الطفل العنيد
فطر الله عز وجل الخلق على أمور عدة هم متفقون فيها، ومن تلك الفطر العناد، وهي مرحلة يمر بها كل الأطفال في مراحل عمرهم الأولى، وهي ناشئة عن حب الاستطلاع والمعرفة وأمور أخرى، ومع كونها فطرة إلا أنها إذا رشدت ووجهت أثمرت، والعكس بالعكس.(1/1)
علاقة العناد بفطرة الأطفال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فشكوى ذكرت من بعض إخواننا الأفاضل سواء الآباء أو الأمهات تتعلق بمشكلة من مشاكل الأطفال، وهي العناد، وسوف نتكلم في شيء من هذا، وأرجو من الله تعالى أن يكون في الحديث عنها فائدة سواء لمن كان يعاني من هذه المشكلة، أو لمن يمكن أن تكون عنده فيما بعد.
فالشكوى هي من الطفل العنيد، وكيف نتصرف مع الطفل العنيد؟ الإنسان إذا لم يفهم لماذا يعاند الطفل فسوف يؤدي به ذلك إلى أن يسلك مسالك تزيد من هذا العناد، وتشوه صحة الطفل النفسية، فالطفل الذي لا يسمع الكلام، أو الذي لا يطيع، أو العنيد إذا لم يتحقق له طلبه فإنه يرمي بنفسه على الأرض ويصرخ ويضرب رأسه بالحائط، ويفعل مثل هذه الأشياء المعروفة عنه؛ حتى إنه قد يرفض الدخول للامتحان، وإن دخل فإنه يترك الورقة فارغة مع أنه مذاكر ويعلم الحل الصحيح، وكل ذلك عناداً! فما تفسير هذا السلوك؟ وكيف نتعامل مع الطفل العنيد؟ نقول: إن عدم الطاعة من الطفل، أو العناد في السنوات الأولى من العمر -قبل سن الخامسة- يعتبر سلوكاً طبيعياً؛ لأن الطفل في هذه المرحلة مدفوعاً بغريزة أو فطرة حب الاستطلاع واكتشاف البيئة من حوله، فقد لا يستمع لأوامرك أو نواهيك ويتمادى فيما يريد هو أن يفعله، فهنا لا ينبغي أن نفسر هذا على أنه عناد بمعنى العناد كما يكون من الكبير؛ لأن الطفل في هذه المرحلة يكون مدفوعاً دائماً في تصرفاته بحب الاستطلاع، وهذه من فطرة الله سبحانه وتعالى، فالطفل مغروس فيه حب الاستطلاع، وهي فترة حساب المعلومات، وفهم البيئة من حوله، واكتشاف نفسه والآخرين من حوله.
وربما كان الأبوان هما السبب في استخراج العناد من الطفل؛ لأن القاعدة تقول: (إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع) فلابد أن يحصل اعتدال من الأبوين حينما يأمران الطفل بأمر معين؛ لأنهما ربما يضطرانه إلى التمرد والعصيان إذا كانت أوامرهما غير معقولة.
كذلك لابد أن يتسم سلوك الأبوين بالحزم المرن، لابد أن يكون هناك حزم لكنه حزم فيه نوع من المرونة، ومقترن بالحب والحنان.(1/2)
معنى حرية الطفل
حرية الطفل أمر مهم جداً، فلابد أن تترك مساحة حرية للطفل، وبعض الناس يكون عنده نوع من الهوس في التربية بطريقة جاهلة؛ فنجد الأم بحجة أنها تريد أن تربي الطفل أو الطفلة ليس عندها هّمٌّ غير إحصاء الأخطاء، والتعليق على كل صغيرة وكبيرة تصدر من الطفل، ومتابعته في كل تصرف، فينشأ بعد ذلك اضطرابات في هذا الطفل؛ لأنه شيء فوق طاقته، ولأنها أم غير خبيرة بالتربية، فتحمل الطفل عبئاً شديداً، وتزن عقلها بعقل الولد.
ولذا دائماً أكرر بأن هناك مشاكل في التربية، ونحن ننسى القاعدة المهمة جداً في عملية التربية التي أرساها بعض المؤلفين في كتاب بعنوان: طفلك ليس أنت، أي: من يضرب الطفل الضرب المبرح ولا يتوقف عن الضرب حتى يشفي غليله فإن هذا لا يربيه، كما أن الشرع لا يجيز مثل هذا السلوك؛ لأن الضرب إنما يجوز بشروط كثيرة جداً.(1/3)
شروط ضرب الأولاد
ضرب الأولاد الذي أجازه الشرع يكون دواء؛ لكن إذا كان الضرب نفسه داءً وضرراً ومشكلة، فلا، فبعض الناس كأنه يشعر بالإثم إذا لم يضرب ولده، وكذلك بعض الناس حاله هكذا مع النساء، كلا، الضرب إنما أبيح لضرورة تربوية، إذا أتت بعاقبة حسنة، ولم توجد وسيلة لتقويم هذا الطفل إلا هي.
ثم متى يكون الضرب؟ بعد عشر سنين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها لعشر سنين).
فنجد بعض الذين يتمسكون بالسنة من الآباء والأمهات يتركون الاهتداء بهدي الشرع في التربية، فيضربون من كان عمره خمس أو أربع سنين أو سبع أو ثمان سنين! كما أننا نجد غلواً في بعض الآباء عندما يضرب الطفل بعد البلوغ، فالمكلف لا يضرب، وإلا فما معنى التكليف؟ أنت تنمي فيه شعور المسئولية، فقل له: الملائكة تكتب عليك الآن كل تصرفاتك، فبالتالي أنت مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عن تصرفاتك فعليك أن تنصحه وتوجهه وتجتهد في نصحه، لكن الضرب مع شخص طويل عريض ربما لا يجدي، وكيف تضرب من أصبح رجلاً؟! إن الذي قادنا لهذا الكلام هو: موضوع مساحة الحرية التي تعطى للطفل، فموضوع الغلو في الاهتمام بالتربية قد يوصل إلى مستوى الوسوسة من بعض الآباء، ويجعل كل همه طوال النهار هذا الطفل؛ بحجة أنه يريد أن يحسن تربيته، وإذا تكلم فإنه يعلق عليه ويوبخه، وإذا تصرف كان وراءه مثل الظل، فهذا كيف يتحمله ولده؟! فالشاهد أنه لابد من وجود مساحة حرية للطفل، وأحياناً كثيراً نتغاضى عن الأخطاء، بدون التعليق على كل خطأ والنقد لكل شيء؛ لأنك بهذا تفقده الثقة بنفسه، فلابد من مساحة حرية للطفل تتيح لشخصيته أن تتبلور وتتكون.
فالكبت والقهر الدائم له آثاره كما قال الشاعر: وإذا ملكت نفوساً تبغي رضاها فلها ثورة وفيها مضاء يسكن الوحش في الوثوب من الأسر فكيف الخلائق العقلاء ومن شروط ضرب الأولاد أن الإنسان لا يضرب ولده وهو غضبان، ولا يجوز للمربي أن يضرب وهو غضبان أبداً.
ويكون الهدف من الضرب التأديب، لا كما يحصل من الذين يدعون أنهم يتبعون السنة في الضرب، وعندما يضرب وهو غضبان يفرغ شحنة الانفعال التي أوجدها تصرف الطفل في قلبه، فهو من غيظه وشدة غضبه وانفعاله من تصرف الطفل يلجأ للضرب، فعليه أن يعالج نفسه لا الطفل، فهو يدمر الطفل؛ لأنه إذا ابتدأ بالضرب لا يرفع يديه حتى تنتهي الشحنة كلها! وهذا انحراف في الهدف التربوي؛ فلا يضرب الإنسان وهو غضبان.
من آداب الضرب أن الطفل إذا ذكر الله تتوقف عن ضربه؛ حتى تغرس فيه أنك تخضع لاسم الله سبحانه وتعالى وتعظمه.
أذكر مرة أني كنت في أحد الدروس، وكنت أتحدث عن موضوع الضرب وضوابطه، ولما انتهيت من الحديث أتاني طفل صغير وصافحني، وقال لي: جزاك الله خيراً يا شيخ! ثم قال لأبيه بلغته: شايف الشيخ بيقول إيه؟! فالشاهد: أن اتباع السنة والاقتداء بهدي الشرع الشريف لا يتجزأ، لا نأخذ البعض ونهمل البعض، ونخالف ونتعلل بالسنة، فالضرب شيء له قواعده عند الضرورة، وبعد سن معينة، وإذا كان لا يضرب على الصلاة، فهل هناك أهم من الصلاة؟! كيف تضربه لأنه كسر كوباً، أو سكب اللبن، أو ضرب أخاه؟ هذه لا تصل لمستوى ترك الصلاة، وإذا كانت الصلاة لا يضرب عليها قبل العاشرة، فكيف يضرب على ما سواها قبل العاشرة؟! بعض الناس بتربيته السيئة فتح الباب لبعض العلمانيين والملاحدة من أعداء الإسلام فشنعوا على المسلمين عملية ضرب الأطفال.
الشاهد: لابد أن تعلم أن طفلك ليس أنت، وكل الخطورة أنك تقيس تصرفاته بعقلك أنت، فأنت وأنت صغير كنت ترتكب نفس الأخطاء، وهنا قاعدة مهمة: وهي أن الابن الذي يُضرب لابد أن يضرب أولاده حتى لو كان ساخطاً على سلوك أبيه، ويحصل هناك نوع من التقمص والتوحد مع المعتدي، فيسلك نفس السلوك فيما بعد لأن هذا شيء مضطرد بالاستقراء، فغالباً يصدر منه نفس الشيء، ويجني على أولاده بنفس هذا السلوك.(1/4)
كيفية التعامل مع تعبيرات الطفل السلوكية الغاضبة
إن سلوك الوالدين مع الطفل العنيد لابد أن يتسم بالحزم المرن المغلف بالحنان والحب والعاطفة، مع ترك مساحة حرية للطفل حتى تتكون شخصيته وينمو كما هي سنة الحياة.
ضابط آخر عند غضب الوالدين من سلوك معين من الطفل كالعناد أو التحدي أو نحو ذلك: لا ينفع أن تظهر غضبك للطفل دون أن تشرح له الأسباب التي أدت إلى غضبك، أو تشيح عنه بوجهك، وتعرض عنه، أو تعاقبه وهو يقول لك: ماذا عملت؟ فتقول له: هكذا فقط! لا، الصواب أنك عندما تغضب من فعل أنك تعْلِمه بسبب هذا الغضب؛ لأنه لا يستطيع أن يقرأ أفكارك، ولم يصل بعد لمرحلة من النضج تؤهله لأن يفهم ما الخطأ الذي صدر منه؛ ففي هذه الحالة يجب أن يتفهم الطفل الأسباب التي أدت إلى غضب الوالدين.
هناك نقطة مهمة وهي: أن الغضب أو العناد في السنوات الأولى من سنتين إلى خمس سنوات مثلاً يعتبر سلوكاً عادياً؛ لأن الطفل كلما وقع في مشكلة حاول أن يحلها أو يتفاعل معها بطريقة بدائية تتناسب مع عقله وإمكاناته، وما هذه الطريقة البدائية؟ إنها البكاء والصراخ، هذه هي اللغة التي يستطيع أن يعبر بها؛ لأنه توجد لغات معقدة ولغات بسيطة تعتبر طريقة للتواصل مع الذين يحيطون بك، مثلاً: إشارات الكهرباء في السيارات (اللمبات) لغة سهلة جداً، ولغة بسيطة، إذا كنت ستنحرف يميناً تعطي الضوء لليمين، أو شمالاً تعطي الضوء للشمال، أو سوف تنتظر تعطي ضوءاً معيناً، وهكذا.
الشاهد: أنها لغة سهلة للتواصل، والطفل عنده أيضاً لغة بدائية هي البكاء، وهو إعلان عن العجز عن حل المشكلة؛ فيطالب بالمعونة عن طريق البكاء، كأنه يقول: تعالوا ساعدوني في هذه المهمة التي أنا عاجز عن حلها، فالغضب في هذا العمر -من سنتين إلى خمس سنوات- يعتبر شيئاً عادياً؛ لأن الطفل يحاول حل مشاكله بالبكاء ليعلن أنه غير قادر على حل مشكلته بنفسه فيطلب المعونة بالبكاء.
بعد الخمس السنوات إذا وجد الغضب، والعناد، والتمرد، والتحدي من الطفل فهو يعكس أحد أمرين: إما أنه غير متكيف مع الأسرة في جو البيئة الأسرية، وبالتالي فإن هذا يعتبر النواة لحصول اضطرابات نفسية بعد ذلك، والله أعلم.
وإما أنه يعكس شعوره أحياناً بالقهر أو الظلم أو العدوان.
وبالنسبة لعدم التكيف مع الأسرة والبيئة، فهناك نوعان من التكيف: عدم تكيف، وسوء تكيف.
أما عدم التكيف فبسبب صدمة نفسية، مثلاً: وجود طفل آخر، ولد له أخ أو أخت فجأة، والاهتمام تحول للثاني، فهذه تعتبر صدمة له، فلا يتكيف مع هذه الحالة، أو تكون هناك مؤشرات على أمور غير سليمة مر بها في الأسرة أو المدرسة أو البيئة.
أما سوء التكيف فينتج عن استمرار الرفض والغضب والعناد والمشاجرة، ويظهر دائماً أن ردود أفعاله انفعالية، ويتفاعل مع الأحداث.
لابد أن نفهم أن غضب الطفل بعد سن الخامسة يأخذ صورتين: الصورة الأولى: إما أن يستخدم المخزون اللفظي، ويعبر بالكلام عن الغضب أحياناً؛ لأنه في الخامسة من عمره أصبحت لديه مفردات لغوية كثيرة يستطيع أن يعبر من خلالها عن مشاعره أو احتياجاته، فيعبر عن الغضب بالألفاظ: يشتم، يهدد، يتوعد، يخرب، يتلف حاجات معينة، يكسر، والتربيون ينظرون إلى هذا على أنه أسلوب سليم، أي: بالنسبة لسلوك آخر في غاية الخطورة، فالطفل الذي يعبر عن مشاعره فهذه ظاهرة شبه صحية وسليمة، لماذا؟ لأنها دليل على وجود طاقة فاعلية بداخل الطفل يفرغها من خلال السب أو الشتم أو الانفعال، والمراد بالشتم بغير الألفاظ البذيئة غير المقبولة منه مع الكبار مثلاً، فاتركه يطلق طاقة الغضب، وحذره من الشعور بالقهر أو الكبت.
فإذا كان الطفل يعبر عن غضبه بأن يكسر شيئاً أو يتكلم بألفاظ معينة لكي يعبر بها عن الغضب، فهذه تعتبر فرصة جيدة كي يقيم المربي جسوراً من التفاهم والتواصل مع هذا الطفل، ويعلمه أن هذه ليست الطريقة السوية التي تعبر بها عن غضبك، وأن هناك طرق أخرى كالتفاهم والشرح ونحو هذه الأمور.
الصورة الثانية: وتكون بعد العاشرة، فإذا استمرت هذه الصفة بعد هذا السن فهذه مشكلة، وصار لا يعبر بالألفاظ عن الغضب والتذمر، بل يقاوم مقاومة سلبية، وهذا في غاية الضرر؛ لأن الطفل يغضب وينفعل لكن تظهر عليه الكآبة السلبية، والانطواء، والانعزالية، وهذا خطر جداً؛ لأنه بعد ذلك لما يكبر يركز على ذاته ويرفض الحياة، ويصبح العناد وسيلة لإثبات الذات إذا لم يستطع إثباتها في هذا السن، فيتخذ وسيلة يحقق بها ذاته من باب: خالف تعرف، وهؤلاء معرضون للأمراض العصبية، وهو سلوك يقوم على الكبت الذي لم يخرج ولم يتحرر، فيهرب دائماً من الحقيقة، أو يهرب من مواجهة الواقع ويتقوقع، وربما هرب إلى أحلام اليقظة ويعيش في الخيالات، ويبتعد دائماً عن الحقيقة، ولا يستطيع أن يواجهها ويتمحور حول نفسه.
فلابد أن يعبر الطفل عن انفعاله بالغضب بوضوح أو بالكلام أو بالأفعال، ويهذب هذا السلوك ويقوم، ونعدل له وسائله في التعبير عما في داخله، فأنت عندما تكون لك حاجة تتكلم عنها بصراحة، ونحن ندرس الموضوع، وما نقدر أن نعمله لك نعمله إلى آخره.
فلابد من وجود نوع من التواصل مع الطفل بحيث يعبر عن انفعالاته ولا يكبتها، ولا يحس بالقهر والكبت والظلم، وفي نفس الوقت نعدل له طريقة التعبير، فنقول: هذه طريقة غير لائقة وغير مهذبة للتعبير عن الغضب الذي في داخلك.(1/5)
علاج العناد الزائد وكبح جماح الطلبات
أحياناً يحدث التدليل الزائد للطفل، فالأم تريد أن تبين له أنها حنونة وعطوفة، وهي كذلك حقيقة، لكن ليس عندها فقه التربية، فكل ما يطلبه ينفذ له مهما كان، وبغض النظر عن أي اعتبار! فالطفل الذي يدلل هذا التدليل الزائد يظهر عنده أيضاً العناد والغضب ونحو هذه الأشياء، لماذا؟ لأنه تعود على أن طلباته تلبى ولا ترفض أبداً، ولم يوجد عنده شعور بضرورة ضبط النزعات، وتعود أن كل ما يشتهيه يناله بسبب التدليل الزائد عن الحد، وبالتالي إذا حصل له حرمان -حتى لما يكبر- من شيء معين، فإنه تظهر منه أفعال بدائية طفلية؛ لأنه إذا ظل طوال ثمان سنوات يغرس فيه التدليل الزائد، وكل ما يشتهيه يشتريه ويناله، ولا يعرف الرفض على الإطلاق، فكيف يتعود على مقاومة رغباته حينما يكبر؟! ومن الأمور المهمة في حل هذه المشكلة: المناخ الأسري داخل البيت؛ لأنه توجد أشياء كثيراً ما تؤثر على الطفل وتصنعه، والتربية العملية لا تتوقف، فهي تحدث ليلاً ونهاراً، وكل سلوك من الأب أو الأم وتعامل من قبل الأب أو الأم مع الأولاد في طريقة الأكل والنوم وغير ذلك من التصرفات فهي تربية، ولذلك لابد أن يقدم الأبوان قدوة حسنة للأطفال؛ لأن هذه هي التربية الحقيقية الفعالة المعايشة؛ فيتشربان القيم والمعايير والسلوكيات من الأبوين.
وأخطر شيء ينعكس على نفسية الأطفال: هو علاقة الأب والأم، وهذا أمر مهم جداً، إذ لابد من حصول توافق بين الأب والأم، لابد أن يوجد الاحترام المتبادل، فلا يرى أباه يضرب أمه أو يشتمها أو يهينها، وإذا ما وجد هذا النموذج فإنه ينعكس انعكاساً سيئاً جداً على سلوك الطفل، وعلى طريقته في التفكير، وعلى علاقته بزوجته بعد ذلك في الحياة، ولابد أن يصنع نفس ما رأى من والده، فبالتالي لابد من حصول الانضباط في سلوك الكبار.
نحن نشتكي من تصرفات الصغار، وأنتم -أيها الكبار- هلا قدرتم على ضبط سلوككم أمامهم على الأقل، وإن كان ولابد من المشاكل والشجار فيكون في غرفة مغلقة بصوت خفيف لا يسمعه الأطفال، أو في مكان خارج البيت، لكن إذا عاين الأطفال القلاقل والمشاكل والإهانة والاحتقار ونحو ذلك؛ فإن هذا بلا شك سوف ينعكس انعكاساً سلبياً على سلوكهم وتفكيرهم.
الطفل يشعر بالأمان بين أب وأم متوافقين، بينهما احترام ودفء عاطفي، ولا شك أن هذا يهيئ مناخاً يساعد على الصحة النفسية للطفل.
أحياناً يحدث نتيجة لعدم توحيد السياسة التربوية، من كون أحد الأبوين يحب هذا الابن أو يميل إليه أكثر من إخوته الآخرين مثلاً، فنجد طفلاً رغم أنه صغير لكنه ماكر، فيعمل عملية استفزاز، أو سوء استغلال لهذا الميل، فلو كان الأب هو الذي يدلله، ويحقق له كل رغباته، ويبالغ في إظهار المحبة له، فالطفل قد يستعمل سلاح أبيه ضد أمه أو إخوته.
مثلاً: إذا طلب من الأب شيئاً فرفض، فرمى بنفسه في الأرض، وصرخ وضرب رأسه بالحائط إلى آخره، فجاءت الأم لما رأته غضباناً وقالت: يا حبيبي! تعال، وتحقق له طلبه، فهذا السلوك والتناقض في الموقف الواحد يوصل رسالة للطفل مضمونها: إن هذه الطريقة هي الطريقة السليمة لتلبية رغباتي، فيغضب ويعاند ويرمي بنفسه في الأرض، فالأم تخضع بعاطفة الأمومة، رغم أن أباه قد رفض أن يعطيه ما يريد، فهو يستغل عدم توحيد السياسة التربوية.
قلت لكم: الطفل مكار ولئيم، وقد يستعمل سلاح الغضب والعناد والتحدي والصراخ والبكاء مع من أثبتت تجاربه السابقة نجاحها معه، وبعضهم فهم أنه لا أمل، ورأى أن أباه حازم وصارم ولا فائدة منه، إلا أنه يستعملها مع أمه؛ لأنه يعلم النتيجة، فهذا يدل على أنه يفهم الطفل عن طريق التجارب، وينبغي للأبوين أن يوحدا السياسة التربوية، ويعلما الطفل أن البكاء والصراخ والعناد والتكسير ليست طريقة يمكنه من خلالها الحصول على رغباته، وأنه لابد أن يتعلم الطفل التحكم في رغباته، ويتعود أنها قد لا تحقق، ومن فترة لأخرى يوجد إحباط صغير محدود، فتقول له: أنا الآن لا أقدر أن أشتريها لك، لكن في أول الشهر سأشتريها لك، وهذا فيه تدريب له على ضبط نزعاته، حتى لو كان درساً مؤقتاً لكنه مفيد.
وأحياناً تحرمه نهائياً، وتأتي له بسبب معقول، وتدربه على أن يحد من مطالبه، ويقف من المطالبة إلا إذا حصلت القدرة على ذلك.
خلاصة الحديث: أن التضارب في الموقف التربوي الواحد بين الأب والأم خطأ؛ فالأب يبيح، والأم تحرم، الأب يقول: نعم، والأم تقول: لا، الأم قد تظن أنها سوف تكسب ابنها عندما تدلله تدليلاً زائداً، ولا تعلم أنها تخسره وتفسده، وتوجد قاعدة في سلوكياته: أنه يلجأ إلى الطرف الآخر من أجل حمايته واستجابته تحت تهديد سلاح الغضب والعناد، طبقاً للوقت الملائم ومع الشخص المناسب؛ لخبرته السابقة.
وليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة أنه عندما يخرج إلى المجتمع الخارجي سيعمم نفس سلوكياته، والمجتمع الواسع في المدرسة أو البيئة لن يرحمه بالطريقة التي كانت أمه تدلله بها، فيأتي ليحقق رغباته فيصدم بحقيقة المجتمع؛ فيحصل له إحباط، وينزوي في نفسه، وتحصل له مشاكل.
على أي الأحوال الحق دائماً وسط بين طرفين: الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط.(1/6)
وسطية التربية بين التدليل والقسوة
الإفراط في التدليل خطر، والإفراط في القسوة والحرمان أيضاً خطير على الطفل، الإفراط في التدليل يصنع من الطفل طاغية صغيراً، فالتعود على أن تشبع حاجاته حتى الحاجات الثانوية والتافهة خطأ، نعم هو طفل، وله احتياجاته الأساسية ولابد من شيء من التدليل والحنان وتحقيق رغباته؛ لكن بقدر متوسط، فتشبع احتياجاته الأساسية: الأكل والشرب والملابس إلى آخره، تشبع حاجاته الأساسية دون تدليل، وإلا فالطفل سوف تحوله أنت إلى طاغية صغير، ويصبح ملكاً غير متوج، والتاج ليس على رأسه إنما على رأس الأب، لكن في الحقيقة هو الآمر الناهي المتحكم في الآخرين.
في الجانب الآخر: هناك إفراط في القسوة والحرمان أيضاً، وهذه في غاية الخطورة، الأب يريد أن يحول البيت إلى ثكنة عسكرية، أوامر ونواهٍ، ضابط وجندي، وكأنه في الجيش أو في الشرطة! لا يوجد تراحم أو مرونة، فموضوع الثكنة العسكرية والرقابة المستمرة لا تنتهي، يحرص على التعليق على كل تصرف، والتوبيخ على كل سلوك، وهذا يؤدي إلى أنه يحرم من فرصته في إثبات ذاته؛ لأن الإنسان في النظام العسكري ليس له إرادة، ولابد أن تسلب منه الإرادة حتى تسير الأمور في الحرب وفي غيرها، والأمور الإدارية والروتينية تحتم وجود ضابط وجندي، هذا يقرر والثاني ينفذ، لكن هذا الوضع في البيت سيحرم الطفل من فرصته في إثبات ذاته؛ لأنه يرى أنه يخنق نفسه ولا يحقق ذاته.
الشاهد: أن تحويل البيت إلى مناخ ضابط وجندي يحرم فيه الطفل من إثبات ذاته، وتسد الطرق السوية التي يجب أن يسلكها لكي ينمو نمواً طبيعياً، فحينها ليس أمامه إلا المقاومة عن طريق المقاومة السلبية بالعناد أو التحدي، فلابد من ترك الطفل على تهيئته، وإعطاؤه مساحة من الحرية ومرونة وتدريب على التعاون؛ ليوجد تواصل، ويحصل التعاون بين الطرفين، ونستجيب أيضاً لطلباته المعقولة، ليس الحرمان لأجل الحرمان لا، لا بد من الطلبات المعقولة التي تجاب حتى لا يشعر بالقهر والظلم.
ومهم جداً في التعامل معه: إشعاره بالأمان والدفء العاطفي والتقدير والاحترام، ونحذر كثيراً من عملية التحقير الذاتي؛ فعندما تنتقد من تربيه سواء كان طفلاً أو شاباً مراهقاً فتجنب عملية التحقير الذاتي؛ لأنك تنتقد السلوك فقط، فتقول: أنت طفل مؤدب، ومثلك لا يليق به أن يعمل هذا، أو لا يليق به، وبتربيته على أنه لا يقول ألفاظاً سيئة، لكن لا تقل له: أنت سيئ الأدب، سيئ الخلق، أنت ميئوس منك طول عمري وأنا أقول: لا فائدة منك إلى آخر هذه الألفاظ التي هي عبارة عن تحطيم له في الحقيقة، هذا ليس بناءً، بل هذا هدم، ولن يعالج الأخطاء بل بالعكس سيزيد احتقاره لذاته، ويشعره بعدم الكفاءة وعدم القدرة على إنجاز أي شيء، وتنهدم الشخصية، فلا بد من الاحترام بحسب الطفل.
مثلاً: جاء طفلك بشهادة رسوبه، فلا تجعله محل سخرية وتحقير، فتقول له: فاشل، ليست فيك فائدة، والمال الذي نصرفه عليك لا تستحقه إلى آخر هذا الكلام، لكن تقول له: أنا حزين من هذه النتيجة، لكن عندي أمل إن شاء الله أنك تعوضها في المرة القادمة، وتكون النتيجة أحسن، فأنت أظهرت الغضب من هذه النتيجة وعدم الموافقة عليها، وفتحت له باب الأمل؛ لأن الطفل لا ينفع أبداً أننا نعلق عليه دائماً أو أن نختم على جبهته: فاشل، ميئوس منه إلى آخر هذه التعبيرات المعروفة.
عندما ينتقد المربي الطفل الذي يربيه ينتقد الأسلوب، ولا يعطيه ختماً يختم به على شخصيته؛ لأنه ما زال ينمو، والمفروض أنه قابل للتعديل، انتقد الفعل والسلوك وليس الشخصية نفسها.
أيضاً: لا بد أن يغرس فيه الشعور بالمسئولية، دائماً يفهم الطفل أن كل حق مقابله واجب، وأن الحياة ليست فقط أخذ وأخذ وأخذ، لا، الحياة أخذ وعطاء، تريد شيئاً معيناً، ساعد والدتك في ترتيب غرفتك، لابد أن نفهمه دائماً أن الحياة أخذ وعطاء، نشاوره مثلا على رجل المرور في الشارع، نقول: انظر إلى رجل المرور هذا، يقف في الحر، والشتاء، ويتعب، لو لم يعمل ذلك لم يأخذ مالاً يعيش به أو يصرف به على أولاده، فتعطيه نماذج حية على أن كل شيء دائماً مقابل شيء، وأن الحياة أخذ وعطاء، وليست فقط أخذ ثم أخذ ثم أخذ، فهناك واجبات تجاه نفسه وتجاه والديه، وإخوته، والمجتمع إلى آخره، فكل حق لابد أن يقابله واجب.
أيضاً لا بد من ترسيخ مبدأ الثواب والعقاب، فإذا اخطأ لابد أن يعتذر وإذا أحسن لابد أن يشجع، ويكافأ على الإحسان.(1/7)
انعكاس سلوك الآباء على الأبناء
إن سلوك الأب ينعكس على الأطفال، وكلمة الأب أعني بها: الأب أو الأم، إن الذي يحصل من الأطفال إنما هو تقمص لشخصية الأب أو الأم، والتقمص أعني به التوحد، وهي أعلى درجات التقليد والمحاكاة، هذا هو ما يسمى بالتقمص، فالطفل يرى أن أباه أو أمه أكمل الناس في العالم؛ لأن هذه هي البيئة التي يراها حالياً، فدائماً -كما هو المفروض- هم المثل الأعلى له، وكل ما يعملانه صحيح، وطريقتهما هي الطريقة السوية في التفاعل مع البيئة من حوله.
مثلاً: لو أن أباه إذا تأخر الأكل عن وقته، أقام عاصفة في البيت هوجاء لا تتناسب مع الخطأ أو التقصير، فهذا مؤثر ضعيف جداً وتافه لكن رد فعله مبالغ فيه جداً، صراخ وعراك ومشاكل؛ فسوف يتعلم الطفل أنه يغضب أيضاً لأتفه الأسباب، ويعبر عن غضبه بهذا السلوك وأمثاله مقابل أتفه الأسباب؛ فيتقمص نفس السلوك، وممكن أن يقلده مع أفراد آخرين في المدرسة أو إخوته أو أصحابه، فيفهم من سلوك الأب العصبي أو الأم: أنه عندما لا يحقق طلبي أثور وأغضب وأنفعل، فنقطة هدوء الأب واتزانه -وكذلك الأم- أمام الطفل أمر مهم جداً.
الطفل أحياناً يسرق سلوك الأب، مثال: وجود طفل آخر يعني بقاء العناد كوسيلة لإثبات الذات لجذب الأنظار إليه، ويريد أن يبقى محطاً للاهتمام بين الأسرة وإخوته أو أقاربه؛ فيرى أن العناد وسيلة لإثبات الذات وتحدي البيئة.
عندما يكون العناد وسيلة لأن يثبت الطفل وجوده وذاته، فهذا يعتبر الوجه الحسن للعناد؛ لأن العناد له وجه قبيح ووجه حسن، فالوجه القبيح تكلمنا عنه.
أما الوجه الحسن من العناد فإنه يعتبر دلالة على أن الطفل هذا يكتشف نفسه، وأنه له كيان مستقل عن الكبار، وهذا يشجع فيه الفردية والشجاعة والاستقلالية، فهذا الوجه الحسن من عناده، لأنه يقول: هأنذا، أنا موجود، أنا مشتكي إلى ربي، وهذا نمو طبيعي؛ فيبدأ يشعر بذاته وباستقلاليته وبشخصيته، فهو يعبر بطريقة غير سليمة عن معنى صحيح وهو الذاتية، لكن طريقة التعبير بالتحدي والعناد لابد أن نعدلها، فإن العناد والتحدي والغضب ليست هي الطريقة السوية لتحقيق المطالب؛ لأن الحياة أخذ وعطاء، فالإنسان إذا تعود الأخذ والعطاء يرضى عن ذاته, ويرضى عنه الآخرون المحيطون به، ويتعود على التعاون والتفاهم مع الآخرين.
قد ينشأ العناد أو الشجار أو الغضب بسبب الشعور بالنقص أو الغيرة أو الشعور بالاضطهاد سواء من أحد إخوته الكبار أو من الولدين، فالعناد والشجار والغضب في هذه الحالة هو تعبير عن عدم النضج، أي: أن الطفل يواجه هذه المواقف بالعناد والتحدي والصراخ وغير هذه الأشياء، فيقول بطريقة غير مباشرة: أنا ما زلت متأخراً في النضج الاجتماعي، وما زلت بحاجة إلى التعلم والأخذ والعطاء والنمو الاجتماعي؛ لأنه يتعامل بطريقة بدائية، ولا يواجه المشكلة المواجهة السلمية.
