الجَوَابُ الفَائِقُ
فِي
الرَّدّ على مبدِّل الحقائق
تأليف
سَمَاحَةِ الشَّيْخِ العلاّمةِ
عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
ـ سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ
قام بتنسيق الشَّرح ونشره :
سَلمَانُ بْنُ عَبْدِ القَادِرِ أبُوْ زَيْدٍ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ،ولِوَالدَيْهِ ،ولِمَشَايخِهِ ،ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ.
« سبب تأليف هذه الرّسالة »
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فلقد قرأت النصيحة الصادرة من أحد علماء مصر والتي بعث بها المرسل المسترشد محمود عبد الله راشد من الجمهورية العربية المصرية إلى مفتي مكة المكرمة، وبعد أن قرأت فيها عنوانها تفاءلت به، ولكن اتضح أنه قد أخطأ الحق في بعض المواضيع فيما يتعلق بالصفات، وفيما يتعلق بالأعمال، فأحببت أن أعلق عليها ببعض التنبيهات على ما ظهر لي أنه خطأ، وأوضِّح الصواب في ذلك حسب ما وصل إليه علمي، وأستشهد على ذلك ببعض أقوال العلماء الصالحين المخلصين، وأقدم ما يتعلق بالصفات، مرتبا ذلك حسب أسطر الصفحات.
« في صفات اللَّه » :
أولا : طريقة السلف إثبات الصفات حسب ورودها:
في السطر الحادي عشر من الصفحة الأولى قال في إثبات بعض الصفات:
[ يسمع بغير أصمخة وآذان، ويرى بغير حدقة وأجفان، ويتكلم بغير شفة ولسان.. إلخ ].(1/1)
فأقول : إن طريقة سلف الأمة إثبات الصفات حسب ورودها واعتقادها صفات حقيقية لها معان مفهومة، ونفى التشبيه عنها، وإبعاد كل ما يتوهم فيه التشبيه وما هو من خصائص المخلوقين، مع الاقتصار في النفي والإثبات على ما وردت به النصوص؛ فنحن نثبت صفة السمع والبصر والكلام مع إثبات الحقيقة ونفي التشبيه، فأما ذكر الأصمخة والأذن والأحداق والأجفان والشفة واللسان فلا نتعرض لها بنفي ولا إثبات، وننكر على من أثبتها وعلى من نفاها، مع وصف الله تعالى بأنه الأحد الصمد، وقد فسر الصمد بأنه المصمت الذي لا جوف له، أو بالسيد الذي كمل في سؤدده، وكلاهما معروف في اللغة.
« الوهابية متبعون للسّلف في إثبات الصّفات » :
ثانيًا : الوهابية متبعون للسّلف في إثبات الصّفات.
قال في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الأولى ما نصه :
[ كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن لله جسما محدودًا، مُؤَلَّفًا من أعضاء، يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها، يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت، لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام؛ لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء … إلخ ].
والجواب أن يقال : مراده بالوهابية أتباع أئمة الدعوة السلفية التي قام بها في نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر، وهو وأتباعه ـ رحمهم الله ـ ليس لهم مذهب خاص، بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، مع أنهم لا يعيبون من تبع مذهب إمام من الأئمة المعتبرين، وإذا تبين لهم الحق والصواب في غير مذهب إمامهم تبعوه مع من كان، وقد ذكرنا آنفا أننا متبعون للنص؛ والدليل ندور معه حيث دار، ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء :
الأول : تسميته لهم بالوهابية :(1/2)
بعد أن عرفت أنهم لم يختصوا بشيء ولم يبتدعوا جديدا، وأن كل ما قالوه أنهم متبعون للنصوص وللسلف الصالح؛ ولأن القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب وإنما هو ابنه الشيخ محمد فهم المحمديون أصلا وفرعا؛ ولأن الوهاب اسم من أسماء الله تعالى فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل.
الثاني : رميه لهم بالتجسيم :
فهم لم يقولوا بذلك أبدا، ولم يستعملوا هذه اللفظة إثباتا ولا نفيا، فمن قال إن الله جسم فهو مبتدع، وكذا من نفى الجسم فهو مبتدع أيضا، حيث إن هذه اللفظة لم ترد في النصوص ولم يستعملها السلف والأئمة، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، مع أنا نثبت الصفات الواردة ونعتقد حقيقتها وننفي عنها التشبيه والتمثيل، ولا يلزم أن نكون مجسمة إذا قلنا بأن الله فوق عباده على عرشه بائن من خلقه، أو قلنا إن له يدا ووجها وعينا كما يشاء، أو قلنا إنه ينزل ويجيء لفصل القضاء كما يشاء، فإن هذه الصفات ونحوها قد وردت بها النصوص فنحن نعتقد حقيقتها، ولا نمثلها بخصائص المخلوق، ولا نثبت لها كيفية أو مثالا، فكما لم ندرك كنه الذات وماهيتها فكذا نقول في هذه الصفات، فإنا نثبتها إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد، كما قال ذلك أكابر الأئمة؛ فكيف يلزم من ذلك أن نكون مجسمة؟!.
وهكذا قوله: محدود. نفضل ترك الخوض في الحد، مع أنه من المسائل التي أثبتها بعض السلف ونفاها البعض، ولكن الأفضل التوقف؛ حيث إن البحث في ذلك مبتدع، وإن اللفظ لم يرد في الأدلة ومع ذلك فعذر من أثبت الحد ومن نفاه أن لكل منهما مقصدا ظاهره الصحة. وبالجملة فلا اختصاص لنا بهذا دون غيرنا، ولكن هذا الكاتب مزجى البضاعة في عقيدة السلف وأقوالهم، وكان الأولى أن يوجه طعنه ولومه على علماء السلف وأئمتهم؛ فإن هذه الأقوال والمذاهب المأثورة عنهم مدونة في مؤلفاتهم الموجودة المشهورة.
الثالث : قوله عن الوهابية :(1/3)
إنهم يصفون الرب تعالى بأنه : [ مؤلف من أعضاء: يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها.. إلخ ].
والجواب : أن هذا من جنس ما قبله قول عليهم بلا علم، فإن التأليف جمع المتفرق، أو تركيبه من أدوات مختلفة، وهذه اللفظة محدثة في العقيدة لا نقول بها ولا نستعملها في عقائدنا ولم ترد في النصوص؛ حيث إن لازمها قول باطل كما ذكرنا.
فأما إثبات اليد والرجل حيث وردت فإنا نقتصر على ذلك، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات اليد بما لا يدع مجالا في أنها يد حقيقية(1)
__________
(1) من الأدلة على إثبات صفة اليد واليدين والتصريح باليمين لله عز وجل: قوله تعالى: ? ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي? [سورة ص، الآية: 75]. وقوله تعالى: ? أولم يرواه أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ? [سورة يس، الآية: 71] . وقوله تعالى: ? قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ? [سورة آل عمران، الآية:73]. وقوله تعالى: ? إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم? [سورة الفتح، الآية: 10] . وقوله تعالى: ? وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء? [سورة المائدة، الآية: 64] . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن الكريم. وقد ورد في الحديث إثبات اليد لله فيما رواه البخاري كما في الفتح: 8/202 - برقم (4684)؛ في التفسير، تفسير سورة هود، باب وكان عرشه على الماء. ورواه مسلم برقم (993) في الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك، وقال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنقق منذ خلق السماء والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع. وهذا لفظ البخاري، وفي رواهية مسلم: يمين الله ملأى... فإنه لم يغض ما في يمينه.. الحديث. ففي هذه الآيات والأحاديث إثبات صفة اليد واليدين والتصريح باليمين لله عز وجل وأن كلتا يديه.(1/4)
، لكنا نقول إنها لا تشبه خصائص المخلوق، وإن الله يقبض بها السماوات والأرض كما أخبر عن ذلك(1)،
وأما الرِّجل: فقد ورد في السنة أن الله يضع رجله أو قدمه على النار(2)، وورد في القرآن ذكر الساق(3)،ووُضِّح في الحديث(4)، فإذا أثبتنا ذلك لم يلزم أن نكون مجسمة، ولم يلزم أنا نقول إن الله تعالى مؤلف من أعضاء، بل نقول: إن ذاته حقيقية وصفاته حقيقية كما يليق به، كما أنا لا نقول بالبطش والمشي الذي رمانا به، بل نقتصر على الوارد في الكتاب والسنة.
الرابع : زعمه أنهم يصفون الله بأنه :
[ يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع.. إلخ ](تابع).
__________
(1) وذلك كما في قوله تعالى: ? وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون?. [سورة الزمر، الآية: 67]
(2) ما رواه البخاري كما في الفتح: 10/460- برقم (4849) في التفسير، تفسير سورة ق، باب (وتقول هل من مزيد). ورواه مسلم برقم (2846)في الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ... فأما النار فلا تمتلئ، حتى يضع رجله فتقول قط قط قط... الحديث. وفي رواهية: فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها.
( ) في قوله تعالى: ? يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ?. [سورة القلم، الآية: 42].
(3) في قوله تعالى: ? يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ?. [سورة القلم، الآية: 42].
(4) ما رواه البخاري كما في الفتح 10/531 - برقم (4919) في التفسير، تفسير سورة القلم، باب (يوم يكشف عن ساق). من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا.(1/5)
الجواب : إن هذا قول لا حقيقة له ولا عمدة له في هذا النقل؛ فهذه مؤلفاتهم وعقائدهم مطبوعة شهيرة ولا يوجد فيها هذه الألفاظ، فإنهم ينفون الصفات التي لم ترد في الوحيين، ويتقيدون بالأدلة، ولكن أعداءهم يلزمونهم بلوازم باطلة، فإذا أثبتوا الاستواء بما يليق بالله، أو فسروه بالعلو والارتفاع ـ كما قاله السلف وأهل اللغة ـ لم يلزم أنهم قائلون بالجلوس والقيام، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات العلو الحقيقي بكل معانيه(1)، وعلى إثبات العرش(2)، وأن الله تعالى مستوٍ عليه كما يشاء(3)
__________
(1) يقول شارح العقيدة الطحاوية، صفحة: (258-288) والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عبادة، التي تقرب من عشرين نوعا: أحدها: التصريح بالفوقية مقرونا بأداة من المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: ? يخافون ربهم من فوقهم? [سورة النحل، الآية: 50]. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: ? وهو القاهر فوق عباده? [سورة الأنعام، الآية: 18 ، 61]. وهكدا... إلى أن ذكر ثمانية عشر دليلا في إثبات صفة العلو الحقيقي الذي يليق بالله عز وجل، ثم شرع في ذكر كلام السلف في إثبات صفة العلو وذكر من ذلك أنواعا كثيرة.
(2) والأدلة في إثبات العرش كثيرة جدا نذكر منها: قوله تعالى: ? ذو العرش المجيد ? [سورة البروج، الآية: 15]. وقوله تعالى: ? رفيع الدرجات ذو العرش? [سورة غافر، الآية: 15]. وقوله تعالى: ? لا إله إلا هو رب العرش الكريم ? [سورة المؤمنون، الآية: 116]. وفي الحديث الذي رواه البخاري كما في الفتح: 11/149 - برقم (6345). في الدعوات، باب الدعاء عند الكرب. ورواه مسلم برقم (2730) في الذكر، باب دعاء الكرب. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند الكرب يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
(3) كما في قوله تعالى: ? الرحمن على العرش استوى ? [سورة طه، الآية: 5]. وقوله تعالى: ? إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ? [سورة الأعراف، الآية: 54]. وقوله تعالى: ? ثم استوى على العرش الرحمن ? [سورة الفرقان، الآية: 59]. والآيات في هذا كثيرة جدا.(1/6)
، فليس لنا إنكار ذلك أو تسليط التأويلات التي هي تحريف للكلم عن مواضعه على تلك الأدلة واضحة الدلالة، فمتى ألزمنا أعداؤنا بلوازم باطلة زاعمين أنها تلزم بمن قال بموجب تلك النصوص لم نلتفت إلى تلك الإلزامات، وأوضحنا خطأهم في هذا الإلزام.
فأما إثبات النزول والمجيء فليس لنا إنكاره، وقد صرحت به النصوص وتواردت على إثباته الأدلة التي لا تحتمل التأويل، ومع ذلك نتوقف عن الكيفية ونَكِلُها إلى الله، ولا نقول: إنه إذا نزل يخلو منه العرش أو تحصره السماوات... إلخ، بل نقول: إن الرسول الناصح لأمته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قد أخبر بهذا النزول(1)، وأن الله تعالى قد أخبر بالمجيء يوم القيامة(2)، فنحن نثبت ذلك كما ورد، ولا نضيف إليه شيئا من عند أنفسنا، فما ألزمونا به غير لازم.
الخامس : قوله : [ فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت ... إلخ ].
__________
(1) ما رواه البخاري كما في الفتح: 3/35 - برقم (1145) في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل. ورواه مسلم برقم (758) في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر... إلخ. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟.
(2) كما في قوله تعالى: ? هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر? [سورة البقرة، الآية: 210] . وقوله تعالى: ? كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا?.[سورة الفجر، الآيتان: 21 ، 22](1/7)
فنقول : هذا تشبيه باطل وبعيد عن الصواب فما وجه الشبه ؟! فإن النصارى زعموا أن اللاهوت وهو: (الإله) اتحد بالناسوت وهو: (الإنسان) أو: ( عيسى )، وقالوا :? إِِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ?[ سورة المائدة الآية 17 ] ،? وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ? [ سورة التوبة، الآية 30 ] ، وذلك هو عين الكفر والضلال.
فأما أتباع السلف والأئمة فما قالوا شيئا من قِبَل أنفسهم، وإنما وصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به أعلم الخلق بربه، وهو مُحمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
فإذا أثبتوا لله الصفات الواردة واعتقدوها حقيقة لتواتر النصوص بها، ثم نفوا عنها كل أنواع التشبيه وخصائص المخلوقين، واعتقدوا أنها تليق بالله كما يشاء؛ لم يلزم أن يكونوا كالنصارى في قولهم باللاهوت والناسوت. وبكل حال فإن هذا الكاتب عليه أن يوجه عيبه ولومه إلى الأئمة المتبعين، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق ونحوهم، فهل يتجرأ أن يقول عليهم إنهم وهابية وإنهم إخوان النصارى؟
هذا ما لا يستطيعه؛ لما لهم عند جمهور الأمة من المكانة الراقية، فلو رماهم بذلك لأنكر عليه الخاص والعام وسددت إليه سهام الملام.
السادس: قوله : [ لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام .. إلخ ]
فنقول: هذا تهور وجرأة على الله وعلى المسلمين وأهل الدين، واستهزاء وتمسخر بشعائر الإسلام، وتكفير لأهل العقيدة السليمة، وإخراج لهم عن دائرة الإسلام، وتلك مصيبة عظمى لو يعلم أثرها هذا الكاتب لم يتجرأ على ذلك، فإنه :
أولا : زعم أنهم قد أطاعوا الشيطان مطلقا، وأنه هو الذي أوقعهم في هذا الاعتقاد السلفي الذي قد سار عليه جمهور سلف الأمة وأهل القرون المفضلة، فإذا كان إبليس قد لعب بهم فقد لعب أيضا بأولئك الأئمة والقادة الأجلاء.(1/8)
ثانيا : إخراجه لهم من الإسلام وهي إحدى الكُبَر، فبأي خصلة أخرجهم من الدين؟ أما كانوا يدينون لله بالتوحيد، ويعملون بمعنى الشهادتين، ويحافظون على إقامة أركان الإسلام، ويبتعدون عن كل المحرمات ويحذرون منها، ويحرصون على إخلاص دينهم لربهم وحده؛ فلا يجعلون منه شيئا لغيره كائنا من كان؟ فمن كفرهم فقد أنكر حقيقة التوحيد، وأباح الكفر والشرك؟ فهو أولى بما قال، وقد قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه »(1) . أي رجع إليه تكفيره، وفي حديث آخر: « أن رجلا ممن قبلنا قال: والله لا يغفر الله لفلان : فقال الله تعالى : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك »(2).
فهل ينتبه هذا الكاتب، ويرتدع عن مثل هذا التهور والتسرع في التكفير!!
السابع: قوله : [ لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء إلخ ].
فنقول: ونحن نبرأ إلى الله أن نصفه بالتشبيه أو التمثيل بشيء من المخلوقات، ولقد أوضحنا أن أئمة الدعوة بريئون من وصمة التشبيه أو التمثيل الذي يرميهم به أعداؤهم قديما وحديثا، وأنه لا يلزم من إثباتهم صفة الاستواء والنزول والمجيء وسائر الصفات الذاتية والفعلية أن يكونوا مشبهة؛ فإنهم تابعون للنصوص الصريحة في الإثبات، ومصرحون بنفي مشابهة المخلوقات كما يثبت غيرهم الصفات العقلية.
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم برقم (61) في الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب... إلخ. عن أبي ذر رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم برقم (2621) في البر والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى، عن جندب رضي الله عنه.(1/9)
وينفون عنها التشبيه وكما يثبت الباقون الذات الحقيقية، ويتوقفون عن معرفة ماهيتها وكنه حقيقتها، وقد يكون النافون أولى بالتشبيه؛ لأنه لم يتبادر إلى أذهانهم سوى دلالة النصوص على التشبيه، ولم يفهموا منها إلا هذا المعنى الباطل، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص غير مراد؛ لأنه بزعمهم يدل على مماثلة الله للمخلوقات، تعالى الله وتقدس.
