جمع وتحقيق الفقير إلى ربه
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإني تارك فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم» رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.(1/1)
وهذه آيات قرآنية جامعة اخترتها وفسرتها، مع ذكر ما ظهر لي من فوائدها (1) وقد اشتملت على ذكر كثير من أدلة التوحيد وبراهينه، وعلى ذكر أوصاف المؤمنين الجامعة وعقائدهم الصحيحة وأعمالهم وأقوالهم السديدة وأخلاقهم النبيلة وآدابهم الحسنة ليقتدي بهم من أراد الله له الهداية، وكتب له السعادة ويسلك طريقهم من عزت عليه نفسه وأحب نجاتها وسعادتها وذلك هو الصراط المستقيم الذي شرع لنا سؤال الهداية إليه في كل ركعة من صلاتنا وهو طريق الحق الذي لا طريق له سواه، طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد ضممت إلى تلك الآيات القرآنية جوامع من الأحاديث الصحيحة النبوية انتقيتها وشرحت جملتها مع ذكر ما يستفاد، منها وقد اشتملت هذه الآيات والأحاديث على ذكر كثير من الأوامر والنواهي وأصول الدين وفروعه وقواعده وأحكامه وحكمه وأخلاقه وآدابه القولية والاعتقادية والعملية، مما يشرح الصدور المؤمنة وينير القلوب الموقنة ويفرح النفوس المطمئنة بما في ذلك من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وذكر ثواب الطائعين وعقاب العاصين، وبيان الكفارات والدرجات والمنجيات والمهلكات وأعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار الباعث على الخوف والرجاء اللذين لا يستقيم الدين إلا بهما، والذي نتيجته فعل الأوامر رغبة في الثواب واجتناب النواهي خوفًا من العقاب جمعتها نصيحة وتذكيرًا لإخواني المسلمين وعملا بقول الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وقوله تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة - لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (2) وجعلت هذا الكتاب قسمين: الأول في#
__________
(1) وقد اعتمدت في تفسير هذه الآيات غالبا على تفسير ابن كثير وابن سعدي رحمهما الله تعالى.
(2) رواه مسلم.(1/2)
الآيات القرآنية والثاني في الأحاديث النبوية وسميته (الكواكب النيرات من جوامع الحديث والآيات في المنجيات والمهلكات وأوصاف المؤمنين والمؤمنات).
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفع به كاتبه وقارئه وسامعه والناظر فيه وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم وسببًا للفوز لديه بجنات النعيم وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.#
القسم الأول من الكتاب
في ذكر الآيات القرآنية وتفسيرها وذكر ما يستفاد منها.
تفسير سورة الفاتحة.
(وهي سبع آيات وسبع وعشرون كلمة ومائة وأربعون حرفًا).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }
(بسم الله) أي أبتدئ بكل اسم لله تعالى مستعينًا به ومتبركًا به، و (الله) ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين فهو المألوه المستحق لإفراده بالمحبة والخوف والرجاء وأنواع العبادة كلها لما اتصف به من صفات الكمال وهي التي تدعو الخلق إلى عبادته والتأله له.
(الرحمن الرحيم) اسمان لله تعالى دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمَّت كل مخلوق وكتب الرحمة الكاملة للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. وقد خلق الله تعالى خلقه برحمته ورزقهم برحمته وأرسل رسله لهداية خلقه برحمته، وأنزل عليهم كتبه برحمته وخلق الجنَّة برحمته، وأسكنها من شاء من خلقه برحمته، بسبب إيمانهم وتقواهم وعملهم الصالح.
(الحمد لله) الحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال مع حبه وتعظيمه وإجلاله.(1/3)
(رب العالمين) الرب هو المعبود المالك المتصرف وهو المربي جميع العالمين بكل أنواع التربية، فهو الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، و (العالمين) كل موجود سوى الله تعالى مشتق من العلامة لأنه علم على وجود خالقه
ووحدانيته.
(الرحمن الرحيم) تقدم معناها.#
(مالك يوم الدين) المتصرف وحده في يوم الحساب والجزاء يوم كلٌ يجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر إلا من عفى الله عنه قال تعالى: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ } سورة الانفطار 17- 19.
والمالك هو من اتصف بالصفات العظيمة الكاملة التي يتحقق بها الملك، من آثارها أنه يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويتصرف في العالم العلوي والسفلي التصرف التام، بالأحكام القدرية والأحكام الشرعية وأحكام الجزاء، فلهذا أضاف ملكه ليوم الدين وهو يوم القيامة، لأن الله تعالى يدين الخلائق في ذلك اليوم بأعمالهم ويجازيهم عليها بالعدل.
(إياك نعبد وإياك نستعين) أي نخصك يا ربنا وحدك بالعبادة والاستعانة فلا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك ولا نتوكل إلا عليك. فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فهي القيام بعقائد الإيمان وأخلاقه وأعماله محبة لله وخضوعًا. والاستعانة هي الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في حصول ذلك. وقد ذكر الشيخ ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين) لإياك نعبد وإياك نستعين (66) ستا وستين، منزلة وذكر لها الشيخ عبد الرحمن الدوسري في تفسيره 190 مائة وتسعين مدلولا فلتراجع.
(اهدنا الصراط المستقيم) دلنا وأرشدنا ووفقنا للطريق المعتدل الذي لا اعوجاج فيه. وهو العلم بالحق والعمل به الموصل إلى الله وإلى جنته وكرامته.(1/4)
(صراط الذين أنعمت عليهم) أي هذا الطريق الذي سألناك يا ربنا الهداية إليه، هو طريق الذين مننت عليهم بالهداية والتوفيق للإيمان والاستقامة عليه، وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.
(غير المغضوب عليهم) أي أن طريق الحق غير طريق الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود وأمثالهم، وغير طريق (الضالين) الذين ضلوا عن الحق كالنصارى ونحوهم ممن فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. ويستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين في الصلاة وغيرها ومعناها اللهم استجب لنا. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها ويأمر بها. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن وأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.#
(ما اشتملت عليه الفاتحة)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين. وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضالون.(1/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله حمدني عبدي فإذا قال { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال الله: مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». رواه مسلم والمقصود بالصلاة. هنا القراءة.
ما يستفاد من سورة الفاتحة:
هذه السورة الكريمة على اختصارها جمعت علومًا جمَّة وفوائد مهمة نجملها فيما يلي:
1- تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية؛ الذي هو توحيد الله بأفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمور وهذا النوع مأخوذ من قوله (رب العالمين) وتوحيد الألوهية الذي هو توحيد الله بأفعال العباد التي تعبَّدهم بها وشرعها لهم وذلك ما تضمنه الإسلام والإيمان والإحسان من العبادات القولية والاعتقادية والعملية،
التي منها الخوف والرجاء والمحبة والدعاء والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي#(1/6)
لا تصلح إلا لله سبحانه وتعالى، وهذا النوع مأخوذ من قوله (لله) فإنه تعالى ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين وكذلك من قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وتوحيد الأسماء والصفات بأن يثبت لله صفات الكمال كلها التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم وقد دل على ذلك إثبات الحمد لله فإن الأسماء الحسنى والصفات العليا كلها محامد ومدائح لله تعالى ودل عليه أيضًا قوله (الرحمن الرحيم).
2- وتضمنت سورة الفاتحة إثبات النبوات والرسالة من عدة أوجه:
أولها: قوله: (رب العالمين) فلا يليق بربوبيته وحكمته أن يخلق خلقه سدى وهملا لا يؤمرون ولا ينهون ولا يعرفون ما يضرهم وينفعهم في معاشهم ومعادهم.
الثاني: من اسمه (الرحمن) فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم وهدايتهم إلى ما به ينالون غاية كمالهم ومنتهى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
الثالث: من قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) فإن الصراط هو طريق الحق الذي عليه الأنبياء والمرسلون.
3- وفي سورة الفاتحة إثبات القدر، وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره وهذا يفهم من قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) لأن إعانة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه.
4- إثبات الجزاء وذلك مأخوذ من قوله (مالك يوم الدين).
5- وتضمنت أصل الخير ومادته وهو الإخلاص الكامل لله في قوله (إياك نعبد وإياك نستعين).
6- وفيها تعليم من الله لعباده كيف يحمدونه ويثنون عليه، ثم يسألونه جميع مطالبهم.
7- وفيها دليل على افتقار العباد إلى ربهم في أن يملأ قلوبهم من محبته ومعرفته وأن يوفقهم لعبادته وخدمته.
