العلم يدعو للإيمان
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة آل عمران)
(إنَّ في خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولىِ الألْبَاب. الذيِنَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهمْ وَيَتفَكروُنَ فيِ خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ. رَبَّنا مَا خَلَقْت هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار). المترجم
وقال تعالى: (سورة فاطر):
(إنَّما يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَماء)
المترجم
المشتركون في هذا الكتاب
المؤلف
1. كريسى موريسون – هو الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيس المعهد الامريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، وزميل في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي، وعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني.
2. المترجم:
محمود صالح الفلكي – حصل على بكالوريوس في الإقتصاد بمرتبة الشرف من جامعة كمبردج بانجلترا سنة 1924، وعلى درجة أستاذ من نفس الجامعة 1929.
شغل عدة وظائف اقتصادية هامة بوزارة المالية والإقتصاد ثم وكيلا لنفس الوزارة سنة 1951. كما مثل الحكومة المصرية عدة مؤتمرات اقتصادية دولية. ومن سنة 1954 إلى آخر 1955 عين سفيراً لجمهورية مصر في باريس ثم عين عضوا بمجالس ادارة عدة بنوك وشركات من سنة 1955 حتى 1961. عين مندوبا مفوضا لبنك الاستيراد والتصدير المصري في مكان مجلس الادارة سنة 1961.
في سنة 1955 انعم عليه السيد رئيس الجمهورية بوسام الاستحقاق من الطبقة الثانية. له عدة مؤلفات وبحوث اقتصادية منها: (بحوث في الشئون المالية والإقتصادية الدولية والقومية)، و (التخطيط الاقتصادي)، و (التنمية الإقتصادية وقواعدها الاساسية في الدول الناشئة).
مصححة الغلاف:
الانسة اعتدال منيب.(1/1)
هذا الكتاب
وضع العلامة الامريكي ا. كريسى موريسون هذا الكتاب للقارئ العادي، سواء أكان شابا ام شيخاً، رجلا ام امرأة، وبينما يعالج مسائل علمية جديدة، تراه يطلعك على غرائب في الكون ما كانت تخطر لك ببال.
وهو كتاب علمي قبل كل شيء، إذ يعالج مسائل تختص بالفلك والجيولوجيا والطبيعة والكيمياء والطب وعلم الاحياء ونحوها. ولكنه بسط هذه المسائل العلمية لدرجة تقربها إلى ذهن كل قارئ. ومن عجب ان يستوعبا كلها في هذا الحيز الصغير، وان يعرضها بشكل جذاب.
ان ما كشفه المؤلف في هذا الكتاب من حقائق جدير بان يثير خيال الانسان. غير ان النتائج التي انتهى اليها هي ثمرة (تكييف) الإنسان كي يلائم الطبيعة بشكل ظاهر، كما هي ثمرة تكييف الطبيعة لتلائم الإنسان بشكل خفي ادعى إلى الدهشة !
ولا ريب ان هذا الكتاب سيكون موضع التقدير من جميع المفكرين الذين يروقهم ان يجمعوا التأمل والتفكير إلى
وقد برهن المؤلف بالبراهين القاطعة على ان عجائب علاقات الإنسان بالطبيعة، ووجود الحياة نفسها، تتوقف كلها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى وجود قصد من خلق الكون، ويتمثل هذا القصد في اعداد روح الإنسان للخلود.
وهذه الغاية التي توخاها المؤلف هي غاية جليلة بلا ريب، ولا تعارض بينها وبين الأديان على اختلافها، بل انها على العكس تؤيدها، إذ تثبت الايمان بالله الذي هو اساس كل دين. ومن ثم يروق هذا الكتاب للعالم العصري، والعالم الديني، والواعظ، ويرضى المتدين كما يقنع الذي في نفسه شك.
ولا ريب ان الموضوع الذي عالجه هذا الكتاب هو موضوع اليوم، فقد انتشرت فكرة الالحاد في كثير من البلدان، وزعم الملحدون انهم ينكرون الايمان على أساس من العلم. ولكن هاهو ذا عالم كبير يؤيد الإيمان ببراهين من أحد ث العلوم.(1/2)
هذا والعلامة ا. كريسى موريسون هو الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيس المعهد الامريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، وزميل في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي، وعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني.
وقد قرظت هذا الكتاب صحف ومجلات امريكية عدة، ومن ذلك ما نشرته مجلة (هارتفورد كورانت) ضمن مقال طويل، إذ قالت:
(ان المؤلف الذي هو رئيس سابق لأكاديمية العلوم في نيويورك، قد اشتق الوقائع من مختلف العلوم، وجمعها معا في هذا الكتاب الذي يفتح الاذهان ويضيئها بشكل يدعو إلى العجب. مثله في ذلك مثل صانع الساعة الدقيقة الجميلة، إذ يبحث عن عجلة صغيرة، أو ترس هنا، وعن جوهرة هناك، ويضم اداة دقيقة إلى مسمار الحياة، حتى يتم صنع تلك تلك الساعة.
(وقد استعان المؤلف بامثلة من علم الفلك والجيولوجيا وعلم الحشرات وعلم النبات وعلم الاحياء وعلم الطبيعة وعلم النفس والفلسفة. وقد جمع هذه المادة بعناية بالغة. وعرضها بدقة وبراعة.
(واشتق من هذه العلوم المختلفة المتشابكة، حقائق عجيبة مرتبطا بعضها ببعض في انسجام كامل على نحو يؤدي بالضرورة إلى ايمان كل إنسان مفكر سليم الفكر بوجود الله.
ان بعض المؤمنين يؤمنون على أساس الشعور، والبعض الآخر على أساس تعاليم يحفظونها دون تفكير، ولا يصلح هذا الأساس ولا ذاك وإنما يصلح الايمان القائم على العقل لبقي الإنسان في هذا العصر الذري المدهش).(1/3)
كلمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
قد يبدو غريبا ان رجلا درس العلوم الإقتصادية والمالية وشغل منصب وكيل وزارة المالية والاقتصاد، ومركز نائب المحافظ لصندوق النقد الدولي بواشنطن، ومنصب سفير مصر في باريس، يعمد إلى ترجمة كهذا الكتاب، يتكلم في الفلك والجيولوجيا والطبيعة والكيمياء والطب وعلم الوراثة، ومثل ذلك من العلوم التي لا تمت إلى عمل المترجم، ولا إلى دراسته، بسبب من الاسباب.
ولكن الواقع اني حين قرأت هذا الكتاب ابان اقامتي في امريكا، ضمن ما قرأته من كتب في موضوعات شتى – اعجبتني الغاية السامية التي توخاها المؤلف الكبير من تأليفه، إلا وهي اثبات وجود الله ووحدانيته، بادلة من العلم المادي الحديث!
وكان العهد بدعاة الإلحاد ان يحتجوا لدعوتهم بادلة يحسبونها علمية، حتى لقد ظن البعض ان العلم والايمان نقيضان لا يجتمعان، بل الف أحد العلماء الغربيين – وهو جوليان هكسلي – كتابا في ذلك سماه (الإنسان يقوم وحده) Man Stands Alone زعم فيه أن العلم ينكر وجود الله.
ولكن ها هو ذا عالم من أكبر العلماء الامريكيي، وقد شغل حينا مركز رئيس المجمع العلمي في أمريكا، قد تصدى له ورد عليه و بين له وللناس جميعا، ان العلم الحديث يثبت وجود الله وينتهي إلى الايمان به وبوحدانية، بما لا يحتمل الشك أو الجدل.
وقد سمى كتابه (الإنسان لا يقوم وحده Man Does Not Stand Alone اثبت فيه بمختلف العلوم ان الله بارئ الكون وهو خالق كل شيء.
لذلك وحده عنيت بترجمة هذا الكتاب لعله ينتشر بني قراء العربية كما انتشر في أمريكا حيث كان له أثر كبير في صد موجة الالحاد وتثبيت قوة اليقين.
وقد وجدت كثيرا من آيات القرآن الكريم تؤيد ما ذهب اليه المؤلف فوضعتها في مواضعها من فصول الكتاب.
والله الهادي إلى اقوم سبيل
محمود صالح الفلكي(1/4)
تصدير بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ احمد حسن الباقوري
مدير جامعة الازهر
البحث عن الله والتعرف إلى الخالق امر شغلت به الإنسانية منذ كان لها وجود في هذا العالم حتى لكأنما يدفعها اليه شعور خفي دافق، ويسوقها نحوه سائق عنيف من فطرة كامنة فيها.
فالإنسان بفطرته طلعة لا يقنع من الحياة بمظاهر اشكالها وألوانها كما تنقلها اليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ اليها ببصرته ليعرف حقيقة كل شيء.. من اين جاء وكيف صار والام ينتهي. وهو في اشباع رغبته تلك لا يدخر وسعاً من ذكاء أو جهد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن اليه عقله وتستريح به نفسه.
وكذلك كان شان الإنسان في بحثه عن الله، الحقيقة الكبرى التي هي مصدر وجود هذا العالم واليها مصائر اموره.. فلقد أكثر من التطلع اليها والبحث عنها حتى تفرقت به السبل واختلفت فيها مذاهبه، إذ لا شك ان هذه النظرات المتطلعة إلى تلك الحقيقة الكبرى قد اخذت ولا تزال تاخذ صورا واشكالا متعددة متباينة، تختلف باختلاف الناس واستعدادهم الفكري وما يحيط بهم من ظروف الحياة واحوالها، فلكل وجهته التي هو موليها، ولكل مبلغه من العلم وحظه من التوفيق: فبينا يصل اليها بعضهم عن طريق النظر في ملكوت السموات والأرض على اختلاف في مجال هذا النظر عمقا وامتداداً، إذ يصل اليها بعضهم الاخرين عن طريق العاطفة المجردة عن الادراك، الواقعة تحت تاثير الوراثة أو السماع والتي لا تكاد تلامس الفكر أو تثيره. وبين هؤلاء وهؤلاء طوائف وطوائف تقطع الطريق إلى تلك الحقيقة في مراحل متعددة تخلط بين العاطفة والفكر بنسب واقدار متباينة.
ومن هنا نستطيع ان نقول ان لك إنسان تصورا خاصا لإلهه الذي يعبده والذي ينزل من نفسه المنزلة التي هداء اليها عقله أو قلبه، أحد هما أو كلاهما، وبالقدر الذي تكشف له من الحقيقة، وعلى الصورة التي تمثلت في خاطره. ولذا تعددت الآلهة وتفرقت بالناس مذاهب الرأي فيها، فكان لكل امة ربها، ولكل جماعة دينها (وَلَوْ شَاءَ رَبَّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفيِنَ إلا مَنْ رَحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(1/5)
ولا نريد هنا ان نبحث في تاريخ الأديان بعيدها وقربها، ولا أ، نستقصي تعدد المعبودات والبواعث التي دعت اليها، والصور والاشكال التي ظهرت فيها، ولا ان نتحدث عن فكرة التوحيد أو التعدد فذلك ما لا سبيل اليه في هذا المقام، وإنما نريد ان نقول ان صورة الإله أو الآلهة التي عبدها الناس منذ كانوا إنما كانت وليدة اقتناع وايمان ايا كان حظهما من العمق، ومدهما من الصدق.
فعايد النار أو الحجر أو الحيوان أو الشمس أو القمر إنما عبد معبوداته تلك بعد ان ملكت عليه زمام نفسه، واخذت بمجامع قلبه، وتمثلت له قوة خارقة لا حد لها، اليها مصائر اموره، وعليها مدار ضره ونفعه، فآمن بها واستسلم لها ووجه اليها وجهه وقلبه وعقله.
وسواء أكان هذا الإيمان منبعثا من أعماق النفس ام ملتقى اليها من طريق الايحاء والإغراء، فهو على اية حال ايمان ملك النفس وخالط المشاعر، وبغير هذا لا يكون إيمانا ولا يسمى ديناً، وانه إذا لم يبلغ هذا الحد فستظل نفس الإنسان فارغة خواء، وسيظل الإنسان قلقا مضطربا حتى يقع على الاله الذي يسكن اليه قلبه ويطمئن به وجدانه.
وحين تصل العقول سبيلها إلى الخالق- وما أكثر ما تضل - وتنزل الانسانية إلى هذا الدرك من التفكير والسخف من النظر فتتخذ من الأحجار أربابا، ومن الحيوان آلهة تجثو تحت اقدامها تعبدها وتفني فيها، وتقدم لها النفس والولد على مذبح التضحية زلفى وقربانا، حين تصل الانسانية إلى هذا المدى من الإغراق في الضلال والسفه تجيء رسالة من السماء في ابانها لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على يد رسل الله وانبيائه الكرام.
وأول دعوة تهتف بها الأديان السماوية في آذان الناس الدعوة إلى وحدانية الله وتحرير العقول والقلوب من الشرك به ورفع البصر اليه خالصا من أوهام الزيغ والضلال، وبهذا تصح انسانية الانسان، ويرد اليه اعتباره، ويصبح اهلا ليكون خليفة الله في ارضه.(1/6)
ومهما اختلفت طرق الأديان السماوية في أداء الدعوة إلى الله، وفي وسائل الاقناع بوحدانيته، فإنها جميعها تعتمد أول ما تعتمد على إثارة العاطفة وتحريك الوجدان أكثر من اعتمادها على اثارة قوى الإدراك والتفكير، ذلك ان حقيقة الإله الموحد أكبر من أن يحدها الفكر أو يحيط بها الإدراك – وإن كان لهما في آياتها الرائعة مسارح للنظر والتأمل، وفي آفاقها الرحيبة مجالات للبحث والتفكير يفيض بها الوجدان روعة وجلالا، ويمتلئ بها القلب طمأنينة وإيمانا،.
انظر إلى النغم الموسيقي الرائع كم يثير في الاسماع من بهجة ورضا، وكم يحرك في النفس من عواطف وأحاسيس.. انك لو ذهبت تطلبه بفكرك في طبقات الاثير ترد كل ذبذبة فيه إلى ضوابط من الفن وقواعد من العلم لاعيتك مذاهبه لانتهى بك المطاف إلى غير طائل.. ثم انظر إلى البحر في سعته وامتداده.. كم تأخذ صفحته الرقراقة المتموجة من نفسك وكم تبلغ عظمته وروعته من قلبك حين تملأ عينيك منه وتردد النظر فيه، ثم انظر كيف بك إذا ألقيت بنفسك في عبابه ورميت بها في ثبجة.. من أنت؟ وما تكون؟
فكيف بهذا الخالق العظيم نرمي بعقولنا القاصرة وأفكارنا المحدودة في عوالم لا نهاية لها نريدها على ان تحيط به وتخضع حقيقته لما تخضع له حقائق الأشياء في عالمنا المحدود؟
لماذا لا نقف من هذا الخالق العظيم موقفنا من النغم الموسيقي نلتذ سماعه، أو البحر نتملى جماله؟ ولم نعدل عن هذا إلى مسابقة النغم في مسراه أو مطاولة البحر في عظمته؟ ذلك هو الضلال البعيد.(1/7)
ان العقل مهما بلغ من القوة والذكاء ليس إلا حاسة من حواس التي تربطنا بعالمنا المحدود، فكما يكون للعين مدى تنتهي عنده مقدرتها على الابصار فلا تدرك ما وراء هذا المدى من مرئيات إلا اشباحا باهنة وصوراً شائهة لا تعني من الحق شيئا..وكذلك الشأن في كل حاسة من حواسنا لكل مجال تعمل فيه، وتؤدي وظيفتها كاملة في حدوده، فاذا اريد بها الخرود عن هذا المجال ضلت واضلت. وكذلك شأن العقل وهو حاسة الادراك له مجاله المحدود الذي يعمل فيه ويدرك حقائق الأشياء في محيطه، فان ان اتى إلا ان يركب متن الشطط ويستوي على ظهر الغرور، انزلق إلى ظلمات الضلال وتقطعت به إلى الحقيقة الأسباب.
ولسنا نريد بهذا ان نمسك العقل عن التفكير والبحث في التعرف إلى الله، فهو الطريق الطبيعي اليه، وإنما نريد ان يهج العقل بهجا قاصدا في البحث عن الله فلا يندفع وراء الخيالات والفروض، ولا يشط في التطلع إلى ما فوق طاقته، وليتعرف بقصوره عن ادراك الحقيقة وعجزه عن تناولها، وليرجع إلى القلب يطلب عنده الاطمئنان والسكينة.
ودعوة الاسلام صريحة في ان العقل لا يمكن ان يستقل بمعرفة الله، ولا ان يهتدي اليه إلا إذا صحبه في تطوافه إلى تلك الغاية قلب يتلقى عنه كل مدركاته فيجعلها عواطف وأحاسيس تشيع في النفس روعة وجلالا. ومن خلال هذا الشعور بالروعة والجلال يرى المرء خالقة الواحد الاحد المتفرد بالعظمة والجلال.
ولهذا كان الإسلام دين الفطرة.. والفطرة ليست عقلا صرفا ولا عاطفة محضا، وإنما هي مزيج من العقل والعاطفة إذا التقيا فلم يطغ أحد هما على الآخر كانت الفطرة سليمة تنشد الله وتعرف سبيلها اليه من أقرب السبل.(1/8)
وتلك الفطرة مركوزة في النفس البشرية تتحرى إلى اداء وظيفتها منذ تتفتح مشاعر المرء وتستيقظ مداركه، وعلى هذا الوجه من الفهم للفطرة أحب ان أفهم قوله تعالى: (وَإِذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنيِ آدَمَ مِن ظُهُورهِمْ ذُرّيتَهُمْ، وَأشْهَدَهُم عَلَى أنْفُسِهِم ألستُ بربِكُمْ قالوُا بَلى شَهدنَا.. أنْ تَقولُوا يَومَ القيامَةِ إنّا كنّا عَن هذَا غَافليِن). وكيف يغفل المرء عن الله وفيه هذه الغريزة المتطلعة إلى الله المتشوقة إلى الوصول اليه.
والتعرف إلى الله عن طريق هذه الفطرة امر سهل ميسور لا يحتاج إلى علم غزير أو نظر فلسفي، وإنما تكفي فيه النظرة الخالصة في صفحات هذا الوجود، نظرة في الأرض أو السماء..في الليل أو في النهار.. في عالم الحياة أو الموت.. في النبتة الصغيرة أو الشجرة الباسقة.. نظرة واحد إلى أية صورة من صور هذا العالم وإلى أي لون من ألوانه ترىان العقل وشواهد ناطقة بقدرة الخالق العظيم، وتحمل إلى القلب شواهد ناطقة بقدرة الخالق العظيم، وتحمل إلى القلب فيضا من الإجلال والإكبار لهذا الصانع المبدع (الّذي خلَقَ سبْعَ سَموَاتٍ طِباقاً ما تَرى في خَلقِ الرّحمنِ منْ تَفاوتٍ فَارجعِ البَصرَ هلْ ترى مِنْ فُطورٍ، ثمّ ارجعِ البصَرَ كرّتينِ ينَقلبْ اليكَ البصرُ خاسِئاً وهوَ حَسيرُ).
فاذا يبلغ البصر من هذا المحيط العظيم الذي لا تضمه قيود ولا حدود؟ اولى له ثم أولى ان يقف عند حده وأن يرضى من النظرة الأولى بما يتكشف له من عجائب وأسرار.
تلك هي طريقة الإسلام في معرض الهداية إلى الله والدعوة اليه.. انه يوقظ العقل اولا.. يوقظه في رفق ويسر حين يلفته إلى مظاهر الكون المحيط به، والواقعة تحت سمعه وبصره. يريده ان يلتفت اليها لفتة حالمة شاعرة، لا أن يغوص في أعماقها يطلب عللها وأسبابها ويلتمس عناصرها وأجزءها.(1/9)
استمع إلى قوله تعالى: (قُل انظروا مَاذا فيِ السّموات الأرض) ثم استجب إلى هذه الدعوة.. فماذا ترى في نظرة طرية إلى هذا الملكوت الرحيب تنتعش بها النفس ويهتز لها لوجدان حين تطالع صفحة هذا الوجود في اجمال بعيد عن التفصيل والتعليل، ثم انظر إلى قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرّكَ برَبّكَ الكريمِ الّذي خلَقَك فَسواكَ في أي صورةٍ ما شاءَ ركبك). فأي إنسان تدق عن فهمه هذه الحقيقة الماثلة أمام عينيه.. حقيقة الإنسان على صورة تلك وما ركب فيها من أعضاء؟
(لا يُكلّفُ اللهُ نفساً إلا وسْعَها) وأضيق درجات السعة في النفس الانسانية على ان يستشف في معارض هذا الكون الدلائل الناطقة على قدرة الله ووحدانيته ولا على المرء بعد ذلك ان يفوته منها ما يقع عليه الفلاسفة والعلماء من حقائق واسرار، فان كل هذا إلى جانب الحقيقة الكبرى هباء وهراء (وما أوتيتُمْ منَ العِلمِ إلا قليلاً)، وحتى في مقام الجدل في الله بين الجاحدين والمؤمنين.. لا يسلك الداعي إلى الله مسالك المنطق الجاف الذي يقوم على التصورات الذهنية التي تفتح للخصم ابواب الدعاء والمغالطة، بل يعدل عن هذا الأسلوب الفطري فيتناول المسائل من أبرز جوانبها وأوضحها حيث لا يختلف فيها نظر ولا يضل عنها فهم.
ألمْ تَر إلى الذّي حاج إبراهيمَ في رَبّه أنْ آتاهُ الله المُلكَ إذ قالَ إبراهيمُ ربيَ الذي يُحي وَ يُميت. قالَ: أنا أُحيي وَ أميتُ! قالَ إبراهيمُ فإنّ الله يأتي بالشمسِ منَ المشرقِ فأتِ بها منَ المغربِ. فَبهتَ الذي كفر والله لا يَهدي القَوم الظالمينَ)
ولو ذهب ابراهيم في الرد على هذا الكافر المعاند مذاهب الفلاسفة والمناطقة لكان له في الرد عليه مسالك غير التي سلك.. إنسان يدعى انه يحي ويميت.. وتلك دعوى عريضة لو تحداه إبراهيم بتحقيقها لاعجزه وكشف أمره..(1/10)
ولكن من يدري لعل هذا الطاغية المتكبر تاخذه العزة بالإثم فيمضى في دعواه ويركب رأسه دفاعا عن كبريائه فيمثل الشهود صورا من قدرته على الإماتة والاحياء، وربما عمد إلى إنسان من رعيته ويقول: هذا قد احييته لأني اردت له الحياة! ثم يعمد إلى آخر فيضرب عنقه ويقول: هذا قد امته لأني قد أردت له الموت! ثم يرفع رأسه مزهوا منتصراً.…
وما لإبراهيم يكلف نفسه دحض هذا الافتراء، وعقد المقارنة بين صور الاحياء والإماتة من جانب الله، وبين هذه الصورة الممسوخة من صور الإماتة والإحياء.. ما له يدخل في هذا الجدل الطويل واماه مثل آخر لقدرة الخالق لا يستطيع ان يقول فيه هذا الجاحد، يقول: (إنَّ الله إنّ بالشمسِ منَ المشرقِ فأتِ بها منَ المغربِ. فَبهتَ الذي كفر).
بهذه الصورة الفطرية الساذجة انقطعت حجة وبطل كيد (بلْ نقذفُ بالحقَّ على الباطلِ فيدْمَغهُ فإذا هو زاهقٌ).
ان الذين ضلوا السبيل إلى الله أحد رجلين: رجل حرم نعمة العقل ولم يؤت حظا من الفهم والإدراك فهو والسائمة سواء، لا يلفته جمال ولا يوقظ مشاعره مشرق صبح أو سدفة مساء (أولئك كالأنْعامِ بلْ هُم أضلُ سبيلاً).
ورجل خدعة ذكاؤه وغره وخيل اليه انه قادر على أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال فمدّ بصره إلى ما وراء الأفق البعيد وضرب في بيداء التيه والضلال فكان اشبه بالفراش.. غرق في النور فاحترق بالنار.
وبعد، فهذا المؤلف ثمرة عقل كبير ناضج.. عقل وسع ثقافة العصر واحاط بالكثير من دقائقها، حتى صار صاحية رئيساً للمجمع العلمي بأمريكا.. وذلك منصب يرقى اليه إلا العباقرة الأفذاذ من العلماء.(1/11)
وغاية المؤلف من هذا البحث الوصول إلى الله عن طريق العقل وما يتكشف له بالعلم والمعرفة من اسرار الكون وعجائبه.. فكلما تكشفت له حقيقة من الحقائق هتف من أعماقة: سبحان الخالق المبدع.. اعترافاً من بأن الإنسان وما سخر له العلم والمعرفة من وسائل القوة والاقتدار اضعف من أن يبلغ من أسرار هذا العالم شيئاً مذكوراً.
(يا أيها النّاسُ ضرب مثلٌ فاستمعوا لهُ إنّ الذّينَ تدعونَ من دونِ الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا لهُ، وإن يسلُبْهُم الذباب شيئاً لا يستنفذوهُ منهُ – ضعفَ الطالبُ والمطلوبُ)
لم يكن المؤلف عالما وحسب ولكنه كان أيضاً شاعراً، كلما تناول عقله حقيقة من الحقائق اشرق قلبه بها، فسرت في كيانه هزه الإكبار والاجلال لخالق الكون ومبدعه، وتلك هي دموة الفطرة السليمة إلى الله وطريقها اليه.. ومن هنا كان هذا البحث جديراً بأن ينظر فيه المسلم بعين الاعتبار، وان يجعل من مباحثه دروساً نافعة يرى من خلالها قدرة الله وعظمته، فيقوى يقينه ويزداد ايمانه.
واذا حمدنا للمؤلف جهده الموفق في تصوير هذه الحقائق وعرضها، فانا نحمد السيد الأستاذ محمود الفلكي غيرته الدينية وحرصه على نقل هذا المؤلف إلى اللغة العربية لينتفع به المسلمون، كما نحمد له هذا الجهد الذي بذله في ترجمته واخراجه.
احمد حسن الباقوري(1/12)
مقدمة بقلم: الدكتور احمد زكي
مدير جامعة القاهرة سابقاً
في الاشتغال بمطالب العيش، والاغتمار في غمرة الحياة، ينسى الناس ان يفكروا، فيتساءلون: ما الغاية من هذا الوجود؟ وما اشتغال بعيش، وما إغتمار حياة، وقد ينتبه الناس من غفلة، أو يستيقظون من نومة، إذا اصابهم مرض، أو اصابهم عجز، أو نابتهم نائبة. وشر النوائب عندهم الموت، ينزل بقريب، أو ينزل بحبيب، ففي هذه الفترات السوداء، البارقة في سوادها يتوقف الناس يستخبرون: من اين جئنا، والى أين المصير؟
ولكنها فترات لا تطول، فحوافز العيش تعود فتحفز ويشتد حفزها، والحياة تعود تهتف بحاجاتها ويشتد هتافها، والإنسان منا يلبي جبرا لا اختياراً، ويتركز على يومه، وينسى أمسه الذي كان، وينسى يومه الذي سوف يكون، إلا من حيث ما يطعم، ويلبس، ويلد، ومن حيث ينعم أو يشقى بالحياة.
ولكن مع كل هذا، فمن تحت صخب النهار، ومن بين الاصوات الصارخة في معركة العيش، يحس الإنسان منا صوتا خافتا يحاول دائما ان يصل إلى الآذان. وهو يصل اليها عندما يتعب القائم فيحتاج إلى القعود، وعندما يجهد الجاهد فيتصبب عرقا فيأوى إلى ركن هادئ يخفف عن وجهه عرقه الصبيب. أو هو يصل اليه في هدأة ما الليل، وهو قاعد في العراء، يرعى أشياء هذه الأرض، ويرعى على الأكثر أشياء هذه السماء.
وهو إذ يرعى السماء، يرعى أشياءها، يرعى نجومها، يزداد هذا الصوت الخافت في آذانه ثم يزداد، حتى يصير صراخا: هذه السماء ما هي؟ وهذه النجوم ما اعدادها، وما أبعادها؟ وما فتات من النور المبعثر في هذه القبة البلقاء بعثرة الرمال في الصحراء؟ وكيف تحور هذه القبة وكيف تدور؟ وما شروق لها وما غروب؟ وما نسق وأنساق تجري عليها، ومواعيد تضر بها فلا تخلف أبدا؟
ويأخذ ينعم النظر رافعا بصره، وهو إذ يملأ بالذي يراه عينا، يملا في فكرا، ويملأ به قلبا. وعندئذ يرى تلك الصور وفي تجري في أزمة يجمعها آخر الامر زمام واحد، ويرد تلك المعاني، وهي مختلفة كاختلاف الوان الطيف من أحمر وأصفر وأزرق، ثم تجتمع كما يجتمع الطيف فيكون منه لون أبيض واحد، ويرد كل هذه المعاني، ويرد كل هذه الصور، وكل هذه المباني، إلى يد صناع واحدة، تحركها ارادة عاقلة منسقة هادية واحدة.
فتلك يد الله.
وتلك ارادة الله.
على هذا جرى الاقدمون واهتدوا إلى كشف حقيقة الله.(1/13)
وما اعسره كشفا كان، عند قوم، لانه كشف خالق تستر وراء مخلوقاته، وما أيسره كشفا كان، عند أقوام، لانها مخلوقات عجيبة رائعة، ما أسرع ما رقت فنفذ اليها لفكر الانساني العاقل، فشفت عما وراءها. وكان الفكر أحد أعاجيبها.
ثم جرى الزمن فجاء العلم. اشرق على الناس العلم الحديث منذ ثلاثة قرون. وهو بعد ما بلغ الضحى.
وكشف العلم من عجيب ما صنع الصانع. كشفه في النبات، وهو صنوف لا عداد لها. وكشفه في الحيوان، وهو أجناس لا حصر لها. وكشفه في الإنسان، أسمى حيوان. وكشف عن أنساق واحدة في كل هذه الصنوف والأجناس جميعا. وكشف عن قوى في كلها تعمل واحدة، على اختلاف في درجات، ولكن على اتحاد في غاية. وهدى المنطق، وهدت الفطرة، إلى أن صاحب هذه الانساق لابد واحد، ومجرى هذه القوى لتعمل على هذه الاساليب الواحدة لا بد واحد.
ونسق العلم ما بين الأرض الجامدة وما عليها من احياء. ونسق ما بين الارض، جامدها والحي، وبين هذه الشمس وذاك القمر، وأثبت ان المعدن واحد والاصل واحد، واثبت ان الذي صمم عين الانسان، بعدستها ومائها، وماوراء الماء من شبكة تلقى عليها الصور، هو لابد الذي صمم هذه الشمس واخرج منها تلك الاشعة ووجهتها إلى الارض. فهذه العين تكون عبثا لو لا هذا الضياء.
وجاء العلم، وجاء العلماء بالف ألف دليل على وحدة الأرض، وما عليها، ووحدة السماء. ومن هذه الوحدة درج الناس والعلماء إلى وحدة رب هذه الأرض ورب السماء.
ومع هذا بقيت في العلماء بقية تقول بالخلق والتخلق طبعا، وتنكر وجود الله.
ومن هذه البقية العالم الانجليزي، جوليان هكسلي JULIAN HUXLEY فكتب في ذلك كتابا اسماه، (الإنسان يقوم وحده MAN SIAND ALONE وهو في ذلك يسير على درب سار عليه جده من قديم. فجده توماس هكسلي THOMAS HUXLEY (1825 - 1895)، صاحب دارون، وناصره في القرن الماضي.(1/14)
وظهر هذا الكتاب لهذا العالم فانبري له عالم آخر، فيكتب كتابه هذا، الذي بين يدينا، وأسماه (ان الإنسان لا يقوم وحده MAN DOES NET STAND ALONE ) ) أراد بذلك ان يقول انه يقوم في هذه الدنيا ومعه الله.
والكتاب يعدد، في ايجاز جميل، هذه الانساق التي تجمع بين الخلائق جميعاً، وبين الحي والحي، وبين الحي والجامد، وعبر حدود الارض، واتجه إلى السماء، يربط ما بينها وبين الحياة على هذه الارض. وهو يدلل من صفات هذا الشيء وهذا الشيء، على ان صانعها لابد واحد، فهما كالمفتاح وقفله اتساقاً، لا يمكن ان يكون ابتدعهما ودبرهما إلا عقل مبتدع مدبر واحد.
فالكتاب عون على الايمان، الذي عماده الفكر والفطنة، كبير.
ووقع على الكتاب صديقي، الأستاذ الجليل، محمود صالح الفلكي في ناحية من نواحي الارض، وهو في غربة موحشة يهرع فيها الغريب إلا الأنس بالله، فوجد في هذا الكتاب، فيما وجد، أنسه، وزاد من انسه به ايمان في قلبه مكين. وزاد من فهمه لحقائق العلم مزاج علمي جرى في دمه قديم، ورثه عن جده العالم المصري الفلكي العظيم.
وصديق الفلكي، إلى جانب انه ذو ايمان، ذو قلم وذو بيان. واجتمع الاثنان فخرج منهما هذا الكتاب هدى للناس ورحمة.
احمد زكي(1/15)
مقدمة المؤلف
بلغ العصر الذهبي للفلسفة الطبيعية ذروته فيما بين سنتي 1820 – 1850. وكانت تلك الفلسفة تبرهن على وجود خطة مرسومة في الخلق. بابداء عجائب الطبيعة وكان الفيلسوف الطبيعي يسترعى الانتباه إلى براءة تكوين العين البشرية بما تحويه من تنظيمات تلسكوبية ومكروسكوبية، وكان يذكر ما في مفاصل الإنسان من ليونة وتنظيم يدعوان إلى العجب. وكان يدهش لخفايا التكاثر، واحكام الوسائط التي يواصل الإنسان وكل كائن حي بها. وكان يبين العمليات الكيموية الفريدة التي تقوم بها الكائنات الحية، مثل هضم الطعام وتمثله، بعين فلسفته التقية، فيراها براهين قاطعة على وجود خطة وتدبير في الطبيعة، ومن ثم على وجود الخالق المدبر.
وقد ضرب بإلى PALEY مثلا من تاثره من وجود ساعة يد في طريقه، وقال ان جهازها الدقيق أقل سبباً للعجب بمراحل، من دلائل عديدة على دقة التصميم في الطبيعة، ودعاه ذلك إلى أن استرعى الأنظار إلى ان مثل هذه الاداة تثبت لأكثر الناس شكا، ان هناك عملية ذهنية طبقت على الميكانيكا، ثم قال اننا لو فرضنا ان هذه الساعة قد منحت القدرة على إيجاد ساعات اخرى، فان ذلك لا يكون معجزة تفوق معجزة توالد الإنسان والحيوان!
وبلغ من مدى هذا التعليل والاقتناع به ان افرد مبلغ 000ر48 دولار للجمعية الملكية البريطانية لتقوم ببحوث في مختلف ميادين العلم، لتثبت بها بشكل قاطع، وجود الله. وكانت النتيجة نحو اثني عشر مجلدا كتبها اعضاء تلك الجمعية وآخرون غيرهم. وقد بينت هذه الدراسات،بشكل حازم في الظاهر، وجود تصميم في الخلق، ودلت فلاسفة ذلك العهد على وجود الكائن الأعلى.(1/16)
ولما ظهر داروين، طرقت فكر الإنسان نظرية جديدة، هي (بقاء الاصلح) وتطور الانسان. وكانت دراسة داروين الشاملة، والحقائق الكثيرة التي استشهد بها لتاييد نظريته تحمل الاقناع في طياتها. وكانت البراهين التي كدسها والحقائق التي جاء بها خلفاؤه، مؤيدة لنظرية التطور حتى اليوم، وقد وصلت بها إلى أبعد من تطبيقاته.
والان انقضى أكثر من ثمانين عاما على نظرية داروين، وتقدم العلم تقدما كبيرا، وبينما تقف نظرية داروين كالصخرة الثابتة التي لا تتزحزح، قد تكشف العالم الفلسفة كثير من الحقائق التي يمكن ايضاحها، والتي تصل بنا إلى نتائج حاسمة أخرى في حيز الامكان.
فعلم الوراثة الحديث يقيم اسئلة تصعب الاجابة عنها، والاكتشافات الأخرى تجعل من عمل داروين مجرد خطوة عظيمة في سير الفكرة الفلسفية إلى الامام. ودون انقاص من دقة استنتاجاته أو عظمة دراساته، لا يقدر الآن أحد ان يقول كما قال هيكل HAECKEL انه لو اعطى ماء، ومواد كيموية، ووقتا كافيا، لاستطاع ان يخلق انساناً.
وقد وصل بعض اتباع داروين باستدلالاته إلى حد الالحاد المادي، وحيال ذلك، تطرف الاخرون، اولئك الذين الهموا الايمان بوجود (الخالق) وان هناك غاية في جميع المخلوقات، فانكروا نظرية التطور. كفاحهم للالحاد. والان لا محل لاتخاذ مثل هذا الموقف الضعيف، سواء لانصار فكرة التطور، أو لذوي العقلية الدينية، لان العلم قد اوضح الآن حقائق تصل إلى ازالة تلك الخلافات الظاهرية، وتنور الفريقين.
ومن عجب ان الاكتشافات الحديثة، وفرص البحث المتسع، قد بعثت النتائج التي وصل اليها الفلاسفة الطبيعيون والتي قد كانت قد حجبتها تماما نظريات داروين، والحجج السليمة التي بنيت تنظيم الإنسان للطبيعة، يجب ان تتابع الآن ببحث جديد في دلائل تنظيم الطبيعة للانسان، وهو ما أغفل نسبيا من خلال الثمانين السنة الماضية.(1/17)
وغرضي من تاليف هذا الكتاب هو ان استرعى انتباه المفكرين إلى الحقائق التي صار ممكنا اثباتها، والتي ترى ال تاييد الاعتقاد بذلك التنظيم، وتدل على الغاية منها.
ان وجود الخالق – تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة. وان وجود الإنسان على ظهر الارض، والمطاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون. وانى لاورد قول اوسبورن OSBORN في هذا المجال: (بين جميع الأشياء التي لا يمكن ادراكها في الكون، يقف الإنسان في الطليعة. وبين الأشياء التي لا يمكن ادراكها في الانسان، تتركز الصعوبة الكبرى فيما له من مخ، وذكاء، وذاكرة وآمال، وقوة كشف وبحث، وقدرة على تذليل العقبات).
وانى لاعتقد ان من يقرأ هذا الموجز من الحقائق العلمية سوف ينتهي إلى ان الهوة السحقية التي بين الذهن البشري المدهش وبين جميع الكائنات الحية الاخرى، هي اقل تمنعا على الادراك مما فرض اوسبورن OSBORN حين كتب ما كتبه.
ان الإنسان ليسكب مزيدا لا حد له من التقدم الحسابي في كل وحدة للعلم، غير ان تحطيم (1) ذرة التون – التي كانت تعد اصغر قالب في بناء الكون – إلى مجموعة نجوم مكونة من جرم مذنب والكترونات طائرة، قد فتح مجالاً لتبديل فكرتنا عن الكون والحقيقة، تبديلا جوهريا.
ولم يعد التناسق الميت للذرات الجامدة يربط تصورنا بما هو مادي. وان المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتدع مجالا لوجود مدبر جبار، وراء ظواهر الطبيعة.
وهذا ضوء باقي على الخفاء الوسيع الذي يحيط الآن بما هو غير معروف لنا ظاهريا، وقد يقودنا هذا الضوء إلى الاعتراف بوجود عقل عام أسمى، أي إلى وجود الخالق.
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة السبأ): (وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة، قل بل وربي لتاتينكم، عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
(المترجم)(1/18)
الفصل الاول:عالمنا الفذ
خذ عشرة بنسات، كلا منها على حدة، وضع عليها ارقامها مسلسلة من 1 إلى 10 ثم ضعها في جيبك وهزها هزا شديدا. ثم حاول ان تسحبها من جيبك حسب ترتيبها، من 1 إلى 10.
ان فرصة سحب البنس رقم 1 هي بنسبة 1 إلى 10. وفرصة سحب رقم 1 ورقم 2 متتابعين، هي بنسبة 1 إلى 100، وفرصة سحب البنسات التي عليها ارقام 1و 2 و3 متتالية، هي بنسبة 1 إلى 1000. وفرصة سحب 1و 2و 3و 4 متوالية هي بنسبة 1 إلى 000ر10، هكذا، حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الاول، من 1 إلى 10، هي بنسبة 1 إلى 10 بلايين.
والغرض من هذا المثل البسيط، هو ان نبين لك كيف نتكاثر الاعداد بشكل هائل ضد المصادفة، ولا بد للحياة فوق ارضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال حسابيا ان تتوافر كلها بالروابط الواجبة، بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت. لذلك لابد ان يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد. وإذا كان هذا صحيحا فلابد ان يكون هناك هدف. والغرض من هذا الكتاب هو ان نبين بعض هذه التنظيمات العجيبة، وان نعرض الهدف الذي وراء وجود الانسان. والان لنبحث الحقائق المدهشة:
ان بعض علماء الفلك يقولون لنا ان مصادفة مرور نجمين متقاربين لدرجة تكفى لاحداث مد خفاق هدام، هي في نطاق الملايين، وان مصادفة التصادم هي نادرة لدرجة وراء الحسيان. ومع ذلك، تقول إحدى نظريات الفلك، انه في وقت ما، ولنقل منذ بليوني سنة مضت، قد مر نجم بالفعل قريبا من شمسنا لدرجة كانت كافية لأن تحدث امدادا (جمع مد) مروعة، ولان تقذف في الفضاء تلك الكواكب السيارة التي تبدو لنا هائلة، ولكنها ضئيلة الأهمية من الوجهة الفلكية. ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت، تلك الحزمة من الكون التي نسمها بالكرة الارضية. انها جسم لا أهمية له في نظر الفلك، ومع ذلك يمكن القول بانها أهم جسم نعرفه حتى الان.(1/19)
ويجب ان نفرض ان الكرة الأرضية مكونة من بعض العناصر التي توجد في الشمس، لا في أي كوكب آخر. وهذه العناصر مقسمة على الكرة الارضية بنسب مئوية معينة قد امكن التحقق منها لدرجة مقبولة فيما يتعلق بالسطح. وقد حولت جملة الكرة الارضية إلى أقسام دائمة، وحدود حجمها وسرعتها في مدارها حول الشمس هي ثابتة للغاية. ودورانها على محورها قد حدد بالضبط، لدرجة ان اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن ان يقلب التقديرات الفلكية. ويصحب الكرة الأرضية كوكب نسمية بالقمر، وحركاته محددة، وسياق تغيراته يتكرر كل 18 سنة. ولو ان حجم الكرة الأرضية كان أكبر مما هو، أو أصغر، أو لو ان سرعتها كانت مختلفة عما هي عليه، لكانت ابعد أو أقرب من الشمس مما هي، ولكانت هذه الحالة ذات اثر هائل في الحياة من كل نوع، بما فيها حياة الانسان.
وكان هذا الاثر يبلغ من القوة، بحيث ان الكرة الأرضية لو كانت اختلفت من هذه الناحية أو تلك، إلى أية درجة ملحوظة، لما أمكن وجود الحياة فوقها. ومن بين كل الكواكب السارة، نجد ان الكرة الأرضية فيما نعلم الآن، هي الكواكب الوحيد الذي كانت صلته بالشمس سببا في جعل نوع حياتنا ممكناً.
اما عطارد فانه – بناء على القوانين الفلكية – لا يدير إلا وجهة واحدة منه نحو الشمس، ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس ( سنة عطارد). وبناء على ذلك لابد ان جانبا من عطارد هو أتون صحراوي، والجانب الاخر متجمد. وكثافة وجاذبيته هما من القلة بحيث ان كل آثار للهواء فيه لا بد ان تكون قد تسلك. واذا كان قد بقي فيه أي هواء فلابد ان يكون في شكل رياح هو جاء تجتاح هذا الكوكب من جانب إلى آخر.
أما كوكب الزهرة فهو لغز من الألغاز به بخار سميك يحل على محل الهواء، وقد ثبت انه لا يمكن ان يعيش فيه أي كائن حي.(1/20)
وأما المريخ فهو الاستثناء الوحيد، وقد تقوم فيه حياة كحياتنا، سواء في بدايتها أو تكون على شفا الانتهاء. ولكن الحياة في المريخ لابد ان تعتمد على غازات أخرى غير الأوكسجين، وعلى الخصوص الهيدروجين. إذ يبدو ان هذين قد أفلتا منه. ولا يمكن ان توجد مياه في المريخ. ومعدل درجة الحرارة فيه أقل كثيرا من ان تسمح بنمو النبات كما نعرفه.
والقمر أيضاً لا يمكن ان يحتوي هواء، وهو الآن غير مسكون اطلاقاً. وهو في أثناء ليلة يكون بارداً للغاية، وفي اثناء نهاره الطويل يكون رمادا شديد الحرارة.
اما الكواكب السيارة الأخرى فانها بعيدة عن الشمس إلى حد لا يسمح بوجود الحياة فوقها، وهي لصعاب أخرى لا يمكن تذليلها، لا تستطيع ان تحتمل الحياة في أي شكل من الأشكال.
والمتفق عليه الآن عموما، أن الحياة لم توجد قط، ولا يمكن ان توجد، في أي شكل معروف، على ان كوكب سيار غير الكرة الأرضية. لذلك لدينا في البداية الاولى، كوطن للمخلوقات البشرية، كوكب سيار صغير، قد اصبح بعد سلسلة تغيرات في مدى بليوني سنة أو اكثر، مكانا صالحاً لوجود الحياة الحيوانية والنباتية التي توجت بالانسان.
وتدور الكرة الارضية حول محورها مرة في كل اربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، والآن افرض انها تدور بمعدل مائة ميل فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون نهارنا وليلنا أطول مما هو الآن عشر مرات، وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار، وفي الليل قد يتجمد كل نبت في الارض.(1/21)
ان الشمس، التي هي مصدر كل حياة، تبلغ درجة حرارة مسطحها 000ر12 درجة فهرنهايت، وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لان تمدنا هذه (النار الهائلة) بالدفء الكافين لا بأكثر منه. وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب، وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة، بحيث امكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو ان درجة الحرارة على الكرة الارضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة، فان كل نبت يموت، ويموت معه الإنسان حرقا أو تجمدا.
والكرة الارضية تدور حول الشمس بمعدل ثمانية عشر ميلا في الثانية. ولو ان معدل دورانها كان مثلا، ستة اميال أو أربعين ميلا في الثانية، فان بعدنا عن الشمس او قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا.
والنجوم كما نعلم تختلف في الحجم. وأحدها يبلغ من الضخامة حدا لو كان شمسنا لكان محور الكرة الأرضية داخلا في سطحه لمسافة ملايين الاميال.
والنجوم كذلك تختلف في طراز اشعاعها. وكثير من اشعتها يميت كل نوع معروف من انواع الحياة. وتترواح كثافة هذا الاشعاع وحجمه بين ما هو اقل من اشعاع شمسنا وما هو أكثر منه عشرة الاف مرة، ولو ان شمسنا اعطت نصف اشعاعها الحإلى فقط، لكنا تجمدنا. ولو انها زادتها بمقدار النصف، لأصبحنا رماداً من زمن بعيد، هذا إذا كنا قد ولدنا بوصفنا شرارة بروتوبلازمية PROTOPLASMIC (خلية) للحياة. ومن ذلك نجد ان شمسنا هي الصالحة لحياتنا من بين ملايين الشموس غير الصالحة لهذه الحياة.(1/22)
ثم ان الكرة الأرضية مائلة بزاوية قدرها 23 درجة. ولهذا دواع دعت اليه: فلو أن الكرة الأرضية لم تكن مائلة لكان القبطان في حالى غسق دائم، ولصار بخار الماء المنبعث من المحيطات يتحرك شمالا وجنوبا، مكدسا في طريقة قارات من الجليد، وربما ترك صحراء بين خط الاستواء والثلج. وفي هذه الحالة كانت تنبعث انهار من الجليد، وتتدفق خلال اودية إلى قاع المحيط المغطى بالملح، لتكون بركا مؤقتة من الملح الأجاج (ملاحات). وكان ثقل الكتلة الهائلة من الجليد يضغط على القطبين. فيؤدي ذلك إلى فرطحة خط الاستواء أو فورانه، أو على الأقل كان يتطلب منطقة استوائية جديدة، كما ان انخفاض المحيط يعرض مساحات استوائية جديدة، كما ان انخفاض المحيط يعرض مساحات شاسعة جديدة من الأرض، ويقلل من هطول المطر في جميع ارجاء العالم، مما ينجم عن ذلك من عواقب مخيفة.
اننا قل أن ندرك ان الحياة كلها محصورة في الفضاء الذي بين قمم الجبال وبين حرارة داخلية الأرض. واذا قورنت هذه الطبقة الضيقة بقطر الكرة الارضية، كانت نسبتها اليه كنسبة نصف كثافة ورقة الشجرة، والى كتاب مكون من ألف صفحة. وتاريخ جميع المخلوقات مكتوب على هذا السطح الذي هو في سمك النسيج. ولو ان الهواء اصبح سائلا لغطى الكرة الأرضية إلى عمق خمس وثلاثين قدما، أو ما يعادل جزءاً من سمائه الف جزء من المسافة إلى مركز الكرة الارضية. وهو تنظيم بالغ الدقة!
ويبعد القمر عنا مسافة 000ر24 ميل، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر، والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن. بل ان قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظما لدرجة اننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مسافة المحيط كلها عدة ؟؟؟ وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية.(1/23)
والمريخ له قمر، قمر صغير، لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا، بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا، فان المد كان يبلغ من القوة بحيث ان جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها، وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة.
وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم.
وإذا فرضنا ان القارات قد اكتسحت، فان معدل عمق الماء فوق الكرة الارضية كلها يكون نحو ميل ونصف ميل، وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في اعماق المحيط السحيقة – على وجه الاحتمال – وهناك كانت تستنفد نفسها حتى تخمد. ويبدو ان العلم يؤيد النظرية القائلة بان هذه الحالة قد وجدت فعلا في خلال الفوضى العامة قبل ان تتماسك الأرض. وطبقا لقوانين معترف بها، صارت الأمداد (جمع مد) نفسها تدفع القمر بعيداً بعيداً، وفي الوقت نفسه جعلت دوران الأرض يبطئ، فبعد ان كان يتم في يوم مقداره يقل عن ست ساعات، صار يكمل في يوم مكون من أربع وعشرين ساعة. وهكذا اصبح القمر اللطيف مسرة العاشق وفي احسن تقويم، وهو ما يرجى منه الدوام والأمان لمدة بليون سنة قادمة أو نحو ذلك. ويعتقد الفلكيون انفسهم كذلك انه في المستقبل البعيد سوف يعود القمر إلى الكرة الأرضية بنفس تلك القوانين الفلكية، ثم ينفجر حين يقترب منها. للدرجة الكافية فيضفي بهاء على العالم الفاني بحلقات كتلك التي نحيط بزحل.(1/24)
لقد جاء نظامنا الشمسي من خليط مضطرب للعناصر التي انفصلت عن الشمس عند درجة حرارة قدرها 000ر412 (؟) وتبعثرت في فضاء غير محدود، بعنف لا يتصوره العقل. وقد حل النظام محل الفوضى بدقة تجعلنا نستطيع ان نقدر بـ (الثانية) المكان الذي سيحتله أي جزء. وبلغ التوازن من الكمال إلى حد انه لم يعتوره أي تغيير في مدى بليون سنة، وأنه يدل على الدوام إلى الأبد. كل ذلك بحكم قانون. وبهذا القانون نفسه يتكرر هذا النظام الذي نراه في النظام الشمسي، في نواح اخرى.
-------------
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة النازعات)
(أأنتمْ أشدُ خلقاً أمِ السماءَ بناهَا. رفعَ سمْكَها فسوّاها. وأغطشَ ليلَها وأخرجَ ضُحاها. والأرض بعدَ ذلكَ دحاهَا. أخرج منهاَ ماءَها ومرْعاهَا. والجِبْال أرْساها. متاعاً لكُمْ وَلأنْعامِكم).
(المترجم)
قال الله تعالى: (سورة يس)
(وآيةٌ لهمُ الأرض الْمَيتةُ أحييناها وأخرَجْنا منهاَ حبّا فمنهُ يأكلون. وَجَعلناَ فيها جنّات من نَخيل وأعنابٍ وَ فجرّنا فيها منَ الْعُيونِ. ليأكُلُوا منْ ثمرهِ وما عَملتْهُ أيديهمْ أفلا يشكرونَ. سُبحانَ الذي خلقَ الأزواجَ كلّها مما تُنبتُ الأرض ومن أنْفُسهم ومما لا يعْلَمون. وآيةَ لهمُ الليلُ نسْلَخُ منهُ النّهار فإذا همْ مظلِمونَ، والشّمسُ تجري لمُستقرٍ لها ذلكَ تقديرُ العزيزِ الْعليم. والْقمرَ قدّرناهُ منازِلَ حتّى عادَ كالعُرجون القديمِ. لا الشّمسُ ينْبغي لها أن تُدركَ القَمرَ ولا اللّيلُ سابقُ النّهارِ وكلٌ في فلكِ يَسْبحون).
(المترجم)(1/25)
الفصل الثاني:الهواء والمحيط
اذا فرضنا ان النتائج العلمية الحاضرة قد تكون خاطئة، وبذا قد تخضع لتغيير ما في المستقبل، فان الحقائق التي سنقدمها مقربة ببساطة لغرض الايضاح، هي مع ذلك متسقة مع المعارف الحاضرة، وليس من المحتمل ان أي تعديل علمي لها سيمس التنظيمات الأساسية التي سنشرحها فيما يلي:
اذا كان صحيحا ان درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوإلى 000ر12 درجة، أو كانت تلك درجة حرارة سطح الشمس، فعندئذ كانت كل العناصر حرة، ولذا لم يكن في الامكان وجود أي تركيب كيموي ذي شأن. ولما اخذت الكرة الأرضية، أو الأجزاء المكونة لها، في ان تبرد تدريجيا، حدثت تركيبات وتكونت خلية العالم كما نعرفه. وما كان للأوكسجين والهيدروجين ان يتحدا إلا بعد ان هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فهرنهايت. وعند هذه النقطة اندفعت معا تلك العناصر وكونت الماء، الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الارضية، ولابد انه كان هائلا في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء، وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت، كانت غازات في الهواء. وبعد ان تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض، ولكنه لم يستطيع الوصول اليها، إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة الآف الأميال في خارجها، وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانياً في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء، فان الفيضانات التي كانت تحدث مع تقديم التبريد، كانت فوق الحسبان. وتمشى الجيشان مع التفتت، وسادت حال من الفوضى لا يمكن وصفها، ملايين من السنين. وفي هذا الاضطراب الذي لا يمكن ادراكه، كان الأوكسجين يتحد مع جميع مواد قشرة الأرض تقريباً. وقد اتحد أيضاً مع كل الهيدروجين الذي اتصل به، وبذا تكون المحيط. ولا بد ان مقادير هائلة من الهيدروجين قد فرت من جاذبية الأرض قبل ان تبرد هذه، ولولا ذلك لكانت كتلة الماء قد بلغت الآن من الضخامة بحيث كانت تغرق الأرض إلى عمق أميال. وربما هدأت الأشياء واستقرت منذ بليون سنة، وبذا كونت الأرض الصلبة والمحيطات، والجو – اي ذلك الراسب الذي نسميه بالهواء. وكان اتحاد العناصر كاملا لدرجة ان ما ترك، وهو الهواء المكون من الأوكسجين والنتروجين على الأخص، لايزيد على جزء من(1/26)
مليون من كتلة الكرة الارضية. فلماذا لم يمتص كله، أو لماذا لم يكن بنسبة أكبر كثيرا من تلك النسبة؟ في كلتا الحالتين كان الانسان لا يمكن ان يوجد على ظهر الارض، واذا كان الوجود ممكنا تحت ضغط الاف الأرطال على البوصة المربعة الواحدة، فقد كان من المحال ان يتطور كإنسان.
ودون تاكيد لهذه المسألة بعد ذلك، نرى انه مما يدعو إلى الدهشة على الأقل ان يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل بالغا هذه الدقة الفائقة. لأنه، لو كانت قشرة الأرض اسمك مما هي بمقدار بضع اقدام، لا متص ثاني اوكسيد الكربون والأوكسجين، ولما امكن وجود حياة النبات. وهناك احتمال بان قشرة الأرض والمحيطات السبعة قد امتصت كل الاوكسيجين، وان ظهور جميع الحيوانات التي تستنشق الأوكسجين قد تاخر انتظارا لنمو النباتات التي تلفظ الاوكسيجين، وان الحساب الدقيق قد يجعل هذا المصدر للأوكسيجين في حيز الامكان، ولكن مهما كان مصدره فان كميته هي بالضبط مطابقة لاحتياجاتنا.
ولو كان الهواء ارفع كثيراً مما هو، فان بعض الشهب التي تحترق الآن كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي، كانت تضرب في جميع اجزاء الكرة الارضية. وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية، وكان في امكانها ان تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية، لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. اما الإنسان فان اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة، كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره.
ان الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الاشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج اليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون ان تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور، ومعظمها سام، فان الهواء باق دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الانسان.
وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء، اي المحيط الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل والنباتات، وأخيراً الإنسان نفسه. فدع الذي يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته، ويقر بواجباته شاكراً!
-------------------
قال الله تعالى في كتابه الكريم، (سورة الأنبياء):
(أوَ لمْ يرَ الَّذينَ كفروُا أنّ السّموات والأرض كانَتَا رَتقاً ففَتَقْناهُما وجَعلنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيٍ أفلا يُؤمِنونَ)
(المترجم)(1/27)
الفصل الثالث:الغازات التي نتنسمها
لنتخذ منن الأوكسجين مثلا على التنظيم المحكم إلى غير حد: ان الهواء الذي فوق الأرض مكون من الأوكسجين والنتروجين والأرجون والنيون والكنسيون والكريبتون: وهو يحتوي بخار الماء، وكذا ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 3-100 من 1%، أو نحو ثلاثة اجزاء من 000ر10. والغازات النادرة تظهر نفسها في شكل الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء بلافتات الاعلان، اما الأرجون الذي يوجد في الهواء بنسبة 6-10 في 1% فانه يعطينا النور الساطع الباهر الذي تتقدم به المدينة حيث يستخدم. ويوجد النتروجين بنسبة 78% تقريبا في الهواء، في حين تحدد نسبة الأوكسجين عادة بـ 21% والهواء في جملته يضغط على الأرض بمعدل خمسة عشر رطلا تقريبا على البوصة المربعة من السطح بمستوى البحر. والأوكسجين الذي يوجد في الهواء هو جزء من هذا الضغط، وهو بمعدل نحو ثلاثة ارطال على البوصة المربعة. وكل الباقي من الأوكسجين محبوس في شكل مركبات في قشرة الأرض، وهو يكون 8-10 من جميع المياه في العالم. والأوكسجين هو نسمة الحياة لكل الحيوانات التي فوق الارض، وهو لا يمكن الحصول عليه لهذا الغرض إلا من الهواء.(1/28)
ولنا الآن أن نسأل: كيف ان هذا العنصر ذا النشاط البالغ من الوجهة الكيموية، قد افلت من الاتحاد مع غيره وترك في الجو بنفس النسبة تقريبا، اللازمة لجميع الكائنات الحية؟ أو كان الأوكسجين بنسبة 50% مثلا أو أكثر من الهواء بدلا من 21%، فان جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر.
ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10% أو أقل، فان الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور، ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي الفها الإنسان – كالنار مثلا – تتوافر له. واذا امتص الأوكسجين الطليق، ذلك الجزء الواحد من عدة ملايين من مادة الأرض فان كل حياة حيوانية تق على الفور.(1/29)
ان العلاقة العجيبة التي بين الأوكسجين وثاني اوكسيد الكربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النباتات كله قد استرعت انظار كل العالم المفكر، غير أن أهمية ثاني اوكسيد الكربون لم تدرك بعد من الجميع. ويمكن ان نقول كلمة عابرة بان ثاني أوكسيد الكربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا. وهو غاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق بالأرض، ولا يتم فصله إلى أوكسيجين وكربون إلا بصعوبة كبيرة. وأنت إذا أشعلت نارا، فان الخشب الذي يتكون غالبا من الأوكسجين والكربون والهيدروجين يتحلل تحت تأثير الحرارة، ويتحد الكربون مع الأوكسجين بشدة، وينتج من ذلك ثاني اوكسيد الكربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كربون غير متحد مع غيره. وحين يتنفس رجل، يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم، ويوزع في خلال جسمه. وهذا الأوكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبياً، ولكن النتيجة هي ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء، ولذا فانه إذا وصف إنسان بأنه يتنهد كالاتون، ففي ذلك شيء من الحقيقة.. وثاني أوكسيد الكربون يتسلل إلى رئتيه، ويكون غير قابل لتنسمه التالية وهو يلفظ ثاني أوكسيد الكربون في الجو. وكل كائن حيواني حي يمتص هكذا الأوكسيجين، ويلفظ ثاني اوكسيد الكربون، ثم ان الأوكسجين ضروري للحياة لتأثيره في عناصر أخرى في الدم وفي اجزاء أخرى من الجسم، وبدونه تتوقف عمليات الحياة.(1/30)
ومن جهة أخرى تعتمد حياة كل نبات، كما هو معروف، على المقادير التي تكاد تكون متناهية الصغر، من ثاني اوكسيد الكربون الموجودة في الهواء، والتي يمكن القول بانها يتنسمها ولكي نوضح هذا التفاعل الكيموي المركب المختص بالترتيب الضوئي …PHOTOSYNTHETIC، بابسط طريقة ممكنة، نقول ان اوراق الشجر هي رئات، وان لها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني اوكسيد الكربون العنيد إلى كربون واوكسيجين. وبتعبير آخر:يلفظ الأوكسجين ويحتفظ بالكربون متحداً مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره. وبكيميا سحرية، تصنع الطبيعة من هذه العناصر سكرا أو سيلولوزا ومواد كيموية أخرى عديدة وفواكه وأزهاراً. ويغذي النبات نفسه، وينتج فائضا يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه، يلفظ النبات الأوكسجين الذي نتنسمه، والذي والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق، فدعنا اذن نقدم احترامنا في تواضع، إلى النبات.
وهكذا نجد ان جميع النباتات، والغابات والأعشاب، وكل قطعة من الطحلب، وكل ما يتعلق بحياة الزرع، تبني تكوينها من الكربون والماء على الاخص. والحيوانات تلفظ ثاني اوكسيد الكربون، بينما تلفظ النباتات الأوكسيجين، ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة، فان الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأوكسجين أو كل ثاني اوكسيد الكربون، تقريباً، ومتى انقلب التوازن تماماً ذوي النبات أو مات الانسان، فيلحق به الاخر وشيكا.
وقد اكتشف أخيراً ان وجود ثاني اوكسيد الكربون بمقادير صغيرة، هو أيضاً ضروري لمعظم حياة الحيوان، كما اكتشف ان النباتات تستخدم بعض الاوكسيجين.
ويجب ان يضاف الهيدروجين ايضا، وان كنا لا نتنسمه، فبدون الهيدروجين كان الماء لا يوجد. ونسبة الماء من المادة الحيوانية أو النباتية هي كبيرة لدرجة تدعو إلى الدهشة، ولا غنى عنه مطلقاً.(1/31)
ان الأوكسجين والهيدروجين وثاني اوكسيد الكربون والكربون – سواء اكانت منعزلة ام على علاقاتها المختلفة – بعضها مع بعض – هي العناصر البيولوجية الرئيسية.
وهي عين الاساس الذي تقوم عليه الحياة. غير انه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين، تقضي بان تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد، بتلك النسب الصحيحة اللازم للحياة! وليس لدى العلم ايضاح لهذه الحقائق.
اما القول بان ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدى العلوم الرياضية!
--------------------
قال الله تعالى في كتابه الكريم، (سورة النحل):
(هوَ الّذي أنزلَ مِن السّماءِ ماء لكمْ منهُ شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تسيمونَ. يُنبتُ لكم به الزرعَ والزيتونَ والنّخيلَ والأعنابَ ومنْ كل الثّمراتِ، إنّ في ذلك لآية لقومٍ يتفَكرونَ. وسخّر لكمُ اللّيل والنّهار والشمسَ والقمرَ والنّجومُ مسخّراتٌ بأمرهِ إن في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يعقلونَ. وما ذرأ لكم في الأرض مُختلفاً ألوانهُ إن في ذلك لآية لقومٍ يذّكرون. وهوَ الذّي سخّر البحرَ لتأكلوا منهُ لحماً طرياً وتستخرِجوا منهُ حليةً تلبِسونها وترى الفُلكَ مواخر فيه، ولِتبتغوا من فضلِه ولعلّكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسيَ أن تميدَ بكمْ وأنهاراً وسبُلاً لعلّكم تهتدونَ. وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يَهتدونَ. أفمن يخلقُ كمنْ لا يخلقُ أفلا تذكرونَ. وإن تعدوا نعمةَ الله لا تُحصوها إن الله لغفورٌ رحيمٌ).
(المترجم)(1/32)
الفصل الرابع:النتروجين: تنظيم مزدوج
ان كون النتروجين غازاً جامداً – أو جامداً جزئيا كان يمكن القول – هو امر ذو اهمية بالغة. وهو يعمل كمخفف للأوكسيجين، ويخفضه إلى النسبة التي تلائم الإنسان والحيوان. وكما ذكرنا في حالة الاوكسيجين، لا يتوافر لنا من النتروجين ما يزيد على …حاجتنا أو ما ينقص عنها. قد يمكن القول بان الإنسان قد راض نفسه على نسبة الواحد والعشرين في المائة من الأوكسجين الموجودة في الهواء، وهذا صحيح، ولكن كون هذه الكمية الملائمة له بالضبط من وجوه جوهرية اخرى، هو امر يسترعى الانتباه حقاً ولهذا فان مما يدعو إلى العجب، ان النسبة المحددة للاوكسيجين ترجع إلى عاملين: (اولا) انه لم يمتص بالتمام، وبذا يصبح جزءا من قشرة الأرض أو من المحيط.
و (ثانيا) ان الكمية التي تركت حرة هي بالضبط الكمية التي تخففها جملة مقادير النتروجين على الوجه الأكمل، ولو أن النتروجين توافر بمقادير أكثر أو اقل مما هو عليه، لما أمكن تطور الإنسان كعهدنا به.
وأمامنا هنا تنظيم مزدوج يلفت النظر: فان النتروجين، بوصفه غازا جامداً، هو عديم النفع في الظاهر، وهذا يصح من الوجهة الكيموية على الحالة التي يوجد عليها في الهواء وهو بالطبع يكون 78 في المائة من كل نسيم يهب – وهو جزء من الهواء الوافي، وبدونه كانت تحدث عدة امور خطرة. ولكن النتروجين من كلتا الوجهتين، ليس الآن حيويا للإنسان والنبات مثل الأوكسيجين.