من أسباب العناد أيضاً: الأم العصبية؛ فهي قد تنتج طفلاً عنيداً، ربما يكون في حياتها أي سبب من أسباب المعاناة مع زوجها أو أسرتها أو نحو ذلك، فتنتج طفلاً عنيداً؛ لأنها تخرج معاناتها بمن صادفها، وأولهم الطفل، بالصراخ أو العويل أو الضرب؛ فتنتج معركة غير متكافئة بين طرفين: الأم العصبية؛ لأن لديها معاناة من شيء آخر، لكنها تنفذ في الطفل العقوبة كمن أغضبه مدير عمله، فهو يضطهده أو يؤذيه، فيفرغ غضبه في الموظف الذي تحت يديه، ويجعل هذا إزاحة للمعاناة التي يعانيها، لديه مشاكل تضيق نفسه بها فيجد في هذا فرصة للتنفيس.
فالأم العصبية تجد المتنفس مع هذا الولد المسكين، فتحصل معركة غير متكافئة؛ لأن الأم أقوى، وأسلحتها أقوى، فلو ضربته ستغلبه، ولو صرخت فصوتها أعلى منه إلى آخره، والثاني ضعيف، لكن الضعيف له أسلحة كما أن للقوي أسلحة، وكل منهما يتعامل بالأسلحة التي يقدر عليها، والطفل في هذه الحالة سلاحه يختاره هو، فهو يضايقها في الشيء الذي يستفزها، أو عن طريق العناد والتحدي والصراخ والبكاء إلى آخره، فيعاندها كي يضايقها، فعندما يضايقها يكون قد أخذ بثأره، ولا يهمه بعد ذلك انضرب أم لم ينضرب، ولا يهمه ما سيحصل له، هذه تكون النتيجة.
الخلاصة: أن الأم تنزع فتيل هذه المشكلة إذا تخلت عن العصبية.(1/8)
توجيهات مباشرة للوالدين في التعامل مع الأطفال المعاندين
أول الأمور التي ننصح بها الوالدين في التعامل مع الطفل العنيد: الهدوء والاتزان ما أمكن أثناء عناده أو غضبه، فمن الخطأ الشديد جداً الغضب على الطفل حينما تأتيه نوبات الغضب، ويرمي بنفسه إلى الأرض، ويضرب رأسه بالحائط، وهي نوبة لابد أن تأخذ وقتها، وكأنه يقول لك: أنا أريد أن أوقف البكاء لكن لا أستطيع، هي نوبة مثل نوبة الصرع تماماً تنتهي بمرور زمن معين، فعندما تأتيه نوبة الغضب بهذه الطريقة اتركه تماماً، ويفضل أن تعزله في مكان بعيد أو غرفة بعيدة، وتتركه حتى تذهب النوبة.
فمواجهة الغضب بغضب يولد مشكلة كبيرة جداً فضلاً عن الضرب والإهانة إلى آخره، وفي هذه الحالة لا يحاول الأب أن يتفاهم معه أثناء الغضب، والتكلم معه لابد أن يكون بمنتهى الهدوء والاتزان أثناء العناد والغضب.
أيضاً تفهمه أن هذا أسلوب غير سليم للتعبير عما في داخله؛ لأنه لم يعدل طريقة التعبير عما يضايقه، وهذا يكون بلغة مناسبة، كذلك عندما تقول له: هذا ليس الأسلوب الصحيح، وتطرح عليه الأسلوب البديل، والإصرار عليه أن هذه هي الطريقة الصحيحة، فتجعله يعبر بحرية عما بداخله، وتبين له أنه ليس هناك مكافئة له إلا بعدما يظهر السلوك الحسن المطلوب.
أيضاً: يجب أن يتخلى الوالدان عن العصبية والقلق والعناد على الأقل أمام الأولاد لئلا يقلدوهما.
أمر آخر مهم جداً: علاقة الأب أو الأم بالطفل وتدخله في حياته، لابد من التدخل، لكن يكون تدخلاً مرناً.
أيضاً: المشاكل الزوجية أثرها سيء على نفسية الأطفال، خصوصاً حين الكلام على الانفصال أو الطلاق مما يهدد إحساسه بالأمان والاستقرار.
أيضاً: التدخل المبالغ فيه في حياة الطفل خطأ شديد جداً، بالأوامر الصارمة، وبالنقد والتوبيخ المستمر، والتحقير، والتدخل كالكابوس في كل تصرف للطفل، وانعدام مساحة للحرية.
لابد من التدخل المرن، والمرونة والحوار والتفاهم والتوجيه والنصح، أنت تريد منه طاعة عمياء، والطاعة العمياء تخرج شخصية غير سوية، وتخرج إنساناً لا شخصية له، يحتاج الطفل أن يربى على هذا المنهج حتى ينمو بطريقة سليمة، فحتى يكون طفلاً مؤدباً لا يلزم بطاعة عمياء؛ لأن هذا تكليف بما لا يطاق، ويلغي شخصيته ويشوها بعد ذلك.
أيضاً من وقت لآخر نحقق رغباته المشروعة بطريقة مناسبة، وتشجيعه على الاختلاط بأقرانه المناسبين.
نقطة مهمة أخرى: عدم التشهير بالطفل أمام الآخرين: أحياناً يظل الطفل حديث العائلة والتلفونات والزيارات، وإذا جاء الضيوف اشتكى الوالدان من الطفل أمامهم، مثل أنه يبلل الفراش أو شيئاً من هذا القبيل، ويذكرا أشياء تجرحه جداً، وتقال على الملأ، وتصبح حديثاً مشاعاً أمام الضيوف أو الأقارب أو الأصدقاء، ويناقشا بعض أخطائه أمام هؤلاء الآخرين.
لابد أيضاً من تدريبه على حل مشاكله بنفسه، ولابد أن يوجد في البيت نوع من التسامح والتعاون.
توحيد السياسة التربوية للوالدين؛ فلا يوجد تعارض منهم في الناحية التربوية، بل المعاملة من الأب والأم معاملة ثابتة وفق معايير مقننة متفق عليها مسبقاً، فلا يأتي واحد يمنح والثاني يمنع، لا يثيب الأول والثاني يعاقب على نفس الفعل؛ لأنه يسبب الارتباك للطفل، فاختلاف أسلوب التربية يلجئ الطفل إلى الغضب كوسيلة ليخضع بها الآخرين لنزواته، ثم إنه يحول بينه وبين الاتزان النفسي؛ لأن الطفل لابد أن يتعود على قبول المعايير الاجتماعية، وقبول النظام، ليس كل ما يريده يأخذه أو يغضب، فلازم أن يعلم أن هناك معايير تحكمنا في سلوكياتنا، فالتدليل المستمر يعلمه فقط الاستجابة الطفلية البدائية للرغبات، فيفهم أن الحياة أخذ وأخذ، فيعيش دائماً معتمداً على الآخرين؛ فهم الذي يقومون بكل شيء، وهم الذين ينفذون له رغباته، ويقولون: سمعنا وأطعنا.
أيضاً تعدد سلطات الضبط والتوجيه، كما لو كان يعيش ضمن أسرة كبيرة، فالأم تمنع، والجدة تمنح، والأم تعاقب، والجدة تحتضنه إلى آخره، فمثل هذه الأشياء مع تعددها تسبب له الارتباك والغضب والعناد، الأب يمنع والأم تدلله، تقول: تعال يا حبيبي أنا أحضره لك إلى آخره، فهذا في الظاهر حسن، والحقيقة أنه ارتباك في السلطات التربوية المتعددة المتناقضة، فيحاول الطفل أن يسيطر على هذه البيئة عن طريق نوبات الغضب والعناد.
والتدليل المستمر هو عبارة عن إجابة لكل طلباته المهمة أو غير المهمة، فينشأ أنانياً، لا يرى إلا نفسه فقط، ثم يتوقع نفس المعاملة من البيئة لما يخرج إلى المدرسة مثلاً أو نحو هذا، فإذا منع تحصل له صدمة قاسية ويزيد في العناد والتوتر.
الخلاصة: أن التدليل المستمر والمبالغ فيه يعيق الأطفال عن التأهل لمواجهة الحياة ومصاعبها، ويحرمه من فرصة أن يتعلم كيف يكبح رغباته، من ثم نقول: من وقت إلى آخر لا بد من الإحباط المحدود، وليس الإحباط الجامد حتى لا نظلمه، فهذا يفيد أنك تتعمد تأجيل إشباع بعض رغباته إلى الوقت المناسب، فتقول: أنا حالياً مشغول، فإذا فرغت منه مثلاً أصحبك إلى المحل، أو أول الشهر سأحضر لك اللعبة، لماذا؟ لكي تعوده التأجيل من تنفيذ رغباته؛ لأن التأجيل بحد ذاته نوع من الكبح، والصرامة تكون قوية، فيتكيف تكيفاً سليماً مع البيئة لما يجد أن البيئة الخارجية كلها لا تحقق طلباته؛ نتيجة المعايير الاجتماعية، فعندها يستطيع أن يتحكم في رغباته.
فإذا تكرر الفشل في الحصول على كل هذه الرغبات فإن هذا يقوي فيه جهاز المناعة النفسية، أو يكون سبباً في نجاحه وتكيفه مع ذاته.
وأنا في الحقيقة أتحرج من الكلام في الحاجات الطبية أو النفسية في المسجد، وقد تعودنا أننا نتكلم عن الآيات والأحاديث، لكن يبدو أن القضايا الحياتية أحياناً نحتاجها، ونشعر من خلال بعض الأمثلة والمشاكل أن بعض الناس محتاجين إلى هذا، فأرجو من كان مقتنعاً بهذا الكلام أن يسامحنا في إهلاك الوقت، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(1/9)
تشاجر الأشقاء
كثيرة هي مشاكل الأبناء أمام الآباء، خصوصاً في مقتبل العمر، ورغم أن كثيراً منها بسيطة إلا أن كثرتها تجعلها مقلقة، ومن تلك المشاكل تشاجر الأشقاء من البنين والبنات، ولكل مشكلة أسباب وحلول وإيجابيات وسلبيات، وبحسب موقف الوالدين وسلوكهما تترتب الحلول.
ومما يلاحظ أن هذه المشاجرات تقل كلما تقدم الأولاد في العمر إلى سن الخامسة عشرة حتى تنتهي، إلا أن الأخذ بأسباب تخفيفها هو المطلوب، وأما القضاء عليها فهو من غير الممكن.(2/1)
مرحلة تشاجر الأشقاء في النمو
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فقد قالت فتاة في السادسة من عمرها لجدتها: من حسن حظي أني وحيدة لا إخوة لي ولا أخوات.
فأجابت الجدة: ولم يا عزيزتي؟ ألا تظنين أن من الأمور الحسنة أن يكون للإنسان إخوة وأخوات؟! وكان
الجواب
نعم.
قد يكون الأمر حسناً، ولكن معنى وجود الإخوة والأخوات هو تشاجرهم وعراكهم ومقاتلتهم طوال الوقت.
إن الشجار بين الإخوة هو أحد أشكال الإزعاج الأكثر شيوعاً في الأسرة، إلا أن التشاحن يمثل في الواقع مرحلة طبيعية من النمو، فأطفال السنتين يضربون ويدفعون ويخطفون الأشياء، بينما يستعمل الأطفال الكبار أسلوب الإغاظة، فهم يسيئون لبعضهم من وقت لآخر عن طريق اللغة.
إن الولد -كغيره من الأطفال- لا يستطيع أن يحتفظ بيديه ساكنتين إذا ما كانت أخته قريبة منه، وأخته بالرغم من تفوقه عليها في الحزم والقوة لديها طرائقها الخاصة للانتقام منه، إن كل واحد منهما يبدو كأنه قدير بما يضايق الآخر، ويسر باللجوء إليه، ويدرك حرصه على أشيائه الخاصة، وحرصه على احتلال المكان المعين في المائدة أو السيارة، فيعرف كيف يغيظ الطرف الآخر ويستفزه.
والآباء يضجون من مشاجرات الأبناء لما يحدثونه من ضوضاء وجلبة في المنزل، ولأنهم يشغلون الآباء عن أداء ما يقومون به، أو يمنعونهم عن الراحة أو الاسترخاء، فيثورون على الأبناء، وقد يلجئون إلى أسلوب عنيف في وضع حد لمشاجرات الأطفال، بل قد يدمغون طفلاً منهم بأنه حقود أو أناني، وأنه سيفشل في حياته لأنه لا يتعاون، بل قد يعيره الآباء بسلوكه هذا في غير أوقات الشجار حاسبين بذلك أن شجار الأطفال أمر غير طبيعي، وأن الأولاد يميلون عادة إلى الشجار أكثر من البنات، وأنهم يتشاجرون مع أقرانهم مهما كانت أواصل الصداقة تربطهم.
نقول للمربي: لا تنزعج؛ إنها مرحلة طبيعية، إن أي أسرة لديها طفلان أو ثلاثة نجدهم دائماً في مناوشات وخلافات، يتألم الأب وتتألم الأم؛ لأن الأبناء ليسوا أصدقاء وليست علاقاتهم طيبة.
و
السؤال
هل ظاهرة اختلاف الأطفال مع بعضهم ظاهرة طبيعية، بمعنى: أيُّ الأوضاع يعتبر الوضع الطبيعي: أن يتعاونوا مع بعضهم وأن لا يختلفوا؟ أم أن الوضع الطبيعي هو أن يتشاجروا وللإجابة عن هذا السؤال نجري تجربة صغيرة، وهي أننا نجمع ثلاثة أو أربعة أولاد معاً في حجرة واسعة مجهزة بكل ألوان اللعب والتسلية، ونغلقها لفترة، ترى ماذا ستكون النتيجة؟ بكل تأكيد سيتشاجرون، سواء أكانوا إخوة أم غير إخوة.
إذاً المسألة ظاهرة طبيعية وعادية، ويجب أن لا يقلق الآباء والأمهات، ويجب أن تراعى برفق ووعي؛ لأنها لا تكون في فترة الطفولة فقط، إنما تمتد للصبا والشباب.
إن أول ما تنصح به الأم أن تتخلى عن تصورها المثالي بأن يكون أطفالها على أتم وفاق ولا يتخاصمون أبداً، إن الأم إن واجهت الحقيقة الواقعية فإن قلقها بخصوص خصام الأطفال وتشاجرهم سوف يتضاءل.
إن الطفل ذا الست إلى عشر سنوات الذي يصر على الخصام مع إخوته وعلى عدم التحسن في هذا الشأن لا يزال إنساناً عادياً، فكل الإخوة -لاسيما المتقاربين منهم في العمر- لابد أن يتشاجروا، وتقل عادة هذه المشاجرات كلما تقدم الأطفال في السن.(2/2)
الجوانب السلبية والإيجابية لتشاجر الأشقاء
قد يكون للمشاحنات البسيطة بين الإخوة جوانب إيجابية، خاصة إذا قام الوالدان بدور التوجيه في تعليمهم كيف يدافعون عن أنفسهم وعن حقوقهم، وكيف يعبرون عن مشاعرهم ويحلون صراعاتهم ويحترمون حقوق الغير، ومعنى الصدق والكذب، وأهمية الأخذ والعطاء بأسلوب يحقق لهم المحافظة على حقوقهم وعلى حقوق الغير.
إن شجار الأطفال إحدى الوسائل لإثبات الذات والسيطرة، وكلتاهما من الصفات اللازمة لنجاح الإنسان في الحياة، بل الشجار فرصة يتعلم فيها الطفل كثيراً من الخبرات، منها وجوب احترام حقوق الغير، والعدل والحق والواجب، ومعنى الصدق والكذب، وأهمية الأخذ والعطاء بأسلوب يحقق له المحافظة على حقوقه وحقوق الآخرين.
هذا إذا عمد الآباء والمربون إلى انتهاز مناسبات شجار الأطفال في توجيههم الوجهة التربوية السليمة، وتعريفهم بالحق والواجب، والشجار في الواقع دليل على أن الطفل لم ينضج اجتماعياً، ولم يتعلم بعد أساليب الأخذ والعطاء الاجتماعية.
إن من الجوانب الإيجابية لهذه المشاحنات والخلافات أنها تكون في واقع الأمر نوعاً من التنفيس، وتحل دون أن ندري بالكثير منها، وأحياناً يكون الشجار نوعاً من المنافسة.
إذاً هل المنافسة بين الإخوة ضارة، إن المنافسة الشريفة باستمرار فائدتها أكثر من ضررها، وبين الإخوة ينمو الحب ويتطور ويكبر معهم ويظهر، وينضج حينما يتجاوزون سن الطفولة والمراهقة، وكثيراً ما نسمع هذه العبارة: (إنه أخي على كل حال).
إذاً المنافسة بين الإخوة والخلاف لا يستمر، بل ينتهي ويتطور إلى علاقة حب تنضج تحت نار هادئة، والأيام تزيد من الروابط والود، ومع ذلك فهناك حالات يكون الشجار فيها خطراً إذا اقترن بها عنف أو أذية بدنية، أو أن تتطور لدى بعض الأطفال مشاعر العداء أو اللامبالاة نحو بعضهم بصورة تستمر طوال حياتهم، فالوضع المعتاد هو أن يظهر الإخوة ارتباطاً وإخلاصاً لبعضهم على نحو لا تؤثر فيه المضايقات الجانبية.
وهكذا فإن التنافس يمكن أن يعتبر عادياً إذا تبادل الإخوة مشاعر مشتركة بالرضا والإحباط، وإذا لم يكونوا مشحونين بشحنات العنف، ولم ينخرطوا في صراعات تهدد الحياة ضد بعضهم، وإذا لم يحملوا أحقاداً ولم يستجيبوا لكل إساءة كما لو أنها مصيبة.
وتظهر الدراسات أن الأطفال أكثر تنافساً وتناحراً مع زيادة العمر، ولذا توقع أن أطفال ثمان سنوات أكثر تناحراً من أطفال أربع سنوات، ومن هم في عمر اثنتي عشرة سنة أكثر تنافساً ممن هم في عمر ثمان سنوات، والتنافس أكثر شيوعاً في العالم لدى الإخوة الأكبر سناً عندما يكونون متقاربين في العمر بفارق سنة أو اثنتين، وعندما يكونون في مرحلة الطفولة المتوسطة ما بين ثمان إلى اثنتي عشرة سنة، كما يزيد احتمال التنافس عندما يكون الطفلان من نفس الجنس، فالطفل الأكبر غالباً ما يشعر بأن الطفل الأصغر قد حل محله، وإذا كان الطفل الأكبر شخصاً جدياً يهتم بالعمل والتحصيل فمن المحتمل أن يبحث الطفل الأصغر عن هوية متصلة بأن يصبح مرحاً اجتماعياً غير تقليدي.(2/3)
أسباب التشاجر
فلننظر الآن في أسباب هذا التشاجر بين الأشقاء، وأشرنا آنفاً أن التقارب في السن ربما يكون من هذه الأسباب، والطفل الأكبر كثيراً ما يحاول السيطرة على إخوته فيتشاجرون، كما أن الأطفال الأولاد عادة ما يحاولون السيطرة على البنات، والطفل الناجح يلجأ عادة إلى تعيير الطفل غير الناجح في دراسته، فيتشاجروا، أو قد يعير الأطفال بعضهم بعضاً بلون الشعر، أو شكل الجسم، أو بما يملكه طفل ولا يملكه قرين له، وكثيراً ما يتحد بعض الإخوة ويكونون عصبة ضد أخ آخر خصوصاً لو كان مدللاً مقرباً من الوالدين لصغره، أو لوسامته، أو لمرضه، أو لشدة ذكائه، أو لرقته، إلى غير ذلك من الأسباب، فيتشاجرون.
وكثيراً ما يتشاجر الأطفال للامتلاك أو للاستحواذ على بعض اللعب أو الأشياء في المنزل، أو لو اعتدى طفل على ملكية الآخر أو لعب بكتبه أو أدواته أو ملابسه أو غير ذلك، لكن نستطيع أن نجمل الأسباب التي تؤدي إلى التشاجر، والتي تنبع عن الغيرة وتنتج العدوان نحو بعضهم فيما يلي: بداية يعتمد الأطفال على والديهم اعتماداً كبيراً للحصول على المحبة والانتباه وإشباع الحاجات، بحيث لا يحبون أن يشاركهم في ذلك أي بشر، وقد يؤدي تفضيل أحد الأبوين طفلاً على غيره إلى إيقاد شعلة الغيرة لدى الأطفال الآخرين، ويذكر في هذا المجال أن مقتل هابيل من قبل أخيه قابيل كان بسبب الغيرة الناجمة عن التفضيل الصادر من الأبوين، والغيرة عبارة عن شعور غير ناضج يتعرض له الطفل، وينتج عادة من خيبته في الحصول على أمر محبب له، ونجاح شخص آخر في الحصول عليه، ولهذا نجد أن انفعال الغيرة انفعال مركب من حب تملك وشعور بالغضب؛ لأن عائقاً ما حال دون تحقيق غاية هامة.
والحقيقة أن الغيرة وما يترتب عليها من الشعور بالنقص أو بالقلق أو باضطهاد الكبار كلها يتسبب فيها الآباء، وتؤدي إلى نشوب المعارك بينهم، ويحصل استنفاذ الطاقات في محاولة حل هذه المشاكل ليعود الهدوء إلى البيت.
قد تأخذ أم لعبة طفلها الأول وتعطيها لطفلها الثاني على أساس أنه كبر عن اللعب بهذه اللعبة، لكن الطفل الأول لا ينظر إلى هذا التصرف على أنه أمر طبيعي، ولكنه ينظر إليه من زاوية أخرى، فلقد استولت أمه على شيء عزيز على نفسه لتعطيه لأخيه، فينتهز أقرب مناسبة لاستثارة غضب هذا الأخ، وتبدأ المعركة.
إحدى الأمهات اكتشفت خطأها عندما فعلت ذلك، وأعادت اللعبة إلى طفلها الأول مع رسالة تضمنت عبارات تعترف من خلالها بشعوره، قالت: ابني العزيز علي! لقد أدركت عندما أخذت لعبتك وأعطيتها لأخيك أني قد أخطأت في حقك؛ لأني لم أستأذنك في ذلك، ولم أكن أعلم أنها تعني الكثير بالنسبة لك، أنا آسفة، سأعيد إليك لعبتك.
احتضن الابن أمه في اليوم الثاني قائلاً في سرور: أشكرك يا أمي لأنك أعدت لي لعبتي.
أحياناً يحصل الشجار بين الأشقاء على أنه حيلة دفاعية نفسية، وهي ما تسمى بالإزاحة، حيث يتم تحويل مشاعر العدوان نحو الأبوين إلى الإخوة الصغار، فالطفل يشعر بمشاعر عدوانية تجاه الأبوين أو أحدهما، ولا يستطيع أن يخرج ذلك بصورة صريحة في مواجهة الأبوين، فيزيح هذه المشاعر العدوانية إلى إخوته الصغار.
قد تتضمن تصرفات الإخوة تعبيراً عن نبذ الأبوين غير الشعوري، أو عدم محبتهما للطفل الأصغر، وحينما يكون أحد الإخوة متدني الإمكانيات في أحد المجالات بالنسبة لأخ آخر قريب منه في العمر ومن نفس الجنس فإن الطفل الأقل في إمكانياته يميل إلى إظهار عدوان أكثر تجاه الآخر من بين الأشقاء؛ لأنه يعيش في ظل إنجازات آخر موهوب، وعندها فإنه يشعر بأنه قد فقد فرضيته، ويحس بأن كل أعماله ومنجزاته تقارن مع أعمال ومنجزات أخيه.
إن المطلوب منا أن لا نركز على المنافسة بين الإخوة بشكل ملح ودائم، ولا داعي لأن نقول في كل دقيقة: انظر كيف أن أخاك مجتهد فعل كذا.
أو: اعمل كأختك المهذبة.
فهذا النصائح التي هي من هذا اللون ليست هي الأمر المطلوب؛ لأن التركيز هنا لا يكون في الواقع على الاجتهاد أو الأدب الذي يتحلى به الأخ أو الأخت، إنما يكون على التفوق، وهذا يبعث على عدم الرضا في نفس الشخص الذي توجه إليه النصيحة، وعدم الارتياح تجاه أخيه، ويجعله ينسى موضوع النصيحة، ويمكن أيضاً أن يظن أننا منحازون إلى الأخ أو الأخت فيزيد ضيقه، وأحياناً يتخيل أن كلامنا هو لون من المعايرة له بتخلفه في الدارسة، أو التصرف غير الصحيح منه؛ لأن المقارنة يمكن أن تذكي نار المنافسة في كل مجال؛ لأن كل همنا ليس إيجاد اثنين متصارعين وأيهما يغلب الآخر، فنقول: انظر! إن أخاك أقوى منك.
وانظر! إن أختك مؤدبة أكثر منك.
ألا تكون كأخيك الذي يفعل كذا وكذا.
ليس الهدف هو إيجاد شخصين متصارعين، وإنما إيجاد أخوين تجمعهما الأخوة بكل ما تعنيه الكلمة.
وينبغي أن يراعى أن التغيرات العمرية لها أثر في حصول الانسجام، فقبل سن الخامسة عشرة سنة لا يحصل الانسجام بين الإخوة والأشقاء بالقدر الذي يرغب فيه الأهل، فينبغي الانتظار حتى بلوغ هذا السن، وكما ذكرنا تنمو الروح الأخوية والحب المتبادل بينهما وتنضج على نار هادئة.(2/4)
موقف الآباء من تشاجر الأبناء
ما الذي ينبغي أن يفعله الأبوان في موقف التشاجر بين الأشقاء؟ نقول أولاً لكل أم: عفواً أيتها الأم، نحن نقدر أن ما يهمك كأم هو ما يجب أن تفعليه في هذا الصدد -أعني صدد حل مشكلة الشجار بين الأبناء- فمعذرة إذا كان الجواب هو أن ما تستطيعين فعله قليل جداً، إن الخصام والجدال والصراع أمور قد تستمر إلى أن تحلها الأيام وحدها، بجانب أن لكل أسرة وضعها الخاص المختلف عن أوضاع غيرها من الأسر، مما يجعل من الصعب إعطاء نصائح عامة، لكن يمكن تقديم بعض الاقتراحات القليلة: أولاً: بعض الآباء في بيوتنا يقومون بدور الحكم بين أولادهم كآباء، ويتحول البيت إلى حلبة ملاكمة، والواقع أنه لابد أن يبقى هناك بعض الصراع والخلاف بين الأبناء، ولا بد أن يدرب الآباء أنفسهم على أن يكونوا أحياناً متفرجين وأن لا يتدخلوا كحكام، والمثل العامي يقول: إن قاضي الأولاد شنق نفسه.
ثانياً: من غير المعقول أن يظل الآباء باستمرار في موقف المتفرج، لابد في لحظة معينة أن يتدخلوا حتى يوقفوا المعارك التي تنشب بين أولادهم، ومن الطبيعي أن لا يستطيعون دائماً الغوص إلى أعماق كل مشكلة وكل خلاف، وأن يحلوا تلك الخلافات بميزان العدالة الدقيق، إنما المسألة تحتاج من الآباء إلى شيء كبير من التعقل في مواجهة الأمر، وتحتاج أيضاً إلى أن يدركوا بعض الأمور في مجال الخلافات بين الأبناء.
بداية يجب أن لا يكونوا مراقبين لكل صغيرة وكبيرة تصدر عن الأبناء، ويكفي أن يكونوا ملاحظين بشكل غير مباشر دون التعليق أو التدخل في اللعب، إلا إذا وجدوا الأبناء قد خرجوا عن القواعد، وحينئذ يمكن للآباء أن يقترحوا شيئاً بناءً بديلاً للشيء المختلف عليه أو أكثر إثارة منه، وأن لا يتعجل الأب أو الأم فيبادر بالانحياز لصف المعتدى عليه؛ لأنه يحتمل أن يكون هو البادئ في الحقيقة، وعلى الرغم من أن هناك دائماً سبباً وراء أي عدوان مثل الحسد أو عدم الاطمئنان أو الضيق النفسي فلا داعي لأن نبحث في أثناء الصراع عن حقيقة السبب.
ولكي تحل المشكلة فعلينا أولاً أن نقضي على الخلاف، ثم نبعد الأبناء بعضهم عن بعض دون أن نشعر أياً منهم بأنه مخطئ ومتهم، بعدها نستطيع أن نعمل تحقيقاتنا ونعمل كوكيل النيابة، ولابد أن نتذكر أنه ليس أسهل على الطفل من أن يلصق بصديقه أو أخيه أشنع التهم، ويتفوه بأبذأ الألفاظ لأي سبب ولأي مناسبة.
المهم أن لا تظل هذه الألفاظ عالقة بأحد؛ لأنها من الممكن أن تلصق به، ويصبح من الصعب التخلص منها، وربما لو تكررت حاول صاحبها تأكيدها، فحينما يقال له -مثلاً-: أنت كاذب.
يكذب ما دام باستمرار يتهم بالكذب سواء صدق أو كذب، فيرى في نفسه أنه لماذا يصدق.
ومن المهم جداً أن ننبه الكبار من الأبناء أن لا يؤذي الصغار، وأن ننبه الأبناء أن لا يضايقوا البنات، وفي نفس الوقت لابد أن ننبه على عدم إثارة الصغار للكبار، وأن لا نجعل البنات يغضبن الأولاد حتى يسود الاحترام بين الجميع.
ولابد أن يتوقع الآباء أن يظل الأبناء حريصين على اللعب مع بعضهم على طول الخط، وعلى قدر المساحة المتاحة لهم في البيت، بل لابد أن يبتعدوا عن بعضهم قليلاً، وأن نجعل الأولاد سعداء لأنهم أولاد، والبنات فخورات لأنهن بنات، وكل له مميزاته، وفي نفس الوقت لابد من أن يكون عندنا مقترحات لهم لتستنفد طاقاتهم الزائدة، ويشعر الأولاد أنهم محبوبون بنفس القدر، لكن بشكل مختلف، بهذه الطريقة يسود التفاهم جو الأسرة، ولا يكون الأبناء مصدر مشاكل مستمرة في البيت.
أيضاً ينبغي أن يحرص الوالدان على التدخل بأقل ما يمكن في المشاجرات بين الإخوة التي لا تتعدى كونها أمراً طبيعياً إذا كانت مقرونة من ناحية أخرى بمظاهر الود والتعاون فيما بينهم.(2/5)
أخطاء الآباء في حسم مشاجرات الأبناء
مما يجب أن يزيدنا تحفظاً حيال التدخل في هذه المشاجرات الأخوية إلى حد ما ما يستخدمه الأولاد لاستدراج الأب والأم إلى إبداء انحياز لطرف على الطرف الآخر، وكأن الوالدين يوضعان عند ذاك على المحك لينكشف ما يضمرانه من تفضيل، فإذا ناصرا واحداً على الآخر اعتبر الثاني نفسه مغبوناً، مما يؤجج غيرته ويدفعه إلى تكرار المشاجرة انتقاماً مما حظي به خصمه من مساندة.
أما الأول فهو منقاد من جهته إلى إعادة الكرة من جديد بمناصرة والديه، لذا فتكثر هذه المشاجرات بحضور الأهل ويغذيها تدخلهم.
ولهذا السبب أيضاً تلاحظ هذه الظاهرة التي قد تبدوا غريبة لأول وهلة، ألا وهي تحرش الأضعف بالأقوى، واستدراجه إلى العراك، وأن الغاية المنشودة ليست عند المتحرش الانتصار على خصمه، وإنما كسب مؤازرة الأهل بحجة أن هذا الصراع غير متكافئ.
من هنا يقع ما يجده الأهل من صعوبة في حسم هذه المشاجرات بعدل، أياً كانت رغبتهم في ذلك صادقة، ولهذا يقول المثل الشعبي: (إن قاضي الأولاد شنق نفسه)، لذا فالأفضل أن نحد قدر الإمكان من تدخلنا في المشاجرات الأخوية مكتفين بالحرص على أن لا يلحق أحد المتخاصمين أذى بالآخر، أو أن يتسلط عليه بشكل دائم، وكما أشرنا فإن لهذه المشاجرات حسناتها على كل حال؛ إذ من شأنها أن تدرب أولادنا على الصراع الذي لابد من أن يواجهوه في المجتمع، فيتعلم كل واحد منهم من خلالها أن يؤكد ذاته مع مراعاة وجود الآخر ومصلحة الآخر ووجهة نظر الآخر وواقع ميزان القوى، فيتخطى هكذا تحكم محورية الذات به، وينمو في النضج النفسي والقدرة على مواجهة الواقع والتكيف مع متطلبات الحياة الاجتماعية، أما إذا اضطررنا إلى التدخل لوضع حد للغلو في العنف فليكن تدخلنا بحزم مقرون بالصفاء والتفهم، فلا يشعر المذنب بأننا ننبذه أو نحرمه من حبنا وتقديرنا، ويحتار الآباء ويتضايقون عندما يتشاجر أبناؤهم، هل الأفضل أن يتدخلوا بينهم ليحلوا مشاكلهم أم يدعوهم وشأنهم يحلونها بأنفسهم؟ وينصح خبراء تربية الطفل الآباء بعدم التدخل في هذه المشاجرات، وإذا استدعى الأمر تدخلهم فإن عليهم عدم إصدار الأحكام على أبنائهم؛ لأن ذلك يشعل الشجار أكثر بينهم، فالأم التي تلوم ابنها لأنه تشاجر مع أخته قائلة: عليك أن تحبها لأنها أختك.