« آيات الصّفات محكمة جليّة ظاهرة المعاني مفهومة الدّلالة » :
ثالثًا : آيات الصّفات محكمة جليّة ظاهرة المعاني مفهومة الدّلالة :
قال في السطر الثاني من الصفحة الثانية: [ أما الآيات المتشابهات فلا بد فيها من التأويل، خوف التجسيم والتشبيه.. إلخ ].
والجواب : أن هذا قول خاطئ، مخالف لقول الراسخين في العلم الذين يقولون في المتشابه :
? آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ? [ سورة آل عمران، الآية 7 ] فقد ذم الله الزائغين الذين
? فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ? [ سورة آل عمران، الآية 7 ] .
إن هذا الكاتب اعتقد أن آيات الصفات فقط هي القسم المتشابه وحده، وهو قول خاطئ من حيث العموم؛ فإنها محكمة جلية ظاهرة المعاني مفهومة الدلالة، فسرها السلف والأئمة وأوضحوا معاني ما اشتملت عليه، ولم يفوضوا لفظها كما يزعم أهل الكلام، ولم يحرفوا معانيها كما يدعي هذا الكاتب ونحوه أن تأويلها لازم خوف التجسيم... إلخ.
فأما قوله : [ لأن القرينة تصرف اللفظ عن ظاهره.. إلخ ].
نقول: ليس ثم قرينة يحتاج معها إلى تحريف الكلم عن مواضعه؛ فمتى قلنا ? آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ?[ سورة آل عمران ،الآية 7 ] واعتقدنا أن الألفاظ دالة على معان صحيحة مفهومة للمخاطبين، وأنها دالة على صفات تناسب الموصوف وتباين صفات المحدثات، ونحو ذلك لم نحتج إلى صرف اللفظ عن ظاهره.(1/10)
حيث يتكلف في هذا الصرف، وحيث يكون المعنى المصروف إليه بعيدا عن السياق وعن المفهوم المتبادر للسامعين، فإن المخاطبين به عند نزوله لم يحرفوا معانيه، ولم يفهموا منه شيئا من خصائص المخلوق، بل أثبتوا كل الصفات الواردة واعتقدوها لائقة بالموصوف؛ فلما جاء من بعدهم وفشت فيهم المذاهب الكلامية توسعوا في البحث، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص يقتضي التجسيم والتشبيه، فسلطوا عليها أنواع التأويل كأضراب هذا الكاتب هداهم الله.
« لا يلزم من إثبات الصّفات القول بأنه جسم محدود » :
رابعًا : لا يلزم من إثبات الصّفات القول بأنه جسم محدود.فأما قوله:
[ فمن كان هذا شأنه لا بداية ولا نهاية، كيف تعتقد أنه جسم محدود مؤلف من أعضاء، يتحرك، وينتقل من مكان إلى مكان آخر، ويترك وراءه فراغًا ؟ ]
هذا عليه فيه ملاحظات :
منها قوله: [ لا بداية ولا نهاية ] : قال ذلك بعد الآية الكريمة ? هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ? [ سورة الحديد، الآية 3 ] وهو تفسير مبتدَع، فإن هذه الأسماء قد بيَّن معانيها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ووضحها بقوله في دعاء الاستفتاح : « أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء » (1).
ومنها قوله : [ كيف نعتقد أنه جسم محدود ]:
والجواب : إنه لا يلزم من إثبات الصفات على ما يليق بها القول: بأنه جسم محدود، ثم قد سبق الرد على قوله: جسم محدود مؤلف من أعضاء، وبيَّنا أن هذه ألفاظ بدعية، لا يجوز الخوض فيها إثباتا ولا نفيا.. إلخ.
ومنها قوله: [ يتحرك وينتقل من مكان … إلخ ] :
__________
(1) رواه مسلم برقم (2713) في الذكر، با ما يقول عند النوم وأخذ المضجع. عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/11)
فنقول: اتهم بالقول بذلك أئمة الدعوة السلفية، وهو كقوله آنفا : يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، وقد ذكرنا الجواب عنه آنفا، وأوضحنا أنه لا يلزم من إثبات المجيء والنزول الذي وردت به الأدلة أن نقول بالحركة والانتقال المحسوس، الذي هو من خواص المحدثات والمركبات، بل مجيء الله ونزوله هو كما يليق به وهو حق حقيقي ليس بمجاز، ولا يصح نفيه بعد ثبوته في النصوص التي دلالتها قطعية.
ذكر الكاتب أمثلة على تأويل بعض الآيات المتشابهة :
المثال الأول: تأويل قول الله تعالى: ? وَجَاءَ رَبُّكَ ? [ سورة الفجر، الآية 22 ].
ثم إن هذا الكاتب ذكر مثالا لتأويل بعض الآيات المتشابهة، كما زعم وهي قوله : ? وَجَاءَ رَبُّكَ ? فأقحم فيها لفظ : (أمر)، فقال: [ و جاء أمر ربك والملك.. إلخ ].
وهذا تفسير الجهمية ومن تبعهم، ولا عبرة بكثرة من قاله من المتقدمين والمتأخرين، فإننا متبعون للأدلة، فقد ذكر الله الإتيان وأضافه إلى ذاته، وفرق بين إتيانه وإتيان بعض آياته، فقال -عز وجل- ? هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ? [ سورة الأنعام، الآية 158 ] وقال تعالى: ? هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ? [ سورة البقرة ، الآية 210 ] إلخ.
ومتى قلنا: إن الله يجيء كما يشاء إتيانا يليق به، لم يلزم القول بالحركة الموهومة، مع أن تأويله بالأمر لم ينقل عن أحد من السلف وهم الأسوة وبهم القدوة.
المثال الثاني: تأويل حديث النزول :
ثم ذكر مثالا ثانيا للتأويل الذي التزم سلوكه خوفا من التشبيه، فقال في السطر الثامن من الصفحة الثانية :
[ (النزول) معناه: الهبوط من أعلى إلى أسفل، ثم الرجوع ثانيا إلى مكانه، وهذا أيضا مستحيل، إذا لا بد من التأويل، نزول مَنّ وإفضال، وقبول توبة، بمعنى التنزل، لا كنزول الأجسام والصور .. إلخ ].(1/12)
والجواب أن يقال: وردت أحاديث كثيرة صحيحة عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في أن الله تعالى ينزل كل ليلة، وذكرت بلفظ النزول وبلفظ الهبوط، والذين نقلوها هم نقلة أحكام الشريعة، ولم ينكرها أحد من السلف، ولم يقولوا: إن المراد نزول فضله أو منِّه أو قبوله التوبة... إلخ. كما أنهم لم يكيفوا ذلك ولم يشبِّهوه بنزول الأجسام، واعتبروه مثل المجيء والإتيان الذي أثبته الله لنفسه، ولم يلزم من إثباته ما هو مستحيل، بل الجميع نصّ على حقيقته، وهو من خصائص المتصف به لأنه تعالى: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? [ سورة الشّورى، الآية : 11 ] في ذاته ولا في صفاته.
المثال الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره :
ثم ذكر مثالا ثالثا لصرف اللفظ عن ظاهره، فقال في السطر العاشر في الصفحة الثانية:
[ وهذا كحديث: « الحجر الأسود يمين الله في الأرض »(1). لما كانت اليد هي موضع التقبيل والتبجيل، والاعتراف بالفضل والجميل، كان الحجر بمنزلة اليد لا عينها ].
فنقول: أولا : إن هذا لم يثبت حديثا مرفوعا، وإنما هو من قول ابن عباس في الحكمة من استلامه الحجر وتقبيله.
ثانيا : إن ابن عباس قد بيّن في تمام كلامه ما يبعد الوهم، فقال: فمن صافحه أو قبّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه. فقد بيّن أن الحجر ليس هو عين يمين الله تعالى فإن المشبه غير المشبه به، فقد بيّن أن مستلمه ليس مصافحا لله، وأنه ليس هو عين يمين الله، فليس في هذا إيهام، ولا يحتاج إلى تأويل، حيث إن السياق لا يدل على التشبيه.
ذكر الكاتب أمثلة أخرى على تأويل بعض الآيات :
ثم ذكر جملة من الآيات وصرفها عن ظاهرها متبعا في ذلك تأويلات الجهمية وأتباعهم :
__________
(1) حديث منكر، وسنده لابن عباس ضعيف، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة - رقم (223) للعلامة المحدث الألباني.(1/13)
1ـ ففي السطر الثاني عشر قال: [ ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ?[ سورة الملك، الآية : 16 ]؛ هذه إشارة إلى علو المكانة لا المكان ].
والجواب : أن هذا تأويل المعتزلة ونحوهم؛ حيث ينكرون صفة العلو الذاتي لله تعالى أما أهل السنة فيقولون : إن الله تعالى في السماء كما يشاء، وكما في هذه الآية والتي بعدها، وكما وردت به السنة في جملة أحاديث، ولا يقولون: إن السماء تحويه أو تحصره تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل يقولون إن المراد بالسماء جهة العلو، فإن كل ما علا فهو سماء أو أن المراد : من على السماء كقوله: ? فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ?[ سورة التّوبة، الآية : 2 ] ؛ أي عليها، وأدلة العلو متواترة متنوعة الدلالة، صريحة لمن تأملها ولا يلزم منها محذور كما تقول الجهمية ومن تبعهم.
2 ـ ثم قال في نفس السطر: [ ? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ?[ سورة الرّحمن، الآية : 27 ] ؛ أي ذاته،? وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ?[ سورة طه، الآية : 39 ] ؛ أي عنايتي ورعايتي لك ].
فنقول : هذا تأويل خاطئ، حيث أنكر ما أثبته الله لنفسه من صفة الوجه والعين وقد وردت أدلة متنوعة في الكتاب والسنة بذلك(1)
__________
(1) ومن الأدلة على إثبات صفة الوجه، قول الله تعالى: ? ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ? [سورة الرحمن، الآية: 27] . وقوله:
? كل شيء هالك إلا وجهه ? . وفي الحديث الذي رواه مسلم برقم (179) في الإيمان، باب في قوله عليه السلام: بإن الله لا ينام... إلخ. من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. أما الأدلة في إثبات صفة العين فمنها: قوله تعالى: ? فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ? [سورة الطور، الآية:48] . وقوله: ? وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ? [ سورة القمر، الآيتان: 13 ، 14]. وفي الحديث الذي رواه البخاري كما في الفتح، 6/199 - برقم (3057) في الجهاد، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي. من حديث ابن عمر رضي الله عنه، في وصف الدجال، وفيه: إنه أعور، وأن الله ليس بأعور. وفي رواهية عند البخاري كما في الفتح: 6/550 - برقم (3439) في أحاديث الأنبياء، باب قول الله: ? واذكر في الكتاب مريم... ? الآية. ومسلم برقم (169) في الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال. من حديث عبد الله بن عمر قال: إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية. وقد استدل العلماء من هذا الحديث الصحيح أن لله تعالى عينين اثنتين، وقد أثبت ذلك عثمان بن سعيد الدارمي في ردة على الكافر العنيد (المريسي). وذكره ابن خزيمة في كتابه التوحيد. وقد نقل إجماع السلف على ذلك أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني.(1/14)
، ومن طلبها وجدها في كتب الحديث والعقائد، ولم يزل السلف يأثرونها ويروونها من غير تكبر، ولم يقولوا: إنها تشبه خصائص المخلوق، بل إنها صفة للرب تعالى كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نكيفها؛ حيث لم يخالفها عقل سليم ولا نقل صحيح، بل النقول المتكاثرة المتواردة على حكم واحد يتعذر تأويلها.
3 ـ ثم قال في السطر الذي يليه: [ ? وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ?[ سورة الزمر، الآية : 67 ]؛ أي بقدرته، ? يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ? [ سورة الفتح، الآية : 10 ] « ويد الله مع الجماعة »(1) أي يؤيدهم بنصره ... إلخ ].
__________
(1) جزء من حديث رواه الترمذي برقم (2167) في الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة عن ابن عمر رضي الله عنه. والنسائي برقم (4020) 7/92، في تحريم الدم، باب قتل من فارق الجماعة. عن عرفجة بن شريح رضي الله عنه.(1/15)
( والجواب ) : وهذا تأويل باطل من جنس ما قبله، فقد تكرر ذكر اليد واليدين للرب تعالى في العديد من الآيات والأحاديث، والتصريح بذكر اليمين(1)، ونحو ذلك من العبارات الصريحة؛ فإن تأويلها بالقدرة بعيد عن الصواب، وقد ذكرها الله في قوله لإبليس: ? مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ?[ سورة ص، الآية : 75 ] بلفظ المثنى؛ ولو كان المراد القدرة لما حسن ذكر التثنية، ولقال إبليس: وأنا خلقتني يا رب بقدرتك. ثم إنه ادعى الإجماع على تأويل اليد بالقدرة والتأييد والنصر والرعاية والحماية والعناية وليس كذلك؛ فإجماع الصحابة والتابعين سابق لهؤلاء على أن يد الله صفة من صفاته وتبعهم على ذلك سلف الأمة والأئمة الأربعة، ونصره ابن جرير في تفسير قول الله تعالى : ? بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ?[ سورة المائدة، الآية : 64 ] فأين الإجماع على ما قال؟ ومن الذي حكاه كما قال هذا الكاتب ؟!
ثم إنه أورد بيت شعر اعتمده فيما قال، ونص البيت :
وكل نص أوهم التشبيها * * * أوله أو فوض ورم تنزيها
وهذا البيت مذكور في منظومة لبعض الأشاعرة ونحن نقول :
أولا : إن صاحب النظم لا ينبغي اتخاذه عمدة؛ فإنه إنما بنى كلامه على معتقده الذي اعتنقه عن مشايخه الذين تلقى عنهم هذه العقيدة السيئة.
ثانيا : لا يظن أن نصوص الشرع من الكتاب والسنة توهم التشبيه أبدا؛ فإن السلف والأئمة لم يكونوا يفهمون أو يتوهمون أن النصوص توهم التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فالله تعالى أعلى وأجل من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
__________
(1) انظر صفحة: ، فقد بينا الأدلة من الكتاب والسنة في إثبات صفة اليد واليدين لله عز وجل وفي بعض الرواهيات التصريح باليمين وفي بعضها أن كلتا يديه يمين(1/16)
ثالثا : إلزامه بالتأويل والتفويض، ويعتقد أن السلف يفوضون النصوص أي يسكتون عن المراد بها، مع الاعتقاد أنها لا تدل على صفات حقيقية في نفس الأمر، فألزم إما بالتأويل، وهو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، لكن ينفي دلالته على الصفات في نفس الأمر، وإما بالتفويض الذي هو السكوت عن المراد مع روح التنزيه، وهو اعتقاد أنها لا تفيد صفات لله في نفس الأمر.
وكلا الأمرين خطأ، وإنما الصواب ترك التأويل وإثبات حقيقة الصفات التي أفادتها تلك النصوص، مع تفويض العلم بالكيفيات والماهيات، ومع اعتقاد أنها لا يفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين، فلا تشبيه ولا تعطيل.
« نسبة الجلوس إلى أهل السُّنَّة كذب عليهم » :
خامسًا : نسبة الجلوس إلى أهل السنة كذب عليهم.
ثم قال في السطر الخامس عشر من الصفحة الثانية : [ فمن هذا شأنه، لا بداية ولا نهاية، كيف يجلس ويستقر على مخلوق ضعيف تحمله الملائكة، وتحفه من كل جانب ملائكة، هذا مستحيل ... إلخ].(1/17)
فيقال : تكرر قوله : لا بداية ولا نهاية، وذكرنا أن الصواب التفسير النبوي : الأول والآخر، فأما قوله: كيف يجلس... إلخ؛ فالجواب أن الله تعالى وصف نفسه بأنه على العرش استوى في سبعة مواضع من القرآن، وفسر العلماء الاستواء بما يدل على العلو والارتفاع والاستقرار والتزموا نفي العلم بالكيفية وتفويضها إلى الله، ولا أذكر في كتب السلف التفسير بالجلوس، فنسبته إلى أهل السنة أو أئمة الدعوة كذب عليهم، بل منهم من فوض وقال (استوى) استواء يليق بالله تعالى، ومنهم من قال: علا وارتفع كما يشاء مع عدم العلم بالكيفية، وليس في ذلك محذور والحمد لله، وقد أنكروا على من توسع في الخوض في ذلك بذكر أنه أكبر من العرش أو مثله أو دونه، وكذا بذكر المماسة وكون الرب محمولا على العرش كحمل الراكب على المركوب ونحو ذلك؛ فلا نقول بهذه التقديرات ولا نخوض في هذه الأبحاث؛ لعدم النقل فيها، ولما فيها من التدخل فيما لا يعني.
« تفسير السَّلف الاستواء بالاستقرار والعلو » :
سادسًا : تفسير السلف الاستواء: بالاستقرار والعلو … إلخ :
ثم قال بعد سطرين: و(استوى) لغة معناها: استقر؛ فالاستقرار هنا بصفة الرحمة على العرش وما قواه.. أما من اعتقد بأنه جلس واستقر على العرش فقد أشرك؛ لأنه توهمه جسما محدودا محمولا على عرشه ... إلخ.(1/18)
والجواب : قد تقدم أن السلف فسروا الاستواء بالاستقرار والعلو والارتفاع والصعود ولم يقولوا ما قاله هذا الكاتب من أنه الاستقرار بصفة الرحمة على العرش، فإنه بعيد. بل قالوا: استقر كما يشاء لا كاستواء المخلوق، ولم يعتقدوا أنه جلس أو استقر على العرش كاستقرار المخلوق، ولم يقولوا إنه محتاج إلى العرش أو غيره، ولا توهموا ربهم جسما محدودا محتاجا إلى خلقه، فكل هذا تقول عليهم بلا علم، فإن كان يقصد أئمة الدعوة فليوقفنا على موضع من كتبهم فيه ما ذكر، وإلا فليسند القول إلى قائله، والذي يقول بتلك الأقاويل الكفرية يصدق عليه أنه حمار، كما وصفه به الكاتب.