بيد أن هناك سلسلة من المواد الكيموية التي يجد النتروجين جزءا منها، والتي يمكن ان يقال عنها بصفة عامة انها نتروجين مركب – أي النتروجين الذي يمكن ان تتلقاه النباتات، أو النتروجين الذي يتكون منه العنصر النتروجيني في أغذيتنا التي بدونها يموت الإنسان جوعا.
وليس هناك سوى طريقتين يدخل بهما النتروجين القابل للذوبان في الأرض كمخصب لها (سماد). وبدون النتروجين، في شكل ما، لا يمكن ان ينمو أي نبات من النباتات الغذائية.(1/33)
واحدى الوسيلتين اللتين يدخل بهما النتروجين في التربة الزراعية هي عن طريق نشاط جراثيم (بكتريا) معينة، تسكن في جذور النباتات البقلية، مثل البرسيم والحمص والبسلة والفول وكثير غيرهما. وهذه الجراثيم تاخذ نتروجين الهواء وتحيله إلى نتروجين مركب. وحين يموت النبات يبقى بعض هذه النتروجين المركب في الأرض.
وهناك طريقة أخرى يدخل بها النتروجين إلى الأرض، وذلك عن طريق عواصف الرعد، وكلما ومض برق خلال الهواء وحد بين قدر قليل من الأوكسجين وبين النتروجين فيسقطه المطر إلى الأرض كنتروجين مركب(1).
وقد كانت هاتان الطريقتان كلتاهما غير كافيتين، وهذا هو السبب في ان الحقول التي طال زرعها قد فقدت ما بها من نتروجين. وهذا أيضاً هو الذي يدعو الزراع إلى مناوبة المحصولات التي يزرعها.
وقد تنبأ (مالثوس) منذ زمن بعيد، بانه مع تكاثر عدد سكان الكرة الارضية، واستغلال الأرض في زرع المحصولات دون انقطاع، سوف يستنفد العناصر المخصبة ولو كان حسابه بشأن تزايد عدد السكان صحيحا، لوصلنا إلى درجة الندرة في بداية القرن الحالي. وهذا يدلنا على اهمية الفضلة الدقيقة من النتروجين المتروكة في الهواء، والبالغة الصغر بالنسبة لضخامة الكرة الارضية. فبدون النتروجين كان مال الإنسان ومعظم الحيوانات هو الموت.
ومن عجب انه حين وضح للناس ان الموت جوعا هو احتمال قد يقع في المستقبل، وذلك في خلال الاربعين السنة الاخيرة، اكتشفت طرق أمكن بها انتاج النتروجين المركب من الهواء، وقد ثبت اخيرا ان في الامكان انتاجه بهذه الطريقة بكميات هائلة. وهنا زال ذلك الخوف من حدوث مجاعة عالمية.
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة النحل) :
(والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون).
(المترجم)(1/34)
ومن الشائق ان نلاحظ ان احدى المحاولات لانتاج النتروجين المركب، كانت عبارة عن تقليد الطبيعة، في ظروف ملائمة، في انتاج عواصف كهربية مصطنعة. وقد استخدم نحو 000ر300 قوة حصائية لاحداث أنوار كهربية ساطعة في الهواء، ونتجت بالفعل فضلة من النتروجين المركب، كما ثبت قبل ذلك بزمن طويل.
اما الآن فان افتنان الإنسان قد قطع خطوات ابعد. وبعد مضي عشرة آلاف سنة من وجوده التاريخي قد ارتقت الوسائل التي يحول بها غازا جامدا إلى مخصب (سماد). وهذا يمكنه من ان ينتج عنصرا لازما في الطعام، بدونه يموت الإنسان جوعا. وما اعجبها مصادفة ان يكسب الإنسان في هذا الوقت بالضبط من تاريخ الأرض، تلك المقدرة على ابعاد شبح المجاعة العالمية.
ان النتائج الحلقية التي تنجم عن الاضطرار إلى نقص عدد سكان الأرض كي يبقى بعضهم على قيد الحياة، هي أفظع من ان يتصورها الانسان. وقد امكن تفادي هذه المأساة في نفس اللحظة التي كان يمكن توقعها فيها!(1/35)
الفصل الخامس:ما هي الحياة
الحياة باقية، وقد استمرت بعد العصور الاولى، والعصور الجيولوجية، وظهرت قارات وغرقت اخرى، وان المحيطات العتيقة، والبحار الضحلة، لتزخر كلها بالحياة، وان الحياة لتسر غورها وتتخلل الامواج المتلاطمة، وتنفذ في رمال كل شاطئ.
وقد مضيت الحياة قدما حيث تراجع كل عصر من عصور الجليد، وقاومت كل تقدم للمناطق الباردة، قوية مظفرة. وقد ارتفعت الجبال من الأرض ذات الغصون، وانشق السطح واهتز مع كل زلزال. وتفتتت قمم الجبال الشاهقة خلال ملايين السنين، وبان اثر ذلك في طبقات بعضها فوق بعض، وغمر ماء البحار قارات، وصار غرين (طمي) الأراضي القديمة يغطي قاع كل محيط وكأنه كفن ولكن استمرت الحياة بعد ذلك كله.
والحياة تستخدم ذرات الارض، وتخلق عجائب جديدة طبقا لقوانين الكون، ولكنها في تقدمها تخلف وراءها كل صغيرة لمستها، وان (صخور دوفر البيضاء)، المكونة من الطباشير والجير والحجر الصوان، لتقص علينا قصة الحيوانات الرخوة والنباتات المائية والمخلوقات البحرية التي لا عدد لها، في خلال الدهور، وان الغابات الحية، والفحم والزيت والغاز، لتدلنا على نشاط العلم القديم الذي تلقت فيه الحياة طاقة الشمس، واحالها الإنسان ناراً. وان هذه التركة لتفوق في قيمتها كل ثروة اخرى، لانها رفعت الإنسان عن مرتبة الحيوان. ومن بين أتون بدايات القشرة الارضية، حيث كانت كل مادة تستحيل جمرة أو رمادا، استخدمت الحياة طاقة الشمس، ومزقت ذرات الماء المتحدة، وفصلت الكربون البليد من الأوكسجين وحولته إلى ثاني اوكسيد الكربون، وخزنت في الأرض وفوق سطحها، الموارد الوحيدة النار. ومن النار قام المثوى وجميع أدوات المدنية، وكل ذلك لان الحياة تلقفت وحفظت كل القوى التي أطلقتها الشمس.
وقد تغلبت الحياة على الظروف المتغايرة للماء والأرض والهواء، ولا تزال ماضية في طريقها في شكل نبات وحيوان. ومن الأميبا(1)صاعدا إلى السمك والحشرات وذوات الثدي وطيور الجو، أو نازلا إلى الجرثومة والميكروب والبكتريا وكذا النباتات التي لا حصر لها، وسواء في شكل خلية أو سمكة قرش، أو عنكبوت أو ديناصور، أو انسان، أو زرع – فان الحياة تهيمن على العناصر، وترغمها على حل تركيباتها، والاتحاد من جديد على اساس صلات اخرى، والحياة تاتي بمخلوقات في صور شتى من صور السلف، وتمنح هذه الصور القدرة على تكرار انفسها على مدى اجيال لا حد لها.
__________
(1) - الأميبا: Almeeba حيوان ميكروسكوبي ذو خلية واحدة يتوالد بالانقسام الذاتي.
(المترجم)(1/36)
والحياة شديدة الخصب في توالدها، حتى انها تعول نفسها، وتطعم من فائضها، ومع ذلك تضبط جميع الكائنات الحية، لتمنع أي مخلوق من مخلوقاتها، من ان يطغى على العالم، فالجراد مثلا لو بقى دون ضابط استطاع في بضع سنين ان يلتهم كل زرع اخضر، وعندئذ تنتهي حياة كل حيوان فوق الارض.
والحياة مثالة، تشكل الكائنات الحية، وهي فنانة، تختط كل ورقة في كل شجرة، وتلون الازهار، والتفاح، والغابات، وريش عصافير الجنة. وهي موسيقية، علمت كل طير كيف يشدو بأغاني غرامه، وعلمت الحشرات كيف ينادي بعضها بعضا بموسيقى اصواتها المتعددة، وهذه الأصوات، سواء أكانت تفيق الضفدعة في الربيع، ام قرق الدجاجة بين صغارها، أم زئير الاسد في صولته، ام تبويق الفيل، تشمل كل (برج النغم) للاحاسيس، ولا يفوقها سوى صوت الإنسان في مرونته المدهشة.
والحياة قد جعلت الإنسان وحده سيداً على تموجات الصوت مجتمعة وزودته بمادة انتاجها: فالمزمار والبوق، والقيتار، وكذا شعر الخيل، والشمع، الذي يمسح به قوس الكمان، ورجع الصدى من قيثارة الأوركسترا المصنوعة من الخشب، والصوت المنخفض المزدوج الذي هو كصوت الخنزير، وطرقة الجلد على الطبل، كل أولاء مدينة بالفضل للحياة!
والحياة مهندسة، فهي التي وضعت تصميم سيقان الجندب (النطيط) والبرغوث، والعضلات والروافع، والمفاصل، والقلب الذي يخفق دون كلل، ونظام الاعصاب الكهربية لكل حيوان، والدورة الدموية الكاملة لكل كائن حي. وهي تصميم الهندباء البرية ثم تزخرف بذورها في (شرابات) يحملها كل نسيم. والحياة تشكل الازهار، وترغم الحشرات على ان تحمل اللقاح من عضو التذكير إلى عضو التأنيث.
والحياة كيموية، فهي التي تهب المذاق للفواكه والتوابل وتهب العطر للورد والحياة تركب مواد جديدة لم تجهزها الطبيعة بعد، لموازنة عملياتها والقضاء على الحياة المغيرة.(1/37)
والحياة تهب الضوء البارد (للذباب المنير) ليعاونه على بث غرامه ليلا.. وكيميا الحياة فائقة، لانها لا تقنع باستخدام اشعة الشمس لتحويل الماء وحامض الكربون إلى خشب وسكر، بل انها إذ تفعل ذلك تطلق الأوكسجين كي تتقسم الحيوانات نسيم الحياة.
والحياة مؤرخة، فقد كتبت تاريخها صفحة صفحة، تاركة سجلها في الصخور، وهو تاريخ كتبته بنفسها ولا ينتظر إلا الترجمة.
والحياة تمنح مخلوقاتها الفرح لكونها حية، فالحمل يرتع ويقفز، وهو لا يدري لماذا.
والحياة تلون عيني الطفل وتمنحها بريقا، وتصبغ خديه، وتبعث بالضحك إلى شفتيه. اما المادة فلا تبتسم ابداً.
والحياة تقي مخلوقاتها بوفرة الغذاء في البيض، وتعد كثيرا من صغارها للحياة الناشطة بعد الميلاد، أو انها تخزن الغذاء تأهبا لصغارها بوحي أمومة لا شعورية.
والحياة تنتج الحياة، إذ تعطى اللبن لسد الحاجات العاجلة، متوقعة هذه الضرورة، ومتأهبة لما يجيء من حوادث.
والحياة قد جاءت للعالم بحب الأم لولدها، وجاءت للإنسان بالمثوى والاسرة، وبحب الوطن الذي ينافح عنه حتى الموت.
والحياة تحمي نفسها: بالحيطة في استخدام الالوان لمساعدة مخلوقاتها أو اخفائهم، وباعداد الساقين الجري، ومنح الاسلحة للدفاع، من القرون والاشداق والمخالب، وكذا السمع والبصر والشم، والاجنحة للتحليق في الجو، وهكذا تزود الحياة للدفاع والهجوم: وهي تهب قناعا خفيا ليعض الحشرات التي لا يحدث منها أي أذى، لكي تقيها كل هجوم.
اما المادة فانها لم تفعل قط أكثر مما تمليه قوانينها. فالذرات إنما تطيع قواعد الالفة الكيموية وقوة الجاذبية وتاثيرات درجة الحرارة، والدوافع الكهربية.
والمادة ليست مبتكرة، اما الحياة فانها تاتي إلى الوجود بتصميمات وتكوينات جديدة، رائعة.
وبدون الحياة كان سطح الأرض يصير صحراء شاسعة مجدبة، وفضاء من ماء غير نافع.(1/38)
وبدون الحياة تكون المادة جامدة، ومتى تركتها الحياة عادت مجرد مادة، ولكن تبقى لها القدرة على مواصلة حياة مخلوقات اخرى، وبذا تخلد الحياة في الكائنات الحية.
واما ما هي الحياة، فذلك ما لم يدره إنسان بعد، فليس للحياة وزن ولا حجم(1).
والحياة ذات قوة، لان الجذر النامي يقدر ان يشق صخرة، والحياة تنشئ شجرة عظيمة وتحفظها من الجاذبية مدة ألف سنة أو تزيد. وهي ترفع اطنان الماء من الأرض كل يوم، وتنشئ ورق الشجر والفواكه. وأقدم كائن حي هو شجرة يرجع عهدها إلى خمسة آلاف سنة، وهي لا تعدو كونها لحظة في الأبدية. والحياة الفردية عابرة. والحياة هي المسئولة عن كل حركة لكل كائن حي. وكل هذه الطاقة تقريبا تاتي عن طريق الشمس.
والحياة لا تقدر ان تستمر في المادة التي تكون، في حدود ضيقة، بالغة الحرارة أو البرودة، لان هاتين تقضيان على ظروف المادة التي تتوقف عليها الحياة. فان الحياة لم تظهر على هذه الأرض إلا حين كانت الظروف موائمة لها، وستقطع نشاطها حين يحدث تغيير ملحوظ في تلك الظروف(2) غير ان الظروف الحالية قد وجدت واستمرت منذ ثلثمائة مليون سنة على الاقل.
والطبيعة لم تخلق الحياة، فان الصخور التي حرقتها النار، والبحار الحالية من الملح، لم تتوافر فيها الشروط اللازمة. وهل احتضنت الحياة هذه الأرض والكرات الارضية الأخرى في انتظار فرصة يزود فيها الكون بقوة الادراك؟ ان الجاذبية هي من خواص المادة. والكهرباء اصبحنا نعتقد انها المادة نفسها، وأشعة الشمس والنجوم يمكن انحرافها بالجاذبية، ويبدو انها وثيقة الصلة بها:
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة الإسراء). (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي)
(المترجم)
(2) - قال تعالى (سورة الانفطار): (واذا السماء انفطرت، واذا الكواكب انتثرت، واذا البحار فجرت، واذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت).
(المترجم)(1/39)
وقد اخذ الإنسان يدرس حدود الذرة، ويقيس قوتها المخزونة. غير ان الحياة نفسها خداعة، مثل الفضاء لماذا؟
والحياة منتظمة، على وتيرة واحدة، في بذل جهدها لاحياء المادة. وهي لا تعرف فرحا ولا حزنا، ولا تميز بين احد وأحد. ومع هذا فالحياة هي الاساس، وهي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها فهم المادة.
والحياة هي المصدر الوحيد للوعي والشعور، وهي وحدها التي تجعلنا ندرك صنع الله ويبهرنا جماله، وان كانت أعيننا لا تزال فوقها غشاوة.
ان الحياة ليست إلا أداة تخدم مقاصد الخالق سبحانه وعلى هذا فالحياة باقية كمشيئته تعالى!
-----------------
قال الله تعالى في كتابه الكريم (سورة فاطر):
(والله خلَقكمْ منْ ترابٍ ثمّ من نُطفةٍ ثمّ من جعلكُمْ أزواجاً، وما تحملُ من أنثى ولا تَضعُ إلا بعلْمه، وما يُسّر من معمرٍ ولا ينقصُ من عمرِهِ إلا في كتابٍ إن ذلك على الله يسيرٌ. وما يستَوي البَحر ان هذا عَذبٌ فراتٌ سائغ شرابهُ وهذا ملحٌ أجاجٌ ومن كلّ تأكلوُنَ لحماً طريّا وتَستخرِجونَ حليةً تلبِسونها وترى الفُلك فيه مواخرَ، لتبتغوا من فضلهِ ولعلّكم تَشْكرونَ).
(المترجم)(1/40)
الفصل السادس:كيف بدأت الحياة
في لغز بداية الحياة نقطة يجب ان يقف العلماء أمامها لنقص الحجج. أجل هناك قرائن كثيرة يمكن اقرارها علمياً. غير ان بداية الحياة بلغت من العجب، والنتائج المترتبة عليها بلغت من التشعب، بحيث ان أكثر العلماء البيولوجيين علما لابد ان تتملكه الدهشة. فهو بوصفه عالما، لا يستطيع ان يؤمن بالمعجزات، ولكن بوصفه انسانا ذكيا يجد – نتيجة لبحثه وبحوث غيره – ان معظم الكائنات الحية الآن تتطور من خلية ميكروسكوبية فريدة، على اثر خروجها من طور الحياة تحت الميكروسكوب واقترابها من طور السدفة الذرية ويبدو ان تلك الخلية قد وهبت القدرة على التكاثر، ومواءمة نفسها على اشكال عديدة من الحياة، وانها أعدت لكي تعيش في كل ركن وشق على ظهر الارض. والعلم يقر بان الواقع لا يمكن ان يكون إلا كذلك. ويعتقد البعض ان هذا مصادفة من المواد الكيموية والماء والوقت. ويرى البعض الاخر النظام مائلا في كل جانب فسيح من الحياة إذ تمضي قدما من منبعها إلى هدفها، سواء أكانت ستصبح حيوانا رخوا ام انسانا – دون ان تعبر الفجوة مرة اخرى.
والان لنعالج الموضوع بشعور من الاجلال، لاتحده الحدود الدقيقة التي تفرضها العقائد الدينية، أو الحقائق العلمية بشان سبب الحياة ومصدرها، ولنصور لانفسنا الوقائع المعترف بها. وبذا يمكننا ان نحكم، وأمامنا الموضوع كاملا. وبهذه الطريقة يمكننا ان نعلم ان كنت أنا أو أنت مجرد مجموعة عريضة من المادة، تولدت عن الكيمويات والماء والوقت، اولا.
انظر إلى الشيء الهام الوحيد. انه أهم من الأرض نفسها ومن الكون كله. وأهم من كل شيء آخر – ما عدا الخالق المدبر الذي كان السبب في وجود ذلك الشيء: وأعني تلك النقطة من النقطة (البروتوبلازم)(1)
__________
(1) - البروتوبلازم Protoplasmهي المادة الزلالية الحية التي تتكون منها خلية الاجسام النباتية والحيوانية، وقد رأينا أن نترجمها بكلمة (النطفة).
(المترجم)(1/41)
التي لا تكاد ترى، وهي شفافة لزجة (كالجيلاتين)، قادرة على الحركة، تستمد نشاطها من الشمس. وهي بالفعل كفء لاستخدام ضوء الشمس في عزل ثاني اوكسيد الكربون من الهواء، مرغمة الذرات على الانفصال، قابضة على الهيدروجين من الماء، ومنتجة لهيدرونات الكربون، وبذا تعد غذاءها بنفسها من أحد المركبات الكيموية العنيدة للغاية.
ان هذه الحلبة الفريدة، هذه النقطة الصغيرة الشفافة التي تشبه الطل، تحتوي في نفسها على جرثومة الحياة، وبها القدرة على توزيع هذه الحياة على كل كائن حي، كبيرا كان أو صغيرا، وعلى مطابقة كل مخلوق لبيئته حيثما يمكن وجود الحياة، من قاع المحيط إلى السماء. وقد صاغ الزمن والبيئة شكل كل كائن حي بحيث يتفق مع أنواع الظروف المتعددة. وعندما تكون هذه الكائنات الحية شخصيتها الفردية، فانها تكون قد ضحت ببعض مرونتها وقابليتها للتغير، واصبحت مخصصة وثابتة، وقد فقدت القدرة على العودة إلى الوراء ولكنها كسبت مزيدا من المواءمة مع الظروف التي وجدت فيها.
ان قوى هذه النقطة الصغيرة من النقطة (البروتوبلازم) ومحتوياتها، كانت ولا تزال اعظم من الزرع الذي تخضر به الارض، وأعظم من كل الحيوانات التي تتنسم نسيم الحياة لانها مصدر كل حياة، وبدونها كان لا يمكن وجود شيء حي.
والعلم يوافق على كل ما ذكرنا خطوة خطوة، ولكنه يتردد في ان يتخذ خطوة اخيرة، ويقول ان الانسان، خطر على هذه الأرض بوصفه طفلا لمنبع الحياة الكوني، سيدا بين الحيوانات، وذا تكوين مادي معقد التركيب للغاية، وصاحب عقل أعد عن قصد ليتلقى لمحة من القدرة الالهية التي نسميها بالروح.(1/42)
وينبغي لنا ان نبدأ بالأرض كلها على انها صحراء، وليس ثمة من مواد غير ما ترك حين بردت الأرض. وقد ارتفعت الأر من المحيطات، وحدث في الصخور تاكل لا يمكن وصفه فمزقها اربا، وكون كثيرا من الصخور الثانوية والغرين والطحل. ولم يوجد سوى المواد غير العضوية في تركيبات كالبازلت والجرانيت وتلك الصخور الأخرى النارية والمتحولة، والغرين الذي سبق رواسب الوجود الحيواني، اما الرواسب من امثل حجر الكلس والمرجان والطباشير والحجر الصوان، فانها لم تكن موجودة. وليس لدينا سوى مواد قليلة لنعالجها، فلدينا الماء، وربما كان على درجة من الحرارة شديدة الثبات.
ان لغز ظهور الحياة على الأرض قد يحل وقد لا يحل بحدوثة الذاتي. وقد افترض البعض ان الحياة قد جاءت من بعض الكواكب في شكل جرثومة انسلت دون ان يصيبها تلف، وبعد ان بقيت زمانا غير محدود في الفضاء، استقرت على الارض، ولكن كان من العسير على تلك الجرثومة ان تبقى حية في درجة حرارة الصفر المطلق في الفضاء، واذا استطاعت البقاء رغم ذلك فان الاشعاع الكثيف للموجة القصيرة كان يقتلها. فان كانت قد بقيت حبة رغم ذلك فلا بد انها وجدت لنفسها المكان الملائم، وربما كان المحيط، حيث ادى اتفاق مدهش في الظروف إلى توالدها وبداية الحياة على الارض.
وفضلا عن ذلك يعود بنا هذا الفرض خطوة أخرى فيما نحن بصدده، لاننا يمكننا ان نسال: (وكيف بدات الحياة على أي كوكب من الكواكب؟)
ان المتفق عليه عموما هو انه لا البيئة وحدها، ولا المادة مهما كانت موائمة للحياة، ولا أي اتفاق في الظروف الكيموية والطبيعية قد تخلقه المصادفة، يمكنها ان تاتي بالحياة إلى الوجود.(1/43)
وبصرف النظر عن مسالة اصل الحياة التي هي بالطبع من الالغاز العلمية، قد افترض ان هنة ضئيلة من الحياة، بلغت من الضالة انها لا ترى أو تلمح بالميكروسكوب، قد اضافت اليها ذرات، وقبلت توازنها الوثيق، فانقسمت، وكررت الاجزاء المنفصلة هذه الدورة، وبذا اتخذت اشكال الحياة.. ولكن لم يزعم أحد انها اتخذت الحياة نفسها!
ان الأميبا هي مخلوق ميكروسكوبي حي على درجة كبيرة من التطور، وهو مكون من ملايين لا حصر لها من الذرات في تنظيم مرتب. و (الأميبات) هي مخلوقات ذوات خلية واحدة، قد لا يزيد قطرها على جزء من مائة من البوصة، ونوجد في جميع مياه العالم. والاميبا تشعر بالجوع، وتبحث عن غذائها عن قصد وعمد. واية درجة من كبر الحجيم يجب ان يبلغها الحيوان حتى نعترف بان له رغبات وعزيمة؟ ولكن الحجم هو لا شيء في حسبان اللانهائية، لان الذرة لا تقل كمالا عن نظام المجموعة الشمسية. واذا اتخذنا الاميبا مثلا للايضاح – دون ان نزعم ان هذا المخلوق الحي ذا الخلية الواحدة هو المنبع الاصلي للحياة – فانه يمكن القول بان مخلوقا ما نطفيا (بروتوبلازميا) حيا، بعد ان ضاعف تكوينه الداخلي، قد انقسم وصار اثنين، ثم انقسم الاثنان وصارا اربعة، وهكذا إلى غير حد، كما تفعل الخلايا الآن في كل مخلوق حي. فكل خلية تحتوي في نفسها، في تقسيمها الباكر، القدرة على انتاج فرد كامل. والخلايا نفسها باقية إلا إذا وقع لها حادث أو صادفها تغير في الظروف لا قبل لها به. وهي تكون الخلايا البسيطة في جميع المخلوقات، من حيوانات أو نباتات في الوقت الحاضر، وبذا تكون صورا طبق الاصل من اسلافها. ونحن بوصفنا كائنات بشرية، إنما منتظمة من بلايين فوق بلايين من امثال تلك الخلايا، وكل خلية هي مواطن يؤدي نصيبه الكامل من الخدمة الخالصة في ذكاء. وهذا يختلف اختلافا بينا عن الجزئية المادية العاطلة من الحياة(1)
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة المؤمنون).
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر، فتبارك الله احسن الخالقين).
(المترجم)(1/44)
.
ولكن في الاستطاعة ان نشير إلى شيء حدث منذ زمن بعيد، عند بدء الحياة على الارض، وكان له شأن عظيم، ذلك ان خلية واحدة قد نمت عندها القدرة المدهشة على استخدام ضوء الشمس في حل مركب كيموي، واصطناع غذاء لها ولاخواتها من الخلايا. ولا بد أن لذات اخريات لخلية اصيلة أخرى قد عاشت على الغذاء الذي انتجته الخلية الاولى، وأصبحت حيوانا، في حين صارت الخلية الاولى نباتا، والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تغذى جميع الكائنات الحية الان، فهل يمكننا ان نعتقد ان كون خلية قد اصبحت حيوانا، وأخرى قد اصبحت نباتا، إنما حدث بطريق المصادفة(1)؟ ان التوازن العجيب بين الزرع وحياة الحيوان إنما استقر بهذا التقسيم. واذا عدنا إلى قصة ثاني اوكسيد الكربون، وجدنا ان هذا التقسيم هو أساسي اطلاقا بوصفه احدى ضروريات الحياة نفسها. ولو كانت الحياة كلها حيوانية، لكانت الآن قد استنفدت الأوكسيجين، ولو كانت الحياة كلها نباتية، كانت قد استهلكت كل ثاني اوكسيد الكربون. وفي كلتا الحالتين كانت تنتهي هذه الحياة وتلك.
__________
(1) - قال تعالى (سورة الرعد): (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الأمر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ينشي الليل في النهار ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
(المترجم)(1/45)
وكما ذكرنا من قبل، من المفروض انه في التاريخ الباكر جدا للكرة الارضية لم يكن بالهواء اوكسيجين مطلق، إذ كان كل الأوكسجين مخزونا في قشرة الأرض وفي الماء وثاني اوكسيد الكربون. فاذا كان الامر كذلك، فان كل الأوكسجين الذي لدينا الان، قد جاء من الزرع. وقد ثبت ذلك بشكل مقبول، لان النباتات تستعمل ثاني اوكسيد الكربون، وتطلق الأوكسيجين.ولكن إذا كان هذا كله صحيحا، فان الحيوانات، التي لا غنى لها عن الأوكسجين لكي تعيش، لا بد قد جاءت إلى الوجود بعد زمن طويل من تطور النباتات في البحر والأرض، فهل كان ظهور الحياة على دفعتين؟ سنترك ذلك للمستقبل ليقرره.
ومن عجب انه في كلتا الحياتين الحيوانية والنباتية، منذ ظهور الكائنات البروتوبلازمية الاولى، قد تطور الذكر والانثى بشكل جعل كل نوع يستمر بالاتحاد المتكرر مع الاحتفاظ بمميزاته العامة.
وليس هذا مجال البحث في تفاصيل الاضطرابات والنتائج الطبيعية والكيموية التي ادت إلى التوزيع. ويكفي ان نجعل الامر مفهوما لاولئك الذين ليس لهم معرفة خاصة بالعلوم. ويمكن ايضاح الأمر على الوجه الآتي:(1/46)
الظاهر ان مجموعات الخلايا كانت ادنى إلى البقاء حية حين كانت على صلات وثيقة معا، وبدا بدأت تتحد، ثنائية ورباعية ومئوية والفية ثم مليونية، ثم دعيت كل خلية لان تؤدي مهمة وكلت اليها. وتدريجا، مع تكليفها تلك المهام المختلفة اصبح في حيز الامكان ان يقوم المجموع بوجوه جديدة من النشاط، ففي الحيوانات، صار الحمل CILIA، (وهو عبارة عن تركيبات صغيرة تشبه ال؟؟؟ وصارت الزوائد والاقدام الكاذبة، تساعد على جمع الطعام الذي تنشط خلايا أخرى في هضمه. وبعض الاجزاء كانت مكونة من عدة حلايا. فهناك مجموعة منها صنعت غطاء وقائيا كثيفا، كقشر الشجرة، وأخرى كانت مشغولة بنقل الغذاء من مكان إلى اخر في المخلوق الحي. واخيرا نجدها مشغولة بتكوين الخشب في الجذوع، أو بتكوين العظام أو الاصداف لتدعم جرمها المجتمع النامي، وبعض الاصداف وضعت في الخارج، مثل اصداف اللزيق (سمك صدفي). وهذه الحيوانات الرخوة من النوع الذي يغلق على نفسه. وبعض العظام قد كونت بالداخل، فالإنسان يحتاج إلى سلسلة فقرية. وجميع الأشياء التي تعيش تبدأ من خلية بسيطة وهذه الخلية ترغم كل نسلها على ان يؤدي الخدمات وان يتبع دون انحراف تصميم المخلوق الذي كان على الخلية الأصلية مضاعفته، سواء أكان سلحفاة ام أرنباً.(1/47)
وقد يمكن السؤال عما إذا كان للخلايا فهم وادراك ام لا: وسواء اعتقدنا أن الطبيعة قد زودت الخلايا بالغريزة – مهما تكن هذه – أو بقوة التفكير، ام لم نعتقد ذلك، فلا مناص لنا من الاعتراف بان الخلايا ترغم على تغيير شكلها وطبيعتها كلها لكي تتمشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه. وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب ان تكيف نفسها لتكون جزءا من اللحم،او ان تضحي نفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى. وعليها ان تضع ميناء الأسنان وان تنتج السائل الشفاف في العين، أو ان تدخل في تكوين الانف أو الأذن. ثم على كل خلية ان تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتادية مهمتها. ومن العسير ان نتصور ان خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى، ولكن احدى الخلايا تصبح جزءا من الاذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءا من الأذن اليسرى. ان بعض البلورات المتشابهة كيمويا تحول اشعة الشمس نحو اليمين وبعضها الاخر نحو الشمال. ويبدو ان مثل هذا الميل موجود في الخلايا. ومتى وجدت في المكان الصحيح الذي تخصه. فانها تصبح جزءا من الاذن اليمنى أو الاذن الايسرى. وأذناك تواجه احداهما الأخرى في رأسك، وليستا في كوعيك كما هما عند الصرصور.. وتقوساتهما متضادة، وحين تكمل تكون الأذنان متماثلتين إلى حد يعصب عليك عنده ان تميز بنيهما.
ان مئات الآلاف من الخلايا تبدو كانها مدفوعة لان تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب وفي المكان الصواب، والحق انها طائعةوالحياة تدفع إلى الأمام، بانية، مصلحة متوسعة، وخالقة ما هو حديث وما هو افضل، بنشاط لا يفتر ولا مثيل له في الأشياء الجامدة. فهل هذا ناشئ عن ادراك؟ ام عن غريزة؟ ام انه أمر يحدث فحسب؟ يمكنك ان تجيب عن ذلك بنفسك.
بيد انك قد تقول الآن ان كل ما ورد بهذا الفصل لا يفسر لنا كيف بدأت الحياة، أي كيف جاءت إلى هذه الارض. والكاتب لا يعرف كيف، ولكنه يؤمن بانها جاءت كتعبير عن القوة الالهية، وبانها ليست مادية.(1/48)
الفصل السابع:اصل الانسان
هناك طرق عدة البحث في اصل الانسان. وان متابعة هذه الطرق ليحدث اضطرابا لكثيرين من ذوي الاراء الجامدة، فمن الآراء ما يقول بان الإنسان قد جاء عن طريق عملية تطور من الشرارة الأصلية للحياة. وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة التطور كلها. وهناك رأي آخر يقول بان الله في حكمته قد أودع الحياة على الارض، وخلق الإنسان كما هو أو كما كان، كاملا. وثمة راي يقول بأن العناية الالهية لا تقف، ولكنها انتجت الحياة بكل أطوارها بسلسلة من الخلق. على ان هناك رأيا اخر يقول بان الحياة التي انتهت إلى الإنسان كانت نتيجة سعيدة لمزيج حدث مصادفة من المواد الكيموية، بما فيها الماء..
ويمكن القول بانه مع الايمان بوجود الخالق، فانه قد شاءت ارادته ان يخلق من العناصر الاصلية للارض شيئا تكون له حياة، ويبلغ في النهاية إلى تطور في المخ يسمح بابداعه الذكاء. ويمكن القول بان الله تعالى قد شاء ان يمنح هذا الذكاء سيادة وسيطرة على جميع الكائنات الحية الأخرى وعلى كائنات أخرى كثيرة عاطلة من الحياة.
وايا ما تختر لنفسك من هذه الاراء، فان من الواضح ان الإنسان لم يوجد كانسان. منذ بدأت الحياة ولكنه تطور فيما بعد إلى ما هو عليه الآن، وعلى أي حال لم يظهر كانسان، إلا بعد ان عجزت كل أشكال الحياة الكائنات الأخرى عن إيجاد جهاز بالغ التعقيد كالعقل البشري.(1/49)
واذا فرضنا ان الإنسان بدأ مع ظهور الحياة الاولى، فان وجوده يرجع إلى 400 مليون سنة أو اكثر. اما إذا قبلنا النظرية الثانية، فانه يكون قد وجد بعد ذلك، أو في أي وقت نتيجة للمشيئة الالهية. اما إذا قبلنا الفرض الثالث، فاننا لا يمكننا ان نحدد تاريخا لاول وجوده كإنسان إلا بما يرجع لنا ملايين عدة من السنين. وقد أمكن تتبع تاريخ الإنسان كانسان، بالادلة الكافية لاقناع العلماء، لمدة مليون سنة مضت، ولكن هذا حد ادنى متفق عليه. اما قبل ذلك فان تطوره – مهما يكن الحيوان الذي تطور منه – يرجع إلى قدم لا يصل اليه حسبان البشر.
ويوجد في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي بنيويورك حصان اثري ذو ثلاث أصابع، وهو حيوان صغير كان لاريب سريع العدو. ولا شك انه كان حصاناً، غير ان تطوره إلى الحصان الجليل الحإلى الذي يجري على ما نسميه حافراً تطور من اصبع، قد تطلب ملايين السنين. فاذا اتخذنا من ذلك معلما للطريق، فلنقدر اذن الزمن الذي تطلبه الإنسان حتى تطورت يداه وعيناه وذهنه، وبذا صار حيواناً طفيفاً ورفعه ذلك إلى كيانه الحالي.(1/50)
والان نعود فنقتبس التقلبات التي مر بها هذا المخلوق الصغير الاعزل من وسائل الدفاع، وان يكن حقا سريع الحركة فانه معرض للخطر من كل مخلوق ياكل اللحم، ومن كل زاحف سام، ومن كل جسم يحدث المرض. وكان عليه ان يعني بصغاره زمنا طويلا من عجزهم، فان اطفال الإنسان تولد عديمة الحول والحيلة، وهي تأتي تباعاً وبذا قد يصبح عدة اطفال عاجزين، في حاجة إلى الغذاء والوقاية في وقت واحد. وهذا يضاعف عجيبة بقاء الإنسان في خلال الدهور! فقد عاش خلال تغيرات كالعصر الثلجي وفي كل طور اخر من أطوار الحياة المحرومة الوقاية. وهذا ينطبق طبعا على جميع الحيوانات الاخرى. وانه لمن معجزات العناية الالهية ان استطاعت هذه المخلوقات ان تثبت امام تلك الظروف. ومن جهة أخرى فان أنواعاً لا عدد لها كانت قد ولدت ثم انقطعت عن الوجود. وليست عظام (الديناصورات)(1)الا دليلا واحدا يثبت به علماء الجيولوجيا (علم طبقات الارض) انه وجدت في الماضي حيوانات غريبة قدر لها الفشل فعفى عليها النسيان. وكان ذلك أيضاً مثال ملايين من الحشرات والاسماك والطيور وانواع أخرى عديدة من مخلوقات شتى. ولعل (الحمام المسافر)(2)كان في وقت ما أكثر عددا من البشر، ولكن آخر واحدة منه ماتت في عهدنا، وانقرضت سلالته الفاخرة كما انقرض (البطريق) العظيم و (الدودو)(3).
وتجد علماء الآثار في اظهارهم لتطور الانسان، يتخذون من سعة المخ في جمجمته مفتاحاً لتقدمه. وقد حلت اجناس ولا تزال تحل، محل اخرى، ويبدو ان الجنس الابيض هو في الذروة في الوقت الحاضر. أفيأتي الزمن بالإنسان الممتاز (السوبرمان) الذي ينسل ذرية من نوعه تملأ الأرض على رحبها؟
ان العظام في جمجمة الطفل يفرقها غضروف يتيح لمخه مزيدا من النمو، وقد يستمر ذلك في طور الشباب إذا كان ثمة حاجة إلى مثل هذا التوسع. ولكن الواقع اننا نصبح ذوي أدمغة صلبة. وقت باكر.. ويحسن بنا إلا نغلق عقولنا دون الحقيقة قبل الأوان!.
__________
(1) - الديناصورات جمع ديناصور، وهو الحيوان الهائل الذي وجد مدفونا تحت اطباق الثلوج، وانقرض من الحياة منذ زمن طويل.
(المترجم).
(2) - نوع من الحمام كان موطنه امريكا الشمالية، وكان ذا رأس صغير ومنقار قصير وذيل طويل وجناحين طويلين مدببين.
(المترجم).
(3) - الدودو: طائر منقرض من فصيلة الحمام.(1/51)
الفصل الثامن:غرائز الحيوانات
ان تقدم الإنسان قد بلغ من الوجهة الطبيعية مبلغا محمودا، ولا يبدو ان ثمة مجالا لنمو تكوين جسدي جديد به. ولكن ينبغي ان نتقدم صحته، وان يبلغ تقدمه الطبيعي درجة الكمال بفضل التغذية وعجائب الطب والجراحة، وتبعا لذلك يجب ان ترقى الاذهان بوجه عام. فهناك – على الأقل – متسع للعقلية الصالحة لكي تعبر عن نفسها، وبذا تتحسن احوال الإنسان المادية والخلقية والروحية، سواء من حيث الفرد أو الجنس.
ان المدنية وقبول المقاييس الخلقية، تتحركان إلى الامام والى الخلف، ولكن هناك كسبا دائما، وقد كان تقدم الإنسان امرا ملحوظا بلاريب، ولكن عليه ان يقطع مراحل عدة. ويبدو لحسن الحظ انه ليس هناك حد لما يمكن ان يقع من تقدم جديد في الذهن البشري مع الوقت، اعني الوقت الكافي، بوصفه العامل الغالب..(1/52)
ان الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه القديم في الربيع التالي. وفي شهر سبتمبر تطير أسراب معظم طيورنا إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو الف ميل فوق عرض البحار، ولكنها لا تضل طريقها. والحمام الزاجل إذا تحير من جراء اصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص، يحوم برهة ثم يقصد قدما إلى موطنه دون ان يضل.. والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الاعشاب والاشجار، كل ذلك دليل يرى. وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الانسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة. ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تسد هذه الحاجة ولا بد ان للحشرات الدقيقة عيونا ميكروسكوبية لا ندري مبلغها من الاحكام، وان للصقور بصرا تلسكوبيا وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية. فهو بتلسكوبه يمكنه ان يبصر سديما بلغ من الضعف انه يحتاج إلى مضاعفة قوة ابصار مليوني مرة ليراه، وهو بميكروسكوبه الكهربي يستطيع ان يرى بكتريا كانت غير مرئية، (بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها).
وانت إذا تركت حصانك العجوز وحده، فان يازم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل. وهو يقدر ان يرى ولو في غير وضوح، ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تأثرتا قليلا بالاشعة تحت الحمراء التي للطريق. والبومة تستطيع ان تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل. ونحن نقلب الليل نهاراً باحداث اشعاع في تلك المجموعة التي نسميها بالضوء..(1/53)
ان عمليات عينك تلقي صورة على الشبكية، فتنظم العضلات العدسات بطريقة الية إلى بؤرة محكمة، وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة، هي في مجموعها ليست اسمك من ورقة رفيعة. والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من اعواد ومخروطات، ويقال ان عدد الاولى ثلاثون مليون عود، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت هذه كلها في تناسب محكم، بعضها بالنسبة إلى بعض، وبالنسبة إلى العدسات، ولكن العجب انها تدير ظهورها للعدسات، وتنظر نحو الداخل لا نحو الخارج. واذا استطعت ان تنظر في خلال العدسات، فانك ترى عدوك مقلوب الوضع، والجانب الايمن منه هو الايسر. وهذا امر يربكك إذا حاولت ان تدافع عن نفسك، ولذا فان الطبيعة قد عرفت بطريقة ما ماذا سيحدث، ولذا اجرت ذلك التصميم قبل ان تقدر العين على الابصار، ورتبت اعادة تنظيم كاملة عن طريق ملايين من خويطات الاعصاب المؤدية إلى المخ. ثم رفعت مدى ادراكنا الحسي من الحرارة إلى اللضوء، وبذا جعلت العين حساسة بالنسبة للضوء. وهكذا نرى صورة ملونة للعالم من الجانب الايمن إلى فوق، وهو احتياط بصري سليم. وعدسة عينك تختلف في الكثافة، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة.
ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة في جنس واحد كالزجاج مثلا. وكل هذه التنظيمات العجيبة العدسات والعيدان والمخروطات والاعصاب وغيرها. لابد انها حدثت في وقت واحد، لانه قبل ان تكمل كل واحدة منها، كان الابصار مستحيلا. فكيف استطاع كل عامل ان يعرف احتياجات العوامل الأخرى ويوائم بين نفسه وبينها؟(1/54)
ان المحار العادي الذي تأكل عضله، له عيون عدة تشبه عيوننا كثيرا، وهي تلمع، لان كل عين منها لها عاكسات صغيرة لا تحصى، ويقال انها تساعدها على رؤية الأشياء من اليمين إلى فوق. وهذه العاكسات غير موجودة في العين البشرية. فهل رتبت المحار تلك العاكسات لانه لا يملك كالإنسان قوة ذهنية؟ ولما كان عدد العيون في الحيوانات يتراوح بين اثنتين وعدة الاف، وكلها مختلفة، فلا ريب ان الطبيعة كانت تلتقي مشقة كبيرة في احكام علم المرئيات، اللهم إلا إذا وجدت عونا من الخالق!
ان نحلة العسل لا تجذبها الازهار الزاهية كما نراها، ولكنها تراها بالضوء فوق البنفسجي الذي يجعلها أكثر جمالا في نظرها. وفيما بين اشعة الاهتزازات البطيئة واللوحة الفوتوغرافية وما وراءها، عوالم من الجمال والبهجة والالهام، بدأنا نقدرها ونسيطر عليها. فلنأمل ان ياتي علينا يوم نستطيع فيه ان نستمتع بعالم الضوء عن طريق النبوغ في الابتكار. وها نحن اولاء قد اصبحنا قادرين على ان نكتشف اهتزازات الحرارة في كوكب بعيد، ونقيس طاقتها.
ان العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الاحجام في المشط الذي يستخدم في التربية. وتعد الحجرات الصغيرات للعمال، والأكبر منها لليعاسيب (1)، وتعد غرفة خاصةى للملكات الحوامل. والنحلة الملكة تضع بيضا غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكر، وبيضا مخصبا في الحجرات الصحية المعدة للعاملات الاناث والملكات المنتظرات. والعاملات اللائي هي اناث معدلات بعد ان انتظرن طويلا مجيء الجيل الجديد، تهيأن أيضاً لاعداد الغذاء النحل الصغيرة بمضغ العسل واللقح، ومقدمات هضمه، ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والاناث، ولا يغذين سوى العسل واللقح. والاناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات.
__________
(1) - اليعسوب: هو الذكر من النحل.(1/55)
أما الاناث اللائي في حجرات الملكة، فان التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن. وهؤلاء اللائي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورون إلى ملكات نحل، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضا مخصبا، وعملية تكرار الانتاج هذه تتضمن حجرات خاصة، وبيضا خاصا، كما تتضمن الاثر العجيب الذي لتغيير الغذاء. وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف اثر الغذاء، وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضرورية لوجودها، ولابد ان المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة. وعلى ذلك فيبدو ان النحل قد فاق الإنسان معرفة تاثير الغذاء تحت ظروف معينة.
والكلب بما أوتي من انف فضولي، يستطيع ان يحس الحيوان الذي مر. وليس ثمة أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه، ونحن لا نكاد ندري اين نبدا لنفحص امتدادها. ومع هذا فان حاسة الشم الخاصة بنا هي على ضعفها قد بلغت من الدقة انها يمكنها ان نتبين الذرات الميكروسكوبية البالغة الدقة. وكيف نعرف اننا نتأثر جميعا نفس التأثر من رائحة بعينها؟ الواقع اننا لا نتأثر تأثرا واحدا. كذلك حاسة الذوق تعطي كلا منا شعورا مختلفا عن شعور الاخر. والعجيب ان اختلافات الاحساس هذه هي ورائية!
وكل الحيوانات تسمع الاصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك بدقة تفوق كثيرا حاسة السمع المحدودة عندنا. وقد اصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله ان يسمع صوت ذبابة تطير على بعد اميال كما لو كانت فوق (طبلة) أذنه، ويستطيع بمثل تلك الأدوات ان يسجل وقع شعاع شمس.(1/56)
ان جزءا من أذن الإنسان هو سلسلة من نحو اربعة آلاف حنية (قوس) دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ، في الحجم والشكل. ويمكن القول بان هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية، ويبدو انها معدة بحيث تلتقط، وتنقل إلى المخ، بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الاوركسترا، ووحدتها المنسجمة، لو كان المراد عند تكوين الاذن ان تحسن خلاياها الأداء، كي يعيش الانسان، فلماذا لم يمتد مداها حتى تصل إلى ارهاف السمع؟ لعل (القوة) التي وراء نشاط هذه الخلايا قد توقعت حاجة الإنسان في المستقبل إلى الاستماع الذهني ام ان المصادفة قد شاءت تكوين الاذن خيرا من المقصود؟
ان احدى العناكب (جمع عنكبوت) المائية تصنع لنفسها عشا على شكل منطاد (بالون) من خيوط بيت العنكبوت وتعلقه بشيء ما تحت الماء، ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر تحت جسمها، وتحملها إلى الماء ثم تطلقها تحت العش ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش، وعندئذ تلد صغارها وتربيها، آمنة عليها من هبوب الهواء. فها هنا نجد طريقة النسج، بما يشعله من هندسة وتركيب وملاحة جوية.
ربما كان ذلك كله مصادفة.. ولكن ذلك لا يفسر لنا عمل العنكبوت!
وسمك (السلمون) الصغير يمضي سنوات في البحر، ثم يعو إلى نهره الخاص به، والأكثر من ذلك انه يصعد جانب النهر الذي يصب عنده النهر الذي ولد فيه. وقد تكون قوانين الولاية الأمريكية التي على أحد جانبي النهر صارمة وقوانين الولاية التي على الجانب الاخر غير صارمة، ولكن هذه القوانين إنما تسري على السمك الذي يمكن ان يقال عنه انه يخص جانبا دون الآخر.. فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ ان سمكة (السلمون) التي تسبح في النهر صعدا، إذا نقلت إلى نهير آخر، ادركت توا انه ليس جدولها، فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر، ثم تحيد ضد التيار قاصدة إلى مصيرها.(1/57)
وهناك لعز اصعب من ذلك، يتطلب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا السلك، فان تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها، هاجرت من مختلف البرك والانهار، واذا كانت في أوروبا قطعت آلاف الأميال في المحيط، قاصدة كلها إلى الاعماق السحيقة جنوبي برمودا، وهنا تبيض وتموت. اما صغارها – تلك التي لا تملك الوسيلة نتعرف بها أي شيء سوى انها في مياه قفزة – فانها تعود ادراجها وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها، ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة، ولذا يظل كل جسم من الماء آهلا بثعابين البحار لقد قاومت التيارات القوية وثبتت للامداد والعواصف، وغالبت الامواج المتلاطمة على كل شاطئ، وهي الآن يتاح لها النمو، حتى إذا اكتمل نموها، دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد ان تتم المرحلة كلها. فمن أي ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟ لم يحدث قط ان صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الاوروبية، أو صيد ثعبان ماء اوروبي في المياه الامريكية. والطبيعة تبطئ في انماء ثعبان الماء الاوروبي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها. ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معا في ثعبان ماء، يكون لها حاسة التوجيه، وقوة الارادة اللازمة للتنفيذ؟
ويبدو ان الحيوانات لها القدرة على تبادل الشعور. ومن ذا الذي يرقب طائر الطيطوي (او زمار ال؟؟؟) ولم يعجب به، وهو يحلق في الجو، ويدور، حتى تطير كل وطيور ذوات الصدر الابيض في اشعة الشمس في وقت واحد؟
واذا حملت الريح فراشة انثى من خلال نافذة إلى علية بيتك، فانها لا تلبث ان ترسل اشارة خفية، وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة ولكنه يتلقى تلك الاشارات ويجاوبها مهما احدثت انت رائحة بمعملك لتضليلهما. ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة اذاعة، وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي فضلا عن السلك اللاقط للصوت (إيريال)؟ أنراها تهز الاثير فهو يتلقى الاهتزاز؟(1/58)
والجندية (النطيط) الامريكية KATYDID تحك ساقيها أو جناحيها معا، فيسمع صريرها هذا في الليلة الساكنة على مسافة نصف ميل. انها تهز بها سمائه طن من الهواء وتنادي رفيقها.
والفراشة التي تعمل في عالم آخر من عوالم الطبيعة، وفي سكوت ظاهر، تنادي أيضاً مثل ذلك النداء المجاب!
وقبل ان يكتشف الراديو، كان العلماء يقولون ان الرائحة هي التي تجذب الفراش الذكر إلى أنثاه، وسواء اكان هذا ام ذاك، فانها معجزة، لان لابد للرائحة ان تمضي في كل اتجاه، مع الريح أو بدونها، وفي هذه الحالة يكون على الفراش الذكر ان يتبين هباءة (ذرة)، وان يعرف الاتجاه الذي جاءت منه.
ونحن الآن نتخذ عدة هائلة لنكتسب مثل هذه القدرة على الاتصال معا، وسوف ياتي الويم الذي ينادي فيه الشاب حبيبته على بعد، دون أداة ميكانيكية، فتجاوبه، ولن يعوقهما حاحز أو رتاج.
ان التليفون والراديو هما من العجائب الآلية، وهما يتيحان لنا الاتصال السريع، ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان. وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة، وليس لنا إلا ان نحسدها على ذلك، حتى تبتكر عقولنا راديو فردياً. وعندئذ نكتسب القدرة على (انتقال الفكر) من بعض الوجوه.
والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم. كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى اخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي ليوزع بذوره. واخيرا قد أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ، فقد حسن الطبيعة، وجازته بسخاء، غير انه شديد التكاثر حتى اصبح مقيدا بالمحراث. وعليه ان يبذر، ويحصد، ويخزن، وعليه ان يربي ويهجن، وان يشذب، ويطعم. واذا هو اغفل هذه الاعمال، كانت المجاعة نصيبه، وتدهورت المدنية، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية.(1/59)
والطيور التي تؤخذ صغيرة من أعشاشها، تصنع لنفسها حيت تكبر اعشاشا على نمط نوعها، وللعادات المتوارثة جذور عميقة في ظلمات القدم، فهل هذه الاعمال نتيجة المصادفة أو نتيجة اعداد حكيم؟ ان في هذا الكفاية لاظهار قوة العادة الوراثية التي نسميها بالغريزة. ومن بين جميع الكائنات الحية التي جابت نواحي الارض، لا نجد احدا منها حاز من قوة التعليل مثل ما حازه الانسان.
فهناك بقاء في الحياة بفضل الضبط، وهناك فناء لان الضبط قد تخلى الحد اللازم. ولكن الإنسان وحده هو الذي نمى معرفته بالارقام. ولو ان احدى الحشرات عرفت عدد سيقانها، لما امكنها ان تعرف عدد سيقان اثنين من نوعها، فان ذلك يتطلب قوة تعليل.
وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر LOBSTER الذي إذا فقد مخلبا، عرف ان جزءا من جسمه قد ضاع، وسارع إلى تعويضه باعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة ومتى تم ذلك كف الخلايا عن العمل، لانها تعرف بطريقة ما ان وقت الراحة قد حان.
(وكثير الارجل) المائي إذا انقسم إلى قسمين: استطاع ان يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين، وأنت إذا قطعت رأس (دودة الطعم) تسارع إلى صنع راس بدلا منه. ونحن نستطيع ان ننشط التئام الجروح ولكن متى يتاح للجراحين ان يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعا جديدة، أو لحما، أو عظاما، أو أظافر، أو اعصابا – إذا كان ذلك حقا في حيز الامكان؟
وهناك حقيقة مدهشة تلقى بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد: فان الخلايا في المراحل الاولى من تطويرها إذا تفرقت، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل. ومن ثم فانه إذا انقسمت الخلية الاولى إلى قسمين، وتفرقه هذان، تطور منهما فردان. وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين، ولكنه يدل على أكثر من ذلك، وهو ان كل خلية في البداية يمكن ان تكون فردا كاملا بالتفصيل، فليس هناك شك اذن في انك أنت، في كل خلية ونسيج.(1/60)
وقد أشار المزمور 139 – 14 / 16 من مزامير داود في بساطة، إلى الطريقة العجيبة التي يمكن بها خلية أن تتطور إلى كائن مفرد، إذ ورد فيه ما يأتي:
أحمدُكَ من أجلِ أني قد امتزتُ عجبا. عجيبةٌ هيَ أعمالك ونفسي تعرفُ ذلك يقيناً.
لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنعتْ في الخلفاء ورُقمت في أعماق الأرض.
رأت عيناكَ أعضائي، وفي سفركَ كلّها كتبتْ يوم تصورتْ، إذ لم يسكن واحدٌ منها.
وفي الامكان ان نملأ صفحات عدة بعجائب الاحساس التي لا تزال فوق ادراكنا، ولكن هذه الامثلة تكفي تماما لان تدلنا على أننا لا يزال امامنا الكثير لتعلمه، والى ان يتكون لدى الإنسان حواس جديدة، أو إلى ان يضاهى الحيوانات بالاجهزة التي يخترعها حتى يكتسب مثل كفاياتها الخاصة، فان أمامه طرقا طويلة للتطور.
ان كل كفاية يملكها الحيوان ولا نملكها نحن، إنما هي تحد لذكائنا، ونحن لا تزال ناقصي العلم حتى نستطيع الاجابة عن ذلك التحدي. اننا حتى الآن لا نقدر ان نفهم الغريزة، ولا نقدر ان نضع قواعد عامة ونحن مطمئنون على اساس معرفة ناقصة، والى أن نملك كل حاسة كسبتها الكائنات الحية، فاننا سنبقى عاجزين عن ادراك الارتباط الحقيقي الذي بين قوانين الطبيعة، وسنظل نبحث في اللانهائية يفهم جزئي.
ان التطور الروحي للإنسان هو الآن في البداية. والقبس الالهي قد بدأ يسيطر في بطء على عقله المادي. واخطاء الانسان، التي تصل به إلى هلاك نفسه بيده، إنما هي مآسي طفولته. وزماننا إذا قيس بالأزلية الماضية والأبدية المستقبلة لا يزيد على دقة الساعة، غير ان الروح التي بنا، هي ملك لهذه وتلك.
ونحن إذا فكرنا في الفضاء الذي لا يفتأ يمتد أمامنا، وفي الزمن الذي لا بداية له ولا نهاية، وفي الطاقة المقيدة والمحبوسة في الذرة، وفي الكون الذي لا حد له بعوامله التي لا تحصى ونجومه التي لا تعد، وفي الاهتزازات التي نسمها بالضوء والحرارة والكهرباء والمغناطيسية، وفي النشاط المستمر للنجوم، وفي الجاذبية وسيطرة القوانين الطبيعية على العالم، إذا فكرنا في ذلك كله، أدركنا أننا لا نعرف في الحق إلا قليل. فالى أي حد يجب ان يتقدم الانسان حتى يدرك تماما وجود الخالق الاعلى، ويحاول ان يرتفع إلى اعلى ما يستطيع بلوغه من الفهم، دون ان يحاول تفسير حكمة الله ومقاصده أو بصف الصفات التي له تعالى؟(1/61)
الفصل التاسع:تطور العقل
مما يدعو إلى أشد العجب انه في أنواع الحياة الحيوانية التي لا تحصى – سواء أبقيت الحيوانات ام انقرضت – لسنا نجد عندها أي مظهر للعقل، ولكنا نجد الغرائز وحدها حتى نصل إلى الانسان، فتراه قد استأثر بالعقل وحده.
ان أي حيوان لم يسجل لنفسه قدرة على تربيع حجر، أو العد لغاية عشرة، أو فهم معنى عشرة!
في خليج الخلق، قد اتيح لكثير من المخلوقات ان تبدى درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري. فالزنبور مثلا يصيد الجندب (النطاط) ويحفر حفرة في الأرض، ويحز الجندب في الكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ. وانثى (الزنبور) تضع بيضا في المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها ان تتغذى دون ان تقتل الحشرة التي هي غذاؤها فيكون ذلك خطرا على وجودها، ولا بد ان (الزنبور) قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما، والا ما بقيت زنابير على وجه الأرض. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية، ولكنها مع ذلك لا يمكن ان تنسب إلى المصادفة!(1/62)
ان أنثى (الزنبور) تغطي حفرة في الأرض، وترحل فرحا، ثم تموت. فلا هي ولا أسلافها قد فكرن في هذه العملية، ولا هي تعلم ماذا يحدث لصغارها، أو ان هناك شيئا يسمى صغارا.. بل انها لا تدري انها عاشت وعملت لحفظ نوعها.
والنحل والنمل يبدو انها تدرك كيف تنظم وتحكم نفسها، فلها جنودها، وعمالها، وعبيدها، ويعاسيها(1). ولكنك إذا التقطت قطعة كهرمان على شاطئ البلطيق، فقد تجد بها نملة محبوسة منذ دهور لا تعد. وستجدها نسخة طبق الاصل من النمل الموجود الان. فهل وقف التطور عن سيره حين طوبق بين النملة وبيئتها في الطبيعة؟ وهل كان ذهن النملة الصغيرة، اداة أشد ضالة من أن تضطلع بغرض أكبر، لا شك ان النملة بوصفها اصبحت حشرة اجتماعية، قد تعلمت الكثير، ويبدو انها تطبق النظرية العجيبة القائلة (أعظم خير لأكثر عدد)، وانها تضل بها إلى نهايتها المنطقية، كما فعل بعض أهإلى الهند الشرقية من الجيل الأخير.
__________
(1) - قال الامام على كرم الله وجهه في وصف النملة ( من كتاب نهج البلاغة):
(انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على ارضها وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقر لها، تجمع في حرها لبردها، وفي ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس، والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها، في علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا.. فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطراته فاطر، ولم يعته في خلقها قادر).
(المترجم).(1/63)
وفي بعض أنواع النمل، ياتي العملة منه بحبوب صغيرة لاطعام غيرها من النمل من خلال فصل الشتاء. وينشئ النمل ما هو معروف (بمخزن الطحن)، وفيه يقوم النمل الذي اوتي أفكاكا كبيرة معدة للطحن، باعداد الطعام للمستعمرة، وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين ياتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت، فان (أعظم خير لأكبر عدد) يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام، وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان، فان جنود النمل ثقتل النمل الطاحن الموجود، ولعلها ترضى ضميرها الحشري بان ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي إذا كانت له الفرصة الاولى في الافادة من الغذاء اثناء طحنه.
وهناك انواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منها ما يحلو لك)، إلى زرع اعشاش للطعام فيما يمكن تسمية (بحدائق الاعشاش) وتصيد انواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق(1). فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها، ومنها ياخذ النمل افرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما لها.
والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب، وبينما يضع بعض عملة النمل الاطراف في مكانها، تستخدم صغارها – التي وهي في الطور اليرقي تقدر ان تعزل الحرير – لحياكتها معا. وربما حرم طفل النمل فرصة عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة.
فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة، ان تقوم بهذه العمليات المعقدة؟
لا شك ان هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك.
__________
(1) - Aphid هي الأرقة وجمعها الأرق. وهي حشرات صغيرة آفة الندوة العسلية.
(المترجم)(1/64)
ان الإنسان وحده هو الذي أوتي عقلا بلغ من التطور انه يستطيع ان يفكر به تفكرا عاليا. والغريزة ليست إلا كنغمة واحدة من الناي. نغمة جميلة ولكنها محدودة. في حين ان العقل البشري يحتوي كل الانغام التي لكل الآلات الموسيقية في أوركسترا. والإنسان يمكنه ان يوفق بين تلك الأنغام جميعها، وان يقدم للعالم قطعا موسيقية متحدة النغم (سيمفونيات) تدنو من الاعجاز. إلى ان خلق الانسان، لم تخرج العناية الالهية كائنا حيا من بين الصخور الفطرية، وله عقل مرن كعقل الانسان. والان يمكننا ان نتصور امكان تلقي الإنسان قبسا من نور الله يجعله سيداً على الأرض، عجيبا في مقدرته، باقيا في مصيره
ان التطور لابد له، طبقا لكل قانون من قوانين الطبيعة، والكيميا، من ان يقصر اقصى حدوده على أكثر ما يمكن من المطابقة البيئة. يقال ان جمال ريش أحد الطيور انما هو اظهار للجاذبية الجنسية، وبذا يمكن تفسيره، ولكن الرسم الجميل ليس ضرورياً لوجود الانسان، وان تكن المرأة الجميلة لازمة لهذا الوجود.. ان المادة، كالذرات والصخور والماء، قد تتحد، واذا نفخت فيها الحياة، فقد تتطور إلى انسان. ولكن ايمكن هذه العناصر، بعد إذ أتمت المطابقة الكاملة للبيئة الطبيعية، ان تقطع مرحلة اخرى، وتنتج رجلا موسيقيا يستطيع ان يكتب الأنغام الموسيقية (النوتات) على الورق، ويسجل تناسقها البديع، ويصنع بيانو، ويخلب الباب الجمهور المستمع، ويدع موسيقاه تسجل على أقراص من البلاستيك، وتذاع حول العالم عن طريق وسيط يسمى (الأثير) ولا تعرف الذرات شيئا عنه سوى انها توجد فيه أو بوساطته؟
ان بعض أنواع الحيوانات تتعاون في جهودها، فهي لاتصطاد إلا في جماعات، وهي تجمع غذاءها وتخزنه للمستقبل، وهي تضاعف جهودها الفردية بطرق شتى بفضل العمل المشترك، ولكنها لا يبدو انها تخطو خطوة واحدة بعد ذلك.(1/65)
أما الإنسان فانه من جهة أخرى قد شيد الاهرام بمضاعفة القوة الفردية، ولكنه كذلك اكتشف الرافعة والطنبور، والعجلة، والنار. وقد جعل حيوانات الحمل مستأنسة، وأضاف اليها عجلته، وبذا أطال في ساقيه، وقوى من ظهره. وقد تغلب على قوة سقوط الماء، وتحكم في البخار والغاز، والكهربا، وحول العمل اليدوي إلى مجرد السيطرة على الاجهزة الميكانيكية التي هي من مستحدثات عقله. وهو في انتقاله من مكان إلى مكان، قد فاق الظبي في سرعته، وحين ركب اجنحة لعربته، قد سبق الطيور في طيرانها، فهل حدث ذلك كله عن طريق تفاعل في المادة وقع مصادفة؟
والجمال يبدو ملازماً للطبيعة، وجمال السحب، وقوس قزح، والسماء الزرقاء، والبهجة الرائعة التي تملا نفس الناظر إلى النجوم، والى القمر في طلوعه، والشمس في غروبها، والى روعة الظهر الفائقة، كل ذلك يهز مشاعر الإنسان ويسحره.
وتحت الميكروسكوب تجد أصغر حيوان وأدق زهرة، تزينها خطوط من الجمال محكمة الصنع.
والخطوط البلورية التي للعناصر والمركبات، من ندفة الثلج إلى الاشكال الأصغر منها، إلى ما لا نهاية، هي مصادفة لدرجة مدهشة، حتى ان الفنان ليس بوسعه إلا اني يقلدها أو يجمعها معا.
وكل ورقة من أوراق كل شجرة سليمة مشكلة في أكمل شكل، وتخطيط كل نبات يعمل بصفة فردية، وبخطوط فن أصيل، والازهار مشكلة برشاقة وبتنظيمات كاملة، وتخطيطها وفق تصميمات صحيحة، والوانها موزعة بشكل مدهش، ومن النادر، ان لم يكن من المحال، ان تختلط معاً.
والحيوان الكامل هو شيء جميل، وحركاته مملوءة بالسهولة والرشاقة. وحينما تطور مخلوق عن طريق المطابقة الضرورية البيئة والوقاية، وبدا غير متناسب الشكل، فانه يبدو فريدا في نوعه حتى ليحسبه الناظر اليه تعبيرا فنيا عن احدى المضاحك.(1/66)
ان الوادي الاخضر، والنهر والاشجار الباسقة، والصخور، والجبال التي يجلل قممها الثلج – كل أولاء تحدث في النفس اثرا عميقاً. وان الإنسان ليستمد البهجة من رؤية كثبان الرمال الفسيحة الممتدة في الصحراء.
وان التتابع الفاخر لأمواج المحيط، وتلاطمها على أرض الشاطئ، وتحليق الطيور في الجو. سواء فوق البحر أو على طول الشاطئ أو في الغابة مع ألوانها المكيفة، كل اولاء تتحدى من له عين يرى بها، وعقل يقدر به.
وان حركات السمك، وتموجات حشائش البحر في نعومة تحت سطحه، لتملأ نفس الإنسان بشعور من الإنسجام يستجيب إلى تشوقه.
والطبيعة إذا لم تنلها يد النشوية، تبدو كأنها أعدت لكي تستدر اسمى الشعور في نفوسنا، وتلهمنا الاعجاب بصنع الخالق الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يدركها بكل كمالها غير الانسان! والجمال هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى مرتبة يكون فيها اقرب إلى الله.