8- وفيها تنبيه على طريق الحق وأهله المقتدى بهم وتنبيه على طريق الغي والضلال.
9- وفيها ترغيب في الأعمال الصالحة الموصلة إلى السعادة وتحذير من مسالك الباطل الموصلة إلى الشقاء.(1/7)
10- الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب فعلمنا الله كيف نسألها بخير الوسائل. وهو حمده والثناء عليه وتمجيده وعبادته والاستعانة به.#
من سورة البقرة
وهي 286 آية، و 6121 كلمة، و 25500 حرف.
بسم الله الرحمن الرحيم
1- (أعمال المتقين وجزاؤهم).
{ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } البقرة 1- 5.
قوله تعالى (الم) قال بعض أهل العلم إن (الم) وسائر حروف الهجاء في أوائل القرآن من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى.
وعن ابن عباس أنه قال: معنى (الم) أنا الله أعلم، ومعنى (المص) أنا الله أعلم وأفصل ومعنى (الر) أنا الله أرى، ومعنى (المر) أنا الله أعلم وأرى. وقال مجاهد هذه الحروف أسماء للسور. وقال آخرون إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن. وقال الشيخ ابن سعدي: وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فالأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثًا بل لحكمة لا نعلمها انتهى والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(1/8)
وقوله تعالى (ذلك الكتاب) أي هذا الكتاب العظيم وهو القرآن، الذي هو الكتاب على الحقيقة المشتمل على العلم العظيم والحق المبين من العقائد الصحيحة والأحكام العادلة والأخبار الصادقة والمواعظ النافعة والهدي الكامل والبيان التام، (لا ريب فيه) أي لا شك فيه أنه من عند الله وأن الحق والصدق كما قال تعالى: { الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (1) . وقوله تعالى: (هدى للمتقين) أي رشد وبيان لأهل التقوى خاصة لأنهم#
هم المنتفعون به الممتثلون لأوامره المنتهون عن نواهيه وزواجره كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } (2) . وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } (3) . و(من) هنا لبيان الجنس لا للتبعيض.
__________
(1) سورة السجدة آية 1.
(2) سورة فصلت آية 44.
(3) سورة الإسراء آية 82.(1/9)
والهدى ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة فالقرآن الكريم هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ومبين للحق من الباطل والهدى من الضلال، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأُخراهم. والتقوى هي طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه. ثم وصف الله المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة لتضمن التقوى لذلك فقال: (الذين يؤمنون بالغيب) حقيقة الإيمان هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل المتضمن لانقياد الجوارح. فهؤلاء المؤمنون يصدقون بجميع ما أخبر الله به ورسوله من الغيوب الماضية والمستقبلة وأحوال الآخرة فيؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ويؤمنون بعذاب القبر ونعيمه، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، ويؤمنون بالجزاء والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ويؤمنون بالوعد والوعيد.(1/10)
(ويقيمون الصلاة) أي يأتون بها على الوجه الأكمل في وقتها، ويأتون بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها كاملة، ويقيمونها ظاهرًا بإتمام قيامها وقعودها وركوعها وسجودها، والإتيان بالقراءة والأذكار المشروعة فيها، ويقيمونها باطنًا بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقول ويفعل فيها. (ومما رزقناهم ينفقون) يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ونفقة الزوجات والأقارب والمماليك ونحوهم، والنفقات المستحبة في جميع طرق الخير. وفي قوله (رزقناهم) إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلة بقوتكم وقدرتكم وإنما هي رزق من الله الذي أعطاكم وأنعم به عليكم لتشكروه وتستعينوا به على طاعته فكما أنعم عليكم ورزقكم وفضَّلكم على كثير من خلقه فاشكروه بإخراج بعض ما رزقكم وواسوا به إخوانكم المحتاجين. وكثيرًا ما يجمع الله تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن لأن الصلاة تتضمن الإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة تتضمن الإحسان إلى العباد فعنوان سعادة الإنسان الإحسان في عبادة الله بالإخلاص له والسعي في نفع الخلق.#
ثم قال تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوا به من ربهم. (وبالآخرة هم يوقنون) أي يعلمون علمًا يقينا لا شك فيه أن الدار الآخرة حق، وهي اسم لما يكون بعد الموت وخصه بالذكر بعد العموم لأن الإيمان به أحد أركان الإيمان الستة، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل قال البغوي: سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا.(1/11)
(أولئك على هدى من ربهم) أي المتصفون بالإيمان وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله على نور من ربهم وبرهان وبصيرة. (وأولئك هم المفلحون) أي الناجحون الفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار. والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب. وحصر الفلاح فيهم لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم.
ما يستفاد من الآيات:
1- الرد على من زعم أن القرآن سحر أو شعر أو كهانة أو حديث مفترى أو أساطير الأولين.
2- أنه لا ينتفع بالقرآن إلا المتقين لاختصاصهم بهدايته واستقامتهم عليه.
3- أنه لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بالغيب الذي يتميز به المؤمن من الكافر.
4- أنه لا يكفي في أداء الصلاة مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة وأنه لا يترتب الثواب عليها إلا بإقامتها ظاهرًا وباطنًا بالخشوع وحضور القلب وتدبر ما يقول ويفعل فيها وبذلك يترتب عليها الثواب وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
5- من صفات المؤمنين؛ أنهم ينفقون مما رزقهم الله النفقات الواجبة والمستحبة.
6- من أصول الإيمان؛ الإيمان بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله.
7- من أصول الإيمان؛ الإيمان بكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والحياة بعد الموت والحساب والميزان والصراط والجنة والنار.
8- أن من اتصف بالإيمان والعمل الصالح من صلاة وصدقة وغير ذلك فهو على هدى من ربه واستقامة على دينه.
9- بيان ثمرة تقوى الله والعمل بطاعته وهو الفوز بكل مطلوب والنجاة من كل محذور ومرهوب.#
10- أن الدين والإيمان قول واعتقاد وعمل.
11- في قوله (على هدى من ربهم) رد على القدرية في قولهم أنهم يخلقون إيمانهم وهداهم. تعالى الله عن قولهم.
12- أن الإيمان والتقوى سبب للتوفيق إلى الهداية إلى الحق في الدنيا وإلى الفوز في الآخرة بالنعيم والنجاة من عذاب الجحيم.#
2- (توحيد الله بربوبيته وألوهيته)(1/12)
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } 20 – 22.(1/13)
يخاطب الله تعالى الناس عمومًا مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم وذكرهم وأنثاهم آمرًا لهم، بما خلقهم لأجله وهو عبادته الجامعة لامتثال أمره واجتناب نهيه وتصديق خبره كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } (1) . وأوجب عليهم الاستمرار على عبادته حتى الموت فقال: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (2) . ثم استدل على وجوب عبادته وحده، بأنه ربكم الذي أوجدكم من العدم ورباكم بأصناف النعم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بأنعمه الظاهرة والباطنة، فجعل لكم الأرض فراشًا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والتجارة والمشي في سبلها ابتغاء رزقه، وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم، كالشمس والقمر والنجوم. (وأنزل من السماء ماء) والسماء هو كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هنا السحاب فأنزل منه تعالى ماء (فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم) كالحبوب والثمار والفواكه والزروع وغيرها (رزقًا لكم) به ترتزقون وتعيشون وتفكهون فكما أنه لا خالق ولا رازق إلا الله فلا معبود بحق إلا هو، ولا متصرف في الكون سواه (فلا تجعلوا لله أندادًا) أمثالا ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا ينفعون ولا يضرون (وأنتم تعلمون) أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق ولا في الرزق ولا في التدبير فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك. وقوله تعالى (لعلكم تتقون) المعنى أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين واتقيتم بذلك سخط الله وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.#
__________
(1) سورة الذاريات آية 56.
(2) سورة الحجر آية 99.(1/14)
ما يستفاد من هذه الآيات:
1- الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه.
2- بيان الدليل الباهر على وجوب عبادة الله وحده وبطلان عبادة ما سواه وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراد الله بالخلق والرزق والتدبير.
3- أن من عبد الله وحده مخلصًا له الدين فهو من المتقين، وحصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
4- أن جميع الناس مخلوقون لعبادة الله تعالى وتوحيده وإقامة دينه، وعنه يقع السؤال وعليه يقع الجزاء وبذلك أرسلت الرسل وأنزلت الكتب.