« في دعاء المخلوقين والتوسل بالأشخاص » :
أولا : تفسير معنى دعاء العبادة ودعاء المسألة.
قال الكاتب في الصفحة الثالثة في السطر السابع : (النداء) لغة: معناه الدعاء، وهو لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع من غير إذن الله فقد أشرك ... إلخ.
والجواب : لقد خبّط هذا الكاتب وخلط وأخطأ في الكثير مما قاله أو تعمد، فأنبه على أهم أخطائه فيما يأتي :
أولا : ذكر أن الدعاء لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي ... إلخ. وهذا قول باطل بعيد عن الصواب، صدر عن جهل بحقيقة الدعاء وبحقيقة العبادة وبالأدلة الواردة على ذلك، وأنا أشير إلى شيء من ذلك فأقول :(1/19)
أما الدعاء فهو لغة النداء، ويطلق شرعا على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهما متلازمان فدعاء العبادة هو فعل كل الطاعات وأداء جميع القربات؛ امتثالا لأمر الله، وتقربا إليه وهو متضمن دعاء المسألة، فإن المصلي داعٍ بلسان الحال، فكأنه يقول: إنما أصلي طلبا لرضا الله وجزيل ثوابه، وهكذا في جميع الأعمال الصالحة لسان حال من يفعلها يقول: أريد من فعلها مغفرة الله وجنته فهو سائل في نفس الأمر، أما دعاء المسألة فهو السؤال والطلب كسؤال الجنة والتعوذ من سخط الله ومن النار ونحو ذلك، وهو ولا بد مستلزم لدعاء العبادة، فإن حقيقة العبادة الذل والخضوع والتواضع والإذعان؛ فالذي يدعو ربه يسأله حال تذلل وخشوع وإنابة وإخبات، فالسؤال دعاء والذل عبادة، وهكذا المصلى والصائم والمتصدق والذاكر والقارئ والطائف والعاكف والراكع والساجد؛ فإن كلا من هؤلاء حال فعله يكون راغبا في فضل الله طالبا لمنه وعطائه، ويكون مع ذلك متذللا ومذعنا منقادا لأمر الله خاضعا مخبتا له، وذلك هو حقيقة العبادة، ومتى كان كذلك، ورأينا من يسأل ربه من فضله، ويمد إليه يد الافتقار، ويلهج بالدعاء مستمطرا من فضل ربه؛ فإنا نسميه داعيا سائلا لله. فإذا كان مع ذلك قد أهطع وأقنع، وخشع وتذلل، وتواضع حال سؤاله؛ فهو لذلك عابد لربه ظاهرا، نحكم بذلك حسب ما رأينا، وقد قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « الدعاء هو العبادة » ثم قرأ قول الله تعالى: ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ? الآية(1)، ووجه الدلالة من الآية أنه تعالى
__________
(1) رواه أبو برقم (1479) في الصلاة، باب الدعاء. والترمذي برقم (3244) في التفسير، باب ومن سورة المؤمن. وأحمد في المسند: 4/267، 271، 276. وابن ماجة برقم (3828) في الدعاء، باب فضل الدعاء. من حديث النعمان بن بشير. قال الألباني في صحيح الجامع برقم (3401): حديث صحيح.(1/20)
أمر بدعائه، وذم المستكبرين عن عبادته، والقرينة تدل على أن المراد يستكبرون عن دعائي، وقال تعالى: ? قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ ? [ سورة الأنعام، الآية : 56 ] فجعل دعاءهم عبادة، وقال عن الخليل عليه السلام : ? وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ?[ سورة مريم، الآية : 48 ] ثم قال: ? فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ?
[ سورة مريم، الآية : 49 ] ؛ فعبر بالعبادة عن الدعاء.
وبعد أن عرفت حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة وتلازمهما، فإن الأدلة واضحة على أن الدعاء حق الله لا يصرف منه شيء لغير الله قال تعالى: ? فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 18 ] وقال: ? وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ?[ سورة يونس، الآية : 106 ] وقال: ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ?[ سورة الأحقاف، الآية : 5 ] ونحوها من الآيات.
ثانيًا : أما قول هذا الكاتب :
فقول هذا الكاتب : أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع من غير إذن الله فقد أشرك.
نقول : إن دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك مطلقا، سواء كان المدعو ملكا أو نبيا، أو وليا أو جنيا أو صالحا، أو شريفا أو سيدا، أو شجرا أو قبرا، أو غير ذلك، فأما إن دعا إنسانا حيا حاضرا قادرا، وطلب منه ما يقدر عليه كقوله: يا فلان اسقني، أو أطعمني، أو احملني، أو احمل رحلي، ونحو ذلك؛ فهذا جائز، وهو من الأفعال المحسوسة التي لا يزال الناس يفعلونها ويعين بعضهم بعضا على فعلها، وكذا إن قال: يا فلان ادع الله لي بالمغفرة والجنة، أو أشركني في صدقاتك أو وقفك أو دعواتك ونحوها؛ فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مما يثيبه الله عليه.(1/21)
وهذا بخلاف ما إذا قال: اغفر ذنبي، وأدخلني الجنة، أو خذ بيدي عن النار ونحو ذلك؛ فإن هذا لا يجوز فعله مع الحي فضلا عن الميت؛ لأنه مما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا منه تعالى.
فنحن نستدل بفعل الإنسان على عقيدته، فمتى رأينا شخصا وقف عند قبر إنسان معظم في نفسه، وخضع برأسه وتذلل وأهطع وأقنع وخشع، وخفض صوته وسكنت جوارحه وأحضر قلبه ولبه أعظم مما يفعل في الصلاة بين يدي ربه عز وجل، وهتف باسم ذلك المقبور، وناداه نداء من وثق منه بالعطاء، وعلق عليه الرجاء ونحو ذلك؛ فإننا لا نشك أنه -والحالة هذه- يعتقد أنه يعطيه سؤله ويدفع عنه السوء، وأنه يستطيع التصرف في أمر الله؛ ففعله هذا دليل سوء معتقده، فلا حاجة لنا أن نسأله: هل أنت تعتقد أنه يضر وينفع من غير إذن الله.
فالله تعالى ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس، وإنما نأخذهم بموجب أفعالهم وأقوالهم الظاهرة، وهذا الشخص قد خالف قول الله تعالى: ? وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ? [ سورة يونس، الآية : 106 ] وقد رأينا خشوعه وتذلله أمام هذا المخلوق الميت، وذلك هو عين العبادة كما عرفنا، فنحكم عليه بموجب فعله وقوله بأنه قد أشرك بالله وتأله سواه.
فإن الإله هو الذي تألهه القلوب وتعظمه، وتحبه وترجوه وتخافه، وتعامله بما لا يصلح إلا لله، ولو لم يسمه الفاعل إلها، ولو لم يسم فعله تألها وتعبدا؛ فإن العبرة بالحقائق وما في نفس الأمر بخلاف الأسماء، فأهل هذا الزمان لما جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء ونحوه، الذي هو من حق الله، ولم يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغير الله، وسموا ذلك توسلا واستشفاعا وتبركا واحتراما، وهو عين عبادة ذلك المخلوق وعين الشرك الذي توعد الله عليه بالنار وحرمان الجنة.
ثالثًا :(1/22)
ثم قال الكاتب في الصفحة الثالثة في أول السطر التاسع : [ أما من اعتقد فيمن يناديه بأنه من أهل العطاء وما ملك إلا بتمليك الله، ولا يتصرف إلا بإذن الله؛ فهو موحد ... إلخ ].
فنقول: لا حاجة لنا في التنقيب عن معتقده الذي يقوم بقلبه فإنه أمر خفي، وقد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فنحن نأخذه بالظاهر، فإن أفعاله تعبر عما في ضميره، ولو حاول تغييره لم يستطع، ثم نقول أيضا كيف يصلح اعتقاد أن المخلوق من أهل العطاء؛ أي أنه يملك أن يعطي من يشاء مغفرة ورزقا ومالا وولدا وصحة وغنى... إلخ؟ فإن الذي يملك ذلك هو الله وحده كما وصفه نبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بقوله : « اللهم لا مانع لما أعطت ولا معطي لما منعت »(1) وقد أخبر الله عن كل ما يدعي من دونه بأنهم ? مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ?[ سورة فاطر، الآية : 13 ].
وإن أراد الكاتب أنه من أهل العطاء؛ أي الذين أعطاهم الله نوعا من التصرف والملكية؛ فهذا لا دليل عليه، وإنما خصائص الأنبياء نزول الوحي عليهم وتكليفهم بالتبليغ عن الله ما نزل إليهم، ولم يعطهم شيئا من حقه الذي هو الدعاء والعبادة والتأله، ولا ملّكهم رزق العباد، وهبة الأولاد، وشفاء الأسقام البدنية، وغفران الذنوب ونحوها، وعلى هذا فمن اعتقد في نبي أو ملك أو ولي أو أي مخلوق، أنه مفوض من الله في إهلاك من شاء، أو إعطاء من أراد، أو إدخاله جنة أو نارا؛ فقد صادم النصوص، وأشرك المخلوق في حق الخالق.
فإن الله تعالى قال لرسوله محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهو أشرف خلقه وأفضلهم :
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح: 2/378 - برقم (844) في الآذان، باب الذكر بعد الصلاة. عن المغيرة بن شعبة.(1/23)
? إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ?[ سورة القصص، الآية : 56 ] فإذا كان سيد الخلق وخاتم الرسل لا يقدر على هداية عمه أو أقاربه، فكيف يهدي أبعد الخلق وأشقاهم إذا دعوه مع الله وصرفوا له ما لا يستحقه إلا الله ؟
ولقد أمره الله تعالى أن يعترف بعدم ملكيته لشيء من ذلك؛ لأنه حق الله وحده، قال الله تعالى: ? قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 21 ] والرشد الهداية القلبية وإيصال الإيمان إلى القلوب، بخلاف البلاغ والبيان فإنه وظيفته، ورسالته كما قال تعالى: ? إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ?[ سورة الشّورى، الآية : 48 ] .
وقد أخبر بأنه يهدي إلى الحق أي يدل عليه كما قال عز وجل: ? وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[ سورة الشّورى، الآية : 52 ] والمراد هداية البيان والدلالة والإرشاد، فأثبت هداية البيان ونفى هداية التوفيق والإلهام وقبول الإسلام، فمع هذه النصوص الصريحة كيف يقال: إن المخلوق يملك بتمليك الله الهداية والإضلال والإعطاء والمنع والإحياء والإماتة، أو يتصرف بإذن الله في الكون؛ فيرسل الرياح، ويثير السحب، وينزل المطر، وينبت النبات، ويخلق ويرزق، كل هذا جرأة على الله.
وإنما جعل الله من معجزات عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ شيئا من ذلك بإذن الله، ثم انقطع برفعه إلى السماء، ولم يذكر الله تعالى أن أحدا من الأموات أو الغائبين يهدي من أحب، أو يرزق من يشاء بإذن الله، بل قال تعالى لنبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ? قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ?[ سورة الأعراف، الآية : 188 ].(1/24)
فهل يقال بعد هذا: إنه هو أو مَنْ دونه بعد موته يملك بتمليك الله النفع والضر والإعطاء والمنع، وأنه بناء على ذلك يُطلب منه كما يُطلب من الله؛ فيُدعى ويُرجى وتعلق عليه الآمال، ويخشع له العبد ويتواضع، ويقف أمام قبره خاضعا ذليلا وخائفا راجيا، فإن هذا كله لازم قول هذا الكاتب؛ حيث أباح نداءه وجعله مالكا متصرفا فيما هو من خصائص الرب تعالى، وقد صح عن نبينا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال لعشيرته الأقربين : « أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا » وقال لعمه العباس: « لا أغني عنك من الله شيئا »(1).
وهكذا قال لعمته ولابنته فاطمة الزهراء وأمرهم بأن يعملوا عملا صالحا لوجه الله ينقذون به أنفسهم من النار، ولا يعتمدون على قرابتهم منه أو شرفه عند الله، بل قال في حديث آخر: « ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه »(2) وكل هذا حث للمسلم أن يعمل لله عملا خالصا لوجهه يكون سببا لنجاته يوم القيامة، فلا يعتمد على نسب ولا حسب ولا يرغب إلى أي مخلوق يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يعظمه كتعظيم الله تعالى، أو يعقد عليه أمله، أو يعتقد أنه يملك من أمر الله شيئا، مع قول الله عز وجل لنبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ? [ سورة آل عمران، الآية : 128 ] وقوله : ? قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ? [ سورة آل عمران، الآية : 154 ] فهل ذكر الله تعالى أنه قد ملك أحدا من خلقه شيئا من حقه؟
أو فوض إليه التصرف في عباده، بأن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولقد قال تعالى: ? وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ?
__________
(1) رواه البخاري برقم 2753، عن أبى هريرة.
(2) جزء من حديث رواه مسلم برقم (2699) في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر. عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/25)
[ سورة الرّعد، الآية : 33 ] ? وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ?[ سورة الزّمر، الآية : 37 ] وقال عز وجل : ? وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ?
[ سورة الإسراء، الآية : 97 ]؛ أي لا أحد يتولى أمرهم ولا أحد يقدر على هدايتهم ولو توسلوا بالأنبياء والأولياء والملائكة والصالحين والأصفياء.
والقصد من ذلك أن يقبل العباد بقلوبهم على ربهم، ويصدقوا الرغبة إليه، ويدعوه مخلصين له الدين، وينصرفوا بقلوبهم وأعمالهم عن كل مخلوق؛ تحقيقا لوصف العبودية التي هي غاية الذل مع غاية الحب، فهو سبحانه قريب مجيب، كما قال تعالى:? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ?[ سورة البقرة، الآية : 186 ].
فهو أعلم بعباده، وهو المطلع على الضمائر والنيات، ويعلم ما تكنه الصدور وما توسوس به النفوس، ويعلم السر وأخفى، فكيف -مع ذلك- يعدِل عنه العباد ؟ كيف يحتاج إلى من يعرفه بخلقه، كيف يكون المخلوق أعلم من الرب الخالق تعالى بما في قلب الداعي؟! فالصدود عن الخالق إلى أحد من المخلوقين فيه غاية التنقص للرب عز وجل، وسوء الظن به أنه لا يعلم بعباده حتى ينبهه غيره من المخلوقين تعالى الله علوا كبيرا.
« الرُّسل جميعًا لم يخرجوا عن طبيعة البشر » :
ثانيا : الرُّسُل جميعًا لم يخرجوا عن طبيعة البشر .
ثم قال الكاتب في السطر الثالث عشر من الصفحة الثالثة: [ ومن أسف أن الوهابية قالوا: تمجيد الرسول بما يخرجه عن طبيعته البشرية باطل وزور وحكموا بكفر من وصفه بأنه نور، وغاب عن هؤلاء الحمير بأن الله وصفه بالسراج المنير ... إلخ ].(1/26)
جوابه أن يقال : مراده بالوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن انتفع بدعوة السلفية رحمهم الله، وقد علم أنه -رحمه الله- لم يأت بجديد، وإنما جدد للناس ما اندرس من معالم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ حيث خرج في مجتمع قد غلب عليه الشرك ووسائله، كعبادة الأموات، وعمارة ما يسمى بالمشاهد، برفع قبور الصالحين والأولياء وبناء القباب عليها، وتحري الصلاة عندها، وبالعكوف حولها وبالذبح لها تعظيما واحتراما، وبإيقاد السرج عليها طوال الليل، وبالنذور والهدايا إلى تلك الضرائح، وتعليق الرجاء عليها، والهتاف بأسماء الأموات وندائهم ودعائهم مع الله، كقبر شمسان وتاج ويوسف وزيد بن الخطاب ونحوهم.
فبين لأهل زمانه أن حقهم علينا محبتهم واتباعهم والعمل مثل أعمالهم، فأما الدعاء والرجاء والذبح والنذر فهو خالص حق الله، وأورد لهم النصوص الصريحة في مصادمة ما فعلوه للتوحيد، كقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لعن الله من ذبح لغير الله »(1) مع قوله تعالى: ? فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ?[ سورة الكوثر، الآية : 2 ] ؛ أي خصه وحده بالصلاة والنحر.
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم برقم (1978) في الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(1/27)
فمتى صلى أحد أو نحر لغير الله فقد أشركه في حق الله، وبين لهم أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال قبل أن يموت بخمس : « ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك »(1) وقال وهو في سياق الموت : « لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »(2) يحذر ما صنعوا، وقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج » ودعا ربه فقال : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »(3) والمعنى أن الأولين أشركوا حيث تحروا الصلاة عند قبور الأولياء والأنبياء، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد، ولو لم يبن مسجدا له منبر موجه إلى القبلة، فإن المسجد ما يتخذ للركوع والسجود فيه.
فأهل ذلك الزمان قد غلب عليهم قصد قبور الأولياء والصالحين للصلاة عندها؛ لاعتقاد أن للصلاة هناك مزية، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد ومع جماعة المسلمين، أو أن ذلك الولي يشفع في هذه الصلاة لتقبل، أو يضاعف ثوابها، ونحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة.
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم برقم (532) في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور... إلخ عن جندب رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم برقم (529) في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور... إلخ. عن عائشة رضي الله عنها، وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم برقم [530 (20)] في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور... إلخ.
