونِهِ: «أَنَّهُمْ يَأْتُونَ آدَمَ ثُمَّ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَذْهَبُ فَيَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَحْصُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا شَأْنُكَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي، فِي خَلْقِكَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شَفَّعْتُكَ، أَنَا آتِيكُمْ فَأَقْضِي بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ انْشِقَاقَ السَّمَاوَاتِ، وَتَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْغَمَامِ، ثُمَّ يَجِيءُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَالْكَرُوبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يُسَبِّحُونَ بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ، قَالَ: فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي أُنْصِتُ لَكُمْ مُنْذُ
__________
(1) المسند (9621)(1/204)
خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا أَسْمَعُ أَقْوَالَكُمْ، وَأَرَى أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا إِلَيَّ، فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَنَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ، إِنَّهُ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ رُوحَهُ، وَكَلَّمَهُ قَبْلًا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَذَكَرَ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَآتِي الْجَنَّةَ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ، فَيُفْتَحُ لِي، فَأُحُيِّي وَيُرَحَّبُ بِي، فَإِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَأْذَنُ لِي مِنْ حَمْدِهِ وَتَمْجِيدِهِ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِي: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، فَإِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي، قَالَ اللَّهُ - وَهُوَ أَعْلَمُ -: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، وَأَذِنْتُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.» .. الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنَ الشَّفَاعَةِ: شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَامٍ قَدْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَيَشْفَعُ فِيهِمْ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَفِي أَقْوَامٍ آخَرِينَ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ أَنْ لَا يَدْخُلُونَهَا.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِيهَا فَوْقَ مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ وَافَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ خَاصَّةً، وَخَالَفُوا فِيمَا عَدَاهَا مِنَ الْمَقَامَاتِ، مَعَ تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: الشَّفَاعَةُ فِي أَقْوَامٍ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُسْتَشْهَدَ لِهَذَا النَّوْعِ بِحَدِيثِ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، حِينَ دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ(1/205)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
النَّوْعُ السَّادِسُ: الشَّفَاعَةُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهُ، كَشَفَاعَتِهِ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ عَذَابُهُ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا النَّوْعِ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (1) . قِيلَ لَهُ: لَا تَنْفَعُهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا تَنْفَعُ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ، الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
النَّوْعُ السَّابِعُ: شَفَاعَتُهُ أَنْ يُؤْذَنَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ» .
النَّوْعُ الثَّامِنُ: شَفَاعَتُهُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَحَادِيثُ. وَقَدْ خَفِيَ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ، وَعِنَادًا مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى بِدْعَتِهِ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ تُشَارِكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ تَتَكَرَّرُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ أَحَادِيثِ هَذَا النَّوْعِ، حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ (2) : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ (3) ، قَالَ: اجْتَمَعْنَا ونَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ
__________
(1) سورة الْمُدَّثِّرِ آية 48.
(2) في (باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم) ج9 ص156- 157 من البخاري الطبعة السلطانية، وجـ 13 ص 395- 396 من فتح الباري.
(3) في المطبوعة (سعد) بدل (معبد) ، وهو خطأ.(1/206)
إِلَيْهِ (1) ، يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ، فَوَافَقْنَاهُ (2) يُصَلِّي الضُّحَى (3) ، فَاسْتَأْذَنَّا، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لَا تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ (4) ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، جَاؤُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، لَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ (5) لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ (6) ، وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا (7) مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ (8) بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ (9) ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا (10)
__________
(1) الزيادة من صحيح البخاري.
(2) في المطبوعة (فوافيناه) والتصحيح من البخاري.
(3) في المطبوعة (الصبح) ، وهو خطأ صححناه من البخاري.
(4) الزيادة من صحيح البخاري، وهي ضرورية، يختل سياق الكلام بدونها.
(5) في المطبوعة (فيأذن) ، والتصحيح من البخاري.
(6) في المطبوعة تأخير (وسل تعط) بعد و (اشفع تشفع) . وأثبتنا ما في البخاري.
(7) زيادة (منها) في الموضعين، من البخاري.
(8) في المطبوعة (فأحمد) بدون الضمير.
(9) في المطبوعة (واسأل) مع تأخير الجملة، كسابقتها.
(10) زيادة (منها) في الموضعين من البخاري.(1/207)
مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ (1) . قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ، قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا (2) لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ، فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهْ؟ فَحَدَّثَاهُ بِالْحَدِيثِ (3) ، فَانْتَهَى (4) إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ: هِيهْ؟ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ (5) لَنَا عَلَى
هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَا أَدْرِي (6) ، أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا؟ (7) فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَحَدِّثْنَا، فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا! مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، حَدِيثِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ (8) ، قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ (9) ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي، لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (10) .
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ
__________
(1) هنا في المطبوعة زيادة (قال) وليست للبخاري، فحذفناها.
(2) الزيادة من البخاري.
(3) في المطبوعة (فحدثنا بالحديث) بحذف الضمير.
(4) في المطبوعة (فأتينا) بدل (فانتهى) وهو خطأ.
(5) في المطبوعة «لم نردد» وهو كلام باطل، صوابه ما في البخاري.
(6) في المطبوعة (فما أدري) . وأثبتنا ما في البخاري.
(7) في المطبوعة (أن تتكلموا) ، وهو خلط.
(8) في المطبوعة (حديثي) بدل (حدثني) ، وهو تصحيف. وزيادة (به) من البخاري.
(9) في المطبوعة (يسمع لك) ، وكلمة (لك) ليست في هذا الموضع في البخاري.
(10) صحيح مسلم جـ1 ص72- 73 طبعة بولاق.(1/208)
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» (1) وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا، قَالَ: «فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ» ، الْحَدِيثَ.
ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
فَالْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى وَالْمُبْتَدِعُونَ مِنَ الْغُلَاةِ فِي الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ: يَجْعَلُونَ شَفَاعَةَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ عِنْدَ اللَّهِ كَالشَّفَاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَيُقِرُّونَ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ وَيَحُدَّ لَهُ حَدًّا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «إِنَّهُمْ يَأْتُونَ آدَمَ، ثُمَّ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَذْهَبُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ، لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ، فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: رَبِّي أُمَّتِي، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ فَأَسْجُدُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ذَكَرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .
وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنَّ الدَّاعِيَ تَارَةً يَقُولُ: بِحَقِّ نَبِيِّكَ أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ، يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَهَذَا مَحْذُورٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
__________
(1) رواه ابن ماجه في السنن، رقم: 4313، وهو حديث ضعيف جدًّا، في إسناده «عنبسة بن عبد الرحمن الأموي"، وهو واهي الحديث، رمي بالكذب والوضع.(1/209)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَقْسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: اعْتِقَادُهُ أَنَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حَقًّا. وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ إِلَّا مَا أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) . وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ رَدِيفُهُ: يَا مُعَاذُ، «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» . فَهَذَا حَقٌّ وَجَبَ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ، لَا أَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا كَمَا يَكُونُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى الْعِبَادِ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَحَقُّهُمُ الْوَاجِبُ بِوَعْدِهِ هُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ، وَتَرْكُ تَعْذِيبِهِمْ مَعْنًى لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يُسْأَلَ بِسَبَبِهِ وَيُتَوَسَّلَ بِهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَا نَصَبَهُ اللَّهُ سَبَبًا. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ الْمَاشِي إِلَى الصَّلَاةِ: «أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، وَبِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ» ، فَهَذَا حَقُّ السَّائِلِينَ، هُوَ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَحَقَّ لِلسَّائِلِينَ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَلِلْعَابِدِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ... كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أَوْ نُعِّمُوا ... فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الوَاسِعُ
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِ الدَّاعِي: ((بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ)) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ((بِحَقِّ نَبِيِّكَ)) أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ أَنَّكَ وَعَدْتَ السَّائِلِينَ بِالْإِجَابَةِ، وَأَنَا مِنْ جُمْلَةِ السَّائِلِينَ، فَأَجِبْ دُعَائِي، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: بِحَقِّ فُلَانٍ - فَإِنَّ فُلَانًا وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ بِوَعْدِهِ
__________
(1) سورة الروم أية 47.(1/210)
الصَّادِقِ - فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِجَابَةِ دُعَاءِ هَذَا السَّائِلِ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لِكَوْنِ فُلَانٍ مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أَجِبْ دُعَائِي! وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ فِي هَذَا وَأَيُّ مُلَازَمَةٍ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) . وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي الْحُرُوزِ وَالْهَيَاكِلِ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا الْجُهَّالُ وَالطُّرُقِيَّةُ. وَالدُّعَاءُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ.
وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِحَقِّ فُلَانٍ، فَذَلِكَ مَحْذُورٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ بِالْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ؟! وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ، أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْأَثَرُ فِيهِ.
وَتَارَةً يَقُولُ: بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَكَ، يَقُولُ: نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَكَ ذُو وَجَاهَةٍ وَشَرَفٍ وَمَنْزِلَةٍ فَأَجِبْ دُعَاءَنَا. وَهَذَا أَيْضًا مَحْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ التَّوَسُّلُ الَّذِي كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ (2) فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ، وَهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ، كَمَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ. فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا خَرَجُوا يَسْتَسْقُونَ -: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا» . مَعْنَاهُ بِدُعَائِهِ هُوَ رَبَّهُ
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 55.
(2) في الأصل: (يفعلون) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.(1/211)
وَشَفَاعَتِهِ وَسُؤَالِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّا نُقْسِمُ عَلَيْكَ بِهِ، أَوْ نَسْأَلُكَ بِجَاهِهِ عِنْدَكَ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا لَكَانَ جَاهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ مِنْ جَاهِ الْعَبَّاسِ.
وَتَارَةً يَقُولُ: بِاتِّبَاعِي لِرَسُولِكَ وَمَحَبَّتِي لَهُ وَإِيمَانِي بِهِ وَسَائِرِ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَتَصْدِيقِي لَهُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يَكُونُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ.
فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِالشَّخْصِ وَالتَّوَجُّهِ بِهِ فِيهِ إِجْمَالٌ، غَلِطَ بِسَبَبِهِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ: فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّسَبُّبُ بِهِ لِكَوْنِهِ دَاعِيًا وَشَافِعًا، وَهَذَا فِي حَيَاتِهِ يَكُونُ، أَوْ لِكَوْنِ الدَّاعِي مُحِبًّا لَهُ، مُطِيعًا لِأَمْرِهِ، مُقْتَدِيًا بِهِ، وَذَلِكَ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ التَّوَسُّلُ إِمَّا بِدُعَاءِ الْوَسِيلَةِ وَشَفَاعَتِهِ، وَإِمَّا بِمَحَبَّةِ السَّائِلِ وَاتِّبَاعِهِ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالتَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ، فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي كَرِهُوهُ وَنَهَوْا عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ بِالشَّيْءِ، قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّسَبُّبُ بِهِ، لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ.
وَمِنَ الْأَوَّلِ: حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْغَارِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الصَّخْرَةَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللَّهِ بِذِكْرِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الْخَالِصَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. فَهَؤُلَاءِ: دَعَوُا اللَّهَ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ هِيَ أَعْظَمُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ، وَيَتَوَجَّهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَيَسْأَلُهُ بِهِ، لِأَنَّهُ وَعَدَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَالشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ(1/212)
عِنْدَ الْبَشَرِ كَمَا أَنَّهُ شَافِعٌ لِلطَّالِبِ شَفَّعَهُ فِي الطَّلَبِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ صَارَ شَفْعًا فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا، فَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَفَعَ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ، وَبِشَفَاعَتِهِ صَارَ فَاعِلًا لِلْمَطْلُوبِ، فَقَدْ شَفَّعَ الطَّالِبَ وَالْمَطْلُوبَ مِنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ، لَا يَشَفَعُهُ أَحَدٌ، فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَيْهِ، فَلَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهٍ. فَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: «ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاسْأَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَيَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ» ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (3) ، فَإِذَا كَانَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَكِنْ يُكْرِمُ الشَّفِيعَ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ يَا عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ شَاةٌ لَهَا يُعَارٌ، أَوْ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» . (4) فَإِذَا كَانَ سَيِّدُ الْخَلْقِ وَأَفْضَلُ الشُّفَعَاءِ يَقُولُ لِأَخَصِّ النَّاسِ بِهِ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟ وَإِذَا
__________
(1) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 154.
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 128.
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 54.
(4) هو مختصر معنى حديث صحيح، رواه أحمد في المسند: 9499، ورواه مسلم في صحيحه 2: 83. ورواه أيضًا البخاري وغيره، وقوله «ثغاء"، وهو صياح الغنم. وبدله في المطبوعة «يعار» . وهو بمعناه، ولكن أثبتنا ما في المسند وصحيح مسلم. وقوله (أو رقاع تخفق) بدله في المطبوعة (أو قاع يخفق) ، وهو خطأ لا معنى له.(1/213)
دَعَاهُ الدَّاعِي، وَشَفَعَ عِنْدَهُ الشَّفِيعُ، فَسَمِعَ الدُّعَاءَ، وَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ، لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا يُؤَثِّرُ الْمَخْلُوقُ فِي الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَذَا يَدْعُو وَيَشْفَعُ، وَهُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ. وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَمْيِيزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَإِلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ:
فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَعْمَانَ - يَوْمَ عَرَفَةَ (2) ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا، قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُبْطِلُونَ} .»
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِجَّاهُ.
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ آية 172.
(2) الذي في المسند بطبعتيه وتفسير ابن جرير والحاكم: (يعني) بدل (يوم) . ن.(1/214)
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلَ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَ بِهِ النَّارَ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. (1) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، قَالَ: رَبِّ، كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ، جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ، فَخَطِئَتْ (2) .» ثُمَّ قَالَ
__________
(1) هو في المسند برقم: 311 ونقله ابن كثير 3: 586- 587، وفي التاريخ 1: 89-90. وقد صححناه هنا من المسند، والزيادتان هنا أثبتناهما من المسند.
(2) في الأصل (وخطئ آدم فخطيت) والتصحيح من سنن الترمذي 5 / 267 رقم(1/215)
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا» . وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا.
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ أُخَرُ أَيْضًا كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهُ، وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ سَبْقًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، وَغَايَتُهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ بَارِئَهَا وَفَاطِرَهَا سُبْحَانَهُ صَوَّرَ النَّسَمَةَ وَقَدَّرَ خَلْقَهَا وَأَجَلَهَا وَعَمَلَهَا، وَاسْتَخْرَجَ تِلْكَ الصُّوَرَ مِنْ مَادَّتِهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَيْهَا، وَقَدَّرَ خُرُوجَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ خَلْقًا مُسْتَقِرًّا وَاسْتَمَرَّتْ مَوْجُودَةً نَاطِقَةً كُلُّهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ مِنْهَا إِلَى الْأَبْدَانِ جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ. فَهَذَا لَا تَدُلُّ الْآثَارُ عَلَيْهِ، نَعَمِ، الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مِنْهَا جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ أَوَّلًا، فَيَجِيءُ الْخَلْقُ الْخَارِجِيُّ مُطَابِقًا لِلتَّقْدِيرِ السَّابِقِ، كَشَأْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّهُ قَدَّرَ لَهَا أَقْدَارًا وَآجَالًا، وَصِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ، ثُمَّ أَبْرَزَهَا إِلَى الْوُجُودِ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ.
فَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَخْرَجَ أَمْثَالَهُمْ وَصُوَرَهُمْ وَمَيَّزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ.
وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ(1/216)
وَابنِ عُمَرَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فِطْرَتُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا تَقَدَّمَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ شَهِدْنَا: أَيْ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا أَنَّكَ رَبُّنَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: شَهِدْنَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ بَلَى. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ بَنِي آدَمَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَا عَدَاهُ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ ظَاهِرُ
الْآيَةِ لِلْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ، كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ نَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ وَبَصَائِرُهُمُ الَّتِي رَكَبَّهَا اللَّهُ فِيهِمْ، كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ، كَالْوَاحِدِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ نَسَبَ الرَّازِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالثَّانِيَ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَخْذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ وَإِرَاءَةُ آدَمَ إِيَّاهُمْ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إِشْهَادٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالَّذِي فِيهِ الْإِشْهَادُ - عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَالَهَا أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ
__________
(1) في الأصل: «عمر» . وبعد الرجوع إلى المصادر اتضح أنه تحريف، حيث لم نجد لعمر رضي الله عنه حديثًا في الإشهاد. وبمثل ذلك ورد في بعض النسخ. ن.(1/217)
غَيْرَ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَالْحَاكِمُ مَعْرُوفٌ تَسَاهُلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالَّذِي فِيهِ الْقَضَاءُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى النَّارِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ. وَذَلِكَ شَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ الْمُبْطِلُونَ الْمُبْتَدِعُونَ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَالنِّزَاعُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَوْلَا مَا الْتَزَمْتُهُ مِنَ الِاخْتِصَارِ لَبَسَطْتُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَمَا قِيلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَدَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا، فَنَذْكُرُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ، حَسَبَ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ بَنِي آدَمَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، [قَالُوا] وَمَعْنَى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (1) ، دَلَّهُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ، لِأَنَّ كُلَّ بَالِغٍ يَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّ لَهُ رَبًّا وَاحِدًا. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أَيْ: قَالَ، فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (2) ، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَفَّالُ وَأَطْنَبَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْرَجَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا عَلِمَتْ بِهِ مَا خَاطَبَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
وَأَقْوَى مَا يَشْهَدُ لِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ الَّذِي فِيهِ: «قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي» . وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: «قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ، فَيُرَدُّ إِلَى النَّارِ» . وَلَيْسَ فِيهِ"فِي ظَهْرِ آدَمَ". وَلَيْسَ
__________
(1) سورة الأعراف آية 172.
(2) سورة فُصِّلَتْ آية 11.(1/218)
فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى إِخْرَاجُهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُتَضَمِّنٌ لِأَمْرَيْنِ عَجِيبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُ النَّاسِ تَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ وَأَقَرُّوا بِالْإِيمَانِ وَأَنَّهُ بِهَذَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ آدَمَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ ظَهْرِهِ، وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: ذُرِّيَّاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: ذُرِّيَّتَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ- كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ - لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةٌ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) .
السَّادِسُ: تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ، لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (3) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهُمْ
__________
(1) سورة الأعراف آية 172.
(2) سورة النِّسَاءِ آية 165.
(3) سورة الأعراف آية 172.(1/219)
وَإِشْهَادِهِمْ جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} (1) ، فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا الْإِشْهَادِ؛ لِئَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ، أَوْ يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ، فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ. وَلَا تَتَرَتَّبُ هَاتَانِ الْحِكْمَتَانِ إِلَّا عَلَى مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ.
الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (2) ، أَيْ لَوْ عَذَّبَهُمْ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (3) ، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا رُسُلُهُ، بِقَوْلِهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) .
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَدْلُولِهَا [بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْمَدْلُولُ] وَهَذَا شَأْنُ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، [فَإِنَّهَا أَدِلَّةٌ مُعِينَةٌ عَلَى مَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ مُسْتَلْزَمِةٌ لِلْعِلْمِ بِهِ] فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (5) ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، فَمَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، لَا يُولَدُ مَوْلُودٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْفِطْرَةِ، هَذَا أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَغَيَّرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَفَطَّنَ لِهَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ هَابُوا مُخَالَفَةَ ظَاهِرِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ
__________
(1) سورة الأعراف آية 173.
(2) سورة الأعراف آية 173.
(3) سورة لُقْمَانَ آية 25.
(4) سورة إِبْرَاهِيمَ آية 10.
(5) سورة الْأَعْرَافِ آية 174.(1/220)
الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ. وَكَذَلِكَ حَكَى الْقَوْلَيْنِ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَالَ إِلَيْهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ، وَالشِّرْكَ حَادِثٌ طَارِئٌ، وَالْأَبْنَاءُ تَقَلَّدُوهُ عَنِ الْآبَاءِ، فَإِذَا احْتَجُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّ الْآبَاءَ أَشْرَكُوا وَنَحْنُ جَرَيْنَا عَلَى عَادَتِهِمْ كَمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى عَادَةِ آبَائِهِمْ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَنْتُمْ كُنْتُمْ مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ، مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّكُمْ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ شَهِدْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ إِقْرَارُهُ بِالشَّيْءِ لَيْسَ إِلَّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِكَذَا، بَلْ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ، فَلِمَ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي شَهِدْتُمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ؟ بَلْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ إِلَى مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ حَقِيقَةٌ، تَقْلِيدًا لِمَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ، بِخِلَافِ اتِّبَاعِهِمْ فِي الْعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ فَسَادُهَا، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لَكُمْ، بِخِلَافِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ وَعُدُولَكُمْ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ.
فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الصَّبِيُّ عَنْ أَبَوَيْهِ هُوَ: دِينُ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الطِّفْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَافِلٍ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبَوَاهُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الطِّفْلَ مَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى دِينِهِمَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا الدِّينُ لَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ - عَلَى الصَّحِيحِ -حَتَّى يَبْلُغَ وَيَعْقِلَ وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَحِينَئِذٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ هُوَ أَنَّهُ دِينٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ آبَاؤُهُ مُهْتَدِينَ، كَيُوسُفَ الصِّدِّيقِ مَعَ آبَائِهِ، قَالَ:(1/221)
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (1) ، وَقَالَ لِيَعْقُوبَ بَنُوهُ: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (2) ، وَإِنْ كَانَ الْآبَاءُ مُخَالِفِينَ الرُّسُلَ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ الرُّسُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} الْآيَةَ (3) .
فَمَنِ اتَّبَعَ دِينَ آبَائِهِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، بَلْ يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إِلَيْهِ، فَهَذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (4) .
وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، يَتْبَعُ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَمَذْهَبٍ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَيْسَ هُوَ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، بَلْ هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الدَّارِ، لَا مُسْلِمَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ لَهُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ؟ هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.
فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَحِلَّ، وَلْيَنْصَحْ نَفْسَهُ، وَلْيَقُمْ مَعَهُ، وَلْيَنْظُرْ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ؟ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، فَإِنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ. وَأَقْرَبُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْمَرْءُ أَمْرُ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ نُطْفَةً، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَالتَّرَائِبُ (5) : عِظَامُ الصَّدْرِ، ثُمَّ صَارَتْ تِلْكَ النُّطْفَةُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَانْقَطَعَ عَنْهَا تَدْبِيرُ الْأَبَوَيْنِ وَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى لَوْحٍ أَوْ طَبَقٍ، وَاجْتَمَعَ حُكَمَاءُ الْعَالَمِ عَلَى أَنْ يُصَوِّرُوا مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَقْدِرُوا. وَمُحَالٌ تَوَهُّمُ عَمَلِ الطَّبَائِعِ فِيهَا، لِأَنَّهَا مَوَاتٌ عَاجِزَةٌ، وَلَا تُوصَفُ بِحَيَاةٍ، وَلَنْ يَتَأَتَّى مِنَ الْمَوَاتِ فِعْلٌ وَتَدْبِيرٌ، فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ
__________
(1) سورة يُوسُفَ آية 38.
(2) سورة الْبَقَرَةِ آية 133.
(3) سورة الْعَنْكَبُوتِ آية 8.
(4) سورة الْبَقَرَةِ آية 170
(5) الزيادة لم تذكر في المطبوعة. وهي ضرورية لصحة الكلام.(1/222)
وَانْتِقَالِ هَذِهِ النُّطْفَةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، عَلِمَ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَوْحِيدِ
الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ لَهُ رَبًّا أَوْجَدَهُ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ؟ وَكُلَّمَا تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ ازْدَادَ يَقِينًا وَتَوْحِيدًا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ (1) عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ) .
ش: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) . {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (3) . فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، أَزَلًا وَأَبَدًا، لَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ جَهَالَةٌ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ رأسه يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً» ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» . ثُمَّ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (4) » خرجاه في الصحيحين.
__________
(1) لعله: الأزل.
(2) سورة العنكبوت آية 62.
(3) سورة الأحزاب آية 40.
(4) سورة الليل الآيات 5-10.(1/223)
قَوْلُهُ: (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ من شقي بقضاء الله) .
ش: تقدم من حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ، وَعَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عن جابر بن عبد الله، قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ "قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، [قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟] قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ: مَا قَالَ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) . وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيا أم سعيدا، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف.
__________
(1) صحيح مسلم 2: 299 طبعة بولاق. وكان النص محرفا في المطبوعة فصححناه من لفظ مسلم.(1/224)
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تَخْرِيجِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الآثار واعتقادهم وَتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُهُ: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وسُلم الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) .
ش: أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَوْجَدَ وَأَفْنَى، وَأَفْقَرَ وَأَغْنَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَضَلَّ وَهَدَى. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه: القدر سر الله فلا نكشفه.
وَالنِّزَاعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ مَشْهُورٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) . وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيَشَاؤُهُ، وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَيَشَاؤُهُ كَوْنًا، وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَزَعَمُوا: أَنَّ اللَّهَ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ شَاءَ الْكُفْرَ، [فَرُّوا إِلَى هَذَا، لِئَلَّا يَقُولُوا] (4) شَاءَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَعَذَّبَهُ عَلَيْهِ! وَلَكِنْ صَارُوا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنار!. فإنهم هربوا من شيء
__________
(1) سورة الأنبياء آية 23.
(2) سورة القمر آية 49.
(3) سورة الفرقان آية 2.
(4) في الأصل: (وإلى هذا الآن لا يقولون) . والصواب ما أثبتناه، كما في أكثر النسخ. ن.(1/225)
فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزم أَنَّ مَشِيئَةَ الْكَافِرِ غَلَبَتْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُ - عَلَى قَوْلِهِمْ - وَالْكَافِرَ شَاءَ الْكُفْرَ، فَوَقَعَتْ مَشِيئَةُ الْكَافِرِ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى! ! وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ.
رَوَى اللَّالَكَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ] : إِنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَيْنَا يُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَعْمَى، فَقَالُوا لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ لَأَعَضَّنَّ أَنْفَهُ حَتَّى أَقْطَعَهُ، وَلَئِنْ وَقَعَتْ رَقَبَتُهُ بِيَدَيَّ لَأَدُقَّنَّهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَأَنِّي بِنِسَاءِ بني فهر يطفن بالخزرج، تصطفق أَلْيَاتُهُنَّ مُشْرِكَاتٍ» ، وَهَذَا أَوَّلُ شِرْكٍ فِي الْإِسْلَامِ، والذي نفسي بيده لينتهين بِهِمْ سُوءُ رَأْيِهِمْ حَتَّى يُخْرِجُوا اللَّهَ مِنْ أَنْ يُقَدِّرَ الْخَيْرَ، كَمَا أَخْرَجُوهُ مِنْ أَنْ يقدر الشر (1) .
__________
(1) هذا الحديث نقله المؤلف من كتاب اللالكائي، من رواية بقية بن الوليد عن الأوزاعي. ولعل زاعما يزعم تعليله؛ بأن بقية مدلس، وليس أمامنا إسناد اللالكائي، حتى نعرف: أصرح بقية بن الوليد بالتحديث أم لم يصرح؟ ولكنها علة ذاهبة؛ فلم ينفرد بقية بروايته عن الأوزاعي، فقد رواه الإمام أحمد مرتين في المسند: 3055، 3056 - فقال في أولاهما: «حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن بعض إخوانه، عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس» ، إلخ. وقال في الأخرى: «حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، حدثني الْعَلَاءُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ المكي، عن ابن عباس، بهذا الحديث» فالإسناد الأول أبهم فيه شيخ الأوزاعي، ثم بين في الثاني أنه «العلاء بن الحجاج» وقد فصلنا القول فيه في شرحنا للمسند، وقلنا إن إسناده حسن على الأقل. ووقع في إسناده - هنا - ومتنه غلط كثير، صححنا ما استطعنا من رواية المسند. فكان هنا «محمد بن عبد الملك» بدل «محمد بن عبيد المكي» . وكان «وهو يومئذ أعمى» . وكتب «لئن» في الموضعين (لأن) ! وكان أيضا (كأني بنساء بني فهم يطفن بالخروج تصطل إلياتهن) ! وهو كلام لا معنى له. وكان «لتنتهي» بدل (لينتهين) . ثم وجدت الإسناد الذي فيه بقية: فرواه أبو بكر الآجري في كتاب (الشريعة) ص: 238، عن الفريابي، عن أبي حفص عمر بن عثمان الحمصي، (قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال حدثنا أبو عمرو، يعني الأوزاعي) - إلى آخره، بهذا الإسناد. ولكن مع شيء من الاختصار.(1/226)
قَوْلُهُ: "وَهَذَا أَوَّلُ شِرْكٍ فِي الْإِسْلَامِ"، إِلَى آخِرِهِ، مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ: الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفِينَةٍ، وَصَحِبَنَا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ الْقَدَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُرِيدُ! قَالَ الْمَجُوسِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ وَأَرَادَ الشَّيْطَانُ، فَكَانَ مَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ! هَذَا شَيْطَانٌ قَوِيٌّ! ! (1) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: فَأَنَا مَعَ أَقْوَاهُمَا! !.
وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى حَلْقَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ إِنَّ نَاقَتِي سُرِقَتْ فَادْعُوا اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تُسْرَقَ نَاقَتُهُ فَسُرِقَتْ، فَارْدُدْهَا عَلَيْهِ! فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا حَاجَةَ لِي فِي دُعَائِكَ! قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَخَافُ - كَمَا أَرَادَ أَنْ لَا تُسْرَقَ فَسُرِقَتْ - أَنْ يُرِيدَ رَدَّهَا فَلَا تُرَدُّ! !.
وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عِصَامٍ الْقَسْطَلَّانِيِّ (2) : أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَأَوْرَدَنِي الضَّلَالَ ثُمَّ عَذَّبَنِي، أَيَكُونُ مُنْصِفًا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عِصَامٍ: إِنْ يَكُنِ الْهُدَى شَيْئًا هُوَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعَهُ مَنْ يَشَاءُ.
وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (4) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ}
__________
(1) هذا الأثر رواه الآجري في كتاب الشريعة: 244، بإسناده إلى عمرو بن هيثم، بنحوه.
(2) أنا من صحة هذه النسبة في شك. ولم أعرف الرجل حتى أحققها.
(3) سورة السجدة آية 13.
(4) سورة يونس آية 99.
(5) سورة الإنسان آية 30.(1/227)
{يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (2) .
وَمَنْشَأُ الضَّلَالِ: مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: الْكَوْنُ كُلُّهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا مَرْضِيًّا، وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: لَيْسَتِ الْمَعَاصِي مَحْبُوبَةً لِلَّهِ وَلَا مَرْضِيَّةً لَهُ، فَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً وَلَا مَقْضِيَّةً، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ - الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْفِطْرَةُ الصَّحِيحَةُ.
أَمَّا نُصُوصُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْكِتَابِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا. وَأَمَّا نُصُوصُ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، فَقَالَ تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) . {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (4) . وَقَالَ تَعَالَى عَقِيبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (5) .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» .
وَفِي الْمُسْنَدِ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ، وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فعل العقوبة، فالأول الصفة، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ من
__________
(1) سورة الأنعام آية 39.
(2) سورة الأنعام آية 125.
(3) سورة البقرة آية 205.
(4) سورة الزمر آية 7.
(5) سورة الإسراء آية 38.(1/228)
رِضَاكَ وَمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذني مِمَّا أَكْرَهُ وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي، هِيَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ، وَعِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا [أَسْتَعِيذُ] بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ (1) . وَلَا أَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَيْءٍ صَادِرٍ عَنْ غَيْرِ مَشِيئَتِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ. فَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ، إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ أَمْرًا وَلَا يَرْضَاهُ ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف تجتمع إِرَادَتُهُ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ؟
قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي افْتَرَقَ النَّاسُ لِأَجْلِهِ فِرَقًا، وَتَبَايَنَتْ طُرُقُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لِنَفْسِهِ، وَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ. فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ، مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ. وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ، قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِمَا يُرِيدُ (2) ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ وَذَاتُهُ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ قَضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُرَادِهِ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: بُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ، لِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِمَا. وَهَذَا كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، إِذَا عَلِمَ الْمُتَنَاوِلُ لَهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَكَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ. بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عاقبته، فكيف [بمن] (3) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ الشَّيْءَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وكونه سببا
__________
(1) الزيادة ليست في المطبوعة. وهي ضرورية لصحة الكلام.
(2) في المطبوعة «مقصودا لما لا يريد» ، وزيادة «لا» خطأ، تبطل المعنى وتفسده.
(3) في الأصل: (ممن) والصواب ما أثبتناه، كما في «مدارج السالكين» 2 / 194. ن.(1/229)
إِلَى أَمْرٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ [فَوْتِهِ] (1) .
مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ خَلَقَ إِبْلِيسَ، الَّذِي هُوَ مَادَّةٌ لِفَسَادِ الْأَدْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِشَقَاوَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا يُغْضِبُ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ السَّاعِي فِي وُقُوعِ خِلَافِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحَابَّ كَثِيرَةٍ لِلرَّبِّ تَعَالَى تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِهِ، وَوُجُودُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِهَا.
مِنْهَا: أَنَّهُ تَظْهَرُ لِلْعِبَادِ قُدْرَةُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ، فَخَلَقَ هَذِهِ الذَّاتَ، الَّتِي هِيَ أَخْبَثُ الذَّوَاتِ وَشَرُّهَا، وَهِيَ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ، فِي مُقَابَلَةِ ذات جبرائيل، الَّتِي هِيَ مِنْ أَشْرَفِ الذَّوَاتِ وَأَطْهَرِهَا وَأَزْكَاهَا، وَهِيَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ، فَتَبَارَكَ خَالِقُ هَذَا وَهَذَا. كَمَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ والنهار، والدواء والداء، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَذَلِكَ من أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَإِنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْمُتَضَادَّاتِ، وَقَابَلَ بَعْضَهَا ببعض، وجعلها مجال تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَخُلُوُّ الْوُجُودِ عَنْ بَعْضِهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَعْطِيلٌ لِحِكْمَتِهِ وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ، مِثْلِ: الْقَهَّارِ، وَالْمُنْتَقِمِ، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع العقاب، وَذِي الْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالْخَافِضِ، وَالْمُذِلِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ، لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلَّقِهَا، وَلَوْ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ [لِحِلْمِهِ] (2) وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسَتْرِهِ وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله
__________
(1) في الأصل: (فوقه) والصواب ما أثبتناه، كما في «مدارج السالكين» 2 / 194. ن.
(2) في الأصل: (كلؤه) . والصواب ما أثبتناه، كما في «مدارج السالكين» 2 / 195. ن.(1/230)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» .
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، فَإِنَّهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا، فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُنْزِلُهُ في غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَخِبْرَتِهِ، فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ. فَلَوْ قُدِّرَ عدم الأسباب المكروهة له لَتَعَطَّلَتْ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ، وَلَفَاتَتْ مَصَالِحُ عَدِيدَةٌ.
وَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ، لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ، الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ.
وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ، فَإِنَّ عُبُودِيَّةَ الْجِهَادِ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ وَتَوَابِعُهَا مِنَ الْمُوَالَاةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَعُبُودِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعُبُودِيَّةُ الصَّبْرِ وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَإِيثَارِ مَحَابِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعُبُودِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْ عَدُّوِهِ وَيَعْصِمَهُ مِنْ كَيْدِهِ وَأَذَاهُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُ تِلْكَ الْحِكَمِ بِدُونِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ! وَهُوَ فَرْضُ وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ، كَفَرْضِ وُجُودِ الِابْنِ بِدُونِ الْأَبِ، وَالْحَرَكَةِ بِدُونِ الْمُتَحَرِّكِ، وَالتَّوْبَةِ بِدُونِ التَّائِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ مُرَادَةً لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ، فَهَلْ تَكُونُ مَرْضِيَّةً مَحْبُوبَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمْ هِيَ مَسْخُوطَةٌ من جميع الوجوه؟ قيل: هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى وَجْهَيْنِ:(1/231)
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَلْ يَكُونُ مُحِبًّا لَهَا مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا لِذَاتِهَا؟.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَسُوغُ لَهُ الرِّضَا بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَيْضًا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ لَهُ شَأْنٌ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ، أَعْنِي عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ. مِثَالُهُ: أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وَجُودَهَا خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ بِهِ، وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ. وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ - خَيْرٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبِيَّةٌ إِضَافِيَّةٌ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الموضوعة في محلها خَيْرًا فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحِلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ، لَمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ مُسْتَعِدَّةً لَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، حَيْثُ وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ. فَلَا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا، هَذَا مِنْ أبين المحال، فإنه سبحانه بيده الخير كله، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسَبْتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قِيلَ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، والشر الذي(1/232)
فِيهِ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ.
فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لِذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ. فَإِيجَادُ هَذَا خَيْرٌ، وَهُوَ إِلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِعْدَادُهُ وَإِمْدَادُهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَمَدَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ؟ قِيلَ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ، فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ! وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ! بَلِ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الَّذِي بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ لِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ مِنْ تَفَاوُتٍ. فَإِنِ اعْتَاصَ عَلَيْكَ هَذَا، وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرْضَى لِعَبْدِهِ شَيْئًا وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} (1) - الْآيَتَيْنِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ إِلَى الغزو مع رسوله، وهو طاعته، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ
__________
(1) سورة التوبة الآيتين 46- 47.(1/233)
سُبْحَانَهُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ، فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} (1) ، أَيْ فَسَادًا وَشَرًّا، {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} (2) ، أَيْ سَعَوْا بَيْنَكُمْ بِالْفَسَادِ وَالشَّرِّ، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (3) ، قَابِلُونَ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ سَعْيِ هَؤُلَاءِ وَقَبُولِ هَؤُلَاءِ مِنَ الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ أَنْ أَقْعَدَهُمْ عَنْهُ. فَاجْعَلْ هَذَا الْمِثَالَ أَصْلًا، وَقِسْ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ: فَهُوَ أَيْضًا مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْخَطُ الْفُسُوقَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَكْرَهُهَا، مِنْ حَيْثُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَاقِعَةٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ، فَيَرْضَى بِمَا مِنَ اللَّهِ وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَرِهَتْهَا مُطْلَقًا، وَقَوْلُهُمْ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَهُمُ الْكَرَاهَةَ لَا يُرِيدُونَ بِهِ شُمُولَهُ لِعِلْمِ الرَّبِّ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الَّذِي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالَّذِي إِلَى الْعَبْدِ مَكْرُوهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا. قِيلَ: هَذَا هُوَ الْجَبْرُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمُقَامِ الضَّيِّقِ، وَالْقَدَرِيُّ الْمُنْكَرُ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْجَبْرِيِّ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ - أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ مَعَ شُهُودِ الْحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَمَعَ شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ؟ قِيلَ: هَذَا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ مَنْ عَمِيَتْ بصيرته في شهود الأمر على غير مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَرَأَى تِلْكَ الْأَفْعَالَ طَاعَاتٍ، لِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا الْمَشِيئَةَ وَالْقَدَرَ، وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أمره فقد أطعت إرادته! [و] في ذلك قيل:
__________
(1) سورة التوبة الآية 47.
(2) سورة التوبة الآية 47.
(3) سورة التوبة الآية 47.(1/234)
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مِنِّي، فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتُ!
وَهَؤُلَاءِ أَعْمَى الْخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، لَا مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ، وَلَوْ كَانَ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ طَاعَةً لَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُطِيعِينَ لَهُ، وَلَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ - كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ! وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ.
لَكِنْ إِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ عَجْزَ نَفْسِهِ، وَنُفُوذَ الْأَقْدَارِ فِيهِ، وَكَمَالَ فَقْرِهِ إِلَى رَبِّهِ وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ عِصْمَتِهِ وَحِفْظِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ - كَانَ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا بِنَفْسِهِ، فَوُقُوعُ الذَّنْبِ مِنْهُ لَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ ألبتة، فإن عليه حصنا حصينا"فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي"فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الحالة، فَإِذَا حُجِبَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ وَبَقِيَ بِنَفْسِهِ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُكْمُ النَّفْسِ، فَهُنَالِكَ نُصِبَتْ عَلَيْهِ الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انتفى عَنْهُ ضَبَابُ ذَلِكَ الْوُجُودِ الطَّبْعِيِّ، فَهُنَالِكَ يَحْضُرُهُ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ مَحْجُوبًا بِنَفْسِهِ عَنْ رَبِّهِ، فَلَمَّا فَارَقَ ذَلِكَ الْوُجُودَ صَارَ فِي وُجُودٍ آخَرَ، فَبَقِيَ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْكُفْرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُنْكِرُهُ وَنَكْرَهُهُ؟ !.
فَالْجَوَابُ: أَنْ يُقَالَ:
أَوَّلًا: نَحْنُ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ وَيُقَدِّرُهُ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، بَلْ مِنَ الْمَقْضِيِّ مَا يُرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا يُسْخَطُ وَيُمْقَتُ، كَمَا لَا يَرْضَى بِهِ الْقَاضِي لِأَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ مِنَ الْقَضَاءِ مَا يُسْخَطُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَقْضِيَّةِ مَا يُغْضَبُ عَلَيْهِ وَيُمْقَتُ وَيُلْعَنُ وَيُذَمُّ.
وَيُقَالُ ثَانِيًا: هُنَا أَمْرَانِ: قَضَاءُ اللَّهِ؛ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى،(1/235)
وَمَقْضِيٌّ: وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ. فَالْقَضَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، نَرْضَى بِهِ كُلِّهِ، وَالْمَقْضِيُّ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا يُرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُرْضَى بِهِ.
وَيُقَالُ ثَالِثًا: الْقَضَاءُ لَهُ وجهان:
أحدهما: تعلقه بالرب تعالى، فمن هذا الوجه ونسبته إليه يُرْضَى بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَعَلُّقُهُ بِالْعَبْدِ وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُرْضَى بِهِ وَإِلَى مَا لَا يُرْضَى بِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: قَتْلُ النَّفْسِ، لَهُ اعْتِبَارَانِ: فَمِنْ حَيْثُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَكَتَبَهُ وَشَاءَهُ وَجَعَلَهُ أَجَلًا لِلْمَقْتُولِ وَنِهَايَةً لِعُمُرِهِ - يُرْضَى بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ صَدَرَ مِنَ الْقَاتِلِ وَبَاشَرَهُ وَكَسَبَهُ وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَعَصَى اللَّهَ بِفِعْلِهِ - نَسْخَطُهُ وَلَا نَرْضَى بِهِ.
وَقَوْلُهُ: "وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ" إِلَى آخِرِهِ -
التَّعَمُّقُ: هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي طَلَبِ الْقَدَرِ وَالْغَوْصِ فِي الْكَلَامِ فِيهِ ذَرِيعَةُ الخذلان. الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم - متقاربة الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الْخِذْلَانُ وَالْحِرْمَانُ وَالطُّغْيَانُ - مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى أَيْضًا، لَكِنَّ الْخِذْلَانَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصْرِ، وَالْحِرْمَانَ فِي مُقَابَلَةِ الظَّفَرِ: وَالطُّغْيَانَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِقَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: "فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً"- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: «إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟ قَالَ: " [وَقَدْ] وَجَدْتُمُوهُ"؟ [قَالُوا: نَعَمْ] ، قَالَ: "ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) . الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلك «صريح الإيمان» إلى تعاظم أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوسوسة؟ فقال: «تلك محض الإيمان» ،
__________
(1) صحيح مسلم 1: 48. وكان الحديث محرفا في المطبوعة، فأكملناه وصححناه من كتاب الصحيح.(1/236)
وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّ وَسُوسَةَ النَّفْسِ أَوْ مُدَافَعَةَ وَسْوَاسِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحَادَثَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَمُدَافَعَةُ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَاسْتِعْظَامُهَا صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَمَحْضُ الْإِيمَانِ. هَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، سَوَّدُوا الْأَوْرَاقَ بِتِلْكَ الْوَسَاوِسِ، الَّتِي هِيَ شُكُوكٌ وَشُبَهٌ، بَلْ وَسَوَّدُوا الْقُلُوبَ، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، وَلِذَلِكَ أَطْنَبَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَمِّ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ وَالْفَحْصِ عَنْهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» (1) . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ، قَالَ: فَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَقَالَ [لَهُمْ] : مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» . قَالَ: فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أَشْهَدْهُ، بِمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا (2) .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (3) أَيْ: كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوهُ، أَوْ كَالْفَوْجِ أَوِ الصِّنْفِ أَوِ الْجِيلِ الَّذِي خَاضُوا. وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ وَبَيْنَ الْخَوْضِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا فِي الْعَمَلِ وَإِمَّا فِي الِاعْتِقَادِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وغيرهم. وفي المطبوعة (إن أبغض) . وزيادة (إن) ليست من لفظه.
(2) هو في المسند بتحقيقنا: 6668. وصححنا لفظه هنا عن المسند ورواه ابن ماجه 2: 33.
(3) سورة التوبة آية 69.(1/237)
قَالَ: «لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَآخِذَ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، قَالُوا: فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أمه علانية كان من أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تفرقوا على اثنين وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً. قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً» - يَعْنِي الْأَهْوَاءَ - كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ.
وَأَكْبَرُ الْمَسَائِلِ التي وقع فيها الخلاف بين الأئمة مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ. وَقَدِ اتَّسَعَ الْكَلَامُ فِيهَا غَايَةَ الِاتِّسَاعِ.
وَقَوْلُهُ: "فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ".
اعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ - عَلَى التَّسْلِيمِ وَعَدَمِ الْأَسْئِلَةِ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالشَّرَائِعِ. وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ صَدَّقَتْ بِنَبِيِّهَا وَآمَنَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ تَفَاصِيلِ(1/238)
الْحِكْمَةِ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ وَنَهَاهَا عَنْهُ وَبَلَّغَهَا عَنْ رَبِّهَا، وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِنَبِيِّهَا، بَلِ انْقَادَتْ وَسَلَّمَتْ وَأَذْعَنَتْ، وَمَا عَرَفَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ عَرَفَتْهُ، وَمَا خَفِيَ عَنْهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ فِي انْقِيَادِهَا وَتَسْلِيمِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا جَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، وَكَانَ رَسُولُهَا أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْإِنْجِيلِ: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا"؛ وَلِهَذَا كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَمَعَارِفَ وَعُلُومًا - لَا تَسْأَلُ نَبِيَّهَا: لِمَ أَمَرَ اللَّهُ بِكَذَا؟ وَلِمَ نَهَى عَنْ كَذَا؟ وَلِمَ قَدَّرَ كَذَا؟ وَلِمَ فَعَلَ كَذَا؟ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَأَنَّ قَدَمَ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةِ التَّسْلِيمِ.
فَأَوَّلُ مَرَاتِبِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ التَّصْدِيقُ بِهِ، ثُمَّ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن الْقَوَاطِعَ وَالْمَوَانِعَ، ثُمَّ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالنُّصْحِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ فِعْلُهُ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ [الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ, فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ فَعَلَهُ وَإِلَّا عَطَّلَهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي الِانْقِيَادَ، وَيَقْدَحُ فِي الِامْتِثَالِ] (*) , قَالَ الْقُرْطُبِيُّ نَاقِلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ، بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ فِي الدِّيَانَةِ عَلَيْهِ - فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَشِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ. وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْرَ مُتَفَقِّهٍ وَلَا مُتَعَلِّمٍ، فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَلِيلُ سُؤَالِهِ وَلَا كَثِيرُهُ.
قَالَ [ابْنُ الْعَرَبِيِّ] (1) : الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وَتَحْصِيلُ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادُ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الاستمداد. قال: فإن عرضت لك مسألة: أُتِيَتْ مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ مِنْ مَظَانِّهَا، وَاللَّهُ يفتح وجه الصواب فيها. انتهى.
__________
(1) في الأصل: (ابن عربي) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين سقط من المطبوعة وأضفناه من نسخة الشيخ أحمد شاكر (الأصل الذي اعتمدت عليه هذه الطبعة)(1/239)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَوَّلَ حُكْمَ الْكِتَابِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ، بُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ ليرجع إليه، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِكَمَالِ حكمته ورحمته وعدله، لا بمجرد قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا يَقُولُ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلُّهُ".
قَوْلُهُ: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ، فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ) .
ش: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: "فَهَذَا"إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ،
وَقَوْلُهُ "وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ"
أَيْ عِلْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَيَعْنِي بِالْعِلْمِ الْمَفْقُودِ: عِلْمَ الْقَدَرِ الَّذِي طَوَاهُ اللَّهُ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ. وَيَعْنِي بِالْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَمَنِ ادَّعَى عَلِمَ الْغَيْبِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1) ، الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَفَاءِ حِكْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا عَدَمُهَا، وَلَا مِنْ جَهْلِنَا انْتِفَاءُ حِكْمَتِهِ. أَلَا
__________
(1) سورة الجن الآيتان 26، 27.
(2) سورة لقمان آية 34.(1/240)
تَرَى أَنَّ خَفَاءَ حِكْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا فِي خَلْقِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرِ وَالْحَشَرَاتِ، الَّتِي لَا يُعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا الْمَضَرَّةُ - لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا حِكْمَةٌ خَفِيَتْ عَلَيْنَا، لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ عِلْمًا بِالْمَعْدُومِ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (1) . وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ""إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا، مِنْ دُرَّةٍ بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، [وعرضه ما بين السماء والأرض. ينظر] فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة، يخلق [بكل نظرة] ، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء» (2) .
اللَّوْحُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ فِيهِ، وَالْقَلَمُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ وَكَتَبَ بِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَذْكُورِ الْمَقَادِيرَ، كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عُبَادَةَ بن الصامت، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: « [إن] أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكتب، قال: يا رب، وما [ذا] أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» (3) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ الْقَلَمُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ، أَوِ الْعَرْشُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلَ الْقَلَمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن عمرو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كتب اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بخمسين
__________
(1) سورة البروج الآيتان 21، 22.
(2) هذا الحديث محرف جدا في المطبوعة، وفيها زيادة ونقص. وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 190 - 191، وصححناه منه. ولكنه فيه موقوف من كلام ابن عباس. وقال الهيثمي: «رواه الطبراني من طريقين، ورجال هذه ثقات» . فلعل الشارح نقله من الرواية الأخرى التي أعرض عنها الهيثمي.
(3) أبو داود: 4700. والتصحيح والزيادة من هناك.(1/241)
ألف سنة، [قال] : وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (1) .
فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَالتَّقْدِيرَ وَقَعَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِ الْقَلَمِ، بِحَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا. وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ» ، إِلَخْ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ قَالَ لَهُ: "اكْتُبْ". كَمَا فِي اللَّفْظِ: «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ» بِنَصْبِ"أَوَّلَ"وَ"الْقَلَمَ". وَإِنْ كَانَ جُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِرَفْعِ"أَوَّلُ"وَ"الْقَلَمُ"، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، فَيَتَّفِقُ الْحَدِيثَانِ، إِذْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَرْشَ سَابِقٌ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ مُقَارِنٌ لِخَلْقِ الْقَلَمِ. وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ» .
فَهَذَا الْقَلَمُ أَوَّلُ الْأَقْلَامِ وَأَفْضَلُهَا وَأَجَلُّهَا. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْقَلَمُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (2) .
وَالْقَلَمُ الثَّانِي: قَلَمُ الْوَحْيِ: وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ وَحْيُ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَلَمِ هُمُ الْحُكَّامُ عَلَى الْعَالَمِ. وَالْأَقْلَامُ كُلُّهَا خَدَمٌ لِأَقْلَامِهِمْ. وَقَدْ رُفِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، فَهَذِهِ الْأَقْلَامُ هِيَ الَّتِي تَكْتُبُ مَا يُوحِيهِ اللَّهُ تبارك وتعالى من الأمور التي يدبرها، أَمْرَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَائِنٌ، لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ - لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا - لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
ش: تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كأنا خلقنا
__________
(1) صحيح مسلم 2 / 300 وصححناه من هناك.