أو تقول له: أختك الصغيرة طيبة معك، لماذا أنت شرس دائماً معها فالأم جعلت من نفسها حكماً؛ لأنها لامت ابنها ووقفت إلى جانب ابنتها، وساهمت بذلك في إشعال المشاجرة بين الأخوين.
وإليك المثال الآتي الذي نبين من خلاله خطأ تدخل الوالدين في مشاجرات الأطفال والانحياز لأحدهما: ركض أحمد البالغ من العمر تسع سنوات إلى أمه شاكياً اعتداء أخيه عليه قائلاً: أمي! ضربني عبد الرحمن في بطني.
قالت الأم: لا أترككما دقيقتين وحدكما حتى تبدأا في الشجار! من الذي بدأ الشجار هذه المرة؟ أجاب أحمد: هو الذي جاء إلى غرفتي.
قالت الأم لعبد الرحمن: لماذا لا تترك أخاك وشأنه حتى لا تسبب لنفسك المتاعب؟ قال عبد الرحمن لأخيه: ما أكثر ما تأتي! أنا أكرهك.
رد أحمد غاضباً: أنت الذي بدأت.
وتدخلت الأم مرة أخرى قائلة: ابتعدا عن بعضكما إذا كنتما لا تستطيعان البقاء معاً دونما شجار.
قال عبد الرحمن: أنا لم أفعل أي شيء، أنت دائماً تلومينني أنا.
أجابت الأم: عبد الرحمن! أنا أعرفك جيداً، ألا تقوم بأي عمل مفيد تشغل به وقتك بدل أن تتشاجر مع أخيك، لا أريدكما أن تلمسا بعضاً بعد اليوم.
إذا عدنا إلى استعراض الموقف لوجدنا أن الأم أخطأت خطأين، أخطأت عندما سألت طفليها قائلة: من بدأ هذه المرة؟ لأنها عندما تسأل مثل هذا السؤال كأنها تتطلع إلى معرفة الغالب والمغلوب؟ أي: لا بد أن يكون أحدهما على خطأ والثاني على صواب، وعندما تحدد الأم موقفها من شجار أطفالها بهذه الطريقة فإنها تبدو وكأنها تدعو أبناءها أيضاً إلى الاستمرار في الشجار، ومن سيكون مغلوباً هذه المرة ومن سيغلب في المرة القادمة.
أخطأت الأم أيضاً عندما هاجمت ابنها عبد الرحمن قائلة: ألا تستطيع أن تقوم بأي عمل مفيد بدل أن تتشاجر مع أخيك.
لأنها أثارت غضبه أكثر بسبب لومها له وعدم لومها لأحمد، ثم أشعلت ثورته أيضاً على أخيه لأنه اشتكى إلى أمهما، وهذا الشعور لا يجعله راغباً في تطوير سلوكه، ولماذا يفعل ذلك إذا كانت أمه ستلومه دائماً ولن تلوم أخاه، لذا كان على هذه الأم أن لا تتدخل في مشاجرة ولديها ولا تحكم على سلوكهما.
ولكي تتضح لنا مدى إيجابية تصرفات الوالدين عندما يبتعدان عن إصدار الحكم على سلوك أبنائهم نذكر هذا المثال: وقفت الأم في المطبخ تعد فطيرة للعائلة، وأقبل ولداها: كمال البالغ من العمر خمس سنوات، وحسام الذي لا يتجاوز الثالثة من عمره، قال كمال: أنا الذي طلبت أولاً أن أضع الدقيق.
قال حسام: لا.
أنا الأول.
علقت الأم قائلة: حسناً سنقوم معا بعمل الفطيرة.
قال حسام: أنا أريد أن أكسر البيض.
رد كمال: لا.
أنا أريد أن أكسر البيض.
وكانت الأم ماهرة في تعليقها عندما قالت: إن كنتما غير قادرين على تقرير من سيكسر البيض سأقوم أنا بذلك.
احتج الطفلان على والدتهما، قالت الأم: إذاً دعونا ننظر إلى ما بقي لنا من الفطيرة لم نقم به، سنحتاج لشخص يقيس الماء ويصبه، اختار كمال قياس الماء، وأراد حسام أن يكسر البيض، وحل الطفلان المشكلة بينهما دون أن تتدخل الأم كحكم بينهما.
إن أغلب الشجار بين الأبناء سببه شد انتباه هؤلاء الأبناء لآبائهم ليدركوا من خلال تدخلهم أيهما أقرب إلى نفس والديه، فليحذر الآباء من السقوط في هذه المصيدة، وليجعلوا تدخلهم في حدود المعقول، وبدون إصدار أحكام مسبقة على أحد الطفلين حتى لا يشعر بالظلم, بالتالي لا يرغب في تطوير سلوكه.
حينما يعرف الأطفال أن عليهم أن يحلوا مشكلاتهم بأنفسهم فإنهم كثيراً ما سيتوقفون عن الذهاب لوالديهم بشكاواهم ضد إخوتهم، فكثيراً ما يكون الأطفال قادرين على إيجاد حلول عملية لمشكلاتهم إذا تركوا لأنفسهم.
مثال آخر: أم تحاول العزل دائماً، ومع ذلك يتشاجر الولد والبنت دائماً بحجة أنها أعطته أكثر منها.
الحل المحتمل: الطريقة الأولى: يمكن أن تتجاهل الأم مطالبتهما بالعدل وتؤدي الأمر بالطريقة التي تراها مناسبة.
الطريقة الثانية: أن تبذل جهدها في تحري العدل والمساواة، وتفهم الطفل أن الحياة ليست دائماً عادلة، وأن الأشياء لا تكون متساوية دوماً.
الطريقة الثالثة: أن تصر الأم على التدقيق الشديد في العدل، وبصورة فيها سخرية منهما وبيان لسخافتهما في التنطع في مسألة العدل، فإذا أتى بقطعة حلوى مثلاً فإنها تقيسها لهم بالمسطرة، أو تزنها بالميزان، مع المبالغة في ذلك، ومعظم الأطفال إذا رأوا ذلك يكتشفون فوراً موضع السخرية، ويتلقنون الدرس، ويعرفون أن العدل المطلق أمر صعب.
الطريقة الرابعة: أن تطلب الأم من أحد الطفلين أن يقسم الشيء المختلف عليه، ثم تطلب من الآخر أن يختار، وهذه أيضاً طريقة ناجحة، لكن من أفضل طرق التعامل مع هذه المشاكل -كما نفهم مما تقدم من الكلام- أن نقوم بنقل المسئولية إلى الأطفال، أو نجعل الكرة في ملعبهم كما يقولون، فالمربي إما أن يتبع أسلوب المسئولية الفردية أو يتبع طريقة تحميل الطفل نفي المسئولية، فإذا سلكنا أسلوب المسئولية الفردية حينما يقوم المربي بإسناد حل المشكلة إلى الابن فيسلك أحد الاتجاهين: الاتجاه الأول: يخشى المربي أن تؤثر هذه المشاكل على حياة ابنه، فيتدخل في حمايته فيحرمه التدريب على الأساليب الملائمة لحلها ومواجهتها.
هذا الاتجاه -أن الأب هو الذي يحل المشكلة- تكمن سلبياته في أنه يجعل الابن يعتمد على والديه دون أن يتحمل المسئولية بنفسه في سبيل إيجاد حلول مناسبة، كما أنه يحرم من تحمل المسئولية والصعوبات التي تواجهه؛ لأنه تعود أن تصله الحلول جاهزة دون معاناة، ويحرم من النجاح والخبرة في التجارب الواقعية.
الاتجاه الثاني: أن يحرص الوالدان على تحميله المسئولية ويراقبانه من بعيد.
مثال: حينما يقصر هذا الابن في التعامل مع إخوانه في المنزل، ويتعدى عليهم بالشتم أو الخشونة والضرب نستعمل مهارات التواصل، أولاً: بالتعبير عن المشاعر، ثم بنقل المسئولية، ثم بزرع الثقة.
فنعبر عن المشاعر بأن تقول له: لقد قلت مراراً: إن علاقتك بإخوانك سلبية، ودائماً نحثك على معاملتهم جيداً لكنك تضربهم.
فأنت هنا عبرت عن مشاعرك، ثم تنقل إليه المسئولية فتقول: سأعتبر أن هذا من مسئولياتك.
وأنظر في هذه اللحظة.
ثم تقوم بزرع الثقة وتقول له: عندي قناعة أن لديك قدرة على التعامل مع إخوتك باحترام، ومعرفة السلوك الصحيح في هذا الأمر.(2/6)
أساليب الوقاية من تشاجر الأشقاء وتنافسهم
خير وقت للتدخل في خصام الأطفال هو قبل وقوع الخصام، فعلى الأم أن تكتشف الحدود العادية لقدرتهم في بقاء بعضهم مع بعض في سلام، ثم تحاول أن تفصل بينهم وتبعدهم عن بعضهم قبل أن يصلوا إلى هذه الحدود، ولو أن الأب كان معهم في هذا، وتخصص لهم -أيضاً- الأم أعمالاً منفردة ينشغل بها كل على حدة، بل ربما يصل الأمر أحياناً إلى أن يكون أحدهم خارج المنزل، أو عند أحد الأقارب، أو ربما يصل الأمر أحياناً إلى الفصل بينهم في مواعيد الطعام كنوع من التحكم في زمان ومكان الاجتماع، بأن نخصص لكل واحد منهما مكاناً خاصاً به لا يسمح للآخرين بغزوه.
إذاً هناك مبدءان متداخلان: الأول هو التفريق بين الأطفال بقدر الإمكان.
الثاني: استحضار أن الخصام أمر فطري، وأننا ننتظر بصبر إلى أن يكبروا ويتجاوزوا هذه المرحلة؛ لأن الإخوة يزيد تساهمهم كلما كبروا في السن.
تقول أم: كنت فيما مضى أحاول إيقاف الشجار، ولكني أقلعت الآن عن هذه المحاولات، إن إيقاف خصامهما يشبه إيقاف تنافسهما، ومع ذلك فإني أعتقد أن الزمان كفيل بتخفيف خصامهما والتوفيق بينهما، إنهما الآن وقد بلغ أكبرهما العاشرة يتخاصمان بالكلام أكثر من خصامهما بالأيدي، وإني أنتظر اليوم الذي سيكفان فيه عن الخصام نهائياً.
إذاً الخصام يخف مع التقدم في العمر ويتغير نوعه.
والأساليب التالية يمكن أن تساعد في الوقاية من بعض أشكال التنافس بين الإخوة: - اجعل كل طفل يشعر بأنه محبوب وذو قيمة بذاته.
- عامل جميع الأطفال بعدالة، وتجنب الانسجام والتفضيل الواضح لبعض أطفالك على بعضهم الآخر.
- يجب إشباع الحاجات النفسية للأبناء، كالحب والأمن والطمأنينة والتقدير والمركز والثقة في النفس، مع معاملة الإخوة جميعاً على أنهم متساوون بأسلوب عادل يتسم بالحزم المشبع بالمحبة والعطف والدفء والمرونة.
- هيئ الأطفال لاستقبال المولود الجديد، وذلك عن طريق إخبارهم في وقت مبكر عن توقع ولادة أخ جديد لهم.
- راع الفروق الفردية في جميع مجالات التعامل مع الأطفال.
- اجعل لكل طفل وقتاً خاصاً تقضيه معه بحيث يكون مركز انتباهك.
- زود الطفل بأكبر قدر من الخصوصية.
- علم الطفل احترام الملكية الخاصة في وقت مبكر.
- اعمل على ترتيب نشاطات جماعية متكررة في الأسرة ذات طبيعة مرحة، مثل النزهات والحفلات والألعاب.
- ضع نظاماً واضحاً بحيث تحدد المسئوليات وتوزع الأعمال البيتية بوضوح، من يفعل كذا، ومتى، ووزع المسئوليات بطريقة لا يصطدم الأطفال معها ببعضهم، واعمل على توزيع المهمات بحيث لا يأخذ أحد الأطفال الأعمال الجيدة باستمرار ويأخذ غيره الأعمال القذرة مثلاً دائماً.
- شكل مجلساً للأسرة، وحدد أوقاتاً معينة يلتقي خلالها جميع أفرادها للمناقشة وتبادل الآراء والاستماع للشكاوى والتخطيط، ويمكن للأطفال أن يعبروا عن مشاعرهم في هذه الأوقات، وأن يكونوا على ثقة بأنهم سوف يعاملون بعدالة.
- تجنب الحماية الزائدة للطفل الأصغر في الأسرة.
- لا تجعل أحد الأطفال أباً بديلا يقوم على رعاية الأصغر.
- أكد على أطفالك أن يكونوا متعاطفين مع بعضهم، وأن يهتم كل منهم بما يتركه سلوكه من أثر في مشاعر الآخرين.
إعادة كلام الطفل، فإعادة كلام الطفل وهو يتشاجر مع أخيه وسيلة أخرى يستطيع بها الآباء معالجة المشاجرات التي تشب بين الأبناء، وهاك المثال العملي: فكر أب في طريقة يعالج من خلالها مشاجرة بين ولديه، فوجد أنه عندما أخذ يعيد كلام ابنه الآخر دون أن يصدر حكماً على أحدهما جاء بنتيجة إيجابية، اشتكى حسام البالغ من العمر ثلاث سنوات لوالده ضرب أخيه الأكبر عادل له قائلاً: أبي! عادل ضربني.
قال الأب: عادل! تعال هنا.
حسام يقول: إنك ضربته.
قال: عادل: لا.
حسام يكذب، أنا لم أضربه! قال الأب لحسام: عادل يقول: إنه لم يضربك.
رد حسام: لا.
هو الذي يكذب، أحلف أنه ضربني.
أجاب الأب بحزم وهو يضع قاعدة على أبنائه الالتزام بها: حسناً الضرب أمر غير مسموح به في هذا البيت، هل سمعتما؟ عاد حسام يشد لعبة عادل ليأخذها، قال عادل لأخيه: لا تلمس لعبتي.
أجاب حسام متحدياً: بل سألمسها وآخذها منك.
قال عادل: هذه اللعبة ملكي ولن تستطيع أن تأخذها.
تدخل الأب قائلا: عادل! حسام يريد أن يمسك لعبتك.
قال الأب: حسام! عادل يقول: إنك لن تستطيع أن تأخذ لعبته.
هل يمكنكما أن تحلا مشكلتكما معاً؟ واندهش الأب عندما رأى أن ابنه حسام يحاول أن يحل المشكلة قائلاً: عادل! هل أستطيع أن آخذ لعبتك لدقيقة واحدة.
رد عادل: لا.
هذه اللعبة ملكي.
كرر الأب رد عادل قائلاً: حسام! يبدوا أن عادلاً غير مستعد لإعطائك اللعبة، إذا استعد سيعطيك إياها.
نظر عادل إلى والده من رد فعله، وبعد لحظات قدم اللعبة إلى حسام.
إذاً إعادة الأب لحديث أبنائه جعله يقف موقفا محايداً، وشجع الأبناء على أن يحلوا مشكلتهم دون أن يتطلعوا إلى أبيهم لفك مشاجرتهم.(2/7)
إرشادات مفيدة لتقليل المشاجرات بين الإخوة
هذه -أيضاً- جملة من الإرشادات والأساليب المفيدة لتقليل المجادلات والمشاجرات بين الإخوة في جميع الأعمال: - تجاهل منازعات الأطفال البسيطة حتى يكون تدخلك فيما بعد أكثر فعالية.
- قم بدور الحكم غير المتحيز، ودون إصدار أحكام مسبقة على أحد الطفلين.
- أصدر حكماً عندما يكون لديك سبب للاعتقاد بوضوح أن أحد الأطفال هو الملوم، أو أن الأطفال غير قادرين على حل مشكلتهم بأنفسهم، فقد يكون عليك أن تقوم بدور القاضي.
- كافئ الأطفال كلما استمروا في اللعب دون شجار، وأكد لهم بأنك سوف تستمر في مكافأتهم كلما ابتعدوا عن الشجار فيما بينهم.
- اعزل الأطفال عن بعضهم كلما تشاجروا، خاصة إذا كانوا في حالة تشاحن دائماً ولم تصلح معهم الطرق الأخرى، وقم باستبعاد ما تشاجروا عليه عنهم.
- اجعل من الواضح لأطفالك -باستخدام عبارات مؤكدة- بأنك لن تسمح لهم بإيذاء بعضهم بعضا جسمياً بالضرب، أو بالكلمات كالسخرية والألقاب، وأنك لن تتسامح تحت أي ظرف تجاه استخدام العنف المادي بين أطفالك أو أي شكل من أشكال الإغاظة الهدامة.
- ابذل جهداً جاداً لفهم الأسباب الكامنة وراء الإغاظة الهدامة، واعمل على إنهاء الأسباب الواقعية التي تجعل أحد الأطفال يشعر بالغيرة من طفل آخر.
- اغرس السلوك الديني وآدابه في نفوس الأطفال، وأشبع حاجاتهم النفسية من مشاعر الأمن والطمأنينة في جو من الحب والاحترام.
- حقق العدالة في معاملة الأطفال، فالتفضيل في المعاملة هو من أهم أسباب غرس بذور الغيرة والحقد بين الإخوة وتنشئة بعض الأطفال على النقمة على الوالدين وبعض أفراد الأسرة، والتي قد تنتقل إلى النقمة على المجتمع عموماً.
- تجنب الاهتمام بإبراز الفروق بين الأطفال عن طريق عقد المقارنة؛ لكون الطفل يقارن نفسه عادة بغيره من إخوته من حيث الجنس ذكراً أو أنثى، أو من حيث السن صغيراً أو كبيراً، أو من حيث القدرات العقلية والبدنية، أو من حيث الجمال الطبيعي وغير ذلك.
ولذا فمن الخطأ اهتمام الآباء بالمقارنة بإبراز هذه الفروق، وإن كان لا بد من وضع أفضلية للخلق والتدين والجد في الدراسة.(2/8)
نصائح تربوية عامة
نختم هذا الحديث بنصائح تربوية عامة للآباء تفيد في قضية تشاجر الأشقاء وأيضاً في غيرها إنه من الخطأ أن يتوقع الآباء أن يتصرف الأبناء بعقلية الآباء، فعقلية الآباء هي خلاصة خبراتهم وتجاربهم لسنوات طويلة، وإن نفسية الأطفال تختلف عن نفسية الكبار، ولذلك يجب على الآباء مراعاة ما يلي: - أن تحافظ الأم على هدوئها بقدر الإمكان أثناء ثورة الغضب التي يجتازها ابنها، وأن تشعره بأنها تعلم أنه غاضب، وأن من حقه أن يغضب، ولكن من الخطأ أن يعبر عن الغضب بهذا الأسلوب، وأنه يجب أن يعدل سلوكه ويصبح كالآخرين، أي: يغضب ولكن دون أن ينفعل وينفجر بالبكاء ويلجأ إلى الرفس والضرب، كما عليها أن تؤكد له دائماً أن ما فعله لن يؤثر على علاقتها به، وأنه لا يزال ابنها المحبوب لتعلمه التسامح.
- أن يكون الآباء قدوة حسنة للأطفال، فيقلعون عن عصبيتهم وثورتهم لأتفه الأمور أمام الأبناء، ويعملون جهدهم لضبط النفس قدر الإمكان حتى لا يقلدهم الأطفال، بل ينبغي عليهم استعمال الأساليب التي تلتزم جانب الهدوء والصبر والفهم في مواجهة الأمور وحلها حلاً معقولاً بالطرق السلمية، حتى يتعلم الأطفال مواجهة الحياة بأسلوب مرن حكيم غير انفعالي.
- على الآباء أن لا يذيقوا الطفل حلاوة الانتصار بتحقيق الرغبة التي انفجر الطفل باكياً من أجلها وغضب، ذلك لأن ذلك يشجعه على أن تصبح هذه طريقته، أو وسيلته المفضلة في الحصول على ما يريد.
- يجب أن يكون الآباء حذرين للغاية من ربط بين مصلحة نفعية يكسب منها الطفل امتيازاً عن طريق لجوئه إلى حدة الطبع والغضب السريع، فلا مكافأة إلا عندما يظهر سلوكاً وخلقا هادئاً وطبعاً رقيقاً.
- عدم التدخل المبالغ فيه في حياة الأبناء، وإن من الواجب اهتمام الآباء بهم ورعايتهم الرعاية اللازمة، بشرط عدم التدخل المبالغ فيه في شئونهم الخاصة، فعلى الآباء عدم التدخل المبالغ فيه في حياة الأبناء، كأن يرسموا لهم كيف ينفقون مصروف اليد وينتقوا لهم لون ملابسهم.
- إن تدخل الآباء يجب أن يكون تدخلاً مرناً بأسلوب التوجيه وليس بأسلوب الأمر الذي لابد أن يطاع، إن الطاعة العمياء بمجرد الطاعة تخلق من الطفل فرداً لا شخصية له، وعلى هذا الأساس يجب على الآباء الإقلال كلما أمكن من التدخل في أعمال الأطفال وحركاتهم، حتى لا يشعروا بكابوس الكبار، ويثوروا غضباً، أو يلجئوا إلى العناد، وحتى لا يلجئوا إلى استعمال نفس أساليب الآباء مع إخوتهم وأقرانهم من الأطفال فيتشاجرون، ولكن ليس معنى ذلك أبداً أن نترك الحبل على الغارب، خاصة فيما يتعلق بصحة الطفل أو المحافظة على حياته.
- أيضاً مساعدة الطفل قدر الإمكان في تحقيق رغباته المشروعة، والتنفيس عن مشاريعه المكبوته بمنجزات ابتكارية، وذلك بتحويل نشاط الطفل إلى بعض الهوايات، أو الأشغال اليدوية، أو التلوين، أو اللعب بالطين والصلصال والنجارة وغيرها، واللعب مع رفاق من سنه.
إن الطفل الغضوب هو في الواقع طفل عذبه الشعور بالإحباط والكبت، ومثل هذه الأنشطة تجعله ينفس عن هذا الإحباط، وإن كان قليل من الشعور بالإحباط مفيداً لبناء الشخصية السوية، وكثير منه يؤدي إلى المرض النفسي، لذلك كلما أمكننا مساعدة الطفل على اكتساب الخبرات دون إحباطه كلما أمكنه مواجهة مشاكل الحياة بأسلوب سوي.
- وكذلك عدم التوبيخ، خصوصاً أمام طفل آخر، أو أمام الضيوف، بل لا تجوز مناقشة الطفل أو مشاكله مع غيره على مسمع منه، كما لا يجوز استعمال النقد أو العنف أو الشدة كوسيلة لإرغام الطفل على طاعتنا.
- أيضاً لا يجوز أن نعبث بممتلكات الطفل أو نسمح لغيره من الأطفال بذلك، كما لا يجوز أن نحرمه منها لمجرد غضبنا منه لسبب ما، وفي الوقت نفسه لا نظهر أمامه الضعف أو التراخي أو الإهمال أو الشدة من أحد الأبوين والليونة أو التدليل من الآخر، فكلما كانت سياستنا مع الأطفال ثابتة ومرنة وبدون قلق كلما منعنا نوبات الغضب والعناد والتشاجر عند الأطفال.
- يجب أن يسود الأسرة روح التعاون والود والتسامح، فكلما شعر الطفل بالاستقرار والهدوء النفسي، وكلما وجه نشاطه وطاقته وحيويته وجهة اجتماعية تساعده على تعلم أساليب الأخذ والعطاء وتجعله ينمو نمواً سوياً، كلما كف عن أساليب الطفولة الأولى التي تتميز بالغضب والعناد والتشاجر أحياناً، وعند تشاجر الأطفال من سن متقاربة يحسن -ما أمكن- تركهم ليحلوا مشاكلهم بأنفسهم، وإذا كانت هناك ضرورة لتدخل من الكبار فيجب أن تكون للتوجيه والصلح الهادئ دون تحيز لطفل.
- في الواقع أن الدراسات العلمية أثبت أن كثيراً من حالات الغضب والعناد وكثرة التشاجر عند الأطفال مرجعها في الغالب الآباء أنفسهم، أي أن الآباء كثيراً ما يكونون مصدر هذه المشاكل بسلوكهم الذي يتسم بالحزم المبالغ فيه، والسيطرة الكاملة على الطفل، ورغبتهم في طاعة أوامرهم طاعة عمياء، وبثورة الآباء وشجارهم في المنزل لأتفه الأسباب.
مثل هؤلاء الآباء يجب أن يدركوا أنه من الواجب إصلاح أنفسهم حتى يمكن إصلاح أبنائهم وعلاجهم من مشاكلهم النفسية أو السلوكية كالغضب والعناد والتشاجر، بعبارة أخرى: ينبغي الاهتمام بتربية الآباء قبل الاهتمام بتربية الأبناء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(2/9)
مشاكل الأطفال النفسية
مشاكل الأطفال النفسية كثيرة جداً، ومنها: السرقة، وظاهرة السرقة لدى الأطفال تنشأ عن دوافع عديدة، وهناك عوامل تساعد على ظهورها واستمرارها.
فينبغي للوالدين -إذا رأيا هذه الظاهرة متفشية في أحد أولادهما- أن يسعيا في معالجتها بالوسائل النافعة؛ حتى لا تشب معه فيصعب بعد ذلك انفكاكه عنها!(3/1)
السرقة عند الأطفال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فقد وردت عدة أسئلة من بعض الإخوة، وفيها شكوى في انتشار صورة من صور خيانة الأمانة بالنسبة لبعض الأطفال، وهي: ظاهرة السرقة عندهم، فرأينا أن نلقي الدرس حول هذه الظاهرة؛ لأن معرفتها مهمة للجميع في الحقيقة، سواء من كان عنده أطفال يعانون من هذا الوصف -السرقة- أو من عنده أطفال عوفوا من ذلك أو لما يكبروا، حتى يفهم كيف يمكنه وقاية أطفاله من تلبسهم بهذه الصفة.
فالسرقة بالنسبة للأطفال هي: امتلاك الطفل شيئاً ليس من حقه بعيداً عن عيون أصحاب هذا الشيء وبدون إذنهم، لكن أهم شيء ولا بد أن نلتفت إليه في هذا الموضوع منذ البداية: أن السرقة صفة مكتسبة، فليس هناك طفل يولد مائلاً إلى السرقة، لكن البيئة التي يتربى فيها ويتفاعل معها هي التي تُرسِّخ فيه هذا النوع من الخيانة أو هذا النوع من تضييع الأمانة عن طريق السرقة، فلا بد أن ننظر في الأسباب والدوافع التي تؤدي بالأطفال إلى التلطخ بظاهرة السرقة.(3/2)
أسباب وجود ظاهرة السرقة عند الأطفال(3/3)
الأسباب المباشرة للسرقة لدى الأطفال
هناك أحياناً أسباب مباشرة تدفع الطفل إلى السرقة، فيمكن أن يكون الطفل فقيراً، وتنقصه الاحتياجات الأساسية جائع عطشان يحتاج إلى شيء من هذه الاحتياجات، فهو يسرق ليأكل، بالذات إذا كان هذا الطفل الفقير يخالط أطفالاً من أبناء الأثرياء، فيشعر بالحرمان إذا قرن حاله بحالهم، وهو لا يجد الأكل أو الشراب أو الأشياء الأساسية، فيرى أن السرقة في هذه الحالة تشبع احتياجاً أساسياً، إذاً: السرقة هنا لسبب مباشر كما ذكرنا.
قد يكون من دوافع السرقة إشباع رغبة أو عاطفة أو هواية عند الطفل، فمثلاً: يريد أن يلعب وليس عنده لعبة، أو عنده رغبة في اللعبة التي في يد الطفل الفلاني فيسرقها ليشبع رغبة اللعب، أو يكون الدافع عاطفياً كأن يكون ارتكب خطأً تافهاً فعاقبه أحد الوالدين عقوبة شديدة لا تتناسب مع حجم هذا الخطأ، فيبدأ يسرق كوسيلة من وسائل الانتقام من الوالدين، أو الانتقام من المدرس إن كان هو الذي عاقبه بأكثر مما يستحق.
ومن الدوافع: فقدان حب الأسرة؛ لأن الأسرة قد تخل في إشباع هذا الطفل من الناحية العاطفية بالحب والحنان ونحو ذلك، كأن تكون الأسرة لا تتمنى وجود هذا الطفل في الحياة لسبب أو لآخر، فإذا كان الطفل غير مرغوب فيه فهذا ينعكس على سلوكيات الآباء نحو هذا الطفل بالذات، وبالتالي لا يبذلون له الحب أو الحنان أو العاطفة التي هي من حقه، فيشعر الطفل بأنه منبوذ.
قد يكون من الدوافع: شعوره بأنه قادر على النيل من أعدائه، أو الأولاد الذين يغيظونه أو يعادونه، فعندما يسرقهم يشعر بالانتصار؛ لأنه استطاع أن ينال منهم، ويدعِّم توكيد ذاته، وخاصة إذا كان غير محبوب من زملائه.
كذلك عندما يكون زملاؤه لا يحبونه ويؤذونه وهو مستضعف بينهم، فربما يسرق ليهدي إليهم الهدايا، فيحصل على حبهم أو على عطفهم، فيمكن أن يكون الدافع: أن يرغب في كسب زملائه، فيسرق كي يعطيهم الهدايا.
ويمكن أن يكون هذا الطفل فاشلاً من الناحية الدراسية، فيبدأ يسرق كنوع من التعويض عن هذا الفشل.
قد يكون هناك نوع من سوء التوافق الاجتماعي؛ لأن سلوك (الشلة) المحيطة به من أصدقائه منحرف، فيأخذ منهم هذه الأخلاق.(3/4)
العوامل المساعدة على تفشي السرقة لدى الأطفال
هناك عوامل مساعدة على تفشي السرقة إلى جانب هذه العوامل التي أشرنا إليها، ومنها: نقص شعور الطفل بالأمن والاستقرار، وهذا طبعاً يكون بسبب وجود تغير في معاملة الوالدين أو تفكك الروابط الأسرية، كأن يولد أخ أو أخت لهذا الطفل، فيرى أن الاهتمام كله انتقل منه إلى هذا الأخ الجديد المولود حديثاً؛ فيبدأ يغار منه بسبب ما يلحظه من التغير في معاملة الوالدين مما يؤثر في شعوره بالأمن والاستقرار.
كذلك أيضاً: تفكك روابط الأسرة التي تجعل الطفل يبدأ يشك في حب الوالدين له، وبالتالي تحصل السرقة كرد فعل لهذا الحرمان، أو يفعل ذلك محاولاً استعادة الشعور بالأمان الذي فقده في هذه الأم أو هذا الأب.
كذلك من العوامل المساعدة على سلوك السرقة: التدليل الزائد، كأن يكون الطفل الأول أو يكون هو الطفل الوحيد فيتعود بسبب التدليل الزائد على أن كل طلباته تجاب، فيصبح الطفل الصغير هذا ملكاً غير متوج، فيبقى هو الآمر الناهي، وكأن من علامات الحب له أن تكون كل طلباته مجابة، والتدليل لا بد منه لكننا نتكلم عن الغلو فيه أو الإفراط فيه، طبعاً الطفل في هذه الحالة يصل إلى مفهوم معين فيفهم أن كل شيء يطلبه يناله، ففي هذه الحالة يفهم أن الحياة والتعامل مع الناس قائم على الأخذ فقط، فإذا كبر يصطدم بأن الحياة هي في الحقيقة أخذ وعطاء، وربما كان العطاء أكثر من الأخذ.
ونلفت النظر إلى شيء مهم جداً، بالذات حينما توجد المشاكل بين الزوجين، وتكون العلاقات متوترة، والنزاعات مستمرة، ولا يوجد تفاهم بين الزوجين، وبالذات عندما تظهر هذه الأشياء أمام الأطفال، ويدفع الجميع الثمن، وأولهم الطفل الذي هو ضحية النزاعات بين الأبوين، أو التضارب في القيادة التربوية، الأب يقول له: اعمل كذا، والأم -لكي تعاند الأب- تقول: لا تعمل، فيحصل الخلاف ويشعر الطفل بهذه الأوضاع، فنقول: إن هؤلاء الآباء أحياناً إذا طلب من أحدهم أن يضحي بأي شيء مادي في سبيل إسعاد هذا الطفل البائس فهو يقول: أنا مستعد أن أدفع أموال الدنيا! فنقول له: حتى لا يشقى ابنك ويصبح ضحية لن يكلفك الأمر أموال الدنيا، ولن يكلفك أموالاً على الإطلاق، وإنما يكلفك أن تتغلب على المشاكل التي بينك وبين زوجتك لمصلحة هؤلاء الأولاد، قد يصل العناد أحياناً ببعض الآباء إلى أنه لا يكون مستعداً لفعل مثل هذه الخطوة، ولا يدرك خطورة الثمن الفادح الذي سوف يدفعه هؤلاء الأولاد.