(3) رواه أحمد 2/246، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مالك في الموطأ برقم (85) صفحة: 172 في قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة. عن عطاء بن يسار.(1/28)
ولا شك أن هذا تعظيم للمخلوق، ورفع لمنزلته إلى درجة لا يستحقها إلا الله، فأما الرسول محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فإنا نمجده، نحبه ونقدم محبته على الأنفس والأموال؛ فإن ذلك شرط لصحة الإيمان؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين »(1) ولكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر، فنجعله ربا أو إلها أو خالقا أو رازقا، وإنما ميزته الرسالة؛ حيث فضله الله على جميع البشر، وأنزل عليه الوحي وكلفه بحمل الرسالة وتبليغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفا بالبشرية وبالعبودية. قال الله تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ?[ سورة الكهف، الآية : 110 ] .
بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية، كما حكى الله عن الرسل قولهم لأممهم :
? إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ? [ سورة إبراهيم، الآية : 11 ] ولما تعنت بعض المشركين، وطلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، قال الله تعالى له: ? قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ?[ سورة الإسراء، الآية : 93 ] .
__________
(1) رواه مسلم برقم [44 (70)] في الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلخ. عن أنس رضي الله عنه.(1/29)
فهل من دليل يفيد أن الرسل خرجوا عن طبيعة البشرية، فصاروا يعلمون الغيب، ويملكون التصرف في الكون، ويشاركون الرب في الإعطاء والمنع والضر والنفع ونحو ذلك، أليس قد قال الله تعالى لنبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :? قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ?[ سورة الأحقاف، الآية : 9 ] بل أمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه هذه الأمور حيث قال تعالى: ? قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ?[ سورة الأنعام، الآية : 50 ] .
بل قد وصفه الله تعالى بالعبودية التي هي تمام التذلل والخضوغ للرب -عز وجل- فقال تعالى في مقام التحدي: ? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ?[ سورة البقرة، الآية : 23 ] وقال تعالى في مقام الإسراء : ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ?[ سورة الإسراء، الآية : 1 ] وقال تعالى في مقام الدعوة :? وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 19 ] وقال تعالى : ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? [ سورة الكهف، الآية : 1 ] وقال: ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ? [ سورة الفرقان، الآية : 1 ] .(1/30)
فذكر تعالى أن من خصائصه ومميزاته أن أنزل عليه هذا الكتاب الذي أعجز الناس أن يعارضوه، ومن خصائصه أن أسرى ببدنه وروحه إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء إلى حيث شاء الله، ومن فضائله أن كلفه ربه بالدعوة إلى الله، كل هذه المميزات لم تخرجه عن وصف العبودية لله بكل معانيها من كونه مملوكا للرب، ومن كونه ذليلا متواضعا وخاضعا له مطيعا، وهذا وصف فضل وشرف اتصف به المصطفون من عباد الله ولم يتكبروا عنه قال تعالى : ? لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ? [ سورة النّساء، الآية : 172 ] فنحن نقول لا يصح في تمجيد الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اعتقاد أنه خرج عن كل وصف البشرية إلى وصف الملكية أو إلى وصف الربوبية أو الألوهية ولا واسطة بينهما.
« الرَّسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هو النُّور والسّراج » :
ثالثًا : الرّسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هو النُّور والسّراج المنير
فأما قوله : [ وحكموا بكفر من وصفه بأنه نور، وغاب عن هؤلاء الحمير بأن الله قد وصفه بالسراج المنير بصيغة المبالغة، بمعنى أن الله عز وجل يمد بواسطته كل من أراد هدايته بالأنوار والأسرار ... إلخ ].
جوابه أن يقال: متى حكمنا بكفر من وصفه بأنه نور؟ أين نصوص علماء الدعوة في ذلك؟ هذا من الكذب الصريح والبهتان المبين، بل هم متبعون لما وصفه الله به من ذلك كما في قوله تعالى: ? قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ? [ سورة المائدة، الآية : 15 ] قال أبو جعفر بن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية من سورة المائدة :(1/31)
يعني بالنور محمدا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبين الحق، ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب(1).
لكن لا يلزم من هذا الوصف أن يُصرف له شيء من حق الله، فلا يدعى مع الله، ولا يعظم كتعظيم الله، ولا يوصف بشيء من خصائص الله، فقد ثبت عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله»(2). ولما قال له رجل : « ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده »(3).
وقال : « ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد »(4) ؛ وذلك لأن الواو تقتضي المساواة بين المشيئتين، مع أن مشيئة المخلوق لا تحصل إلا بعد مشيئة الله، كما قال تعالى: ? وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?[ سورة الإنسان، الآية : 30 ].
ثم إنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هو أفضل الخلق وسيد ولد آدم ومع ذلك لما قال له وفد بني عامر: « أنت سيدنا. قال: السيد الله، قالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طوْلا. قال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ـ وفي لفظ ـ : عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله »(5).
__________
(1) تفسير الطبري: 10/143.
(2) رواه البخاري 2445، عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.
(3) رواه أحمد 4 / 214، عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ.
(4) رواه أحمد 5/72، عن الطفيل أخي عائشة لأمها.
(5) رواه أحمد 4 / 24، عن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ.(1/32)
فهكذا كان يؤدب أمته، سيما ضعفاء الإيمان أو حدثاء الإسلام؛ مخافة أن يقعوا في الغلو الذي يحبط الأعمال، فنحن نعتقد أنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هو النور والسراج المنير وهو أفضل الرسل وخاتم الأنبياء وسيد الخلق، والشفيع المشفع يوم القيامة، وهو صاحب لواء الحمد، وله المقام المحمود والحوض المورود، ولكن حقه على أمته أن يؤمنوا، ويصدقوا بأنه مرسل من ربه، وأنه قد أنزل عليه الوحي وهو هذا القرآن الكريم والسنة المطهرة.
وقد أمر الله تعالى بالإيمان به، ورتب عليه الثواب، قال الله تعالى: ? فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ?[ سورة التّغابن، الآية : 8 ] وقال عز وجل: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ? [ سورة الحديد، الآية : 28 ] وقال تعالى: ? فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ ? [ سورة الأعراف، الآية : 158 ] .
فالإيمان به يقتضي تصديقه، واعتقاد رسالته وصحة ما جاء به عن ربه، وصدقه في كل ما بلغه عن الله تعالى، مما يستلزم طاعته والسير على نهجه واتباعه فيما جاء به، وما فعله على وجه التقرب والسنية، وقد علق الله على اتّباعه الاهتداء ومحبة الله وغفران الذنوب، حيث قال تعالى: ? وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? [ سورة الأعراف، الآية : 53 ] وقال تعالى : ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ? [ سورة آل عمران، الآية : 31 ] .(1/33)
وهذه هي آية المحنة، فإن أدعياء محبة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كثير، فمن كان صادق المحبة فإنه يحرص على اتباع هدي محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ويطبق تعاليمه، ويتخذه أسوة وقدوة حسنة، ويحرص كل الحرص على امتثال كل ما جاء عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من الإرشادات والتعاليم، فيمتثل الأوامر ويبعد عن النواهي والزواجر، ويقلده ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ في أفعاله وسننه، غير مبال بمن خالفه من أهل زمانه، ويصبر على ما يوجه إليه من المقت واللوم والعذل والتنقص، والرمي بالتشدد والتزمت أو الغلو في الدين أو نحو ذلك.
كما يحصل من أغلب الناس مع القائمين بخصال الفطرة، والمتنزهين عن الشبهات من معاملات ربوية أو مشاهدة أفلام أو صور خليعة أو أغاني فاتنة، مع تصريح أولئك المستهترين بمحبة الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ والتصديق برسالته، وكأنهم يعتقدون أن صدق محبته إنما يتمثل في الإطراء ومدحه بما لا يستحقه إلا الله وإشراكه مع ربه في الملك، أو إعمال المطي إلى قبره ثم الهتاف ورفع الصوت بدعائه وطلبه الحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله.(1/34)
وقد يتعلقون بحكايات مكذوبة أو أحاديث لا أصل لها، كقولهم إن الله قال له: ( لولاك ما خلقت الكون، أو ما خلقت الأفلاك ) ، وكقولهم: إن الله قال لآدم: ( لولا محمد ما خلقتك ) (1)، ونحوها من الأكاذيب التي بنوا عليها وصفه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وكل ما في الكون وأنه يملك الدنيا والآخرة، فيعطي ويمنع ويسعد ويشقي ويهدي ويضل. وهم مع هذا يخالفون سنته الثابتة، كما في حلق اللحى وإطالة الشوارب، وشرب الخمر وإسبال اللباس، وتعظيم العصاة وموالاة الكفار، ونحو ذلك مما هو عين المحادّة والمخالفة لسنته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ،وكل ذلك من تسويل الشيطان حيث دعاهم إلى الغلو فيه من بعض الجهات وإلى مخالفة سنته من جهات أخرى، فهذه إشارة إلى بعض أعمال هؤلاء الأقوام، الذين سمى ممثلهم علماء الإسلام وأهل التوحيد بالوهابية، وجعلهم بمنزلة الحمير وكأنه بهذا الوصف يشير إلى مثل اليهود الذي ذكره الله بقوله: ? كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ?[ سورة الجمعة، الآية : 5 ] لكن هذا المثل ينطبق على هذا الكاتب وأضرابه الذين يقرءون القرآن، وتمر بهم أحاديث النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وفيها النهي عن دعاء غير الله: ? فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 18 ] وكقوله: ? وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ?[ سورة يونس، الآية : 106 ] وقوله: ? وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ?[ سورة يونس، الآية : 107 ] ثم يخالفونها
__________
(1) هذه الأحاديث باطلة وموضوعة وهي من الأكاذيب. وانظر تفصيل الكلام على هذه الأحاديث كتاب التوسل أنواعه وأحكامه للعلامة المحدث الألباني صفحة: 113-126، ففيه كلام نفيس، مع بيان مخالفة هذه الأحاديث للقرآن.(1/35)
صريحا فهم أقرب إلى الشبه بالحمار الذي يحمل أسفارا والله المستعان.
« إعطاء المسألة والنصرة للَّه وحده. » :
رابعًا : يجب إعطاء المسألة والنّصرة للَّه وحده.
ثم قال الكاتب في السطر السادس عشر: [ فمن اعتقد أن مدد الرسول انقطع لانتقاله إلى الرفيق الأعلى فقد أساء الأدب مع الرسول، ويُخشى عليه الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى ].
جوابه : أن يناقش عن مدد الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في حياته وبعد مماته، فإن أراد بمدده دلالته على الخير وإرشاده للأمة وإيضاحه للحق والهدى وتبليغه لما أرسل به، وبيانه لعلوم الشريعة أكمل بيان؛ فهذا لم ينقطع بموته فإن الأمة لا تزال تستضيء بأنوار هدايته، وتسير على النهج الذي رسمه لها، وتستمد من سنته ما يوضح لها طرق الهدى؛ فمن صد عن سنته وأعرض عنها فهو أضل من حمار أهله.
أما إن أراد بمدد الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فوائد اتباعه، وآثار الاقتداء بسنته، وبركات العمل بشريعته؛ فهذا أيضا لم ينقطع بموته. فنحن نعتقد أن من سار على نهجه، واقتفى طريقه؛ حصلت له البركات، وأمده الله بفضله وعطائه، وانتفع في هذه الحياة بنتائج هذا الاتباع كسائر الأعمال الصالحة؛ فإن العمل الصالح سبب في كثرة الخير، وحلول البركة، وسعة الرزق، وطيب الحياة، ورغد العيش، والنصر على الأعداء، وحصول العلم والفهم، والفتح من الله والإلهام، والتوفيق لعمل الصالحات والحفظ عن المنكرات.
لكن لا يضاف المدد إلى الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إلا حيث إنه ببركة اتباعه، وإلا فالله هو الذي يمد العاملين، ويعطيهم ويتفضل عليهم؛ لأنه تعالى مالك الملك، وبيده النفع والضر، والعطاء والمنع، والخفض والرفع.(1/36)
فإن أراد هذا الكاتب بمدد الرسول إعطاءه لمن سأله، ونصره لمن استنصر به، وإجابته لمن دعاه ونحو ذلك، فمثل هذا لا يملكه الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لا في حياته ولا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هو إلى الله تعالى كما قدمنا بعض الأدلة على ذلك، كقوله تعالى: ? قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا *قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ?[ سورة الجن : 21 ـ 22 ] وقوله : ? قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ?[ سورة الأنعام، الآية : 50 ] وقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لأقاربه : « أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا »(1) وقوله في حديث الغلول: « لا أغني عنك من الله شيئا قد أبلغتك »(2).
فإذا كان لا يملك جنس هذا المدد في حياته، فهكذا لا يملكه بعد مماته، بل لا يملكه أحد من خلق الله، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، فمن اعتقد أنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يمد من سأله، ويعطي من طلبه، وينفع من دعاه مع الله؛ فقد جعله لله ندا، وصرف له خالص حق الله، وهذا النوع من الإمداد هو مراد هذا الكاتب وأضرابه.
__________
(1) رواه البخاري 4771، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .
(2) رواه البخاري كما في الفتح: 6/214 - برقم (3073)، في الجهاد، باب الغلول. عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/37)
وغاب عنهم أن الصحابة ومن بعدهم من أئمة المسلمين لم يعتقدوا هذا الاعتقاد، ولم يفعلوا معه ما يدل عليه، فلو كانوا يعتقدون فيه هذا النوع لتهافتوا إلى قبره يطلبون منه المدد والإعطاء، فكم نزلت بهم من مصيبة وكم وقعت من فتنة كوقعة الحرة ونحوها، وكم سلط عليهم الأعداء، ولم يحفظ أنهم جاءوا إلى القبر مستنصرين، ولا فزعوا إلى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قائلين : المدد يا رسول الله، ولو كان هذا اعتقادهم لتوافدوا إلى قبره أفواجا وأقبلوا إليه من كل حدب وصوب زرافات ووحدانا.
فلما لم يفعلوا عرف أن هذا الاعتقاد إنما هو من بدع المتأخرين؛ حيث أوقعهم الشيطان في ذلك الاعتقاد السيئ ونتائجه الشركية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولقد كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يطلبون منه الدعاء في حياته بالغيث وإنزال المطر ورفع العذاب، وبالمغفرة والجنة وبسعة الرزق وطيب الحياة، فيدعو الله لهم ويجيب الله دعاءه؛ لكرامته عليه ولفضله وشرفه، وليكون ذلك من جملة معجزاته، فأما بعد موته فلم يطلبوا منه شيئا من ذلك أبدا.
بل لما قحطوا عام الرمادة توسلوا بعمه العباس ـ رضي الله عنه ـ(1)؛ لشرفه وكبر سنه وقرابته من النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فطلبوا من الله أن يجيب دعاءه لهم؛ لأنه حي موجود بينهم، ولم يتوسلوا بالنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؛ لأنهم عرفوا عدم جواز ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
« الإقسام بذات الرَّسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على اللَّه » :
خامسًا : لا يجوز الإقسام بذات الرّسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على اللَّه، أو السؤال بحقه أو بجاهه.
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح: 2/574 - برقم (101)، في الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. عن أنس رضي الله عنه.(1/38)
ثم قال هذا الكاتب في السطر السابع عشر: [ (التوسل) كلمة التوحيد لا تتم إلا بمحمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟ لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله، إن الله يحب المتقين ذاتا وصفات... إلخ ].
والجواب : نقول نعم لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله؛ ذلك لأنه الذي دل على التوحيد ودعا إليه، ولأن الله تعالى نوه برسالته، كما في قوله تعالى: ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ? [ سورة الفتح، الآية : 29 ] وقوله: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ? [ سورة الأعراف، الآية : 158 ] وقد فسرت هذه الشهادة بأنها طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وفسرت الشهادة له بالعبودية والرسالة بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع، فليس معنى هذه الشهادة أو من مستلزماتها التوسل بذاته وسؤال الله بجاهه ونحو ذلك.
فأما قوله : [ فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله ؟ ].
فنقول : إن أراد من توسل بطاعته واتباعه فلا بأس بذلك، كأن يقول : اللهم أنى أسألك وأتوسل إليك بإيماني وتصديقي واتباعي لرسولك وطاعتي له أن تغفر لي، ونحو ذلك، كما يجوز التوسل بسائر الأعمال الصالحة، كقصة أصحاب الغار الذين توسل أحدهم ببره لأبويه، والثاني بعفته عن الحرام، والثالث بأمانته وأدائه حق الغير مع غلته(1).
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح: 6/584 - برقم (3465) في الأنبياء، باب حديث الغار. عن ابن عمر رضي الله عنه.(1/39)
فيجوز أن نتوسل إلى الله بالصلوات والأذكار والصدقة والجهاد، ونحوها من أعمال العبد التي يرحمه الله بسببها ويقبل دعاءه، وهكذا إن أراد التوسل بمحبته واحترامه، وتوقيره والصلاة والسلام عليه، وتعظيم سنته وشرعه وما جاء به؛ فهذا من التوسل المشروع، فيقول: يا رب أسألك وأتوسل إليك بمحبتي لك ولنبيك وباحترامي له ولسنته أن تهب لي من فضلك، وترزقني حلالا، وتبارك لي فيما أعطيتني، ونحو ذلك.
وهكذا إن أراد التوسل بدعائه وشفاعته فلا بأس بذلك، ولكن يطلب ذلك كله من الله ويوجه إليه سؤاله، فيقول: اللهم اجعلني ممن تناله شفاعة نبيك يوم القيامة، أو اللهم وفقني للعمل الصالح الذي أنال به شفاعة محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أو اجعلني من المؤمنين الذين يدخلون في دعائه واستغفاره ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وكل هذا ونحوه جائز إن شاء الله، ولا يخالف فيه أحد من أئمة الدعوة أو غيرهم من أهل السنة، وقد أمر الله نبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أن يستغفر للمؤمنين في قوله تعالى : ? وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ?
[ سورة محمّد، الآية : 19 ] فأنت تدعو الله أن يجعلك من المؤمنين الذين يعمهم هذا الاستغفار.