(2) سورة القلم آية 1.(1/242)
الآن، ففيم الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ به المقادير؟ أم فيما استقبل؟ قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ» .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؟ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لِمَ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» .
وَقَدْ جَاءَتِ الْأَقْلَامُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا مَجْمُوعَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمَقَادِيرِ أَقْلَامًا غَيْرَ الْقَلَمِ الْأَوَّلِ، الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَنَّ الْأَقْلَامَ أَرْبَعَةٌ - وَهَذَا التَّقْسِيمُ غَيْرُ التَّقْسِيمِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ -:
الْقَلَمُ الْأَوَّلُ: الْعَامُّ الشَّامِلُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ اللوح.
القلم الثاني: خبر خُلِقَ آدَمُ، وَهُوَ قَلَمٌ عَامٌّ أَيْضًا، لَكِنْ لِبَنِي آدَمَ، وَرَدَ فِي هَذَا آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَأَرْزَاقَهُمْ وَآجَالَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ، عَقِيبَ خَلْقِ أَبِيهِمْ.
الْقَلَمُ الثَّالِثُ: حِينَ يُرْسَلُ الْمَلَكُ إِلَى الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَيَنْفَخُ فِيهِ الرُّوحَ،(1/243)
ويؤمر بأربع كلمات: «رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشِقِّيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
الْقَلَمُ الرَّابِعُ: الْمَوْضُوعُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ بُلُوغِهِ، الَّذِي بِأَيْدِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، الَّذِينَ يَكْتُبُونَ مَا يَفْعَلُهُ بَنُو آدَمَ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالْوَاجِبُ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى. قَالَ تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (1) ، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (3) ، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (4) ، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (5) . وَنَظَائِرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَتَّقِيَ أَشْيَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّقِيَ أَشْيَاءَ يُرَاعِي بِهَا رَعِيَّتَهُ. فَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَتَّقِيَ، فَإِنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ اتَّقَى الْمَخْلُوقَ، وَالْخَلْقُ لَا يَتَّفِقُ حُبُّهُمْ كُلُّهُمْ وَبُغْضُهُمْ، بَلِ الَّذِي يُرِيدُهُ هَذَا يُبْغِضُهُ هَذَا، فَلَا يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُمْ كُلُّهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ، فَعَلَيْكَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُكَ فَالْزَمْهُ، وَدَعْ مَا سِوَاهُ فَلَا تُعَانِهِ. فَإِرْضَاءُ الْخَلْقِ لَا مَقْدُورٌ وَلَا مَأْمُورٌ، وَإِرْضَاءُ الْخَالِقِ مَقْدُورٌ وَمَأْمُورٌ.
وَأَيْضًا فَالْمَخْلُوقُ لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَإِذَا اتقى العبد ربه، كفاه مؤنة الناس. كما كتبت عائشة إلى معاوية، رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا: «مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا» . فَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ كَفَاهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَرَضِيَ عَنْهُ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدُ يَرْضَوْنَ، إِذِ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى: يَا جبرائيل، إني أحب فلانا
__________
(1) سورة المائدة آية 44.
(2) سورة البقرة آية 40.
(3) سورة البقرة آية 41.
(4) سورة النور آية 52.
(5) سورة المدثر آية 56.(1/244)
فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» ، وَقَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ أَنْ يَتَّقِيَ: إِمَّا الْمَخْلُوقَ، وَإِمَّا الْخَالِقَ. وَتَقْوَى الْمَخْلُوقِ ضَرَرُهَا رَاجِحٌ عَلَى نَفْعِهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَتَقْوَى اللَّهِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ للتقوى، وهو أيضا أهل المغفرة، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، لَا يَقْدِرُ مَخْلُوقٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ الذُّنُوبَ وَيُجِيرَ مِنْ عَذَابِهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا احْتَاجَ تَقِيٌّ قَطُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (1) ، فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقْوَى خَلَلًا، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2) ، أي فهو كافيه، لا محوجه إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُنَافِي الِاكْتِسَابَ وَتَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ! وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ: مِنْهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهُ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ حَرَامٌ، كَمَا قَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْمُتَوَكِّلِينَ، يَلْبَسُ لَأْمَةَ الْحَرْبِ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لِلِاكْتِسَابِ، حَتَّى قَالَ الْكَافِرُونَ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (3) . وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَرَى الِاكْتِسَابَ يُنَافِي التَّوَكُّلَ يُرْزَقُونَ عَلَى يَدِ مَنْ يُعْطِيهِمْ، إِمَّا صَدَقَةً، وَإِمَّا هَدِيَّةً، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَكَّاسٍ، أَوْ وَالِي شُرْطَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، لَا يَسَعُهُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ التي في
__________
(1) سورة الطلاق الآيتان 2، 3.
(2) سورة الطلاق الآية 3.
(3) سورة الفرقان آية 7.(1/245)
تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (2) فقال الْبَغَوِيُّ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قالوا: إن الله لا يعطي يوم السبت! قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَرْزُقُ، وَيُعِزُّ قَوْمًا وَيُذِلُّ آخَرِينَ، وَيَشْفِي مَرِيضًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا، وَيُفَرِّجُ مَكْرُوبًا، وَيُجِيبُ دَاعِيًا، وَيُعْطِي سَائِلًا، وَيَغْفِرُ ذَنْبًا، إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِحْدَاثِهِ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ) .
ش: هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَقْدُورَ كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
مَا قَضَى اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَهْ ... وَالشَّقِيُّ الْجَهُولُ مَنْ لَامَ حَالَهْ
وَالْقَائِلُ الْآخَرُ:
اقْنَعْ بِمَا تُرْزَقُ يَا ذَا الْفَتَى ... فَلَيْسَ يَنْسَى رَبُّنَا نَمْلَهْ
إِنْ أَقْبَلَ الدَّهْرُ فَقُمْ قَائِمًا ... وَإِنْ تَوَلَّى مُدْبِرًا نَمْ لَهْ
قَوْلُهُ: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ، وَلَا مُعَقِّبٌ وَلَا مُزِيلٌ وَلَا مُغَيِّرٌ، وَلَا نَاقِصٌ وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ) .
ش: هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ بِالْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَهَا قَبْلَ خَلْقِهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» . فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَصِيرُ موجودة لأوقاتها، على ما اقتضته حكمته
__________
(1) سورة الرعد آية 39.
(2) سورة الرحمن آية 29.(1/246)
الْبَالِغَةُ فَكَانَتْ كَمَا عَلِمَ. فَإِنَّ حُصُولَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ لَا يُتَصَوَّرُ إِيجَادُهَا إِلَّا مِنْ عَالِمٍ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ عَلَى إِيجَادِهَا. قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) . وَأَنْكَرَ غُلَاةُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ حَتَّى يَفْعَلُوا! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: نَاظِرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا، وَإِنْ أَنْكَرُوا كَفَرُوا. فَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ يَفْعَلُ مَا اسْتَطَاعَهُ فَيُثِيبُهُ، وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لَا يَفْعَلُ مَا اسْتَطَاعَهُ فَيُعَذِّبُهُ، فَإِنَّمَا يُعَذِّبُهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ.
وَإِذَا قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ؟ قِيلَ: هذه معضلة، وذلك أن مجرد قدرته عَلَى الْفِعْلِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ، وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَكَانَ الْمَعْلُومُ وُقُوعَهُ لَا عَدَمَ وُقُوعِهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، بَلْ إِنْ وَقَعَ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ إِلَّا بِمَا يَظْهَرُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ كَانَ هُوَ الْمَعْلُومَ، وَالْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُغَيِّرُ الْعِلْمَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلٍ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ، لَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ.
وَإِذَا قِيلَ: فَمَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَوْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى وُقُوعِهِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِلْمِ؟ قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْعَبْدُ يَقْدِرُ عَلَى وُقُوعِهِ وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ، وَلَوْ أَوْقَعَهُ لَمْ يَكُنِ الْمَعْلُومُ إِلَّا وُقُوعَهُ، فَمَقْدُورُ الْعَبْدِ إذا وقع لم يكن
__________
(1) سورة الملك آية 14.(1/247)
الْمَعْلُومُ إِلَّا وُقُوعَهُ، وَهَؤُلَاءِ فَرَضُوا وُقُوعَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ! وَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: افْرِضْ وُقُوعَهُ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ! وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فإذا كان وقوعه مع علم الرب [عدم] وُقُوعِهِ مُحَالًا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا؟ قِيلَ: لَفْظُ"الْمُحَالِ"مُجْمَلٌ، وَهَذَا لَيْسَ مُحَالًا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ لَهُ وَلَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَلَا لِامْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ مُسْتَطَاعٌ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ مَعَ انْتِفَاءِ لَازِمِ الْوُقُوعِ صَارَ مُحَالًا مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ. وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هِيَ مُحَالٌ! وَمِمَّا يُلْزِمُ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ، لَا الرَّبُّ، وَلَا الْخَلْقُ، فَإِنَّ الرَّبَّ إِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ كَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَلِمِهِ ذَلِكَ انْتِفَاءُ قُدْرَتِهِ عَلَى تَرْكِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ مَا قَدَّرَهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِيمَانِ وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (2) .
ش: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَسَبْقِ عِلْمِهِ بِالْكَائِنَاتِ قَبْلَ خَلْقِهَا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ عَنِ الْإِيمَانِ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» ،. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قَالَ: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبرائيل، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَوْلُهُ: "وَالِاعْتِرَافُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ"، أَيْ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ والاعتراف
__________
(1) سورة الفرقان آية 2.
(2) سورة الأحزاب آية 38.(1/248)
بِالرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَنْ زَعَمَ خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَخْلُقُ فِعْلَهُ؟ ! وَلِهَذَا كَانَتِ الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَحَادِيثُهُمْ فِي السُّنَنِ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (1) .
وروى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا جَنَازَتَهُ، وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ» (2) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ» (3) .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ» .
لَكِنَّ كُلَّ أَحَادِيثِ الْقَدَرِيَّةِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمَوْقُوفُ مِنْهَا: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ". وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِعِلْمِ اللَّهِ الْقَدِيمِ وَمَا أَظْهَرَ مِنْ علمه الذي لا يحاط به وَكِتَابِهِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ. وَقَدْ ضَلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَلَائِقُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ. وَأَمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ جُمْلَةً، حَيْثُ جَعَلُوهُ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ قدرته وخلقه.
__________
(1) أبو داود: 4691.
(2) أبو داود: 4692.
(3) أبو داود: 4710. وهو في المسند: 206. ورواه ابن حبان بتحقيقنا: 79. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 85.(1/249)
وَالْقَدَرُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي دِلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِي جَحَدُوهُ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمَحْضَةُ بِلَا نِزَاعٍ - هُوَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ مَقَادِيرِ الْعِبَادِ. وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ يعني به هؤلاء، كقول ابن عمر، لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ - أَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَأَنَّهُمْ مِنِّي بَرَاءٌ.
وَالْقَدَرُ، الَّذِي هُوَ التَّقْدِيرُ الْمُطَابِقُ لِلْعِلْمِ - يَتَضَمَّنُ أُصُولًا عَظِيمَةً: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ قَبْلَ كَوْنِهَا، فَيَثْبُتُ عِلْمُهُ الْقَدِيمُ، وَفِي ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ الْقَدِيمَ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ يَتَضَمَّنُ مَقَادِيرَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَقَادِيرُهَا هِيَ صِفَاتُهَا الْمُعَيَّنَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، قَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1) . فَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ التَّقْدِيرَ، تَقْدِيرَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، بأن يجعل له قدرا، وَتَقْدِيرَهُ قَبْلَ وُجُودِهِ. فَإِذَا كَانَ قَدْ كَتَبَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ قَدْرَهُ الَّذِي يَخُصُّهُ فِي كَمِّيَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ! فَالْقَدَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ وَالْعِلْمَ بِالْجُزْئِيَّاتِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَهُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ إخبارا مفصلا، فيقتضي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلِمَ الْعِبَادَ الْأُمُورَ قَبْلَ وُجُودِهَا عِلْمًا مُفَصَّلًا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ أَوْلَى بِهَذَا الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُعْلِمُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ هُوَ؟ !!
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مُخْتَارٌ لِمَا يَفْعَلُهُ، مُحْدِثٌ لَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَيْسَ لَازِمًا لذاته.
__________
(1) سورة الفرقان آية 2.(1/250)
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ هَذَا الْمَقْدُورِ، وَأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ يقدره ثم يخلقه.
قوله: (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ قَلْبُهُ فِي الْقَدَرِ قَلْبًا سَقِيمًا (1) ، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أثيما) .
ش: اعلم أن الْقَلْبُ لَهُ حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، وَمَرَضٌ وَشِفَاءٌ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْبَدَنِ.
قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (2) أَيْ كَانَ مَيِّتًا بِالْكُفْرِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ. فَالْقَلْبُ الصَّحِيحُ الْحَيُّ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ وَالْقَبَائِحُ نفر منه بِطَبْعِهِ وَأَبْغَضَهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "هَلَكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْرِفُ بِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ". وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَرِيضُ بِالشَّهْوَةِ، فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ يَمِيلُ إِلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ.
وَمَرَضُ الْقَلْبِ نَوْعَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ: مَرَضُ شهوة، ومرض شبهة، وأردؤها مَرَضُ الشُّبْهَةِ، وَأَرْدَأُ الشُّبَهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ. وَقَدْ يَمْرَضُ الْقَلْبُ وَيَشْتَدُّ مَرَضُهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، لِاشْتِغَالِهِ وَانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ وَأَسْبَابِهَا، بَلْ قَدْ يَمُوتُ وَصَاحِبُهُ لَا يَشْعُرُ بِمَوْتِهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُؤْلِمُهُ جِرَاحَاتُ الْقَبَائِحِ، وَلَا يُوجِعُهُ جَهْلُهُ بِالْحَقِّ وَعَقَائِدُهُ الْبَاطِلَةُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ تَأَلَّمَ بِوُرُودِ الْقَبِيحِ عَلَيْهِ، وَتَأَلَّمَ بِجَهْلِهِ بالحق بحسب حياته، و:
__________
(1) في المطبوعة: «فَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاعَ لَهُ فِي الْقَدَرِ قَلْبًا سقيما» !! وهو كلام لا معنى له. ثم جاء عقب ذلك: «وفي نسخة» . ثم ذكر اللفظ الذي هنا. والظاهر عندي أن هذا تصرف من أحد الناسخين، وجد اللفظ غلطا في النسخة التي ينقل عنها، ثم وجد نسخة أخرى من المتن على الصواب، فأساء التصرف، وأثبته في صلب الكتاب أثناء الكلام، على أنه نسخة.
(2) سورة الأنعام آية 122.(1/251)
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ ...
وَقَدْ يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ، وَلَكِنْ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، فَيُؤْثِرُ بَقَاءَ أَلَمِهِ عَلَى مَشَقَّةِ الدَّوَاءِ، فَإِنَّ دَوَاءَهُ فِي مُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَذَلِكَ أَصْعَبُ في النَّفْسِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْفَعُ مِنْهُ، وَتَارَةً يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ عَزْمُهُ وَلَا يَسْتَمِرُّ مَعَهُ، لِضَعْفِ عِلْمِهِ وَبَصِيرَتِهِ وَصَبْرِهِ، كَمَنْ دَخَلَ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ مُفْضٍ إِلَى غَايَةِ الْأَمْنِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ عَلَيْهِ انْقَضَى الْخَوْفُ وَأَعْقَبَهُ الْأَمْنُ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى قُوَّةِ صَبْرٍ وَقُوَّةِ يَقِينٍ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، وَمَتَى ضَعُفَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَتَحَمَّلْ مَشَقَّتَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ عَدِمَ الرَّفِيقَ وَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْوَحْدَةِ وَجَعَلَ يَقُولُ: أَيْنَ ذَهَبَ النَّاسُ فَلِي أُسْوَةٌ بِهِمْ! وَهَذِهِ حَالُ أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم. فالصابر الصَّادِقُ لَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ قِلَّةِ الرَّفِيقِ وَلَا مِنْ فَقْدِهِ، إِذَا اسْتَشْعَرَ قَلْبُهُ مُرَافَقَةَ الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) .
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ - فِي كِتَابِ الْحَوَادِثُ وَالْبِدَعُ -: حَيْثُ جَاءَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، فَالْمُرَادُ لُزُومُ الْحَقِّ وَاتِّبَاعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَسِّكُ بِهِ قَلِيلًا وَالْمُخَالِفُ لَهُ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وَلَا نَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ بَعْدَهُمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ - وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي. فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِيَ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الْإِتْرَافِ فِي إِتْرَافِهِمْ، وَلَا مع أهل البدع في بدعتهم، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقَوْا رَبَّهُمْ، فَكَذَلِكَ فكونوا.
__________
(1) سورة النساء آية 69.(1/252)
وَعَلَامَةُ مَرَضِ الْقَلْبِ عُدُولُهُ عَنِ الْأَغْذِيَةِ النَّافِعَةِ الْمُوَافَقَةِ، إِلَى الْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ، وَعُدُولُهُ عَنْ دَوَائِهِ النافع، إلى دوائه الضار.
فها هنا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: غِذَاءٌ نَافِعٌ، وَدَوَاءٌ شَافٍ، وَغِذَاءٌ ضَارٌّ، وَدَوَاءٌ مُهْلِكٌ.
فَالْقَلْبُ الصَّحِيحُ يُؤْثِرُ النَّافِعَ الشَّافِيَ، عَلَى الضَّارِّ الْمُؤْذِي، وَالْقَلْبُ الْمَرِيضُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَأَنْفَعُ الْأَغْذِيَةِ غِذَاءُ الْإِيمَانِ، وَأَنْفَعُ الْأَدْوِيَةِ دَوَاءُ الْقُرْآنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ الْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ، فَمَنْ طَلَبَ الشِّفَاءَ فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ وَأَضَلِّ الضَّالِّينَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (2) ، و"من"فِي قَوْلِهِ: "مِنَ الْقُرْآنِ"لِبَيَانِ الْجِنْسِ، لَا لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) .
فَالْقُرْآنُ هُوَ الشِّفَاءُ التَّامُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَدْوَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يُؤَهَّلُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ. وَإِذَا أَحْسَنَ الْعَلِيلُ التَّدَاوِيَ بِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى دَائِهِ بِصِدْقٍ وَإِيمَانٍ وَقَبُولٍ تَامٍّ وَاعْتِقَادٍ جَازِمٍ وَاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ - لَمْ يُقَاوِمِ الدَّاءُ أَبَدًا. وَكَيْفَ تُقَاوِمُ الْأَدْوَاءُ كَلَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الَّذِي لَوْ نَزَلَ عَلَى الْجِبَالِ لَصَدَّعَهَا، أَوْ عَلَى الْأَرْضِ لَقَطَّعَهَا؟ ! فَمَا مِنْ مَرَضٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ سَبِيلُ الدِّلَالَةِ عَلَى دَوَائِهِ وَسَبَبِهِ وَالْحَمْيَةِ مِنْهُ، لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا فِي كتابه.
__________
(1) سورة فصلت آية 44.
(2) سورة الإسراء آية 82.
(3) سورة يونس آية 57.(1/253)
وَقَوْلُهُ: "لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا"- أَيْ طَلَبَ بِوَهْمِهِ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْغَيْبِ سِرَّا مَكْتُومًا، إِذِ الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، فَهُوَ يَرُومُ بِبَحْثِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1) ، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: "وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ"، أَيْ فِي الْقَدَرِ: "أَفَّاكًا": كَذَّابًا، "أَثِيمًا": أَيْ مَأْثُومًا.
وَقَوْلُهُ: (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) .
ش: كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، قَالَ تَعَالَى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) ، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (3) ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4) ، في غير ما آية من القرآن، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (6) ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (7) ، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (8) ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (9) ، {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (10) ، وَفِي دُعَاءِ الْكَرْبِ الْمَرْوِيِّ فِي الصَّحِيحِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ» ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سماء إلى سماء
__________
(1) سورة الجن آية 26، 27.
(2) سورة البروج آية 15، 16.
(3) سورة غافر آية 15.
(4) سورة الرعد آية 2.
(5) سورة طه آية 5.
(6) سورة المؤمنون آية 116.
(7) سورة النمل آية 26.
(8) سورة غافر آية 7.
(9) سورة الحاقة آية 17.
(10) سورة الزمر آية 75.(1/254)
مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. [ثُمَّ فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهن كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ] ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ، لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ» (1) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، بِسَنَدِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حَدِيثِ الْأَطِيطِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سماواته لهكذا"وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ، مِثْلَ الْقُبَّةِ» الْحَدِيثَ (2) ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» .
يُرْوَى"وَفَوْقَهُ"بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: وَسَقْفُهُ (3) .
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ: الْفَلَكَ الْأَطْلَسَ، وَالْفَلَكَ التَّاسِعَ! وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ لَهُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جوزي بصعقة الطور» (4) .
__________
(1) حديث الأوعال هذا، رواه الإمام أحمد في المسند، بإسنادين ضعيفين: 1770، 1771. ولكن رواه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك، بأسانيد صحاح، كما بينا ذلك في شرح المسند. والزيادة التي زدناها في متن الحديث، هي من نصه في المسند، ولم تذكر في المطبوعة، وحذفها خطأ.
(2) هذا جزء من حديث طويل، رواه أبو داود في كتاب السنة، من سننه، برقم: 4726 (4: 369 - 370 من عون المعبود) . وفي المطبوعة هنا «كهكذا» وصوابه «لهكذا» باللام، كما في أبي داود.
(3) هو جزء من حديث رواه البخاري (13: 349 - 350 من فتح الباري) . وكان في المطبوعة هنا: «أعلى.. وأوسط» بالتقديم والتأخير. وأثبتنا ما في البخاري. ورواية ضبط «فوقه» بالرفع، نقلها الحافظ في الفتح عن المشارق للقاضي عياض: أنها ضبط الأصيلي. ثم نقل عن القاضي أيضا أنه أنكرها في المطالع، وأنه قال: «إنما قيده الأصيلي بالنصب، كغيره» .
(4) من حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما. انظر صحيح مسلم 2: 226 - 227.(1/255)
وَالْعَرْشُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنِ السَّرِيرِ الَّذِي لِلْمَلِكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ بِلْقِيسَ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (1) ، وَلَيْسَ هُوَ فَلَكًا، وَلَا تَفْهَمُ مِنْهُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَهُوَ: سَرِيرٌ ذُو قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ كَالْقُبَّةِ عَلَى الْعَالَمِ، وَهُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ. فَمِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ الْعَالِي الَّذِي بَهَرَ النَّا ... سَ وَسَوَّى فَوْقِ السَّمَاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الع ... ين تُرَى حَوْلَهُ الْمَلَائِكُ صُورَا
الصُّورُ هُنَا: جَمْعُ"أَصْوَرٍ"، وَهُوَ: الْمَائِلُ الْعُنُقِ لِنَظَرِهِ إِلَى الْعُلُوِّ. وَالشَّرْجَعُ: هُوَ الْعَالِي الْمُنِيفُ. وَالسَّرِيرُ: هُوَ الْعَرْشُ فِي اللُّغَةِ. وَمِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّذِي عَرَّضَ بِهِ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِامْرَأَتِهِ حِينَ اتَّهَمَتْهُ بِجَارِيَتِهِ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ شِدَادٌ ... مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوَّمِينَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «
أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ ما بين شحمة أذنه إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» (2) . وَرَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم ولفظه: «تخفق الطَّيْرِ سَبْعُمِائَةِ عَامٍ» .
وَأَمَّا مَنْ حَرَّفَ كَلَامَ اللَّهِ، وَجَعَلَ الْعَرْشَ عِبَارَةً عَنِ الْمُلْكِ، كَيْفَ يصنع بقوله
__________
(1) سورة النمل آية 23.
(2) رواه أبو داود في سننه، برقم: 4727.(1/256)
تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) ؟ وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (2) . أَيَقُولُ: وَيَحْمِلُ مُلْكَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ؟ وَكَانَ مُلْكُهُ عَلَى الْمَاءِ؟ وَيَكُونُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آخِذًا مِنْ قَوَائِمِ الْمُلْكِ؟ ! هَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ يَدْرِي مَا يَقُولُ؟ !
وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (3) . وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ صِفَةُ الْعَرْشِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (4) أَنَّهُ قَالَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى (5) . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: (السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ) . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ أبو ذر: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ» (6) .
وَقِيلَ: كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ، وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ جِرَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، كَمَا قِيلَ فِي الْعَرْشِ. وَإِنَّمَا هُوَ- كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ -: بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ كَالْمَرْقَاةِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دونه (7) ، محيط بكل شيء وفوقه،
__________
(1) سورة الحاقة آية 17.
(2) سورة هود آية 7.
(3) سورة البقرة آية 255.
(4) سورة البقرة آية 255.
(5) المستدرك للحاكم 2: 282، موقوفا، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(6) تفسير الطبري ج 3 ص 8 طبعة بولاق.
(7) في المطبوعة «وما دونه منه» وزيادة «منه» لا موضع لها ولا معنى هنا. والظاهر أنها من تخليط الناسخين، ولم يذكرها الشارح حين شرح هذه الجملة.(1/257)
وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) .
ش: أَمَّا قَوْلُهُ: "وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ". فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2) . وَإِنَّمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْكَلَامَ هُنَا، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ غِنَاهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَ الْعَرْشِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ خَلْقَهُ لِلْعَرْشِ [وَاسْتِوَاءَهُ] (3) عَلَيْهِ، لَيْسَ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، بَلْ لَهُ فِي ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوقا للسافل، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ السَّافِلُ حَاوِيًا لِلْعَالِي، محيطا به، [حاملا] (4) له، [و] لا أَنْ يَكُونَ الْأَعْلَى مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ. فَانْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ، كَيْفَ هِيَ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَيْهَا؟ فَالرَّبُّ تَعَالَى أَعْظَمُ شَأْنًا وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ عُلُوِّهُ ذَلِكَ، بَلْ لَوَازِمُ عُلُوِّهِ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَهِيَ حَمْلُهُ بِقُدْرَتِهِ لِلسَّافِلِ، وَفَقْرُ السَّافِلِ، وَغِنَاهُ هُوَ سُبْحَانَهُ عَنِ السَّافِلِ، وَإِحَاطَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، فَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ مَعَ حَمْلِهِ بِقُدْرَتِهِ لِلْعَرْشِ وَحَمَلَتِهِ، وَغِنَاهُ عَنِ الْعَرْشِ، وَفَقْرِ الْعَرْشِ إِلَيْهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِالْعَرْشِ، وَعَدَمِ إِحَاطَةِ الْعَرْشِ بِهِ، وَحَصْرِهِ لِلْعَرْشِ، وَعَدَمِ حَصْرِ الْعَرْشِ لَهُ. وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ.
وَنُفَاةُ الْعُلُوِّ، أَهْلُ التَّعْطِيلِ، لَوْ فَصَّلُوا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، لَهُدُوا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَعَلِمُوا مُطَابَقَةَ الْعَقْلِ لِلتَّنْزِيلِ، وَلَسَلَكُوا خَلْفَ الدَّلِيلِ، وَلَكِنْ فَارَقُوا الدَّلِيلَ، فَضَّلُوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (5) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَيُرْوَى هَذَا الْجَوَابُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة العنكبوت آية 6.
(2) سورة فاطر آية 15.
(3) في الأصل: (لاستوائه) ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن.
(4) في الأصل: (حائلا) . والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(5) سورة الرعد آية 2.(1/258)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ"، وَفِي بعض النسخ"محيط بكل شيء فوقه" [بحذف الواو] (1) مِنْ قَوْلِهِ"فَوْقَهُ"، وَالنُّسْخَةُ الْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَةُ. وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَهَذِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَسْقَطَهَا بَعْضُ النُّسَّاخِ سَهْوًا، ثُمَّ اسْتَنْسَخَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تِلْكَ النُّسْخَةِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرِّفِينَ الضَّالِّينَ أَسْقَطَهَا قَصْدًا لِلْفَسَادِ، وَإِنْكَارًا لِصِفَةِ الْفَوْقِيَّةِ! وَإِلَّا فَقَدَ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ"مُحِيطٌ"- بمعنى: مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَوْقَ الْعَرْشِ (2) ، - وَالْحَالَةُ هَذِهِ -: مَعْنًى! إِذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يُحَاطُ بِهِ، فَتَعَيَّنَ ثُبُوتُ الْوَاوِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
أَمَّا كَوْنُهُ مُحِيطًا بِكُلِّ شَيْءٍ، فقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (3) ، {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (4) ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} (5) . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِحَاطَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنَّهُ كَالْفَلَكِ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلُ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: إِحَاطَةُ عظمته، وسعة علمه وقدرته، وَأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَتِهِ كَالْخَرْدَلَةِ. كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ - إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا كَانَ عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاط قَبْضَتُهُ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا تَحْتَهُ، وَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا، عَالٍ عَلَيْهَا فَوْقَهَا من
__________
(1) زيادة ضرورية، لا يستقيم بدونها الكلام.
(2) في المطبوعة: «فلا يبقى لقوله محيط - إلا أنه بكل شيء محيط - بكل شيء فوق العرش» !! وهو كلام مختلط، ليس وراءه شيء يفهم. فصححناه ما استطعنا.
(3) سورة البروج آية 20.
(4) سورة فصلت آية 54.
(5) سورة النساء آية 126.(1/259)
جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَكَيْفَ بِالْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِعَظَمَتِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ. فَلَوْ شَاءَ لَقَبَضَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْيَوْمَ، وَفَعَلَ بِهَا كَمَا يَفْعَلُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِهِ (1) إِذْ ذَاكَ قُدْرَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا الْآنَ، فَكَيْفَ يَسْتَبْعِدُ الْعَقْلُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَدْنُو سُبْحَانَهُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ؟ أَوْ يُدْنِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَمَنْ نَفَى ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْمَشْهُورِ، الَّذِي رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى: «فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ: كَيْفَ يَسَعُنَا -يَا رَسُولَ اللَّهِ - وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟ فَقَالَ: سَأُنْبِئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ: هَذَا الْقَمَرُ، آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ» (2) [وَإِذْ قَدْ] (3) تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَهَذَا يُزِيلُ كُلَّ إِشْكَالٍ، وَيُبْطِلُ كُلَّ خَيَالٍ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (5) ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ: «وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ» . وَقَدْ أَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شِعْرَهُ الْمَذْكُورَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرَّهُ عَلَى مَا قَالَ: وَضَحِكَ مِنْهُ. «وَكَذَا أَنْشَدَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَوْلَهُ:
شَهِدْتُ بِإِذْنِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مِنْ عَلُ
وَأَنَّ أَبَا يَحْيَى وَيَحْيَى كِلَاهُمَا ... لَهُ عَمَلٌ مِنْ ربه متقبل
__________
(1) لعل صوابها: (له) ، كما في إحدى النسخ. ن.
(2) هذا معنى جزء من حديث طويل، رواه عبد الله بن أحمد في مسند الإمام أحمد، رقم: 16275 (ج 4 ص 13 - 14 من طبعة الحلبي) . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 338 - 340، ونسبة إليه وإلى الطبراني، وقال: «وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل، ورجالها ثقات» .
(3) في الأصل: (وإذا أفل) . والصواب ما أثبتناه كما في إحدى النسج، وكما في «مختصر الصواعق المرسلة» 2 / 275، وكما في سائر المصادر التي خرجت الحديث. ن.
(4) سورة الأنعام آية 18.
(5) سورة النحل آية 50.(1/260)
وَأَنَّ الَّذِي عَادَى الْيَهُودُ ابْنَ مَرْيَمٍ ... رَسُولٌ أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ مُرْسَلُ
وَأَنَّ أَخَا الْأَحْقَافِ إِذْ قَامَ فِيهِمُ ... يُجَاهِدُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَيَعْدِلُ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا أَشْهَدُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَفِي رِوَايَةٍ: تَغْلِبُ غَضَبِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ، قَالَ: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا إِلَيْهِ رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (1) فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شيء من النعيم ما داموا ينظرون» (2) . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (3) بِقَوْلِهِ: أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ (4) . وَالْمُرَادُ بِالظُّهُورِ هُنَا: الْعُلُوُّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} (5) ، أَيْ يَعْلُوهُ.
فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْأَرْبَعَةُ مُتَقَابِلَةٌ: اسْمَانِ مِنْهَا لِأَزَلِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَبَدِيَّتِهِ، وَاسْمَانِ لِعُلُوِّهِ وَقُرْبِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رسول الله، جهدت الأنفس، [وضاعت العيال] ونهكت
__________
(1) سورة يس آية 58.
(2) ابن ماجه، رقم: 184، وإسناده جيد.
(3) سورة الحديد آية 3.
(4) هو جزء من دعاء عند النوم، رواه مسلم 2: 315. وليس في صحيح مسلم ما يشير إلى أنه تفسير للآية. ولم يروه في باب التفسير. ولكن المفهوم أنه معنى هذه الأسماء الحسنى المذكورة في الآية.
(5) سورة الكهف آية 97.(1/261)
الأموال، [وهلكت الأنعام] ، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكَ! أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟ وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ! أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَعَرْشُهُ فوق سماواته، وقال بأصابعه! مثل القبة [عليه] ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بِالرَّاكِبِ» . (1)
«وَفِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، لَمَّا حَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ: (زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) . وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِعَجُوزٍ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ مَعَهَا يُحَدِّثُهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَبَسْتَ النَّاسَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعَجُوزِ؟ فَقَالَ: ويلك! أتدري من هَذِهِ؟ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، هَذِهِ خَوْلَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (2) أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (3) قَالَ: وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ مِنْ فَوْقِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ.
وَمَنْ سَمِعَ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامَ السَّلَفِ، وَجَدَ مِنْهُ فِي إِثْبَاتِ الْفَوْقِيَّةِ مَا لَا يَنْحَصِرُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، لَمْ يخلقهم
__________
(1) أبو داود: 4726. وكان في المطبوعة هنا محرفا وناقصا، فصححناه من أبي داود.
(2) سورة المجادلة آية 1.
(3) سورة الأعراف آية 17.(1/262)
فِي ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ خَارِجًا عَنْ ذَاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ سُبْحَانَهُ بِفَوْقِيَّةِ الذَّاتِ، مَعَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُخَالِطٍ لِلْعَالَمِ، لَكَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ أَوْ مِنْ ضِدِّهِ، وَضِدُّ الْفَوْقِيَّةِ: السُّفُولُ، وَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ إِبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ وَجُنُودِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَوْقِيَّةِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ نَفْيِهَا ثُبُوتُ ضِدِّهَا. قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، فَمَتَى أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ ذَاتٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، غَيْرُ مُخَالِطٍ لِلْعَالَمِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، لَيْسَ وُجُودُهُ ذِهْنِيًّا فَقَطْ، بَلْ وَجُودُهُ خَارِجَ الْأَذْهَانِ قَطْعًا، وَقَدْ عَلِمَ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ كَذَلِكَ فَهُوَ: إِمَّا دَاخِلُ الْعَالَمِ وَإِمَّا خَارِجٌ عَنْهُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ إنكار ما هو أجل وأظهر من الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّاتِ الضَّرُورِيَّةِ بِلَا رَيْبٍ، فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ إِلَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالْمُبَايَنَةِ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَأَوْضَحَ وَأَبْيَنَ. وَإِذَا كَانَ صِفَةُ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ صِفَةَ كَمَالٍ، لَا نَقْصَ فِيهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا، وَلَا يُوجِبُ مَحْذُورًا، وَلَا يُخَالِفُ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا، فَنَفْيُ حَقِيقَتِهِ يَكُونُ عَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْمُحَالِ الَّذِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ أَصْلًا. فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَالْإِيمَانُ بِكِتَابِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ -: إِلَّا بِذَلِكَ؟ فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ شَهَادَةُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمُحْكَمَةِ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَوْنِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ، الَّتِي تَقْرُبُ مِنْ عِشْرِينَ نَوْعًا:
أَحَدُهَا: التَّصْرِيحُ بِالْفَوْقِيَّةِ مَقْرُونًا بِأَدَاةِ"مِنْ"الْمُعَيَّنَةِ لِلْفَوْقِيَّةِ بِالذَّاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (1) .
__________
(1) سورة النحل آية 50.(1/263)
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1) .
الثَّالِثُ: التَّصْرِيحُ بِالْعُرُوجِ [إِلَيْهِ] (2) نَحْوَ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يعرج الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ» .
الرَّابِعُ: التَّصْرِيحُ بِالصُّعُودِ إِلَيْهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (4) .
الْخَامِسُ: التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (5) . وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (6) .
السَّادِسُ: التَّصْرِيحُ بِالْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ، الدَّالِّ عَلَى جَمِيعِ مَرَاتِبِ الْعُلُوِّ، ذَاتًا وَقَدْرًا وَشَرَفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (7) ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (8) ، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (9) .
السَّابِعُ: التَّصْرِيحُ بِتَنْزِيلِ الْكِتَابِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (10) ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (11) ، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (12) ، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (13) ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (14) ، {حم} {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (15) .
__________
(1) سورة الأنعام آية 18.
(2) سقطت من الأصل والصواب إثباتها، كما في سائر النسخ. ن.
(3) سورة المعارج آية 4.
(4) سورة فاطر آية 10.
(5) سورة النساء آية 158.
(6) سورة آل عمران آية 55.
(7) سورة البقرة آية 255.
(8) سورة سبأ آية 23.
(9) سورة الشورى آية 51.
(10) سورة غافر آية 2.
(11) سورة الزمر آية 1.
(12) سورة فصلت آية 2.
(13) سورة فصلت آية 42.
(14) سورة النحل آية 102.
(15) سورة الدخان الآيات 1 - 5.(1/264)
الثَّامِنُ: التَّصْرِيحُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ، وَأَنَّ بَعْضَهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (1) . {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} (2) . فَفَرَّقَ بَيْنَ"مَنْ لَهُ"عُمُومًا وَبَيْنَ"مَنْ عِنْدَهُ"مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَعَبِيدِهِ خُصُوصًا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ: «أَنَّهُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» .
التَّاسِعُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ"فِي"بِمَعْنَى"عَلَى"، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاءِ الْعُلُوُّ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى غَيْرِهِ.
الْعَاشِرُ: التَّصْرِيحُ بِالِاسْتِوَاءِ مَقْرُونًا بِأَدَاةِ"على"مختص بِالْعَرْشِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ، مُصَاحِبًا فِي الْأَكْثَرِ لِأَدَاةِ"ثُمَّ"الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ.
الْحَادِي عَشَرَ: التَّصْرِيحُ بِرَفْعِ الْأَيْدِي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا.» وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعُلُوَّ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ فَقَطْ - بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَالْفِطْرَةِ، وَهَذَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ كُلُّ دَاعٍ. كَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّانِيَ عَشَرَ: التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَالنُّزُولُ الْمَعْقُولُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ حِسًّا إِلَى الْعُلُوِّ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَبِّهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، لَمَّا كَانَ بِالْمَجْمَعِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فِي الْيَوْمِ الْأَعْظَمِ، فِي الْمَكَانِ الْأَعْظَمِ، قَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي، فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَرَفَعَ أصبعه الكريمة
__________
(1) سورة الأعراف آية 206.
(2) سورة الأنبياء آية 19.(1/265)
إِلَى السَّمَاءِ رَافِعًا لَهَا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهَا وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، قَائِلًا: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . فَكَأَنَّا نُشَاهِدُ تِلْكَ الْأُصْبُعَ الْكَرِيمَةَ وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ اللِّسَانَ الْكَرِيمَ وَهُوَ يَقُولُ لِمَنْ رَفَعَ أُصْبَعَهُ إِلَيْهِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَأَدَّى رِسَالَةَ رَبِّهِ كَمَا أُمِرَ، وَنَصَحَ أُمَّتَهُ غَايَةَ النَّصِيحَةِ، فَلَا يُحْتَاجُ مَعَ بَيَانِهِ وَتَبْلِيغِهِ وَكَشْفِهِ وَإِيضَاحِهِ إِلَى تَنَطُّعِ الْمُتَنَطِّعِينَ، وَحَذْلَقَةِ الْمُتَحَذْلِقِينَ! وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ"الْأَيْنَ"كَقَوْلِ أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِهِ، وَأَنْصَحِهِمْ لِأُمَّتِهِ، وَأَفْصَحِهِمْ بَيَانًا عَنِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، بِلَفْظٍ لَا يُوهِمُ بَاطِلًا بِوَجْهٍ: "أَيْنَ اللَّهُ"، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: شَهَادَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ قَالَ إِنَّ رَبَّهُ فِي السَّمَاءِ - بِالْإِيمَانِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَامَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ، لِيَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى فَيُكَذِّبَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ السماوات، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (1) . فَمَنْ نَفَى الْعُلُوَّ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ فَهُوَ فِرْعَوْنِيٌّ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ فَهُوَ مُوسَوِيٌّ مُحَمَّدِيٌّ.
السَّابِعَ عَشَرَ: إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِسَبَبِ تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ، فَيَصْعَدُ إِلَى رَبِّهِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مُوسَى عِدَّةَ مِرَارٍ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُ تَعَالَى، مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، فَلَا يَرَوْنَهُ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِمْ، «كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة غافر الآيتان 36 - 37.(1/266)
بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (1) ، ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) . وَلَا يَتِمُّ إِنْكَارُ الْفَوْقِيَّةِ إِلَّا بِإِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ. ولهذا طرد الجهمية الشقين، وَصَدَّقَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَأَقَرُّوا بِهِمَا، وَصَارَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَنَفَى الْعُلُوَّ مُذَبْذَبًا بَيْنَ ذَلِكَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ! وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَوْ بُسِطَتْ أَفْرَادُهَا لَبَلَغَتْ نَحْوَ أَلْفِ دَلِيلٍ، فَعَلَى الْمُتَأَوِّلِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ! وَهَيْهَاتَ لَهُ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ!
وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ كَثِيرٌ جِدًّا: فَمِنْهُ: مَا رَوَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ في كتابه: الفاروق، بسنده إلى مُطِيعٍ الْبَلْخِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، قُلْتُ: فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَدْرِي آلْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ، فَمَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ. وَزَادَ غَيْرُهُ: لِأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَهُوَ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى، لَا مِنْ أَسْفَلَ. انْتَهَى.
وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَدِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مُعْتَزِلَةٌ وَغَيْرُهُمْ، مُخَالِفُونَ لَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ اعْتِقَادَاتِهِ. وَقَدْ يَنْتَسِبُ إِلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي بَعْضِ اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابتة بشر الْمَرِيسِيِّ، لَمَّا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ الْعَرْشِ - مَشْهُورَةٌ، رَوَاهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أبي حاتم وغيره.
__________
(1) سورة يس آية 58.
(2) سبق ذكره في ص: 261 من رواية ابن ماجه.
(3) سورة طه آية 5.(1/267)
وَمَنْ تَأَوَّلَ"فَوْقَ"، بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ عِبَادِهِ وَأَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْعَرْشِ وَأَفْضَلُ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: الْأَمِيرُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، وَالدِّينَارُ فَوْقَ الدِّرْهَمِ -: فَذَلِكَ مِمَّا تَنْفِرُ عَنْهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ! فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ابْتِدَاءً: اللَّهُ خَيْرٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَخَيْرٌ مِنْ عَرْشِهِ - مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: الثَّلْجُ بَارِدٌ، وَالنَّارُ حَارَّةٌ، وَالشَّمْسُ أَضْوَأُ مِنَ السِّرَاجِ، وَالسَّمَاءُ أَعْلَى مِنْ سَقْفِ الدَّارِ، وَالْجَبَلُ أَثْقَلُ مِنَ الحصى، ورسول الله أفضل من اليهود، وَالسَّمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ!! وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَمْجِيدٌ وَلَا تَعْظِيمٌ وَلَا مَدْحٌ، بَلْ هُوَ مِنْ أَرْذَلِ الْكَلَامِ وَأَسْمَجِهِ وَأَهْجَنِهِ! فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَلَامِ اللَّهِ، الَّذِي لَوِ اجْتَمَعَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا؟ ! بَلْ فِي ذَلِكَ تَنَقُّصٌ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ ... إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْجَوْهَرُ فَوْقَ قِشْرِ الْبَصَلِ وَقِشْرِ السَّمَكِ! لَضَحِكَ مِنْهُ الْعُقَلَاءُ، لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ احْتِجَاجًا عَلَى مُبْطِلٍ، كَمَا فِي قَوْلِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (1) ، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) ، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (3) .
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْفَوْقِيَّةِ فِي ضِمْنِ ثُبُوتِ"الْفَوْقِيَّةِ"الْمُطْلِقَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ، وَفَوْقِيَّةُ الْقَدْرِ، وَفَوْقِيَّةُ الذَّاتِ. وَمَنْ أَثْبَتَ الْبَعْضَ وَنَفَى الْبَعْضَ فَقَدْ تَنَقَّصَ. وَعُلُوُّهُ تَعَالَى مُطْلَقٌ مِنْ كُلِّ الوجوه.
__________
(1) سورة يوسف: 39.
(2) سورة النمل: 59.
(3) سورة طه آية 73.(1/268)
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ عُلُوُّ الْمَكَانَةِ لَا الْمَكَانِ؟ فَالْمَكَانَةُ: تَأْنِيثُ الْمَكَانِ، وَالْمَنْزِلَةُ: تَأْنِيثُ الْمَنْزِلِ، فَلَفْظُ"الْمَكَانَةِ وَالْمَنْزِلَةِ"تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ"الْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ"فِي الْأَمْكِنَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِذَا قِيلَ: لَكَ فِي قُلُوبِنَا مَنْزِلَةٌ، وَمَنْزِلَةُ فُلَانٍ فِي قُلُوبِنَا وَفِي نُفُوسِنَا أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَةِ فُلَانٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: "إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الْعَبْدَ مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ أَنْزَلَهُ الْعَبْدُ مِنْ قَلْبِهِ". فَقَوْلُهُ: "مَنْزِلَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ": هُوَ مَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ"الْمَكَانَةَ وَالْمَنْزِلَةَ": تَأْنِيثُ الْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ، وَالْمُؤَنَّثُ فَرْعٌ عَلَى الْمُذَكَّرِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَتَابِعٌ لَهُ، فَعُلُوُّ الْمِثْلِ الَّذِي يَكُونُ فِي الذِّهْنِ يَتْبَعُ عُلُوَّ الْحَقِيقَةِ، إِذَا كَانَ مُطَابِقًا كَانَ حَقًّا، وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ عُلُوُّهُ فِي الْقُلُوبِ، وَأَنَّهُ أَعْلَى فِي الْقُلُوبِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ - قِيلَ: وَكَذَلِكَ هُوَ، وَهَذَا الْعُلُوُّ مُطَابِقٌ لِعُلُوِّهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِيًا بِنَفْسِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، كَانَ عُلُوُّهُ فِي الْقُلُوبِ غَيْرَ مُطَابِقٍ، كَمَنْ جَعَلَ مَا لَيْسَ بِأَعْلَى أَعْلَى.
وَعُلُوُّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالسَّمْعِ، ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. أَمَّا ثُبُوتُهُ بِالْعَقْلِ، فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الْعِلْمُ الْبَدِيهِيُّ الْقَاطِعُ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَارِيًا فِي الْآخَرِ قَائِمًا بِهِ كَالصِّفَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بَائِنًا مِنَ الْآخَرِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْعَالَمَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي ذَاتِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ ذَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ: أَمَّا أَوَّلًا: فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْخَسَائِسِ وَالْقَاذُورَاتِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَالَمِ وَاقِعًا خَارِجَ ذَاتِهِ، فَيَكُونُ مُنْفَصِلًا، فَتَعَيَّنَتِ الْمُبَايَنَةُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْعَالَمِ وَغَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ - غَيْرُ مَعْقُولٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ -: يَقْتَضِي نَفْيَ وَجُودِهِ(1/269)
بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيَكُونُ مَوْجُودًا إِمَّا دَاخِلَهُ وَإِمَّا خَارِجَهُ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، فَلَزِمَتِ الْمُبَايَنَةُ.
وَأَمَّا ثُبُوتُهُ بِالْفِطْرَةِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا بِطِبَاعِهِمْ وَقُلُوبِهِمُ السَّلِيمَةِ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَيَقْصِدُونَ جِهَةَ الْعُلُوِّ بِقُلُوبِهِمْ عِنْدَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ الْهَمَذَانِيَّ حَضَرَ مَجْلِسَ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ الْمَعْرُوفِ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي نَفْيِ صِفَةِ الْعُلُوِّ، وَيَقُولُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا كَانَ! فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرٍ: أَخْبِرْنَا يَا أُسْتَاذُ عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا؟ فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا اللَّهُ، إِلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ، لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، فَكَيْفَ نَدْفَعُ [هَذِهِ] (1) الضَّرُورَةَ عَنْ أَنْفُسِنَا؟ قَالَ: فَلَطَمَ أَبُو الْمَعَالِي عَلَى رَأْسِهِ وَنَزَلَ، وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَبَكَى! وَقَالَ: حَيَّرَنِي الْهَمَذَانِيُّ حَيَّرَنِي! أَرَادَ الشَّيْخُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ مِنَ المرسلين، يَجِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ طَلَبًا ضَرُورِيًّا يَتَوَجَّهُ إِلَى اللَّهِ وَيَطْلُبُهُ فِي الْعُلُوِّ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ بِإِنْكَارِ بَدَاهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ، فَلَوْ كَانَ بَدِيهِيًّا لَمَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، بَلْ هُوَ قَضِيَّةٌ وَهْمِيَّةٌ خَيَالِيَّةٌ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَكِنْ أُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا إِشَارَةً مُخْتَصَرَةً، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَقْلَ إِنْ قَبِلَ قَوْلَكُمْ فَهُوَ لِقَوْلِنَا أَقْبَلُ، وَإِنْ رَدَّ الْعَقْلُ قَوْلَنَا فَهُوَ لِقَوْلِكُمْ أَعْظَمُ رَدًّا، فَإِنْ كَانَ قَوْلُنَا بَاطِلًا فِي الْعَقْلِ، فَقَوْلُكُمْ أَبْطَلُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا مَقْبُولًا فِي الْعَقْلِ، فَقَوْلُنَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا فِي الْعَقْلِ. فَإِنَّ دَعْوَى الضَّرُورَةِ مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّا نَقُولُ: نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ بُطْلَانَ قَوْلِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتُمْ: تِلْكَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تَحْكُمُ بِبُطْلَانِ قَوْلِنَا هِيَ مِنْ حُكْمِ الْوَهْمِ لَا مِنْ حُكْمِ الْعَقْلِ، قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس
__________
(1) في الأصل: (بهذه) والصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ، وكما في الفتاوى 4 / 61. ن.(1/270)
- ليسوا منكم ولا منا - موافقون لنا عَلَى هَذَا، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ فِطَرِ بَنِي آدَمَ مَقْبُولًا تَرَجَّحْنَا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا غَيْرَ مَقْبُولٍ بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا بَنَيْتُمْ قَوْلَكُمْ عَلَى مَا تَدَّعُونَ أَنَّهُ مُقَدِّمَاتٌ مَعْلُومَةٌ بِالْفِطْرَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَبَطَلَتْ عَقْلِيَّاتُنَا أَيْضًا، وَكَانَ السَّمْعُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مَعَنَا لَا مَعَكُمْ، فَنَحْنُ مُخْتَصُّونَ بِالسَّمْعِ دُونَكُمْ، وَالْعَقْلُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ بِقَوْلِنَا؟ قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِينَ يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فَوْقَ الْعَالَمِ [وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ] (1) ، وَأَنَّهُ لَا مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا حَالٌّ فِي الْعَالَمِ -: طَائِفَةٌ مِنَ النُّظَّارِ، وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى الدَّلِيلِ الْفِطْرِيِّ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِ السَّمَاءِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ، كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةٌ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةِ الْأَرْضِ؟.
وَأُجِيبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةٌ لِلدُّعَاءِ - لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى جَمِيعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا.
الثَّانِي: أَنَّ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ هِيَ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلدَّاعِي أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي دُعَائِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ لِلدُّعَاءِ قِبْلَةً غَيْرَ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ إِنَّ لَهُ قِبْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا الْكَعْبَةُ وَالْأُخْرَى السَّمَاءُ - فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ، وَخَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقِبْلَةَ: هِيَ مَا يَسْتَقْبِلُهُ الْعَابِدُ بوجهه، كما تستقبل الكعبة في
__________
(1) سقطت من الأصل، وأثبتناها من بعض النسخ. ن.(1/271)
الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، وَالذِّكْرِ وَالذَّبْحِ، وَكَمَا يُوَجَّهُ الْمُحْتَضَرُ وَالْمَدْفُونُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ"وُجْهَةً"، وَالِاسْتِقْبَالُ خِلَافُ الِاسْتِدْبَارِ، فَالِاسْتِقْبَالُ بِالْوَجْهِ، وَالِاسْتِدْبَارُ بِالدُّبُرِ، فَأَمَّا مَا حَاذَاهُ الْإِنْسَانُ بِرَأْسِهِ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ جَنْبِهِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى"قِبْلَةً"، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، فَلَوْ كَانَتِ السَّمَاءُ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ لَكَانَ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُوَجِّهَ الدَّاعِي وَجْهَهُ إِلَيْهَا، وَهَذَا لَمْ يُشْرَعْ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي تُرْفَعُ الْيَدُ إِلَيْهِ لَا يُسَمَّى"قِبْلَةً"، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَلِأَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الدُّعَاءِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ تُتَّبَعُ فِيهِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ تَأْمُرِ الرُّسُلُ أَنَّ الدَّاعِيَ يَسْتَقْبِلُ السَّمَاءَ بِوَجْهِهِ، بَلْ نَهَوْا عَنْ ذَلِكَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ [التَّوَجُّهَ] (1) بِالْقَلْبِ، وَاللَّجْأُ وَالطَّلَبُ الَّذِي يَجِدُهُ الدَّاعِي مِنْ نَفْسِهِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ، يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُضْطَرُّ وَالْمُسْتَغِيثُ بِاللَّهِ، كَمَا فُطِرَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ يَدْعُو اللَّهَ، مَعَ أَنَّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ مِمَّا يَقْبَلُ النَّسْخَ وَالتَّحْوِيلَ، كَمَا تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ مِنَ الصَّخْرَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَمْرُ [التَّوَجُّهِ] (2) فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْجِهَةِ الْعُلْوِيَّةِ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ، وَالْمُسْتَقْبِلُ لِلْكَعْبَةِ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ هُنَاكَ، بِخِلَافِ الدَّاعِي، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَيَرْجُو الرَّحْمَةَ أَنْ تَنْزِلَ مِنْ عِنْدِهِ.
وَأَمَّا النَّقْضُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ فَمَا أَفْسَدَهُ مِنْ نَقْضٍ، فَإِنَّ وَاضِعَ الْجَبْهَةِ إِنَّمَا قَصْدُهُ الْخُضُوعُ لِمَنْ فَوْقَهُ بِالذُّلِّ لَهُ، لَا بِأَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ تَحْتَهُ! هَذَا لَا يخطر في قلب ساجد. ولكن يُحْكَى عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ سُمِعَ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَسْفَلِ!! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَإِنَّ مَنْ أَفْضَى بِهِ النَّفْيُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ حَرِيٌّ أَنَ يَتَزَنْدَقَ، إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَبَعِيدٌ مِنْ مِثْلِهِ الصَّلَاحُ، قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (4) . فَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الِاهْتِدَاءَ مِنْ مَظَانِّهِ يُعَاقَبْ
__________
(1) في الأصل: (التوحيد) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(2) في الأصل: (التوحيد) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(3) سورة الأنعام آية 110.
(4) سورة الصف آية 5.(1/272)
بِالْحِرْمَانِ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ.
وَقَوْلُهُ: "وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلَقَهُ"- أَيْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَلَا رُؤْيَةً، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِحَاطَةِ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (وَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا) .
ش: قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (1) وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) . الْخُلَّةُ: كَمَالُ الْمَحَبَّةِ. وَأَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ، وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ! وَكَذَلِكَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ التَّكْلِيمِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِوَاسِطَ، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا، تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِفَتْوَى أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا.
وَأَخَذَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ الْجَعْدِ - الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَظْهَرَهُ وَنَاظَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُضِيفَ قَوْلُ"الْجَهْمِيَّةِ". فَقَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ بِهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَتْبَاعِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَظَهَرَ قَوْلُهُمْ فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ، حَتَّى امْتُحِنَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَصْلُ هَذَا مَأْخُوذٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلًا، وَمُوسَى كَلِيمًا؛ لِأَنَّ الْخُلَّةَ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ للمحب، كما قيل:
__________
(1) سورة النساء آية 125.
(2) سورة النساء آية 164.(1/273)
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَلِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
وَلَكِنَّ مَحَبَّتَهُ وَخُلَّتَهُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ. وَيَشْهَدُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» ، يَعْنِي نَفْسَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» .
فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ خَلِيلًا. وَأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ أَشْخَاصًا، «كَقَوْلِهِ لِمُعَاذٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْأَنْصَارِ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنُهُ أُسَامَةُ حِبَّهُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. «وَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قَالَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا» .
فَعُلِمَ أَنَّ الْخُلَّةَ أَخَصُّ مِنْ مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوبا لِذَاتِهِ، لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، إِذِ الْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ هُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُبِّ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَمِنْ كَمَالِهَا لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ [وَلَا] الْمُزَاحَمَةَ، لِتَخَلُّلِهَا الْمُحِبَّ، فَفِيهَا كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَكَمَالُ الْحُبِّ. وَلِذَلِكَ لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا، فَوَهَبَ لَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَأَخَذَ هَذَا الْوَلَدُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِهِ، فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى قَلْبِ خَلِيلِهِ أِنْ يَكُونَ فِيهِ مَكَانٌ لِغَيْرِهِ، فَامْتَحَنَهُ بِهِ بِذَبْحِهِ، لِيَظْهَرَ سِرُّ الْخُلَّةِ فِي تَقْدِيمِهِ مَحَبَّةَ خَلِيلِهِ عَلَى مَحَبَّةِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، وظهر سُلْطَانُ الْخُلَّةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ إِيثَارًا لِمَحَبَّةِ خَلِيلِهِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَفَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الذَّبْحِ كَانَتْ نَاشِئَةً مِنَ الْعَزْمِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى مَا أُمِرَ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ المصلحة عاد الذبح مَفْسَدَةً، فَنُسِخَ فِي حَقِّهِ، وَصَارَتِ الذَّبَائِحُ وَالْقَرَابِينُ مِنَ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا سُنَّةً فِي أَتْبَاعِهِ(1/274)
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَمَا أَنَّ مَنْزِلَةَ الْخُلَّةِ الثَّابِتَةِ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَدْ شَارَكَهُ فِيهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ، كَذَلِكَ مَنْزِلَةُ التَّكْلِيمِ الثَّابِتَةِ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَدْ شَارَكَهُ فِيهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.
وَهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ طُلِبَ لَهُ مِنَ الصَّلَاةِ مِثْلُ مَا لِإِبْرَاهِيمَ، مَعَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْمُشَبَّهِ؟ وَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ؟ وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ عَدِيدَةٍ، يَضِيقُ هَذَا الْمَكَانُ عَنْ بَسْطِهَا، وَأَحْسَنُهَا: أَنَّ آلَ إِبْرَاهِيمَ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ فِي آلِ مُحَمَّدٍ مِثْلُهُمْ، فَإِذَا طُلِبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِآلِهِ مِنَ الصَّلَاةِ مِثْلُ مَا لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ - وَفِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ - حَصَلَ لِآلِ مُحَمَّدٍ ما يليق بهم، فإنهم لَا يَبْلُغُونَ مَرَاتِبَ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ الَّتِي لِلْأَنْبِيَاءِ وَفِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمَزِيَّةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ قَوْلُنَا: "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ"- مُتَنَاوِلًا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ.
[[وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِإِبْرَاهِيمَ أَيْضًا. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 33] فَإِبْرَاهِيمُ وَعِمْرَانُ دَخَلَا فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [الْقَمَرِ: 34] . فَإِنَّ لُوطًا دَاخِلٌ فِي آلِ لُوطٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ} [الْبَقَرَةِ: 49] وَقَوْلِهِ: {أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [المؤمن: 46] فَإِنَّ فِرْعَوْنَ دَاخِلٌ فِي آلِ فِرْعَوْنَ. وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَكْثَرُ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا فِيهَا كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ, وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَرِدْ: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، يَدْخُلُ آلُهُ تَبَعًا. وَفِي قَوْلِهِ: كَمَا صليت على آل إبراهيم، هو داخل آلِ إِبْرَاهِيمَ, وَكَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ أَبُو أَوْفَى رضي الله عنه بصدقة إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «اللهم صل على آل أبي أوفى» ]] (*)
وَلَمَّا كَانَ بَيْتُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْرَفَ بُيُوتِ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، خَصَّهُمُ اللَّهُ بِخَصَائِصَ:
مِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ فِيهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يَأْتِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ نَبِيٌّ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بَعْدَهُمْ فَإِنَّمَا دَخَلَ مِنْ طَرِيقِهِمْ وَبِدَعْوَتِهِمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ اتَّخَذَ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره.
__________
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: الفقرة بين [[المعكوفين المزدوجين]] ليست في المطبوعة واستدركتها من مطبوعة المكتب الإسلامي بتحقيق الشيخ الألباني رحمه الله(1/275)
وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ صَاحِبَ هَذَا الْبَيْتِ إِمَامًا لِلنَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (1) .
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَجْرَى عَلَى يَدَيْهِ بِنَاءَ بَيْتِهِ الَّذِي جَعَلَهُ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَجَعَلَهُ قِبْلَةً لَهُمْ وَحَجًّا، فَكَانَ ظُهُورُ هَذَا البيت في الْأَكْرَمِينَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) .
ش: هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (2) - الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (3) - الْآيَةَ.
فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ هُوَ الْإِيمَانَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَسَمَّى مَنْ آمَنَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤْمِنِينَ، كَمَا جَعَلَ الْكَافِرِينَ مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (4) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْحَدِيثِ المتفق على صحته، حديث جبرائيل وَسُؤَالِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . فَهَذِهِ الْأُصُولُ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ إِلَّا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَأَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ -: فهم
__________
(1) سورة البقرة آية 124.
(2) سورة البقرة آية 285.
(3) سورة البقرة آية 177.
(4) سورة النساء آية 136.(1/276)
مُتَفَاوِتُونَ فِي جَحْدِهَا وَإِنْكَارِهَا، وَأَعْظَمُ النَّاسِ لَهَا إِنْكَارًا الْفَلَاسِفَةُ الْمُسَمَّوْنَ عِنْدَ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ بِالْحُكَمَاءِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَلَا رُسُلِهِ وَلَا كُتُبِهِ وَلَا مَلَائِكَتِهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ أن الله سبحانه موجود مُجَرَّدٌ لَا مَاهِيَّةَ لَهُ وَلَا حَقِيقَةَ، فَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ بِأَعْيَانِهَا، وَكُلُّ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ جُزْئِيٌّ، وَلَا يَفْعَلُ عِنْدَهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِنَّمَا الْعَالَمُ عِنْدَهُمْ لَازِمٌ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَإِنْ سَمَّوْهُ مَفْعُولًا لَهُ فَمُصَانَعَةً وَمُصَالَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي اللَّفْظِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ بِمَفْعُولٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ! فَهَذَا إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَمَّا كُتُبُهُ عندهم، فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا يكلم وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا قَالَ وَلَا يَقُولُ، وَالْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ فَيْضٌ فَاضَ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ زَاكِي النَّفْسِ طَاهِرٍ، مُتَمَيِّزٍ عَنِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِثَلَاثِ خَصَائِصَ: قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَسُرْعَتِهِ، لينال [من] الْعِلْمَ أَعْظَمَ مِمَّا يَنَالُهُ غَيْرُهُ! وَقُوَّةِ النَّفْسِ، لِيُؤَثِّرَ بِهَا فِي هَيُولَى الْعَالَمِ بِقَلْبِ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ! وَقُوَّةِ التَّخْيِيلِ، لِيُخَيِّلَ بِهَا الْقُوَى الْعَقْلِيَّةَ فِي أَشْكَالٍ مَحْسُوسَةٍ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَهُمْ! وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَرَى وَتُخَاطِبُ الرَّسُولَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أُمُورٌ ذِهْنِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ.
وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ، فَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تكذيبا به وإنكارا له في الأعيان. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَا يَخْرَبُ، وَلَا تَنْشَقُّ السَّمَاوَاتُ وَلَا تَنْفَطِرُ، وَلَا تَنْكَدِرُ النُّجُومُ، وَلَا تُكَوَّرُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَلَا يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ وَيُبْعَثُونَ إِلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ! كُلُّ هَذَا عِنْدَهُمْ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ الْعَوَامِّ، لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، كَمَا يَفْهَمُ مِنْهَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. فَهَذَا إِيمَانُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ - الذَّلِيلَةِ الْحَقِيرَةِ - بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ الدِّينِ الْخَمْسَةُ.
وَقَدْ أَبْدَلَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ بِأُصُولِهِمُ الْخَمْسَةِ الَّتِي هَدَمُوا بِهَا كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ: فَإِنَّهُمْ بَنَوْا أَصْلَ دِينِهِمْ عَلَى الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ، الَّذِي هُوَ الْمَوْصُوفُ وَالصِّفَةُ عِنْدَهُمْ، وَاحْتَجُّوا بِالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ، عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ(1/277)
الْجِسْمُ، وَتَكَلَّمُوا فِي التَّوْحِيدِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَنَفَوْا عَنِ اللَّهِ كُلَّ صِفَةٍ، تَشْبِيهًا بِالصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمَوْصُوفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَجْسَامُ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي هِيَ الْقَدَرُ، وَسَمَّوْا ذَلِكَ"الْعَدْلَ"، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَهِيَ مَسَائِلُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، الَّتِي هِيَ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَمَسْأَلَةُ إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي إِلْزَامِ الْغَيْرِ بِذَلِكَ، الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَمَّنُوهُ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِالْقِتَالِ. فَهَذِهِ أُصُولُهُمُ الْخَمْسَةُ، الَّتِي وَضَعُوهَا بِإِزَاءِ أُصُولِ الدِّينِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرَّسُولُ.
وَالرَّافِضَةُ الْمُتَأَخِّرُونَ، جَعَلُوا الْأُصُولَ أَرْبَعَةً: التَّوْحِيدَ، وَالْعَدْلَ، وَالنُّبُوَّةَ، وَالْإِمَامَةَ.
وَأُصُولُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَابِعَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَأَصْلُ الدِّينِ: الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ - لَمَّا تَضَمَّنَتَا هَذَا الْأَصْلَ -: لَهُمَا شَأْنٌ عَظِيمٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «بينا جبرائيل قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُ» (1) .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: أَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ، يَعْنِي هَذِهِ الْخَمْسَةَ، وَالْإِيمَانُ
__________
(1) صحيح مسلم 1: 222.(1/278)
بِالْقَدَرِ، وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَهَذَا حَقٌّ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ مُحْكَمَةٌ قَطْعِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى دَلِيلِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ.
وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ فَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (1) ، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} (2) . وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ فَيَقُولُونَ: هِيَ النُّجُومُ. وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّهَا مُوَكَّلَةٌ بِأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَكَّلَ بِالْجِبَالِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَائِكَةً تُدَبِّرُ أَمْرَ النُّطْفَةِ حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُهَا، ثُمَّ وَكَّلَ بِالْعَبْدِ مَلَائِكَةً لِحِفْظِ مَا يَعْمَلُهُ وَإِحْصَائِهِ وَكِتَابَتِهِ، وَوَكَّلَ بِالْمَوْتِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالسُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالْأَفْلَاكِ مَلَائِكَةً يُحَرِّكُونَهَا، وَوَكَّلَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالنَّارِ وَإِيقَادِهَا وَتَعْذِيبِ أَهْلِهَا وَعِمَارَتِهَا مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بالجنة وعمارتها وغرسها وَعَمَلِ آلَاتِهَا مَلَائِكَةً، فَالْمَلَائِكَةُ أَعْظَمُ جُنُودِ اللَّهِ، وَمِنْهُمُ: الْمُرْسَلَاتُ عُرْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا وَالْفَارِقَاتُ فَرْقًا وَالْمُلْقِيَاتُ ذِكْرًا. وَمِنْهُمُ: النَّازِعَاتُ غَرْقًا، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا. وَمِنْهُمُ: الصَّافَّاتُ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا.
وَمَعْنَى جَمْعِ التَّأْنِيثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: الْفِرَقُ وَالطَّوَائِفُ وَالْجَمَاعَاتُ، الَّتِي مفردها: "فرقة"و"طائفة"و"جماعة"، وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَمَلَائِكَةٌ قَدْ وُكِّلُوا بِحَمْلِ الْعَرْشِ، وَمَلَائِكَةٌ قَدْ وُكِّلُوا بِعِمَارَةِ السَّمَاوَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا الله. وَلَفْظُ"الْمَلَكِ"يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ مُرْسِلِهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الأمر كله لله الواحد الْقَهَّارِ، وَهُمْ يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (3) ، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (4) ، {وَلَا يَشْفَعُونَ}
__________
(1) سورة النازعات آية 5.
(2) سورة الذاريات آية 4.
(3) سورة الأنبياء آية 27.
(4) سورة البقرة آية 255.(1/279)
{إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (1) ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) فَهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، مِنْهُمُ الصَّافُّونَ، وَمِنْهُمُ الْمُسَبِّحُونَ، لَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَهُوَ عَلَى عَمَلٍ قَدْ أُمِرَ بِهِ. لَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَأَعْلَاهُمُ الَّذِينَ عِنْدَهُ: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (3) ، ومنهم الأملاك الثلاثة:
جبرائيل وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، الْمُوَكَّلُونَ بِالْحَيَاةِ، فَجِبْرِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وُمِيكَائِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِسْرَافِيلُ مُوَكَّلٌ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْخَلْقِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ.
فَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَسُفَرَاؤُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، يُنْزِلُونَ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ، وَيَصْعَدُونَ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، قَدْ أَطَّتِ السَّمَاوَاتُ بِهِمْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ لِلَّهِ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ.
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَأَصْنَافِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ، فَتَارَةً يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى اسْمَهُ بِاسْمِهِمْ، وَصَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِمْ، وَيُضِيفُهُمْ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِ التَّشْرِيفِ، وَتَارَةً يَذْكُرُ حَفَّهُمْ بِالْعَرْشِ وَحَمْلَهُمْ لَهُ، وبراءتهم من الدنو، وَتَارَةً يَصِفُهُمْ بِالْإِكْرَامِ وَالْكَرَمِ، وَالتَّقْرِيبِ وَالْعُلُوِّ وَالطَّهَارَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْإِخْلَاصِ. قَالَ تَعَالَى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (4) ، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} (5) ، {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (6) ، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (7) ، {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ}
__________
(1) سورة الأنبياء آية 28.
(2) سورة النحل آية 50.
(3) سورة الأنبياء الآيتان 19، 20.
(4) سورة البقرة آية 285.
(5) سورة آل عمران آية 18.
(6) سورة الأحزاب آية 43.
(7) سورة غافر آية 7.(1/280)
{مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (1) ، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (2) ، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (3) ، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (4) ، {كِرَامًا كَاتِبِينَ} (5) ، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (6) ، {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (7) ، {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} (8) .
وكذلك الأحاديث طَافِحَةٌ بِذِكْرِهِمْ. فَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ أَحَدَ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِي الْبَشَرِ، وَيُنْسَبُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ تَفْضِيلُ صَالِحِي الْبَشَرِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَى الْمُعْتَزِلَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَتْبَاعُ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَقْطَعُ فِي ذَلِكَ قَوْلًا. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مَيْلُهُمْ إِلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ.
وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَئِمَّةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَصَّلَ تَفْصِيلًا آخَرَ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَهُ قَوْلٌ يُؤْثَرُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ بَعْضٍ. وَكُنْتُ تَرَدَّدْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِقِلَّةِ ثَمَرَتِهَا، وَأَنَّهَا قَرِيبٌ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» .
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْكَلَامَ فِيهَا قصدا، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وَقَفَ فِي الْجَوَابِ عَنْهَا [عَلَى] مَا ذَكَرَهُ فِي"مَآلِ الْفَتَاوَى" (9) ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَسَائِلَ لَمْ يَقْطَعْ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا بِجَوَابٍ، وَعَدَّ مِنْهَا: التفضيل بين الملائكة والأنبياء.
__________
(1) سورة الزمر آية 75.
(2) سورة الأنبياء آية 26.
(3) سورة الأعراف آية 206.
(4) سورة فصلت آية 38.
(5) سورة الانفطار آية 11.
(6) سورة عبس آية 16.
(7) سورة المطففين آية 21.
(8) سورة الصافات آية 8.
(9) «مآل الفتاوى» - في كشف الظنون أنه «للإمام ناصر الدين السمرقندي الحنفي أتمه في شعبان سنة 549» .(1/281)
وهذا هو الحق، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَفْضَلُ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَبُيِّنَ لَنَا نَصًّا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (2) .
وَفِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ - رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ - فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا» . فَالسُّكُوتُ عَنِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَوْلَى.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ نَظِيرُ غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ هُنَا مُتَكَافِئَةٌ، عَلَى مَا أُشِيرُ إِلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَمَلَنِي عَلَى بَسْطِ الْكَلَامِ هُنَا: أَنَّ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ يُسِيئُونَ الْأَدَبَ بِقَوْلِهِمْ: كَانَ الْمَلَكُ خَادِمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! أَوْ: إِنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ خُدَّامُ بَنِي آدَمَ!! يَعْنُونَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْبَشَرِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ، الْمُجَانِبَةِ لِلْأَدَبِ، وَالتَّفْضِيلُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّنَقُّصِ أَوِ الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ -: لَا شَكَّ فِي رَدِّهِ، وَلَيْسَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرَ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ تِلْكَ قَدْ وُجِدَ فِيهَا نَصٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (3) ، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} (4) . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ"، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُعْتَبَرُ رُجْحَانُ الدَّلِيلِ، وَلَا يُهْجَرُ الْقَوْلُ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَافَقَ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَوَّلًا بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ، ثُمَّ قَالَ بِعَكْسِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ أَحَدُ أَقْوَالِهِ. وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ، لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ.
وَلِلشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُصَنَّفٌ سَمَّاهُ"الْإِشَارَةَ فِي الْبِشَارَةِ"فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَكِ، قَالَ فِي آخِرِهِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ المسألة من بدع علم الكلام، التي
__________
(1) سورة المائدة آية 3.
(2) سورة مريم آية 64.
(3) سورة البقرة آية 253.
(4) سورة الإسراء آية 55.(1/282)
لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَصْلٌ مِنْ أَصُولِ الْعَقَائِدِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَقَاصِدِ. وَلِهَذَا خَلَا عَنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ مُصَنَّفَاتِ هَذَا الشَّأْنِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فِيهَا مِنْ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ بِعِلْمِهِ، لَمْ يَخْلُ كَلَامُهُ عَنْ ضَعْفٍ واضطراب. انتهى، والله الموفق للصواب.
فَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إِبْلِيسُ وَاسْتَكْبَرَ وَقَالَ، {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (1) . قَالَ الْآخِرُونَ: إِنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ كَانَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ، وَعِبَادَةً وَانْقِيَادًا وَطَاعَةً لَهُ، وَتَكْرِيمًا لِآدَمَ وَتَعْظِيمًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَفْضَلِيَّةُ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ سُجُودِ يَعْقُوبَ لِابْنِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تَفْضِيلُ ابْنِهِ عَلَيْهِ، وَلَا تَفْضِيلُ الْكَعْبَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِسُجُودِهِمْ إِلَيْهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ عَارَضَ النَّصَّ بِرَأْيِهِ وَقِيَاسِهِ الْفَاسِدِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الصُّغْرَى، وَالْكُبْرَى مَحْذُوفَةٌ، تَقْدِيرُهَا: وَالْفَاضِلُ لَا يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ! وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَاسِدَةٌ: أَمَّا الْأُولَى: فَإِنَّ التُّرَابَ يَفُوقُ النَّارَ فِي أَكْثَرِ صِفَاتِهِ، وَلِهَذَا خَانَ إِبْلِيسَ عُنْصُرُهُ، فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ طَلَبَ الْعُلُوِّ وَالْخِفَّةَ وَالطَّيْشَ وَالرُّعُونَةَ، وَإِفْسَادَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ وَمَحْقَهُ وَإِهْلَاكَهُ وَإِحْرَاقَهُ، وَنَفَعَ آدَمَ عُنْصُرُهُ، فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ، وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ التُّرَابِ الثَّبَاتَ وَالسُّكُونَ وَالرَّصَانَةَ، وَالتَّوَاضُعَ وَالْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ وَالتَّذَلُّلَ، وَمَا دَنَا مِنْهُ يَنْبُتُ وَيَزْكُو، وَيَنْمِي وَيُبَارَكُ فِيهِ، ضِدَّ النَّارِ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ: أَنَّ الْفَاضِلَ لَا يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ - فَبَاطِلَةٌ، فَإِنَّ السُّجُودَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، وَلَوْ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال
__________
(1) سورة الإسراء آية 62.(1/283)
وَالْمُبَادَرَةُ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ السَّاجِدِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَكْرِيمُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ. قَالُوا: وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (1) ، بَعْدَ طَرْدِهِ لِامْتِنَاعِهِ عَنِ السُّجُودِ لَهُ، لَا قَبْلَهُ، فَيَنْتَفِي الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
وَمِنْهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ عُقُولٌ وَلَيْسَتْ لَهُمْ شَهَوَاتٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ لَهُمْ عُقُولٌ وَشَهَوَاتٌ، فَلَمَّا نَهَوْا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْهَوَى، وَمَنَعُوهَا عَمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ، كَانُوا بِذَلِكَ أَفْضَلَ. وَقَالَ الْآخِرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ [مِنْ] مُدَاوَمَةِ الطَّاعَةِ وَتَحَمُّلِ الْعِبَادَةِ وَتَرْكِ الْوَنَى وَالْفُتُورِ فِيهَا - مَا يَفِي بِتَجَنُّبِ الْأَنْبِيَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، مَعَ طُولِ مُدَّةِ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَمِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ [الْمَلَائِكَةَ] رُسُلًا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَسُفَرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَهَذَا الْكَلَامُ قَدِ اعْتَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ أَقْوَى، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ، إِنْ ثَبَتَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِالرِّسَالَةِ، ثَبَتَ تَفْضِيلُ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ يَكُونُ رَسُولًا إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ.
وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) ، الآيات. قَالَ الْآخِرُونَ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى التَّفْضِيلِ، وَآدَمُ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ الْخَضِرُ أَفْضَلَ مِنْ مُوسَى، بِكَوْنِهِ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُوسَى، وَقَدْ سَافَرَ مُوسَى وَفَتَاهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلَى الْخَضِرِ، وَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، وَطَلَبَ مُوسَى مِنْهُ الْعِلْمَ صَرِيحًا، وَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَلَا الْهُدْهُدُ أَفْضَلَ مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِكَوْنِهِ أَحَاطَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ سُلَيْمَانُ عِلْمًا.
وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) . قال الآخرون:
__________
(1) سورة الإسراء آية 62.
(2) سورة البقرة آية 31.
(3) سورة ص آية 75.(1/284)
هَذَا دَلِيلُ الْفَضْلِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَفْضِيلُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؟ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، بَلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قِيلَ لِآدَمَ: «ابْعَثْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، يَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدًا إِلَى الْجَنَّةِ» . فَمَا بَالُ هَذَا التَّفْضِيلِ سَرَى إِلَى هَذَا الْوَاحِدِ مِنَ الْأَلْفِ فَقَطْ.
وَمِنْهُ: قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، الْحَدِيثَ. فَالشَّأْنُ فِي ثُبُوتِهِ، وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَالشَّأْنُ فِي ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.
وَمِنْهُ: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ؟ قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ» . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْأَنْصَارِيُّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الْمَلَائِكَةَ قَالُوا» ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: «وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا، فَأَعَادُوا الْقَوْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا» .
وَالشَّأْنُ فِي ثُبُوتِهِمَا، فإن في سنديهما مَقَالًا، وَفِي مَتْنِهِمَا شَيْئًا، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْمَلَائِكَةِ الاعتراض على الله مَرَّاتٍ عَدِيدَةً؟ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوقون إِلَى مَا سِوَاهَا مِنْ شَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ؟ وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، فَكَيْفَ(1/285)
يَغْبِطُونَهُمْ بِهِ؟ وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يَغْبِطُونَهُمْ بِاللَّهْوِ، وَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ (1) ؟ قَالُوا: بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا وَسْوَسَ إِلَى آدَمَ وَدَلَّاهُ بِغُرُورٍ، إِذْ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلَكًا بِقَوْلِهِ: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (2) . فَدَلَّ أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْمَلَكِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرَةِ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن
__________
(1) هكذا أعل الشارح الحديث إسنادا ومتنا، وما أصاب في ذلك السداد، إذ قصر في تخريجه. أما رواية الطبراني، فإنها ضعيفة حقا، بل غاية في الضعف، فقد نقلها ابن كثير «في تفسير» 5: 206 بإسنادهما من المعجم الكبير. ونقلها الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 82 وقال: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك. وفي إسناد الأوسط طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضا» . فهذان إسنادان لا نعبأ بهما. ولكن الحديث رواه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب: الرد على المريسي (ص 34) ، بإسناد صحيح، مطولا: رواه عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا إسناد لا مغمز فيه، وقد أشار إليه الحافظ ابن كثير في التاريخ 1: 55، مختصرا، من رواية عثمان بن سعيد، وأشار إلى صحته. وأما رواية عبد الله بن أحمد بن جنبل: فإنها من زياداته في (كتاب السنة) الذي رواه عن أبيه (ص: 148 من طبعة السلفية بمكة) ، فقال عبد الله: حدثني الهيثم بن خارجة، حدثنا عثمان بن علاق، وهو عثمان بن حصن بن علاق (وكتب في المطبوعة: محصن! خطأ) سمعت عروة بن رويم يقول: أخبرني الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم. «فهذا إسناده ظاهر الصحة أيضا، وإن لم أستطع أن أجزم بذلك؛ لأن عروة بن رويم لم يصرح فيه بأن» الأنصاري «الذي حدثه به صحابي، فجهالة الصحابي لا تضر، وهو يروي عن أنس بن مالك الأنصاري، فإن يكنه يكن الإسناد صحيحا. وهذا محتمل جدا، وإن كنت لا أقطع به. فإن الحديث ذكره ابن كثير في التفسير 5 / 206- 207، نقلا عن ابن عساكر، بإسناده إلى عثمان بن علاق:» سمعت عروة بن رويم اللخمي، حدثني أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم.. «فهذا قد يرجح أن» الأنصاري «في رواية عبد الله بن أحمد - هو» أنس بن مالك الأنصاري «، ولكن إسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه. وأيا ما كان، فرواية عبد الله بن أحمد، ورواية ابن عساكر - تصلحان للاستشهاد، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو، بإسناد الدارمي. أما إعلاله من جهة المتن والمعنى، فإنه غير جيد، ولا مقبول. فإن الملائكة لم يعترضوا بهذا على ربهم، ولم يتبرموا بأحوالهم، وإنما سألوا ربهم، وهم عباد مطيعون، يرضون بما أمرهم الرب تبارك وتعالى، إذا لم يستجب دعاءهم. ومثال ذلك الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) - الآيات 30 - 33.
(2) سورة الأعراف آية 20.(1/286)
عِنْدَ رُؤْيَةِ يُوسُفَ: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (2) . قَالَ الْأَوَّلُونَ: إِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ لِمَا هو مركوز في النفس: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَلْقٌ جَمِيلٌ عَظِيمٌ، مُقْتَدِرٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْهَائِلَةِ، خُصُوصًا الْعَرَبَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْعَظَمَةِ بِحَيْثُ قَالُوا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3) . قَالَ الْآخِرُونَ: قَدْ يُذْكَرُ"الْعَالَمُونَ"، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ الْعُمُومُ الْمُطْلَقُ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِحَسَبِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (4) . {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (5) . {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (6) .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (7) . وَالْبَرِيَّةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَرْءِ، بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ خَيْرُ الْخَلْقِ. قَالَ الْآخِرُونَ: إِنَّمَا صَارُوا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ لِكَوْنِهِمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي هَذَا الْوَصْفِ أَكْمَلُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَلَا يَفْتُرُونَ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ"الْبَرِيئَةِ"بِالْهَمْزِ وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا نِسْبَةٌ إِلَى [الْبَرَى] (8) وَهُوَ التُّرَابُ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصَّحَّاحِ -: يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خير من خلق من التراب، فلا
__________
(1) سورة يوسف آية 31.
(2) سورة الأنعام آية 50.
(3) سورة آل عمران آية 33.
(4) سورة الفرقان آية 1.
(5) سورة الشعراء آية 165.
(6) سورة الدخان آية 32.
(7) سورة البينة آية 7.
(8) في الأصل: (البر) والتصويب من الصحاح 1 / 36. ن.(1/287)
عُمُومَ فِيهَا إِذًا لِغَيْرِ مَنْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ.
قَالَ الْأَوَّلُونَ: إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي تَفْضِيلِ صَالِحِي الْبَشَرِ إِذَا كَمُلُوا، وَوَصَلُوا إِلَى غَايَتِهِمْ وَأَقْصَى نِهَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ. وَنَالُوا الزُّلْفَى، وَسَكَنُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَا، وَحَبَاهُمُ الرَّحْمَنُ بِمَزِيدِ قُرْبِهِ، وَتَجَلَّى لَهُمْ لِيَسْتَمْتِعُوا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ. وَقَالَ الْآخِرُونَ: الشَّأْنُ فِي أَنَّهُمْ هَلْ صَارُوا إِلَى حَالَةٍ يَفُوقُونَ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ أَوْ يُسَاوُونَهُمْ فِيهَا؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى حَالٍ يَفُوقُونَ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ سُلِّمَ الْمُدَّعَى، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (1) . وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْوَزِيرُ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْمَلِكِ، وَلَا الشُّرْطِيُّ أَوِ الْحَارِسُ! وَإِنَّمَا يُقَالُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الشُّرْطِيُّ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْمَلِكِ وَلَا الْوَزِيرُ. فَفِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ يَتَرَقَّى مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ بَعْضٍ. أَجَابَ الْآخِرُونَ بِأَجْوِبَةٍ، أَحْسَنُهَا، أَوْ مِنْ أَحْسَنِهَا: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي فَضْلِ قُوَّةِ الْمَلَكِ وَقُدْرَتِهِ وَشِدَّتِهِ وَعِظَمِ خَلْقِهِ، وَفِي الْعُبُودِيَّةِ خُضُوعٌ وَذُلٌّ وَانْقِيَادٌ، وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ [لَا يَسْتَنْكِفُ] (2) عَنْهَا وَلَا مَنْ هُوَ أَقْدَرُ مِنْهُ وَأَقْوَى وَأَعْظَمُ خَلْقًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْأَفْضَلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (3) . وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ بِمَعْنَى: إِنِّي لَوْ قُلْتُ ذلك لادعيت فوق
__________
(1) سورة النساء آية 172.
(2) في الأصل: (لا استنكف) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(3) سورة الأنعام آية 50.(1/288)
مَنْزِلَتِي، وَلَسْتُ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ. أَجَابَ الْآخِرُونَ: بأن الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ قَالُوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (1) . فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنِّي بَشْرٌ مِثْلُكُمْ أَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ الِاكْتِسَابِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، لَسْتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ حَاجَةً إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْأَفْضَلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ.
وَمِنْهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُوَّةَ الْبَشَرِ لَا تُدَانِي قُوَّةَ الْمَلَكِ وَلَا تُقَارِبُهَا. قَالَ الْآخِرُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْبَشَرِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ فِي هَذَا الْعُمُومِ.
وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . الْحَدِيثَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ. قَالَ الْآخِرُونَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَيْرًا مِنْهُ لِلْمَذْكُورِ، [لَا الْخَيْرِيَّةُ] (2) المطلقة.
ومنه ما رواه إمام الأئمة محمد بن خُزَيْمَةَ، بِسَنَدِهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ إذ جاء جبرائيل، فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ مِثْلِ وَكْرَيِ الطَّيْرِ، فَقَعَدَ فِي إِحْدَاهُمَا، وَقَعَدْتُ فِي الْأُخْرَى، فَسَمَتْ وَارْتَفَعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ، وَأَنَا أُقَلِّبُ بَصَرِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَمَسَّ السَّمَاءَ مسيت، فنظرت إلى جبرائيل كَأَنَّهُ حِلْسٌ لَاطِئٌ، فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ علي»
قال الآخرون: في
__________
(1) سورة الفرقان آية 7.
(2) في الأصل: (لا الخيرة) ، والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.(1/289)
سَنَدِهِ مَقَالٌ، فَلَا نُسَلِّمُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ (1) .
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فُضُولِ الْمَسَائِلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْجَوَابِ عَنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ، وَالْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رُسُلًا سِوَاهُمْ وَأَنْبِيَاءَ، لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَهُمْ. فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِمْ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي عَدَدِهِمْ نَصٌّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (3) .
وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوا جَمِيعَ مَا أُرْسِلُوا بِهِ، عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بَيَانًا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِمَّنْ أُرْسِلُوا إليه جهله، ولا يحل خِلَافُهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) . {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (5) . {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (6) . {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (7) .
وَأَمَّا أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَدْ قِيلَ فيهم أقوال أحسنها: ما نقله البغوي
__________
(1) هو في كتاب التوحيد لإمام الأئمة ابن خزيمة. ص: 137. وإسناده صحيح: رواه من طريق سعيد بن منصور، عن الحارث بن عبيد الإيادي، عن أبي عمران الجوني، عن أنس. وكلهم ثقات. تكلم بعضهم في «الحارث بن عبيد الإيادي» وهو «أبو قدامة الإيادي» - بغير حجة، والراجح توثيقه، كما بينا في شرح المسند في حديث آخر: 5750. والحديث ذكره أيضا الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 75، وقال: «رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح» .
(2) سورة النساء آية 164.
(3) سورة غافر آية 78.
(4) سورة النحل آية 35.
(5) سورة النحل آية 82.
(6) سورة النور آية 54.
(7) سورة التغابن آية 12.(1/290)
وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (1) . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ} (2) .
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَصْدِيقُهُ وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَنُؤْمِنُ بِمَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى مِنْهَا فِي كِتَابِهِ، مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ، فَالْإِقْرَارُ بِهِ، وَاتِّبَاعُ مَا فِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ. فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى رُسُلِ اللَّهِ أَتَتْهُمْ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا حَقٌّ وَهُدًى وَنُورٌ وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ. قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} (3) ، {الم} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (4) . {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} (5) ، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (6) . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهَا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِهِ. وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ.
__________
(1) سورة الأحزاب آية 7.
(2) سورة الشورى آية 13.
(3) سورة البقرة آية 136.
(4) سورة آل عمران آية 1، 4.
(5) سورة البقرة 285.
(6) سورة النساء آية 82.(1/291)
وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (1) ، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (2) ، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (3) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) . {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (5) . {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (6) . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ) .
ش: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.» وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "أَهْلَ قِبْلَتِنَا"، مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي، مَا لَمْ يُكَذِّبْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ". وَعِنْدَ قَوْلِهِ: "وَالْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ".
قَوْلُهُ: (وَلَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الْكَفِّ عن كلام المتكلمين الباطل، وذم
__________
(1) سورة البقرة آية 213.
(2) سورة فصلت الآيتان 41، 42.
(3) سورة سبأ آية 6.
(4) سورة يونس آية 57.
(5) سورة فصلت آية 44.
(6) سورة التغابن آية 8.(1/292)
عِلْمِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْإِلَهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ فِي ذَاتِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، بَلْ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ، وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ حَقِيقَةَ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ، فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ. قَالَ [الشِّبْلِيُّ] (2) : الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ.
وَقَوْلُهُ: "وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ". مَعْنَاهُ: لَا نُخَاصِمُ أَهْلَ الْحَقِّ بِإِلْقَاءِ شُبُهَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَيْهِمْ، الْتِمَاسًا لِامْتِرَائِهِمْ وَمَيْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَتَلْبِيسِ الْحَقِّ، وَإِفْسَادِ دِينِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) .
ش: فَقَوْلُهُ: "وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ"، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّا لَا نَقُولُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَاخْتَلَفُوا، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّا لَا نُجَادِلُ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّابِتَةِ، بَلْ نَقْرَؤُهُ بِكُلِّ مَا ثبت وصح. وكل من المعنيين حق. ويشهد بِصِحَّةِ الْمَعْنَى الثَّانِي، مَا رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة النجم الآية 23.
(2) في الأصل: (السبكي) . والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.(1/293)
يَقْرَأُ خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فذكرت] (1) ذَلِكَ لَهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ، وَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2) .
نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي فِيهِ جَحْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مَا مَعَ صَاحِبِهِ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقَارِئَيْنِ كَانَ مُحْسِنًا فِيمَا قَرَأَهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا، وَلِهَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَخْتَلِفْ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ. فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتِمَاعًا سَائِغًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضلال، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ، وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ جَائِزَةً لَا وَاجِبَةً، رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ، كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا. وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ تَرْتِيبٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا آيَةً عَلَى آيَةٍ، بِخِلَافِ السُّوَرِ، فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، جَمَعَهُمُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّرَخُّصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ -: أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ.
وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الفقهاء وأهل
__________
(1) في الأصل (فذكر) والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن.
(2) نسبة الحديث لمسلم خطأ، إما من الشارح، وإما من الناسخ، بل هو لفظ البخاري 51 - 52 من فتح الباري. وقد نص الحافظ في الفتح - في خاتمة كتاب الاستقراض 5 / 55 - 56 على أنه لم يروه مسلم. وقد رواه أحمد في المسند بنحوه، مطولا ومختصرا: 3724، 3907، 3908، 3992، 3993، 4322، 4364.(1/294)
الكلام إلى أن المصحف مشتمل عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ [[لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمَلَ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ,]] (*) . وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ. وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا لَا وَاجِبًا، أَوْ أَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى! فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (قَدْ نَظَرْتُ إِلَى الْقُرَّاءِ فَرَأَيْتُ قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ، وَأَقْبِلْ، وَتَعَالَ، فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ) ، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نُجَادِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؟ فَإِنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَاظَرَ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ إِذَا أَخْطَأَ يُقَالُ إِنَّهُ كَافِرٌ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي حَكَمَ الرَّسُولُ بِكُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ. وَلِهَذَا ذَمَّ السَّلَفُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِمُ السَّيْفَ.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا) .
وَقَوْلُهُ: "وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ"- قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا) .
وَقَوْلُهُ: (نَزَلَ به الروح الأمين) ،
هو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّهُ حَامِلُ الْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ إِلَى الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ أَمِينٌ حَقُّ أَمِينٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (2) . وهذا وصف جبرائيل. بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}
__________
(1) سورة الشعراء الآيات 193 - 195.
(2) سورة التكوير الآيات 19 - 21.
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: الفقرة بين [[المعكوفين المزدوجين]] ليست في المطبوعة واستدركتها من مطبوعة المكتب الإسلامي بتحقيق الشيخ الألباني رحمه الله(1/295)
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} (1) . الْآيَاتِ - فَإِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: "فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ"- تصريح بتعليم جبرائيل إِيَّاهُ، إِبْطَالًا لِتَوَهُّمِ الْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَصَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ إِلْهَامًا.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) - تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أنه كَلَامُ اللَّهِ بِالْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ قَوْلُهُ: "وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ"، مُجْرًى عَلَى إِطْلَاقِهِ: أَنَّا لَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ خِلَافَهُمْ زَيْغٌ وَضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) .
ش: أَرَادَ بِأَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: "وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قال وأخبر مصدقين"، يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْخَوَارِجِ الْقَائِلِينَ بِالتَّكْفِيرِ بِكُلِّ ذَنْبٍ.
وَاعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا - أَنَّ بَابَ التَّكْفِيرِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ، بَابٌ عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ فِيهِ، وَكَثُرَ فِيهِ الِافْتِرَاقُ، وَتَشَتَّتَتْ فِيهِ الْأَهْوَاءُ وَالْآرَاءُ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ دَلَائِلُهُمْ. فَالنَّاسُ فِيهِ، فِي جِنْسِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي نفس الأمر، والمخالفة لِذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ، مِنْ جِنْسِ الِاخْتِلَافِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْعَمَلِيَّةِ:
__________
(1) سورة الحاقة الآيتان 40، 41.(1/296)
فَطَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا نُكَفِّرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَحَدًا، فَتَنْفِي التَّكْفِيرَ نَفْيًا عَامًّا، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْفَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ يُظْهِرُ بَعْضَ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُهُمْ، وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَأَيْضًا: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ كَافِرًا مُرْتَدًّا. وَالنِّفَاقُ وَالرِّدَّةُ مَظِنَّتُهُمَا الْبِدَعُ وَالْفُجُورُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلُ الْأَهْوَاءِ. وَكَانَ يَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1) .
وَلِهَذَا امْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، بَلْ يُقَالُ: لَا نُكَفِّرُهُمْ بِكُلِّ ذَنْبٍ. كَمَا تَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ النَّفْيِ الْعَامِّ وَنَفْيِ الْعُمُومِ، وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْعُمُومِ، مُنَاقَضَةً لِقَوْلِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِكُلِّ ذَنْبٍ. وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَيَّدَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ".
وَفِي قَوْلِهِ: "مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ"إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ لِكُلِّ ذَنْبٍ، الذُّنُوبُ الْعَمَلِيَّةُ لَا الْعِلْمِيَّةُ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَفِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ، وَلَا فِي الْعِلْمِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ مَقْصُورًا عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ، بَلْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَبَعٌ. إِلَّا أَنْ يُضَمَّنَ قَوْلُهُ: "يَسْتَحِلُّهُ"بِمَعْنَى: يَعْتَقِدُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: "وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ"إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، كَمَا لا ينفع مع الكفر طاعة.
__________
(1) سورة الأنعام آية 68.(1/297)
فَهَؤُلَاءِ فِي طَرَفٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ، فَإِنَّهُمْ يقولون يكفر الْمُسْلِمَ بِكُلِّ ذَنْبٍ، أَوْ بِكُلِّ ذَنَبٍ كَبِيرٍ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَحْبَطُ إِيمَانُهُ كُلُّهُ بِالْكَبِيرَةِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ. لَكِنَّ الْخَوَارِجَ يَقُولُونَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ! وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ! وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ!! وَبِقَوْلِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْجَبُوا لَهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ! وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُتَأَوِّلًا، فَيَقُولُونَ: يَكْفُرُ كُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ وَغَيْرِهِ، أَوْ يَقُولُونَ: يَكْفُرُ كُلُّ مُبْتَدِعٍ، وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَنُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا هَؤُلَاءِ تُعَارِضُ نُصُوصَ الْوَعِيدِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا أُولَئِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْوَعِيدِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَسَيَأْتِي بَعْضُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ".
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْبِدَعَ هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، لَكِنْ تَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَخْطَأَ فِيهِ، إِمَّا مُجْتَهِدًا وَإِمَّا مُفْرِطًا مُذْنِبًا، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَكْفُرُ، بَلِ الْعَدْلُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ: أَنَّ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ الْمُبْتَدَعَةَ المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، أَوْ إِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، أَوِ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، أَوِ النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ -: يُقَالُ فِيهَا الْحَقُّ، وَيُثْبَتُ لَهَا الْوَعِيدُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَيُبَيَّنُ أَنَّهَا كُفْرٌ، وَيُقَالُ: مَنْ قَالَهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا يذكر من الوعيد في الظلم في النفس وَالْأَمْوَالِ، وَكَمَا قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشَاهِيرِ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَعَنْ أَبِي(1/298)
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُدَّةً، حَتَّى اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُهُ: أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَأَمَّا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ، إِذَا قِيلَ: هَلْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ كَافِرٌ؟ فَهَذَا لَا نَشْهَدُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرٍ تَجُوزُ مَعَهُ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَغْيِ أَنْ يُشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ، فَإِنَّ هَذَا حُكْمُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ: "بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ". وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانِ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لك، أو لا يدخلك [الله] الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدَيَّ قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذهبوا به إلى النار. وقال أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ) » وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ (1) .
وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِيمَانٌ عَظِيمٌ وَحَسَنَاتٌ أَوْجَبَتْ لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ، كَمَا غَفَرَ لِلَّذِي قَالَ: إِذَا مِتُّ فَاسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي، ثُمَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لِخَشْيَتِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهِ وَإِعَادَتِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ. لَكِنَّ هَذَا التَّوَقُّفَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نُعَاقِبَهُ فِي الدُّنْيَا، لِمَنْعِ بِدْعَتِهِ، وَأَنْ نَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا قِيلَ: إِنَّهُ كُفْرٌ، وَالْقَائِلُ لَهُ يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا
__________
(1) هو الحديث: 4901، في سنن أبي داود، وأعله المنذري بعلي بن ثابت الجزري، زعم أنه ضعيف! تقليدا للأزدي، والحق أنه ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وأبو داود وغيرهم.(1/299)
يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا صَارَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا. فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا. وَكِتَابُ اللَّهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف: كُفَّارٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الذين لا يقرون بالشهادة، وصنف المؤمنون بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَصِنْفٌ أَقَرُّوا بِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ مُقِرًّا بِالشَّهَادَتَيْنِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا زِنْدِيقًا، وَالزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ.
وَهُنَا يَظْهَرُ غَلَطُ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ مَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْمُبْتَدَعَ فِي الْبَاطِنِ، يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَقْوَامًا لَيْسُوا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقِينَ، بَلْ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانُوا مُذْنِبِينَ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ: عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ: حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ مِنَ الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ! مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت، إنه يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (1) . وَهَذَا أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فِي طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ وَأَئِمَّةٍ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَفِيهِمْ بَعْضُ مَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ أَوِ الْمُرْجِئَةِ أَوِ الْقَدَرِيَّةِ أَوِ الشِّيعَةِ أَوِ الْخَوَارِجِ. وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا يَكُونُونَ قَائِمِينَ بِجُمْلَةِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، بَلْ بِفَرْعٍ مِنْهَا. وَلِهَذَا انْتَحَلَ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ لِطَوَائِفَ مِنَ السَّلَفِ الْمَشَاهِيرِ.
فَمِنْ عُيُوبِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَكْفِيرُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمِنْ مَمَادِحِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يُخَطِّئُونَ وَلَا يكفرون.
__________
(1) هو في البخاري 12: 66 - 68 من الفتح. وكان في المطبوعة محرفا، فصححناه من البخاري.(1/300)
وَلَكِنْ بَقِيَ هُنَا إِشْكَالٌ يَرِدُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ سمى بعض الذنوب كفرا، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» ، وَ «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ - فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ، أَوْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثِنْتَانِ فِي أُمَّتِي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ، إِذْ لَوْ كَفَرَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ لَكَانَ مُرْتَدًّا [يُقْتَلُ] (3) عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَفْوُ ولي القصاص، ولا تجري الحدود في
__________
(1) سورة المائدة آية 44.