إذا كان الأبوان مستعدين للتضحية بأي شيء في سبيل إسعاد الابن والابنة، فالأولى لهما أن يضحيا بعلاج هذه المشاكل بسلوك مسلك سليم في التعامل أمام الأولاد، وإصلاح ما بينهما من التفكك حتى لا ينعكس على نفسية هؤلاء الأولاد، فهذا هو لب العلاج، بالذات في الأسرة التي توجد فيها مشاكل بين الأبوين، وبالتالي يكون الأولاد هم الضحية!(3/5)
أنواع السرقة
عند الكلام عن السرقة من المهم أن نتكلم عن أنواعها؛ لأن السرقة لها أنواع كثيرة، فهناك سرقة ذكية، وهناك سرقة غبية، فالذكية يصعب كشفها، لكن السرقة الغبية: تكون نتيجة عن كون الطفل مبتدئاً في هذا الموضوع وصغيراً، فيبدأ السرق بطريقة غبية بحيث تكتشف السرقة بسهولة.
كذلك يجب أن نفرق بين السرقة العارضة والسرقة المعتادة، فالسرقة العارضة: تنشأ نتيجة التحريض على السرقة أو قليل من الإغراء، فيقدم على هذا السلوك ثم يرجع عنه؛ لأن هذا نتيجة شيء عارض، لكن السرقة المعتادة: أن تصبح السرقة لديه عادة متكررة لا يرجع عنها.
فإذاً: نحتاج إلى أن نعرف نوع السرقة، هل يسرق الطفل لإشباع حاجة أساسية كأن يكون جائعاً وليس معه مال ليأتي بطعامه، فيدخل محلاً -مثلاً- ويسرق شيئاً يأكله؟ فهل السرقة للحاجة أم أنها للمباهاة؟ فعندما نعرف السبب فإن ذلك يساعدنا على علاج هذه الظاهرة، فإذا كانت السرقة نتيجة أنه لا يعطى المصروف مثلاً أو لا يأخذ طعاماً فلابد إذاً أن توفر له الاحتياجات الأساسية؛ حتى لا يسلك هذا المسلك، فهناك سرقة للحاجة، وهناك سرقة للمباهاة، أي: أنه يريد أن يفتخر أمام أصدقائه فقط، فهذا نوع من حب الظهور عند الطفل في أن يظهر عند زملائه أنه استطاع أن يفعل هذه السرقة.
وهناك سرقة فردية وسرقة جماعية، فالجماعية: أن يشترك مجموعة في السرقة، والفردية: أن يسرق بمفرده، لكن السرقة الجماعية هي جزء من عصابة من الأطفال السراق، فهذا معه عصابة وعمل جماعي، وكل واحد له دور محدد يؤديه.
أيضاً: هناك فرق بين السارق المحترف والسارق الماهر، فالسارق الماهر يتميز بالذكاء والمهارة واللباقة وسرعة البديهة، أما السارق المحترف فهو يكون عنده مهارات مميزة جداً في الناحية العقلية والجسمية والحركية، كخفة اليد والأصابع وسرعة حركتها إلى آخره.
كذلك يكون عنده هدوء أعصاب، وهذه الحالة تكشف أنه محترف ومتمكن جداً في السرقة، بل ربما يتظاهر بالأدب والتأنق والمودة والاحتشام ومساعدة الغير؛ حتى يسهل وقوع الفريسة في الفخ!(3/6)
أسباب نشوء ظاهرة السرقة عند الطفل
السرقة كسلوك منحرف تبدأ في سنوات الطفولة المبكرة، لكن ذروتها تكون في سن خمس إلى ثمان سنوات، ففي الخمس السنوات الأولى من الخطأ الشديد أن تعامل الطفل بعقليتك أنت؛ لأنه في البداية لا يدرك أنها سرقة، وأيضاً من الخطر الشديد أن تدعو الطفل بلقب أو تعلق له شارة: حرامي، لص، وتناديه: يا حرامي! يا لص! فإن إخوانه سيعيرونه به، وهذا الأمر له أضرار في غاية الشدة.(3/7)
عدم فهم الطفل في سنه المبكرة لمفهوم الملكية الخاصة
وننبه هنا على نقطة مهمة جداً، وهي: أن طفلك ليس مثلك، عقلك ليس كعقله، أي: أن المفاهيم التي عندك ليست نفس المفاهيم التي عنده، ففي الخمس السنوات الأولى من عمر الطفل تسمى السرقة سرقة بريئة فهو يستحوذ على الأشياء التي لا تخصه بصورة تلقائية، يرى اللعبة في يد واحد آخر، أو يعجبه شيء فيريد أن يكون بحوزته، وهذا نوع من التلقائية في التصرف، هو ليس قاصداً السرقة، ولا يعرف أن هذه سرقة ولا شيء من ذلك فهو يستحوذ على ما لا يخصه تلقائياً؛ بسبب أنه لم يحقق النضج العقلي والاجتماعي الذي وصله إلى عملية التمييز بين ملكيته الخاصة وبين ملكية غيره، ففي الخمس السنوات الأولى أصلاً لم يقف على هذا المفهوم، وهو: معرفة حدود الملكية، وأن هناك شيئاً يخصني وشيئاً يخص غيري، وعليّ أن أحترم ملكيته بحيث لا آخذه قسراً، وإن كان لابد أن آخذه فأستأذن صاحبه.
المشكلة تكمن فيما لو بدأ بالسرقة بعد سن خمس سنوات؛ لأن هذا يعد سلوكاً مرضياً ولا بد من مواجهته.
إذا استمرت بعد خمس سنوات حتى امتدت إلى سن العاشرة فغالباً يكون هناك اضطراب انفعالي، ولا بد أن يعالج هذا الطفل.(3/8)
جهل الطفل بمعنى الملكية الخاصة
من أسباب السرقة: هو جهل الطفل بمعنى الملكية الخاصة، وبالتالي أنه ما دام ليس عنده مفهوم الملكية الخاصة، فإنه لن يستطيع أن يميز بين ما يملكه وبين ما لا يملكه.(3/9)
عدم اهتمام الطفل في سنه المبكرة بنظرة المجتمع إليه
كذلك هو لا يدرك أن هذا أمر سوف يحاسب عليه.
كذلك لا يكون عنده نضج بحيث لا يهتم بنظرة المجتمع لسلوكه، وهذا السبب حينما نفهمه نستطيع أن نعالجه بطريقة صحيحة؛ لأننا ننمي فيه أنه سيحاسب على السرقة، وأنه آثم، والأمانة فضيلتها كذا وكذا، فنبدأ بالعلاج فنغرس فيه خلق الأمانة، والترغيب فيها، والترهيب من الخيانة والسرقة، وإيقاظ الشعور بأن الإنسان محاسب على تصرفاته.
كذلك نغرس فيه العناية بنظرة المجتمع إليه؛ حتى ينمو اجتماعياً بطريقة سليمة، ويضع في اعتباره أيضاً رد فعل الناس من هذا السلوك، بحيث لا يتبجح بالخروج على المعايير الصحيحة في المجتمع.
أحياناً تكون السرقة عملية رمزية يعوض فيها عن حرمانه من الحب أو الحنان الأبوي؛ لأنه لا يحس أن أحداً يهتم به أو يحترمه أو يوده.(3/10)
أثر الوالدين وعلاقتهما بالطفل على نشوء ظاهرة السرقة عنده
قد يكون أحد الأسباب التي تدفع الطفل إلى عملية تعويض الحرمان غياب أحد الأبوين؛ كأن يسافر مثلاً فترة طويلة أو يُسجن، أو يتوفى أحد الوالدين أو نحو ذلك.
أيضاً: قد يكون السبب الحاجة أو الفقر أو الحرمان، فيسرق ليسد رمقه، وفي هذه الحالة الدافع يكون قوياً بحيث لا يدعه يفكر في عاقبة السرقة، فهو يريد أن يأكل فقط؛ لأنه جائع وليس مستعداً لأن يفكر في العاقبة.
أحياناً تكون السرقة علامة تكشف عن وجود توتر داخلي في هذا الطفل، غالباً يكون اكتئاباً من شيء معين، كأن يكون ناتجاً عن كثرة الصراع بين الأبوين، واستمرار المشاكل بينهما، واطلاع الطفل على هذه الأشياء، وهو لو لم يطّلع فإنه يُحس بها على الأقل.(3/11)
الجو الأسري المتقلب والمضطرب
أيضاً من هذه الأسباب: الجو الأسري المتقلب والمضطرب؛ لأن جو الأسرة حين يكون متقلباً ومضطرباً نتيجة العلاقة السيئة بين الوالدين؛ فمن المتوقع أن الرقابة الأسرية تنعدم، ويحصل فيه تساهل من النواحي التربوية، وبالتالي فلا يستطيع الطفل في ظل هذه البيئة المريضة أن يتعلم التحكم في رغباته، وبالتالي يفقد الأمن والحنان.(3/12)
سلبية الأبوين وأثرها في تكريس ظاهرة السرقة عند الطفل
أحياناً يكون هناك إقرار من الوالدين أو أحدهما على سلوك السرقة، كأن تعرف الأم أن الولد سرق شيئاً فلا تبالي -علماً بأن سلوك السرقة عند الطفل يبدأ من داخل البيت، قبل أن يخرج للمجتمع- وتقول: ما دام أنه يسرق في البيت فليست مشكلة، المهم ألا يفضحنا أمام الناس، ولا يشوه سمعة الأسرة، فعدم المبالاة هذه تدعم فيه هذا السلوك المنحرف.
أحياناً يأتي الطفل وقد سرق شيئاً من زميله: كقلم، أو مسطرة، أو كراسة، فيقابل في البيت بنوع من الدعابة والمزاح والاستحسان أحياناً، فهذا الفعل سيدعم فيه هذا السلوك، فهو في أول الأمر يؤخذ بصورة الدعابة ثم ينتهي بأنه يصبح عادة متأصِّلة في هذا الطفل.(3/13)
أثر الممارسات الخاطئة عند الأبوين على نمو ظاهرة السرقة عند الطفل
من هذه الأسباب: البيئة المتصدعة، فبعض الأسر يكون فيها نوع من التصدع واهتزاز القيم، فالأب مدمن منحرف السلوك، أو محترف للسرقة، فهذه البيئة يتشرب منها استحسان هذا الفعل، وأنه إذا نجح في السرقة سيشعر بلذة القوة ونشوة الانتصار.(3/14)
المبالغة في الاحتياطات الأمنية لحفظ الأشياء مما يثير حب الاستطلاع لدى الطفل
من الأسباب أيضاً: سلوك الوالدين -وكلمة الوالد تطلق على الأب وعلى الأم على حد سواء- فإذا بالغ الوالد في الاحتياطات الأمنية لحفظ الأشياء سواء كانت غالية أو رخيصة، فإن ذلك سيثير عند الطفل حب الاستطلاع والحرص على اكتشاف السر، فالتكتم الشديد أو الاحتياط الشديد حتى في الأشياء التافهة يعطي الطفل دافعاً على أنه استطاع أن يصل إلى الشيء المخبأ سواء كان طعاماً أو غيره، ويجد في ذلك نوعاً من اللذة الكبيرة، وبالتالي تزرع فيه نواة (أيدلوجية) السرقة بدون قصد، لأنه إذا حرص على حب الاستطلاع والاستكشاف والاجتهاد في كشف هذا السر وإذا استطاع أن يسرق هذا الشيء سيعاقب، فإذا عوقب يعود من جديد للسرقة، لكن هذه المرة بدافع الانتقام والتشفِّي، ولسان حاله يقول: سأثبت لكم أني أستطيع أن أسرق مرة ثانية.(3/15)
القدوة السيئة وأثرها في ممارسة الطفل للسرقة
كذلك القدوة السيئة كالأب أو الأصدقاء أو الإخوة كأنموذج مستحسن، ويكون أحدهم سارقاً، ثم يجيء فيحكي أمام الأولاد كيف أنه خدع صاحبه، أو كيف أنه أخذ منه شيئاً من غير أن يحس، ففي هذه الحالة سيقدِّم أنموذجاً يحتذى به، كذلك رد فعل الأسرة حينما يسرق الطفل شيئاً من أحد زملائه في المدرسة فمن المفترض أن يقوم الوالدان بالتحري عن هذا الأمر، واغتنام تلك الفرصة لتفهيمه حدود ملكيته وملكية غيره، وتحريضه على إعادة هذا الشيء إلى صاحبه.
قد يكون أحياناً من أسباب السرقة الابتزاز، خاصة إذا كان للطفل قدرات عقلية فوق المتوسط، فبعض الناس قد يبتزونه حتى يقوم بالسرقة ويؤدي إليهم ما يسرقه.(3/16)
إسراف الوالدين في العقوبة دون النظر إلى دافع السرقة
كذلك إسراف المربي في العقوبة دون النظر إلى الدوافع التي دفعت هذا الطفل إلى السرقة، وفضيحته أمام الناس وأمام الآخرين: هذا حرامي هذا لص هذا سارق فإذا كان هذا الطفل عنيداً سيستمر في التحدي، ويتمادى في هذا السلوك.
إذاً: السرقة أو خيانة الأمانة هي في الحقيقة سلوك اجتماعي مكتسب لا يمكن أبداً أن يظهر بدون سبب! هذه فطرة سليمة، صعب جداً أن يصدر منها شيء تلقائي مثل هذا، لكن هي ستكتسب من الجو المحيط بهذا الطفل والذي ينشأ فيه.(3/17)
وسائل علاج ظاهرة السرقة عند الأطفال(3/18)
ترسيخ مفهوم الملكية الخاصة والعامة في محيط الطفل
من أهم العلاجات في هذه الحالة: تكوين اتجاه إيجابي واتجاه سلبي، اتجاه إيجابي من ناحية الأمانة، فنرسخ فيه مفهوم الأمانة وندعمه، وفي نفس الوقت ننشئ عنده اتجاهاً سلبياً من ناحية السرقة، وذلك يكون باحترام حقوق الطفل فيما يملكه من لعب ومن أدوات خاصة.
ومن الخطأ التربوي أن تكون الأشياء مشاعة للجميع في البيت، فلا نقول للطفل: العب أنت وإخوانك، وهذه اللعبة لكم كلكم، بل يجب أن نخصه بلعبة حتى ننمي فيه احترام الملكية الخاصة وملكية الآخرين، وبالمقابل يمكن أن تكون هناك أشياء مشتركة لا يستطيع أن يلعبها إلا بمشاركة الآخرين، فمثلاً: الأرجوحة التي يلعب فيها اثنان لن يقدر أن يلعب بها إذا كانت بمشاركة آخرين، وهذه اللعبة تعتبر تربوية؛ لأنها تنمي الروح الجماعية عند الطفل.
فمن الأمور المهمة جداً: أن نحترم حقوقه فيما يملكه، سواء كانت لعباً أو أدوات خاصة، أو فرشاة أسنان أو ملابس خاصة به.
كذلك عندما يأتي الأب ويفتح حصّالة ابنه، ويأخذ منها المال بدون إذنه، وبدون أن يردها إليه، ففي هذه الحالة هذا الطفل أتوقع أنه سيكره الأمانة، ويمكن أن يفهم أن السرقة شيء مشروع إذا كان أبوه أخذ منه ماله، ففي هذه الحالة إن كان ولا بد فعلى الوالد أن يستأذن الولد أولاً كنوع من التدريب، ويعده أنه سوف يرد إليه هذا المال، ثم يرده بالفعل؛ حتى يشعره أن هذه ملكيته الخاصة، وأنه ليس هناك مَنْ سيعتدي عليه.(3/19)
وجود القدوة الحسنة في حياة الطفل والمتمثلة في الوالدين
كما أشرنا إلى أن الوالدين هما قدوة حسنة وأسوة يحتذي بها الطفل، فهو يمتص من الوالدين مواقفهما، إذ ليس هناك شيء اسمه حصة التربية، ولن يحضر الوالد في وقت معين ويقول لولده: تعال لكي أربيك، فهو في الليل والنهار يتربى بسلوكيات الأب وسلوكيات الأصدقاء، وسلوكيات الإخوة، والإعلام فهذه كلها تصنع الطفل، فالتربية ليست وظيفة لها وقت دون وقت آخر، وإنما في كل السلوكيات هو يتربى؛ لذلك ينبغي للأب والمربي أن يكون في غاية الحذر من تصرفاته أمام الأطفال؛ لأنهم يتلقنون منه سلوكياتِهِ شاء أم أبى، فعندما يأتي شخص يتصل بالهاتف يسأل عن الأب فيقول الوالد لابنه: قل له: إنه ليس هنا، فيقول: إنه ليس هنا، فنكون حذرين جداً من هذا السلوك!! إن الطفل يمتص من خلال السلوكيات التي يراها أمامه أسوة، فيرى موقف الأب والأم من احترام حقوق الآخرين ويقلد ذلك السلوك، فلو سمع مثلاً أن أباه استولى على أموال إخوانه الصغار بعدما مات جده مثلاً، وأنه تمكن من نهب هذه الأموال، ويحكيها كذكاء أو مكسب، فهذا يعتبر درساً، والوالد هنا قدوة، فلا يعاتبه بعد ذلك إذا فعل نفس الشيء.(3/20)
إشاعة روح التعاون والتضحية في حياة الطفل
كذلك إلى جانب تنمية الشعور بالملكية الخاصة لا بد أن ينمى في الطفل روح التعاون، والأخذ والعطاء مع الآخرين، صحيح أن تقول له: هذه الأشياء ملكك أنت، هذه لعبك هذه ملابسك هذه أدواتك، لكن في نفس الوقت تقول له: عندما يحتاج أخوك منك شيئاً ويستأذنك عليك أن تعطيه، أو تقول له: حين تجد صاحبك محتاجاً إلى شيء كطعام مثلاً أو أدوات فعليك أن تعطيه.
كل هذا الفعل حتى ننمي فيه روح التعاون مع الآخرين، بحيث لا يتطور موضوع الملكية الخاصة إلى درجة من درجات الأنانية، فلابد أن يتدرب على التمييز بين الشيء الذي يملكه، والشيء الذي يملكه غيره، ونحن نعرف أن هناك غريزة حب التملك، وهي غريزة من غرائز البشر، فهذه الغريزة قوية في كثير من الأطفال، بل لديهم ميل إلى ادعاء ملكية أي شيء يحبونه، يقول: هذا لي، بالرغم من أنه ليس ملكه، لكن لأنه أحبه فهو يريد أن يستحوذ عليه، لكن يجب أن نضع له الحدود ونقول له: ليس كل ما تحبه يكون ملكك، بل لا بد أن تنظر هو ملك من؟ وكيف يمكنك امتلاك هذا الشيء؟ وهذا مثال في إشاعة روح التعاون بدلاً من الأنانية: إذا أراد الطفل أن يلعب بلعب أخيه، نقول: استأذن أخاك أولاً؛ لأنها ملكه هو، فإن أذن لك العب معه، وبالمقابل شجع أخاه وقل له: أعطه اللعبة؛ لأنكم إخوة وأنت كذا إلى آخره، فهو لن يتنازل عن ملكيته الخاصة قهراً، وإنما سيتعود على الأخذ والعطاء بالتراضي بين الاثنين، لكن لو أن كل الأشياء ملكيتها مشاعة بين الأولاد كلهم فسيحصل اختلاط الأدنى والأقصى، وسيختلط عليه الأصل، وبالتالي السلوك الذي تعلَّمه داخل البيت: أنه ليس هناك شيء اسمه ملكية خاصة، سينقله إلى خارج المنزل في المجتمع، فيكون كلما أراد شيئاً يأخذه، حتى لو لم يكن ملكاً له؛ لأنه لم يتعود في البيت على احترام الحدود بين ما يملكه هو وما يملكه الآخرون.(3/21)
عدم التعجل في اتهام الطفل بالسرقة وتقصي ملابسات قيامه بهذا الفعل
الأمر المهم ألا نتعجل في وصم طفل بالسرقة، ولا ينفع أن تعلق عليه وتصفه بالكذب، وتقول: تعال يا كذاب، اذهب يا كذاب! فأنت بهذا تحطمه، فكل طفل يخطئ، أنت عندما كنت في نفس سنه أكيد أنك كنت ترتكب نفس الأخطاء، فكوننا نصم الطفل بالسرقة وهو في مرحلة التكوين هذا فيه نوع من الظلم، وزيادة المشكلة وليس حلها، فالسرقة عندما تحصل من الأطفال قبل سن الخامسة لا تكون سرقة بالمعنى المفهوم عندنا، فإذا حصل عندنا شك في أن هذا الطفل يسرق فلا بد أولاً: أن يحصل نوع من المراقبة لسلوكه لبضعة أيام؛ حتى نحدد متى يسرق؟ وماذا يسرق؟ وهل يأخذ الشيء معه عندما يسرق أم يتركه؟ هل يحتفظ به أم يجلس بجانبه؟ عندما يسرق هل ينظر إن كان أحد يراه أم لا؟ هل يضع الشيء المسروق في جيبه أم يمسكه في يده؟ هل يخفي الشيء المسروق في مكان معين؟ هل يعترف بالسرقة عندما يستجوب أم أنه ينزعج؟ هل يقول: هذا ملكي يخصني، أم أنه يقول: إنما أخذته بالصدفة؟ وهل عندما يأخذ شيئاً يعيده إلى صاحبه أم أنه يرفض؟ وهل يسرق أشياء صغيرة تدخل في الجيب أم أشياء كبيرة، أم يسرق أجزاء من أشياء كبيرة؟ هل يسرق ممتلكات زملائه أم أدواتهم المدرسية أم يسرق طعاماً أم نقوداً؟! وكما أشرنا لا بد أن نعرف هل السرقة عارضة أم أنها متكررة؟ لأنها لو كانت متكررة فستكون بداية احتراف، ويكون هذا مشروع مجرم في المستقبل.
هل هو في سلوك السرقة يقلد أشخاصاً آخرين أم لا يقلد؟ هل السرقة تؤدي وظيفة نفسية معينة أم تسد بعض احتياجاته التي أشرنا إليها من قبل؟(3/22)
عدم المبالغة في ترك المال في متناول الطفل
بعض الناس يجعل المال متاحاً للطفل ليسهل عليه الوصول إليه، حتى إن بعض الآباء -جهلاً منهم- يقول: أنا أرمي المال تحت قدميه؛ كي يتحصن من السرقة ولا يفكر فيها.
طبعاً هذا خطأ، والمثل العامي يقول: (المال السائب يعلم السرقة) فالمال المتاح يكون فيه نوع من الإغراء، والطفل ليس عنده النضج الكافي ليقاوم إغراء المال خاصة إذا كان محتاجاً إليه، ففي هذه الحالة المال يوضع في مكان محفوظ.
وهذا لا يتعارض مع ما قررناه سابقاً من خطأ بعض الآباء عندما يبالغون في حفظ كل شيء حتى الأشياء التافهة؛ لأن ذلك يغرس فيه حب الاستطلاع ليستكشف هذا الشيء، لكن كلامنا هنا على أن المال يكون متاحاً بصورة سهلة جداً، والذي يقول: أنا أرمي المال تحت رجليه؛ حتى يتحصن من السرقة، فهذا سوف يؤدي إلى انعدام الدافعية لتحصيل المال عندما يكبر؛ لأن المال تحت رجليه طوال العمر، فإذا كبر سينعدم الدافع لكي يجتهد في تحصيل المال، ويؤدي أيضاً إلى أنه يستهين بصرف المال في الأوجه المفيدة، والطفل إذا رأى المال أمامه طوال الوقت فإنه في هذه الحالة ستدخل عليه الوسوسة ليقدم على السرقة بطريقة تدريجية.
في بعض الأحيان يحصل نوع من التدعيم للسلوكيات المنحرفة، فمثلاً: يعود الطفل على الغش في حياته اليومية، كما حصل من بعض المدرسين: حيث قام الأولاد يغشون في الامتحان، ويتناقلون الأوراق مع بعضهم البعض، والمراقب يقول لهم: لا بأس! لا بأس! فنحن كنا نعمل مثلكم، فطبعاً هذا تدعيم للسلوك المنحرف، فالولد يرجع إلى البيت ويقول: كان هناك غش في اللجنة، فيستحسن الوالدان ذلك باعتبار أنه فك الأزمة التي هو فيها عن طريق الغش، فهذا تحطيم للطفل، بل بالعكس! يجب أن تقول له: إذا سقطت في الامتحان أهون عندي من أن تغش؛ لأنك ستحترم نفسك وأنت كذا وكذا!! فمن وسائل تدعيم سلوك التعود على الغش في الحياة اليومية أن يقوم الأب بمدح ابنه لمهارته في الغش في الامتحان أو ما شابه ذلك.
فتكوين صفة الأمانة يتم في السنوات الأولى من حياة الطفل، فنستغل دائماً أي فرصة يعتدي فيها الطفل على ملكيات الآخرين ونوجهه إلى ما يجب عمله في مثل هذه المناسبات: هذه ليست ملكك، هذا ملكه هو، ولا بد أن تذهب إلى زميلك وترجع إليه المسطرة أو ترجع إليه القلم إلى آخره.(3/23)
معرفة أسباب نشوء ظاهرة السرقة عند الطفل تساعد على منع تفاقمها
بالنسبة لعلاج السرقة إذا كان السبب واضحاً فعلاجه يكون سهلاً جداً، كأن تكون السرقة ناشئة عن وجود خلاف بين الأبوين، فيحصل عند الطفل اكتئاب، وكثير من الآباء يظنون أن هذا الطفل لا يفهم شيئاً، بل بالعكس فإن الطفل يدرك وجود خلاف بين الوالدين، وكذلك فإن وجود الخلاف بين الوالدين وبين الطفل وسوء معاملته يعد من الأسباب، فإذا حددنا السبب سهل العلاج عن طريق علاج السبب نفسه.
طبعاً إذا استمرت السرقة بعد سن العاشرة فهذه مصيبة كبيرة؛ لأن هذا سلوك مرضي منحرف، فالطفل بعد سن العاشرة المفروض أنه يبدأ عنده نمو الوازع الخلقي، أما قبل ذلك فإن موضوع الوازع لا يكون قوياً عنده، وفي نفس الوقت الطفل يبدأ بالابتعاد عن أن يتمركز حول نفسه، ويبدأ يمتنع عن الإشباع الفوري للدوافع إذا وصل إلى مرحلة النضج، وبالتالي: فيفترض أن تقل السرقة بعد سن العاشرة أو تنعدم، لكن إذا استمرت السرقة مع نمو الوازع في نفسه ومع القدرة على الامتناع عن الإشباع الفوري للدوافع، وعدم التمركز حول الذات، فهذا مؤشر في غاية الخطورة كما ذكرنا سابقاً.
فمن الأمور المهمة جداً غرس القيم الإسلامية والخلقية والتفريق بين الحلال والحرام وتنمية هذا الوازع.(3/24)
ملخص لوسائل علاج ظاهرة السرقة عند الأطفال
نلخص باختصار شديد العلاجات المفروضة لمن لاحظ موضوع السرقة في الطفل:(3/25)
معالجة الحرمان المادي وترسيخ مفهوم الملكية الخاصة والعامة
معالجة الحرمان المادي بتوفير الضروريات اللازمة لهذا الطفل؛ كالأكل والشرب والملابس، وغيرها من الاحتياجات الأساسية التي لابد من توفيرها له.
أيضاً: إشباع ميله إلى التملك والاستحواذ، وهذه يسمونها: (غريزة حب التملك) وهي فطرة في الإنسان، فيجب أن تشبع عنده غريزة حب التملك، بأن تبين له أن هذا الشيء ملكه، وأنه ليس مشاعاً بينه وبين إخوانه، فكما أنه يوجد أشياء مشاعة فأيضاً لابد أن يكون له أشياء خاصة به، فلا بد من علاج الحرمان المادي بتوفير الضروريات اللازمة للطفل وإشباع ميله إلى التملك والاستحواذ.
أيضاً: احترام ملكية الطفل، وتعليمه احترام ملكية الغير، فإذا ظهرت ظاهرة السرقة لا بد من التعامل الحازم والمباشر والسريع معها، فإذا أحضر شيئاً من صاحبه ليس ملكه، أو أحضر معه شيئاً من المحل رغم أنه ليس معه مال، فلا بد من تنبيهه إلى الخطأ الذي عمله، فنقول له: هذا خطأ، ولا بد أن تعيد هذا الشيء إلى صاحبه، وإن أخذ شيئاً من المحل وأكله مثلاً، فلا بد أن يأخذ المال بنفسه ويعطيه لصاحب المحل.
أيضاً: يمكن أن نعلمه الاحترام لملكية الآخرين بأن نأخذ شيئاً من خصوصياته -لعبة مثلاً- ونعطيها لطفل آخر، طبعاً هو سيثور، فعندها نفهمه ذلك قائلين: إنك غضبت لأننا أعطينا غيرك ما هو ملكك من غير أن نستأذنك، فنفس الشيء بالنسبة لك: إذا أخذت من أحد من الناس أو من أحد أصحابك أو من أحد إخوانك شيئاً يملكه هو فتكون بذلك أخذت ما لا تملكه، لكن هناك طريقة للحصول على الأشياء: إما أن يعمل الإنسان عندما يكبر ويحصل على المال، ويبدأ يشتري الذي يريده، أو أنه يستأذن صاحب هذا الشيء في استعماله.
في نفس الوقت يمكن أن تكافئه إذا أنجز عملاً ما، كأن تقول: أنت عملت الشيء الفلاني، أنا أكافئك بأن أشتري لك هذه اللعبة؛ حتى تحسسه أن هناك مقابلاً، ليس مجرد أخذ وأخذ وأخذ، بل هناك أخذ وعطاء، فيمكن أن تطلب منه فعل شيء كأن تقول له: ساعد والدتك في الشيء الفلاني، أو اقض الأعمال الفلانية، وتذكر له مهمة بسيطة لمجرد أن تفهمه أن هناك مقابلاً، يعني: الإنسان عندما يحب أن يحصل على شيء فليس بمجرد أنه يتمناه يحصل عليه، أو يستولي عليه، لابد أن يتعب للحصول عليه.
أيضاً: لا بد من ممارسته للملكية الفردية والعطاء لأقربائه، فمثلاً: نقول له: (السندويتش) ملكك، لكن إذا وجدت صديقك جائعاً، أو يريد أن يأكل معك أعطه منها، أو أعطه شيئاً من الحلوى، وتقول: هذه لأجل أن تعطي صديقك، وهذا الفعل من الوالد يعود الطفل على العطاء، فلا بد من أن يمارس الطفل الخصوصية في الأكل، والملابس، واللعب، لكن لا تصل الخصوصية إلى حد الأنانية والجشع.
كذلك نعوده أنه إذا أراد شيئاً من خصوصيات الآخرين أنه يستأذن صاحبه، فهناك طفل أحياناً تكون الأنانية متمكنة منه بحيث إنه يأخذ أشياء الآخرين، فتقول: لا بد أن ترجعها لصاحبها، فيغضب وينفعل ويبكي فلا تبال، وإنما تصر على موقفك وتقول: هذه ملكه هو، وليست ملكك، وأنت أخذتها، كنت معتدياً وظالماً في هذا، فالمفروض أن تستأذنه، فيذهب يستأذنه، وهو عندما يستأذن فإنما يريد من صاحب الشيء أن يوافق، وإذا لم يوافق يعمل نفس المشكلة، فنفهمه أن الاستئذان ليس من شرطه أن يقول صاحب الحق: نعم، أو أن يقول: لا، وكذلك هو أيضاً إذا استؤذن إن شاء يمكن أن يقول: نعم، أو يقول: لا.(3/26)
الجمع بين الحب والحزم في التعامل مع الطفل وتنمية مفهوم الأمانة عنده
عموماً التعامل مع الطفل لا بد فيه من أمرين: الحب والحزم، لابد في هذه القضية أن يكون هناك اتصاف بالحزم الممزوج بالعاطفة والتفهم.
أيضاً: عندما تكلم الطفل لابد أن تكون هادئاً، ويكون كلامك واضحاً جداً، ولا يكون فيه نوع من الغموض، ودون عنف وإثارة، ودون تردد وضعف أمام بكائه أو دموعه؛ لأنه سيفهم أنه لو صرخ ورمى بنفسه على الأرض فستكون هذه وسيلة للحصول على ما يطلبه.