5- وجوب شكر نعم الله بالاعتراف بها باطنًا والثناء على الله بها والاستعانة بها على طاعته وابتغاء مرضاته.
6- أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق بالأخذ بأسباب الرزق من صناعة وزراعة وتجارة وغير ذلك فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله فقد أخذ بطرف من جعل لله ندًا.
فلا تعبد أحدًا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لابد لك منه من غير منة فيه لأحد عليك.
7- انفراد الله بالربوبية والألوهية والملك وجميع صفات الكمال.#
3- (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله)
قال الله تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } آية 136 من سورة البقرة.(1/15)
هذه الآية الكريمة قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به، والإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح هو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها فهي من الإيمان وأثر من آثاره فحيث ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام وكذلك الإسلام إذا ذكره وحده دخل فيه الإيمان فإذا قرن بينهما كان الإيمان اسمًا لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام اسمًا للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة.(1/16)
فقوله تعالى (قولوا) أي بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم وهذا هو القول التام المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر فالقول الخالي من العمل عديم التأثير قليل الفائدة وفي قوله (قولوا) إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة إليها لأنها أصل الدين وأساسه وفي قوله (آمنا) ونحوه مما فيه صدور الفعل منسوبًا إلى جميع الأمة، إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعًا، والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدًا وعملهم متحدًا، وأن المؤمنين كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، وفي ضمنه النهي عن الاختلاف والافتراق والتباغض. (آمنا بالله) أي صدقنا بوجوده ووحدانيته وأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، حي لا يموت قيوم لا ينام متصف بكل صفة كمال متنزه عن كل نقص وعيب مستحق لإفراده بالعبادة كلها وعدم الاشتراك في شيء منها (وما أنزل إلينا) من القرآن والسنة لقول الله تعالى: { وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . (1) فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله وصفات رسله واليوم الآخر والغيوب الماضية والمستقبلة، وما تضمناه من الأحكام الشرعية وأحكام الجزاء وغير ذلك. { وما أنزل إلى إبراهيم } الآية فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع#
الأنبياء والإيمان بالأنبياء عمومًا وخصوصًا ما نص عليه في الآية لشرفهم. { لا نفرق بين أحد منهم } فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بهم كلهم وهذه خاصية المسلمين أنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله بخلاف طوائف الشرك والكفر الذي يفرقون بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض فصاروا كافرين حقًا. (ونحن له مسلمون) خاضعون لعظمته منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا مخلصون له العبادة.
__________
(1) سورة النساء آية 113.(1/17)
ما يستفاد من هذه الآية غير ما تقدم:
1- أنه يجوز للإنسان إضافة الإيمان إلى نفسه على وجه التقييد كقوله آمنت بالله بل إن ذلك واجب بخلاف قوله أنا مؤمن فإنه لا يقال إلا على وجه التقييد بالمشيئة كقوله أنا مؤمن إن شاء الله لما في إطلاق الإيمان من تزكية النفس والشهادة لنفسه بالإيمان.
2- أن عطية الدين هي العطية الحقيقية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة لم يأمرنا الله أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال بل أمرنا أن نؤمن بما أوتوا من الشرائع والكتب المنزلة.
3- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبلغون عن الله ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه ورسالاته.
4- أن من كمال ربوبية الله لعباده أن ينزل عليهم الكتب ويرسل إليهم الرسل فلا تقتضي ربوبيته تركهم سدى ولا هملا.
5- اشتملت الآية السابقة على أنواع التوحيد الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
6- الإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب السماوية النازلة على الأنبياء.
7- أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح.
8- الفرق بين الرسل الصادقين وبين من يدعي النبوة من الكاذبين.
9- تعليم الله سبحانه لعباده كيف يقولون وأن القول لا يغني عن العمل.
10- رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة.#
4- (توحيد الله بالأدلة)(1/18)
قال الله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . قال البغوي: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص.(1/19)
قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) يخبر تعالى أنه إله واحد أي متوحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله فليس له شريك في ذاته ولا سميَّ له ولا كفوًا ولا مثيل ولا نظير ولا خالق ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ولا يشرك به أحد من خلقه لأنه (الرحمن الرحيم) المتصف بالرحمة العظيمة التي لا يماثلها رحمة أحد فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته أوجدت المخلوقات وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات وبرحمته اندفع عنها كل نقمة وبرحمته عرف عباده نفسه بصفاته وآلائه وبين لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب فإذا كان هو المنفرد بجميع أصناف النعم فهو المستحق لجميع أنواع العبادة، وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والدعاء وغير ذلك من أنواع الطاعات؛ ففي هذه الآية دليل إجمالي على وحدانية الله تعالى ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال (إن في خلق السماوات) أي في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما جعل فيها من الشمس والقمر والنجوم وتنظيمها لمصالح العباد وفي خلق (الأرض) مهادًا وفراشًا للخلق يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار بذلك ما يدل على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقهم وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها وعلمه ورحمته التي أودع فيها ما أودع من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجاتهم وفي ذلك أبلغ دليل على كماله واستحقاقه أن يفرد بالعبادة لانفراده بالخلق والتدبير والقيام بشؤون عباده.
وفي (اختلاف الليل والنهار) وهو تعاقبهما على الدوام إذا أذهب أحدهما خلفه الآخر وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط والطول والقصر والتوسط وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم وجميع ما على وجه الأرض من أشجار#(1/20)
ونوابت كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير تنبهر لها العقول ما يدل على قدرة مصرفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل مما يوجب أن يؤله ويعبد ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء. وفي (الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) وهي السفن والمراكب ونحوها مما ألهم الله عباده صنعتها وخلق لهم من الآلات ما أقدرهم عليها ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس وبها تقوم مصالحهم وتنتظم معائشهم (وما أنزل الله من السماء من ماء) وهو المطر النازل من السحاب (فأحيا به الأرض بعد موتها) فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها (وبث فيها من كل دابة) أي نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع فمنها ما يأكلون من لحمه ويشربون من دره ومنها ما يركبون ومنها ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ومنها ما يعتبر به وفي ذلك دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم. وفي (تصريف الرياح) باردة وحارة وجنوبًا وشمالا وشرقًا وغربًا وبين ذلك وتارة تثير السحاب وتارة تؤلف بينه وتارة تلقحه وتارة تدره وتارة تمزقه وتزيل ضرره وتارة تكون رحمة وتارة ترسل بالعذاب وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء فيحيي به البلاد والعباد ويروي به التلول والوهاد وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه فينزله رحمة ولطفًا ويصرفه عناية وعطفًا.(1/21)
أخبر الله تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات أي أدلة على وحدانيته وألوهيته، وعظيم سلطانه ولكنها (لقوم يعقلون) أي لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ويتفكرون بها في صنع الله ويستدلون بهذه المخلوقات على قدرة الله ويستعينون بنعمه على طاعته فلله الحمد أولا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وله الحمد في السماوات والأرض والدنيا والآخرة سبحانه لا نحصي ثناء عليه.
ما يستفاد من هذه الآيات سوى ما تقدم:
1- إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وإلهيته ونفيها عن غيره من المخلوقين، وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم واندفاع جميع النقم.
2- مشروعية التفكر في مخلوقات الله ومصنوعاته، والاستدلال بها على توحيده وقدرته.
3- الدلالة على البعث والجزاء لأن الذي بدأ الخلق سوف يعيده ويجزي كل عامل#
بعمله { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } (27) من سورة الروم والذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سورة فصلت آية (39).
4- وجوب شكر نعم الله باستعمالها في مرضاته، وعدم الاستعانة بها على معاصيه.
5- إثبات صفة الرحمة الواسعة لله التي من آثارها أن خلق خلقه، ورزقهم من الطيبات وحملهم في البر والبحر وسخر لهم جميع المخلوقات وفضلهم على كثير ممن خلق فاستحق منهم أن يشكروه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأن يتقوه حق تقاته بطاعته وذكره وشكره وامتثال أمره واجتناب نهيه.(1/22)
6- من آيات الله ومخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة ووحدانيته السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن والليل والنهار والرياح، والسفن التي تجري في البحر بما ينفع الناس والمطر الذي به حياة الأرض.
7- جواز ركوب البحر مطلقًا لتجارة كان أو عبادة كالحج والجهاد.
8- انفراد الله بالخلق والإيجاد بما في ذلك إرسال الرياح، وإنشاء السحاب وإنزال المطر وإنبات النبات وغير ذلك.
