فى ضوء السيرة النبوية * هكذا كان قدرها !! * فى الجاهليات.. القديمة !! * زوجات الرسول.. * العلم.. والأدب * ماذا تفعل.. نساؤنا ؟
ص _006
هكذا كان.. قدرها!! كلما رجعت إلى السيرة النبوية ازددت معرفة بما كان للمرأة من مكانة، وبما كفله الإسلام لها من حقوق، لقد كانت لها شخصية مقدورة وأثر يحسب! يقول المحدثون: لما نزل قول الله لنبيه (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفا ونادى : " يا بنى عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله : اشتريا أنفسكما من الله فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئا، سلانى من مالى ما شئتما ". إن نداء المرأة بهذا الصوت الجهير شىء مستنكر فى عصرنا الأخير، كنا نعد اسمها كشخصها عورة لا يجوز أن يعرف ونقول: ما للمرأة وهذه الشئون؟ يكفى أن يحضر رجل من أسرتها ليبلغها، أما أن تنادى على رؤوس الأشهاد فذلك عيب! لكن المرأة فى صدر الإسلام عرفت قدرها، ولما سمعت مناديا يدعو إلى الإيمان سارعت إلى تلبيته. ويحكى المؤرخون أن أخت عمر بن الخطاب كانت أسبق منه إلى الإسلام، لقد أدمى وجهها عندما علم بإسلامها وهاجمها بقسوة فقالت له: يا عمر إن الحق فى غير دينك، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! ثم أسلم عمر بعد!! ودخل الرجال والنساء فى دين الله، وأعطوا المواثيق على اعتناق الحق والعمل به والذود عنه، وانتظمت الصفوف فى المسجد النبوى تستوعب الرجال والنساء على سواء. روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت " ق والقرآن المجيد" إلا من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة يقرأ بها على المنبر فى كل جمعة). أى أنها حفظت السورة كلها عن ظهر قلب من شدة انتباهها وهى تسمع الخطبة! ص _007(1/1)
وكانت سنة رسول الله فى الخطابة أن يتلو القرآن الكريم وحسب! وهى سنة مهجورة الآن، كما أن من السنن المهجورة حضور النساء الجمع والجماعات.. ألا يثير ذلك شيئا من التساؤل والدهشة؟ ومن الطرائف أن امرأة كريمة موسرة كانت تصنع وليمة بعد الجمعة يحضرها من شاء، روى البخارى عن سهل بن سعد قال: " كانت منا امرأة تجعل فى مزرعة لها "سلقا" فكانت إذا جاء يوم الجمعة تنزع أصول السلق فتجعله فى قدر ثم تجعل عليه قبضة من شعير بعد أن تطحنه، فتكون أصول السلق عرقة - مرقة - قال سهل: كنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك، ولم يكن فى الطعام لحم ولا دهن.. " هذه امرأة مؤمنة سمحة تدخل السرور على الناس بما آتاها الله من فضله! ولو فعلت ذلك فى عصرنا لأنكر المتزمتون عليها! ولقال كل جرىء على الفتوى: كيف يُلقى عليها السلام؟ وكيف ترده؟ وكيف تلقى الضيوف؟ إلخ. ان تقاليد المسلمين فى معاملة النساء لا تستند إلى كتاب أو سنة.. وقد نشأ عن ذلك أن المثقفات فى العصر الحديث- تجهمن للتراث الدينى كله يحسبنه السبب فى تجهيل المرأة، وهضم مكانتها، وإنكار حقوقها المادية والأدبية التى قررتها الفطرة وأكدها الوحى وبرزت أيام حضارتنا واستخفت مع انتشار القصور وغلبة الأهواء. هل دلل الإسلام المرأة؟ قالت إحدى النساء: إن الإسلام هضم المرأة إذ جعل الرجل قادرا على تطليق زوجته متى شاء، إن هذه القدرة المتاحة له سيف مصلت على عنق المرأة يهددها ويذلها! قلت: يمكن فى المقابل أن يزعم الرجل بأن الإسلام دلل المرأة ويسر لها التمرد إذ أباح لها مخالعة الزوج وترك البيت عندما تشاء! ص _008(1/2)
ان تصوير أحكام الأسرة وحدود الله داخل البيت المسلم لا يسوغ أن يقع فى هذا الإطار المتوتر الخانق، ويبدو لى أن تقاليد الشرق، والأعراف الشائعة فيه من وراء هذا العوج الفكرى.. فالرجل رب البيت والقيم على الأسرة، بيد أننا فى أغلب الأحيان نظن الرياسة لونا من الفرعونية أو الانفراد بالسلطة فلا تفاهم ولا شورى! الرئيس لا يعترف برأى آخر ولا يكترث بإرادة أخرى! وهذا الفهم لمعنى الرياسة أسقط الشرق سياسيا واجتماعيا، وأضر بالدول والبيوت على سواء. إن الرياسة الصحيحة عبء زائد، ومسئولية أثقل، وهى فى البيت الإسلامى تتمة لجملة من الحقوق والواجبات المتبادلة كما جاء فى الآية الكريمة: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة). وأساس التعامل الخلق الزاكى، والحب السيَّال، والإيثار الذى يرجح الفضل على العدل، والترفع عن ملاحظة الصغائر! ومن أدب العرب فى بناء الأخلاق وتقويم السلوك قول الشاعر : ولاخير فى حسن الجسوم ونبلها إذا لم تزن حسن الجسوم عقول! ولم أر كالمعروف، أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل! ذرينى فإن الشح، يا أم هيثم لصالح أخلاق الرجال سروق! لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق! وقد لاحظت فى سورة النساء الصغرى : " الطلاق" أن الإسلام شديد الحرص على مزج التشريع بالتربية الأخلاقية، والأحكام العملية بالآداب النفسية مثل ( سيجعل الله بعد عسر يسرا)، ومثال " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا" ومثل " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا "، والويل للبيوت إذا تركت منطق الدين والخلق واتجهت إلى القانون والقضاء.. إن المجتمعات فى الشرق والغرب اعترفت بأن الطلاق قد يكون ضرورة نفسية واجتماعية، وأنه ليس سوطا فى يد الرجل بل قد يكون فكاكا لإسار ص _009(1/3)
المرأة. وأعرف أسرا إسلامية جعل الدين أفرادها جسدا واحدا فما يعبر الطلاق بخاطر أحد ! إن تماسكها أمتن وأزكى. ولكن الأمة الإسلامية فى أيام اضمحلالها العقلى والنفسى نسيت وظيفة الأسرة وتنشئة الأولاد وبناء المستقبل على الحاضر، وربما علق أحد الناس مستقبل بيته على رطل لحم يرفض شراءه! فيحلف بالطلاق على ذلك! ماذا يقول إلا ما قاله الله فى هذه الأحوال وهو يختم سورة الطلاق (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا). باسم الإسلام.. المفترى عليه! خطر لى أن أعرف المستوى الثقافى للمرأة المسلمة فى صدر الإسلام، وقبيل شروق شمسه! إن الثقافة الغزيرة تعين الرجل والمرأة كليهما على ضبط الحقائق وإحسان الحكم على الأمور والإشراف على تربية الأجيال الناشئة تربية مثمرة مجدية. وقد رأيت الابتعاد عن المصادر المتهمة والاتجاه إلى الشعر ـ وهو ديوان العرب ـ لأتحسس سيرة المرأة وخلقها وموقفها من القيم السائدة فى المجتمع ومدى وفائها للفضائل الإنسانية على الإجمال! ووقع فى يدى ـ على غير تعمد ـ ديوان الحماسة لأبي تمام، وشرعت أقرأ باب الرثاء! فوجدت مراثى حارة لنساء كثيرات يبكين فيها أحباءهن، ورأيت أن أختار منها أولا هذه الأبيات لعمرة الخثعمية بعد أن فقدت ابنيها، فأخذت فى سرد مناقبهما، قالت هما أخوا؟ فى الحرب من لا أخا له إذا خاف يوما نَبوة فدعاهما هما يلبسان المجد أحسن لبسة شحيحان ما استطاعا عليه كلاهما شهابان منا أوقدا ثم أخمدا وكان سنى للمدلجين سناهما إذا نزلا الأرض المخوف بها الردى يخفض من جأشيهما مُنصلاهما . . . إلخ ص _010(1/4)