أيضاً: من المهم تنمية سلوك الأمانة عند الطفل، فيمكن أن تعلق له في حجرته حديث: (لا دين لمن لا أمانة له) أو تشرح له حديثاً في الأمانة، كذلك تمارس أنت الأمانة أمامه قولاً وفعلاً، أو تحكي له حكايات عن أناس أنت لا تكذب عليه، هذه قصص أناس كانوا عندهم أمانات فردوها طواعية، ولم يخضعوا لإغراء الأشياء التي وجدوها، ولا رقيب عليهم إلا الله سبحانه وتعالى، فلا بد من ممارسة الأمانة أمام الطفل قولاً وفعلاً، وكلما كان كلامنا غير مباشر كان أفضل، وله تأثيره في الطفل، فمثلاً في الجلسة العائلية العادية ينتهز الأب أي فرصة ويحكي قصة واحد أمين على سبيل الاستحسان: ما أجمل هذا! انظر كيف الالتزام! انظر مراقبة الله سبحانه وتعالى! فقد حصل كذا وكذا وكذا، فالطريقة غير المباشرة تكون أوقع مع الأطفال.(3/27)
تفعيل مبدأ الثواب والعقاب في التعامل مع الطفل
كذلك ممارسة مبدأ الثواب والعقاب، فإذا عمل عملاً يدل على الأمانة تثيبه عليه، وإذا ارتكب خيانة يعاقبه عليها، ولا بد أن يكون الثواب والعقاب فورياً، فإذا رأت الأم من طفلها عملاً جيداً فلا تقول: حين يأتي والدك بالليل سأجعله يشتري لك كذا.
وإنما لابد أن تكون المكافأة فورية؛ حتى يربط الطفل بين إتيانه السلوك الجيد، وأخذه للمقابل الجيد، لكن عندما تؤجلها تفقد معناها، فيجب أن يكون الربط مباشراً بين العمل وبين الثواب أو العقاب.
الكلام عن السرقة، وبيان أنه لا يليق بالمسلم أن يسرق، وأضرار السرقة على المجتمع، ولو أبيح لكل الناس أخذ ممتلكات الآخرين فكيف يعيش الناس؟! وكيف تستقيم أمورهم؟! فنبين له أن هذا السلوك مرفوض من الناحية الدينية الإسلامية والأخلاقية والاجتماعية، ونفهمه أن المجتمع يرفض هذا السلوك، وهذا شيء مهم.(3/28)
توفير الجو الأسري الملائم للطفل وعدم التمييز بين الإخوة
كذلك من العلاجات: الدفء العاطفي بين الآباء والأبناء، وذلك بأن تشعر الطفل بأنك تحبه، إذ لابد أن يشعر بالأمن والطمأنينة والاحترام؛ لأن الطفل إذا أحب شخصاً فإنه غالباً لا يسرق منه، خاصة إذا فهم أن هذه سرقة.
لابد أن نزرع الثقة في نفس الطفل ولا نشعره بالنقص، لا نقول له في لحظة الانفعال: يا حرامي! أتجرؤ على الكلام بعد فعلتك التي فعلت؟! هذا أسلوب يحطم الطفل، فالوالد يتصور أنه بهذا يؤدبه، لكن في الحقيقة هذا يفقده الثقة بالنفس ويشعره بالنقص والدونية، وأنه غير قادر على التماسك، وأنه غير أهل للاحترام أو الحب أو نحو ذلك.
أيضاً: عدم التمييز بين الإخوة، بحيث يميز ابناً على أبنائه الآخرين؛ فيحس الآخر أنه محروم؛ لأن هذا يمكن أن يشجع على سلوك الانحراف.
أيضاً: يفضل أن يندمج الطفل في جماعات سوية من الأطفال المهذبين الأمناء؛ ليتعلم من خلال الجماعة نفس القيم.
من الأمور المهمة جداً: عدم الضعف أمام رغباته الأنانية، بألا يجاب إلى كل ما يطلبه، فنزيل الأنانية بعدم الاستجابة لكل طلباته.(3/29)
التصرف بحكمة عند اكتشاف سرقة الطفل أول مرة
إذا حصل شك في أن الطفل يسرق لا بد أن نتجنب الإلحاح عليه؛ كي يعترف بالسرقة، لأنك إذا ألححت عليه فإنك ستفتح له باب الكذب، فإذا كذب ونجا من العقاب فإنه سيظن أنه نجح في تضليلك، ونجّى نفسه من العقاب، وبالتالي فسيتمرن على السرقة والكذب معاً، فكلما سرق سيكذب.
كذلك أيضاً: لو أن الاعتراف استخدم معه العنف فهذا سيؤدي به إلى التمادي في السرقة، بالإضافة إلى أنه كل مرة خبرته ستزيد، وسيبدأ يأخذ خبرات، ويعرف ما هي نقاط الضعف التي كشفتها في المرة التي فاتت، وسيحكم الخطة كي لا يكتشف في المرة التالية.
كذلك من الأمور المهمة: عدم تأنيبه على السرقة أمام الآخرين، فلا ينبغي أن تفضح الطفل وتصفه بأنه حرامي ولص أمام الآخرين، وإلا سيشعره ذلك بالنقص، وشعوره بالنقص سيؤدي إلى الانزواء من البيئة الاجتماعية، وليس هذا فحسب، بل قد يتعود على هذا اللقب، ولسان حاله: ما دام أن الجميع يصفني بأني حرامي ولص فليكن ذلك، وربما أنه يرى هذا اللقب رمز للانتصار على الآخرين، وعلى الكبار خاصة، لكن الصحيح أن نعامله بحب وصداقة مع حزم، أي: بحزم فيه نوع من المرونة، وإذا لم نعامل هذه المشكلة بهدوء واتزان فنحن نصنع منه فعلاً لصاً حقيقياً.
أيضاً: نجتنب العبارات التي تضر بالطفل، كأن نقول له: أنت ألحقت بنا العار لوَّثت سمعة الأسرة أو العائلة إن كان ولا بد فاسرق من البيت، وليس من بيوت الآخرين، فمثل هذه العبارات تضر بالطفل! أيضاً: توافر القدوة الحسنة أمامه في سلوك الراشدين نحو الأمانة.
أيضاً: نختار له ما يقرؤه وما يشاهده، والإعلام الذي يمكن أن يتعرض له، والكتب التي يمكن أن يقرأها بحيث تغذي فيه هذه المفاهيم.(3/30)
مراقبة مصروف الطفل والمسارعة في معالجة ظاهرة السرقة في بداية ظهورها عنده
ولو أنه يأخذ مصروفاً فإنه في هذه الحالة لا بد أن يكون هناك نوع من المراقبة على المصروف، ولابد أن يتناسب مع سنه، والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، ومع البيئة المدرسية، وتكون هذه المراقبة عفوية، يعني: تكون المراقبة دون التسلط عليه، ودون أن يشعر.
ولابد أن تعالج هذه الظاهرة في سن مبكرة قبل أن تتفاقم؛ لأن محترفي الإجرام والسرقة بالإكراه و (البلطجة) والتزييف والنشل وكل هذه الأشياء غالبهم بدأ في هذا السلوك منذ طفولته، فلا يجوز أبداً تجاهل المشكلة، لا بد من التشديد من الناحية التربوية، بحيث تكون هناك خطوات حاسمة لعلاج هذه الظاهرة؛ لأن القاعدة تقول: الذي يسرق البيضة سيسرق بعد ذلك الجمل، ومن سرق مال أخيه بعد ذلك سوف يسرق مال الناس أجمعين.
أما التساهل في هذا الموضوع فإنه يؤدي إلى التشجيع على امتداد السرقة إلى خارج الأسرة، لا بد من إجراءات فورية لعلاج السرقة إذا حصلت، وأول خطوة هي: أن يفهم الأبوان هذا السلوك، وأن يواجهاه مواجهة صحيحة، لا بد من إشباع احتياجات الطفل المتعددة عن طريق مصروف منتظم يعطى له مع الإشراف المباشر عليه دون تسلط.(3/31)
حماية الطفل من وسائل الإعلام التي تفيض في وصف حوادث السرقة
وسائل الإعلام لها دور كبير في توجيه سلوك الطفل، فيجب حجبه عن الوسائل الإعلامية التي تفيض في وصف حوادث السرقة والنصب والاحتيال، وقد قرأت في بعض الكتب أن التلفاز أتى بإعلان مفاده: أن رجلاً أعطى الطفل زجاجة شراب ليحافظ عليها، فالتفت الرجل فرأى الزجاجة فارغة، فقال: أين الشراب؟ قال الطفل: تبخرت، بينما في الحقيقة أنه قد شربها، فهذا الإعلان يلقن مبدأً هداماً، وهو أن السرقة حل، والكذب حل سهل جداً، وحل ظريف، ومقابل هذا كان المتفرجون يشاهدون هذا المشهد ويضحكون، وكأنهم يستحسنون هذا السلوك، وجاء هذا التصرف بعفوية وتلقائية من قبلهم، فعندما يجد الطفل أن ذلك الولد ظريف، والناس يستحسنون سلوكه، فإن ذلك يمثل بالنسبة له نوعاً من القدوة!! فلنحذر من وسائل الإعلام التي تفيض في وصف السرقة سواء من خلال المجلات والكتب والأفلام والتلفزيونات إلى آخر هذه الأشياء التي قد تبرز البطل في صورة نصَّاب ومحتال وتاجر مخدرات إلى آخر هذه الأشياء.
إن هذه أشياء لا تستنكر اجتماعياً، فبالتالي: لماذا هو لا يسرق؟ الذي ينصب على الناس ويسرق ويكون مجرماً هو الذي يصبح غنياً ويحقق أغراضه إلى آخر هذه الأشياء.(3/32)
الحديث عن الأمانة وذكر القصص المتعلقة بها أمام الطفل
علينا أن نربط الطفل دائماً بالقصص التي فيها تعظيم للأمانة, وتنمية الوازع الديني في قلبه، والترهيب من السرقة من جهة أخرى، بأن نبين له عقوبة السارق في القرآن الكريم، وأن الله سبحانه وتعالى يبغض هذا الخلق وأهله؛ ولذلك قال في القرآن الكريم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] ونقص عليه قصة المرأة المخزومية التي قطعت يدها، ونفهمه أن الناس كلهم أمام الله سواء، وكلهم لهم حرمة في أموالهم وممتلكاتهم فلا نعتدي عليها، وأن الناس لو لم يلتزموا بهذا الأمر ولم تقم حدود الله على السارق فهذا سيؤدي إلى الخيانة في ممتلكات الآخرين.
فالكلام عن الأمانة -كما أشرنا من قبل- من الوسائل الرائعة جداً في التأثير على الأطفال؛ لأن الطفل في مرحلة معينة مفهومه مادي، تلقيه للمفاهيم يكون من الناحية المادية، فلو جئت إلى طفل عمره أربع سنين وكلَّمته عن النزاهة والعدالة والأمانة والتسامح وغير ذلك من المعاني المجردة فإنه لن يستوعبها، فلو قلت له: الصلاة ركن الدين وكذا وكذا، فلن يستوعب، لكن صلِّ أمامه فإنه عندئذ سيستوعب ذلك؛ لأنه إنما يستوعب الأمور التي يدركها بالحواس -المشاهدة والسماع- وهي تؤثر فيه جداً، إذا رآك تصلي يقلدك تماماً في الصلاة، هو لا يعرف ما هي الصلاة، لكن هو يمتص منك السلوكيات عن طريق المحاكاة.
فهذه هي الوسيلة البدائية الأولى عن طريق المحاكاة الحسية والتفكير المادي، فإذا رأى منك سلوكاً فيه أمانة، أو حكيت أمامه قصصاً عن الأمانة فلا شك أنه سوف يتقمص هذه الأشياء، ويمتص هذه المسائل.
فإذاً: القدوة من أهم وأخطر وسائل التربية وتنمية الطفل، وكذلك التخويف من مراقبة الله سبحانه وتعالى وأنه مطلع علينا في كل مكان.
كذلك سرد القصص التي تجسد مبدأ الأمانة، كقصة الرجل الذي استدان من رجل ديناً، ووضع المال في لوح خشب، واستودعه الله؛ لأنه لم يستطع أن يسافر، وهي قصة موجودة في القصص النبوي، فهذه من أفضل الوسائل؛ لأنك تعطيه أنموذجاً حياً أمامه.
وعامة الناس والحمد لله يستطيعون أن يدركوا بعض السلوكيات التي بتفاديها يكتسب الأطفال نوعاً من الوقاية من الوقوع في السرقة.(3/33)
الأسئلة(3/34)
الكلام على كتاب تربية الأولاد في الإسلام لعبد الله ناصح علوان
السؤال
هل تنصحنا باقتناء كتاب: تربية الأولاد، للدكتور عبد الله بن ناصح علوان رحمه الله؟
الجواب
بعض الإخوة قدح فيه وخاصة في باب العقيدة، فأقول: قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أي كتاب غير الوحي الشريف لابد أن يكون عليه مؤاخذات، فلا عصمة إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أريد أن أنبه إلى أن كتاب: (تربية الأولاد في الإسلام) هو في مجلدين، والدكتور عبد الله بن ناصح علوان من الأفاضل، وله إسهامات كبيرة جداً في الدعوة، ولا نجحد أبداً أن هذا الرجل له دور ريادي في هذا المجال، فهو تقريباً من أوائل الكتب المنهجية التي صدرت في موضوع تربية الأولاد، فريادته في هذا المجال لا يجوز أبداً أن نجحدها؛ لأن هذا الكتاب في وقته كان هو الشيء المتاح، فلا نأتي الآن وقد أنعم الله علينا بكتب أحسن منه وأكثر تخصصاً وأكثر تنقيحاً ونقول: إن هذا كتاب سيئ ويشطب عليه، مثل ما حصل مع كتاب (فقه السنة) -للأسف الشديد- الذي كان في وقت من الأوقات أفضل كتاب يدرس في فنه، إذ لم يكن هناك غيره، وأثر في أجيال كثيرة جداً، ثم إذا بنا لما تعاملنا مع الكتاب بطريقة فيها نوع من الجور والجحود لفضل هذه الريادة بدأنا نقارن بينه وبين غيره من الكتب.
فالشاهد: يجب أن نتعامل بإنصاف، بحيث نعترف أن الجهد البشري لا بد فيه من القصور ثم ننتفع بما فيه من الخير، وإذا كان عند بعض الناس انتقادات فعليهم طرحها بطريقة مهذبة، مع التحذير من الخطأ بأدب وبإنصاف مع الاعتراف لصاحبه بموضوع الريادة، فالشيخ عبد الله بن ناصح علوان رحمه الله هو أول من كتب دراسة علمية حول موضوع تربية الأطفال فيما نعلم، ثم بعد ذلك جاءت كتب أخرى مثل: (المنهج النبوي لتربية الطفل) لـ محمد نور سويد، وهذا الكتاب أيضاً أشبع نقداً، وكان الناقد محقاً؛ لأن الكتاب حافل بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، ثم بعد ذلك استفاد المؤلف من هذا النقد وصدرت طبعة في مجلدين أفضل من السابقة، فالذي أريد أن أقوله: لا ينبغي انتقاص العالم لمجرد وجود بعض الأخطاء في كتاب له، هذا من الغلو في التعامل مع العلماء، والخطأ ينبه عليه، وينصح باجتنابه، وإن وجد بديل صاف 100% فأهلاً وسهلاً، أما إن لم يوجد بديل فلا ينبغي أن نهدم ونحطم بدون أن نوجد البديل فهذا ليس من الإنصاف.(3/35)
عادة مص الأصابع عند الأطفال
السؤال
كيف يمكن منع الطفل من إدمان عادة مص الأصابع؟
الجواب
المشكلة في الحقيقة تكثر عند بعض الأسر في بعض أطفالهم، فنلقي الضوء عليها في دقائق معدودة.
أولا: ً بالنسبة لعادة مص الأصابع عند الأطفال تكون في فترة معينة سلوكاً عادياً ينبغي تقبله، لكن هذه العادة تنتهي ما بين 18 - 24 شهراً في الوضع الطبيعي العادي، أي: إلى سنة ونصف أو إلى سنتين، وقد لا تختفي تماماً إلا عند ثلاث سنوات.
وإذا استمر الطفل في مص إصبعه بعد السنة الرابعة ولكن عند اقتراب وقت النوم فهذه ليست مشكلة ولا تستدعي القلق على الإطلاق.
مما ينبغي أن ندركه أن موضوع مص الأصابع بالنسبة للأطفال علاجه ينبني على معرفة السبب؛ لأن بعض الأطفال يمص أصابعه بطريقة تنتهي بتشويه الإصبع، فالعلاج أساسه هو معرفة سبب هذه العادة، وبالتالي إذا عرفنا السبب نزيله دون اضطراب أو قلق.
أحد الأسباب لوجود هذه الظاهرة عند الطفل هو سلوك الوالدين، وظروف البيئة المحيطة بالطفل، وسلوك الوالدين يشمل سلوكهما مع أشقائه، وسلوكهما مع الطفل نفسه، كأن يحصل تمييز بين الأولاد والبنات، بحيث يفضل الولد على البنت، فتبدأ البنت تبالغ في مص الإصبع نتيجة التوتر الذي تعانيه، فسلوك الأبوين أو ظروف البيئة تكون هي السبب في هذا الأمر.
لكن لا بد أن نفهم أن مص الطفل لأصابعه هي وسيلة لتخفيف حالة توتر يعيشه، فقد يكون عنده نوع من التوتر والقلق، ولجوءه لمص الأصابع هو وسيلة ليخفف حالة التوتر التي يعيشها إما مؤقتاً أو دائماً.
ويوجد شيء يشبهه عند الكبار وهو السجائر، فبعض الناس إذا تضايق فزع إلى السجائر حتى يذهب التوتر الذي عنده، أو يكون لتخفيف حالة إحباط، يعني: هذا الطفل يشعر أنه لا يستطيع أن يحقق ما يريده، فيمكن أن يحصل له إحباط، فيبدأ يفزع إلى هذه العادة، أو يكون بسبب الغيرة؛ كأن يكون له أخ جديد أو أخت جديدة فينصرف عنه الاهتمام، ويصير الطفل المولود الجديد هو بؤرة الاهتمام، فيبدأ يفزع إلى هذه العادة، أو يمكن أن يكون بسبب التعب أو شعور الطفل بالوحدة فيلجئه إلى هذا الشيء.
كيف نتعامل مع هذه الحالة؟ أهم شيء أن نتجنب مسالك معينة يسلكها الآباء أو المربون، أولها: التوبيخ، فيجب أن يتجنب توبيخه بكثرة على هذه العادة؛ لأن ذلك غير مجدٍ، بل يزيد الحالة سوءاً.
كذلك من الخطأ أننا كلما رأيناه يضع إصبعه في فمه نشد يده، ونبعد إصبعه عن فمه، هذا علاج غير صحيح، أو بعض الناس يلفون يدي الطفل بشاش، أو يلبسونه قفازاً، أو يربطون يديه، وللأسف هناك سلوكيات أخرى وحشية، فبعض الناس يضعون على إصبعه مادة مقززة كالفلفل أو الشطة أو الصَّبِر المر جداً، وهذا سلوك غير صحيح، فعملية التوبيخ أو إبعاد الإصبع عن الفم أو ربطها أو وضع قفاز أو مادة منفرة عليها؛ كل هذه الأشياء تدفعه إلى الاستمرار، وتزيد شعوره بالإحباط.
كذلك من الوسائل التي ينبغي سلوكها في هذه الحالة: أن يوفَّر لهذا الطفل نشاط حر محبب إلى نفسه، يعني: اشغله بنشاط حر هو يحبه، كنوع معين من الألعاب أو الترفيه؛ لأن هذا النشاط الحر سوف يمتص طاقته، أو تمكنه من مخالطة أطفال آخرين مثله حتى تنمو شخصيته.
كذلك ينبغي ألا يظهر المربي القلق الشديد أمام الطفل بسبب هذا الموضوع، وكلما حضر عنده ضيف حكى قصته، فيقوم هذا الضيف بالتعليق، فالطفل يشعر عندها بأنه ينظر إليه نظرة توبيخية، فالإنسان لا يظهر القلق الشديد بسبب هذا الموضوع أمام الطفل؛ لأنك إذا أشعرته بالقلق والتوتر فسوف يزيد من هذه العادة ولن يتوقف! والطفل عامة كلما زادت ثقته بنفسه وشعر بالاطمئنان قل عدد مرات مص الأصابع.
ومن السلوكيات الخاطئة مقارنته بغيره: سواء أكان هذا الغير أصدقاءه أو زملاءه أو إخوانه كأن يقال له: كل إخوانك جيدون، ولا أحد منهم يعمل هذا العمل، لماذا أنت فقط تمص أصابعك؟! إلى آخره، فهذه المقارنة سلوك غير صحيح؛ لأنها تسبب إحباطاً، بينما أنت قصدك الخير عندما تقول له: إخوانك جيدون فكن جيداً مثلهم، لكن هذا يسبب له إحباطاً، فالصحيح أن يبرز للطفل الجوانب المشرقة في شخصيته، يعني: كل واحد يختصه الله بشيء دون الآخر، ففلان اختصه الله بكذا، فتأتي للصفة الجيدة، وتدعم هذا الطفل وتشيد بها؛ حتى تدعم ثقته بنفسه.
كذلك النقد المستمر والمتواصل -وبالذات إذا اقترن بعبارات التحقير- هذا سلوك خطير، يعني: أنت عندما تتعامل مع الطفل فإنك لا تتعامل مع ندٍّ لك، وذكرت من قبل أن رجلاً ألف كتاباً مفيداً جداً اسمه: (طفلك ليس أنت)، مع العلم أن هذا الرجل ليس مسلماً، فمشكلة كثير من الآباء أنه عندما يتعامل مع الطفل يتصور أنه عنده نفس العقل والتجارب والخبرات والمقاييس، فعندما يأتي يضربه يضربه بعنف شديد، وكأنه أمام شخص مكافئ له، وحتى الضرب تكلمنا بالتفصيل عنه قبل هذا، وبينا أنه لا يكون إلا بشروط منها: ألا تضرب الطفل وأنت تريد أن تتشفى منه؛ لأن هذا من الظلم، أن تأتي إلى طفل صغير فتضربه هذا الضرب الوحشي، كما يحصل أحياناً من بعض الناس، فهذا الفعل يدل على وجود خلل في تفكير هذا الرجل الذي يتشفى، فهو يخرج شحنة الغضب عن طريق الضرب، ولا يهدأ حتى يشفي صدره تماماً من غلِّه من هذا الطفل، طبعاً هذا السلوك من الجاهلية -في الحقيقة- وليس من الإسلام.
الشاهد: لا تتعامل معه كأنه مثلك تماماً، بل انظر إليه كما كان ينظر إليك أبوك أو أمك وأنت في تلك السن، فأنت في تلك السن لم تكن تفهم أن هذا الشيء غلط.
إذاً: لا بد من تجنب النقد المستمر والتحقير، وكل العبارات العامة التي فيها حكم بالإعدام للشخصية، كأن تقول: أنت لست نافعاً لا أمل فيك ستظل طوال عمرك غبياً إلى آخر هذه العبارات، أو كما نسمع أشياء عجيبة عن بعض المدرسين الذين ليس لهم مكان في التربية على الإطلاق، فيقول بعضهم لبعض تلاميذه: (لما تفلح تعال قابلني) إلى آخر هذه العبارات الفظيعة.
فكونك تصدر حكماً عاماً على الطفل هذه إساءة شديدة له، وتُوجد عنده شعوراً بالمرارة والعجز وعدم الكفاءة.
وكذلك ينبغي أن تحمي الطفل من سخرية أقرانه الآخرين، بحيث لا يهزءون به بسبب هذه العادة، لأن هذه السخرية سوف تعمِّق العادة عنده أكثر فأكثر.
يمكن كذلك أن تطلب من الطفل أن يساعدك في عمل شيء معين، ويكون هذا الشيء محتاجاً إلى أن يستعمل يديه كلتيهما، فتحاول أن تلهيه عن عادة المص بأن تشغل يديه، أو تحضر له ألعاباً معينة لا تعمل إلا باليدين.
كذلك يفضل أن يهمل هذا الموضوع، ولا يتكلم فيه أمامه، ولا ينبه إلى شيء يذكره بإصعبه، ومع ذلك فيمكن للإنسان -بصورة عرضية عابرة- أن يذكره بلطف: أنه سوف يكبر، ويُقلع عن هذه العادة، ولا يلفت نظره إليها ليزيد من انتباهه نحوها.
من أهم الأسباب التي تلجئ الطفل إلى مص الأصابع بعد السن المذكورة -التي تصل إلى خمس أو ست سنوات- شعوره بالحرمان العاطفي، فيحتاج عندها إلى جرعة زائدة من حب وحنان الأبوين، والطفل بطبيعته يكتشف إذا كان محبوباً أم لا، أو كان مرغوباً فيه أم لا، ويعرف من يحبه ومن يتظاهر أنه يحبه، فلا بد أن يؤمن شعور الطفل بالحب والأمان، وقد ذكرنا من قبل أنه ليس من الحكمة أبداً أن تقول له: إذا فعلت الشيء الفلاني أنا لن أحبك، لكن قل: لن أعطيك المصروف، هذا عقاب لكن لا تهدده بالحب، ولا تجعل الحب موضوع تهديد، بل لا بد أن تقول: أنا أحبك، لكن لا أحب التصرفات الفلانية، أو لو عمل الشيء الفلاني فلا تهدده بأنك لن تحبه إذا فعل كذا، لا بد أن يؤمن له الشعور بالحب والشعور بالأمان، بعض الناس طفله لا يريد أن يصعد في (المصعد الكهربائي) فيقول له: هل ستأتي أم أذهب وأقفل عليك الباب؟ هذا خطر، فهذا يفقده الشعور بالأمان، أو إذا أخذه معه إلى السوق أو إلى محل معين فقام الطفل بتصرف غير مرغوب، فيقول: إذا لم تسمع كلامي سأتركك هنا وأذهب، وهذا خطأ كبير؛ لأنك هكذا ستهدد شعوره بالأمان، فهو سيتسائل: لو تركني وحدي ماذا أفعل؟ لكن ممكن تقول له: إذا لم تترك هذا السلوك سنلغي هذه الفسحة ونعود إلى البيت، فهكذا لم تهدد شعوره بالأمان، وفي نفس الوقت تزجره عن التمادي في هذا السلوك.
أحياناً يقوم الأب أو الأم بالحديث عن الأزمة المادية والفقر والديون والهموم أمام الطفل، بينما ينبغي أن يعزل الطفل عن الشعور بالهم مبكراً بقدر المستطاع؛ لأن هذا يمثل عبئاً عليه، وكذلك معايشة المشاكل والصراعات بين الأبوين والتي تهدد بقاءه في الأسرة إلى آخر هذه الأشياء، إذا شهد الطفل مثل هذه الصراعات فإن ذلك يهدد شعوره بالأمان، وهذه طبعاً لها عواقبها الوخيمة فيما بعد.
فلا بد أن يشعر الطفل أنه محبوب ومرغوب فيه، وأن الذين حوله يحبونه، هذا أمر مهم جداً، وسبق أن قلت من قبل: إن الرضاعة ليس المقصود منها أن يغذى بدن الطفل فقط، لكن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن الرضاعة الطبيعية تتم بطريقة فيها جرعة من الحنان بجانب جرعة الطعام الذي ينشأ عليه، فنفسه تحتاج إلى الحنان، والمفروض على الأم أن تضمه إليها عند الرضاعة، ولا تأتي إليه وهو يبكي وتعطيه ثديها فقط؛ لأنه حينها سيشعر بأنه قد أخطأ عندما بكى، وهذا نوع من الحرمان من وجبة الحنان التي كان يأخذها كل فترة أو كل مرة يرضع فيها.
الطفل لا بد أن يشعر أن الذين حوله يرغبون فيه ويحبونه، فلا تأتي الأم -كما يحصل من بعض الأمهات الجاهلات- وتقول: حاولت بكل الطرق والوسائل إجهاض هذا الطفل والتخلص منه، لكن جاء غصباً عني، فماذا يكون شعور الطفل إذا علم أنه غير مرغوب فيه؟! هل يكون عنده إدراك ويعرف أن هؤلاء الأبناء رزق من عند الله، وأنه هو الذي خلقهم؟ لن يفهم ذلك، بل سيفهم أنه فرض عليهم فرضاً، وأنهم غير راغبين فيه، حتى لو جدلاً وجد هذا الشعور السيئ فلا ينبغي إظهاره أبداً، بل بالعكس يجب أن يؤمن الطفل، فإذا وفرت جرعة الحنان الكافية طبعاً هذا سيؤثر في استقراره فيما بعد، وفي عافيته من الآفات النفسية والسلوكية، ويوفر كثيراً من العناء.(3/36)
كيفية التعامل مع نوبات الغضب عند الطفل في سنواته الأولى
السؤال
ما هي أسباب حصول نوبات من الغضب عند الطفل؟ وكيف يتم التعامل معها؟
الجواب
الموضوع الذي نتكلم عنه، وهو: ما يسمى بنوبات الغضب، وبالذات في السن التي هي بين سنة إلى سنة ونصف تقريباً، هذه النوبات تكون ناتجة عن أن الطفل يريد شيئاً معيناً، فإذا لم يحقق له هذا الشيء يصرخ ويرمي بنفسه على الأرض، ويغضب وتستمر هذه النوبة مدة معينة، فمن المظاهر الشائعة عند الأطفال في هذه السن -ما بين سنة إلى سنة ونصف أو ما بعد ذلك- نوبات الغضب، وهذه النوبات ليس شرطاً أن الطفل الصغير يستطيع أن يتحكم بها، حتى إن طفلاً يقول لأمه: يا أمي! أنا حينما أظل أبكي وأصرخ، أريد أن أوقف بكائي لكن لا أستطيع، فهذه النوبات شيء طبيعي وعام عند جميع الأطفال في هذه السن، ولا تعتبر ذات صفة مرضية إلا إذا كانت عنيفة متكررة بشكل زائد، يعني: معدلها كبير وشديد، وتمتد فترة طويلة نسبياً، في هذه الحالة فقط تعتبر غير طبيعية، لكن في فترة السنة والسنة ونصف يمكن أن تكون نوبات الغضب شيئاً طبيعياً في بداية هذه المرحلة؛ بسبب ظروف تتعلق بشخصية الطفل من ناحية، وتتعلق بعلاقته بالأبوين من ناحية أخرى، فأما ما يتعلق بالطفل فإن هناك ظروفاً تدفعه إلى هذا السلوك الذي نعده في الأصل طبيعياً، حيث تدفع الطفل في هذه المرحلة دوافع بدائية قوية، وأقول: بدائية لأنه لم يتعلم بعد كيف يتحكم بهذه الدوافع، وبالتالي تزداد حساسيته لأي شيء يعوقه عن إشباع حاجاته ورغباته التي يرغب فيها، فنجد أبسط المواقف يمكن أن تثير لدى الطفل نوبات الغضب، فطفل السنتين -مثلاً- الذي يعجز عن الوصول إلى رف مرتفع قليلاً، والذي يوجد عليه الحلوى أو الأشياء التي يحبها، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يعبر عن احتياجاته في كلمات، أو أمه لا تدرك بالضبط ماذا يريد، فمثل هذا الطفل يواجه موقفاً لا قِبَلَ له بتحمله، فهو كل شيء يريده لابد أن يتحقق، وهو لا يستطيع أن يعبر عن حاجته بالكلام، أو الذين حوله لا يفهمون ماذا يريد، لكن أحسَّ بالعجز عن إشباع إحدى هذه الحاجات.
فمثل هذا الطفل لا يكون قادراً على ضبط انفعالاته، فلذلك تجد الاستجابة المباشرة لمثل هذا الموقف هي نوبة من الغضب الشديد، والأمثلة كثيرة ومتكررة بين الأطفال في هذه السن، وقد يكون هذا الشيء تافهاً بالنسبة للكبير وعقليته ونضجه، لكن الطفل لا ينظر له على أنه تافه، فمثلاً: الأكل الذي يقدم له هو يريد أن يكون أول واحد يوضع له الأكل، فلابد أن يكون هو أول واحد يأكل هذا الطعام، فإذا وضع الطعام لشخص آخر يرمي بنفسه على الأرض ويصرخ ويبكي إلى آخره، أو مثلاً: يريد هو أن يتناول الطعام بنفسه ولا يريد أن يساعده أحد، أو يريد أن يفتح الباب بنفسه، فالوالدان إذا لم يتفهما حقيقة مشاعر الطفل في هذه المواقف فقد يزيدان الطين بلة، يعني: يساعدان في تدعيم هذه المشكلة إذا لم يتفهما الأسباب التي تدفع الطفل إلى هذه الأفعال.