(2) في المطبوعة «ابن عمرو» وهو خطأ. والحديثان من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب. انظر للأول البخاري 12: 170، و13: 21، ومسلم 1: 33. وللثاني: البخاري 10: 428. ومسلم 1: 33 - 34.
(3) سقطت من الأصل. ولعل الصواب إثباتها، كما في سائر النسخ. ن.(1/301)
الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ! وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ إِذْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) إِلَى أَنْ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (2) . فَلَمْ يُخْرِجِ الْقَاتِلَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ، وَالْمُرَادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ بِلَا رَيْبٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (3) إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (4) .
وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاذِفَ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ الْيَوْمَ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
فَثَبَتَ أَنَّ الظَّالِمَ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ يَسْتَوْفِي الْمَظْلُومُ مِنْهَا حَقَّهُ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، قَالَ: "الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شَتَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ}
__________
(1) سورة البقرة آية 178.
(2) سورة البقرة آية 178.
(3) سورة الحجرات الآيتان 9، 10.
(4) سورة الحجرات الآيتان 9، 10.(1/302)
{الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ إِسَاءَتِهِ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ مُوَافِقُونَ لِلْخَوَارِجِ هُنَا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مخلد في النار، قَالَتِ الْخَوَارِجُ: نُسَمِّيهِ كَافِرًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: نُسَمِّيهِ فَاسِقًا، فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ فَقَطْ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ. لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ! وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْمُرْجِئَةُ، وَنُصُوصُ الْوَعِيدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ -: تَبَيَّنَ لَكَ فَسَادُ الْقَوْلَيْنِ! وَلَا فَائِدَةَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ سِوَى أَنَّكَ تَسْتَفِيدُ مِنْ كَلَامِ كُلِّ طَائِفَةٍ فَسَادَ مَذْهَبِ الطائفة الأخرى.
ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا خِلَافًا لَفْظِيًّا، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ الْكُفْرُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ عَلَى مَرَاتِبَ، إِيمَانًا دُونَ إِيمَانٍ؟ وَهَذَا اخْتِلَافٌ نَشَأَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُسَمَّى"الْإِيمَانِ": هَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، أَمْ لَا؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ كَافِرًا نُسَمِّيهِ كَافِرًا، إِذْ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ كَافِرًا، وَيُسَمِّيَ رَسُولُهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَافِرًا - وَلَا نُطْلِقُ عَلَيْهِمَا اسْمَ"الْكُفْرِ". وَلَكِنْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ- قَالَ: هُوَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَالْكُفْرُ عِنْدَهُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، كَالْإِيمَانِ عِنْدَهُ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَلَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ، وَلَا يَزِيدَانِ وَلَا يَنْقُصَانِ - قَالَ: هُوَ كُفْرٌ مَجَازِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، إِذِ الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ هو الذي ينقل
__________
(1) سورة هود آية 114.(1/303)
عَنِ الْمِلَّةِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِالْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) أَيْ صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِنَّهَا سُمِّيَتْ إيمانا مجازا، لتوقف صحتها على الْإِيمَانِ، أَوْ لِدِلَالَتِهَا عَلَى الْإِيمَانِ، إِذْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ مُؤَدِّيهَا مُؤْمِنًا. وَلِهَذَا يُحْكَمُ بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا. فليس بين فقهاء الملة نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ، إِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تواتر عنه أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ. وَلَكِنَّ الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَلَكِنَّ أَرْدَأَ مَا فِي ذَلِكَ التَّعَصُّبُ على من يضادهم، وَإِلْزَامُهُ لِمَنْ يُخَالِفُ قَوْلَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَالتَّشْنِيعُ عَلَيْهِ! وَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالْعَدْلِ فِي مُجَادَلَةِ الْكَافِرِينَ، وَأَنْ يُجَادَلُوا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَكَيْفَ لَا يَعْدِلُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْخِلَافِ؟ ! قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) الآية.
وَهُنَا أَمْرٌ يَجِبُ أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً: كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَيَكُونُ كُفْرًا: إِمَّا مَجَازِيًّا، وَإِمَّا كُفْرًا أَصْغَرَ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ: فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، أَوِ اسْتَهَانَ بِهِ مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّهُ حُكْمُ [اللَّهِ] (3) . - فَهَذَا كَفْرٌ أَكْبَرُ (4) . وَإِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَعَلِمَهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ مَعَ اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا
__________
(1) سورة البقرة آية 143.
(2) سورة المائدة آية 8.
(3) سقطت من الأصل. والصواب إثباتها، كما في سائر النسخ. ن.
(4) وهذا مثل ما ابتلي به الذين درسوا القوانين الأوربية، من رجال الأمم الإسلامية، ونسائها أيضا!! الذين أشربوا في قلوبهم حبها، والشغف بها، والذب عنها، وحكموا بها، وأذاعوها، بما ربوا من تربية أساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الإسلام. ومنهم من يصرح، ومنهم من يتوارى. ويكادون يكونون سواء. فإنا لله وإنا إليه راجعون(1/304)
عَاصٍ، وَيُسَمَّى كَافِرًا كُفْرًا مَجَازِيًّا، أَوْ كُفْرًا أَصْغَرَ. وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا، مَعَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وأخطأ، فَهَذَا مُخْطِئٌ، لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ.
وَأَرَادَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) - مُخَالَفَةَ الْمُرْجِئَةِ. وَشُبْهَتُهُمْ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَوَّلِينَ، فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمْ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ قُدَامَةَ بْنَ عبد الله (1) شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا هُوَ وَطَائِفَةٌ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (2) الْآيَةَ. فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اتَّفَقَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اعْتَرَفُوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلُوا. وَقَالَ عُمَرُ لِقُدَامَةَ: أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوِ اتَّقَيْتَ وَآمَنْتَ وَعَمِلْتَ الصَّالِحَاتِ لَمْ تَشْرَبِ الْخَمْرَ.
وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ فَأَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَنْ طَعِمَ الشَّيْءَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ يُحَرَّمْ فِيهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ، كَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ [نَدِمُوا وَعَلِمُوا] (3) . أَنَّهُمْ أَخْطَأُوا وَأَيِسُوا مِنَ التَّوْبَةِ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ يَقُولُ لَهُ: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} (4) . ما أدري أي ذنبك أَعْظَمُ؟ اسْتِحْلَالُكَ الْمُحَرَّمَ أَوَّلًا؟ أَمْ يَأْسُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ثَانِيًا؟. وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصحابة هو
__________
(1) هكذا ورد في الأصل. والصواب: (قدامة بن مظعون) ، كما في سير أعلام النبلاء 1 / 161، والإصابة 3 / 228. ن.
(2) سورة المائدة آية 93.
(3) في الأصل: (يذقون على) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن.
(4) سورة غافر آية 1- 3.(1/305)
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (وَنَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَشْهَدُ لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ) .
ش: وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَقِدَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) . وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (3) . {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (4) . {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (5) . وَمَدَحَ أَهْلَ الْخَوْفِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (6) . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (7) ، هو الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: لَا، يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ» (8) . قَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَمِلُوا - وَاللَّهِ - بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا. انْتَهَى.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) . فتأمل كيف جعل رجاءهم
__________
(1) سورة الإسراء، آية 57.
(2) سورة آل عمران آية 175.
(3) سورة البقرة، آية 41.
(4) سورة البقرة، آية 40.
(5) سورة المائدة آية 3.
(6) سورة المؤمنون آية 57 - 61.
(7) سورة المؤمنون آية 60.
(8) انظر تفسير ابن كثير 6: 25.
(9) سورة البقرة آية 218.(1/306)
مَعَ إِيمَانِهِمْ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ؟ فَالرَّجَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ تعالى، شرعه وقدرته وَثَوَابُهُ وَكَرَامَتُهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مَغَلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ، فَأَهْمَلَهَا وَلَمْ يَحْرُثْهَا وَلَمْ يَبْذُرْهَا، وَرَجَا أَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مَغَلِّهَا مِثْلَ مَا يَأْتِي مَنْ حَرَثَ وَزَرَعَ وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ -: لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ! وَكَذَا لَوْ رَجَا وَحَسَّنَ ظَنَّهُ أَنْ يَجِيئَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ! أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَحِرْصٍ تَامٍّ! وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا - اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا:
أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ.
الثَّانِي: خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ.
الثَّالِثُ: سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ السَّيْرَ، مَخَافَةَ الْفَوَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
فَالْمُشْرِكُ لَا تُرْجَى لَهُ الْمَغْفِرَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُ الْمَغْفِرَةَ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الذُّنُوبِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ: "الدواوين عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (2) وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ الله
__________
(1) سورة النساء الآيتان 48 - 116.
(2) سورة النساء الآيتان 48 - 116.(1/307)
بِهِ، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ".
وَلَكِنْ ثَمَّ أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْكَبِيرَةَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ وَالِاسْتِعْظَامِ لَهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالصَّغِيرَةِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَتَرْكِ الْخَوْفِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالْكَبَائِرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَدْ يُعْفَى لِصَاحِبِ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ مَا لَا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات يسقط (2) عَنْهُ عُقُوبَةُ جَهَنَّمَ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، عُرِفَتْ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} (3) . {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (4) .
وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَهِيَ الْخَالِصَةُ، لَا يَخْتَصُّ بِهَا ذَنْبٌ دُونَ ذَنْبٍ، لَكِنْ هَلْ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عَامَّةً؟ حَتَّى لَوْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ لَا تُقْبَلُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ. وَهَلْ يَجُبُّ الْإِسْلَامُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا؟ أَمْ لَا بُدَّ مَعَ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِ الشِّرْكِ؟ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا وَشُرْبِ الخمر مثلا، هل يؤاخذ بما
__________
(1) لم أجد رواية الطبراني هذه. ولكن في مجمع الزوائد 10: 348 حديث بهذا المعنى، رواه أحمد من حديث عائشة مرفوعا. قال: «وفيه صدقة بن موسى، وقد ضعفه الجمهور. وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا صدقة بن موسى وكان صدوقا. وبقية رجاله ثقات» .
(2) كذا بالأصل، ولعلها: (تسقط) . ن.
(3) سورة مريم آية 60.
(4) سورة البقرة آية 160.(1/308)
كَانَ مِنْهُ فِي كُفْرِهِ مِنَ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؟ أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ مَعَ إِسْلَامِهِ؟ أَوْ يَتُوبَ تَوْبَةً عَامَّةً مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؟ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا - مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَكُونُ سَبَبًا لِغُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ إِلَّا التَّوْبَةَ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) وَهَذَا لِمَنْ تَابَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَقْنَطُوا} وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} (2) ، الآية.
السَّبَبُ الثَّانِي: الِاسْتِغْفَارُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3) . لَكِنَّ الِاسْتِغْفَارَ تَارَةً يُذْكَرُ وَحْدَهُ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ ذُكِرَ وَحْدَهُ دَخَلَ مَعَهُ التَّوْبَةُ، كَمَا إِذَا ذُكِرَتِ التَّوْبَةُ وَحْدَهَا شَمَلَتْ الِاسْتِغْفَارَ. فَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عِنْدُ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا: الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ، إِذَا ذُكِرَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ شَمِلَ الْآخَرَ، وَإِذَا ذُكِرَا مَعًا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى. قال تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (4) . {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (5) . {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (6) . لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا أُفْرِدَ شَمِلَ الْمُقِلَّ وَالْمُعْدِمَ، وَلَمَّا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (7) الآية - كَانَ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْمُقِلَّ، وَالْآخَرِ الْمُعْدِمَ، عَلَى خلاف فيه.
__________
(1) سورة الزمر: 53.
(2) سورة الزمر آية 54.
(3) سورة الأنفال آية 33.
(4) سورة المائدة آية 89.
(5) سورة المجادلة آية 4.
(6) سورة البقرة آية 271.
(7) سورة التوبة آية 60.(1/309)
وَكَذَلِكَ: الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ، وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى، وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ أَعَمُّ، فَإِذَا ذُكِرَ الْكُفْرُ شَمِلَ النِّفَاقَ، وَإِنْ ذُكِرَا مَعًا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ، عَلَى مَا يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْحَسَنَاتُ. فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته. وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَتْبَعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» .
السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا غَمٍّ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كُفِّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . وَفِي الْمُسْنَدِ: «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (2) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ يُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ» (3) .
فَالْمَصَائِبُ نَفْسُهَا، مُكَفِّرَةٌ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا يُثَابُ الْعَبْدُ، وبالتسخط يأثم والصبر والسخط أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُصِيبَةِ، فَالْمُصِيبَةُ مِنْ فِعْلِ الله لا من فعل العبد،
__________
(1) سورة هود آية 114.
(2) سورة النساء آية 123.
(3) حديث أبي بكر هذا في المسند، برقم: 68 بشرحنا. ولكن أوله هناك أن أبا بكر قال: «يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟.. فكل سوء عملناه جزينا به؟» . ليس فيه قوله هنا «نزلت قاصمة الظهر..» . وهو حديث ضعيف، إسناده منقطع. وكان الأجدر بالشارح أن يذكر حديث أبي هريرة في المسند: 7380 أنه لما نزلت هذه الآية «شقت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم:» قاربوا وسددوا، فكل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها «. وهو حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه 2: 282، وزاد في آخره:» والشوكة يشاكها «. ولو رجع الشارح رحمه الله إلى تفسير شيخه ابن كثير في هذه الآية 2: 586 - 590 لوجد حديث أبي هريرة، وأحاديث أخر في معناه، بعضها أصح إسنادا من حديث أبي بكر.(1/310)
وَهِيَ جَزَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ، وَيُكَفِّرُ ذَنْبَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا يُثَابُ الْمَرْءُ وَيَأْثَمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَالصَّبْرُ وَالسُّخْطُ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كان الأجر قَدْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنَ الْعَبْدِ، بَلْ هدية من الغير، أو فضل مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) . فَنَفْسُ الْمَرَضِ جَزَاءٌ وَكَفَّارَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مَدْلُولَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ لَازِمِهِ.
السَّبَبُ الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّبَبُ السَّادِسُ: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.
السَّبَبُ السَّابِعُ: مَا يُهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، مِنْ ثَوَابِ صَدَقَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ حَجٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّبَبُ الثَّامِنُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشَدَائِدُهُ.
السَّبَبُ التَّاسِعُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ..
السَّبَبُ الْعَاشِرُ: شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ وَأَقْسَامِهَا.
السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ لِعِظَمِ جُرْمِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْكِيرِ، لِيَخْلُصَ طِيبُ إِيمَانِهِ مِنْ خَبَثِ مَعَاصِيهِ، فَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ في قلبه أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، بَلْ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
__________
(1) سورة النساء آية 40.
(2) سورة النساء آية 48.(1/311)
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، امْتَنَعَ الْقَطْعُ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأُمَّةِ، غَيْرَ مَنْ شَهِدَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، وَلَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَمْنُ [وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ] (1) عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ) .
ش: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَائِفًا رَاجِيًا، فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمَحْمُودَ الصَّادِقَ: مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ. وَالرَّجَاءُ الْمَحْمُودُ: رَجَاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ رَاجٍ لِثَوَابِهِ، أَوْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ رَاجٍ لِمَغْفِرَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَمَادِيًا فِي التَّفْرِيطِ وَالْخَطَايَا، يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ، فَهَذَا هُوَ الْغُرُورُ وَالتَّمَنِّي وَالرَّجَاءُ الْكَاذِبُ.
قَالَ: أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ، إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ، وَإِذَا نَقَصَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ، وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ.
وَقَدْ مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (3) الآية. وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}
__________
(1) في الأصل: (واليأس سبيلان) والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ والمتون، بل صححها المحقق أحمد شاكر رحمه الله ولكن في الفهرس. انظر الفهرس ص 551. ن.
(2) سورة البقرة آية 218.
(3) سورة الزمر آية 9.(1/312)
{عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (1) ، الْآيَةَ. فَالرَّجَاءُ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا، وَالْخَوْفُ يَسْتَلْزِمُ الرَّجَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ قُنُوطًا وَيَأْسًا. وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ، إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّكَ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ، فَالْخَائِفُ هَارِبٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى رَبِّهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ مَنَازِلُ السَّائِرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِ، وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ، بَلِ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْمُرِيدِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ فِي مَرَضِهِ أَرْجَحَ مِنْ خَوْفِهِ، بِخِلَافِ زَمَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَوْفُهُ أَرْجَحَ مِنْ رَجَائِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بالخوف وحده فهو [حروري] (2) ، وروي: وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فِي قَوْلِهِ:
لَوْ قَدْ رَأَيْتَ الصَّغِيرَ مِنْ عَمِلَ الْ ... خَيْرِ ثَوَابًا عَجِبْتَ مِنْ كِبَرِهْ.
أَوْ قَدْ رَأَيْتَ الْحَقِيرَ مِنْ عَمِلَ الشَّ ... رِّ جَزَاءً أَشْفَقْتَ مِنْ حَذَرِهْ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ. وفيه تقرير لما قال أولا: "لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ". وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
__________
(1) سورة السجدة آية 16.
(2) في الأصل: (مرجئ) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن.(1/313)
قَوْلُهُ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ. وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالِفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازِمَةِ الْأَوْلَى) .
ش: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ"الْإِيمَانِ"، اخْتِلَافًا كَثِيرًا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَسَائِرُ أَهْلِ الحديث، وأهل المدينة وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ -: إِلَى أَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ زَائِدٌ لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْكَرَّامِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ! فَالْمُنَافِقُونَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْوَعِيدَ الَّذِي أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ! وَقَوْلُهُمْ ظَاهِرُ الْفَسَادِ.
وَذَهَبَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الصَّالِحِيُّ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْقَدَرِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ! وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ! فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَانُوا مؤمنين: فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (2) . وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
__________
(1) سورة الإسراء آية 102.
(2) سورة النمل آية 14(1/314)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، بَلْ كَافِرِينَ بِهِ. مُعَادِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَإِنَّهُ قَالَ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
بَلْ إِبْلِيسُ يَكُونُ عِنْدَ الْجَهْمِ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ! فَإِنَّهُ لَمْ يَجْهَلْ رَبَّهُ، بَلْ هُوَ عَارِفٌ بِهِ، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (1) . {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (2) . {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) . وَالْكُفْرُ عِنْدَ الْجَهْمِ هُوَ الْجَهْلُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَا أَحَدَ أَجْهَلُ مِنْهُ بِرَبِّهِ! فَإِنَّهُ جَعَلَهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ، وَسَلَبَ عَنْهُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ، وَلَا جَهْلَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا، فَيَكُونُ كَافِرًا بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ!.
وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذَاهِبُ أُخَرُ. بِتَفَاصِيلَ وَقُيُودٍ، أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهَا اخْتِصَارًا، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي تَبْصِرَةِ الْأَدِلَّةِ، وَغَيْرِهِ.
وَحَاصِلُ الْكُلِّ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ دُونَ الْجَوَارِحِ، كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. أَوْ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ. أَوْ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ، وَهُوَ إِمَّا الْمَعْرِفَةُ، كَمَا قَالَهُ الْجَهْمُ. أَوِ التَّصْدِيقُ كما قاله أبو منصور الماتريدي. وَفَسَادُ قَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ وَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ظَاهِرٌ.
وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَئِمَّةِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ - اخْتِلَافٌ صُورِيٌّ. فَإِنَّ كَوْنَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَازِمَةً لِإِيمَانِ الْقَلْبِ، أَوْ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ - نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، لَا يَتَرَتَّبُ عليه فساد
__________
(1) سورة الحجر آية 36
(2) سورة الحجر آية 39
(3) سورة ص آية 82(1/315)
اعْتِقَادٍ. وَالْقَائِلُونَ بِتَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، ضَمُّوا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ أَدِلَّةً أُخْرَى، وَإِلَّا فَقَدَ نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ عَنِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالْمُنْتَهِبِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ زَوَالَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، اتِّفَاقًا.
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْعِبَادِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ، وَأَعْنِي بِالْقَوْلِ: التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الَّذِي يُعْنَى بِهِ عِنْدَ إِطْلَاقِ قَوْلِهِمُ: "الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ"، لَكِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعِبَادِ: هَلْ يَشْمَلُهُ اسْمُ"الْإِيمَانِ"؟ أَمِ الْإِيمَانُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْقَوْلُ وَحْدَهُ وَالْعَمَلُ مُغَايِرٌ لَهُ لَا يَشْمَلُهُ اسْمُ"الْإِيمَانِ"عِنْدَ إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا كَانَ مَجَازًا؟ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ، وَامْتَنَعَ عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ: أَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مُسْتَحِقُّ الْوَعِيدِ، لَكِنْ فِيمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مُسَمَّى"الْإِيمَانِ"مَنْ قَالَ: لَمَّا كَانَ"الْإِيمَانُ"شَيْئًا وَاحِدًا فإيماني (1) كإيمان أبي بكر الصديق وعمر! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل!! وَهَذَا غُلُوٌّ مِنْهُ. فَإِنَّ الْكُفْرَ مَعَ الْإِيمَانِ كَالْعَمَى مَعَ الْبَصَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبُصَرَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ وَضَعْفِهِ، فَمِنْهُمُ الْأَخْفَشُ والأعشى، و [من] يَرَى الْخَطَّ الثَّخِينَ، دُونَ الدَّقِيقِ إِلَّا بِزُجَاجَةٍ ونحوها، ولا يَرَى عَنْ قُرْبٍ زَائِدٍ عَلَى الْعَادَةِ، وَآخَرُ بِضِدِّهِ.
وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ"، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّسَاوِيَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَصْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ تفاوت [درجات] نُورِ"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"فِي قُلُوبِ أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى؛ فمن الناس من نور"لا إله إلا الله"فِي قَلْبِهِ كَالشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، وَآخَرُ كَالْمِشْعَلِ الْعَظِيمِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ. وَلِهَذَا تَظْهَرُ الْأَنْوَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ عَلَى هذا
__________
(1) في المطبوعة «فإيمان» . وما أثبتنا هو الصواب، الذي يقتضيه السياق(1/316)
الْمِقْدَارِ، بِحَسَبَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَكُلَّمَا اشْتَدَّ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَظُمَ أَحْرَقَ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بِحَسَبَ قُوَّتِهِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَى حَالٍ لَا يُصَادِفُ شَهْوَةً وَلَا شُبْهَةً وَلَا ذَنْبًا إِلَّا أَحْرَقَهُ. وَهَذِهِ حَالُ الصَّادِقِ فِي توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بِالرُّجُومِ مِنْ كُلِّ سَارِقٍ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا عَرَفَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» ، وَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى ظَنَّهَا بَعْضُهُمْ مَنْسُوخَةً، وَظَنَّهَا بَعْضُهُمْ قَبْلَ وُرُودِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى نَارِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الدُّخُولَ بِالْخُلُودِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسَانِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ تَحْتَ الْجَاحِدِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ.
وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُقَابِلُهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَتَثْقُلُ الْبِطَاقَةُ، وَتَطِيشُ السِّجِلَّاتُ، فَلَا يُعَذَّبُ صَاحِبُهَا (1) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ. وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ قَاتِلِ الْمِائَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الَّتِي لَمْ تَشْغَلْهُ عِنْدَ السِّيَاقِ عَنِ السَّيْرِ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَحَمَلَتْهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ جَعَلَ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ وهو يعالج سكرات الموت (2) .
__________
(1) يشير الشارح -رحمه الله- إلى حديث عبد الله بن عمرو، في المسند: 6994. وهو حديث صحيح، خرجناه وشرحناه في شرح المسند.
(2) إشارة إلى حديث صحيح، رواه الشيخان وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري. وهو في الترغيب والترهيب 4: 77(1/317)
وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ الْبَغِيِّ مِنَ الْإِيمَانِ، حِينَ نَزَعَتْ مُوقَهَا وَسَقَتِ الْكَلْبَ مِنَ الرَّكِيَّةِ، فَغُفِرَ لَهَا (1) .
وَهَكَذَا الْعَقْلُ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، مُسْتَوُونَ فِي أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ غَيْرُ مَجَانِينَ، وَبَعْضُهُمْ أَعَقَلُ مِنْ بَعْضٍ.
وَكَذَلِكَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ إِيجَابٌ دُونَ إِيجَابٍ، وَتَحْرِيمٌ دُونَ تَحْرِيمٍ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ طَرَّدَ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ وَالْوُجُوبِ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ - فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ، كَمَا فِي حَقِّ النَّجَاشِيِّ وَأَمْثَالِهِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ بِالْعَمَلِ وَالتَّصْدِيقِ، الْمُسْتَلْزِمِ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ -: فَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَالْعِلْمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ أَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ اللَّازِمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْمَلْزُومِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ» ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوهُ أَلْقَاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكِّ مُوسَى فِي خَبَرِ اللَّهِ، لَكِنَّ الْمُخْبَرَ وَإِنْ جَزَمَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُ الْمُخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا يَتَصَوَّرُهُ إِذْ عَايَنَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2) .
وَأَيْضًا: فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَثَلًا، يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ مَا أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب
__________
(1) إشارة أيضا إلى حديث صحيح. رواه البخاري وغيره. انظر فتح الباري 6: 256، 371 - 373
(2) سورة البقرة آية 260(1/318)
عليه مَا لَا يَجِبُ على غيره [الإيمان به] (1) إِلَّا مُجْمَلًا، وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ.
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يُسْلِمُ، إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ الْمُجْمَلُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِوُجُوبِهَا وَيُؤَدِّيَهَا، فَلَمْ يَتَسَاوَ النَّاسُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَامَ بِقَلْبِه التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ، الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَتِه شَهْوَة وَلَا شُبْهَة - لَا تَقَعُ مَعَهُ مَعْصِيَة، وَلَوْلَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشَّهْوَة وَالشُّبْهَة أَوْ إِحْدَاهُمَا لَمَا عَصَى، بَلْ يَشْتَغِلُ قَلْبُه ذَلِكَ الْوَقْتَ بِمَا يُوَاقِعُه مِنَ الْمَعْصِيَة، فَيَغِيبُ عَنْهُ التَّصْدِيقُ وَالْوَعِيدُ فَيَعْصِي. وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الْحَدِيثَ. فَهُوَ حِينَ يَزْنِي يَغِيبُ عَنْهُ تَصْدِيقُه بِحُرْمَة الزِّنَا. وَإِنْ بَقِي أَصْلُ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِه، ثُمَّ يُعَاوِدُه. فَإِنَّ الْمُتَّقِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2) . قَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالذَّنْبِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُه. وَالشَّهْوَة وَالْغَضَبُ مَبْدَأُ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا أَبْصَرَ رَجَعَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (3) ، أَيْ: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَي ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا الْإِنْسُ تُقْصِرُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَلَا الشَّيَاطِينُ تُمْسِكُ عَنْهُمْ. فَإِذَا لَمْ يُبْصِرْ يَبْقَى قَلْبُه فِي عَمًى، وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّه فِي غَيِّه وَإِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِه لَمْ يَكْذِبْ، فَذَلِكَ النُّورُ وَالْإِبْصَارُ، وَتِلْكَ الْخَشْيَة وَالْخَوْفُ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِه. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُغْمِضُ عَيْنَيْه فَلَا يَرَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ، بِمَا يَغْشَاه مِنْ رَيْنِ
__________
(1) زيادة ضرورية، لا يستقيم الكلام إلا بها، أو بما في معناها.
(2) سورة الْأَعْرَافِ آية: 201
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية: 202(1/319)
الذُّنُوبِ، لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى كَعَمَى الْكَافِرِ. وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا زَنَا الْعَبْدُ نُزِعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ، فَإِنْ تَابَ أُعِيدَ إِلَيْهِ» .
وَإِذَا كَانَ النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا، فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ عُدْوَانِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَالِافْتِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَة إِلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ حَقًّا كَامِلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلِي مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ! فَلَا يُبَالِي بِمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي. وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَالَتِ الْمُرْجِئَة: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَه! وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.
فَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَظَرَ إِلَى حَقِيقَة الْإِيمَانِ لُغَة مَعَ أَدِلَّة مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ. وَبَقِيَّة الْأَئِمَّة رَحِمَهُمُ اللَّهُ نَظَرُوا إِلَى حَقِيقَتِه فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إِلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَمِنْ أَدِلَّة الْأَصْحَابِ لأبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ"الْإِيمَانَ"فِي اللُّغَة عِبَارَة عَنِ التَّصْدِيقِ، قَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إِخْوَة يُوسُفَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (1) ، أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَة عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِي، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ فِيمَا بَيْنَه وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْرَارُ شَرْطُ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا. هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْجُحُودُ، وَهُمَا يَكُونَانِ بِالْقَلْبِ، فَكَذَا مَا يُضَادُّهُمَا.
__________
(1) سورة يُوسُفَ آية 17(1/320)
وَقَوْلُهُ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (1) ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِيمَانِ، لَا اللِّسَانَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ لَزَالَ كُلُّهُ بِزَوَالِ جُزْئِه، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة، قَالَ تَعَالَى: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (2) ، فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَة عِبَارَة عَنِ التَّصْدِيقِ - بِمَنْعِ التَّرَادُفِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ مُطْلَقًا؟ وَكَذَلِكَ اعْتُرِضَ عَلَى دَعْوَى التَّرَادُفِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّرَادُفِ: أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ إِذَا صَدَّقَ: صَدَّقَه، وَلَا يُقَالُ (3) : آمَنَه، وَلَا آمَنَ بِهِ، بَلْ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} (4) . {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} (5) . وَقَالَ تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (6) ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ وَالْمُعَدَّى بِاللَّامِ، فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ. وَالثَّانِي لِلْمُخْبِرِ. وَلَا يَرِدُ كَوْنُه يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، لِأَنَّ دُخُولَ اللَّامِ لِتَقْوِيَة الْعَامِلِ، كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ، أَوْ كَانَ الْعَامِلُ اسْمَ فَاعِلٍ، أَوْ مَصْدَرًا، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِه.
فَالْحَاصِلُ أنه لَا يُقَالُ: قَدْ آمَنْتُه، وَلَا صَدَّقْتُ لَهُ، إِنَّمَا يُقَالُ. آمَنْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْتُ لَهُ. فَكَانَ تَفْسِيرُه بِـ"أَقْرَرْتُ"أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِه بِـ"صَدَّقْتُ"مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ في المعنى، فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ شَاهَد أَوْ غَيْبٍ، يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَة: صَدَقْتَ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ. فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا، قِيلَ لَهُ صَدَقْتَ.
وَأَمَّا لَفْظُ"الْإِيمَانِ"فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ:
__________
(1) سورة النَّحْلِ آية 106
(2) سورة البقرة آية 25
(3) في المطبوعة «ومنه لا يقال» ! وزيادة «منه» لا معنى لها، بل تفسد الكلام
(4) سورة الْعَنْكَبُوتِ آية 26
(5) سورة يُونُسَ آية 83
(6) سورة التَّوْبَة آية 61(1/321)
طَلَعَتِ الشَّمْسُ -: صَدَّقْنَاه، وَلَا يُقَالُ: آمَنَّا لَهُ، فَإِنَّ فيه أَصْلَ معنى الْأَمْنِ، وَالإيمَانُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَالْأَمْرُ الْغَائِبُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ. وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ"لَفْظُ""آمَنَ لَهُ"- إِلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَابَلْ لَفْظُ"الْإِيمَانِ"قَطُّ بِالتَّكْذِيبِ، كَمَا يُقَابَلُ لَفْظُ"التَّصْدِيقِ"، وَإِنَّمَا يُقَابَلُ بِالْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنْ لَا أَتَّبِعُكَ، بَلْ أُعَادِيكَ وَأُبْغِضُكَ وَأُخَالِفُكَ - لَكَانَ كُفْرًا أَعْظَمَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ التَّصْدِيقَ فَقَطْ، وَلَا الْكُفْرُ هُوَ التَّكْذِيبَ فَقَطْ. بَلْ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، وَيَكُونُ مُخَالَفَة وَمُعَادَاة بِلَا تَكْذِيبٍ - فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، يَكُونُ تَصْدِيقًا وَمُوَافَقَة وَانْقِيَادًا، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ.
وَلَوْ سُلِّمَ التَّرَادُفُ، فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا السَّمْعُ» ، إِلَى أَنْ قَالَ: «وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُه» ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِي رَحِمَهُ اللَّهُ: (لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنَّه مَا وَقَرَ في الصّدورِ وَصَدَّقَتْه الْأَعْمَالُ) . وَلَوْ كَانَ تَصْدِيقًا فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ، كَمَا في الصلاة وَنَحْوِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا له، فَإِنَّ الله لَمْ يَأْمُر بِإِيمَانٍ مُطْلَقٍ، بَلْ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ، وَصَفَه وَبَيَّنَه. فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، أَدْنَى أَحْوَالِه أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنَ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ، فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، مِنْ غَيْرِ تَغير اللسانِ وَلَا قَلْبِه، بَلْ يَكُونُ"الْإِيمَانُ"فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّه حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، ولِأَنَّ التَّصْدِيقَ التَّامَّ الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَإِنَّ هذه لَوَازِمِ الْإِيمَانِ التَّامِّ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ.
وَنَقُولُ: إِنَّ هذه لوَازِمَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَة، وَتَخْرُجُ عَنْهُ أخرى، أَوْ(1/322)
إِنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ اسْتَعْمَلَه فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِي، فَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة، مَجَازٌ لُغَوِي، أَوْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَه الشَّارِعُ. وهذه الأَقْوَالٌ لِمَنْ سَلَكَ هَذِا الطَّرِيقَ.
وَقَالُوا: إِنَّ الرَّسُولَ قَدْ [وَقَفَنَا] (1) عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ، وَعَلِمْنَا مِنْ مُرَادِه عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قالَ إِنَّهُ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِه بِالْإِيمَانِ، مَعَ قُدْرَتِه عَلَى ذَلِكَ، وَلَا صَلَّى، وَلَا صَامَ. وَلَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا خَافَ اللَّهَ، بَلْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ، مُعَادِيًا لَهُ يُقَاتِلُه - أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.
كَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَتَّبَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُمَا. فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَة، أعلاها قَوْلُ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» . وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ شُعْبَة مِنَ الْإِيمَانِ» . وَقَالَ أيضا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . وَقَالَ أَيْضًا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْبَذَاذَة مِنَ الْإِيمَانِ» .
فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ أَصْلًا لَهُ شُعَبٌ مُتَعَدِّدَة، وَكُلُّ شُعْبَة مِنْهَا تُسَمَّى: إِيمَانًا، فَالصَّلَاة مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاة وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْأَعْمَالُ الْبَاطِنَة، كَالْحَيَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَشْيَة مِنَ اللَّهِ وَالْإِنَابَة إِلَيْهِ، حَتَّى تَنْتَهِي هَذِهِ الشُّعَبُ إِلَى إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ الشُّعَبُ، مِنْهَا مَا يَزُولُ الْإِيمَانُ بِزَوَالِهَا إِجْمَاعًا، كَشُعْبَة الشَّهَادَتين، وَمِنْهَا مَا لَا يَزُولُ بِزَوَالِهَا إجماعا، كَتَرْكِ إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَبَيْنَهُمَا شُعَبٌ مُتَفَاوِتَة تَفَاوُتًا عَظِيمًا، مِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَة الشَّهَادَة، وَمِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَة إِمَاطَة الْأَذَى، وَكَمَا أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ، فَكَذَا شُعَبُ الْكُفْرِ كُفْرٌ، فَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ الله - مَثَلًا - مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ،
__________
(1) في الأصل: (وافقنا) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن(1/323)
وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كُفْرٌ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْه بِيَدِه فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّة خَرْدَلٍ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ -: فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» . وَمَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ أَصْلُ حَرَكَة الْقَلْبِ، وَبَذْلُ الْمَالِ وَمَنْعُه هُوَ كَمَالُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالَ آخِرُ الْمُتَعَلِّقَاتِ بِالنَّفْسِ، وَالْبَدَنُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْمَالِ، فَمَنْ كَانَ أَوَّلُ أَمْرِه وَآخِرُه كُلُّهُ لِلَّهِ، كَانَ اللَّهُ إِلَهَه فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ إِرَادَة غَيْرِ اللَّهِ وَقَصْدُه وَرَجَاؤُه، فَيَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّة عَلَى قُوَّة الْإِيمَانِ وَضَعْفِه بِحَسَبَ الْعَمَلِ.
وسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَأْنِ الصَّحَابَة: "وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ". فَسَمَّى حُبَّ الصَّحَابَة إِيمَانًا، وَبُغْضَهُمْ كُفْرًا.
وَمَا أَعْجَبَ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِي وَغَيْرُهُ، عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ: أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: "بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ"، فَقَدْ شَهِدَ الرَّاوِي [بِغَفْلَة] (1) نَفْسِه حَيْثُ شَكَّ فَقَالَ"بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ"وَلَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ! وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ! !.
فَطَعَنَ فِيهِ بِغَفْلَة الرَّاوِي وَمُخَالَفَتِه الْكِتَابَ. فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الطَّعْنِ مَا أَعْجَبَه! فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ ضَبْطِه، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ «بِضْعٌ وَسِتُّونَ» مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.
__________
(1) في الأصل: (بفعله) . والصواب ما أثبتناه، كما في أكثر النسخ. ن(1/324)
وَأَمَّا الطَّعْنُ بِمُخَالَفَة الْكِتَابِ، فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِه؟ ! وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وِفَاقِه، وَإِنَّمَا هَذَا الطَّعْنُ مِنْ ثَمَرَة شُؤْمِ التَّقْلِيدِ وَالتَّعَصُّبِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: وَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْقَوْلَ قِسْمَانِ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَة الْإِسْلَامِ. وَالْعَمَلُ قِسْمَانِ: عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ نِيَّتُه وَإِخْلَاصُه، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ. فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَة زَالَ الْإِيمَانُ بِكَمَالِه، وَإِذَا زَالَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ لَمْ يَنْفَعْ بَقِيَّة الْآخر، فَإِنَّ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِهَا وَكَوْنِهَا نَافِعَة، وَإِذَا بَقِي تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَزَالَ الْبَاقِي فَهَذَا مَوْضِعُ الْمَعْرَكَة!!
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَاعَة الْجَوَارِحِ عَدَمُ طَاعَة الْقَلْبِ، إِذْ لَوْ أَطَاعَ الْقَلْبُ وَانْقَادَ، لَأَطَاعَتِ الْجَوَارِحُ وَانْقَادَتْ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَاعَة الْقَلْبِ وَانْقِيَادِه عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلطَّاعَة. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَة إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُه صَلَحَ جَسَدُه قَطْعًا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَأَمَّا كَوْنُه يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ جُزْئِه زَوَالُ كُلِّهِ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْهَيْئَة الِاجْتِمَاعِيَّة لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَة كَمَا كَانَتْ، فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، فَيَزُولُ عَنْهُ الْكَمَالُ فَقَطْ.
وَالْأَدِلَّة عَلَى زِيَادَة الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِه مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّة كَثِيرَةٌ جِدًّا: مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (1) . {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (2) . {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (3) . {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4) . {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا}
__________
(1) سورة الْأَنْفَالِ آية 2
(2) سورة مَرْيَمَ آية 76
(3) سورة الْمُدَّثِّرِ آية 31
(4) سورة الْفَتْحِ آية 4(1/325)
{اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1) .
وَكَيْفَ يُقَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِنَّ الزِّيَادَة بِاعْتِبَارِ زِيَادَة الْمُؤْمِنِ بِهِ؟ فَهَلْ فِي قَوْلِ النَّاسِ"قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ"زِيَادَة مَشْرُوعٍ؟ وَهَلْ فِي إِنْزَالِ السَّكِينَة عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ زِيَادَة مَشْرُوعٍ؟ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ السَّكِينَة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْجِعَهُمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَة لِيَزْدَادُوا طُمَأْنِينَة وَيَقِينًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (3) . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِي، فِي تَفْسِيرِه عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَأَبُو الْقَاسِمِ السَّابَاذِي، قَالَا: حَدَّثَنَا فَارِسُ بْنُ مَرْدَوَيْه، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بن الْعَابِدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُطِيعٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ أبي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «جَاءَ وَفْدُ ثَقِيفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ فَقَالَ: لَا، الْإِيمَانُ مُكَمَّلٌ فِي الْقَلْبِ، زِيَادَتُه كفر وَنُقْصَانُه شرك» فَقَدْ سُئِلَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ الْإِسْنَادَ مِنْ أبي الليْثٍ إِلَى أَبِي مُطِيعٍ مَجْهُولُونَ لَا يُعْرَفُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّوَارِيخِ الْمَشْهُورَة. وَأَمَّا أَبُو مُطِيعٍ، فَهُوَ: الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَة الْبَلْخِي، ضَعَّفَه أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِي الْفَلَّاسُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي، وَأَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِي، وَالْعُقَيْلِي،
__________
(1) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 173
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 167
(3) سورة التَّوْبَة الآيتان 124، 125(1/326)
وَابْنُ عَدِي، وَالدَّارَقُطْنِي، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا أَبُو الْمُهَزِّمِ، الراوي عَنْ أبي هريرة: فقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى الْكَاتِبِ، وَاسْمُه: يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ، فَقَدْ ضَعَّفَه أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ، وَتَرَكَه شُعْبَة بْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَقَدِ اتَّهَمَه شُعْبَة بِالْوَضْعِ، حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَعْطَوْه فَلْسَيْنِ لَحَدَّثَهُمْ سَبْعِينَ حَدِيثًا (1) ! ! !
وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِه وَوَالِدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَالْمُرَادُ نَفْي الْكَمَالِ، وَنَظَائِرُه كَثِيرَةٌ، وَحَدِيثُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَحَدِيثُ الشَّفَاعَة، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ في قَلْبِه أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّة مِنْ إِيمَانٍ. فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ إِيمَانَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ سَوَاءٌ؟ وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرِ الْإِيمَانِ؟ !
وَكَلَامُ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ أَيْضًا. مِنْهُ: قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنْ فِقْه الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانُه وَمَا نَقَصَ مِنْهُ، وَمِنْ فِقْه الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ هُوَ أَمْ يَنْقصُ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِه: (هَلُمُّوا نَزْدَدْ إِيمَانًا) ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) يَقُولُ فِي دُعَائِه: (اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا) .
__________
(1) أبو مطيع البلخي هذا: مترجم في الميزان ولسان الميزان، وذكره ابن حبان في كتاب المجروحين (الورقة: 85 من المخطوطة) . وذكروا هذا الكلام الذي رواه أو افتعله. وقال ابن حبان: «كان من رؤساء المرجئة، ممن يبغض السنن ومنتحليها» . ثم نقل روايته هذه، ثم قال: «فيما يشبه هذا الذي ينكره من جالس أهل العلم، فكيف الممعن في الصناعة؟ !» . وكان لفظ هذه الرواية في المطبوعة محرفا، فصححناه من هذه المراجع. وأبو المهزم: له ترجمة في الكنى من التهذيب، وذكره ابن حبان في كتاب المجروحين (الورقة: 243) ، وروى جرح شعبة إياه. وأنا أميل إلى أن العهدة في هذه الفرية على أبي مطيع البلخي كما يفهم من صنيع ابن حبان. فما أظن حماد بن سلمة يروي مثل هذا عن أبي المهزم، ولا عن عشرة من أمثال أبي المهزم
(2) في المطبوعة «أبو مسعود» . وصححناه من فتح الباري 1: 45، وذكر أنه رواه الإمام أحمد في كتاب الإيمان، قال: «وإسناده صحيح»(1/327)
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ: (اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَة) . وَمِثْلُه عَنْ عَبْدِ الله بْنِ رَوَاحَة.
وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ: إِنْصَافٌ مِنْ نَفْسِه، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ إِقْتَارٍ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ) . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله في صَحِيحِه (1) . وفي هَذَا الْقدرِ كِفَايَة، وَبِاللَّه التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا كَوْنُ عَطْفِ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة، فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ تَارَة يُذْكَرُ مُطْلَقًا عَنِ الْعَمَلِ وَعَنِ الْإِسْلَامِ، وَتَارَة يُقْرَنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَارَة يُقْرَنُ بِالْإِسْلَامِ. فَالْمُطْلَقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) الآية. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (3) الآية. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} (4) .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الْحَدِيثَ. «لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» . «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ... «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» . وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَّا - أَيْ فَلَيْسَ مِثْلَنَا! فَلَيْتَ شِعْرِي: فَمَنْ لَمْ يَغُشَّ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِه (5) .؟
__________
(1) البخاري 1: 77، بنحوه
(2) سورة الْأَنْفَالِ آية 2
(3) سورة الْحُجُرَاتِ آية 15
(4) سورة الْمَائِدَة آية 81
(5) وكان سفيان الثوري ينكر هذا التفسير أيضا، كما نقلنا في شرحنا للمسند، في الحديثين: 2329، 7290(1/328)
وأَمَّا إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَاعْلَمْ أَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذُكِرَ لَهُمَا، وَالْمُغَايَرَة عَلَى مَرَاتِبَ:
أَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ، لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، [كَقَوْلِه] (1) تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (2) . {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (3) . وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ.
وَيَلِيه: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) . {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (5) .
الثَّالِثُ: عَطْفُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (6) . {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (7) . {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} (8) .
وَفِي مِثْلِ هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَطْفَه عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ مُنْفَرِدًا، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ"الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ" [وَنَحْوِه، مما] (9) تَتَنَوَّعُ دِلَالَتُه بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ.
الرَّابِعُ: عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {غَافِرِ}
__________
(1) في الأصل: (لقوله) . والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ، وكما في الفتاوى 7 / 172. ن
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية 1
(3) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 3
(4) سورة الْبَقَرَة آية 42
(5) سورة الْمَائِدَة آية 92
(6) سورة الْبَقَرَة آية 238
(7) سورة الْبَقَرَة آية 98
(8) سورة الْأَحْزَابِ آية 7
(9) في الأصل: (ونحوهما) ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن(1/329)
{الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (1) . وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ، كَقَوْلِه:
فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا ...
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) . وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِه.
فَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ فِي الْكَلَامِ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوه، نَظَرْنَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ: كَيْفَ وَرَدَ فِيهِ"الْإِيمَانُ"؟ فَوَجَدْنَاه إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَالدِّينِ، وَدِينِ الْإِسْلَامِ.
ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (3) ، الْآيَاتِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، وَالْمُلَائِي، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِي، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ، فَسَأَلَه عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَرَأَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (4) ، إلى آخِرِ الآية، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْتُكَ، فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَه عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ لِي، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إِذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْه وَرَجَا ثَوَابَهَا، وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَة سَاءَتْه وَخَافَ عِقَابَهَا (5) . وَكَذَلِكَ أَجَابَ جَمَاعَة مِنَ السَّلَفِ بِهَذَا الْجَوَابِ.
__________
(1) سورة غَافِرٍ آية 3
(2) سورة الْمَائِدَة آية 48
(3) سورة الْبَقَرَة آية 177
(4) سورة الْبَقَرَة آية 177
(5) ذكره ابن كثير في التفسير 1: 386 - 387، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق مجاهد عن أبي ذر، ومن كتاب ابن مردويه، من طريق المسعودي عن القاسم عن أبي ذر. وأعلهما كليهما بالانقطاع، لأن أبا ذر مات قديما(1/330)
وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَه، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاة، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ» .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إِيمَانًا بِاللَّهِ بِدُونِ إِيمَانِ الْقَلْبِ، لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانِ الْقَلْبِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إِيمَانِ الْقَلْبِ وهُوَ الْإِيمَانُ.
وَأَي دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَة فِي مُسَمَّى"الْإِيمَانِ"فَوْقَ هَذَا الدَّلِيلِ؟ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّصْدِيقَ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تُفِيدُ مَعَ الْجُحُودِ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَة، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ (1) .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُغَايِرَة بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَيُؤَيِّدُه قَوْلُهُ [فِي حَدِيثِ سُؤَالَاتِ جِبْرِيلَ، فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ] (2) وَقَدْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . فَجَعَلَ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِحْسَانَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَة. لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثَة: مُسْلِمٌ، ثُمَّ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ مُحْسِنٌ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْإِسْلَامِ قَطْعًا، كَمَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْإِحْسَانِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. لَا أَنَّ الْإِحْسَانَ يَكُونُ مُجَرَّدًا عَنِ الْإِيمَانِ، هَذَا مُحَالٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (3) . وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّة بِلَا عُقُوبَة، بِخِلَافِ الظَّالِمِ لِنَفْسِه، فإنه مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ.
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 52، ونسبه لأحمد، وأبي يعلى، والبزار، وإسناده ثقات
(2) زيادة زدناها بالمعنى، لا ضرورية لا يستقيم بدونها الكلام
(3) سورة فَاطِرٍ آية 32(1/331)
وَهَكَذَا مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ.
فَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جِهَة نَفْسِه وَأَخَصُّ مِنْ جِهَة أَهْلِه، وَالْإِيمَانُ أَعَمُّ مِنْ جِهَة نَفْسِه وَأَخَصُّ مِنَ جِهَة أَهْلِه مِنَ الْإِسْلَامِ. فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ. وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا كَالرِّسَالَة وَالنُّبُوَّة، فَالنُّبُوَّة دَاخِلَة فِي الرِّسَالَة، وَالرِّسَالَة أَعَمُّ مِنْ جِهَة نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَة أَهْلِهَا، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِي، وَلَا يَنْعَكِسُ.
وَقَدْ صَارَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى"الْإِسْلَامِ"عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَالٍ:
فَطَائِفَة جَعَلَتِ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَة.
وَطَائِفَة أَجَابُوا بِمَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ حَيْثُ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة، وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَة.
وَطَائِفَة جَعَلُوا الْإِسْلَامَ مُرَادِفًا لِلْإِيمَانِ، وَجَعَلُوا مَعْنَى قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِسْلَامُ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، الْحَدِيثَ - شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ قَالُوا: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ هُوَ التَّصْدِيقَ! وَهَذَا لَمْ يَقُلْه أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَة وَإِنَّمَا هُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَة، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ. وَفَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة، وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَة. فَلَيْسَ لَنَا إِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا أَنْ نُجِيبَ بِغَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/332)
وَأَمَّا إِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أُفْرِدَ الْإِسْلَامُ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَهَلْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يُقَالُ لَهُ مُؤْمِنٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ هَلْ [يَسْتَلْزِمُ] (1) الْإِسْلَامُ الْإِيمَانَ؟ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ بِالْجَنَّة فِي الْقُرْآنِ وَبِالنَّجَاة مِنَ النَّارِ بِاسْمِ"الْإِيمَانِ"، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (3) .
وَأَمَّا اسْمُ"الْإِسْلَامِ"مُجَرَّدًا فَمَا عُلِّقَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ دُخُولُ الْجَنَّة، لَكِنَّه فَرَضَه وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُه الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاه، وَبِهِ بَعَثَ النَّبِيِّينَ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (4) .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَة اقْتِرَانِ الْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ غَيْرُ حَالَة إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، فَشَهَادَة الرِّسَالَة غَيْرُ شَهَادَة الْوَحْدَانِيَّة، فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ، وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَة بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ، كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا إِسْلَامَ لَهُ، وَلَا إِسْلَامَ لِمَنْ لَا إِيمَانَ [لَهُ] ، إِذْ لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إِسْلَامٍ بِهِ يَتَحَقَّقُ إِيمَانُه، وَلَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إِيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إِسْلَامُه.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي كَلَامِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ، أَعْنِي فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ.