ويبدو ان (الغاية) جوهرية في جميع الأشياء، من القوانين التي تحكم الكون، إلى تركيبات الذرة التي تدهم حياتنا، واذا لم يكن التطور من غرض سوى اعداد أساس مادي لتلقي الروح، فان هذه غاية مدهشة في حد ذاتها.
واذا كانت حقيقة الغاية مقبولة بالنسبة لكل الاشياء، واذا آمنا بان الإنسان هو أهم مظهر لتلك الغاية، فان الاعتقاد العلمي بان جسم الإنسان وجهاز مخه ماديان، قد يكون سليما. فان الذرات والهباءات في المخلوقات الحية تفعل افعالا مدهشة، وتبني اجهزة عجيبة، ولكن هذه الأدوات عديمة النفع ما لم يحركها العقل حركات ذات غرض. فهناك اذن خالق الكون لا يرقى اليه تفسير العلم، ولا يقدر ان ينسبه إلى المادة.(1/67)
الفصل العاشر:وحدات الوراثة
كل خلية – ذكرا كانت ام أنثى – تحتوي كروموزومات(1)وجينات (وحدات الوراثة CENES). والكروموزية تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة. والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي او انسان.
__________
(1) - الكروموزوم Chromosome هي وحدة المادة العضوية والعامل في نقل الصفات الوراثية.
(المترجم)(/)
والسيتوبلازم(1) هي تلك التركيبات الكيموية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ (الجينات) (وحدات الوراثة) من الدقة انها – وهي المسئولة عن المخلوقات البشرية جميعا التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية واحوالها النفسية وألوانها وأجناسها – لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم (الكستبان).
وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات.
و (الكستبان) الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر.
هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فان هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها. فهل هذه الجينات والسيتوبلازمات تحبس كل الصفات المتوارثة العادية لجمع من الأسلاف، وتحتفظ بنفسية كل فرد منهم، في مثل تلك المساحة الضئيلة؟ وما هو المحبوس هناك؟ كتاب تعليمات؟ صف من الذرات؟
__________
(1) - السيتوبلازم Cytoplasm هي المادة البروتوبلازمية التي حول نواة الخلية.
(المترجم)(1/68)
ان الجنين EMBRYO وهو يخلص في تطوير التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، انما يقص تارخا مسجلا، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم، حتى ان الأم التي غذت الجنين منذ حملت به ليس لها كبير نفوذ، لأن الجينات هي التي تقرر: هل الطفل سيشبه أباه أو امه؟ وليس هناك دليل على ان هذا الشبه تقرره البيئة السابقة للولادة، والتطور يحتاج عادة إلى فترات طويلة من الزمن حتى يستقر كل تغيير. انما عملية يراد منها العمل على بقاء الجنس وتشابهه. وهو يصل إلى درجة الكمال بحلول الروح. والخالق عزوجل قد رتب ذلك ونظمه، فهو لا يسرع بهذه العملية لان الإنسان لا يفهمها أو لانه خلق عجولا. والتطورات الجديدة تتوقف على الخواص الموجودة وعلى وجود بيئة ملائمة. فالمصادفة والحادث اذن ليس لهما سوى قليل دخل في التطور، إلا من حيث الاختلافات التي بين الوالدين، التي تحد بالفوارق التي تورث وقتئذ.(1/69)
وانت اذا بدأت بفراشة، فانك لم تحل على يسروع CATERPILLAR. واليسروع ياكل بنهم وينمو حتى ينضج، ثم يلف نفسه براحة في رداء بعضه من الحرير، ويصبح شرنقة. ومعظم انسجة الجسم تنحل إلى خلايا وتصبح مزيجا. ولم يكتشف أي شخص قام بتحليلها ان جزءا منها مختلف عن الاخر، كما انه لا يقدر ان يفرق بين هذا المزيج. وفي الوقت المناسب تبحث كل خلية في الشرنقة عن صلتها المناسبة، وتتحول الشرنقة إلى مخلوق جديد ذي حياة، وله كل الاعضاء الطبيعية اللازمة للوجود، وله القدرة على ان ينتج من جديد نصف الطبيعة المعقدة ليعسوب جديد، وفي الوقت المناسب تنفتح الشرنقة، فياتي إلى العالم مخلوق بديع يعرف باسم (الفراشة)، وأجنحتها الرقيقة مصنوعة من انابيب تصب فيها دمها. وينتفخ الجناح ويصح أداة للطيران. وحين تطير الفراشة في الهواء لكل ألوانها الباهرة ترى بالميكروسكوب ان اجنحتها مغطاة بقشرة تشبه الريش وان كل بقعة حمراء أو سمراء أو خضراء، اوصفراء، هي في مثل المكان الذي كانت فيه على الفراشة الاصلية.
وترقيطها بشبه ترقيط ابويها من كل الوجوه، إلى حد ميكروسكوبي تقريباً.
فما هي قوة التوجيه هذه التي (للجينات)؟ انها تتحكم في الخلايا، والخلايا تطيعها مثل طاعة الجند لرؤسائهم. والنتيجة تكون صحيحة من حيث التناسخ التفصيلي العام مثل حل مسألة حسابية.
واللون يقال عنه انه ناشئ من كون مواد معينة تتشرب كل الاشعة من أطوال موجة معينة، تاركة الباقي لينعكس، وموجات الضوء هي كبيرة جدا نسبيا، لانها تجري من ثلاثة وثلاثين ألفا إلى ستة وثلاثين ألفا من البوصة الواحدة، في حين ان الموجات الأخرى أو الأشعة تجري من أميال للراديو إلى عشرة ملايين أو أكثر من البوصة للأشعة فوف البنفسجية.(1/70)
ولا ندري ماذا نكتشف بعدئذ في المستقبل. وهناك فراشات معينة في المناطق الحارة اجنحتها مغطاة بقشر مكون بعضه من ألواح جد رقيقة من مادة شفافة. وينفذ الضوء وينعكس بلون أزرق جميل كما قد تراه أحيانا بين ألوان عين الهر(1) ولو حدث تغيير بمقدار جزء من عشرة آلاف جزء من البوصة، في سمك غشاء الجناح الذي للفراشة، لتغيير ذلك الضوء أو ذهب كلية. ان (الجينات) ترتب الامور، بحيث لا يحدث تغيير على مدى الف جيل!
ويستطيع الإنسان ان يغير (الجينات) باستخدام الراديوم والاشعة الاخرى، وياتي ذلك بذباب عديم الاجنحة ونمل مشوه، وشواذ مدهشة عديدة، وقد يستطيع العلماء يوما ما ان يحسنوا من صنع الطبيعة، ولكنهم حتى يتم لهم ذلك، يكسبون معرفة قيمة، تؤدي إلى تقدم علوم الاحياء، والطب، والطبيعة.
ومن المعروف الآن ان الحياة كلها تاتي من خلية واحدة، وليس ثمة من دليل يؤيد ايه نتيجة اخرى. ويلاحظ ان جميع طوائف الكائنات الحية منفصل بعضها عن بعض بهوات سحيقة لا يمكن عبورها. حتى ان الحيوانات المقاربة ينفصل بعضها عن بعض كذلك، وكثير منها لا تلبث ان تفقد القدرة على التهجين معا. فمثلا نسل الحمار والمهر هو بغل، ولكن لا يمكن ان توجد سلالة البغل. وكلما رجعنا إلى المنبع الاصلي للحياة نجد المواءمة مع البيئة أعم، حتى ليمكننا ان نتصور على الاقل، زمنا كانت فيه القدرة على مطابقة البيئة كاملة، وكانت الارض كما هي الآن لدرجة كبيرة، مأهولة بكائنات حية (كل منها من نوعه)..
ان السمك اللزيق CLAM والدول (الأخطبوط) OCTAPUS هما من الحيوانات الرخوة (الهلامية)، ولكن انفصالهما بالمطابقة الموائمة هو إلى حد يصعب تصديقه.
__________
(1) - عين الهر أو الشمس Opal حجر كريم كثير الالوان.
(المترجم)(1/71)
ولما كانت هذه الانفصالات قد حدثت في بدايات الحياة فان كل مخلوق قد زاد مخصصه تدريجا، وفقد القدرة على العودة وعلى سرعة تكييف نفسه من جديد. ونظرا إلى ازدياد عدم المرونة، اصبح كثير من السلالات مندثراً، في حين بقيت الحياة بوجه عام ممكنة لغيرها.
والإنسان حيوان من رتبة الطليعة، وتكوينه يشبه تكوين فصائل السيميا(1). ولكن هذا الشبه الهيكلي ليس بالضرورة برهانا على اننا من نسل أسلاف سيميائية (من القرود)، أو ان تلك القرود هي ذرية منحطة للانسان. ولا يستطيع أحد ان يزعم ان سمك القد COD قد تطور من سمك الحساس HADDOCK وان يكن كلاهما يسكن المياه نفسها، ويأكل الطعام نفسه، ولهما عظام تكاد تكون متشابهة. وانما يعني ذلك ببساطة انه في وقت ما عند بداية التكييف كانت هناك ضرورة متوازنة لتنظيم كل من النوعين.
ان العلم يشير إلى ابهام يد الإنسان وقدرتها على الامساك بالعدد والاسلحة، ويعد ذلك أصلا لتقدم الانسان، وان ابهام القرد التي لا نفع لها، لهي برهان قاطع على ان ابهام الإنسان لا يمكن ان تكون قد جاءت من ابهام قرود (السيميا) التي تعيش على الاشجار، تلك الابهام المخصصة لهذه العيشة، ذلك لان الطبيعة لا تعيد أبدا تيسيرا قد فقد، والحصان الذي يجري الآن على اصبع شديدة التخصص، لا يمكنه ابدا ان يستعيد تلك الاصابع التي فقدها على كر الزمن. على اننا لا ينبغي لنا ان نشغل انفسنا بشكل جدي أكثر من اللازم، بما حدث لاسلافنا منذ مليوني جيل على الاقل. ومع هذا يبدو ان البحث عن (الحلقة المفقودة) سوف يتضح عبثه..
__________
(1) - السيميا Simia فصائل الاورانجتان والغوريا والشمبانزى. (المترجم)(1/72)
ان التهجين قد يبدو في الظاهر كخلق جديد قد تطور عن قصد، مثل الكلب السلوقي والكلب البكيني PEKINESE والكلب الصغير الافطس الأنف (بج PUG)، وانها كلها كلاب، واذا ربيت بعناية تبقى على صفاتها المكتسبة، فانها ستظل كماهي الان. ولكنها لو عادت إلى حالة الطبيعة، فان هذه الكلاب التي عنى بتربيتها تعود في النهاية إلى فصيلتها الأصلية، وربما كان اصلها ذئبا، غير انها إذا كيفت تكييفا جيدا على البيئة التي وجدت فيها نفسها، ولم يتح لها التهجين، فانها قد تبقى كنوع جديد من الكلاب.
وقد ربى الحمام بقصد احداث سلالات جديدة منه، وربما حدث ذلك منذ بدء التاريخ. فمنه الحمام الذي له ذيل كالمروحة FANTAILS، والحمام الهزاز، وهناك فلتات وربما شواذ، ولكن (الجينات) تنتظر كامنة في هدوء لتعيدها إلى طرازها الاول. ويمكنك ان تراها في طريق عودتها إلى اصلها. في أي شارع باحدى المدن، إذ تلحظ بها التخطيط المتشابه. والميل العام إلى الإنسجام النهائي في اللون. واننا نكره الهجين (اليزرمبط) بغرائزنا، ونشمئز من رؤية بقرة ذات خمس أرجل، أو ذات راسين، ولكنا نعجب بالرجل الوسيم، إلا إذا كانت تنقصه الاخلاق، وبالمرأة الجميلة، ولكن احب الناس الينا هي الام المتفانية في أبنائها.(1/73)
ان (الجينات) جزء من خلايا الوراثة، غير ان خلايا الوراثة لا تشترك في التكوين العام للجسم، ولكنها منعزلة ولا تسهم في أي وجه من وجوه النشاط الأقل اهمية التي تقوم بها الكائنات الحية. ان هذه الخلايا تحفظ الشبه الكامل للنوع. ويبدو انها لا تتاثر بمسلك الوالدين، إلا ان سوء الخلق، أو المرض، أو الحوادث، قد تمدها بمواد جد فقيرة لتشتغل بها. ان الوالدين القويين، قد ينسلان اطفالا أقوياء، ولكن ذلك لانه كان كان هناك اسلاف أقوياء. ان الوالدين قد يمنحان طفلهما معبدا طبيعيا ليعيش فيه، أو قد يهانه (مباءة) لا تصلح مكانا لنفس خالدة، ان الابوة والامومة هما أعظم تبعة تقع على عاتق الانسان!
والرجال لا تنمو لحاهم أقصل من قبل، لانهم يحلقونها، والقطط التي بلا ذيول في جزيرة (مان) لم تتطور هكذا هناك لان احدا قد قطع ذيل قطة، كلا، بل ان (جنية) ما GENE ، خاصة بالذيل، قد فقدتها تلك القطط. ولكن على الرغم من هذه الكارثة، فان القطط اللاحقة قد نشأت صحيحة دون تلك (الجينة).
ان البيئة تحدث بالفعل تغييرات بطيئة في وجوه النشاط المناسبة (بالجينة)، واذا كان التغيير لصالح، فان تلك التعديلات تستمر، والا فان المخلوق الذي اعتراه التغيير يبعد، لانه غير صالح لملاقاة الظروف. ان الكلب المكسيكي الحإلى من الشعر قد ينشأ صحيحاً في المنطقة المتجمدة، ولكن نسله سوف يموت من البرد.
ان القائلين بنظرية التطور (النشوء والارتقاء) لم يكونوا يعلمون شيئا عن وحدات الوراثة (الجينات)، وقد وقفوا في مكانهم حيث يبدأ التطور حقا، اعني عند الخلية، ذلك اليكان الذي يحتوي الجينات ويحملها.(1/74)
لقد حل إلى الابد لغز ايهما جاء قبل الآخر:الدجاجة ام البيضة؟ انه لم يكن هذه ولا تلك بل جاءت قبلهما خلية اولية. والبيضة ليست إلا مجرد غذاء للجنين. وهي تحتوي تلك الخلية الفريدة التي لقيت عشيرها. وحين تتحد (الجنيات) التي بالخلايا، وتنقسم، فان هذه الجينات مع (السيتوبلازم) ترغم الآن على انتاج دجاجة تضع بيضة اخرى.
والمادة على هذا الشكل، لا غاية لها، فليس لها غرض حتى في طاعتها الظاهرة للقانون، ولكن الحياة في كل مادة منظمة لها غرض محدود: هو تكوين شجرة، أو كرمة عنب أو فيل، أو انسان، في اتفاق تام مع خطة مرسومة محدودة بالجينات.
والحياة ترغم على التناسل، لكي يبقى النوع، وهو دافع بلغ من القوة ان كل مخلوق يبذل اقصى تضحية في سبيل هذا الغرض: ففي بعض الانواع، كذباب مايو مثلا، تموت افراد كثيرة لفورها حين تتم هذه المهمة. وهذه القوة الالزامية لا توجد حيث لا توجد الحياة. فمن اين تنشأ هذه الدوافع القاهرة؟ ولماذا، بعد ان نشأت، تستمر ملايين السنين؟ انه قانون الطبيعة الحية، الذي يبلغ من القوة مبلغ تلك التركيبات الكيموية.. انه ياتي من ارادة الخالق..
ان الخلافات الجوهرية القائمة بين جميع المواد العنصرية التي لامنا الارض. وبين الكائنات ذات الحياة، هي انه بينما جميع العناصر قد تتحد، وتتبلور، وتتغير في المظهر، لا يوجد أي تغيير في الذرات، ولا علاقة محسوسة بينها. بل على العكس نجد الكائنات الحية تنظم كل العناصر في عدة تركيبات جديدة، لكل منها مجال للنشاط، وكلها تتنافس معا في جهودها لحفظ تلك الصلات الحية. وهذا التعاون الكامن الجاد يمتنع تماما إلا حيث توجد الحياة.
وهو لم يقدر حق قدره مع انه قانون لا يقل عن قانون الجاذبية، ولا بد انه نبع من نفس المنبع. ان مثل هذه القوانين هو جزء من مشيئة الله تعالى، وليس انبعاثا من الفوضى!(1/75)
لقد رأينا أن (الجينات) متفق على كونها تنظيمات اصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل شيء حي. وهي تتحكم تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر، لكل نبات، تماما كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والاجنحة لكل حيوان بما فيه الانسان.
ان جوزة البلوط تسقط على الارض، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة، وتندحرج في حفرة ما في الارض. وفي الربيع تستيقظ الجرثومة، فتنفجر القشرة، ويزود الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه (الجينات): وهي تمد الجذور في الأرض، واذا بلت ترى فرخا أو شتلة (شجيرة). وبعد سنوات شجرة! وان الجرثومة بما فيها من (جينات) قد تضاعفت ملايين الملايين. فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها. وفي خلال مئات السنين قد بقي في ثمار البلوط التي لا تحصى، نفس ترتيب الذرات تماماً الذي أنتج اول شجرة بلوط منذ ملايين السنين.
لم تحمل شجرة بلوط قط قسطلا (أبافروة)، ولم يلد أي حوت سمكة. وحقول القمح المتماوجة هي قمح في كل حبة من حبوبها. والحنطة هي الحنطة. والقانون يتحكم في التنظيم الذري (بالجينات) التي تقرر قطعا كل نوع من الحياة من البداية إلى النهاية.
لقد قال هيكل HAECKEL (اعطني هواء ومواد كيموية ووقتا، وأنا أصنع أنساناً)(1)
. ولكنه اغفل وحدات الوراثة (الجينات)، وأغفل الحياة نفسها. لقد كان عليه – لو استطاع – ان يجد وينظم الذرات غير المرئية ووحدات الوراثة (الجينات) ويمنحها الحياة! وحتى في هذه الحالة كانت النتيجة، بنسبة ملايين إلى واحد، انه كان يأتي بوحش لا مثيل له. ولو انه نجح في ذلك لقال ان الامر لميكن مجرد مصادفة، ولكن ثمرة عقله!..
حقا ان الله يخلق معجزاته بأساليب تخفي على الاذهان!
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة الحج)
(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز)
(المترجم)(1/76)
الفصل الحادي عشر:أعظم معمل في العالم
لقد القت كتب في فيزيولوجيا الهضم، ولكن كل عام ياتي باكتشافات جديدة، مدهشة في هذا الموضوع تجعله جديدا دائما، ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على انه عملية في معمل كيموي، والى الطعام الذي نأكله، على انه مواد غفل، فاننا ندرك توا أنه عملية عجيبة، إذ يهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها.
فاولا نضع في هذا المعمل أنواعا من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفية معالجة كيميا الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب، والحنطة والسمك المقلي، وندفعها باي قدر من الماء، ثم نختمها بالخمر والخبر والفول. وقد نضيف إلى كل ذلك كبريتا وعسلا أسود، كدواء في الربيع.(1/77)
ومن بين هذا الخليط، تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى اجزائه الكيموية، دون مراعاة للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة تصبح غذاء لمختلف الخلايا. وتختار اداة الهضم الجمر والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية وتعني بعدم ضياع الاجزاء الجوهرية، وبامكان انتاج الهرمونات، وبان تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الاخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله. اننا نصب هذه الانواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيموي، بصرف النظر كلية تقريباً عما تناوله، معتمدين على ما نحسبه علمية ذاتية (اوتوماتيكي) لابقائنا على الحياة. وحين تتحلل هذه الاطعمة، وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد اكثب من عدد الجنس البشري كله على وجه الارض. ويجب ان يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمراً، والا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج اليها تلك الخلية المعنية لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشر وعينين وأسنان كما تتلقاها الخلية المختصة.(1/78)
فها هنا اذن معمل كيموي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتركه ذكاء الانسان، وها هنا نظام للتوريد اعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم، ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام! ومنذ الطفولة إلى سن الخمسين مثلا لا يخطئ هذا المعمل خطأ ذا بال، مع ان المواد نفسها التي يعالجها يمكن ان تكون بالفعل أكثر من مليون نوع في من الجزيئات MOLECULES ، وكثير منها سام، وحين تصبح قنوات التوزيع متباطئة من طول الاستعمال، ينتابنا الضعف واخيرا يصيبنا الكبر!.
ان الطعام الاصلي حين تستوعبه كل خلية، لا يزال مجرد طعام اصلي. ثم تصبح علمية كل خلية هي عملية احتراق وهي المسئولة عن حرارة الجسم كله. وانت لايمكنك أن تاتي احتراقا دون اشعال. بل يجب ان توقد اولا، ولذا تهيء الطبيعة تركيباً كيموياً صغيرا يشعل نارا مسيطرة عليها لاجل الأوكسجين والهيدروجين والكربون بكل طعام في كل خلية. وبذا تنتج الدفء اللازم، والنتيجة – كما هي في كل نار – هي بخار الماء وثاني اوكسيد الكربون والدم يحمل ثاني اوكسيد الكربون إلى الرئتين، وهو فيهما الشيء الوحيد الذي يجعلك تستنشق نسمات الحياة، والشخص ينتج نحو رطلين من ثاني اوكسيد الكربون في اليوم، ولكن هناك عمليات مدهشة تخلصه منه. وكل حيوان يهضم الطعام، ويجب ان ينال المواد الكيموية الخاصة التي يحتاج اليها بصفة فردية. وحتى في ادق التفاصيل تختلف المحتويات الكيموية في الدم، مثلا، بين كل نوع وآخر، ومن ثم توجد عملية تكوينية خاصة لكل نوع.
وفي حالة العدوى بجراثيم معادية، يحتفظ الجهاز أيضاً بجيش قائم باستمرار ليلاقي الغزاة، وهو عادة يتغلب عليها ويحمي تكوين الإنسان من الموت المبكر. ومثل هذه المجموعة من المعجزات لايوجد، ولا يمكن ان يحدث باي حال، في غيبة الحياة. وكل ذلك يتم في نظام كامل، والنظام مضاد اطلاقا للمصادفة. اليس ذلك كله من صنع الخالق؟ اذن ذلك النظام هو قرين الحياة. ولكن ما هي الحياة؟(1/79)
الفصل الثاني عشر:ضوابط وموازين
ما اعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان، مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره من السيطرة على العالم منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة غير ان الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما لقى جزاءه القاسي عن ذلك. ماثلا في تطورات آفات الحيوان والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الانسان: فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار CACTUS في استراليا، كسياج وقاتي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم اهإلى المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحان دون الزراعة. ولم يجد الأهإلى وسيلة لصده عن الانتشار وصارت استراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار وليس لها عدو يعوقها في استراليا. ما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار، ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الابد.
وهكذا توافرت الضوابط والموزاين، وكانت دائما مجدية.(1/80)
ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم، إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها، أو يكسبون مناعة منها؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن ان يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولماذا لم تتطور ذبابة (تسي تسي) حتى تستطيع ان تعيش ايضا في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي ان يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم تكن له منها وقاء حتى الامس القريب، وان يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم ان بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة!
ان الاسماك والحشرات تبقى على قيد الحياة إذ يسري عليها قانون المصادفة، فان آلاف البيضات التي تضعها يفر بعضها من الموت الذي يكمن في كل مكان لمن لا وقاية له.
وهذه الحقائق الغريبة التي للطبيعة تستحق الذكر، وان لم تكن بالضرورة ادلة حاسمة على وجود العناية الالهية. ولكن الإنسان قد بقى على قيد الحياة، وكذلك الحيوانات الرخوة، غير ان الإنسان كان أشد احتياجا إلى الترتيبات الوقائية، وقد زود بها.
ان الحشرات ليست لها رئتان كما للانسان، ولكنها تتنفس عن طريق انابيب، وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيت ان تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها،لم يكن في الامكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم. ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي، لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور انسانا فطريا يلاقي زنبورا يضاهي الأسد في ضخامته، أو عنكبا (عنكبوتا) في مثل هذا الحجم.(1/81)
ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان اي حيوان – بل كذلك اي نبات – يمكن ان يبقى في الوجود. غير ان هذه الحقائق قد بلغت من الاهمية العظمى بحيث يجب ذكرها.
لقد تنبه العالم أخيرا إلى الحقيقة القائلة بان هناك أشياء تسمى بالفيتامينات. وامتناع هذه الفيتامينات يسبب أمراض البلاجرا والبري بري والاسقربوط. والأمراض المعروفة بأمراض نقص التغذية. ولا شك ان الإنسان قد عاش ملايين السنين دون ان يدري بوجود هذه المواد المراوغة الضرورية لبقائه على قيد الحياة.
ولما كانت الأسفار البحرية الطويلة دون غذاء كاف تؤدي إلى مرض الاسقربوط، وقد وجد ان عصير الليمون ECUJ EMILIE هو علاج له، فقد كان ملاحو السفن الكبيرة في العهود الماضية يسمون (بعاصري الليمون).. وكان اولئك الملاحون القدامى لا يعرفون سبب الاسقربوط. وانما اكتشف هذا الدواء البسيط الرحالة فاسكو دي جاما حين كان ملاحوه يموتون في مدغشقر. ولكن مضى قرن من الزمان أو أكثر حتى عرفت الصلة الوثيقة بين فواكه الموالح وانقطاع مرض الاسقربوط، وزال هذا المرض الفتاك من أعالي البحار. وانقضى كذلك قرن آخر أو أكثر ليدرك الإنسان قيمة الفيتامينات في فواكه الموالح، ولكنه لم يكن يعلم وقتئذ ما تحتويه هذه الفاكهة.(1/82)
كذلك عاش الإنسان ملايين السنين قبل ان يعرف وظائف المعامل الكيموية الصغيرة المعروفو باسم الغدد الصماء، التي تمده بالتركيبات الكيموية الضرورية له ضرورة مطلقة، والتي تصنعها وتسيطر على وجوه نشاطه. وفضلا عن ذلك، فان تلك المواد التي بلغت من القوة ان جزءا من بليون منها يحدث آثارا بعيدة المدى، وهي مرتبة بحيث ينظم كل منها غيرها، ويضبطه ويوازنه. ومن المتفق عليه أنه إذا اختل توازن هذه الافرازات المعقدة تعقيدا مدهشا، فانها تحدث اختلالا ذهنيا وجسمانيا بالغ الخطر. ولوعمت هذه الكارثة لانتشرت المدينة وانحطت البشرية إلى حالة الحيوانات، هذا إذا بقيت على قيد الحياة.
على اننا إذا اكدنا هذه الضوابط والموازين والقيود وحدها، التي بدونها تتوقف الحياة كما نعهدها، فان بقاء الإنسان على قيد الحياة يواجهنا بمسألة حسابية تستحق قدرا كبيرا من العناية عند انصار المصادفة.(1/83)
الفصل الثالث عشر:الزمن
ان المعرفة الواعية بوجود الزمن لا يملكها إلا الحياة الحيوانية. والإنسان وحده هو الذي يقيسه. والعناصر التي تتكون منها جمع الأشياء المادية بندر ان تغغير على كر الدهور. وقد تتركب العناصر أو قد تفترق، ولكن الزمن ان يكن ضروريا لاتمام تغيير كيموي، فهو لا اهمية له بالنسبة للذرات. ان عصا من الديناميت تتحول من مادة صلبة إلى غاز في جزء من خمسة وعشرين ألفا من الثانية، ولكن الذرات نفسها لاتتغير.
وقد يرتفع جيل ثم ثتفتت، ولكن ذرةMOLECULE محبوسة في وسطه تنتظر في قلق ذلك الوقت الذي تحلل فيه كي تتحرر، وان تكن الكتروناتها تعزل فلكها باستمرار.
والكاميرا تلتقط الصورة في جزء من مائة جزء من الثانية فيتدخل اهتزاز قدرة الف وثمانمائة ميل ليحدث التغيير الكيموي. وهكذا تسجل الأفلام بالألوان كل جمال المنظر، ان الذرات تهتز ويعاد تنظيمها ولكنها لا تتغير.
والكائنات الحية تبدو كانها تقيس الزمن، ولكن الأشياء العاطلة من الحياة تسجله فحسب.(/)
والمياه المنحدرة من الانهار الجليدية في عصر الثلج قد خلقت طبقات من الصلصال تدل على كل سنة على حدة، وتنبئ بطريقة فجة عن مراتب درجات الحرارة التي كانت سائدة. كذلك الرواسب الكلسية المتدلية من سقوف الكهوف STALA??ES والأخرى التي تعلو ارضها باشكال مخروطية STALAGMITES تؤدي المهمة نفسها من مائة الف سنة أو تزيد، ولكنها لا تدر ي ماذا تفعل.
والراديوم والرصاص يغيران نسبهما في الصخور الصلبة، ويدلان على بليون سنة من استقرار الارض، ناهيك بما قبل ذلك. والزمن بالنسبة لكل الكائنات الحية، هو شيء لا يدرك كنهه، لان الحياة لها مدادها، والفرد ينتهي وجوده، واي شيء حي في حالة طبيعية، لا يقيس الزمن في وعي منه، ولكن الزمن يقيس الكائنات الحية، ويسود اوجه نشاطها من ميلادها إلى نهايتها.
وقد اتضح ان هناك شيئا يسمي الزمن البيولوجي (اي المختص بعلم الاحياء). ويبدو ان الزمن يسير في بطء بالنسبة للاطفال، على حين يسير بسرعة فائقة بالنسبة لكبار السن. وهذه الظاهرة المعروفة قد وجد انها قائمة على دورة الحياة التي للخلايا، وقد يمكن التعبير عن ذلك بابسط طريقة بالقول بان خلايا كل مخلوق حي تتطور تطورا سريعا عند بدء الحياة، ثم تبطئ عند اقتراب نهايتها. واذا تكلمنا عن ذلك من الوجهة البيولوجية، قلنا ان كثرة حوادث الخلايا التي تحدث في الطفولة تشعر الطفل يطول الزم، في حين ان بطء نشاط الخلايا في الكبر، تشعر الإنسان بان الزمن يمر سريعا ويبدو ان دورات الحياة لا علاقة لها بالزمن المطلق الذي نقيسه بحركات الاجرام السماوية.
ان الجرثومة (الميكروب) قد تتوالد في ساعة، والإنسان في عدة سنين، وذبابة (مايو) لا تستطيع قياس الزمن تحت الماء، ولكن كل جيل منها يعيش ساعة حياته السعيدة تحت الشمس. فهل يمكن ان يكون العلماء على صواب، واننا إذا وصلنا إلى الخلود، سنقيس الزمن بالحوادث، لا بالفلك؟(1/84)
والاسماك في البحر لها وقتها لوضع بيضاتها، ولكنها انما تطيع قانون للطبيعة ولا تدري لماذا. والبذر والحصاد لهما اوقاتهما، وقد تنضج مساحات من القمح في يوم واحد تقريبا. والاشجار تنقضي عليها سنوات حتى تحمل الثمر وحلقاتها السنوية تسجل اعمارها.
وقد وجد ان أنواعا معينة من الصراصير تصر كذا مرات في الدقيقة الواحدة طبقا لدرجة الحرارة، وقد احصى عدد مرات صريرها فوجد انها تسجل درجة الحرارة بالضبط مع فارق درجتين. وقد نظم وقت صرصور لمدة ثمانية عشر يوما فوجد انه يبدأ أغنية حبه أو فرحه قبل خمس دقائق من الساعة المحددة أصلا.
وهناك انواع معينة من البط في قناة بأوربا كانت تاتي كل يوم بانتظام إلى قنطرة في ساعة معينة وتدق جرسا اعد لها.
وللطيور وقتها المحدد للطيران نحو الجنوب، وكل فرد منها يقرر الانضمام إلى سربه، ثم تهاجر في يوم يكاد يكون معينا كل سنة. وذباب (مايو) يخرج من البحيرات ليطير طيران العرس، وتسقط ملايين منه في الشوارع في اليوم نفسه.
والجراد البالغ من العمر سبع عشرة سنة في ولاية نيو انجلاند يغادر شقوقه تحت الأرض، حيث عاش في ظلام مع تغيير طفيف في درجة الحرارة، ويظهر بالملايين في شهر مايو في سنته السابعة عشرة. وقد يختلف بعض المتعثر عن رفاقه بالطبع، ولكن الكثرة الساحقة تنضج بعد سنوات الظلام تلك، وتضبط موعد ظهورها باليوم تقريبا، دون سابقة ترشدها.
و (دودة البوص)(1) تدب بانتظام شديد من كل مكان إلى آخر، ولو استطاعت العد لأمكنها ان تقيس الوقت والمسافة بعدد قفزاتها، ولكنها ليست بحاجة إلى الحساب. فلا تضحكن من قفزتها، لاننا نحن البشر نقيس المسافات بالقدم.
ان كل كائن حي بوجه عام يراعي الزمن ويسجله بالعمل ولكنه لا يبدي دليلا على توقيت واع منه.
__________
(1) - دودة البوصة werm inch ؟؟ نوع من الدود تقفز مسافة بوصة في كل قفزة.
(المترجم)(1/85)
ويبدو ان الفصول، ودرجة الحرارة، والنهار والليل، والمد والجزر، كل اولاء تسطير على تتابع الحياة. وقد اوجد التطور عادات من قياس الوقت بغير وعي، ويبدو انها تعمل بطريقة ذاتية (أوتوماتيكية) مثل نبض القلب أو الهضم. وكثير من الناس الذين أعتادوا ان يستيقظوا في ساعة معينة، يمكنهم ذلك بدون (منبه)، وبصرف النظر عن الموعد الذي ينامون فيه. ولقد اضاف الإنسان الزمن إلى المادة التي لا زمن لها. والزمن لايمكن وزنه ولا تحليله.
وبالنسبة الينا يتعلق الزمن بهذه الكرة الارضية وحدها، ومقاييسنا للزمن قد لا تكون لها أية علاقة بالكون في مجموعة، ولكن الزمن يملي علينا بواعث غير واعية، بلغت من القوة انها تتحكم في كل شيء حي.
والانسان، كحيوان، ليس له شعور خالص بالزمن، ولكنه يستطيع ان يضبط إلى حد ما أثر الزمن في بواعثه والإنسان الفطري لا يعرف عمره إلا بالمقارنة مع الحوادث والاعداد بالنسبة لها انما تعني قليلا أو كثيرا. والإنسان العصري ينسى أيام ذكرياته السنوية، ولكن زوجته لا تنساها، فهل المرأة أكثر ارتقاء من الرجل؟ ام تراها ترقب التقاويم خفية؟ لا هي ولا هو يستطيعان ان يختارا اليوم الرابع والعشرين من مايوم بعد سبع عشرة سنة في الظلام، كما يفعل الجراد؟
لقد كان الإنسان الفطري يحب الزمن كايقاع،كما في القرن الرتيب على طبل. وفد رفعه التوقيت في رقصة، فوق مستوى الغريزة.
والإنسجام التام في الأنغام الموسيقية قد قادنا إلى الاستمتاع الرائع بالقطع الموسيقية الفائقة المتحدة الأنغام (هارمون)، وابقاع الاوركسترا، على ان الاهتزازات التي تعتري وحدة النغم في فترات من الوقت، لاتعد موسيقى إلا عند الإنسان وحده، كما يبدو.(1/86)
وقد ألزمت المدنية الإنسان زيادة الضبط والدقة في قياس الزمن وتسجيله. وادت الفصول المتعاقبة، والتي يحددها وقت بلوغ الشمس اقصى مداها شمالا، وأقصاه جنوبي خط الاستواء، وادت إلى تكوين دوائر درويد DRUID CIRCLES وتشييد الاهرام، وغير ذلك من علائم الوقت في نواحي العالم. وكان ظهور الشمس أو ظلها فوق هذه الأشياء عند علامة معينة – كانت في العادة علامة خفية – ينبئ الكاهن كم يوما يعد حتى يحين وقت الزرع أو يجيء وقت فيضان النيل. أما الآن فان التقاويم غير البالغة الكمال، تعلق في كل بيت، وبها نميز الأيام.
وفضلا عن ذلك اصبحنا نسجل الساعات والدقائق والثواني، والجزء من الألف من الثانية. وكلما قربنا من ضبط الوقت تماما، زادت حاجتنا إلى الاستزادة من معرفتنا بالكيميا، والطبيعة، والمعادن، ودرجة الحرارة، والفلك والرياضة، وخصوصا الرياضة العالية لاندحة عنها. ونحن نحسب جدول زمن الكواكب والاقما والمذنبات، ونعتمد على معرفتنا بالوقت في تنبؤنا بحركاتها، وتحديد الساعة والدقيقة لكسوف الشمس وخسوف القمر، في الماضي والحاضر. ونحن نعرف سرعة الضوء بالثانية، ونسجل طبائع الاجرام السماوية، التي تصحح نفسها بالتتابع لدرجة الدقة الابدية كما يبدو.
ان التطور قد وصل بالكائنات الحية إلى ما يقرب من المواءمة مع البيئة الموجودة، ولكنه من الناحية النظرية على الأقل لا يمكنه ان يمضي أبعد من ذلك، وان تقدم الإنسان فيما وراء ضروريات الحياة إلى ادراك الوقت ليخرج به عن الحدود التي يبدو ان التطور الطبيعي قد أقامها على حدة.
والإنسان إذ يقترب من الادراك الكامل للزمن، يقترب في الوقت نفسه من ادراك بعض قوانين الكون الابدية، ومن معرفة الخالق سبحانه وتعالى.
وما لم توجد حياة عقلية اخرى في بعض نواحي الكون، فان الإنسان ينفرد وحده بمعرفة الزمن، وسيطرته على الزمن تقترب به من شيء اعظم من المادة.فمن أين تأتي هذه القفزة العظيمة التي يقفزها الإنسان بعيدا عن الفوضى ، وعن جميع تركيبات المادة وعن كل الكائنات الحية الاخرى؟ انها لابد ان تأتي من شيء أسمى من المصادفة.(1/87)
الفصل الرابع عشر:قوة التصور
دعنا نترك العلم برهة، ونعمد إلى التصور!
يمكن الافتراض بان جميع الحيوانات ترى الحقائق والحوادث، والأشياء المادية، كما هي، وان رد الفعل الذهني عندها مباشر. ورد الفعل مائل في محاولتها الاستيلاء على الغذاء. والفرار من العدو، والاختفاء امام الخطر، أو التماس الراحة في مكان مأمون. ومن الممكن ان بعض الحيوانات التي بلغت درجة عالية من التقدم، كالكلاب مثلا قد تحلم، والحلم بالطبع هو نوع من التصور، خارج عن السيطرة عليه.
ان التصور هو من اعجب كفايات الانسان. فهو في تصوره قد يسافر على الفور إلى حيث يشاء. والخطيب قد ينتقل بسامعيه إلى حيث يريد. فهو إذا وصف في تصوه جزيرة مرجانية من جزر الهند الشرقية، فانه يرى بذهنه هذه الجزيرة، وسامعوه ايضا يرون باذهانهم سلسلة صخور مرجانية تحيط بها، ويرون الشاطئ المرجاني، وتغيرات لون المحيط، والسماء المطلة عليها، والنخيل التي تهزها الريح، وجزيرة في الوسط في حلة قشيبة من نباتات المناطق الحارة. وقد يصف الخطيب لهم ايضا البحيرة الرائقة، وهي زرقاء مثل صفحة السماء، صافية كالمرآة، واذا انتقل به الفكر إلى ابعد من ذلك، فقد يرى سامعوه اعماق تلك البحيرة.
ومن هذا المنظر من مناظر المناطق الاستوائية، يستطيع الخطيب ان ينتقل بسامعيه توا إلى نهر جليدي بالوانه الزرقاء والخضراء والبيضاء، وبحركته البطيئة. ويلفت أنظارهم إلى الجبال التي يغطي قممها الجليد والتي تقع خلف ذلك النهر وهي تسطع في أشعة الشمس بلون وردي جميل!(1/88)
ويمكنه كذلك ان يحلق به إلى نجم قصي حتى ليكاد يسمعك تصادم العناصر الطائرة، أو يكاد يشعرك بفيض الضوء والحرارة وهو مسرع إلى الكرة الارضية ليدفئها ويجيئها بالحياة، وليرى ساكنيها صورة بديعة للهلال وهو يضيء من خلال خضرة غابة معتمة.
ويستطيع ان يصور لذهنك، لا ما يحيط بك فحسب، بل كذلك الصورة التي تتخيلها لزوجتك وأطفالك في تلك اللحظة. وهنا يخذلك التصور، إذ ينتابه النقص، وتكون الصورة الحقيقية غير تلك التي تخيلتها..
ان قوة التصور هذه هي للطفل مصدر سعادة. فهو يستخدمها في لعبة كما يحلو له. وما عليك إلا ان تطلع على ما يعتقده الاطفال في أنفسهم حين اللعب معا: ان الغلام الذي يحمل على كتفه بندقية من الخشب، قد يعتقد انه جندي بالفعل.
والتعليم والتجربة والبيئة والمهارة، كل اولاء قد تحيل الخيال الرائع إلى قطعة فنية، سواء أكانت رواية تمثيلية ام قطعة موسيقية من نوع السيمفوني، ام لوحة رسم ام جهازا دقيقا. والأفكار انما هي بنات التصور، فهي اذن اسس العبقرية. واعظم نتاج العقل البشري – مثل الاختراعات والآلات الميكانيكية والرياضة العليا – انما هي التحقيق النهائي لآراء انبعثت عن التصور.
غير ان التصور يلقى دائما عوائق من البيئة المادية، فهو لذلك لا يبلغ إلا درجة قريبة من الصواب، حتى تحققه الملاحظة أو التجربة أو الاستكشاف. ولكن في عقولنا المادية نفسها، لا يقيم التصور اعتبارا لفكرة الزمن أو المسافة. فهو يصل توا إلى مقصده، سواء أكان نجما ام طلفك!
ولا تدحة لنا من ان نستنتج في النهاية، ان قوة التصور هي جد قريبة من القوة الروحانية. فاذا كان هناك خلود للروح، فهناك ايضا خلود للتصور.(1/89)
وكلما أدرك الفلاسفة العظام ذلك العنصر الاسمي في طبيعة الانسان، ونعني نشاط الروح، واجهتهم صعاب لا تواجه من هم أقل منهم تفكيرا. فهم إذا قالوا بخلود الروح صعب عليهم ان يحددوا مكانا لهذه الروح الخالدة. والشخص العادي يفكر بالطبع في الجنة كمكان، ويتصور الطرق الذهبية والابواب المصنوعة من اللؤلؤ. واذا كان مال الروح بعد انطلاقها هو الجنة، فان الإنسان بالبداهة قد يسأل: (واين الجنة؟ وكم تبعد عنا؟). اما الفيلسوف الذي له روح واعية، فانه لابد ان يخطر له ان الجنة ليست (مكانا) بالمعنى الذي يفهمه البشر، ولكنها اعجب كثيرا من ان تدركها عقولنا المحدودة، ومثل ذلك يقال عن الخلود واللانهائية. وفي الحق قد نضطر، حيال احتياجنا إلى تجرة بشرية تهدينا. إلى ان نظن ان الجنة قد تكون الفضاء نفسه!
وبالطبع قد يكره كل إنسان أو يخاف، فكرة كونه ساكنا وحيدا للفضاء.. وقد يتنبه العالم إلى انه إذا ارادت روحه ان تصل إلى نقطة في الفضاء، سواء أكانت جزيرة مرجانية أو سديما بعيداً، فان المسافة التي تقطعها، قصيرة كانت أو طويلة، لابد ان تستغرق فترة من الزمن. واذا كانت الرحلة يمكن القيام بها على شعاع من الضوء، فقد تستغرق الف سنة ضوئية للوصول إلى شمس قريبة نسبيا. ومن ثم فان الإنسان المقيد تقييدا شديدا بصلاته المادية البشرية بالبوصات والأميال وسنوات الضوء والزمن، يبدو له ان من غير المعقول ان توجد سعادته في الفضاء الابيض الذي لا حدود له، ولا في الأبدية المجهولة.(1/90)
وهنا يأتي ايجاء التصور الذي بلغ الكمال: اننا على ظهر الارض مرتبطون بما هو مادي، مقيدون بجميع تلك القياسات المادية التي اشرت اليها. ولكن يجب ان نذكر ان تصورنا – كما أسلفت القول – ينغلب فورا على المسافة، وينقلنا إلى كل مكان، ويأتي لنا بالهامات تقرب من الحقيقة وتفتح اذهاننا لضروب من الجمال تفوق الواقع. والوقائع التي تتولد عن الافكار يمكن ان تصبح حقائق مادية يراها الغير، كما قد يحلم المهندس المعماري ونضر مثلا على ذلك من الاهرام، و(تاج محل)(1)، أو ناطحة سحاب حديثة. واذا صح ان روح الإنسان التي اصبحت خالدة، لا ترى إلا الحقيقة، فان الروح لفورها، عن طريق التصور الذي بلغ حد الكمال، تبصر الأشياء كما هي. والأفكار هي حقائق – حقائق روحية – خالدة، سواء اتحققت ماديا في شكل تمثال، ام نطق بها كحقيقة تحدث انقلاباً في الفكر البشري.
والعالم الجيولوجي قد يتتبع، بتصوره الروحاني، طبقات الارض إلى مركزها المصهور. والذي يراه هو العلاقة المضبوطة التي لكل طبقة بقشرة الارض. وقد تقعد روح الإنسان هادئة فوق شاطئ جزيرة مرجانية، ويغني لها البحر المتلاطم. ويستطيع الإنسان بتصوره الكامل ان يرقب الغازات المتماوجه بالشمس البعيدة، وقد يجمل الزمن فيراها ابتداء من بدايتها السديمية، ويتتبع تطوراتها حتى بردت وأصبحت غير مرئية.
__________
(1) - (تاج محل) هو الضريح الجميل المشهور الذي بناه الامبراطور المسلم شاه جهان لزوجته بالهند.(1/91)
واذا كانت الروح الخالدة تستطيع رؤية الأشياء كما هي فانها تقدر ان تكتسب جميع الحواس المختلفة الرقيقة التي لكل الكائنات الحية. وبذا نستطيع ان تدخل في ميادين جديدة عجيبة للمعرفة والتجربة والشعور. وسترى ايضا – إذا شاءت – الذرات وهي تكون نفسها جزئيات، والجزئيات وهي تقهر الجراثيم المغيرة. وربما تستمتع بموسيقى جديدة، تتولد عن اهتزازات الاثير غير المحدودة وعن آلاف اجوبة النغم. وهناك ألوان أزهتى من ان تتحملها عيون البشرية تنتظر تطور قدرتنا على الاحاطة بها. وهناك مسرات لا نهاية لها، ترتقب روح الإنسان بعد تحررها من الجسد!
ولست ادري أي مدى تبلغه قوة التصور إذا اكتسبت في الحياة الاخرى. ولا يمكن ان نبحث هنا القيود التي سوف تحمي حقنا المقدس في العزلة الفردية.. وانما نعطي هنا مجرد فكرة. وكذلك لا نحاول ان نصف الجنة التي يتمناها كل فرد، ولكنا يمكننا على الأقل ان نزعم انه توجد اجوبة عن أمثال هذه الأسئلة التي يسألها البشر.
ان الروح الخالدة، التي لا يعوقها الزمن، قد ترى أحباءها، وقد تضمهم إلى صدرها. ولما كان تصورها الذي كل قد أصبح حقيقة روحانية، فانها تقدر ان ترى الحقيقة الكبرى، اعني الخالق عزوجل، والجنة هي حيث يشاء ان تكون.
فدعنا نعتقد ان تصورنا سيبلغ درجة الكمال، وان الصم سوف يسمعون بالفعل اصواتا جميلة تفوق ما يحلم به الانسان. وان البكم سوف يتكلمون بكل لغة، وان العمى سوف يبصرون كل عجيبة من عجائب خلق الله.
واذا ترتفع روح الإنسان الخالدة صوب الله، كاسبة في طريقها سعة من الفهم، إذ ترقى نحو الملكوت الاسمى، فان جمال خلق الله في العالم العادي يتباعد عن النظر كما تضمحل قصص الطفولة من ذهن الإنسان حيث ينضج وهكذا تهبط الكرة الارضية حقا إلى درجة التفاهة، مع تأمل الكون. واذن في روعة الادراك الروحاني قد تصبح المادة مثل الظل الذي يبهت امام الشمس المشرقة، وتصبح كلا شيء.وهكذا يستطيع الإنسان بكفايته الروحانية ان يتصور القدرة الالهية، ومع تطور روحانيته سيكون اقرب إلى ادراك جلال الخالق وقدرته وعظمته.(1/92)
الفصل الخامس عشر:استعراض
ان استعراض ما سبق قد يوضح للقارئ ان توكيد مواءمة الطبيعة للإنسان انما يبدو في كون انعدام تلك المواءمة يؤدي إلى امتناع الحياة. على ان المسائل الأخرى التي بحثت انما تؤكد تلك الحقائق البارزة في الطبيعة، والتي تدل على وجود برنامج بتقدم الانسان. وهناك براهين قوية على وجود هذا التوجيه المقصود وراء كل شيء. والهدف الذي يبدو اصوب من غيره هو إيجاد عقول ذكية.
ان الحقيقة المدهشة المماثلة في كون الإنسان قد عاش رغم التقلبات التي مر بها في ملايين سني التطور، هذه الحقيقة تتحدث عن نفسها. وقد رأينا ان العالم في مكانه الصحيح وان قشرة الارض مرتبة إلى مدى عشرة أقدام، وان المحيط لو كان اعمق مما هو بضع اقدام، لما كان لدينا اوكسيجين ولا نباتات. وقد رأينا ان الأرض تدور كل اربع وعشرين ساعة، وان هذا الدوران لو تأخر، لما امكن وجود الحياة. واذا زادت سرعة الأرض حول الشمس أو نقصت ماديا، تغير تاريخ الحياة - ان وجدت – تغيرا تاما، وقد رأينا ان هذه الشمس هي الوحيدة بين آلاف، التي جعلت حياتنا على الأرض ممكنة، وان حجمها وكثافتها ودرجة حرارتها وطبيعة أشعتها يجب ان تكون لها صحيحة، وهي صحيحة فعلا. ورأينا ان الغازات التي بالهواء، منظم بعضها بالنسبة لبعض، وان أقل تغيير فيها يكون قتالا. وهذه كلها ليست سوى قليل من العوامل الطبيعية التي لفتا اليها نظر القارئ.(1/93)
واذا نظرنا إلى حجم الكرة الارضية، ومكانها في الفضاء وبراعة التنظيمات، فان فرصة حصول بعض هذه التنظيمات مصادفة هي بنسبة واحد إلى مليون، وفرصة حدوثها كلها معا، لا يمكن حسبانها حتى بالنسبة للبلايين. وعلى ذلك فان وجود هذه الحقائق لا يمكن التوفيق بينه وبين اي قانون من قوانين المصادفة. فمن المحال اذن ان نهرب من القول بان مطابقات الطبيعة حتى توائم الإنسان هي اعجب كثيرا من مطابقات الإنسان ليلائم الطبيعة. وان استعراض عجائب الطبيعة ليدل دلالة قاطعة على ان هناك تصميما وقصدا في كل شيء، وان ثمة برنامجنا ينفذ بحذافيره طبقا لمشيئة الخالق جل وعز. وربما استطاع الإنسان ان يرى في هذا البرنامج سلسلة من الحوادث في تطور الكائنات الحية حتى انتهت إلى منح حيوان حياة، وتطوره إلى الإنسان ويبدو ان الإنسان كان في جميع العصور تحت العناية الربانية لنعتقد ايضا انه حت ارشاد رباني. وقد تطور البرنامج إلى بيئات قادرة على الاحتفاظ بمخلوق جسدي اهل لان يحمل ذهنا صالحاً.
ومادامت عقولنا محدودة، فاننا لانقدر ان ندرك ما هو غير محدود. وعلى ذلك لانقدر إلا ان نؤمن بوجو الخالق المدبر، الذي خلق كل الاشياء، بما فيها تكوين الذرات والكواكب والشمس والدم (جمع سديم). والزمن والفضاء هما عنصران في هذا الادراك. وان محاولة معرفة حقيقة الخالق لتحير اذكى الاذكياء. كذلك لا يمكننا ان نحسب ان الإنسان هو الغرض الوحيد أو النهائي، ولكنا يمكننا ان ننظر إلى الإنسان على انه اعجب مظهر لذلك الغرض. على أننا لسنا مضطرين لان نفهم ذلك كله حتى نتقدم كثيرا، وان زيادة العلم لتشير إلى هذه النهاية.
اننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع، إذ ندرك ان المادة كلها قد اصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربية. ولكن مما لا ريب فيه ان المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون، لان هذا العالم العظيم خاضع للقانون.(1/94)
ان ارتقاء الإنسان الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده، هو خطوة اعظم من ان تتم عن طريق التطور المادي، ودون قصد ابتداعي.
واذا قبلت واقعية القصد، فان الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازاً. ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز؟ لانه بدون اي يدار، لا فائدة منه. والعلم لا يعلل من يتولى ادارته، وكذلك لا يزعم انه مادي.
لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لانه نوقن بان الله قد منح الإنسان قبسا من نوره. ولايزال الإنسان في طور طفولته من وجهة الخلق، وقد بدأ يشعر بوجود ما يسميه (بالروح). وهو يرقي في بطء ليدرك هذه الهبة، ويشعر بغريزته بانها خالدة.
واذا صح هذا التعليل – ويبدو ان المنطق الذي يسنده لايمكن دحضه – فان هذه الكرة الارضية الصغيرة التي لنا، وربما غيرها كذلك، تكسب اهمية لم يحلم بها أحد من قبل. فعلى قدر ما نعلم، قد تولد عن عالمنا الصغير هذه اول جهاز مادي اضيف اليه قبس من نوره الله. وهذا يرفع الإنسان من مرتبة الغريزة الحيوانية إلى درجة القدرة على التفكير، التي لا يمكنه بها الآن ان يدرك عظمة الكون في اشتباكاته، ويشعر شعوراً غامضا بعظمة الله ماثلة في خلقة.(1/95)
الفصل السادس عشر:المصادفة
ان المصادفة تبدو شاردة، غير منتظرة، وغير خاضعة لاية طريقة من طرق الحساب. ولكن إذا كنا تدهشنا مفاجآتها فانها مع ذلك خاضعة لقانون صارم نافذ. والبنس الذي يضرب به المثل قد يقلب فيه الرأس عشر مرات أثناه جريه، ولا تنتظر فرصة قلبه المرة الحادية عشرة، ولكنها لا تزال فرصة واحدة من اثنتين، اما فرصة جرى عشرة رؤوس فانها ضئيلة للغاية.
ولتفرض ان معك كيسا يحتوي مائة قطعة رخام، تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء. والان هز الكيس وخذ منه واحدة: ان فرصة سحب القطعة البيضاء هي بنسبة واحد إلى مائة. والان اعد قطع الرخام إلى الكيس، وابدا من جديد: ان فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحد من مائة. غير ان فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف (المائة مضاعفة مرة).
والان جرب مرة ثالثة: ان فرصة سحب تلك القطعة البيضاء ثلاث مرات متوالية هي بنسبة مائة مرة عشرة آلاف، اي بنسبة واحد من المليون. ثم جرب مرة اخرى أو مرتين، تصبح الارقام فلكية.
ان نتائج المصادفة مقيدة بقانون تقييدا وثيقا، كما ان اثنين واثنين يساويان اربعة.
افرض ان جماعة يلعبون الورق، وانه بعد ان خلط (فنط) اعطى أحد اللاعبين الآس البستوني، واعطى ثان آس القلوب، وثالث اسباتي، واعطى الموزع الديناري، ثم تبع ذلك: الاثنان فالثلاثة وهكذا، حتى صار لدى كل لاعب المجموعة كلها بالترتيب العددي. لو حدث ذلك لما صدق أحد قط ان الورق لم يرتب من قبل على هذا الشكل.
ان الفرص ضد حدوث ذلك كبيرة لدرجة انه لم يحدث قط في جميع الالعاب منذ اخترعت لعبة الهويست، ولكن ربما يقال ان في الامكان ان يحدث ذلك فهل من المعقول ان يحدث!
افرض ان طفلا صغيرا طلب اليه لاعب شطرنج ذو خبرة ان يحاول ان يغلبه بعد أربع وثلاثين حركة. وافرض ان الطفل بمجرد المصادفة قد أتى كل حركة كما ينبغي بالضبط ليقابل بها كل حركة من ذلك اللاعب! لا شك ان الاخير سيظن ان ذلك حلم أو انه قد فقد عقله! ولكن ربما يقال ان ذلك ممكن ان يحدث! فهل من المعقول ان يحدث.(1/96)
وهنا أكرر القول بان قصدي من هذه المعالجة المصادفة هو ان أبين للقارئ بطريقة عملية واضحة، تلك الحدود الضيقة التي يمكن الحياة بينها ان توجد على الأرض، وان اثبت بالبرهان الواقعي ان جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن ان توجد على كوكب واحد في وقت واحد، بمحض المصادفة.
ان حجم الكرة الارضية، وبعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس واشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني اوكسيد الكربون وحجم النتروجين، وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كل اولاء تدل على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدل على انه طبقا للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد، مرة في بليون مرة. (كان يمكن ان يحدث هكذا)، ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد.
وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة، وحين نعترف كما ينبغي لنا، بخواص عقولنا التي ليست مادية، فهل في الامكان ان نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم اننا وكل ما عدانا نتائج المصادفة؟
لقد رأينا ان هناك 999ر999ر999 فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بان جميع الامور تحدث مصادفة. والعلم لا ينكر الحقائق كما بيناها. وعلماء الحساب يقرون ان هذه الارقام صحيحة. والان تقابلنا مقاومة عنيدة من العقل البشري، الذي يكره النزول عن افكار مستقرة.
لقد كان اليونان القدماء يعرفون ان الأرض كروية. ولكن مضى الفا سنة ليؤمن الناس بصدق هذه الحقيقة.
ان الافكار الجديدة تلقى معارضة وسخرية وذما، ولكن الحقيقة تبقى وتثبت.
لقد انتهت المناقشة. والقضية الآن معروضة عليكم انتم المحلفين، وسينتظر ما تحكمون به في ثقة وطمأنينة.(1/97)
الفصل السابع عشر:خاتمه
ان اول فصل (سفر التكوين) يقص قصة خلق الكون، ومنذ كتب لم تتغير خلاصته بما كسبه الإنسان من علم. وقد يدعو هذا القول إلى ابتسامة ترتسم على وجه العالم اللطيف، والى نظرة ارتياب مع الرضا من المؤمن الصادق. وانما قامت الاختلافات على تفاصيل لا تستحق الجدل.
والان هيا بنا نفحص الحقائق كما وردت في ذلك الفصل الاول من الكتاب المقدس:
( في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية).
هذه هي الفوضى الاصلية التي كانت للارض قبل تكوينها.
(على وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه).
كان معظم المحيطات في السماء كسحب لا يمكن اختراقها وكان الضوء لا يصل إلى الأرض.
(وقال الله ليكن نور فكان نور).
لقد انقشعت السحب، وكان الأرض قد بردت، وادى دوران الأرض إلى الليل والنهار.
(وقال الله ليكن جلد في وسط المياه).
ومن بين المياه التي كانت تغمر الأرض كلها، قامت القارات، وظهرت الأرض اليابسة، وظهر الهواء فوق الارض.
(وقال الله لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا).
ولا يفوتنك هنا ان النبات قد ذكر قبل الحياة الحيوانية (فعمل الله النورين العظيمين. و.. النجوم).
وأصبحت الشمس والقمر تريان من خلال السحب، ولما انقشعت السحب نهائيا، ظهرت النجوم (ايضا).
(وقال الله لتفض المياه زخافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء).
ان كل حياة متحركة بدأت في الماء، وجلد السماء هو الهواء.
(وقال الله لتخرج الأرض ذوات انفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش ارض كأجناسها. وكان كذلك).
والحيوانات الآن على وجه الأرض بعد ان صارت البحار مسكونة.
(وقال الله اني قد اعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه الأرض وكل شجر فيه ثمر يبزر بزرا لكم يكون طعاما).
وهذا القول قد ثبتت صحته حين اكتشف تركيب الكلوروفيل، وبين العلم ان كل نوع الحياة متوقف على النبات الاحضر(1)
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة البقرة).
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف للرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لايات لقوم يعقلون).
(المترجم).(1/98)
.
وحيال هذه الحقيقة البسيطة التي ذكرت على هذا الشكل، لا ينبغي لنا ان نختلف على التفاصيل الناتجة من الترجمة أو مما اقحمه الانسان، أو على السؤال عن كيفية خلق الله الكون أو الوقت الذي استغرقه خلقه. ان الحقائق التي ذكرت قد وردت خلال الدهور، وهي حقائق.
اننا نستطيع ان نضع نظرية تبين كيف تطورت جميع الكائنات الحية من الخلية الاصلية، ولكن العلم يقف عند هذا الحد، ويمكننا اننتفق مع ذوي العقول الممتازة الذين ادت بحوثهم المضنية إلى اعطائنا فكرة حقيقية عن الوقائع الطبيعية التي للحياة المادية، ولكنا غير ملزمين بالوقوف حيث وقفوا، لانهم لم يتبين لهم صنع الخالق في كل ذلك.
ان العلماء لا يقدرون ان يؤكدوا ولا ان ينفوا وجود الله، ولكن كل واحد منه في قرارة نفسه يشعر بقوة الاحساس والفكر والذاكرة والآراء التي تصدر كلها عن ذلك الكيان الذي نسميه بالروح. وهم جميعا يعلمون ان الالهام لا يأتي من المادة. وليس العلم حق في ان تكون له الكلمة الاخيرة بشأن وجود الخالق، حتى يقول تلك الكلمة بصفة نهائية والى الأبد.
ان كون الإنسان في كل مكان ومنذ بدء الخليقة حتى الان، قد شعر بحافز يحفزه إلى ان يستنجد بمن هو اسمى منه واقوى واعظم، يدل على ان الدين فطري فيه، ويجب ان يقر العلم بذلك. وسواء أحاط الإنسان صورة محفورة بشعوره بان هناك قوة خارجية للخير أو الشر ام لم يفعل فان ذلك ليس هو الامر المهم. بل الحقيقة الواقعة هي اعترافه بوجود الله(1)
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة الحشر):
(هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم).
(المترجم)(1/99)
. والذين اتيح لهم العلم بالعلم، لا يحق لهم ان ينظروا نظرة الازدراء إلى فجاجة اولئك الذين سبقوهم أو الذين لا يعرفون الآن الحق كما نراه. بل اننا على العكس يجب ان تاخذنا الروعة والدهشة والاجلال لاتفاق البشر في نواحي العالم على البحث عن الخالق والايمان بوجوده. أو ليست روح الإنسان هي التي تشعر باتصالها بالله؟ ام نخشى ان نقول بان الحافز الديني الذي لا يملكه إلا الإنسان هو جزء من الكائن الواعي كاية صفة اخرى من خصائصه؟ ان وجود الحافز هو برهان على قصد العناية الالهية ولا يقل شأنا عن عقل الإنسان المادي العجيب الذي يكمن فيه كونه الحساس.
ان اية ذرة أو جزئ ATOM OR MOLECULE لم يكن له فكر قط، واي اتحاد العناصر لم يتولد عنه رأي أبدا. واي قانون طبيعي لم يستطع بناء كاتدرائية. ولكن كائنات حية معينة قد خلقت تبعا لحوافز معينة للحياة، وهذه الكائنات تنتظم شيئا تطيعه جزئيات المادة بدورها، ونتيجة هذا وذاك كل ما نراه من عجائب العالم. فما هو هذا الكائن الحي؟ هل هو عبارة عن ذرات وجزئيات؟ اجل. وماذا ايضا؟ شيء غير ملموس، اعلى كثيرا من المادة لدرجة انه يسيطر على كل شيء، ومختلف جدا عن كل ما هو مادي مما صنع منه العالم، لدرجة انه لا يمكن رؤيته ولا وزنه ولا قياسه.
وهو فيما نعلم ليست له قوانين تحكمه. ان (روح الإنسان هي سيدة مصيره)، ولكنها تشعر بصلتها بالمصدر الاعلى لوجودها. وقد اوجدت للإنسان قانونا للأخلاق لا يملكه اي حيوان آخر ولا يحتاج اليه، فاذا سمى أحد ذلك الكيان بانه فضلة لتكوينات المادة، لا لشيء سوى انه لا يعرف ؟؟؟ بأنبوبة الاختبار، فهو انما يزعم زعما لايقوم عليه برهان. انه شيء موجود، يظهر نفسه باعماله، وبتضحياته، وبسيطرته على المادة، وعلى الاخص بقدرته على رفع الإنسان المادي من ضعف البشر وخطئهم إلى الإنسجام مع ارادة الله.(1/100)
هذه هي خلاصة القصد الرباني. وفيها تفسير للاشتياق الكامن في نفس الانسان، للاتصال بأشياء اعلى من نفسه. وفيها كشف عن اساس حافزه الديني. هذا هو الدين.
والعلم يعترف باشتياق الإنسان إلى أشياء اسمى منه، ويقر ذلك، غير انه لا ينظر نظرة جدية إلى مختلف العقائد والمذاهب، وان يكن يرى فيها طرقا تتجه إلى الله. والذي يراه العلم ويقدره جميع المفكرين، هو ان الاعتقاد العام بوجود الله له قيمة لا تقدر(1).
ان تقدم الإنسان من الوجهة الخلقية وشعوره بالواجب انما هما اثر من آثار الايمان بالله والاعتقاد بالخلود. وان غزارة التدين لتكشف عن روح الانسان، وترفعه خطوة خطوة، حتى يشعر بالاتصال بالله. وان دعاء الإنسان الغريزي لله بان يكون في عونه، هو أمر طبيعي، وان أبسط صلاة تسمو به إلى مقربة من خالقه.
ان الوقار، والكرم، والنبل، والفضيلة، والالهام، وكل ما يسمى بالصفات الالهية، ولا تنبعث عن الالحاد أو الانكار الذي هو مظهر مدهش من مظاهر الفرد، يضع الإنسان في مكان الله.
وبدون الايمان كانت المدنية تفلس، وكان النظام ينقلب فوضى، وكان كل ضابط وكل كبح يضيع، وكان الشر يسود العالم. فعلينا اذن ان نثبت على اعتقادنا بوجود الله، وعلى محبته، وعلى الاخوة الانسانية، فان ذلك يسمو بنا نحوه تعالى، إذ ننفذ مشيئته كما نعرفها، ونقبل تبعة اعتقادنا باننا بوصفنا خلقه، جديرون بعنايته الالهية.
ان خميرة التقدم الأخلاقي تسير بالإنسان سيرا بطيئا ولكن مؤكدا نحو زيادة الادراك لعلاقاته باخوانه، وقد وضعت مثلا عليا سوف ترتبط بها الانسانية في النهاية.
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة آل عمران).
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا، ولا يعتد بعضنا بعضا اربابا من عرف الله. فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون).