والمنصل: النصل تعنى السيف، والأم الثاكل تفخر بشجاعة ولديها فى وجه الحتوف، وتتحدث عن المجد الذى حققاه فى حياتهما، وعن فضائل البذل والإيثار والاستعفاف التى توفرت لهما. وفقدان أم لولديها معا خطب فادح، لكن العجب أنها تحيى فى ابنيها الشرف والكرم، ويغلبها ذاك على حزنها.. تُرى هل المرأة العربية اليوم على هذا المستوى فى الوعى والسلوك والكفاح؟ ولقد كانت قبل الاستعمار الحديث أمية لا تقرأ ولا تكتب، وفرضت عليها هذه الأمية باسم الإسلام المفترى عليه! فلما اجتاحت بلادنا الحضارة المادية المعاصرة، فتحت أبواب المدارس للمرأة، فلم تتعلم فيها حقائق التراث الغالى ومناقب المرأة فى عصرها الأول.. كلا لقد غزا عقلها الفكر الأوربى، ونهجه الشارد، فإذا نحن أمام تقاليد لا تسر ومناهج لا تنفع بل قد تضر ! والسبب هو القصور العلمى الذى بلغ مرتبة الجهل المركب عند بعض الإسلاميين المتحدثين عن موقف الإسلام من المرأة. والصائحين بأصوات منكرة: المرأة لا ترى أحدا ولا يراها أحد، تخرج من بيتها إلى الزوج أو إلى القبر! ما أجمل قول حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق ! ص _011(1/5)
فى الجاهليات القديمة !! الجاهليات القديمة للعرب واليونان والرومان وغيرهم ظلمت المرأة ظلما مبينا حين استقبلت الأنثى بتجهم وحين اجتاحت حقوقها بلا اكتراث، وقد لجأ أفراد شواذ فى الأمة العربية إلى وأد الطفلة عندما تولد! وهو تصرف وحشى مستنكر فاحش! وما نشك فى أنه عمل فردى رفضه أولي الألباب وحقروا مقترفيه، أما جمهرة العرب فى الجنوب والشمال فقد صوَّر موقفهم من الطفولة كلها قول الشاعر: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لى مضطرب واسع فى الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض ويقول شاعر آخر فى ابنته أميمة : لولا أميمة لم أجزع من العدم ولم أقاس الدجى فى حندس الظلم وزادنى رغبة فى العيش معرفتى ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم! أ حاذر الفقر يوما أن يلم بها فيهتك الستر عن لحم على وضم! والواقع أن جمهرة العرب كانت شديدة الغيرة على النساء تسترخص الدماء فى الدفاع عنها، وتمنحها الفرصة لتكون كريمة عظيمة! كان المنذر اللخمى ملك الحيرة أنجب بنتا اسمها حُرقة وابنا اسمه حريق! ودارت الأيام وفقد المنذر مملكته، وانتقلت الأسرة من حال إلى حال، فقالت حُرقة فى ذلك: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف!! فأف لدنيا لا يدوم نعيمها! تقللب تارات بنا وتصرف! فلما فتح سعد بن أبى وقاص أرض الفرس، أتته حُرقة بنت النعمان مع عدد من جواريها تطلب منه العون، فنظر اليهن وسأل: أيتكن حرقة؟ قلن: هذه وأشرن إليها! ص _012(1/6)
قال لها: أنت حرقة؟ قالت: نعم فما تكرارك الاستفهام؟ إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال. إنا كنا ملوك هذا المصر من قبلك، يجىء إلينا خراجه، ويطيعنا أهله زمان دولتنا. فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد! إنه ليس من قوم بسرور وجدة إلا والدهر معقبهم حسرة، وكررت بيتيها السابقين. فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت له: لا أنصرف عنك حتى أحييك بتحية ملوكنا: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زال لكريم عندك حاجة! ولا نزع من عبد صالح نعمة إلا جعلك سببا لردها عليه! فلما خرجت من عنده تلقاها نساء البلد، فقلن لها: ما صنع بك الأمير؟ قالت: حاط لى ذمتى، وأكرم وجهى! إنما يكرم الكريم الكريم.. انظر عقل هذه الأميرة السابقة وأدبها وحكمتها وكيف حاورت سعد بن أبى وقاص القائد الفاتح المنتصر، فنالت تقديره وإكرامه.. وددت لو أن المثقفات العربيات كن على هذا المستوى، فنلن إعجاب واحد من العشرة المبشرين بالجنة. إن المرأة تعظم بعملها الواسع وبيانها الحكيم وسيرتها الماجدة. الجاهلية العربية.. أشرف ! استكثر البعض أن أقول: إن الجاهلية العربية الأولى كانت أشرف من جاهليات اليونان والرومان، لاسيما فى الوضع الاجتماعى للمرأة! ويبدو أن هذا الاستكثار يعود إلى سوء ظننا بأنفسنا وحاضرنا وماضينا بعد الهزائم الحضارية المهينة التى لحقت بنا فى العصور الأخيرة وصدق المثل السائر: إن الدنيا إذا أقبلت على أحد أعارته محاسن غيره، واذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه . صحيح ان الإشراك بالله كان قاسما مشتركا بين هذه الجاهليات كلها " فهبل " الإله الكاذب عند العرب هو "أبولو" الإله الكاذب عند اليونان! وليس أحد الفريقين أولى بالتسفيه من الآخر! ص _013(1/7)
أما النظرة إلى المرأة، والتشرف بصونها والإستقتال فى حمايتها فخلق عربى لا يكاد الرومان أو اليونان القدامى يعرفون شيئا عنه!! وتدبر قول عمرو بن كلثوم فى معلقته: على آثارنا بيض حسان نحاذر أن تقسم أو تهونا إذا لم نحمهن فلا بقينا لشىء بعدهن ولاحيينا!! أين هذا من قول الشاعر اليونانى "سيموندس الأمورجى " جعل الله عند الخلق طبائع النساء مختلفة، فجاءت إحداهن كأنما أخرجها الله من خنزير، وأخرى كأنما أخرجها الله من ثعلبة ماكرة، وثالثة كأنها الكلبة حركة ونشاطا، فهى تجوس أركان المكان فاحصة متطلعة، فإن لم تجد شيئا أطلقت لسانها بالسوء! قد تقول هذا شاعر أحمق لا يؤخذ من كلامه حكم عام! ونقول: لنترك أقوال هذا الشاعر وأمثاله وهم كثير فماذا نقول فى أفلاطون الفيلسوف الأشهر، وفى مدينته الفاضلة ؟ لقد جعل النساء آخر طبقات المجتمع وتركهن كلأ مباحا على الشيوع بين طبقة الحكام والفرسان!! فإن تكن هذه معالم المدينة الفاضلة فما تكون معالم المدينة النازلة؟ أما الرومان فإن مكانة الأنثى لديهم منحطة بطبيعتها، وليست لها الحقوق المقررة للرجال، ولما كانت القوانين الأوربية تمت بنسب وثيق إلى الرومان الأوائل، فإن القانون الإنجليزى حتى القرن التاسع عشر كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته! ولم يتدخل القانون إلا فى تقدير السعر الذى يمكن أن تباع به.. والقانون الفرنسى يجعل تصرفات الزوجة المالية تابعة لمشيئة الزوج! إن الإسلام وحده هو الذى صان شخصية المرأة ورد كل عدوان عليها وفق قاعدته : (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). والذى يحز فى نفسى أن جمهورا من المتدينين الجهلة فى بلادنا تبنى مفاهيم الجاهليات اليونانية والرومانية وغيرها وقرر أن يحيا فى نطاقها، وزاد إلى هذه السفاهة أن قرر الدعوة إليها بحسبانها مفاهيم إسلامية! كيف نحمى الإسلام من أصدقائه الجهلة؟ فهم أضرى عليه عن أعدائه السافرين! ص _014(1/8)
فى عصور الانحطاط فى دراستى للمجتمع العربى قبيل البعثة الشريفة وفى مطلع الدعوة الإسلامية وجدت وضع المرأة أوضح وأرسخ من وضعها أيام انحلال الأمة فى عصور الهزيمة والاضمحلال الأخيرة. ولنترك مأساة وأد الأنثى فى بعض القبائل أو فى مسالك الجاهلين الشاذين، ولننظر الى الوعى العام للمرأة، ونضج شخصيتها، ومشاركتها فى شئون الحرب والسلم، وقدرتها على بلوغ الصفوف الأولى فى مواجهة الأحداث التاريخية الكبرى، إننا نرى ما يستحق التسجيل! لقد شاركت المرأة فى بيعة العقبة الكبرى، وشاركت فى بيعة الرضوان تحت الشجرة! ومن المؤكد أنها كانت ستمنع من مثل هذه المبايعات فى تاريخ المسلمين الأخير، وسيقال لها: إمكثى فى بيتك! وروى أحمد عن أنس بن مالك أن أبا طلحة - قبل أن يسلم - خطب أم سليم وهى مسلمة ، فقالت له المرأة الراشدة: يا أبا طلحة! ألست تعلم أن إلهك الذى تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى! قالت: أفلا تستحى تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإنى لا أريد منك صداقا غير الإسلام! قال لها: دعينى حتى أنظر فى أمرى.. فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالت لابنها أنس - راوى الحديث - يا أنس زوج أبا طلحة! فزوجه من أمه! أى مجتمع هذا؟ إننى بقدر ما أعجب من ذكاء المرأة وإخلاصها لدينها أعجب لسلامة الفطرة وانتفاء الريبة وسهولة الحلال وسرعة إقراره. وروت أم عطية أنه حين قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار فى بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن! فرددن السلام، فقال: أنا رسول رسول الله إليكن. فقلنا: مرحبا برسول الله، وبرسول رسول الله! ص _015(1/9)
