المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
قال الإمام ابن قدامة المقدسي في كتابه [مختصر منهاج القاصدين]:
قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا... } إلى قوله: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } [آل عمران: 30]، وقال: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ... } إلى قوله: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47]، وقال: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ... } إلى قوله: { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49]، وقال { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } إلى آخرها [الزلزلة: 6]. فاقتضت هذه الآيات وما أشبهها خطر الحساب في الآخرة.
وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقلبة. ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته، فلما علموا أنهم لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله تعالى بالصبر والمرابطة فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 200]، فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة، ثم بالمراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاينة. فكانت لهم في المرابطة ست مقامات، وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة، ولا بد من شرح ذلك المقام.
* * *
المشارطة(1/1)
اعلم أن التاجر كما يستعين بشريكه في التجارة طلبًا للربح، ويشارطه ويحاسبه، كذلك العقل يحتاج إلى مشاركة النفس، ويوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط، ويرشدها إلى طريق الفلاح، ثم لا يغفل عن مراقبتها، فإنه لا يأمن خيانتها وتضييعها رأس المال ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه التجارة ربحها الفردوس الأعلى. فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم من تدقيقه بكثير من أرباح الدنيا. فحتم على كل ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها، فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها.(1/2)
فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه فيقول للنفس: مالي بضاعة إلا العمر العمر، فإذا فني مني رأس المال وقع اليأس من التجارة، وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخر أجلي، وأنعم علي به. ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل صالحا، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك إياك أن تُضيعي هذا اليوم، واعلمي أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد يُنشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزائنة، فيراها مملوءة نورًا من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيحصل له من السرور بمشاهدة تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى الله فيها، فيحصل له من الفزع والخزي ما لو قُسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح، ويتحسر على خلوها، وينالها ما نال القادر على الربح الكثير إذا أهمله حتى فاته، وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين يدركه غيرك.
قال بعضهم: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ فهذه وصيته في نفسه في أوقاته، ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة، وهي: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، وتسليمها إلى النفس، فإنها رعايا خادمة لها في هذه التجارة المخلدة، بها يتم أعمالها، ويعلمها أن أبواب جهنم سبعة على عدد هذه الأعضاء، فتعين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، فيوصيها بحفظها عن معاصيها.(1/3)
أما العين فيحفظها عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، أو إلى مسلم بعين الاحتقار وعن كل فضول مستغنىً عنه، ويشغلها بما فيها تجارتها وربحها، وهو النظر إلى ما خلقت له من عجائب صنع الله تعالى بعين الاعتبار، والنظر إلى أعمال الخير في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومطالعة كتب الحكم للاتعاظ والاستفادة.
وهكذا ينبغي أن يتقدم إلى كل عضو بالوصية بما يليق به، ولا سيما اللسان والبطن وقد ذكرنا آفات اللسان فيما تقدم، فيشغله بما خلق له، من الذكر والتذكير، وتكرار العلم والتعليم، وإرشاد عباد الله تعالى إلى طريق الله، وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك من الخير.
وأما البطن، فيكلفه ترك الشره، واجتناب الشبهات والشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة، ويشترط على نفسه إن خالفت شيئًا من ذلك أن يعاقبها بالمنع من شهوات البطن، ليفوتها أكثر مما نالت بشهوتها، وهكذا في جميع الأعضاء واستقصاء ذلك يطول، وكذا ما تخفي طاعات الأعضاء ومعاصيها.
ثم يستأنف وصيتها في وظائف العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، في النوافل التي يقدر عليها، وعلى الاستكثار منها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم إلى أن تتعود النفس ذلك، فيستغني عن المشارطة، ولكن لا يخلو كل يوم من حادثة لها حكم جديد لله تعالى عليه في ذلك حق، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا، من ولاية أو تجارة أو نحو ذلك، إذ قل أن يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها؛ فعليه أن يشرط على نفسه الاستقامة فيها، والانقياد للحق.
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله» (1) !
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وأحمد.(1/4)
وقال عمر - رضي الله عنه - : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر، { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة: 18].
* * *
المراقبة
إذا أوصى الإنسان نفسه، وشرط عليها ما ذكرناه، لم يبق إلا المراقبة لها وملاحظتها.
وفي الحديث الصحيح في تفسير الإحسان لما سئل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (1) ، أراد بذلك استحضار عظمة الله ومراقبته في حال العبادة.
قيل: دخل الشبلي على أبي الحسين النوري وهو قاعد ساكن، لا يتحرك من ظاهره شيء، فقال له: ممن أخذت هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر حتى لا يتحرك لها شعرة. وينبغي أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفي العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه، وإلا تركه وهذا هو الإخلاص.
قال الحسن: رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
فهذه مراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصًا فيها، ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعيم، فإنه لا يخلو من نعمة لا بد له من الشكر عليها، وكل ذلك لا يخلو من المراقبة.