أما إن أراد هذا الكاتب السؤال بذاته أو الإقسام بذاته على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه؛ فهذا لا يجوز، فلم يرد ذلك عن الصحابة، ولا عن أحد من أئمة الدين، أو علماء المسلمين المقتدى بهم، ولا نقل أن أحدا منهم قال : اللهم إني أسألك بحق نبيك أو أنبيائك أو بجاه أو حرمة فلان، أو أتوسل إليك بنبيك ونحو هذا، ولم يفعلوه في الاستسقاء ولا في غيره، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا عند قبر غيره، ولم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو والشرك، وينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة أو موضوعة لا تقوم بها حجة.(1/40)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 202) عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم صرحوا بالنهي عن ذلك، وقالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، أكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وقال أبو يوسف معقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، أكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام
قال القدوري المسألة بحقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا ا. هـ.
ومعنى قوله : لا حق للمخلوق على الخالق، أي لا يجب على الله حق لخلقه، بل هو سبحانه المتفضل على عباده، وهو الذي وفقهم للهداية والأعمال الصالحة، وامتن على من شاء منهم بالفضيلة والكرامة والنبوة والولاية، فليس لأحد عليه حق واجب نظير ما يجب للمخلوق على المخلوق من الحق الذي يطالب به ويلزم من عليه الحق بأدائه، فأما ما ورد من الأحاديث في حق العباد على الله كقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا »(1). فهو حق تفضل وتكرم ووعد وعدهم به وهو لا يخلف الميعاد.
فأما قول الكاتب: [ لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله ].
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح: 13/359 - برقم (7373) في التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى.. إلخ. ومسلم برقم (30) في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا. عن معاذ رضي الله عنه.(1/41)
جوابه: ما تقدم من أن التوسل الجائز هو التقرب إلى الله بكل الأعمال الصالحة التي يحبها، فمتى عمل المسلم الحسنات وتقرب إلى الله بالقربات التي يحبها كان ذلك أعظم التوسل، وهو معنى قوله تعالى: ? اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ?[ سورة المائدة، الآية : 35 ] ؛ أي تقربوا إليه بالأعمال التي يحبها وتكون موصلة لكم إلى مرضاته، فأما التوسل بالذوات والأشخاص، وسؤال الله بحقهم؛ فإن ذلك لا يجوز ولم يفعله السلف الصالح، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
« التّوسل بحب الصّالحين وأشخاصهم » :
سادسًا : يجوز التّوسل بحب الصّالحين ولا يجوز التّوسل بأشخاصهم :
أما قول هذا الكاتب : [ إن الله يحب المتقين ذاتا وصفات أحياء وأمواتا، ويحب من أحبهم، ويحب من اقتدى بهم، ويحب من توسل بهم إليه ].
فالجواب : صحيح أن الله تعالى يحب المتقين، ويحب من أحبهم واقتدى بهم، ولكن محبتهم تستلزم محبة أعمالهم؛ فمن أحبهم صادقا تتبع أفعالهم فطبقها وعمل مثل أعمالهم، فإن كنت تحب المتقين فاتق الله حق تقاته حتى يحبك الله كما أحبهم، وإذا كنت تحب المتقين فقلدهم في أفعالهم، فإن من أحب الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ استن بسنته وعمل بالشرع الذي بلغه، ومن أحب الصالحين أصلح أعماله واقتفى آثار عباد الله الصالحين؛ فهذه علامات المحبة.
قال الله تعالى: ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ? [ سورة آل عمران، الآية : 31 ] فمن أحب المتقين، وانهمك في الذنوب وأشرك بالله، واقترف المعاصي، وخالف سيماء أهل التقوى؛ فدعواه كاذبة خاطئة، فأما التوسل بحبهم إلى الله فجائز، فإن حب أولياء الله وأهل الخير والصلاح من أعمال البر التي يثيب الله عليها.(1/42)
فإذا قلت : أسألك يا رب وأتوسل إليك بحبك وحب أوليائك، وأهل التقوى والصلاح من عبادك، أن تهب لي من فضلك وجودك ونحو ذلك؛ فلا بأس بذلك، كالتوسل بسائر الأعمال القلبية.
فأما التوسل بذواتهم وأشخاصهم أو بحقهم وجاههم، فقد عرفتَ أنه منكر من القول وزور، وأنه من وسائل تعظيمهم ورفع ذواتهم إلى ما لا يستحقه إلا الله، فيكون شركا أو من وسائل الشرك، والله: ? لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ?[ سورة النّساء، الآية : 48 ]. بل قد توعد على الشرك بأعظم الوعيد، فكيف يحب أهله أو يثيبهم؟! ولكن أكثرهم يجهلون.
« حديث التّوسل بجاهه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كذب وزور » :
سابعًا : حديث التوسل بجاهه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كذب وزور.
ثم قال الكاتب في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الثالثة :
قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم ».
أقول: هكذا أهل الجهالة والضلالة يتعلقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، فنحن نطالبهم بإثبات هذا المقال كحديث مرفوع، حتى يتم الاستدلال به، فإنه حديث لا أصل له أبدا، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى 1/ 319 :(1/43)
وروى بعض الجهال عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال : « إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم » وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين(1) ؛ فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود.. وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة.. وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه..
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.. والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب والله تعالى لا شريك له... إلخ.
وقال أيضا في الفتاوى 1/ 346 : قد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إذا كان لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي » حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا كلما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء، وغيره ذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، إلى آخر كلامه رحمه الله.
__________
(1) قال العلامة المحدث الألباني في كتابه التوسل أنواعه وأحكامه صفحة: 127-129: هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القاعدة الجليلة صفحة: 132، 150 قال: مع أن جاهه صلى الله عليه وسلم عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب... إلخ.(1/44)
« التّوسل بذوات المخلوقين وأشخاصهم » :
ثامنًا : التّوسل بذوات المخلوقين وأشخاصهم بدعة ووسيلة إلى الشرك :
ثم قال الكاتب:
[ فيا أخا الإنصاف، ما دام المتوسِّل موحّدا، والمتوسَّل به يحبه الله، والمسئول والمقصود بالطلب الله -جل جلاله- فلا شرك ولا وثنية ].
والجواب:
أن يقال: إذا كان المتوسَّل به هو ما يحبه الله من الحسنات والأعمال، وحب أهل الخير واتباعهم، فالمتوسِّل والحال هذه موحّد، فلا شرك ولا وثنية.
أما إن كان المتوسل به هو ذوات المخلوقين وأشخاصهم، فهذا بدعة ووسيلة إلى تعظيمهم وإعطائهم ما لا يستحقه إلا الله، فهو بدعة أو وسيلة إلى الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، فهو وإن لم يكن شركا صريحا، لكنه ذريعة إليه، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع وقطع الأسباب التي توقع في الشرك، فإن البناء على القبور وتجصيصها وإسراجها والصلاة عندها إنما منع منه لكونه ذريعة ووسيلة إلى الغلو في أهلها، ومن ثم دعاؤهم وعبادتهم من دون الله، فهكذا سؤال الله بجاه الأولياء والأنبياء، أو بحقهم، أو الاستشفاع بهم، أو الإقسام على الله بهم ونحو ذلك، هو من هذا النوع، ولو كان الداعي في الحقيقة إنما دعا الله وسأله؛ فإنه بتوسِّله قد ابتدع وتوسَّل إلى الله بحق مخلوق، مع أنه لا حق للمخلوق على الخالق إلا ما تكرم به وتفضل به على عباده من الوفاء بوعده، فهو لا يخلف الميعاد.
« التّوسل بمحبة الرّسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وطاعته » :
تاسعًا : التّوسل بمحبة الرّسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وطاعته جائز :
ثم قال الكاتب في السطر الرابع والعشرين من الصفحة الثالثة : [ ومن أسف أن الوهابية قالوا: إن التوسل برسول الله شرك ].
وجوابه:(1/45)
يعرف مما سبق وهو الإنكار لهذا المقال، فإن التوسل بمحبته وطاعته والتأسي به جائز؛ لأن هذه الأشياء من أفضل القربات، فلك أن تقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بمحبتي لك ولرسلك، وطاعتي لك ولرسولك، أن تعطيني وتهب لي ... ونحو ذلك.
فأما التوسل بذاته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في حضوره، أو مغيبه، أو بعد موته، مثل الإقسام بذاته، أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم، فهذا لا نقول: إنه شرك، لكنه بدعة ووسيلة إلى الشرك، ولم يفعله الصحابة، ولا السلف الصالح. فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ توسل بالعباس لما أجدبوا، وقصد بذلك دعاءه لكبر سنه وفضله، وكذا معاوية ومن معه توسلوا بيزيد بن الأسود الجرشي لصلاحه وتقاه(1)، ولم يتوسلوا بنبي الله، لا عند قبره ولا غير قبره، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، بأن يقولوا: نسألك، أو نتوسل إليك بنبيك، أو بجاه نبيك ونحوه، كما هو الواقع من هذا الكاتب وأضرابه.
__________
(1) رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في تاريخه: 18/151/2: بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم بن عامر الخبائري: أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، لما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي. يا يزيد! ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. انظر التوسل أنواعه وأحكامه - للعلامة المحدث الألباني. قال الألباني: وعزاه الحافظ العسقلاني في الإصابة: 3/634، لأبي زرعة الدمشقي ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما بسند صحيح عن سليم بن عامر أيضا.(1/46)
وبالجملة : فنحن لا نقول: إن التوسل بالأنبياء شرك، ولكنه بدعة ووسيلة إلى الشرك، فننهي عنه.
« التّوسل بحق السّائلين عليه » :
عاشرًا : يجوز التوسل بحق السائلين عليه، فحق السائلين عليه أن يجيبهم كما وعدهم.
ثم قال الكاتب :
[ وما أنكروه وحاربوه ثابت في كتابهم (الورد المصفى المختار). ثم ذكر الدعاء المشهور: [اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك ... إلخ ] (1).
جوابه:
إن هذا الدعاء لا بأس به، ولا دلالة على السؤال بذوات الأنبياء والأولياء؛ حيث لم يقل: أسألك بحق الأنبياء والصالحين أو بجاههم ومنزلتهم، وإنما سأل بحق السائلين، والمراد ما جعله حقّا على نفسه لكل من سأله ودعاه بقوله: ? ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ?[ سورة غافر، الآية : 60 ] .
فكل من سأل الله فله حق الإجابة مع أنه حق تفضل وامتنان وكرم، وليس حق وجوب كما اعترف بذلك هذا الكاتب واستدل بقوله تعالى: ? وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ?[ سورة الرّوم، الآية : 47 ] وكقوله :? وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ?[ سورة التّوبة، الآية : 111 ] وكحديث معاذ : « حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا » .
__________
(1) قال الألباني: حديث ضعيف جدا. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد - 10/117، وقال: رواه الطبراني وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه. وقد اتهمه ابن حبان وابن عدي في الكامل، انظر التوسل أنواعه وأحكامه للمحدث الألباني، ص: 107، 108.(1/47)
فحق السائلين عليه أن يجيبهم كما وعدهم، وهو حق أوجبه على نفسه، فسؤال الله تعالى بهذا الحق سؤال له بأفعاله لا بذوات السائلين، وإنما هو كقوله في الدعاء الآخر: « أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك »(1) فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بحق السائلين، الذي هو إثابتهم وهو من فعله تعالى.
« مفتريات على إمام الدّعوة ومجدّد هذا القرن » :
حادي عشر : مفتريات على إمام الدعوة ومجدد هذا القرن :
ثم قال الكاتب في السطر الثاني من الصفحة الأخيرة :
[ فمن اتخذ إمامه النجدي ابن عبد الوهاب، كانت آخرته هباب؛ لأنه استحل دماء المسلمين وأموالهم بشبه واهية لا تبرر موقفه من الله، قام بحروب دامية ذهب ضحيتها أرواح طاهرة.. إلخ ].
أقول :
لقد أخطأ هذا الكاتب، فالشَّيخ مُحمَّد ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ هو إمام وقدوة في تجديد التوحيد، وعَلَمٌ يهتدى به في هذا الباب، فتح الله على قلبه، ونور بصيرته، فتفطن لما فيه الناس في زمانه من الانهماك في الشرور والتقرب إلى أرباب القبور، فدعاهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، وحذرهم من كل ما ينافي التوحيد أو ينافي كماله، أو يقدم فيه أو يوقع في الشرك أو يجر إليه، فهدى الله على يديه من أراد بهم خيرا وعاقبة حسنة، فأما من أصرَّ وعاند واستمر على ذلك الشرك المنافي لدين الرسل، فإنه أمر بقتاله بعد إقامة الحجة عليه، وبعد إيضاح الدليل؛ لأنه حين بقي على ذلك الشرك المبطل للعبادات والموجب للخلود في النار، حل بذلك دمه وماله كسائر المشركين.
__________
(1) رواه مسلم برقم (486) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود. عن عائشة رضي الله عنها.(1/48)
وقد بين ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في مؤلفاته أن ما وقع فيه زمانه هو عين شرك الأولين: يخلصون في الشدة، فيدعون الله وحده وينسون ما يشركون، أما مشركو زمن الشيخ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ فشركهم دائم في الرخاء والشدة، ولهم من الواقع والحكايات في ذلك الشيء الكثير، مع أن الشيخ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ ما أتى بشيء من قبل نفسه، بل جدد للناس ما اندرس من أعلام الدين، فأخرجه الله في وقت قد اشتدت فيه غربة الإسلام، واستحكمت فيه ظلمات الجهالة والهوى، فبين للناس ما خلقوا له وأمروا به، فأطاعه واتبعه من وفقهم الله وأراد بهم خيرا، وأيده الله بأمراء هذه الدولة الميمونة، وهم آل سعود ـ رحمهم اللَّهُ ـ ؛ فقاموا بنصرة التوحيد وجاهدوا في الله حق جهاده، وقمع الله بهم كل مشرك ومعاند حتى ظهر الحق وتجلى، وشهد بأحقيته القاصي والداني، وألفت في سيرة هذا الإمام المؤلفات، وكتب عنه علماء من أقاصي البلاد، وهم لم يروه ولم يعاصروه، وإنما نقلت إليهم أخباره ومؤلفاته، فبنوا عليها أنه صالح مصلح، وأن كل ما رُمي به من التكفير ونحوه لا أصل له، بل هو مما ولَّده عليه أعداؤه الذين شَرِقوا بالحق وصعب عليهم الانفطام عن تلك المألوفات، أو خافوا باتباعه حرمانهم من المناصب أو المصالح الدنيوية، أمثال: أحمد بن زيني دحلان وعلوي الحداد وداود بن جرجيس ويوسف النبهاني وجميل صدقي الزهاوي ونحوهم.(1/49)
وقد رد عليهم أئمة الدعوة ومن وافقهم، وأوضحوا في الردود أن غالب ما سطروه كذب وبهتان عظيم، فهذا الكاتب ونحوه قد راجت عنده مؤلفات أولئك المضللين ولم يقرأ الردود عليها، وإلا لعرف وهاء تلك الحكايات التي تنسب إلى هذا الإمام، وعرف أحقية ما ادُّعِيَ عليه، وعرف أن أتباعه هم أهل النجاة ـ إن شاء اللَّهُ ـ أينما كانوا، فهم أهل الحياة الطيبة في الدنيا، وأهل السعادة والفوز في الآخرة بفضل الله ورحمته، وعرف أنه لم يستحل دماء المسلمين، ولم يكفِّر الناس كما يذكر عنه خصومه، وإنما كفَّر المشركين الذين قد صرفوا جلّ عبادتهم لغير الله، وقد أيَّد ما قاله بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة: من الآيات والأحاديث التي تنص على ضلال من يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وتنص على أن أولئك المدعوين لا يسمعون دعاءهم، ولو سمعوا ما استجابوا لداعيهم، ويوم القيامة يكفرون بشرك من أشركهم مع الله(1) فكيف تكون تلك النصوص ـ التي سبق ذكر بعضها ـ شبها واهية لا تبرز موقفه من الله؟! وأي دليل أوضح من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي أثبتها الشيخ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في كتاب التوحيد، الذي قد طبع وانتشر، وقرأه القاصي والداني، والمحب والمبغض، والعدو والصديق، ولم يُنْقل أن أحدا ردَّ عليه أو تعقبه، أو قال: إن تلك النصوص التي ضمنها هذا الكتاب وغيره شبهات واهية. كما يستلزمه قول هذا الكاتب، ثم إنه كما سبق ما أذن في القتال إلا بعد أن أقام الحجة وأزال المعذرة، ودحض الشبه التي تشبث بها من تعلق على المخلوقين والأولياء، فالذين قتلوا في الحروب التي وقعت بينه وبين خصومه : إما شهداء قتلوا في سبيل الله والذب عن توحيده ونصر دينه، وإما أشقياء يقاتلون في سبيل الطاغوت ويناضلون عن الشرك، فأرواحهم دنسة ملطخة بالكفر والنفاق والشرك والشقاق، ففي قتلهم إراحة للمسلمين
__________
(1) مأخوذة من نص الآية الكريمة في سورة فاطر، الآية: 14.(1/50)
وتمكين لهذا الدين.
« الشَّيخ أظهر الحق أولا ثم قاتل من أشرك باللَّه الشّرك الأكبر » :
ثاني عشر : الشَّيخ مُحمَّد بن عبد الوهاب أظهر الحق أولا ثم قاتل من أشرك بالله الشرك الأكبر:
ثم قال هذا الكاتب في السطر الرابع في الصفحة الرابعة :
[ وغاب عن هذا المجرم قوله تعالى: ? لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ?[ سورة البقرة، الآية : 256 ] . وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار »(1) وقال: « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »(2) وقال تعالى: ? وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ?[ سورة النّساء، الآية : 93 ] ... إلخ ].