فقال عمر: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصين فى معروف؟ قلن: نعم! فمد عمر يده من خارج الباب ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم اشهد! ولم يجعل عمر البيعة مصافحة باليد، وهذه هى السنة، تنزيها لجو التدين من الشبهات التى عرفت فى أديان أخرى. وللكهان فى هذا المجال دسائس محظورة، من الخير تحصين الإسلام منها، فلا نريد أن يكون بيننا أشباه راسبوتين. وأنا إذ أسوق الخبر الأخير أذكر أن أحد العلماء المسئولين عتب على أنى حين أدخل للتدريس بين الطالبات ألقى عليهن السلام! قلت: وما الحرج فى أن يسلم أستاذ على تلميذاته؟ قال: هذا لا يجوز! قلت له: إن البخارى روى جواز هذا ووقوعه! فقال: لكن العلماء لم يأخذوا بروايته. قلت: أى علماء: إن الجهال هم الذين يقولون فى الإسلام بغير علم.، ويرجحون تقاليد آبائهم على تعاليم الإسلام. لنعرف الموقف الصحيح فى عصور متطاولة كان نصيب المرأة قليلا من الرحمة العامة الغامرة التى بعث بها صاحب الرسالة الخاتمة! حاشا عصر البعثة الشريفة والخلافة الراشدة فإن المرأة شهدت أياما ذهبية. وتأمل موقف النبى الكريم من جميلة بنت أوس عندما جاءته تشكو بقاءها فى بيت الزوجية لا لشىء إلا لأنها تكره هذا الزوج وتعاف عشرته! إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: لقد أعطاك زوجك حديقته قفرا، فهل تردين عليه حديقته؟ ص _016(1/10)
قالت: نعم! فأمر الرجل فطلقها! ان الأسرة لا تقوم عل امرأة. تبغضه الرجل وتشتهى مفارقته وفي هنا قال تعالى : (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به..) وهل هذا الخلع طلاق أم فسخ للعقد؟ بحث لا نتعرض له هنا وإنما نتعرض لعوج فقهى أو قانونى عاصرته فى مصر، فقد كان القضاء الشرعى يحكم بأن يقود رجال الشرطة المرأة الكارهة بالقوة الى بيت الطاعة لتحتضن من تبغض ! وكان رد الفعل لهذا المسلك أن وضع باسم الشريعة قانون آخر يخرج الرجل من البيت اذا أوقع الطلاق! لم هذا الاضطراب فى فهم الدين وتطبيقه؟ وأين قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) إن للمسلمين غرائب فى فهم شريعة الخلع وشريعة الطلاق لا تقوم على فقه واع واسع الأفق ! وأمر آخر نذكره آسفين! ذهبت نسوة إلى أحد المساجد للصلاة وأخذن فى مؤخرة الصفوف مكانا قصيا، فجاءهن إمام المجد غاضب يقول: إن المساجد بنيت للرجال وحدهم قال تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال). وقابلنى هؤلاء النسوة كسيرات كاسفات البال فقلت لهن: هذا رجل جاهل فإن الله يقول: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، فهل الصدق فى العهد والوفاء بالوعد والثبات على الدين الى آخر رمق وقف على الرجال وحدهم فأين قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). ولكن منطق الجهل نصب سرادقه على جماهير غفيرة من الناس ورأوا أن ذهاب المرأة إلى المسجد بدعة منكرة، وأن تلقينها أنواع الثقافات تقليد أجنبى، وأن وعيها بالشئون العامة تطفل مرفوض! ص _017(1/11)
وامرأة مغلقة على هذا النحو كيف تكون راعية بيت؟ وربة أسرة؟ ومنشئة أجيال محترمة؟ إن تقهقر الأمة الإسلامية فى الأعصار الأخيرة يعود إلى العجز الشائن فى فهم موقف الإسلام الصحيح من المرأة. وهذا العجز من وراء انتصار المدنية الحديثة وانتشار عُجرها وبُجرها فى آفاق عريضة، والعلاج يقدمه فقهاء أذكياء منصفون، لا متفيهقون متعالمون. ص _018
زوجات الرسول
انطلقت هذه الشائعة بين الأوربيين حتى كادت تكون بينهم يقينا!
قالوا: كان لمحمد تسع نسوة يتقلب فى أحضانهن ويشب شبابه المنهوم، لا يسأم من واحدة حتى يتجدد هواه مع أخرى!
وقالوا: إن ساغ ذلك لواحد من الناس فما يسوغ من داع إلى الروحانية يصل الناس بالسماء، ويحدثهم عن الله والدار الآخرة!
إن هذا العشق المشبوب للمرأة له دلالة واسعة، فالرجل رجل دنيا وليس رجل دين، وما نصدق مزاعمكم معشر المسلمين عن تجرده وتقواه !
قلت: إذا كان ما قلتموه صحيحا فما استنتجتموه حق! لكن هذا الذى ذكرتم لون من تحريف الكلم عن مواضعه يجعله أدنى إلى الكذب..
إن تاريخ محمد من ألسنة العدو والصديق يشهد بغير ما ذكرتم، فقد تزوج فى الخامسة والعشرين من عمره بامرأة فى الأربعين من عمرها، وظل معها وحدها قريبا من ثمان وعشرين سنة حتى ماتت فأين هذه المتع التى تصفون؟ عندما كان فى الأربعين من عمره كانت شيخة فى الخامسة والخمسين، وعندما كان فى الثالثة والخمسين كانت تقترب من السبعين.. فأين الحسناوات اللاتى يتنقل بين صدورهن كما تزعمون؟ وهو كما يقرر العدو قبل الصديق لا يعرف إلا الوفاء للسيدة العجوز التى قضى معها شبابه كله..
ثم ماتت زوجته خديجة فى عام أطلق عليه عام الحزن. فاستقدم إلى داره امرأة تقاربها فى السن هى التى هاجرت معه إلى المدينة.
وصحيح أنه فى السنوات العشر الأخيرة من حياته اجتمعت لديه نسوة أخريات!(1/12)
من هن؟ مجموعة من الأرامل المنكسرات أحاطت بهن ظروف صعبة، لم يشتهرن بالجمال ولا كان لهن من السن المبكرة ما يجدد الحياة، اللهم إلا بكرا واحدة بنت صديقه أبى بكر تزوجها توثيقا لعلاقاتهما. وتزوج بعدها حفصة بنت صديقه عمر، ولم تعرف بجمال، بل بدا أن البناء بها بعد موت زوجها كان جبر خاطر ودعم مودة وجهاد !
ص _019
وتزوج أم حبيبة المهاجرة الى الحبشة، إنه لم يرها هناك بيد أنه يعرف إسلامها برغم أنف أبيها زعيم المشركين يوم إذ، وبقاءها على الإسلام برغم أنف زوجها الضائع، فهل يتركها فى وحشتها وعزلتها؟ لقد أرسل يخطبها ويعز جانبها. وكلما أحاطت ظروف سيئة بامرأة ذات مكانة، ضمها إليه، وما كان للشهوة موضع يلحظ، وأدركت النسوة القادمات هذه الحقيقة، وعرفن أن هذا الوضع فوق طاقة الإنسان العادى، فعرض بعضهن فى صراحة أن يبقى منتسبا للبيت النبوى مكتفيا بهذا الشرف، ومتنازلا عن حظ المرأة من الرجل، فإن الرسول آواهن مستجيبا لنداء إنسانى لا لبواعث الغريزة! أين مكان الغريزة والحالة على ما شرحنا؟ وفى استبقاء أولئك الزوجات على ما ارتضين نزلت آيات كريمة. منها قوله تعالى: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " ومنها قوله: " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ". إنه لا يستطيع إلا ذلك، فإن دوافع الشهوة كانت ميتة وراء هذا التعدد الذى فرضته أزمات أحاطت ببعض المؤمنات العريقات. ولنفرض جدلا أن الإعجاب بالجمال هو الذى أوحى بتزوج بعضهن، أفكانت أيام الحصار المضروب على الدعوة، والأزمات الخانقة التى يتعرض لها المسلمون عامة، وأهل البيت النبوى خاصة، تيسر للمؤمنين ونبيهم طعم الراحة؟ ما أشقى ربات البيت عندما يكون رب البيت أبا لأمة كبيرة وملاذا للمستضعفين واللاجئين وناشدى العون فى الصباح(1/13)
والمساء، إنه يؤثر غيره بما لديه ويبيت هو واللاتى معه على الطوى.. هذا.. أو الفراق!! روى البخارى ومسلم عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ص _020