__________
(1) رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان.(1/5)
وقال وهب بن منبه في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يشغل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي بها إلا إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ولا يحرم، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات، وإجمام للقوة، وهذه التي هي مشغول فيها بالمطعم والمشرب، لا ينبغي أن تخلو عن عمل هو أفضل الأعمال، وهو الذكر والفكر؛ فإن الطعام الذي يتناوله فيه من العجائب ما لو تفكر فيه كان أفضل من كثير من أعمال الجوارح.
* * *
المحاسبة بعد العمل
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر: 18] وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد مضي العمل، ولذلك قال عمر - رضي الله عنه - : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه. وقال: إن المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا إن شاء الله.
إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
واعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعات يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم.(1/6)
ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفي الربح، وفي الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أولاً على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفى منها ما فرط.
قيل: كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسبًا لنفسه، فحسب يومًا فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرح وقال: يا ويلنا! ألقي الملك بأحد وعشرين ألف ذنب وخسمائة ذنب؟! كيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب، ثم خر مغشيًا عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لها ركضة إلى الفردوس الأعلى! فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمى بكل معصية يفعلها حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي وهي مثبتة { أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ } [المجادلة: 6].
* * *
معاقبة النفس على تقصيرها
اعلم أن العبد إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيرًا، أو فعلت شيئًا من المعاصي فلا ينبغي أن يهملها؛ فإنه يسهل عليه حينئذ مقارفة الذنوب، ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده.
وكما روي عن عمر - رضي الله عنه - : أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى الناس العصر. فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين. قال الليث: إنما فاتته الجماعة، وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين.
وحكي أن تميم الداري - رضي الله عنه - نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع.
ومرَّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! والله لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.(1/7)
فأما العقوبات بغير ذلك مما لا يحل، فيحرم عليه فعله. مثال ذلك: ما حكي أن رجلاً من بني إسرائيل، وضع يده على فخذ امرأة، فوضعها في النار حتى شلت، وأن آخر حول رجله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع؟ فلما أراد أن يعيد رجله، قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معي. فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح، وأن آخر نظر إلى امرأة فقلع عينيه، هذا كله محرم، وإنما كان جائزًا في شريعتهم. وقد سلك نحو ذلك خلق من أهل ملتنا، حملهم على ذلك الجهل بالعلم، كما حكي عن غزوان الزاهد: أنه نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى نفرت.
وروينا عن بعضهم: أنه أصابته جنابة وكان البرد شديدًا، وأنه وجد في نفسه توقفًا عن الغسل، فآلى أن لا يغتسل إلا في مرقعته، وأن لا ينزعها ولا يعصرها، فكانت شديدة الكثافة تزيد على عشرين رطلاً. وهذا من الجهل بالعلم، فإنه ليس للإنسان أن يتصرف في نفسه بمثل هذا. وقد ذكره كثيرًا من هذا الفن الصادر عن المتعبدين على الجهل في كتابي المسمى بـ [تلبيس إبليس].
* * *
المجاهدة
وهو أنه إذا حاسب نفسه، فينبغي إذا رآها قد فارقت معصية أن يعاقبها كما سبق، فإن رآها تتوانى بحكم الكسل في شيء من الفضائل، أو ورد من الأوراد، فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها، كما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه فاتته صلاة جماعة، فأحيا الليل كله تلك الليلة. وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد، فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع.
وقال ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوًا، وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرهًا. ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله.
قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعًا. وقد كان عامر بن عبد قيس يصلي كل يوم ألف ركعة.(1/8)
وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجدًا. وكان داود الطائي يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية. وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات، وكان عمر بن عبد العزيز، وفتح الموصلي يبكيان الدم، وصلى أربعون نفسًا من القدماء الفجر بوضوء العتمة، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم ينم ولم يتكلم، ولم يستند إلى حائط، ولم يمد رجله، فقال له أبو بكر الكتاني: بم قدرت على هذا؟ قال: علم صدق باطني فأعانني على ظاهري. ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدًا والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له في أيام حياتي، ولأبكين ما حملت الماء عيناي.
ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج في بساتين مجاهداتهم، فلينظر في كتابي المسمى بـ [صفة الصفوة] فإنه يرى من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه.
* * *
معاتبة النفس وتوبيخها
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - : من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته.
وقال أنس - رضي الله عنه - : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل حائطًا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.
وقال البختري بن حارثة: دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات.
وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون: فأف لي وتف.(1/9)
واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمر بتقويمها وتزيكتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقًا، ِأما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير؟! وربما اختطف في يومه أو في غده! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتي بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك! وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربي ذلك بالقعود ساعة في الحمام، أو قربي أصبعك من النار. يا نفس! إن كانت المانع لك من الاستقامة حب الشهوات، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات.(1/10)
وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟! فما مقضي العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر؟. أم يقضي شهوته في الحال ثم يلزمه الألم أبدًا؟ فجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم ألم النار في الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنة أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه. هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها، وخوفًا من سرعة فنائها. أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبه الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر ضُبابه، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي في أيام قصار لأيام طوال، وأعدي الجواب للسؤال. اخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن يكون خروج اضطرار، إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري في هذه الموعظة، فإن عدمت تأثيرها، فابك على ما أصبت به، فمستقي الدمع من بحر الرحمة.
* * *
التفكر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
قد أمر الله سبحانه بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز، وأثنى على المتفكرين بقوله: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } [آل عمران: 191].
وقال: { فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرعد: 3].
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» (1) .
__________
(1) رواه البيهقي.(1/11)
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وقال وهب بن منبه: ما أطالت فكرة امرئ قط إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم إلا عمل.
وقال بشر الحافى: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الفريابي في قوله تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الأعراف: 146]، قال: أمنع قلوبهم التفكر في أمري.
وكان داود الطائي على سطح في ليلة قمراء، فتفكر في ملكوت السموات والأرض، فوقع في دار جار له، فوثب عريانًا وبيده السيف، فلما رآه قال: يا داود، ما الذي ألقاك؟ قال: ما شعرت بذلك.
وقال يوسف بن أسباط: إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها، بل لينظر بها إلى الآخرة. وكان سفيان من شدة تفكره يبول الدم.
وقال أبو بكر الكتاني: روعة عند انتباهة من غفلة، وانقطاع في حظ نفساني، وارتعاد من خوف قطيعة، أفضل من عبادة الثقلين.
* * *
بيان مجاري الفكر وثمارته
اعلم أن الفكر قد يجري في أمر يتعلق بالدين، وقد يجري في أمر يتعلق بغيره، وإنما غرضنا ما يتعلق بالدين، وشرح ذلك يطول. فلينظر الإنسان في أربعة أنواع: الطاعات، والمعاصي، والصفات المهلكات، والصفات المنجيات. فلا تغفل عن نفسك، ولا عن صفاتك المباعدة عن الله، والمقربة إليه. وينبغي لكل مريد أن تكون له جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات، وجملة الصفات المنجيات، وجملة المعاصي والطاعات ويعرض ذلك على نفسه كل يوم. ويكفيه المهلكات النظر في عشره، فإنه إن سلم منه سلمن من غيرها، وهي البخل: والكبر، والعجب، والرياء، والحسد، وشدة الغضب، وشره الطعام، وشره الوقاع، وحب المال، وحب الجاه.(1/12)
ومن المنجيات عشرة: الندم على الذنوب، والصبر على الابتلاء، والرضا بالقضاء والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرياء، والزهد في الدنيا، والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، حب الله تعالى، والخشوع. فهذه عشرون خصلة: عشرة مذمومة، وعشرة محمودة، فمتى من المذمومات واحدة خط عليها في جريدته، وترك الفكر فيها، وشكر الله تعالى على كفايته إياها. وليعلم أن ذلك لم يتم إلا بتوفيق الله تعالى وعونه، ثم يقبل على التسعة الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع، وكذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالصفات المنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها، كالتوبة والندم مثلاً، خط عليها واشتغل بالباقي، وهذا يحتاج إليه المزيد المشمر.
فأما أكثر الناس المعدودين في الصالحين، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهات، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة، والمراء، والثناء على النفس، والإفراط في موالاة الأولياء، ومعاداة الأعداء، والمداهنة في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن أكثر من يعد نفسه من وجوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، وما لم تطهر الجوارح من الآثام، لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتطهيره.
وكل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من هذه الأمور، فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكرهم فيها. مثال العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمور من إظهار نفسه بالعلم، وطلب الشهرة، وانتصار الصيت، إما بالتدريس، أو بالوعظ. ومن فعل ذلك، فقد تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون. وربما ينتهي العلم بأهل العلم إلى أن يتغايروا كما يتغاير النساء، وكل ذلك من رسوخ الصفات المهلكات في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها، وهو مغرور فيها.(1/13)
ومن أحس من نفسه هذه الصفات، فالواجب عليه الانفراد والعزلة، وطلب الخمول والمدافعة للفتاوى، فقد كان الصحابة يتدافعون الفتاوى، وكل منهم يود لو أن أخاه كفاه. وعند هذا ينبغي أن يتقي شيطان الإنس، فإنهم قد يقولون: هذا سبب لاندراس العلم، فليقل لهم: فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه، نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا وأن يوفقنا لما يرضاه عنا.