9- الرد على الطبائعيين الذي يضيفون مخلوقات الله إلى الطبيعة.#
5- (النهي عن اتباع خطوات الشيطان وبيان ما يأمر به)
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } سورة البقرة آية (168 - 169).(1/23)
يقول الله تعالى مخاطبًا للناس كلهم عربهم وعجمهم مؤمنهم وكافرهم ممتنًّا عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض من حبوب وثمار وفواكه وحيوانات حال كونها (حلالا) أي محللا لكم تناولها وأكلها ليست بغصب ولا سرقة ولا أخذت بمعاملة محرمة أو على وجه محرم أو معين على محرم (طيبًا) أي ليس بخبيث؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير والخبائث كلها. ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به إذ هو عين صلاحهم نهاهم عن اتباع (خطوات الشيطان) أي طرقه التي يأمر بها وهي جميع المعاصي من كفر وفسوق وظلم (إنه لكم عدو مبين) أي ظاهر العداوة فلا يريد بأمركم إلا غشكم، وأن تكونوا من أصحاب السعير. فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته وطرائقه حتى أخبرنا وهو أصدق القائلين بعداوته الداعية للحذر منه. ثم لم يكتف بذلك حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به وأنه أقبح الأشياء وأعظمها مفسدة فقال: (إنما يأمركم بالسوء) وهو الشر الذي يسوء صاحبه فيدخل في ذلك جميع المعاصي (والفحشاء) وهي ما تناهى قبحه من المعاصي كالزنا وشرب الخمر والقتل بغير حق ونحو ذلك مما يستفحشه أهل العقول (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فيدخل في ذلك القول على الله بلا علم في شرعه وقدره فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم. ومن زعم أن لله ندًّا وشركاء تقرب من عبدها من الله فقد قال على الله بلا علم. ومن قال إن الله أحل كذا وحرم كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا بغير بصيرة فقد قال على الله بلا علم. فالشيطان عدو الإنسان الذي يريد له الشر ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة الذي كل الشر في طاعته وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشر ولا ينهى إلا عن خير.
(ما يستفاد من هذه الآيات)
1- أن الأصل في الأشياء الإباحة أكلا وانتفاعًا.(1/24)
2- أن المحرم نوعان إما محرم لذاته وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب وإما محرم لما عرض#
له، وهو المحرم لتعلق حق الله أو حق عباده به وهو ضد الحلال.
3- أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب يأثم تاركه لظاهر الأمر.
4- تحريم شرب الدخان وبيعه وشرائه؛ لأنه من الخبائث المضرة في العقول والأبدان والأموال والصحة وهي ضد الطيبات.
5- تحريم الأغاني وآلات اللهو والاستماع إلى ذلك؛ لأنه من خطوات الشيطان ومصائده ومكائده التي يصد بها عن ذكر الله وطاعته وعن الصلاة.
6- تحريم حلق اللحى وتصوير ذوات الأرواح؛ لأنها من خطوات الشيطان ومن السوء والفحشاء التي يأمر بها.
7- أن القول على الله بغير علم في التحليل والتحريم وغير ذلك من أعظم المحرمات وأكبر طرق الشيطان التي يأمر بها ويدعو إليها.
8- شدة عداوة الشيطان لبني آدم فيجب الحذر منه.#
6- (الأمر بالأكل من الطيبات وشكر الله عليها وبيان المحرمات)
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة البقرة آية 168 – 169.(1/25)
لما أمر الله الناس عمومًا بالأكل من الطيبات أمر المؤمنين خاصة بعد الأمر العام؛ لأن المؤمنين هم المنتفعون بالأوامر والنواهي بسبب إيمانهم فأمرهم بالأكل من الطيبات من الرزق الحلال والشكر لله على إنعامه باستعمالها بطاعته والتقوى بها على ما يوصل إليه، فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين في قوله: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } (1) . فالشكر في هذه الآية هو العمل الصالح (إن كنتم إياه تعبدون) أي إن كنتم تعبدون الله حقيقة فاشكروه على نعمه باستعمالها في مرضاته والأمر بالشكر عقيب النعم لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة كما قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } سورة إبراهيم آية 7.
__________
(1) سورة المؤمنون آية 51.(1/26)
ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال (إنما حرم عليكم الميتة) وهي ما مات بغير تذكية شرعية؛ لأن الميتة خبيثة مضرة لرداءتها في نفسها ولأن الغالب أن تكون ماتت من مرض فيكون زيادة مرض، وقد استثنى بالسنة من هذا العموم ميتة الجراد والسمك البحري فإنه حلال طيب، وحرم (الدم) المسفوح كما قيد به في الآية الأخرى (ولحم الخنزير) أي جميع أجزائه (وما أهل لغير الله به) أي ذبح لغير الله كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار والأشجار والأولياء والقبور ونحوها، وهذا المذكور في هذه الآية غير عام للمحرمات وجيء به لبيان أجناس الخبائث، وعموم المحرمات يستفاد من مفهوم الآية السابقة من قوله (حلالا طيبًا) وإنما حرم الله علينا هذه الخبائث ونحوها لطفًا بنا وتنزيهًا عن المضر بنا، ومع هذا (فمن اضطر) أي ألجأته الضرورة إلى المحرم بجوع أو عدم أو إكراه (غير باغ) أي غير طالب للمحرم مع قدرته على الحلال أو مع عدم جوعه (ولا عاد) أي متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطرارًا فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها (فلا إثم عليه) وإذا ارتفع الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده فلهذا ختمها بهذين الاسمين#
الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال (إن الله غفور رحيم) فيغفر لمن أخطأ في هذه الحال خصوصًا وقد غلبته الضرورة، وأذهبت حواسه المشقة فأكل المحرم عليه في حال الاضطرار (رحيم) حيث رخص للعباد في ذلك.
ما يستفاد من هذه الآيات:
1- وجوب الأكل من الطيبات بقدر ما يقيم البدن.
2- وجوب الشكر لله على نعمه ورزقه باستعمالها في مرضاته والاستعانة بها على طاعته.
3- أن من لم يشكر الله لم يعبده وحده.
4- أن من شكر الله فقد عبده وأتى بما أمر به.
5- أن الأكل من الحلال الطيب سبب للعمل الصالح وقبوله.(1/27)
6- رحمة الله بعباده ولطفه بهم حيث حرم عليهم الخبائث الضارة لأبدانهم كالميتة والدم ولحم الخنزير وأباح لهم الطيبات.
7- الضرورات تبيح المحظورات فكل محظور اضطر له الإنسان فقد أباحه له الملك الرحمن فله الحمد أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
8- تحريم الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير.
9- وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة بأن يقول الذابح: بسم الله.
10- تحريم ما ذكر عليه غير اسم الله من الذبائح وهي ذبيحة المجوس والوثنيين والمعطلة.