وعند مسلم قالت عائشة: لقد مات رسول الله وما شبع من خبز وزيت فى يوم واحد مرتين.. وعند الترمذى، قال مسروق: دخلت على عائشة فدعت لى بطعام وقالت: ما أشبع، فأشاء أن أبكى إلا بكيت! قلت: لم؟ قالت: أذكر الحال التى فارق عليها رسول الله الدنيا! والله ما شبع من خبز ولحم مرتين فى يوم! وعند البيهقى قالت: ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه! وعند الطبرانى ما كان يبقى على مائدة رسول الله شىء من خبز الشعير قليل ولا كثير! قال الحسن: " كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يواصى الناس بنفسه، حتى جعل يرقع إزاره بالأدم ". ما أكثر العفاة الطارقين، يلتمسون المطعم والملبس!! وكان الناس ربما اقتحموا البيت النبوى قبل إعداد الطعام بوقت طويل، أو جلسوا بعد الفراغ منه وقتا طويلا، ولا ريب أن ذلك كان يشق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجد منه الحرج فلم يكن بد من تنزل الوحى الإلهى يضع نظاما صارما لهذا التسيب قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ..). إن زوجات النبى - صلى الله علمه وسلم - تعبن معه طويلا فى خدمة المجتمع وتعليم الناس ومعاونة الضعفاء واستقبال الوفود. وكان مألوفا أن يصحو النبى للصلاة، ويصلى بالناس فى المسجد ثم يعود إلى بيته ليسأل عن شىء يفطر به فلا يجده فينوى الصيام.. وربما وجد بعض الخل فلا يضجر ولا يشقى بل يقبل عليه راضيا قائلا: نعم الإدم الخل ! هذا هو نهج الحياة التى(1/14)
يزعم الأوربيون أنها كانت تلذذا بالنساء واستمتاعا بالدنيا بين أحضانهن.. أين هذه الدنيا الناعمة؟؟ وقد ذكر كتاب السيرة جميعا كيف ضاقت الزوجات بهذا الشظف ، وكيف اجتمعن على المطالبة بتغييره ، وكيف تطلعن إلى حياة أهدأ وأهنأ .. فلما بوغتن بالرد الصارم : هذا أو الفراق ! ثابت إلى نفوسهن مشاعر الإيمان وآثرن انتظار ص _021
الآخرة، والعيش فى ظل النبوة المكافحة على استعجال الطيبات فى هذه الدنيا.. كان مفروضا على بيت الوحى أن يعيش كأضعف بيت فى الدنيا، وأن يتحمل المقيمات به كل ما يتحمله المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وعاشوا من بعد على ما تيسر.. وكافأهن الله سبحانه على هذا البذل، بأن صرن أمهات للمؤمنين، وهو لقب ـ كما رأيت ـ فيه من التكليف مثل ما فيه من التشريف.. أكانت هناك ديانة أرضية أو سماوية تنهى عن تعدد الزوجات؟ أو ترى فيه أدق شائبة؟ لا، بل إن أنبياء العهد القديم ألفوا التعدد دون حدود! والمذكور عن سليمان وحده، إنه تزوج بثلاثمائة امرأة. وقد حكى " ويل ديورانت" فى قصة الحضارة عن آثام الأحبار والرهبان ما يثير الاشمئزاز! فلنترك الدين إلى الفلسفة! ولننظر إلى فلاسفة الإغريق لنرى كيف يعيش قادة الفكر القديم! وقد كنت راغبا عن ذكر هذه الدنايا، ولكني رأيت الطاعنين فى محمد يجمعون بين قلة الحياء وكثرة الافتراء فقلت: ما بد من حمل العصا.. كتب ماجد نصر الدين فى صحيفة " اللواء الأردنية" مقالا عنوانه لماذا ينهل المثقفون من تراث موبوء بالشذوذ؟، نقتطف منه هذه الجملة " إن الفلاسفة الذين يعتبرهم البعض مثله الأعلى هم لواطون، شاذون جنسيا، يفخرون بشذوذهم، ويتباهون بمضاجعة الغلمان!! وقد كرهت امرأة سقراط رجلها وعافت عشرته لتعلقه بأحد تلاميذه، وقس على ذلك أفلاطون الذى تعرف على سقراط وهو صغير، وسقراط مشهور بهذا الداء ومتهم بإفساد الشباب.. ويزعم أرسطو أن نسبة الشواذ فى عصره تعادل نسبة الطبيعيين وقد جرت(1/15)
عل لسانه عبارات لا نجرؤ على نقلها هنا. وتقول مؤلفة "الجنس فى التاريخ ": إن معظم المجتمعات حرمت اللواط، أو تجاهلته إلا اليونان، فإن البغاء المذكر كان شائعا، ويمكن استئجار الغلمان! ". ص _022
والحضارة الغربية الحديثة ورثت عن اليونان والرومان مباذل وضيعة مخزية، ومع ذلك فهى تتغافل بخبث عن عللها، وتتناسى الدنس الذى تصبح فيه وتمسى، وتبسط لسانها بالأذى فى سيرة أمير الأنبياء، ومعلم الأمم الطهر والعفاف!! وهل تنتظر من بيئة الإيدز، الا هذا التدنى؟ تشريع خاص.. لهن قال لى متعجبا: كيف تم زواج عائشة، وهى فى الصبا الباكر بمن زاد عمره على الخمسين؟ فقلت له: سؤال وارد لا غرابة فيه! ولكن دهشتك سوف تزول يقينا عندما تعلم أن عائشة قد تقدم لها قبل محمد أحد الخاطبين! قال ـ وقد فغر فاه وحملق عينيه ـ كيف كان ذلك؟ قلت: ذكر بعض المؤرخين أن جبير بن المطعم بن عدى تقدم لخطبة عائشة، وحدث بذلك أبويه فقبلا بادئ ذى بدء، وذهبا إلى أبى بكر راغبين فى إتمام الزواج.. غير أنهما خشيا بعد قليل أن يترك ابنهما دين آبائه، ويعتنق الإسلام متأثرا بأصهاره، فتريثا فى الأمر، وبدا لهما أن يرجئاه.. وهنا جاءت خولة بنت حكيم إلى أبى بكر تذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى طلب عائشة، ذهب أبو بكر إلى المطعم يسأله: أهو باق على رغبته فى خطبتها لابنه؟ فاعتذر إليه، وترك له حرية التصرف. وعندئذ لم يبق هنالك وعد ولاعهد، وتم زواج محمد من بنت أبى بكر إن هناك فتيات ينضجن فى سن مبكرة، وقد أخبرنى أحد الأطباء أن القضاء عرض عليه فتاة لمعرفة عمرها، فقدر لها سن سبعة عشر عاما، ثم تبين من شهادة الميلاد أنها فى الثالثة عشرة. إن عائشة يوم بنى بها الرسول كانت أهلا للزواج يقينا، وما نشك فى أن الدافع الأول لهذا الزواج كان توثيق العلائق بين النبى الكريم وصاحبه الأول، وهو الدافع لتزوجه من حفصة بنت عمر بن الخطاب لما آمت من زوجها! ولم ص _023(1/16)
تكن حفصة امرأة ذات جمال، ولكن هذا العنصر لم يكن المانع من هذه، ولا الدافع إلى تلك! لقد كانت هناك أسباب اجتماعية وسياسية أوحت بتعزيز الروابط حينا، وجبر الكسور حينا، ومد الجسور بين صاحب الدعوة وأشتات من الأتباع والأسر التى تزحم جزيرة العرب فى أيام مليئة بالأزمات والمحرجات.. ربما قال قائل: آمنا بأن تعدد الزوجات كان مألوفا فى الديانات الأرضية والسماوية حتى جاء الإسلام فوضع عليه القيود، فلماذا لم يلتزم نبى الإسلام بالعدد الذى وقف بالمسلمين عنده؟ ألم يجىء فى الأحاديث الصحاح أنه أمر رجلا لديه عشر زوجات أن يمسك أربعا ويسرح الباقيات؟ قلت: سؤال صحيح! فلنتدبر الإجابة عليه! أن النسوة الست التى طلقهن صاحب العشرة سيتركن بيته ويجدن بيوتا أخرى، فلهن حق الزواج ممن أحببن، ولاحرج على أحد فى التزوج منهن! لكن ماذا عسى يفعل زوجات الرسول إذا كان الوحى قد نزل من قبل يقول للمسلمين: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) لقد صرن أمهات للمؤمنين وفق النص القائل: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم..) وما كان لمؤمن أن يتزوج أمه! فهل يسوغ بعد هذا تسريحهن ليعشن فى وحدة وإياس؟ ولنفرض زورا أن تسريحهن مطلوب فهل هذا هو الجزاء الإلهى لنسوة تحملن مع صاحب الرسالة شظف العيش ومشقات الحصار المضروب على أمته؟ لقد اخترن البقاء معه عندما خيرهن، وأبين العودة إلى أهلهن فى بيوت أملأ بالسمن والعسل، وحملهن الإيمان على البقاء فى جو التهجد والصيام والكفاح مع النبى الذى انتصب لمقاومة الضلال فى العالمين، فهل يكون الجزاء بعد هذا الوفاء الخلاص منهن؟ إن الله أذن ببقائهن، والاقتصار عليهن، وصدر لهن تشريع خاص (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا). ص _024(1/17)