فصل
قد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». فالتفكر في ذاته سبحانه ممنوع منه، وذلك أن العقول تتحير في ذلك، فإنه أعظم من أن تمثله العقول التفكر، أو تتوهمه القلوب بالتصوير. { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
فأما التفكر في مخلوقات الله تعالى، فقد ورد القرآن بالحث على ذلك كقوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]، وقوله: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [يونس: 101].
ومن آيات الله تعالى الإنسان المخلوق من نطفة، فيتفكر الإنسان في نفسه، فإن في خلقه من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى، ما تنقضي الأعمال في الوقوف على عشر عشره وهو غاف عن ذلك. وقد أمره الله تعالى بالتدبر في نفسه، فقال: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21]، وقد تقدم في كتاب الشكر الكلام على بعض خلق الإنسان فليطلب هناك.(1/14)
ومن آياته الجواهر المودعة في الجبال، والمعادن من الذهب والفضة والفيروزج ونحوها، كذلك النفط والكبريت والقار وغيرها. ومن آياته البحار العظيمة العميقة المكتنفة لأقطار الأرض، التي هي قطع من البحر الأعظم، المحيط بجميع الأرض. ولو جمع المسكوف من ألأرض، من البراري، والجبال، لكان بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وفي البحر عجائب أضعاف ما نشاهده في البر.
وانظر كيف خلق اللؤلؤ، ودوره في صدفه تحت الماء، وانظر كيف أنبت المرجان في صم الصخور تحت الماء، وكذلك ما عداه من العبر وأصناف ما يقذفه البحر وانظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء، وسيرها في البحار تسوقها الرياح. وأعجب من ذلك الماء فإنه حيلاة كل ما على الأرض من حيوان ونبات، فلو احتاج العبد إلى شربة ماء، ومنه منها لبذل جميع خزائن الدنيا في تحصيلها لو ملك ذلك، ثم إذا شربها ومنع خروجها، لبذل جميع خزائن الأرض في إخراجها، فلا يغفل العبد عن هذه النعمة.
ومن آياته الهواء وهو جسم لطيف لا يرى بالعين، ثم انظروا إلى شدته وقوته، وانظر إلى عجائب الجو، وما يظهر فيه من الغيوم، والرعد والبرق والمطر والثلج والشهب والصواعق، وغير ذلك من العجائب. وانظر إلى الطير تسبح بأجنحتها بالهواء كما يسبح حيوان البحر في الماء، ثم انظر إلى السماء وعظمها وكواكبها وشمسها وقمرها، وما فيها كوكب إلا لله تعالى فيه حكمة في لونه وشكله وموضعه، وانظر إلى إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وانظر مسير الشمس، كيف اختلف في الصيف والشتاء والربيع والخريف.(1/15)
وقد قيل: إن الشمس مثل الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، وإن أصغر كوكب في السماء مثل الأرض ثمان مرات، فإذا كان هذا قدر كوكب واحد، فانظر إلى كثرة الكواكب، وإلى السماء التي فيها الكواكب، وإلى إحاطة عينك بذلك مع صغرها والعجب منك أنك تدخل بيت غني مزخرف مموه بالذهب، فلا ينقطع تعجبك منه ولا تزال تذكره، وأنت تنظر إلى هذا البيت العظيم، ولا تتفكر في بناء خالقك، فلقد نسيت نفسك وربك، واشتغلت ببطنك وفرجك، فتلقى مثلك في غفلتك إلا كمثل نملة تخرج من بيتها الذي حفرته في حائط قصر الملك، فتلقى أختها فتتحدث معها في حديث بيتها، وكيف بنته وما جمعت فيه، ولا تذكر قصر الملك ولا من فيه، فهكذا أنت في غفلتك، فما تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك.
فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكرين، والأعمار تقصر، والعلوم تقل عن الإحاطة بعض المخلوقات، إلا أنك كلما استكثرت من معرفة عجائب المصنوعات، كانت معرفتك بجلال الصانع أتم.
فتفكر فيما أشرنا إليه ههنا مع ما قدمناه من الإشارة في كتاب الشكر.
فمن نظر في هذه الأشياء من حيث إنها فعل الله وصنعه، استفاد المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته، ومن قصر النظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض، لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب، شقي.
نعوذ بالله من مزلة أقدام الجهال، ومن الركون إلى أسباب الضلال، ولا وجه للتفكر فيما لا نراه من الملائكة والجن، فلذلك عدلنا عنه إلى ما نراه والله أعلم.
* * *
الفهرس
المقدمة ... 5
المشارطة ... 6
المراقبة ... 6
المحاسبة بعد العمل ... 6
معاقبة النفس على تقصيرها ... 6
المجاهدة ... 6
معاتبة النفس وتوبيخها ... 6
التفكر ... 6
بيان مجاري الفكر وثمارته ... 6
فصل ... 6
الفهرس ... 6
* * *(1/16)