وفي الحقيقة مهما حاول الأبوان أن يتفهما الظروف التي تعرض الطفل للضيق، ومهما حاولا أن يساعداه على الاستقلال، أو القيام بأعمال جديدة، ومهما ساعداه على أن يعبر عن رغباته، لكن في الواقع يصعب عليهما أن يتقبلا منه الغضب والعدوانية، حينئذ يواجهان بواجب تربوي هام، وهو كيف يمكن تحويل هذه المشاعر العدوانية من الطفل إلى قنوات أكثر تقبلاً؟ وكيف يساعدانه على ضبط نفسه؟ هنا أمور لا بد من الانتباه الشديد إليها: أولها: أن العقاب قد يؤدي إلى عكس المطلوب، وبالذات العقاب البدني في مثل هذه الحالة قد يزيد المشكلة، ولا يحلها، فمحاولات إسكات الطفل في أثناء النوبة لا جدوى منها؛ لأنها عبارة عن نوبة مثل نوبة المصدوع، فتستمر هذه الثورة إلى أن تأخذ وقتها، فلابد لك أيها الوالد أن تستسلم له، فالشدة والعنف لا يفيدان على الإطلاق في مثل هذه الحالة، بل يؤديان إلى عكس المطلوب، والشدة معه في أثناء النوبة تجعل مدتها تطول أكثر؛ لأن الطفل أثناء هذه النوبة ليس عنده أي استعداد للاقتناع، بل ليس عنده استعداد للاستماع لوجهة نظر أو نصيحة أو تهديد، فلا يمكن أن يفيد العقاب أو التهديد أو العنف في أثناء النوبة!! أيضاً إذا صرخت في وجه الطفل أو ضربته لإسكاته، فإن العنف والضرب يزيد من سوء الحالة، وستطول مدة النوبة، ويكون الطفل غير مستعد لأن يسمع نصائح ولا نقداً ولا أي شيء، هو دخل فيها فلابد أن يكملها.
بعض الناس قد يصرخ في الطفل، أو يشتد عليه لغرض أن يسكت، وهذا ليس فقط لا يفيد، لكنه يأتي بضرر إضافي، حيث إنه يجعل من الوالدين قدوة سيئة سيتعلم منهما الطفل عكس المطلوب، فالشدة والعنف مع الطفل تأتي بعكس المطلوب؛ لأننا قلنا: ليس هناك حصة اسمها التربية، فالطفل يتعلم الذي يراه طريقة الكلام طريقة الأكل طريقة التعامل مع الآخرين طريقة الرد على الهاتف طريقة التفاعل مع الأحداث، فهو ينظر إلى فعلك ويفعل مثلك، حتى الصلاة يتعلمها بالتقليد والمحاكاة، فالأب والأم هما أسوة وقدوة، وأي خلل في سلوكهما ينغرس في الطفل! وأذكر طفلاً كان في أثناء النوم يصرخ ويبكي ويقول: رأيت أسداً ضخماً جداً مثل الذي رأيته في حديقة الحيوانات، والأسد هذا فتح فمه وأسنانه ظاهرة ويريد أن يأكلني!! فقال له والده: كيف عرفت أن صوته مثل صوت الأسد الحقيقي؟ قال: لأن صوته مثل صوتك يا بابا لما تصرخ، فانظر كيف ترجم عملية الانفعال أمامه، فأنت تعطيه القدوة في كيفية التصرف إذا غضب، فهو يعلم أن الحل أنه يصرخ ويشتد ويغلط؛ لأنه يتعلم نفس السلوك من القدوة.
فإذاً: مواجهة نوبة الغضب بنفس الأسلوب من العنف والشتيمة والتهديد هذا لن يأتي بفائدة تذكر، فالطفل يكون غير مستعد لأن يسمع أي شيء يحجزه عن هذا السلوك، وفي نفس الوقت يعطيه نموذجاً للقدوة السيئة التي يتطبع بها ويتقمصها.
كذلك: لا يجب فرض القيود الكثيرة على حركة الطفل وتصرفاته وانفعالاته، يعني: أعطه شيئاً من الحرية والانطلاق، بعيداً عن الكبت والتقييد والتعليمات المشددة في كل شيء.
كذلك: وجود التنافس بين الإخوة، وتفضيل بعض الأولاد على بعض، فهذه الظروف المنزلية تتسبب في أن يعاق الطفل عن إشباع احتياجاته الأساسية، وعدم إشباع هذه الأساسيات يؤدي إلى حالة توتر، وحالة التوتر تؤدي إلى وقوع نوبات الغضب التي تحدثنا عنها.
إذاً: كيف يكون التصرف دون ضرب ولا شتم ولا كذا وكذا؟ في هذه الحالة الكبار لا بد أن يواجهوا نوبات الغضب، بأن يظلوا هادئين بقدر الإمكان، لا تغضب أنت أيضاً وتزيد المشكلة، الأب لابد أن يكون هادئاً جداً بقدر ما يستطيع، ويقترب من الطفل ويتحدث إليه بصوت رقيق هادئ جداً -لأن هذا الصوت يمكن أن يكون له أثر في تهدئة هذا الطفل- ثم يحمل الطفل بحزم وحنان معاً حتى لو كان يقاوم ويرفس بيديه ورجليه، فيمكن أن يحمل بحزم، بحيث تقيد حركة يديه، وفي نفس الوقت يمكن أن ينقل إلى حجرة أخرى ويوضع فيها، يبقى هناك حتى تنتهي نوبة الغضب؛ لأنه قد تكون نظرات من هم السبب في أن يتمادى؛ لأنه يريد أن يثبت الاحتجاج، لكن لو أنهم تظاهروا بأنهم لم يلاحظوا أنه وقع فإنه سيسكت، أما إذا لاحظ اهتمامهم فإنه يتمادى في البكاء.
يمكن أن ينقل إلى حجرة أخرى ويبقى فيها حتى تنتهي هذه النوبة، لكن لا بد أن يفهم أن هذا الإجراء ليس عقاباً، لا تقل له: سأحبسك في الغرفة، بل خذه -بعدما تكلمه بهدوء- إلى غرفة أخرى، لكن ليس على سبيل العقاب.
ولو تساءلت: لماذا يجب علي أن أتبع معه هذا الإجراء؟ فأجيبك ببساطة: لأنه لا يوجد شيء آخر تقدر على فعله، ولا يوجد حل آخر غير أنك تأخذه إلى حجرة أخرى يبقى فيها حتى تنتهي هذه النوبة.
فإذاً: نوبات الغضب لا يصح أن تواجه بغضب مماثل ولا تواجه بعقاب.
أيضاً: هناك أمر مهم جداً، وهو: أنه لا يسمح للطفل أبداً بأن يحصل على أي مطلب عن طريق نوبات الغضب، لابد أن يفهم أن هذه النوبات لا تكون إنجازاً، وليست ميزة له، يعني: حين بكى وعمل ضجة، وحصل على ما يريد، فإن ذلك سيجعله يتمادى في هذه الأشياء، فلابد أن نحسسه أن هذا الفعل لا يؤدي إلى حصوله على ما يريد، وأنه لو أراد شيئاً فإن عليه أن يطلبه بهدوء وأدب، وعندها يمكن أن يحصل على ذلك الشيء، فضروري جداً ألا يحصل على أي مطالب عن طريق نوبات الغضب، فالنوبات التي تكون قابلة للعلاج بسرعة هي النوبات التي تمر دون مكافأة إلى أن تزول تدريجياً.
فالمهم أن يطيل الآباء صبرهم، وإن شاء الله يصلون في النهاية إلى نتيجة محققة وكما قلنا: هذه فترة وستمر بسلام.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(3/37)
أطفالنا والصلاة
لما كانت الصلاة عماد الدين حث الشرع على أن يتعلمها الأطفال منذ صغرهم، بل يضربوا عليها وهم لم يبلغوا بعد سن التكليف، وهو آخر أسلوب يستخدم معهم كي يصلوا، وإنما يستخدم للتوجيه والتربية لا من أجل الانتقام والعقاب.
ولكن قبل العقاب هناك التعليم عن طريق التوجيه بالقدوة الحسنة من الوالدين، والترغيب في الصلاة بالثواب عليها والتشجيع، فيتحرى الأب أن يغرس في الطفل معانيها الجميلة، ويربط المسجد والصلاة بكل ما يحبه الطفل ويهواه.(4/1)
طرق وأساليب تربية الأطفال على الصلاة(4/2)
برمجة حياة الطفل ومواعيده بأوقات الصلاة وربطها بما يحبه
كذلك على الأب أن يقرن الأمور المحببة بالصلاة حتى يتعود الطفل ويبرمج حياته على مواعيد الصلاة، مثلاً: بعد صلاة العصر نزهة، أو يشتري له هدية أو لعبة يحبها، فلا تقول له مثلا: ً الساعة السادسة سآخذك وسأعمل كذا، إنما تقول له: بعدما نصلي العصر أو بعدما نصلي المغرب سنعمل كذا، اربط -دائماً- وحدد المواعيد، واضبطها بالصلاة لكي تكون جزءاً أساسياً في الجدول اليومي بالنسبة إليه؛ لأنه إذا عرف أنه بعد الصلاة سيخرج يتنزه فسيتحفز لذلك ويستعد للصلاة في وقتها لاقترانها بأمر محبوب لديه.
كذلك يرتب جميع مواعيده مع أولاده بأوقات الصلاة؛ فيتعلمون تنظيم الوقت بناء على أوقات الصلاة.
كذلك يذكرهم بين الحين والحين بفضائل الصلاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة؛ حتى يكتمل تصورهم الفكري عن الصلاة ومنزلتها في الدين.
يعود الصبي خاصة بعد سن العاشرة على أداء السنن الرواتب مع الصلوات المفروضة، ويحرص على قيام الليل ولو جزءاً يسيراً، فيعلن الأب لأولاده أنه سيقوم ليصلي في الليل وقت كذا وكذا، ثم يتركهم يتنافسون في الاستيقاظ في ذلك الوقت، دون أن يوقظهم الأب لتقوى إرادتهم ويعتادوا من قبل أنفسهم، ويخفف بهم في الصلاة، ومن نعس منهم أمره بالنوم رفقاً به.(4/3)
متابعة انتظام الطفل في الصلاة وتشجيعه
كذلك ينبغي متابعته في مدى انتظامه للصلاة، وتكرار الأمر بها دون ملل، فإذا شغل الأب أو غاب وكّل من يقوم بمتابعته.
مثاله: لو أن الطفل له لعبة محببة إليه جداً وتريد أن تأمره بالصلاة، فكيف تأمره؟! قل له: صل لكي تلعب.
وعلى كل حال: في هذه الحالة لو شددته من اللعب إلى الصلاة فقد يشعر أنه حرم مما كان يفضله، أو ربما يعاندك، وهو لا يعاندك لأنه لا يريد أن يصلي، لكن لأنه يتمتع باللعب، فالحل في هذه الحالة أن تعمل حسابك قبل موعد الصلاة بعشر دقائق، وتخبره بأن الصلاة ما بقي على وقتها إلا عشر دقائق.
فأنت لا تحرمه من اللعب أو تقطعه عن اللعب إلى الصلاة، لكن تأتي إليه قبل موعد الصلاة، وتقول له: بقي على الأذان ربع ساعة أو عشر دقائق؛ أي: فاللعب في هذه الفترة حتى إذا سمعنا الأذان فعليك أن تقوم وتتوضأ وتصلي، فنراعي مثل هذه الأمور.
فإذا شغل الأب أو غاب لأي سبب من الأسباب فإنه يوكل من يقوم بمتابعته من الذين في المنزل ويأمرون الطفل بالصلاة خلال فترة غيابه أو شغله، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعودوهم الخير، فإن الخير عادة)، الحل هو التربية بالعادة، ولا نبخل بمكافئته أحياناً لانتظامه في الصلاة، لكن لا يواظب على ذلك حتى لا نعلمه على أن التعامل تعامل مادي حتى في العبادة، بل نربطه بالثواب له من عند الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً المديح له والثناء والتشجيع من الأبوين مثلاً، فلا بأس بمكافئته أحياناً لانتظامه في الصلاة، وإذا حصل منه خطأ فقل له: كنت سوف أحاسبك على هذا الخطأ، لكن لأنك تحافظ على الصلاة فسوف أعفو عنك هذه المرة.
هذا نوع أيضاً من المكافئة.
على كل الأحوال بالنسبة للمكافئات المادية لا يواظب المربي على ذلك، وفي نفس الوقت إذا أعطى هدية مادية من وقت إلى آخر ينوعها.(4/4)
التساهل مع الطفل في شروط الصلاة
كذلك لا يشتد الأب مع الطفل قبل سن التمييز في أمر الطهارة للصلاة وستر العورة، بمعنى: ممكن أن الطفل يأتي إلى الصلاة حتى في سن السابعة أو فما فوق وهو مقصر في بعض أركان وشروط الصلاة خصوصاً في ستر العورة؛ لأن صلاته تصح، ومعلوم حديث الصبي الذي كان يصلي بالناس، فاشتكى النساء وقلن: استروا عنا عورة صاحبكم.
فقد كان أثناء الصلاة ينكشف منه شيء، فالشاهد أن صلاته كانت صحيحة.
فإذاً: لا بأس بالتساهل في تحصيل شروط الصلاة في مراحل التدريب الأولى، كأن يسجد في أي الأحوال أو في أي الأوضاع، فهذا فيه نوع من التدريب، يعني: لا تتشدد معه قبل سن التمييز في أمر الطهارة للصلاة وستر العورة، بل اتركه يقلدك كيفما كان، ولا تكفه عن التقليد؛ لأن زجره في هذه السن وهو غير مكلف ينفره من الصلاة.(4/5)
عدم تصيد الأخطاء للطفل الذي يواظب على الصلاة
الأمر الآخر: الطفل الذي يصلي لا نتصيد له الأخطاء، وكلما غلط غلطاً تقول له: أنت تصلي وتعمل كذا، أو: أنت تصلي ولا تسمع كلام أمك إلى آخره.
هذا سوف يكرهه في الصلاة، وسيحتسب الصلاة عبئاً شديداً عليه فينفر منها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منكم لمنفرين، بشروا ولا تنفروا).
فبالعكس نتغاضى عن أخطائه؛ لأنه من حقه أن يخطئ في هذا السن، ويتعلم من التجربة والخطأ، ويمكن تحويل العبارة بطريقة أكثر إيجابية، واستبدال هذا التوبيخ المباشر الذي قد يشعره بأن الصلاة عبء عليه، وأنه إذا تخلص من الصلاة سوف يتخلص من كل هذا التوبيخ؛ لأن الذي لا يصلي لا يعاتب.
وهذا يحدث أيضاً مع البنات في موضوع الحجاب فيقولون لها: أنت محجبة وتفعلين كذا.
والصحيح أن يقال لها: أنت محجبة ومؤدبة ومهذبة، والذي يليق بك أن تفعلي كذا وكذا، بدون إظهار النقد الهدام.(4/6)
تهيئة الطفل لاستقبال الصلاة بعد سن السابعة
هناك مناسبة: وهي بلوغ الطفل سن السابعة من العمر في التقويم الهجري، وهنا يجب على الأب أن يأمره بالصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين)، وأيضاً يأمره بتحصيل شروطها كالطهارة وستر العورة.
مع العلم أن التدريب المبكر على الصلاة بلطف وبرفق مع الاستمرار يجعل الصلاة في حياة هذا الطفل جزءاً من كيانه لا يمكن أن ينفصل عنه أبداً، فإذا أحكمنا غرس الشعور بأن الصلاة جزء من شخصيته وهويته وكيانه؛ كان هذا أدعى إلى أن يتمسك بها حينما تجب عليه ولا يضيعها.
وعند إكمال سن السابعة لا ينبغي أن يمر هذا التاريخ مروراً عابراً، ونحن وإن كنا ضد الاحتفال بعيد الميلاد؛ لأن هذه بدعة ليس لها علاقة بالإسلام، لكن سن السابعة نحن لا نسميه عيد ميلاد، لأن سن السابعة له مناسبة شرعية مهمة جداً، وهي أنه سوف يبدأ بأمره بالصلاة، فيجب على الأب أن يأمره بالصلاة، وهي غير واجبة على الطفل، فبالتالي يجب أن يسلط الضوء على هذا التاريخ، ويعد للطفل مقدمات؛ كأن يقول له: بقي لك أربعة أشهر وتبدأ تصلي مثل الكبار، فتضع له في الكلام شيئاً مغرياً، وأن أملاً كبيراً سيتحقق، وأن فلاناً إذا أكمل السابعة سيحافظ على الصلاة باستمرار ويواظب عليها.
فالمطلوب تعميق هذا الحدث الهام، لأننا نريده أن يعلم أن ما قبله مفصول عما بعده، وأنه الآن يستقبل مرحلة جديدة؛ فلابد أن يهيئ نفسه لها مسبقاً، ولكن ليس على أنها مسئولية ستلقى على كتفه وعبء عليه، ولكن لأنه سيكبر، فتقول له: كم سنك الآن؟ فيقول لك: ست سنوات! فتقول: عندما تبلغ سبعاً ستصبح رجلاً إن شاء الله، فنربطها بشيء يكون له أمل وطموح هو متطلع إليه بلهف.
فإذاً: لا ينبغي أن يمر تاريخ إتمامه سن السابعة مروراً عابراً، بل لابد أن يعمق هذا الحدث الهام من خلال إعلامه قبلها بأنه مقبل على أمر عظيم، وهو اقتراب نوعي لأمره بالصلاة، فإذا بلغ السابعة فصلى أول فرض جمع له أبوه بعض أصدقائه وإخوته في حفل صغير ابتهاجاً بهذه المناسبة الطيبة، وكذلك يأتي له والده بمنبه لمواعيد الصلاة، أو تقويم حتى يعرف مواعيد الأذان، أو يأتي بأي نوع من أنواع الهدايا لمثل هذه المناسبة، أو حلوى يحبها، وكل صديق يحضر له هدية بسيطة، فيحس أن المناسبة عظيمة جداً، لا احتفال بعيد ميلاد، لأن هذا تضخيم للأمر العظيم، والمهم الذي هو مقبل عليه، وهو بداية التحول إلى أداء الصلاة، أو مثلاً يقدم له ساعة لكي يعلم بها مواعيد الصلاة.(4/7)
أسلوب التعليم النظري والعملي للصلاة
على الأب أن يعلم ولده الوضوء والطهارة بالشرح النظري، ثم بالتدريب العملي المتكرر، مع تبسيط الأمر بقدر المستطاع، فلا تكثر عليه من الأدعية أو السنن في المراحل الأولى، ولكن بنوع من التبسيط الشديد في العبارة، فيعلمه الوضوء والطهارة بالشرح النظري، ثم بعد ذلك بالتدريب العملي المتكرر، فيمثل نموذجاً للوضوء أمامه ويجعله يكرر ذلك خطوة خطوة كما يفعل هو في الوضوء، ويسمح له بالتطبيق أمامه، فإن أخطأ في عمله علمه ووجهه بلطف وبدون تعنيف، فإذا أتقن الوضوء مدحه واحتضنه وقبله مشعراً إياه برضاه عنه، وهذا نوع من المثوبة المعنوية (المدح بالثناء عليه)، ولا يشترط أن يكون الثواب دائماً بالحلوى والنقود، لكن ممكن بأن يظهر الرضا عنه وتقديره لما صنع بغيرها.
كذلك يعلمه فضائل الوضوء ويحفزه على الحرص على تحصيل ثوابه.
ويلاحظ أننا نهتم كثيراً بأمور الترهيب مع الطفل، وإن كان ولا بد من الترهيب فيكون الترهيب بصورة عامة دون أن تقول له مثلا: ً إذا لم تصل فسوف تدخل النار، وسوف يعذبك الله بكذا وكذا، لكن قل: من لا يصلي يعاقبه الله؛ لأن الأول كذب، والطفل إذا لم يصل فلن يدخل النار، لأنه غير مكلف، فلينتبه إلى مثل هذا.(4/8)
أسلوب التربية بالعادة
كذلك يتم تعليمه الصلاة منذ السن الباكرة دون توجيه مباشر، بل يكرر الأب صلاة النوافل في المنزل على مشهد من أولاده، وهم سوف يتأثرون بما يرونه أعمق الأثر، إذا رأوا أباهم يمرغ وجهه لله عز وجل ساجداً، قائماً خاشعاً، قد استغرقته الصلاة وصرفته تماماً عما حوله؛ لأن الطفل مع الوقت يلاحظ ويستنتج أن الذي يدخل في الصلاة لا يجوز أن يكلمه أحد، ولا أن يأكل أو يشرب؛ لأن الصلاة قد استحوذت على كل كيانه.
الشاهد: أن الطفل سوف يعلم من هذا المشهد أن أباه متى ما دخل في الصلاة فإنه لن يستجيب له، وكذلك أمه.
وكذلك صلاة الأب خاشعاً لله سبحانه وتعالى وهذا مما يؤثر فيه أعمق الأثر, ومن شأنه أن يغرس في نفوس الأطفال عظمة الله سبحانه وتعالى.
وهذه هي التربية بالعادة، فهم يتعرفون على أعمال الصلاة ويحبونها بالعادة.
مثلاً: حينما ينام تلقنه بعض أذكار المساء، وحينما يأتي الصباح تلقنه بعض أذكار الصباح، ومن ثمَّ تتحول إلى عادة يواظب عليها، وهذا مما يعينه فيما بعد على الاستقامة على هذه الأمور الشرعية.(4/9)
الدعاء من وسائل التربية على الصلاة
كذلك من الأسباب التي ينبغي أن لا نغفل عنها عند تربية الأطفال على المحافظة على الصلاة: أن يستعين الإنسان بدعاء الله عز وجل، وأن يتأسى بإبراهيم عليه السلام لما كان يقول في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40]، ينبغي للإنسان أن يلهج بهذا الدعاء في كل مناسبة، ويتحرى أوقات الإجابة؛ لأن الدعاء بلا شك من أنجح وأقوى أسباب حصول المقاصد.(4/10)
استخدام العقاب في الحث على الصلاة
على الأب أو المربي أن يعلم أن العقاب البدني بشروطه هو الوسيلة الأخيرة للتربية، كي لا يتعود عليه الطفل، وبالتالي لا يجدي استعماله فيما بعد، فمسألة العقاب البدني بالنسبة للطفل موضوع شائك للغاية، ويساء فهمه، وبالتالي تطبيقه عند كثير من الناس، وله ضوابط إن شاء الله سنتكلم عنها فيما بعد، وأرجو أن يكون ذلك في أقرب وقت ممكن، ونحاول أن نفرده من بعد ضمن الموضوعات التربوية المهمة؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، فموضوع الضرب يحصل نتيجة الجهل الواقع في الناس بموضوع التربية، ومن الناس من يتصور أنه إذا لم يضرب أنه من الممكن أن يضيع سُنة ويقع منه تقصير، حيث لم يضرب الأطفال؟! نعم.
ليس هناك نزاع على الإطلاق في أهمية وضرورة مبدأ الثواب والعقاب في التربية، أي أن مبدأ الثواب والعقاب مبدأ أساسي مهم، لكن أنواع الثواب أو أنواع العقاب تعتبر مسألة أخرى؛ إذ ليس من شرط العقاب أن يكون بالضرب.
والضرب له شروط كثيرة، لكن متى شرع الضرب؟ قال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين)، فإذا كانت الصلاة التي مقامها في الإسلام عالٍ, وشأنها هذا الشأن العظيم، لا يضرب عليها الطفل إلا بعد بلوغ العاشرة، فكيف بغيرها؟ وهل هناك شيء أهم من الصلاة؟ سنرى بعض الآباء القساة الغلاظ القلوب يضربون الأطفال ضرباً مبرحاً على أتفه الأشياء، والشيء الغريب والخطيئة المتكررة في التربية أن كثيراً من المربين لا يتفطن إلى حقيقة هي: أن طفلك ليس أنت، فلا يجعل الإنسان عقله بعقل الطفل، وإلا فإنه إنما يضرب بعنف لأنه خرج الضرب عن كونه نوعاً من أنواع العلاج الضرب شرع بشروط كعلاج، لكن إذا كان سيتحول إلى داء لا دواء فلا داعي له، لأنه له هدف تربوي؛ ولذلك لا يجوز للإنسان أن يضرب وهو غضبان، والشرع الشريف والآداب الشرعية لا تبيح لك ضرب الطفل وأنت غضبان، بل عليك أن تتريث حتى تذهب سورة غضبك, وتقرر الضرب وأنت هادئ؛ لأنك عند الهدوء سيكون الهدف من الضرب هو التقويم والعلاج، لكن في حالة الغضب سيكون الهدف هو إفراغ شحنة الغضب في ضرب الطفل، ولن يتوقف الضرب حتى تهدأ النفس وتخرج شحنة الغضب، فبالتالي ليس هذا هو الضرب المشروع أو المقصود بتربية الطفل.
إذاً: فقد خرج إلى كونه وسيلة عقاب وانتقام للنفس وإخراج شحنة الغضب، وليس هناك تكافؤ بين الطفل الصغير والإنسان الضخم كبير العضلات والقوة، لذلك فإن الضرب لابد أن يصدر من الإنسان وهو في غاية الهدوء والاتزان، ثم يقرر أن الضرب في مصلحة، وبالتالي سيكون ضرباً رفيقاً لا كضرب العبيد، كما يحصل من بعض الجفاة.
فعلى كل الأحوال قضية الثواب والعقاب لا مناص منها في العملية التربوية؛ لأنها وسيلة من وسائل التربية، لكن معنى العقاب أشمل من أن يكون بالضرب، ووسائل العقاب كثيرة متعددة، كما أن العقاب لابد وأن يكون متناسباً مع حجم الخطأ، فلا يكون عقاباً شديداً على خطأ تافه.
كما أنه لابد أن يعرف المربي أن العقاب البدني إنما هو الوسيلة الأخيرة للعقاب، وآخر مرحلة من مراحل العقاب؛ لأن الطفل إذا ما اعتاد أن الأب دائماً يستعمل ضده سلاح الضرب فسوف يفقد هذا السلاح تأثيره، ويفقد الطفل الإحساس بالضرب، ويشعر أن كرامته قد أهدرت منذ زمن، ومن المؤكد أن الضرب عند الناس المتهورين يرتبط بالتحقير والشتم والسب ونحو هذه الألفاظ، والطفل إذا ما تأثر بهذه الأشياء فلن يفيد حينها استعمال الضرب معه فيما بعد وسيفقد تأثيره معه، لكن كلما كان نادراً ومنضبطاً كلما أتى بالتأثير.(4/11)
تعليم الأطفال الصلاة عن طريق القدوة الحسنة
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده.
ثم أما بعد: فمن أنواع البناء التربوي للأطفال: البناء العبادي، أي: بناؤهم في ناحية العبادة، وأهم العبادة بلا شك هو ركن الصلاة، فالأطفال يعتقدون أن كل ما يفعله الكبار صحيح، ويرون آباءهم أكمل الناس وأفضلهم، ولذلك يحاكونهم ويقتدون بهم، ففي السن المبكرة لا يكتفي الأطفال بمجرد تلقين معلومات لا يكون لها أثر مثلما يكون الأثر عن طريق القدوة العملية؛ لأن الفترات الأولى للطفل يتأثر فيها بالتفكير المادي أو الحسي، فهو يتأثر بالأمور المحسوسة ويعيها جيداً.
مثال: إذا حدثت طفلاً عمره ثلاث سنين لا تستطيع أن تكلمه عن المعاني المجردة: الجمال والعدل والسماحة والكرم وهكذا؛ لأن هذه لا يدركها الطفل لأنها معانٍ مجردة، لكنه يدرك الأمور المحسوسة ويتأثر بها جداً.
فموضوع القدوة في حياة الطفل يعتبر من أخطر وسائل التربية وأشدها أثراً على الإطلاق؛ ففي السن المبكرة لا يتأثر الأطفال بالتلقين -الكلام الشفوي- إذا لم توجد أمامهم القدوة الصالحة التي تترجم بصورة عملية المعاني المجربة، ولذلك فإن أفضل وأعمق طريقة تؤثر في حفر قيمة الصلاة في نفوس الأبناء، هي أن يروا أبويهم يحافظان على الصلاة أمامهم باستمرار، أما الأب فبصلاة النافلة في البيت، وأما الأم فالفريضة، وإذا صلى الوالد دون أن يأمر الأطفال الصغار -ممن دون السابعة بالتحديد- فسوف يجد الأب أن الطفلة تذهب بجوار الذي يصلي وتقوم بتقليده، وتقلده في الحركات بطريقة سائدة معروفة، تنظر إليه وهو يسجد وتنظر كيف يصلي حتى تقلده في الحركات، فهو لم يدعوها أصلاً للصلاة لكن الطفل يتقمص فعل الأب، والتقمص يعتبر من أعلى مراتب التقليد، بل أعمق وأقوى صور التقليد والمحاكاة هي التقمص، فهو يتوحد مع أبيه أو يتقمصه ويفعل ما يراه بطريقة عملية.
وكما تكلمنا من قبل مراراً أن موضوع التربية لا يكون بأن يقول الأب لأولاده: تعالوا معنا الآن إلى حصة تربية، ثم يعطيهم محاضرات! لأن التربية عملية مستمرة خلال الأربع والعشرين ساعة في كل سلوك يفعله الآباء بالذات، فعندما يقول الأب مثلاً لابنه: إذا اتصل أحد يريدني فقل: أبي غير موجود.
فهذه تربية على الكذب واستباحة له، وأن الكذب يعتبر طريقة مقبولة للتخلص من الحرج، أو واحد يطرق الباب فتقول: قل له أبي غير موجود، فيقول: أبي يقول لك إنه غير موجود، فالطفل بهذه الطريقة يتشرب الكذب، وأنت بهذا تعلمه كيف يستطيع التخلص من المواقف بالكذب، أو إذا كان الأب يخون الأمانة، أو يكيد لزملائه ثم يحكي ذلك في البيت والطفل يسمعه كل هذه وسائل تربية تترك بصمات عميقة الأثر مدى الحياة في ذلك الطفل.
فإذاً: مجرد التلقين بالكلام والوعظ الشفهي بالنسبة للأطفال لا يؤثر فيهم ما لم توجد أمامهم صورة عملية، يسمونها: (كونتريك سنجل)، أي: تفكير متحجر، ليس هو تفكير المعاني المجردة، وإنما هو التفكير الحسي، ولابد من وجود شيء حسي وليس شيئاً معنوياً فقط مثل قيم الجمال، والتسامح والعدالة والنزاهة، لأن الطفل في غفلة عن مثل هذه المعاني، لكنه لا بد أن يوجه بشيء حسي، فإنه يجسد الصورة التي يتوحد معها هذا الطفل.
إذاً: محافظة الأب أو الأم على الصلاة تؤثر في الأطفال أعمق الأثر، وتحفر الصلاة في وجدانهم حفراً.(4/12)
علاج تقصير الطفل في الصلاة
إذا قصر الولد في الصلاة بعد العاشرة وجب على الأب وعظه وتذكيره بالنصوص الشرعية في الصلاة، فإذا استمر في تهاونه أغلظ له في القول وعنفه، ولا يكلمه ولا يخالطه ولا يمازحه، ويحرمه من بعض الأشياء المحببة لديه؛ فإذا فشل العقاب النفسي يلجأ الأب إلى العقاب البدني بشروطه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين).
فالمربي يقدم أسلوب الترغيب والإثابة والتشجيع، ويتجاهل تقصير الطفل في بعض الأوقات، مع حسن الإشارة والتلميح دون التصريح، فإن أصر عاتبه سراً، ويعبس في وجهه، فإن أصر عاتبه جهراً أمام أسرته أو رفاقه بدون شتم أو سب أو تحقير، وهذا شيء غير مسموح به على الإطلاق، فإذا انتقدت فانتقد الموقف أو التصرف، لكن لا تختم على الطفل بأنه فاشل مثلاً ولا أمل فيه، فهذا تحقير للذات، وتحطيم لقدرات الطفل، لكن تنتقد التصرف فقط لا أن تنتقد ذاته هو، أو تحقرها وتوبخها بصورة عامة.
فإن تمادى رغم ذلك يهدده بالضرب ويعلق عصاً صغيرة بحيث يراها، فإن لم تنفع هذه الوسائل يلجأ إلى الضرب لكن بالشروط الآتية: أولاً: لا يضرب بأي حال قبل سن العاشرة.
ثانياً: أن يعلم المربي أن الضرب وسيلة علاج وإصلاح، وليست لإهانته وتحقيره وتشويه نفسيته، وليس الضرب وسيلة انتقامية يقصد بها تفريغ شحنة غضب المربي وإراحة نفسه، ولكنه ضرورة تربوية استثنائية لمصلحة الطفل، وعليه فلا يقدم المربي على عقوبة الضرب وهو غضبان ثائر.
ثالثاً: أن لا يكون الضرب شديداً مبرحاً، ويستعمل فيه عصا معتدلة الحجم والرطوبة، ولا يزيد على ثلاث ضربات، وللوالد أن يزيد إلى عشر كحد أقصى، وأن يتوقى ضرب الوجه والمواضع الحساسة من البدن, ولا يكرره في الموضع الواحد بل يفرقه، ويترك بين الضربتين زمناً يذهب فيه ألم الأولى.
كذلك يكون الضرب على تقصير حقيقي لا على شبهة أو سوء ظن، وأن يتناسب العقاب مع حجم الخطأ ونوعه، وأن يتوقف عن الضرب إذا ذكر الغلام الله عز وجل واستغاث به.