حلف الأطلسى.، يحميهم وإنى أسائل الهاجمين على محمد من خلال هذه الثغرة المزعومة فى حياته، أهى محاكمة خاصة لهذا الإنسان الشريف؟ ومحاولة متعمدة للنيل منه وحده؟ أعرف ان مساءات كثيرة وجهت لأنبياء من قبله، وتعرض الرجال الصالحون لأقبح التهم! ألم يتهم النبى الطاهر لوط بأنه زنى بابنتيه كلتيهما بعد ما أفقدته الخمر وعيه وأنجب منهما؟ ألم يتهم النبى يعقوب بأنه سرق منصب النبوة من أخيه الأكبر عيصو بعد عملية احتيال ماكرة على أبيه الذى كف بصره؟ ألم يتهم سليمان بأنه انطلق فى شوارع القدس يبحث عن الحبيب المجهول ليأخذه إلى فراشه، مع أن عنده ألف امرأة؟ إن هذا البحث الماجن استغرق عدة صفحات مليئة بجمل طائشة تحت عنوان الإنشاد الذى لسليمان! من شاء قرأه فى العهد القديم.. ومع جنون الاتهام الذى سيطر على كاتبى هذه الصحف، فإن المتهمين بقوا أنبياء مكرمين! أما سليمان فقد جعله اليهود ملكا، ولكن أى ملك؟ إنه بانى الهيكل الذى يجب أن يعاد بناؤه ليكون مسكنا للرب يتجلى فيه بهاؤه ويحكم العالم كله من سدته بوساطة شعبه المختار من بنى إسرائيل!! أما محمد الصوام القوام الكادح لله طوال حياته، والذى جمع آخر عمره بضع نسوة من الأرامل والمصابات عشن معه على مستوى الضرورة، وتمحضن لله والدار الآخرة فهو وحده الذى يستباح وتتوارث الضغائن عليه، ويتجمع حلف الأطلسى لحماية شاتميه ! ومن أولئك الشاتمون الغاضبون؟ أهم رهبان وقذتهم العبادة وكبتوا حب النساء فى دمائهم فهم يشتهون ويميتون شهواتهم ابتغاء رضوان الله كما يزعمون؟ كلا، إنهم أفراد وشعوب شربوا كئوس الشهوات حتى الثمالة، ولم يتركوا بابا للذة إلا افتتحوه دون تهيب أو حياء! ص _025(1/18)
وحضارة أوروبا تميزت بأنها يسرت للدهماء من المتع ما كان حكرا على الملوك والرؤساء فأضحى الصعلوك قادرا على الاتصال بسبعين امرأة كلما ذاق جديدا طلب مزيدا ما تحجزه عن دناياه تقاليد ولا قوانين، وفى هذا الوسط من الدنس يذمون محمدا وينالون منه! أى منطق هذا المنطق الجائر الظلوم؟ إن الإسلام لم يأمر بتعدد الزوجات، فإن الزواج ليس نشدانا للذة فقط وإنما هو قدرة على التربية ورعاية الأسرة، فمن عجز عن ذلك كلفه الإسلام بالصوم، ونحن نوجه للأوربيين سؤالا لا مهرب منه: هل التعدد الذى أذن الإسلام به أفضل أم الزنى؟ إننى أسائل كل منصف صادق: هل المجتمعات الأوروبية تكتفى بالواحدة أم أن التعدد قانون غير مكتوب يخضع له الكثيرون؟ وثم سؤال آخر: هل الضرورات هى التى تدفع إلى التعدد الحرام أم أن الإثارات المتعمدة فى الاختلاط المطلق وفى تقاليد الرقص التى لا آخر لها من وراء هذا الفيضان من العلاقات الآثمة؟؟ وأختم هذا القول بسؤال حاسم: هل وعى التاريخ الجاد سيرة رجل أعف خلقا وأشرف ثوبا وأغير على الحرمات وأبعد عن الشبهات من محمد؟ هل حكى عن أحفال فى بيته رُصت فيها الموائد وعليها زجاجات الخمور، وأطايب الأطعمة، وأنواع المشهيات والهواضيم؟ لقد كانت عيدان الحصير تنطبع على جلده وهو نائم، أو جالس، فإذا ظفر مع أصحابه بالخبز واللحم عد ذلك من النعيم الذى يسأل الناس عنه يوم القيامة!! فهل هذا النبى الفارس المخشوشن الجلد يوصف بأنه من أصحاب الشهوات؟ ومن الذى يصفه؟ الذين ابتلاهم الله " بالإيدز" بعد ما ابتلاهم بالزهرى وغيره من أمراض الإسفاف والإسراف والسقوط!! إمراتان.. نادرتان!! كانت أم المؤمنين " خديجة" سيدة ثاقبة البصيرة، خبيرة بأغوار الرجال، ص _026(1/19)
تعرف طبائعهم فلا يخفى عليها معدن نفيس، ولا يخدعها طلاء مزور! ولعل اشتغالها بالتجارة كون لديها هذه الملكة فالتجار من أعرف الناس بطوايا النفوس! وفى ميدان عملها التجارى عرفت خديجة محمدا - عليه الصلاة والسلام - وخطبته لنفسها، ولم يكن محمد مجهولا لدى جمهور العرب، كانت خلائقه الزاكية موضع إجماع وحب، وكثيرا ما تكون زكاة الباطن كصباحة الوجه أساسا لتقدير عام أو عنوانا لا يختلف فيه اثنان.. لكن خديجة بعد زواجها ازدادت خبرة برجلها وأدركت أى أفق من الكمال قد بلغه! فلما أخبرها بما عرض له فى غار حراء قاست المستقبل على الماضى، وأقسمت أن مثله لا يضيع، وأنه يستحيل أن يخذل الله رجلا قد أفاء عليه خلال النبل والشرف كلها، قالت: "والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وتؤدى الأمانة ". إن الله لا يخزى فى الدنيا ولا فى الأخرى صاحب هذه السيرة! ذاك إنسان محصن من عدوان الشيطان (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا..) وخديجة من سروات قريش، أى من قمة المجتمع العربى، وهى أول من آمن من النساء، لكن الإسلام دين عام ينتظم البشر أكابرهم وأصاغرهم، فإذا كانت أفئدة بعض الأغنياء تهوى إليه، فإن جماهير من الفقراء تدخل فيه وتستبشر به، السادة والعبيد جميعا لهم مكان واحد فيه، كأبو بكر المرموق يعتنقه، وبلال المملوك يعتنقه، ثم يجىء عمر العظيم فيقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا!! لا طبقات فى هذا الدين، ولكن أخوة عامة، وإذا كانت خديجة أول من آمن، وهى من البيوتات الرفيعة، فإن أول من استشهد " سمية " أم عمار وهى من البيوتات المستضعفة التى لا يؤبه لها. واختبار الله لعباده فنون، إنه يختبر بالشهرة والخمول وبالثروة والعدم وبالصحة والسقام، والمهم هو الآخرة، عن عثمان بن عفان - وهو من قمة قريش - قال بينما أنا أمشى مع رسول الله بالبطحاء إذ بعمار وأبيه(1/20)
وأمه يعذبون فى الشمس ليرتدوا عن الإسلام! قال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا؟ ص _027
فقال: " صبراً يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت!!. وجاء قادة الجاهلية ليسروا بمنظر التعذيب، وكان بينهم أبو جهل الذى غاظه تجلد المرأة، وصبرها على ما ينزل بها، فطعنها بحربته فى أسفل بطنها طعنة مزقت رحمها و أودت بحياتها فكانت أول شهيدة فى الإسلام. وطال المدى على توقع العقاب الإلهى حتى كانت غزوة بدر، وخرج الفرعون الصغير ليقاتل المؤمنين وهناك وكل القدر به اثنين من فتيان الإسلام ظلا يناوشانه بسيفيهما حتى صرع! " إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ". كم أشعر بالإعجاب لأول امرأة أسلمت، ولأول امرأة استشهدت! الصديقة .. الأديبة كانت أم المؤمنين عائشة ذواقة للأدب العرب، شعره ونثره، سريعة الاستشهاد به فيما يمر بها من أحداث، ولم أر هذه القدرة لغيرها من النساء. فعندما قتل على بن أبى طالب قالت: فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر! ولما احتضر أبوها أبو بكر قالت: لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فقال الصديق لافتا نظرها إلى ما هو أفضل، ليس هكذا تقولين! قولى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد). وعندما قتل أخوها محمد بن أبى بكر بمصر قالت: وكنا كندمانى جزيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا! فلما تفرقنا كأنى ومالكا! لطول اجتماع لم نبت ليلة معا! قال الرواة: وأرسلت عائشة أخاها عبد الرحمن إلى مصر فأحضر أولاد أخيها اليتامى، واحتضنتهم حتى إذا كبروا قالت لعبد الرحمن: لقد ضممتهم إلىَّ لصغر سنهم وخشيت أن تتأفف نساؤك منهم، فكنت أنا ألطف بهم، وأصبر عليهم، فالآن خذهم إليك وكن لهم كما كان حُجية بن المضرب لأولاد أخيه معدان! ص _028(1/21)