(المترجم).(1/101)
ان وجود الإنسان على ظهر الأرض هو بالنسبة للانهائية وقت جد وجيز. ونقصه الحالي ليس إلا حادثا في تطوره من مجرد تكوين مادي إلى ما يمكن ان يكونه.
النهاية - اي روح طاهرة.
وان الخالق عز وجل سيمنحنا الوقت اللازم، واذ تتقدم إلى الامام ندعو الله اخلص دعاء قائلين(1):
ربنا قدنا في طريق مقصدك الاعظم، وأرفعنا إلى مستوى الإنسجام الروحاني بعضنا مع بعض. وهبنا القدرة على ان نصبح جزءا من التقدم نحو الكمال الروحي، وقدنا إلى حيث نكون في خدمتك، وبذا تجعلنا أدوات لتنفيذ مشيئتك.
ان الإنسان لا يقوم وحده.
__________
(1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة آل عمران).
(ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان ان آمنوا بربكم فامنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد).
(المترجم).(1/102)
الله يتجلى في عصر العلم
المشتركون في الكتاب
المشرف على التحرير:
جون كلوفرمونسيما: عمل وقتاً ما قسيساً في احدى الكنائس المسيحية ولكنه بعد ان قضى مدة في الدراسات الدينية رأى ان يتحول إلى عمل آخر وصار مؤلفا وصحفيا في الموضوعات الدينية. ثم انصرف إلى دراسة المسائل السياسية والاجتماعية، وعني عناية خاصة بدراسة العلاقة بين العلم والدين على مر العصور.
ترجمة وتقديم:
الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان: الأستاذ بكلية التربية بجامعة عين شمس. حصل على بكالوريوس في العلوم مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1936، وعلى دبلوم معهد التربية العالي للمعلمين عام 1938، وعلى درجة الماجستير في التربية من جامعة كولومبيا بأمريكا عام 1947، وعلى درجة الدكتوراه في التربية من جامعة كولومبيا عام 1949. له مؤلفات كثيرة في التربية والعلوم.
المراجع:
الدكتور محمد جمال الدين الفندي: أستاذ الطبيعة الجوية بجامعة القاهرة. تخرج في قسم الطبيعة بكلية العلوم جامعة القاهرة عام 1935 مع مرتبة الشرف الأولى. حصل على دبلوم معهد الإرصاد من جامعة لندن عام 1938، ثم على دكتوراه في فلسفة العلوم عام 1946، كما حصل على جائزة الدولة في العلوم عام 1950. له بحوث كثيرة ومؤلفات عديدة في موضوع العلوم المبسطة. ترجم عدة كتب لمؤسسة فرانكلين.(2/1)
مقدمة المترجم:أهل لهذا الكون من اله؟
سؤال تتطلع العقول اليه وتتوق إلى معرفة الإجابة عنه، يوجهه الطفل الصغير إلى أبيه، ويضطرب به قلب الشاب الخائر، فيؤرق نومه وقد لا يجد من يقدم له الجواب الشافي، ويجول أحيانا في عقول ضعفاء الإيمان فيستعيذون بالله من وسوسة الشيطان، ويشغل بال كل إنسان خصوصا في فترات الضعف والمرض والحرمان.
قديما سأل الناس هذا السؤال وانقسموا، تبعا لما هداهم إليه تفكيرهم، حول شيعا. فمنهم من عبد الكون والشمس والقمر، ومنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الله الواحد القهار، كما ان منهم من أنكر والحد.
وسوف تتطلع العقول لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال في المستقبل، ما دام هنالك كون يسير وعقل يفكر وإنسان يعي وينظر.
ويلوح ان التطلع إلى هذا الأمر جزء من طبيعتنا، لا نستطيع ان ننكره أو نتخلى عنه أو نتغافل نداءه، ولموقف الإنسان من خالق هذا الكون وعقيدته فيه اثر بالغ في تفكيره وحياته وفلسفته ونظرته إلى الأمور وحالته النفسية و حاضره ومستقبله، بل في كيانه ووجوده.
ومع ما لهذا السؤال من أهمية، فان قليلا من الناس يحصلون على الإجابة الشافية عنه، فإذا توجه به الصغير إلى أبيه رده عن التفكير فيه ردا رقيقا، أو هو قد يلهيه بجواب لا ينفع ولا يشفع، معتمدا في ذلك على سهولة اقناعه، وإذا توجه به الشاب إلى صديقه أو مدرسه، فقل ان يجد عند أي منهما ما يشفي صدره ويرضي عقله المتفتح. وإذا توجه به إلى بعض رجال الدين فقد يخاطبونه بايآت من الكتب السماوية وأحاديث من كلام الرسل، ويدورون به في حلقة مفرغة مقللين من قيمة ما تكشفت عنه العلوم، ان ينكرون عليه استخدام الأساليب العلمية، فيزداد حيرة في أمره وينصرف على مضض عن التفكير في هذا الموضوع.
ان ما يريده الفرد المثقف في القرن العشرين عندما يسأل هذا السؤال عن خالق الكون لا بد ان يكون متمشياً مع أساليب ونتائج العلوم التي توصلت إلى أسراره الذرة وعزت الفضاء وكشف من سنن الكون وأسراره وظواهره ولا تزال تكشف ما يحير العقول. ان السائل يريد جواباً يقوم على استخدام المنطق السليم ويدعوه إلى الايمان بربه إيمانا يقوم على الاقتناع لا على مجرد التسليم.
وهذا هو عين ما جاء في هذا الكتاب، فلقد تقدم المشرف على تحرير الكتاب بالسؤال التالي: (هل تعتقد في وجود الله؟ وكيف دلتك دراستك وبحوثك عليه؟(2/2)
وجهه إلى طائفة من العلماء المتخصصين في سائر فروع العلوم من الكيمياء إلى الفيزياء إلى الأحياء إلى الفلك إلى الرياضيات إلى الطب إلى غير ذلك..
واجاب هؤلاء العلماء على سؤال المحرر، مبينين الأسباب العلمية التي تدعوهم إلى الإيمان بالله. ويشتمل هذا الكتاب على اجابات طائفة من هؤلاء العلماء ننقلها إلى أبناء الوطن العربي، ليروا ناحية من نواحي التفكير الحديث، ربما تكون مصدقة لما يقرأون في الكتب السماوية التي بين أيديهم ومثبتة لايمانهم بالله تعالى.
لقد بين اولئك العلماء لنا كيف تدلهم قوانين الديناميكا الحرارية، على انه لا بد ان يكون لهذا الكون من بداية، فاذا كان للكون بداية فلا بد له من مبدئ من صفاته العقل والإرادة واللانهاية.
نعم ان هذا الخالق لابد ان يكون من طبيعة تخالف طبيعة المادة التي تتكون من ذرات تتألف بدورها من شحنات أو طاقات لا يمكن بحكم العلم ان تكون أبدية أو أزلية. وعلى ذلك فلا بد ان يكون هذا الخالق غير مادي وغير كثيف، لابد ان يكون لطيفا متناهيا في اللطف، خبيرا لا نهاية لخبرته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. واذا كنا نريد ان نصل إليه، فسبيلنا إلى ذلك لا يكون بحواسنا التي لا تستطيع ان ترى إلا الماديات الكثيفة، واذا كنا نريد ان نلمس وجوده فان ذلك لا يمكن ان يتم داخل المعامل أو في أنابيب الاختبار، أو باستخدام المناظر المكبرة أو المقربة، وانما باستخدام العنصر غير المادي فينا كالعقل والبصيرة. وعلى من يريد ان يدرك آيات ذاته العلية ان يرفع عينيه من الرغام ويستخدم عقله في غير تعنت أو تعصب، ويتفكر في خلق السموات والأرض ( إنّ في خَلقِ السّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللّيلِ والنّهار لأياتً لأولىِ الألبابِ) (ال عمران: 190)(2/3)
ان فروع العلم كافة تثبت ان هنالك نظاما معجزا يسود هذا الكون، أساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، والتي يعمل العلماء جاهدين على كشفها والإحاطة بها، وقد بلغت كشوفنا من الدقة قدرا يمكننا من التنبؤ بالكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر قبل وقوعها بمئات السنين.
فمن الذي سن هذه القوانين وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود، بل في كل ما هو دون الذرة عند نشأتها الأولى؟ ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق والانسجام؟ من الذي صمم فأبدع وقدر فاحسن التقدير؟ هل خلق كل ذلك من غير خالق ام هم الخالقون؟ ان النظام والقانون وذلك الإبداع الذي نلمسه في الكون حيثما اتجهت أبصارنا يدل على انه القدير وعلى انه العليم الخبير من وراء كل شيء.(2/4)
ويرد العلماء في هذا الكتاب على أولئك الذين يدعون ان الكون نشأ هكذا عن طريق المصادفة، فيشرحون لنا معنى المصادفة ويشيرون إلى استخدام الرياضة وقوانين المصادفة لمعرفة مدى احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر. فاذا كان لدينا صندوق كبير مليء بآلاف عديدة من الاحرف الأبجدية، فان احتمال وقوع حرف الألف بجوار الميم لتكوين كلمة أم قد يكون كبيرا، اما احتمال تنظيم هذه الحروف لكي تكون قصيدة مطولة من الشعر أو خطابا من ابن إلى أبيه فانه يكون ضئيلا ان لم يكن مستحيلا. ولقد حسب العلماء احتمال اجتماع الذرات التي يتكون منها جزيء واحد من الاحماض الأمينية (وهي المادة الأولية التي تدخل في بناء البروتينات واللحوم) فوجدوا ان ذلك يحتاج إلى بلايين عديدة من السنين، والى مادة لا يتسع لها هذا الكون المترامي الاطراف. هذا لتركيب جزيء واحد على ضآلته، فما بالك بأجسام الكائنات الحية جميعا من نبات وحيوان. وما بالك بما لا يحصى من المركبات المعقدة الاخرى. وما بالك بنشأة الحياة وبملكوت السماوات والأرض. انه يستحيل عقلا ان يكون ذلك قد تم عن طريق المصادفة العمياء أو الخبطة العشواء. لابد لكل ذلك من خالق مبدع عليم خبير، أحاط بكل شيء علماً وقدر شيء ثم هدى.(2/5)
ويبين الكتاب فوق ذلك مزايا الايمان بالله والاطمئنان اليه والالتجاء إلى رحابه في الصحة والمرض، وكلما نزلت بالإنسان ضائقة أو تهدده خطر أو أوشك أمل لديه ان يضيع. وقد لمس الكثيرون حلاوة الايمان في أنفسهم، بل بل ولزومه لهم ولغيرهم فتشبثوا به وحرصوا عليه حتى ذهب بعض العلماء إلى ان بالإنسان حاجة بيولوجية تدفعه إلى الإيمان بالله: فطرَتَ الله الّتي فَطرَ الناسَ عَلَيها) {الروم: 30} ليس ذلك فحسب، بل ان الكتاب يذهب ليبين كيف ان الإيمان بالله هو أصل الفضائل الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية جميعا، فبدون هذا الايمان يصبح الإنسان غالباً حيواناً تحكمه الشهوة ولا يرده ضمير، خصوصا إذا لقن بعض المبادئ (الخالية من الإنسانية).
الدكتور
الدمرداش عبد المجيد سرحان(2/6)
نشأة العالم:هل هو مصادفة أو قصد؟
كتبها: فرانك ألن
عالم الطبيعة البيولوجية
ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل – أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتويا بكندا من سنة 1904 إلى سنة 1944- اخصائي في أبصار الألوان والبصريات الفسيولوجية وإنتاج الهواء السائل، وحائز على وسام توري الذهبي للجمعية الملكية بكندا.(2/7)
كثيرا ما يقال ان هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق، ولكننا اذا سلمنا بان هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته؟ هنالك اربعة احتمالات للاجابة عن هذا السؤال: فاما ان يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال، وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده، واما ان يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم، واما ان يكون أبديا ليس لنشأته بداية، واما ان يكون له خالق.
اما الاحتمال الاول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والاحساس، فهو يعني ان احساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو ان يكون وهما من الأوهام ليس له ظل من الحقيقة. وقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جيبز الذي يرى ان هذا الكون ليس له وجود فعلي، وانه مجرد صورة في أذهاننا. وتبا لهذا الرأي نستطيع ان نقول اننا نعيش في عالم من الاوهام، فمثلا هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات، وبها ركاب وهميون وتعبر انهارا لا وجود لها وتسير فوق جسور غير مادية.. الخ، وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال. اما الرأي الثاني، القائل ان هذا العالم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم، فهو لا يقل عن سابقه سخفا وحماقة، ولا يستحق هو ايضا ان يكون موضعا للنظر أو المناقشة.(/)
والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون، وذلك في عنصر واحد هو الازلية. واذا فنحن إما أن نسبب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما ان ننسبها إلى إله حي يخلق. وليس هنالك صعوبة فكرة في الأخذ باحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الاخر، ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على ان مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا وانها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الاجسام تحت درجة من الحرارة بالغلة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الاجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت. أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على ان اصل الكون ان أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو اذا حدث من الأحداث. ومعنى ذلك انه لابد لاصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولابد ان يكون هذا من صنع يديه.
ان ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على اساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزيء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ويزيد من اختلاف الانواع النباتية أكثر مما لو كانت الأرض ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير (يزيد على 500 ميل).(2/8)
ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكشافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة ميلا الينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية، والغلاف الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يمكن ان يتكاثف مطرا يحيي الأرض بعد موتها، والمطر مصدر الماء العذب، ولولاء لاصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى ان الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض نمثل عجلة التوازن في الطبيعة.
ويمتاز الماء بأربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والأنهار، وخاصة حيثما يكون الشتاء قارسا وطويلا، فالماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة. وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة اربعة مئوية. والثلج أقل كثافة من الماء مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات والأنهار يطفو على سطح الماء لخفته النسبية، فيهيئ بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة. وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الاحياء التي تعيش في البحار.
أما الأرض اليابسة فهي بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الأرضية، فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها النبات ويمثلها ويحولها إلى انواع مختلفة من الطعام يفتقر اليها الحيوان. ويوجد كثير من المعادن قريبا من سطح الارض، مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة ونشأة كثير من الصناعات والفنون. وعلى ذلك فان الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة. ولا شك ان كل هذا من تيسير حكيم خبير، وليس من المعقول ان يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء. ولقد كان أشعياء على حق عندما قال مشيراً إلى الله: (لم يخلقها باطلاً، للسكن صورها) (45 : 18).(2/9)
وكثيرا ما يسخر البعض من صغر حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لا نهائي. ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر، أو حتى لو ان قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت. اما لو كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة أضعفا واصبحت جاذبيتها للاجسام ضعف ما هي عليه، وانخفض تبعا لذلك ارتفاع غلافها الهوائي، وزاد الضغط الجوي من كيلو غرام واحد إلى كيلو غرامين على السنتيمتر المربع، ويؤثر كل ذلك أبلغ الاثر في الحياة على سطح الأرض، فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعا كبيراً، وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصا ذريعاً، وبذلك تعيش الجماعات الانسانية منفصلة أو في أماكن متنائية، فتزداد العزلة بينها ويتعذر السفر والاتصال، بل قد يصير ضربا من ضروب الخيال.
ولو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للاجسام التي عليها 150 ضعفا، ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي إلى اربعة أميال، ولاصبح تبخر الماء مستحيلا، ولارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على 150 كيلو غراماً على السنتيمتر المربع، ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حالياً رطلا واحدا إلى 150 رطلا، ولتضاءل حجم الانسان حتى صار في حجم ابن عرس أو السنجاب، ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات.(2/10)
ولو ازيحت الارض إلى ضعف بعدها الحالي عن الشمس، لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية، وقطعت الأرض دورتها حول الشمس في وقت اطول، وتضاعفت تبعاً لذلك طول فصل الشتاء، وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض. ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليها الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال، وتضاعفت سرعتها المدارية حول الشمس، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي اذا كانت هناك فصول مطلقا، ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
وعلى ذلك فان الارض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها، تهيئ للإنسان أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا.
فاذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق فلا بد ان تكون قد نشأت عن طريق المصادفة. فما هي تلك المصادفة اذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟
ان نظريات المصادفة والاحتمال لها الان من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق، وتضع هذه النظريات امامنا الحكم الاقرب إلى الصواب مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم.. ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول انها تحدث بالمصادفة والتي لا نستطيع ان نفسر ظهورها بطريقة اخرى (مثل قذف الزهر في لعبة النرد). وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن ان يحدث بطريق المصادفة، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وان نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان، ولننظر الان إلى الذي تستطيع ان تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:(2/11)
ان البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر هي: الكربون، والايدروجين، والنيتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني، الواحد 40000 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 92 عنصرا موزعه كلها توزيعا عشوائياً، فان احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزئيا من جزئيات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي ان تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزء، ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد.
وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا فوجد ان الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد الا بنسبة 1 إلى 10 160، اي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة. وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي ان تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد اكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصي من السنوات قدرها العالم السويسري بانها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين (10 243 سنة).
ان البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمنية. فكيف تتألف ذرات هذه الجزئيات؟ انها اذا تآلفت بطريقة اخرى غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الاحيان سموما، وقد حسب العالم الانجليزي ج.ب. ليثز J. B. Leathes الطرق التي يمكن ان تتألف بها الذرات في احد الجزئيات البسيطة من البروتينات فوجد ان عددها يبلغ البلايين (10 48). وعلى ذلك فانه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحداً.(2/12)
ولكن البروتينات ليست الا مواد كيماوية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة الا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئا. انه العقل اللانهائي، وهو الله وحده، الذي استطاع ان يدرك ببالغ حكمته ان مثل ذلك الجزيء البروتيني يصلح لان يكون مستقرا للحياة فبناه وصوره وأغدق عليه سر الحياة.(2/13)
اختبار شامل
كتبها: روبرت موريس بيج
عالم الطبيعة
حاصل على دكتوراه في العلوم من جامعة هاملين – اشتغل في معمل البحوث لبحرية الجيش الامريكي منذ سنة 1927 – كان اول من اكتشف الرادار في العالم سنة 1934، سجل نحو 37 بحثا معظمها في الرادار، الف كثيرا من الكتب – يعمل في الوقت الحاضر مديراً مساعدا في معامل بحوث البحرية الامريكية.(/)
يتطلب اختبار صحة فرض من الفروض تهيئة ظروف معينة تناسبه وذلك، للحصول على نتائج يوصل اليها هذا الفرض، على اساس انه فرض سليم. وعلى ذلك فانه لاختبار صحة فرض معين ينبغي ان تتوافر شروط ثلاثة:
ظروف معينة.
تحقيق نتائج تتفق مع سلامة هذا الفرض.
التسليم بصحة هذا الفرض حتى يثبت عكس ذلك.
اما الشرطان الأولان، فلا يدور حولهما جدال، وأما الشرط الثالث فانه كثيرا ما يهمل عند اختبار صحة الفرض رغم أهميته البالغة.
فعندما كانت السفن قديما تصنع من الخشب، بسبب شيوع الاعتقاد انه لا بد ان تصنع هذه السفن من مواد أقل كثافة من الماء لكي تستطيع ان(/)
تطفو، ظهر فرض أو اقتراح جديد يتخلص في انه من الممكن ان تصنع سفن من الحديد الذي هو اكثر كثافة من الماء، وتستطيع هذه السفن برغم ذلك ان تطفو فوق الماء. وقد انكر احد الحدادين صحة هذا الفرض وذهب إلى ان السفن المصنوعة من الحديد لا يمكن ان تطفو على الماء لان الحديد لا يطفوا على الماء، وأيد هذا الحداد وجهة نظره بان أخذ قطعة من الحديد على صورة حدوة الفرس والقاها في الماء فغاصت فيه. ان هذا الحداد لم يشأ ن يسلم ولو مؤقتا بصحة هذا الفرض، فاعماه ذلك عن ان يفكر في تجربة مناسبة لاختباره، ربما أوصلته إلى نتيجة تختلف عن النتيجة التي وصل اليها، ولو انه سلم ولو مؤقتا بصحة هذا الفرض لالقى في الماء اناء أو حوضا من الحديد بدلا من حدوة الفرس.(2/14)
وفي بعض الاحيان يتطلب اختبار صحة الفروض ملاحظات قد لا تتوافر أو تتيسر لشخص معين، فاذا فرضنا مثلا ان شخصا لا يستطيع ان يلاحظ الا الأشياء التي تتكون طافية على وجه المحيط، فان مثل هذا الشخص يعجز عن مشاهدة الاشياء التي تطير في الهواء أو تغوص في الماء، فبينما هو يدرك الأشياء التي تسبح على سطح الماء، كالسفن الكبيرة والصغيرة والبقايا العضوية الطافية والطيور عندما تحلق فوق سطح الماء، فان الطيور والطائرات التي تطير في الهواء، والأسماك والغواصات التي تسبح في جوف الماء، تعتبر غير موجودة بالنسبة اليه. فاذا ظهر لهذا الشخص طائر يكون قد هبط من الهواء إلى سطح الماء، أو جسم مغمور خرج من جوف الماء إلى سطحه، فان ذلك يعتبر بالنسبة لهذا الشخص بمثابة ظهور شيء جديد من العدم. وبالعكس اذا اختفى جسم كان على سطح الماء بان طار في الهواء أو غاص في الماء، فان هذا الشخص يعتبر هذه الظاهرة فناء أو زوالا. وهو سوف يجد ان هنالك بعض الظواهر يستطيع ان يفهمها فهما واضحا، وتلك هي الظواهر التي تتصل بالاجسام الطافية على سطح الماء. ولكن سوف تصادفه ظواهر اخرى لا يستطيع لها فهما أو ادراكا، وتلك هي التي تتعلق بظهور بعض الاجسام فجأة على سطح الماء أو اختفائها فجأة من فوق سطحه.(2/15)
فاذا قابل هذا الشخص شخصا آخر يستطيع بطريقة ما ان يلاحظ الأشياء التي تطير في الهواء، أو تتحرك في جوف الماء، فان كثيرا من الظواهر التي شاهدها الشخص الأول وعجز عن ان يجد لها تفسيرا يمكن شرحها وإدراك أسرارها بمساعدة الشخص الثاني، ومع ذلك فان الشخص الاول قد يواجه بعض الصعوبات في ادراك بعض المعاني الأساسية التي تعينه على فهم الموضوع مثل الطيران في الهواء أو الغوص في الماء. وسوف يميل هذا الشخص بطبيعة الحال إلى التشكك في قول صاحبه حتى تتبين له بطريق من الطرق صحة المعلومات التي يقدمها له. وقد لا يكون ذلك أمرا هيناً، ورغم ذلك فان صاحبه يستطيع ان يثبت له صدقه بان يتنبأ له في ضوء ما يراه (مما يعجز الشخص الاول عن ملاحظته) ببعض الظواهر والأشياء التي تتحقق فعلا. فهو يستطيع ان يقول له مثلا: ان طائرا سوف يهبط إلى سطح الماء، ثم لا يلبث الطائر ان يهبط فعلا لكي يختطف سمكة من الماء. وتعتبر صحة التنبؤ في هذه الحالة دليلا على صدق صاحبه فيما يشاهده ويقوله.
ولننتقل بعد هذه المقدمة الموجزة إلى فكر وجود الله، ودعنا نعتبرها الان كما يعتبرها البعض مجرد فرض. فاذا أردنا ان نختبر صحة هذا الفرض، فلابد ان نسلم أولا، ولو مؤقتا، بانه فرض صحيح سواء أكنا نعتقد في ذلك ام لا نعتقد، فاذا لم نسلم بصحة هذا الفرض فاننا نعجز عن الوصول إلى اختبار حقيقي له.(2/16)
ولابد لنا ان نسلم فوق ذلك بما يسلم به الكثيرون من اي قدرتنا على الملاحظة لا تستطيع ان تمتد لغير جزيء ضئيل نسبياً من الحقيقة الكلية. فالاله الذي نسلم بوجوده لا ينتمي إلى عالم الماديات، ولا تستطيع حواسنا المحدودة ان تدركه، وعلى ذلك فمن العبث ان نحاول اثبات وجوده باستخدام العلوم الطبيعية لانه يشغل دائرة غير دائرتها المحدودة الضيقة. فاذا لم يكن للاله وجود مادي فلابد ان يكون ذلك الاله روحانيا، أو هو يوجد في عالم من الحقيقة غير ذلك العالم الفيزيقي على اية حال، وبذلك فانه لا يمكن ان تحده تلك الأبعاد الثلاثة، أو ان يكون خاضعا لقيود الزمان التي نعرفها، ولابد لنا ان نسلم ان هذا الكون المادي الذي يخضع لقيود الزمان والمكان ليس الا جزءا يسيرا من الحقيقة الكبرى التي ينطوي عليها هذا الوجود. وليس مثل ذلك الا كمثل سطح البحر بالنسبة للشخص الذي اشرنا اليه في بدء الحديث، والذي يعتبر سطح البحر بالنسبة له جزءا ضئيلا من العوالم الاخرى الموجودة فعلا والتي لا يستطيع ان يدركها بسبب قصوره ولكنه قد لا يعجز عن الاستدلال عليها.
فاذا سلمنا بوجود الله فلا بد ان نسلم بقدرته على ان يكشف لنا بعض الحقائق الغيبية التي لا نستطيع ان ندركها لقصورنا. واننا لنجد في الكتب السماوية كثيرا من المعلومات حول العالم الروحاني. وقد وصلت هذه المعلومات الينا عن طريق بعض البشر من الرسل الذين كشف الله لهم من عوالم الغيب ما لم يكشفه لغيرهم. ولا يمكن ان تكون هذه النبوءات خاضعة لقيود الزمان التي نعرفها. وليس التنبؤ بالغيب هو الدليل الوحيد على صدق الرسل، وكلننا نشير اليه كمثال لطريقة من طرق الاستدلال على صحة ما جاءوا به.(2/17)
وقد سبقت المسيح (1)(عليه السلام) مثلا نبوءات عديدة جاءت قبله بمئات السنين وتناولت كثيرا من المعلومات حول شخصه وطبيعته وما سوف يقوم به أو يحدث له. وكلها من الاشياء التي عجزت العلوم حتى اليوم ان تجد لها تفسيرا، وقد أيدت الأيام وأثبت التاريخ صدق هذه النبوءات جميعا، فقامت بذلك دليلا على صحة رسالته. ان الايمان بوجود الله من الأمور الخاصة التي تنبت في شعور الانسان وضميره، وتنمو في دائرة خبرته الشخصية.
واذا أراد الإنسان ان يتثبت من صحة المعلومات الغيبية التي يخبره بها شخص آخر، فلا بد ان يشترك في التجربة ويتهيأ لها حتى يستطيع ان يحكم عليها. وكذلك الحال فيما يتعلق بالايمان بالله، فلا بد ان يدرس الإنسان أولا نوع العلاقات التي يمكن ان تكون بينه وبين خالقه، وما ينبغي ان تكون عليه هذه العلاقات، فاذا درس الإنسان الشروط التي يلزم توافرها لقيام هذه العلاقة واتجه بقلبه وكليته نحو تحقيق هذه الشروط فانه سوف يشاهد الحقيقة كاملة، عندئذ يغمر الايمان قلبه ويؤثر في حياته ولا يدع في نفسه مجالا للشك، واذا ذاك يكون الله أقرب اليه من نفسه ويصير إيمانه به يقيناً.
درس من شجيرة الورد
كتبها: ميربت ستانلي كونجدن
عالم طبيعي وفيلسوف
دكتوراه من جامعة بورتون – أستاذ سابق باحدى كليات فلوريدا – عضو الجمعية الأمريكية الطبيعية – اخصائي في الفيزياء وعلم النفس وفلسفة العلوم والبحوث الانجيلية.
__________
(1) - وكذلك تنبأ السيد المسيح بمحمد (ص) كما جاء في قول الله تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد..} سورة الصف، آية: 6
(المترجم)(2/18)
منذ سنوات عديدة رأيت شجيرة ورد جميلة مزهرة نمت على جانب طريق منعزلة في بنسلفانيا. وعندما مررت بالمكان بعد فترة من الزمن، رأيت بجوار الشجيرة أنقاض كوخ صغير متهدم وقد غطتها الأعشاب وبعض البقايا النباتية. وكانت أقرب المساكن تبعد عن هذا المكان بما لا يقل عن نصف ميل. وقد استبعدت من خاطري ان تكون هذه الشجرة قد نمت بجوار الكوخ بمحض المصادفة من بذرة حملتها الريح أو الماء أو بعض الحيوانات الاخرى، أو من جزيء من ساق الورد قذفت به الاقدار إلى هذا المكان. لقد أدركت بالبداهة انه لابد ان تكون هذه الشجيرة قد زرعها انسان لينتفع بها بجوار ذلك الكوخ، ومع انني لم أر هذه الشجيرة عند زراعتها وليس لدي مرجع استدل به على تاريخها فانني لم أشك في أنها قد زرعت في مكانها وتحت ظروفها بوساطة الانسان.
هذا نوع من الاستدلال. وقد نستبعد في بادئ الامر استخدام هذا النوع من المنطق أو التفكير في ميادين العلوم. ولكننا سوف تصدمنا الحقيقة، وهي ان هذا الأسلوب من أساليب الاستدلال هو الأسلوب الوحيد الذي قام عليه علم من اقدم العلوم الطبيعية، الا وهو الفلك. فنحن لا نستطيع ان نخضع المجرات والنجوم والسيارات في أفلاكها لحكم التجربة، كما اننا لا نستطيع ان نتخلص من آثار الاشعة الكونية التي تفصل بيننا وبين هذه الاجرام السماوية عند دراستها، بل لا نستطيع ان نعدل ما يطرأ على الموجات الضوئية والصوتية المنبعثة من هذه الاجرام من تغيرات بسبب المسافات الشاسعة التي تفصل بيننا وبينها.(2/19)
ومع كل ذلك فان هذه الظروف لم تحل بيننا وبين دراسة هذه الكوكب والنجوم في سمواتها، والاستفادة من النظريات والقوانين التي وصلنا اليها في دراسات اخرى مشابهة في ميادين العلوم. وقد وصلنا بفض كل ذلك إلى كثير من المعلومات والحقائق عن هذه العوالم التي لا نستطيع ان نراها الا من بعد، ولا نستطيع ان نمحصها الا تحت ظروف صعبة معقدة. وما بالنا نذهب بعيدا وقد درسنا الذرة واستخدمنا ما نعرفه من قوانين الكتلة والطاقة في استنباط صفاتها وتركيبها وخواصها، ونحن مع ذ…لك لم نر الذرة حتى اليوم بطريقة مباشرة. ولقد ايدت القنبلة الذرية الأولى ما وصلنا اليه من قوانين ونظريات حول تركيب الذرة غير المنظورة ووظائفها. اننا نستدل على هذه الظواهر جميعا بآثارها، معتمدين في ذلك على الاستدلال المنطقي الصرف وعلى ما لدينا من حقائق اولية بسيطة تتعلق بهذه الظواهر والأشياء. واننا لنستطيع ان نستخدم نفس المنطق الاستدلالي في ادراك وجود الله تعالى ومعرفة صفاته. اننا نستطيع ان نستخدم المنطق لكي ندرك ان لخالق هذا الكون صفات تناظر الصفات التي نجدها في أنفسنا، فلابد ان يكون سبحانه متصفا بالحكمة والإرادة والقدرة.
ومما لا شك فيه اننا نحتاج في محاولتنا لوصف الخالق ومعرفة صفاته إلى مصطلحات ومعان تختلف اختلافا بينا عن تلك التي نستخدمها عندما نصف عالم الماديات، فالصفات المادية والتفسيرات الميكانيكية التي تقوم على نظريات السلوكيين تعجز عن ان تعيننا على تحقيق هذه الغاية. وبخاصة بعد ان تبين لنا ان هذا الكون الذي نعيش فيه لا يمكن ان يكون مادة صرفا وانما هو مادة وروح، أو مادة وغير مادة. ولا نستطيع ان نصف الاشياء غير المادية بالأوصاف المادية وحدها.(2/20)
وكثيرا ما طلبت إلى تلاميذي ان يصفوا لي شيئا غير مادي مثل (الفكرة)، وطلبت اليهم ان يبينوا لي التركيب الكيماوي للفكرة وطولها بالسنتيمترات، ووزنها بالغرامات ولونها وضغطها وان يصفوا لي شكلها وصورتها. وقد عجزوا جميعا عن تحقيق ذلك. وصار من الواضح انه لكي نصف أمرا غير مادي لا بد من استخدام مصطلحات وأوصاف اخرى تختلف اختلافا كبيرا عن المصطلحات التي نستخدمها في دائرة العلوم.
اننا لا نستطيع ان نسخر من هذه المشكلة أو نفر منها. فلو لم يكن هذا الكون ثنائيا لاستطعنا ان نعرف الفكرة تعريفا ماديا صرفا، وهو ما لم يحدث أبدا. والنظريات المادية التي قدمها ديموقريطس وهوبز والسلوكيون، وكذلك النظريات المثالية الصرف التي تفر هذا الكون تفسيرا معنويا خالصاً مما قدمه ليبنتز وبيركلي وهيجل، نقول ان هذه النظريات الأحادية جميعا لا تعدو ان تكون مجرد افتراضات تقوم على التخمين ولا تستند إلى اي أساس من الوجهة التجريبية. ولابد لأي فلسفة تحاول ان تفسر الطبيعة والكون من ان تختبر أولا لمعرفة مدى قدرتها على تفسير سائر أنواع الحقائق والعوامل والعناصر التي يتألف منها هذا الكون أو تظهر فيه.
ان العلوم حقائق مختبرة، ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته. ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ، وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك، وليس باليقين. ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات، ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية. واننا لنرى ان العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول ان هذا هو ما وصلنا اليه حتى الان، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات.(2/21)
ان العلوم تبدأ بقضايا أو بديهيات مسلم بصحتها برغم انها لا تستند أساسا على حقيقة فيزيائية ملموسة. وعلى ذلك فان العلوم تقوم على أساس فلسفي. والخبرة الشخصية في العلوم كما في الفلسفة والدين هي المحك النهائي والملاذ الأخير الذي تختبر به جميع الحقائق في العلوم كما في الفلسفة والدين. وبرغم انه لابد ان تكون الحقائق والنظريات التي يصل اليها رجال العلوم قابلة للاختبار والتحقيق على أيدي غيرهم من العلماء فان ادراكنا الشخصي للظواهر الطبيعية يعتبر أمراً نسبيا ويتوقف على ظروف خاصة بنا.
ومع ذلك فان هذه الحدود والقيود لا تهون من شأن الطريقة العلمية ولا من قيمة النتائج التي نصل اليها باستخدامها، ولكنها توجه الجهود وتقيد النتائج. ومن ذلك ندرك عجز العلوم عجزا كليا من ان تعالج المشكلات التي تبعد عن التحليل أو التركيب الكمي.
فلننتقل الان إلى السؤال الذي يدور حول وجود الله، وهو بطبيعة الحال من الاسئلة التي لا نستطيع العلوم بقيودها السابقة ودائرتها المادية الضيقة أن تعالجها. ولكنه اذا كان هنالك تأثير من العالم الروحي على العالم المادي، فان هذا التأثير يدخل في دائرة العلوم الطبيعية. ولا بد من قبول اية طريقة سليمة نستطيع ان تعالج هذه المشكلة، ومن ذلك طريقة الاستدلال المنطقي التي تقوم على تفسير النتائج بنظائرها أو مثيلاتها، وهي الطريقة التي أشرنا اليها من قبل.(2/22)
وتعالج العلوم كثيرا من الظواهر الطبيعية التي تحدث في هذا الكون، وبرغم ان العلوم لا تؤيد وجود عالم غير مادي تاييدا كاملا، فانها لا تستطيع ان تنفي بصورة قاطعة وجود عوالم اخرى غير مادية وراء العالم المادي. ونستطيع بطريقة الاستدلال والقياس بقدرة الإنسان وذكائه، في عالم يفيض بالأمور العقلية، ان نصل إلى وجوب وجود قوة مسيطرة مدبرة تدبر هذا الكون وتدبر أموره وتعيننا على فهم ما يغمض علينا من أمر منحنيات التوزيع، ودورة الماء في الطبيعة، ودورة ثاني أوكسيد الكربون فيها، وعمليات التكاثر العجيبة، وعمليات التمثيل الضوئي ذات الاهمية البالغة في اختزان الطاقة الشمسية وما لها من أهمية بالغة في حياة الكائنات الحية، وما لا يحصى من عجائب من هذا الكون. اذ كيف يتسنى لنا ان نفسر هذه العمليات المعقدة المنظمة تفسيرا يقوم على أساس المصادفة والتخبط العشوائي؟ وكيف نستطيع ان نفسر هذا الانتظام في ظواهر الكون والعلاقات السببية، والتكامل، والغرضية، والتوافق، والتوازن، التي تنتظم سائر الظواهر وتمتد آثارها من عصر إلى عصر؟ كيف يعمل هذا الكون دون ان يكون له خالق مدبر هو الذي خلقه وأبدعه ودبر سائر أموره؟
ان جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه ويدل على قدرته وعظمته. وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراساتها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فاننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته(1). ذلك هو الله الذي لا نستطيع ان نصل اليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود. وليست العلوم الا دراسة خلق الله وآثار قدرته.
__________
(1) - انظر إلى ابداع القرآن اذ يقول: {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم ان تنبتوا. إله مع الله بل هم قوم يعدلون}
سورة النمل، آية: 60 (المترجم)(2/23)
النتيجة الحتمية
كتبها: جون كليفلاند كوثران
من علماء الكيمياء والرياضة
دكتوراه من جامعة كورنل – رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث – أخصائي في تحضير النترازول وفي تنقية التنجستين(2/24)
قال لورد كيلفي – وهو من علماء الطبيعة البارزين في العالم – هذه العبارة القيمة: (اذا فكرت تفكيرا عميقا فان العلوم سوف تضطرك إلى الاعتقاد في وجود الله، ولا بد ان اعلن عن موافقتي كل الموافقة على هذه العبارة.
ان ملاحظة هذا الكون ملاحظة تقوم على الخبرة والذكاء وتدبر ما تعرفه عنه من جميع النواحي سوف تعقودنا إلى التسليم بوجود ثلاثة عوالم من الحقائق، هي العالم المادي (المادة)، والعالم الفكري (العقل)، والعالم الروحي (الروح). وان ما تقدمه الكيمياء في هذا الميدان لابد ان يكون محدوداً لانه قليل من كثير في هذا المجال.
والكيمياء، بحكم اختصاصها بدراسة التركيب والتغيرات التي تطرأ على المادة، بما في ذلك تحول المادة إلى طاقة وتحول الطاقة إلى مادة، تعد من العلوم المادية التي ليس لها صلة بعالم الروحيات. فكيف اذن يتسنى للكيمياء ان تقدم دليلا ماديا على وجود الروح الاعظم أو الله الذي خلق هذا الكون؟ وكيف ينتظر منها ان تختبر الفرض الذي يدعي ان هذا الكون قد نشأن بمحض المصادفة، وان المصادفة هي التي تدبره وتديره، وان جميع ما يحدث فيه يتم بالطريقة العشوائية؟(/)
اننا لنرى ان التطورات الهامة التي تمت في جميع العلوم الطبيعية خلال المائة السنة الاخيرة، بما في ذلك الكيمياء، قد حدثت بسبب استخدام الطريقة العلمية في المادة والطاقة. وعند استخدام هذه الطريقة نبذل كل الجهود للتخلص من كل احتمال من الاحتمالات الممكنة التي تجعل النتيجة التي ن صل اليها راجعة إلى محض المصادفة. وقد أثبتت جميع الدراسات العلمية بصورة ثبتت في الماضي ولا تزال ثابتة في الحاضر ان سلوك اي جزيء من أجزاء المادة مهما صغر أو تضاءل حجمه، لا يمكن ان يكون سلوكا عشوائيا، بل انه على نقيض ذلك يخضع لقوانين طبيعية محددة.
وفي كثير من الأحيان يتم اكتشاف القانون قبل اكتشاف أسبابه أو فهم طريقة عمله بفترة طويلة من الزمن، ولكن بمجرد معرفة القانون وتحديد الظروف التي يعمل في ظلها، يثق الكيماويون في كل الثقة. ويظل القانون عاملا ومؤدياً إلى نفس النتائج. وليس من المعقول ان يكون لدى الكيماويين كل هذه الثقة في القوانين الطبيعية لو ان سلوك المادة والطاقة كان من النوع العشوائي الذي تتحكم فيه المصادفة. وعندما يتم أخيرا ادراك الأسباب التي تجعل هذا القانون الطبيعي عاملا وتفسر لنا حقيقته، فان أي أثر لفكرة العشوائية أو المصادفة في سلوك المادة أو الطاقة سوف يندثر اندثارا تاماً.
ومنذ مائة سنة تقريبا رتب العالم الروسي مانداليف العناصر الكيماوية تبعا لتزايد اوزانها الذرية ترتيبا دوريا. وقد وجد ان العناصر التي تقع في قسم واحد تؤلف فصيلة واحدة ويكون لها خواص متشابهة، فهل يمكن ارجاع ذلك إلى مجرد المصادفة؟(2/25)
وكذلك تمكن العلماء بفضل هذا الترتيب ان يتنبأوا بوجود عناصر لم يكن البشر قد توصلوا اليها بعد، بل أمكن التنبؤ بخواص هذه العناصر المجهولة وتحديدها تحديدا دقيقا، ثم صدقن نبواءتهم في جميع الحالات، فاكتشف العناصر المجهولة وجاءت صفاتها مطابقة كل المطابقة للصفات التي توقعوها. فهل يبقى بعد ذلك مكان للاعتقاد في ان أمور هذا الكون تجري على أساس المصادفة؟ ان اكتشاف مانداليف لا يطلق عليه اسم المصادفة الدورية ولكنه يسمى (القانون الدوري)!
وهل يمكن ان نفسر على أساس المصادفة ما وصفه وتوصل اليه العلماء السابقون من تفاعل ذرات عناصر (أ) مع ذرات عنصر (ب) وعدم تفاعلها مع عنصر (جـ) كلا. انهم قد فسروا ذلك على اساس ان هنالك نوعا من الميل او الجاذبية بين جميع ذرات عنصر (أ) وجميع عنصر (ب). ولكن هذا الميل او الجاذبية منعدم بين ذرات عنصر (أ) وذرات عنصر (ج).
وقد عرف العلماء كذلك ان سرعة التفاعل بين ذرات المعادن القلوية والماء مثلا تزداد بازدياد اوزانها الذرية. بينما تسلك عناصر الفصيلة الهالوجينية سلوكا مناقضا لهذا السلوك كل المناقصة. ولا يعرف احد سبب التناقض، ومع ذلك فان احدا لم يرجع ذلك إلى محض المصادفة او يظن انه ربما يتعدل سلوك هذه العناصر بعد شهر او شهرين، او تبعا لاختلاف الزمان او المكان، او يحظر بباله ان هذه الذرات ربما لا تتفاعل بنفس الطريقة، او بطريقة عكسية، او طريقة عشوائية.
وقد أثبت اكتشاف تركيب الذرة ان التفاعلات الكيماوية التي نشاهدها والخواص التي نلاحظها ترجع إلى وجود قوانين خاصة وليست محض مصادفة عمياء.(2/26)
انظر إلى العناصر الكيماوية المعروفة التي يبلغ عددها اثنين بعد المائة، ولاحظ ما بينها من أوجه التشابه والاختلاف العجيبة. فمنها الملون وغيره الملون، وبعضها غاز يصعب تحويله إلى سائل او صلب، وبعضها سائل والآخر صلب يصعب تحويله إلى سائل او غاز، وبعضها هش والآخر شديد الصلابة، وبعضها خفيف والآخر ثقيل، وبعضها موصل جيد والآخر رديء التوصيل، وبعضها مغناطيسي، والآخر غير مغناطيسي، وبعضها نشيط والآخر خامل، وبعضها يكون أحماضا والآخر يكون قواعد، وبعضها معمر والآخر لا يبقى الا لفترة محدودة من الزمان ومع ذلك فانها جميعا تخضع لقانون واحد هو القانون الدوري الذي أشرنا اليه.
ومع ما يبدو من التعقيد في تركيب كل ذرة من ذرات العناصر العديدة، فانها تتكون جميعها من نفس الأنواع الثلاثة من الجزئيات الكهربائية، وهي البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة والنيوترونات والتي يعتبر كل منها ناشئا عن اتحاد بروتون واحد مع الكترون واحد. وجميع البروتونات والنيوترونات التي بالذرة الواحدة تقع في نواة مركزية. اما الإلكترونات فانها تدور حول محاورها في مدارات مختلفة حول النواة وعلى أبعاد شاسعة منها مكونة ما يشبه مجموعة شمسية مصغرة. وعلى ذلك فان معظم حجم الذرة يعتبر فراغا كما هي الحال في المجموعة الشمسية.(2/27)
ونستطيع ان نبسط الامر فنقول: ان الفرق بين ذرة عنصر معين وعنصر آخر يرجع إلى الفرق في عدد البروتونات والنيوترونات التي بالنواة، والى عدد وطريقة تنظيم الالكترونات التي في خارج النواة. وعلى ذلك فان ملايين الأنواع من المواد المختلفة سواء أكانت عناصر أم مركبات، تتألف من جزئيات كهربية ليست في الواقع الا مجرد صور او مظاهر من الطاقة. والمادة يوصفها تتكون من مجموعات من الجزئيات والذرات، والجزئيات والذرات ذاتها، والإلكترونات والنيوترونات التي تتألف منها الذرات، والكهرباء والطاقة ذاتها، انما تخضع جميعا للقوانين معينة وليست وليدة المصادفة بحيث يكفي عدد قليل جدا من ذرات اي عنصر للكشف عنه ومعرفة خواصه. وعلى ذلك فان الكون المادي يسوده النظام وليس الفوضى، وتحكمه القوانين وليس المصادفة او التخبط.
فهل يتصور عاقل او يفكر ان يعتقد ان المادة المجردة من العقل والحكمة قد اوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة؟ او انها هي التي اوجدت هذا النظام وتلك القوانين ثم فرضته على نفسها؟ لا شك ان الجواب سوف يكون سلبيا. بل ان المادة عندما تتحول إلى طاقة او تتحول الطاقة إلى مادة فان كل ذلك يتم طبقا لقوانين معينة، والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة المعروفة التي اوجدت قبلها.
وتدلنا الكيمياء، على ان بعض المواد في سبيل الزوال او الفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة. وعلى ذلك فان المادة ليست أبدية، ومعنى ذلك ايضا انها ليست أزلية، إذ ان لها بداية. وتدل الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على ان بداية المادة لم تكن بطيئة او تدريجية، بل اوجدت بصورة فجائية، وتستطيع العلوم ان تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد. وعلى ذلك فان هذا العالم المادي لا بد ان يكون مخلوقا، وهو منذ ان خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ليس لعنصر المصادفة بينها مكان.(2/28)
فاذا كان هذا العالم المادي عاجزا عن ان يخلق نفسه او يحدد القوانين التي يخضع لها، فلابد ان يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي. وتدل الشواهد جميعا على ان هذا الخالق لابد ان يكون متصفا بالعقل والحكمة. إلا ان العقل لا يستطيع ان يعمل في العالم المادي كما في ممارسة الطب والعلاج السيكولوجي دون ان يكون هنالك ارادة، ولابد لمن يتصف بالإرادة ان يكون موجودا وجودا ذاتيا. وعلى ذلك فان النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على ان لهذا الكون خالقا فحسب، بل لابد ان يكون هذا الخالق حكيما عليما قادرا على كل شيء حتى يستطيع ان يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره، ولا بد ا ن يكون هذا الخالق دائم الوجود تتجلى آياته في كل مكان. وعلى ذلك فانه لا مفر من التسليم بوجود الله خالق هذا الكون وموجهه، كما أشرنا إلى ذلك في بداية هذا المقال.
ان التقدم الذي احرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجمعنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل ما قاله من قبل من أننا اذا فكرنا عميقا فان العلوم سوف تضطرنا إلى الايمان بالله.
فلننظر
إلى الحقائق دون ملل او تحيز
كتبها: ادوارد لوثركيسيل
أخصائي في علم الحيوان والحشرات – حاصل على دكتوراه من جامعة كاليفورنيا – أستاذ علم الأحياء ورئيس القسم بجامعة سان فرانسيسكو – متخصص في دراسة أجنة الحشرات والسلامندر والحشرات ذوات الجناحين.(2/29)
أضاف البحث العلمي خلال السنوات الأخيرة أدلة جديدة على وجود الله زيادة على الأدلة الفلسفية التقليدية. ونحن لا نقصد من ذلك ان الأدلة الجديدة لازمة او لا غنى عنها، فقد كان في الإثباتات القديمة ما يكفي لاقناع اي انسان يستطيع ان ينظر إلى الموضوع نظرة مجردة عن الميل أو التحيز. وأنا بوصفي ممن يؤمنون بالله أرحب بهذه الأدلة الجديدة لسببين: فهي أولا تزيد معرفتنا بآيات الله وضوحا. وهي ثانيا تساعد على كشف الغطاء عن أعين كثير من صرحاء الشكيين حتى يسلموا بوجود الله.
لقد عمت أمريكا في السنوات الأخيرة موجة من العودة إلى الدين، ولم تتخط هذه الموجة معاهد العلم لدينا. ولا شك ان الكشوف العلمية الحديثة التي تشير إلى ضرورة وجود إله لهذا الكون قد لعبت دورا كبيرا في هذه العودة إلى رحاب الله والاتجاه اليه. وطبيعي ان البحوث العلمية التي أدت إلى هذه الادلة لم يكن يقصد من اجرائها إثبات وجود الخالق، فغاية العلوم هي البحث عن خبايا الطبيعة واستغلال قواها، وهي لا تدخل في البحث عن مشكلة النشأة الأولى، فهذه من المشكلات الفلسفية، والعلوم لا تهتم إلا بمعرفة كيف تؤدي الأشياء وظائفها، وهي لا تهتم بمعرفة من الذي جعلها تعمل او تؤدي هذه الوظائف.
ولكن كل انسان – حتى أولئك الذين يشتغلون بالعلوم الطبيعية – لديه ميل او نزعة نحو الفلسفة. ومما يؤسف له ان المرموقين من العلماء ليسوا دائما من الفلاسفة الممتازين، فقليل منهم هم الذين يفكرون في أمور النشأة الأولى. وقد يعتقد بعضهم ان هذا الكون هو خالق نفسه، على حين يرى البعض الآخر ان الاعتقاد في أزلية هذا الكون ليس اصعب من الاعتقاد في وجود اله أزلي.(2/30)
ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت خطأ هذا الرأي الأخير. فالعلوم تثبت بكل وضوح ان هذا الكون لا يمكن ان يكون أزليا، فهنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن ان يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة. ومعنى ذلك ان الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها معين الطاقة. ويومئذ لن تكون هنالك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون. ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فاننا نستطيع ان نستنتج ان هذا الكون لا يمكن ان يكون أزليا، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود. وهكذا توصلت العلوم – دون قصد – إلى ان لهذا الكون بداية. وهي بذلك تثبت وجود الله، لان ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ نفسه ولا بد من مبديء، او من محرك أول، او من خالق، هو الإله.
ولا يقتصر ما قدمته العلوم على اثبات ان لهذا الكون بداية، فقد اثبتت فوق ذلك انه بدأ دفعة واحدة منذ نحو خمسة بلايين سنة. والواقع ان الكون لا يزال في عملية انتشار مستمر تبدأ من مركز نشأته. واليوم لا بد لمن يؤمنون بنتائج العلوم ان يؤمنوا بفكرة الخالق أيضا، وهي فكرة تستشرف على سنن الطبيعة، لان هذه السنن انما هي ثمرة الخلق، ولابد لهم أن يسلموا بفكرة الخالق الذي وضع قوانين هذا الكون، لان هذه القوانين ذاتها مخلوقة، وليس من المعقول ان يكون هنالك خلق دون خالق: هو الله. وما ان أوجد الله مادة هذا الكون والقوانين التي تخضع لها حتى سخرها جميعا لاستمرار عملية الخلق عن طريق التطور.(2/31)
إنني واثق ان كلمة التطور قد أسيء فهمها في كثير من الدوائر حتى صار مجرد النطق بها يثير التعجب. وإنني أفهم ما يعنيه هؤلاء الأصدقاء، بل أتفق معهم في ان التطور المقصود هنا هو التطور المادي أو الميكانيكي الذي ينبغي ان نفرق بينه وبين التطور الخلقي او الإبداعي كل التفرقة. ولو ان جميع المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من أدلة على وجود الخالق بنفس روح الأمانة والبعد عن التحيز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرروا عقولهم من سلطان التأثر بعواطفهم وانفعالاتهم، فانهم سوف يسلمون دون شك بوجود الله، وهذا هو الحل الوحيد الذي يفسر الحقائق. فدراسة العلوم بعقل متفتح سوف تقودنا بدون شك إلى إدراك وجود السبب الأول الذي هو الله(1).
ولقد من الخالق على جيلنا وبارك جهودنا العلمية بكشف كثير من الأمور حول الطبيعة، وصار من الواجب على كل انسان، سواء أكان من المشتغلين بالعلوم او من غير المشتغلين بها، ان يستفيد من هذه الكشوف العلمية في تدعيم إيمانه بالله.
وكما ينبغي ان يتدبر العالم المتفتح العقل وجود الله ويسلم به، فان غير المشتغل بالعلوم ينبغي له ان يفحص هو ايضا هذه الأدلة ويدرك ان التطور الإبداعي هو وسيلة الخالق في خلقه، وأن الله هو الذي أبدع هذا الكون بقدرته وسن قوانينه الطبيعية، فالخلق الإبداعي هو التفسير الوحيد الذي يوضح لنا سر هذا الوجود ويوفق بين ظواهره المختلفة التي يبسطها لنا كتاب الطبيعة التي نقرأ صفحاتها في جميع العلوم المختلفة من علم التصوير العضوي (المورفولوجية) ووظائف الأعضاء، والأجنة، والكيمياء العضوية، والتوريث والأحافيز، وتصنيف الأحياء، والجغرافية الحيوانية، الخ.
__________
(1) - {انما يخشى الله من عباده العلماء} قرآن كريم سورة فاطر، آية: 28.(2/32)
والانتخاب الطبيعي هو احد العوامل الميكانيكية للتطور، كما ان التطور هو أحد عوامل عملية الخلق، فالتطور اذن ليس الا أحد السنن الكونية او القوانين الطبيعية، وهو كسائر القوانين العلمية الأخرى يقوم بدور ثانوي، لأنه هو ذاته يحتاج إلى من يبدعه. ولا شك في انه من خلق الله وصنعه. والكائنات التي تنشأ بطريق عملية الانتخاب الطبيعي قد خلقها الله أيضا كما خلق القوانين التي تخضع لها، فالانتخاب الطبيعي ذاته لا يستطيع ان يخلق شيئا، وكل ما يفعله هو انه احدى الطرق التي تسلكها بعض الكائنات في سبيل البقاء او الزوال عن طريق الحياة والتكاثر بين الأنواع المختلفة. أما الانواع ذاتها التي يتم فيها هذا الانتقاء فانها تنشأ عن طفرات تخضع لقوانين الوراثة وظواهرها، وهذه القوانين لا تسير على غير هدى ولا تخضع للمصادفة العمياء كما يتوهم الماديون او يريدوننا ان نعتقد.
ان الطفرات او التغيرات الفجائية ليست مجرد خبط عشواء – كما يدعي بعض الباحثين – لفترة طويلة من الزمان، فالطفرات التي تحدد احجام الأعضاء مثلا قد تؤدي – كما ثبت من بعض البحوث الحديثة – إلى صغر حجم الأعضاء المختصة، والانتخاب الطبيعي الذي يعتمد على الطفرات التي تتم بمحض المصادفة لا يقضي الا على الأعضاء الضارة. ومع ذلك فاننا نشاهد ان الأعضاء المتعادلة التي ليس لها ضرر ولا نفع تتضاءل هي الاخرى، مما يثبت ان الطفرات ليست دائما عشوائية وان التطور لا يعتمد على المصادفة العمياء. وعلى ذلك فانه لا مفر من التسليم بان هنالك حكمة وتدبيرا وراء الخلق ووراء القوانين التي توجهه. ولا مفر لنا كذلك من التسليم بان التطور ذاته قد صمم بحكمة وانه يحتاج هو أيضا إلى خالق يبدعه.(2/33)
ولا يتسع المقام لسرد أدلة أخرى لبيان الحكمة والتصميم والإبداع في هذا الكون، لكنني وصلت إلى كثير من هذه الأدلة فيما قمت به من البحوث المحدودة حول أجنة الحشرات وتطورها. وكلما استرسلت في دراستي للطبيعة والكون، ازداد اقتناعي وقوي ايماني بهذه الأدلة. فالعمليات والظواهر التي تهتم العلوم بدراستها، ليست الا مظاهر وآيات بينات على وجود الخالق المبدع لهذا الكون. وليس التطور الا مرحلة من مراحل عملية الخلق.
وبرغم ان صيحات الماديين والطبيعيين قد حجبت كثيرا من الباحثين الأمناء عن الحقيقة، فان فكرة التطور الخلقي لا يمكن ان تكون منافية للعقيدة الدينية. بل على النقيض من ذلك نجد من الحماقة والتناقض في الرأي ان يسلم الانسان بفكرة التطور ويرفض ان يسلم بحقيقة وجود الخالق الذي اوجد هذا التطور.
لقد عاش منذ عهد اوغستين العظيم في القرن الرابع حتى اليوم كثير ممن آمنوا بالله ورفضوا فكرة الخلق بمعنى الصناعة، وقبلوا فكرة الخلق على اساس التطور. والواقع انه بالنسبة لهؤلاء – وأنا من بينهم – نجد ان للتطور أهمية من الناحية الدينية، فهو يقود العقل الأمين المتجرد من التحيز إلى فكرة وجود الله تعالى.
وأعود فأقول ان دراسة العلوم بعقل متفتح تجعل الإنسان يسلم بضرورة وجود الله والايمان به.(2/34)
استخدام الاسلوب العلمي
كتبه: وولز اوسكار لندبرغ
عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة جونز هونكنز – استاذ فسيولوجية الكيمياء بجامعة منيسونا – عميد معهد هورمل منذ سنة 1949 – عضو ورئيس جمعيات عديدة لدراسة الطعام وتركيبه الغذائي – مؤلف سلسلة كتب تركيب الدهون والليبيدات الاخرى – نشر كثيرا من البحوث العلمية.(/)
للعالم المشتغل بالبحوث العلمية ميزة على غيره، واذا استطاع ان يستخدم هذه الميزة في ادراك الحقيقة حول وجود الله. فالمبادئ الأساسية التي تستند اليها الطريقة العلمية التي يجري بحوثه على مقتضاها هي ذاتها دليل على وجود الله. وقد ينجح كثير من رجال العلوم الذين لا يدركون هذه النقطة في أعمالهم كعلماء. ولا ينبغي ان نعتبر هذا النجاح مناقضا للحقيقة التي أشرنا اليها، فالنجاح في دراسة العلوم يعتمد اساسا على استخدام أسلوب معين، ولا يتوقف بعد ذلك على مدى تقدير العالم للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا الأسلوب.
ويرجع فشل بعض العلماء في فهمهم وقبولهم لما تدل عليه المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الطريقة العلمية من وجود الله والايمان به إلى أسباب عديدة نخص اثنين منها بالذكر:
أولا: يرجع انكار وجود الله في بعض الاحيان إلى ما تتبعه بعض الجماعات او المنظمات الإلحادية او الدولة من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الالحاد ومحاربة الايمان بالله بسب تعارض هذه العقيدة مع صالح هذه الجماعات او مبادئها.(2/35)
ثانيا: وحتى عندما تتحرر عقول الناس من الخوف فليس من السهل ان تتحرر من التعصب والأهواء. ففي جميع المنظمات الدينية المسيحية تبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في اله هو على صورة الانسان، بدلا من الاعتقاد بان الانسان قد خلق خليفة لله في الارض. وعندما تنمو العقول بعد ذلك وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية فان تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن ان تنسجم مع اسلوبهم في التفكير او مع اي منطق مقبول. واخيرا عندما تفشل جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الافكار الدينية القديمة وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي، نجد هؤلاء المفكرين يتخلصون من الصراع بنبذ فكرة الله كلية. وعندما يصلون إلى هذه المرحلة ويظنون انهم قد تخلصوا من أوهام الدين وما ترتب عليها من تنائج نفسية، لا يحبون العودة إلى التفكير في هذه الموضوعات، بل يقاومون قبول أية فكرة جديدة تتصل بهذا الموضوع وتدور حول وجود الله.
فما هي الطريقة العلمية وما هي أسسها التي تكشف عن وجود الله؟ اننا نستطيع ان نوضح خطوات الطريقة العلمية بايجاز وتبسط فيما يلي: يلاحظ العالم اولا بعض الظواهر التي يقع عليها اختياره ويسجلها، وقد تتم هذه الملاحظة دون تأثير في الظاهرة نفسها كما في دراسة الفلك، او مع شيء من التحكم في العوامل المؤثرة في الظاهرة كما في تجارب المعمل ثم يربط العالم بين ملاحظاته والملاحظات والنتائج التي حصل عليها غيره من العلماء السابقين لكي يحصل على نتائج او فروض جديدة. وتتوقف هذه العملية على الاستنباط اكثر من توقفها على القياس، لان النتائج او الفروض التي يصل اليها العقل بهذه الطريقة تتناول اكثر مما تستطيع ان تصل اليه الملاحظة، فهي بذلك نوع من التنبؤ.
واخيرا اذا أراد العالم ان يختبر صحة فروضه او نتائجه، فان عليه ان يحصل على ملاحظات اضافية جديدة لكي يستوثق بها من صحة النبوءات التي صاغها.(2/36)
ومجمل القول ان الطريقة العلمية تقوم على أساس انتظام الظواهر الطبيعية والقدرة على التنبؤ بها في ظل هذا الانتظام، ونستطيع ان نقول بكل دقة: ان هذا الانتظام في ظواهر الكون والقدرة على التنبؤ بها – وهما الأساسان اللذان تقوم عليهما الطريقة العلمية – هما في الوقت ذاته أساس الإيمان بفكرة وجود الله، إذ كيف يتسنى ان يكون هنالك كل هذا الانتظام، وأنى يتسنى لنا أن نتنبأ بهذه الظواهر ما لم يكن هنالك مبدع ومدبر وحافظ لهذا النظام العجيب؟
ولا تنبع فكرة الايمان بوجود الله اصلا من قدرة الإنسان على تقدير هذا النظام او التنبؤ بما يترتب عليه، ولكنها ترجع إلى أن الانسان نفسه قد خلق خليفة لله(1). فاذا نبذ الانسان فكرة الايمان باله على صورته، وآمن بما تكشف عنه وتدل عليه الظواهر الطبيعية من أن الإنسان هو الذي خلق على صورة الله او خليفة له، فانه يسير في الطريق السليم نحو الايمان بجلال الله وقدسيته(2).
__________
(1) - يعبر القرآن عن ذلك بكل صراحة حين يقول: (واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة) سورة البقرة، آية: 30.
(2) - يفرق القرآن تماما بين المخلوقات والخالق (ليس كمثله شيء)، ومن أوصاف الله تعالى انه (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) سورة النور، آية: 35.(2/37)
ولا يزال الانسان في معهد العلم والمعرفة، وهو يدرك ان الكون بارضه وسماواته وما بينهما فسيح إلى أقصى الحدود، كما ان الوحدات الأساسية التي تتألف منها المادة والطاقة صغيرة متناهية في الصغر، وان مدى حياته ليس الا جزءا ضئيلا من الثانية بالنسبة لعمر هذا الكون المديد. وهو يكاد يلمس احيانا ان هناك صورا اخرى من المادة والطاقة والأبعاد وغير ذلك من العوالم التي يجهلها في الوقت الحاضر كل الجهل، وهو يدرك ايضا الحياة نفسها ادراكا غامضا لعدم قدرته على فهمها فهما علميا واضحا. ورغم جهل الانسان وقلة علمه، وفهمه المحدود لكل هذه الظواهر، فانه يشعر ان هنالك كثيرا من الامور التي ينتظر ان يصل اليها ويميط عنها اللثام، وجميعها تقوم على اساس انتظام الطبيعة وقدرة الانسان على التنبؤ بظواهرها في ظل ما يكشف عنه الحجاب من سنن هذا الكون وأسراره التي ما هي في الواقع الا من تجليات الخالق في خلقه.
ولما كان إيمان الانسان بالله كما تدل عليه الظواهر الطبيعية والسنن الكونية اليوم لا يزال محدودا للغاية(1)، لذلك ينبغي ان يقوم ايمان الانسان بالله فوق ذلك وبالاضافة اليه على أساس روحاني وأساس روحاني وأساس من العقيدة والتسليم. فالايمان بالله مصدر لسعادة لا ينضب في حياة كثير من البشر(2). اما المشتغلون بالعلوم الذين يرجون الله فلديهم متعة كبرى يحصلون عليها كلما وصلوا إلى كشف جديد في ميدان من الميادين، اذ…ان كل كشف جديد يدعم ايمانهم بالله، ويزيد من ادراكهم وابصارهم لأيادي الله في هذا الكون(3).
__________
(1) - سوف تزيل الكشوف العملية جميع الحجب وتنير الطريق، ويقول القرآن: (سنريهم آياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) سورة السجدة، آية: 53.
(2) - (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء، آية: 107.
(3) - (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون) سورة العنكبوت، آية: 49.(2/38)
الأدلة الطبيعية على وجود الله
كتبها: بول كلارنس ابرسولد
أستاذ الطبيعة الحيوية – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا ، مدير قسم النظائر والطاقة الذرية في معامل أوك ريدج - عضو جمعية الأبحاث النووية والطبيعية النووية…………(2/39)
قال الفيلسوف الانجليزي فرانسس بيكون منذ أكثر من ثلاثة قرون إن قليل من الفلسفة يقرب الإنسان من الإلحاد أما التعمق في الفلسفة فيرده إلى الدين ولقد كان بيكون على صواب فيما ذهب إليه فلقد احتار الملايين من الباحثين والمفكرين منذ وجود الإنسان على سطح الأرض في كنه العبقرية والتدبر الذي يتجلى في الإنسان وفي هذا الوجود وتساءلوا عما عساه أن يكون وراء هذه الحياة وسوف تتكرر هذه الأسئلة ما بقي الإنسان على سطح الأرض وبسبب عمق هذه الأسئلة وروحانيتها البالغة فإننا سوف نحاول أن نمسها في تواضع دون أن ننتظر إجابة شافية عنها.
هناك أمر واحد لا شك فيه، فبقدر ما بلغ الإنسان من معرفة وما لدية من ذكاء وقدرة على التفكير لم يشعر في وقت من الأوقات بأنه كامل في ذاته والناس على اختلاف أديانهم وأجناسهم وأوطانهم قد عرفوا منذ القدم وبصورة تكاد تكون عامة مبلغ قصور الإنسان على إدراك كنه هذا الكون المتسع، كما عجزوا عن إدراك سر الحياة وطبيعتها في هذا الوجود.