أحد الإخوة أراه اليوم شاباً يافعاً، لما كان صغيراً جداً في بداية نطقه حصل أن ضربه والده، وكنت ذكرت في محاضرة حضرها هذا الأب مع ابنه: أن الطفل لا يضرب إذا ذكر الله، فأتاني الوالد بعد المحاضرة وقال لي: جزاك الله خيراً يا شيخ، فسمع هذا الأمر الأولاد معه، وهو يظن أنهم لا يفهمون وهم يفهمون جيداً، فكان كلما ضربه أبوه يذكر الله أثناء الضرب، فكان يستغل هذه الأشياء، فجاء أبوه يشتكي إليّ أنه من حين سمع قولي: إذا ذكر الله يوقف الضرب فيذكر الله ويستغيث بالله أثناء الضرب لكي أتوقف.
وهنا لابد أن نزرع في الطفل تعظيم اسم الله سبحانه وتعالى، فمن تعظيم اسم الله أنه إذا ذكر اسم الله يتوقف الأب عن الضرب؛ فيرتبط ذكر اسم الله بالرحمة، والعفو وتوقف الأذية؛ فهذا شيء سيحبب إليه ذكر الله سبحانه وتعالى.
كذلك لا يكرر العقاب؛ لأن العقاب الذي يتكرر سيفقد فاعليته كسلاح، فلا يكرر العقاب بقدر الإمكان حتى لا تفقد العقوبة قيمتها فلا يبالي بها الطفل، لكن القاعدة: أن الإنسان متى استطاع أن ينجز ما يريد بالرفق فلا يعدل عن الرفق تماماً.
وهذا شيء مطلوب، فإن الطفل الراقي المحافظ على كرامته يكون الكلام أشد عليه من الضرب، فنتركه يحافظ على كرامته ولا نهدرها، فالضرب شيء استثنائي، وبشروط كثيرة سنفصل فيها إن شاء الله فيما بعد.
لنفترض أيضاً أن الأب قصر في أمره بالصلاة في سن السابعة وتجاوز السابعة والثامنة والتاسعة وجاءت العاشرة؛ فإذا بلغ عشر سنين ولم يكن قد أمره بالصلاة هل يبدأ بالضرب؟ لا يبدأ بالضرب، فإذا كان قد قصر في أمره بالصلاة بعد السابعة، فلا يستعمل معه العقاب البدني مباشرة بعد العاشرة وقد قصر في تعويده بل يتدرج معه ويمرنه ويعوده عليها من جديد.(4/13)
آداب إدخال الأطفال المساجد وتحبيبها إليهم
لابد من تعويد الطفل على صلاة الجماعة منذ الصغر لكي يتعلق قلبه بالمساجد، وهناك يتعرف على العلماء ويمارس عملياً آداب الإصغاء في مجالس العلم.
هذا وإن الحرص على مشاركة الكبار في أفعالهم ميل طبيعي عند الطفل؛ فليستثمر في هذا الموضع، لكن ينبغي أن يكون الطفل عارفاً بآداب المسجد، ويحافظ على المسجد من التلويث أو النجاسة أو اللغو والتراب ونحو هذه الأشياء.
نعم هناك أحاديث تدل على أن الأطفال كانوا يتواجدون في المسجد، لكن أطفال الصحابة ما أظن أنهم كانوا مثل أطفالنا، فالذي يعرف آداب المسجد هو الذي يأتي إلا لضرورة استثنائية، لكن لا يجوز أن نحول المسجد إلى دار حضانة، نسمع فيه الصراخ والصياح وصور لا تنتهي من القذارة وتلويث المسجد، وهذا نوع من التعسف في استعمال حق إدخال الأطفال في المساجد، فنكون بهذا قد بدأنا من حيث انتهى الشرع.
أعني أن الرخصة تتوقف عند حد معين، ونحن نأتي عند الحد الأقصى ونجعلها نقطة انطلاق إلى الإفراط في استعمال هذا الحق، فالأطفال يجب أن يكونوا معروفين بعدم اللعب أو من النوع الذي يسبب ضوضاء وأذية للمصلين، أو يعبث في أجهزة المسجد أو نحو ذلك، فلا بد أن يلقن أولاً آداب المسجد؛ فإن اطمأن إلى ذلك أحضره إلى المسجد.
كذلك قبل أن يحضره إلى المسجد يهيئه؛ لأن الطفل يظل عنده نوع من الخوف الاجتماعي، ويخاف أن يلاقي الناس بمكان واسع مثل المسجد، فربما يحصل له نوع من الخوف ويبكي ويصرخ، فلابد أن يحصل نوع من التهيئة قبل أن نذهب به إلى المسجد، ويوصف له المسجد على أنه بيت الله سبحانه وتعالى، ومكان واسع وجميل، ونظيف وله رائحة طيبة، وفيه كذا وكذا تصف له المسجد، وتقرن لون المسجد بكل شيء جميل، وبأشياء محببة إليه، مثلاً: اشتر حلوى من جنب المسجد، فأدخل كلمة المسجد واقرنها بالحاجات التي يحبها.
مثلاً: وأنت تمشي تقول له: انظر إلى هذا المبنى الجميل، هذا هو المسجد، وأنا قريباً سوف آخذك معي لتصلي فيه، هذا نوع من التدرج قبل أن يأتي إلى المسجد.
كذلك يمكن تهيئة جو المسجد قبل اصطحابه، فلا مانع أبداً أن يتفق مع الإمام والمؤذن وبعض المصلين من الجيران لترتيب الوضع؛ لأنهم أطفال اليوم ورجال الغد، ويبدأ التربية من هذه السن الباكرة؛ فهي أعمق أنواع التربية، فما دمنا محتاجين إليهم فنتذلل إليهم ونتحايل عليهم ونحاول أن نكسبهم، لأنهم هم المستقبل، فصغار اليوم سيصبحون كبار الغد؛ لأن الأمة محتاجة إلى هؤلاء الأطفال، لأنهم هم المستقبل حقيقة، فبالتالي ما المانع أن يحصل هذا التواطؤ بين الأب والإمام والمؤذنين وبعض المصلين أنه إذا حضر معي هذا الطفل فإنهم يحتفون به، ويلاطفوه، وكذا بعض الناس من كبار السن نلاحظ أن عندهم ذوقاً، فدائماً يكون معهم (شكولاته أو حلويات) للأطفال، فعندما يرى أحدهم الطفل في المسجد يعطيه حلوى، فهذا نوع من التلطف المراد في أهل المسجد، فيتواصوا أنه إذا حضر الطفل لاطفوه ليحس بالأنس فيطمئن إلى أهل المسجد ورواده؛ لأن الاهتمام به في أول مرة يدخل فيها المسجد سوف يوقع في نفسه شأن تعظيم الصلاة.
كذلك إذا كان الإمام ممن يطيل الصلاة إطالة تخالف السنة ينبه على عدم الإطالة.
كذلك يربط الطفل في المسجد بحلق تحفيظ القرآن الكريم، وتجويده بالتعاون مع إمام المسجد؛ لأن المساجد الآن هي الحصن الأخير الذي حفظه الله من كل سوء، والذي يمكن أن نصحح فيه الأخطاء التربوية في السهام الموجهة للأطفال والأبناء في المدارس والإعلام والمجتمع إلى آخره.
كذلك يهتم بترسيخ ارتباطه بالمسجد وأهله عن طريق ممارسة أنشطة نافعة ومسلية للأطفال.
كذلك يعظم دائماً أمامه صلاة الجمعة ويحدثه عن آدابها، وأحكامها، وضرورة احترامها وتوقيرها، لكن لا يحمله ما لا يطيق من أمر صلاة الجمعة؛ لأن صلاة الجمعة تطول فيها الخطبة والصلاة؛ فممكن مع الوقت أن يمل الطفل، وقد يصعب عليه أن يحافظ على الطهارة فهو يريد أن يلعب.
وللأسف الشديد في هذا الزمان يندر جداً أن نرى من يتمسك بالسنة، حتى الذين ينتمون إلى السنة والسلفية فالسنة ينبغي احترامها، ومن السنة تقصير الخطبة وإطالة الصلاة، والذي يحصل الآن للأسف الشديد أن تتحول الخطبة وكأنها محاضرة طويلة فيها مشقة فعلاً على الناس، فخطبة الجمعة لابد أن يشتهر ويتميز الخطيب بأنه يقصر الخطبة ويطيل الصلاة، فإذا فعل ذلك عرف الناس أن هذه هي السنة، وليست السنة أن تطيل الخطبة كما يحصل ويشق على المصلين.
روي أن أبا هريرة رضي الله عنه دخل مرة المسجد يوم الجمعة فوجد غلاماً، فقال له: يا غلام! اذهب للعب، قال: إنما جئت إلى المسجد، قال: يا غلام اذهب للعب! قال: إنما جئت إلى المسجد، قال: فتقعد حتى يخرج الإمام قال: نعم، يعني: بدأ بالتخفيف لكيلا يكلفه بصلاة الجمعة دون سن العاشرة بل يرغبه ولا يرهبه، فإن أقبل عليها وإلا تركه وشأنه مرفهاً حتى يبلغ العاشرة أو ما قبلها بقليل فيبدأ معه بالإلزام.
كذلك يتحرى الأب اختيار الخطيب؛ لأنه بخطبته ومسلكه عميق التأثير في أخلاق الأولاد خاصة إذا فهموا الخطبة وعقلوها، ولا بأس أن يسألهم بعد الخطبة عن موضوع الخطبة، وما استخلصوه من الفوائد، ويحثهم قبل الدخول على حسن الإنصات، ويبين لهم أنه سوف يسألهم عن مضمون الخطبة بعد الصلاة؛ لاستدعاء تركيزهم أثناء الخطبة.
إذاً: هذا فيما يتعلق بتنبيهات بشأن تربية الأبناء على المحافظة على الصلاة؛ لأن الأطفال كما ذكرنا هم مستقبل الأمة المتمثل في هؤلاء الأبناء وأفلاذ الأكباد.
يقول الشاعر: لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأطفال علم قد تكفله أولو الصلاح من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح لا يصنع الأطفال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/14)
الأسئلة(4/15)
كيفية الصلح بين الزوجين ونصحهما
السؤال
شخص يعيش مع زوجته وهو في حالة خصام معها أكثر من عام، فماذا نقدم لهما من نصح، وهل هناك آثار تترتب على هذا الخصام؟
الجواب
لا شك أن هذا وضع لا يرضاه شرعنا الشريف بحال من الأحوال، وهذا نوع من الطلاق يسمى الطلاق النفسي، وهذا ليس تعبيراً شرعياً لكنه تعبير طبي، فالطلاق النفسي بين الزوجين يحصل أحياناً بأن تبقى المرأة على ذمته وبينهما هذا الانفصام.
الشرع الشريف لا يمكن أن يقر هذا الحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227] فهذه الآية الكريمة في حق من يولي أي: يحلف أنه لا يقرب امرأته أبداً، ويهجرها.
فالشرع الشريف حكم في مثل هذا: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، فليس في الشريعة ما يخول لك أن تترك المرأة معلقة بهذه الطريقة، وإنما ينظر أربعة أشهر من حين حلفه، فإن رجع وفاء وكفرَّ عن يمينه انتهى الأمر، لكن إن أصر على التمادي لا يسمح له، ولكن: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227].
لكن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يبادر بالكلام، لأنه لا يجوز لإنسان أن يعطي نصيحة في خصومة بين طرفين دون أن يسمع حقيقة الأمور؛ لأن البيوت أسرار، فمهما بذل الناس فهم لا يعرفون الغيب، أو لا يطلعون على أسرار البيت، فالإنسان إذا تعجل وانتقد موقف أحد الطرفين دون أن يسمع التفاصيل؛ فربما يفاجأ بأشياء لم تكن في الحسبان، فمثل هذه الأحوال الخاصة التي تخص الأسر ينبغي أن تكتم أسرارها وتلعق جراحها، فلا يتكلم أحد بما لا يعنيه ولا يخوض في حقوق الناس، ولا يظلم هذا ولا ذاك حتى يسمع كل الحقيقة، ثم يتحدث إن كان أهلاً لذلك أو إذا طلب منه أن يحكم، لكن خلاف ذلك لا يجوز للإنسان، لأنه يخوض فيما لا يعنيه، وحل هذه المسألة هو الحكم فيها أمام القاضي الشرعي أو من يصلح بين الناس، والله أعلم.(4/16)
كيفية حماية الزوجين من السحر
السؤال
سؤال عن حماية الزوجين من السحر؛ خصوصاً في أول ليلة زواج؟
الجواب
الإنسان عموماً يواجه أمثال هذه الأمور بالأذكار والمعوذات والأدعية والرقى الشرعية المعروفة، وأذكار الصباح والمساء أيضاً، وأيضاً التصبح بأكل سبع تمرات، ويفضل أن تكون من عجو المدينة.
والحقيقة أن الكثير من الحالات المشار إليها هي في الحقيقة ليست عن سحر، ونحن نستسهل جداً اتهام الناس بالسحر، وكل شيء نرجعه إلى السحر، وهذا نوع من الغلو موجود في كثير من الإخوة.
المقصود من أي مشكلة تعرض أن نتعامل معها بالأسباب العادية؛ فأحياناً يكون الداء هو الوهم والشك، أو عوامل نفسية أخرى، فينبغي الأخذ بالأسباب الطبيعة في جانب، والمضي في الرقى الشرعية؛ لأنه لا سبيل إلى التعاون مع السحر فهو كفر وضلال مبين، فلا يواجه السحر إلا بالأذكار والأدعية الشرعية، وبجانب ذلك الأخذ بالأسباب: بأن يتوجه إلى الطبيب النفسي، والغالب أنها تحل إن شاء الله تعالى بالأسباب العادية، والذي يحصل هو غلو وتنطع كبير في اتهام الناس بأنهم صنعوا سحراً ونحو ذلك.
ومن ذلك أنه كلما خطبت فتاة تفشل الخطبة، ثم يقال: هذا سحر لكي تفشل الخطبة، فنسبوا المشكلة إلى فعل الآخرين، وهذا يجعل الإنسان لا يمشي في الطريق الصحيح للعلاج، فلابد أن يفتش الإنسان في نفسه لينظر ما الذي يجعل الخطبة تنفسخ، أو ربما هي تقوم بأفعال معينة كي لا يتم الزواج، وهناك قصص كثيرة في مثل هذا، فقد يكون هناك شيء من صنعها هي، أو ربما هي تخرج في كل شخص علة معينة، أو أهلها يتصرفون تصرفات معينة فبالتالي ينفر عنهم الناس، وكلما أخطأنا في التشخيص فإننا نمضي بعيداً جداً عن طريق العلاج الحقيقي، لكن عندما نواجه المشاكل بطريقة موضوعية نستطيع أن نختصر الطريق، ونحل المشكلة بالفعل، والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/17)
سن الزواج للذكر والأنثى
السؤال
هل لا بد من بلوغ سن معين للشاب والفتاة كي يتم الزواج، أم يكفي بلوغهما؟
الجواب
لا يكفي البلوغ، وإنما لابد معه من النضج؛ لأن في الزواج تحمل مسئولية كبيرة بالنسبة للطرفين، وفي نفس الوقت موضوع النضج الاجتماعي يتفاوت أحياناً من مجتمع إلى مجتمع، من ثقافة إلى ثقافة، ومن شرط إلى شرط، فمن الناس من يتسم بنضج اجتماعي مبكر جداً فهذا لا بأس بزواجه، وفي بعض المجتمعات يربى الأولاد من الطفولة الباكرة على تحمل المسئولية في الصحارى والمزارع ونحو ذلك، ويكون منتجاً من صغره بحيث إنه لا توجد عنده فترة الطفولة الاقتصادية الموجودة في المدن حيث تطول فترة التعليم في الطفولة الاقتصادية، ويظل عبئاً من الناحية المادية، والبنت تؤخر الزواج.
والثقافة لها أثر على النضج والاستقلالية فهذه مسألة نسبية، لكن على أي الأحوال ما قلته ليس من عندي ولكن من القرآن الكريم: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فتأمل كلمة: (بَلَغُوا النِّكَاحَ) والتي تعبر عن القدرة على الإنجاب، (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) ثم قال: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، فهذا يدل على أن ليس كل من بلغ ونما جسده يكون قد تم عقله وشخصيته ونضجه الاجتماعي؛ بحيث يتحمل مسئولية خطيرة مثل مسألة الزواج، فالقدرة على الإنجاب والنضج الانفعالي والعاطفي والعقلي والشخصية شيء آخر، إذ لابد من التأكد منه كما قال الله سبحانه وتعالى: ((فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)) لكن قد يبلغ النكاح ولكنه ما زال متأخراً في النضج، وبالتالي لا يزوج حتى لا يسفه إذا مكن من هذا المال.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ولم يقل: من احتاج إلى الزواج فليتزوج؛ لأن كل الناس محتاجون إليه، لكنه قال: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فالزواج لا ينظر إليه على أنه حل لمشكلة.
إذاً: لابد أن يكون قادراً ومستطيعاً لكل أنواع الاستطاعة، فهو دلالة على الاستطاعة كما قلت من قبل: مثل رسالة (الدكتوراه) لا تعطى لمن يرغب فيها؛ لأن كل الناس ترغب فيها، لكن تعطى لمن يستحقها، فالزواج له ارتباط شديد بكل أنواع الاستطاعة.(4/18)
وجوب بر الوالدين
السؤال
شخص ملتزم ومتعبد ويفعل الخير، لكنه يكره أبويه ويحب موتهما، ولا يعرف هل يدعو عليهما أم لا، ويذكر بعض الأخطاء التربوية التي ارتكبها الأبوان في الصغر من تمييز إخوته عليه إلى آخره، وأن أباه وأمه لم يربوهم كما ينبغي؟
الجواب
هذا نوع من العقوق؛ لأن بر الوالدين واجب بالعقل، ثم جاءت الشريعة بنصوص قاطعة في وجوب بر الوالدين، وأجل ما يؤكد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] إلى قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
فقوله تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وارد مع هذين الأبوين اللذين يدعوانه إلى الشرك، بل يجاهدانه على أن يشرك بالله، ومع ذلك قال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، لكن مع ذلك أمر بمصاحبة أمثال هذين الوالدين بالمعروف؛ فهل ما فعله أبواك يصل إلى حد أن يجاهداك على الشرك، حتى تصل إلى هذه الدرجة من العقوق؟ هذا أولاً.
ثانياً: صحيح أنك تتحدث على النواحي التربوية كثيراً لأهميتها وفائدتها، فحتى لو كان قد أخطأ الأب أو الأم في أسلوب تربية الطفل فإنه لا يسقط حقه في البر؛ لأنه أحسن إليك الإحسان الذي لا يمكن أن تجازيه عليه، وهو أنه تسبب في وجودك في هذه الحياة، فهذه نعمة وإحسان لا تقدر على الوفاء به مع ما فعل.
ثالثاً: الإنسان لا يعيش تأثير الماضي دائماً، وهناك من يحصر نفسه في الماضي، ويحب تحويل مآسي الماضي إلى حاضر يؤرقه ليل نهار، وأنه ضحية الماضي، فنقول له: دعنا في الحاضر وفي المكان الذي نحن فيه، لا ترجع إلى الوراء، وما مضى فات ومات، واندفن واندثر، فلا تتفرج إلى الماضي وأن أباك فعل كذا، وأمك فعلت كذا، وأنت ناقم عليهما، ففي الغالب أن الأب والأم اللذين يسيئان إلى طفلهما لا يقصدان أي نوع من أنواع الإساءة فعلاً، وهو صادر عن جهل، ولعل جهلهما يشفع لهما، لذا لا تتسرع بالانتقام ممن أحسن إليك أعظم الإحسان وهو أنه كان سبباً في وجودك، فهذا شعور غير سوي، فالأب والأم لا يأخذ الإنسان حقه منهما، أو يرفع قضية على أبيه ويقاضيه.
وهناك حدود للتعامل مع الأبوين؛ إذ ينبغي مراعاتهما، ولا داعي أن ينجر الإنسان وراء الماضي ويعيش أسيراً لأخطاء الماضي، بحيث يعجز عن أن يواجه مسئوليات الحياة الآن.
ويبدوا أن هذا السائل خائف من شؤم عقوق الوالدين، فإنه يقول في سؤاله: إنه يتمنى أن لا ينجب أطفالاً.
وسأل أكثر من مرة عن حكم منع الحمل نهائياً، لماذا؟ لأنك خائف أن هذا السلوك يتكرر منه بعد ذلك، إذاً: فأحسن إلى والديك تجد عاقبة ذلك في ذريتك، والله تعالى أعلم.(4/19)
أحلام اليقظة
السؤال
شخص يسأل عن موضوع أحلام اليقظة؟
الجواب
أحلام اليقظة ظاهرة وواضحة جداً في سن المراهقة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست ضارة، لكن الغلو فيها هو الضار؛ لأنه يستهلك الوقت، وسن المراهقة من الثانية عشرة وحتى الثامنة عشرة أو العشرين، وذلك شيء طبيعي، لأن الإنسان مقبل على الحياة وفي شبابه، وجسمه وعقله ينمو، وإمكانياته تنمو، ويتطلع دائماً للمستقبل، فهو دائماً يخطط للمستقبل، يقول: سوف أفعل كذا ثم بعد كذا أفعل كذا إلى آخره.
فكون الإنسان يحلم أحلام يقظة ويؤمل في المستقبل في أمور حسنة لكي يفعلها في أمر دين أو دنيا، لا بأس بذلك، وهذا شيء طبيعي، وشيء مستحسن لو أن هذه الآمال تحفزك على الإنتاج، وتعطيك طاقة على أن تنجح وتتخرج وتدخل كلية كذا.
لكن إن كانت الأحلام هروباً من تحمل المسئولية، والغرق في الأوهام، ففي هذه الحالة تكون القصة قريبة من قصة ذلك الرجل الذي أتى بجرة العسل وعلقها على الحائط وهو ممسك بالعصا ويقول: أبيع هذا العسل وأكسب منه كذا، ثم آتي بالمال وأشتري منه كذا وكذا إلى مشروعات متسلسلة يلد بعضها بعضاً، إلى أن قال: ثم أتزوج، ويرزقني الله ولداً، ثم هذا الولد آخذه بالأدب وأكون حازماً في تربيته، فإذا عصاني قلت له كذا، وأضربه بهذه العصا، ورفع العصا فكسر جرة العسل وسال العسل على الأرض.
فالاستغراق في أحلام اليقظة صفة غير حميدة أو وضع غير حسن؛ لأنه استهلاك للوقت بصورة غير سوية، لكن إذا كان المستقبل يحفزك على العمل، وبالمعدل المعقول فلا بأس، أما إضاعة ساعات أو ساعة في أحلام يقظة.
فهذا هروب من الواقع فليراجع نفسه.(4/20)
التشجيع وأثره في التربية
التشجيع سبب في نمو وازدهار الدول؛ إذ به تبرز المواهب، وهو أمر مندوب في الشرع استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم، وآثاره ملموسة مشاهدة أمام كل من يستخدمه، ونتائجه أكثر من العمل بدون تشجيع، فكيف بالتثبيط الذي هو على العكس تماماً؟!(5/1)
أثر البيئة المشجعة على الشخص
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذا بي فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع، وقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً).
الشاهد هنا من رواية هذا الحديث: ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الغلام ابن عمر، وتشجعيه عن طريق هذا الثناء، وهذا التشجيع أثمر استقامته على قيام الليل بعد ذلك، فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) فرغبه في قيام الليل، وأنه يكون سبباً للنجاة من عذاب النار الذي أريه في منامه، فكان عبد الله بن عمر منذ أن قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة لا ينام من الليل إلا قليلاً.(5/2)
التشجيع في طلب العلم
من أسوأ الأشياء أن يصاحب الطالب شخص دائماً يأخذه إلى أسفل إما من أصحاب السوء الكسالى، أو من المثبطين الذين يحاولون تحطيم طاقاته وتحقيره وتعجيزه، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: قد قبض الرسول عليه الصلاة والسلام، فهيا نذهب إلى مجالس علماء الصحابة وفقهائهم كي نستفيد ونتعلم؛ لأن هذا هو المتاح الآن بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له صاحبه هذا: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، يعني: أنت غلام صبي صغير تذهب تتعلم لكي تحمل العلم للناس، هل الناس يحتاجون إلى مثلك، وأنت صبي صغير، وأنت ترى في القوم عمر وأبا بكر ومعاذاً وغيرهم من الصحابة.
فقال له صاحبه: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، قال: فتركت ذاك، أي: أهملت هذا الكلام ولم أرعه، ولم يبال بهذه الكلمة المثبطة، انظر كيف التعامل مع التثبيط، قال: فتركت ذاك وأقبلت على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه، وهو قائل -نائم في وقت القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه يسف الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟! هلا أرسلت إليّ فآتيك، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني! صاحبه الأول الذي كان يثبطه رآه قد صار إماماً، والناس ملتفون حوله يتعلمون منه، قال: فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني، يقول الشاعر: فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق تطوي المراحلا ولا تنتظر في السير رفقة قاعد ودعه فإن العزم يكفيك حاملا وهذا ابن شهاب رحمه الله تعالى كان يشجع الأولاد الصغار فيقول: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم.
وكان الخليفة هارون الرشيد رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء حتى قال ابن المبارك: فما رأيت عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة، كل هذا بسبب تشجيع الخليفة هارون الرشيد للعلم ولطلبة العلم.
وبلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، ومن هؤلاء الأمراء: المعز بن باديس، أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعول على آرائه، ومنحه أسمى الرواتب.
كذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الذي أنشأ بيت الطلبة، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين منهم، أي: سمع أن بعض الناس في الحاشية يتداولون كلاماً بينهم مفاده: كيف يغدق هذا الإغداق والعطاء على طلبة العلم النابغين؟ ففزع منهم وخاطبهم قائلاً: يا معشر الموحدين! أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته -أي: من احتاج منكم رجع إلى قبيلته- وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجؤهم، إليّ فزعهم وإليّ ينسبون.
وبلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر حداً عجيباً، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مدداً طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعراً في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر أرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم به، وبنى له شارعاً، وفيه بيوت مشابهة للشارع الذي كان هو ساكن فيه، وبنى له بيتاً مثل بيته تماماً، فنقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآه ابن زهر اندهش وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عليه، ولا يستطاع التعبير عنه! فهل سمع بمثل هذا في إكرام العلم والعلماء؟! فالإسلام حليف العلم في كل العصور، ليس فقط علوم الشرع الشريف لكن حتى العلوم الحديثة، فإن العلم -بالذات في هذا العصر- أقوى مؤيد لدين الإسلام؛ لأن العلم منحاز بكل قوته إلى الإسلام، وقد تكلمنا مراراً على كتاب موريس بوكاي الذي فصل فيه الكلام على هذه الحقيقة.
في القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع الأمصار والقرى، وتوفير الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضارياً وعسكرياً حتى صارت تهدد بغزو أوروبا.
يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى قصة يقول: قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب؟ وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن -بعد تلك الشهرة والمكانة- تدفعها كلمة التشجيع لتمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير، أي: مهما بلغ الإنسان من مكانة في علم أو عمل أو نحو ذلك، فإن كلمة التشجيع لها أثر طيب جداً، فليس التشجيع فقط مع الصغار، ولذلك كان من الذوق إذا أحسن إليك شخص لابد أن تعبر عن شكرك له، وقد وصل الأمر إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، ومن لم يشكر الله فقد كفر بالنعمة.
فالإنسان يشكر لمن يعلم أنه أحسن إليه، نجد بعض الناس عنده هواية إذا قرأ كتاباً، وكان الكتاب حافلاً بالفوائد، وربما تكون فيه غلطة أو خطأ أو تقصير أو مسألة فيها نظر في أثناء الكتاب قام يشنع عليه، وهذه مدرسة قد ابتلينا بها في هذا العصر، أصحابها كالذباب لا يقع إلا على تلك الأشياء، فهو يترك كل الأشياء النظيفة وكل الفوائد ويركز اهتمامه فقط على الأخطاء، وكأن هذا الشخص لا يساوي إلا هذا الخطأ.
هذا من الجحود، وهذا ليس من الإنصاف، كيف والله سبحانه وتعالى حتى مع أهل الكتاب يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] فحتى مع هؤلاء لابد من الإنصاف.
الشاهد: أن هذا الجحود صار الآن ظاهراً في مدارس معينة أو مدرسة محددة كل وظيفتها النظر فقط إلى القمامة، والبحث فقط في القمامة، لكن كل الحدائق الخضراء والبساتين والزهور والرياحين والأشياء الجميلة يتركونها، لا يعمدون إلا إلى القمامة، يتقصدون أخطاء الناس ويتصيدون الزلات، قال السلف قديماً: (إن المنافق يطلب الزلات، والمؤمن يطلب المعاذير)، لن أفصل في هذا حتى لا نخرج عن موضوعنا، لكن لعلها عبرة لهواة التفتيش في القمامة.
إذا وجدت هفوة في كتاب فينبغي أن تقول: لقد استفدت من كتابك في كذا وكذا، لكن هناك نظر في المسألة الفلانية حبذا لو راجعتها، ربما يكون فاتك تحقيقها، أو نحو هذا الكلام اللطيف، لكن، الغلظة والشدة منهج وأسلوب حياة طغى -للأسف الشديد- على كثير من هؤلاء الناس.(5/3)
التشجيع في الإسلام
إن التشجيع رفع الإسلام شأنه إلى حد أنه جعله فريضة على غير القادر على إقامة فروض الكفاية، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد، طلب العلم، الولاية، الإمامة، فأمثال هذه الفروض من فروض الكفاية يقول فيها العلماء: إنها واجبة على الكفاية، إن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعاً، يأثم القادر لأنه قصر، ويأثم غير القادر لأنه قصر فيما يستطيعه، وغير القادر على أداء هذه الفروض الكفائية يأثم أيضاً، لماذا؟ لأنه قصر فيما يستطيعه، وما الذي يستطيعه؟! يستطيع التفتيش عن القادر، وحمله على العمل، وحثه وتشجيعه وإعانته على القيام به، بل إجباره على ذلك.
فإذا: ً إذا لم يقم الفرض الكفائي يأثم القادر وغير القادر؛ يأثم القادر لأنه قادر ولم يفعل، وغير القادر لأنه لم يشجع القادر، قال الله: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، والتحريض هو نوع من الأنواع وأسلوب من الأساليب.
حتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان يعطي بعض الموظفين أموالاً ويعطيهم أشياء من الدنيا كي ينصاعوا للإصلاحات التي كان عزم عليها في ذلك الوقت.
وسأذكر أسلوب التربية عند عمرو بن العاص الذي كل أهل الأرض في كفة، وأهل مصر في موقفهم مع عمرو بن العاص في كفة أخرى، لماذا؟ لأن لـ عمرو بن العاص دين في أعناق مصر لا يستطيعون سداده، ولو عملوا عليه ليلاً ونهاراً؛ فـ عمرو بن العاص هو الذي بسببه أشرق نور الإسلام في مصر بعد الوثنية والنصرانية والفساد كله، أشرقت هذه البلاد بنور الإسلام، ومنها انطلق غرباً وجنوباً ببركة جهاد عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ومن معه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ولما فتحت مصر كانت العاصمة الإسكندرية، ولا تزال آثار سور عمرو بن العاص موجودة، حتى السور الذي كان بناه للإحاطة بالإسكندرية ما زال موجوداً.
الشاهد: أن عمرو بن العاص له منة أخرى علينا فوق أنه كان سبباً في دخول أهل مصر إلى الإسلام؛ فقد صبغ لساننا باللسان العربي ولله الحمد، وفتح الله على يديه على أهل مصر بلغة القرآن الكريم، لكن عمرو بن العاص كان عالماً بشخصية الموظفين المصريين، فمنع تعيين أي موظف في الدولة الإسلامية لما فتحها -حتى من الأقباط- إلا إذا كان يتقن اللغة العربية، فبالتالي في سنوات معدودات تم -ولله الحمد- تعليم أهل مصر لغة القرآن الكريم، بينما نرى تقصير الدولة العثمانية عندما حكمت العالم الإسلامي قرابة سبعة قرون، وما عربت نفسها وللأسف الشديد، بل كانت الكتب تترجم بلغة تركيا.
فالشاهد: أسلوب التربية الذي سلكه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه.
وقد سلك المسلمون في شتى العصور أسلوب تشجيع الموهوبين وكبيري الهمة بكافة صور التشجيع، وكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم الذين أوقفوا أنفسهم على طلب العلم؛ كي يغنوهم عن سؤال الناس أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش.
الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي يقول فيه الصفدي: لم أره قط إلا يصنع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم وينوه بقدرهم، وكان المعلمون في الكتاتيب والمساجد وفي الأزهر الشريف إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه بالمال من مالهم الخاص أو من أموال الأوقاف.