ولحجية هذا قصة طريفة بعد أن مات أخوه معدان! فقد رأى أولاده اليتامى تخرج إليهم خادمته ببقايا لبن فى قعب مكسور، هو كل ما جادت به زوجته عليهم! فملكه الوجوم والغضب! ثم أمر أن تحلب ماشيته فى بيت أخيه قبل أن تحلب ببيته! وأن يأكل يتاماه من الأصول لا من الفضول، وغضبت لذلك امرأته فقال حجية تلوم على مال شفانى مكانه إليك فلومى ما بدا لك واغضبى! رأيت اليتامى لا تسد فقورهم هدايا لهم فى كل قعب مُشعب! ذكرت بهم عظام من لو أتيته حريبا لآسانى لدى كل مركب! أخى والذى إن أدعه لملمة يُجبنى وإن أغضب إلى السيف يغضب إن الصديقة الأديبة تذكر أخاها بخلال رجل من شعراء الجاهلية! قال عروة بن الزبير: ما رأيت أعلم بطب ولا بفقه ولا بشعر من عائشة. وفى طبقات ابن سعد كانت عائشة أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله. وعن أبى سلمة: ما رأيت أعلم بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عائشة، ولا أحدا أفقه فى رأى إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت ولا فريضة، من عائشة رضى الله عنها. وكانت - رضى الله عنها - تفتى، فى عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت.. وعلم عائشة يتجاوز الفتوى إلى التصحيح، ورد ما يشيع من خطأ، وكان رسوخها فى فهم القرآن، وفقهها فى السنة النبوية، واطلاعها الواسع على أدى العرب يجعلها المرجع الثقة أبدا. ألا تكون هذه السيرة الناضرة أسوة للنساء المسلمات فى شتى الأعصار والأمصار؟ أم نقول للنساء: اقعدن فى البيوت لا شعر ولا نثر، ولا دين ولا دنيا؟ ص _029(1/22)
فى العلم.. والأدب مع اضمحلال الفكر الدينى فى الأعصار المتأخرة هبط المستوى الإنسانى للمرأة هبوطا مخجلا فى ميدان العلم والأدب، وعادت الجاهلية الأولى تنشر مآثرها ونزعاتها! بل إننا نقرأ كلمات للنساء الأول يستحيل أن تكون لها نظائر على لسان النساء فى أعصار التخلف الأخيرة، تدبر ما تقوله " أم الصريح الكندية" ترثى رجالا من قومها ثبتوا فى الميدان حتى تفانوا جميعا: أبوا أن يفروا والقنا فى نحورهم! وأن يرتقوا من خشية الموت سلما ولو أنهم فروا لكانوا أعزة! ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما والاعتذار عن فرارهم - لو فروا - إنما وقع لأنهم نفر قليل واجه جيشا كثيفا، وكان يمكن أن يقولوا ما قاله الحارث بن هشام لما ترك المعركة لأنه التقى - وهو فرد - بجيش كبير واعتذر قائلا: وعلمت أنى إن أقاتل واحدا أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى فصددت عنهم والأحبة دونهم طمعا لهم بعقاب يوم مُرصد لكن هذه الفلسفة السياسية لم تعجب المرأة الشجاعة، ورأت أن الصبر على الموت أكرم!! ومثل هذه المرأة يلد أولى الفداء والنجدة والرجال الذين يحمون الإيمان بأرواحهم دون تردد. وهذه امرأة أخرى، هى أم صعلوك من صعاليك العرب ذهب ابنها فى إحدى الغارات وبقيت هى تنتظره فلم يعد، ولو كانت، هذه الأعرابية أما لأحد " اللوردات" الإنجليز لترجمت كلماتها على أنها من روائع الأدب ! إن ابنها ذهب كغيره من الصعاليك يطلب الغنى ويكره الفقر ، والمرأة تسمى الفقر هلاكا ! وهو كذلك فى دين الله وفطرة النفوس ولكن الفقر - فى التدين الفاسد - منزلة من منازل الصالحين حين يتقربوا إلى الله ص _030(1/23)
وهذه قصيدة المرأة: طاف يبغى نجوة من هلاك فهلك ليت شعرى ضلة أى شىء قتلك أمريض لم تعد؟ أم عدو ختلك؟ والمنايا رصد للفتى حيث سلك! أى شىء حسن لفتى لم يك لك كل شيىء قاتل حين تلقى أجلك! طالما قد نلت فى غير كد أملك! إن أمرا فادحا عن جواب شغلك سأعزى النفس إذ لم تجب من سألك! ليت قلبى ساعة صبرة عنك ملك! ليت نفسى قُدمت للمنايا بدلك.. وقالت صفية الباهلية ترثى أخاها، وتذكر أنها كانت معه فرسى رهان فى سباق الأمجاد والمكرمات حتى ذهب وبقيت وحدها.. كنا كغصنين فى جرثومة سمقا حينا بأحسن ما يسمو له الشجر! حتى اذا قيل قد طالت فروعهما وطاب فيآهما واستُنظر الثمر! أخنى على واحدى ريب الزمان وما يبقى الزمان على شىء ولا يذر! كنا كأنجم ليل بينها قمر.. يجلو الدجى، فهوى من بينها القمر! هكذا كان الرجل والمرأة، فهل هما كذلك الآن؟ مثل عال.. للمسلمة المجاهدة كانت الأسرة الإسلامية كلها تهتم بشئون دينها وبقضاياه السياسية والعسكرية! ولم يكن هذا الاهتمام التقاط أخبار أو تسمع أنباء المعارك فى شتى الميادين، بل قد يكون مشاركة شخصية من الأمهات والزوجات.. ص _031(1/24)
وأمامى نموذج مثير لقصة وقعت فى حرب الردة عندما اشتبك المسلمون فى قتال فادح المغارم مع أتباع مسيلمة الكذاب! ومسيلمة هذا شخص عجيب فإن جنون العظمة قد يدفع أصحابه إلى ما يشاكل طباعهم من انحراف، "فنيرون " قد يحرق روما و" هولاكو " قد يدمر بغداد، وقد يستطيع مسيلمة أن يكون قاطع طريق فيشبع تطلعه إلى الظهور! أما أن يدعى النبوة فهذا ما لا مساغ له.. لكن سعار العظمة جعله يدعيها ويرسل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قسم الأرض نصفين بينهما! وقد تجاوز النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الهزل، وأرسل حبيب بن زيد يتحدث معه ويستطلع خبره ويحاول رده الى صوابه. وكان حبيب شابا مؤمنا جريئا، فلما رآه مسيلمة قرر قتله! فسأله أولا: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ فتصامم حبيب، وأشار بوجهه لا أسمع. وكرر مسيلمة دعواه، وكرر حبيب رفضه الصامت المستهزىء المستكبر! وهنا بدأ مسيلمة يقطع الشاب المؤمن عضوا عضوا، كلما سأله فرفض الإيمان به قطع جزءا من جسمه، فلما استمر تقطيع الأشلاء، ونزف الدماء فاضت روح الشاب الجلد وهو يحتقر الباطل ويعز الحق! وعلمت أمه "نسيبة بنت كعب الأنصارية" بمصرع ولدها على هذا النحو فنذرت ألا تغتسل حتى تثأر لولدها وحتى يقتل مسيلمة، وخرجت المرأة مع ابنها عبد الله واشتركت فى معركة اليمامة وقاتلت جيش مسيلمة أشد قتال، وأصابها اثنا عشر جرحا وهى مقدمة شجاعة، وقُطعت يدها خلال المعركة الشرسة، لكن خيل الله قتلت مسيلمة ومحت أكذوبته بالدم الغزير، وانتصر الحق، وزاح الإفك، وعادت نسيبة بعدما وفت بنذرها! أكان أحد يستطيع ردها عندما خرجت؟ كلا.. لقد شهدت من قبل قتال أحد، وشهدت بيعة الرضوان فى عمرة الحديبية، وشهدت فتح مكة ويوم حنين، ومن قبل ذلك شاركت فى بيعة ص _032(1/25)
العقبة، إنها مثل عال للمسلمة المجاهدة التى شرفت أسرتها ودينها.. وأعلم أن بعض المتفيهقين فى عصرنا لو صادف المرأة الصالحة وهى خارجة من بيتها لتقاتل الكذاب وأتباعه لقال لها: اقعدى فى بيتك، لا يجوز لك هذا! إن هؤلاء المتفيهقين تعرفهم عصور الاضمحلال العقلى، ولا يمكن أن يظهروا فى مجتمع ناضج أو فى سلف صالح. قانون.. " الحمد "! بيت عريق أخنت عليه الأيام فزلزلت مكانته فى المجتمع، وأطمعت من دونه من الناس أن يتقدم خاطبا لبناته وما كان يجرؤ على ذلك من قبل. وغضب رب البيت لكرامته التى جُرحت، وتساءل فى أسف: أإذا عرضت له أزمة عابرة تطاول عليه الصغار، وجاءه من يريد الزواج بابنته وهو ليس لها بكفء؟ لذلك طرد بعنف بالغ الخاطب القادم قائلا له : تريد أن تكون سيدا بأخذ سيدة من بيتنا لا ترتفع إلى مستواها؟ اذهب عنا فالبنات كثرن بعد أن منع الإسلام وأد البنات! أما ابنتنا ففى مكانها العالى لن تُرخصها أزمة مهما اشتدت!! وهاك الأبيات التى تفجرت فيها ثورة رب البيت الجريح ! تبغى ابن كوز ـ والسفاهة كاسمها ـ ليستاد منا أن شتونا لياليا فما أكبر الأشياء عدى حزازة بأن أبت مزريا عليك وزاريا وإنا ـ علي عض الزمان الذى بنا- نعالج من كره المخازى الدواهيا فلا تطلبنها يا ابن كوز فإنه غذا الناس مذ قام النبى الجواريا وإن التى حُدثتها فى أنوفنا وأعناقنا من الإباء كما هيا والذى استوقفنى من هذه القصة أمران: أولهما: ان الرجل الذى أحرجه الفقر تماسك وتحمل آلاما هائلة حتى لا يُلم بدنيئة أو يقترف ما لا يليق به. والثانى : أنه أعز ابنته وجعل مكانتها فى أنفه وعنقه فلن تذل أبدا ما دام حيا! ص _033(1/26)