وقد لمس الناس عامة - سواء بطريقة فلسفية عقلية أو روحانية - أن هناك قوة فكرية هائلة ونظاماً في هذا الكون يفوق ما يمكن تفسيره على أساس المصادفة أو الحوادث العشوائية التي تظهر أحياناً بين الأشياء غير الحية التي تتحرك أو تسير على غير هدى.
ولا شك أن اتجاه الإنسان وتطلعه إلى البحث عن عقل أكبر من عقله وتدبير أحكام من تدبيره وأوسع لكي يستعين به على تفسير هذا الكون يعد في ذاته دليلاً على وجود قوة أكبر وتدبير أعظم هي قوة الله وتدبيره.(/)
وقد لا يستطيع الإنسان أن يسلم بوجود الخالق تسليماً تاماً على أساس الأدلة العلمية والأدلة الروحية أي عندما ندمج معلوماتنا عن هذا الكون المتسع إلى أقصى حدود الاتساع المعقد إلى أقصى حدود التعقيد مع إحساسنا الداخلي والاستجابة إلى نداء العاطفة والروح الذي ينبعث من أعماق نفوسنا ولو ذهبنا نحصى الأسباب والدوافع الداخلية التي تدعو ملايين الأذكياء من البشر إلى الإيمان بالله لوجدناها متنوعة لا يحصيها حصر ولا عد ولكنها قوية في دلالتها على وجوده تعالى مؤدية إلى الإيمان به.
ولقد كنت عند بدء دراستي للعلوم شديد للعلوم شديد الإعجاب بالتفكير الإنساني وبقوة الأساليب العلمية إلى درجة جعلتني أثق كل الثقة(2/40)
كل الثقة كل الثقة بقدرة العلوم على حل أية مشكلة في هذا الكون بل على معرفة منشأ الحياة والعقل وإدراك معنى كل شيء وعندما تزايد علمي ومعرفتي بالأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان تبين لى أن هناك كثيراً من الأشياء التي لم تستطع العلوم حتى اليوم أن تجدلها تفسيراً أو تكشف عن أسرارها النقاب وتستطيع العلوم أن تمضى مظفرة في طريقها ملايين السنين ومع ذلك فسوف تبقى كثير من المشكلات حول تفاصيل الذرة والكون والعقل كما هي لا يصل الإنسان إلى حل لها أو الإحاطة بأسرارها وقد أدرك رجال العلوم أن وسائلهم وإن كانت تستطيع أن تبين لنا بشيء من الدقة والتفصيل كيف تحدث الأشياء فإنها لا تزال عاجزة كل العجز عن أن تبين لنا لماذا تحدث الأشياء وإن العلم والعقل والإنسان وحدهما لن يستطيعا أن يفسر لنا لماذا تحدث الأشياء إن العلم والعقل الإنسان وحدهما لن يستطيعا أن يفسرا لنا لماذا وجدت الذرات والنجوم والكواكب والحياة والإنسان بما أوتى من قدرة رائعة وبرغم أن العلوم تستطيع أن تقدم لنا نظريات قيمة عن السديم ومولد المجرات والنجوم والذرات وغيرها من العوالم الأخرى فإنها لا تستطيع أن تبين لنا مصدر المادة والطاقة التي استخدمت في بناء هذا الكون أو اتخذ الكون صورته الحالية ونظامه الحالي والحق أن التفكير المستقيم والاستدلال السليم يفرضان على عقولنا فكرة وجود الله.(2/41)
ولكن هل لله وجود ذاتي كما يعتقد الكثيرون؟ أما وجهة نظر العلم ، فإنني لا أستطيع أ ن أتصور الله تصوراً مادياً بحيث تستطيع أن تدركه الأبصار أو أن يحل في مكان دون الآخر أو يجلس على كرسي أو عرش إن الكتاب المقدس الانجيل عندما تصف لنا الإله وتتحدث عن ذاته وكنهه تستخدم كثيراً من الألفاظ الدنيوية التي نألف في وصف حياة الإنسان وتاريخه على الأرض ولكن الله تعالى كائن روحاني لطيف بل فوق ذلك إن كان وراء الروحانية من وراء في مرتبة الصعود ونحن لا نستطيع أن نصفه وصفاً روحانياً صرفاً فالإنسان رغم أنه يتكون من جسد وروح لا يستطيع أن يدرك هذه الصفات الروحانية أو يعبر عنها إلا في حدود خبرته ومع ذلك فإننا نستطيع أن نصل إلى أن الله تعالى يتصف بالعقل والحكمة والإرادة وعلى ذلك فإن لله وجوداً ذاتياً وهو الذي تتجلى قدرته في كل شيء وبرغم اننا نعجز عن إدراكه إدراكاً مادياً فهنالك ما لا يحصى من الأدلة المادية على وجوده تعالى وتدل أيادية في خلقه على أنه العليم الذي لا نهاية لعلمه الحكيم الذي لا حدود لحكمته القوى إلى أقصى حدود القوة ولما كان إدراك كنه الله من الأمور الغامضة علينا لا نستطيع أن ندرك لماذا وجد الإنسان أو لماذا وجد هذا الكون الذي لا يعدو أن يكون الإنسان ذرة ضئيلة من ذراته التي لا يحصيها عقل أو وصف.
إن الأمر الذي نستطيع أن نثق به كل الثقة ، هو أن الإنسان وهذا الوجود من حوله لم ينشأ هكذا نشأة ذاتية من العدم المطلق بل إن لهما بداية ولا بد لكل بداية من مبدئ كما أننا نعرف أن النظام الرائع المعقد الذي يسود هذا الكون يخضع لقوانين لم يخلقها الإنسان وأن معجزة الحياة في حد ذاتها لها بداية كما أن وراءها توجيهاً وتدبيراً خارج دائرة الإنسان إنه بداية مقدسة وتوجيه مقدس وتدبير الهي محكم.…………(2/42)
الكشوف العلمية تثبت وجود الله
كتبها: جورج ايرل دافيز
عالم الطبيعة – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة منيسوتا – ورئيس قسم البحوث الذرية بالبحرية الأمريكية بيروكلين – اخصائي في الاشعاع الشمسي والبصريات الهندسية والطبيعية.(2/43)
كلما تقدم ركب العلم وتضاءلت الخرافات القديمة ازداد تقدير الانسان لمزايا الدين والدراسات الدينية.
وقد تعدد الاسباب التي تدفع بالانسان إلى اعادة النظر في أمور الدين، ولكننا نؤمن انها ترجع جميعا إلى رغبة البشر رغبة صادقة في الوصول إلى الحقيقة.
وينبغي ان نفرق في هذا المقام بين معارضة الدين او الخروج عليه ويبين الالحاد، وان نعترف بان من يخرج على بعض الافكار التقليدية التي ينطوي عليها دين من الأديان، لكي يؤمن بوجود اله قوي كبير، لا يجوز ان نعده بسبب ذلك وحده ملحدا. فمثل هذا الشخص قد يكون غير معتنق لدين من الأديان، ولكنه يؤمن بالله، وقد يكون ايمانه هذا بالله تعالى قائما على أساس متين.
وليس معنى ذلك أننا ننكر وجود الالحاد والملحدين بين المشتغلين بدراسة العلوم، الا ان الاعتقاد الشائع بأن الإلحاد منتشر بين رجال العلوم اكثر من انتشاره بين غيرهم، لا يقوم على صحته دليل، بل انه يتعارض مع ما نلاحظه فعلا من شيوع الإيمان بين جمهرة المشتغلين بالعلوم.
اما عن عقيدتي في وجود الله، فمن العبث ان انكر انها لم تتأثر بما تلقيته من تعاليم دينية في سنوات حياتي الأولى، اذ أنه لا سبيل إلى التخلص من الآثار التي تتركها هذه السنوات المبكرة من حياتنا في أنفسنا، ولكنني استطيع ان أؤكد انه بينما تتفق عقيدتي الدينية في الوقت الحاضر مع ما تعلمته في صباي عن وجود الله فان هذه العقيدة تقوم في الوقت الحاضر على أساس قوي يختلف كل الاختلاف عن الأساس الذي يقومن عليه الإيمان المستمد من سلطة الكنيسة ورجال الدين.(/)
ولقد اتيح لي بفضل اشتغالي بدراسة الطبيعة، ان ادرس التركيب المعقد إلى درجة لا يتصورها العقل لبعض مكونات هذا الكون الذي لا تقل فيه روعة التذبذبات الداخلية لأصغر ذراته وما دون ذراته عن النشاط المذهل لأكبر النجوم السابحة في أفلاكها، والذي يسير فيه كل شعاع من الضوء، وكل تفاعل كيماوي او طبيعي، وكل خاصية من خواص كل كائن حي وفق قوانين ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. تلك هي الصورة التي تقدمها لنا العلوم والتي كلما تأملها الانسان، اكتشف من بالغ دقتها ورائع جمالها ما لم يكن قد اكتشفه من قبل.
ومع تقدم الكشف العلمي، ظهرت أسئلة لا مفر منها، وهي أسئلة ليست مبتكرة وان كانت تبدو جديدة بسبب النظرة الحديثة إلى تكوين هذا الكون الذي يعتبر الإنسان جزءا منه لا يتجزأ. ومن هذه الاسئلة ذات القيمة الكبيرة بالنسبة لمسؤولياتنا ومصيرنا النهائي ذلك السؤال القديم: (هل يوجد اله علوي هو خالق هذا الكون)؟
وهنالك سؤال آخر اكثر صعوبة من سابقة وهو السؤال الذي يردده كثير من الاطفال في موجة من موجات الألمعية المحافظة التي تطوف احيانا بمخيلاتهم وهو: (إذا كان لهذا الكون خالق، فمن الذي خلقه)؟
ولا يمكننا ان نثبت وجود الله عن طريق الالتجاء إلى طرق المادية وحدها، إذ لم يقل احد بان الله مادة حتى نستطيع ان نصل اليه بالطرق المادية. ولكننا نستطيع ان نتحقق من وجود الله باستخدام العقل والاستنباط ما نتعلمه ونراه، فالمنطق الذي نستطيع ان ناخذ به، والذي لا يمكن ان يتطرق اليه الشك، هو انه ليس هنالك شيء، مادي يستطيع ان يخلق نفسه.
واذا سلمنا بقدرة الكون على خلق نفسه، فاننا بذلك نصف الكون بالألوهية. ومعنى ذلك ان نعترف بوجود إله، ولكننا نعتبره إلها ماديا وروحيا في نفس الوقت. وانا افضل ان أؤمن بإله غير مادي خالق لهذا الكون تظهر في آياته وتتجلى فيه أياديه، دون أن يكون هذا الكون كفواً له.(2/44)
وأحب ان أضيف إلى هذا الاستدلال، استدلالا آخر: وهو انه كلما ارتقى وتقدم تطور المخلوقات، كان ذلك أشد دلالة على وجود خالق مدبر وراء هذا الخلق.
ان التطور الذي تكشف عنه العلوم في هذا الكون، هو ذاته شاهد على وجود الله. فمن جزئيات بسيطة ليس لها صورة معينة وليس بينها فراغ نشأت ملايين من الكواكب والنجوم والعوالم المختلفة لها صور معينة وأعمار محددة تخضع لقوانين ثابتة يعجز العقل البشري عن الاحاطة بمدى ابداعها. وقد تحملت كل ذرة من ذرات هذا الكون، بل كل ما دون الذرة مما لا يدركه حس ولا يتصور صغره عقل، قوانينها وسننها وما ينبغي لها أن تقوم به او تخضع له.
هذه أدلة كافية، ولكن هنالك ما هو أشد إعجازا وأكثر دلالة على وجود الله. فمن تلك الجزئيات البسيطة لم تنشأ النجوم والكواكب فحسب، بل نشأت كذلك أنواع متطورة من الأحياء، بل كائنات تستطيع ان تفكر وتبتكر وتخلق اشياء جميلة، بل هي تبحث عن أسرار الحياة والوجود. ان كل ذرة من ذرات هذا الكون تشهد بوجود الله، وإنها تدل على وجوده حتى دون حاجة إلى الاستدلال بان الاشياء المادية تعجز عن خلق نفسها.(2/45)
الماء يروي لك القصة
كتبه: توماس دافيدباركس
أستاذ الكيمياء – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الينوي – رئيس قسم الكيمياء بمعهد بحوث ستانفورد سابقا – مدير البحوث بشركة كلوروكس الكيماوية – أخصائي في النظريات الكهربية والأشعة السينية.(/)
يروي لنا ويتاكر تشيمبرز في كتابه (الدليل) حادثة بسيطة لعلها كانت السبب في تحويل مجرى حياته، بل كثير من البشر. لقد كان يتطلع إلى ابنته الصغيرة ثم التفت دون شعور إلى شكل أذنيها، وذكر بنيه وبين نفسه انه من المحال ان تكون تلك التلافيف الدقيقة التي تشتمل عليها الأذن قد نشأت عن طريق المصادفة. انها لا يمكن ان تكون قد نشأت الا عن خبرة بالغة وتصميم وتدبير. ولكنه ابعد هذه الفكرة عن عقله المارق عن الدين؛ فقد خشي ان يؤدي به هذا النوع من التفكر إلى النتيجة المنطقية، وهي أن التصميم يحتاج إلى مصمم او مبدع او اله، انه لم يكن مستعدا حتى ذلك الوقت لقبول هذه الفكرة.
ولقد عرفت كثيرا من أساتذتي المشتغلين بدراسة العلوم ومن زملائي الذين طافت بعقولهم مثل هذه الخواطر والأفكار حول مشاهداتهم في الكيمياء والطبيعة، ولو انهم لم يعبروا عنها بتلك الصورة من اليأس العميق التي وجدها تشيمبرز في قرارة نفسه.
انني أقرا النظام والتصميم في كل ما يحيط بي من العالم غير العضوي ولا استطيع ان أسلم بان يكون كل ذلك قد تم بمحض المصادفة العمياء التي جعلت ذرات هذا الكون تتألف بهذه الصورة العجيبة. ان هذا التصميم يحتاج إلى مبدع، ونحن نطلق على هذا المبدع اسم الله.
وبالنسبة إلى الكيميائي يعتبر الترتيب الدوري للعناصر من الأمور التي تثير عجبه ودهشته. وأول ما يتعلمه الطالب عند بدء التحاقه بالجامعة، هو أن العناصر يمكن ترتيبها ترتيبا دوريا معينا، ولهذا الترتيب طرق مختلفة، ولكننا نكتفي هنا بتقسيم (مانداليف)، وهو العالم الروسي الذي ظهر في القرن الماضي. ولا تقتصر فائدة هذا التنظيم الدوري للعناصر على ما يقدمه من عون وتسهيل في دراسة العناصر المعروفة ومركباتها، ولكنه يدفع العلماء إلى البحث عن العناصر التي لم يتم استكشافها بعد، والتي ساعد هذا التنظيم على التنبؤ بها، وتركت أماكنها في الجدول الدوري للعناصر خالية تنتظر الكشف عنها.(2/46)
ولا يزال الكيميائيون حتى اليوم، يستخدمون الجدول الدوري للعناصر ليساعدهم في دراسة التفاعلات الكيماوية والتنبؤ بخواص العناصر والمركبات، ولا شك ان نجاحهم في هذا السبيل يعد دليلا على ما يسود العالم غير العضوي من نظام بديع. ولكن هذا النظام الذي نشاهده في العالم من حولنا ليس مظهرا من مظاهر القدرة على كل شيء فحسب، بل انه يتصف فوق ذلك بالحكمة والاتجاه نحو تحقيق صالح الانسان، مما يدل على ان اهتمام الخالق بنفع عباده(1) لا يقل عن اهتمامه بالسنن والقوانين التي تنظم هذا الوجود. انظر من حولك إلى الحكمة البالغة التي ينطوي عليها خروج بعض الظواهر عن العادة أو المألوف. فالماء مثلا، يتوقع الانسان من وزنه الجزيئي (18) ان يكون غازيا تحت درجة الحرارة المعتادة والنمط المعتاد، فالنوشادر مثلا ووزنها الجزيئي (17) تكون غازية عند درجة حرارة ناقص 73 وتحت الضغط الجوي المعتاد، وكبريتور الأيدروجين الذي يعتبر قريبا في خواصه من الماء بحكم وضعه في الجدول الدوري وله وزن جزيئي قدرة 34، يكون غازيا عند درجة حرارة ناقص 59. ولذلك فان وجود الماء على الحالة السائلة في درجة الحرارة المعتادة يجعل الانسان يقف ويفكر.
__________
(1) - (وان تعدوا نعمة الله، لا تحصوها ان الله لغفور رحيم) سورة النحل، آية: 18.(2/47)
وللماء فوق ذلك كثير من الخواص الاخرى ذات الاهمية البالغة والتي اذا نظر الانسان اليها في مجموعها وجدها تدل على التصميم والتدبير، فالماء يغطي نحو ثلاثة أرباع سطح الارض، وهو بذلك يؤثر تأثيرا بالغا على الجو السائد ودرجة الحرارة. ولو تجرد الماء من بعض خواصه لظهرت على سطح الارض تغيرات في درجة الحرارة تؤدي إلى حدوث الكوارث. وللماء درجة ذوبان مرتفعة، وهو يبقى سائلا فترة طويلة من الزمن، وله حرارة تصعيد بالغة الارتفاع. وهو بذلك يساعد على بقاء درجة الحرارة فوق سطح الارض عند معدل ثابت ويصونها من التقلبات العنيفة، ولولا كل ذلك لتضاءلت صلاحية الارض للحياة إلى حد كبير، ولقلت متعة النشاط الانساني على سطح الارض بدرجة عظيمة.
وللماء خواص اخرى فريدة في نوعها، وتدل كلها على ان مبدع هذا الكون قد رسمه وصممه بما يحقق صالح مخلوقاته. فالماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد. ولهذه الخاصية اهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة، اذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد، بدلا من ان يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأنهار ويكون تدريجيا كتلة صلبة لا سبيل إلى اخراجها وإذابتها. ويكون الجليد الذي يطفو على سطح البحر طبقة عازلة تحفظ الماء الذي تحتها في درجة حرارة فوق درجة التجمد، وبذلك تبقى الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية حية. وعندما يأتي الربيع يذوب الجليد بسرعة.
ويمكننا ان نشير إلى كثير من خواص الماء الطريفة الاخرى: فله مثلا توتر سطحي مرتفع يساعد على نمو النبات بما ينقله اليه من المواد الغذائية التي بالتربة، والماء اكثر السوائل المعروفة اذابة لغيره من الأجسام، وهو بذلك يلعب دورا كبيرا في العمليات الحيوية داخل أجسامنا بوصفه مركبا أساسيا من مركبات الدم، وللماء ضغط بخار مرتفع على مدى واسع من درجات الحرارة، ومع ذلك فانه يبقى سائلا على طول هذا المدى المتسع اللازم للحياة.(2/48)
وقد درس كثير من العلماء هذه الخواص العجيبة للماء، ووضعوا النظريات لتعليل ظواهره المختلفة. وبرغم ما نبذله من جهود لمعرفة كيف تحدث هذه الظواهر، علينا ان نتساءل ايضا لماذا تحدث هذه الظواهر؟ وليس الماء هو المادة العجيبة الوحيدة. فهنالك ما لا يحصى من المواد ذات الخواص المذهلة التي لا تستطيع عقولنا او ادراكنا المتواضع، إلا ان تقف مشدوهة أمامها.
وأنني أدجاحاحديني ني مبم بمبمن بنبمل
أجد شخصيا ان تفسير هذه الظواهر والعجائب بنسبتها إلى قدرة إله حكيم خبير وتصميم خالق علوي، يعد تفسيرا مرضيا للنفوس ومقنعا للعقول.
انني أرى في كل ظاهرة من هذه الظواهر اكثر من مجرد الخلق والتدبير المجرد عن العاطفة، إنني ألمس فوق ذلك كله محبة الخالق لخلقه واهتمامه بأمورهم.(2/49)
الله والكون المعقد
كتبها: جون وليام كلوتس
عالم في الوراثة – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بيتسبرج – أستاذ علم الأحياء والفسيولوجيا بكلية المعلمين بكونكورديا منذ سنة 1945 – عضو جمعية الدراسات الوراثية – متخصص في الوراثة وعلم البيئة.(/)
عندما حاولت ان اكتب في هذا الموضوع جالت بخاطري حكمتان قديمتان من الحكم المقدسة، وهما:
(السماوات تشهد بجلال الله، وإحكامها يدل على بديع صنعته).
(يقول الأحمق في نفسه: ليس هناك إله).
ان هذا العالم الذي نعيش فيه، قد بلغ من الاتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال ان يكون قد نشأ بمحض المصادفة. انه مليء بالروائع والأمور المعقدة التي تحتاج إلى مدبر، والتي لا يمكن نسبتها إلى قدر أعمى. ولا شك ان العلوم قد ساعدتنا على زيادة فهم وتقدير ظواهر هذا الكون المعقدة. وهي بذلك تزيد من معرفتنا بالله ومن ايماننا بوجوده.(/)
ومن التعقيدات الطريفة في هذا الكون، ما نشاهده من العلاقات التوافقية الاضطرارية بين الأشياء احيانا. ومن أمثلتها العلاقة الموجودة بين فراشة اليوكا وثبات اليوكا وهو احد النباتات الزنبقية. فزهرة اليوكا تتدلى إلى أسفل ويكون الجزيء من الزهور الذي يتلقى حبوب اللقاح، فانه يكون على شكل الكأس وهو موضوع بطريقة يستحيل معها ان تسقط فيه حبوب اللقاح. ولا بد ان تنتقل هذه الحبوب بوساطة فراشة اليوكا التي تبدأ عملها بعد مغيب الشمس بقليل، فتجمع كمية من حبوب اللقاح من متك الأزهار التي تزورها وتحفظها في فمها الذي بني بطريقة خاصة لأداء هذا العمل. ثم تطير الفراشة إلى نبات آخر من نفس النوع وتثقب مبيضها بجهاز خاص في مؤخر جسمها، ينتهي بطرف مدبب يشبه الإبرة وينزل منه البيض. وتضع الفراشة بيضة او اكثر ثم تزحف إلى أسفل الزهرة حتى تصل إلى القلم، وهنالك تترك ما جمعته من حبوب اللقاح على صورة كرة فوق ميسم الزهرة. وينتج النبات عددا كبيرا من الحبوب يستخدم بعضها طعاما ليرقة الفراشة وينضح بعضها لكي يواصل دورة الحياة.(2/50)
وهنالك علاقة مشابهة بين نبات التين ومجموعة من الزنابير الصغيرة. وينتج هذا النبات نوعين من مجموعات الأزهار يحتوي احدهما على الأزهار المذكرة والمؤنثة معا. اما الآخر فجميع ازهاره مؤنثة. ويقوم بتلقيح الأزهار المؤنثة في كلا النوعين السابقين اناث الزنابير. وتكون فتحة التخت الذي يحمل مجموعات الازهار في كلا النوعين ضيقة إلى حد كبير بسبب احاطتها بكثير من الأوراق الحرشفية، مما يجعل وصول الحشرة إلى الداخل يتم بصعوبة كبيرة ويؤدي إلى تمزق أجنحتها. وعندما تدخل الحشرة إلى المجموعة التي تشتمل على الازهار الذكرية والأنثوية، تضع الحشرة الانثى بيضها ثم تموت، ثم ينقف البيض وتتزاوج الشفافير الصغيرة الناتجة، ولا يستطيع ان يخرج منها سوى الاناث، أما الذكور فتموت، وقبل ان تخرج الاناث تلتصق هبوات اللقح بأجسامها فتحملها إلى مجموعات جديدة من الأزهار. فاذا كانت المجموعة الجديدة تشتمل على أزهار ذكور وأخرى اناث، فان العملية تتكرر بالصورة السابقة، اما اذا اشتملت المجموعة على أزهار اناث فقط، فان الفراشة تموت دون ان تضع البيض. ففي هذه الحالة تكون الأزهار الإناث على درجة من الطول بحيث لا تستطيع ان تصل الحشرة إلى قاعدتها لكي تضع البيض هنالك، وعندما تحاول الحشرة ان تصل إلى هذه القاعدة العميقة دون جدوى تلقح الأزهار بما تحمله من هبوات اللقح، ثم تنضح الأزهار وتكون ثمار التين. وعندما ادخل التين إلى الولايات المتحدة لأول مرة لم يكن ينتج ثمارا، ولم يمكن انتاج الثمار وقيام صناعة التين الا بعد ان جلبت الشفافير إلى الولايات المتحدة.(2/51)
وهنالك كثير من الازهار التي تسجن الحشرات داخلها، ومن أمثلتها الزهرة المسماة (جاك في المقصورة) jack – in – the – pulpit ولهذا النبات نوعان من المجموعات الزهرية، ذكور وإناث. وهي تتكون داخل مقصورات تضيق عند منتصفها. ويتم التلقيح بوساطة ذبابة دقيقة تدخال إلى المقصورة ولا تكاد تجتاز المنطقة الضيقة الوسطى حتى تجد نفسها سجينة، ليس بسبب الضيق فحسب، بل بسبب تغطية الجدران الداخلية بمادة شمعية منزلقة يتعذر معها على الحشرة ان تثبت اقدامها، وعندئذ تدور الحشرة بصورة جنونية داخل المكان، فتعلق هبوات اللقح بجسمها. وبعد قليل تتصلب جوانب المقصورة بعض الشيء فتستطيع الحشرة الخروج بعد ان يكون جسمها قد تغطى بهبوات اللقح. فاذا زارت الحشرة مقصورة مذكرة اخرى تكررت العملية السابقة، أما اذا دخلت مقصورة انثى فانها تسجن في داخلها سجنا دائما حتى تموت هي، وعند محاولتها اليائسة للخروج، تقوم بتلقيحها الأزهار الأنثى. ان النبات في هذه الحالة لا يهتم بخروج الحشرة لانها تكون قد أدت رسالتها، اما عند زيارتها للمقصورات المذكرة، فانه يسمح لها بالخروج لانها لا تكون قد أدت رسالتها بعد.
أفلا تدل كل هذه الشواهد على وجود الله؟ انه من الصعب على عقولنا ان تتصور ان كل هذا التوافق العجيب قد تم بمحض المصادفة، انه لا بد ان يكون نتيجة توجيه محكم احتاج إلى قدرة وتدبير.
ونستطيع ان نلمح ادلة أخرى على وجود الله وقدرته في تلك الحالات العديدة التي حاول الانسان فيها ان يتدخل في توازن الطبيعة او يعمل على تعديله.(2/52)
فمثلا عندما نزل المهاجرون الأولون أستراليا، لم يكن هنالك من الثدييات المشيمية الا الدنجو، وهو كلب بري. ولما كان هؤلاء المهاجرون قد نزحوا من أوربا، فقد تذكروا ما كان يهيئه لهم صيد الارانب من فرصة طيبة لممارسة الصيد والرياضة. وفي محاولة لتحسين الطبيعة في أستراليا استورد توماس اوستين نحو اثني عشر زوجا من الأرانب وأطلقها هنالك، وكان ذلك في نسة 1859. ولم يكن لهذه الأرانب اعداء طبيعيون في أستراليا ولذلك فقد تكاثرت بصورة مذهلة، وزاد عددها زيادة كبيرة فوق ما كان ينتظر، وكانت النتيجة سيئة للغاية.
فقد احدثت الأرانب اضرارا بالغة بتلك البلاد حيث قضت على الحشائش والمراعي التي ترعاها الأغنام. وقد بذلت محاولات عديدة للسيطرة على الأرانب، وبنيت أسوار عبر القارة في كوينزلاند بلغ امتدادها 7000 ميل، ومع ذلك تثبت عدم فائدتها. فقد استطاعت الأرانب ان تتخطاها. ثم استخدم نوع من الطعم السام، ولكن هذه المحاولة باءت هي الأخرى بالفشل. ولم يمكن الوصول إلى حل الا في السنوات الأخيرة، وكان ذلك باستخدام فيروس خاص يسبب مرضا قتالا لهذه الأرانب هو مرض الحرض المخاطي. وقد لا يكون هذا هو الحل الاخير، فقد اخذنا نسمع أخيرا عن ظهور ارانب حصينة لديها مقاومة كبيرة لهذا المرض في أستراليا. ومع ذلك فقد أدى انخفاض عدد الأرانب هنالك إلى منافع جمة، وتحولت مناطق البراري القاحلة والجبال المقفرة التي بقيت مجدبة عشرات السنين إلى مروج خضر يانعة. وقد ترتب على ذلك زيادة في الايراد من صناعة الأغنام وحدها قدرت في سنة 1952 – سنة 1953 بما يبلغ 84 مليون جنية.(2/53)
ومن الممكن ان يكون لدينا أرانب مشابهة في الولايات المتحدة الاميركية، فالأرانب الاوروبية تختلف في نوعها عن الأرانب التي كانت تستوطن أمريكا، والتي لا تعرف الان الا في جزيرة سان جوان حيث تعيش في عزلة تامة منذ سنة 1900. وقد حاول اصحاب بعض نوادي الصيد – بحسن نية طبعاً – ان يعمموا نوع الأرانب المسمى سان جوان في الولايات المتحدة كلها بسبب صعوبة استيراد النوع المسمى ذيل القطن (cottontail) وانتقاله من ولاية إلى اخرى كما كانت الحال من قبل. وكان من الممكن ان تصبح النتيجة خطيرة للغاية لان أرانب السان جوان تتكاثر في الولايات المتحدة بنفس السرعة التي تتكاثر بها الأرانب في أستراليا. ومن الاحتياطات الحديثة التي اتخذت لتلافي ذلك الخطر رفع الحظر عن صيد هذا النوع من الأرانب على مدار السنة.
ومن الطريف ان استخدام فيروس الارانب في أوربا قد أحدث اثره هنالك. فقد أحضر طبيب فرنسي من المهتمين بالموضوع – بسبب ما أحدثته الأرانب من الأضرار للأشجار في حديقته – بعض هذا الفيروس وحقن به بعض الأرانب البرية التي اصطادها، ثم أطلقها بعد ذلك. وقد ترتب على ذلك انخفاض عدد الارانب في فرنسا، بل الاقاليم الاوروبية المجاورة ايضا. ويتجادل الناس حول هذا الموضوع فتختلف وجهات نظرهم. فمنهم من يرى ان العمل قد ادى إلى خفض كمية اللحوم التي كانت تعيش عليها الطبقات الفقيرة. ومنهم من يرى أن هذا العجز يعوضه تحسين الانتاج النباتي بعد انخفاض عدد الأرانب.
لقد تحدثنا فيما قبل عن الأدلة على وجود الله. اما الأمثلة الأخيرة التي ذكرناها فانها تشهد بحكمته وتدبيره. فالتوازن الذي خلقه الله في سائر مظاهر الطبيعة يعتر من النوع الدقيق. وقد تؤدي اية محاولة للتدخل فيه إلى أضرار باللغة، ولذلك ينبغي ان يتريث الناس قبل ان يقدموا على أية محاولة لتعديل موازين الطبيعة، فذكاء الانسان أقل من ان يحيط بحكمة الخالق.(2/54)
المادية وحدها لا تكفي
كتبها: ايرفنغ وليام نوبلوتشي
أستاذ العلوم الطبيعية – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أيووا – أخصائي الحياة البرية في الولايات المتحدة – أستاذ العلوم الطبيعية في جامعة ميشيغان منذ سنة 1945 – أخصائي في وراثة النباتات ودراسة شكلها الظاهري.(2/55)
يميل بعض المشتغلين بالعلوم – في ظل ثقتهم الكبيرة بإمكانياتها – إلى الاعتقاد بان العلوم قادرة على حل جميع المشكلات. فالحياة من وجهة نظرهم ليست الا مجموعة من القوانين الطبيعية والكيماوية التي تعمل في مجال معين وقد أخذ هؤلاء يفسرون الظواهر الحيوية المختلفة الواحدة تلو الأخرى تفسيرات تقوم على إدراك السبب والنتيجة والوجود من وجهة نظرهم لا يستهدف غاية، وسوف ينتهي الأمر بعالمنا إلى الزوال عندما ينضب معين الطاقة الشمسية وتصير جميع الأجسام هامدة باردة، تبعا لقوانين الديناميكية الحرارية.
ويلخص بيرتراندراسل هذه النظرة المادية المتطرفة فيقول: (ليس وراء نشأة الانسان غاية او تدبير، ان نشأته وحياته وآماله ومخاوفه وعواطفه وعقائده، ليست الا نتيجة لاجتماع ذرات جسمه عن طريق المصادفة. ولا تستطيع حماسته او بطولته او فكره او شعوره ان تحول بينه وبين الموت. وجميع ما قام به الانسان عبر الأجيال من أعمال فذة وما اتصف به من ذكاء واخلاص مصيره الفناء المرتبط بنهاية المجموعة الشمسية. ولابد ان يدفن جميع ما حققه الانسان من نصر وما بناه من صروح المدنية تحت أنقاض هذا الكون. ان هذه الامور جميعا حقائق لا تقوى فلسفة من الفلسفات على انكارها).
ولكن العلماء ليسوا جميعا ممن يعتقدون في قدرة العلوم على كل شيء حتى تستطيع ان تجد تفسيرا لكل شيء، فالعلوم لا تستطيع ان تحلل الحق والجمال والسعادة، كما انها عاجزة عن ان تجد تفسيرا لظاهرة الحياة او وسيلة لإدراك غايتها، بل ان العلوم أشد عجزا عن أن تثبت عدم وجوده.(/)
ان العلوم مهتمة بتحسين نظرياتها، وهي تحاول ان تكشف عن كنه الحقيقة، ولكنها كلما اقتربت من هذين الهدفين زاد بعدها عنهما. ان فكرتنا عن هذا الكون قائمة على أساس حواسنا القاصرة وعلى استخدام ما لدينا من الأدوات غير الدقيقة نسبيا. ويقول العالم الطبيعي والكاتب اللامع (أوليفر وندل) في هذه المناسبة: (كلما تقدمت العلوم ضاقت بينها وبين الدين شقة الخلاف، فالفهم الحقيقي للعلوم يدعو إلى زيادة الايمان بالله).
ان العلوم لا تستطيع ان تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد، كما لا تستطيع العلوم ان تفسر لنا بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة. ولاشك ان النظرية التي تدعي ان جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن، نقول ان هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها الا عن طريق التسليم، فهي لا تقوم على أساس المنطق والاقناع.
حقيقة ان العلوم تقوم على اساس الايمان بالحواس والوسائل، وليس على اساس الايمان بالسلطة والاحتمالات او المصادفة. وعلى ذلك فاننا نستطيع ان نقول بان العلوم والدين يقومان على اساس مشترك هو الايمان. والفرق بينهما هو ان العلوم تستطيع داخل دائرتها الخاصة ان تختبر قوانينها بالملاحظة والتجربة والمراجعة، فهي بذلك تحاول ان تتلافى كثيرا من الأخطاء التي قد تقع فيها.(2/56)
والايمان بالدين تدعمه الاكتشافات العلمية. وقد أيدت العلوم فعلا كثيرا من النبوءات التي جاءت بها الكتب المقدسة. ولاشك ان العلوم سوف تكشف في المستقبل عن صحة كثير من الامور الاخرى التي وردت في تلك الكتب والتي لم يصل اليها(1) علمنا بعد. فعلم الفلك مثلا يشير إلى ان لهذا الكون بداية قديمة، وان الكون يسير إلى نهاية محتومة، وليس مما يتفق مع العلم ان نعتقد ان هذا الكون أزلي ليس له بداية او أبدي ليس له نهاية، فهو قائم على أساس التغير. وفي هذا الرأي يلتقي الدين بالعلم.
والعلوم بحكم طبيعتها المادية اعجز من أن تبحث عن الله بطرقها المادية او ان تدرك كنه ذاته تعالى، ولكن ملاحظة عجائب هذا الكون قد دعت كثيرا من علماء الفلك الأمناء إلى الاعتقاد بانه لابد ان يكون لهذا الكون باتساعه الفسيح ونظامه المعجز، مدبر لا نراه، ولا نستطيع ان ندرك كنهه. وقد قال تشادوالش: ( ان ما يطالب إلى اي انسان، سواء أكان مؤمنا ام ملحدا، هو ان يبين لنا كيف نستطيع المصادفة ان تخلق هذا الكون). ولا شك ان هذه طريقة من طرق التحدي الذي يقصد به الاستدلال على وجود الله. اما توماس ميللر فيتبع أسلوبا آخر أكثر عمقا من ذلك، حين يقول: (ان ما يستطيع ان يدركه العقل البشري الفاني عن الله، لابد ان يكون نتيجة خبرة ومعرفة بالله. والخبرة لا بد ان تأتي اولا، اما المعرفة فانها تأتي بعد الخبرة وتكون مجرد تفسير لها).
__________
(1) - (خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون) سورة الأنبياء، آية 37.(2/57)
اما بالنسبة إلى نفسي بوصفي أحد المشتغلين بالعلوم، فانني لا أستطيع ان انفي قوانين المصادفة(1)، لانني المس نتائجها في كثير من أامور حياتنا اليومية. ولا أستطيع كذلك ان ارفض النظريات المادية رفضا باتا لان نجاح المشتغلين بالعلوم يتوقف على مدى وصولهم إلى تفسيرات طبيعية للظواهر العويصة التي يدرسونها.
ولكني أؤمن بوجود الله. انني اعتقد في وجوده سبحانه لأنني لا أستطيع ان أتصور ان المصادفة وحدها تستطيع ان تفسر لنا ظهور الإلكترونات والبروتونات الأولى او الذرات الأولى او الأحماض الأمينية الأولى او البروتوبلازم الأول او البذرة الأولى او العقل الأول. انني اعتقد في وجود الله لان وجوده القدسي هو التفسير المنطقي الوحيد لكل ما يحيط بنا من ظواهر هذا الكون التي نشاهدها.(2/58)
الحائر الصغير يفكر
كتبها: رسل لويل مكستر
أستاذ علم الحيوان
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الينوى – أستاذ علم الحيوان ورئيس القسم بكلية هويتن – عضو الجمعية العلمية بالينوى – رئيس المؤسسة العلمية من سنة 1951 إلى سنة 1954 – متخصص في دراسة الأنسجة والعناكب والتطور.(/)
يعرف الانسان ربه لأول مرة عن طريق والديه، فهما يستخدمان لفظ الجلالة بكل تقديس، وبذلك يتعلم الطفل منذ صغره ان يلجأ إلى الله بطريقته البسيطة، وان يسأله ان يقتضي له حوائجه بنفس الطريقة التي يلجأ بها إلى أبيه، ويكون الطفل في هذه المرحلة راضيا ومطمئنا إلى ربه الذي لا يراه.
__________
(1) - يرى فريق من العلماء المعاصرين ان استخدام لفظ المصادفة هو تخلص من تفسير الظاهرة او الأمر الذي حدث تفسيرا طبيعيا، وعلة ذلك اننا لم نصل بعد إلى تلك التغيرات الطبيعية.(/)
ثم يكبر الطفل ويقرأ في الكتب قصص المؤمنين الذين ساروا في طريق الله. فكان في ذلك نجاة لهم من الوحوش، وبرد وسلام عليهم من النار، ومنجاة من ضرب السيوف، وقوة من ضعف، وتأييد في مواقف القتال. وكم يستولي على الطفل الإعجاب ببطولة هؤلاء المؤمنين، وكم تتوق نفسه إلى الاقتداء بهم واتخاذهم أسوة له في حياته. انه يرى ان ذلك يعينه على صيانة الامانة، ويشعر ان له رفاقا من الماضي يشدون أزره، ويقوون عزيمته ويبثون الشجاعة في نفسه على مدى الحياة.
فاذا دخل الطفل المدرسة جذبته في اتجاهين متعارضين: فهي من جهة تقوي ايمانه بالله، وهي من جهة أخرى تضعف ايمانه به. وهو يتعلم ان بلاده تتألف من جماعات كثيرة بينها مصالح مشتركة، ويقود كل جماعة من هذه الجماعات رئيس او زعيم، ويسيطر على جميع هؤلاء الرؤساء قائد كبير يفرض الأمور على الناس، وعلى الناس جميعا ان يطيعوا أوامره.
ويتصور الطفل الإله المسيطر على هذا الكون في صورة الرئيس من حيث سلطته التي يفرضها على الآخرين. ولماذا كان من الطبيعي ان يكون للناس قائد يدبر أمورهم فلا بد ان يكون لهذا الكون مدبر يدبره ويفرض سلطانه على جميع البشر والكائنات.
ومن جهة اخرى فانه اذا كان الناس ينتخبون رئيسهم، فان فكرة وجود الله بالنسبة إلى هذا التلميذ الصغير قد لا تعدو ان تكون مجرد صورة ذهنية تجول في عقول الناس. وكثيرا ما تستولي الحيرة على عقل هذا الطفل فيتساءل: ترى هل يوجد اله حقيقة؟ وذا كان يوجد فما كنهه وما صورته؟ وعندما يصل الطفل إلى هذه المرحلة من الشك والوساوس، كثيرا ما يطرح تفكيره العقلي في الله جانبا، وقد يسلم بوجوده استسلاما، وقد يطلب إلى أصدقائه ان يبتعدوا عن الحديث في هذا الموضوع حتى لا يثيروا قلقه، وعندئذ يصير الطفل تائها حائرا. فهو يؤمن بوجود الله لانه يشعر انه يجب عليه ان يكون مؤمنا، وهو في الوقت ذاته لا يحب ان يعبث عقله بايمانه.(2/59)
ويقرأ الطفل احد الكتب المقدسة، ويجد ان الانسان يستطيع ان يصل إلى الله باستخدام عقله، وانه لابد ان يقوم الايمان بالله على أساس المنطق والتفكير، وعندئذ يجد صاحبنا في البحث والدراسة، وقد يتحول من الحائر الصغير إلى المؤمن الكبير فتنسجم روحه مع عقله ويدرك كمال الله وحكمته.
ان عمل كاتب هذا المقال يجعله وثيق الصلة بالطبيعة وبالإله الذي يسيطر عليها. وليس من المنطق ان يفصل الانسان بين الاثنين. انني أرى انواعا عديدة من النباتات والحيوانات الحية التي عاشت على سطح هذه الأرض والتي يبلغ عددها الملايين، وانا اعني هنا الأنواع لا الأفراد، فعدد الأفراد يبلغ أرقاما خيالية تشبه الارقام التي تستخدم في عمل الفلك. فهل هنالك نظام تخضع له هذه الأنواع المختلفة؟ نعم هنالك نظام حيثما اتجهنا. فكل نوع من هذه الأنواع ينقسم إلى فصائل، وتنقسم الفصائل بدورها إلى أقسام اصغر فأصغر. ولكننا مهما قسمنا نجد ان هنالك صفات مشتركة بين جميع الافراد التي تنتسب إلى نوع من هذه الأنواع ينقسم إلى فصائل، وتنقسم الفصائل بدورها إلى أقسام أصغر فأصغر. ولكننا مهما قسمنا نجد ان هنالك صفات مشتركة بين جميع الأفراد التي تنتسب إلى نوع واحد او صنف واحد. فاذا نظرنا إلى أحد الطيور التي تسمى نقارة الخشب، فاننا نجدها جميعا قد بنيت على طراز واحد، وقد تتشابه مع غيرها من الطيور بقدر وتختلف عنها بقدر. وهنالك صفات مشتركة بين جميع الفصائل والأنواع الحيوانية الموجودة في الطبيعة بأسرها فهي تشترك جميعا في اللحم او في البروتوبلازم. ويعد ذلك في نفسه دليلا على ان وراء كل ذلك التنظيم خالقا مدبرا هو الذي خلق المادة الأساسية فيها وأودع فيها من القوة والتوجيه ما جعلها تتخذ هذه الصور التي لا تحصى من الأفراد والأصناف والأنواع والأجناس.(2/60)
ان المنطق السليم يدفعنا إلى التسليم بوجود عقل مقدس هو الذي خلق ودبر تلك الاختلافات(1) والاتفاقات التي نتحدث عنها، بدلا من ان يجعلنا نتصور ان تلك الأنواع المختلفة من الكائنات الحية والأجناس قد ظهرت بمحض المصادفة التي أدت إلى اتحاد بعض العناصر تحت ظروف البيئة.
ان المنطق السليم الذي يجعلنا نلاحظ ان الانسان يستطيع ان يقوم بامور معقدة، هو نفس المنطق الذي يجعلنا نعتقد بوجود خالق عظيم هو الذي أبدع كل هذه الكائنات. ومهما بلغت الاختلافات بين أفراد النوع الواحد او بين الأنواع الحالية التي عاشت في اقدم العصور الجيولوجية، سواء منها ما اندثر او ما يزال حيا، فان الانسان لا يستطيع الا ان يسلم بان هذه الكائنات جميعا قد بدأت على هيئة مخلوقات متلائمة- مخلوقات من صنع الخالق الكبير – فاذا قرأنا في الكتب المقدسة ان الله تعالى خلق الانسان والحيوان والنبات، فاننا نستطيع حينئذ ان نصدق ذلك لان ما نراه في الطبيعة يتفق مع هذا القول، ومع ذلك فان الكتب المقدسة ليست من كتب العلوم، الا أنها تمس المبادئ الاساسية للعلوم وتشير اليها(2). والحقيقة التي لا أشك فيها، والتي لا تستطيع النظريات المادية ان تنتقص منها، هي ان الإله الذي يصل اليه الانسان بفكره ودراسته لهذا الكون هو نفس الإله الذي تتحدث عنه الكتب السماوية.
انه إله الكتب المقدسة الذي تتجلى أياديه في الجبال والسماء والبحار، وتتجلى قدرته في المراعي النضرة والطيور السابحة في جو الأرض وفي سائر الكائنات.
__________
(1) - ينبه القرآن إلى حكمة اختلاف أجناس البشر بالذات وتباين لغاتهم في مواضع عديدة منها: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم ان ذلك لآيات للعالمين) سورة الروم، آية: 22.
(2) يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.. ) سورة الحجرات، آية: 12.
- انظر إلى ما جاء في القرآن كقوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح). الا تمس هذه الآية موضوع التلقيح في عالم النباتات الزهرية؟ وهل كان محمد عليه السلام من المشتغلين بعلوم النبات؟(2/61)
حقائق من سجل الغابات
كتبها: لورنس كولتون ووكر
أخصائي علوم الغابات و النباتات و علم الفسيولوجيا - حاصل على درجة دكتوراه من جامعة نيويورك - أستاذ علم الغابات بجامعة جورجيا.(2/62)
جاء في الإنجيل ما معناه أن الله هو الدافع على الفوضى و الارتباك، و الحق أنه سبحانه هو الذي نظم هذا الكون فأحسن تنظيمه و أبدعه أيما إبداع.
إن عوام الناس ينظرون إلى قمم الجبال من أسفل الوادي، فتأخذهم روعتها فينسبونها إلى الله تعالى، أو يسمعون صوت الريح العاصفة تقطع صمت الأشجار و النباتات، فيدركون جانبا من آيات الله التي تظهر في أرجاء هذا الكون و يتضاءل بجانبها ملك سليمان.
حقيقة إن روعة هذا الكون ،إنما هي من إبداع الخالق الأعظم، و لكن وقوف الإنسان عند هذا الحد من الإعجاب يشبه الإنسان بمظهر بعض الأعمال التي ينتجها صانع أو نجار بارع، دون أن يجهد نفسه في تأمل دقة الصناعة و تفاصيلها و روائع الزوايا و التشابك (التعاشيق) و الحلي الداخلية و غير ذلك..
و لو أن تدبير الله العالم الذي نحن فيه قد اقتصر على خلق الوديان الخصيبة مما تنقله عوامل التعرية من الطمي و الرواسب و تجلبه من فوق سفوح الجبال ، لكان هذا الأمر هينا من وجهة نظر المتخصصين في فسيولوجيا النبات أو في علم الجيولوجيا، و لكن لكي يدرك الإنسان روعة هذا العالم و ما وراءه من جلال الحكمة و التدبير ، لابد أن يدرسه بدقة و أن يتأمل في الغابات و الحقول، عندئذ سوف يجد أن ما كان يعده طبيعياً ليس إلا إعجازاً إلهياً يعلو فوق مستوى البشر و تعجز عن إدراكه كنهه، و هنا لا سبيل إلا إلى الإيمان بالله و بقدرته و جلاله.
و يقول كارل هايم في كتابه (المسيحية و العلوم الطبيعية):(/)
(إن عجائب الكون لا تسمح بالإيمان فحسب بل تدعو الناس إلى هذا الإيمان. و إن الاستدلال بالكون على وجود الله قد عاد إلى الظهور من جديد في عصر النهضة و التفكير العقلي بسبب انهيار النظرية الآلية في تفسير الكون بعد أن كادت هذه النظرية تقضي على هذا النوع من الاستدلال).
و إنني أكتب هذا المقال من وجهة نظري متخصصاً في بحوث الغابات ومهتما بدراسة علم البيئة و فسيولوجيا النباتات لكي أظهر جانباً مما للغابات من أدلة على وجود الله.
تجدد تربة الغابات:
تظهر في جبال أديرو نداك رمال عميقة يرجع أصلها إلى ما اكتسحته أنهر الجليد في سابق الأزمان. و التربة في هذه الأماكن ضعيفة بسبب نقص العناصر الغذائية و بخاصة عنصر البوتاسيوم الذي تجرفه المياه بمجرد تكونه نتيجة لتحليل المواد العضوية، و لا يتبقى من هذا العنصر إلا ما يدخل في تركيب المواد العضوية ذاتها. و لقد كانت تنمو على هذه السهول الرملية غابات من أشجار التنوب الفضي spruce و الصنوبر و الشوكران hemlock، و لكن سهولة طبيعة الأرض فوق هذه السهول أغرت باقتلاع هذه الأشجار و زراعة الأرض. و بعد انقضاء مائة عام زرعت الأرض في أثنائها زراعة عنيفة استنزفت عناصر التربة و أضعفت خصوبتها إلى حد كبير، و لذلك شرع في زراعتها بأشجار الغابات من جديد.
و بعد مضي سنوات قليلة على زراعتها بأشجار الشوكران و أشجار الصنوبر الأبيض و الأحمر، ظهرت أعراض نقص البوتاسيوم في التربة على الأشجار. و قد أظهرت بعض البحوث العلمية التي أجريت على نباتات هذه الغابات أن بعض الأشجار العشبية المستوطنة مثل أشجار القان (BIRCH ) الرمادي و أشجار الكريز الأسود ، قد ظهرت على أوراقها أعراض نقص البوتاسيوم في صورة الوان شاذة يمكن بواسطتها تحيد خواص التربة في المناطق المختلفة مدى صلاحيتها لزراعة الأنواع المختلفة من الأشجار.(2/63)
وبذلك تجلت معونة الله لنا و ما أودعه من نظام بديع في معاوننا على اصلاح الأخطاء التي كان الانسان سببا في حدوثها.
لقد هيأ لنا الله - بفضله - الطريقة التي تعيننا على تحديد الأماكن التي تصلح لزراعة الشوكران و أشجار الصنوبر الأحمر و الأبيض، وتحديد الناطق التي يمكن زراعتها ببعض الأشجار ذات القيمة الاقتصادية، مما لا يضره انخفاض مستوى عنصر البوتاسيوم في التربة مثل أشجار الصنوبر الأسكتلندي و غيرها. كما وجدنا أن أوراق بعض النجيليات و أشجار الفراولا البرية و أنواعاً عديدة أخرى من الشجيرات العشبية و أشجار الصنوبر الأبيض يمكن تحليلها تحليلاً كيميائياً للوقوف على مدى صلاحية الأماكن و المناطق المختلفة المزروعة فيها . فالصنوبر الأبيض مثلا تظهر عليه دلائل نقص البوتاسيوم عندما تنخفض نسبة البوتاسيوم في الأوراق الإبرية عن 0,5%. و يمكن الاستدلال بنسبة البوتاسيوم الموجودة في هذه الأوراق على نسبة البوتاسيوم الموجود في التربة و الذي هو قابل للامتصاص.
و هنالك ظاهرة أخرى من الظواهر التي شوهدت في هذه الغابات، فالقان الأبيض، و هو عادة من الأعشاب التي تنمو بكثرة من تلقاء نفسها و تجوز زراعتها إلى حد بعيد في مناطق السهول تنمو تحت جذوره و في حضانتها نباتات الصنوبر البيضاء التي تكون في هذه الحالة كثيفة غاية الكثافة. و قد لوحظ أن أعراض نقص البوتاسيوم لا تظهر على الأشجار الصنوبرية التي تنمو بجوار القان، و أثبتت تحاليل التربة و الأوراق أن نسبة البوتاسيوم القابل للامتصاص كانت تحت هذه الظروف ثلاثة أمثالها في في الأرض الخالية من أشجار القان مما يثبت أن لأشجار القان قدرة كبيرة على تجيد خصوبة التربة التي تكون عناصرها قد استنزفت بسبب الإجهاد المترتب على طول فترات زراعتها. و لا شك أن هذه التغذية المعدنية ، تعتبر همزة الوصل التي يستخدمها الإنسان لكي يحوّل المواد غير العضوية الميتة إلى عالم الحياة.(2/64)
و من الظواهر العجيبة الأخرى التي شوهدت في التربة في وادي كوليكتيكت ما لوحظ من أن شجر السد ر الأحمر يستطيع بمصاحبة خرطوم الأرض و هو من الدود ن أن يزيد من نسبة عنصر الكالسيوم بالتربة. فأوراق السدر الأحمر تتساقط على قاع الغابة، و عندئذ تنجذب ديدان الأرض إليها بسبب ارتفاع نسبة الكالسيوم بها. و سرعان ما تلتهم الديدان هذه الأوراق و تهضمها و بذلك تطلق في التربة عنصر الكالسيوم في صورة يسهل على النبات امتصاصها و الاستفادة بها.
و لا تقتصر فائدة السدر الأحمر على الناحية الغذائية وحدها، بل إنه يؤدي إلى تحسين جميع الخواص الطبيعية للتربة مثل مساميتها، و سرعة رشح الماء خلالها، و قدرتها على الاحتفاظ بالماء و منسوب الماء فيها. و لجميع هذه الصفات علاقة كبيرة بالاستفادة من مياه الفيضان و السيطرة عليها.
و نستطيع أن نذكر أكثر من ذلك في سياق الحديث عن العناية المقدسة و القدرة الإلهية التي تتجلى في إعادة خصوبة التربة، ففي الغابات البكر التي لم يتدخل في أمرها الإنسان، تتكاثر الأشجار و تتتابع أنواعها على ممر الأجيال حتى تصل في نهاية الأمر إلى نوع من الاستقرار تميزه أشجار خاصة تنمو و تتكاثر فيها إلى ما شاء الله إلا إذا تدخل في أمرها الإنسان أو دهمتها النار، أو عبثت بها العواصف. و يؤدي تدخل الإنسان في أمر هذه الغابات الطبيعية ن بزراعتها و استنزاف خصوبتها، إلى نقص صلاحيتها لنمو الأشجار، و عندئذ نكون قد خسرنا الأشجار و التربة، و يعقب ذلك حدوث الفيضانات.(2/65)
إن الإنسان يبذل أموالاً طائلة لكي يقلل من أخطار الفيضانات بإقامة مشروعات السود الضخمة، و لكن إقامة هذه السود ليست إلا حلا مؤقتاً ضد قوة جبارة لا تستطيع أن تصدها حواجز الصخر أو البناء المسلح، و لابد أن يقوم العلاج الحقيقي لمشكلة الفيضان على مهاجمها في مصدرها. و لا يتم ذلك بإقامة السدود و إنما بإعادة الأشجار و النباتات إلى الأرض، و هو أمر تقوم به الطبيعة من تلقاء نفسها، فإنه لا يكاد ينقضي عام على الأراضي و الحقول التي تكون قد هجرت بسبب استنزاف عناصرها و نقص خصوبتها ن حتى تنمو بها الحشائش الكثيفة و الأعشاب و الشجيرات و بادرات الأشجار، وهذه كلها تعمل على عودة الخصب إلى الأرض من جديد. و في منطقة بدمونت التي تقع في شرق الولايات المتحدة، تكفي خمسة و عشرون سنة لتكوين طبقة جديدة ظاهرة من المواد الدبالية التي تغطي سطح التربة و تعيد إليها خصوبتها. و حتى في المناطق التي هي أشد برودة من هذه المنطقة حيث يكون تحلل المواد العضوية أشد بطؤا، فإن هذه الطبقة في تكوينها أكثر من 50 سنة. و يلاحظ أن التربة التي تستصلح بهذه الطريقة لا ترجع كعهدها الأول من حيث معالجة أخطار الفيضان. و مع ذلك فإنها تتحسن كثيراً عن ذي قبل. و في ذلك يقول جونث:
(ان الطبيعة لا تعرف الإسراف. إنها دائماً صداقة و عظيمة و عنيفة. إنها دائماً صائبة. أما الخطأ فإنها لا يحدث إلا من جانبنا. إن الطبيعة تحارب العجز و لا تكشف أسرارها إلا للقادرين المخلصين الأتقياء ).
سد فروج الغابات:
عندما انتشر مرض الأندوثيا، وهو المرض الذي يسبب الشلل لنباتات الكستناء (أبي فروة)(2/66)
خلال العقدين الأولين من هذا القرن، شاهد كثير من الناس فروجاً في أسقف الغابات و لاحظوا ان هذه الفروج لا تسد أبداً. و لقد كان الكستناء الأمريكي يحتل مكانا بين سائر أنواعه في العالم لا يدانيه فيه مكان آخر ، فقد كان يمتاز بنوعه و مقاومته للتعطن و بنخاعه الخشبي و ما به من مادة التنين، ثم بثماره وبما يعطيه من الظل و غير ذلك من الصفات الممتازة العديدة الأخرى.
و كان ينمو على حواف الجبال ذات التربة الضعيفة كما ينمو في الوديان الخصبة. قبل أن يصيبه هذا المرض الذي وصل إليه من آسيا حوالي 1900، لم تكن تصيبه أمراض أخرى، فلقد كان بحق ملك الغابة أما الآن فقد باد و اندثر من الغابات و لم يعد يشاهد منه إلا بعض البراعم الضئيلة تنبثق بين حين و آخر من بقايا جذوع الأشجار التي كانت قائمة يوماً من الأيام كأنما تذكرنا أن البقاء لله وحده، و أن أقوى الرجال كأقوى الأشجار لابد يوماً أن يزول.
و ما لبثت الفروج التي حدثت في سماء الغابة حتى ملئت، لقد سدتها أشجار الخزامى ، التي كأنما كانت تراقب ما نزل بأشجار (أبي فروة) من داء لتحل محلها بفارغ الصبر حتى تحصل على ما يكفيها من الضوء. فهي من الأشجار التواقة إلى الضوء و التي لا تحتمل المعيشة في الظل. و حتى ذلك الوقت كانت أشجار الخزامى من الأشجار الضئيلة في الغابة التي لا يمكن أن تعتبر من أشجار الخشب القيمة إلا نادراً. أما الآن فإنها أحداً لا يحزن على ما حل بأشجار الكستناء من خسارة، إذ تقوم مكانها جذوع أشجار الخزامى الضخمة التي تضيف كل منها إلى نفسها بسبب نموها السريع ما يقرب من بوصة في السمك و ست بوصات في الارتفاع سنويا. و بالإضافة إلى سرعة نموها فإنها تعطي خشبها من النوع الممتاز. فهل تضع الطبيعة العبقرية خططها و تدبيرها للأمور بأكثر من تهيئة الظروف المناسبة ؟(2/67)
و لقد كنت أتحدث مت زميل ممن أطمئن إليهم من الأخصائيين في فلاحة الغابات عن ذلك المرض الذي أصاب نباتات الكستناء ، وهو ينصح المشتغلين بالغابات بان يلجأوا دائماً إلى كتاب الكون و الطبيعة لكي يجدوا فيه حلا لكل مشكلة من المشكلات. و يقول إسحق وطسن في هذا المعنى:
( إن الطبيعة تحمل كتابها المفتوح).
(وتسبح بحمد الله و جلاله).
و يقول عالم النبات اللامع آساجراى في محاضراته التي ألقاها في جامعة ييل سنة 1880 : (إن ما تنقله العلوم من عالم المجهول إلى عالم الطبيعة لا ينال من الإيمان أو يتعارض معه، فالعلوم تسير في نفس الاتجاه الذي تسير فيه الطبيعة. و على ذلك فإن وظيفة العلوم هي العمل أن ترد ظواهر الكون في نشأتها الأولى إلى قدرة الله جلاله).
أضواء جديدة على خلق مبتكر
تحتوي النباتات على هرمونات تقوم بأداء وظائف مختلفة فيها. و من فصيلة هذه الهرمونات مركب صناعي اسمه 2 – 4 – 5 – ت، يقوم بانضاج ثمار الطماطم، ويمنع استنبات البطاطس عند خزنة، ويؤدي إلى سرعة نمو الأجزاء الجذرية عند زراعتها، وربما يقوم بغير ذلك من الوظائف الحيوية العديدة التي لم نكتشفها بعد. وهذا الهرمون، او بعبارة اصح هذا المنظم لعملية النمو – لأنه في الواقع مركب صناعي عضوي له خواص الهرمونات – لا تزال تجري عليه البحوث والتجارب لمعرفة خواصه وآثاره المختلفة في حياة النبات ونموه.
والمعنى الذي نحب ان نشير اليه في هذا المقام، هو أن ظهور مركبات من أمثال هذا المركب في الطبيعة، مما أبدعه الخالق الأعظم مشابهة لما استطاع الانسان ان يقوم بتركيبه في المعمل بعد تفكير وتدبير، يعد دليلا على ما يسود هذا الخلق من نظام وتدبير.(2/68)
ويهمنا في هذا المقام الطريق التي يسلكها النظير المشع لهذا المركب داخل أشجار الغابات، فذرة الكربون الاخيرة (ك12) الداخلة في تكوين هذا المركب، يمكن ان تستبدل بنظريتها (ك14) بطريقة صناعية. وعندئذ يمكننا استخدام هذا المركب الجديد لكي نحدد بكل دقة الطريقة التي يسلكها عند انتقاله من الأوراق إلى الساق إلى الجذور بل يمكن فوق ذلك ان نعين معدل حركته داخل النبات، وقد يعد ذلك من وجهة نظر الخارجين على الدين مظهرا لروعة الطبيعة. اما بالنسبة لنا فانه دليل على قوة الله الموجهة التي توجه كل ذرة إلى حيث ينبغي ان تكون وترسم طريقها وتحدد مستقرها.
ومن عجائب ما تكشف عنه هذه الدراسات ما تبين من ان هذا الهرمون يبقى ثابتا لا يتغير داخل النبات برغم ما يقوم به من التفاعلات العديدة. فقد وجد ان نسبة ما يتحول منه إلى مركبات كيماوية اخرى لا يزيد عن 10%، وأعجب من ذلك انه مهما تغيرت الكمية التي توضع منه على سطح الأوراق، فانه لا يمتص منه الا قدرا ضئيلا. فالنبات لا يحتاج منه في أداء وظائفه التي تتصل بعمليات التحول الغذائي الا إلى قدر يسير. افلا يدل كل ذلك على نظام دقيق عجيب رسمه خالق قادر مدبر؟(2/69)
ونحن نستطيع ان نختبر وجود هذا المركب باستخدام طريقة الأوراق الملونة، وهي تتلخص في وضع قطرة من المادة التي نريد اختبارها على طرف قطعة او شريط من ورق الترشيح، ثم غمس هذا الطرف في حوض او إناء به مادة مظهرة بينما يبقى طرفها الآخر معلقا فوق الحائط. عندئذ تمتص الورقة بعض المادة المظهرة بخاصية الانتشار الغشائي. ويكتسح المظهر قطرة المادة التي وضعناها …على طرف ورقة الترشيح، وهي المادة التي نريد ان نختبر وجودها، وبذلك يترسب كل مركب عضوي من المركبات الناتجة من تفاعل هذه المادة مع المظهر على ارتفاع معين وفي بقعة معينة على ورقة الترشيح مكونا ما يسمى بخريطة الألوان، والى هنا ينتهي الأمر ولا يتبقى علينا الا ان نضع جهازا خاصا يسمى عداد جيجر على ورقة الترشيح لكي يحدد لنا موقع ذرة (ك14) التي نريد ان نكشف عن وجودها.
ان تلك التفاعلات الدقيقة والحركة المنظمة والخضوع لقوانين ثابتة مما تكشف عنه هذه التفاعلات وأمثالها التي لا يحصيها عد ولا حصر، ليست الا دليلا وشاهدا على ان الكون منظم غاية التنظيم مما أطلق عليه هجلز (نظرية كمال الكون). فذرة الكربون (ك14) في المركب العضوي، والالكترون الذي يشع منها على ورقة الترشيح يعدان من وجهة نظر الباحث الامين دليلا على انه ليس هنالك تناقض بين العلوم وبين فكرة وجود الله، الذي قدر كل شيء فأحسن تقديره، والذي ظهرت آياته للناس في ثنايا ما تكشف عنه العلوم، وما أوتينا من العلم الا قليلا. وكما قال الفيلسوف بول: (ان قدرة الله تتجلى في كل شيء. ظهر الحق، فمنذ بدأ الله هذا الكون تتجلى آياته وقوته الخالدة في كل ما يقع عليه الحس او يحيط به العقل).(2/70)
ما وعاه ابن صاحب البستان
كتبه: وولتر ادوارد
أخصائي علم الوراثة
حاصل على درجة الدكتواره من جامعة كاليفورنيا – أستاذ الوراثة بجامعة كاليفورنيا بولس أنجلوس – مدير البحوث بحدائق ديسكانسو بكاليفورنيا – متخصص في تربية الزينة وبخاصة الورد.(/)
اذا سألني سائل: (لماذا تؤمن بالله)؟ قد أقول له بصراحة وأمانة: (هكذا علمني والداي)، فتلك هي الطريقة المعتادة التي يرث بها الناس ايمانهم بالله. ولكنني اعود فأذكر ان والدي قد علماني كذلك ان اعتقد في سانتاكلوز وايستربنيز، وتحت تأثير تلك الأحاجي وقصص الطفولة العديدة الخرافية الجذابة سرعان ما وجدت انني ادرك اكثر واكثر حكمة الخالق وقدرته في هذا العالم.
وكثيرا ما لفت نظري، بحكم بنوتي لأحد اصحاب البساتين، ما يحدث لاشجار الفواكه المختلفة كأشجار التفاح والبرقوق والكمثري في منطقة شرقي واشنغتون من تكييف جزئي لتلائم الجو عندما تنخفض درجة حرارة الهواء إلى 20 درجة تحت الصفر، فتبدو هذه الاشجار هامدة مجردة من الحياة طيلة فصل الشتاء، حتى اذا جاءها الربيع اهتزت وربت وأخرجت من الازهار والثمار ما يأخذ جماله بالألباب، ولما كانت هذه الاشجار لم تتأقلم تماما في بلادنا فان تخر تساقط الصقيع كثيرا ما يقتل البراعم ويقضي على المحصول، ويؤثر على جميع سكان الوادي تاثيرا سيئا بما يسببه من أزمة اقتصادية.