مِنْهَا: لَفْظُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ إِذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا في وَعِيدِ الْآخِرَة دَخَلَ فيه
__________
(1) في الأصل: (يلتزم) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن
(2) سورة يُونُسَ الآيتان 62، 63
(3) سورة الْحَدِيدِ آية 21
(4) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 85(1/333)
الْمُنَافِقُونَ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . وَنَظَائِرُه كَثِيرَةٌ. وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْكَافِرُ مَنْ أَظْهَرَ كُفْرَه، وَالْمُنَافِقُ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِه وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِه.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَفْظُ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَفْظُ التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَفْظُ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَيَشْهَدُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (2) ، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ؛ (قُولُوا أَسْلَمْنَا) - انْقَدْنَا بِظَوَاهِرِنَا، فَهُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَة، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَة. وَأُجِيبُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَرُجِّحَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ، لَا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، كَمَا نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَالسَّارِقِ، وَمَنْ لَا أَمَانَة له (3) . وَيُؤَيِّدُ هَذَا سِيَاقُ الآية، فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا فِي النَّهْي عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَحْكَامِ بَعْضِ [الْعُصَاة] (4) ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (5) ، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ مَا نَفَعَتْهُمُ الطَّاعَة، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (6) ، الْآيَةَ، يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ، هُمْ هَؤُلَاءِ، لَا أَنْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ مُنْتَفٍ عَنْكُمُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ. يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ، أَوْ أَذِنَ لَهُمْ، أَنْ يَقُولُوا:
__________
(1) سورة الْمَائِدَة آية 5
(2) سورة الْحُجُرَاتِ آية 14
(3) هذا إشارة إلى حديث أنس مرفوعا: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» رواه أحمد في المسند: 12410. ونسبه السيوطي في الجامع الصغير: 9704 أيضا لصحيح ابن حبان. وكان في المطبوعة «إيمان» بدل «أمانة» ! وهو باطل لا معنى له
(4) في الأصل: (العصيان) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن
(5) سورة الْحُجُرَاتِ آية 14
(6) سورة الْحُجُرَاتِ آية 15(1/334)
أَسْلَمْنَا، وَالْمُنَافِقُ لَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ لَنَفَى عَنْهُمُ الْإِسْلَامَ، كَمَا نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَثْبَتَ لَهُمْ إِسْلَامًا، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا صَحِيحًا لَقَالَ: لَمْ تُسْلِمُوا، بَلْ أَنْتُمْ كَاذِبُونَ، كَمَا كَذَّبَهُمْ في قَوْلِهِمْ (1) : {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (2) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَيَنْتَفِي بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّفْصِيلِ دَعْوَى التَّرَادُفِ، وَتَشْنِيعُ مَنْ أَلْزَمَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَوْ كَانَ هُوَ الْأُمُورَ الظَّاهِرَة لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ [لَا يُقْبَلَ ذَلِكَ] (3) ، وَلَا يُقْبَلَ إِيمَانُ الْمُخْلِصِ! وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ [تَنْظِيرُ] (4) الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ حَالَة الِاقْتِرَانِ غَيْرُ حَالَة الِانْفِرَادِ. فَانْظُرْ إِلَى كَلِمَة الشَّهَادَة، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ» ، الْحَدِيثَ، فَلَوْ قَالُوا: "لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ"، وَأَنْكَرُوا الرِّسَالَة - مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِصْمَة، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا"لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ"قَائِمِينِ بِحَقِّهَا، وَلَا يَكُونُ قَائِمًا بِـ"لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ"حَقَّ الْقِيَامِ، إِلَّا مَنْ صَدَّقَ بِالرِّسَالَة، وَكَذَا مَنْ شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهَذِه الشَّهَادَة حَقَّ الْقِيَامِ، إِلَّا مَنْ صَدَّقَ هَذَا الرَّسُولَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ به. فَتضمَنتِ التَّوْحِيدَ، وَإِذَا ضُممتْ شَهَادَة"أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ"إِلَى شَهَادَة"أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ"- كَانَ الْمُرَادُ مِنْ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ إِثَبَاتَ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِثْبَاتَ الرِّسَالَة. كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ: إِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (5) .
__________
(1) في المطبوعة «في قوله» . وهو خطأ
(2) سورة الْمُنَافِقُونَ آية 1
(3) في الأصل: (لا يقابل بذلك) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ. ن
(4) في الأصل: (تفسير) . ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن
(5) سورة الْأَحْزَابِ آية 35(1/335)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ -: كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنَ الْآخَرِ. وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَة، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ» . وَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا شَمِلَ مَعْنَى الْآخَرِ وَحُكْمَه، وَكَمَا فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَظَائِرِه، فَإِنَّ لَفْظَي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وإذا افترقا اجتمعا، فَهَلْ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) - أَنَّهُ يُعْطَى الْمُقِلُّ دُونَ الْمُعْدِمِ، أَوْ بِالْعَكْسِ؟ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2) .
وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا تَشْنِيعُ مَنْ قَالَ: مَا حُكْمُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُسْلِمْ؟ أَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ؟ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ فَمَنْ أَثْبَتَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمًا لَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْآخَرِ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ!.
وَيُقَالُ لَهُ فِي مُقَابَلَة تَشْنِيعِه: أَنْتَ تَقُولُ: الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3) ، فَجَعَلَهُمَا غَيْرَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاه مُؤْمِنًا؟ قَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا» ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَأَثْبَتَ له [اسم] (4) الْإِسْلَامَ وَتَوَقَّفَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ، فَمَنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ - كَانَ مُخَالِفًا، وَالْوَاجِبُ رَدُّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ يَتَرَاءَى فِي بَعْضِ النُّصُوصِ مُعَارَضَة، وَلَا مُعَارَضَة بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي التَّوْفِيقِ، وَبِاللَّه التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (5) - عَلَى تَرَادُفِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا حُجَّة فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُخْرَجَ كَانُوا مَتصُفِينَ (6) بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاتِّصَافِ بِهِمَا تَرَادُفُهُمَا.
__________
(1) سورة الْمَائِدَة آية 89
(2) سورة الْبَقَرَة آية 271
(3) سورة الْأَحْزَابِ آية 35
(4) ليست في الأصل. وأثبتناها، من النسخ الأخرى. ن
(5) سورة الذَّارِيَاتِ الآيتان 35، 36
(6) في المطبوعة «كانوا مؤمنين» . وهو تحريف واضح، يأباه سياق الكلام(1/336)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ أبي حنيفة رحمه الله، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّ غَالِبَهَا سَاقِطٌ لَا يَرْتَضِيه أَبُو حَنِيفَةَ! وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِي حِكَايَة أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا رَوَى لَهُ حَدِيثَ: "أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ"إِلَى آخِرِه، قَالَ لَهُ: أَلَا تَرَاه يَقُولُ: (أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، قَالَ: "الْإِيمَانُ") ، ثُمَّ جَعَلَ الْهِجْرَة وَالْجِهَادَ مِنَ الْإِيمَانِ؟ فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِه: أَلَا تُجِيبَه يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: بِمَا أُجِيبُه؟ وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الِاخْتِلَافِ: مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ، أي الرَّجُلَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُه بِاعْتِبَارٍ وَيَمْنَعُه بِاعْتِبَارٍ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
أَمَّا مَنْ يُوجِبُه فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاة وَمَا سَبَقَ في عِلْمِه أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَة بِهِ، قَالُوا: وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُه الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُه كَافِرًا -: لَيْسَ بِإِيمَانٍ (1) ، كَالصَّلَاة الَّتِي أَفْسَدَهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ، وَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُه قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَهَذَا مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنَ الْكُلَّابِيَّة وَغَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِي الْأَزَلِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا، فَالصَّحَابَة مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِبْلِيسُ وَمَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِه مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُه وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ! وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ، وَلَا كَانَ يُعَلِّلُ بِهَذَا مَنْ يَسْتَثْنِي مِنَ السَّلَفِ فِي إِيمَانِه، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُحِبُّهُمْ إِنِ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ، فَاتِّبَاعُ الرَّسُولِ شَرْطُ الْمَحَبَّة،
__________
(1) في المطبوعة «أي ليس بإيمان» . وزيادة «أي» - خطأ واضح، يضطرب بها المعنى
(2) سورة آلِ عمْرَانَ آية 31(1/337)
وَالْمَشْرُوطُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الشَّرْطِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّة. ثُمَّ صَارَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ طَائِفَة غَلَوْا فِيهِ، حَتَّى صَارَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَسْتَثْنِي فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! وَنَحْوَ ذَلِكَ، يَعْنِي الْقَبُولَ. ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَذَا ثَوْبٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! هَذَا حَبْلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ؟ يَقُولُونَ: نَعَمْ، لَكِنْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أِنْ يُغَيِّرَه غَيَّرَهُ! !.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبَدَه كُلِّهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَاه عَنْهُ كُلِّهِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ، بِهَذَا الِاعْتِبَارِ -: فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِه أَنَّهُ مِنَ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ، الْقَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ! وَهَذَا مَعَ تَزْكِيَة الْإِنْسَانِ لِنَفْسِه، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَة صَحِيحَة، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِه بِالْجَنَّة إِنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.
وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّة السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ، وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ، بِمَعْنًى آخَرَ، كَمَا سَنَذْكُرُه إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا لَا شَكَّ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (1) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» . وَقَالَ أَيْضًا: «إِنِّي لِأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ» . وَنَظَائِرُ هَذَا.
وَأَمَّا مَنْ يُحَرِّمُه، فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ، كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ، كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ، فَمَنِ اسْتَثْنَى فِي إِيمَانِه فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ، وَسَمَّوُا الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي إِيمَانِهِمُ الشَّكَّاكَة. وَأَجَابُوا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}
__________
(1) سورة الْفَتْحِ آية 27(1/338)
{إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (1) ، - بِأَنَّه يَعُودُ إِلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَا شَكَّ فِيهِ! وَقِيلَ: لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ!.
وَفِي كِلَا الْجَوَابَيْنِ نَظَرٌ: فَإِنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ، فَأَمَّا الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ، مَعَ عِلْمِه بِذَلِكَ، فَلَا شَكَّ فِي الدُّخُولِ، وَلَا فِي الْأَمْنِ، وَلَا فِي دُخُولِ الْجَمِيعِ أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مَنْ يَدْخُلُ، فَلَا شَكَّ فِيهِ أَيْضًا، فَكَانَ قَوْلُ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"هُنَا تَحْقِيقًا لِلدُّخُولِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَه لَا مَحَالَة: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَقُولُهَا لِشَكٍّ فِي إِرَادَتِه وَعَزْمِه، وَلَكِنْ إِنَّمَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِه.
وَأُجِيبَ بِجَوَابٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لَنَا كَيْفَ نَسْتَثْنِي إِذَا أَخْبَرْنَا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ. وَفِي كَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا مِنَ النَّصِّ - نَظَرٌ (2) ، فَإِنَّهُ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ إِشَارَة النَّصِّ.
وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِجَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ بَاطِلَيْنِ، وَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ قَدْ قَالَهُ، فَأُثْبِتَ قُرْآنًا! أَوْ أَنَّ الرَّسُولَ قاله! ! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد مَنْ قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (3) . نسأل الله العافية.
وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَتَرْكَه، فَهُمْ أَسْعَدُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا: فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَثْنِي الشَّكَّ فِي أَصْلِ إِيمَانِه مُنِعَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ}
__________
(1) سورة الْفَتْحِ آية 27
(2) في المطبوعة «ففيه نظر» . وإقحام «ففيه» غير مستقيم في سياق الجملة
(3) سورة المدثر آية 25(1/339)
{زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَثْنَى وَأَرَادَ عَدَمَ عِلْمِه بِالْعَاقِبَة، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَثْنَى تَعْلِيقًا لِلْأَمْرِ بِمَشِيئَة اللَّهِ، لَا شَكًّا فِي إِيمَانِه. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْقُوَّة كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ: "وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ".
يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعَطِّلَة وَالْمُعْتَزِلَة وَالرَّافِضَة، الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ قِسْمَانِ: مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ، فَالْمُتَوَاتِرُ - وَإِنْ كَانَ قَطْعِي السَّنَدِ - لَكِنَّه غَيْرُ قَطْعِي الدِّلَالَة، فَإِنَّ الْأَدِلَّة اللَّفْظِيَّة لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ! ! وَلِهَذَا قَدَحُوا فِي دِلَالَة الْقُرْآنِ عَلَى الصِّفَاتِ! قَالُوا: وَالْآحَادُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا مِنْ جِهَة طَرِيقِهَا، وَلَا مِنْ جِهَة مَتْنِهَا! فَسَدُّوا عَلَى الْقُلُوبِ مَعْرِفَة الرَّبِّ تَعَالَى وَأَسْمَائِه وَصِفَاتِه وَأَفْعَالِه مِنْ جِهَة الرَّسُولِ، وَأَحَالُوا النَّاسَ عَلَى قَضَايَا وَهْمِيَّة، وَمُقَدِّمَاتٍ خَيَالِيَّة، سَمَّوْهَا قَوَاطِعَ عَقْلِيَّة، وَبَرَاهِينَ يَقِينِيَّة! ! وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (3) .
__________
(1) سورة الْأَنْفَالِ آية 2 - 4
(2) سورة الْحُجُرَاتِ آية 15
(3) سورة النُّورِ الآيتان 39 - 40(1/340)
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا عَلَى نُصُوصِ الْوَحْي، وَعَزَلُوا لِأَجْلِهَا النُّصُوصَ، فَأَقْفَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِالنُّصُوصِ، وَلَمْ يَظْفَرُوا بِالْعُقُولِ الصَّحِيحَة الْمُؤَيَّدَة بِالْفِطْرَة السَّلِيمَة وَالنُّصُوصِ النَّبَوِيَّة. وَلَوْ حَكَّمُوا نُصُوصَ الْوَحْي لَفَازُوا بِالْمَعْقُولِ الصَّحِيحِ، الْمُوَافِقِ لِلْفِطْرَة السَّلِيمَة.
بَلْ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَرْبَابِ الْبِدَعِ يَعْرِضُ النُّصُوصَ عَلَى بِدْعَتِه، وَمَا ظَنَّه مَعْقُولًا: فَمَا وَافَقَه قَالَ: إِنَّهُ مُحْكَمٌ، وَقَبِلَهُ وَاحْتَجَّ بِهِ! ! وَمَا خَالَفَه قَالَ: إِنَّهُ مُتَشَابِه، ثُمَّ رَدَّه، وَسَمَّى رَدَّه تَفْوِيضًا (1) !! أَوْ حَرَّفَه، وَسَمَّى تَحْرِيفَه تَأْوِيلًا! ! فَلِذَلِكَ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَطَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنْ لَا يَعْدِلُوا عَنِ النَّصِّ الصَّحِيحِ، وَلَا يُعَارِضُوه بِمَعْقُولٍ، وَلَا قَوْلِ فُلَانٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَمِعْتُ الْحُمَيْدِي يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَتَاه رَجُلٌ فَسَأَلَه عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رجُلُ لِلشَّافِعِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ ! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَرَانِي فِي كَنِيسَة! تَرَانِي فِي بِيعَة! تَرَى على وَسَطِي زُنَّار؟ ! أَقُولُ لَكَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟!
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) .
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْه الْأُمَّة بِالْقَبُولِ، عَمَلًا بِهِ وَتَصْدِيقًا لَهُ - يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِي عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّة، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَي الْمُتَوَاتِرِ. وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّة في
__________
(1) في المطبوعة «تعويضا» ! وهو تحريف
(2) سورة الْأَحْزَابِ آية 36(1/341)
ذَلِكَ نِزَاعٌ، كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِه» وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» ، وَكَقَوْلِه: «يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَهُوَ نَظِيرُ خَبَرِ الَّذِي أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِبْلَة تَحَوَّلَتْ إِلَى الْكَعْبَة. فَاسْتَدَارُوا إِلَيْهَا.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ رُسُلَه آحَادًا، وَيُرْسِلُ كُتُبَه مَعَ الْآحَادِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ لَا نَقْبَلُه لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (1) فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه عَلَى خَلْقِه، لِئَلَّا [تَبْطُلَ] (2) حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه.
وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِه وَبَعْدَ وَفَاتِه، وَبَيَّنَ حَالَه لِلنَّاسِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ في [الْسحْرِ] (3) أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ، لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ كَذَّابٌ.
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا لَا يَنَالُه أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِه مُشْتَغِلًا بِالْحَدِيثِ، وَالْبَحْثِ عَنْ سِيرَة الرُّوَاة، لِيَقِفَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَشِدَّة حَذَرِهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالزَّلَلِ، وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قُتِلُوا لَمْ يُسَامِحُوا أَحَدًا فِي كَلِمَة يَتَقَوَّلُهَا على رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَا فَعَلُوا هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ. وَقَدْ نَقَلُوا هَذَا الدِّينَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ تركُ الْإِسْلَامِ (4) وَعِصَابَة الْإِيمَانِ،
__________
(1) سورة التَّوْبَة آية 33
(2) في الأصل: (يبطل) . والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ، وكما في مختصر الصواعق المرسلة 2 / 378. ن
(3) في الأصل: (البحر) . ولعل الصواب ما أثبتناه من بعض النسخ. ن
(4) «ترك» بضم التاء المثناة والراء: جمع «تريكة» بفتح التاء وكسر الراء، وهي بيضة الحديد للرأس. يريد أنهم دروع الإسلام وحفظته. وفي المطبوعة «بزك» ! وهو تحريف لا معنى له. ويمكن أن تقرأ «بزل» بضم الباء الموحدة والزاي وآخرها لام. وهو جمع «بازل» ، وأصله وصف للبعير إذا بزل نابه، أي طلع، وهو أقصى أسنان البعير. قال في اللسان: «وقد قالوا: رجل بازل، على التشبيه بالبعير. وربما قالوا ذلك يعنون به كماله في عقله تجربته. وفي حديث علي * بازل عامين حديث سني * يقول: أنا مستجمع الشباب، مستكمل القوة» . وليس بيدنا أصل مخطوط للشرح، حتى نستطيع أن نجزم أي اللفظين أرجح.(1/342)
وَهُمْ نُقَّادُ الْأَخْبَارِ، وَصَيَارِفَة الْأَحَادِيثِ. فَإِذَا وَقَفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ، وَعَرَفَ حَالَهُمْ، وَخَبَرَ صِدْقَهُمْ وَوَرَعَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ - ظَهَرَ لَهُ الْعِلْمُ فِيمَا نَقَلُوه وَرَوَوْه.
وَمِنْ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَة يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ لَهُمْ [مِنَ] الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ وَسِيرَتِه وَأَخْبَارِه، مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ شُعُورٌ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُمْ أَوْ مَظْنُونًا. كَمَا أَنَّ النُّحَاة عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ سِيبَوَيْه وَالْخَلِيلِ وَأَقْوَالِهِمَا مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ مِنْ كَلَامِ بُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكُلُّ ذِي صَنْعَة هُوَ أَخْبَرُ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ سَأَلْتَ الْبَقَّالَ عَنْ أَمْرِ الْعِطْرِ، أَوِ الْعَطَّارَ عَنِ الْبَزِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ! ! لَعُدَّ ذَلِكَ جَهْلًا كَثِيرًا.
وَلَكِنَّ النُّفَاة قَدْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) - مُسْتَنَدًا لَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة، فَكُلَّمَا جَاءَهُمْ حَدِيثٌ يُخَالِفُ قَوَاعِدَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَمَا وَضَعَتْه خَوَاطِرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ - رَدُّوه بِـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) ، [تَلْبِيسًا مِنْهُمْ وَتَدْلِيسًا] (3) عَلَى مَنْ هُوَ أَعْمَى قَلْبًا مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفًا لِمَعْنَى الْآي عَنْ مَوَاضِعِه.
فَفَهِمُوا مِنْ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا لَمْ يُرِدْه اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا فَهِمَه أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّة الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ يَقْتَضِي إِثْبَاتُهَا التَّمْثِيلَ بِمَا لِلْمَخْلُوقِينَ! ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ بِـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4) تَحْرِيفًا لِلنَّصَّيْنِ!! وَيُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ،
__________
(1) سورة الشُّورَى آية 11
(2) سورة الشُّورَى آية 11
(3) في الأصل: (تلبسا منهم وتلبيسا) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) سورة الشُّورَى آية 11(1/343)
وَيَقُولُونَ: هَذَا أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَجَاءَ مِنْ عِنْدِه، وَيَقْرَءُونَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَيُفَوِّضُونَ مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ لِمَعْنَاه الَّذِي بَيَّنَه الرَّسُولُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادَه اللَّهُ.
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَلَى هذه الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَقَصَّ علينا ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِمْ، لِنَعْتَبِرَ وَنَنْزَجِرَ عَنْ مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (2) . وَالْأَمَانِي: التِّلَاوَة الْمُجَرَّدَة، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (3) . فَذَمَّهُمْ عَلَى نِسْبَة مَا كَتَبُوه إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى اكْتِسَابِهِمْ بِذَلِكَ، فَكِلَا الْوَصْفَيْنِ ذَمِيمٌ: أَنْ يَنْسِبَ إِلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِه، وَأَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا مَالًا أَوْ رِيَاسَة.
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ، فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، بِمَنِّه وَكَرَمِه.
وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ"إِلَى أَنَّ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ: شَرْعٌ ابْتِدَائِي، وَبَيَانٌ لِمَا شَرَعَه اللَّهُ فِي كِتَابِه الْعَزِيزِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ.
وَقَوْلُهُ: "وَأَهْلُه فِي أَصْلِه سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِيقَة وَمُخَالَفَة الْهَوَى، وَمُلَازِمَة الْأَوْلَى". وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: "بِالْخَشْيَة وَالتُّقَى"بَدَلَ قَوْلِهِ: "بِالْحَقِيقَة". فَفِي الْعِبَارَة الْأُولَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ مُشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ التَّصْدِيقِ، وَلَكِنَّ التَّصْدِيقَ يَكُونُ بَعْضُه أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُه بِقُوَّة الْبَصَرِ
__________
(1) سورة الْبَقَرَة آية 75
(2) سورة الْبَقَرَة آية 78
(3) سورة الْبَقَرَة آية 79(1/344)
وَضَعْفِه. وَفِي الْعِبَارَة الْأُخْرَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَمَّا التَّصْدِيقُ فَلَا تَفَاوُتَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ قُوَّة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (1) ، الآية. الْوَلِي: مِنَ"الْوِلَايَة"بِفَتْحِ الْوَاوِ، الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعَدَاوَة. وَقَدْ قَرَأَ حَمْزَة: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (2) بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ النُّصْرَة، وَبِالْكَسْرِ: الْإِمَارَة. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَازَ الْكَسْرُ؛ لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَة وَالْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مَكْسُورٌ، مِثْلُ: "الْخِيَاطَة"وَنَحْوِهَا.
فَالْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (3) ، الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (4) . وَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ] (5) الآية (6) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (7) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}
__________
(1) سورة يُونُسَ الآيتان 62، 63
(2) سورة الْأَنْفَالِ آية 72
(3) سورة الْبَقَرَة آية 257
(4) سورة مُحَمَّدٍ آية 11
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من النسخ الأخرى، حيث لا يستقيم الكلام إلا به. ن
(6) سورة التَّوْبَة آية 71
(7) سورة الْأَنْفَالِ آية 72(1/345)
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (1) .
فَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا ثَبَتَ فِيهَا مُوَالَاة الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّهُمْ وَمَوْلَاهُمْ. فَاللَّهُ يَتَوَلَّى عِبَادَه الْمُؤْمِنِينَ، فَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه، وَيَرْضَى عَنْهُمْ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ، وَمَنْ عَادَى لَهُ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَه بِالْمُحَارَبَة. وَهَذِهِ الْوِلَايَة مِنْ رَحْمَتِه وَإِحْسَانِه، لَيْسَتْ كَوِلَايَة الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ لِحَاجَتِه إِلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (2) . فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ وَلِي مِنَ الذُّلِّ، بَلْ لِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا، خِلَافَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَوَلَّاه لِذُلِّه وَحَاجَتِه إِلَى وَلِي يَنْصُرُه.
وَالْوِلَايَة مَعْنَاهَا أَيْضًا نَظِيرُ الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ مُرَادُ الشَّيْخِ: أَنَّ أَهْلَهَا فِي أَصْلِهَا سَوَاءٌ، وَتَكُونُ كَامِلَة وَنَاقِصَة: فَالْكَامِلَة تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (3) ، فَـ"الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ"- مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَة"أَوْلِيَاءِ اللَّهِ"، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ بِإِضْمَارِ [أَمْدَحُ] (4) ، أَوْ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ"هُمْ"، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِـ"إِنَّ"، وَأُجِيزَ فِيهِ الْجَرُّ، بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ"عَلَيْهِمْ". وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوه كُلِّهَا فَالْوِلَايَة لِمَنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. وَهِيَ عِبَارَة عَنْ مُوَافَقَة الْوَلِي الْحَمِيدِ فِي مَحَابِّه وَمَسَاخِطِه، لَيْسَتْ بِكَثْرَة صَوْمٍ وَلَا صلاة، وَلَا تَمَلقٍ وَلَا رِيَاضَة. وَقِيلَ: "الَّذِينَ آمَنُوا"مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ"لَهُمُ الْبُشْرَى"، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِقَطْعِ الْجُمْلَة [عَمَّا] (5) قَبْلَهَا، وَانْتِثَارِ نَظْمِ الآية.
__________
(1) سورة الْمَائِدَة الآيتان 55، 56
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية 111
(3) سورة يُونُسَ الآيات 62 - 64
(4) في الأصل: (مدح) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(5) في الأصل: (مما) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/346)
وَتجْتَمِعُ فِي الْمُؤْمِنِ وِلَايَة مِنْ وَجْه، وَعَدَاوَة مِنْ وَجْه، كَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ، وَشِرْكٌ وَتَوْحِيدٌ، وَتَقْوَى وَفُجُورٌ، وَنِفَاقٌ وَإِيمَانٌ. وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْأَصْلِ نِزَاعٌ لَفْظِي بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنِزَاعٌ مَعْنَوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ. وَلَكِنَّ مُوَافَقَة الشَّارِعِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى - أَوْلَى مِنْ مُوَافَقَتِه فِي الْمَعْنَى وَحْدَه، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (2) ، الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصلة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصلة مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، [وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ] (3) ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ، وَفِي رِوَايَة: «وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» ، بَدَلَ: «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» . أَخْرَجَاه فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَحَدِيثُ"شُعَبِ الْإِيمَانِ"تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّة مِنْ إِيمَانٍ» .
فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ النِّفَاقِ، فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ.
فَالطَّاعَاتُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْمَعَاصِي مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ شُعَبِ الْكُفْرِ الْجحودَ، وَرَأْسُ شُعَبِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ جَمَاعَة اجْتَمَعَتْ إِلَّا وَفِيهِمْ وَلِي لِلَّهِ، لَا هُمْ يَدْرُونَ بِهِ، وَلَا هُوَ يَدْرِي بِنَفْسِه» -: فَلَا
__________
(1) سورة يُوسُفَ آية 106
(2) سورة الْحُجُرَاتِ آية 14
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. واستدركناه من صحيح مسلم (1 / 78)(1/347)
أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْجَمَاعَة قَدْ يَكُونُونَ كُفَّارًا، وَقَدْ يَكُونُونَ فُسَّاقًا يَمُوتُونَ عَلَى الْفِسْقِ (1) .
وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْكَامِلُونَ فَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) ، الآية.
وَالتَّقْوَى هِيَ الْمَذْكُورَة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (3) ، إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (4) .
وَهُمْ قِسْمَانِ: مُقْتَصِدُونَ، وَمُقَرَّبُونَ. فَالْمُقْتَصِدُونَ: الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ. وَالسَّابِقُونَ: الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَقُولُ الله تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَة، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَي عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَي بِالنَّوَافِلِ، حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَه الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَه الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَه الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّه، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّه، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَه الْمَوْتَ وَأَكْرَه مَسَاءَتَه» (5) .
__________
(1) كلام الشارح هذا نقله ملا علي القاري في (الموضوعات ص 62 طبعة الهند) ، بشيء من الاختصار، ونسبه لبعضهم دون تعيين القائل. ونقله العجلوني في كشف الخفا (2: 194) عن القاري
(2) سورة يُونُسَ الآيات 62 - 64
(3) سورة البقرة آية 177
(4) سورة الْبَقَرَة آية 177
(5) هذا الحديث في صحيح البخاري 11: 292- 297 (من الفتح) . وقد أفاض الحافظ في شرحه وتخريج ما ورد في معناه. وصرح الحافظ بأنه ليس في مسند أحمد. وبين اللفظ الذي هنا ولفظ البخاري - اختلاف في أحرف يسيرة، لا تغير المعنى. فلم أغيرها، لعل الشارح يروي الصحيح من رواية أخرى غير ما بين أيدينا(1/348)
وَالْوَلِي: خِلَافُ الْعَدُوِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَاءِ، وَهُوَ الدُّنُوُّ وَالتَّقَرُّبُ، فَوَلِي اللَّهِ: هُوَ مَنْ وَالَى اللَّهَ بِمُوَافَقَتِه مَحْبُوبَاتِه، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَرْضَاتِه، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (1) . قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِهَذِه الْآيَةِ لَكَفَتْهُمْ» (2) . فَالْمُتَّقُونَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، فَيَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَضَارَّ، وَيَجْلِبُ لَهُمُ الْمَنَافِعَ، وَيُعْطِيهِمُ اللَّهُ أَشْيَاءَ يَطُولُ شَرْحُهَا، مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ الله أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ) .
ش: أَراد أَكْرَمُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْأَطْوَعُ لِلَّهِ، وَالْأَتْبَعُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ الْأَتْقَى، وَالْأَتْقَى هُوَ الْأَكْرَمُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3) . وَفِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِي عَلَى عَجَمِي، وَلَا لِعَجَمِي عَلَى عَرَبِي، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» . وَبِهَذَا الدَّلِيلِ يَظْهَرُ ضَعْفُ تَنَازُعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِي الشَّاكِرِ، وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ، فَالْمَسْأَلَة فَاسِدَة فِي نَفْسِهَا. فَإِنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى. وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَطِيَّتَانِ، لَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ. وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي}
__________
(1) سورة الطَّلَاقِ الآيتان 2، 3
(2) رواه بنحوه الإمام أحمد، مطولا، كما في تفسير ابن كثير 8: 388
(3) سورة الْحُجُرَاتِ آية 13(1/349)
{أَكْرَمَنِي} (1) . الآية فَإِنِ اسْتَوَيا - الْفَقِيرُ الصَّابِرُ وَالْغَنِي الشَّاكِرُ - فِي التَّقْوَى، اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَة، وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا فِيهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى لَا يُوزَنَانِ، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ مِنْ وَجْه آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ. وَإِنَّمَا أَخَذَ النَّاسُ فَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ وَفَرْعًا مِنَ الشُّكْرِ، وَأَخَذُوا فِي التَّرْجِيحِ، فَجَرَّدُوا غَنِيًّا مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا بَاذِلًا مَالَه فِي وُجُوبِ الْقُرْبِ شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَفَقِيرًا مُتَفَرِّغًا لِطَاعَة اللَّهِ وَلِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ صَابِرًا عَلَى فَقْرِه. وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا وَأَتْبَعُهُمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ولَوْ صَحَّ التَّجْرِيدُ، لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ، مُعَافًى شَاكِرٌ أَوْ مَرِيضٌ صَابِرٌ. أوَ مُطَاعٌ شَاكِرٌ أَوْ مُهَانٌ صَابِرٌ. أَوْ آمِنٌ شَاكِرٌ أَوْ خَائِفٌ صَابِرٌ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِه، وَكُتُبِه، وَرُسُلِه، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ، خَيْرِه وَشَرِّه، وَحُلْوِه وَمُرِّه، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) .
ش: تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ هِيَ أُصُولُ الدِّينِ، وَبِهَا أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِه، حِينَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَة رَجُلٍ أَعْرَابِي، وَسَأَلَه عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاة، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.» وَسَأَلَه عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِه، وَكُتُبِه، وَرُسُلِه، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، خَيْرِه وَشَرِّه.» وَسَأَلَه عَنِ الْإِحْسَانِ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاه، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاه فَإِنَّهُ يَرَاكَ.» وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ (2) في الصَّحِيحِ عنه صلى الله عليه
__________
(1) سورة الْفَجْرِ آية 15
(2) في المطبوعة «ذلك» ، وهو خطأ(1/350)
وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ تَارَة بِسُورَتَي الْإِخْلَاصِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وَتَارَة بِآيَتَي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ: الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (1) ، الآية، وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (2) ، الآية. [وَ] فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِه، حَيْثُ قَالَ لَهُمْ: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَه، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَه؟ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاة، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ» .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إِيمَانًا بِاللَّهِ بِدُونِ إِيمَانِ الْقَلْبِ، لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانِ الْقَلْبِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إِيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا.
وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إِلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، فَإِنَّ تِلْكَ إِنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ، وَالْإِيمَانُ بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) ، الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (4) ، الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) ، فنَفْي الْإِيمَانِ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَة - دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَة فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ تَرَكَهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ [و] لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ، الَّذِي وُعِدَ أَهْلُه
__________
(1) سورة الْبَقَرَة آية 136
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 64
(3) سورة الْأَنْفَالِ آية 2
(4) سورة الْحُجُرَاتِ آية 15
(5) سورة النِّسَاءِ آية 65(1/351)
بِدُخُولِ الْجَنَّة بِلَا عَذَابٍ. وَلَا يُقَالُ إِنَّ بَيْنَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ في حَدِيثِ جبْرائيلَ وَتَفْسِيرِه إِيَّاه فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مُعَارَضَة؛ لأنه فَسَّرَ الْإِيمَانِ في حَدِيثِ جبْرِائيلَ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي تَفْسِيرِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيمَانِ الَّذِي قَدَّمَ تَفْسِيرَه قَبْلَ ذِكْرِهِ. بِخِلَافِ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، لِأَنَّهُ فَسَّرَه ابْتِدَاءً، لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ تَفْسِيرُ الْإِسْلَامِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ، فَحَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مُشْكِلٌ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَه اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة أَكْثَرَ مِنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ الَّتِي أَجَابَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ في حَدِيثِ جبْرِائيلَ الْمَذْكُورِ، فَلِمَ قَالَ إِنَّ الْإِسْلَامَ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ؟ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا، وَبِقِيَامِه بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُه، وَتَرْكُه لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ [قَيْدِ] (1) انْقِيَادِه.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّه مُطْلَقًا، الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ [عِبَادَة مَحْضَة] (2) عَلَى الْأَعْيَانِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِيَعْبُدَ اللَّهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَابٍ وَمَصَالِحَ، فَلَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا جَمِيعُ النَّاسِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَة، كَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَارَة، وَحُكْمٍ، وَفُتْيَا، وَإِقْرَاءٍ، وَتَحْدِيثٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. [وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ] (3) بِسَبَبِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، فَيَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ له وعليه، وَقَدْ يَسْقُطُ
__________
(1) سقطت من الأصل، وأثبتت من سائر النسخ. ن
(2) في الأصل: (على عباده محضه) . والتصويب من الفتاوى 7 / 314. ن
(3) في الأصل: (وأما ما يجب) ، والتصويب من الفتاوى 7 / 314. ن(1/352)
بِإِسْقَاطِه، مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ وَالْغصُوبِ، وَالْإِنْصَافِ مِنَ الْمَظَالِمِ، مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجَة وَالْأَوْلَادِ، وَصِلَة الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَيْدٍ غَيْرُ الْوَاجِبِ عَلَى عَمْرٍو. بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاة، فَإِنَّ الزَّكَاة وَإِنْ كَانَتْ [حَقًّا] (1) مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَة لِلَّهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَة مَصَارِفُهَا، وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّة، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عنه بِلَا إِذْنِه، وَلَمْ تُطْلَبْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّة، وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِه بَرِئَتْ ذِمَّتُه، وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ. وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَاتِ، هُوَ بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَة، وَلِهَذَا كَانَ التَّكْلِيفُ شَرْطًا فِي الزَّكَاة، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ أَبِي حنيفة وَأَصْحَابِه رَحِمَهُمُ الله تعالى، لما عُرِفَ فِي مَوْضِعِه.
وَقَوْلُهُ"وَالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَحُلْوِه وَمُرِّه، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى"- تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وَسَلَّمَ في حَدِيثِ جبْرائيلَ: "وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه"، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (2) . وَقَالَ تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3) ، الآية.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وجه الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: "كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "فَمِنْ نَفْسِكَ"؟، قِيلَ: قَوْلُهُ"كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ": الْخِصْبُ وَالْجَدْبُ، وَالنَّصْرُ وَالْهَزِيمَة، كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ"فَمِنْ نَفْسِكَ": أَيْ: مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة مِنَ اللَّهِ فَبِذَنْبِ نَفْسِكَ عُقُوبَة لَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ}
__________
(1) سقطت من الأصل. وأثبتناها من الفتاوى 7 / 315. ن
(2) سورة التَّوْبَة آية 51
(3) سورة النِّسَاءِ الآيتان 78 - 79(1/353)
{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَرَأَ: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيْكَ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَة هُنَا النِّعْمَة، وَبِالسَّيِّئَة الْبَلِيَّة، فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قِيلَ: الْحَسَنَة الطَّاعَة، وَالسَّيِّئَة الْمَعْصِيَة. [وَ] قِيلَ: الْحَسَنَة مَا أَصَابَه يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَة مَا أَصَابَه يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي لَيْسَ مُرَادًا دُونَ الْأَوَّلِ قَطْعًا، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاة بَيْنَ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَة الْعَمَلِ وَسَيِّئَة الْجَزَاءِ مِنْ نَفْسِه، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَة الثَّانِيَة قَدْ تَكُونُ عُقُوبَة الْأُولَى، فَتَكُونُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْجَزَاءِ، مَعَ أَنَّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَة الثَّانِيَة قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَوَابِ الْأُولَى، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّة أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ نَفْسِكَ} ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ فَعَلَ الْعَبْدُ - حَسَنَة كَانَ أَوْ سَيِّئَة - فَهُوَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ! وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، فَجَعَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} ، مِثْلُ قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} و {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} .
وَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَبَيْنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ، فَجَعَلَ هَذِهِ مِنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَة مُضَافَة إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ أَحْسَنَ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْه، فَمَا مِنْ وَجْه مِنْ أَوْجُهِهَا إِلَّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِضَافَة إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَة، فَهُوَ إِنَّمَا يَخْلُقُهَا لِحِكْمَة، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَة مِنْ إِحْسَانِه، فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ سَيِّئَة قَطُّ، بَلْ فِعْلُه كُلُّهُ حَسَنٌ وَخَيْرٌ.
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ في الِاسْتِفْتَاحِ: «وَالْخَيْرُ كله
__________
(1) سورة الشُّورَى آية 30(1/354)
بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» . أَيْ: فَإِنَّكَ لَا تَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ كُلُّ مَا تَخْلُقُه فَفِيهِ حِكْمَة، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَهَذَا شَرٌّ جُزْئِي إِضَافِي، فَأَمَّا شَرٌّ كُلِّي، أَوْ شَرٌّ مُطْلَقٌ - فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّه عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَيْسَ إِلَيْهِ.
وَلِهَذَا لَا يُضَافُ الشَّرُّ إِلَيْهِ مُفْرَدًا قَطُّ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (2) ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، كَقَوْلِه: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (3) وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُه، كَقَوْلِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (4) .
وَلَيْسَ إِذَا خَلَقَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ بَعْضُ الْحَيَوَانِ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَة، بَلْ لِلَّهِ مِنَ الرَّحْمَة وَالْحِكْمَة مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَه إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ شَرٌّ جُزْئِي بِالْإِضَافَة - يَكُونُ شَرًّا كُلِّيًّا عَامًّا، بَلِ الْأُمُورُ الْعَامَّة الْكُلِّيَّة لَا تَكُونُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ مَصْلَحَة لِلْعِبَادِ، كَالْمَطَرِ الْعَامِّ، وَكَإِرْسَالِه رَسُولا عَامٍّا.
وَهَذَا مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَيِّدَ كَذَّابًا عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الصَّادِقِينَ، فَإِنَّ هَذَا شَرٌّ عَامٌّ لِلنَّاسِ، يُضِلُّهُمْ، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ وَالْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِه، وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَة وَاحِدَة بِلَا إِمَامٍ، وَإِذَا قُدِّرَ كَثْرَة ظُلْمِه، فَذَاكَ خَيْرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ، تَكُونُ كَفَّارَة لِذُنُوبِهِمْ، وَيُثَابُونَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَه وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَدُوان. وَلِهَذَا قَدْ يُمَكِّنُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّة، وَأَمَّا الْمُتَنَبِّئُونَ الْكَذَّابُونَ فَلَا يُطِيلُ تَمْكِينَهُمْ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ
__________
(1) سورة الزُّمَرِ آية 62
(2) سورة النِّسَاءِ آية 78
(3) سورة الْفَلَقِ آية 2
(4) سورة الْجِنِّ آية 10(1/355)
يُهْلِكَهُمْ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُمْ عَامٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (1) .
وَفِي قَوْلِهِ: {فَمِنْ نَفْسِكَ} - مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَى نَفْسِه وَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّرَّ كَامِنٌ فِيهَا، لَا يَجِيءُ إِلَّا مِنْهَا، وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ إِذَا أَسَاءُوا إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَصَابَتْه، وَهِيَ إِنَّمَا أَصَابَتْه بِذُنُوبِه، فَيَرْجِعُ إِلَى الذُّنُوبِ، وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِه وَسَيِّئَاتِ عَمَلِه، وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَه عَلَى طَاعَتِه. فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ كُلُّ خَيْرٍ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ كُلُّ شَرٍّ.
وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُه وَأَحْكَمُه دُعَاءَ الْفَاتِحَة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) . فَإِنَّهُ إِذَا هَدَاه هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَه عَلَى طَاعَتِه وَتَرْكِ مَعْصِيَتِه، فَلَمْ يُصِبْه شَرٌّ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة.
لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ لَوَازِمُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَة، وَهُوَ إِلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. لَيْسَ كَمَا يَقُولُه بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ قَدْ هَدَاه! فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟ ! وَأنَّ الْمُرَادَ التَّثْبِيتُ، أَوْ مَزِيدُ الْهِدَايَة! بَلِ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَه اللَّهُ مَا يَفْعَلُه مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِه، وَإِلَى مَا يَتْرُكُه مِنْ تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ، فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِلَى أَنْ يُلْهِمَه أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ عِلْمِه إِنْ لَمْ يَجْعَلْه مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِمَا يَعْلَمُه، وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ حُجَّة عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا. وَ [الْعَبْدُ] (3) مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَجْعَلَه [اللَّهُ] (4) قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَة الصَّالِحَة، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ لَنَا مِنَ الْحَقِّ أَضْعَافُ الْمَعْلُومِ، وَمَا
__________
(1) سورة الْحَاقَّة الآيات 44 - 46
(2) سورة الفاتحة الآيتان 6 - 7
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من: «الحسنة والسيئة» ص 84. ن
(4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من: «الحسنة والسيئة» ص 84. ن(1/356)
لَا نُرِيدُ فِعْلَه تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مِثْلُ مَا نُرِيدُه أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونَه، وَمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا نُرِيدُه كَذَلِكَ، وَمَا نَعْرِفُ جُمْلَتَه وَلَا نَهْتَدِي لِتَفَاصِيلِه فَأَمْرٌ يَفُوتُ الْحَصْرَ. وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْهِدَايَة التَّامَّة، فَمَنْ كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ سُؤَالُه سُؤَالَ تَثْبِيتٍ، وَهِيَ آخِرُ الرُّتَبِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ هِدَايَة أُخْرَى، وَهِيَ الْهِدَايَة إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّة فِي الْآخِرَة. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، لِفَرْطِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ. فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِ رَحْمَتِه جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَة لِلْخَيْرِ، الْمَانِعَة مِنَ الشَّرِّ، فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنَ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُشْكَرَ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَه الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِه، وَأَن لا يَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ وَحْدَه، فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ. فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَوْحِيدَه، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَحْدَه، وَالشُّكْرَ لَهُ وَحْدَه، وَالِاسْتِغْفَارَ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُهَا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَه مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ» . فَهَذَا حَمْدٌ، وَهُوَ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ أَنَّ حَمْدَه أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: «لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» .
وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِوَحْدَانِيَّتِه، لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّة، خَلْقًا وَقَدَرًا، وَبِدَايَة وَنِهَايَة، هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعَ، [وَلِتَوْحِيدِ] (1) الْإِلَهِيَّة،
__________
(1) في الأصل: (وتوحيده) . والصواب ما أثبتناه، كما في سائر النسخ. ن(1/357)
شَرْعًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا، [وَهو أنَّ] (1) الْعِبَادَ وَإِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ جَدًّا: مُلْكًا وَعَظَمَة وَبَخْتًا وَرِيَاسَة، فِي الظَّاهِرِ، أَوْ فِي الْبَاطِنِ، كَأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَة - فَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، أَيْ لَا يُنْجِيه وَلَا يُخَلِّصُه، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَنْفَعُه مِنْكَ، وَلَمْ يَقُلْ وَلَا يَنْفَعُه عِنْدَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ أَوْهَمَ أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ، لَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّه.
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ تَحْقِيقَ التَّوْحِيدِ، أو تَحْقِيقَ قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَة اللَّهِ وَتَيْسِيرِه - لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُرْجَى إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُسْأَلُ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُسْتَغَاثُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا هُوَ، فَلَهُ الْحَمْدُ، وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِهِ الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّة إِلَّا بالله. فَكَيْفَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِمَطْلُوبٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ انْضِمَامِ أَسْبَابٍ أُخَرَ إِلَيْهِ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارِضَاتِ عَنْهُ، حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، فَكُلُّ سَبَبٍ فَلَهُ شَرِيكٌ، وَلَهُ ضِدٌّ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِنْه شَرِيكُه، وَلَمْ يَنْصَرِفْ عَنْهُ ضِدُّه - لَمْ تَحْصُلْ مَشِيئَة.
وَالْمَطَرُ وَحْدَه لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ إِلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مِنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ الزَّرْعُ لَا يَتِمُّ حَتَّى تُصْرَفَ عَنْهُ الْآفَاتُ الْمُفْسِدَة لَهُ، وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَا يُغَذِّي إِلَّا بِمَا جُعِلَ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِنْ لَمْ تُصْرَفْ عَنْهُ الْمُفَسِدَاتُ.
وَالْمَخْلُوقُ الَّذِي يُعْطِيكَ أَوْ يَنْصُرُكَ، فَهُوَ - مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِيهِ الْإِرَادَة وَالْقُوَّة وَالْفِعْلَ -: فَلَا يَتِمُّ مَا يَفْعَلُه إِلَّا بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، خَارِجَة عَنْ قُدْرَتِه، تُعَاوِنُه عَلَى مَطْلُوبِه، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصْرَفَ عَنِ الْأَسْبَابِ
__________
(1) في الأصل: (وإن..) ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في أكثر النسخ. ن(1/358)
الْمُتَعَاوِنَة مَا يُعَارِضُهَا وَيُمَانِعُهَا، فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إِلَّا بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الْمَانِعِ.
وَكُلُّ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْمُقْتَضِي، فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ مُقْتَضٍ تَامٌّ، وَإِنْ سُمِّي مُقْتَضِيًا، وَسُمِّي سَائِرُ مَا يُعِينُه شُرُوطًا - فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِي. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ عِلَّة تَامَّة تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا فَهَذَا بَاطِلٌ.
وَمَنْ عَرَفَ هَذَا حَقَّ الْمَعْرِفَة انْفَتَحَ لَهُ بَابُ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْأَلَ غَيْرُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، وَلَا يُتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ) .
ش: الْإِشَارَة بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ تَفْصِيلًا، وَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه، إِلَى آخِرِ كَلَامِه - أَيْ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرَ بِبَعْضٍ، بَلْ نُؤْمِنُ بِهِمْ وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ، فَإِنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، كَافِرٌ بِالْكُلِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (1) . فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِه آمَنَ بِمَنْ آمَنَ [به] مِنْهُمْ - مَوْجُودٌ في الذي لَمْ يُؤْمِنْوا بِهِ، وَذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي آمَنَ بِهِ قَدْ جَاءَ بِتَصْدِيقِ بَقِيَّة الْمُرْسَلِينَ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِ الْمُرْسَلِينَ كَانَ كَافِرًا بِمَنْ فِي زَعْمِه أنه يُؤْمِنٌ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ قَدْ جَاءَ بِتَصْدِيقِ الْمُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ، فَكَانَ كَافِرًا حَقًّا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَكَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.
قَوْلُهُ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ. وَهُمْ فِي مَشِيئَتِه وَحُكْمِه، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِه، كَمَا ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِه، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِه وَشَفَاعَة الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِه، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِه. وَذَلِكَ بِأَنَّ الله تعالى مَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِه، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نَكَرَتِه، الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِه، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وِلَايَتِه. اللَّهُمَّ يَا وَلِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِه، ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ) .
ش: فَقَوْلُهُ وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ،
__________
(1) سورة النِّسَاءِ الآيتان 150 - 151
(2) سورة النِّسَاءِ آية 48(1/359)
إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ - رَدٌّ لِقَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَة، الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ. لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ بِتَكْفِيرِهِمْ، وَالْمُعْتَزِلَة بِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، لَا بِدُخُولِهِمْ فِي الْكُفْرِ، بَلْ لَهُمْ مَنْزِلَة بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّه".
وَقَوْلُهُ"وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ"- تَخْصِيصُه أُمَّة مُحَمَّدٍ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَسْخِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ بِهِ، حُكْمُهُمْ مُخَالِفٌ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ. وَفِي ذَاكَ نَظَرٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّة مِنْ إِيمَانٍ» . وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّتَه بِذَلِكَ. بَلْ ذَكَرَ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا. فَتَأَمَّلْه. وَلَيْسَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الْأُمَّة. وَقَوْلُهُ: "فِي النَّارِ"- مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: "لَا يُخَلَّدُونَ". وَإِنَّمَا قَدَّمَه لِأَجْلِ السَّجْعَة، لَا أَنْ يَكُونَ"في النَّارِ"خَبَر لِقَوْلِهِ"وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ"، كَمَا ظَنَّه بَعْضُ الشَّارِحِينَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكَبَائِرِ عَلَى أَقْوَالٍ:(1/360)
فَقِيلَ: سَبْعة.
وَقِيلَ: سَبْعَة عَشْرَ.
وَقِيلَ: مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِه.
وَقِيلَ: مَا يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ.
وَقِيلَ: ذَهَابُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ"كَبَائِرَ"بِالنِّسْبَة وَالْإِضَافَة إِلَى مَا دُونَهَا.
وَقِيلَ: لَا تُعْلَمُ أَصْلًا.
أَوْ: أَنَّهَا أُخْفِيَتْ كَلَيْلَة الْقَدْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ.
وَقِيلَ: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَة.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ أَوْ تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ، أَوِ اللَّعْنَة، أَوِ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَات السلف في تعريف الصغائر:
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَة مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَة. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يُخْتَمْ (1) بِلَعْنَة أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَة مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَة، وَالْمُرَادُ بِالْوَعِيدِ: الْوَعِيدُ الْخَاصُّ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَة أَوِ الْغَضَبُ، فَإِنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَة كَالْعُقُوبَة الْخَاصَّة فِي الدُّنْيَا، أَعْنِي الْمَقْدِرَة، فَالتَّعْزِيرُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرُ الْوَعِيدِ بِغَيْرِ النَّارِ أَوِ اللَّعْنَة أَوِ الْغَضَبِ. وَهَذَا الضَّابِطُ يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَة عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَة، كَالشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالسِّحْرِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَالْفِرَارِ مِنَ
__________
(1) في المطبوعة «ختم» ! وهو مناقض للمعنى المراد، إذ هو يعرف الصغيرة، وما ختم بذلك هو أحد تعريفات الكبيرة، كما تقدم، وكما هو بديهي(1/361)
الزَّحْفِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَشَهَادَة الزُّورِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَتَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوه:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُيَيْنَة، وَابْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) . فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعْدَ الْكَرِيمَ مَنْ أُوعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِه وَنَارِه، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُه مُكَفَّرَة عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُه إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ حَدٌّ مُتَلَقًّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ.