11- إباحة الأكل من الميتة للمضطر بقدر ما يقيم بنيته.#
7- (أنواع البر)
قال الله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } سورة البقرة آية 177.(1/28)
اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة، فقد اشتملت على أنواع البر كلها. فمن اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخذ بمجامع الخير كله. والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة. قال ابن كثير رحمه الله: إن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه.(1/29)
وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب وكانت النصارى تقبل قبل المشرق يعني في صلاتهم فقال الله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله) أي صدق بأنه إله واحد موصوف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص، (واليوم الآخر) أي وصدق بكل ما أخبر الله به ورسوله مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه ويوم القيامة وأهواله، (والملائكة) أي وصدق بوجود الملائكة الذين وصفهم الله لنا في كتابه ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهم عباد مكرمون (يسبحون الليل والنهار لا يفترون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) وأن الله وكلهم بحفظ بني آدم وكتابة أعمالهم وقبض أرواحهم عند الموت ووكلهم بإعداد الجنة لأهلها وإيقاد النار وتسعيرها لأهلها وغير ذلك من أعمالهم وأوصافهم وتدبيراتهم التي أمروا بها، (والكتاب) القرآن وجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء فيؤمن بها وبما تضمنته من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة (والنبيين) أي وصدق بالنبيين عمومًا وخصوصًا خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - (وآتى المال على حبه) أي أعطى المال وهو محب له لحاجته إليه أو لنفاسته أو لقلته عنده، ثم ذكر المنفق عليهم وهم#
أولى الناس ببرك وإحسانك (ذوي القربى) وهم قرابة الرجل من النسب والصهر والرحم الذين يتوجع لمصابهم ويفرح بسرورهم الذين يتناصرون.(1/30)
فمن أحسن البر تعاهد الأقارب بالصلة والإحسان القولي والمالي على حسب قربهم وحاجتهم (واليتامى) الذين فقدوا آباءهم وهم صغار دون البلوغ الذين لا كاسب لهم وليس لهم قوة يستغنون بها فمن رحمة أرحم الراحمين أن أوصى بالإحسان إليهم والعطف عليهم وإكرامهم. (والمساكين) وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم وهم الذين أسكنتهم الحاجة فلهم حق على الأغنياء بما يدفع مسكنتهم ويسد حاجتهم أو يخففها بما يقدرون عليه وبما تيسر، (وابن السبيل) وهو الغريب المنقطع به في غير بلده فحث الله على إعطائه من الزكاة وغيرها ما يعنيه على سفره فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته وأعطاه من نعمه أن يرحم أخاه الغريب بقدر استطاعته بأن يخفف عليه مؤنة السفر ولو بتزويده أو إعطائه ما يوصله إلى بلده (والسائلين) الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج توجب السؤال كمن ابتلى بأرش جناية أو ضريبة عليه من ولاة الأمور أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة كالمساجد والمدارس ونحوها فهذا له حق وإن كان غنيًّا (وفي الرقاب) يدخل فيه عتق المماليك والإعانة عليه وبذل مال للمكاتب يوفي سيده وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة. (وأقام الصلاة) أي أتمها في أوقاتها على الوجه المرضي، (وآتى الزكاة) أي زكى نفسه من الرذائل وطهرها من المآثم وأعطى زكاة ماله لمستحقيها طيبة بها نفسه. وكثيرًا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة لكونهما أفضل العبادات وأكمل القربات القلبية والبدنية والمالية وبهما يوزن الإيمان ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان، (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) أي يوفون بما التزموه على أنفسهم لله أو لعباده من الحقوق والواجبات والأيمان والنذور والعهود والمواثيق (والصابرين في البأساء) أي في حالة الفقر لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره، فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم.(1/31)
وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن عري تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم، فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر عليها والاحتساب ورجاء الثواب من الله عليها، والصابرين (في الضراء) أي المرض على اختلاف أنواعه من حمى أو قروح ورياح ووجع عضو حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك فإنه يحتاج إلى الصبر عليها لأن النفس تضعف والبدن يألم وفي ذلك غاية المشقة على النفوس خصوصًا مع تطاول ذلك#
فإنه يؤمر بالصبر احتسابًا لثواب الله، (وحين البأس) أي وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم لأن القتال يشق على النفس غاية المشقة ويجزع الإنسان من القتل والجراح أو الأسر فاحتيج إلى الصبر في ذلك.
(أولئك) المتصفون بما ذكر من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية فأولئك (الذين صدقوا) في إيمانهم لأن أعمالهم صدقت إيمانهم (وأولئك هم المتقون) لأنهم تركوا المحظور وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات وأعظمها ومن قام بها كان بما سواها أقوم.
ما يستفاد من هذه الآية:
1- أن الدين والإيمان قول واعتقاد وعمل.
2- معرفة أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
3- فضل الصدقة بالمال المحبوب.
4- بيان أحق الناس بالبر والإحسان والصدقة وهم قرابة الرجل ويشمل الوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأجداد والجدات واليتامى والفقراء والمساكين والمسافرين والسائلين وفي الرقاب.
5- وجوب إقام الصلاة في وقتها، والإتيان بشروطها وأركانها وواجباتها وإتمامها على الوجه المشروع وهي أعظم العبادات البدنية.(1/32)
6- وجوب إخراج الزكاة كاملة لمستحقيها وهي أعظم العبادات المالية.
7- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم نقضها.
8- وجوب الصبر على ما يصيب الإنسان من المصائب والمشقات في حالة الفقر والمرض وقتال الأعداء المأمور بقتالهم.
9- فضل العمل بهذه الآية وأن من قام بما فيها من العقائد والأعمال والأخلاق فهو من الصادقين الأبرار ومن الأتقياء الأخيار.
10- أن في المال حق سوى الزكاة.#
8- (قرب الله ممن دعاه وأسباب إجابة الدعاء)
قال الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ } سورة البقرة آية 186.(1/33)
هذا جواب سؤال سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا يا رسول الله (أقريب ربنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟) فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (1) . لأنه تعالى الرقيب الشهيد المطلع على السر وأخفى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو قريب أيضًا من داعيه بالإجابة ولهذا قال: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة والقرب نوعان قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق فمن دعى ربه بقلب حاضر ودعاء مشروع ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء كأكل الحرام ونحوه فإن الله قد وعده بالإجابة وخصوصًا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية والإيمان الموجب للاستجابة؛ فلهذا قال: (فليستجيبوا لي وليؤمنون بي لعلهم يرشدون) أي يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والعمل الصالح وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالدعاء والحث عليه والوعد عليه بالإجابة قال الله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (2) .
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني (انظر تفسير بن كثير 1/218.
(2) سورة غافر آية 60.(1/34)
وقال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (1) . وقال تعالى: { أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (2) . وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل دعوته وإما أن يدخرها له في الأخرى وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها قالوا: إذًا نكثر قال: الله أكثر» وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة»#
رواه أبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن ماجة وفي الحديث الآخر: «الدعاء مخ العبادة» رواه الترمذي أي خالصها وإنما كان كذلك لأمرين أحدهما أنه امتثال لأمر الله حيث قال (ادعوني أستجب لكم)، الثاني: أنه إذا علم أن النفع والضر بيد الله انقطع تعلقه بغير الله.
ما يستفاد من الآية:
1- الحث على الدعاء وبيان كرم الكريم سبحانه حيث أمر بالدعاء وتكفل بالإجابة.
2- قرب الله من جميع خلقه بالعلم والإحاطة وقربه من داعيه وعابديه بالإجابة والإثابة.
3- بيان أسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى والإيمان به وأكل الحلال الطيب ورفع اليدين إلى السماء.
4- أن الإيمان بالله وطاعته سبب لتوفيقه وهدايته.
5- التحذير من التعرض لموانع إجابة الدعاء، كأكل الحرام وشربه ولبسه والدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو استبطاء الإجابة وترك الإيمان وعدم الاستجابة لله وعمل المعاصي كل هذه الأشياء من موانع الإجابة.
6- أن الاستجابة لله والإيمان به سبب لحصول العلم؛ لأن الرشد هو الهدى التام علمًا وعملا.#
9- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل (3)
__________
(1) سورة الأعراف آية 55.
(2) سورة النمل آية 62.
(3) انظر تفسير ابن سعدي لهذه الآية جـ 1 ص 110 ، 111 ط 1 .(1/35)
قال الله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة البقرة آية 188.
أي لا تأخذوا أموال غيركم إضافة إليهم؛ لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويحترم ماله كما يحترم مال نفسه ولأن أكله من مال غيره يجر غيره إلى أكل ماله عند القدرة عليه، ولما كان أكلها نوعين؛ نوعًا بحق ونوعًا بباطل وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل قيده تعالى بذلك. ويدخل بذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية أو نحو ذلك. ويدخل فيه أيضًا أخذها على وجه المعاوضة بمعاوضة محرمة كعقود الربا والقمار كلها فإنها من أكل المال بالباطل لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه.
ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى.(1/36)
ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حق منها أو يأخذ فوق حقه، ويدخل في ذلك أخذ الرشوة على الحكم وأخذ الرشوة على التوسط لأحد في معاملة أو وظيفة، وما يأخذه الأطباء والممرضون ونحوهم من المرضى في حال كونهم في وظائف الحكومة فكل هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة غلبت حجة المحق وحكم له الحاكم بذلك فإن حكم الحاكم لا يبيح محرمًا ولا يحلل حرامًا إنما يحكم على نحو مما يسمع، وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة وحكم له بذلك فإنه لا يحل له ويكن آكلا لمال غيره بالباطل والإثم وهو عالم بذلك فيكون أبلغ في عقوبته وأشد في نكاله.#
ما يستفاد من هذه الآية:
1- تحريم أكل أموال الناس بالباطل على أي وجه كان.
2- أن حكم الحاكم لا يحرم حلالا ولا يحلل حرامًا.
3- وعيد الآكلين للمال بالباطل.
4- تحريم الرشوة.#
10- الأمر بالدخول في الإسلام كله والنهي عن اتباع خطوات الشيطان.