جوابه:
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح: 1/106 - برقم (31) في الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية. عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم برقم (64) في الإيمان، باب قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سباب المسلم... إلخ. عن ابن مسعود رضي الله عنه.(1/51)
أن يقال: أنت أيها القائل أولى بوصف الإجرام؛ حيث بالغت في نفي بعض صفات الله الكمالية التي أثبتها لنفسه، وحيث أجزت للناس دعاء غير الله أو التوسل بذوات المخلوقين، الذي هو وسيلة إلى الإشراك بالله، وحيث روَّجتَ تلك الأكاذيب على أهل الجهل وضعفاء البصائر لتوقعهم في الضلال، وحيث ظلمت أهل العلم والدين ورميتهم بما هم بريئون منه من الإجرام والزندقة والتشبيه، فأنت أولى بهذه الأوصاف، وقد ذكرنا سابقا قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه ». أي: رجع عليه تكفيره أو رميه للأبرياء بالإجرام والزندقة، فأما الآية الكريمة فقد نزلت على النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وعرف معناها ولم يتوقف عن الغزو والقتال للكفار، وبعث السرايا والجيوش لقتال المشركين وتوصيتهم بالدعوة ثم القتال، كما في حديث بريدة من قوله: « وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم . فذكر الإسلام ثم الجزية ثم قال: فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم…» الحديث(1) وقد قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ?[ سورة التّوبة، الآية : 123 ]. وقال تعالى: ? سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ?[ سورة الفتح، الآية : 16 ].
__________
(1) رواه مسلم برقم (1731) في الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء... إلخ. عن بريدة رضي الله عنه.(1/52)
فالقتال إلى أن يحصل الإسلام هو إكراه على الدين، فعلى هذا فالآية منسوخة بآيات القتال العام للمشركين، أو خاصة بأهل الكتاب الذين يبقون على دينهم مع بذل الجزية ولا يكرهون على الدين، أو خاصة بمن نزلت فيه من أولاد الأنصار الذين تهودوا أو تنصروا، فمنع الله أولياءهم من إكراههم على الدخول في الإسلام، وعلى كل حال فمتى أصر الكافرون أو المشركون على كفرهم، وعاندوا فإنه فرض على المسلمين، وولاة أمورهم قتالهم حتى يسلموا ويوحدوا الله تعالى، ومتى ارتدوا وخرجوا عن الإسلام، أو فعلوا ما يناقضه وجب إقامة الحد عليهم ولو بالقتل لحديث: « من بدَّل دينه فاقتلوه »(1).
وقد شرع الله الجهاد في سبيله وعمل به المسلمون في كل زمان ومكان، فقاتلوا أصناف الكفار، حتى توسعت رقعة الإسلام، ودخل الناس في دين الله عن طوع واختيار، أو عن إلجاء وإكراه، وعلى ذلك حمل قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « عَجِبَ الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»(2).
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح: 6/173 - برقم (3017) في الجهاد باب لا يعذب بعذاب الله. عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري كما في الفتح: 6/168 - برقم (3010) في الجهاد، باب (الأسارى في السلاسل). عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/53)
فأما حديث: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما… » الحديث، وحديث: « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وآية: ? وَمَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ?[ سورة النّساء، الآية : 93 ]. فقد قيدت بالمسلم والمؤمن الذي أسلم لله وحده، وآمن به ربا وإلها وعمل بحقيقة الإلهية؛ فوحد الله وأخلص له الدين، واستسلم لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة، وتبرأ من الشرك ومن المشركين أينما كانوا، ونابذهم وأظهر لهم البغض والعداوة، فهذا هو الذي سبابه فسوق وقتاله كفر، ومن قتله متعمدا فجزاؤه جهنم، وهؤلاء لم يقاتلهم الشيخ محمد ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ بل صادقهم ووافقهم ونصح لهم وأحبهم وصافاهم؛ لأنهم إخوته في الدين، وإنما قاتل من أشرك بالله الشرك المحبط للأعمال: بدعاء الأموات، والاستنجاد بهم، والهتاف بأسمائهم، والحلف بهم، وتعظيمهم بما لا يستحقه إلا الله، فهم قد أبطلوا توحيدهم ونقضوا إيمانهم وأخلّوا بوصف الإسلام، فقاتلهم ليرجعوا إلى دينهم، وينيبوا إلى ربهم، فله عليهم المنة والفضل، حيث بين لهم الحق وردَّهم إليه فأجره على الله.
« لا إجماع على أن التّوسل بالأشخاص جائز » :
ثالث عشر : لا إجماع على أن التوسل بالأشخاص جائز :
ثم قال الكاتب في السطر السابع من الصفحة الأخيرة :
[ وهو يعلم يقينا بأن الأمة وافقت بالإجماع على أن التوسل وارد وثابت بالكتاب والسنة، ومضى على ذلك أكثر من ألف ومئتي سنة حتى ظهر ذلك الزنديق النجدي فحكم بكفر المتوسلين ... إلخ ].
جوابه:(1/54)
أن نقول: أنت مطالب بإثبات هذا الإجماع، أو ذكر من حكاه من الأولين والآخرين، وبيان دلالة النصوص من الكتاب والسنة كما تزعم، وقد قدمنا أمثلة للتوسل الوارد الجائز عند الأمة، وهو التوسل بالأعمال الصالحة كقصة أصحاب الغار، وأنه دعاء لله وحده ليس فيه تعظيم لمخلوق، ونقلنا عن الفتاوى (1-202) ما ذكره عن أبي حنيفة وأبي يوسف والقدوري ؛ حيث منعوا المسألة: بحق فلان، أو الأنبياء والرسل؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق … إلخ.
أما النصوص فلا دلالة فيها على مراد المشركين من السؤال بالحق والجاه، وقد تقدم رد دلالة قوله: بحق السائلين عليك(1).
وأما الشبهات التي يتشبث بها أولئك المشركون فقد ناقشها علماء الدعوة، وأوضحوا أنه لا دلالة فيها على دعاء الأموات والتوجه والتوسل بهم في الدعاء لضعف تلك الآثار، أو لبعدها عن وجه الاستدلال ولمصادمتها للنصوص الواضحة الجلية التي تضمنها كتاب التوحيد وشروحه.
أما قول هذا الكاتب: [حتى ظهر ذلك الزنديق النجدي فحكم بكفر المتوسلين .. إلخ].
__________
(1) حديث ضعيف، انظر السلسلة الضعيفة، رقم (24). وانظر كتاب التوسل أنواعه وأحكامه للعلامة المحدث الألباني صفحة: 99. وقد إشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ضعف الحديث، انظر كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة صفحة: 143. وقد بين شيخ الإسلام معنى الحديث من وجهين لو صح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر كلام الشيخ ابن جبرين صفحة: ....(1/55)
فنقول: هل شققت عن قلبه حتى اطلعت على نفاقه وزندقته؟! أما تخشى أن يرجع إليك ذلك الإثم والظلم الكبير!! فالشيخ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ هو الصالح المصلح الناصح للأمة المخلص لها، الودود الشفيق على عباد الله؛ حيث ألفى أهل زمانه قد غرقوا في الكفر والشرك، وصرفوا حق الله من العبادة والتعظيم لغيره من المخلوقات، وأوقعهم الجهل بالشرك وحقيقته، والجهل باسم الإله ومعنى العبادة وأنواع التعظيم في أن أشركوا بالله عن قصد، أو عن غير قصد، فلما تبين لهم الحق رجعوا إليه وترحموا على ذلك الشيخ الذي هداهم الله على يديه.
فأما من عرف وعاند فإنما حمله على ذلك إما الحسد والبغي والتكبر عن الاتباع للحق مع من هو دونه في نظره، وإما البخل بالجاه والمنصب والمصلحة الدنيوية، خوف أن تنقطع عنه تلك المصالح متى تابع الحق واعترف به، وإلا فإن الأدلة التي أدلى بها الشيخ في كتاب التوحيد، دلالتها أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أما قوله: [ فحكم بكفر المتوسلين ].
فجوابه: كما تقدم أنه لم يحكم بكفرهم وإنما ذكر أنه بدعة ووسيلة إلى الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد.
« من يدعي علم الغيب ويتوسل بذوات الأشخاص » :
رابع عشر : من يدعي علم الغيب ويتوسل بذوات الأشخاص ليس بعالم؛ بل مجرم آثم :
ثم قال:
[ وغاب عن هذا المجرم بأن الأمة فيها آلاف من العلماء العاملين، والأولياء الكاملين، الذين اتقوا الله فعلمهم الله، لا يساوي هذا الجهول تراب نعالهم ].
وجوابه:
إن وصفك له بالإجرام والجهالة من جملة ما أقذعت به من السب، وأنت تعلم أن سباب المسلم فسوق، فأنت أولى بوصف الإجرام، وأنت الجهول حقّا جهلا مركبا .(1/56)
ثم نقول: أين أولئك العاملون والأولياء الكاملون؟ لعلهم في زعم هذا الكاتب أمثال: دحلان، والنبهاني، وبابصيل، ونحوهم ممن عميت بصائرهم عن نور الحق، وقد ردَّ عليهم أئمة الدعوة، ومن هو على مسلكهم وأوضحوا أخطاءهم وكذبهم وتهافتهم ولكن هذا الكاتب ممن راجت عليه تلك الكتابات المشحونة بالكذب والبهتان، وعظّم أولئك الأغبياء أو المعاندين، وانخدع بما سطروه أو تفوهوا به عن هذا الإمام من أنه مجرم وجاهل وزنديق وظالم، وأنه يكفِّر المسلمين ويقتل الأبرياء ويبغض الرسول ويكفر من توسل به ... إلخ.
ولو رجع إلى مؤلفات الشيخ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ وكتابات تلاميذه وأتباعه لوجد فيها الحق والصواب، وعرف أنه ما ابتدع شيئا من قبل نفسه، وإنما نبه أهل زمانه على ما أخطئوا فيه من مسمى العبادة والإلهية والتوحيد، فالذين وافقوه وشهدوا بصحة ما جاء به وموافقته للصواب، هم أكثر وأفقه وأعلم من أولئك المخالفين المعاندين، أفلا تتذكرون؟!
« أئمة الدّعوة السّلفية هم أولى النّاس برسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ » :
خامس عشر : أئمة الدعوة السلفية هم أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثم قال الكاتب :
[ الوهابية هم شر البرية، نظروا إلى حضرة الرسول نظرة احتقار كنظرة إبليس لآدم ـ عليه السلام ـ؛ حيث إنهم جردوه من كل مزاياه التي خصه الله بها: من محبة، ومنزلة، وكرامة، ووجاهة، وقالوا: إن المتوسل بالرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كالمستشفع بالصنم سواء بسواء، لا فرق عندهم بين سيد البشر والحجر .. إلخ ].
جوابه:(1/57)
أن نقول: ? سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ?[ سورة النّور، الآية : 16 ]. فأئمة الدعوة هم أولى الناس برسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ينظرون إليه نظرة إكبار واحترام، فلا يصح عندهم الإيمان إلا بالشهادة له بالرسالة والنبوة، ويرون بطلان الصلاة بدون هذه الشهادة، ويعلنونها في الأذان، وفي الخطب، وفي الجمع والأعياد، وفي مؤلفاتهم، ويرون أن محبته مقدمة على النفس والأهل والمال والولد والناس أجمعين، وأن من آثار محبته حب سنته واتباعه والتأسي به، وأنه الواسطة بين الأمة وبين الله، فإنه الذي دعا إلى توحيد الله وعبادته، وهدى الله الأمة على يديه، وأوجب الله على الأمة طاعته وقرنها بطاعة الله في أكثر من أربعين موضعا ، وأمرنا باتباعه، وعلق عليه الاهتداء ومحبة الله ومغفرته، فهو أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده.(1/58)
أمر الله الأمة أن يتقبلوا كل ما بَلَغَهُ عن ربهم، ويقنعوا بحكمه، ويرضوا ويسلموا له تسليما، وأمرهم باحترامه في حياته، بقوله: ? لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ?[ سورة الحجرات، الآية : 2 ]. ومدح الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، ونهاهم عن دعائه باسمه العلم بقوله: ? لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ?[ سورة النّور، الآية : 63 ]. وأمر بتوقيره، بقوله: ? لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ?[ سورة الفتح، الآية : 9 ]. فأئمة الدعوة الذين سماهم هذا الكاتب وهابية، يعترفون للرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بهذه الحقوق، وهذه الأوصاف ونحوها، ولكنهم لا يعطونه شيئا من حق الله: كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، والإنابة، والتعظيم، والركوع، والسجود، ونحوها، فكلها حقوق لله تعالى، لا يصلح صرفها لغيره، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل.
وأحب أن أنقل هنا أبياتا في تفصيل حق الله وحق رسوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من نونية ابن القيم قال ـ رحمه اللَّهُ تعالى ـ :
لله حقٌّ لا يكون لغيره *** و لعبده حق هما حقّان
لا تجعلوا الحقّين حقّا واحدا *** من غير تمييز ولا فرقانِ
فالحجُّ للرحمن دون رسوله *** و كذا الصلاة وذبحُ ذي القربانِ
و كذا السجودُ ونذرُنا ويمينُنا *** و كذا عتاب العبد من عصيانِ
و كذا التوكل والإنابةُ والتقى *** و كذا الرجاءُ وخشيةُ الرحمنِ
و كذا العبادة واستعانتنا به *** إياك نعبدُ ذاك توحيدانِ
وكذلك التسبيحُ والتكبيرُ والتـ *** هليلُ حقُّ إلهنا الديانِ
لكنما التعزير والتوقير حق *** للرسولِ بمقتضى القرآنِ
والحب والإيمانُ والتصديقُ لا *** يختص بل حقّانِ مشتركانِ(1/59)
هذي تفاصيلُ الحقوق ثلاثة *** لا تجهلوها يا أولي العدوانِ
حق الإله عبادةٌ بالأمر لا *** بهوى النفوسِ فذاك للشيطانِ
ورسولُه فهو المطاعُ وقوله الـ *** مقبولُ إذ هو صاحب البرهانِ
وهو المقدم في محبتنا على الـ *** أهلين والأزواجِ والولدانِ
وانظر شرح هذه الأبيات في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (2-348) للشيخ أحمد بن عيسى قال ـ رحمه اللَّهُ ـ.
فأئمة الدعوة الذين اقتدوا بالسلف الصالح والأئمة يحبون رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من كل قلوبهم، ويعتقدون أن له عند الله الكرامة والرفعة، والمنزلة العالية، والوجاهة، والقرب من الله، ولكن مع هذه الخصائص لا يصح أن يصرف له شيء من حق الله تعالى، ولا يتوسل بذاته ولا بذات غيره من الخلق، وإنما يتوسل بمحبته واتباعه وتصديقه.
ولقد كذب هذا الكاتب في أنهم جعلوا المتوسِّل به كالمتوسل بالصنم، وأنه لا فرق عندهم بين سيد البشر والحجر، نعوذ بالله من البهت والزور والفجور.
وهكذا زعمه أنهم نظروا إليه نظرة احتقار كنظرة إبليس لآدم، فكيف احتقروه وهم يشهدون له بالرسالة، ووجوب الطاعة ؟! ويرون أن الطرق مسدودة إلا من طريقه، وأن من قدم حكم غيره على حكمه فقد ضل سواء السبيل، فأين الاحتقار الذي زعمه هذا الكاتب ؟! فليس مِنْ لازم محبته ووجاهته: دعاؤه مع الله، أو الاستغاثة به دون الله، فالله تعالى يقول : ? فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ? [ سورة الجن، الآية : 18 ] والنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: « إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس(1).
__________
(1) رواه أحمد في المسند: 1/293، والترمذي برقم (2516) في صفة القيامة، باب 59.(1/60)
فهذا الكاتب وأمثاله عندهم أن من تمام محبته واعتقاد وجاهته أن يُعظَّم كتعظيم الله، فيُحلَف به من دون الله مع قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»(1) أو يصرف له شيء من حق الله، أو يُعَتَقد في ذاته الشريفة أنه يملك الضر والنفع، أو يعلم الغيب، أو نحو ذلك ، فليس هذا من لوازم الإيمان برسالته، ولا من علامات محبته، وإنما هو من الغلو الذي نهى عنه بقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « وإياكم والغلو في الدين»(2) وبقوله: « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ».
« الأدلة على وجوب التّوحيد والنهي عن الشّرك ووسائله » :
سادس عشر : الأدلة على وجوب التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله كثيرة :
ثم قال الكاتب :
[ وليس لديهم أي دليل يدل على صدق دعواهم، غير أنهم لما أنزلوه هذه المنزلة الحقيرة، تشبهوا باليهود في تحريف كلام الله، كل آية أنزلها الله في حق عُبَّاد الأصنام والمشركين طبقوها على المسلمين الموحدين، وأنكروا كل حديث صحيح وافقت عليه الحفاظ، وأجمعت على صحته الأمة، وهذا الموقف المعاند احتقار لشأن الرسول.. إلخ ].
جوابه:
__________
(1) رواه الترمذي (1535) في النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. وأبو داود (325) في الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالآباء. وأحمد: 1/47-2/34، 67، 69، 87، 98، 125، 142. عن ابن عمر رضي الله عنه.