فَإِنَّ مَنْ قَالَ: سَبْعٌ، أَوْ سَبْعَ عَشْرَ، أَوْ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ - مُجَرَّدُ دَعْوَى. وَمَنْ قَالَ: مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِه دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ - يَقْتَضِي أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَالتَّزَوُّجَ بِبَعْضِ الْمَحَارِمِ، وَالْمُحَرَّمَ بِالرَّضَاعَة وَالصِّهْرِيَّة، وَنَحْوَ ذَلِكَ - لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَأَنَّ الْحَبَّة مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّرِقَة لَهَا، وَالْكِذْبَة الْوَاحِدَة الْخَفِيفَة، وَنَحْوَ ذَلِكَ - مِنَ الْكَبَائِرِ! وَهَذَا فَاسِدٌ. وَمَنْ قَالَ: مَا سَدَّ بَابَ الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ، أَوْ ذَهَابَ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ - يَقْتَضِي أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَة وَالدَّمِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ - لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَهَذَا فَاسِدٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَة إِلَى مَا دُونَهَا، أَوْ
__________
(1) سورة النِّسَاءِ آية 31(1/362)
كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَة - يَقْتَضِي أَنَّ الذُّنُوبَ فِي نَفْسِهَا لَا تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ!
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الدَّالَّة عَلَى تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا، أَوْ إِنَّهَا مُبْهَمَة - فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِه أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهَا غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ"وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ"-
لِأَنَّ التَّوْبَة لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ التَّائِبِ.
وَقَوْلُهُ: "بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى عَارِفِينَ"-
لَوْ قَالَ: "مُؤْمِنِينَ"بَدَلَ قَوْلِهِ"عَارِفِينَ"، كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِالْمَعْرِفَة وَحْدَهَا الْجَهْمُ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنّ إِبْلِيسَ عَارِفٌ بِرَبِّه، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (1) . {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (2) . وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَأَكْثَرُ الْكَافِرِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (3) . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (4) . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ الْمَعْرِفَة الْكَامِلَة الْمُسْتَلْزِمَة لِلِاهْتِدَاءِ، الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا أَهْلُ الطَّرِيقَة، وَحَاشَا أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، بَلْ هُمْ سَادَة النَّاسِ وَخَاصَّتُهُمْ.
وَقَوْلُهُ"وَهُمْ فِي مَشِيئَة اللَّهِ وَحُكْمِه، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِه"، إِلَى آخِرِ كَلَامِه -
فَصَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشِّرْكَ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعَلَّقَ غُفْرَانَ
__________
(1) سورة الْحِجْرِ آية 36
(2) سورة ص الآيتان 82 - 83
(3) سورة لُقْمَانَ آية 25
(4) سورة الْمُؤْمِنُونَ الآيتان 84 - 85(1/363)
مَا دُونَه بِالْمَشِيئَة، وَالْجَائِزُ يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَة دُونَ الْمُمْتَنِعِ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ سَوَاءً لَمَا كَانَ لِلتَّفْصِيلِ مَعْنًى. وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ هَذَا الْغُفْرَانَ بِالْمَشِيئَة، وَغُفْرَانُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ التَّوْبَة مَقْطُوعٌ بِهِ، غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَة هُوَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ سِوَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ قَبْلَ التَّوْبَة.
وَقَوْلُهُ "ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَى أَهْلِ مَعْرِفَتِه"-
فِيهِ مُؤَاخَذَة لَطِيفَة، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ يَا وَلِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِه مَسِّكْنَا بِالْإِسْلَامِ"وَفِي نُسْخَة"ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ"-
رَوَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِي فِي كِتَابِه الْفَارُوقِ، بِسَنَدِه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا وَلِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِه، مَسِّكْنِي بِالْإِسْلَامِ حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَيْهِ» . وَمُنَاسِبَة خَتْمِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ بِهَذَا الدُّعَاءِ ظَاهِرَة. وَبِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ دَعَا يُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2)
وبه دَعَا السَّحَرَة الَّذِينَ كَانُوا أَوَّلَ مَؤمن بِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، حَيْثُ قَالُوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (3) . وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَا بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ، وَلَا بِالْمَوْتِ الْآنَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ.
__________
(1) سورة الزُّمَرِ آية 53
(2) سورة يُوسُفَ آية 101
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 126(1/364)
قَوْلُهُ: (وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة، وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ) .
ش: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» ". رَوَاهُ مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَه الدَّارَقُطْنِي، قَالَ: مَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَفِي إِسْنَادِه مُعَاوِيَة بْنُ صَالِحٍ، مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه (1) . وَخَرَّجَ لَهُ الدَّارَقُطْنِي أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ وَاجِبَة عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ، بَرّا كان أَوْ فَاجِرا، وَإِنْ عَمِلَ بِالْكَبَائِرِ، وَالْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ، بَرا كان أَوْ فَاجِرا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ» (2) .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِي، وَكَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ فَاسِقًا ظَالِمًا.
وَفِي صَحِيحِه أَيْضًا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» .
__________
(1) الحديث رواه الدارقطني، ص: 185، مطولا. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 19، من طريق الدارقطني - من رواية ابن وهب: «حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة» . قال الدارقطني: «مكحول: لم يسمع من أبي هريرة. ومن دونه ثقات» . وقال البيهقي - بعد كلام الدارقطني: «قد روي في الصلاة على كل بر وفاجر، والصلاة على من قال لا إله إلا الله - أحاديث، كلها ضعيفة غاية الضعف. وأصح ما روي في هذا الباب حديث مكحول عن أبي هريرة. وقد أخرجه أبو داود في كتاب السنن، [يشير إلى الحديث الذي سيذكره الشارح عقب هذا] ، إلا أن فيه إرسالا، كما ذكره الدارقطني» . وقول الشارح هنا: «معاوية بن صالح متكلم فيه..» - قد حققنا في شرح المسند، في الحديث: 5724 أن الكلام فيه تعسف من غير حجة. وعلة هذا الحديث، والذي بعده، هي الانقطاع بين مكحول وأبي هريرة، كما قال الدارقطني والبيهقي
(2) الحديث رواه الدارقطني، ص 184، من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن أبي هريرة، مطولا. وكان لفظه في المطبوعة ناقصا ومحرفا، وصححناه من الدارقطني. ورواه أبو داود: 2533، من رواية ابن وهب: «حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة» ، فذكره بنحوه. ورواه البيهقي 3: 121، من طريق أبي داود، بإسناده. ورواه أيضا 8: 185، بإسناد آخر، من طريق ابن وهب. وعلته الانقطاع، مثل الحديث السابق(1/365)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَصَلُّوا عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ» . أَخْرَجَه الدَّارَقُطْنِي مِنْ طُرُقٍ، وَضَعَّفَهَا (1) .
اعْلَمْ، رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَة وَلَا فِسْقًا، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّة، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إِمَامِه، وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَه، فَيَقُولُ: مَاذَا تَعْتَقِدُ؟ ! بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَسْتُورِ الْحَالِ، وَلَوْ صلى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، أَوْ فَاسِقٍ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ إِلَّا خَلْفَه، كَإِمَامِ الْجُمْعَة وَالْعِيدَيْنِ، وَالْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَة، وَنَحْوِ ذَلِكَ -: فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَه، عِنْدَ عَامَّة السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَمَنْ تَرَكَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الْإِمَامِ الْفَاجِرِ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلَا يُعِيدُهَا، فَإِنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الْأَئِمَّة الْفُجَّارِ وَلَا يُعِيدُونَ، كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَذَلِكَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَة بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ مَرَّة أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا مَعَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ فِي زِيَادَة! ! وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حُصِرَ صَلَّى بِالنَّاسِ شَخْصٌ، فَسَأَلَ سَائِلٌ عُثْمَانَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّة، وَهَذَا الَّذِي صَلَّى بِالنَّاسِ إِمَامُ فِتْنَة؟ فَقَالَ: (يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ) .
وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلَاتُه فِي نَفْسِهَا صَحِيحَة، فَإِذَا صلى الْمَأْمُومُ خَلْفَه لَمْ تَبْطُلْ
__________
(1) أشرنا إلى ذلك فيما نقلناه من كلام البيهقي آنفا(1/366)
صَلَاتُه، لَكِنْ إِنَّمَا كَرِه مَنْ كَرِه الصَّلَاةَ خَلْفَه؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَة وَفُجُورًا لَا يُرَتَّبُ إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُه حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَه وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكِرِ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يَنْتَهِي النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِه - فَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَه كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَة شَرْعِيَّة، وَلَمْ تَفُتِ الْمَأْمُومَ الجُمْعَة وَلَا الجَمَاعَة.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَرْكُ الصَّلَاةِ خَلْفَه يُفَوِّتُ الْمَأْمُومَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة، فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَه إِلَّا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ رَتَّبَه وُلَاة الْأُمُورِ، لَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَه مَصْلَحَة شَرْعِيَّة، فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَه، بَلِ الصلاة خَلْفَ الأفضل أَفْضَلُ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ أَنْ لَا يُقَدِّمَ مظْهرًا لِلْمُنْكَرِ فِي الْإِمَامَة، وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا وَلَّاه غَيْرُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْه صَرْفُه عَنِ الْإِمَامَة، أَوْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِه عَنِ الْإِمَامَة إِلَّا بِشَرٍّ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْمُنْكَرِ - فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ، وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِحُصُولِ أَعْظَمِهِمَا، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَتَفْوِيتُ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الِاقْتِدَاءِ فِيهِمَا بِالْإِمَامِ الْفَاجِرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهَا لَا يَدْفَعُ فُجُورًا، فَيَبْقَى تَعْطِيلُ الْمَصْلَحَة الشَّرْعِيَّة بِدُونِ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَة.
وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ فِعْلُ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الْبَرِّ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا خَلْفَ الْفَاجِرِ. وَحِينَئِذٍ، فَإِذَا صَلَّى خَلْفَ الْفَاجِرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُعِيدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُعِيدُ. وَمَوْضِعُ بَسْطِ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.(1/367)
وَأَمَّا الْإِمَامُ إِذَا نَسِي أَوْ أَخْطَأَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمَأْمُومُ بِحَالِه، فَلَا إِعَادَة عَلَى الْمَأْمُومِ، لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَة. فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَة. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَه بَعْدَ فَرَاغِه كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَة، أَعَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِي وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَ الْمَأْمُومِ. وَفِيهِ تَفَاصِيلُ مَوْضِعُهَا كُتُبُ الْفُرُوعِ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَه يُصَلِّي عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ! ! فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّي خَلْفَه، لِأَنَّهُ لَاعِبٌ، وَلَيْسَ بِمُصَلٍّ.
وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّة أَنَّ وَلِي الْأَمْرِ، وَإِمَامَ الصَّلَاةِ، وَالْحَاكِمَ، وَأَمِيرَ الْحَرْبِ، وَعَامِلَ الصَّدَقَة - يُطَاعُ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ أَتْبَاعَه فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُه فِي ذَلِكَ، وَتَرْكُ رَأْيِهِمْ لِرَأْيِه، فَإِنَّ مَصْلَحَة الْجَمَاعَة وَالِائْتِلَافَ، وَمَفْسَدَة الْفُرْقَة وَالِاخْتِلَافِ، أَعْظَمُ مِنْ أَمْرِ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّة. وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلْحُكَّامِ أَنْ يَنْقُضَ بَعْضُهُمْ حُكْمَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ صِحَّة صَلَاةِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ خَلْفَ بَعْضٍ. ويُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَاحْتَجَمَ الْخَلِيفَة، وَأَفْتَاه مَالِكٌ بِأَنَّه لَا يَتَوَضَّأُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَقِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: أَصَلَيْتَ خَلْفَه؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ وُلَاة الْأُمُورِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» - نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَخْطَأَ فَخَطَؤُه عَلَيْهِ، لَا عَلَى الْمَأْمُومِ. وَالْمُجْتَهِدُ غَايَتُه أَنَّهُ أَخْطَأَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا اعْتَقَدَ أنه لَيْسَ مَحْظُورًا. وَلَا يَحِلُّ لِمن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُخَالِفَ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ الصَّحِيحَ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَه، وَهُوَ حُجَّة عَلَى مَنْ يُطْلِقُ مِنَ الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَالْحَنْبَلِيَّة أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا تَرَكَ مَا يَعْتَقِدُ(1/368)
الْمَأْمُومُ وَجُوبَه لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُه بِهِ! ! فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالِائْتِلَافَ مِمَّا يَجِبُ رِعَايَتُه وَتَرْكُ الْخِلَافِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ.
وَقَوْلُهُ: "وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ"- أَيْ وَنَرَى الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْبُغَاة وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَكَذَا قَاتِلُ نَفْسِه، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، لَا الشَّهِيدُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِي رَحِمَهُمَا اللَّهُ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِه. لَكِنَّ الشَّيْخَ إِنَّمَا سَاقَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّا لَا نَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ، لَا لِلْعُمُومِ الْكُلِّي.
وَلَكِنِ [الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ] (1) قِسْمَانِ: إِمَّا مُؤْمِنٌ، وَإِمَّا مُنَافِقٌ، فَمِنْ عُلِمَ نِفَاقُه لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُ صُلِّي عَلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمَ شَخْصٌ نِفَاقَ شَخْصٍ لَمْ يُصَلِّ هُوَ عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ نِفَاقَه، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حُذَيْفَة، لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوكَ قَدْ عَرَفَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ بِاسْتِغْفَارِه، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يُنْه عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ الِاعْتِقَادِيَّة الْبِدْعِيَّة أَوِ الْعَمَلِيَّة الْفُجُورِيَّة مَا لَهُ، بَلْ قَدْ أَمَرَه اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (2) . [فَأَمَرَه سُبْحَانَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِنَفْسِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] (3) ، فَالتَّوْحِيدُ أَصْلُ الدِّينِ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَالُه. فَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة وَسَائِرِ الْخَيْرَاتِ، إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: عَامٍّ وَخَاصٍّ، أَمَّا الْعَامُّ فَظَاهِرٌ، كَمَا فِي هَذِهِ الآية،
__________
(1) في الأصل: (الكلام لأهل الإسلام) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) سورة مُحَمَّدٍ آية 19
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من سائر النسخ. ن(1/369)
وَأَمَّا الدُّعَاءُ الْخَاصُّ، فَالصَّلَاة عَلَى الْمَيِّتِ، فَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةَ الْجِنَازَة، وَهُمْ مَأْمُورُونَ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوا لَهُ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» .
قَوْلُهُ: (وَلَا نُنْزِلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّة وَلَا نَارًا) .
ش: يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَقُولُ عَنْ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة، كَالْعَشَرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ إِدْخَالَه النَّارَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَة الشَّافِعِينَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّة وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ الحَقِيقة بَاطِنَة، وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنينِ، وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيءِ.
وَلِلسَّلَفِ فِي الشَّهَادَة بِالْجَنَّة ثَلَاثَة أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُشْهَدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّة، وَالْأَوْزَاعِي.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُشْهَدُ بِالْجَنَّة لِكُلِّ مُؤْمِنٍ جَاءَ فِيهِ النَّصُّ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْهَدُ بِالْجَنَّة لِهَؤُلَاءِ وَلِمَنْ شَهِدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ «مُرَّ بِجِنَازَة، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا بِخَيْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجَبَتْ"، وَمُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِي عَلَيْهَا بِشَرٍّ، فَقَالَ: "وَجَبَتْ» . وَفِي رِوَايَة: كَرَّرَ: «وَجَبَتْ"ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا(1/370)
وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُوشِكُونَ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّة مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ» . فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّة وَأَهْلُ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) .
ش: لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَنُهِينَا عَنِ الظَّنِّ وَاتِّبَاعِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} (1) . الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (3) .
قوله: (وَلَا نَرَى [القتل] (4) عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ) .
ش: فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِه الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة» .
قَوْلُهُ: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاة أُمُورِنَا، وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَة اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرِيضَة، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَة، وَنَدْعُوا لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاة) .
__________
(1) سورة الْحُجُرَاتِ الآية 11
(2) سورة الْحُجُرَاتِ الآية 12
(3) سورة الْإِسْرَاءِ آية 36
(4) كلمة «القتل» زدناها لتصحيح الكلام، لم تذكر بالأصل. ويجب أن تزاد هي أو ما في معناها(1/371)
ش: قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عصى الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: «إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ» . وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «وَلَوْ لِحَبَشِي كَأَنَّ رَأْسَه زَبِيبَة» .
وَفي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَة فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِه، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَة، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَة فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَة» .
وَعَنْ حُذَيْفَة بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُه عَنِ الشَّرِّ، مَخَافَة أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّة وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ"، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُه؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاة عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوه فِيهَا"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَرَى إِذَا أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ"، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَة وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَة، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (2) .
__________
(1) سورة النِّسَاءِ آية 59
(2) رواه مسلم 2: 88، وهذا لفظه. وكان في المطبوعة تحريف ونقص، صححناه من صحيح مسلم. ورواه أيضا البخاري وأبو داود وابن ماجه، كما في ذخائر المواريث: 1738(1/372)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِه شَيْئًا يَكْرَهُه فَلْيَصْبِرْ، فإنه مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَة شِبْرًا فَمَاتَ، فَمِيتَته جَاهِلِيَّة» . وَفِي رِوَايَة: «فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَة الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِه» .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخرَ مِنْهُمَا» .
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِي عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآه يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ، فَلْيَكْرَه مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَة» .
فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَة أُولِي الْأَمْرِ، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَة، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) - كَيْفَ قَالَ: "وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ"، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ لَا يُفْرَدُونَ بِالطَّاعَة، بَلْ يُطَاعُونَ فِيمَا هُوَ طَاعَة لله ورسوله. وَأَعَادَ الْفِعْلَ مَعَ الرَّسُولِ [للدلالة على أن مَنْ أطِاعِ الرَّسُولَ] (2) فَقَدْ أَطَاعَ الله، فَإِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْمُرُ بِغَيْرِ طَاعَة اللَّهِ، بَلْ هُوَ مَعْصُومٌ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا وَلِي الْأَمْرِ (3) فَقَدْ يَأْمُرُ بِغَيْرِ طَاعَة اللَّهِ، فَلَا يُطَاعُ إِلَّا فِيمَا هُوَ طَاعَة لِلَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَأَمَّا لُزُومُ طَاعَتِهِمْ وَإِنْ جَارُوا، فَلِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ جَوْرِهِمْ، بَلْ فِي الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِمْ تَكْفِيرُ
__________
(1) سورة النِّسَاءِ آية 59
(2) الزيادة ضرورية لإتمام الكلام وتصحيح سياقه
(3) في المطبوعة «أولي الأمر» ، وهو خطأ واضح(1/373)
السَّيِّئَاتِ وَمُضَاعَفَة الْأُجُورِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا سَلَّطَهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا لِفَسَادِ أَعْمَالِنَا، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَعَلَيْنَا الِاجْتِهَادُ بالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَة وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3) . {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4) . فَإِذَا أَرَادَ الرَّعِيَّة أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ظُلْمِ الْأَمِيرِ الظَّالِمِ. فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ: "أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدِي، فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً، وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَة، فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ، لَكِنْ تُوبُوا أعطفهُمْ عَلَيْكُمْ".
قَوْلُهُ: (وَنَتَّبِعُ السنة وَالْجَمَاعَة، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَة) .
ش: السُّنَّةُ: طَرِيقَة الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْجَمَاعَة: [جَمَاعَة] (5) الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. فَاتِّبَاعُهُمْ هُدًى. وَخِلَافُهُمْ ضَلَالٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) . وَقَالَ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (7) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ}
__________
(1) سورة الشُّورَى آية 30
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 165
(3) سورة النِّسَاءِ آية 79
(4) سورة الْأَنْعَامِ آية 129
(5) سقطت من الأصل، وأثبتناها من سائر النسخ. ن
(6) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 31
(7) سورة النِّسَاءِ آية 115(1/374)
{تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) .
وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ الْحَدِيثُ الَّذِي صَحَّحَه التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَة، قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَة بَلِيغَة، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَة مُوَدِّعٍ؟ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسنة الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَة ضَلَالَة» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّة، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى [ثَلَاثٍ] (5) وَسَبْعِينَ مِلَّة، يَعْنِي الْأَهْوَاءَ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَة، وَهِيَ الْجَمَاعَة» . وَفِي رِوَايَة: «قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَامَّة الْمُخْتَلِفِينَ هَالِكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، إِلَّا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة.
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، حَيْثُ قَالَ: (مَنْ كَانَ
__________
(1) سورة النُّورِ آية 54
(2) سورة الْأَنْعَامِ آية 153
(3) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 105
(4) سورة الْأَنْعَامِ آية 159
(5) في الأصل: (ثلاثة) . والتصويب من سنن أبي داود 5 / 4 - 5، وابن ماجه 2 / 1322، وأحمد 4 / 102. ن(1/375)
مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَي لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَة، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّة، أَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَة نَبِيِّه وَإِقَامَة دِينِه، فَاعْرَفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْى الْمُسْتَقِيمِ) . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَنَرَى الْجَمَاعَة حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَة زَيْغًا وَعَذَابًا".
قوله: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَة، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَة) .
ش: وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَتَمَامِ الْعُبُودِيَّة، فَإِنَّ الْعِبَادَة تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمَحَبَّة وَنِهَايَتَهَا، وَكَمَالَ الذُّلِّ وَنِهَايَتَه. فَمَحَبَّة رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِه وَعِبَادِه الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّة الله، وَإِنْ كَانَتِ الْمَحَبَّة لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ (1) ، فَغَيْرُ اللَّهِ يُحَبُّ فِي اللَّهِ، لَا مَعَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ، مَحْبُوبُه، وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيه، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيه، وَيَرْضَى لِرِضَائِه، وَيَغْضَبُ لِغَضَبِه، وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَحْبُوبِه فِي كُلِّ حَالٍ.
وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَنَحْنُ نُحِبُّ مَنْ يحَبَّه اللَّهُ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، وَلَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وَلَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَنَحْنُ لَا نُحِبُّهُمْ أَيْضًا، وَنُبْغِضُهُمْ، مُوَافَقَة له سبحانه وتعالى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَة الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّه إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَه أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَه اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَه أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» .
__________
(1) في المطبوعة «التي لا يستحقها غيره» . وكلمة «التي» يضطرب بها المعنى، فرأينا أنها خطأ، فحذفناها(1/376)
فَالْمَحَبَّة التَّامَّة مُسْتَلْزِمَة لِمُوَافَقَة الْمَحْبُوبِ فِي مَحْبُوبِه وَمَكْرُوهِه، وَوِلَايَتِه وَعَدَاوَتِه. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ الْمَحَبَّة الْوَاجِبَة فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ أَعْدَاءَه، وَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّه مِنْ جِهَادِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (1) . وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ سَبَبُ الْوِلَايَة وَسَبَبُ الْعَدَاوَة، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْه مَبْغُوضًا مِنْ وَجْه، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُحِبُّ الشَّيْءَ مِنْ وَجْه وَيَكْرَهُه مِنْ وَجْه آخَرَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَه الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَه مَسَاءَتَه، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» . فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ؛ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ تَعَارُضُ إِرَادَتَيْنِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ عَبْدُه الْمُؤْمِنُ، وَيَكْرَه مَا يَكْرَهُه، وَهُوَ يَكْرَه الْمَوْتَ فَهُوَ يَكْرَهُه، كَمَا قَالَ: "وَأَنَا أَكْرَه مَسَاءَتَه"، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَضَى بِالْمَوْتِ، فَهُوَ يُرِيدُ كَوْنَه، فَسَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ، إِذْ هُوَ مُفْضِ إِلَى مَا هُوَ أَحَبُّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فِيمَا اشْتَبَه عَلَيْنَا عِلْمُه) .
ش: تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِه إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَه عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِه. وَمَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُ هَوَاه، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى}
__________
(1) سورة الصَّفِّ آية 4
(2) سورة الْقَصَصِ آية 50(1/377)
{عَذَابِ السَّعِيرِ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) . {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} (5) وَقَدْ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اتَّهِمُوا الرَّأْي فِي الدِّينِ، فَلَوْ رَأَيْتَنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِرَأْيي، فَأَجْتَهِدُ وَلَا آلُو، وَذَلِكَ يَوْمُ أَبِي جَنْدَلٍ، وَالْكِتَابُ يَكْتُبُ، وَقَالَ: "اكْتُبْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) "، قَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ وَأَبَيْتُ، فَقَالَ: "يَا عُمَرُ تَرَانِي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى» (6) . وقَالَ
__________
(1) سورة الْحَجِّ الآيتان 3 - 4
(2) سورة غَافِرٍ آية 35
(3) سورة الْأَعْرَافِ آية 33
(4) سورة الْكَهْفِ آية 26
(5) سورة الْكَهْفِ آية 22
(6) كتب مصححو المطبوعة، عند قوله «فأجتهد ولا آلو» -: «كذا بالأصل، ولعله: رأيتني ولو أستطيع أن أرد، إلخ» . وهذا انتقال نظر. فإن الذي قال «ولو أستطيع» - هو سهل بن حنيف. وحديثه في البخاري 13: 244 - 245، ومسلم 2: 66، فإنه قال: «يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته» . وباقي الحديث سياق غير المروي هنا عن عمر. وقال الحافظ في الفتح: «وقد جاء عمر نحو قول سهل، ولفظه: اتقوا الرأي في دينكم. أخرجه البيهقي في المدخل، هكذا مختصرا. وأخرجه هو والطبري والطبراني مطولا، بلفظ» . فذكر نحو ما هنا عن عمر. وقد رواه ابن حزم في الإحكام، بتصحيحنا، 6: 46 بإسناده إلى مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه قال: «يا أيها الناس، اتهموا آراءكم على الدين، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم برأيي، أجتهد والله ولا آلو» - إلى آخره، بنحو ما هنا. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 179، بنحوه. وقال: «رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون، وإن كان فيهم مبارك بن فضالة» . أقول: ومبارك بن فضالة: ثقة، كما حققنا ذلك في شرح المسند، في الحديثين: 1426، 5989(1/378)
أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "السُّنَّةُ مَا سَنَّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ الرَّأْي سُنَّةً لِلْأُمَّة".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَي سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِنْ قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ".
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِي الْحُلْوَانِي، حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَة، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: (لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْيَبَ لِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَهْيَبُ لِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ نَزَلَتْ بِهِ قَضِيَّة، فَلَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْهَا أَصْلًا، وَلَا فِي السُّنَّةِ أَثَرًا، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِه، ثُمَّ قَالَ: هَذَا رَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) .
قَوْلُهُ: (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ) .
ش: تَوَاتَرَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَبِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالرَّافِضَة تُخَالِفُ هَذِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَة، فَيُقَالُ لَهُمُ: الَّذِينَ نَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَالَّذِينَ تَعَلَّمُوا الْوُضُوءَ منه وَتَوَضَّؤا وَهُوَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ، وَنَقَلُوه إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ -: أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ نَقَلُوا لَفْظَ هَذِهِ الآية. فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَوَضَّؤُنَ عَلَى عَهْدِه، وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهُمْ قَدْ رَأَوْه يَتَوَضَّأُ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَه إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَنَقَلُوا عنه غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ، حَتَّى نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْه فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ» .(1/379)
مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ إِذَا كَانَ مَسْحَ ظَاهِرِ الْقَدَمِ كَانَ غَسْلُ الْجَمِيعِ كُلْفَة لَا تَدْعُو إِلَيْهَا الطِّبَاعُ، كَمَا تَدْعُو الطِّبَاعُ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَة وَالْمَالِ، فَلَوْ جَازَ الطَّعْنُ فِي تَوَاتُرِ صِفَة الْوُضُوءِ، لَكَانَ فِي نَقْلِ لَفْظِ آيَةِ [الْوُضُوءِ] أَقْرَبَ إِلَى الْجَوَازِ، وَإِذَا قَالُوا: لَفْظُ الْآيَةِ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِبُ وَلَا الْخَطَأُ، فَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ فِي نَقْلِ الْوُضُوءِ عَنْهُ أَوْلَى وَأَكْمَلُ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يُخَالِفُ مَا تَوَاتَرَ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْمَسْحَ كَمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِصَابَة - كَذَلِكَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِسَالَة، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: تَمَسَّحْتُ لِلصَّلَاة، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْغَسْلِ، بَلِ الْمَسْحُ الَّذِي الْغَسْلُ قِسْمٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الْكِعَابِ، كَمَا قَالَ: (إِلَى الْمَرَافِقِ) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ، كَمَا فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَاحِدٌ، بَلْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْمَسْحِ إِلَى الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْغَسْلُ، فَإِنَّ مَنْ يَمْسَحُ الْمَسْحَ الْخَاصَّ يَجْعَلُ الْمَسْحَ لِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَجَعْلُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْآيَةِ غَايَة يَرُدُّ قَوْلَهُمْ. فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، اللَّذَيْنِ هَمَّا مُجْتَمَعُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ - مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، وَتَوْجِيه إِعْرَابِهِمَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِه. وَقِرَاءَة النَّصْبِ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، كَقَوْلِه:
فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا ...
وَلَيْسَ مَعْنَى: مَسَحْتُ بِرَأْسِي وَرِجْلِي - هُوَ مَعْنَى: مَسَحْتُ رَأْسِي وَرِجْلِي، بَلْ ذِكْرُ الْبَاءِ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ الْمَسْحِ، وَهُوَ إِلْصَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ بِالرَّأْسِ، فَتَعَيَّنَ الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ (وَأَيْدِيَكُمْ) . فَالسُّنَّة الْمُتَوَاتِرَة تَقْضِي عَلَى مَا يَفْهَمُه بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَ لِلنَّاسِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ. كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ:(1/380)
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُتجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَعْنَاهَا.
وَفِي ذِكْرِ الْمَسْحِ فِي الرِّجْلَيْنِ تَنْبِيه عَلَى قِلَّة الصَّبِّ فِي الرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّ السَّرَفَ يُعْتَادُ فِيهِمَا كَثِيرًا. وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، إِلَى قِيَامِ السَّاعَة، لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَا) .
ش: يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَة، حَيْثُ قَالُوا: لَا جِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَخْرُجَ الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اتَّبِعُوهُ! ! وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ. وَهُمْ شَرَطُوا فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، اشْتِرَاطًا بغَيْرِ دَلِيلٍ! بَلْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِي، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ"، قَالَ: قُلْنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِي عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآه يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ فَلْيَكْرَه مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِه» .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ نَظَائِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْإِمَامَة. وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا. وَالرَّافِضَة أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ هُوَ الْإِمَامَ الْمَعْدُومَ، الَّذِي لَمْ يَنْفَعْهُمْ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا! ! فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْإِمَامَ الْمُنْتَظَرَ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِي، الَّذِي دَخَلَ السِّرْدَابَ فِي زَعْمِهِمْ، سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ بِسَامَرَّا! وَقَدْ يُقِيمُونَ هُنَاكَ دَابَّة، إِمَّا بَغْلَة، وَإِمَّا فَرَسًا، لِيَرْكَبَهَا إِذَا خَرَجَ! وَيُقِيمُونَ هُنَاكَ فِي أَوْقَاتٍ عَيَّنُوا(1/381)
فِيهَا مَنْ يُنَادِي عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ: يَا مَوْلَانَا، اخْرُجْ! يَا مَوْلَانَا، اخْرُجْ! وَيُشْهِرُونَ السِّلَاحَ؛ وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ يُقَاتِلُهُمْ! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ التي يَضْحَكُ عَلَيْهِمْ مِنهَا الْعُقَلَاءُ! !
وَقَوْلُهُ"مَعَ أُولِي الْأَمْرِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ"- لِأَنَّ الْحَجَّ وَالْجِهَادَ فَرْضَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِالسَّفَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَائِسٍ يَسُوسُ النَّاسَ فِيهِمَا، وَيُقَاوِمُ فيها الْعَدُوَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يَحْصُلُ بِالْإِمَامِ الْبَرِّ يَحْصُلُ بِالْإِمَامِ الْفَاجِرِ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} {كِرَامًا كَاتِبِينَ} {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (4) . وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (6) . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ""يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَة بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاة الْعَصْرِ، فَيَصْعَدُ إِلَيْهِ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، والله أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَفَارَقْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ، وَأَكْرِمُوهُمْ» .
جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: اثْنَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ، يَكْتُبَانِ الْأَعْمَالَ، صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخَرَانِ
__________
(1) سورة الِانْفِطَارِ الآيات 10 - 12
(2) سورة ق الآيتان 17 - 18
(3) سورة الرَّعْدِ آية 11
(4) سورة الزُّخْرُفِ آية 80
(5) سورة الْجَاثِيَة آية 59
(6) سورة يُونُسَ آية 21(1/382)
يَحْفَظَانِه وَيَحْرُسَانِه، وَاحِدٌ مِنْ وَرَائِه، وَوَاحِدٌ أَمَامَه، فَهُوَ بَيْنُ أَرْبَعَة أَمْلَاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَة آخَرِينَ بِاللَّيْلِ، بَدَلًا، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ. وَقَالَ عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (1) . قَالَ: مَلَائِكَة يَحْفَظُونَه مِنْ بَيْنِ يَدَيْه وَمِنْ خَلْفِه، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوْا عَنْهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُه مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُه مِنَ الْمَلَائِكَة"قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِيَّاي، لَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» . الرِّوَايَة بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ"فَأَسْلَمَ"وَمَنْ رَوَاهُ"فَأَسْلَمُ"بِرَفْعِ الْمِيمِ - فَقَدْ حَرَّفَ لَفْظَه. وَمَعْنَى"فَأَسْلَمَ"، أَيْ: فَاسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ لِي، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ: "فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ"، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ صَارَ مُؤْمِنًا - فَقَدْ حَرَّفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا (2) .
__________
(1) سورة الرَّعْدِ آية 11
(2) رواه مسلم 2: 346 (17: 157 من شرح النووي) . ورواه أحمد في المسند: 3648، 3779، 3802، 4392. بألفاظ متقاربة. واللفظ الذي هنا يوافق رواية المسند: 3802، وكان في المطبوعة هنا «ولكن أعانني الله عليه» . فصححناه من لفظ المسند. والخلاف في ضبط الميم من «فأسلم» - خلاف قديم. والراجح فيها الفتح، كما قال الشارح، ولكن المعنى الذي رجحه غير راجح. فقال القاضي عياض، في مشارق الأنوار 2: 218 «رويناه بالضم والفتح. فمن ضم رد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: فأنا أسلم منه. ومن فتح رده إلى القرين، أي: أسلم من الإسلام. وقد روي في غير هذه الأمهات: فاستسلم» . يريد بالأمهات: الموطأ والصحيحين، التي بنى عليها كتابه، وإن كان هذا الحديث لم يروه مالك ولا البخاري. وقال النووي في شرح مسلم: «هما روايتان مشهورتان.. واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض الفتح» . وأما الحافظ ابن حبان، فإنه روى الحديث في صحيحه (2: 283، من المخطوطة المصورة) ، وجزم برواية فتح الميم، وقال: «في هذا الخبر دليل على أن شيطان المصطفى صلى الله عليه وسلم أسلم حتى لم يكن يأمره إلا بخير، لا أنه كان يسلم منه إن كان كافرا» . وهذا هو الصحيح الذي ترجحه الدلائل. وادعاء الشارح أن هذا تحريف للمعنى. «فإن الشيطان لا يكون مؤمنا» - انتقال نظر. فأولا: أن اللفظ في الحديث «قرينه من الجن» ، لم يقل «شيطانه» . وثانيا: أن الجن فيهم المؤمن والكافر. والشياطين هم كفارهم، فمن آمن منهم لم يسم شيطانا(1/383)
ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (1) - قِيلَ: حِفْظُهُمْ لَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيِ اللَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ: "يَحْفَظُونَه بِأَمْرِ اللَّهِ".
ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَة أَنَّ الْمَلَائِكَة تَكْتُبُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ. وَكَذَلِكَ النِّيَّة؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ الْقَلْبِ، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (2) . وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَة فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَلَيْهِ سَيِّئَة، وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَة فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَتِ الْمَلَائِكَة: ذَاكَ عَبْدُ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَة، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوه، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائي» ، خَرَّجَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (3) . وَلَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (4) ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (5) -: لِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَتَوَلَّى قَبْضَهَا وَاسْتِخْرَاجَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَوْ مَلَائِكَة الْعَذَابِ، وَيَتَوَلَّوْنَهَا بَعْدَهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَضَائِه وَقَدَرِه، وَحُكْمِه وَأَمْرِه، فَصَحَّتْ إِضَافَة التَّوَفِّي إِلَى كُلٍّ بِحَسَبِه.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَقِيقَة النَّفْسِ مَا هِيَ؟ وَهَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ؟ أَوْ
__________
(1) سورة الرَّعْدِ آية 11
(2) سورة الِانْفِطَارِ آية 12
(3) سورة السَّجْدَة آية 11
(4) سورة الْأَنْعَامِ آية 61
(5) سورة الزُّمَرِ آية 42(1/384)
عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِه؟ أَوْ جِسْمٌ مُسَاكِنٌ لَهُ مُودَعٌ فِيهِ؟ أَوْ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ؟ وَهَلْ هِيَ الرُّوحُ أَوْ غَيْرُهَا؟ وَهَلِ الْأَمَّارَة، وَاللَّوَّامَة، وَالْمُطْمَئِنَّة - نَفْسٌ وَاحِدَة، أَمْ هِيَ ثَلَاثَة أَنْفُسٍ؟ وَهَلْ تَمُوتُ الرُّوحُ، أَوِ الْمَوْتُ لِلْبَدَنِ وَحْدَه؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ مُجَلَّدًا، وَلَكِنْ أُشِيرُ إِلَى الْكَلَامِ عَلَيْهَا مُخْتَصَرًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَقِيلَ: الرُّوحُ قَدِيمَة، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الرُّسُلُ عَلَى أَنَّهَا مُحْدَثَة مَخْلُوقَة مَصْنُوعَة مَرْبُوبَة مُدَبَّرَة. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَة مِنْ دِينِهِمْ، أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَمَضَى عَلَى هَذَا الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ، حَتَّى نَبَغَتْ نَابِغَة مِمَّنْ قَصُرَ فَهْمُه فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَزَعَمَ أَنَّهَا قَدِيمَة، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَأَمْرُه غَيْرُ مَخْلُوقٍ! وَبِأَنَّ اللَّهَ أَضَافَهَا إِلَيْهِ بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (1) ، وَبِقَوْلِه: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (2) ، كَمَا أَضَافَ إِلَيْهِ عِلْمَه وَقُدْرَتَه وَسَمْعَه وَبَصَرَه وَيَدَه. وَتَوَقَّفَ آخَرُونَ.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة أَنَّهَا مَخْلُوقَة. وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، وَابْنُ قُتَيْبَة وَغَيْرُهُمَا.
وَمِنَ الْأَدِلَّة عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَة، قَوْلُهُ تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) ، فَهَذَا عَامٌّ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِوَجْه مَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي مُسَمَّى اسْمِه. فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَه الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَعِلْمُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه وَسَمْعُه وَبَصَرُه وَجَمِيعُ صِفَاتِه - دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِه فَهُوَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِه وَصِفَاتِه الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاه مَخْلُوقٌ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَت هِيَ اللَّهَ، وَلَا صِفَة مِنْ صِفَاتِه، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَصْنُوعَاتِه. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (4) وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (5) . وَالْإِنْسَانُ اسْمٌ لِرُوحِه
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 85
(2) سورة الْحِجْرِ آية 29
(3) سورة الزُّمَرِ آية 62
(4) سورة الدَّهْرِ آية 1
(5) سورة مَرْيَمَ آية 9(1/385)
وَجَسَدِه، وَالْخِطَابُ لِزَكَرِيَّا، لِرُوحِه وَبَدَنِه، وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْوَفَاة وَالْقَبْضِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (1) - فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ، وَالْمَصْدَرُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِضَافَتِهَا إليه بقوله: {مِنْ رُوحِي} (2) - فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَى اللَّهِ تعالى مِنَ نَوْعَانِ:
صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَهَذِهِ إِضَافَة صِفَة إِلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا، فَعِلْمُه وَكَلَامُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه صِفَاتٌ لَهُ، وَكَذَا وَجْهُه وَيَدُه سُبْحَانَهُ.
وَالثَّانِي: إِضَافَة أَعْيَانٍ مُنْفَصِلَة عَنْهُ، كَالْبَيْتِ وَالنَّاقَة وَالْعَبْدِ وَالرَّسُولِ وَالرُّوحِ، فَهَذِهِ إِضَافَة مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِه، لَكِنَّهَا إِضَافَة تَقْتَضِي تَخْصِيصًا وَتَشْرِيفًا، يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُضَافُ عَنْ غَيْرِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مَخْلُوقَة قَبْلَ الْجَسَدِ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِيثَاقِ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: مَا هِيَ؟ قِيلَ: هِيَ جِسْمٌ، وَقِيلَ: عَرَضٌ، وَقِيلَ: لَا نَدْرِي مَا الرُّوحُ، أَجَوْهَرٌ أَمْ عَرَضٌ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ الرُّوحُ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنَ اعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: هِيَ الدَّمُ الصَّافِي الْخَالِصُ مِنَ الْكَدَرِة وَالْعُفُونَاتِ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَرَارَة الْغَرِيزِيَّة، وَهِيَ الْحَيَاة، وَقِيلَ: هُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُنْبَعثٌّ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، عَلَى جِهَة الْإِعْمَالِ لَهُ وَالتَّدْبِيرِ، وَهِيَ عَلَى مَا وُصِفَتْ مِنْ الِانْبِسَاطِ فِي الْعَالَمِ غَيْرُ مُنْقَسِمَة الذَّاتِ وَالْبِنْيَة، وَأَنَّهَا في كُلِّ حَيَوَانِ
__________
(1) سورة الْإِسْرَاءِ آية 85
(2) سورة الْحِجْرِ آية 29(1/386)
الْعَالَمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا غَيْرُ، وَقِيلَ: النَّفْسُ هِيَ النَّسِيمُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ بِالتَّنَفُّسِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَلِلنَّاسِ فِي مُسَمَّى"الْإِنْسَانِ": هَلْ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ، أَوِ الْبَدَنُ فَقَطْ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا؟ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَة لَهُمْ فِي كَلَامِه: هَلْ هُوَ اللَّفْظُ، أَوِ الْمَعْنَى فَقَطْ، أَوْ هُمَا، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا؟ فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي النَّاطِقِ وَنُطْقِه. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لَهُمَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِقَرِينِة، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَة وَأَدِلَّة الْعَقْلِ: أَنَّ النَّفْسَ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّة لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِي عُلْوِي، خَفِيفٌ حَي مُتَحَرِّكٌ، [يَنْفُذُ] (1) فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ. فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَة لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَة عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ، بَقِي ذَلِكَ الْجِسْمُ اللَّطِيفُ سَارِيًا فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَإفَادَتهَا هَذِهِ الْآثَارُ، مِنَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَة الْإِرَادِيَّة، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ، بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَخْلَاطِ الْغَلِيظَة عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ، فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (2) ، الآية. فَفِيهَا الْإِخْبَارُ بِتَوَفِّيهَا وَإِمْسَاكِهَا وَإِرْسَالِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (3) فَفِيهَا بَسْطُ الْمَلَائِكَة أَيْدِيَهُمْ لِتَنَاوُلِهَا، وَوَصْفُهَا بِالْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ، وَالْإِخْبَارُ بِعَذَابِهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ مَجِيئِهَا إِلَى رَبِّهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي}
__________
(1) في الأصل: (يتنقل) ، ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) سورة الزُّمَرِ آية 42
(3) سورة الْأَنْعَامِ آية 93(1/387)
{يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} (1) ، الآية. فَفِيهَا الْإِخْبَارُ بِتَوَفِّي النَّفْسِ بِاللَّيْلِ، وَبَعْثِهَا إِلَى أَجْسَادِهَا بِالنَّهَارِ، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَة لَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (2) . فَفِيهَا وَصْفُهَا بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُولِ
وَالرِّضَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَه الْبَصَرُ» . فَفِيهِ وَصْفُه بِالْقَبْضِ، وَأَنَّ الْبَصَرَ يَرَاه. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ بِلَالٍ: «قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ [حِينَ شَاءَ] (3) وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ» (4) ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَسَمَة الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّة» . وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ أَدِلَّة كَثِيرَةٌ مِنْ خِطَابِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهَا، وَأَنَّهَا تَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَة مِنْ فِي السِّقَاءِ، وَأَنَّهَا تَصْعَدُ وَيُوجَدُ مِنْهَا [مِنَ الْمُؤْمِنِ] كَأَطْيَبِ رِيحٍ، وَمِنَ الْكَافِرِ كَأَنْتَنِ رِيحٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. وَعَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ السَّلَفُ وَدَلَّ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ خَالَفَ سِوَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَة، وَالشُّبَه الْفَاسِدَة، الَّتِي لَا يُعَارَضُ بِهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْوَحْي وَالْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مُسَمَّى النَّفْسِ وَالرُّوحِ: هَلْ هَمَّا مُتَغَايِرَانِ، أَوْ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدٌ؟ فَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ، وَكَذَلِكَ الرُّوحُ، فَيَتَّحِدُ مَدْلُولُهُمَا تَارَة، وَيَخْتَلِفُ تَارَة. فَالنَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ، وَلَكِنْ غَالِبُ مَا تُسَمَّى نَفْسًا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْبَدَنِ، وَأَمَّا إِذَا أُخِذَتْ مُجَرَّدَة فَتَسْمِيَة الرُّوحِ أَغْلَبُ عَلَيْهَا. وَتُطْلَقُ عَلَى الدَّمِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَة لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ فِيهِ» . وَالنَّفْسُ: الْعَيْنُ، يُقَالُ: أَصَابَتْ فُلَانًا نَفْسٌ، أي عَيْنٌ.
__________
(1) سورة الْأَنْعَامِ آية 60
(2) سورة الْفَجْرِ الآيات 27 - 30
(3) سقطت من الأصل. والتصويب من البخاري (2 / 66 فتح الباري) وأبو داود 1 / 307 والنسائي 2 / 106 وأحمد 5 / 307. ن
(4) سقطت من الأصل. والتصويب من البخاري (2 / 66 فتح الباري) وأبو داود 1 / 307 والنسائي 2 / 106 وأحمد 5 / 307. ن(1/388)
وَالنَّفْسُ: الذَّاتُ، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1) . {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا تُطْلَقُ عَلَى الْبَدَنِ، لَا بِانْفِرَادِه، وَلَا مَعَ النَّفْسِ. وَتُطْلَقُ الرُّوحُ على الْقُرْآنِ. وعلى جِبْرِائيلَ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (3) . {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (4) . وَتُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْهَوَاءِ الْمُتَرَدِّدِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَه، فَهِيَ رُوحٌ أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (5) . وَكَذَلِكَ الْقُوَى الَّتِي فِي الْبَدَنِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تُسَمَّى أَرْوَاحًا، فَيُقَالُ: الرُّوحُ الْبَاصِرُ، وَالرُّوحُ السَّامِعُ، وَالرُّوحُ الشَّامُّ. وَتُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى أَخَصِّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ: قُوَّة الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ وَالْإِنَابَة إِلَيْهِ وَمَحَبَّتُه وَانْبِعَاثُ الْهِمَّة إِلَى طَلَبِه وَإِرَادَتِه. وَنِسْبَة هَذِهِ الرُّوحِ إِلَى الرُّوحِ، كَنِسْبَة الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ، [فَلِلْعِلْمِ] (6) رُوحٌ، [وَلِلْإِحْسَانِ] (7) رُوحٌ، [وَلِلْمَحَبَّة] (8) رُوحٌ، [وَلِلتَّوَكُّلِ] (9) رُوحٌ، [وَلِلصِّدْقِ] (10) رُوحٌ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذِهِ [الْأَرْوَاحِ] (11) . فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ فَيَصِيرُ [رُوحَانِيًّا] (12) ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْقِدُهَا أَوْ أَكْثَرَهَا فَيَصِيرُ أَرْضِيًّا بَهِيمِيًّا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَة أَنْفُسٍ: مُطْمَئِنَّة، وَلَوَّامَة، وَأَمَّارَة، قَالُوا: وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ، كَمَا قَالَ تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (13) . {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (14) . {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (15) .
__________
(1) سورة النِّور آية 61
(2) سورة النّساء آية 29
(3) سورة الشُّورَى آية 52
(4) سورة الشُّعَرَاءِ آية 193
(5) سورة الْمُجَادَلَة آية 22
(6) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(7) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(8) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(9) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(10) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(11) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(12) في الأصل: (فالعلم) (والإحسان) (والمحبة) (والتوكل) (والصدق) (الروح) (روحيا) . والتصويب من كتاب «الروح» ص 220. ن
(13) سورة الْفَجْرِ آية 27
(14) سورة الْقِيَامَة آية 2
(15) سورة يُوسُفَ آية 53(1/389)
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا نَفْسٌ وَاحِدَة، لَهَا صِفَاتٌ، فَهِيَ أَمَّارَة بِالسُّوءِ، فَإِذَا عَارَضَهَا الْإِيمَانُ صَارَتْ لَوَّامَة، تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ صَاحِبَهَا، وَتَلُومُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَا قَوِي الْإِيمَانُ صَارَتْ مُطْمَئِنَّة. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّتْه حَسَنَتُه وَسَاءَتْه سَيِّئَتُه فَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وقوله: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» ، الْحَدِيثَ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ تَمُوتُ الرُّوحُ أَمْ لَا؟ فَقَالَتْ طَائِفَة: تَمُوتُ؛ لِأَنَّهَا نَفْسٌ، وَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة الْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2) . قَالُوا: وَإِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَة تَمُوتُ، فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّة أَوْلَى بِالْمَوْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَمُوتُ الْأَرْوَاحُ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا تَمُوتُ الْأَبْدَانُ. قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّة عَلَى نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَعَذَابِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَة إِلَى أَنْ يُرْجِعَهَا اللَّهُ فِي أَجْسَادِهَا.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْتُ النُّفُوسِ هُوَ مُفَارَقَتُهَا لِأَجْسَادِهَا وَخُرُوجُهَا مِنْهَا، فَإِنْ أُرِيدَ بِمَوْتِهَا هَذَا الْقَدْرُ، فَهِيَ ذَائِقَة الْمَوْتِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا تُعْدَمُ وَتَفْنَى بِالْكُلِّيَّة، فَهِيَ لَا تَمُوتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَة بَعْدَ خَلْقِهَا فِي نَعِيمٍ أَوْ فِي عَذَابٍ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (3) ، وَتِلْكَ الْمَوْتَة هي مُفَارَقَة الأرُّواحِ لِلْأجَسَادِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ النَّارِ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} (4) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (5) - فَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا وَهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وفي
__________
(1) سورة الرَّحْمَنِ الآيتان 26 - 27
(2) سورة الْقَصَصِ آية 88
(3) سورة الدُّخَانِ آية 56
(4) سورة غَافِرٍ آية 11
(5) سورة الْبَقَرَة آية 28(1/390)
أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ يَوْمَ النُّشُورِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِمَاتَة أَرْوَاحِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة، وَإِلَّا كَانَتْ ثَلَاثَ مَوْتَاتٍ.