قال الله تعالى: { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } سورة البقرة آية 208.
يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يأخذوا بجميع شرائع الإسلام والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره وقد خاطب الله المؤمنين في القرآن فيما يقرب من تسعين موضعًا تضمنت هذه الخطابات أمرًا ونهيًا وخبرًا وترغيبًا وترهيبًا ووعدًا ووعيدًا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأصغ لها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.(1/37)
وفي هذه الآية أمر الله المؤمنين عمومًا أن يدخلوا في جميع شرائع الدين ولا يتركوا منها شيئًا وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه إن وافق الأمر المشروع هواه فعله وإن خالفه تركه بل الواجب أن يكون الهوى تبعًا للدين وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير الظاهرة والباطنة القولية والاعتقادية والعملية البدنية والمالية وما يعجز عنه يلتزمه وينويه فيدركه بنيته، ولما كان الدخول في السلم كافة لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي في العمل بمعاصي الله (إنه لكم عدو مبين) وهو لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء وما به الهلاك والضرر، ولما كان العبد لابد أن يقع منه خلل أو زلل قال تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) أي بعد العلم واليقين (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) أي إذا عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج فاعلموا أن الله عزيز في انتقامه ممن عصاه حكيم في شرعه وأمره والحكيم إذا عصاه العاصي قهره بقوته وعذبه بمقتضى حكمته.
ما يستفاد من هذه الآية:
1- يجب العمل بجميع شرائع الإسلام القولية والاعتقادية والعملية.
2- معرفة الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
3- أن الدين قول واعتقاد وعمل.#
4-
أن من لم يعمل بالواجبات ويترك المحرمات فليس بمؤمن حقيقة.
5- وجوب العمل بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام بقدر الاستطاعة.
6- تحريم طاعة الشيطان فيما يأمر به من المعاصي والفواحش.
7- بيان عداوة الشيطان لبني آدم وأنه قد تصدى واستعد لإضلالهم ليكونوا من أصحاب السعير.
8- الوعيد الشديد للمخالفين للحق بعد ما تبين لهم الهدى.#
11- الإيمان والهجرة والجهاد من أسباب رحمة الله(1/38)
قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة البقرة آية 218.
هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة، وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضله. وكيف يسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة وأهل الجنة وأهل النار، وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه وإذا عدم منه لم يقبل منه صرف ولا عدل ولا فرض ولا نفل. وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربًا إلى الله تعالى ونصرة لدينه.
وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقاومة الأعداء والسعي التام في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، وهو ذروة سنام الدين وجزاؤه أفضل الجزاء وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على مشقتها كان لغيرها أشد قيامًا به وتكميلا، فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة لله لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة (والله غفور) لمن تاب إليه توبة نصوحًا (رحيم) وسعت رحمته كل شيء وعم جوده وإحسانه كل حي.
ما يستفاد من هذه الآية:
1- فضل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.
2- أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة. وأما الرجاء المقارن للكسل وعدم القيام بالأسباب فهذا عجز وتمني وغرور وهو دال على نقص همة صاحبه ونقص عقله بمنزلة من يرجو وجود الولد بلا نكاح وحصول الثمرة بلا بذر وسقي.
3- أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها، بل يرجو رحمة ربه وقبول أعماله ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه.(1/39)
4- أن من قام بهذه الأعمال المذكورة، وهي الإيمان والهجرة والجهاد حصلت له مغفرة الله لأن الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
5- إثبات صفة المغفرة والرحمة لله التي من آثارها أن حصلت لأهل هذه الأعمال خيرات الدنيا والآخرة واندفعت عنهم عقوبات الدنيا والآخرة فمن رحمة الله بهم أن وفقهم لها وأقدرهم عليها وقبلها منهم.#
12- الأمر بالمحافظة على الصلوات:
قال الله تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } سورة البقرة آية 238 – 239.(1/40)
يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات عمومًا وعلى الصلاة الوسطى خصوصًا وهي صلاة العصر والمحافظة عليها أداؤها في وقتها بشروطها وأركانها وخشوعها وجميع واجباتها ومستحباتها وبالمحافظة على الصلوات تحصل المحافظة على سائر العبادات وتفيد النهي عن الفحشاء والمنكر وتكفير الذنوب والآثام خصوصًا إذا أكملت وأعطيت حقها (وقوموا لله قانتين) أي ذليلين مخلصين خاشعين فإن القنوت دوام الطاعة مع الخشوع (فإن خفتم من عدو أو سبع أو فوات ما يتضرر العبد بفواته أو غير ذلك من أنواع الخوف فصلوا رجالا) أي ماشين على أرجلكم (أو ركبانا) على الخيل والإبل، ويدخل في ذلك السيارات والطائرات وسائر المركوبات وفي هذه الحال لا يلزم استقبال القبلة، فهذه صفة صلاة المعذور بالخوف فإذا حصل الأمن صلى صلاة كاملة (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) أي إذا زال الخوف وحصل الأمن فأقيموا الصلاة بكمالها وتمامها وأكثروا من ذكر الله شكرًا له على نعمة التعليم لما فيه السعادة. وفي الحديث «من حافظ على الصلوات كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة» رواه أحمد بإسناد جيد. وخصت صلاة العصر لمزيد فضلها ولكونها عرضت على من كان قبلنا فضيعوها فمن حافظ عليها فله أجره مرتين. وقال صلى الله عليه وسلم «من صلى البردين دخل الجنة» (1) والبردين الفجر والعصر وفيهما تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار. وقال صلى الله عليه وسلم «من فاتته صلاة العصر حبط عمله» (2) «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (3) أي أخذ أهله وماله وأصبح بلا مال ولا أهل.#
ما يستفاد من هاتين الآيتين:
1- الحث على المحافظة على الصلوات عمومًا وصلاة العصر خصوصًا.
2- التحذير من تفويت صلاة العصر وتأخيرها عن وقتها.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.(1/41)
3- الحث على المداومة على طاعة الله وعبادته والخشوع والخضوع له.
4- أن القيام ركن في صلاة الفرض.
5- مزية صلاة العصر على غيرها لفضلها وشرفها وحضور ملائكة الليل والنهار فيها ولكونها ختام النهار.
6- صحة صلاة المعذور بالخوف على قدر استطاعته ماشيًا أو راكبًا أو قاعدًا مستقبلا للقبلة أو غير مستقبل لها.
7- أن الصلاة لا تسقط عن الإنسان على أي حال مادام عقله حاضرًا بل يصلي على حسب حاله غير المرأة الحائض والنفساء وقت الحيض والنفاس فقط.
8- وجوب إتمام الصلاة في حال الأمن والاطمئنان كما علمنا الله وكما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام بكل ما به تكمل وتتم.
9- الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى شكرًا له على نعمة التعليم لما فيه السعادة.
10- فضيلة العلم وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم الإكثار من ذكر الله.
11- أن الإكثار من ذكر الله سبب لتعليم علوم أخرى لأن الشكر مقرون بالمزيد.
12- مشروعية صلاة الجماعة وأن تكون في الوقت وذلك من المحافظة عليها.#
13- انتهاز الفرص بالإنفاق من رزق الله
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } سورة البقرة آية 254.(1/42)
يحث الله المؤمنين على النفقات في جميع طرق الخير، ويذكرهم نعمه عليهم بأنه هو الذي رزقهم ونوع عليهم النعم وأنه لم يأمرهم بإخراج جميع ما في أيديهم فهذا ما يدعوهم إلى الإنفاق ومما يدعوهم أيضًا إخبارهم أن هذه النفقات مدخرة لهم عند الله في يوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه ولا التبرعات ولا الشفاعات، فكل أحد يقول ما قدمت لحياتي فتنقطع الأسباب كلها إلا الأسباب المتعلقة بطاعة الله والإيمان به (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء (آية 88 – 89) (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحًا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون) سورة سبأ آية 37 (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا) سورة المزمل آية 20 ثم قال تعالى: (والكافرون هم الظالمون) وذلك لأن الله خلقهم لعبادته ورزقهم وعافاهم ليستعينوا بذلك على طاعته فخرجوا عما خلقهم الله له وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا واستعانوا بنعمه على الكفر والفسوق والعصيان فلم يبقوا للعدل موضعًا فلهذا حصر الظلم فيهم.
ما يستفاد من هذه الآية:
1- الحث على إخراج الزكاة ونفقة الأموال في جميع طرق الخير.
2- التذكير بنعم الله علينا فهو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا بالنعم الظاهرة والباطنة.