وكثيرا من كنت أسائل نفسي كيف يرضى العدل الالهي بهذه الخسارة الفادحة في محصولنا؟ ولكنني أدركت الجواب بعد قليل، فليس الخطأ من جانب الله سبحانه وانما من أنفسنا، وذلك لاننا نحاول ان نزرع في بلادنا انواعا من النباتات غير متلائمة مع الظروف الجوية عندنا. والمشاهد ان هذه النباتات لا يصيبها في مواطنها الأصلية هذا النوع من التلف، فهي تتحمل برد الشتاء، وتزهر بعد انتهائه عندما يكون الخطر الذي يتهددها قد زال، وبرغم ان جميع هذه الانواع مما ينمو في المناطق المعتدل، فان لكل صنف من أصنافها ظروفه الخاصة التي تلائمه، وهو لا يمكن ان يتأقلم في مكان آخر الا بعد أجيال تنقضي في عمليات الانتقاء والتربية.(2/71)
ومن ذلك نرى ان جميع النباتات والحيوانات لم تخلق لكي تعيش في بيئة ثابتة محددة الأوصاف، بل ان لديها من الاستعدادات ما يجعلها قادرة على مسايرة الأجواء والظروف الاخرى في حالة الضرورة والاضطرار. وتعنى دراسة الوراثة بمعرفة مدى استعداد الحيوانات والنباتات المختلفة لهذه الملاءمة. وقد شغفت بهذا النوع من الدراسة بسبب ما قمت به منذ صباي من تجارب على زراعة بادرات البرقوق ودراسة التحولات التي تطرأ عليها، كما كان عندي شغف بدراسة الحشرات المختلفة وبخاصة ما يقوم منها بعملية التلقيح، مثل النحل والنمل والذباب وغيرها. ولقد كنت أتساءل دائما في قرارة نفسي كيف تم هذا التوافق العجيب بين الازهار والحشرات التي تقوم بتلقيحها؟ وهيأت لي قراءة ذلك الكتاب الرائع الذي ألفه هنري فابر عن عجائب الغرائز في الحشرات وحياتها الاجتماعية المعقدة دليلا على ما يسود هذا الكون من نظام محكم وتدبير عظيم.
وقد كان يخيل إلى كانما توجد قوة أخرى في هذا الكون تعمل في اتجاه عكسي وتمنع – او على الأقل تحول – دون استفادة الانسان فائدة كاملة من النباتات والحيوانات. فهنالك مثلا كثير من النمل وقليل من النحل مما ينجم عنه ضعف في محصولاتنا، كما نلاحظ ان التربة يتناقض خصبها تدريجيا ومع ذلك فانها تنتج كثيرا من العشب القوي. فلماذا يحدث كل ذلك؟ ان الطبيعة لم تعطنا الإجابة عن هذا السؤال، ولكني عثرت على هذه الاجابة في الكتاب المقدس: انه غضب الله ينزل بالتربة وبالطبيعة بسبب اخطاء الناس، ومع ذلك فلا يزال هنالك من الخير في كثير من المخلوقات ما يسمح بظهور قدرة الله العجيبة وحكمته البالغة. وعلينا نحن في حدود طاقتنا ان نساعد على عودة الأرض إلى حالتها الاولى من الجمال والكمال.(2/72)
هكذا كانت فلسفتي عندما بدأت دراستي الجامعية ودرست نظرية التطور المادي، وهي النظرية الوحيدة التي ينظر اليها البعض على انها يمكن ان تغني عن الاعتقاد في وجود خالق او مدبر لهذا الكون. وقد مرت بي سنوات عديدة من الصراع العقلي بيني وبين نفسي من جهة، وبيني وبين بعض الطلبة المتخرجين في الكلية من جهة أخرى، وقد اتضح لي كثير من الحقائق، فعلم الوراثة مثلا لم يقدم لنا دليلا على صحة الغرضين الأساسيين اللذين أقام عليهما تشارلز داروين نظرية في نشأة الأنواع وهما:
1- ان العضويات الصغيرة في كل جيل من الأجيال تنزع دائما آلي ان تختلف اختلافات طفيفة عن آبائها في جميع الاتجاهات الممكنة.
2- ان التغيرات المفيدة تورث في الأجيال التالية وتتراكم نتائجها حتى ينتج عنها تغيرات جسمية.(2/73)
والواقع – كما يذكر ذلك تنكل بالاشتراك معي في كتابنا (العلم الحديث والمسيحية) – ان اقصى ما يمكن ان يتم من التغيرات في النباتات والحيوانات يمكن ان يتحقق سريعا عن طريقي الانتقاء والتربية. ويؤدي التلقيح الذاتي في النباتات او زواج الأقارب في الحيوانات، آلي انتاج أفراد ضعيفة آلي حد كبير. والسلالات الناتجة في هذه الاحوال تكون نقية آلي حد كبير ولا تتغير في جميع الاتجاهات كما ذكر داروين الا عندما تصيبها بعض الطفرات، وهي قليل الحدوث. وتعتبر هذه الطفرات على قلتها الاساس المادي الذي يبني عليه علماء التطور تفسيرهم لظاهرة التطور. ولكن هل يمكن ان تكون الطفرات حقيقة وسيلة للتطور؟ ان الدراسة الطويلة المتصلة لهذه الطفرات في كثير من الكائنات وبخاصة في ذبابة الفاكهة المسماة دروسوفيلا ميلانوجستر تدل على ان الغالبية العظمى من الطفرات تكون من النوع المميت. اما الانواع غير المميتة منها فان التغيرات المصاحبة لها تكون من النوع الذي يؤدي آلي التشويه، او على الأقل من النوع المتعادل الذي يحدث تأثيرات فسيولوجية تضعف من قوة الفرد، فمن الصعب اذن ان يؤدي تجمع هذه الطفرات الوراثية آلي التغيرات اللازمة لنشأة أنواع جديدة تعتبر أكثر تقدما ورقيا من أسلافها.(2/74)
وقد تؤدي الطفرة في بعض الحالات النادرة آلي تحسين صفة من الصفات، كما يحدث في جناح الدروسوفيلا. ولكن اجتماع هذه الصفة مع بعض الصفات الاخرى التي تطرأ على الجناح، يؤدي آلي تكوين حشرات أقصر عمرا وأقل قدرة على الحياة. ولكن دعنا نسلم جدلا بحدوث طفرات نادرة تصحبها تحسينات تبلغ 1% فكم تحتاج مثل هذه الطفرات من الأجيال لكي تتراكم ويظهر أثرها وينتج عنها نوع جديد؟ لقد وضح (باتو) في كتابه (التحليل الرياضي لنظرية التطور)، ان تعميم صفة من الصفات عن طريق الطفرة في سلالة من السلالات، لا يمكن ان يستغرق اقل من مليون جيل من الأجيال المتتابعة. وحتى لو سلمنا بقدم الأحقاب الجيولوجية كما يقدرها الجيولوجيون، فمن الصعب ان نتصور كيف ان حيوانا حديثا نسبيا مثل الحصان قد نشأ من سلفة كان عدد الأصابع في قدمه خمسا في الفترة من العصر الحجري (الأيوسيني) الحديث حتى الان.
واخيرا فان دراسة الكروموسومات المعقدة التي تحمل عوامل الوراثة تبين كثيرا من الاختلافات في تركيبها وتنظيمها حتى بين الانواع المتقاربة. ويقول دوبزانسكي في كتابة (الوراثة ونشأة الأنواع) ان التزواج بين الكروموسومات وما يصحبه من عمليات قطع ووصل في أجزائها، يؤدي آلي اختلافها بعضها عن بعض وهو اختلاف ضروري لاستمرار حياتها وأدائها لوظائفها الحيوية، فقد ثبت انه اذا كانت الكروموسومات متشابهة كل التشابة، فانها تعجز عن القيام بعملية الازدواج. فكيف تحدث هذه الاختلافات المستمرة في اشكال الكروموسومات وفي طريقة تنظيمها؟
ان المقام لا يتسع لضرب أمثلة عديدة اخرى لاثبات ان نظرية التطور المادي لا تستطيع ان تفسر لنا تلك الاختلافات العديدة التي نشاهدها في عالم الأحياء. انها جميعا تشير آلي وجود خالق حكيم هو الذي جعل هذه الكائنات الحية قادرة على ان تتحمل ظروفا غير الظروف التي نشأت في ظلها، وعلى ان تتلاءم مع هذه الظروف.ومع ذلك فان دراسة الطبيعة لا تكشف لنا الا عن قدرة الخالق ونظامه المحكم، رغم انها لا تستطيع ان تكشف لنا عن حكمته ومقصده. وكما يقول بول: (اننا نبصر اليوم الحقائق من ورء حجاب، وغدا عندما يكشف عنها الغطاء سوف نراها سافرة. اننا لا نعلم اليوم الا قليلا، وغدا ينكشف لنا علم ما لم نكن نعلم).(2/75)
الخلايا الحية تؤدي رسالتها
كتبها: رسل تشارلز آرنست
إخصائي في علم الأحياء و النبات - حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة منيسوتا - أستاذ في جامعة فرانكفورت بألمانيا - عضو الأكاديمية العلمية بانديانا - مؤلف لكثير من البحوث البيولوجية.(2/76)
تهيئ دراسة الخلايا الحية لنا خبرة عجيبة، فإذا فحصت طرف وريقة صغيرة من وريقات العشب المائي الذي يسمى (الإيلوديا) تحت العدسة الكبرى للمجهر، فسوف تلاحظ مظهراً من أكثر مظاهر الحياة انتظاماً و أروعها جمالاً. فلكل خلية من خلاياها تركيب رائع. و يبلغ سمك الورقة عند طرفها طبقتين من الخلايا. و تستطيع أن تحرك قصبة المجهر رافعاً و خفضاً حتى نرى كل خلية من خلايا هاتين الطبقتين على حدة، و تدرك أنها وحدة قائمة بذاتها، كما يلوح أن كل خلية من هذه الخلايا الطبقيتين على حدة، و تدرك أنها وحدة قائمة بذاتها، كما يلوح أن كل خلية من هذه الخلايا تستطيع أن تؤدي جميع وظائف الحياة مستقلة عن غيرها من الخلايا الأخرى المشابهة لها. و يفصل الخلايا بعضها عن بعض جداران ثابتة متماسكة. و تتكون الورقة من آلاف من هذه الخلايا المتراكمة التي تبدوا كأنها بنيان مرصوص.(/)
أما النواة فترى بصعوبة على صورة جسم رمادي باهت تبرز فيه الفجوة العصارية التي تشغل مركز الخلية. و يحيط بالنواة شريط من الحشوة ( السيتوبلازم ) الذي يحيط بالفجوة. و يفصل الحشوة ( السيتوبلازم ) عن الجدار الخارجي للخلية غشاء رقيق، لا نستطيع أن نراه تحت الظروف المعتادة بسبب ضغط الفجوة العصارية عليه و التصاقه بالجدار. أما فحصت الخلايا بعد أن تغمر الورقة فترة من الزمن في محلول مركز من ملح الطعام، فإنه يسهل مشاهدة هذا الغشاء، لأن انغمار الورقة في محلول الملح بسبب فقدانها لعض الماء الذي بفجوتها العصارية، مما يترتب عليه انكماش محتويات الخلية وابتعاد الغشاء عن الجدار. و عندئذ يقال للخلية إنها تبلزمت.(2/77)
و في الخلية حركة. وهي حركة لا يمكن أن ينبىء عنها ما يبدوا على ظاهر الورقة من السكون. ففي داخل شريط الحشوة ( السيتوبلازم ) الرقيق الذي أشرنا إليه، أجسام دقيقة خضر تسمى البلاستيدات الخضر، و هي لا تسبح في الحشوة ( السيتوبلازم ) أو تندفع داخله كما تندفع الحيوانات المجهرية الصغيرة داخل الماء و إنما تتهادى كما تتهادى السفن الصغيرة يجرفها تيار الماء في بحر خضم. إنه الجبلة ( البروتوبلازم ) ذو التركيب المائي و الحيوي الفياضة ، هو الذي يتحرك. و هذا البروتوبلازم هو مركز الحركة و الحياة في جميع الكائنات الحية. و تعتبر حركة الجبلة ( البروتولازم) في خلايا نبات ( الإيلوديا) مظهراً من مظاهر الحياة. أما القوة أو القوى التي تجعل هذه الجبلة (البرتوبلازم ) يتحرك و التي ينشأ عنها هذا التيار المستمر فهي مالا تعرفه معرفة اليقين و مالا نستطيع أن نفسره في حدود معرفتنا الخالية تفسيراً صحيحاً. و لكننا نشاهد هذه الحركة البروتوبلازمية هنا و هنالك في عالم الأحياء من حيوان و نبات و تعرف هذه الظاهرة تدفق الحشوة (السيتوبلازم ) و تعرف في نبات الإيلوديا بالذات بدوران الحشوة ( السيتوبلازم ) بسبب ما يشاهد من حركة البلاستيدات الخضر داخل خلاياها حركة دائرية مستمرة.(2/78)
و إذا وضعت قطرة من ماء مزرعة حيوانات أولية تشتمل على الأميبيا فوق شريحة زجاجية دافئة، ثم فحصتها بالمجهر، فإنك تستطيع أن تشاهد ان الجبلة (البروتوبلازم ) يتحرك حركة عجيبة، فالأميبيا لا تسبح في الماء و لا تطفو على سطح قطرة الماء أو تندفع في جوفها و لكنها تتحرك كما لو كانت تنسكب أو تسيل. أما جسم الأميبا فهو كتلة عارية من البروتولازم يتحرك حركة عجيبة ، فالأميبيا لا تسبح في الماء و لا تطفو على سطح قطرة الماء أو تنطفع في جوفها و لكنها تتحرك كما لو كانت تنسكب أو تسيل. أما الأميبيا فهو كتلة عارية من البروتوبلازم وهو يختلف عن الخلية النباتية فأنه لا يحيط به من الخارج جدار صلب، بل مجرد غشاء رقيق يحدد جسمه. كلما تحركت الجبلة (البروتوبلازم ) في اتجاه من الاتجاهات، أطاعه ذلك الغشاء و تحرك معه في نفس الاتجاه. و بذلك يتغير شكل الحيوان و تتكون له زوائد لا تلبث أن يتغير شكلها بعد قليل. و بهذه الطريقة يتحرك الحيوان وتتكون له زوائد لا تشبه الأقدام، و التي تسمى بسبب ذلك (الأقدام الكاذبة).(2/79)
و من الممكن استخدام القوة المكبرة العظمى لمشاهدة الحشوة (السيتوبلازم ) عند اندفاعه في الأقدام الكاذبة، و لكي نشاهد أن جسم الحيوان يتكون من طبقتين من الجبلة (البروتوبلازم ) يختلفان في كثافتيهما. أما إحداهما فهي كتلة شفافة مائية دائمة الحركة، و أما الأخرى فهي كتلة هلامية نصف صلبة تحيط بالطبقتين السابقة إحاطة تامة، و يعتقد بعض العلماء ان الاختلاف في كثافة هاتين الطبقتين هو الذي يساعد على حدوث الحركة. فالطبقة الخارجية تضغط على الداخلية فتجعليها تندفع في اتجاه معين مكونة تلك الأقدام الكاذبة. و يعتقد آخرون أنه يمكن تفسير الحركة على أساس نظرية التوتر السطحي، وهي نظرية يدرسها طلاب الجامعات عند بداية دراستهم للأحياء ،و مع ذلك فإننا لا نستطيع ان نبين لهم أسبابها. و حتى إذا سلمنا بالتفسير الأول لحركة الأميبيا، فينبغي أن نعترف بأننا لا نعرف شيئاً عن عمليات التحول الغذائي التي تسببها هي الأخرى.(2/80)
هذان طرازان من الخلايا يختلفان عن بعضهما اختلافاً كثيراً، أحدهما من نبات أخضر و الآخر فرد حيواني، و كل منهما يتكون من خلية بسيطة. و تعرف الأمبيا بين علماء الحيوان بأنها أبسط الحيوانات تركيباً. و الواقع أن حركة الجبلة البورتوبلازم فيها تعتبر أبسط أنواع الحركة في المملكة الحيوانية. أما الإيلوديا فبرغم أنها نبات زهري بسيط، فإن خلاياها غير متخصصة أو متنوعة كما هو الشأن في كثير من النباتات الأخرى. فهي على التحقيق خلايا بسيطة. و مع ذلك فإن كل خلية من هذه الخلايا، إنما هي جهاز معقد ، يقوم بطريقته الخاصة بجميع الوظائف المعقدة الضرورية للحياة، و منها الحركة و منها الحركة التي شاهدنا أحد مظاهرها. و تؤدي كل خلية من الخلايا وظائفها الحيوية العديدة بدرجة من الدقة يتضاءل بجانبها أقصى ما وصل إليه الإنسان من دقة في صناعة الساعات الدقيقة. و بمناسبة الحديث عن الساعات فقد توصل الإنسان إلى صناعة ساعات بالغة الدقة و الروعة، يستطيع بعضها أن يمتلىء بطرقة آلية عند ما يحرك الإنسان يده التي تحمل الساعة . و لا يمكن أن يتصور العقل البشري أن آلة دقيقة كالساعة قد وجدت بمحض المصادفة ، دون الاستعانة بالعقل المفكر و اليد الماهرة، أو أن تلك الساعة الأوتوماتيكية التي تدور من تلقاء نفسها قد صنعت نفسها أو أخذت تتحرك دون ان يبدأ أحد في تحريكها فإنه يستحيل علينا أن نفسر كل ذلك ما لم نسلم، عن طرق العقل و المنطق، أو وراء كل ذلك عقلاً و تدبيراً. هذا العقل و هذا التدبير و تلك القوة التي تعجز عنها المادة العاجزة عن التفكير و التدبير ليست إلا من مظاهر قوة الله و حكمته و تدبيره.(2/81)
حقيقة أن هنالك بعض القوى و المؤثرات الخارجية الموجودة في البيئة و التي تؤثر في حركة الجبلة داخل الخلايا، فبعض الباحثين يشير إلى درجة الحرارة، و ربما الضوء أو الضغط الأسموزي، أو غير ذلك من المؤثرات التي تؤثر فعلاً في حركة البروتوبلازم دائبة لا تنقطع، حتى عندما يزول أثر جميع هذه المؤثرات. و معنى ذلك أن جانباً على الأقل من أسباب هذه الظاهرة يرجع إلى الجبلة ذاتها. فمن المحال إذن أن نفسر ظواهر الحياة على أنها مجرد استجابات لبعض المؤثرات الخارجية.
و بهذه المناسبة نحن نعلم أنه عندما نشطر خلية حية إلى نصفين بطريقة التشريح الدقيق بحيث تكون النواة في أحد القسمين دون الآخر، فإن القسم الخالي من النواة يموت بعد قليل. و قد أخفقت جميع الجهود التي بذلت للاحتفاظ بها حيا. و على ذلك فإن النواة هي التي تنظم العمليات الحيوية في الخلية و تسيطر عليها، فإذا زال هذا الإشراف توقفت الحياة. و هكذا نرى أن خالق هذا الكون و منظمه يعتبر ضرورياً لخلق الخلية و الإنسان، بل لخلق العقول المفكرة التي تبحث عن الحقيقة وعن السبب الأول.
و انا لا أريد أن أقول هنا إنني أومن بالله بسبب عجزي في الوقت الحاضر عن إدراك سبب ظاهر الحركة في البروتوبلازم أو غيرها من الظواهر، و أنا أعلم أن كثيراً من الناس يستخدمون هذا الأسلوب من أساليب المنطق و يقولون إذا كانت العلوم عاجزة عن التفسير فلابد من التسليم بوجود الله، ولكنني أرفض هذا المنطق رفضاً باتاً و أقول إنه حتى عندما نكتشف الحقائق و يزول عنا ذلك الغموض يوماً من الأيام و نصير قادرين على فهم الخلية الحية بصورة أفضل، فإننا لا نفعل أكثر من أن نتبع و نتدبر ما صنعه و دبره خالق و مدبر أكبر ، و هو الذي جعل هذا البروتوبلازم يتحرك في بادئ الأمر وهو الذي يجعله يتحرك و يؤدي كل وظائفه.(2/82)
لقد وضعت نظريات عديدة ، لكي تفسر لنا كيف نشأت الحياة من عالم الجمادات، فذهب بعض الباحثين إلى ان الحياة قد نشأت من البورتوجين أو من الفيروس أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة. و قد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء و عالم الجمادات. و لكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بخذلان و فشل ذريعين.
و مع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع بعض الذرات و الجزيئات عن طرق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها و توجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. و للشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده. ولكنه إذ يفعل ذلك فإنما يسلم بأمر أشد إعجاز وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله الذي خلق هذه الأشياء ودبرها .
إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقيد درجة يصعب علينا فهمها ،وان، ملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شاهدة تقوم على الفكر و المنطق، و لذلك فإنني أومن بوجود الله إيماناً راسخاً.(2/83)
منطق الإيمان
كتبه: جورج هربرت بلونت
أستاذ الفيزياء التطبيقية
حاصل على درجة الماجستير من معهد كاليفورنيا التكنولوجي – كبير المهندسين بقسم البحوث الهندسية بجامعة كاليفورنيا.(/)
انني أومن بالله، بل وأكثر من ذلك، انني أوكل اليه أمري، ففكرة الألوهية بالنسبة إلى ليست مجرد قضية فلسفية، بل ان لها في نفسي قيمتها العلمية العظمى، وايماني بالله جزيء من صميم تحياتي اليومية.
ويختلف هذا الرأي اختلافا كبيرا عما يذهب اليه كثير من المفكرين، فهنالك عدد غير قليل من عمالقة الفكر واستبعدوا فكرة وجود الله عن محيطهم وأقاموا من أنفسهم دعاة إلى الالحاد، وهذا يفرض علينا ان نوضح الأسباب التي تدعونا إلى الايمان بالله.
ولدى محاولتي القيام بهذا الواجب، احب ان أوضح بعض خواطري، وان أناقش بعض النظريات الهامة التي تدعو إلى الإيمان أو الإلحاد، ولسوف تعيننا مناقشة هذه الآراء على ادراك الأسباب التي تدعو كل من يستخدم عقله إلى الايمان بالله، وأريد بعد ذلك ان أبين لماذا يؤمن الناس بالله.
لقد درس كثير من الباحثين الأسباب التي تجعل الناس يؤمنون ايمانا أعمى يقوم على التسليم لا على أساس المنطق والاقتناع، وما يؤدي اليه هذا النوع من الايمان من أفكار متناقضة حول صفات الله. وتدل الشواهد على ان هنالك نوعا من الاجماع بين الفلاسفة والمفكرين على ان لهذا الكون إلها، ولكن لا يوجد هنالك اتفاق على ان هذا الإله هو ذاته إله الكتب المقدسة. وليس معنى ذلك بطبيعة الحال ان هنالك مطعنا في تلك الكتب، أو ان ذلك الغموض يرجع إلى عدم وجود الأدلة الكافية، فقد يكون العيب في المنظار ذاته الذي ترى به الحقائق، وعندئذ يؤدي ضبط المنظار إلى المزيد من الوضوح، ولكن حتى مع ذلك يبدو أن الأدلة في حد ذاتها لا تعطي الحكم المطلق.
ولكي أبين القيمة الحقيقية للأدلة وما يعتبر من وجهة نظري الطريقة السليمة لاستخدامها، أحب ان الفت الأنظار إلى طريقة الاستدلال التي نستخدمها في علوم الرياضة.(2/84)
فمن المعروف في علم الهندسة، أننا نستطيع ان نبني كثيرا من النظريات على عدد قليل، من البديهيات، أو تلك الفروض التي نسلم بها ونقبلها دون مناقشة أو جدال حول صحتها، فالعلماء يسلمون أولا بالبديهيات، ثم يتتبعون مقتضياتها أو النتائج التي تترتب عليها. وعند إثبات اي نظرية نجد ان برهانها يعتمد في النهاية على مسلمات أو امور بديهية، ومع ذلك فان النظريات مجتمعة لا تستطيع ان تقدم دليلا على صحة بديهية من هذه البديهيات، ولكننا نستطيع ان نختبر صحة هذه البديهيات بمعرفة ما يترتب على استخدامها من اتفاق أو تضارب مع التطبيقات العملية والحقائق المشاهدة. ولا تعتبر صحة النظريات التي تقوم على الاخذ بهذه البديهيات، ولا مجرد عدم مشاهدة آثار للتناقض بين هذه النظريات وبين الواقع والمشاهد، دليلا أو برهانا كافيا على صحة البديهيات المستخدمة. فالواقع اننا نقبل البديهيات قبول تسليم وإيمان. وليس معنى ذلك بطبيعة الحال انه تسليم وإيمان أعمى لا يقوم على البصيرة.
وكذلك الحال فيما يتعلق بوجود الله، فوجوده تعالى أمر بديهي من الوجهة الفلسفية، والاستدلال بالأشياء على وجود الله – كما في الإثبات الهندسي – لا يرمي إلى اثبات البديهيات(1)، ولكنه يبدأ بها، فاذا كان هنالك اتفاق بين هذه البديهية وبين ما نشاهده من حقائق هذا الكون ونظامه، فان ذلك يعد دليلا على صحة البديهية التي اخترناها. وعلى ذلك فان الاستدلال على وجود الله يقوم على أساس المطابقة بين ما نتوقعه اذا كان هنالك إله وبين الواقع الذي نشاهده.
__________
(1) - الحقيقة (الفلسفية والدينية أيضا) ان الله تعالى هو الذي يشهد على الأشياء، وليست الأشياء هي التي تشهد عليه، وهو الذي يعطي هذا الوجود وما حوى مغزى ومعنى: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد..) سورة فصلت، آية: 53.(2/85)
والاستدلال بهذا المعنى ليس معناه ضعف الإيمان، ولكنه طريقة مقبولة البديهيات قبولا يتسم باستخدام الفكر، ويقوم على أساس الاقتناع بدلا من ان يكون تسليما أعمى.
والأدلة أنواع: منها الأدلة الكونية، ومنها الأدلة التي تقوم على ادراك الحكمة، ثم الأدلة التي تكشف عنها الدراسات الإنسانية.
فالأدلة الكونية تقوم على اساس ان الكون متغير، وعلى ذلك فانه لا يمكن أن يكون أبديا، ولابد من البحث عن حقيقة أبدية عليا. اما الأدلة التي تبنى على ادراك الحكمة فتقوم على اساس ان هنالك غرضا معينا أو غاية وراء هذا الكون، ولا بد ذلك من حكيم أو مدبر. وتكمن الأدلة الإنسانية وراء طبيعة الإنسان الخلقية، فالشعور الإنساني في نفوس البشر انما هو اتجاه إلى مشرع أعظم.
ولما كان اشتغالي بالعلوم ينحصر في التحليل الفيزيائي، فان الأدلة التي يتجه اليها تفكيري تعتبر من النوع الذي يبحث عن حكمة الخالق فيما خلق. و لاكتشاف القوانين التي تخضع لها الظواهر المختلفة، لابد من التسليم أولا بان هذا الكون أساسه النظام، ثم يتجه عمل الباحث نحو كشف هذا النظام.
ويبدأ الباحث عمله عند حل مشكلة من المشكلات بعمل نموذج أو تجربة تعينه على دراسة الظاهرة التي يدرسها، وليس النموذج أو التجربة الا محاولة لاختبار صحة فرض من الفروض. ويجب ان يكون هذا الفرض بسيطا مع مطابقته للواقع، ثم يدور البحث حول النموذج أو التجربة لمعرفة العوامل التي تؤثر في الظاهرة التي هي موضع البحث، فاذا كانت النتائج مؤيدة للفرض الذي بدأ به، فانه يعده صحيحا لأن ما ينطبق على هذا النموذج ينطبق أيضا على سواه، مما يدل على تسليمنا بأن هنالك نظاما يسود هذا الكون.(2/86)
ولا يمكن ان يتصور العقل ان هذا النظام قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم أو من الفوضى، وعلى ذلك فان الإنسان المفكر لابد ان يصل ويسلم بوجود إله منظم لهذا الكون، وعندئذ تصير فكرة الألوهية احدى بديهيات الحياة، بل الحقيقة العظمى التي تظهر في هذا الكون، والمطابقة بين الفرض والنتيجة تعد برهانا على صحة هذا الفرض. والمنطق الذي نستخدمه هنا هو انه اذا كان هنالك اله فلا بد ان يكون هنالك نظام. وعلى ذلك فما دام هنالك نظام فلابد من وجود إله.
ويلاحظ ان للملحدين منطقهم، ولكنه منطق سلبي، فهم يقولون ان وجود الله يستدل عليه بشواهد معينة وليس ببراهين قاطعة، وهذا من وجهة نظرهم يعني عدم وجوده تعالى. انهم يردون على الأدلة الكونية بقولهم: ان المادة والطاقة يتحول كل منهما إلى الآخر بحيث يمكن ان يكون الكون بذلك أبديا. كما أنهم ينكرون النظام في الكون، ويرونه مجرد وهم، وهذا ينكرون الشعور النفسي بالعدالة والاتجاه نحو موجه أعظم، ومع ذلك لا يستطيعون ان يقيموا دليلا واحدا على عدم وجود الله، ومن منطقهم: ان الأدلة المقدمة لإثبات وجود الله لا تعتبر كافية من وجهة نظرهم.
وهنالك فئة أخرى من الملحدين لا يعترفون بإله لهذا الكون لانهم لا يرونه، ولكنهم لا ينفون وجود اله في كون أو عالم آخر غير هذا الكون. ولا شك ان هذا موقف مائع متضارب لا يستند إلى أساس سليم.
فاذا قارنا بين الشواهد التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله، وتلك التي يستند اليها الملحدون في انكار ذاته العلية، لا تضح لنا ان وجهة نظر الملحد تحتاج إلى تسليم اكثر مما تحتاج اليه وجهة نظر المؤمن، وبعبارة اخرى نجد المؤمن يقيم ايمانه على البصيرة(1)
__________
(1) - (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) سورة الحج، آية: 54.(2/87)
، اما الملحد فيقيم الحاده على العمى(1) . وانا مقتنع ان الإيمان يقوم على العقل وان العقل يدعو إلى الإيمان. واذا كان الإنسان يعجز أحيانا من مشاهدة الأدلة، فقد يكون ذلك راجعا إلى عدم قدرته على ان يفتح عينيه.
ومجرد الاقتناع بوجود الله، لا يجعل الإنسان مؤمنا، فبعض الناس يخشون من القيود التي يفرضها الاعتراف بوجود الله على حريتهم. وليس هذا الخوف قائما على غير أساس، فاننا نشاهد ان كثيرا من المذاهب المسيحية، حتى تلك التي تعتبر مذاهب عظمى، تفرض نوعا من الدكتاتورية على العقول. ولا شك ان هذه الدكتاتورية الفكرية انما هي من صنع الانسان وليست بالأمر اللازمن في الدين، فالانجيل مثلا يسمح بالحرية الفكرية حينما يقول: (قال الرب أقبل علينا ودعنا نفكر معاً)(2).
فماذا يدعو الانسان إذن إلى الإيمان الحقيقي والاعتراف بوجود الله؟ انه نفس الشيء الذي يدعو إلى الاعتراف بوجود صديقه، وعلى ذلك فان الايمان الحقيقي يحدث عندما يتجه الانسان إلى ربه ويرجع اليه.
وأعتقد انني قد آمنت بالله بهذه الطريقة، كما أعتقد ان الإيمان بالله يقوم على اساس المنطق والاقتناع، ولكن هذا يعتبر أمرا ثانويا بالنسبة للأمر الأول: لقد اتجهت إلى الله وحصلت على خبرة شخصية محض لا أستطيع ان أقدمها اليك. فاذا كنت في شك من أمره تعالى فاليك الحل: (اتجه اليه وسوف تجده).
__________
(1) - (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) سورة الحج، آية: 8.
(و كأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) سورة يوسف، آية: 105.
(2) - أما القرآن فيخاطب العقول الواعية، بل ويطالب بالإيمان عن طريق العلم والمعرفة كما جاء في آيات عديدة: منها:
1- (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) سورة الزمر، آية: 9.
2- (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) سورة العنكبوت، آية: 20.
3- (لخلق السماوات والأرض اكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) سورة غافر، آية: 57.
(.. ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك..) سورة آل عمران، آية: 191.
(ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء ما ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) سورة البقرة، آية:164.(2/88)
موجهات جيولوجية
كتبه: دونالد روبرت كار
أستاذ الكيمياء الجيولوجية – حاصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا – مساعد بحوث بجامعة كولومبيا – أستاذ مساعد بكلية شلتون – أخصائي في تقدير الأعمار الجيولوجية باستخدام الاشعاعات الطبيعية.(2/89)
من المحال ان ادخل في مناقشة حول وجود الله، دون ان أكون متأثرا ببعض الاتجاهات. وقد يبدو ذلك متعارضا مع الروح العلمية، ولكن دعني اوضح ذلك اولا ثم أعقب ببعض الملاحظات العلمية.
عندما يطلب الينا ان نبين الأسباب التي تدعونا إلى الإيمان بالله، نستطيع ان نجد في بحوثنا العلمية ما يدعونا بقوى إلى الإيمان به، ولو انه ليس من الضروري ان يكون هو نفس إله الكتاب المقدس، ثم نحاول بعد ذلك ان نثبت ان هذا الإله هو ذاته إله الكتاب المقدس. وهذا الأمر يعتمد كثيرا على الإيمان الروحي، ويتوقف على ما يبثه الله من إيمان في قلوبنا.
لقد حصلت على الإيمان الروحي من عند الله، وهو الذي يسيطر على تفكيري عندما أجيب على مسألة وجوده، وعلى ذلك فان ايماني بالله قد يعتبر قائما على أساس شخصي، وقد يدعو ذلك إلى اتهامي بالريبة أو الغموض، ولكني احب ان اطلب إلى أولئك الذين يوجهون إلى هذا الاهتمام ان يبينوا لي كيف يمكن ان تقوم العلاقة بين المخلوق والخالق على غير هذا الاساس.(/)
ان دراستي العلمية ليس لها شان بايماني بالله وتوكلي عليه وحاجتي اليه. فلقد كان الدافع إلى هذا الايمان حاجة ملحة شعرت بها في قرارة نفسي. اما دراستي بعد ذلك الكيمياء الجيولوجية فقد نادتني إلى الاعتقاد بوجود خالق لهذا الكون. فليس من الغريب اذن ان اعتقد ان هذا الكون ليس الا مظهرا من مظاهر قدرة الله.
وتتلخص النقط التي تمس فيها دراسة الكيمياء الجيولوجية الفلسفة الدينية في نقطتين:
1- تحديد الوقت الذي بدأ فيه هذا الكون.
2- النظام الذي يسوده.
أما عن تحديد عمر التكوينات الجيولوجية مثل مواد الشهب وغيرها، فقد أمكن باستخدام العلاقات الاشعاعية ان نحصل على صورة شبه كمية عن تاريخ الارض. ويستخدم في الوقت الحاضر عدد من الطرق المختلفة لتقدير عمر الأرض بدرجات متفاوتة من الدقة، ولكن نتائج هذه الطرق متقاربة إلى حد كبير، وهي تشير إلى ان الكون قد نشأ منذ نحو خمسة بلايين سنة، وعلى ذلك فان هذا الكون لا يمكن ان يكون أزليا. ولو كان كذلك لما بقيت فيه اي عناصر اشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية. اما الرأي الذي يقول بأن هذا دوري، اي انه ينكمش ثم يتمدد، ثم يعود فينكمش من جديد.. الخ. فانه راي لم يقم على صحته دليل، ولايمكن ان يعتبر رأيا علميا، بل مجرد تخمين. ومن ذلك نرى ان القول بان للكون بداية، يتفق مع ما جاء مثلا في الانجيل: (لقد خلق الله البداية السموات والأرض). وهو رأي تؤيده قوانين الديناميكا الحرارية والأدلة الفلكية والجيولوجية.
اما مبدأ الانتظام، فيعتبر من البديهيات في علم الجيولوجيا. وينص هذا المبدأ على ان جميع العمليات الجيولوجية والكيماوية الجيولوجية التي تعمل الآن، كانت تعمل أيضا فيما مضى. وعلى ذلك فان فهمنا لهذه العمليات يعيننا على تفسير التاريخ الجيولوجي. فانتظام الكون ووجود القوانين الطبيعية، هما أساس العلم الحديث.(2/90)
والكون المنتظم الذي يعتبر على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للمشتغلين بالعلوم يتفق مع ما تحدثنا عنه الكتب السماوية من ان الله هو الذي أبدع هذا الكون، وهو الذي يمسكه ويحفظه.
ولو كان الكون قائما على الفوضى، لما كان هنالك معنى لما قاله القديس بول: (ان قدرة الله وألوهيته تتجليان في كل شيء منذ خلق الله هذا الكون).
ولولا انتظام الكون ما كان هنالك مكان لمعجزة من المعجزات، فكثير من المعجزات التي جاءت بها الرسل هي قبل كل شيء خروج على نواميس الطبيعة، ولا يمكن تقديرها ومعرفة قيمتها الحقيقية الا في كون منظم تسير ظواهره تبعا لقوانين معينة وسنن مرسومة.
وكما قال العالم الجيولوجي (داوسن) Dawson منذ سنوات: (ان الايمان بسنن الله الكونية ضروري بالنسبة للمعنى الفلسفي لصلاة الانسان ودعائه.. فلو كان الكون قائما على الفوضى، أو لو أنه كان أمرا حتميا لا سبيل إلى تعديله، لما كان هنالك مكان لصلاة الإنسان ودعائه. اما اذا اعتقد الانسان ان ها الكون يقع تحت سيطرة اله مشرع حكيم رحيم – لا مجرد مدير لجهاز أآلي – فاننا نستطيع ان نتقدم اليه بالصلاة والدعاء، لا لنغير خطته العظمى وسننه، ولكن لكي يدبر – بحكمته الواسعة ومحبته لنا – الأقدار بحيث تفي بحاجاتنا)(1).
__________
(1) - هكذا يتوجه المسلمون بالدعاء إلى الله تعالى فيقولوا مثلا:
1- (اللهم انا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه9.
2- (اللهم ألطف بنا فيما جرت به المقادير).(2/91)
واخيرا فان الكيمياء الجيولوجية التي أدرسها تعلمنا ان ننظر إلى الأشياء نظرة واسعة وان نفكر في الزمان على أساس بلايين السنين، والى المكان نظرة تشمل الكون بأسره، والى العمليات المختلفة بحيث تشمل دوراتها الكون كله. ان مثل هذه النظرة إلى الأمور تجعلنا نزداد تقديرا لعظمة الله وجلاله. أما غير المؤمنين فسوف يمتلئون رهبة ورعبا، وقد يضطرون آخر الامر ان يسلموا ان السموات تشهد بعظمة الله وان احكامها يدل على بديع صنعته.
ويتجلى التوافق بين العلوم والدين في ذلك النشيد الديني الذي أستمع اليه تتغنى به الملايين في أمريكا، والذي ربما كان تأليفه من وحي الكشوف العلمية الحديثة التي تمت في السنوات الأخيرة، ويقول هذا اللحن:
(يا إلهي العظيم، عندما أنظر بعجب ورهبة إلى كل العوالم التي صنعتها يداك، وأبصر النجوم، وأسمع هدير الرعد وزمجرته، حينئذ تتجلى لي قوتك في كل أرجاء الكون، عندئذ تغني روحي وتناجي الهي الكبير، ما أعظم إبداعك، ما أعظم إبداعك).(2/92)
المبدع الأعظم
كتبه: كلود .م . هاثاواي
مستشار هندسي _ حاصل على درجة الماجستير من جامعة كولورادو – مستشار هندسي بمعامل شركة جنرال الكتريك – مصمم العقل الإلكتروني للجمعية العلمية لدراسة الملاحة الجوية بمدينة لانجي فيلد – اخصائي الآلات الكهربائية والطبيعية للقياس.(/)
قبل ان أبين الاسباب التي تدعونا إلى الإيمان بالله، أحب ان أذكر ان معظم ايماني به تعالى في المرحلة الراهنة من مراحل حياتي، يقوم على أساس الخبرة أو الممارسة.
والواقع اننا لا يجوز لنا ان نستبعد كثيرا من المعتقدات التي تقوم على أساس الخبرة أو الممارسة، أو ان ننظر اليها على انها لا تقوم على أساس عقلي، فنحن اذا فعلنا ذلك نكون قد انتقصنا من قدر الطريقة العلمية ذاتها، والأفضل ان نسمي مثل هذه المعتقدات (فوق فكرية).
وبرغم ان ايماني بالله في السنوات السابقة، كان يقوم على أسباب سوف أتناولها بالشرح بعد قليل، فان ايماني به في الوقت الحاضر يقوم على أساس خبرة أو معرفة داخلية به، وهي خبرة أو معرفة تتضاءل بجانبها جميع المجادلات الفكرية.(/)
وبرغم ان هذا النوع من الاستدلال لا يعد مقنعا بالنسبة لمن لم يمارسوه، فان له وجاهته وقوته بالنسبة لمن مارسه.
لقد وجدت ان الايمان بالله هو الملاذ الوحيد الذي تطمئن اليه الروح، وكما يقول اوغستين: (لقد خلقنا الله لنفسه، وان ارواحنا لتبقى قلقة حائرة حتى تجد راحتها في رحابه).
اما من حيث الأسباب الفكرية التي تدعوني إلى الإيمان بالله، فانني أحب ان أبدأ بذكر الحقائق التي لا سبيل إلى انكارها والتي لا أشك في أن غيري ممن أسهموا في هذا الكتاب قد تناولوها، وهي ان التصميم يحتاج إلى مصمم. وقد دعم هذا السبب القوي من أسباب ايماني بالله ما أقوم به من الأعمال الهندسية. فبعد اشتغالي سنوات عديدة في عمل تصميمات لاجهزة وأدوات كهربية، ازداد تقديري لكل تصميم أو ابداع اينما وجدته. وعلى ذلك فانه مما لا يتفق مع العقل والمنطق ان يكون ذلك التصميم البديع للعالم من حولنا الا من ابداع اله اعظم لا نهاية لتدبيره وإبداعه وعبقريته. حقيقة ان هذه طريقة قديمة من طرق الاستدلال على وجود الله، ولكن العلوم الحديثة قد جعلتها أشد بيانا وأقوى حجة منها في اي وقت مضى.
ان المهندس يتعلم كيف يمجد النظام، وكيف يقدر الصعاب التي تصاحب التصميم عندما يحاول المصمم ان يجمع بين القوى والمواد والقوانين الطبيعية في تحقيق هدف معين، انه يقدر الابداع بسبب ما واجهه من الصعاب والمشكلات عندما يحاول ان يضع تصميما جديداً.(2/93)
لقد اشتغلت منذ سنوات عديدة بتصميم مخ الكتروني يستطيع ان يحل بسرعة بعض المعادلات المعقدة المتعلقة بنظرية (الشد في اتجاهين). ولقد حققنا هدفنا باستخدام مئات من الأنابيب المفرغة والأدوات الكهربائية والميكانيكية والدوائر المعقدة ووضعها داخل صندوق بلغ حجمه ثلاثة أضعاف حجم اكبر (بيانو). ولا تزال الجمعية الاستشارية العلمية في لانجلي فيلد تستخدم هذا المخ الإلكتروني حتى الآن. وبعد اشتغالي باختراع هذا الجهاز سنة أو سنتين، وبعد ان واجهت كثيرا من المشكلات التي تطلبها تصميمه ووصلت إلى حلها، صار من المستحيلات بالنسبة إلى ان يتصور عقلي ان مثل هذا الجهاز يمكن عمليه بأية طريقة أخرى غير استخدام العقل والذكاء والتصميم.
وليس العالم من حولنا الا مجموعة هائلة من التصميم والإبداع والتنظيم. وبرغم استقلال بعضها عن بعض، فانها متشابكة متداخلة، وكل منها اكثر تعقيدا في كل ذرة من ذرات تركيبها، من ذلك المخ الالكتروني الذي صنعته. فاذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم افلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي الذي هو جسمي، والذي ليس بدوره الا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون اللانهائي في اتساعه وابداعه، إلى مبدع يبدعه؟
ان التصميم أو النظام أو الترتيب، أو سمها ما شئت لا يمكن ان تنشا الا بطريقين: طريق المصادفة أو طريق الابداع والتصميم. وكلما كان النظام اكثر تعقيدا، بعد احتمال نشأته عن طريق المصادفة. ونحن في خضم هذا اللانهائي لا نستطيع الا ان نسلم بوجود الله.(2/94)
أما النقطة الثانية التي اريد ان أشير إليها في هذا المقام، فهي ان مصمم هذا الكون لا يمكن ان يكون ماديا. وانني أعتقد ان الله لطيف غير مادي. وانني أسلم بوجود اللاماديات، لانني بوصفي من علماء الفيزياء اشعر بالحاجة إلى وجود سبب أول غير مادي. ان فلسفتي تسمح بوجود غير المادي، لانه بحكم تعريفه لا يمكن إدراكه بالحواس الطبيعية، فمن الحماقة اذن ان أنكر وجوده بسبب عجز العلوم عن الوصول اليه، وفوق ذلك فان الفيزياء الحديثة قد علمتني ان الطبيعة اعجز من ان تنظم نفسها أو تسيطر على نفسها.
وقد أدرك سير اسحاق نيوتن ان نظام هذا الكون يتجه نحو الانحلال، وانه يقترب من مرحلة تتساوى فيها درجة حرارة سائر مكوناته، ووصل من ذلك إلى انه لابد ان يكون لهذا الكون بداية، كما انه لابد ان يكون قد وضع تبعا لتصميم معين ونظام مرسوم، وأيدت دراسة الحرارة هذه الآراء وساعدتنا على التمييز بين الطاقة الميسورة والطاقة غير الميسورة، وقد وجد انه عند حدوث اي تغيرات حرارية فان جزءا معينا من الطاقة الميسورة يتحول إلى الطاقة غير الميسورة، وانه لا سبيل إلى ان يسير هذا التحول في الطبيعة بطريقة عكسية، وهذا هو القانون الثاني من القوانين الديناميكية الحرارية.(2/95)
وقد اهتم بولتزمان بتمحيص هذه الظاهرة، واستخدم في دراستها عبقرية ومقدرته الرياضية، حتى اثبت ان فقدان الطاقة الميسورة الذي يشير اليه القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، ليس الا حالة خاصة من ظاهرة عامة تشير إلى ان كل تحول أو تغير طبيعي يصحبه تحلل أو نقص في النظام الكوني. وفي حالة الحرارة يعتبر تحول الطاقة من الصورة الميسورة إلى الصورة غير الميسورة فقدانا أو نقصا في التنظيم الجزيئي، أو بعبارة أخرى تفتتا وانحلالا للبناء. ومعنى ذلك بطريقة اخرى ان الطبيعة لا تستطيع ان تصمم أو تبدع نفسها، لان كل تحول طبيعي لابد ان يؤدي إلى نوع من أنواع ضياع النظام أو تصدع البناء العام. وفي بعض الحالات قد يسير النظام من البسيط إلى المركب، ولكن ذلك لا يتم الا على حساب تصدع اكبر للتنظيم والترتيب في مكان آخر.
ان هذا الكون ليس الا كتلة تخضع لنظام معين، ولابد له اذن من سبب اول لا يخضع للقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، ولابد ان يكون هذا السبب الاول غير مادي في طبيعته.
انه هو الله اللطيف الخبير الذي لا تدركه الأبصار.(2/96)
نظرة إلى ماوراء القوانين الطبيعية
كتبه: أدوين فاست
عالم الطبيعة
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أوكلاهوما – وعضو هيئة التدريس بقسم الطبيعة فيها سابقا – يشتغل الآن بالطاقة الذرية.(/)
ان الاجابة عن السؤال الذي يقدمه هذا الكتاب، لا يتطلب من وجهة نظري معالجة معقدة أو مطولة. فمن الممكن ان تكون الاجابة موجزة، ومع ذلك – من وجهة نظري على الأقل – تكون وافية.
فنحن عندما نبحث عن تفسير لاحدى الظواهر في دائرة العلوم الطبيعية، ناخذ في الغالب بابسط النظريات التي تستطيع ان تفسر هذه الظاهرة تفسيرا يتفق مع المشاهدات التجريبية. وقد نعتمد على مجموعة من الفروض لانها تدعم نظرية معينة وتبدو جميعها واضحة أو معقولة، فاذا كانت هذه الفروض سليمة فان النظرية تكون محكمة ويرفع البناء، أما اذا كانت هزيلة أو خاطئة فان النظرية تنهار من أساسها ويتقوض صرحها.
ونظرية الاحتمالات من النظريات الرصينة من الوجهة الرياضية، وهي تستخدم استخداما واسعا في علم الفيزياء. فاذا قذفنا بقطعة من قطع النقد، دون ان نحاول التأثير عليها بأية طريقة من الطرق، ثم كررنا ذلك عددا كبيرا من المرات، فان عدد المرات التي يظهر فيها كل وجه من وجهيها يكون متساوياً. وعندما نلقي (زهر النرد) عددا كبيرا من المرات، فان احتمالات ظهور كل وجه من أوجهه الستة تكون متساوية. ومن الممكن استخدام بعض الحيل لكل نجعل عدد المرات التي يظهر فيها وجه معين من أوجه قطعة النقد أو الزهر اكثر مما يحدث عندما تتحرر العملية من تأثير هذه الحيل أو المؤثرات الخارجية.
ومن الواضح ان الفرق بين الحالتين هو ان القاء العملة أو الزهر في الحالة الاولى كان يعتمد على محض المصادفة، اما في الحالة الثانية فانه يتم تحت تأثير مؤثر خاص.(2/97)
ومن الممكن ان ننتقل من هذه الاسئلة البسيطة الهينة إلى أمثلة اكثر تعقيدا. خذ مثلا عشرة أو مائة أو مليونا من الوحدات التي تعمل جميعا في وقت واحد لكي تؤدي عملا معينا أو تسلك سلوكا خاصا تبعا لقوانين المصادفة والاحتمالات. فاذا حدث اي انحراف عن النتيجة التي نتوقعها، فانه يجعلنا نبحث عن سبب لهذا الانحراف أو عن مؤثر أو موجه. واذا استطعنا ان نصف هذا المؤثر أو نحدده، فاننا نكون بذلك قد وصلنا إلى احد القوانين الطبيعية التي تفسر لنا لماذا تسلك الأشياء سلوكا معينا. ونحن عندما نتدبر مثلا سلوك النيوترونات أو الالكترونات أو البروتونات في مجال كهربائي أو مغناطيسي، نجد ان كلا منها يسلك سلوكا نستطيع ان نصفه بدقة أو نتنبأ به على أساس القوانين الطبيعية، فخواصها تجعلها تسلك سلوكا معينا يسهل معرفته والتنبؤ به. وكذلك الحال عندما ينبعث شعاع ضوئي من قوس كهربائي من الصوديوم ويمر خلال فتحة ضيقة إلى منشور ثلاثي، فاننا دائما نشاهد خطين متقاربين لونهما برتقالي اصفر وتفصلهما مسافة ضيقة.
والمهم هنا هو ان جميع هذه القوانين الطبيعية التي نصفها ونستخدمها ليس الا مجرد وصف لما يحدث أو لما يشاهد، فهي بذلك ليست تدبيرا أو الزاما، فليس الوصف في ذاته سببا لحدوث ظاهرة من الظواهر، أو توضيحا لاسباب حدوثها.
وعندما تحاول العلوم ان تفسر لنا منشأ الكون، نجدها تبين لنا، في ضوء ما لدينا من المعلومات عن الطبيعة النووية، كيف تتفاعل الجزئيات الأساسية لكي تكون لنا جميع العناصر المعروفة، فجميع العناصر التي يتألف منها هذا الكون تبدأ ببروتونات لها خواص معينة وقوة جاذبة تجعلها تنضم بعضها إلى بعض. أما كيف نشأت هذه البروتونات ذاتها، ولماذا كان لها هذه الصفات بالذات، فان ذلك ما لم تستطع ان تقدم له العلوم شرحا أو بيانا.(2/98)
ومهما بالغنا في تحليل الأشياء، وردها إلى أصولها الأولى، فلابد ان نصل في نهاية المطاف إلى ضرورة وجود قوانين طبيعية تخضع لها ذرات هذا الكون. ويعد ذلك في ذاته دليلا على وجود اله قادر مدبر، هو الذي قدر لكل ظاهرة من ظواهر هذا الكون ان تسير في طريقها المرسوم. وقد خلق الله الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات وجعل لها خواصها المعينة. فرسم لها بذلك سلوكها وأقدارها.
وعندما تحاول عقولنا المحدودة ان ترتد إلى الوراء وتبحث عن ساعة الصفر في تاريخ هذا الكون، نجدها تسلم ضمنا بان لهذا الكون بداية ولحظة معينة نشأت فيها الذرات الدقيقة التي تتألف منها مادة هذا الكون، ولابد ان تكون خواص هذه الجزئيات التي تحدد سلوكها، قد ظهرت معها في نفس الوقت. ومن المنطق السليم ان يكون السبب الأول الذي أوجد هذه الجزئيات هو الذي اودع فيها صفاتها التي تحدد سلوكها. ولابد ان نسلم بان قدرة الخالق وتدبيره وإحكامه تفوق قدرة وتدبير الانسان بل البشر جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وان اذكى العلماء لا يستطيعون الا ان يعترفوا بان الانسان لا يزال حتى اليوم في مهد معرفته باسرار هذا الكون وظواهره.
فاذا انتقلنا إلى العالم العضوي، فاننا نلاحظ ان سلوكه يزداد تعقيدا، وعلى ذلك فان احتمال تفسير هذا السلوك على أساس المصادفة المحض يتضاءل إلى حد لا نهائي، فالمواد الأساسية التي تدخل في بناء المواد العضوية هي الأيدروجين والأوكسجين والكربون مع كميات قليلة من النيتروجين والعناصر الاخرى. ولابد ان تجتمع ملايين من هذه الذرات حتى تتكون أبسط الكائنات الحية. فاذا نظرنا إلى الأنواع الاخرى التي هي اكبر حجما وأشد تعقيدا، فان احتمال تآلف ذراتها على أساس المصادفة المحض يقل إلى درجة لا يتصورها العقل.(2/99)
واذا نظرنا إلى الكائنات الحية الراقية، فاننا نرى ان من بينها ما لديه من الذكاء ما يجعله قادرا على التخطيط والابتكار والقيام بأعمال تقرب من حد الاعجاز وتحاول ان تتغلب على القوانين الطبيعية. فاذا تصورنا ان كل ذلك يتم بمحض المصادفة التي تجعل الجزئيات تجتمع بصورة معينة لكي تكون ذرات يتألف بعضها مع بعض لكي تكون أجساما تقوم بدورها بالتكاثر واداء سائر وظائف الحياة ويكون لها عقل وتفكير، دون ان يكون وراء كل ذلك إله مدبر هو الذي خلق فصور فأبدع، فان ذلك ما لا يقبله عقل أو يتصوره فكر. وحتى اذا فعلنا ذلك فاننا نكون قد أخذنا بفرض مستحيل من الوجهة العملية، وطرحنا وراء ظهورنا فرضا منطقيا بسيطا الا وهو وجود الله الذي أنشأ هذا الكون وبدأه بقدرته. فالله هو المبدئ. كلمات بسيطة ولكنها بساطء تتسم بالجلال.
انه جلال الحق وقدسيته.(2/100)
الله والقوانين الكيماوية
كتبه: جون أزولف بوهلر
مستشار كيماوي - حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة إنديانا - أستاذ الكيميا بكلية أندرسون - متخصص في تركيب الأحماض الأمينية و الكشف عن الكوبلت.(/)
لكي ندرك كيف تنتسب القوانين الكيماوية إلى الله، و نتبين مبلغ قصور العقل الإنساني، و نعرف لماذا ينبغي أن يتواضع الناس جميعاً حتى أولئك الذين نعدهم من العباقرة فإنني أحب أن أعرض على قرائي لمحة موجزة عن علم الكيمياء، الذي هو ميدان تخصصي. وسوف أحاول الابتعاد عن المصطلحات الفنية و أن أكون واضحا ما استطعت.
فمنذ فجر المدنية و الإنسان يحاول أن يفهم كنه التغيرات التي تطرأ على ما يحيط به من عالم الماديات. و قد كان فهمه للمادة في بادىء الأمر يشوبه النقص و الغموض، و كان ديمقريطس الذي عاش قيل الميلاد بنحو 400 سنة أول من وصل عن طريق التخمين إلى أن جميع الأشياء تتألف من دقائق صغيرة تعتبر كل منها وحدة قائمة بذاتها. و تختلف هذه الفكرة عما كان شائعاً من قبل من أن المادة المادة تتألف من كتلة واحدة متصلة. و لما كانت فكرة ديمقريطس لا تتفق مع ما تشاهده العين من أمر المادة ، فقد بقيت هذه الفكرة مدفوعة تحت أنقاض ما كان يسود ذلك العهد من شك في صحتها.(/)
و ظلت الكيمياء القديمة من ضروب الشعوذة و السحر ألفي سنة و هي تحاول أن تجد تفسيراً لمعنى المادة. و في حوالي متصف القرن السابع عشر عاد روبرت بويل إلى فكرة ديمقريطس من جديد و أطلق اسم العنصر على كل مادة من المواد البسيطة التي لا يمكن تحوليها في المعمل إلى أبسط منها. و العناصر بهذا المعنى تختلف عن المعنى الذي ذهب إليه أرسطوطاليس حينما رأى أن العناصر التي تتألف منها المادة هي الأرض و النار و الهواء و الماء. و في سنة 1774م أكتشف جون بريستلي الأوكسجين. و في سنة 1776م توصل لورد كافينديش إلى عنصر الإيدروجين. و بعد فترة وجيزة اكتشف لافوزييه أن الهواء خليط منن الأوكسجين و النيتروجين. و استنبط أن الماء هو الآخر لا يمكن أن يكون عنصراً لأنه يمكن تحضيره بإحراق الأيدروجين في الهواء.(2/101)
لقد كان علم الكيمياء يتقدم بحق، و في عام 1799م توصل الكيماوي الفرنسي جوزيف براوست إلى أن المواد الكيماوية النقية مثل ملح الطعام يكون لها تركيب ثالث، بصرف النظر عن مصدرها. أما بيرثوليت فكان يناقضه و يرى أن الملح المحضر من أماكن مختلفة على سطح الأرض يختلف في تركيبها تبعاً لاختلاف هذه الأماكن. و لقد كسب براوست الجولة بعد مضي ثمان سنوات قضاها في إجراء التجارب و بذلك تبين أن للمركبات تركيباً ثابتاً.
و في سنة 1808 حاول دالتون - و كان مدرساً - أن يجمع كل ما هو معروف من المعلومات الكيماوية حتى ذلك الوقت، و أن يجد تفسيراً لثبات العناصر و المركبات. و قد توصل إلى النظرية الذرية للمادة. فقد كان يرى أن العناصر تتكون من جزيئات صغيرة سماه الذرات و توصل إلى أن الذرات العنصر الواحد لابد أن تكون متكافئة من جميع الوجوه أما ذرات العناصر المختلفة فمتباينة. و قد أفترض دالتون أن الذرات غير قابلة للكسر فهي لا تستطيع أن تتحول إلى صورة اصغر. و قد أرجع اختلاف العناصر في صفاتها الطبيعية و الكيماوية إلى ما بين ذراتها من اختلاف في الوزن و الخواص الأخرى. كما بين أن ثبات المركبات يرجع إلى اتحاد العناصر الداخلية في تركيبها بنسب دقيقة ثابتة في المركب الواحد. و عندئذ أتضح أن الظواهر الكيماوية تخضع لقوانين معينة مثل قانون بقاء المادة و قانون ثبات الركيب و قانون بقاء الطاقة.(2/102)
بهذه الوسائل التي تسلح بها الكيماويون في بحوثهم العلمية، تحول علم الكيمياء من علم وصفي إلى علم قياسي يعتمد على القياس الدقيق. و ما إن فتح ذلك الطريق على أساس الاتجاه حتى ظهر التقدم الحقيقي ، وصار من المقرر أن دراسة الكيمياء تقوم على أساس الانتظام و القوانين. ذلك تحولت الكيمياء إلى صف العلوم . و تقدمت دراستها في نصف القرن الذي تلا دالتون تقدماً كبيراَ وسارت في نفس الاتجاه الذي حددته قوانين نيوتن ، و نجح العلماء في زيادة عدد العناصر في سنة 1900 و بذلك ضربت الكيمياء رقماً قياسياً في تقدمها.
لقد كان دالتون يعتبر الذرة كتلة صلبة من المادة تخضع لقوانين نيوتن. و في النصف الأخير من القرن التاسع عشر أجريت تجارب عديدة اتضح منها أن هنالك ذرات أكثر تعقيداً من الذرات التي وصفها دالتون ، فقد بدأ ماسون في سنة 1853م بإمرار تيار كهربائي خلال أنبوبة مفرغة. ثم حاول جسلر أن يعيد التجربة السابقة مستخدما تياراً أقوى و مجموعة من الغازات المختلفة داخل الأنابيب المفرغة. و في سنة 1878م أستطاع كروكس باستخدام أنابيب مفرغة إلى درجة لم يحصل عليها سابقوه ، أن يلاحظ بريقا عجيبا داخل الأنبوب عند إمرار التيار الكهربي بها. و قد أثبت طويون أن هذه الأشعة العجيبة تحمل شحنات كهربية سالبة، و أنها تتحرك بسرعة لا يتصورها العقل، و أنها تكاد تكون عديمة الوزن، و قد سميت هذه الأشعة أشعة المهبط، كما سميت الأنابيب التي تتكون داخلها أشعة المهبط. وقد تبين أخيراً أن هذه الأشعة ليست إلا سيلا من الالكترونات المتدفقة.(2/103)
ثم اكتشفت بعد ظاهرة النشاط الإشعاعي، التي اكتشفتها بكويرل و آل كوري. و قد فتح هذا الاكتشاف عالما جيديا من الجزيئات التي هي دون الذرات. و لم يعد ينظر إلى الذرة على أنها جسم صلب مصمت، بل صار ينظر إليها على أنها تشبه مجموعة شمسية مصغرة، تقع كتلتها الكبرى في مركزها حيث تتجمع البروتونات الموجبة ، و من حول هذه الكتلة يتم توزيع الالكترونات السالبة التي هي ليست إلا وحدات من الطاقة تتحرك حول المركز في نظام معين.
و تتوقف الخواص الطبيعة و الكيموية للذرة على ما يحمله حول المركز في نظام معين. و تتوقف على طريقة ترتيب الالكترونات حول النواة. و قد بذلت محاولات في بادىء الأمر لتطبيق قوانين نيوتن على الجزيئات دون الذرة، و لكن اتضح بعد قليل ان هذه القوانين لا تنطبق على تلك الجزيئات الدقيقة. و قد دعا ذلك إلى ضرورة قيام طرق جديدة أخرى للحساب فنشأت نظرية (الكوانتم) أو نظرية الكم. و هي تساعدنا على أن تعبر تعبيراً رياضياً عن احتمال سلوك البروتونات و الالكترونات و غيرها من الجزيئات دون الذرية.
و في سنة 1927م توصل هايزنبرج إلى نظرية (الشك) أو عدم التحديد لكي يبين لماذا لا تخضع الجزيئات دون الذرية لقوانين نيوتن. و ينص هذا المبدأ على أنه من المحال تعيين موضع أي جزيء وسرعته في لحظة واحدة. فكلما حاولنا أن نشاهد إلكترونا نجد أننا نغير من حالته، و قد يتناول التغيير مكانه أو سرعته أو كليهما.(2/104)
و على ذلك فإننا نستطيع ان نتكلم عن احتمال حدوث ظاهرة، ولكننا لا نستطيع أن نحددها تحيداً دقيقا، و عندئذ نقول إن الطبيعة تخضع لقوانين المصادفة الإحصائية. و نحن في العادة نتعامل مع أعداد كبيرة جداً من الأيونات أو الجزيئات في المعمل، أعداد تبلغ الملايين، فعندما نمزج المحاليل يسلك كل أيون من الأيونات الداخلة في التفاعل سلوكا خاصاً، سلوك غير منتظم، لا نستطيع أن نتنبأ به، و مع ذلك فإننا نستطيع أن نقدر نتائج التفاعل الكلي تقديرا بالغ الدقة. و قد يكون هنالك مئات الآلاف من الأيونات التي لم تشترك في التفاعل و لكن مادامت الموازين التي نستخدم عاجزة عن تقدير هذا القدر الضئيل منها فإننا نعتبر أن التفاعل قد أكتمل و بلغ درجة التمام.
و يشير دينوي إلى ذلك فيقول : إن كل شيء يتوقف على معايير الملاحظة التي تستخدمها، و إن ما قد نعتبره تاماً أو كاملا باستخدام أحد المعايير قد لا يكون كذلك عندما نستخدم معياراً آخر، فإذا مزجنا جراماً من الكربون لأحد الميكروبات التي تزحف فوق هذا التل من الخليط، فإنه يبدو على صورة مجموعة من الكتل السوداء التي تجاورها كتل بيضاء. و يرجع ذلك إلى اختلاف مستوى الملاحظة في حالة الميكروب عنده في حالتنا.
أما لماذا تخضع الكيمياء للقوانين التي اكتشفناها، فيرجع إلى أنها علم إحصائي. و على ذلك فإن القوانين الطبيعية الكيماوية تقوم في أساسها على عدم الانتظام. أما ما نشاهده من انتظام الظواهر فيرجع إلى أننا نتعامل مع أعداد بالغة الكبر تخضع في مجموعها لقوانين الإحصاء و تعطي نتائج محددة . ومن أن النظام الذي نشاهده و التوافق الذي نلاحظه إنما يخرجان من الفوضى.(2/105)
فما هي القوى الموجهة التي وراء هذه القوانين الإحصائية ؟ عندما يطبق الإنسان قوانين المصادفة لمعرفة مدى احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في الطبيعة مثل تكون جزيء واحد من جزيئات البروتين من العناصر التي تدخل في تركيبه ، فإننا نجد أن عمر الأرض الذي يقدر بثلاثة بلايين من السنين أو أكثر، لا يعتبر زمنا كافيا لحدوث هذه الظاهرة و تكون هذا الجزيء عن طرق المصادفة إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت هناك قوة موجهة إلى غاية محددة و تعيننا على إدراك كيف يخرج النظام من الفوضى.
وقد لا تكون نظرية هايزنبرغ عن (عدم التحديد) قائمة الا بسبب عدم قدرتنا على ان نجد طريقة تناسب مستوى فهمنا لملاحظة الالكترون دون ان نؤثر على موضعه أو سرعته. وربما نستطيع في يوم من الايام بعد ان نعرف عن الطاقة اكثر مما نعرفه اليوم ان نشاهد الالكترون بدرجة من الثبات تقرب من الدرجة التي نشاهد بها المريخ مثلا. اما في الوقت الحاضر فان نظرية هايزنبرغ تساعدنا على دراسة الجزئيات دون الذرية بمثل ما كانت نظرية دالتون تساعد به الكيماويين في القرن التاسع عشر.