وكلا الأمرين من خلائق السادة الذين يحترمون أنفسهم وأهليهم، ولا يعنينى غير ذلك فى القصة كلها. والمجتمع العربى قديما وحديثا تحكمه تقاليد صارمة بعضها لا بأس به وبعضها فيه نظر، واهتمام العرب بنسبهم وسمعتهم قد يخالطه غرور وكبر، ولكن الأستاذ أحمد موسى سالم يقول : إن العرب فى حياتهم الأولى كان يحكمهم قانون "الحمد" الذى جاء به اسم محمد من مشرق طفولته تأكيدا لمراحل الاصطفاء له من بين محامد العرب لامن بين مساوئهم، فكان هو المحمد بحسب قانونهم وكان كما هو الواقع وكما قال عن نفسه "خيار من خيار من خيار". وقد شرحت الخنساء هذا القانون الشريف بقولها: نعف ونعرف حق القرى ونتخذ الحمد كنزا وذخرا! وتقول أم حاتم الطائى وكانت فى سباق المكارم تجود لمن يسألها بكل ما تملك: لعمرى لقدما عضنى الجوع عضة فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا! وما إن ترون اليوم إلا طبيعة! فكيف بتركى يا ابن أمى الطبائعا؟ فهذه امرأة جاعت مرة فأقسمت ألا ترى جائعا إلا أعطته ما تملك! وكان من حقها أن تفعل ذلك! ولا يستطيع أحد أن يمنعها.. وكانت إحدى حكيمات النساء قبل الإسلام - وهى جمعة بنت الخس - تصف الصدق وتجعله فوق كل الفضائل فتقول: وخير خلال المرء صدق لسانه! وللصدق فضل يستبين ويبرز! وإنجازك الموعود من سبب الغنى فكن موفيا للوعد، تُعطى وتنجز! وقانون "الحمد" الذى أشار إليه الأديب الكبير جدير بالإقرار مع تعليق محدود، فالإسلام يريد منا أن نعمل ابتغاء وجه الله وانتظار مثوبته يوم اللقاء الأخير، فإذا أخلصنا العمل له سبحانه جازانا بالذكر الحميد في الدنيا والآخرة، ولا يجوز أن نعمل طلبا لثناء الناس، كما لا يجوز أن نُعرض سمعتنا للقيل والقال. ص _034(1/27)
وفى العرب ميل للفخر والظهور والمباهاة وهى رذائل تشوب العمل الصالح وقد تطيح به. الكل سواء.. فى سباق الفضائل! والحق أن المرأة العربية فى الجاهلية الأولى برزت شمائلها الحسان فى ميادين كثيرة أيام الحرب وأيام السلم على سواء، ولم توضع أمامها العوائق التى وضعت أمام المسلمات فى عصور الانحطاط العام للأمة الإسلامية. وفى صدر الإسلام استطاعت امرأة من الخوارج أن تقود جيشا يهزم الحجاج ويحصره فى قصره ويتركه وهو مذعور، حتى عيره احد الشعراء على هذا الموقف المخزى بقوله: أسد علىَّ وفى الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر! هلا برزت إلى غزالة فى الوغى بل كان قلبك فى جناحى طائر! أما فى العهود الإسلامية الأخيرة فإن المرأة ما كانت تدرى وراء جدران بيتها شيئا! وعندما غلبتنا حضارة الغرب المنتصر كان هم المرأة أن تقلد فى الثوب الرشيق والمنظر الأنيق! أما فى غزو الفضاء واكتشاف الذرة ودراسة النفوس والآفاق فإن الأمر لا يستحق الاكتراث، لأنه ليس من شأنها ولا من رسالتها!! إن الإسلام لا يقيم ـ فى سباق الفضائل ـ وزنا لصفات الذكورة والأنوثة، فالكل سواء فى العقائد والعبادات والأخلاق، الكل سواء فى مجال العلم والعمل والجد والاجتهاد. لا خشونة الرجل تهب له فضلا من تقوى، ولا نعومة المرأة تنقصها حظا من إحسان. وفى القرآن الكريم (...من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). وفي عالم الرياضة اليوم يفصل بين مباريات الرجال والنساء، وتوضع مسافات وأرقام لكلا الجنسين على حدة.. ربما صح هذا فى دنيا الألعاب لكنه مستحيل فى سباق الصالحات، وكسب الآخرة، ربما تقدمت امرأة فسبقت ذوى ص _035(1/28)
اللحى دون حرج وربما تأخرت ولو كانت قرينة أحد الأنبياء.. ولذلك قلنا: امرأة فرعون خير منه، ومريم أشرف من رجال كثيرين، ونوح ولوط خير من زوجاتهم!! وأذكر أن أحد الناس قال لى: إن القرآن يرجح الذكورة على الأنوثة! ويسوق لزعمه قوله تعالى: " وليس الذكر كالأنثى " وهو فهم أعوج! فالجملة القرآنية وردت على لسان امرأة عمران التى كانت حاملا، وظنت أنها ستلد رجلا يكون سادنا للمسجد الأقصى وقائدا للعابدين والدارسين فيه، فلما فوجئت بإخلاف ظنها وأنها ولدت أنثى، قالت هذه الكلمة لأن المرأة لا تصلح لهذه القيادة بطبيعتها. وقد قبلت الأمر الواقع لأنه مراد الله! ودعت لابنتها ولذريتها بالصيانة والرعاية فاستجاب الله الدعاء بأن أعلى قدر المولودة فوق ألوف مؤلفة من البشر، وأعلى قدر ابنها فجعله من الأنبياء أولى العزم.. ولاشك أن هناك وظائف تخص النساء وأخرى تخص الرجال، ولا علاقة لهذه التخصصات بموازين العدل أو الفضل الإلهى. ص _036(1/29)
ماذا تفعل نساؤنا؟ ! من أيام العرب المشهورة فى جاهليتهم الأولى يوم " ذى قار" عندما أغار الفرس على أرض الجزيرة بجيش كبير، وتناسى العرب خلافاتهم لمواجهة هذا الغزو، والتقت القبائل فى جبهة واحدة للوقوف أمامه. يقول التاريخ: إن القائد العربى " حنظلة بن ثعلبة " أمر بقطع أحزمة الهوادج الموضوعة فوق ظهور الإبل، وأنزل النساء كى يمشين على الأرض وراء المقاتلين، ثم نادى فى الرجال بصوت سمعه قلب الجيش وجناحاه: فليقاتل كل منكم كل حليلته!! وكانت هذه الصيحة كفيلة بإشعال الحماس وقتل كل تردد، فانهزم الفرس هزيمة نكراء وولوا مدبرين.. وفى معركة أحد خرج نساء المشركين وراء الجيش الذى يطلب الثأر من هزيمتهم فى بدر وهن ينشدن حاثات الرجال على الحرب: إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق! أو تدبروا نفارق فراق غير وامق! كان للنساء دور كما ترى فى كسب المعارك، وكانت لهن دراية بقضايا المجتمع كبراها وصغراها وقد ظهر ذلك فى بدء الوحى، فإن أبا لهب عم النبى - عليه الصلاة والسلام - كان مع امرأته فى تكذيب الوحى ومقاومة الإسلام بضراوة وحقد! وكانت المرأة تسمى الرسول "مذمما" لا "محمدا" !! وتقول " مذمما أبينا. ودينا قلينا. وأمره عصينا". ومشت بهذا الهجاء المسعور فى مجالس قريش تسفه وتتطاول وتبث الفتنة وتؤيد الكفر، فنزل قوله تعالى فيها (وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد) والمرأة كانت من كبراء قريش، لا تشتغل بالاحتطاب وإنما شبه سعيها بالوقيعة والبذاءة وإلقاء العداوات ضد الإسلام بمن تحمل الحطب للوقود!! ص _037(1/30)
قلت فى نفسى: إذا رزق الضلال نسوة ينصرنه بهذه الحمية، ويتبنين فضاياه بهذه القوة فلماذا يحرم الإيمان نشاطا نسائيا معارضا له، واقفا ضده؟ إن الذى أسقط آخر معاقل الإسلام فى الأندلس هما " فرديناند وإيزابيلا" رجل وامرأة تكاتفا على إسقاط علم التوحيد! وفى النساء المسلمات آلاف وآلاف يستطعن خدمة الإيمان كما استطاعت المشركات خدمة الضلال فلماذا يحال بينهن وبين هذه الخدمة؟ فى الانتخابات الأمريكية كانت امرأة المرشح الديمقراطى لرياسة الولايات المتحدة تسعى بجبروت لنصرة زوجها، وظن الناس أنه كاسب المعركة! ولما كانت المرأة يهودية فقد قيل: إن ملكة البيت الأبيض ستكون حليفة إسرائيل! وشاء الله أن ينتصر الحزب الجمهورى، فإذا الملكة المرتقبة يخامرها الأسى! وحاولت أن تتغلب على آلامها بالخمر، وهى الآن فى المستشفى تعالج من الإدمان! لأنها تحاول النسيان! لقد تساءلت: ما هذا الإخلاص؟ ما هذا الشعور العميق؟ لماذا لا ينشغل نساؤنا بخدمة المثل الإسلامية بهذه القدرة؟ من يمنعهن؟ ما يمنعهن إلا جاهلون بالإسلام. ما أجمل أن يتطاوع الزوجان وأن يتعاونا على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم! كان سعد بن ناشب رجلا حاد الطبع قاسى اللفظ، فلم ترض بذلك امرأته، ولامته على شراسة خلقه وقساوة كلماته! فقال يدافع عن سيرته ويشرح حقيقة نفسه : تُفندنى فيما ترى من شراستى وشدة نفى أم عمرو وما تدرى! فقلت لها: إن الكريم وإن حلا ليُلقى على حال أمر من الصبر وما بى على من لان لى من فظاظة ولكننى فظ أبيٍّ على القسر! وهذا اعتذار جميل! ولكن المهم فيما قضضنا. نصح الزوجة لرجلها ورغبتها فى خيره وسلامته ص _038(1/31)