3- من رحمة الله بخلقه أنه لم يأمرهم بإخراج جميع ما في أيديهم بل قدرًا يسيرًا في الزكاة وما سمحت به نفوسهم من غيرها.
4- أن نفقات المنفقين مدخرة لهم عند الله كما قال تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه).
5- أن جميع الأسباب والصلات تنقطع يوم القيامة غير الأسباب المتعلقة بطاعة الله والإيمان به.
6- وعيد من جحد نعم الله واستعان بها على الكفر والفسوق والمعاصي وأنه هو الظالم الجائر.#
14- أعظم آية في كتاب الله تعالى(1/43)
قال الله تعالى: { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } سورة البقرة آية 255.(1/44)
هذه آية الكرسي، ولها شأن عظيم وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أعظم آية في كتاب الله وأنها تحفظ قارئها من الشياطين والشرور كلها لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة وسعة صفات الكمال لله تعالى فأخبر أنه (الله) الذي له جميع معاني الألوهية وأنه لا يستحق الألوهية غيره فألوهية غيره وعبادة غيره باطلة فلا معبود بحق سواه، وأنه (الحي) الذي له جميع معاني الحياة الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم المحيط بكل شيء الكامل من كل وجه، فالحي يتضمن جميع الصفات الذاتية وأنه (القيوم) الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع مخلوقاته وقام بها فأوجدها وأبقاها وأمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها فالقيوم يتضمن جميع صفات الأفعال ولهذا ورد أن اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) فإن هذين الاسمين الكريمين يدخل فيهما جميع الكمالات الذاتية والفعلية، ومن كمال حياته وقيوميته أنه (لا تأخذه سنة) أي نعاس (ولا نوم) لأنهما إنما يعرضان للمخلوق الذي يعتريه الضعف والعجز والانحلال وينزه عنهما ذو العظمة والكبرياء والكمال. وأخبر أنه مالك لجميع ما في السماوات وما في الأرض فكلهم عبيده ومماليكه لا يخرج أحد منهم عن هذا الوصف اللازم { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } (1) ، فهو سبحانه المالك لجميع الممالك وهو الذي اتصف بصفات الملك الكامل والتصرف التام النافذ والسلطان والكبرياء.
__________
(1) سورة مريم آية 93.(1/45)
ومن تمام ملكه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك لا يقدمون على الشفاعة لأحد حتى يأذن لهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، ولا يرضى إلا عن من قام بتوحيده واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب وأسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه. ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة#
التي لا نهاية لها وما خلفهم من الأمور الماضية التي لا حد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } سورة غافر آية 19، وأن الخلق لا يحيط أحد منهم بشيء من علم الله ولا معلوماته إلا بما شاء منهما وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية وهو جزء يسير جدًا بالنسبة إلى علم الله ومعلوماته كما قال أعلم الخلق به وهم الرسل والملائكة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) آية (32) من سورة البقرة. ثم أخبر عن عظمته وجلاله وأن كرسيه وسع السماوات والأرض وأنه قد حفظهما بما فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات التي جعلها الله في مخلوقاته ومع ذلك فلا يؤوده حفظهما أي لا يثقله لكمال عظمته وقوة اقتداره وسعة حكمته في أحكامه (وهو العلي) بذاته على جميع مخلوقاته وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي بقهره الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات وخضعت له الصعاب وذلت له الرقاب وهو (العظيم) الجامع لصفات العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب وتعظمه الأرواح وهو الكبير المتعال الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه سبحانه وتعالى. فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني وأفرضها على العباد يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ويحق لمن قرأها متدبرًا متفهمًا أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان وأن يكون محفوظًا بذلك من شرور الشيطان.
ما يستفاد من آية الكرسي:(1/46)
1- إثبات الألوهية لله تعالى ونفيها عما سواه.
2- إثبات صفة الحياة لله سبحانه المتضمنة لجميع الصفات الذاتية.
3- إثبات صفة القيوم لله المتضمنة لجميع صفات الأفعال.
4- تنزيه الله عن السنة والنوم لأنهما ينافيان كمال حياته وقيوميته.
5- إثبات سعة ملكه وانفراده بملك السماوات والأرض وما فيهن.
6- إثبات الشفاعة بإذنه لمن رضي قوله وعمله.
7- إثبات صفة العلم الواسع لله، وأنه محيط بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها وأنه سبحانه لا ينسى ولا يغفل ولا يلهيه شأن عن شأن سبحانه وتعالى.
8- أن الخلق لا يحيطون بشيء من علم الله إلا بمشيئته ولا يعلمون إلا ما علمهم.
9- عظمة الكرسي الدالة على عظمة الله تعالى.
10- بيان قدرة الله وكماله وأنه لا يعجزه شيء.
11- إثبات علو الله على خلقه بكل أنواع العلو فهو العلي بذاته وقدره وقهره.#
12- إثبات المشيئة لله.
13- إثبات عظمة الله وكبريائه.
14- الرد على المشركين القائلين بأن أصنامهم تشفع لهم.
15- الرد على من زعم أنَّ الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها.
16- إثبات صفات الكمال كلها لله ونفي النقائص كلها عنه تعالى.
17- أن هذه الآية تحفظ قارئها من الشيطان والشرور.
18- أنَّها اشتملت على اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وهو (الحي القيوم).#
15- ثواب الإيمان والعمل الصالح
قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } سورة البقرة آية 277.(1/47)
يخبر الله تعالى أن الذين صدَّقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والحساب والجزاء والصراط والميزان وصحف الأعمال والجنة والنَّار والوعد والوعيد والثواب والعقاب، وصدقوا بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وصدقوا بالقدر خيره وشره، وصدقوا بكل ما أخبر الله به في كتابه وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعملوا بمقتضى هذا التصديق أعمالا صالحة من صلاة وصدقة وزكاة وصيام وحج وبر والدين وصلة أرحام وإحسان إلى جيران ويتامى ومساكين وأبناء سبيل، وذكر الله ودعاء واستغفار، وعملوا بكل ما يستطيعون من الأعمال الصالحة التي أمر الله بها ورسوله وأقاموا الصلاة المفروضة في وقتها وجماعتها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وأعطوا الزكاة المفروضة لمستحقيها فهؤلاء الذين قاموا بهذه العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة المتضمنة للإخلاص لله والإحسان إلى خلقه هؤلاء المؤمنون الصادقون في إيمانهم المخلصون لربهم سيجدون ثوابهم مدخرًا لهم عند الله أحوج ما يكونون إليه ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموال وأولاد وضيعة لأنهم أتوا بأسباب الأمن والراحة والطمأنينة والسعادة هؤلاء السعداء سوف تنزل عليهم الملائكة عند الموت تبشرهم وتطمئنهم وتهنئهم كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } (1) فنسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم وأن لا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
ما يستفاد من هذه الآية:
1- أنه لابد مع الإيمان من العمل الصالح، وهو الخالص لله الموافق للسنة.
2- فضل الإيمان والعمل الصالح.
3- فضل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
__________
(1) سورة فصلت آية 30.(1/48)
4- بيان ثمرة الإيمان والعمل الصالح وهو الثواب العظيم والأمن من الخوف مما يستقبل وعدم الحزن على ما فات.
5- أنه لا اعتبار للعمل ولا ثواب عليه ما لم يكن صالحًا.
6- أن الله تعالى مدح المؤمنين المطيعين لأمره المحسنين إلى خلقه وأخبر عما أعد لهم من الكرامة يوم القيامة.#
16- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإرشاد الله إلى دعائه واستجابته
قال الله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
سورة البقرة آية 285 – 286.(1/49)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلة كفتاه أي من جميع الشرور وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان بجميع أصوله في قوله: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) الآية وأخبر في هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين آمنوا بهذه الأصول العظيمة وبجميع الرسل وجميع الكتب ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض وكفر ببعض كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة. وفي قرن المؤمنين بالرسول والإخبار عنهم جميعًا بخبر واحد شرف عظيم للمؤمنين وأن النبي صلى الله عليه وسلم مشارك للمؤمنين في الخطاب الشرعي له وقيامه التام به وأنه فاق المؤمنين بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه (وقالوا سمعنا وأطعنا) هذا التزام من المؤمنين عام لجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد، ومضمون ذلك تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به، وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات وما ارتكبوه من المحرمات، وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة. والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقال قد فعلت، فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعًا، ومن أفرادهم إذا لم يمنع من ذلك مانع وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ والنسيان وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل ولم يحملهم من المشاق والآصار والأغلال ما حمله على من قبلهم ولم يحملهم فوق طاقتهم وقد غفر لهم ورحمهم ونصرهم على القوم الكافرين، فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبما من به علينا من التزام دينه أن يحقق لنا ذلك وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه وأن يصلح أحوال المسلمين بمنه وكرمه وأن ينصرهم على القوم الكافرين. آمين يا رب العالمين.#
__________
(1) في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.(1/50)
وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عشرة أحاديث في فضل هاتين الآيتين منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي» رواه أحمد وعن علي - رضي الله عنه - قال: «ما كنت أرى أحدًا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش» رواه ابن مردويه.