و لابد أن نسلم بأننا لا نعرف حتى الآن كل ما يمكن أن يعرف عن المادة و الطاقة، فنحن لا نزال في بداية الطريق. و قد يكون ما سميناه عدم نظام أو فوضى على المستوى دون الذري مخالفاً لذلك كل المخالفة، فقد تكون أفكارنا خاطئة أو متأثرة بنقص معلوماتنا عن الظواهر المختلفة، أو تقيدنا بجانب غير سليم من الملاحظة.(2/106)
إن الإنسان يشاهد التنظيم و الإبداع حيثما ولى وجهة في نواحي هذا الكون. و يبدو أن هذا الكون يسير نحو هدف معين ، كما يدل على ذلك النظام الذي نشاهده في الذرات، فهناك نظام معين تتبعه الذرات جميعها من الأيدروجين إلى اليورانيوم وما بعد اليورانيوم. و كلما أزداد علمنا بالقوانين التي تتحكم في توزيع البروتونات و الإلكترونات لإنتاج العناصر المختلفة، أزداد إيماننا بما يسود عالم المادة من توافق و نظام، و قد يجيء اليوم الذي ينكشف لنا فيه كيف تتجمع الطاقة لكي تكون تلك الكتل من المادة. و لقد كان أينشتين أول من أظهر العلاقة الموجودة بين المادة و الطاقة. و لا يزال الإنسان في بداية الطري لكشف أسرار الطاقة الذرية، و قد نستطيع في يوم من الأيام أن تحول الطاقة إلى مادة.
و تدل الشواهد على وحدة الكون من الوجهة الكيماوية. و لدينا من الطرق و الوسائل ما يمكننا من اختبار كثير من العناصر الموجودة في الكواكب الأخرى، و معرفة أنها هي نفس العناصر التي توجد على الأرض. و حتى النجوم البعيدة عنا ن فإنها تشتمل على عناصر مشابهة لعناصر الأرض. و يعتقد العلماء أن القوانيين الطبيعية التي تتحكم في هذا الكوكب هي عينا القوانين التي تخضع لها النجوم و الكواكب الأخرى في أفلاكها النائية المترامية في الفضاء. فحيثما اتجهنا نجد الإبداع و النظام و التوافق، حتى هنالك ظل من شك عندي في أن إلها قادرا قد أبدع هذا الكون و بناه وحدد وجهته و غايته.
و كنت أرجوا أن يتسع الوقت و المكان لذكر كثير من الأمثلة الأخرى التي تدل على روعة الإبداع و جلال النظام، و لكنني أحب ان أوجه نظر القارىء إلى دورة الماء على الأرض و دورة ثاني أوكسيد الكربون و دورة النشادر و دورة الأكسجين التي تشهد كل منها بحكمة و تدبير و قوة لأحد لها.(2/107)
و برغم أن هنالك كثيراً من الأشياء في الطبيعة مما لم يصل الإنسان بعد إلى معرفة كنهه أو تفسيره، و مما لا يزال يكتنفه الغموض، فإننا لا نريد أن نقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الأقدمون عندما اتخذوا آلهة لكي يجدوا تفسيراً لما غمض عليهم، و حددوا لكل إله قدرته و عينوا له وظيفته و دائرة تخصصه. و عندما تقدمت العلوم و أمكن فهم كثير من الظواهر الغامضة و معرفة القوانين التي تخضع لها، لم يعد هؤلاء الناس في حاجة إلى الآلهة التي نتلمس قدرة الله في النظام الذي خلقه و القوانين التي تحكمها و لكن الإنسان عاجز عن أن يسن تلك القوانين، فهي من صنع الله وحده. و لا يفعل الإنسان أكثر من أنه يكتشفها ثم يستخدمها في محاولة إدراك أسرار هذا الكون. و كل قانون يكتشفه الإنسان يزيد قربا من الله، و قدرة على إدراكه، فتلك هي الآيات التي يتجلى بها الله علينا، و قد لا تكون هذه هي طريقته الوحيدة في هذا التجلي، فهو يتجلى أيضا في كتبها المقدسة مثلا، و مع ذلك فإن طرقة تجليه تعالى في آياته التي نشاهدها في هذا الكون تعتبر بالغة الأهمية بالنسبة لنا.(2/108)
العلم تدعم إيماني بالله
كتبه: ألبرت ماكومب ونشستر
متخصص في علم الأحياء
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة تكساس – أستاذ الأحياء بجامعة بايلور – عميد أكاديمية العلوم بفلوريدا سابقا – أخصائي في علم الوراثة وفي تأثير الأشعة السينية على الدروسوفيلا.(/)
هل من الممكن ان يكون للمشتغل بالعلوم نفس الاعتقاد بوجود الله، والتقديس له، كغير المشتغل بالعلوم؟ وهل يوجد في دائرة المستكشفات العلمية ما يمكن ان يقلل من تقدير الانسان لقدرة الخالق الأعظم وجلاله؟ تلك أسئلة تطوف احيانا بعقول بعض من يظنون ان العلماء في ميادين بحوثهم المتسعة يكتشفون من الحقائق ما قد يتعارض مع الدين حسب تفسير بعض المفسرين.
ومن أمثلة ذلك ما حدث لي شخصيا عندما كنت طالبا بالجامعة وكنت قد قررت ان ادرس العلوم. وانني لأذكر جيدا كيف أخذتني احدى عماتي جانبا ذات يوم وتوسلت إلى ان أعدل عن هذا القرار، لان العلوم، كما كانت تعتقد، سوف تقضي على ايماني بالله. لقد كنت تعتبر، كما يعتبر الكثيرون، ان العلوم والدين قوتان متعارضتان، وأنهما لا يمكن ان يجتمعا في قلب رجل واحد.
وانني لأشعر بالغبطة تملأ قلبي اليوم، بعد ان درست العلوم المختلفة، واشتغلت بها سنوات عديدة، ولم يكن في ذلك ما يزعزع ايماني بالله، بل ان اشتغالي بالعلوم قد دعم ايماني بالله حتى صار أشد قوة وأمتن أساسا مما كان عليه من قبل.
ليس من شك في ان العلوم تزيد الانسان تبصرا بقدرة الله. وجلاله، وكلما اكتشف الانسان جديدا في دائرة بحثه ودراسته زاد ايمانه بالله. لقد حل العلم اليوم محل كثير من الخرافات القديمة التي غالبا ما طغت على المعتقدات الدينية، واستبدل بها حقائق رصينة تستند إلى المشاهدة والتجربة. وكما عدلت الكشوف العلمية أساليب الطب القديمة من الكي والحجامة إلى تلك الأساليب الحديثة من التشخيص والعلاج، فان العلوم الحديثة قد غيرت كذلك من بعض المعتقدات حول علاقة الانسان بالله، فلم يعد الناس يعتقدون ان سبب المرض ما هو الا سخط من الله ينزله بعباده عقابا لهم على خطاياهم، وانما سببه غزو للجسم تقوم به بعض الكائنات الدقيقة التي تخضع لكل القوانين الطبيعية التي تتحكم في سائر الكائنات الحية الاخرى. ان ايماننا بالله لم يتزعزع بسبب معرفتنا بهذه الحقائق، بل ازاداد علما به وبالعالم الذي خلقه سبحانه وتعالى، وكذلك بتلك الكائنات التي يصيب بها من يشاء.(2/109)
ان الانسان لا يستطيع ان يدرس اعمال اي صانع من الصناع دون ان يحيط بقدر من المعلومات عن الصانع الذي أبدع تلك الاعمال، وكذلك نجد أننا كلما تعمقنا في دراسة أسرار هذا الكون وسكانه، ازددنا معرفة بطبيعة الخالق الأعلى الذي أبدعه. وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء، وهو من ميادين العلمية الفسيحة التي تهتم الحياة، وليس من مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون.
انظر إلى نبات برسيم ضئيل وقد نما على أحد جوانب الطريق. فهل نستطيع ان تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الانسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ انه آلة حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار بآلاف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية، ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية.
فمن اين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ ان الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلق الحياة وجعلها قادرة على صيانة نفسها وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل من الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر. ان دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الاحياء واكثرها اظهارا لقدرة الله. ان الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث تصعب مشاهدتها الا باستخدام المجهر المكبر. ومن العجب ان كل صفة من صفات النبات: كل عرق، وكل شعيرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة يتم تكوينها تحت اشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات. تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات.(2/110)
ولهؤلاء المهندسين ذوي الاحجام الضئيلة القدرة على تعديل خواص النباتات التي تنتجها هذه الخلايا الدقيقة في فترات نادرة من الزمان، فهي بذلك تنتح كائنات اكثر قدرة على التلاؤم من أسلافها. لقد مرت بالبشر فترة كان أغلب الناس يعتقدون فيها انه من الكفر ان يعتقد المرء ان الكائنات الحية التي تعيش اليوم على سطح الأرض كانت في يوم من الأيام على صورة تخالف الصورة التي خلقها الله عليها بادئ الأمر. اما في الوقت الحاضر فان معظم المفكرين يرون ان خلق كائنات لها القدرة على التكاثر وعلى تغيير اشكالها وتركيبها، تبعا للظروف التي تحيط بها، يعد أشد دلالة على قدرة الله من خلق كائنات لا تتطور ولا تستطيع الا ان تنتج صورا مكررة من أنفسها طيلة الزمان.
ويقف العلماء اليوم على عتبة كشف جديد بالغ الأهمية، الا وهو خلق الحياة داخل المعمل وفي أنابيب الاختبار، وقد أمكن فعلا الوصول إلى خلق صورة من صور الحياة داخل المعمل، ولكنها صورة بدائية على درجة كبيرة من البساطة والنقص. وقد تم ذلك بمزج بعض المواد الكيماوية بنسب معينة لكي تتكون منها مادة تسمى حمض ديسوكسي ريبونيوكليك (D N A)، وهي من المواد التي لم يكن من الممكن انتاجها من قبل الا داخل الخلايا الحية. انها مادة الحياة، مادة الوراثة التي تحمل الصفات الوراثية عبر الاجيال وتضع طابعها على جميع الاحياء التي تدخل في تركيبها.
وقد أمكن اخذ هذه المادة من بروتوبلازم بعض الخلايا الحية وادخالها في بروتوبلازم بعض الأنواع الأخرى، فادى ذلك إلى جانب من التغير في الصفات الوراثية للأنواع المطعمة بهذه المادة.(2/111)
ونحن لا نعلم ماذا يكون شأن ذلك الحمض الصناعي الذي حضره الإنسان في المعمل وكيف يكون تأثيره عندما يطعم به بروتوبلازم الخلايا الحية، هل تمتصه الخلايا، وهل يتسق مع تركيبها، وهل تحدث فيها نفس التأثيرات التي تحدثها المادة العضوية الطبيعية؟ اننا لا نعر الإجابة حتى اليوم عن هذه الاسئلة، ولا يزال مستقبل الجهود التي تبذل في هذا الميدان في كف القدر، فبعض العلماء يتشككون في إمكان الوصول إلى خلق الحياة، والبعض الآخر يعدونه من الأمور المستحيلة، ولكن حتى اذا نجحت هذه الجهود، فهل يزعزع ذلك من إيماننا بالله؟ انه لا يزعزع الا إلا إيمان أولئك الذين لديهم إيمان سطحي. اما من يقوم ايمانهم على أساس التفكير العميق، فان ذلك لا يعد أكثر من خطوة جديدة في ادراك ما أبدعه الخالق الأعظم الذي خلق وحده تلك الروائع التي يعمل الناس جاهدين متكاتفين في الكشف عنها.
فاذا كانا نريد ان ندعم إيماننا بالله فعلينا بمزيد من التعمق في كشف الحقيقة.
الكون تحت سيطرة مركزية
كتبها: ايرل تشستر ريكس
عالم الرياضيات والفيزياء
حاصل على درجة الماجستير من جامعة واشنطن – محاضر بجامعة جنوب كاليفورنيا سابقا – أستاذ مساعد الطبيعة في كلية جورج ببردين – عضو الجمعية الرياضية الأمريكية.
كثيرا ما تكون الافكار والمعتقدات الشائعة خاطئة مضللة، فهنالك اعتقاد شائع بان العلوم تشبه عجوزا متحدثا لديه عن كل سؤال جواب. والواقع ان العلوم تشبه شابا كثير الأسئلة والتفكير والبحث، ويحاول ان يسجل ملاحظات منظمة عن كل شيء، ولا يقنع بما وصل اليه من النتائج في البحث عن الحقيقة.(2/112)
ومن المعتقد كذلك ان العلوم تتبع طريقا مستقيما في الاستدلال والتفكير والواقع ان العلوم تشبه انبات العنب المتسلق الذي يحاول دائما ان يمتد إلى أعلى ولكنه لا يستطيع ان يسلك طريقا مستقيما، فيلتف ويدور حول الاشياء. وعلى ذلك فان الطريق الذي تسلكه العلوم والاتجاه الذي يسير فيه لابد ان يكون مرنا قابلا للتعديل والتغيير كلما دعت إلى ذلك الظروف.
اما الدراسات الرياضية، وانا من المشتغلين بها، فانها تشبه شعاعا هاديا من الضوء يضيء السبيل امام العلوم، ولكن اتجاه هذا الشعاع لابد ان يتغير دائما لكي يسير في نفس الاتجاه الذي تسلكه العلوم. فمن المتفق عليه في الطريقة العلمية عند المفاضلة بين فرضين أو نظريتين ان ناخذ بأبسطهما اذا كان قادرا على توضيح جميع الحقائق، وقد استخدم هذا المبدأ للمفاضلة بين الفرضين اللذين يقول أحدهما بان الارض هي مركز هذا الكون، ويقول الآخر بان الشمس هي مركز المجموعة الشمسية. وقد فضل هذا الفرض الأخير على الأول بسبب ما يترتب على الأخذ بالفرض الأول من تعقيدات وصعوبات.
وبرغم ما للعلوم من قيود وحدود، فلنظرياتها ونتائجها فوائد لا تحصى، وكذلك الحال بالنسبة لموقف العلوم من كشف أسرار هذا الكون والدلالة على خالقها. فدراسة الظواهر الكونية دراسة بعيدة عن التحيز وتتسم بالعدل والانصاف قد أقنعتني بان لهذا الكون إلها، وأنه هو الذي يسيطر عليه ويوجهه، اي ان هنالك سيطرى مركزية هي سيطرة الله تعالى وقوته التي توجه هذا الكون.(2/113)
وهنالك من الأدلة ما يوضح ان بعض الظواهر التي تبدو متباعدة، تقوم على أساس مشترك من التفسير، ويتضح ذلك من قوانين كولمب عن تجاذب الشحنات وتنافرها. فقد تتضح لي ان هذه القوانين تشبه إلى حد كبير قوانين التجاذب والتنافر بين قطبين مغناطيسيين، بل انها تتشابه إلى حد كبير مع قوانين نيوتن عن الجاذبية العامة. ففي كل حال من الحالات الثلاث السابقة، تتناسب القوة تناسبا طرديا مع حاصل ضرب الشحنتين أو قوة القطبين المغناطيسيين أو الكتلتين، كما انها تتناسب عكسيا مع مربع المسافة. حقيقة هنالك بعض الفروق، فمن ذلك مثلا انه بينما تتجاذب الكتلتان فان الشحنتين أو القطبين يتنافران، ومن ذلك ايضا انه بينما تسير الموجات الكهرو مغناطيسية بسرعة الضوء، فان التجاذب الأرضي ينتقل بسرعة لا نهائية، ولكن هذه الفروق تشير إلى الاختلافات في طبيعة الاشياء وتدفعنا نحو دراسة الموضوع بصورة أشمل.
وهنالك ظواهر عديدة تدل على وحدة الغرض في هذا الكون وتشير إلى ان نشأته والسيطرة عليه لابد ان تتم على يد أله واحد لا آلهة متعددة.(2/114)
ويحدثنا علماء الأحياء عن توافق متشابه فيما يتعلق بتركيب الكائنات الحية ووظائفها، فالأجسام الطبيعية تؤدي وظائفها على أكمل وجه وأتم صورة. خذ مثلا الكرات الدموية الحمراء التي بجسم الإنسان، تجد ان شكلها وحجمها يتناسبان إلى أقصى حد مع الوظائف التي خلقت من أجلها. وينطبق هذا على سائر الأعضاء والأجزاء ودقائق الجسم. فاذا ذهبنا إلى عالم الحشرات فقد يكفينا ان نفحص خلية النحل لكي تستولي علينا روعة الدقة والكمال والتشابه العجيب بين عيونها. وكل خلية من ملايين الخلايا الموجودة في سائر أنحاء العالم مصممة بصورة هندسية وبدقة رائعة وتناسب العمل الذي خلقت من أجله إلى اقصى الحدود. وليست خلايا النحل الا مثل من آلاف الأمثلة التي نستطيع ان نضربها لبيان الروعة والإتقان والتوافق في كل ما هو طبيعي. فاذ كان كل ذلك وغيره مما لا يحصى، لا يدل على وجود إله مدبر يسيطر على هذا الكون ويوجهه، فليت شعري كي أستطيع بعد ذلك ان أنتسب إلى دائرة العلماء والمشتغلين بالعلوم؟
انني أجد بوصفي من المشتغلين بالعلوم أن النتائج التي وصلت اليها بدراستي العلمية عن الله والكون تتفق كل الاتفاق مع الكتب المقدسة، التي أؤمن بها وأعتقد في صدف ما جاءت به عن نشأة الكون وتوجيه الله له، وقد يرجع ما نشاهده احيانا من التعارض بين ما توصلت اليه العلوم وبين ما جاء في هذه الكتب المقدسة التي نقص في معلوماتنا. فقد أشار الإنجيل مثلا إلى ان قدماء المصريين، كانوا يستخدمون القش في صناعة الطوب. وهو رأي لم تؤيده دراسة الحفريات المصرية. ولكن علماء الآثار ما لبثوا ان اكتشفوا ان القش كان يعطن اولا في المخامر ثم يؤخذ بعد ذلك فيخلط بالطين ويدخل في صناعة الطوب ليزيد من صلابته. فعلينا اذن ان نتريث عندما نجد بعض التعارض بين ما تحدثنا عنه العلوم وبين ما يحدثنا عنه الدين حتى تتبين لنا الحقيقة.والنظريات الحديثة التي تفسر نشأة الكون والسيطرة عليه بصورة تخالف ما جاء في الكتب السماوية، تعجز عن تفسير جميع الحقائق وتزج بنفسها في ظلمات اللبس والغموض، وانني شخصيا أؤمن بوجود الله وأعتقد في سيطرته على هذا الكون.(2/115)
صحة الدين
كتبه: مالكولم دنكان وينسر، الابن – طبيب باطني
حاصل على درجة البكالوريوس في علم الحيوان من كلية هويتن – ودكتوراه في الطب من جامعة نورث وسترن.(2/116)
من الممكن ان تصاغ المشكلة التي تدور حول صحة الدين و سلامته صياغة عملية في السؤال الآتي: هل هنالك إله؟ وهل يهتم بالإنسان اهتماما شخصيا؟ انني أعتبر هذا السؤال على درجة كبيرة من الأهمية.
وبرغم ان هنالك كثيرا من المسوغات الفلسفية لوجود إله لهذا الكون واتصافه بصفات خاصة، فان هنالك طريقتين أساسيتين من الوجهة العلمية لاثبات وجود إله. اما إحداهما فتقوم على استخدام العلوم الطبيعية، واما الاخرى فتعتمد على المراجع التاريخية.
اما عن الطريقة الاولى، فان الارض والسماوات بسائر تعقيداتهما، والحياة في شتى صورها، وأخيرا الإنسان بكل قدراته العليا، كل هذا أشد تعقيدا من أن يتصور الإنسان انه حدث هكذا وحده أو بمحض المصادفة. فلابد اذن من عقل مسيطر، من إله خالق وراء كل ذلك، ولما كان الإنسان أسمى مما يحيط به من الكائنات المختلفة فلابد ان يكون قد حظي باهتمام خالقه، ولابد اذن ان يكون لهذا الخالق وجود ذاتي.(/)
اما بالنسبة للطريقة الثانية، فليس أمامنا الا ان نلجأ للكتب المقدسة التي هي في الواقع مجموعات من الكتب والوثائق ظهرت في عصور مختلفة، يطلق على بعضها اسم (المخطوطات) دون ان يقترن هذا الاسم بصفة من الصفات، لكي يدل ذلك على انها تقف وحدها فوق مستوى سائر المخطوطات الأخرى، ويبلغ عدد المخطوطات بالذات ستا وستين. وقد كتبها عدد كبير من الكتاب في مدى اربعة عشر قرنا، ومع ذلك فهي جميعا تؤلف كتابا واحدا يدور حول محور واحد. وبرغم ان كتابة هذا الكتاب قد استغرقت 1400 سنة، واشترك فيه انتاجها كتاب عاشوا في بلدان متفرقة، ولم تتح الظروف لاي منهم ان يتعرف بالآخرين، فاننا نجد بينهم تجانسا في التفكير ووحدة واتفاقا في الغاية. ولقد حقق التاريخ ما جاءت به هذه الكتب إلى درجة عجيبة، مما يدل على صدقها، وها نحن اولاء نراها جميعا تؤكد من أول كلمة فيها إلى آخر سطر من سطورها، أن لخالق هذا الكون وجودا ذاتيا.
فاذا نظرنا إلى العقائد التي يأخذ بها الأنسان، والى الأسباب التي تجعله يعتقد في صحتها، فاننا نجد ان كل ذلك يتحدد إلى درجة كبيرة بعاملين هما: ذكاء الإنسان والبيئة التي تحيط به وتؤثر عليه، ويمكننا ان نقسم هذه المعتقدات إلى قسمين: واقعية ونظرية. وللتأكد من صحة المعتقدات الواقعية لابد ان يكون الإنسان قد وصل اليها باستخدام الأسلوب العلمي في التفكير. ومن الواضح ان تحقيق هذه الشرط بالنسبة لجميع المعتقدات الواقعية التي يأخذ بها الإنسان في حياته يعد أمرا مستحيلا، ويرجع ذلك إلى كثرة هذه المعتقدات وتعقدها، ومع ذلك فان الانسان يتقبلها ويسلم بصحتها لسببين: أولهما: ان المجتمع الذي يعيش فيه والكتب التي يقرؤها تقر هذه الافكار وتقبلها، وثانيهما: انه يجدها صحيحة عند استخدامها أو تطبيقها في حياته اليومية.(2/117)
اما عن المعتقدات النظرية، فكثيرا ما تتجلى فائدتها للإنسان وتثبت صحتها وسلامتها عند ممارستها، ومع ذلك فانه لإسباب متعددة لا يمكن ان يسلم جميع الناس بصحتها، كما انه لا يمكن استخدام الطريقة العلمية لاثبات صحتها بسبب عدم القدرة على جمع الحقائق اللازمة لاستخدام هذه الطريقة في حالة هذه المعتقدات.
وهكذا نرى ان الاعتقاد في وجود الله وجودا ذاتيا، يعد إلى حد بعيد من المعتقدات النظرية التي لا يمكن اختبارها على محك الاسلوب العلمي، ولذلك فان الناس ينقسمون فيما يتصل بهذا الامر إلى شيع، فنجد منهم المؤمن، ونجد منهم المنكر، كما نجد منهم الملحد.
وميدان الطب من الميادين التي تعني بدراسة الانسان وتحليله ومعرفة الأسباب التي تجعله يسلك سلوكا معينا، وقد يكون في ذكر بعض المبادئ الطبية ما يلقي به بعض الضوء على عقيدة الإنسان في الخالق، فمن المعروف مثلا ان جميع الأمراض التي تصيب الانسان اما ان تكون عضوية أو نفسية، ومن المعروف كذلك ان الحالة النفسية للمريض وموقفه العقلي من هذا المرض يحددان إلى درجة كبيرة مدى تأثره بالمرض، ثم ان من المعروف ان تتغير الحالة النفسية أو النظرة العقلية يعد من الأمور المتعذرة، فالشخص السليم في عقله ونفسه، يبقى كذلك طيلة حياته، اما الشخص القلق المضطرب فلا يكاد يصلحه العلاج الا اصلاحا سطحيا، ولا يكاد المعالج ينتهي من حل مشكلة من مشكلاته حتى تبرز له اخرى غيرها.
و ها هو ذا المسيح عيسى عليه السلام يقول في نفس هذا المعنى: (درب الطفل على الطريق الذي تريده ان يسلكه، فلن يحيد عنه بعد ذلك)(1). وقد ثبتت صحة هذا الرأي، اذ من الصعب حقا تغيير معتقدات الانسان أو طريقته في النظر للأمور. والفرد منا يتأثر في كل ذلك بطريقة تنشئته، بل انه كثيرا ما يكون ضحية لها.
__________
(1) - من أمثلة العرب في هذا الصدد: من شب على شيء شاب عليه.(2/118)
وكثير من الأطفال الذين ينشأون على الاخذ بمعتقدات معينة يبقون متمسكين بها طيلة حياتهم، فاذا نشأوا في مجتمع في مجتمع ملحد صاروا ملحدين، واذا نشأوا في مجتمع ديني بقوا مؤمنين وهكذا..
وقبول الانسان لبعض المعتقدات بسبب نشأته وتربيته لا يعد في ذاته دليلا على صحة هذه المعتقدات وذلك برغم شعوره بانها لابد ان تكون صحيحة، فالواقع اننا نتقبل كثيرا من المعتقدات قبولا يقوم على التسليم، ثم نتحيز لها بطريقة أو بأخرى. وبرغم اننا نستطيع ان نتجرد من أهوائنا وعواطفنا عند حل كثير من المشكلات التي تواجهنا في حياتنا، فاننا نعجز عن ان نتجرد من هذه العواطف عندما نحاول الاجابة على من يسألنا بقوله: (هل لهذا الكون إله؟). ويرجع ذلك لما لهذا السؤال من آثار عميقة في نفوسنا تمتد آثارها إلى أيام طفولتنا. ونحن لا نستطيع ان نفر من ذلك، بل لعله لا ينبغي لنا ان نفر. ولما كان لهذا السؤال اهمية كبيرة بالنسبة لوجودنا، فلابد ان نجد له جواباً.
وانا أعتقد شخصيا انه لا يمكن الإجابة على هذا السؤال الا بعد ان يخطو الانسان خطوة نحو الإيمان الروحي، وهو لا يمكن ان يقوم بهذه الخطوة الا بعد ان يصل (باستخدام عقله) إلى وجود إله وخالق لهذا الكون. وما ان يصل الانسان إلى ذلك حتى يثبت الله ايمانه به وينزل على قلبه السكينة. وقد يعد بعض الناس ذلك تحيزا مني أو تعصبا لفكرة من الأفكار، الا أنني اعتقد ان الإيمان بالله خبرة شخصية قبل كل شيء. ويستطيع الانسان ان يصل إلى فكرة وجود الله باستخدام عقله، وذكائه، ولكنه لا يستطيع ان يقيم البرهان على ذلك الا بالطرق غير المادية، فالايمان بالله هو أساس الاطمئنان إلى وجوده تعالى.(2/119)
وقد عرف الإيمان في (الكتب المقدسة) بانه (القوة التي تعين على استجابة الدعاء، وتجعل الإنسان يطمئن إلى الغيب). وقد عرف سير وليام اوزلر، وهو الطبيب الكندي المشهور، الايمان بانه (القوة الدافعة(1) الكبرى التي لا نستطيع ان نزنها في الميزان أو نختبرها في الجفنة). ولا يمكن ان يتم الاعتقاد في وجود الله بدون هذا الإيمان.
__________
(1) - من تعاريف القرآن للمؤمن من جاء في سورة الحجرات آية 15: (انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون).(2/120)
عجائب التربة
كتبه: ديل سوارتزن دروبر
إختصاصي فيزياء التربة - حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أبووا - أستاذ مساعد بجامعة كاليفورنيا - عضو جمعية علم التربة أمريكا - اخصائي في تركيب التربة و حركة الماء بها.(/)
عندما يسير سكان المدن بسيارتهم في الطرقات التي تخترق الريف و المزارع نجدهم يعجبون بالمحاصيل الزراعية، و هم يعلمون أنها تخرج من الأرض، و لكنهم قلما يعيرون التربة التي تبنتها جانباً من الاهتمام. و على نقيض ذلك يهتم الممتازون من الفلاحين و الزراع بأنواع التربة و خواصها، و لو أننا لا نتوقع من الغالبية منهم أن يقوموا بدارسة علمية لمادة التربة التي يتوقف عليها كسبهم ومستوى معيشتهم.
و التربة عالم يفيض بالعجائب، و لكنها عجائب لا يستطيع أن يصل إلى كنهها أو يكشف أمرها إلا العلوم و الدراسة العلمية، و لذلك فإنني أحب أن أشير هنا إلى خواص التربة بإيجاز. و قد لا يستطيع القارئ أن يتابعني بسهولة عند سرد بعض النواحي و المصطلحات الفنية، إلا أنني واثق من أنه سوف يتفق معي في أن عالم التربة مليء بالعجائب كما أنه سوف تروعه تلك العلاقات المتشابهة العديدة التي لا يمكن أن تكون قد تمت إلا عن تصميم و إبداع، و لا شك أن ذلك سوف يقود القارئ إلى التفكير في المبدع الأعظم. فلننظر إلى التربة لكي نرى كيف تنتج من عوامل التعرية، و قد قسمت نواتج هذه العوامل إلى أقسام: فهنالك الطبقة المتخلفة السفلى تعلوها الكتل المتخلفة ثم فوق ذلك طبقة التربة. و جميع الطبقات تنتج من عملية التفتيت و التكسير التي تسببها عوامل التعرية. و للتربة أهمية خاصة بالنسبة لنا لأنها مصدر المواد الغذائية الهامة التي يحصل عليها النبات في انثناء نموه، كما أنها ضرورية لتثبيت النباتات الأرضية فوق سطح الأرض.
فعندما تتعرض الصخور النارية لعوامل التفتت تزول عنها تدريجياً القواعد القابلة للذوبان في الماء مثل الكلسيوم و الماجنيزيوم و البوتاسيوم، و تتبقى أكاسيد السليكون و الألومونيوم و الحديد مكونة الغلبية الكبرى من التربة ، و لا يحب هذه العملية انخفاض كبير في المنسوب الفسفوري، بينما يترتب عليها عادة ارتفاع في نسبة النيتروجين.
و يؤدي تحلل عناصر السليكات الأصلية بتأثير عوامل التفتت هذه إلى تكون الصلصال، و يشتمل الصلصال في المناطق المعتدلة و الباردة على نسبة كبيرة من السليكات غير المتبلورة و على كميات ضئيلة من غير السليكات، أما في المناطق الاستوائية فترتفع في الصلصال نسبة الأكاسيد الطليقة و الأكاسيد المائية و الألمنيوم.(2/121)
و من الخواص الهامة للصلصال قدرته على تبادل الأيونات الموجبة (الكتيونات )، إذ تمكنه هذه الخاصية من الاحتفاظ بالقواعد القابلة للذوبان و اللازمة لنمو النبات و يؤدي ذلك إلى عدم انخفاض نسبة هذه المواد بالتربة انخفاضاً كبيراً أو انعداماً كلياً، ومن ذلك نرى أن عمليات التفتت تؤدي من جهة إلى فقدان بعض المواد القاعدية القابلة للذوبان، و لكنها تقدم في نفس الوقت طريقة أخرى للمحافظة على هذه المواد.
و لا يتسع المقام لتناول العناصر الغذائية الأخرى اللازمة لحياة النبات فلننظر إذن إلى مشكلة أخرى و هي كيف هيا المدبر الأعظم الظروف المناسبة لنمو النباتات في الأحقاب الجيولوجية القديمة، و علم على استمرار حياتها و بقائها. فإذا سلمنا بأن هذه النباتات القديمة كان لها نفس الاحتياجات الغذائية مثل النباتات الحالية، فلابد ان تكون القواعد القابلة للذوبان و كذلك المواد الفسفورية قد وجدت بكميات أكبر مما توجد عليه الآن. أما بالنسبة للنيتروجين فإن الوضع يختلف، فالنباتات تحتاج إلى قدر كبير من المواد النيتروجينية، و مع ذلك فإن قدرة التربة القديمة على الاحتفاظ بهذه المواد كانت ضعيفة. فكيف كانت النباتات الأولى تحصل إذن على حاجاتها من النيتروجين؟(2/122)
هنالك شواهد تدل على أن الصخور النارية التي لم تتأثر بعوامل التفتت تحتوي على قدرة من النتروجين النشادري. و من الممكن أن تكون النباتات الأولى قد استفادت من هذا المصدر. و لكن هنالك مصادر أخرى غير ذلك، هنالك البرق مثلاً، وقد يظن كثير من الناس ان البرق ليس اكثر من وسيلة من وسائل التدمير، ولكن التفريغ الكهربائي الناتج عن البرق يؤدي إلى تكوين أكاسيد النيتروجين التي يهبط بها المطر أو الثلج إلى التربة ويستفيد منها النبات. وتقدر كمية النيتروجين التي تحصل عليها التربة بهذه الطريقة في صورة نيترات بما يقرب من خمسة أرطال للفدان الواحد سنوياً، وهو ما يعادل ثلاثين رطلاً من نترات الصوديوم، وهذه كمية تكفي لبدء نمو النباتات.
و يلاحظ أن كمية النيتروجين الذي يثبته البرق تكون في المناطق الاستوائية أكثر منها في المناطق الرطبة، و هذه بدورها تزيد على الكمية التي تتكون في المناطق الصحراوية. و من ذلك نرى أن النتروجين يوزع على المناطق الجغرافية المختلفة بصورة متفاوتة تبعاً لمدى احتياج كل منطقة منها لهذا العنصر الهام. فمن الذي دبر كل ذلك؟ إنه المدبر الأعظم.
وعندما نتحدث عن المدبر الأعظم، هل من الممكن أن نستدل بما بين النباتات و التربة من علاقات متشابكة و توافق عجيب متشابكة و توافق عجيب على وجود تدبير و غرض واضح في الطبيعة؟ إننا لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال دون أن نتدبر مقتضياته بالنسبة لدائرة العلوم كلها.(2/123)
إن العلماء قد لا يستطيعون أن يتفقوا على تعريف واحد للطريقة العلمية، و لكنهم متفقون جميعاً على أن العلوم تستهدف كشف قوانين الطبيعة. و لابد للمشتغل بالعلوم أن يسلم أولاً بوجود هذه القوانين حتى لا يكون متناقضاً مع نفسه. و قد أصبح من المحال أن ينكر أحد وجود هذه القوانين بعد اكتشف الإنسان الكثير منها في ضمن ميادين البحث و من الطبيعي أن يتساءل الإنسان بعد كل ذلك: لماذا وجدت هذه القوانين؟ و لماذا قامت بين الأشياء المختلفة، ومن بينها التربة و النبات، تلك العلاقات العديدة التي تتسم بذلك التوافق الرائع بين القوانين مما يؤدي إلى تحقيق النفع و الفائدة؟
إننا نعترف بأننا – وقد وصلنا إلى هذا الحد من التفكير - قد اقتربنا من الحد الفاصل بين العلوم و الفلسفة. فكيف نفسر كل ذلك النظام و الإبداع الذي يسود هذا الكون؟ هنالك حلان: فاما أن يكون هذا النظام قد حدث بمحض المصادفة، و هو مالا يتفق مع المنطق أو الخبرة، و مالا يتفق في الوقت نفسه مع قوانين الديناميكا الحرارية التي يأخذ بها الحديثون من رجال العلوم. و إما أن يكون هذا النظام قد وضع بعد تفكير و تدبر، و هو الرأي الذي يقبله العقل و المنطق. و هكذا نرى أن العلاقة بين النبات و التربة تشير إلى حكمة الخالق و تدل على بديع تدبيره.(2/124)
و أنا واثق أن الأخذ بهذا الرأي سوف يثير انتقاد المعارضين لهذا الاتجاه ممن لا يؤمنون بوجود الحكمة أو الغرض وراء ظواهر الطبيعة و قوانينها، و معظم هولاء ممن يأخذون بالتفسيرات الميكانيكية و يظنون أن النظريات التي يصلون إليها في تفسير ظواهر الكون تمثل الحقيقة بعينها و لكن هنالك من المسوغات ما يدعوا إلى الاعتقاد أن ما وصلنا إليه من التفسيرات و النظريات العلمية ليس إلا تفسيرات مؤقتة، وليست لها صفة الإطلاق أو الثبات، فإذا ما سلمنا بهذا الرأي تضاءل خطر المعارضين في غرضية الكون أو وجود غاية منه، فمما لاشك فيه أن هنالك حكمة و تصميماً وراء كل شيء سواء في السماء التي فوقنا أو الأرض التي من تحتنا. إن إنكار وجود المصمم و المبدع الأعظم يشبه في تجافيه مع العقل و المنطق ما يحدث عندما يبصر الإنسان حقلاً يموج بنباتات القمح الصفراء الجميلة ثم ينكر في نفس الوقت وجود الفلاح الذي زرع و الذي يسكن في البيت الذي يقوم بجوار الحقل.
التربة والنبات
كتبه: لسترجون زمرمان
أخصائي التربة وفسيولوجيا النبات
حاصل على دكتوراه من جامعة بوردو – أخصائي المحافظة على التربة بالولايات المتحدة – استاذ الزراعة والرياضيات بكلية غوشن – عضو الجمعية العلمية لدراسة التربة بأمريكا.
إننا جميعا نتحول إلى فلاسفة في بعض الأحيان.
فقد نسير بجوار حقل من القمح ونشاهد الحدائق وسيارات النقل تفيض بما تحمله من الخضر المتنوعة، ونرى الفاكهة الناضجة والأعناب اليانعة ونعجب بجمال الخريف في الغابات وألوانه التي تشبه السنة اللهب، ثم لا نلبث ان نسأل أنفسنا: (من أين جاء كل هذا؟).
لقد كان عيسى خبيرا وحكيما فيما رمى اليه، فلقد ذكر في لغة سهلة واضحة احدى حقائق الطبيعة وعجائبها، وهي ان حبة القمح لابد ان تتعرض للموت قبل ان تبزغ منها الحياة.(2/125)
ولكن لابد ان يكون هنالك ماء حتى تقوم الحياة، ولابد ان يكون هنالك مصدر للمواد الغذائية التي يحتاج اليها النبات. والعناصر والمركبات الكيماوية هي المواد الخام الميتة التي تمتصها النبات فتحولها داخل أجسامها إلى مواد غذائية. وكذلك لابد ان يكون هنالك ضوء أو طاقة لكي تمتد النبات بالقوة اللازمة للنمو.
فالحياة تحتاج إلى الماء لكي تعيش، وكام قال بارسون: ان الماء هو دم الحياة أو اكسيرها الذي يجري في الارض. فمعظم العمليات الكيماوية اللازمة للحياة والنمو تحتاج إلى الماء أو تؤدي إلى تكوين الماء. والماء يذيب كثيرا من المواد فيهيئ بذلك السبيل لحدوث التفاعلات الكيماوية الضرورية داخل النبات، وهو متوافر في معظم الأماكن، ودورته التي تمتد به الارض وما عليها من الكائنات دورة مستمرة أبد الدهر لا تنتهي ولا تنقطع.
وتتكون جميع المواد من عناصر كيماوية. ومصدر العناصر الأساسية لنمو النبات هو التربة والهواء. فمن أين جاءت التربة؟ وكيف تحتفظ بما تحتاج اليه النباتات من المواد الغذائية؟(2/126)
ان التربة الخصيبة تتكون من مواد معدنية، ولكن بها فوق ذلك بعض المواد العضوية التي ترجع في أصلها إلى أجسام الحيوانات والنباتات الأخرى وتتعرض هذه المادة العضوية لعمليات التحلل، ومع ذلك ففي أثناء هذه العمليات تنبثق حياة كثير من النباتات والحيوانات. وبفضل هذه العناصر مجتمعة مع الهواء والماء تستمر العمليات الحيوية داخل اجسام الكائنات الحية. وتعتبر التربة التي لا تحتوي الا على المواد الصخرية والمعدنية المتحللة تربة مجدبة لا يمكن ان تكون مهدا لنمو النباتات. اما التربة المنتجة الخصيبة فهي تربة حية يعيش بها عدد لا يحصى من الكائنات الدقيقة من حيوان ونبات. وقد تصل نسبة الكائنات الحية التي تعيش بهذه التربة الخصيبة إلى ما يقرب من 20 % من المادة العضوية التي بها. وقد يصل عدد هذه الكائنات الحية إلى بضعة بلايين في الغرام الواحد من التربة. وعلى ذلك فان التربة تتكون من تأثير العوامل الجوية على الجزيء الصلب من سطح الأرض بالاضافة إلى ما يعيش فيها من الكائنات الحية ومنتجاتها على طول الزمان.
ولكن كيف ومتى بدأت هذه العمليات؟ فلا يكفي ان يكون هنالك ضوء ومواد كيماوية وماء وهواء لكي ينمو النبات. ان هنالك قوة داخل البذرة تنبثق في الظروف المناسبة فتؤدي إلى قيام كثير من التفاعلات المتشابكة المعقدة والتي تعمل معا في توافق عجيب. والبذرة التي بدأت من اتحاد خليتين مجهريتين تتألف كل منهما من عدد كبير من العناصر والعمليات، تكون فردا جديدا يشق طريقه في الحياة ويكون مشابها للنبات الذي انتجه، بحيث لا تنتح حبة القمح الا قمحا، ولا بذرة البلوط الا شجرة البلوط. ورغم ما بين أ،واع النبات من تشابه تجد لكل صفاته وخواصه المميزة، والحق انهه النظام الرائع، والجمال الذي ليس له مثيل ولا حدود، والتوافق الغريب، كل هذا هو مجمل ما يراه الانسان أينما اتجه في عالم النبات العجيب.(2/127)
وهنالك أيضا الفرصة السانحة للتغيير والتبديل، فحبة الذرة المنغلة التي نحصل عليها اليوم قد نتجت عن أسلاف لها سابقة تختلف عنها في كثير من صفاتها اختلافا كبيرا. وقد صار من الممكن اختيار البذور وتربية النباتات بطرق معينة لكي نحصل منها على نباتات قصيرة أو طويلة تختلف في أشكالها وألوانها وما تدره من محصول، بل أمكن التحكم في الفترة التي يقضيها النبات في التربة لكي يكون اكثر تمشيا مع طول الفصل الذي يلائمه، كما تصول الانسان إلى انتاج انواع جديدة تقاوم الامراض وتمتاز بوفرة محصولها وسائر صفاتها الاخرى حتى تفي بحاجاتنا وأغراضنا المختلفة.
وبينما تختلف النباتات الراقية اختلافات فردية بعضها عن بعض، نجد لها بعض الصفات العامة التي تشترك فيها جميعا، فكلها مثلا تقوم بعملية التمثيل الضوئي الذي ينتج فيه النبات المواد الغذائية من ثاني اوكسيد الكربون والماء في وجود الضوء، وهنالك التشابه في تركيب البذور والسيقان والأوراق والأزهار وما يؤديه كل من منها من الوظائف المتماثلة في النباتات المختلفة. وهنالك الاستجابة الموحدة للمؤثرات الخارجية، فكلها تلتحي نحو الضوء وتموت عندما تحرم من الضوء أو الأوكسجين، إلى غير ذلك من الصفات العديدة التي تشترك فيها جميع النباتات.
فمن الذي قدر وأوجد تلك القوانين العديدة التي تتحكم في وراثة الصفات وفي نمو النبات؟ وسوف يقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر وأشد تعقيدا واكبر عمقا، وهو من اين جاءت النباتات الأولى؟ أو بعبارة اخرى كيف خلق النبات الأول؟ ونحن لا نستطيع ان نصل بعقلنا الطبيعي ومنطقنا السليم إلى ان هذه الاشياء قد أنشأت نفسها بنفسها أو نشأت هكذا بمحض المصادفة، ولابد لنا من البحث عن خالق مبدع، ويعتبر التسليم بوجود الخالق أمرا بديهيا تفرضه عقولنا علينا.(2/128)
والان لنعد إلى سؤالنا الاصلي: من الذي خلق النباتات الأولى؟ وللإجابة عن هذه السؤال دعني أسجل هنا ما جاء في كتاب كتب منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف من السنين وتناول حوادث وقعت منذ أربعة آلاف سنة على الأقل. ذلك هو سفر أيوب، حيث جاء في الفصل الثامن والثلاثين منه ما يأتي:
(اين كنت حين أسست الأرض.. ترنمت كواكب الصبح معا وهتف جميع بني ألله.. ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. اذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه، وجزمت عليه حدي وأقمت له مغاليق ومصاريع، وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعدى وهنا تتخم كبرياء لججك.. في اي طريق يتوزع النور وتتفرق الشرقية على الأرض: من فرع للهطل وطريقا للصواعق ليمطر على أرض حيث لا انسان. على قفر لا احد فيه. ليروي البلقع والخلاء وينبت مخرج العشب.. هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ربط الجبار. أتخرج المنازل في أوقاتها وتهدي النعش مع بناته. هل عرفت سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض.. من يهيئ للغراب صيده اذ تنعب فراخه إلى الله)(1).
ان الاجابة التي يقدمها ذلك السفر عن كل هذه الأسئلة التي تدور حول نشأة الكون وصيانته، وهي نفس الاجابة التي أقدمها انا ايضا. لقد نشأ كل شيء بقدرته سبحانه وتعالى. وهو الذي قدر لكل شيء طريقه ثم هدى.
وكلما ازددت دراسة وتعمقا في دراسة طبيعة التربة والنباتات، ازداد ايماني بالله وسجدت له إعجاباً وتقديساً.
__________
(1) - ويقول القرآن في معنى مشابه: (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) سورة النمل، آية: 64.(2/129)
الإنسان ذاته هو الدليل
كتبه : روبرت هورتون كاميرون
أخصائي في الرياضيات
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كورنل – باحث في جامعة برنستون، وفي معهد برنستون للدراسات العليا – عضو بهيئة تدريس المعهد الصناعي في ماساشوستس – استاذ في الرياضة بجامعة منيسوتا لمدة 20 سنة – حائز على جائزة الرابطة الرياضية في أمريكا - متخصص في التحليل الرياضي والقياس.(/)
ان السؤال الذي يوجهه إلى ناشر هذا الكتاب، يعد في ذاته دليلا على وجود الله: (هل هنالك إله؟) سؤال ينطوي على الفكر أو التفكير؟ وأنا لا أستطيع ان أفكر في هذه القدرة دون ان أسلم بموجد لها.
فأنا لست جهازا آليا، وتفكيري يذهب إلى أبعد ما يمكن ان يذهب اليه عقل من العقول الآلية، فالعقل الآلي الحديث وظيفته تطبيق قاعدة معينة أو ايجاد علاقة معينة تبعا لأصول محددة مرسومة، اما عملية التفكير فتختلف عن ذلك اختلافا بينا، فهي تستطيع ان تتقيد بالقواعد، كما تستطيع ان تتغافلها، ان التفكير يتضمن استخدام المنطق والقدرة على الحكم، كما يتضمن تذوق الجمال والاستمتاع بالموسيقى والمرح وتقدير الفكاهات والطرائف.
ان المنطق يستطيع ان يقرر صحة أحد البراهين أو خطأها. ولكن الفكر هو الذي يبدأ المناقشة في أمر هذه البراهين ويوجهها، وهو الذي يستطيع ان يخترع النظريات الرياضية الجديدة ويقيم الدليل على صحتها، والفكر يتضمن القدرة على تحليل النفس ونقدها ومن الممكن تصميم آلة تلعب الشطرنج، ولكن هذه الآلة لن تستطيع ان تسعد بما تحققه من النجاح، أو تشمت في خسارة اللاعب الآخر أو تحزن على ما وقعت فيه من الأخطاء.
فالفكر يتضمن اكثر مما تستطيع الآلة والقواعد الآلية ان تحققه. وانني أعتبر ان تفسير السلوك الانساني تفسيرا آليا لا يستند إلى أساس لانني أستطيع ان أفكر.(2/130)
وأنا أعتقد أيضاً بوجود الله بسبب ما زودني به من الانفعالات، ولكن هل اضعفت حجتي بهذا القول؟ هل اعترفت بان ايماني لا يقوم على المنطق وأنني أؤمن لانني اخشى الا أكون مؤمنا؟ كلا فطبيعتنا الانفعالية دليل على حكمة الله وتدبيره، والا فكيف تكون حياة الانسان بغير هذه الانفعالات؟ وكم يمكن ان يعمر الانسان على سطح الارض بغير الدافع الجنسي وما يتصل به من الانفعالات؟ ولماذا تنخفض نسبة وفيات الأطفال عندما يزداد حب آبائهم لهم؟
انني اعتقد بوجود الله لانه وهبني التمييز الأخلاقي، فالجنس البشري لديه احساس فطري بما هو خطأ وما هو صواب. وكما يقول لويس في كتابه (قضية المسيحية): (قد تختلف أفكارنا ومع ذلك فأننا جميعا ندافع عن حقوقنا وننشد العدل).
ان اعتقادي في الله يقوم أيضا على حرية الإرادة وذكائها – الإرادة الإنسانية التي وصفت بانها العملية الشعورية الكاملة التي تقود الإنسان إلى اتخاذ قرار معين – الإرادة التي هي احد الأقسام الكبرى التي يقسم علماء النفس قوى العقل اليها، (القوتان الأخريان هما الإدراك والشعور)، فانا عندما أرغب أو أريد شيئا معينا يتخذ عقلي قرارا به، وارادتي هي التي تنفذه.
ويختلف الانسان في جميع هذه الصفات والمزايا عن سائر الكائنات الأرضية الأخرى، فهو خليفة الخالق على الأرض، ولعل هذا هو عين ما يعنيه القديس بول بقوله: (ان للإنسان نشأة مقدسة).(2/131)
ويتفق ما وصلت اليه العلوم حول وجود الله مع ما جاء في الكتب السماوية من ان الانسان يحصل على العلم بطريقين: البصر والبصيرة. اما البصر فهو ما نتعلمه في حياتنا، وما نكتسبه عن طريق حواسنا من الخبرة بأمور الحياة، وأما البصيرة فهي ذلك النور الذي يفرغه الله في قلوبنا فيكشف لنا به ما لم نعلم(1). وكذلك الحال فيما يتصل بالايمان بوجود الله، اذ لابد ان يقوم أولا على البصر وملاحظة ظواهر كتلك التي أشرنا اليها سابقا، ثم نلتجئ بعد ذلك إلى الله لكي يكمل ايماننا ويدعمه.
ان رجال العلوم يعتمدون على التجربة، وأنا مقتنع بوجود الله اعتقاداً يستند إلى أدلة تجريبية، ولكنها تجارب شخصية صرف، ومع ذلك فهي أقوى لدي من كل دليل، وأشد إقناعا لي من أي برهان رياضي. لقد لمست هذا الدليل في نفسي منذ اثنتين وثلاثين سنة عندما كنت بحجرتي في القسم الداخلي بجامعة كورنل يوم جاءني البرهان وأغدق الله على قلبي نور الإيمان. لقد أصبح الله لدي أكبر من كل ما سواه حتى انني أرضى ان افقد كل شيء في هذا الوجود، ولا أرتد إلى حالتي السابقة.
لقد كان هو سبحانه صاحب الفضل في هذا البرهان، فهو الذي أنزله على قلبي وجعلني اعتقد في وجوده.
__________
(1) - (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا أولو الألباب) سورة البقرة، آية: 269.(2/132)
التوافق بين العلوم
كتبه: واين أولت
مختص في الكيمياء الجيولوجية
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا – زميل بحوث بالمعمل الكيماوي الجيولوجي بنيويورك – عضو الجمعية الجيولوجية الأمريكية.(/)
لا يستطيع كثير من الناس ان يعتقدوا بوجود الله دون ان يؤثر ذلك في مجرى حياتهم، فالاعتقاد في وجود الله يؤثر في علاقتهم بزملائهم ويغير من نظرتهم نحو الحياة، ومن أفكارهم عن الأغراض والدوافع التي وراء هذا العالم المادي.
وقيام العقيدة بوجود الله على أساس علمي يقتضي ان يكون الإنسان قد وصل إلى فكرة وجود الله على أساس الطريقة العلمية التي تعتمد على الملاحظة وفرض الفروض واختبارها حتى يصل الانسان إلى النتيجة التي يطمئن اليها. ولكنه لا يقوم على هذه الطريقة قياما مباشرا، لان الله كما نعرفه ليس مادة أو طاقة، كما انه ليس محدودا حتى نستطيع ان نخضعه لحكم التجربة والعقل المحدود. بل على نقيض ذلك نجد التصديق بوجود الله يقوم على أساس الإيمان، ولو أنه ايمان يستمد تأييدا علميا من الدلائل غير المباشرة التي تشير إلى وجود (سبب أول)، والى (دافع مستمر منذ القدم).(2/133)
وليس الايمان بالشيء الغريب عن الانسان في اي ميدان من ميادين المعرفة البشرية. ولابد من ممارسة الايمان وبخاصة بالنسبة للمشتغلين بالعلوم الطبيعية، فالحياة لا تتسع، والظروف لا تسمح لكي يقوم الانسان بنفسه باجراء كل تجربة لنفسه. ان الإنسان يقوم عادة بإجراء عدد محدود من التجارب البسيطة التي تكفي لكي تهيئ له قدرا مناسبا من الفهم والاحاطة بالظواهر الأساسية على ان يسلم تسليما بما قام به رجال العلوم الذين سبقوه من أعمال وما وصلوا اليه من نتائج، ومعنى ذلك انا نكتسب معلوماتنا من التاريخ المكتوب للتجارب السابقة، فمن ذلك مثلا ان عدد من قاموا بتحديد سرعة الضوء يعد قليلا جدا، ومع ذلك فان كل الناس يسلمون بسرعته المعروفة، ولا يساورهم شك في أمرها، وبمثل ذلك يسلم العلماء بصحة بعض الفروض المقبولة والتي ليس هنالك سبيل إلى إدراكها إدراكا حسيا، فليس هنالك من يستطيع ان يدعي انه رأى البروتون أو الإلكترون، ولكن الناس يلمسون آثارها. وكذلك الحال فيما يتصل بتركيب الذرة، وبالصورة التي رسمها لها بور Bohr ، وهي صورة مبسطة تعيننا على ادراك سلوك الذرى وخواصها، وكذلك الحال فيما يتعلق بتركيب الأجرام السماوية البعيدة وما يفصلها من مسافات شاسعة مما لا نستطيع ان نخضعه لتجاربنا، أو نقيم الأدلة المباشرة على صحة نظرياتنا و فروضنا حوله. فمن الواضح اذن ان كثيرا من المعلومات التي يحتاج اليها الانسان في حياته ويسلم بصحتها، لابد ان يتقبلها ويؤمن بها إيمانا يقوم على التسليم بصحتها، وليس معنى ذلك انه ايمان اعمى، فهو ايمان يسمح بأن يوضع على محك الاختبار في شتى مواضعه فيزداد بذلك قوة وتدعيما.(2/134)
ويستطيع الانسان ان يمارس مثل هذا الايمان فيما يتصل بفكرة وجود الله، فقد أنزل الله على بعض رسله في العصور السابقة كتبا مسجلة تنطق بالبينات وتؤكد فكرة وجود تعالى، وتوضح علاقة الانسان به. وتصف هذه الكتب حالات الانسان وحاجاته، وتوضح له الطريق الذي يمكن ان يسلكه لكي يطهر نفسه ويزكيها. وقد جاءت هذه الكتب في ظروف معروفة من الزمان والمكان بحيث يمكن التحقق منها تحققا تاريخياً وجغرافياً.
وهذه الكتب فريدة في نوعها في كثير من الوجوه، وهي تسمح للانسان بتدبيرها وتمحصيها حتى يثق بصحة ما جاءت به في كثير من المواطن(1). وقد تحقق كثير من نبوءتها بكل دقة بعد قرون عديدة، ولم يثبت خطؤها في اي أمر تاريخي أو جغرافي. حقيقة ان هنالك بعض المواطن التي لم يحط بها علمنا بعد، جعلت تلك الكتب تتعرض لبعض النقد الهدام، ولكنه نقد يتناسب مع عظم رسالتها وخطورتها. ولو أننا حللنا ذلك النقد، لا تضح لنا ان معظمه يرجع إلى نقص في معلوماتنا أو عجزنا عن الإحاطة ببعض الأمور والأسرار الكونية.
وكما ان الايمان بمعناه الواسع، يعتبر امرا ضروريا وجزءا طبيعيا بالنسبة لوجود الإنسان، فان الايمان بالله يعد كذلك لازما لاكتمال وجود الانسان وتمام فلسفته في الحياة، وبرغم ان بعض ميادين الخبرة الانسانية غير مادي، فانها ميادين حقيقية لا شك في امرها، ويترتب عليها نتائج هامة في حياة الانسان، وقد لمس مئات الآلاف من الرجال الأذكياء ذوي الشخصيات السليمة المتزنة نتائج الاتصال بالله والاخلاص في عبادته، لمسوا هذه النتائج في أنفسهم. وكان ايمانهم بالله سببا في قضاء حاجاتهم النفسية والانفعالية والروحية بطرق لا تستطيع ان تحيط بكنهها عقولهم، بل عقول البشر جميعا.
__________
(1) - ومن أروع ما جاء في القرآن في هذه الصدد قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) سورة النساء، آية: 80.(2/135)
ويسلم كثير من الناس تسليما منطقيا بوجود الغاية أو الحكمة من وراء الظواهر الطبيعية. ولا شكل ان اعتقا وجود اله خالق لكل الاشياء يعطينا تفسيرا بسيطا سليما واضحا عن النشأة والابداع والغرض أو الحكمة، ويساعدنا على تفسير جميع ما يحدث من الظواهر، اما النظريات التي ترمي إلى تفسير الكون تفسيرا آليا فانها تعجز عن تفسير كيف بدأ الكون، ثم ترجع ما حدث من الظواهر التالية للنشأة الاولى إلى محض المصادفة، فالمصادفة هنا فكرة يستعاض بها عن فكرة وجود الله بقصد إكمال الصورة والبعد بها عن التشويه. ولكن حتى بغض النظر عن الاعتبارات الدينية عامة، نجد ان فكرة وجود الله أقرب إلى العقل والمنطق من فكرة المصادفة ولا شك، بل ان ذلك النظام البديع الذي يسود هذا الكون يدل دلالة حتمية على وجود اله منظم وليس على وجود مصادفة عمياء تخبط خبط عشواء.(2/136)
ولقد رفض كثير من المشتغلين بالعلوم فكرة ما وراء الطبيعة أو ما فوقها، ومع ذلك فان كثيرا ممن رفضوا هذه الفكرة يتحدثون في الوقت ذاته عن الظواهر الطبيعية التي لا يعلمون عن كنهها شيئا. ون مجرد تسمية هذه الظواهر طبيعية يدل على انها ظواهر متكررة، ولكن ذلك لا يعتبر شرحا لهذه الظواهر، وعلى ذلك فان تسليم الانسان في وقت من الأوقات بحدوث بعض الظواهر سواء اكانت طبيعية ام من وراء الطبيعية يعتبر نوعا من التسليم أو الايمان بها. وقد نستطيع في ضوء خبرتنا العلمية ان نتقدم بالسؤال التالي: هل تم اختراع جهاز الرادار نتيجة للمصادفة ام عن طريق التصميم والاختراع؟ ثم هل تم تكوين جهاز الرادار الموجود بجسم الوطواط والذي لا يحتاج من الحيوان إلى انتباه ولا يتطلب منه اصلاحا، والذي يستطيع ان يورثه لذريته عبر الأجيال – نقول هذا تم كل ذلك – عن طريق المصادفة ام عن طريق التصميم والابداع؟ ان الخبرة العلمية للانسان تقوم على التصميم وعلى ادراك الأسباب، وعلى ذلك فان المشتغل بالعلوم هو أول من يجب عليه التسليم منطقيا بوجود عقل مبدع لا حدود لعلمه أو قدرته – موجود في كل مكان، يحيط مخلوقاته برعايته، سواء في ذلك الكون المتسع أو كل ذرة أو جزيئة من جزيئات هذا الكون اللانهائية في تفاصيلها الدقيقة.(2/137)
هنالك ظواهر اخرى عديدة غير التي أشرنا اليها، مما لا يمكن تفسيره أو ادراك معناه الا اذا سلمنا بوجود الله، ومن ذلك مثلا هذا الفراغ اللانهائي، وما يسبح فيه من النجوم والكواكب التي لا يحصيها عد ولا حصر، ومن ذلك قابلية المادة للانقسام إلى جزيئات اساسية بالغة الصغر مهما كانت طبيعتها، ومن ذلك التشابه الذي نشاهده بين جميع الكائنات الحية التي نعرفها، مع اتصاف كل فرد، بل كل بنان، بل كل ورقة من أوراق الأشجار، وقطرة من قطرات الماء، بصفات خاصة تميزها عن غيرها. وهنالك ايضا تلك الهوة العميقة التي تفضل بين الانسان وسائر الكائنات الأرضية الاخرى، وتجعله ممتازا عليها بعقله ومهارته اليدوية.
لقد ذكرنا ان اعتقاد وجود الله لابد ان يقوم على الايمان، وبينا ان هذا الايمان ليس غريبا على الانسان، وان هنالك انواعا مختلفة من الايمان، ونود ان نؤكد هنا ان الايمان الذي نقصده هو الايمان البصير وليس الأعمى، اي الايمان الذي يقوم على العقل والتدبر. وقد آمن كثير من الناس بالله، فذاقوا حلاوة الايمان في أنفسهم وفي قلوبهم، بل في العالم المادي الذي تهتم العلوم بدراسته.
ان التطلع نحو المعرفة والتساؤل عن كيفية حدوث الاشياء ومسبباتها، يعتبران من الصفات الهامة التي تتصف بها العقول البشرية الموهوبة، فاذا آمن المشتغل بخالق هذا الكون فان دراسته العلمية مهما كان اتجاهها سوف تزيده ايمانا بالله.(2/138)
الله والعلاج الطبي
كتبه: بول ارنست ادولف
طبيب و جراح
حاصل على درجة الماجستير والدكتوراه في الطب من جامعة بنسلفانيا – عضو الإرسالية الطبية الصين – أستاذ مساعد التشريح بجامعة سانت جولس – عضو جمعية الجراحين الأمريكية – مؤلف عدة كتب في رسالة الطب.(/)
للاجابة عن السؤال الذي هو موضوع هذا الكتاب أحب ان اقول انني أؤمن بالله ايمانا راسخا لا ريب فيه، وليس ايماني به نتيجة خبرة روحية فحسب، ولكن اشتغالي بالطب قد دعم ذلك الايمان.
لقد درست – عندما كنت أتعلم الطب – احد المبادئ المادية الأساسية التي تفسر ما يحدث من تغيرات داخل أنسجة عندما يصيبها عطب أو تلف، تفسيرا مادياً صرفاً، كما فحصت قطاعات مجهرية لهذه الأنسجة، وتبينت ان الظروف المناسبة تعينها على ان تلتئم بسرعة وتتقدم نحو الشفاء. وعندما اشتغلت جراحا في احد المستشفيات بعد ذلك، كنت استخدم المبدأ السابق استخداما يتسم بالثقة فيه والاطمئنان اليه، ولم يكن علي الا ان أهيئ الظروف المادية والطبية المناسبة، ثم أدع الجرح يلتئم وكلي ثقة بالنتيجة المرتقبة. ولكنني لم ألبث غير قليل حتى اكتشف انني قد فاتني ان أضمن علاجي وأفكاري الطبية اهم العناصر وأبعدها أثرا في اتمام الشفاء الا وهو الاستعانة بالله.
وعندما كنت أعمل جراحا في احد المستشفيات، جاءتني ذات يوم جدة مريضة جاوزت السبعين تشكو من شدخ في عظام ردفها، وبعد ان وضعت فترة تحت العلاج أدركت من فحص سلسلة الصور التي أخذت لها على فترات تحت الاشعة انها تتقدم بسرعة نحو الشفاء. ولم تمض ايام قليلة حتى تقدمت اليها مهنئا بما تم لها من شفاء نادر عجيب. عندئذ استطاعت السيدة ان تتحرك فوق المقعد ذي العجلات، ثم سارت وحدها متوكئة على عصاها، وقررنا ان تخرج تلك السيدة في مدى اربع وعشرين ساعة وتذهب إلى بيتها، فلم يعد بها حاجة إلى البقاء في المستشفى.
وكان صباح اليوم التالي هو الأحد، وقد عادتها ابنتها في زيارة الاحد المعتادة حيث اخبرتها انها تستطيع ان تأخذ والدتها في الصباح إلى المنزل لأنها تستطيع الان ان تسير متوكئة على عصاها.(2/139)
ولم تذكر لي ابنتها شيئا مما جال في خاطرها، ولكنها انتحت بأمها جانبا وأخبرتها انها قد قررت بالاتفاق مع زوجها ان يأخذا الام إلى احد ملاجئ العجزة لأنهما لا يستطيعان ان يأخذاها إلى المنزل. ولم تكد تنقضي بضع ساعات على ذلك حتى استدعيت على عجل لاسعاف السيدة العجوز. ويا لهول ما رأيت. لقد كانت المرأة تحتضر، ولم تمض ساعات قليلة حتى أسلمت الروح. انها لم تمت من كسر من عظام ردفها، ولكنها ماتت من انكسار في قلبها. لقد حاولت دون جدوى ان اقدم لها اقصى مايمكن من وسائل الاسعاف، وضاعت كل الجهود سدى. لقد شفيت من مرضها بسهولة ولكن قلبها الكسير لم يمكن شفاؤه برغم ما كانت قد تناولته في أثناء العلاج من الفيتامينات والعقاقير المقوية، وما تهيأ لها من أسباب الراحة، ومن الاحتياجات التي كانت تتخذ لتعينها على المرض وتعجل لها الشفاء. لقد التأمت عظامها المكسورة التئاما تاما، ومع ذلك فانها ماتت. لماذا؟ ان اهم عامل في شفائها لم يكن الفيتامينات ولا العقاقير ولا التئام العظام، ولكنه كان الأمل. وعندما ضاع الأمل تعذر الشفاء.
وأثرت هذه الحادثة في نفسي تأثيرا عميقا، وقلت في نفسي: لو ان هذه السيدة وضعت أملها في الله ما ضيعها وما انهارت ولما حدث لها ما حدث. وبرغم انني كنت أؤمن بالله خالق كل شيء بحكم اشتغالي بالعلوم الطبية، فانني كنت أفضل بين معلوماتي الطبية والمادية وبين اعتقادي في وجود الله كما لو لم تكن هنالك صلة بين هذين الأمرين.