وفي طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء، روى البخاري في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام حدث مع أشياخ بدر، قال ابن عباس: فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقالوا: لم لا نأت بأولادنا الصغار ونجلسهم معك؟ فلماذا تدخل ابن عباس وهو صغير في مجلس الكبار من الأشياخ الذين حضروا غزوة بدر؟ فقال بعضهم: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، أي: أنه من أهل البيت، وابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، يقول ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، فهم ابن عباس وتفطن إلى أنه هذه المرة استدعاه خصيصاً كي يري هؤلاء القوم منزلة ابن عباس، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، أي: هذه السورة فيها نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذاته الشريفة، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وذلك علامة أجلك، فقد أديت الرسالة، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] أي: تأهب للقاء الله عز وجل، واختم حياتك بالتسبيح بحمد الله والاستغفار، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
فانظروا عمر رضي الله عنهما كيف أراد أن يقوي ثقته، وينمي همته، ويربأ فيها عن احتقار الذّات، أو الشعور بالدونية والنقص.
وروى البخاري في الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن الكريم، فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو صغير السن، فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! هذا وهو صبي صغير، والكبار لم يعرفوا، قال عمر: يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نفسك، فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فانظر عبارة: (يا ابن أخي قل، ولا تحقر نفسك).
هذه من الأسس التربوية المهمة جداً، فبعض الناس يتصور أن عمر بن الخطاب بالقوة والشدة في الدين والبأس سوف يتعامل مع الطفل بما يرعبه، لكن لا، انظر كيف كانوا كلهم أساتذة في التربية رضي الله تعالى عنهم؟! قال عمر: يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نفسك، فمن ثم سار ابن عباس على هذه السنن منذ طفولته غير مبال بتثبيط من هو أقصر منه همة.(5/4)
تشجيع النفس عند تثبيط الآخرين
الناس يختلفون في التأثير بالتشجيع والتثبيط والتخذيل، فأحياناً يتعرض الإنسان لتخذيل أو تثبيط ربما يتفاعل معه بطريقة سلبية أو يتفاعل معه بطريقة إيجابية، قد يكون الشخص ضعيف الشخصية جداً بحيث إنه ينهار تماماً، وربما غير مسار حياته كله؛ بسبب عبارة تخذيل، أو مدرس حط من قدره أو احتقره، وهذه طريقة سلبية في التفاعل مع التخذيل، وهناك طريقة إيجابية يكون فيها ارتقاء الإنسان بسبب التخذيل، ويتفاعل معه بالعكس بتحدي.
أذكر أن مدرسة كانت تنتقد إحدى الطالبات في الثانوية، وكلما تقابلها تقول لها العبارة المعروفة: قابليني لو أفلحت بنفس هذه الأساليب الشيطانية المدمرة، حتى أنها كانت متربصة بها وهي داخلة الامتحان، وتتوعدها وتقول لها: تعالي قابليني لو نجحت حتى من الثانوية العامة، فكيف تفاعلت تلك الطالبة مع هذا التخذيل والتحطيم من المدرسة الجاهلة التي تحتاج إلى تربية؟ أخذت الموضوع بتحدي، فاجتهدت جداً في الدراسة، ودخلت نفس الكلية ونفس التخصص والمادة التي كانت المدرسة تتحداها فيها، وتفوقت إلى أعلى ما يمكن من المراتب في هذا العلم، وكان السبب التفاعل الإيجابي مع التثبيط، بتحدي وليس بخضوع واستسلام وتخاذل، فالإنسان يحاول دائماً أنه يحول الظروف إلى صالحه، هذا هو الإنسان العاقل؛ لأن الظروف لا تستطيع أنت تغييرها، فحاول أن تحولها إلى صالحك.
كان بعض الأكابر له مملوك سيئ الخلق فض غليظ لا يناسبه طبعه، فقيل له: لم لا تتخلص منه فإنه مؤذ وسيئ الطبع، وفيه نفور شديد؟ لماذا أنت متمسك به، ويمكن أن تبيعه وتتخلص من هذا العبد الغليظ؟ فقال: إني أدرس عليه مكارم الأخلاق؛ فأنا أروض أخلاقي وأتدرب على الصبر والتحمل، وكيف أحسن خلقي حتى مع من يؤذونني أو أبغضهم أو يبغضونني؛ فانظر كيف حول الظروف إلى صالحه! وهذا شيء حقيقي فعلاً؛ فإن الإنسان لولا المخالطة لن يتعلم ولن يستفيد، والإنسان المعزول تماماً عن الناس لا يكون عنده كفاءة في التعامل مع المسئوليات أو إدارة الأمور أو التكيف مع المحيطين به، فالاختلاط بالناس فيه فوائد مع ما فيهم من الأذى؛ فلا بد أن يعود الاختلاط بهم على الإنسان بفائدة؛ لأنه يرى الأخلاق السيئة في صورتها السيئة، فحينما يتمرن على مصاحبة مثل هذا المملوك السيئ الخلق، ومعاشرته والصبر عليه والتحمل، لا شك أن هذا سوف يقوي من إمكاناته الشخصية.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، يقول: احتكاكي بالجهال استفدت منه، وتعرفون أنه عانى من هؤلاء الناس معاناة شديدة حتى أحرقوا كتبه، وآذوه أذى شديداً، يقول: احتكاكي بالجهال والباغين نفعني منفعة عظيمة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فطري، وتهيج نشاطي؛ فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة، ولولا استثارتهم نشاطي واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف، يعني: الصراعات الفكرية، وصراعه مع المقلدين وغيرهم جعله يقرأ ويصنف مما أنتج هذه التصانيف الرائعة التي صنفها، ودائماً الحسود أو المؤذي إذا تفاعل معه الشخص المبغي عليه أو المجني عليه بالحسد أو الأذى تفاعلاً إيجابياً تحصل له الثمرة الإيجابية، فهناك بعض الأشعار في شأن الحسد لها نفس هذا المعنى، يقول بعضهم: يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا عود البخور كلما ازداد إحراقه كلما شاعت رائحته أكثر وأكثر، فكذلك الإنسان عليه أن يحول التخذيل أو التثبيط أو العوامل البيئية من حوله إلى عوامل إيجابية.
أذكر قصة للأديب المعروف عباس محمود العقاد، وكلما ذكرت اسم العقاد أتحسر في الحقيقة على العقاد، فقد كان من الأذكياء، ولكنه للأسف الشديد ضيع عمره في أنواع من المعارف والعلوم غير المثمرة إلا قليلاً مما خدم به المصنفات الإسلامية كالعبقريات ونحوها.
لكن على أي الأحوال هو أنموذج من نماذج التعامل مع التثبيط بطريقة إيجابية، فالذي يثبطك ادخل معه في التحدي، وتحداه وحول النتيجة التي يريدها منك إلى نتيجة إيجابية.
يقول العقاد: استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريق الإفادة؛ فإن الأستاذ الأول كان يقصد أن يفيدني لأنه كان يشجعني، والآخر أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة على الحالين، وكان أحد الأستاذين هو الشيخ فخر الدين محمد التشناوي، وكان يميل إلى التجديد والابتكار في التعبير، ويمنح أحسن الدرجات للتلميذ المتصرف في مناحي الكلام، وأقلها للتعبير الذي يؤخذ من نماذج الكتب، والذي يكتب موضوع إنشاء يعطيه أقل، والذي يبتكر من عنده تعبيرات وإنشاءات فهذا يعطيه درجة أعلى، وكانت دروسه تلتهب حماسة ووطنية، ولها تأثيرها البليغ في نفوس التلاميذ خصوصاً في زمن كانت تئن فيها البلاد من وطأة الاحتلال.
أما الأستاذ الثاني فمدرس الحساب، فقد كان يؤمن بالخرافات وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولاسيما المسائل العقلية في دروس الحساب، وبعد أن ذكر بعض المواقف مع ذلك الأستاذ قال: ولكن الدرس الأكبر الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي كان بسبب مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية، كنت شديد الولع بهذه المسائل، لا أدع مسألة منها دون حل مهما يبلغ إعضالها، وكان الأستاذ يحفظ منها عدداً كبيراً محلولاً في دفتره، يعيده على التلاميذ في كل سنة، والمدرس كان يحفظ المسائل مثل اسمه، وقلما يزيد عليها شيئاً من عنده، وعرضت في بعض الحصص مسألة ليست موجودة في دفتر المدرس، فعانينا حلها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم امتحاناً لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب ومسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين، لم أصدق صاحبنا، ولم أكف عن المحاولة في بيتي، فقضيت ليلة ليلاء حتى الفجر، وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام، وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان، فقلت: لقد حللت المسألة، قال الأستاذ: أية مسألة؟ قلت: المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية، قال: أو صحيح؟! تفضل أرنا همتك يا شاطر، وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج قد انطبعت في ذهني لشدة ما شغلتني، ومن طول ما راجعتها، وكررت مراجعتها وانتظرت ما يقول، فإذا الأستاذ ينظر إليّ شزراً وهو يقول: لقد أضعت وقتك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان، وإذا بالتلاميذ على نفحة الأستاذ قائلين: ضيعت وقتنا، ما الفائدة من كل هذا العناء؟ ثم عقب العقاد على هذا الحدث بقوله: كانت هذه الصدمة خليقة بأن تكسرني كسراً لو أن اجتهادي كان محل شك عندي، أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لا شك فيها، فإن الصدمة لم تكسرني، بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح قول القائل: كل ما لم يقتلني يزيدني قوة؛ لأني لم أحفل بعدها بإنكار زميل ولا رئيس، وعلمت أن الفضل قيمته فيه لا فيما يقال عنه أياً كان القائلون.
فلا شك أن هذا درس وعبرة فيها فوائد جمة، فهو نموذج من نماذج التعامل مع التثبيط بطريقة إيجابية؛ لأنه واثق من موقفه، ولا يشك في أنه اجتهد وأنجز إنجازاً له قيمة، وأن زملاءه كانوا منافقين يداهنون المدرس، وأن المدرس لم يكن منصفاً في رده وما قصده، لكن مع ذلك انظر كيف تفاعل مع هذه المسألة؟! يحضرني أيضاً قصة العلامة الألباني رحمه الله تعالى، وهي: أنه لما كان في مقتبل صباه نشط لتحقيق مسألة حكم بناء المساجد على القبور، وحكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور، خاصة أضرحة الأولياء، فالعلامة الألباني رحمه الله تعالى جمع الأقوال من مكتبة أبيه في البيت، وأبوه كان حنفياً، فرجع إلى كثير من مراجع الأحناف وعمل بحثاً قيماً انتهى به إلى أن الصلاة في هذه الأماكن مكروهة كراهة تحريمية، ثم ذهب وكله نشاط وهمة وأمل في سماع كلمة ثناء من شيخه الشيخ البرهاني، فعرض عليه البحث، وكان ذلك في الأيام الأخيرة من رمضان في تلك السنة، فقال له: بعد العيد إن شاء الله نتقابل وأكون قد قرأت البحث فلما قابله بعد العيد سأله عن البحث، فقال: لقد أضعت وقتك في غير فائدة، فإنك ما رجعت للمراجع المعتبرة عند أهل العلم، فيقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: فاستنكرت هذا التعليق، وأيقنت أن هذا الشيخ لم يقرأ البحث أصلاً؛ لأنه سرد أسماء كثيرة من المراجع أكثر بكثير مما ذكره شيخه، قال: فدفعني هذا إلى المزيد من البحث، ومن التحري في المسألة إلى أن خرج الكتاب المشهور المبارك: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، فالشاهد: أن الموقف كان تفاعلاً مع المثبط بطريقة إيجابية، فالذي يثبطك تحداه؛ لأن المثبط واحد من اثنين: إما أنه جاهل في التربية، وإما أنه حاقد يريد أن يحطم نفسية هذا الطالب، ويسيء إليه، وللأسف الشديد، ففي الحالتين لا يمكن أن يكون مستحقاً بأن يتأثر من كلامه؛ لأنه لا يقبل موقف الحاسد أو الحاقد أو الذي يريد به سوء، وأيضاً الجاهل لا يؤخذ منه ولا يبنى على موقفه.(5/5)
أثر ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر(5/6)
عامة الخلق جبلوا على حب التشجيع
حديثنا اليوم عن التشجيع والثناء والتحفيز بالنسبة للأطفال أو طلبة العلم أو الناس عموماً، فللمدح والثناء أثر فعال في استنهاض الهمم والإنجاز العظيم، فكلمات الثناء والامتنان، والتعبير عن الشكر تقوم بالإشعاع بالطاقة وإطلاقها، بوسعك أن تمدح جسداً ضعيفاً ليتحول بمديحك أو ثنائك أو تشجيعك إلى قوة، وأن تمدح قلباً يملؤه الخوف ليتحول إلى السكينة والاطمئنان والثقة، وتتحول الأعصاب المحطمة إلى ثبات وقوة، والمشروع الفاشل إلى نجاح وازدهار.
إن عامة الخلق جبلوا على حب الثناء والتأثر والسعادة به، حتى إن مدربي الحيوانات يقومون بتدليل ومكافئة الحيوانات التي يرعونها بتقديم الحلوى أو أي شيء تحبه اعترافاً وثناء على طاعتها لهم، كذلك الأطفال يشعرون بالمرح والسرور عندما يثنى عليهم ويمدحون، حتى يقال: إن القدرة نفسها تنمو بصورة أفضل لأولئك الذين يعشقونها، فالثناء والتشجيع يعطي المرء طاقة وحيوية، خاصة إذا تلقى هذا الثناء من إنسان يعرفه أو يعبر له عن شكره بما قام به من عمل؛ فيشعر بالرضا والانبساط.
نحن الآن على مشارف العام الدراسي الجديد، وتنبيهنا للمدرسين على وجه الخصوص، ثم للمربين عموماً وفي مقدمتهم الآباء والأمهات، فينبغي أن نتعامل مع أطفالنا من منطلق هذا التحفيز والتشجيع والمديح والثناء الصادق الذي يرفع معنوياتهم، ويشحن الطاقة الجسمية والمعنوية لديهم كي تتحول إلى سلوك وعمل، وتنمي فيهم القدرة على تحمل المسئوليات.
شخص يدعى الدكتور هنري بوذرد كان يعمل مدرساً في إحدى المدارس في (نيوجرسي)، فاخترع جهازاً لقياس الإعياء والتعب، وكان الأطفال هم موضع الاختبار، وعندما كانوا يتلقون كلمات الثناء والإعجاب والتشجيع كان يظهر الجهاز ارتفاعاً مفاجئاً يعبر عنه بوجود طاقة إضافية، وكانت طاقتهم تزداد بمجرد أن يسمعوا هذه الكلمات، وعندما كانوا يتعرضون للنقد واللوم والتوبيخ كانت تندفع طاقتهم الجسمانية إلى الهبوط بصورة مفاجئة، ورغم عجز العلم عن تفسير قوة الثناء بدليل مادي أو حسي إلا أنه استطاع أن يقوم بقياس أثر الثناء والتشجيع على طاقة الإنتاج.
بعض الأطفال كان يوماً يقول وهو محبط وحزين: إنني إذا ارتكبت أخطاء أرى الجميع ينتقدونني، وإذا أنجزت إنجازاً قيماً لا أسمع كلمة ثناء من أحد! فكان هذا سبباً من أسباب إحباطه، وكثير من الناس يتعمد هذه الطريقة ويقول: لكي نربيه ويصير رجلاً يتحمل المسئولية؛ لا نمدحه، لكن فقط نوبخه ونعنفه، فبعض الناس يركزون فقط على السلبيات والنقد، ويطلقون على الأطفال أحياناً وابلاً من السباب والشتائم، وينبغي أن نشبع جوع هؤلاء الأطفال إلى المديح وإلى الثناء، وأن نحفظ لهم كرامتهم، ونعطيهم المزيد من الاحترام والثقة، والفرصة للعطاء والإنتاج لما يناط بهم من مسئوليات؛ فيصبحون بذلك أكثر إيجابية وتعاوناً مع الآخرين.(5/7)
شروط التشجيع
أهم شرط في المديح: أن يكون صادقاً بدون مداهنة أو كذب، وهذا هو الذي يترك أثراً إيجابياً في نفس الطفل، وإذا مدح الطفل بمجازفة وبكذب فإنه يكتشف ذلك، ويعرف أن هذا كذب، فالثناء ينبغي أن ينصب على الفعل، لا أن تمدح الطفل نفسه كما سنبين إن شاء الله تعالى، لا تقل له مثلاً: أنت أبرع طفل في العالم، أنت أجمل طفلة في العالم أو نحو هذه الأشياء، وإنما تقول له: أداؤك في هذا الامتحان كان أداء جيداً وموفقاً، وتحسنت كثيراً، فتمدح السلوك وليس الشخص نفسه، حتى يحصل الربط الإيجابي، ويكون أقوى وأقدر على التغيير في سلوكه، وقد رأينا في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كيف مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة الرائعة: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)، فتأثر ابن عمر بهذه العبارة جداً إلى حد أنه كان بعدها لا ينام من الليل إلا قليلاً ينبغي أن ينصب الثناء على الفعل، وعلى السلوك الحسن الإيجابي، وليس على الشخص نفسه، فمثلاً بدل أن تقول له: أنت طالب مجتهد يا فلان، قل له: الامتحان الأخير الذي حصلت فيه على هذه الدرجة في اللغة العربية كان ممتازاً، أو النتيجة كانت ممتازة، أو أداؤك كان ممتازاً، ولا تقل له: أنت ممتاز؛ لماذا؟ حتى نلفت نظره دائماً إلى السلوك نفسه، وليس إلى شخصه.
مثلاً: بنت ساعدت أمها في ترتيب غرفة من غرف البيت، فالصواب أن يقال لها: كان عملك في إنجاز هذا الأمر رائعاً، ويشجعها بكلام ينصب على مدح السلوك، لكن لا نقول لها: أنت أفضل البنات يا فلانة، أو أنت أفضل بنت في العالم إلى آخر هذا، فنركز على السلوك نفسه لنلفت نظره، وليربط بين المديح والثناء، وبين السلوك الإيجابي كي يحدث تغييراً في سلوكه؛ لأن الثناء المطلق لا يؤثر نفس التأثير، فينبغي أن يكون محدداً لكي يعرف أنه لما عمل الشيء الفلاني مدح، وشيء محدد هو الذي استجلب له المدح والثناء؛ ولذلك ينبغي أن تكون المكافئة أو التشجيع عقب الفعل مباشرة، فعندما يحفظ السورة ويسمعها تسميعاً جيداً؛ فوراً يعطى الجائزة، والجائزة لا يشترط أن تكون مادية بل يمكن أن تكون مدحاً وثناء أو أن يحتضنه، أو يلعب معه، أو أي شيء آخر.
ولا يشترط أن الجائزة دائماً تكون جزاءً مادياً، كذلك العقاب يكون عقب الفعل مباشرة، ولا يؤجل ولا يسوف؛ لأنه إذا عوقب بعد فترة، أو بعد مضي يوم أو يومين مثلاً، أو إذا جوزي بعد مضي يوم سيختلط الأمر، والمفروض أن يعاقب عليه مباشرة، وهو في أثناء أو هذه المهلة يمكن يكون قد ارتكب سلوكيات خاطئة أخرى، فهو لا يعرف على ماذا يعاتب؟ إذاً: العقوبة لابد أن تكون عقب الفعل مباشرة، وكذلك الجزاء والثواب والتشجيع، وعندها سنجد أن الطفل سوف يحاول الإكثار من هذا السلوك الذي جلب له المديح أو الثناء والإعجاب والتقدير، ولو أننا ركزنا على مدح ذاته هو وليس إنجازاته أو سلوكياته فهذا سوف يزيد من أنانيته، ويزيد من حبه لنفسه، وربما أشعره بالغرور والتعالي؛ ولذلك نرى كثيراً من المتفوقين يتراجعون في مستواهم الدراسي، أو ينحرفون عن السلوك القويم بسبب المبالغة في مدحهم بمدح عام مطلق يملؤهم غروراً وكبراً، فلابد أن يتسم الثناء والمدح بالموضوعية، ولا يبالغ المربي فيه، حتى لا يفقد قيمته؛ لأنه إذا كان مبالغاً فيه، أو فيه كذب، فإن الطفل سوف يدرك جيداً هل كان المدح صادقاً ومعقولاً وموضوعياً أم فيه مجازفة وغلو ومبالغة، فيستخدم المربي الاعتدال وفي ظروف ملائمة، تشجعه على الأداء وتنمي لديه الحافز الداخلي، وتساهم في بناء شخصيته وتطويرها نحو الأفضل.
نذكر كلاماً متعلقاً بنفس هذا الموضوع من كتاب: (مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين) لمؤلفه صالح بن سليمان البقعاوي يقول: إن من الأسس النافعة في التعليم والتربية: الثناء على الطالب ومدحه ليزداد اهتماماً ونشاطاً في الخير والإقبال على العلم والتزود منه، والمدح والثناء الحسن لا يكلف المعلم شيئاً، ولا يحقر بسببه شيئاً، بل الفائدة متحققة من استعماله، وحينما نقرأ سير علماء الأمة وصلحائها نجد المدح والثناء والتشجيع للطلبة على كسب العلم وتحصيله.(5/8)
أمثلة من التشجيع الفعال
كان الإمام أحمد دائماً يمدح بقي بن مخلد أمام باقي الحاضرين، ويقول: هذا يقع عليه اسم طالب العلم، أي أنه يستحق أن يتشرف بلقب طالب علم؛ لأن قصة بقي بن مخلد في غاية الروعة، رحل من الأندلس إلى بغداد ليسمع مباشرة من الإمام أحمد رحمه الله، وكان الإمام أحمد محددة إقامته في تلك الفترة، وممنوع من مخالطة الناس، فاحتال بعد الاتفاق مع الإمام أحمد على أن يرتدي ملابس المتسولين، ويأتي كل ليلة ليسأل الصدقة، ثم يدخل في الممر كأنه ينتظر أن يؤتى له بالطعام أو الصدقة، ففي أثناء تلك الفترة يخرج إليه الإمام أحمد ويحدثه كل يوم بحديث، فلما انقشعت المحنة كان الإمام أحمد يعظمه جداً، وكان يقول في مجلسه: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.
وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى يفعل ذلك -أي: التشجيع- مع الوراق، فقد كان يملي عليه الإمام الأحاديث وهو يكتب في الورق، فكان يكثر جداً من الإملاء، فيخشى أن يمل الرجل رغم أنه كان يأخذ أجراً على هذا، فكان يلاطفه ويواسيه ويشجعه بالاستمرار كي لا يمل، يقول الوراق: (فأملى عليّ يوماً -أي: الإمام البخاري - أحاديث كثيرة فخاف مللي، فقال: طب نفساً فإن أهل الملاهي مع ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، يقول له: طب نفساً، وهذا تشجيع وثناء عليه، وتسلية له ومواساة على هذه المشقة التي يتحملها، طب نفساً، فإن أهل الملاهي مع ملاهيهم، ذهب كل مع من يحب، أهل الملاهي يجلسون مع الملاهي، وأهل الصناعات في صناعاتهم في طلب الدنيا، والتجار في تجاراتهم، وأنت لست مع الملاهي ولا مع الصناع ولا مع التجار، وإنما أنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا فـ البخاري علم أن التشجيع والثناء والمواساة والمدح يجعل هذا الرجل ينجو من الملل أو الضجر، ويتلقى هذه التكاليف بصدر رحب.
الإمام مالك رحمه الله تعالى كتب رسالة إلى إمام مصر الليث بن سعد، فيها الثناء والمدح له، ومما قال فيها: وأنت في إمامتك، وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك.
فالإمام مالك يهيئ الليث بالثناء عليه ومدحه قبل أن ينصحه؛ لأنه نصحه بعد ذلك، وبقصد النصيحة دخل من هذا المدخل.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى دخل في يوم مطير على تلاميذه، وكان يخشى عليهم من خوف الملل أو الضجر من طول الوقت، فأقبل أبو حنيفة رحمه الله تعالى عليهم بوجه بشوش وقال لهم: أنتم مسار قلبي وجلاء حزني.
ودخل الإمام الشافعي يوماً على الإمام أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله! كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا وكذا، كنت أناقشهم أو أناظرهم في مسألة فقهية فلو كان معي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إليه أحمد ثلاثة أحاديث، فقال: جزاك الله خيراً، مع أن الشافعي شيخ الإمام أحمد، لكنه مع ذلك أتاه وطلب منه هذه الأحاديث، وأظهر الافتقار لما معه من العلم والحديث.
حتى أهل الخير من أهل الهمة مهما بلغ أحدهم من المنزلة يحتاجون إلى التشجيع ليفعل فيهم أثره.
مر رجل مع صاحب له بجوار بيت أبي حنيفة ليلاً، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: هذا أبو حنيفة لا يكاد ينام من الليل، يعني: يقوم الليل كله، فقال أبو حنيفة لنفسه: والله لا يُتحدث عني بما لا أفعل، فمن ساعتها بدأ يواظب على قيام معظم الليل رضي الله تعالى عنه.
كان رجل من أهل الأذى للناس، وكان له منصب معين يتمكن منه من أذية الناس، فقابله شخص بالثناء عليه، وبأنه سمع شكره مستفيضاً، ووصفه بالجميل، ومدحه بالرفق؛ فكان ذلك سبباً إلى أن منع ذلك الفاسق عن كثير من شره وأذاه للناس، فممكن أن تمدح الظالم للحد من شره، لكن تمدحه بصدق دون أن تغره بما هو فيه من ظلم فيتمادى في ظلم الناس، ودون أن تداهنه وتكذب في مدحه، لكن ممكن أن تأتي بشيء من الخير الذي تراه فيه، كأن تقول له: أنت من أسرة طيبة، وأناس أفاضل معروفون بحب الخير، فهذا ليس كذباً، إن كان هو بالفعل هكذا، لكن هو الفرع الخبيث في هذه الشجرة، فالشر ينقمع في نفسه، ويكف عن أذية الناس.
فالبيئة المشجعة حول الإنسان دائماً ما تحفزه على المزيد من الإنتاج.(5/9)
أثر التثبيط في خنق المواهب
تكلم الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى عن أثر التثبيط في خنق المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم، وهو يقصد بالمثبطين هنا بعض أبناء العائلات التي احتكرت الوظائف العلمية، فكانوا يخشون أن تتحول عنهم إلى غيرهم، فكلما رأوا طالب علم مجد ونابغة من غير هذه العائلات يخذلونه ويثبطونه إلى أن يترك طلب العلم، لكي يبقى العلم حكراً على هذه العائلات وهذه الأسر.
يقول الشيخ: إن الشيخ محمد أمين بن عابدين لما نشأ، وآنس المثبطون منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد، والعقل الراجح؛ خافوا منه، فذهبوا يقنعون أباه -وكان أبوه تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به طريق العلم، وجعلوا يكلمونه ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلطائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد، فكان من هذا الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية، وهو أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي.
يقول الشيخ: بل أرادوا أن يصرفوا عن العلم أستاذنا العلامة محمد بن كرد علي -وهذا إمام من أئمة السلفية الكبار- فبعثوا إليه بشقيقين من آل فلان، شقيقان قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً، صرفوهم عن العلم إلى الاشتغال بالدنيا لهذا السبب، فما زالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع ولا منه فائدة، يلحان عليه ويلازمانه حتى ضجر فصرفهما، فننبغ ولده هذا الأستاذ كرد علي حتى صار صاحب النهضة الفكرية في الشام، وقائدها، ووزير معارف سوريا الأسبق، ومفخرتها، والذي من مصنفاته: خطب الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية، والمقتبس، ومن مصنفاته: المجمع العلمي العربي بدمشق، ومن مصنفاته: هؤلاء الشعراء والكتاب من الشباب.
ولعل في الناس كثير كانوا -لولا الاحتقار والتثبيط- كـ ابن عابدين وكـ كرد علي.
وها هو العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى مات وما له مصنف على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه، وسبب ذلك: أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه؛ فسخر منه، وأنبه، وقال له: أيها المغرور! أبلغ من قدرك أن تصنف؟ وأنت وأنت -يعيره- ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفئة، فكانت هي أول مصنفات العلامة سليم البخاري وآخرها! يقول: وأول من سن سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله، نسبة إلى الجزائر في العراق، الفيلسوف المؤرخ الجدلي الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كردي علي بيك كان من تلامذته، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب - محب الدين الخطيب خال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله- ومما كتب الشيخ طاهر الجزائري في ذم التثبيط رحمه الله يقول: وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل، وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم ير أحداً من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها؛ ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم.
وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، وهذا من السنة، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رآهم عند بئر زمزم يصبون الماء قال لهم: (هكذا فاعملوا بارك الله لكم، وجزاكم الله خيراً) أو كما قال، والشاهد التشجيع والثناء على من يفعل خيراً بالخير، وكان الشيخ لا يثني أحداً عن غاية صالحة؛ حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: إن هذا غير ممكن -انظر إلى هذا الأسلوب التربوي- لا تقل له: هذا غير ممكن؛ فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه، وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.(5/10)
أثر التشجيع في ولادة المواهب والعبقريات
إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمارها، وتؤتي أكلها، ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء، وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة إلى منصب الإفتاء وكرسي التدريس تحت القبة.
نشأ الشيخ محمد بن إسماعيل الحائك خياطاً عامياً، ولكنه كان محباً للعلم وللعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، ولا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، فالشيخ يؤنسه لأنه يأتي مبكراً، ويجلس في أول الصف، حتى إذا غاب يسأل عنه الشيخ، فهذا أثر فيه تأثيراً شديداً؛ لأنه صار محل اهتمام هذا الشيخ، فاشترى الكتب وصار يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها، وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل والوقائع فيجيبهم بما يعجز عنه فحول العلماء، فانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيى من عمله، ويحيى الناس بعلمه، كان يشتغل بالخياطة وفي نفس الوقت يفيد الناس، وكان يمر كل يوم في دار العماديين الذين كانوا محتكرين الفتوى في القيمرية وهو على أتان -وهي الحمارة- له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر فوجد على الباب أخاً للمفتي فرد عليه السلام، وقال له ساخراً: إلى أين يا شيخ؟ أذاهب أنت إلى اسطنبول لتأتي بولاية الإفتاء؟! يسخر منه، لأنه في السابق كان يعين المفتي بمرسوم من اسطنبول، وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: إن شاء الله، وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنه سار في الأزقة، حتى عاد إلى داره فودع أهله وأعطاهم نفقتهم، وسافر إلى مكان مجهول، وما زال يفارق بلداً ويستقبل بلداً، حتى دخل القسطنطينية، فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي، فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنَّوا الجنة الكبرى بعد، فكانوا يعظمون العربي؛ لأنه من أمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً، واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يدروا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب، قال: نعم، قال: سر معي إلى المشيخة، قال: باسم الله، ودخلوا على ناموس المشيخة -الذي يسمى الآن السكرتير- فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة، فرفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء؛ لأنه يلبس ملابس رثة، وكأنه يقول: هذا الفقير جاء يريد الجواب عن السؤال الذي عجز عنه شيوخ الإسلام في دار الخلافة! ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، ثم ألقاها إليه الموظف وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته، فوضعها على عينه، فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة، والدفاع عن النفس -القلم كان كبيراً قوياً يستعمل في الكتابة وفي الدفاع عن النفس- فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل، حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، بل من ذاكرته، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها كاد يقضي دهشة وسروراً، وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟ قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت، قال: علي به، فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه، إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ ولم يحفظ منها شيئاً، ودخل على شيخ الإسلام فقال له: السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله! ولكن شيخ الإسلام سر بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله، حتى قال له: سلني حاجتك؟ قال: إفتاء الشام وتدريس القبة، قال: هما لك، فاغد علي غداً، فلما كان من الغد ذهب إليه وأعطاه فرمان التولية، ومعه ألف دينار، وعاد الشيخ إلى دمشق، فركب أتانة وسار حتى مر بدار العماديين، فإذا بأخي المفتي الذي كان يسخر منه على الباب فسخر منه كما سخر، وقال: من أين يا شيخ؟ فقال الشيخ: من اسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني، ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة.
همم الرجال إذا مضت لم يثنها خدع الثناء ولا عواد الذام أي: أن الهمم العالية لا يثنيها ولا يثبطها ولا يحبطها خدع الثناء، فالمدح لا يغرها، حتى تصل مرحلة الانتفاع، (ولا عواد الذام)، يعني: ولا نوائب الذي يعيب ويحتقر.
ومن هذا الباب: قصة الشيخ علي كزبر! وقد كان خياطاً في سوق المسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به ويخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة، فقرأ ودأب على المطالعة حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمداً وهو لا يفارق دكانه ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم، فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرس الجديد؛ فافتقدوا المعيد فلم يجدوه، ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أعجب الحاضرون وطربوا له، فعين مدرساً، ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم.
وكان هذا مروراً عابراً مختصراً؛ لأن الكلام في هذا الموضوع أوسع من هذا بكثير، لكن أردت أن أعجل بهذه الوصية قبل أن يبدأ العام الدراسي؛ لأننا نسمع بمذابح ومجازر لهمة الأطفال، وبالتحقير والتشنيع، وإن شاء الله عما قريب أرجو أن نصل بهذه النصيحة إلى المدرسين حتى يتقوا الله في مستقبل المسلمين المتمثل في أبنائهم وطلابهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(5/11)