(2) حديث صحيح، انظر السلسلة الصحيحة: رقم (1283).(1/61)
أن نقول: إن هذا الكاتب وأضرابه لا يفهمون دلالة الآيات والأحاديث؛ لمَّا تكبروا عن الحق وقبوله، وأُشْربوا الكفر ومحبة الشرك عقوبة عاجلة، قال الله تعالى: ? سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ?[ سورة الأعراف، الآية : 146 ] . فلو كانوا يفقهون ويعقلون لكفاهم بعض تلك الأدلة المتقدم بعضها: ? وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ?[ سورة يونس، الآية : 101 ].(1/62)
والأدلة على ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه اللَّهُ ـ أكثر من أن تحصر، كقوله تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 20 ]. ? قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 21 ]. وقوله تعالى: ? وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ?[ سورة الجن، الآية : 18 ]. وقوله: ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ?[ سورة الأحقاف، الآية : 5 ]. وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ?[ سورة فاطر : 13 ـ 14 ]. وقوله: ? قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ ?[ سورة سبأ : 22 ـ 23 ].
فهل يقال: إن هذه الآيات بطل معناها وأنها مقصورة على مشركي العرب قبل الإسلام؟!
وهل يقال: إن الأنبياء والأولياء يستجيبون لمن دعاهم ويملكون التصرف في الكون، والضر والنفع، والعطاء والمنع، ويعلمون الغيب، ويشفعون بدون إذن الله، ويملكون الشفاعة مع قوله تعالى: ? قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ?[ سورة الزّمر، الآية : 44 ] ؟!(1/63)
هذا والأدلة على وجوب التوحيد والإخلاص، والنهي عن الشرك ووسائله كثيرة، كما في كتاب التوحيد، وشرحه فتح المجيد، وسائر مؤلفات أهل العلم والإخلاص، ودلالتها واضحة ولم يقل أحد من الشراح ولا الرواة أنها خاصة بعُبَّاد الأصنام في الجاهلية قبل هذا الكاتب وأضرابه.
فأما قوله : [ وأنكروا كل حديث صحيح .. إلخ ].
جوابه: إن الأحاديث المزعومة هي أمثال الحديث الموضوع السابق بلفظ: إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي… إلخ، وقد عرفت أنه كذب لا أصل له، وتقدم حديث: اللهم أسألك بحق السائلين عليك وعرفت أن السائلين هم الذين يدعون الله، وحقهم عليه أن يجيبهم وهو حق تفضل وتكرم.
فنحن نقول لهذا الكاتب : أين تلك الأحاديث التي وافقت عليها الحفاظ، وأجمعت على صحتها الأمة؟ هل هناك حديث في الصحيحين أو في أحدهما؟ أو في كتب السنة صحيح تلقته الأمة بالقبول، يتضمن أن ندعو الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ونسأله حوائجنا؟ أو نحلف به دون الله؟ أو فيه أنه ... أو غيره من الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب؟ أو يتصرفون في الكون؟ أو يملكون الشفاعة بدون إذن الله ونحو ذلك؟!
وأكثر ما يتشبث هؤلاء بحديث الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ(1) ولم يُنقَل أن أحدا من المكفوفين استعمله بعد موت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وإنما فيه دعاء لله أن يتقبل دعاء نبيه وشفاعته في رد بصره.
__________
(1) انظر إلى تخريج هذا الحديث وشرحه وبيان الشبهة حوله في كتاب التوسل انواعه وأحكامه للعلامة المحدث الألباني صفحة: 74-98. ففيه كلام نفيس ورد جميل على أولئك المتمسكين بهذا الحديث في التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو ذاته فليراجع هناك.(1/64)
وهكذا حديث توسل الصحابة بالعباس عم النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يتعلق به هؤلاء ونحن لا ننكر أن نتوسل بالأحياء الصالحين أن يدعوا ربهم ويؤمِّن الناس على دعائهم، فأما التوسل بالأموات: من أنبياء، أو غيرهم، فلم ينقل عن الصحابة، ولا غيرهم.
فبهذا العرض الوجيز يتضح مبالغة هذا الكاتب في أن أئمة الدعوة قد أنكروا كل حديث صحيح يعني في التوسل بالرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أو طلبه الشفاعة بعد موته، أو في وصفه بالملك والتصرف مع الله، فليس هناك أحاديث صحيحة في هذا الموضوع، ولو صحَّت وثبتت لكان لها وجه تُحمَل عليه؛ لئلا تخالف أدلة الشريعة والله أعلم.
« الصّوفيّة » :
تعرض هذا الكاتب للمدح والإطراء في حق الصوفية وكأنه أراد بذلك الرد على أئمة الدعوة في إنكارهم على أهل الطرق والأحوال، أو اعتقد أنهم ينكرون على الصوفية ويمقتونهم، أو أراد بالثناء عليهم أن فيهم الأولياء والأصفياء، الذين وصلوا إلى حضرة القُدُس واتصلوا بالملأ الأعلى؛ فاستحقوا لذلك أن نتوسل بهم وندعوهم من دون الله، كما يفعل المشركون مع الجيلاني والبدوي ونحوهما.(1/65)
ونحن نقول: إن الصوفية أصلا هم الزهاد في الدنيا، والمشتغلون بالعبادة، وكانوا في الزمن الأول يرتدون الصوف الخشن من باب التقشف فعرفوا بهذا الاسم : كإبراهيم بن أدهم، وبشر الحافي، وإبراهيم الخواص، والجنيد بن محمد، ونحوهم، وكان أولئك يعبدون الله على علم وبصيرة، فيحافظون على الجماعات، ويبتعدون عن المحرمات، ويسارعون في الخيرات، ولم يكن عندهم شيء من البدع ولا الخرافات، ثم جاء بعدهم من تسمى باسم الصوفية وانتحل مذهبا خاصا، وأصبح الصوفية أهل نحلة وطريقة مستقلة، وابتعدوا عن العلم والعلماء، واعتمدوا على الأذواق والمواجيد، فدخلت عليهم بدع وخرافات في المعتقد، وفي العمل: كالسماع، والرقص، والتواجد، وصحبة الأحداث، والزهد في المباحات، وتأليم النفس ونحو ذلك، وقد ناقشها ورد عليهم فيها الشيخ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) وغيره.
ثم جاء بعدهم من تسمى بالتصوف أيضا، وغلا حتى تدخل في الربوبية، واعتقد أن الوجود واحد بالعين، وأنكر الفرق بين الخلق والخالق، وهم المسمون بالاتحاديين الحلوليين وأهل وحدة الوجود، وقولهم من أشنع الأقوال، وكفرهم أوضح من كفر اليهود والنصارى، فمنهم من أفصح عما يكنه، وأعلن معتقده كالحلاج، فحكم بكفره أهل زمانه، وأفتوا بقتله فقتل، ومنهم من يتستر ويخفي معتقده، ولكنه يظهر للمتمعن والمتفطن في كلامه، أمثال: ابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، ونحوهم.
وهذا المعتقد الكفري قد تمكن وفشا القول به زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فرد على أهله ضمن رسائل مطبوعة في المجلد الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وله رسائل كثيرة في حقيقة التصوف والسلوك في المجلدين العاشر والحادي عشر، ومن هذا التقديم الموجز يعرف أنه لا يجوز إطلاق الذم ولا المدح للصوفية، بل يعطى كل منهم حكمه.(1/66)
أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم، فإنهم قد انتحلوا طرقا، وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة؛ حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف، ونحو ذلك من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب، ومحادون لله ورسوله، فلا نعرف لهم فضلا ولا كرامة.
« إطلاق الصّوفية بأنهم صفوة اللَّه من خلقه خطأ » :
قال الكاتب:
[ الصوفية هم صفوة الله من خلقه وقدوتهم أهل الصُّفَّة الذين مدحهم الله، وأثنى عليهم في محكم كتابه؛ لأنهم عبدوه محبة فيه وشوقا لرؤيته، وإمام الجميع المصطفى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بتوجيه من الله ـ عز وجل ـ كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة ... إلخ ].
جوابه:
أن يقال: يعتقد هذا الكاتب وأمثاله أن اشتقاق اسم الصوفية من الصفاء، أي: صفاء القلوب، أو من الصفوة، أي: أنهم صفوة خلق الله، أي: خيرتهم وأفضلهم، وهذا خطأ؛ فإن الصوفية إنما وجدوا في أثناء القرن الثاني واشتهروا بالزهد والتقشف، ولبسوا الصوف المنسوج من صوف الضأن لخشونته، قال الشيخ تقي الدين في الفتاوى (11-28) : وكذلك في المائة الثانية صاروا يعبِّرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال: إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو إلى الصفا، فهي أقوال ضعيفة.. إلخ،
وقال أيضا (11-195) : واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح، وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل: إلى أهل الصفة، وقيل: إلى الصفا، وقيل: إلى الصفوة، وقيل: إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِيّ، أو صفائي، أو صفوي، ولم يقل صوفي ا هـ.(1/67)
وهذا الكاتب جعل الصوفية هم صفوة الله من خلقه، فأما أن يقصد سبب التسمية، أو يقصد الميزة والفضيلة، فقد عرفت أن اشتقاق التسمية من الصوف لا من الصفوة، وعرفت مما قدمناه أن الصوفية الأقدمين كانوا من صفوة عباد الله في ذلك الزمان؛ لكن ليسوا أفضل من أنبياء الله ورسله، ولا من الصحابة والسابقين الأولين، فإطلاق الكاتب بأنهم صفوة الله من خلقه، خطأ؛ فإنه يلزم منه تفضيلهم على ملائكة الله ورسله، وعلى أكابر الصحابة والخلفاء الراشدين، والسابقين إلى الإسلام، وعلى أئمة المسلمين وعلمائهم، الذين لم يلبسوا الصوف، ولم ينتسبوا إلى الصوفية، ولا شك أن مراد الكاتب بهم صوفية هذا الزمان، ومن سبقهم من أئمتهم: كابن عربي، وابن سبعين، والحلاج، ونحوهم ممن انتحلوا مذهب الاتحاد، الذي هو كفر صريح، وخروج عن عقيدة الأبنياء وأتباعهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء، فضلا عن أن يكونوا صفوة الله من خلقه.
فأما جعله أهل الصفة هم قدوتهم فهو أيضا خطأ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11-38) : أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فكانت في مؤخر المسجد النبوي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه؛ حيث يكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، ويجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين … إلخ.(1/68)
فعلم من هذا أن أهل الصفة هم فقراء المهاجرين، ولكنْ ليسوا قدوة لأهل التصوف، ولا لغيرهم، وليسوا أفضل من أكابر الصحابة من المهاجرين، الذين لم يأووا إلى تلك الصفة، ومن الأنصار الذين هم أهل المدينة، والله تعالى مدح الصحابة والسابقين الأولين عموما ، ولم يخص أهل الصفة بمدح ولا ثناء يتميزون به عن غيرهم، ولا شك أن جميع الصحابة عبدوا الله محبة له وشوقا لرؤيته، وطلبا لثوابه، وأهل الصفة من جملتهم، فلا مبرر لتخصيص أهل الصفة بأنهم عبدوه محبة فيه وشوقا لرؤيته، ما دام هذا الوصف يدخل فيه معهم غيرهم.
فأما قول هذا الكاتب: [ وإمام الجميع المعصوم -صلى الله عليه وسلم- بتوجيه من الله -عز وجلّ- كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة .. إلخ ].(1/69)
فنقول: صحيح أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إمام جميع أمة الإجابة الذين صدقوه وشهدوا له بالرسالة، ولكنه لم يشرع لأمته هذه الشطحات، ولا نقلت عنه تلك المواجيد والأذواق المزعومة، فأما خلوته في غار حراء فذلك تمهيد من الله لنزول الوحي عليه، ففي تلك الخلوة تصفية لسريرته وتفريغ لقلبه عن الشواغل، وإبعاد عن المجتمع المليء بالشرك والمعاصي والمخالفات، لكنه بعد أن نزل عليه الوحي لم يرجع إلى غار حراء، وما حفظ أنه بعد النبوة صعد ذلك الجبل، ولا حاول الخلوة والتفرد ولا انقطع عن الناس، بل لم يزل مع الناس ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى توحيد الله، ويخالط الناس ويجالسهم، ويعاشر أهله ويعلم أتباعه ما أوحي إليه، ويبلغ الناس رسالة ربه، وهكذا بعد أن هاجر إلى المدينة استمر في الدعوة والتعليم، وكان يجلس مجالس عامة يقرأ فيها القرآن، ويبين معانيه ويتلقى عنه أصحابه علم الشريعة، وتفاصيلها مع ما يقوم به من غزوات بنفسه، وبعث جيوش أو سرايا ودعاة إلى الله وجُباة، وبعث رسل وكتب لشرح تفاصيل الإسلام، وكل هذه الأعمال ونحوها تنافي أعمال الصوفية التي معظمها يدور على الخلوة، والابتعاد عن مجتمع الناس، وعلى ترك الشهوات المباحة من: النكاح، وتناول الطيبات، وإعطاء النفس حظها من المباح الذي يتقوى به على عبادة الله، وقد ثبت عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال: لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني »(1).
فأين في سنته فعل الخلوة أو مدح الانقطاع عن الناس، أو التواجد والطرب عند السماع أو نحو ذلك ؟! بل إنه قد نهى عن السماع الذي يستعمله الصوفية، وذم أهله، فأما ما يرويه الصوفية من تواجده وطربه في بعض المناسبات، فكله كذب لا أصل له، والله الموفق.
__________
(1) رواه مسلم برقم (1401) في النكاح، باب استحباب النكاح لمن.. إلخ. عن أنس.(1/70)
« حلاوة الأنس باللَّه تكون بذكر اللَّه واتباع شرعه » :
ثم قال الكاتب:
[ من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ?[ سورة الأحزاب، الآية : 45 ]. لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لا بد من حضور، قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « وجعلت قرة عيني في الصلاة »(1) ].
جوابه:
أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة والانفراد، ويسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم، ويبدأ في التفكير ويطيل النظر، ويتناسى الخلق كلهم، ويجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده؛ مخافة تفرق همومه وفساد جمعيته، وفي النهاية يزعم أنه يحصل له في تلك الخلوة مكاشفات واطلاع على الملأ الأعلى، وعلى أمور غيبية وخفية، ويسمي ذلك لذة الأنس، أو حلاوة المناجاة، ويزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب، ويرفع له الحجاب عن ربه، فيطلع بقلبه على ما أخفِي عن غيره، ويسمي الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته محجوبين مبعَدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء، بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق (عقيدة أهل الحلول)، وقد يزعم بعضهم أن مشايخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف، وتباح لهم المحرمات، ونحو ذلك من الخرافات، التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 3/128، عن أنس.(1/71)
ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب، وتحول بينه وبين التفكير في آلائه، والتذكر لنعمائه.
وقد أخبر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بأن للإيمان حلاوة وطعما كما في قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»(1) وقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رسولا نبيا »(2).
وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « وجُعلت قرة عيني في الصلاة »(3) وقوله : « أرحنا يا بلال بالصلاة »(4).
فهذا ونحوه يفيد أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه، وغاية فرحه وراحة بدنه؛ حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويُقْبِلُ بقلبه على ربه، ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا ينتقل من ذكر إلى دعاء، إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن.
__________
(1) رواه مسلم برقم (43) في الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان. عن أنس رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم برقم (34) في الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا... إلخ. عن العباس رضي الله عنه.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند: 3/128، وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(4) رواه الإمام أحمد في المسند: 5/365 وغيره.(1/72)
فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة، ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والانفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية، وأذواقهم، ومواجيدهم، ولو من بعيد.
فنحن نقول : ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته، ثم يرون من لطفه العجائب ؟ فإن كان الأنس بالذكر والصلاة والدعاء والتلاوة والتنقل في العبادة، فليس من شرط ذوقه الانفراد والعزلة والبعد عن الناس، وترك الجمع والأعياد، والجماعات، بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها، وأعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام ووساوس وحديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل ويسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته ويلطف بهم، ويكون من آثار لطفه أن يحميهم ويحفظهم عن القواطع، والعوائق، ويعصمهم من كبائر الإثم والفواحش، ويحميهم أيضا من الشهوات والملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، ويكون من آثار لطفه توفيقهم وتسديدهم في الأقوال، والأعمال، والإقبال بقلوبهم على الطاعات، والاستكثار من الصالحات، وهذه سيرة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومن سار على نهجهم، الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم والتفهم، والعمل والتطبيق، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال: « لكني أصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني ».
فأما قول الكاتب [ وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب ] .(1/73)
فنقول: إن أراد التمتع والتلذذ بتدبر القرآن وتعلقه بحيث يعده خطابا من ربه إليه، فهذا حق وصواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله: ? لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه ?[ سورة ص، الآية : 29 ] وقوله: ? أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ?[ سورة المؤمنون، الآية : 68 ]. لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة، أو انفراد، بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة، وبين الناس.
فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه وسماع كلامه منه إليه، وأن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى، ويناجون الله ويكلمهم ويكلمونه، ونحو ذلك، فكل ما يقولون في هذا الباب هوس ووحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه وخص موسى بالتكليم، كما قال تعالى:
? وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ?[ سورة النّساء، الآية : 164 ]. وكذلك نبينا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ليلة المعراج، وقد قال تعالى: ? وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ? [ سورة الشّورى، الآية : 51 ].
وهذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب والأستار، ويناجون ربهم ويتلذذون بكلامه، ومعنى هذا: أنهم فاقوا كثيرا من الأنبياء والرسل، الذين هم الواسطة بين الله وبين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحيا، أو يرسل إليهم رسولا ملكيا أو يكلمهم من وراء حجاب، كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب، وتخترق قلوبهم الأستار، وتتصل بالملأ الأعلى، وتسمع خطاب الرب تعالى مباشرة، و تتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو والرفع لمقامهم من زيادة ؟! سبحان ربنا الأعلى !!(1/74)
فأما استدلاله بقوله تعالى: [ ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ? وقوله: لفظ أيها بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لا بد من حضور ].
فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين:
أحدهما : أن الله خاطبه وهو حاضر شاهد عنده، بأن كشف له الأستار، وقربه من حضرة القدس، وخاطبه كفاحا بلا واسطة ملك ولا غيره، وهذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في القرآن كثيرة، ومعلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحيا من الله إليه، كما في قوله تعالى : ? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ?[ سورة الشّعراء، الآية : 193 ].
الثاني : أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية، فإنا نخاطب الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كأنا نراه مواجهة ومقابلة، وأنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، وأنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، وأنه شاهد مع كل أحد في كل مكان، متى ناداه وخاطبه سمعه وأجابه، وأن هذا الوصف يعم كل ولي وصالح من أكابر الصوفية، ونحوهم، وهذا لا يصح، فلفظ (أيها) : ليس خاصا كما قال هذا بالمواجهة؛ بل إن الله خاطب نبيَّه بهذه الآيات الكثيرة آمرا له بما أرسله به، وما كلفه به من البشارة، والنذارة، والتبليغ، والبيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي، فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ (أيها) فلا تدل على استلزام مواجهة، ومقابلة.(1/75)
أما لفظ الشاهد: فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بُلِّغوا ودُعُوا وقامت عليهم الحجة، كما في قوله تعالى: ? وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ?[ سورة البقرة، الآية : 143 ]. وقوله: ? لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ?[ سورة الشّعراء، الآية : 193 ]. قيل : شاهدا على أنه قد بلّغكم ما أنزل إليه وبينه لكم، وقيل: شاهدا على أصحابه بحسن أعمالهم وصلاحهم واستقامتهم، فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له.
« التّوجه إلى اللَّه والانقطاع إليه » :
ثم قال الكاتب :
[ الصوفي: هو من عرف أن التوجه إلى الله والانقطاع إليه مما ينيل القصد، ويهيئ النفس للملكية.. إلخ ].
أقول:
قد ذكرنا أول الكلام تعريف الصوفية في أول الأمر، ثم ما آل إليه أمرهم وما دخل عليهم من البدع، ثم الطرق التي أوقعت الكثير منهم في الخروج عن الإسلام: كالحلول، والاتحاد، فأما التوجه إلى الله والانقطاع إليه فهو صفة شريفة عَليَّة متى قصد منها الإقبال على العبادات، والتفرغ لها، والإعراض عن كل ما يشغل عن الطاعة، ويعوق عن مواصلة السير إلى الله.
وهذه طريقة أهل الزهد، والعلم، والعبادة من الصوفية السلفيين، ومن غير الصوفية، ولم يزل في المسلمين قديما وحديثا خلق كثير وجمع غفير يشتغلون جُلّ وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، ويتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، ويعلقون عليه آمالهم، وينقطعون إليه وحده، ويعرضون عما سواه، ولا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة، ولذة مباحة : من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، وكذا الاشتغال بالكسب الحلال، وجمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة، كما أمر الله بذلك في قوله: ? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ?[ سورة الجمعة، الآية : 10 ]. وكما في قوله تعالى: ? وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ?[ سورة المزمل، الآية : 20 ].(1/76)
وإذا كان الأنبياء والرسل يلتمسون الرزق ويطلبون المال من وجوهه، كما قال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ?[ سورة الفرقان، الآية : 20 ]. فكيف بأتباعهم ومن هو دونهم؟! فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله، ترك الدنيا وما فيها، والزهد في المباحات، والرهبنة، وترك كل الملذات ومشتهيات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف والقصد غير صحيح، بل هو خلاف سنة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وسائر الرسل وأتباعهم.
فأما قول الكاتب: [ ويهيئ النفس للملكية ].. إلخ.
فهو خطأ من القول، فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة، واتصافها بالروحية والنورانية، والاتصال بالملأ الأعلى ونحو ذلك، فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة التي من خصائصها : العلو، والخفة، والنور، والمكاشفات، والاستغناء عن الدنيا، والانكفاف عن الشهوات ونحوها، فإن الله ركَّب في طباع البشر من الشهوة، والالتذاذ بالمطعم والمشرب، والميل إلى ذلك، والتألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة.
أما إن أراد بالملكية التملك وأن النفس تتهيأ لأن تملك شيئا من أمر الكون أو تدبره، أو تتصرف فيه تصرف المالك، فهذا أيضا لا يصح، فالنفس البشرية، وسائر النفوس المخلوقة ليس لها من الأمر شيء، ولا تقدر على التصرف المستقبل، ولا الملكية التامة النافذة، بل إن المخلوق نفسه مملوك لربه، ولو ملك الدنيا بأسرها، فملكه مؤقت وناقص، وهو وما بيده ملك لربه، فكيف يقال: إن انقطاع الصوفي ينيله القصد ويهيئ نفسه للملكية.
« ذكر اللَّه يزيد في استمرار العبادة » :
ثم قال هذا الكاتب :
[ فاتخذ الذكر زادا لروحه، والفكر في آياته القرآنية والكونية شرابا لروحه .. إلخ ].
فأقول :(1/77)
هذا القول حق، فذكر الله دائما هو قوت القلوب، وزاد الأرواح، ولكن ليس معناه أنه يغني عن الزاد الحقيقي للبدن، وإنما الذكر والفكر يقوي الروح ويزيدها نشاطا وثباتا، واستمرارا في العبادة، وحبا ورغبة في مواصلة العمل.
« العلماء مهما بلغوا فهم مقيدون بنصوص الشّريعة » :
ثم قال الكاتب :
[ حتى أشرقت على قلبه شمس المعارف الربانية، فأصبح القلب ينبوعا من ينابيع الأنوار، والأسرار، والحكم الربانية.. إلخ ].
نقول:
هذا غير صحيح؛ فإن ذلك يستلزم تفوقه على الرسل، والملائكة، واستغناءه عن الشريعة وعلومها، فإن الينبوع هو الماء النابع من الأرض، فمعنى ذلك أن شمس المعارف الربانية، والعلوم الدينية قد أشرقت على قلوب الصوفية، وسطعت فيها فاستنارت بها فأصبح ينبوعا للأنوار، والأسرار، يعني: معدنا تنبع منه الأنوار الإلهية، وتنفجر منه عيون الحكمة، وتتوارد عليه الأسرار، والحكم الربانية فتغنيه عن العلوم الشرعية.(1/78)
ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يفتح على بعض العباد إفهاما، وحكما، وأسرارا في كتابه أو شرعه، كما في قوله تعالى: ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ?[ سورة البقرة، الآية : 282 ] ؛ حيث جعل التقوى سببا للتعليم، فالله تعالى قد يرزق بعض عباده الأتقياء والصالحين علوما وأفهاما، وأسرارا في كتابه أو في شرعه، ولكنها مستنبطة من القرآن والحديث، ومن الحكم العامة التي لأجلها شرعت الشرائع وتنوعت الأوامر والأحكام، ولا تصل إلى الوصف الذي يذكره الكاتب من إشراق شمس المعارف .. إلخ، فإنه مع ما فيه من المبالغة، والإطراء غير صحيح، فإن القلب البشري لا يتصور أن يصبح ينبوعا من ينابيع الأسرار، والأنوار، والحكم الربانية، وذلك لقصر الإنسان عن هذا الوصف مهما فتح عليه من العلوم، والمعارف، مع أن هذا الوصف ليس خاصا بالمتصوفة، بل هناك علماء الأمة وعبّادها قاموا بحقوق ربهم ووقفوا عند حدوده، وعبدوه حق عبادته، قد فتح الله على قلوبهم من الفهم والإدراك والحفظ والاستنباط الشيء الكثير، كما حصل للأئمة الأربعة وللمحدثين والفقهاء من صدر هذه الأمة، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات والملذات، ولم يدخلوا في عداد الصوفية، ولا توغلوا في إشاراتهم ورموزهم، بل هم متقيدون بنصوص الشريعة وبتعاليم ربهم، ومتبعون لسنة نبيهم ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وذلك هو الفضل العظيم.
« أحوال الصّوفيّ » :
ثم قال الكاتب:
[ ومن قال كذلك صارت أحواله كلها بالله، ولله، أمرنا باتباعه ].
جوابه :(1/79)
أن يقال: كيف تكون أحوال الصوفي كلها بالله ولله ؟! مع أنه بشر يخطئ، ويصيب، ويرتكب الذنوب، وهو محل النقص، والتقصير في أداء حقوق ربه، وفي شكر نعمته: ? وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ? [ سورة إبراهيم، الآية : 34 ]. وقد اتفق أهل السنة، والجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ومع ذلك فقد علمه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أن يقول في صلاته : « اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت.. »(1) إلخ.
فإذا كان صدِّيق الأمة ـ رضي الله عنه ـ يعترف بأنه ظلم نفسه ظلما كثيرا، فكيف يكون المتصوف معصوما وأحواله كلها بالله ولله ؟! ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يوفق بعض أحبابه لتكون حركاته بالله، كما في الحديث القدسي عند البخاري عن أبي هريرة وفيه : « فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به »(2) فإن معنى ذلك تسديده في أقواله، وأفعاله، ولكنّا لا نستطيع الجزم لشخص بعينه بأن أحواله كلها بالله ولله، كما ذكر هذا الكاتب.
فأما قوله: [ أمرنا باتباعه ]
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح 2/370 برقم (834) في الأذان، باب الدعاء قبل السلام. عن أبي بكر رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري كما في الفتح: 11/348 برقم (6502) في الرقاق، باب التواضع.(1/80)
فغير صحيح؛ فإن أغلب الصوفية ـ سيما المتأخرين ـ لهم شطحات خاطئة لا يجوز شرعا اتباعهم فيها، فقد ظهر بُعْدُهم فيها عن الصواب، ولهم أيضا طرق، وأحوال مبتدعة: كالسماع، والرقص، والخلوة الطويلة، والبعد عن العلم، والعلماء، والاستغناء عن الوحي بالأوهام، وحديث النفس الذي يخيل أنه وحي إلهام، فكيف يسوغ اتباعهم في هذه البدع ونحوها ؟ وبأي نص أمرنا بذلك؟ مع العلم بأن الاتباع إنما يجب للرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ؛ لأنه المبلغ عن الله، وقد ورد الأمر بذلك، كما في قوله تعالى: ? وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?[ سورة الأعراف، الآية : 7 ]. وقال تعالى: ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ?
[ سورة آل عمران، الآية : 31 ]. وأن يطاع، ويُتَّبع المخلوق، متى وافق أمر الله ورسوله، فيكون اتباعه خاصا بما بلغه مما تحمله عن الله ورسوله، فالطواعية، والاتباع في الحقيقة لله ورسوله، فمتى خالف المخلوق ـ مهما كانت مرتبته ـ صريح الكتاب والسنة، وجب طرح قوله والرجوع إلى شرع الله، كما في قوله تعالى: ? فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ?[ سورة النّساء، الآية : 59 ].
« شطحات شنيعة بعضها من أعظم الكفر وأشنعه » :
ثم قال الكاتب :
[ قال الإمام الأكبر، محي الدين ابن العربي ـ رضي الله عنه ـ من لم يأخذ الطريق عن الرجال، فهو ينقل من محال إلى محال ].
نقول:
لا عبرة بالقائل ولا بما قال، فإن ابن عربي هذا مشهور بأنه اتحادي، يقول باتحاد الخالق والمخلوق، وهو أعظم الكفر وأشنعه، وقد صرح بذلك في كتابيه: (فصوص الحكم) و (الفتوحات المكية) وغيرهما من مخالفة الرسل صريحا، ومدح الكفار والمشركين، وتصويب ما هم عليه.(1/81)
وقد نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11-240) تعقبه للجنيد بن محمد ـ رحمه اللَّهُ ـ في قوله : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فأنكر عليه ابن عربي وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية: يا جنيد، وهل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ كذا قال؛ لأن عقيدته أن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي، على من؟ وما ثمَّ إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوُّه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العليّة لذاته وليست إلا هو ... إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثَمَّ من يراه غيره، وما ثمَّ من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز، وغير ذلك من الأسماء المحدثات.
ثم ذُكِرَ أن التلمساني لما قُرئ عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا. فقيل له: فإذا كان الوجود واحدا، فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما؟ فقال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
ونقل شيخ الإسلام في المجموع (2-121) عن صاحب الفصوص ـ وهو ابن عربي المذكور ـ قوله : إن آدم ـ عليه السلام ـ إنما سُمِّي إنسانا لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، وهذا يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس، وبعضا منه، وأنه أفضل أجزائه، وأبعاضه.
وهكذا قال في الفصوص: إن الحق المنزه هو الحق المشبه، فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة .. إلخ.(1/82)
وفي كلامه من أمثال هذا الكفر الصريح ما لا يحد ولا يوصف، وقد تعقبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (2/204-284) وغيره، فكيف يوصف مع ذلك بأنه الإمام الأكبر، وبأنه يحيي الدين؟! وقد انخدع بكلامه الجم الغفير، واعتقدوا أنه آجر الأولياء وأرقاهم منزلة، وأرفعهم قدرا، وإنما تفطن له وعرف ما في كلامه من الكفر والضلال أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي تحقق عقيدته، وعرف مواضع أخطائه أو تصريحاته في مؤلفاته، وناقشه في كل ذلك، وبين تناقضه وتهافته في كلامه، وذلك في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى وغيره.
فأما قوله : [ من لم يأخذ الطريق من الرجال ... إلخ ].
فمراده بالطريق مسلك الصوفية، وهو العبادات القلبية أو الأسرار الرمزية، كنوع من اللباس، أو إشارات بينهم يتناقلونها، ويتلقاها الصغير عن الكبير بأسانيد كأسانيد الأحاديث، والمؤلفات.
فيقول أحدهم: أخذت الطريق عن فلان، وأخذها هو عن فلان، حتى تتصل بأكابرهم: كالجيلاني، أو الحلاج، ونحوهما، ولا يكتفون بما عليه المسلمون من تلقي الشريعة من الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فالطريق عندهم مسلك مغاير لمسلك الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وصحابته، وأئمة المسلمين، وقد اشتهروا بتسميتهم أهل الطرق أو الطرقية، ولا أستحضر شيئا عن تفاصيل طرقهم ورموزهم، ولكني أعتقد أنها خيالية لا يصح الركون إليها؛ لكونهم يؤثرونها على الشرع، ويستغنون بالعمل بها عمّا عليه في ذمهم، وبيان شيء من أحوالهم، ومنها قول ذلك الناظم ـ رحمه اللَّهُ ـ :
إن قلت قال الله قال رسولُه *** همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال صحابه من بعده *** فالكل عندهم كشبه خيال
ويقول قلبي قال لي عن سره *** عن سر سري عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي *** عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي *** عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها *** ألقاب زور لفقت بمحالي(1/83)
فهذه حقائق الطرق التي يتبجحون بها هم ومريدوهم، أمثال هذا الكاتب، الذي انتحل هذه المناهج المبتدعة، وتحامل على أهل التوحيد، ورغّب في وسائل الشرك في مذكرته هذه.
« يحرم نشر هذه المذكرة لما فيها من الأكاذيب والأباطيل » :
ثم قال:
[ فالواجب عليك وعلى أمثالك من كبار العلماء نشر هذه المذكرة؛ لمن أراد النجاة في الآخرة، عن طريق الإذاعة والمجلات الإسلامية؛ رحمة بالمسلمين، وخوفا من عذاب الله؛ لأن كاتم العلم ملعون، نسأله الختام بجاه طه ـ عليه السلام ـ ... إلخ ].
جوابه:
أن نقول: الواجب والحرام إنما يؤخذ من الأدلة الشرعية، فنحن نقول: إن هذه المذكرة يحرم نشرها، ويجب إتلافها على من رآها، وذلك لما تحتوي عليه من الملاحظات التي ناقشنا بعضها فيما سبق مما يتعلق بالأسماء، والصفات، وما يتعلق بالتوسل، والاستشفاع، وما فيها من ذم أهل التوحيد، ورميهم بما هم منه براء وكذا الغلو في مدح الصوفية المنحرفة والغالية، فعلى كبار العلماء التحذير لمن أراد النجاة عن الاغترار بمثل هذه البدع، ونشر السنة، والعقيدة السلفية، وأدلة التوحيدوالإخلاص، والنهي عن كتمان ذلك، وعدم إيضاحه لمن يخاف وقوعه في أسباب الردى، فمن كتم ذلك فهو كاتم للعلم، وقد توعده الله تعالى بقوله: ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ?
[ سورة البقرة، الآية : 159 ].(1/84)
فأما توسل هذا الكاتب بجاه طه ـ عليه السلام ـ فهو من البدع التي قد توقع في الشرك المحبط للأعمال، وقد تقدم أنه استدل بحديث : إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي.. إلخ، وأنه كذب لا أصل له، وبيان ذلك أن نبينا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ له جاه عند الله، ولكن لم يرد التوسل بجاهه، فليس جاه المخلوق عند الخالق كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
وبمراجعة ما تقدم يتضح وجه النهي عن السؤال بجاه المخلوق أو التوسل به وأنه من وسائل تعظيم المخلوق، ووصفه بما لا يستحقه إلا الله.
وهذا آخر ما أردت تعليقه على هذه المذكرة؛ نصحا للمسلمين، وبيانا لما قد يلتبس من كلامه على الجهلة ونحوهم، مع أن أهل العقيدة، والتوحيد لا يخفى عليهم ما تحتوي عليه تلك المذكرة من التهافت والتناقض، ونصر الباطل، وإنكار حقيقة التوحيد، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(1/85)