ولكن هل يوجد ما يدعو إلى هذا الانفصال بين هاتين الناحيتين؟ ها هي ذي السيدة العجوز التي تم لها الشفاء وسلامة الجسد فقدت روحها ونظرة التفاؤل إلى الحياة. لقد عقدت كل آمالها حول ابنتها الوحيدة، وعندما خلت بها ابنتها انهارت آمالها فواجهت الموت بدلا من أن تواجه الحياة. ولقد صدق عيسى عند ما قال: (كيف ينتفع الانسان بهذه الدنيا اذا ملكها كلها وفقد روحه).(2/140)
لقد أيقنت ان العلاج الحقيقي لابد ان يشمل الروح والجسم معا، وفي وقت واحد، وأدركت ان من واجبي ان اطبق معلوماتي الطبية والجراحية إلى جانب ايماني بالله وعلمي به، ولقد أقمت كلتا الناحيتين على أساس قويم. بهذه الطريقة وحدها استطعت ان اقدم لمرضاي العلاج الكامل الذي يحتاجون اليه. ولقد وجدت بعد تدبر عميق ان معلوماتي الطبية وعقيدتي في الله هم الأساس الذي ينبغي ان تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة.
والواقع ان النتيجة التي وصلت اليها تتفق كل الاتفاق مع النظرية الطبية الحديثة عن أهمية العنصر السيكولوجي في العلاج الحديث، فقد دلت الاحصائيات الدقيقة على ان 80% من المرضى بشتى انواع الأمراض في جميع المدن الأمريكية الكبرى ترجع أمراضهم إلى حد كبير إلى مسببات نفسيه، ونصف هذه النسبة من الاشخاص الذين ليس لديهم مرض عضوي في أية صورة من الصور. وليس معنى ذلك ان هذه الامراض مجرد أوهام خيالية، فهي أمراض حقيقية، وليست أسبابها خالية ولكنها موجودة فعلا ويمكن الوصول اليها عندما يستخدم الطبيب المعالج بصيرته بها.
فما هي الاسباب الرئيسية لما نسميه الأمراض العصبية؟ ان من الأسباب الرئيسية لهذه الأمراض الشعور بالأثم أو الخطيئة، والحقد والخوف والقلق والكبت والتردد والشك والغيرة والأثرة والسأم. ومما يؤسف له ان كثيرا من يشتغلون بالعلاج النفسي قد ينجحون في تقصي أسباب الاضطراب النفسي الذي يسبب المرض، ولكنهم يفشلون في معالجة هذه الاضطرابات لانهم لا يلجأون إلى بث الايمان بالله في نفوس هؤلاء المرضى.(2/141)
ونحت فوق ذلك ان نتساءل عن هذه الاضطرابات الانفعالية والعوامل التي تسبب تلك الأمراض، انها هي ذاتها الاضطرابات التي جاءت الاديان لكي تعمل على تحريرنا منها. فلقد أدرك الله بقدرته وحكمته حاجاتنا النفسية ودبر لها العلاج الكامل. ولقد وصف الاخصائيون النفسيون القفل الذي يغلق باب الصحة، وأمدنا الله بالمفتاح الذي يفتح هذا الباب. ولا يمكن ان يقودنا التخبط الأعمى إلى فتح هذا القفل المقعد، بل انه لا يستطيع ان يمدنا بالمفتاح الذي يفتح باب الروح الانسانية، فالله وحده هو الذي يستطيع ان يهدينا طريق الصواب، ويقول الشاعر كوبر في هذا العنى:
الجحود الأعمى يوقعنا في الأخطاء
ويجعلنا نبصر آياته ولكننا نكفر بها
أستعن بالله على فهم الأمور
وسوف يوضح لك كل غامض عليك
فماذا يخبرنا الله – المستعان على فهم الأمور – عن هذه المفاتيح؟ ان ذلك يتلخص في أننا نركب الإثم والذنوب ونحتاج إلى عفو الله ومغفرته، حتى نعود إلى رحابه ونعفو عن غيرنا. ان المذنبين الذين ينالهم هذه الصفح تتجلى في نفوسهم روح الله فيذهب عنهم الخوف والقلق، ولا يكون هنالك سبيل إلى اصابتهم بالكبت والغيرة والأثرة. فعندما تحل محبته في القلوب، تفارقنا الشرور والآثام، ولا ينتابها السأم وتفيض بالآمال الحية التي تنبعث منها الحياة.
لقد وجدت في اثناء ممارستي للطب ان تسلحي بالنواحي الروحية إلى جانب المامي بالمادة العلمية يمكناني من معالجة جميع الامراض علاجا يتسم بالبركة الحقيقية، اما اذا أبعد الإنسان ربه عن هذه المحيط، فان محاولاته لا تكون الا نصف العلاج، بل قد لا تبلغ هذا القدر.(2/142)
فمعظم القرح المعدية لا ترجع إلى ما يأكله الناس كما يقال، وانما إلى ما تأكل قلوبهم، ولابد لعلاج المريض بها من علاج قلبه وأحقاده اولا، وليكن لنا أسوة بالأنبياء الذين كانوا يصلون من أجل أعدائهم ويدعون لهم بالخير. فاذا تطهرت قلوبنا وصرنا مخلصين، فاننا نشق طريقنا نحو الشفاء، وبخاصة اذا كان العلاج الروحي مصحوبا بتناول المواد ضد الحامضية وغيرها من العقاقير التي تساعد على الشفاء من هذه القرح.
وهنالك كثير من الحالات النفسية التي يلعب الخوف والقلق دورا هاماً فيها، فاذا عولج الخوف والقلق على أساس تدعيم ايمان الانسان بالله، فان الصحة والشفاء يعودان إلى الانسان بصورة كأنها السحر في كثير من الحالات.
ولا يتسع المقام لذكر كثير من الحالات التي تم فيها الشفاء فورا بسبب الالتجاء إلى الله والثقة به، وقد وصفت كثيرا من هذه الحالات في احد الكتب التي ألفتها وهو: (الصحة تتدفق)، وبينت في هذا الكتاب كيف كان الايمان بالله جزءا هاماً من العلاج النفسي والطبي، وكيف أدى إلى نتائج تدعو إلى العجب.
ان الجسم الانساني يصبح على أفضل ما يمكن عندما يكون على وفاق مع صانعه وخالقه، وبدون ذلك يصيبنا الاضطراب والمرض.
نعم هنالك اله. ولقد عرفته في مواطن كثيرة، وهو الذي يشفي العظام المكسورة والقلوب المحطمة(1).
__________
(1) - (أمن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله قليلا ما تذكرون) سورة النمل، آية: 62.(2/143)
الزهر وطيور بالتيمور
كتبه: سيسل هامان
عالم بيولوجي
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بوردو- أستاذ في جامعة كنتاكي وجامعة سانت لويز سابقا – أستاذ في كلية آسبوري – اخصائي في تقسيم الطفيليات الحيوانية.
.(/)
أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم، رأيت الادلة على التصميم والابداع، على القانون والنظام، على وجود الخالق الأعلى
سر في طريق مشمس وتأمل بدائع تركيب الأزهار، واستمع إلى تغريد الطيور، وانظر إلى عجائب الاعشاش، فهل كان محض مصادفة ان تنتج الازهار ذلك الرحيق الحلو الذي يجتذب الحشرات فتلقح الازهار وتؤدي إلى زيادة المحصول في العام التالي؟ وهل هو محض مصادفة ان تهبط حبوب اللقاح الرقيقة على مبسم الزهرة فتنبت وتسير في القلم حتى تصل إلى المبيض فيتم التلقيح وتتكون البذور؟ فليس من المنطق ان نعتقد بان يد الله التي لا نراها هي التي رتبت ونظمت هذه الاشياء تبعا لقوانين ما زلنا في بداية الطريق نحو معرفتها والكشف عنها؟ وهل من الممكن ان يغرد الطير، لا لأن له أليفا فحسب، بل لان الله يجب تغريده ويعلم اننا نطرب بتغريده.
وكما ان هنالك ما لا يحصى من أغاريد الثناء التي تشدوها الطيور كل يوم، والتي لا تصل إلى آذاننا القاصرة الفانية، فان هنالك ما لا يحصى من نعم الله و أفضاله يسبغها على عباده، وهي تنتظر من الانسان ان يفتح عينيه لكي يراها.
وماذا عن عش طائر بالتيمور؟ من الذي علم هذا الطير ذلك الفن الرفيع؟ ولماذا تتشابه جميع الاعشاش التي تبنيها الطيور من هذا النوع؟ اذا قلت الغريزة، فان ذلك قد يعد مخرجا من السؤال ولكنه اجابة قاصرة. فما هي الغرائز؟ يقول البعض: انها السلوك الذي لا يتعلمه الحيوان. اليس من المنطق ان نرى قدرة الله تتجلى في هذه الكائنات التي خلقها فسواها تبعا لقوانين خاصة لا نكاد ندري عن كنهها شيئا؟
نعم انني اعتقد بوجود الله؟ وأعتقد انه هو القدير الذي خلق الكون وحفظه، وليس ذلك فحسب، بل هو الذي يرعى درة خلقة وهو الانسان.
ولا يرجع هذا الاعتقاد الراسخ الذي يمتلئ به قلبي إلى تأثير الثقافة الامريكية الدينية عليّ فحسب، ولكنه يرجع ايضا إلى مشاهداتي العلمية لعجائب الكون، كما يرجع إلى شعوري به وإحساسي بوجوده داخل نفسي.(2/144)
وحيثما قلب الانسان وجهه وجد أسئلة لا يجد لها جوابا، وهو عند محاولته العثور على الجواب يفترض فروضا عديدة، ثم لا يلبث ان يهجر معظمها أو يعدله تعديلا شاملاً قبل ان يصل إلى الاجابة عن سؤاله. وما أكثر ما وصل اليه الانسان من اجابات عن أسئلة، وما أكثر ما سوف يصل اليه من هذه الاجابات كلما انقضت من سنة من السنين، ولكن زيادة المعرفة لم تصل بالانسان – بكل أسف – إلى زيادة معرفته بالله، بل على نقيض ذلك يظهر انه كلما أحس الانسان انه أحاط بسر من أسرار هذا الكون اضعف ذلك من شعوره بالحاجة إلى فكرة وجود الله، وكان الأجدر بالبشر ان يدركوا ان هذه المستكشفات ليست الا أدلة ناطقة على وجود إله مدبر أعلى وراء هذا الكون.
عندما نذهب إلى المعمل ونفحص قطرة من ماء المستنقع تحت المجهر لكي نشاهد سكانها، فاننا نرى احدى عجائب هذا الكون: فتلك الأميبا تتحرك في بطء وتتجه نحو كائن صغير فتحوطه بجسمها، فاذا به داخلها، واذا به يتم هضمه وتمثيله داخل جسمها الرقيق، بل اننا نستطيع ان نرى فضلاته تخرج من جسم الأميبا قبل ان نرفع اعيننا من المهجر، فاذا ما لاحظنا هذا الحيوان فترة اطول، فاننا نشاهد كيف ينشطر جسمه شطرين، ثم ينمو كل من هذين الشطرين ليكون حيوانا جديدا كاملا. تلك خلية واحدة تقوم بجميع وظائف الحياة التي تحتاج الكائنات الكبيرة الاخرى في أدائها إلى آلاف الخلايا أو ملايينها. لاشك ان صناعة هذا الحيوان العجيب الذي بلغ من الصغر حد النهاية تحتاج إلى أكثر من المصادفة.(2/145)
ولقد كشفت قوانين الكيمياء الحيوية من أسرار الحياة وظواهرها ما لم تكشفه القوانين في أي ميدان آخر من ميادين الدراسات العلمية. لقد كان الناس ينظرون إلى خفايا عمليات الهضم والامتصاص، ويستدلون بها على وجود التدبير المقدس. أما في الوقت الحاضر فقد أمكن شرح هذه العمليات ومعرفة التفاعلات الكيماوية التي تنطوي عليها والخميرة التي تقوم بكل تفاعل. ولكن هل يدل ذلك على انه لم يعد لله مكان في كونه؟ فمن اذن الذي دبر لهذه التفاعلات ان تسير؟ وان تسيطر عليها الأنزيمات تلك السيطرة الدقيقة المحكمة؟ ان نظرة واحدة إلى احدى الخرائط التي تبين التفاعلات الدائرية العديدة وما يدور بين كل منها والآخر من تفاعلات اخرى، كفيلة بان تقنع الانسان بان مثل هذه العلاقات لا يمكن ان تتم بمحض المصادفة، ولعل هذا الميدان يهيئ للانسان من العلم ما لا يهيئه اي ميدان آخر بان الله يسير هذا الكون تبعا لسنن رسمها ودبرها عندما خلق الحياة.
فاذا رفعنا أعيننا نحو السماء، فلا بد ان يستولي علينا العجب من كثرة ما نشاهده فيها من النجوم والكواكب السابحة فيها، والتي تتبع نظاما دقيقا لا تحيد عنه قيد أنملة مهما مرت بها الليالي وتعاقبت عليها الفصول والأعوام والقرون. انها تدور في أفلاكها بنظام يمكننا من التنبؤ بما يحدث من الكسوف والخسوف قبل وقوعه بقرون عديدة. فهل يظن احد بعد ذلك ان هذه الكواكب والنجوم قد لا تكون اكثر من تجمعات عشوائية من المادة تتخبط على غير هدى في الفضاء؟ واذا لم يكن لها نظام ثابت ولم تكن تتبع قوانين معينة فهل كان من الممكن ان يثق الانسان بها ويهتدي بهديها في خضم البحار السبعة، وفي متاهات الطرق الجوية التي تتبعها الطائرات؟ قد لا يسلم بعض الناس بوجود الله سبحانه وبقدرته، ومع ذلك فانهم يسلمون بان هذه الأجرام السماوية تخضع لقوانين خاصة وتتبع نظاما معينا، وأنها ليست حرة تتخبط في السماء كيف تشاء.(2/146)
الحق انه من قطرة الماء التي رأينا تحت المجهر إلى تلك النجوم التي شاهدناها خلال المنظار المكبر، لا يسع الانسان الا ان يمجد ذلك النظام الرائع وتلك الدقة البالغة والقوانين التي تعبر عن تماثل السلوك وتجانسه. ولولا ثقة الانسان في ان هنالك قوانين يمكن كشفها وتحديدها، لما أضاع الناس أعمارهم بحثا عنها. فبدون هذا الاعتقاد وتلك الثقة في نظام الكون يصير البحث عبثا ليس وراءه طائل. ولو انه كلما أجريت تجربة أعطيت نتيجة مخالفة لسابقتها بسبب توقفها على المصادفة أو عدم وجود قوانين مسيطرة، فاي تقدم كان من الممكن ان يحققه الانسان؟ لابد ان يكون وراء كل ذلك النظام خالق أعلى، فليس مما يقبله العقل ان يكون هنالك نظام أو قوانين دون ان يكون وراءها عقل أعلى ومنظم مبدع. وكلما وصل الانسان إلى قانون جديد فان هذا القانون ينادي قائلا: (ان الله هو خالق وليس الانسان الا مستكشفاً).
ان وجود الله في حياتي اليومية حقيقة لا مراء فيها، حقيقة أقوى من الحقائق العلمية التي لا يتسرب اليها الشك، ومع ذلك فاننا بينما نستطيع ان نصف النجوم ونخطط مداراتها في السماء، أو نثبت الأميبا على شريحة من الزجاج ثم نصورها، نجد اننا لا نستطيع ان نحصل على مثل هذا الدليل المادي حول وجود الله. فالانسان لا يستطيع ان يدركه أو يعرفه حتى يتجه اليه اتجاها شخصيا، وتكون له خبرة به. فاذا رفض شخص ان ينظر خلال المجهر أو يتطلع إلى صورة الأميبا فانه يستطيع ان يجادل حول عدم وجودها فيطيل الجدال، ولكنه ما ان يراها أو يرى صورتها حتى تنهار حجته، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الله: قد يستطيع الانسان ان يجادل طويلا في الله، وما ان يلمحه الجاحد حتى تنهار حجته، ويسلم بوجوده تسليما. ولكن لا بد ان تكون الخبرة شخصية، فاذا رفض الانسان ان يرفع رأسه ويبحث عنه فان جداله قد يطول دون طائل، فالله لا يشرق الا في قلوب الباحثين عنه.نعم، انني أؤمن بالله رب هذا الكون وربي، كما أنني أراه في نفسي وفي كل ما هو حولي.(2/147)
وجود الله حقيقة مطلقة
كتبه: أندرو كونواي ايغي
عالم فسيولوجي
من العلماء الطبيعيين ذوي الشهرة العالمية – من سنة 1925 إلى سنة 1946م رئيس قسم الدراسات الفسيولوجية والصيدلية بجامعة نورث وسترن – ومن سنة 1946 إلى سنة 1953م أستاذ في كلية الطب ووكيل الكلية في جامعة ألينوي – وفي الوقت الحاضر أستاذ الفسيولوجيا ورئيس قسم العلوم الإكلينيكية بكلية الطب بجامعة شيكاغو.(2/148)
هل هناك إله؟ نعم أنني أؤمن بوجوده كما أؤمن بوجود شيء ألمسه، وكما أؤمن بوجود نفسي.
ان الاعتقاد بوجود الله هو الوسيلة الفكرية الكاملة الوحيدة التي تجعل لهذا الوجود معنى، وهذا الاعتقاد هو الذي يجعل لوجود الانسان معنى اكثر من انه مجرد كتلة من المادة أو الطاقة. والاعتقاد بوجود الله هو المنبع لأسمى فكرة انسانية حول المحبة، والقاعدة التي تقوم عليها الأخوة بين البشر بسبب اجتماعهم على محبة الله وطاعته، وهو مصدر احساسنا بالحقوق والواجبات، لاننا لا نتساوى الا في نظر الحب والعدالة والرحمة المطلقة. والاعتقاد بوجود الله هو الحصن الذي يعصمنا من الشرور، وهو بعد ذلك الاساس المتين الذي يقوم عليه الايمان، وتدوم بسببه القيم الروحية التي يعتبر وجودها رهينا بوجوده تعالى.
المنطق يثبت وجود الله
من الممكن ان نستخدم المنطق لاثبات وجود الله، وذلك باستخدام أسس التفكير المشتقة من تفاعل خبرتنا الحسية المعتادة مع عقولنا، وأول من استخدم هذه الطريقة هو القديس توماس الأكويني. وتمثل المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا النوع من الاستدلال بمشاهدات الآباء الفعلية في أثناء تطور عقول أبنائهم العاديين كما سنبين فيما بعد. وقد آمن باستخدام هذه الطريقة ملايين من البشر الذين يفكرون تفكيرا واقعياً عميقاً، ومنهم من أدى للعلوم وللبشرية أجل الخدمات.
إنكار وجود الله لا يستند إلى دليل منطقي(/)
ان احدا لا يستطيع ان يثبت خطأ الفكرة التي تقول (ان الله موجود)، كما ان أحدا لا يستطيع ان يثبت صحة الفكرة التي تقول: (ان الله غير موجود). وقد ينكر منكر وجود الله، ولكنه لا يستطيع ان يؤيد انكاره بدليل. وأحيانا يشك الانسان في وجود شيء من الأشياء، ولابد في هذه الحالة ان يستند شكه إلى اساس فكري. ولكنني لم أقرأ ولم أسمع في حياتي دليلا عقليا واحداً على عدم وجوده تعالى. وقد قرأت وسمعت في الوقت ذاته أدله كثيرة على وجوده، كما لمست بنفسي بعض ما يتركه الايمان من حلاوة في نفوس المؤمنين، وما يخلفه الالحاد من مرارة في نفوس الملحدين.
والبرهان الذي يتطلبه الملحدون لاثبات وجود الله هو نفس البرهان الذي يطلب كما لو كان الله تعالى شبيها بالانسان أو شيئا ماديا، أو حتى تمثالا من التماثيل أو صنما من الأصنام. ولو كان لله مثل هذا الوجود المادي لما وجد هنالك مجال للشك في وجوده، ولكن الله أراد ضمن ما أراد ان يختبر عقولنا حول الايمان به، فترك لنا حرية الاختيار لكي يؤمن به من يؤمن وينكره من ينكر، فالانسان يستطيع اذا شاء – بخداع نفسه – ان ينكر وجود الله، وعليه ان يتحمل النتائج. ومعظم الملحدين والمارقين من الأديان ينظرون إلى الله كما لو كان بشرا يمكن التعالم مع تعامل الأنداد فيقولون مثلا: سوف أعتقد بوجود الله اذا شفاني من مرضي، أو اذا أنزل المطر، واذا قضى حاجتي، أو اذا أوقف الفيضان، أو اذا محا الشر والظلم من الكون.. الخ. وقد يقول بعضهم اذا كان هنالك اله عادل ما أصابني وجع في أسناني.. ومعنى ذلك بعبارة أخرى انني أؤمن بالله اذا بنى الكون أو عدله تبعا لخطتي الخاصة التي تقوم على الأنانية وتبعا لصالحي الشخصي.(2/149)
ولا مناص من الوصول إلى الله، ولكي يفكر الانسان فيه تفكيرا مستقيما لا عوج فيه ولا نفور، عليه ان يحرر عقله من الأنانية ومن الأحقاد ومن كل ما يعوق التفكير الصافي السليم حتى يتسنى له أن يصل إلى الله ويحبه، وبذلك يسهم في محاربة الشرور والظلم الذي يتحدث عنه من يشكون في أمره ووجوده تعالى، فلقد اقتضت حكمة الله ان يستخدم الانسان عقله وارادته وحريته في اتخاذ القرارات اللازمة لمحاربة هذه الشرور حتى يصير حكم الله في الأرض مثل حكمه في السماء.
لابد ان يقوم الإيمان
والأمل والمحبة على أساس العقل
ان اعتقادي بوجود الله الذي خلق كل شيء، والذي يوجد داخل الكون وخارجه، والذي يرعاني ويرعاك، يقوم أولا على استخدام العقل، ثم يقوم بعد ذلك على الايمان والأمل والمحبة، فأنا لا استطيع ان أمتلك الإيمان والأمل والمحبة الا اذا كانت كلها قائمة على أساس العقل. ولا يجوز للإنسان ان يتخلى عن عقله، بل لا بد من استخدامه استخداما دقيقا قويا. والايمان الذي لا يسبقه العقل يعتبر إيمانا ضعيفا هزيلا، ويكون عرضه للهجمات الفتاكة والهزيمة الساحقة. والايمان الديني الذي لا يقوم على العقل لا يؤدي إلى الأخلاق السيئة والسلوك الشائن، ولذلك ينبغي الا يتخلى الإنسان عن عقله أبدا، ولا عن المبادئ الفكرية التي تقوم عليها الأعمال والأفكار التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، والتي يقوم عليها جميع ما أحرزه علماؤنا من انتصارات في الميادين العلمية.(2/150)
والاعتقاد بوجود الله يوم على نفس المبادئ الفكرية التي يقوم عليها الإيمان بمستقبل التقدم المادي، وهي نفس الأسباب التي تجعلني وتجعلك تعتقد بأن الشمس سوف تشرق صباح الغد، أو أنني سأعيش غدا وأذهب إلى عملي وأستمتع به. فاذا كان التفكير هو وسيلة التقدم المادي، فلماذا لا يكون كذلك وسيلة للتقدم الروحي والأخلاقي؟ ولابد ان يكون لدى كل منا الشجاعة الأدبية التي تجعله قادرا على توضيح الأسباب التي تجعله يؤمن بدين من الأديان وان يثبت مدى ايمانه بصحة هذا الدين وإخلاصه له بما يؤديه من الأعمال الصالحة.
فاذا لم تكن قادرا على اثبات وجود الله بطريق ناجحة فقد تسلم بوجوده على أساس الايمان والقبول، أو تقول انه أمر واضح لا يحتاج إلى دليل، وتفعل كما فعل توماس جيفرسن عندما كتب وثيقة الاستقلال الأمريكي بالصورة التالية: (اننا نعتقد ان هذه الحقائق واضحة لا ريب فيها، فالناس متساوون وقد وهبهم خالقهم بعض الحقوق الثابتة، ومن هذه الحقوق حق الحياة والحرية وتحقيق السعادة. وانه لصيانة هذه الحقوق تقوم الحكومات وتستمد قوتها العادلة من الشعب الذي تحكمه).
ذلك هو الأساس العميق للايمان الديني والأخلاقي والسياسي الذي يقوم عليه دستور الولايات المتحدة وحكومتها. ولقد كانت الولايات المتحدة اولى الدول التي يقوم نظامها على مثل هذا الأساس، ولقد توافر لدى جيفرسن وغيره من حكام الولايات المتحدة من الأسباب الخفية ما دعاهم إلى الأخذ بهذا الاتجاه.(2/151)
ومع ذلك فانه حتى عندما يقول الناس انهم يعتقدون بوجود الله على اساس التسليم، فاننا نجد ان هذا التسليم لابد ان يكون قائما على أساس معلومات سابقة، أو خبرة سابقة، أو تفكير سابق. فالتسليم بأي شيء لا يمكن ان يقوم إلا على اساس من المعرفة والتفكير. فاذا قلنا: ان وجود الله أمر واضح أو بدهي، فان ذلك قد يعني اننا لا نستطيع ان نتناول الموضوع بطريقة علمية أو شكية بسبب نقص في تعليمنا، أو لاننا لم يسبق لنا تنظيم تفكيرنا حول الموضوع، أو بسبب عدم الاستعداد للمناقشة، أو غير ذلك من الأسباب الاخرى. انني لم أعثر في حياتي كلها على شخص واحد لا يستطيع عند مناقشة هذا الموضوع ان يبين لماذا يعتقد أو لماذا ينبغي ان يعتقد بوجود الله. وتشير معظم الاسباب إلى انه لابد ان يكون لهذا الكون من خالق، ولتلك القوانين التي يسير عليها الوجود من صائغ، وانه لا يمكن ان تكون هنالك آلة دون صانع.. تلك حقيقة أساسية يدركها كل انسان طبيعي سواء أكان كبيراً أو صغيراً.
نشأة المبادئ الاولى في عقل الطفل
عندما كان عمري ثلاث سنوات – كسائر الأطفال بين الثالثة والخامسة -، سألت أبي وأمي: من الذي صنعني؟ ومن الذي صنع الطيور؟ ومن الذي صنع بقرتنا؟ ومن الذي صنع الدنيا؟
لقد تفاعلت حقائق الحياة أو خبرتي الحسية مع عقلي حين تكوينه بحيث جعلتني أصل إلى انه لا يمكن ان تكون هنالك آلة دون صانع. ثم تحرك ذكائي وعقلي إلى ما وراء الحقائق المباشرة، إلى ما وراء ذاتي والطير والبقرة، ووصل إلى انه لا يمكن ان اكون (أنا) او يكون الطير، أو تكون البقرة، دون ان يكون هنالك سبب لوجودها أو صانع لها.
لقد توصل عقلي البسيط البريء غير المتحيز أو المختلط، غير المكبوت أو المضطرب إلى مبدأ يعتبر من أرسخ المبادئ الفلسفية والعلمية التي توصل اليها العقل البشري حول الوجود والفكر.(2/152)
لقد تفاعل عقلي مع خبرتي الحسية تفاعلا يكفي لانتاج قدر من التفكير يعين على الاحساس بالوجود، فانا أدرك ان هذا انا أو تلك ذاتي، كما أنني وصلت في نفس الوقت إلى مبدأ عدم الوجود، فانا لست طائرا او بقرة او الدنيا، وبعبارة اخرى توصل عقلي إلى مبدأ الوجود وعدمه ومبدأ الجزيء والكل اكبر من الجزء.
وما ان يتكون لدى الطفل هذا الاحساس بالوجود وعدمه حتى يكون قد ألم بالمبدأ الأول من مبادئ الفكر وهو: (اننا لا نستطيع ان نثبت وجود شيء وننكره في نفس الوقت). فالطفل الصغير يقول أنا توم وهذه أختي ماري. وق وصل الطفل إلى درجة من التفكير تمنعه من ان يخلط بين نفسه و بين أخته فيقول أنا ماري وأختي توم الا على سبيل الفكاهة.ثم يعرف الطفل بعد قليل انه من الخطأ أن نقول ان المربع مستدير، فهو يدرك ان المربع لديه من الاسباب ما يكفي لجعله مربعا، وهذه الأسباب تجعله مربعا وتجعل ذلك أمرا واضحا بالنسبة له.
هذه المعلومات من جانب الطفل وسؤاله من الذي صنعني؟ ومن الذي صنع الدنيا؟ يوضح لنا ان الطفل قد اكتشف مبدأ السببية او قانون السببية الذي ينص على أنه: (لا تأثير بغير مؤثر)، ومعناه انه لابد لكل آلة من صانع ولكل تغيير من محدث. ثم يسير التفكير في سلسلة من المسببات تبدأ بوجودي ووجود الدنيا وتنتهي إلى وجود الله بوصفه السبب الأول، او تبدأ من وجود الحركة وتنتهي إلى المحرك الأول. ويمكننا ان نعبر عن ذلك كله بطريقة اخرى وهي انه اذا كان هنالك تصميم فلابد ان يكون من ورائه مصمم، ولابد ان تكون لذلك المصمم الكوني صفات لا نهائية، ذلك الخالق البارع هو الله. ويبلغ قانون السببية درجة من الشدة تجعل الطفل ما بين الثالثة والخامسة يتحقق من انه لابد ان يكون هنالك اله.(2/153)
ولقد كرست حياتي بحكم اشتغالي بالعلوم للبحث عن الأسباب التي تقع وراء الحقائق الواضحة المعروفة. ان عقلي بحكم اهتمامه بالخبرات الحسية وما يترتب عليها يصر على ان ينظر إلى ما وراء الحقائق المباشرة عن الحياة التي تكشف حقائق جديدة لها قيمتها حول النواحي المادية والروحية للوجود. وقد دفعني هذا البحث إلى القراءة والدراسة في ميدان العلوم الطبيعية او (العالم كما هو قائم فعلا)، وفي ميدان الأخلاق والدين أو (العالم كما ينبغي ان يكون)، وقد وجدت ان كثيرا من الكتاب الممتازين، ومن أولئك الذين يسمون الفلاسفة، ومن غيرهم من صفوة المفكرين، اما أنهم وقعوا في أخطاء جسمية واضحة تثير الغبار، واما أنهم أقاموا أمام أنفسهم حاجزا يحول بينهم وبين النظر إلى ما وراء الحقائق مباشرة، واما أنهم تجاهلوا الحقائق المباشرة الواضحة، ورجل العلوم الذي يفعل ذلك يضع حائلا بين نفسه وبين التقدم، فبمعرفة الحقائق الواضحة، وبالنظر إلى ما وراءها في معمل القيم المادية والروحية والقانون والنظام، وبالبحث عن أسباب القوانين الطبيعية بحثا تحدوه الثقة والأمل، نقول بكل ذلك يتحقق التقدم.
مبدأ السببية
منذ سنوات عديدة كنت أجلس إلى مائدة الطعام مع جماعة من رجال الأعمال وكان معنا أحد مشهوري رجال العلوم. وفي أثناء الحديث الذي دار بيننا قال أحد رجال الأعمال: (سمعت ان معظم المشتغلين بالعلوم ملحدون. فهل هذا صحيح)؟(2/154)
ثم نظر رجل الأعمال إلى فأجبته قائلا: (انني لا أعتقد ان هذا القول صحيح. بل انني – على نقيض ذلك – وجدت في قراءاتي ومناقشاتي ان معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم أو أساءوا فهمهم)، ثم استطردت قائلا: ( ان الالحاد، أو الإلحاد المادي، يتعارض مع الطريقة التي يتبعها رجل العلوم في تفكيره وعمله وحياته. فهو يتبع المبدأ الذي يقول بانه لا يمكن ان توجد آلة دون صانع. وهو يستخدم العقل على أساس الحقائق المعروفة، ويدخل إلى معمله يحدوه الأمل ويمتلئ قلبه بالإيمان، ومعظم رجال العلوم يقومون بأعمالهم حبا في المعرفة وفي الناس وفي الله. حقيقة ان رجل العلوم يستخدم فكرة الآلية بوصفها احدى وسائله أو أدواته. فهو يتكلم مثلا عن آلية الجسم، ولكنه يجري بحوثه على أساس مبدأ السببية، مبدأ السبب والنتيجة، على أساس وحدة الكون وما يسوده من القانون والنظام. وهو كأي انسان آخر يتخذ كل قرار ويفكر في كل أمر على أساس الإيمان بمبدأ السببية).
(ففي علم وظائف الأعضاء، عندما يدرس الانسان النمو والتكوين والصيانة واصلاح الجسم، يجد ان كل خلية من خلايا الجسم – دون استثناء – (تعرف) الدور الذي تلعبه في سبيل تحقيق سلامة الجسم كله. ففي الجهاز العصبي تتسم الأفعال العكسية البسيطة بالغرضية كصفة من صفاتها الأساسية. فاذا ما أنعمنا النظر والدراسة فاننا واصلون حتما إلى الاستعدادات الموروثة في تكوين العقل قد ركبت بحي انه عندما يتأثر هذا العقل بالخبرات الحسية تأثرا كافيا يصل حتما إلى مبدأ السببية. وبعبارة اخرى فان الجهاز المسؤول عن التصرفات الغرضية في سائر الكائنات يزداد تخصصه زيادة مستمرة حتى يصير قادرا على المعرفة التمييزية او الشعور. ويتم ذلك نتيجة لتفاعل الخبرات الحسية مع العقل)؟(2/155)
(وبازدياد قدرة الانسان على التمييز الادراكي تنشأ لديه حاسة ترتيب الأشياء تبعا لأسبقيتها السببية، او يصير قادرا على رد الأشياء إلى أسبابها الأولى، فاذا بدأنا بالطبيعة الغرضية التي تظهر في الخلايا المفردة وتتبعنا ما يطرأ عليها من التطور حتى تصير مدركة للبيئة التي تحيط بها، فاننا نستطيع ان نتوقع ظهور القدرة على الحكم واستخدام قانون السببية الذي وصل الانسان باستخدامه إلى مزيد من السيطرة على البيئة)؟
(ففي علم وظائف الاعضاء تدل خياشيم الأسماك على أسبقية الماء، كما تدل اجنحة الطيور ورئات الانسان على أسبقية الهواء، وتدل أعين الانسان على أسبقية الضوء، كما يدل حب الاستطلاع العلمي على أسبقية الوقائع، وكما تدل الحياة على أسبقية القانون الطبيعي اللازم لنشأتها. وانني أتساءل الان: أفلا يدل التدبر العميق والتفكير الصافي والشجاعة العظمى والواجب الأعظم والإيمان الكبير والحب العميق – أقول أفلا يدل كل أولئك على شيء سابق؟ من الحماقة ان نظن ان أعمق الأفكار والعواطف والأعمال التي نشاهدها في الانسان لا تدل على شيء سابق. انها تدل على أسبقية وجود عقل علوي. انها تدل على وجود خالق يتجلى في خبرة أولئك الذين لا يضعون الحواجز في طريق عقولهم عند البحث عن العقل الأسمى او الخالق الأعلى).
(ان أحداً لا يستطيع ان يثبت خطأ قانون السببية، فبدونه تنعدم جميع الاشياء الحية. والعقل البشري لا يستطيع ان يعمل الا على اساس السببية. انني أسلم ان لقانون السببية وجودا حقيقيا).(2/156)
(وقد سمعت بعض رجال العلوم يقولون: ان السببية تنتهي حيث تبدأ الميتافيزيقا او مبادئ التفكير. ولكنني لا أوافق على ان يستخدم الانسان هذا القانون في المواطن التي تعجبه، ثم يرفض استخدامه عندما يخشى النتائج التي يوصله اليها. واضافة حلقة ميتافيزيقية جديدة آلي سلسلة السببية لا تعتبر تعارضا مع المنطق، فنحن نفعل ذلك دائما في ميدان العلوم وفي شؤون حياتنا اليومية. والبحث عن حقيقة هذه الحلقة أمر آخر، ولكن الانسان لا يستطيع ان يكشف مدى تمثيل هذه الحلقة للحقيقة الواقعة فعلا الا اذا طرقها واختبرها، فالاختبار هو الوسيلة الوحيدة لكشف الحقيقة حولها).
(ويظهر ان الملحدين او المنكرين بما لديهم من الشك لديهم بقعة عمياء او بقعة مخدرة داخل عقولهم تمنعهم من تصور ان كل هذه العوالم سواء منها ما كان ميتا او حياً ا حيا تصير لا معنى لها بدون الاعتقاد بوجود الله، وكما قال أينشتين: (ان الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى ليس تعيسا فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة). وأحب ان أضيف إلى ذلك ان السبب الأوحد الذي يمنعه من ان يكون غير مؤهل تأهيلا تاماً للحياة، هو الأمل – القائم على العقل والايمان – في انه قد يرتد إلى عقله فيدرك الصواب او يرتد طفلا فيستطيع ان يفكر في أمور الحياة كما يفكر الأطفال).
ثم التفت إلى زميلي العلامة الذي أعجبت كما أعجب كل شخص آخر بتفكيره وقدرته على النقد وسألته: (هل ما قتله صحيح؟) فقال: (نعم ولكن السؤال المهم هو أي نوع من الاله؟).
وقد وافقت على أن اهم سؤال يواجهه الشخص المفكر في هذا الموضوع اول ما يواجه هو: هل هنالك إله؟ وان السؤال الثاني هو: ما نوع هذا الإله؟ والسؤال الثالث هو: ما الغرض من الحياة؟ والسؤال الرابع هو: ما الصواب وما الخطأ؟(2/157)
ثم قلت: (ان الاعتقاد بان الله مجرد خالق ومبدع لا يتفق مع الفكرة الدينية عنه. ولكي أكون واضحا وموجزا، فانني احب ان استمر في التشبيه الذي بدأته عن الآلة وصانعها. وقبل ان افعل ذلك أحب ان أشير آلي ان الدين يذهب آلي ابعد مما يستطيع ان يصل اليه العقل حول هذا الأمر، ولكنه لا يتعارض معه، فعندما يقوم صانع مفكر بعمل آلة، يكون لديه تصميم لها وغاية من ورائها، وهو في أثناء صناعتها يبث فيها روحه ونفسه، وبعد أن يتمها يرتبط بها عاطفيا لانه يكون مهتما بصيانتها او بالطريقة التي تعمل بها. وانا لا أستطيع ان أتصور خالقا مدركا لا يصدق عليه هذا القول. والخالق سبحانه كما تدل عليه أعماله يمكن الوصول آلي انه بالغ العقل والحكمة. انني اعتقد بوجود إله اذا أدخله الناس آلي قلوبهم وحفظوه في عقولهم هداهم آلي مكارم الاخلاق، والى السلوك السوي، والقصد النبيل، وأغدق عليهم محبته ومحبة الناس).
وعندئذ كان الساعة قد بلغت الثانية من بعد الظهر وانتهى وقت الغذاء وانتهت معه المحادثة.
ولا يتسع هذا الكتاب ولا الوقت لمناقشة الموضوع الذي بدأناه مناقشة كاملة، ومع ذلك فانني أحب ان أوضح بعض النقاط الاخرى اتماما لإجابتي عن سؤال: (هل يوجد إله)؟
صفات الله
لقد درست صفات الله دراسة مطولة على أساس التحليل المنطقي الذي قام به الفلاسفة. وأمكن باستخدام المنطق الوصول آلي ان لله صفات معينة، وفيما يلي مجموعة غير كاملة منها:
الله أبدي – خالد – لطيف (ليس ماديا) – ليس حادثا – قدوس – طيب – يعلم الشر ولكنه ليس شريرا ولا يريد الشر – لا يكر الأشياء – حق – عليم – محب – مريد – منزه عن الشهوات والنزوات – أصل الفضائل جميعا.(2/158)
وتتفق هذه الصفات آلي حد كبير مع الصفات التي وردت عن الله في الانجيل(1)، وبخاصة في العهد الحديث. ولكن معظم صفات الله التي وردت في الانجيل، جاءت على أنها بديهيات ولم تقدم على أساس منطقي.
السببية الأخلاقية مضافة آلي حرية الاختيار
هنالك كثير من الأسباب التي تدعو آلي الاعتقاد بوجود الله، ومن الأسباب التي لا يجوز اغفالها في هذا المقام ما اسميه بالسببية الأخلاقية مضافة آلي حرية الاختيار، وأعني بحرية الاختيار هنا حرية اتخاذ القرارات.
ان النواحي الروحانية والأخلاقية من حياة الانسان وما ينبغي ان يفعله لها أهمية بالغة بالنسبة لسلامة الانسان ورفاهيته، وهي أهمية تفوق أهمية معرفته وسيطرته على الطبيعة غير الانسانية. فاحاطتنا بالعلوم الطبيعية تزيد من فهمنا للعالم الذي نعيش فيه، ومن وسائلنا في تحسين الانتاج وتوزيع الضروريات ووسائل الاستمتاع بالحياة، وتقلل من الآلام وتطيل الحياة، ومع ذلك فان المشكلة العظمى في العالم في الوقت الحاضر تعد مشكلة أخلاقية ودينية، فهي تدور حول معرفة كيف نستخدم الطاقة الذرية لتحقيق صالح البشر ورفاهيتهم، لا لكي تنزل بهم الدمار. ولعل أعظم ما صادف الناس والمجتمعات من مشكلات في الحياة كانت من النوع الخلقي، وكانت تدور حول معرفة كيف تتخذ القرارات الصائبة.
__________
(1) - الصفات التي وردت عن الله تعالى او أسماء الحسنى – في القرآن – تسع وتسعون صفة أو اسماً، هي: الله الذي لا اله الا هو، الحي القيوم، السلام، المؤمن.. الخ.(2/159)
اينما وجهنا انظارنا حولنا وجدنا الطبيعة الجامدة تحكمها قوانين ثابتة. وكذلك الحال بالنسبة للحيوانات في معيشتها البرية. ولكن الانسان خلق على غرار كائن علوي آخر، اذ ان له حرية الاختيار، او بعبارة اخرى فان المجتمع الانساني قد خلق كما لو كان مجموعة من الأرواح او الأشخاص الذين لديهم الحرية في ان يقرروا ما يشاءون، وان يأكلوا او لا يأكلوا من (شجرة المعرفة). فاذا لم نطق القانون الأخلاقي الذي وضعه الله، فعلينا ان نتحمل النتائج. ومن الواضح انه لو كان للطبيعة المادية حرية الاختيار لفقد الانسان ذاته حرية الاختيار ولأصبح كل شيء فوضى.
وتدل دراسة سلوك الحيوان على ان القانونين الأساسيين اللذين يتحكمان في سلوك سائر الكائنات الحية التي هي دون الانسان هما:
1- بقاء النفس.
2- بقاء النوع.(2/160)
ونستطيع بقليل من التفكير ان نتبين انه بدون هذين القانونين لا يكون هنالك سبيل لاستمرار حياة الأنواع الحيوانية المختلفة فترة طويلة. والسلوك العكسي غير المكتسب هو الذي يتحكم على ما يظهر تحكما كليا في سلوك الحيوانات الدنيا. وكلما ارتقى الحيوان في المملكة الحيوانية كان أكثر اعتمادا على السلوك المكتسب الذي يتعلمه. ولكن هنالك شكا فيما اذا كان لدى الحيوانات التي هي أقل رقيا من الانسان اي درجة من الحرية في اتخاذ القرارات، وهي الحرية التي نعرفها لدى الانسان. فاذا كان الأمر كذلك فان حرية هذه الحيوانات محدودة، ومعنى ذلك ان طبيعة الحيوان هي التي تجعله يحافظ على جسمه فلا يتلفه او يعرضه لاذى الا في سبيل الدفاع عن نفسه او نوعه. ويلاحظ انه في العلاقات التي تقوم بين الأنواع المختلفة من الحيوانات او بين افراد النوع الواحد يكون قانون الغابة الذي يرى ان (القوة هي الحق) هو السائد. وهذا القانون هو الذي يحكم الحيوانات ابتداء من القرود فما دونها. أما الكائنات التي تعيش معيشة اجتماعية فتخضع لنوع من الحكم المستبد. والخلاصة هي ان هنالك قوانين للسلوك تتبعها الحيوانات التي هي دون الانسان ولا تجد عنها محيدا. ويدل تاريخ الانسان على ان سلوكه يخضع للقانون الطبيعي الذي تخضع له الحيوانات ولكنه يتأثر فوق ذلك بعوامل أخرى اضافية، فمن ذلك اولا شعوره بالرهبة من المجهول، ومن ذلك ثانيا شعوره بالإثم او بالواجب (الضمير)، ومن ذلك ثالثا الحكم بان القوة التي تسبب الرهبة تستنكر الأعمال او القرارات التي يتسبب عنها الشعور بالإثم.(2/161)
وعلى ذلك فانه يلاحظ ان سلسلة من الأسباب تبدأ من العالم المادي آلي الحيوانات الدنيا، ثم تنتهي آلي الحيوانات العليا التي يقع الانسان في قمتها. وقد أدى ذلك آلي ما نشاهده من امتياز الانسان بدرجة اكبر من حرية الأختيار، وهذه بدورها أدت آلي زيادة سيطرته على بيئته ونفسه. وقد ترتب على هذه الحرية شعور الانسان بالخطأ او الصواب، أو قدرته على التمييز بين الخطأ والصواب.
فماذا عسى أن يكون مصدر هذه السلسلة السببية؟ هل نشأت عن غير شيء؟ ام حدثت نتيجة للمصادفة ان الأخذ بهذا الرأي يعد أشد سخافة وأكثر حمقا من القول بان الانسان يستطيع ان يحصل على صورة رائعة للعالم عندما يسكب زجاجة من الماء على الأرض. وليس من العجيب ان نجد ان قانون السببية الذي يعد أساسيا في فهم ظواهر الكون المادي، والذي يتحكم في النباتات والحيوان، والذي يتكون العقل الانساني بمقتضاه، هو ذاته القانون الذي نستطيع ان نصل به آلي ادراك قيم القانون الأخلاقي الطبيعي القائم على المحبة والعدل والرحمة والحقوق والمسؤوليات والجمال. بل هو ذاته القانون الذي يوصلنا آلي ادراك وجود الله. وبعبارة اخرى فان هذا القانون يوصلنا آلي قيم ومعان سامية لا نستطيع ان نبين قيمتها الحقيقية او نحصيها عدا، ونعتقد ان الأمل في مستقبل الانسان يقع أولا على الدواف التي تقودنا آلي امتلاك هذه الفضائل في الحياة، وهي الفضائل التي لا نستطيع لهد عدا ولا وزنا.
فاذا توافرت لدى الانسان ضروريات الحياة، فان السعادة الحقيقية تاتي عن طريق الاشياء التي لا يتناولها العد او الوزن، وعن تلك المتع التي لا يحتاج الانسان أن يندم عليها.(2/162)
وقد أقنعني التفكير والتاريخ ان أهمية القيم الروحية والأخلاقية بالنسبة للانسان ترجع آلي عقيدته او عدم عقيدته في وجود شخصية مقدسة تمثل الكمال المقدس وتوجه سلوك الانسان. او عقولنا تكشف عن وحدة الكون ونظامه وعن مبدأ السببية، ولكن هذه الأشياء وحدها لا تكون الدين، او لا تكون دينا ثابتا الا عندما يسمح لها بأن تؤثر في حياتنا اليومية على أساس الحرية في اتخاذ القرارات وصدق العبودية لله والأخوة بين البشر.
فاذا كنا نريد ان تبقى الحياة على سطح الأرض محافظة على ما عرف عنها في الماضي من سمو، فاننا نحتاج آلي توجيه مقدس. فالأحزان والأمراض والكوارث التاريخية تثبت لنا ان الأخلاق والحق والعدالة والرحمة، قد تفقد معانيها وتؤدي آلي حياة ذليلة خسيسة ما لم تكن متصلة بايمان عملي او قائمة على أساس (1). ففي ظل النارية اللادينية والنزعات الالحادية، ضاعت المواهب التي حبا الله بها الانسان وتلطخت بالأوحال.
ان الانسان لا يستطيع ان يكون حرا او ان يعيش معيشة انسانية الا في عالم يقوم على الأخلاق وعلى تحمل المسؤوليات، فالناس متساوون وأحرار لا لشيء الا لأنهم عباد الله، اي لم تقم المساواة بينهم الا بوصفهم خلفاء الله على الأرض، فهي مساواة من وجهة نظر الله(2) والقانون الأخلاقي. فاذا أنكر وجود الله وأنكر القانون الأخلاقي فلا سبيل إلى انكار الاستعباد ولا آلي محاربة المبدأ الذي يرى أن القوة هي الحق، او إلى محاربة الجشع واستغلال البشر.
__________
(1) - (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء، آية: 107.
(2) - يصف القرآن الكريم هذه المساواة وصفا رائعا في عدة آيات، منها:
(يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند ا لله اتقاكم) سورة الحجرات، آية: 12. ويقول محمد عليه الصلاة والسلام: (لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى)، (الناس سواسية كأسنان المشط..) الخ.(2/163)
واذا لم يكن لدى الناس قيم داخلية، فأنى تكون لهم حرية اختيار مطلقة تنبعث عن النفس او واجب مطلق. ان ذلك يؤدي إلى فهم هذه القيم فهما سطحيا والى امكان استخدامها لتحقيق الأثرة والتوسع في الصالح الشخصي كاستخدام الآلة او الرقيق في أيدي ذوي السلطان.
ان الحقوق التي أعطاها الله للانسان لا يستطيع ان يستردها سواه، أما الحقوق التي يعطيها الإنسان لأخيه والانسان، او تعطيها له إحدى المؤسسات التي صنعها البشر فليس من العسير انكارها او استردادها. فاذا لم تكن حقوقنا الثابتة صادرة عن المصدر الأعظم، عن الخالق، فمن الجهل والحماقة ان نظن ان للبشر حقوقا لا يستطيع انسان او مؤسسة من المؤسسات التي صنعها الناس ان يتغافلها او ينكرها، وعلى ذلك فانه ليس للإنسان الحق في ان يدعي ان له قيمة داخلية او كرامة او حقوقا او واجبات مطلقة، أو مسؤوليات الا بوصفه مخلوقا من مخلوقات الله.
وأعوذ فأقول هل الأخوة بين الناس اتفاق مادي يقوم على أساس ان القوة وحدها هي التي تحدد سلوك الأفراد والجماعات، ام ان هذه الاخوة ترجع آلي اشتراكنا في عبودية الله؟ وأي المصدرين يهيئ لها بقاء أطول ودواما أدوم؟ وهل ترجع حريتنا آلي حرية الروح، حرية اتخاذ القرارات وحرية الفعل؟ ام انها مجرد اتفاق ماجي له صبغة اجتماعية؟ وكيف يمكن ان يستمتع الانسان بالحرية اذا كان ينظر اليه على انه عبد من عبيد الدولة؟(2/164)
عندما ينعدم الاعتقاد بوجود القيم الداخلية وفي كرامة الفرد، تظهر الكوارث الأخلاقية وتعم الوحشية وتجد لها مسوغات في فكرة الأجناس الراقية او الاجناس الممتازة في فكرة ان صالح الدولة هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وفي مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة). ولقد كان هذا هو الأسلوب الذي استخدم في نورنبرغ. والا فكيف اعتبر زعماء النازيين ودكتاتوريوهم ممن كانوا مسؤولين عن جميع التصرفات الوحشية، نقول: كيف اعتبروا مذنبين فوجهت اليهم الاتهامات وثبتت ادانتهم. ولم يكونوا في كل ما قاموا به من هذه الأعمال المزرية الا منفذين لأوامر سادتهم وقوانين النازيين ومبادئهم؟ انهم لا يمكن ان توجه اليهم الاتهامات ويدانوا الا في ظل القانون الالهي الأبدي الذي يطلق عليه الملحدون اسم (مبادئ الإنسانية).
ولو كانت القوانين الوضعية هي المصدر الوحيد لحقوق الانسان فعلى اي اساس نستطيع ان ندين النازيين على اضطهادهم الأجناس كالغجر والبولنديين وأعدائهم السياسيين؟ وعلى اي أساس نستطيع ان ندين ما لقيه الوطنيون المجريون المجاهدون من اضطهادات؟
لقد هدر النازيون حقوق غيرهم، ولم يعتبروا ان للبشر حقوقا وان للاضطهاد حدودا، فاذا كانت هنالك حقوق ثابتة للناس فمن الذي يثبت هذه الحقوق؟ واذا لم يكن الانسان قد خلق فكيف يستطيع ان يدعي انه هو الذي خلق العزة والكرامة والحقوق والواجبات وحرية الارادة والتحرر؟ سوف تجد نفسك دائما وقد أمسكت بسلسلة من المسببات توصلك في النهاية آلي الله، الا اذا أبعدته قاصدا عن تفكيرك وأخرجته من دائرة اعتبارك قبل أن تصل اليه.(2/165)
واننا لنجد في الحياة الأميركية المعاصرة كثيرا من الادلة على ان الديمقراطية الأمريكية قد وهنت وزلزلت أركانها بسبب سيرها في الاتجاه المادي وابتعادها عن الأساس الديني والروحي. وهنالك محاولات عديدة في العالم الغربي للعمل على صيانة حقوق الإنسان بعد نكران اصلها المقدس، ولكن هذه الحقوق التي هي رصيد روحي وثمرة من ثمار الدين في العهود الماضية، لا يمكن ان تبقى اذا اقتلعت جذورها واجتثت من فوق الأرض، او شوهت أعضاؤها وضاعت معالمها، او لم يعن احد بزراعتها او غرسها.
وللاعتقاد بوجود الله مزاياه الخالدة: وهنالك ثلاثة أسباب تحملنا على الاعتقاد بان الايمان بالله لا يضيع أبدا، فمن ذلك:
أولا: ان النظام التربوي الذي يناسب كل الناس في سائر الازمان يقوم على الايمان. اما النظام التربوي الذي يقوم على الفلسفة الطبيعية ويستهدف الصحة والمتعة، فانه لا يناسب ذوي الأمراض المزمنة التي لا تبرأ، ولا يناسب المشوهين او المرضى الذين فقدوا الأمل في الشفاء. والنظام التربوي الذي يقوم على الفلسفة البراغماتية لا يناسب غير القادرين عليه وغير المتهيئين له. والتربية التي تقوم على الفلسفة الانسانية لا تناسب من لديهم استعدادات ميكانيكية. اما التعليم الذي يقوم على الايمان وعلى الاعتبارات الدينية، فانه يناسب سائر البشر على اختلافهم في الكليات وفي الأسواق وفي البيوت والمستشفيات وفي الاحياء الفقيرة والسجون وفي المعارك. ان الايمان بالله يولد قوة تضمن لصاحبها الا يحيق به ضرر مطلق. ان الدين من الوجهة البيولوجية يمكن تعريفه بانه عبادة الانسان لقوة عليا نتيجة لشعوره بحاجة في قرارة نفسه آلي هذه القوة، وانه لمن العسير ان تكبت هذه الحاجة في معظم نفوس البشر.
ثانيا: ان الاعتقاد في وجود الله ضروري لإكمال معنى الحياة والكون. ولا شك ان العقلاء من الناس سوف يبحثون دائما عن هذا المعنى.(2/166)
ثالثا: بصرف النظر عن الهجمات المتكررة التي تشنها العقول الضالة المرتبكة او العقول المفكرة، فان الأطفال سوف يولدون في المستقبل ما شاء لهم ان يولدوا، وسوف يخضعون في تكوين عقولهم لنفس القوانين التي خضعت لها العقول عندما تكونت في الماضي ما دام هنالك تفاعل بين العقل والخبرة الحسية، وما دام الكون يخضع لنفس القوانين التي خضع لها في الماضي. وسوف يستمر العقل الناضج في استجابته لمبادئ القانون الطبيعي والتفكير السوي الا اذا حيل بينه وبين السير في هذا الطريق الطبيعي، بان وضعت العوائق في سبيله او أضل عن السبيل. وان عقول الغالبية العظمى من البشر قد سارت في طريقها غير منحرفة عن المبادئ الاساسية التي تقوم عليها القوانين التي تتحكم في الطبيعة وسائر وظائفها. لقد ذهبت هذه العقول المفكرة تبحث فيما وراء الوقائع المباشرة التي يدركها الحس لعلها تعرف (السبب) وتكشف عن (الحقيقة). وقد وصلت آلي الاعتقاد في وجود الله.(2/167)
من أجل ذلك يحق لنا ان نستبشر خيراً. (فأما الزّبَدُ فَيذْهبُ جفاءً وأما ما ينفعُ النّاسَ فيمْكُث في الأرض)(1) {الرعد: 17}. وما من بقاء الا للأشياء الملائمة التي ينتفع بها الناس جميعا تحت كل الظروف وفي سائر الأزمان. ولذلك فان الايمان الديني والفكرة الدينية وما لهما من أثر على الفرد والمجتمع، قد بقيا عاليين خفاقين على ممر الأجيال سواء في الأزمنة التي ازدهرت فيها المدنية، او في تلك التي أخنى عليها فيها الدهر. وفوق ذلك فان المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التفكير السليم وتستند اليها العقيدة الراسخة سوف تستمر عالية خفاقة كلما ولد طفل، فالطفل كما ذكرنا من قبل قد حباه الله الفطرة السليمة، والأخلاص، والأمل، والمحبة. ولعل ذلك هو الذي دعا عيسى عليه السلام آلي تمجيد الطفولة حيث يقول: (الأطفال هم الأمراء في مملكة الله). ويقول: (ان الذي لا ينال ملك الله كما يناله الطفل الصغير، لا يستطيع ان يناله بطريقة أخرى). ويقول: (انك لن تستطيع ان تلج مملكة السماء الا اذا تغيرت وصرت مثل الأطفال). ويقول: (ان الانسان لا يستطيع ان يرى مملكة الله الا اذا ولد من جديد)(2).
وكما قال ماكس بلانك العالم الطبيعي الذي فتح الطريق آلي أسرار الذرة: (ان الدين والعلوم الطبيعية يقاتلان معا في معركة مشتركة ضد الشك والجحود والخرافة. ولقد كانت الصيحة في هذه الحرب وسوف تكون دائما: آلي الله).
وأحب ان أتمثل هنا بما قاله لويس باستير الذي يعد من صفوة الممتازين من البشر حينما قال: (اذا قيل لي انني بما وصلت اليه من هذه النتائج قد ذهبت آلي ما وراء الوقائع المحسوسة فانني أقول: نعم انني وجدت نفسي في خضم من الأفكار التي لا يمكن دائما اثباتها اثباتا قاطعا، وتلك هي طريقتي في النظر آلي الأشياء).
(فاذا كنت قد ذهبت آلي ما وراء الوقائع المحسوسة، واذا كنت قد وقعت في بعض الأخطاء، فهل لك ان تدلني عليها فانني شغوف دائما بان أتعلم).
__________
(1) - من الآية 17 سورة الرعد: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق) (قرآن كريم).
(2) - ويقول محمد عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة).(2/168)
تعليق المراجع
كان لزاما ان يضم هذا الكتاب، الذي حرر فصوله نخبة من علماء أمريكا المعاصرين ونادوا فيه بوجوب اعمال الفكر وتسخير العلم تصديقا لما جاء في الكتب المقدسة، ولنلمس أيادي العلي القدير في كل ما هو حولنا في هذا الوجود، أقول كان لزاما ان يضم اليه فصل أغفل عن آخر كتاب مقدس نزل حين اكتملت الانسانية ونضجت عقول البشر واستعدت للبحث والتفكير والتدبر والتأمل، وذلك بطبيعة الحال بالاضافة آلي ما أوردنا – تحت الهوامش – من آيات ذلك الكتاب البينات في بعض المناسبات كتعقيب على ما جاء في بعض الصفحات.
ولقد خاطب القرآن العقول، ووجه الحديث آلي أهل العلم والمعرفة في مواضع عديدة منها – بالاضافة آلي ما أوردناه تحت الهامش -: (ون آياتهِ أن خلقكُم من تُراب إذا أنتم بشرٌ تنتشرونَ) [الروم: 20] (ومن آياتهِ خلقُ السمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانكمْ ان في ذلك لآياتٍ للعالمين) [الروم: 22]، (ومن آياتهِ يريكمُ البرقَ خوفاً وطمعاً وينزّلُ من السماءِ ماءً فيحي به الأرض بعد موتها ان في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يعقلون) [الروم: 24].(2/169)
والقرآن في حد ذاته، اكبر معجزات الرسول وأخلدها، وليس اخلد على الأرض من كتاب يتلى، وليس أبقى عليها ولا أنفع للناس فيها من كتاب فيه دواء لقلوب المرضى واليائسين، وسكن لنفوس الحيارى والمحرومين، وأمل ورجاء للبشر أجمعين، فيه شفاء للناس وهدى ورحمة للعالمين، وغذاء للروح والعقل لكل من أخلص النية بالفعل. وفي أول الأمر اعجز القرآن العرب بفصاحة وبلاغته وحكمته وتنبؤاته التي تحققت، ولكن لا تمضي فترة تتقدم فيها المعرفة ويسير خلالها ركب المدنية نحو درجات أرفع الا وتكشف القرآن عن معجزة اروع، فاعجاز لا يقف عند حد، ولعمري تلك صفة المعجزة الكبرى الخالدة.
وفي هذا العصر، عصر الاعجاز العلمي، ترى القرآن يصف بعض حقائق الوجود المادية، بل ويتنبأ بما سيجيء منها في المستقبل، بدقة علمية وسلامة لفظية لا مثيل لهما في كتاب من الكتب، انظر آلي قوله تعالى – على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
1- (الله الذي يُرسلُ الرياحَ فَتُثيُر سَحاباً فَيبسُطُهُ في السّمآء كيفَ يَشاءُ وَيجعلُهُ كِسفاً فَتَرى الوْدقَ يَخرُجُ من خلالهِ) [الروم: 18]. ويثبت علم الأرصاد ان الاصل في اثارة السحب ونزول المطر منها هو إرسال الرياح لتتجمع في صعيد واحد، وتلك حقيقة لا جدال فيها.
2- (.. يجعلْ صَدرهُ ضيقاً حرَجاً كأنمَا يصّعدُ في السماء) [الأنعام: 125]، والمعروف بالتجربة، بعد ان طار الانسان وحلق في هذا العصر على ارتفاعات مختلفة، ان الصعود في الجو والتعرض لطبقاته العليا يصحبه حتما ضيق الصدر حتى تصل الحال آلي درجة الاختناق على أبعاد تقل فيها كمية الأوكسيجين، بل ويقل فيها الهواء الجوي عموماً.
3- (والسّماءَ بنَيَنهَا بأييدٍ و إنا لمُوسِعونَ) [الذاريات: 47].
وحدود الكون، كما تمثلها السماء، ثبت علميا أنها تتسع وتتمدد.
4- (فلا أُقسمُ بمواقعِ النجومِ وإنّه لقسمٌ لو تعلمونَ عظيم) [الواقعة: 75، 76].(2/170)
ويحدثنا علماء الفلك بان المسافات بين النجوم تبلغ حد الخيال، وهي جديرة بان يقسم بها الخالق لعظمها، فان مجموعات النجوم التي تكون أقرب مجرات السماء منا تبعد عنها بنحو 700 الف سنة ضوئية، والسنة الضوئية تعال عشرة ملايين الملايين من الكيلومترات.
ومن آياته التنبؤ بما سيجيء في المستقبل مما يبشر به العلم او لا ينكره:
1- عصر الفضاء: (يا مَعشرَ الجنْ والإنس ان استطعتمْ أن تَنفذوا من أقطارِ السّموات والأرض فانفُذوا لا تنفذون الا بسلطانٍ) [الرحمن: 33].
2- مستقبل المدنية على الأرض: (حتى إذا أخذَتَ الأرضُ زخرُفها وازّينتْ وظنَّ أهلُها أنهم قادِرونَ عليها أتاها أمرُنا ليلاً أو نهاراً.. ) [يونس: 24]. ودقة التعبير العلمي واضحة في هذه الآية اذ عندما يكون نصف الأرض نهارا يكون نصفها الآخر ليلاً.
3- مصير المجموعة الشمسية: (فأرتقبْ يومَ تأتي السماءُ بدُخانٍ مبينٍ) [الدخان: 10]، (فأذا برَق البصرُ وخسفَ القمرُ وجُمعَ الشمسُ والقمرُ يقول الإنسانُ يومئذٍ أين المفر) [القيامة: 7-10 ] (وحملتِ الأرضُ والجبالُ فدُكتا دكةً واحدةً..) [الحاقة: 14]. ويؤكد علماء الفلك جميعا ان الشمس (كأي نجم آخر) لابد ان يعتريها ازدياد مفاجئ في حرارتها وحجمها واشعاعها بدرجة لا تصدقها العقول، وعند ذلك يتمدد سطحها الخارجي بما حوى من لهب ودخان حتى يصل القمر، ويختل توازن المجموعة الشمسية كلها. وكل شمس في السماء لابد ان تمر على مثل هذه الحالة قبل ان تحصل على اتزانها الدائم، ولم تمر شمسنا بالذات بهذا الدور بعد.(2/171)
وأنا عندما أسوق هذه الآيات لا أدعي ان القرآن مرجع علمي بالمعنى المعروف، ولكني احب ان أتساءل كيف استطاع رجل منذ أكثر من 1300 سنة أن ياتي بمثل هذه الحقائق العلمية الرائعة؟ فهل كان صاحب تلك الرسالة، ذلك النبي الأمي، عالما من الفلك، او أستاذا من أساطين الطبيعة؟ .. الحق انه لا سبيل آلي الجدال، وليس أمامنا الا التسليم بانه وحي من عند العليم.
والقرآن آلي جانب ذلك كله يكمل (آدمية البشر) أو (إنسانيتهم)، ويعلي قدر ابن آدم اذ يقول مثلا: (لقدْ خلقنا الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ) [التين: 4]. (ولقدْ كرّمنا بني آدمَ.. وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خلقنا تَفضِيلاَ) [الإسراء: 70]، كما أعطاه فرصة العمل الصالح والتقرب من بارئه مختارا، ومقاومة الشرور مختاراً، ومساعدة الغير مختاراً.. إلى غير ذلك من أعمال الإنسانية والبر. وهكذا فتح هذا الباب على مصراعيه وجعل لكل مجتهد نصيبا ولكل عامل في سبيل الكمال مقاماً، فهناك فرصة لتنمية غرائز الخير وتوظيفها، ما بين الغني والفقير والقوي والضعيف والحاكم والمحكوم.. وانه لمن الخير للمجتمع ان يوجد فيه عشرة يساعدون الضعيف مختارين عن مجتمع يكلف فيه ألف شخص تكليفا بالمساعدة والعون. ان المجتمع الأول جدير بآدميته وهو يرتقي في الروح والجسد وتنمو فيه عوامل المحبة وتظهر مبادئ الانسانية والحرية والاجتهاد، اما المجتمع الثاني فهو جسد بلا روح.
والان لم يبق أمام المكابر في سبيل، وليس وراء هذا الوجود من غاية غير الله تعالى، فهو مظهر من مظاهر الألوهية، وكل شيء فيه انما يسعى اليه تعالى، ولكن كان الإنسان اكثر جدلا: (وَضربَ لنا مثلاً ونسيَ خلقهُ، قال من يُحي العظامَ وهيَ رَميم قل يُحيها الذي أنشأها أوّل مرةٍ وهوَ بكل خلقٍ عَليمٌ) [يس: 78،79].
محمد جمال الدين الفندي(2/172)