نماذج.. من المجتمع العربى وهذا رجل آخر سخى اليد واسع العطاء يتصدق بالجمل من إبله الكثيرة على من جاء يسأله عطاء، ويقول لامرأته: هيئ حبلا للسائل يقود به جمله الذى وهبته له، وينهاها عن لومه: لا تعذلينى فى العطاء ويسرى لكل بعير جاء طالبه حبلا.. فلم أر مثل الإبل مالا لمقتن ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا.. وتجيبه امرأته " ليلى" إجابة لها وزنها عند أهل السخاء والفضل. تقول: حلفت يمينا بابن "قحفان" بالذى تكفل بالأرزاق فى السهل والجبل تزال جبال محصدات أعدها لها ما مشى منها على خفه جمل.. فأعط ولا تبخل لمن جاء طالبا فعنده لها خطم وقد زاحت العلل إن هذه النماذج من المجتمع العربى الأول تصوِّر فضائل الإيثار والسماحة التى شاعت فيه والتى حفظت توازنه، وجعلت الأسرة مصدر استقراره وسنائه، ولا عجب فالأسرة القوية هى الدعامة للمجتمع القوى، والحافظ الأول لتقاليده.. وجاء الإسلام فشجع المرأة على الجود من مال البيت - بما لا يضره بداهة - فعن عائشة أم المؤمنين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها كان لها أجرها، وله مثله بما كسب! ولها بما أنفقت! وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من أجورهم شىء. وعن أسماء بنت أي بكر الصديق أنها قالت: يا رسول الله ليس لى شىء إلا ما ادخل على الزبير - أى ما جاء من ماله الخاص به - فهل على جناح أن أرضخ - أن أعطى - مما أدخل علىَّ؟ فقال: " ارضخى - أعطى - ما استطعت ولا توكى - تبخلى - فيوكى الله عليك!! ونحن نتساءل عن الأسرة العربية الآن: هل بقيت فيها تقاليد العطاء والإفضال على طلاب الصدقات والمعونات؟ أم غلبتها التقاليد الوافدة من الغرب وهى تقاليد تقوم على الأثرة والكزازة!! ص _039(1/32)
هل ظل الرجال يشمخون بأنوفهم اعتزازا بحماية العرض وصيانة الأهل أم تسللت برودة التقاليد الأوروبية والأمريكية وأنشأت جيلا آخر له منطق آخر؟. لقد لاحظت أن المرأة الآن تفخر بأن لديها عشرات الفساتين، الموافقة لأخر صيحة فى عالم الأزياء، ذاك إلى جانب ألوان الزينة وأدوات الترف وأسباب الإغراء. لقد كان لنا فى الجاهلية العربية خلائق أزكى، يرسم معالمها حاتم الطائى وهو يقول لزوجته: إذا ما صنعت الزاد، فالتمسى له أكيلا فإنى لست آكله وحدى!! أخا طارقا، أو جار بيت فإننى أخاف مذمات الأحاديث من بعدى وإنى لعبد الضيف مادام نازلا! ومافى إلا تلك من شيمة العبد! ما أجمل أن يكون الزوجان أديبين، أو عالمين، أو كريمين، أو شجاعين! فإن قعدت بأحدهما سورة عارضة، أو وسوسة هابطة أسرع إليه الآخر فأخذ بيده، وسدده على الطريق. امراة.. بألف رجل!! أجيال كبيرة من علماء الأزهر الذين تخرجوا فى كلية أصول الدين مدينون أدبيا وماديا لامرأة محسنة وقفت مالها لله، وأنشأت منه مؤسسات يتفجر الخير منها منذ عشرات السنين، وسيبقى كذلك ما شاء الله. وأنا واحد من هؤلاء الذين نالهم ذلك العطاء الدافق، فقد انتظمت بين طلاب هذه الكلية من نصف قرن أو يزيد، وتلقيت الدروس من أفواه جملة من أكابر علماء الأزهر، وقادة الفكر الإسلامى، أتيحت لهم فرصة التعليم فى قاعات المبنى الذى أنشأته " الخازندارة" ملحقا بمسجدها الجامع الفخم كانت الدراسة تبدأ أول العام بحفل مائج فى المسجد الكبير نستمع فيه إلى توجيه أن نطلب العلم لا لدنيا نصيبها أو جاه نستحبه، مع تذكير بأئمة العلم الإسلامى وجهادهم الزاكى فى تربية الشعوب وحياطة الحق.. ثم يذهب كل ص _040(1/33)
منا إلى صفه وفى نفسه قول أبى العلاء فىصفة فقيه حنفى: أنفق العمر ناسكا يطلب العلم ببحث عن أصله واجتهاد لكن من هى الخازندارة؟ التى بنت كليتنا؟ لا ندرى عنها شيئا! إن البيئات التى عشنا فيها قديما تواضعت عل كتمان أسماء النساء، فلا يجوز أن يذكر اسم الأم ولا اسم الزوجة! فذلك عيب لا يقع فيه أهل الإيمان، لعل الاسم عورة كما أن الصوت عورة!! هل الدين باعث هذا الشعور؟ كلا؟ ففى أول البعثة الشريفة صاح النبى الكريم على الصفا كما ذكرنا من قبل مناديا صفية بنت عبد المطلب، وفاطمة بنت محمد يدعوهما إلى معرفة الله والإيمان به وحده! ولم يكن ذكر أسماء النساء عيبا ولا موضع لغط! إن التدين الفاسد قد يبعد عن الفطرة مثل أو أبعد مما تفعله الجاهليات الكريهة.. فلنعد إلى كلية ومسجد الخازندارة بعد هذا الاستطراد، كانت الكلية للدراسات التى تؤهل للشهادة العالية، أما الدراسات الأعلى فكانت تنشأ لها حلق داخل المسجد نفسه، وهى حلقات صغيرة بطبيعتها، ولا أزال أذكر منظر الشيخ أمين خطاب الرئيس الثانى للجمعية الشرعية بمصر، وهو يلقى الدروس فى " علل الحديث "، وكان رحمه الله رجلا بكاء، شديد الخشية لله ،يلتف حوله طلبته وكأنهم فى صلاة خاشعة!! على أن أعداد الطلبة زادت هنا وهناك، وربا الإحساس بضرورة البحث عن مكان أوسع! وهنا سمعت من يقول: انهم سوف يضمون مبنى الملجأ إلى الكلية، ولم أع ما هنالك ثم أدركت أن السيدة المحسنة بنت ملجأ للأيتام يؤويهم ويغذوهم ويكسوهم، وأرصدت لذلك من مالها ما يسع حاجة المحتاجين! ولأمر ما لم تنفذ هذه الوصية! وقال أحد الساخرين: لعله لا يوجد يتامى! وأحسست أنا أن جملة من الأهداف النبيلة تضيع فى فوضى التنفيذ، وسوء الرقابة، وفقدان العلاقة بالله.. إن الواقفين فعلوا الكثير بيد أن المنفذين فرطوا وخانوا.. ولما كانت مصائب قوم فوائد عند قوم، فقد انتقلنا نحن إلى مبنى الملجأ الخالى، وتلقينا دروسنا فى قاعاته الخالية..(1/34)
ص _041
وأعتقد أن السيدة التى أسدت الجميل لم ينقص ثوابها ذرة، فقد أدت ما عليها، وتقربت إلى الله جهدها.. وما فعله الآخرون بتراثها يلقاهم يوم اللقاء الأخير (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا). وفى أثناء تلقينا الدروس بمبنى الخازندارة، بدأنا نسمع ضجيج بناء عمارة كبيرة فتساءلنا: ما هذا؟ قالوا: مستشفى الخازندارة! الحق أنى دعوت من أعماق قلبى للمرأة الصالحة! تبنى معهدا ومسجدا وملجأ ومستشفى؟ تنشر العلم وتحمى العبادة وتربى اليتامى وتداوى المرضى؟ أى قلب زكى فى صدر هذه المرأة التى أقرضت الله قرضا حسنا.. وادخرت عنده ما ينضر وجهها (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار..). الواقع أن النساء الصالحات كثر فى تاريخنا، ما بخلن بمال ولا وقت فى سبيل الله، وقد أدين فى صمت ما يعجز عنه الكثيرون، ويستطيع الباحثون فى بطون التواريخ أن يجدوا أسماء متوارية محرومة من الشهرة لها عند الله مكانة رفيعة لا ينالها غيرهم.. رحم الله الخازندارة التى استودعت الله مالها، وجاهدت فى سبيله بتقديم الدواء للمرضى والزاد للجياع، والعلم لطلابه، وألهم الرجال والنساء أن يتأسوا بها.(1/35)