وَصَعْقُ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَوْتُهَا، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة إِذَا جَاءَ اللَّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِه، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْتٍ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ صَعْقُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَوْتًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نَفْخَة الصَّعْقِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَوْتُ كُلِّ مَنْ لَمْ يَذُقِ الْمَوْتَ قَبْلَهَا مِنَ الْخَلَائِقِ، وَأَمَّا مَنْ ذَاقَ الْمَوْتَ، أَوْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ الْمَوْتُ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَمُوتُ مَوْتَة ثَانِيَة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِه عَنْ رَبِّه وَدِينِه وَنَبِيِّه، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الصَّحَابَة رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ. وَالْقَبْرُ رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، أَوْ حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ) .
ش: قَالَ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) . وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ وَلَمْ يُعَذَّبْ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا في جِنَازَة في بَقِيعِ الْغَرْقَدِ،
__________
(1) سورة غَافِرٍ الآيتان 45، 46
(2) سورة الطُّورِ الآيات 45 - 47(1/391)
فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَه، كَأَنَّ على رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَهُوَ يُلْحَدُ لَهُ، فَقَالَ: "أعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، نَزَلَتْ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَة، كَأَنَّ عَلَى وُجُوهِهِمُ الشَّمْسَ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّة، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّة، فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه، فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَة، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ"، قَالَ: "فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَة مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِه طَرْفَة عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَتَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَة مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْه الْأَرْضِ"، قَالَ: "فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا، - يَعْنِي عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة -، إِلَّا قَالُوا: مَا هذه الرُّوحُ الطَّيِّبَة؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِه الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَه بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُه مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إلى السَّمَاءِ التي فيها الله، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوه إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَة أُخْرَى. قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُه فِي جَسَدِه، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِه، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوه مِنَ الْجَنَّة، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّة، قَالَ: فَيَأْتِيه مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه، قَالَ: وَيَأْتِيه رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْه، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْه الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ، أَقِمِ السَّاعَة حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي". قَالَ:(1/392)
"وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَة سُودُ الْوُجُوه، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَة، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتَتَفَرَّقُ فِي جَسَدِه، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السُّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِه طَرْفَة عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحٍ خَبِيثَة وُجِدَتْ عَلَى وَجْه الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا [الرُّوحُ الْخَبِيثُ] (1) ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِه التي كَانُ يُسَمُّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (2) ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَه فِي [سِجِّينٍ] (3) ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُه طَرْحًا"، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (4) ، فَتُعَادُ رُوحُه فِي جَسَدِه، وَيَأْتِيه مَلَكَانِ [فَيُجْلِسَانِه] (5) ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ، فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوه مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيه مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُه، حتى تَخْتَلِفَ [فيه] (6) أَضْلَاعُه، وَيَأْتِيه رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْه، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من المسند 4 / 287. ن
(2) سورة الْأَعْرَافِ آية 40
(3) في الأصل: (سجيل) . والتصويب من المسند. ن
(4) سورة الْحَجِّ آية 31
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبتناه من المسند. ن
(6) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من المسند. ن(1/393)
تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الْوَجْه يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَة» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه أَوَّلَه، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو عَوَانَة الْإِسْفِرَائينِي فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَابْنُ حِبَّانَ (1) .
وَذَهَبَ إِلَى مُوجَبِ هَذَا الْحَدِيثِ جَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنَ الصَّحِيحِ.
فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُه، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِه، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ، مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّة، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا» . قَالَ قَتَادَة: وَرُوِي لَنَا: أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِه، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَبرُئ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَة"، فَدَعَا بِجَرِيدَة رَطْبَة، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، وَقَالَ: "لَعَلَّه يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» . وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُبِرَ أحدكم، أَوِ الْإِنْسَانُ، أَتَاه مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَخْ.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (ج 4 ص 287 - 288، 295 - 296 طبعة الحلبي) مطولا. ونقله ابن كثير في التفسير 3: 474 - 475 عن المسند. ورواه أبو داود: 4753، 4754. والحاكم في المستدرك 1: 37 - 39، بأسانيد، كلها من رواية الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان. عن البراء بن عازب. قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعا بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي» . ووافقه الذهبي. وقد أطال الإمام الحافظ ابن القيم القول في تصحيحه، والرد على من أعله - في تهذيب السنن: 4586، (ج 7 ص 139 - 146)(1/394)
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِه لِمَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّتِه، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى كَيْفِيَّتِه، لِكَوْنِه لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُه الْعُقُولُ، وَلَكِنَّه قَدْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ. فَإِنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ لَيْسَ عَلَى الْوَجْه الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَيْهِ إِعَادَة غَيْرَ الْإِعَادَة الْمَأْلُوفَة فِي الدُّنْيَا.
فَالرُّوحُ لَهَا بِالْبَدَنِ خَمْسَة أَنْوَاعٍ مِنَ التَّعَلُّقِ، مُتَغَايِرَة الْأَحْكَامِ:
أَحَدُهَا: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ جَنِينًا.
الثَّانِي: تَعَلُّقُهَا بِهِ بَعْدَ خُرُوجِه إِلَى وَجْه الْأَرْضِ.
الثَّالِثُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي حَالِ النَّوْمِ، فَلَهَا بِهِ تَعَلُّقٌ مِنْ وَجْه، وَمُفَارَقَة مِنْ وَجْه.
الرَّابِعُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي الْبَرْزَخِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ فَارَقَتْه وَتَجَرَّدَتْ عَنْهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَارِقْه فِرَاقًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا إِلَيْهِ الْتِفَاتٌ أَلْبَتَّة، فَإِنَّهُ وَرَدَ رَدُّهَا إِلَيْهِ وَقْتَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، وَهَذَا الرَّدُّ إِعَادَة خَاصَّة، لَا يُوجِبُ حَيَاة الْبَدَنِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة.
الْخَامِسُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ يَوْمَ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ، وَلَا نِسْبَة لِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَلُّقِ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَقْبَلُ الْبَدَنُ مَعَهُ مَوْتًا وَلَا نَوْمًا وَلَا فَسَادًا، فَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ. فَتَأَمُّلُ هَذَا يُزِحُ عَنْكَ إِشْكَالَاتٍ كَثِيرَةً.
وَلَيْسَ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ لِلرُّوحِ وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَأَفْسَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ! وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَة تَرُدُّ الْقَوْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة، تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُفْرَدَة عَنِ الْبَدَنِ وَمُتَّصِلَة بِهِ.(1/395)
وَاعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَه نَصِيبُه مِنْهُ، قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ، أَكَلَتْه السِّبَاعُ أَوِ احْتَرَقَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا وَنُسِفَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ صُلِبَ أَوْ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ - وَصَلَ إِلَى رُوحِه وَبَدَنِه مِنَ الْعَذَابِ مَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْبُورِ.
وَمَا وَرَدَ مِنْ إِجْلَاسِه وَاخْتِلَافِ أَضْلَاعِه وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَيَجِبُ أَنْ يُفْهَمَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادُه مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَلَا يُحَمَّلُ كَلَامُه مَا لَا يَحْتَمِلُه، وَلَا يُقَصَّرُ به عَنْ مُرَادِ مَا قَصَدَه مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، فَكَمْ حَصَلَ بِإِهْمَالِ ذَلِكَ وَالْعُدُولِ عَنْهُ مِنَ الضَّلَالِ وَالْعُدُولِ عَنِ الصَّوَابِ - مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا اللَّهُ. بَلْ سُوءُ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَصْلُ كُلِّ بِدْعَة وَضَلَالَة نَشَأَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطَأٍ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ سُوءُ الْقَصْدِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الدُّورَ ثَلَاثَة: دَارُ الدُّنْيَا، وَدَارُ الْبَرْزَخِ، وَدَارُ الْقَرَارِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ دَارٍ أَحْكَامًا تَخُصُّهَا، وَرَكَّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَرْوَاحُ تَبَعا لَهَا، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الْبَرْزَخِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْأَبْدَانُ تَبَعا لَهَا، فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ - صَارَ الْحُكْمُ وَالنَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ جَمِيعًا. فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا الْمَعْنَى حَقَّ التَّأَمُّلِ، ظَهَرَ لَكَ أَنَّ كَوْنَ الْقَبْرِ رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة أَوْ حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النَّارِ - مُطَابِقٌ لِلْعَقْلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَة فِيهِ، وَبِذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّارَ التي في الْقَبْرِ وَالنَّعِيمَ، لَيْسَت مِنْ جِنْسِ نَارِ الدُّنْيَا وَلَا نَعِيمِهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْمِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَالْحِجَارَة التي فَوْقَه وَتَحْتَه حتى تكُونَ أَعْظَمَ حَرًّا مِنْ جَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَوْ مَسَّهَا أَهْلُ الدُّنْيَا لَمْ يُحِسُّوا بِهَا. بَلْ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يُدْفَنُ أَحَدُهُمَا إِلَى جَنْبِ صَاحِبِه، وَهَذَا فِي حُفْرَة مِنَ النَّارِ،(1/396)
وَهَذَا فِي رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، لَا يَصِلُ مِنْ هَذَا إِلَى جَارِه شَيْءٌ مِنْ حَرِّ نَارِه، وَلَا مِنْ هَذَا إِلَى جَارِه شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِه. وَقُدْرَة اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَبُ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ مُولَعَة بِالتَّكْذِيبِ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ عِلْمًا. وَقَدْ أَرَانَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِه مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ. وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِعَ عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ عِبَادِه أَطْلَعَه وَغَيَّبَه عَنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ لَزَالَتْ حِكْمَة
التَّكْلِيفِ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَلَمَا تَدَافَنَ النَّاسُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَا أَسْمَعُ» (1) . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحِكْمَة مُنْتَفِيَة فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ سَمِعَتْ وَأَدْرَكتْ.
وَلِلنَّاسِ فِي سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ: هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِهَذِه الْأُمَّة أَمْ لَا -: ثَلَاثَة أَقْوَالٍ: الثَّالِثُ التَّوَقُّفُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَة، مِنْهُمْ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّة تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا» - مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه"تُسْأَلُ"، وَعَلَى هَذَا اللَّفْظِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ خُصَّتْ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُقْطَعُ بِهِ، وَيَظْهَرُ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي سُؤَالِ الْأَطْفَالِ أَيْضًا. وَهَلْ يَدُومُ عَذَابُ الْقَبْرِ أَوْ يَنْقَطِعُ؟ جَوَابُه أَنَّهُ نَوْعَانِ:
مِنْهُ مَا هُوَ دَائِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (2) . وَكَذَا في حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ
__________
(1) صحيح مسلم 2: 358، ولكن ليس في آخره كلمة «ما أسمع» ، فلعل الشارح رآها في رواية أخرى، فإن البخاري لم يرو هذا الحديث
(2) سورة غَافِرٍ آية 46(1/397)
عَازِبٍ فِي قِصَّة الْكَافِرِ: «ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَى مَقْعَدِه فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي بَعْضِ طُرُقِه.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُدَّة ثُمَّ يَنْقَطِعُ، وَهُوَ عَذَابُ بَعْضِ الْعُصَاة [الَّذِينَ] (1) خَفَّتْ جَرَائِمُهُمْ، فَيُعَذَّبُ بِحَسَبِ جُرْمِه، ثُمَّ يُخَفَّفُ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذكره في الْمُمَحِّصَاتِ الْعَشْرة (2) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُسْتَقَرِّ الْأَرْوَاحِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَة:
فَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّة، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ بِفِنَاءِ الْجَنَّة عَلَى بَابِهَا، يَأْتِيهِمْ مِنْ رَوْحِهَا وَنَعِيمِهَا وَرِزْقِهَا.
وَقِيلَ: عَلَى أَفْنِيَة قُبُورِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَة، تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ.
وَقَالَتْ طَائِفَة: بَلْ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَابِيَة مِنْ دِمَشْقَ، وَأَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ بِبَرَهُوتَ بِئْرٍ بِحَضْرَمَوْتَ!
وَقَالَ كَعْبٌ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَة، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ فِي سِجِّينَ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَة تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ!
وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ بِبِئْرِ زَمْزَمَ، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ بِبِئْرِ بَرَهُوتَ.
وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ يَمِينِ آدَمَ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ عَنْ شِمَالِه.
__________
(1) في الأصل: (بعض أهل العصاة الذي) . والتصحيح من «الروح» ص 89. ن
(2) هي الأعمال التي تمحص من الذنوب. وهي عشرة، مضى بيانها، ص: 308 - 311. وختامها هناك بالحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة(1/398)
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ: مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ كَانَتْ قَبْلَ خَلْقِ أَجْسَادِهَا.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّة، وَأَرْوَاحُ عَامَّة الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَة قُبُورِهِمْ.
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ مُعَلَّقَة بِالْعَرْشِ، تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى رِيَاضِ الْجَنَّة، تَأْتِي رَبَّهَا كُلَّ يَوْمٍ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ فِرْقَة: مُسْتَقَرُّهَا الْعَدَمُ الْمَحْضُ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّفْسَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ، كَحَيَاتِه وَإِدْرَاكِهِ! وَقَوْلُهُمْ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَقَالَتْ فِرْقَة: مُسْتَقَرُّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَبْدَانٌ أُخَرُ تُنَاسِبُ أَخْلَاقَهَا وَصِفَاتِهَا الَّتِي اكْتَسَبَتْهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، فَتَصِيرُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى بَدَنِ حَيَوَانٍ يُشَاكِلُ تِلْكَ الرُّوحَ! وَهَذَا قَوْلُ التَّنَاسُخِيَّة مُنْكِرِي الْمَعَادِ، وَهُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كُلِّهِمْ. وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ بَسْطِ أَدِلَّة هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا.
وَيَتَلَخَّصُ مِنْ أَدِلَّتِهَا: أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي الْبَرْزَخِ مُتَفَاوِتَة أَعْظَمَ تَفَاوُتٍ:
فَمِنْهَا: أَرْوَاحٌ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَهِيَ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُه، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ.
وَمِنْهَا: أَرْوَاحٌ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّة حَيْثُ شَاءَتْ، وَهِيَ أَرْوَاحُ بَعْضِ الشُّهَدَاءِ، لَا كُلِّهِمْ، بَلْ مِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ تُحْبَسُ رُوحُه عَنْ دُخُولِ الْجَنَّة لِدَيْنٍ عَلَيْهِ. كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لِي إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْجَنَّة"، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: "إِلَّا الدَّيْنَ، سَارَّنِي بِهِ [جِبْرِيلُ] (1) آنفا» (2) .
__________
(1) في الأصل: (جبرائيل) . والتصويب المسند 4 / 139، 350، والروح ص 115. ن
(2) المسند: 17319، 17320 (ج 4 ص 139 - 140 طبعة الحلبي)(1/399)
وَمِنَ الْأَرْوَاحِ مَنْ يَكُونُ مَحْبُوسًا عَلَى بَابِ الْجَنَّة، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسًا عَلَى بَابِ الْجَنَّة» ..
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَحْبُوسًا في قَبْرِه.
وَمِنْهُمْ مَنْ [مَحْبُوسًا] (1) فِي الْأَرْضِ.
وَمِنْهَا أَرْوَاحٌ فِي تَنُّورِ الزُّنَاة وَالزَّوَانِي، وَأَرْوَاحٌ فِي نَهْرِ الدَّمِ تَسْبَحُ فِيهِ وَتُلْقَمُ الْحِجَارَة، كُلُّ ذَلِكَ تَشْهَدُ لَهُ السُّنَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَيَاة الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الشَّهِيدُ وَامْتَازَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (3) -[فَهِيَ] : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ. كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ - يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ - جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّة، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُظلَّلَة فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» ، الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَبِمَعْنَاه فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَذَلُوا أَبْدَانَهَمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى أَتْلَفَهَا أَعْدَاؤُه فِيهِ، أَعَاضَهُمْ مِنْهَا فِي الْبَرْزَخِ أَبْدَانًا خَيْرًا مِنْهَا، تَكُونُ فِيهَا إلى يَوْمِ الْقِيَامَة، وَيَكُونُ نَعّيُمُهَا بِوَاسِطَة تِلْكَ الْأَبْدَانِ أَكْمَلَ مِنْ تَنَعُّمِ الْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَة عَنْهَا.
وَلِهَذَا كَانَتْ نَسَمَة الْمُؤْمِنِ فِي صُورَة طَيْرٍ، أَوْ كَطَيْرٍ، وَنَسَمَة الشَّهِيدِ فِي جَوْفِ
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. والتصويب من «الروح» ص 115. ن
(2) سورة آلِ عِمْرَانَ آية 169
(3) سورة الْبَقَرَة آية 154(1/400)
طَيْرٍ. وَتَأَمَّلْ لَفْظَ الْحَدِيثَيْنِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ نَسَمَة الْمُؤْمِنِ طَائِرٍ يَعْلَقُ في شَجَرِ الْجَنَّة، حَتَّى يُرْجِعَه اللَّهُ إِلَى جَسَدِه يَوْمَ يَبْعَثُه» ؛ فَقَوْلُهُ: "نَسَمَة الْمُؤْمِنِ"تَعُمُّ الشَّهِيدَ وَغَيْرَهُ، ثُمَّ خَصَّ الشَّهِيدَ بِأَنْ قَالَ: «هِيَ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا طَيْرٌ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَنَصِيبُهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْبَرْزَخِ أَكْمَلُ مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ [على فراشه] (1) أَعْلَى دَرَجَة مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، [فَلَهُ] (2) نَعِيمٌ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُه فِيهِ مَنْ هُوَ دُونَه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا رُوِي فِي السُّنَنِ. وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَقَدْ شُوهِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ مُدَدٍ مِنْ دَفْنِه كَمَا هُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُه كَذَلِكَ فِي تُرْبَتِه إِلَى يَوْمِ مَحْشَرِه، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَبْلَى مَعَ طُولِ الْمُدَّة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَأَنَّه - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كُلَّمَا كَانَتِ الشَّهَادَة أَكْمَلَ، وَالشَّهِيدُ أَفْضَلَ، كَانَ بَقَاءُ جَسَدِه أَطْوَلَ.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَة الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ) .
ش: الْإِيمَانُ بِالْمَعَادِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَة السَّلِيمَة. فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي كِتَابِه الْعَزِيزِ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عليه، وَرَدَّ على المُنْكِرِين، فِي غَالِبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ.
وَذَلِكَ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالرَّبِّ عَامٌّ فِي بَنِي آدَمَ، وَهُوَ فِطْرِي، كُلُّهُمْ يُقِرُّ بِالرَّبِّ، إِلَّا مَنْ عَانَدَ، كَفِرْعَوْنَ، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّ مُنْكِرِيه كَثِيرُونَ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ قَدْ بُعِثَ هُوَ وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ. وَكَانَ هُوَ الْحَاشِرُ
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. واستدركناه من «الروح» ص 98. ن
(2) في الأصل: (فلهم) . والتصويب من الروح ص 98. ن(1/401)
الْمُقَفِّي (1) - بَيَّنَ تَفْصِيلَ الْآخِرَة بَيَانًا لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَة مِنَ الْمُتَفَلْسِفَة وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلُوا هَذِا حُجَّة لَهُمْ فِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ وَالْخِطَابِ الْجُمْهُورِي!.
وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ مَعَادَ النَّفْسِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَمَعَادَ الْبَدَنِ عِنْدَ الْقِيَامَة الْكُبْرَى، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَة الْكُبْرَى، وَيُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ، وَيَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيلِ! ! وَهَذَا كَذِبٌ، فَإِنَّ الْقِيَامَة الْكُبْرَى هِيَ مَعْرُوفَة عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ، مِنْ آدَمَ إِلَى نُوحٍ، إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ [عَلَيْهِمُ السَّلَامُ] (2) .
[وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا] (3) ، مِنْ حِينِ أُهْبِطَ آدَمُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (4) ، وَلَمَّا قَالَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (5) ، قَالَ: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (6) .
وَأَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (7) .
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ}
__________
(1) في المطبوعة «المفضي» ! وليس لها معنى في أسمائه. وأقرب رسم إليها من أسمائه صلى الله عليه وسلم: المقفي، بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء المكسورة - يعني أنه قفى النبيين، فجاء بعدهم، وكان ختامهم، صلى الله عليه وسلم
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) سورة الْأَعْرَافِ الآيتان 24، 25
(5) سورة ص آية 79
(6) سورة ص الآيتان 80، 81
(7) سورة نُوحٍ الآيتان 17 - 18(1/402)
{الدِّينِ} (1) . إِلَى آخِرِ الْقِصَّة. وَقَالَ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (2) . وَقَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (3) الآية.
وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَاجَاه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (4) .
بَلْ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْلَمُ الْمَعَادَ، وَإِنَّمَا آمَنَ بِمُوسَى، قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَنْهُ: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (5) ، إلى قوله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (6) إِلَى قَوْلِهِ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (7) . وَقَالَ مُوسَى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (8) .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي قِصَّة الْبَقَرَة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (9) .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فِي آيَاتٍ [مِنَ] الْقُرْآنِ، وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (10) . وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ الدَّاخِلِينَ جَهَنَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا. فَجَمِيعُ الرُّسُلِ أَنْذَرُوا بِمَا أَنْذَرَ به خَاتَمُهُمْ
__________
(1) سورة الشُّعَرَاءِ آية 82
(2) سورة إِبْرَاهِيمَ آية 41
(3) سورة الْبَقَرَة آية 260
(4) سورة طه الآيتان 15، 16
(5) سورة غَافِرٍ الآيتان 32، 33
(6) سورة غَافِرٍ آية 39
(7) سورة غَافِرٍ آية 46
(8) سورة الْأَعْرَافِ آية 156
(9) سورة الْبَقَرَة آية 73
(10) سورة الزُّمَرِ آية 71(1/403)
مِنْ عُقُوبَاتِ الْمُذْنِبِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. فَعَامَّة سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، يُذْكَرُ ذَلِكَ فِيهَا: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَأَمَرَ نَبِيَّه أَنْ يُقْسِمَ بِهِ عَلَى الْمَعَادِ، فَقَالَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} (1) ، الآيات. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) .
وَأَخْبَرَ عَنِ اقْتِرَابِهَا، فَقَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (4) . {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (5) . {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} {لِلْكَافِرينَ} (6) إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (7) .
وَذَمَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمَعَادِ، فَقَالَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} (8) . {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (9) . {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (10) . {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (11) ، إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (12) . {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} (13) . {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}
__________
(1) سورة سَبَأٍ آية 3
(2) سورة يُونُسَ آية 53
(3) سورة التَّغَابُنِ آية 7
(4) سورة الْقَمَرِ آية 1
(5) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية 1
(6) سورة الْمَعَارِجِ الآيتان 1، 2
(7) سورة الْمَعَارِجِ الآيتان 6، 7
(8) سورة الأنعام آية 31
(9) سورة الشُّورَى آية 18
(10) سورة النَّمْلِ آية 66
(11) سورة النَّحْلِ آية 38
(12) سورة النَّحْلِ آية 39
(13) سورة غَافِرٍ آية 59(1/404)
{مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} (1) . {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (2) .
فَتَأَمَّلْ مَا أُجِيبُوا بِهِ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ على التَّفْصِيلِ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} ؟ ! فَقِيلَ لَهُمْ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ لَكُمْ وَلَا رَبَّ لَكُمْ، فَهَلَّا كُنْتُمْ خَلْقًا لَا يُفْنِيه الْمَوْتُ، كَالْحِجَارَة وَالْحَدِيدِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ فِي صُدُورِكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ ! فَإِنْ قُلْتُمْ: كُنَّا خَلْقًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَة الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ - فَمَا الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ خَالِقِكُمْ وَمُنْشِئِكُمْ وَبَيْنَ إِعَادَتِكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا؟ !
وَلِلْحُجَّة تَقْدِيرٌ آخَرُ، وَهُوَ: لَوْ كُنْتُمْ مِنْ حِجَارَة أَوْ حَدِيدٍ أَوْ خَلْقٍ أَكْبَرَ مِنْهُمَا، [فَإِنَّهُ] قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُفْنِيَكُمْ وَيُحِيلَ ذَوَاتَكُمْ، وَيَنْقُلَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ، مَعَ شِدَّتِهَا وَصَلَابَتِهَا، بِالْإِفْنَاءِ وَالْإِحَالَة - فَمَا الَّذِي يُعْجِزُه فِيمَا دُونَهَا؟ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ [سُؤَالًا آخَرَ] (3) بِقَوْلِهِمْ: {مَنْ يُعِيدُنَا} إِذَا اسْتَحَالَتْ جُسُومُنَا وَفَنِيَتْ؟ فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الْحُجَّة، وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهَا، انْتَقَلُوا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ يَتَعَلَّلُونَ بِهِ بِعِلَلِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَتَى هُوَ؟ فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} .
__________
(1) الْإِسْرَاءِ 97 - 99
(2) الْإِسْرَاءِ 49 - 52
(3) في الأصل: (آخرا) فقط. والصواب ما أثبتناه، كما في إحدى النسخ، وكما في مختصر الصواعق المرسلة 1 / 103. ن(1/405)
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (1) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَلَوْ رَامَ أَعْلَمُ الْبَشَرِ وَأَفْصَحُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْبَيَانِ، أَنْ يَأْتِيَ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّة، أَوْ بِمِثْلِهَا، بِأَلْفَاظٍ تُشَابِه هذه الْأَلْفَاظَ في الْإِيجَازِ وَوَضَحِ الْأَدِلَّة (2) وَصِحَّة الْبُرْهَانِ - لَمَا قَدَرَ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ هَذِهِ الْحُجَّة بِسُؤَالٍ أَوْرَدَه مُلْحِدٌ، اقْتَضَى جَوَابًا، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [مَا وَفَى] (3) بِالْجَوَابِ، وَأَقَامَ الْحُجَّة وَأَزَالَ الشُّبْهَة، [لولا ما] (4) أَرَادَ سُبْحَانَهُ [مِنْ] (5) تَأْكِيدِ الْحُجَّة وَزِيَادَة تَقْرِيرِهَا - فَقَالَ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (6) فَاحْتَجَّ بِالْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِعَادَة، [وَبِالنَّشْأَة الْأُولَى] (7) عَلَى النَّشْأَة الأخرى. إِذْ كلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ [علما] (8) ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ [قَدَرَ عَلَى هَذِهِ] (9) ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الثَّانِيَة لَكَانَ عَنِ الْأُولَى أَعْجَزَ وَأَعْجَزَ.
وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَة الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَعِلْمَه بِتَفَاصِيلِ خَلْقِه - أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (10) . فَهُوَ عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَجُزْئِيَّاتِه، وَمَوَادِّه وَصُورَتِه، فَكَذَلِكَ الثَّانِي. فَإِذَا كَانَ تَامَّ الْعِلْمِ، كَامِلَ الْقُدْرَة، كَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟.
ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِحُجَّة قَاهِرَة، وَبُرْهَانٍ ظَاهِرٍ، يَتَضَمَّنُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مُلْحِدٍ آخَرَ يَقُولُ: الْعِظَامُ إِذَا صَارَتْ رَمِيمًا عَادَتْ طَبِيعَتُهَا بَارِدَة يَابِسَة، وَالْحَيَاة لَا بُدَّ أَنْ
__________
(1) يس 78
(2) الوضح، بفتحتين: الضوء والبياض. يريد نصوع الأدلة وانتشار ضوئها كضوء النهار. وفي المطبوعة «ووضع الأدلة» . وهو - فيما أرى - تحريف
(3) في الأصل: (ما يفي) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) في الأصل: (لما) . والتصويب من مختصر الصواعق المرسلة 1 / 100. ن
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وأثبتناه من مختصر الصواعق المرسلة 1 / 100. ن
(6) يس 79
(7) في الأصل: (وبالإنشاء الأول) . ولعل الصواب، ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(8) سقطت من الأصل. والصواب إثباتها. ن
(9) الزيادة ضرورية، يقتضيها نسق الكلام وتمامه
(10) يس 79(1/406)
تَكُونَ مَادَّتُهَا وَحَامِلُهَا طَبِيعَتُه حَارَّة رَطْبَة - بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الْبَعْثِ، فَفِيهِ الدَّلِيلُ وَالْجَوَابُ، فَقَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} (1) . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْعُنْصُرِ، الَّذِي هُوَ فِي غَايَة الْحَرَارَة وَالْيُبُوسَة، مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الْمُمْتَلِئِ بِالرُّطُوبَة وَالْبُرُودَة، فَالَّذِي يُخْرِجُ الشَّيْءَ مِنْ ضِدِّه، وَتَنْقَادُ لَهُ مَوَادُّ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَنَاصِرُهَا وَلَا تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ - هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا أَنْكَرَه الْمُلْحِدُ وَدَفَعَه، مِنْ إِحْيَاءِ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ.
ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَخْذِ الدِّلَالَة مِنَ الشَّيْءِ الْأَجَلِّ الْأَعْظَمِ، عَلَى الْأَيْسَرِ الْأَصْغَرِ، فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَه بِكَثِيرٍ أَقْدَرُ وَأَقْدَرُ، فَمَنْ قَدَرَ على حَمْلِ قِنْطَارٍ كان (2) عَلَى حَمْلِ أُوقِيَّة أَشَدُّ اقْتِدَارًا، فَقَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (3) ؟ فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي أَبْدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، عَلَى [جَلَالَتِهِمَا] (4) ، وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا، وَكِبَرِ أَجْسَامِهِمَا، وَسَعَتِهِمَا، وَعَجِيبِ خَلْقِهِمَا - أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْيِي عِظَامًا قَدْ صَارَتْ رَمِيمًا، فَيَرُدَّهَا إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى. كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ، وَقَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (6) . ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَه بِبَيَانٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِعْلُه بِمَنْزِلَة غَيْرِهِ، الَّذِي يَفْعَلُ بِالْآلَاتِ وَالْكُلْفَة، وَالنصبِ وَالْمَشَقَّة، وَلَا يُمْكِنُه الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ آلَة وَمُعِينٍ، بَلْ يَكْفِي فِي خَلْقِه لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَه وَيُكَوِّنه نَفْسُ إِرَادَتِه، وَقَوْلُهُ لِلْمُكَوَّنِ: "كُنْ"، فَإِذَا هُوَ كَائِنٌ كَمَا شَاءَه وَأَرَادَه.
__________
(1) يس 80
(2) في المطبوعة «قدر» بدل «كان» . ولا تستقيم بها العبارة
(3) يس 81
(4) في الأصل: (حالتهما) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(5) غَافِرٍ 57
(6) يس: 81(1/407)
ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْحُجَّة بِإِخْبَارِه أَنَّ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِه، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِفِعْلِه وَقَوْلِهِ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (1) . فَاحْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُه مُهْمَلًا عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَنَّ حِكْمَتَه وَقُدْرَتَه تَأْبَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (2) ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. فَإِنَّ مَنْ نَقَلَه مِنَ النُّطْفَة إِلَى الْعَلَقَة، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَة، ثُمَّ شَقَّ سَمْعَه وَبَصَرَه، وَرَكَّبَ فِيهِ الْحَوَاسَّ وَالْقُوَى، وَالْعِظَامَ وَالْمَنَافِعَ، وَالْأَعْصَابَ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّه، وَأَحْكَمَ خَلْقَه غَايَة الْإِحْكَامِ، وَأَخْرَجَه عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَالصُّورَة، الَّتِي هِيَ أَتَمُّ الصُّوَرِ وَأَحْسَنُ الْأَشْكَالِ - كَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إِعَادَتِه وَإِنْشَائِه مَرَّة ثَانِيَة؟ أَمْ كَيْفَ تَقْتَضِي حِكْمَتُه وَعِنَايَتُه أَنْ يَتْرُكَه سُدًى؟ فَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِحِكْمَتِه، وَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ قُدْرَتُه.
فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ الْعَجِيبِ، بِالْقَوْلِ الْوَجِيزِ، الَّذِي لَا يَكُونُ أَوْجَزَ مِنْهُ، وَالْبَيَانِ الْجَلِيلِ، الَّذِي لَا يُتَوَهَّمُ أَوْضَحُ مِنْهُ، وَمَأْخَذِه الْقَرِيبِ، الَّذِي لَا تَقَعُ الظُّنُونُ عَلَى أَقْرَبَ مِنْهُ.
وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (3) إِلَى أَنْ قَالَ: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (4) . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ}
__________
(1) الْقِيَامَة 36 - 40
(2) الْمُؤْمِنُونَ 115
(3) الْحَجِّ 5
(4) الْحَجِّ: 7(1/408)
{خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) إِلَى أَنْ قَالَ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) . وَذَكَرَ قِصَّة أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَكَيْفَ أَبْقَاهُمْ مَوْتَى ثَلَاثَمِائَة سَنَةٍ شَمْسِيَّة، [وَهِيَ] (3) ثَلَاثُمِائَة وَتِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّة، وَقَالَ فِيهَا: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (4) .
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَة مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَة - لَهُمْ فِي الْمَعَادِ خَبْطٌ وَاضْطِرَابٌ. وَهُمْ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُعْدَمُ الْجَوَاهِرُ ثُمَّ تُعَادُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُفَرَّقُ الْأَجْزَاءُ ثُمَّ تُجْمَعُ. فَأُورِدَ عَلَيْهِمُ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَأْكُلُه حَيَوَانٌ، وَذَلِكَ [الْحَيَوَانُ] (5) أَكَلَه إِنْسَانٌ، فَإِنْ أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مِنْ هَذَا، لَمْ تُعَدْ مِنْ هَذَا؟ وَأُورِدَ عَلَيْهِمْ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَحَلَّلُ دَائِمًا، فَمَاذَا الَّذِي يُعَادُ؟ أَهْوَ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْمَوْتِ؟ فَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ، لَزِمَ أَنْ يُعَادَ عَلَى صُورَة ضَعِيفَة، وَهُوَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بَعْضُ الْأَبْدَانِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ! فَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّة لَا تَتَحَلَّلُ، وَلَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّذِي أَكَلَه الثَّانِي! وَالْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ نَفْسَه كُلَّهُ يَتَحَلَّلُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ بَاقٍ، فَصَارَ مَا ذَكَرُوه فِي الْمَعَادِ مِمَّا قَوَّى شُبْهَة الْمُتَفَلْسِفَة فِي إِنْكَارِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ.
وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْأَجْسَامَ تَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَتَسْتَحِيلُ تُرَابًا، ثُمَّ يُنْشِئُهَا (6) اللَّهُ نَشْأَة أُخْرَى، كَمَا اسْتَحَالَ فِي النَّشْأَة الْأُولَى: فَإِنَّهُ كَانَ نُطْفَة، ثُمَّ صَارَ عَلَقَة، [ثُمَّ صَارَ مُضْغَة] (7) ، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا
__________
(1) الْمُؤْمِنُون 12
(2) الْمُؤْمِنُونَ 16
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(4) الْكَهْفِ 21
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(6) في المطبوعة «ثم أنشأها» . والفعل الماضي هنا غير مناسب للسياق. والمضارع أجود وأدق
(7) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/409)
وَلَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأَه خَلْقًا سَوِيًّا. كَذَلِكَ الْإِعَادَة: يُعِيدُه اللَّهُ بَعْدَ أَنْ يَبْلَى كُلُّهُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ» (1) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ السماء تُمْطِرُ مَطَرًا كَمَنِي الرِّجَالِ، يَنْبُتُونَ فِي الْقُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ» . فَالنَّشْأَتَانِ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسٍ، يَتَّفِقَانِ وَيَتَمَاثَلَانِ مِنْ وَجْه، وَيَفْتَرِقَانِ وَيَتَنَوَّعَانِ مِنْ وَجْه. وَالْمُعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِه، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ لَوَازِمِ الْإِعَادَة وَلَوَازِمِ الْبَدَاءَة فَرْقٌ، فَعَجْبُ الذَّنَبِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى، وَأَمَّا سَائِرُه فَيَسْتَحِيلُ، فَيُعَادُ مِنَ الْمَادَّة الَّتِي اسْتَحَالَ إِلَيْهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ رَآه وَقَدْ صَارَ شَيْخًا، عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ، مَعَ أَنَّهُ دَائِمًا فِي تَحَلُّلٍ وَاسْتِحَالَة. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتُ، فَمَنْ رَأَى شَجَرَة وَهِيَ صَغِيرَة، ثُمَّ رَآهَا كَبِيرَة، قَالَ: هَذِهِ تِلْكَ. وَلَيْسَتْ صِفَة تِلْكَ النَّشْأَة الثَّانِيَة مُمَاثِلَة لِصِفَة هَذِهِ النَّشْأَة، حَتَّى يُقَالَ إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الْمُغَيَّرَة، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْجَنَّة إِذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَة آدَمَ، طُولُه سِتُّونَ ذِرَاعًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِي: أَنَّ عَرْضَه سَبْعَة أَذْرُعٍ. وَتِلْكَ نَشْأَة بَاقِيَة غَيْرُ مُعَرَّضَة لِلْآفَاتِ، وَهَذِهِ النَّشْأَة فَانِيَة مُعَرَّضَة لِلْآفَاتِ.
وَقَوْلُهُ: "وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ"-
قَالَ تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (2) . {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (3) . وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ، يُقَالُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، أَيْ كَمَا تُجَازِي تُجَازَى، وَقَالَ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
__________
(1) ليس هذا اللفظ في الصحيحين تماما. ومعناه ثابت في البخاري 8: 424، 529 ومسلم 2: 383، من حديث أبي هريرة. وأقرب لفظ إلى ذكره الشارح، إحدى روايات مسلم: «كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب» . و «العجب» ، بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة: عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع. قاله الحافظ في الفتح
(2) الْفَاتِحَة 3
(3) النُّورِ 25
(4) السَّجْدَة آية 17(1/410)
{جَزَاءً وِفَاقًا} (1) . {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (2) . {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3) . {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّه عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَه» . وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَة بَيَانٍ عَنْ قَرِيبٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: "وَالْعرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَة الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ"-
قَالَ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (5) ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} {وَيَصْلَى سَعِيرًا} {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (6) . {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (7) . {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}
__________
(1) النَّبَأِ 26
(2) الْأَنْعَامِ 160
(3) النَّمْلِ 89 - 90
(4) الْقَصَصِ 84
(5) الْحَاقَّة 15 - 18
(6) الِانْشِقَاقِ 6 - 15
(7) الْكَهْفِ 48(1/411)
{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) . {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (3) . {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (4) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِه، عَنْ عَائِشَة، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَة إِلَّا هَلَكَ» "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} (5) ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَة إِلَّا عُذِّبَ» . يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ نَاقَشَ فِي حِسَابِه لِعَبِيدِه لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَكِنَّه تَعَالَى يَعْفُو وَيَصْفَحُ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَة بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَة الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِي بِصَعْقَة يَوْمِ الطُّورِ» ؟ ". وَهَذَا صَعْقٌ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَة، إِذَا جَاءَ اللَّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِه، فَحِينَئِذٍ يَصْعَقُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَة
__________
(1) الْكَهْفِ 49
(2) إِبْرَاهِيمَ 48
(3) غافر 15 - 17
(4) الْبَقَرَة 281
(5) الِانْشِقَاقِ 7 - 8(1/412)
الْعَرْشِ» ؟ قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ وَرَدَ هَكَذَا، وَمِنْهُ نَشَأَ الْإِشْكَالُ. وَلَكِنَّه دَخَلَ فِيهِ عَلَى الرَّاوِي حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، فَرَكَّبَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، فَجَاءَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ هَكَذَا: أَحَدُهُمَا: «أنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ» ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَة» ، فَدَخَلَ عَلَى الرَّاوِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْآخَرِ. وَمِمَّنْ نَبَّه عَلَى هَذَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّي، وبعده الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَشَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ اشْتَبَه عَلَى بَعْضِ الرُّوَاة، فَقَالَ: "فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"؟ وَالْمَحْفُوظُ الَّذِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَة هُوَ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الصَّعْقَ يَوْمَ الْقِيَامَة لِتَجَلِّي اللَّهِ لِعِبَادِه إِذَا جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ لَمْ يُصْعَقْ مَعَهُمْ، فَيَكُونُ قَدْ جُوزِي بِصَعْقَة يَوْمَ تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ فَجَعَلَه دَكًّا، فَجُعِلَتْ صَعْقَة هَذَا التَّجَلِّي عِوَضًا عَنْ صَعْقَة الْخَلَائِقِ لِتَجَلِّي رَّبِّه يَوْمَ الْقِيَامَة. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمَ وَلَا تُهْمِلْه.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَة ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَعَرْضَتَانِ جِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَعَرْضَة تَطَايُرِ الصُّحُفِ، فَمَنْ أُوتِي كِتَابَه بِيَمِينِه، وَحُوسِبَ حَسِابًا يَسِيرًا، دَخَلَ الْجَنَّة، وَمَنْ أُوتِي كِتَابَه بِشِمَالِه، دَخَلَ النَّارَ» (1) .
__________
(1) وهم الشارح رحمه الله في نسبة هذا الحديث للترمذي، من حديث أبي موسى. فإن الترمذي رواه بنحوه معناه 3: 294، من طريق الحسن البصري عن أبي هريرة، وأشار إلى حديث أبي موسى، فقال: «ولا يصح هذا الحديث، من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. وقد رواه بعضهم عن علي بن علي، وهو الرفاعي، عن الحسن، عن أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم» . وأما حديث أبي موسى فقد رواه الإمام أحمد في المسند 4: 414 (طبعة الحلبي) ، عن وكيع عن علي بن علي، عن الحسن، عن أبي موسى. وكذلك رواه ابن ماجه: 4277، من طريق وكيع، بنحوه. بل إن رواية الترمذي إياه - من حديث أبي هريرة - هي من رواية وكيع عن علي بن علي أيضا. فالإسنادان ثابتان إذن عن وكيع. والحديث - عندنا - صحيح من الوجهين. فإن سماع الحسن من أبي هريرة صحيح ثابت، كما بينت ذلك مفصلا في شرح الحديث: 7138 من المسند. وقد أعل البوصيري في زوائد ابن ماجه - حديث أبي موسى أيضا، بأن الحسن لم يسمع من أبي موسى. وفي ذلك خلاف، ولكنه عاصره يقينا، فإن الحسن ولد سنة 21، وأبو موسى مات سنة 52 على القول الراجح. وأما هذه الرواية - التي ذكرها الشارح - وفيها قول الحسن: «سمعت أبا موسى الأشعري» - فإن إسنادها ليس بين يدي، ولعلها رواية ابن أبي الدنيا. فلو كان إسنادها صحيحا كصحة إسنادي أحمد وابن ماجه، لكانت قاطعة في سماع الحسن من أبي موسى(1/413)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا:
وَطَارَتِ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي مُنَشَّرَة ... فِيهَا السَّرَائِرُ وَالْأَخْبَارُ تُطَّلَعُ
فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَة ... عَمَّا قَلِيلٍ، وَلَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمِ الْجَحِيمِ فَلَا تُبْقِي وَلَا تَدَعُ
تَهْوِي بِسَاكِنِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ ... إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يُرْحَمْ تَضَرُّعُهُمْ ... فِيهَا، وَلَا رِقَّية تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
لِيَنْفَعِ الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَه ... قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا
وَقَوْلُهُ"وَالصِّرَاطُ"-
أَيْ وَنُؤْمِنُ بِالصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ، إِذَا انْتَهَى النَّاسُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ مَكَانَ الْمَوْقِفِ إِلَى الظُّلْمَة الَّتِي دُونَ الصِّرَاطِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ: "هُمْ فِي الظُّلْمَة دُونَ الْجِسْرِ» . وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَفْتَرِقُ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَتَخَلَّفُونَ عَنْهُمْ، وَيَسْبِقُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِه، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَة"، إِلَى أَنْ قَالَ: "فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ على قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ"، قَالَ: "فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَه مِثْلَ الْجَبَلِ بَيْنَ يَدَيْه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَه فَوْقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ(1/414)
مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى دُونَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، حَتَّى يَكُونَ آخر مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ، يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً، إِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ"، قَالَ: "فَيَمُرُّ وَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ، دَحْضٌ، مَزِلَّةٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ: امْضُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، يَرْمُلُ رَمَلًا (1) ، فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ عَلَى إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل، وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار"قال: "فَيَخْلُصُونَ، فَإِذَا خَلَصُوا قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْكِ بَعْدَ أَنْ أَرَانَاكِ، لَقَدْ أَعْطَانَا الله ما لم يعط أحد"، الْحَدِيثَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْوُرُودِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (2) - مَا هُوَ؟ وَالْأَظْهَرُ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (3) . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَلِجُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ"، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِيهِ قَالَ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} " (4) . أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ وُرُودَ النَّارِ لَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَهَا، وَأَنَّ النَّجَاةَ من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انْعِقَادَ سَبَبِهِ، فَمَنْ طَلَبَهُ عَدُوُّهُ لِيُهْلِكُوهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ، يُقَالُ: نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}
__________
(1) في المطبوعة «كأشد الرحل ويرمل رملا» . وهو كلام غير مستقيم، ولم أجد نص الأثر كاملا في موضع آخر، ولكن روى الحاكم في المستدرك 2: 375 عن ابن مسعود مرفوعا نحو هذا المعنى مختصرا، وفيه: «ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم» . وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وذكر ابن كثير في التفسير 5: 390 نحو معناه مطولا موقوفا، ونسبه لابن أبي حاتم في تفسيره
(2) مريم 71
(3) مريم 72
(4) هو في صحيح مسلم 2: 263، بنحو هذا المعنى(1/415)
{نَجَّيْنَا هُودًا} (1) . {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} (2) . و {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} (3) . وَلَمْ يَكُنِ الْعَذَابُ أَصَابَهُمْ، وَلَكِنْ أَصَابَ غَيْرَهُمْ، وَلَوْلَا مَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ لَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ.
وَكَذَلِكَ حَالُ الْوَارِدِ فِي النَّارِ، يَمُرُّونَ فَوْقَهَا عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذْرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الْوُرُودُ عَلَى الصِّرَاطِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ الْوَائِلِيُّ (4) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمِ النَّاسَ سُنَّتِي وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ لَا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدَخُلَ الْجَنَّةَ، فَلَا تُحْدِثَنَّ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ» . أَوْرَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَرَوَى أبو بكر بن أحمد بن سليمان النجار، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي» (5) ".
وَقَوْلُهُ: "وَالْمِيزَانُ"-
أَيْ: وَنُؤْمِنُ بِالْمِيزَانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (6) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ}
__________
(1) هود 58
(2) هود 66
(3) هود 94
(4) هو الحافظ الوائلي البكري، أبو نصر السجزي، المتوفى سنة 444، ترجمه الذهبي في تذكرة الحفاظ 3: 279 - 298
(5) يعلى بن منية، بضم الميم وسكون النون وفتح الياء التحتية، وهي أمه، وأبوه اسمه «أمية» ، وصحف اسم أمه في المطبوعة ومجمع الزوائد، كتب «منبه» ! والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 360، وقال: «رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف»
(6) الأنبياء 47(1/416)
{خَالِدُونَ} (1) .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا انْقَضَى الْحِسَابُ كَانَ بَعْدَهُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ لِلْجَزَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِتَقْرِيرِ الْأَعْمَالِ، وَالْوَزْنَ لِإِظْهَارِ مَقَادِيرِهَا لِيَكُونَ الْجَزَاءُ بحسبها. قال: وقوله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) - يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَوَازِينُ مُتَعَدِّدَةٌ تُوزَنُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَوْزُونَاتِ، فَجَمَعَ بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: أَنَّ مِيزَانَ الْأَعْمَالِ لَهُ كِفَّتَانِ حِسِّيَّتَانِ مُشَاهَدَتَانِ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله سيخلص رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ. فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَمَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، [وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ] ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ بسم الله الرحمن الرحيم» (2) . وهكذا رواه التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» (3) . وَفِي سِيَاقٍ آخَرَ: «تُوضَعُ الموازين
__________
(1) المؤمنون 102 - 103
(2) هو الحديث: 6994 من المسند، وهذا لفظه، وكان في المطبوعة بعض تحريف صححناه منه، وزيادة] والبطاقة في كفة [ليست في نسخ المسند، وهي ثابتة في رواية الترمذي 3: 367، والحديث من رواية الليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي
(3) في المطبوعة: «ولا يثقل شيء اسم الله» . والذي أثبتنا هو نص ما في الترمذي. وقد أشار الشارح رحمه الله إلى هذا الحديث فيما مضى ص: 317(1/417)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ» ، الْحَدِيثَ.
وَفِي هَذَا السِّيَاقِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ الْعَامِلَ يُوزَنُ مَعَ عَمَلِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يزن عند الله جناح بعوضة"قال: "اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} " (1) .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَجْنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِمَّ تَضْحَكُونَ"؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» (2) .
وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ أَيْضًا بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ أَنْفُسِهَا، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ» .
وفي الصحيح، وَهُوَ خَاتِمَةُ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» .
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، وَيُوَكَّلُ بِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ، نَادَى الْمَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا. وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، نَادَى الْمَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: شَقِيَ فُلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا» .
فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مُلْحِدٍ مُعَانِدٍ يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن،
__________
(1) الكهف 105
(2) المسند: 3991. وفي المطبوعة «فجعلت الريح تكفيه» ، وصححناه من المسند(1/418)
وَإِنَّمَا يَقْبَلُ الْوَزْنَ الْأَجْسَامُ!! فَإِنَّ اللَّهَ يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالموت كبشا [أغثر] (1) ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَرَوْنَ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، فَيُذْبَحُ، وَيُقَالُ: خُلُودٌ لَا مَوْتَ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. فَثَبَتَ وَزْنُ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِ وَصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ كِفَّتَانِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ.
فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، كَمَا أَخْبَرَنَا الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
وَيَا خَيْبَةَ مَنْ يَنْفِي وَضْعَ الْمَوَازِينِ الْقِسْطِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ الشَّارِعُ، لِخَفَاءِ الْحِكْمَةِ عَلَيْهِ، وَيَقْدَحُ فِي النُّصُوصِ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمِيزَانِ إِلَّا الْبَقَّالُ وَالْفَوَّالُ!! وَمَا أَحَرَاهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُقِيمُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي وَزْنِ الْأَعْمَالِ إِلَّا ظُهُورُ عدله سبحانه لجميع عباده، فإنه لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. فَكَيْفَ وَوَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ. فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ، لَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (3) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَوْضِ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلَ الْمِيزَانِ، وَالصِّرَاطَ بَعْدَ الْمِيزَانِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا عبروا
__________
(1) في الأصل: (أغر) . والتصويب من المسند 2 / 423. ن
(2) البقرة 30
(3) الإسراء 85(1/419)
الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» . وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ هَذِهِ الْقَنْطَرَةَ صِرَاطًا ثَانِيًا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَلَيْسَ يَسْقُطُ مِنْهُ أَحَدٌ فِي النَّارِ، والله تعالى أعلم.
قَوْلُهُ (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) .
ش: أَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ"- فَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ الْآنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ، حَتَّى نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: بَلْ [يُنْشِئُهُمَا] (1) اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ!! وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلُهُمُ الْفَاسِدُ الَّذِي وَضَعُوا بِهِ شَرِيعَةً لِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا!! وَقَاسُوهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي أَفْعَالِهِمْ، فَهُمْ مُشَبِّهَةٌ فِي الْأَفْعَالِ، وَدَخَلَ التَّجَهُّمُ فِيهِمْ، فَصَارُوا مَعَ ذَلِكَ مُعَطِّلَةً! وَقَالُوا: خَلْقُ الْجَنَّةِ قَبْلَ الْجَزَاءِ عَبَثٌ! لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُعَطَّلَةً مُدَدًا مُتَطَاوِلَةً!! فَرَدُّوا مِنَ النُّصُوصِ مَا خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَحَرَّفُوا النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَضَلَّلُوا وَبَدَّعُوا مَنْ خَالَفَ شَرِيعَتَهُمْ.
فَمِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ: قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2) . {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (3) . وعن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (4) . {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} {لِلطَّاغِينَ مَآبًا} (5) . وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً}
__________
(1) في الأصل: (ينشئها) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(2) آل عمران 133
(3) الحديد 21
(4) آل عمران 131
(5) النبأ 21 - 22(1/420)
{أُخْرَى} {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (1) . وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَرَأَى عِنْدَهَا جَنَّةَ الْمَأْوَى. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَفِي آخِرِهِ: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جَبْرَائِيلُ، حَتَّى أَتَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ"قَالَ: "ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا هِيَ جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (2) .
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَفِيهِ: «يُنَادِي مُنَادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا» .
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم» . فذكرت الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ بِهِ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي آخُذُ قطفا من الجنة حين رأيتموني تقدمت [وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ» (3) ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رأيناك تكعكعت؟
__________
(1) النجم 13 - 15
(2) رواه مالك في الموطأ 1: 337 - 338، بهذا اللفظ، ورواه أحمد: 5926 من طريق مالك ورواه أيضا من أوجه أخر: 4658، 5119، 5243. ورواه الشيخان كذلك
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبتناه من سائر النسخ. ن(1/421)
فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، وَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"، قَالُوا: بِمَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بَكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ خَيْرًا قَطُّ!! ".
» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قليلا [ولبكيتم] (1) . كَثِيرًا"قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ» .
وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالسُّنَنِ، من حديث كعب بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ تعلق فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهَا اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي دُخُولِ الرُّوحِ الْجَنَّةَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ. مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الجنة والنار، أرسل جبرائيل إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِالْجَنَّةِ، فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ سَمِعَ بِهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إلا دخلها» .
__________
(1) في الأصل: (وبكيتم) . والتصويب من صحيح مسلم ح(1/422)
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا - فَالْقَوْلُ بِوُجُودِهَا الْآنَ ظَاهِرٌ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ.
وَأَمَّا شُبْهَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ، وَهِيَ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً الْآنَ لَوَجَبَ اضْطِرَارًا أَنْ تَفْنَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنْ يَهْلَكَ كُلُّ مَنْ فِيهَا وَيَمُوتَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) . و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (2) .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، مِنْ حَدِيثِ ابن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً مَفْرُوغًا مِنْهَا لَمْ تَكُنْ قِيعَانًا، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْغِرَاسِ مَعْنًى. قَالُوا: وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ أَنَّهَا قَالَتْ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} (3) .
- فَالْجَوَابُ: إِنَّكُمْ إِنْ أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ إِنَّهَا الْآنَ مَعْدُومَةٌ بِمَنْزِلَةِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَقِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهَا لَمْ يَكْمُلْ خَلْقُ جَمِيعِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا، وَأَنَّهَا لَا يَزَالُ اللَّهُ يُحْدِثُ فِيهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِذَا دَخَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ أَحْدَثَ اللَّهُ فِيهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ أُمُورًا أُخَرَ- فَهَذَا حَقٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ،
__________
(1) القصص 88
(2) آل عمران 185
(3) التحريم 11(1/423)
وَأَدِلَّتُكُمْ هَذِهِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) ، فأثبتم سُوءِ فَهْمِكُمْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاحْتِجَاجُكُمْ بِهَا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ - نَظِيرُ احْتِجَاجِ إخوانكم بها عَلَى فَنَائِهِمَا وَخَرَابِهِمَا وَمَوْتِ أَهْلِهِمَا!! فَلَمْ تُوَفَّقُوا أَنْتُمْ وَلَا إِخْوَانُكُمْ لِفَهْمِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَإِنَّمَا وُفِّقَ لِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ.
فَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَنَّ الْمُرَادَ"كُلُّ شَيْءٍ"مِمَّا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفَنَاءَ وَالْهَلَاكَ"هَالِكٌ"، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ خُلِقَتَا لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ، وَكَذَلِكَ الْعَرْشُ، فَإِنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَّا مُلْكَهُ. وَقِيلَ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (2) ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَطَمِعُوا فِي الْبَقَاءِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، فَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3) ، لِأَنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَأَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى بَقَاءِ النَّارِ أَيْضًا، عَلَى مَا يُذْكَرُ عَنْ قَرِيبٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: "لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ"-
هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَالَ بِبَقَاءِ الجنة وقال بفناء النَّارِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالْقَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ إِمَامُ الْمُعَطِّلَةِ، وَلَيْسَ لَهُ سَلَفٌ قَطُّ، لَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَفَّرُوهُ بِهِ، وَصَاحُوا بِهِ وَبِأَتْبَاعِهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَهَذَا قَالَهُ لِأَصْلِهِ الْفَاسِدِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ، وَهُوَ امْتِنَاعُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْحَوَادِثِ! وَهُوَ عُمْدَةُ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَحُدُوثِ مَا لَمْ يَخْلُ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عُمْدَتَهُمْ فِي حُدُوثِ العالم. فرأى الجهم أن ما يمنع
__________
(1) القصص 88
(2) الرحمن 26
(3) القصص 88(1/424)
مِنْ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فِي الْمَاضِي، يَمْنَعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ!! فَدَوَامُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ عَلَى الرَّبِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمْتَنِعٌ، كَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي!! وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَقْتَضِي فَنَاءَ الْحَرَكَاتِ، فَقَالَ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى يَصِيرُوا فِي سُكُونٍ دَائِمٍ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى حَرَكَةٍ!! وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَوَامِ فَاعِلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ لَمْ يَزَلْ رَبًّا قَادِرًا فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا. وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ لِذَاتِهِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ فَيَصِيرُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ حَدٌّ مَحْدُودٌ حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِّ، وَيَكُونُ قَبْلَهُ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ. فَهَذَا الْقَوْلُ تَصَوُّرُهُ كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِفَسَادِهِ.
فَأَمَّا أَبَدِيَّةُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَبِيدُ، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (1) ، أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} .
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ:
فَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي النَّارِ، وَهَذَا يَكُونُ لِمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا، لَا لِكُلِّهِمْ.
وَقِيلَ: إِلَّا مَدَّةَ مُقَامِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ.
وَقِيلَ: إِلَّا مُدَّةَ مُقَامِهِمْ فِي الْقُبُورِ وَالْمَوْقِفِ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءُ [اسْتَثْنَاهُ] (2) الرَّبُّ وَلَا يَفْعَلُهُ، كَمَا تقول: والله لأضربنك
__________
(1) هود 108
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدركناه من «حادي الأرواح» الباب السابع والستون ص 242. ن(1/425)
إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ، بَلْ تَجْزِمُ بِضَرْبِهِ.
وَقِيلَ: "إِلَّا"بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَهُوَ ضعيف. [ومنهم] من يَجْعَلُ"إِلَّا"بِمَعْنَى"لَكِنْ"، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ، وَقَدْ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} . قَالُوا: وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ: أَسْكَنْتُكَ دَارِي حَوْلًا إِلَّا مَا شِئْتُ. أَيْ سِوَى مَا شِئْتُ، [أَوْ لَكِنْ] (1) مَا شِئْتُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ لِإِعْلَامِهِمْ، بِأَنَّهُمْ مع خلودهم في مشيئة الله، لأنهم لا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عَزِيمَتَهُ وَجَزْمَهُ لَهُمْ بِالْخُلُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (3) ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} (4) . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، يُخْبِرُ عِبَادَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَتِهِ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَقِيلَ: إِنَّ"مَا"بِمَعْنَى"مَنْ"أَيْ: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهُ النَّارَ بِذُنُوبِهِ مِنَ السُّعَدَاءِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَقَوْلُهُ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مُحْكَمٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (5) . وقوله:
__________
(1) في الأصل: (ولكن) . والتصويب من حادي الأرواح ص 243. ن
(2) الإسراء 86
(3) الشورى 24
(4) يونس 16
(5) ص 54(1/426)
{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} (1) وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (2) .
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالتَّأْبِيدِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (3) وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} - تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَتَيْنِ اسْتِثْنَاءُ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا فِيهِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ مُدَّةِ الْخُلُودِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْمَوْتَةِ الْأُولَى مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْتِ، فَهَذِهِ مَوْتَةٌ تَقَدَّمَتْ عَلَى حَيَاتِهِمُ الْأَبَدِيَّةِ، [وَذَاكَ] (4) . مُفَارَقَةٌ لِلْجَنَّةِ تَقَدَّمَتْ عَلَى خُلُودِهِمْ فِيهَا.
وَالْأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى أَبَدِيَّةِ الْجَنَّةِ وَدَوَامِهَا كَثِيرِةٌ: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمْ وَلَا يَبْأَسْ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ» . وَقَوْلِهِ: «يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا [أَبَدًا] (5) ، وَأَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا» .
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَبْحِ الْمَوْتِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيُقَالُ: «يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ» .
وَأَمَّا أَبَدِيَّةُ النَّارِ وَدَوَامُهَا، فَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدَ الْآبَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا، ثُمَّ تَنْقَلِبُ طَبِيعَتُهُمْ وَتَبْقَى طَبِيعَةً [نَارِيَّةً] (6) يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِمُوَافَقَتِهَا لِطَبْعِهِمْ! وَهَذَا قَوْلُ إِمَامِ الاتحادية ابن عربي الطائي!!
__________
(1) الرعد 35
(2) الحجر 48
(3) الدخان 56
(4) في الأصل: (وذلك) ولعل الصواب ما أثبتناه من حادي الأرواح ص 244. ن
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والصواب ما أثبتناه من صحيح مسلم (4 / 2182) رقم 2837، ومن حادي الأرواح ص 244. ن
(6) في الأصل: (النارية) ولعل الصواب ما أثبتناه من حادي الأرواح ص 248. ن(1/427)
الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا إِلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَيَخْلُفُهُمْ فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْذَبَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
الرَّابِعُ: يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَتَبْقَى عَلَى حَالِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا تَفْنَى بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَمَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ!! وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِ وَشِيعَتِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
السَّادِسُ: تَفْنَى حَرَكَاتُ أَهْلِهَا وَيَصِيرُونَ جَمَادًا، لَا يُحِسُّونَ بألم، وهذا قول أبي الهذيل كَمَا تَقَدَّمَ.
السَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ يُبْقِيهَا شَيْئًا، ثُمَّ يُفْنِيهَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ لَهَا أَمَدًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ شَاءَ، كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، وَيَبْقَى فِيهَا الْكُفَّارُ، بَقَاءً لَا انْقِضَاءَ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَهَذَانِ القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما (2) :
فَمِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ}
__________
(1) البقرة 80 - 81
(2) في المطبوعة «دليليهما» بالتثنية. وهو خطأ، والجمع هو المناسب للكلام هنا(1/428)
{فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى. {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَ هَذَيْنِ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ مَا أَتَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3) . وقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (4) .
وَهَذَا الْقَوْلُ - أَعْنِي الْقَوْلَ بِفَنَاءِ النَّارِ دُونَ الْجَنَّةِ - مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَشْهُورِ، بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلِ عَالِجٍ، لَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقْتٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ» ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (5) . قَالُوا: وَالنَّارُ مُوجَبُ غَضَبِهِ، وَالْجَنَّةُ مُوجَبُ رَحْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . وَفِي رِوَايَةٍ: «تَغْلِبُ غَضَبِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالُوا: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ عَنِ الْعَذَابِ أَنَّهُ: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (6) . و {أَلِيمٍ} (7) . و {عَقِيمٍ} (8) . وَلَمْ يُخْبِرْ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَنِ النَّعِيمِ أَنَّهُ نَعِيمُ يَوْمٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (9) وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ}
__________
(1) الأنعام 128
(2) هود 106 - 107
(3) هود 108
(4) النبأ 23
(5) النبأ 23
(6) الأنعام 15
(7) هود 26
(8) الحج 55
(9) الأعراف 156(1/429)
{شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (1) . فَلَا بُدَّ أَنْ تَسَعَ رَحْمَتُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، فَلَوْ بَقُوا فِي الْعَذَابِ لَا إِلَى غَايَةٍ لَمْ تَسَعْهُمْ رَحْمَتُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَقْدِيرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْمُعَذَّبُونَ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْعَذَابِ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ، وَلَيْسَ فِي حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا يُعَذِّبُهُمْ أَبَدَ الْآبَادِ عَذَابًا سَرْمَدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَأَمَّا أَنَّهُ يَخْلُقُ خَلْقًا يُنْعِمُ [عَلَيْهِمْ] (2) وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ نَعِيمًا سَرْمَدًا - فَمِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ. وَالْإِحْسَانُ مُرَادٌ لِذَاتِهِ، وَالِانْتِقَامُ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ.
قَالُوا: وَمَا وَرَدَ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا، وَالتَّأْبِيدِ، وَعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَأَنَّ عَذَابَهَا مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ غَرَامٌ - كُلُّهُ حَقٌّ مُسَلَّمٌ، لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي دَارِ الْعَذَابِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا يُخْرَجُ مِنْهَا فِي حَالِ بَقَائِهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى حَالِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَبْطُلُ حَبْسُهُ بِخَرَابِ الْحَبْسِ وَانْتِقَاضِهِ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَائِهَا وعدم فنائها: قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) . {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (4) . {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (5) . {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (6) . {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (7) . {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (8) . {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (9) . {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} (10) . {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (11) ، أي مقيما لازما.
__________
(1) غافر 7
(2) في الأصل: (إليهم) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن
(3) المائدة 37
(4) الزخرف 75
(5) النبأ 30
(6) البينة 8
(7) الحجر 48
(8) البقرة 167
(9) الأعراف 40
(10) فاطر 36
(11) الفرقان 65(1/430)
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النار من قال: "لا إله إلا الله"، وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ صَرِيحَةٌ فِي خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْهَا لَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَصَّ الْخُرُوجُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. وَبَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ لِذَاتِهِمَا، بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا.
وَقَوْلُهُ: "وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا"-
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (1) ، الآية. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لم يعمل سوءا ولم يدركه. فقال: "أوغير ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2) . وَالْمُرَادُ الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ، وَأَعَمُّ مِنْهَا الْهِدَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (3) .
فَالْمَوْجُودَاتُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مُسَخَّرٌ بِطَبْعِهِ، وَالثَّانِي مُتَحَرِّكٌ بِإِرَادَتِهِ، فَهَدَى الْأَوَّلَ لِمَا سَخَّرَهُ لَهُ طَبِيعَةً، وَهَدَى الثَّانِي هِدَايَةً إِرَادِيَّةً تَابِعَةً لِشُعُورِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ.
ثُمَّ قَسَّمَ [هَذَا النَّوْعَ] (4) . إلى ثلاثة أنواع:
__________
(1) الأعراف 179
(2) الدهر 2 - 3
(3) طه 50
(4) في الأصل: (الأنواع) . ولعل الصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/431)
نَوْعٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ سِوَاهُ، كَالْمَلَائِكَةِ.
وَنَوْعٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّرَّ وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ سِوَاهُ، كالشيطان.
وَنَوْعٌ يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ الْقِسْمَيْنِ، كَالْإِنْسَانِ. ثُمَّ جعله ثلاثة أصناف:
صنف يَغْلِبُ إِيمَانُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَعَقْلُهُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ، فَيَلْتَحِقُ بالملائكة.
وصنف عكسه، فيلتحق بالشياطين.
وصنف تَغْلِبُ شَهْوَتُهُ الْبَهِيمِيَّةُ عَقْلَهُ، فَيَلْتَحِقُ بِالْبَهَائِمِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَى الْوُجُودَيْنِ: الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا بِإِيجَادِهِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا بِتَعْلِيمِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَثُبُوتِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَحْقِيقِ رُبُوبِيَّتِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: "فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ" إِلَخْ -
مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْنَعُ الثَّوَابَ إِلَّا إِذَا مَنَعَ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَإِنَّهُ: (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يخاف ظلما ولا هضما) . وَكَذَلِكَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ سَبَبِ الْعِقَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) .
وَهُوَ سُبْحَانُهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ. لَكِنْ إِذَا مَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْإِيمَانِ [وَالْعَمَلِ] (2) الصَّالِحِ، فَلَا يَمْنَعُهُ مُوجِبُ ذَلِكَ أَصْلًا، بَلْ يُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْقُرْبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَحَيْثُ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَلِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ (3) ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، لَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حِكْمَةٌ منه
__________
(1) الشورى 30
(2) الزيادة ضرورية بداهة
(3) في المطبوعة «فلا انتفاء لسببه» ؛ وهو كلام باطل محرف(1/432)
وَعَدْلٌ، فَمَنْعُهُ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَأَمَّا الْمُسَبِّبَاتُ بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، فَلَا يَمْنَعُهَا بِحَالٍ، إِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا غَيْرَ صَالِحَةٍ، إِمَّا لِفَسَادٍ فِي الْعَمَلِ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ يُعَارِضُ مُوجِبَهُ وَمُقْتَضَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي، أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ. وَإِذَا كَانَ مَنْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ مِنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وهو لم يعط ذلك ابتلاء وابتداء إلا حِكْمَةً مِنْهُ وَعَدْلًا. فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ عُقُوبَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي تَصْلُحُ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1) . وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (2) . ونحو ذلك. وسيأتي لهذا زيادة، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ، مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يجوز أن يُوصَفُ الْمَخْلُوقُ بِهِ - تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ، وَالتَّمْكِينِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ - فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3)
ش: الِاسْتِطَاعَةُ وَالطَّاقَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْوُسْعُ، أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَتَنْقَسِمُ الِاسْتِطَاعَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْوَسَطُ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: لَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ. وَقَابَلَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالُوا: لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ.
وَالَّذِي قَالَهُ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذِهِ
__________
(1) الأنعام 124
(2) الأنعام 53
(3) البقرة 286(1/433)
قَدْ تَكُونُ قَبْلَهُ، لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ، وَالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ بِقُدْرَةٍ مَعْدُومَةٍ.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ، وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ - فَقَدْ تَتَقَدَّمُ الْأَفْعَالَ. وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) . فَأَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا مَنْ حَجَّ لَمْ يَكُنِ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ إِلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ، وَلَمْ يُعَاقَبْ أحدا عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ! وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) . فَأَوْجَبَ التَّقْوَى بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّقْوَى، لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْجَبَ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى مَنِ اتَّقَى، وَلَمْ يُعَاقِبْ مَنْ لَمْ يَتَّقِ! وَهَذَا معلوم الفساد.
وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3) وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ.
وَكَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} (4) . وَكَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَوْ كَانُوا أَرَادُوا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الْفِعْلِ - مَا كَانُوا بِنَفْيِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَاذِبِينَ، وَحَيْثُ كَذَّبَهُمْ دَلَّ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَرَضَ أَوْ فَقْدَ الْمَالِ، عَلَى مَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} (5) إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} (6) . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ}
__________
(1) آل عمران 97
(2) التغابن 16
(3) المجادلة 4
(4) التوبة 42
(5) التوبة 91
(6) التوبة 93(1/434)
{يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) . وَالْمُرَادُ: اسْتِطَاعَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَإِنَّمَا نَفَى اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ مَعَهَا.
وَأَمَّا دَلِيلُ ثُبُوتِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (2) . وَالْمُرَادُ نَفْيُ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ، لَا نَفْيُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: "وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ"، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَا قَوْلُ صَاحِبِ مُوسَى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (3) . وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (4) وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الصَّبْرِ، لَا أَسْبَابُ الصَّبْرِ وَآلَاتُهُ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَلَا يُلَامُ مَنْ عَدِمَ آلَاتِ الْفِعْلِ وَأَسْبَابِهِ عَلَى عدم الفعل، وإنما يلام من امتنع من الفعل لتضييع قُدْرَةَ الْفِعْلِ، لِاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ، أو [لعدم] شغله إياها بفعل مَا أُمِرَ بِهِ (5) . وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حِينَ الْفِعْلِ - يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ، لَا تُوجَدُ بِدُونِهِ.
وَمَا قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ، وَهُوَ إِقْدَارُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ سَوَاءٌ، فَلَا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَصَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ بِإِعَانَةٍ حَصَّلَ بِهَا الْإِيمَانَ، بَلْ هَذَا بِنَفْسِهِ رَجَّحَ الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية! كالوالد
__________
(1) النساء 25
(2) هود 20
(3) الكهف 67
(4) الكهف 75
(5) في المطبوعة «أو شغله إياها..» ! وهو تهافت في القول، غير مستقيم، من خطأ الناسخين، فصححناه ما استطعنا(1/435)
الَّذِي أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ سَيْفًا، فَهَذَا جَاهَدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا قَطَعَ بِهِ الطَّرِيقَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُطِيعِ نِعْمَةً دِينِيَّةً، خَصَّهُ بِهَا دُونَ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ إِعَانَةً لَمْ يُعِنْ بِهَا الْكَافِرَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (1) .
فَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّحْبِيبَ وَالتَّزْيِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْخَلْقِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَإِظْهَارِ دَلَائِلِ الْحَقِّ. وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بالمؤمن، ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا رَاشِدِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (2) . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَدَى هَذَا وَأَضَلَّ هَذَا. قَالَ تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (3) . وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: يُرَجَّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ - إِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ: "يُرَجَّحُ"مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ، فَذَاكَ هُوَ السَّبَبُ الْمُرَجِّحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى زَائِدٌ كَانَ (4) حَالُ الْفَاعِلِ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ كَحَالِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ، ثُمَّ الْفِعْلُ حَصَلَ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى بِلَا مُرَجِّحٍ! وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ!! فَلَمَّا كَانَ أَصْلُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ إِنَّ فَاعِلَ الطَّاعَاتِ وَتَارِكَهَا كِلَاهُمَا فِي الْإِعَانَةِ وَالْإِقْدَارِ سَوَاءٌ - امْتَنَعَ على أصلهم
__________
(1) الحجرات 7
(2) الأنعام 125
(3) الكهف 17
(4) في المطبوعة «كما أن» بدل «كان» . وهو خطأ بين(1/436)
أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ قُدْرَةٌ تَخُصُّهُ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَخُصُّ الْفِعْلَ لَا تَكُونُ لِلتَّارِكِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِلْفَاعِلِ، وَلَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْقُدْرَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ، قَالُوا: لَا تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، وَحَالَ وُجُودِ الْفِعْلِ يَمْتَنِعُ التَّرْكُ، فَلِهَذَا قَالُوا: الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ! وَهَذَا بَاطِلٌ قطعا، فَإِنَّ وُجُودَ الْأَمْرِ مَعَ عَدَمِ بَعْضِ شُرُوطِهِ الْوُجُودِيَّةِ مُمْتَنِعٌ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْفِعْلِ. فَنَقِيضُ قَوْلِهِمْ حَقٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قُدْرَةٌ.
لَكِنْ صَارَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ هُنَا حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ قَالُوا: لَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا مَعَهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَا يَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَظَنًّا مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَرَضٌ، فَلَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهَا قَبْلَ الْفِعْلِ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ: نَوْعٌ مُصَحِّحٌ لِلْفِعْلِ، يُمْكِنُ مَعَهُ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَهَذِهِ تَحْصُلُ لِلْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَتَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ تَبْقَى إِلَى حِينِ الْفِعْلِ، إِمَّا بِنَفْسِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ، وَإِمَّا بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، وَهَذِهِ قَدْ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَأَمْرُ اللَّهِ مَشْرُوطٌ بِهَذِهِ الطَّاقَةِ، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَذِهِ الطَّاقَةُ، وَضِدُّ هَذِهِ الْعَجْزُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَيْضًا: فَالِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الشَّرْعِ أَخَصُّ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ تَكُونُ مَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْجَزْ عَنْهُ. فَالشَّارِعُ يُيَسِّرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَالْمَرِيضُ قَدْ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ مَعَ زِيَادَةِ الْمَرَضِ وَتَأَخُّرِ بُرْئِهِ، فَهَذَا فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، لِأَجْلِ حُصُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى مُسْتَطِيعًا. فَالشَّارِعُ لَا يَنْظُرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ(1/437)
الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مُجَرَّدِ إِمْكَانِ الْفِعْلِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى لَوَازِمِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا مَعَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ اسْتِطَاعَةٌ شَرْعِيَّةٌ، كَالَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَعَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يُصَلِّي قَائِمًا مَعَ زِيَادَةِ مَرَضِهِ، أَوْ يَصُومُ الشَّهْرَيْنِ مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك. فإن كَانَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ فِي الْمُكْنَةِ عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، فَكَيْفَ يُكَلِّفُ مَعَ الْعَجْزِ؟ !
وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ - مَعَ بَقَائِهَا إِلَى حِينِ الْفِعْلِ - لَا تَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتْ كَافِيَةً لَكَانَ التَّارِكُ كَالْفَاعِلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاثِ إِعَانَةٍ أُخْرَى تُقَارِنُ، مِثْلَ جَعْلِ الْفَاعِلِ مُرِيدًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ، وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ تَدْخُلُ فِيهَا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ، بِخِلَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِرَادَةُ. فَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْفِعْلِ مَنْ لَا يُرِيدُهُ، لَكِنْ لَا يَأْمُرُ بِهِ مَنْ لَوْ أَرَادَهُ لَعَجَزَ عَنْهُ. وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَالْإِنْسَانُ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ، لَكِنْ لَا يَأْمُرُهُ بِمَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْعَبْدُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالْقُوَّةُ التَّامَّةُ، لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ - يَقُولُ: كُلُّ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُ. وَمَا لَا يُطَاقُ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ: بِمَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ، فَهَذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ أَحَدًا، وَيُفَسَّرُ بِمَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّكْلِيفُ، كَمَا فِي أَمْرِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَلَا يَأْمُرُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ! وَيَأْمُرُهُ إِذَا كَانَ قَاعِدًا أَنْ يَقُومَ، وَيُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالضَّرُورَةِ.
قَوْلُهُ: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) .
ش: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَزَعَمَتِ الْجَبْرِيَّةُ وَرَئِيسُهُمُ الْجَهْمُ بن صفوان السمرقندي (1) أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أَفْعَالِ الْخَلْقِ كُلِّهَا لِلَّهِ تعالى،
__________
(1) في المطبوعة «الترمذي» ! وهو خطأ يظهر أنه من الناسخين، والجهم بن صفوان ينسب إلى «سمرقند» ويقال له أيضا «الراسبي» ، لأنه مولى «بني راسب» . انظر ترجمته وأخباره في تاريخ الطبري 9: 66 - 69، وتاريخ الإسلام للذهبي 5: 56 - 58، وتاريخ ابن كثير 1: 26 - 27، ولسان الميزان 2: 142(1/438)
وَهِيَ كُلُّهَا اضْطِرَارِيَّةٌ، كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ، وَالْعُرُوقِ النَّابِضَةِ، وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَإِضَافَتِهَا إِلَى الْخَلْقِ مَجَازٌ! وَهِيَ عَلَى حَسَبِ مَا يُضَافُ الشَّيْءُ إِلَى مَحَلِّهِ دُونَ مَا يُضَافُ إِلَى مُحَصِّلِهِ!
وَقَابَلَتْهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: إِنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِخَلْقِهَا، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَمْ لَا؟ !
وَقَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِهَا صَارُوا مُطِيعِينَ وَعُصَاةً، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنْفَرِدٌ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا خَالِقَ لَهَا سِوَاهُ. فَالْجَبْرِيَّةُ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، فَنَفَوْا صنع العبد أصلا، كما غلت الْمُشَبِّهَةُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَشَبَّهُوا. وَالْقَدَرِيَّةُ نُفَاةُ الْقَدَرِ جَعَلُوا الْعِبَادَ خَالِقِينَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانُوا"مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ"، بَلْ أَرْدَأُ مِنَ الْمَجُوسِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَجُوسَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ، وَهُمْ أَثْبَتُوا خَالِقِينَ! !
وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم. فكل دليل صحيح تقيمه الْجَبْرِيُّ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا مُخْتَارٍ، وَأَنَّ حَرَكَاتِهِ الِاخْتِيَارِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ.
وَكُلُّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ يُقِيمُهُ الْقَدَرِيُّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ مُخْتَارٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَأَنَّ إِضَافَتَهُ وَنِسْبَتَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةُ حَقٍّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
فَإِذَا ضَمَمْتَ مَا مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحَقِّ إِلَى حَقِّ الْأُخْرَى - فَإِنَّمَا يَدُلُّ(1/439)
ذَلِكَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، مِنْ عُمُومِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ فَاعِلُونَ لِأَفْعَالِهِمْ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُمْ يَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهَا الْمَدْحَ وَالذَّمَّ.
وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ الْحَقِّ لَا تَتَعَارَضُ، وَالْحَقُّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ ذِكْرِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّهَا تَتَكَافَأُ وَتَتَسَاقَطُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلِ كُلِّ فَرِيقٍ بُطْلَانُ قَوْلِ الْآخَرِينَ. وَلَكِنْ أَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ:
فَمِمَّا اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (1) . فَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ الرَّمْيَ، وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ. قَالُوا: وَالْجَزَاءُ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» .
وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) . قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتب الْعِوَضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) . {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4) . وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (5) - فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الأنفال 17
(2) المؤمنون 14
(3) السجدة 17
(4) الزخرف 72
(5) الأنفال 17(1/440)
رَمْيًا، بِقَوْلِهِ: {إِذْ رَمَيْتَ} ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُثْبَتَ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّمْيَ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ: فَابْتِدَاؤُهُ الْحَذْفُ، وَانْتِهَاؤُهُ الْإِصَابَةُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى رَمْيًا، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: وَمَا أَصَبْتَ إِذْ حَذَفْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَصَابَ. وَإِلَّا فَطَرْدُ قَوْلِهِمْ: وَمَا صَلَّيْتَ إِذْ صَلَّيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَلَّى! وَمَا صُمْتَ إِذْ صُمْتَ! وَمَا زَنَيْتَ إِذْ زَنَيْتَ! وَمَا سَرَقْتَ إِذْ سَرَقْتَ! ! وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ ضَلَّتْ فِيهِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. فَإِنَّ الْبَاءَ الَّتِي فِي النَّفْيِ غَيْرُ الْبَاءِ الَّتِي فِي الْإِثْبَاتِ، فَالْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وسلم: « [لا] يدخل [أحدكم] الجنة بِعَمَلِهِ» (1) - بَاءُ الْعِوَضِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ كَالثَّمَنِ لِدُخُولِ الرَّجُلِ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا زَعَمَتِ المعتزلة أن العامل يستحق دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى رَبِّهِ بِعَمَلِهِ! بَلْ ذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ.
وَالْبَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، وَنَحْوُهَا، بَاءُ السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ عَمَلِكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَرَجَعَ الْكُلُّ إِلَى مَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) - فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين. و"الخلق"يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّقْدِيرُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) أَيِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ، فَدَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ فِي عُمُومِ"كُلِّ". وَمَا أَفْسَدُ قَوْلَهُمْ فِي إِدْخَالِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ: "كُلِّ"، الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا! وَأَخْرَجُوا أَفْعَالَهُمُ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُمُومِ"كُلِّ"! ! وَهَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ"كُلِّ"إِلَّا مَا هُوَ مخلوق؟ ! فذاته المقدسة وصفاته غير
__________
(1) في الأصل: «لن يدخل الجنة بعمله» ! هكذا فقط، والتعديل من المسند 2 / 256. ن
(2) السجدة 17
(3) المؤمنون 14
(4) الرعد 16(1/441)
دَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَدَخَلَ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عُمُومِهَا. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) . ولا نقول إن"مَا"مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: خَلْقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ - إِذْ سِيَاقُ الْآيَةِ يَأْبَاهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْمَنْحُوتِ، لَا النَّحْتَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْحُوتَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا صَارَ مَنْحُوتًا إِلَّا بِفِعْلِهِمْ، فَيَكُونُ مَا هُوَ مِنْ آثَارِ فِعْلِهِمْ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّحْتُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْمَنْحُوتُ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلِ الْخَشَبُ أَوِ الْحَجَرُ لَا غَيْرَ.
وَذَكَرَ أَبُو [الْحُسَيْنِ] (2) الْبَصْرِيُّ إِمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ - ضَرُورِيٌّ. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إِلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وَجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ - ضَرُورِيٌّ، وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، ثُمَّ ادِّعَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنَ الضَّرُورَةِ - غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إِنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنَ الْحَقِّ. فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ وَكَوْنِ هَذَا الْإِحْدَاثِ وَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (3) . فَقَوْلُهُ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (4) - إِثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَهَا، وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إِلَى نَفْسِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (5) - إِثْبَاتٌ أَيْضًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَهَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، بَلْ مَزَّقَتْهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَهِيَ: أَنَّهُمْ قَالُوا؟ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِكُمْ بِأَنَّ الله يعذب المكلفين على ذنوبهم
__________
(1) الصافات 96
(2) في الأصل: (الحسن) ، والصواب ما أثبتناه من تاريخ بغداد 3 / 100، وميزان الاعتدال 3 / 654، وسير أعلام النبلاء 17 / 587. ن
(3) الشمس 7 - 8
(4) الشمس 8
(5) الشمس 9 - 10(1/442)
وَهُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ؟ فَأَيْنَ الْعَدْلُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَلَى مَا هُوَ خَالِقُهُ وَفَاعِلُهُ فِيهِمْ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَزَلْ مَطْرُوقًا فِي الْعَالَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي جَوَابِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَنْهُ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ: فَطَائِفَةٌ أَخْرَجَتْ أَفْعَالَهُمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ، وَسَدَّتْ بَابَ السُّؤَالِ. وَطَائِفَةٌ أَثْبَتَتْ كَسْبًا لَا يُعْقَلُ! جَعَلَتِ الثَّوَابَ [وَالْعِقَابَ] عَلَيْهِ. وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ! وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتِ الْجَبْرَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ! وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ هذا التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى ذُنُوبٍ قَبْلَهَا، فَالذَّنْبُ يُكْسِبُ الذَّنْبَ، وَمِنْ عِقَابِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا. فَالذُّنُوبُ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يُورِثُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَالْكَلَامُ فِي الذَّنْبِ الْأَوَّلِ الْجَالِبِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الذُّنُوبِ؟ يُقَالُ: هُوَ عُقُوبَةٌ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَتَأَلُّهِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1) . فلما لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ، مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ - عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ صَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا قَابِلًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْخَيْرُ الَّذِي يَمْنَعُ ضِدَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّرُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (2) . وَقَالَ إِبْلِيسُ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (3) .
__________
(1) الروم 30
(2) يوسف 24
(3) ص 82 - 83(1/443)
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (1) والإخلاص: خلوص القلب من تأله مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَخَلَصَ لِلَّهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. وَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ فَارِغًا مِنْ ذَلِكَ، تَمَكَّنَ مِنْهُ بِحَسَبِ فَرَاغِهِ، فَيَكُونُ جَعْلُهُ مُذْنِبًا مُسِيئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى عَدَمِ هَذَا الْإِخْلَاصِ. وَهِيَ مَحْضُ الْعَدْلِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَذَلِكَ الْعَدَمُ مَنْ خَلَقَهُ فِيهِ؟ قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْعَدَمَ كَاسْمِهِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعَلُّقِ التَّكْوِينِ وَالْإِحْدَاثِ بِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُضَافَ إِلَى الْفَاعِلِ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» (2) .
وَكَذَا فِي حديث الشفاعة يوم القيامة، «حين يقول الله له: يَا مُحَمَّدُ. فَيَقُولُ: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ"» .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا تَوَلَّوْهُ دُونَ اللَّهِ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَعَهُ - عُوقِبُوا على ذلك بتسليط الله [إياه] عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَالْإِشْرَاكُ عُقُوبَةَ خُلُوِّ الْقَلْبِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ. فَإِلْهَامُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ثَمَرَةُ هَذَا الْإِخْلَاصِ وَنَتِيجَتُهُ، وَإِلْهَامُ الْفُجُورِ عُقُوبَةٌ عَلَى خُلُوِّهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكُ أَمْرًا وُجُودِيًّا عَادَ السُّؤَالُ جَذَعًا، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ؟
قِيلَ: لَيْسَ هَنَا تَرْكٌ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا عَمَّا تُرِيدُهُ وَتُحِبُّهُ، فهذا قد يقال:
__________
(1) الحجر 41 - 42
(2) رواه أحمد في المسند رقم 803، ومسلم في الصحيح 1: 215 في حديث طويل من حديث علي بن أبي طالب، وكان في المطبوعة هنا «بيديك» - وأثبتنا ما هو الثابت في المسند والصحيح(1/444)
إِنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَإِنَّمَا هُنَا عَدَمٌ وَخُلُوٌّ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَهَذَا الْعَدَمُ هُوَ مَحْضُ خُلُوِّهَا مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهَا، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ هِيَ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ، لَا بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنَالُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرُّسُلِ. فَلِلَّهِ فِيهِ عُقُوبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: جَعْلُهُ مُذْنِبًا خَاطِئًا، وَهَذِهِ عُقُوبَةُ عَدَمِ إِخْلَاصِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ قَدْ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِهَا وَمَضَرَّتِهَا، لِمُوَافَقَتِهَا شَهْوَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْعُقُوبَاتُ الْمُؤْلِمَةُ بَعْدَ فِعْلِهِ لِلسَّيِّئَاتِ. وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (1) . فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْأُولَى، ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} (2) ، فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الثَّانِيَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَحْدَهُ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَجْعَلَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ مُنِيبِينَ لَهُ مُحِبِّينَ لَهُ؟ أَمْ ذَلِكَ مَحْضُ جَعْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِلْقَائِهِ فِيهَا؟
قِيلَ: لَا، بَلْ هُوَ مَحْضُ مِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَلَا يَتَّقِي مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَا وَقَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يُخْلَقْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ، عَادَ السُّؤَالُ وَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ظُلْمًا، وَلَزِمَكُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ - قِيلَ: لَا يَكُونُ سُبْحَانَهُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ظَالِمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَانِعُ ظَالِمًا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ حَقًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ
__________
(1) الأنعام 44
(2) الأنعام 44(1/445)
خِلَافَهُ. وَأَمَّا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ - لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، فَمَنْعُ الْحَقِّ ظُلْمٌ، وَمَنْعُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ عَدْلٌ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَدْلُ فِي مَنْعِهِ، كَمَا هُوَ الْمُحْسِنُ الْمَنَّانُ بِعَطَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ وَالتَّوْفِيقُ إِحْسَانًا وَرَحْمَةً، فَهَلَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ وَالْغَلَبَةُ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ؟
قِيلَ: الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ، وَالْمَنْعَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْعُقُوبَةِ - لَيْسَ بِظُلْمٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ.
وَهَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تَقْدِيمَ الْعَدْلِ عَلَى الْفَضْلِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، وَهَلَّا سَوَّى بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْفَضْلِ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ حَاصِلُهُ: لم يتفضل عَلَى هَذَا وَلَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَى الْآخَرِ؟ وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (1) . وَقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (2) . وَلَمَّا سَأَلَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَجْرَيْنِ وَإِعْطَائِهِمْ [هُمْ أَجْرًا أَجْرًا] (3) ، «قَالَ: "هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» . وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ إِطْلَاعُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ عَلَى كَمَالِ حِكْمَتِهِ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ، بَلْ إِذَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ، حتى أبصر جزءا يَسِيرًا مِنْ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَأَمْرِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَتَخْصِيصِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَتَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَحَالِّ ذَلِكَ - اسْتَدَلَّ بِمَا عَلِمَهُ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ.
__________
(1) الحديد 21
(2) الحديد 29
(3) في الأصل: (أجرهم) . والصواب ما أثبتناه من سائر النسخ. ن(1/446)
وَلَمَّا اسْتَشْكَلَ أَعْدَاؤُهُ الْمُشْرِكُونَ هَذَا التَّخْصِيصَ، قَالُوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} (1) ؟ قَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (2) . فَتَأَمَّلْ هَذَا الْجَوَابَ، تَرَ فِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِغَرْسِ شَجَرَةِ النِّعْمَةِ فَتُثْمِرُ بِالشُّكْرِ، مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَرْسِهَا، فَلَوْ غُرِسَتْ فِيهِ لَمْ تُثْمِرْ، فَكَانَ غَرْسُهَا هُنَاكَ ضَائِعًا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (3) .
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَكَمْتُمْ بِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَادِ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِذًا لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا؟ قِيلَ: الْعَبْدُ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَلَهُ قُدْرَةٌ حَقِيقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (4) . {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (5) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا، فَأَفْعَالُهُ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَلَا يَكُونُ فِعْلًا، كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ.
وَنَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مُقَارِنًا لِإِيجَادِ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَيُوصَفُ بِكَوْنِهِ صِفَةً وَفِعْلًا وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ، كَالْحَرَكَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ السَّلَفُ الْجَبْرَ، فَإِنَّ الْجَبْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَاجِزٍ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِكْرَاهِ، يُقَالُ: لِلْأَبِ وِلَايَةُ إِجْبَارِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الثَّيِّبِ الْبَالِغِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مُكْرَهَةً.
وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْإِجْبَارِ بِهَذَا الاعتبار، لأنه سبحانه خالق الإرادة
__________
(1) الأنعام 53
(2) الأنعام 53
(3) الأنعام 124
(4) البقرة 197
(5) هود 36(1/447)
وَالْمُرَادِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ مُخْتَارًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ: "الْجَبْلُ"دُونَ"الْجَبْرِ"، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلقين يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"، فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟ أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: "بَلْ خلقان جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا"فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي على خلقين يحبهما الله تعالى» . وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَذِّبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ.
وَإِذَا قِيلَ: خَلْقُ الْفِعْلِ مَعَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ! كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ أَكْلِ السُّمِّ ثُمَّ حُصُولُ الْمَوْتِ بِهِ ظُلْمٌ! ! فَكَمَا أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، فَهَذَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا ظُلْمَ فِيهِمَا.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ فِعْلٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَفْعُولٌ لله، لَيْسَ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ اللَّهِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ، وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ"- أَثْبَتَ لِلْعِبَادِ فعلا وكسبا، وأضاف الخلق إلى الله تَعَالَى. وَالْكَسْبُ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهِ مِنْهُ نَفْعٌ أَوْ ضَرَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (1) .
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ. وَهُوَ تَفْسِيرُ"لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وعكست إرادته الإرادات كلها،
__________
(1) البقرة 286(1/448)
وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا. يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا. لَا يُسْأَلُ عَمَّا يفعل وهم يسألون) .
ش: فَقَوْلُهُ: "لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ"- قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) . {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ عَقْلًا، ثُمَّ تَرَدَّدَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ: هَلْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَمْ لَا؟ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُرُودِهِ بِأَمْرِ أَبِي لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَأَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، فَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هذا بالمنع: فلا نسلم بأنه مَأْمُورٌ [بِأَنْ يُؤْمِنَ] بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيمَانِ كَانَتْ حَاصِلَةً، فَهُوَ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ، فَمَا كُلِّفَ إِلَّا مَا يُطِيقُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَلَا يَلْزَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} (3) . مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَا لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ""أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفِ طَلَبِ فِعْلٍ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ، بَلْ هُوَ خِطَابُ تَعْجِيزٍ.
وَكَذَا لَا يَلْزَمُ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (4) لِأَنَّ تَحْمِيلَ مَا لَا يُطَاقُ لَيْسَ تَكْلِيفًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَمِّلَهُ جَبَلًا لَا يُطِيقُهُ فَيَمُوتَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَيْ لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ، قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعْقِلُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إليه، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه.
__________
(1) البقرة 286
(2) الأنعام 152
(3) البقرة 31
(4) البقرة 286(1/449)
وَلَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِحَمْلِ جَبَلٍ بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَ يُثَابُ وَلَوِ امْتَنَعَ يُعَاقَبُ، كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ تَكْلِيفُ الْمُمْتَنَعِ عَادَةً، دُونَ الْمُمْتَنَعِ لِذَاتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهُ، فَلَا يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهِ، بِخِلَافِ هَذَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ. وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ كَوْنَهُمْ جَعَلُوا مَا يَتْرُكُهُ الْعَبْدُ لَا يُطَاقُ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لَهُ مُشْتَغِلًا بِضِدِّهِ - بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ فِعْلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ لَا يُطِيقُهُ!
وَهُمُ الْتَزَمُوا هَذَا، لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الطَّاقَةَ - الَّتِي هِيَ الِاسْتِطَاعَةُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ - لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ! فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا، فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُهُ! وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاسْتِطَاعَةِ.
وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُقَارِنًا لِلْفِعْلِ، فَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُنَاكَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} (1) . {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (2) . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِرَادَةُ مَا سَمَّوْهُ اسْتِطَاعَةً، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُقَارِنَ لَكَانَ جَمِيعُ الْخَلْقِ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ قَبْلَ السَّمْعِ! فَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِذَلِكَ مَعْنًى، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لِبُغْضِهِمُ الْحَقَّ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، إِمَّا حَسَدًا لِصَاحِبِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى - لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ. وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ، لِمُخَالَفَةِ ما يراه
__________
(1) هود 20
(2) الكهف 67(1/450)
لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمٌ. وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَسَائِرُ الْأُمَمِ، فَمَنْ يُبْغِضُ غَيْرَهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ، وَمَنْ يُحِبُّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ عُقُوبَتَهُ، لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، لَا لِعَجْزِهِ عَنْ عُقُوبَتِهِ، فَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: لَأَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَالْمُرَادُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ. وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا، فَلَوْ لَمْ يَأْمُرِ الْعِبَادَ إِلَّا بِمَا يَهْوَوْنَهُ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (1) .
وَقَوْلُهُ: "وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ"، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ - أَيْ: وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الطَّاقَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ، لَا الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات، و"لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"- دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ. وَقَدْ فَسَّرَهَا الشَّيْخُ بَعْدَهَا.
وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ إِشْكَالٌ: فَإِنَّ التَّكْلِيفَ لَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِقْدَارِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ والنهي، وهو قَالَ: "لَا يُكَلِّفُهُمْ إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ". وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يُطِيقُونَ فَوْقَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَالتَّخْفِيفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) . فَلَوْ زَادَ فِيمَا كَلَّفَنَا بِهِ لَأَطَقْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا وَرَحِمَنَا، وَخَفَّفَ عَنَّا، وَلَمْ يَجْعَلْ علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات، لكن في الْعِبَارَةِ قَلَقٌ، فَتَأَمَّلْهُ.
وَقَوْلُهُ: "وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ".
يُرِيدُ بِقَضَائِهِ الْقَضَاءَ الْكَوْنِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ كونيا وشرعيا، وكذلك الإرادة
__________
(1) المؤمنون 71
(2) البقرة 185
(3) النساء 28
(4) الحج 78(1/451)
وَالْأَمْرُ وَالْإِذْنُ وَالْكِتَابُ وَالْحُكْمُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَلِمَاتُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
أَمَّا الْقَضَاءُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1) .
وَالْقَضَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) .
وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ".
وَأَمَّا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) . وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (4) ، فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَقْوَاهَا.
وَالْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (5) الآية. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (6) .
وَأَمَّا الْإِذْنُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (7) .
وَالْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (8) .
وَأَمَّا الْكِتَابُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (9) . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (10) .
وَالْكِتَابُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (11) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (12) .
وَأَمَّا الْحُكْمُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ ابْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ}
__________
(1) فصلت 12
(2) الإسراء 23
(3) يس 82
(4) الإسراء 16
(5) النحل 90
(6) النساء 58
(7) البقرة 102
(8) الحشر 5
(9) فاطر 11
(10) الأنبياء 105
(11) المائدة 45
(12) البقرة 183(1/452)
{حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (1) . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2) . وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (3) . وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} (4) .
وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} (5) . {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (6) .
وَالتَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (7) . و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (8) ، الآية.
وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْكَوْنِيَّةُ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (9) . وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ» .
وَالْكَلِمَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (10) .
وَقَوْلُهُ: "يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا"-
الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ، يَقْتَضِي قَوْلًا وَسَطًا بَيْنَ قَوْلَيِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَلَيْسَ مَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ ظُلْمًا وَقَبِيحًا يَكُونُ مِنْهُ ظُلْمًا وَقَبِيحًا، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ! فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ! وَقِيَاسٌ لَهُ عَلَيْهِمْ! هُوَ الرَّبُّ الْغَنِيُّ الْقَادِرُ، وَهُمُ الْعِبَادُ الْفُقَرَاءُ الْمَقْهُورُونَ. وَلَيْسَ الظُّلْمُ عِبَارَةً عَنِ الْمُمْتَنَعِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، يَقُولُونَ: إنه
__________
(13) يوسف 80
(14) الأنبياء 112
(15) المائدة 1
(16) الممتحنة 10
(17) المائدة 26
(18) الأنبياء 95
(19) المائدة 3
(20) النساء 23
(21) الأعراف 137
(22) البقرة 124(1/453)
يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُمْكِنِ الْمَقْدُورِ ظُلْمٌ! بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا فَهُوَ مِنْهُ - لَوْ فَعَلَهُ - عَدْلٌ، إِذِ الظُّلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَأْمُورٍ مِنْ غَيْرِهِ مَنْهِيٍّ، وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (1) ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (2) وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (3) ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (4) ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (5) - يَدُلُّ (6) عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» . فَهَذَا دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَهَذَا يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَأْمُورٍ مَنْهِيٍّ، وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، لَا مَا هُوَ ممتنع عليه.
__________
(1) طه 112
(2) ق 29
(3) الزخرف 76
(4) الكهف 49
(5) غافر 17
(6) سياق الكلام: «فإن قوله تعالى.. يدل..» والآيات بين اسم «إن» وخبرها هي الدلائل التي يستدل بها، وفي المطبوعة: «وذلك يدل» ، وأنا أرجح أن زيادة «وذلك» إما من الناسخ، وإما من الطابع! غفلة عن ربط الجملة(1/454)
وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (1) - قَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ، بِأَنَّ الظُّلْمَ: أَنْ تُوضَعَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَالْهَضْمُ: أَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ الْمُمْتَنِعَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَأْمَنُ مِمَّا يُمْكِنُ، فَلَمَّا آمَنَهُ من الظلم بقوله: {فَلَا يَخَافُ} - عُلِمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} (3) إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (4) - لَمْ يَعْنِ بِهَا نَفْيَ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكَنُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَفَى مَا هُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْزَوْا بِغَيْرِ أَعْمَالِهِمْ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ اللَّهُ مُنَزَّهًا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَصْلًا، وَلَا مُقَدَّسًا عَنْ أَنْ يَفْعَلَهُ، بَلْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ لَا يُنَزَّهُ عَنْ فِعْلِهِ، بَلْ فِعْلُهُ حَسَنٌ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلْفِعْلِ السُّوءِ، بَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ! !
وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْقَوْلِ، فِي مَوَاضِعَ، نَزَّهَ اللَّهَ نَفْسَهُ فِيهَا عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِ السُّوءِ وَالْفِعْلِ الْمَعِيبِ الْمَذْمُومِ، كَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ وَصْفِ السُّوءِ وَالْوَصْفِ الْمَعِيبِ الْمَذْمُومِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (5) . فَإِنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ خَلْقِ الْخَلْقِ عَبَثًا، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَسِبَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِعْلٌ. وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (6) . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (7) - إنكار منه على
__________
(1) طه 112
(2) الإسراء 15
(3) ق 28
(4) ق 29
(5) المؤمنون 115
(6) القلم 35
(7) ص 28(1/455)