ما يستفاد من هاتين الآيتين الكريمتين:
1- امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأمر ربهم في الإيمان به وبكتبه ورسله.
2- أن المؤمنين يصدقون بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله فلا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
3- إثبات علو الله على خلقه لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل.
4- شرف المؤمنين حيث قرن إيمانهم بإيمان الرسول وأنه قد فاقهم بذلك.
5- أن المؤمنين قد التزموا بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وأنهم قد سمعوا وأطاعوا وانقادوا للأوامر والنواهي الشرعية.
6- إرشاد الله عباده المؤمنين إلى سؤاله وأنه قد قبل منهم وغفر لهم ورحمهم وعفى عنهم ونصرهم على القوم الكافرين حيث نصروه وجاهدوا في سبيله.
7- فضل هاتين الآيتين ونفعهما، وأنهما يكفيان من قرأهما جميع الشرور.
8- أن المخطئ والناسي لا حرج عليه.
9- أن الوجوب يتعلق بالاستطاعة.
10- يسر الإسلام وسماحته وسهولته.
11- أن كل إنسان سيجزى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.#
من سورة آل عمران
1- الإسلام هو الدين المقبول المرضي عند الله
قال الله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ } سورة آل عمران آية 19.(1/51)
يخبر الله تعالى أن الدين المعتبر والمرضي والمقبول عند الله هو الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله في الظاهر والباطن في القول والعمل والاعتقاد وذلك بما شرعه الله على ألسنة رسله قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (1) فمن دان بغير دين الإسلام فهو لم يعبد الله حقيقة لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله وقد أمر الله المؤمنين أن يدخلوا في جميع شرائع الإسلام كلها القولية والاعتقادية والعملية في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } (2) ونهاهم عن اتباع طرق الشيطان العدو المبين الذي يدعو الناس إلى الكفر والمعاصي والانسلاخ عن دين الإسلام حتى يكونوا من أصحاب السعير.
وقد أخبر الله أنه أكمل لنا ديننا بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة في الأصول والفروع فلا يتطرقه نقص أبدًا؛ ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه وأتم الله علينا نعمه ظاهرة وباطنة ورضي لنا الإسلام دينًا فلا يسخطه أبدًا، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن دين الإسلام بني على خمسة أركان وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا فمن أتى بهن كاملات فقد استكمل الإيمان واستحق الفوز من ربه والرضوان.
__________
(1) سورة آل عمران آية 85.
(2) سورة البقرة آية 208.(1/52)
وقد سأل معاذ بن جبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار فاستعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤاله وأخبره أن هذا العمل يسير على من يسره الله عليه وأرشده إلى الإتيان بهذه الأركان الخمسة وإن كانت الجنة لا تنال إلا برحمة الله فرحمة الله قريب من المحسنين الذين يعملون بشرائع الإسلام كلها#(1/53)
ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» رواه البخاري ومسلم فدل هذا الحديث الصحيح على أن تارك الصلاة يقتل ومانع الزكاة يقتل، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وقال: «إن الزكاة حق المال». وروى مسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام أدخل الجنة قال: نعم» ومعنى حرمت الحرام اجتنبته ومعنى أحللت الحلال فعلته معتقدًا حله فدل هذا الحديث على أن من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة. فالإسلام يتطلب فعل الواجبات كلها رغبة في ثوابها، وترك المحرمات كلها خوفًا من عقابها وأركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض ودين الإسلام وحدة متماسكة فهو قول واعتقاد وعمل وهو حب وبغض؛ حب الله ورسوله وحب لما يحبه الله ورسوله وبغض لما يبغضه الله ورسوله من الأشخاص والأعمال، والإسلام فعل وترك فعل للواجبات وترك للمحرمات. وقال عطاء الخراساني: الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئًا دون شيء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالجنة والحياة بعد الموت هذه واحدة والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة.(1/54)
والزكاة طهور من الذنوب ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة فمن فعل هؤلاء الثلاث ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدًا لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج فلم يحج ولم يوص بحجته ولم يحج عنه بعض أهله لم يقبل الله منه الأربع التي قبله (1) .
ما يستفاد من هذه الآية:
1- وجوب الإسلام.
2- معرفة الإسلام وتفسيره.
3- فضل الإسلام.
4- وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه.
5- إن الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم.#
2- انفراد الله بالملك والتصرف وقدرته على كل شيء
قال الله تعالى: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } سورة آل عمران آية 26 – 27.
__________
(1) انظر المجموعة الجليلة للشيخ فيصل بن مبارك ص 395.(1/55)
يأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أصلا وغيره تبعًا أن يقول عن ربه معلنًا بتفرده بتصريف الأمور وتدبير العالم العلوي والسفلي، واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق والتصريف المحكم وأنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، فالأمر أمر الله والتدبير له فليس له معارض في تدبيره ولا معاون في تقديره، وكما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس فهو المتصرف بنفس الزمان يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يدخل هذا على هذا ويحل هذا محل هذا ويزيد في هذا ما ينقص من هذا ليقيم بذلك مصالح خلقه ويخرج الحي من الميت كما يخرج الزرع والأشجار المتنوعة من بذورها والمؤمن من الكافر ويخرج الميت من الحي كما يخرج الحبوب والنوى والزروع والأشجار والبيضة من الطائر، فهو الذي يخرج المتضادات بعضها من بعض وقد انقادت له جميع العناصر. وقوله: (بيدك الخير) أي الخير كله منك ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشر فإنه لا يضاف إلى الله تعالى لا وصفًا ولا اسمًا ولا فعلا ولكنه يدخل في مفعولاته ويندرج في قضائه وقدره فالخير والشر كله داخل في القضاء والقدر، فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه ولكن الشر لا يضاف إلى الله فلا يقال بيدك الخير والشر بل يقال بيدك الخير كما قال الله وقاله رسوله وقوله: (وترزق من تشاء بغير حساب) أي: بغير حد ولا مقدار بالأسباب التي ينال بها رزقه وقد ذكرها الله في غير هذه الآية كقوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق إلا من الله
ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها، وأن يحرصوا على ما ينفعهم
ويستعينوا بالله.
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب» في هذه الآية من سورة آل عمران (قل اللهم#(1/56)
مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (1) .
ما يستفاد من هاتين الآيتين الكريمتين:
1- فيهما تنبيه على شكر نعمة الله على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته حيث نقل النبوة من بني إسرائيل إلى هذا النبي الأمي العربي صلوات الله وسلامه عليه ونسخ بشريعته سائر الشرائع وفضل دينه على سائر الأديان وأنزل عليه القرآن خير كتبه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس فلله الحمد والشكر والثناء دائمًا وأبدًا.
2- انفراد الله تعالى بالملك والسلطان وتصريف أمور خلقه.
3- إن خيرات الدنيا والآخرة كلها من الله.
4- قدرة الله الشاملة لكل شيء.
5- من آيات الله الليل والنهار واختلافهما في الزيادة والنقصان.
6- الحكمة في إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل إقامة مصالح الخلق.
7- قدرة الله على إخراج المتضادات بعضها من بعض.
8- رزق الله من شاء من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه.
9- تعليم الله عباده كيف يثنون عليه ويسألونه ويشكرونه.
10- معرفة نعم الله على عباده والإرشاد إلى شكرها.#
3- دليل محبة الله اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -
قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (31 – 32) آل عمران.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 1/356.(1/57)
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه مسلم. وهذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقًا إلى محبته ورضوانه فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه. فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وما صفتها فأجاب بقوله: (قل أطيعوا الله والرسول) بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخبر (فإن تولوا) عن ذلك فهذا هو الكفر (والله لا يحب الكافرين) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري.
ما يستفاد من الآيتين:
1- أن من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فهو كاذب في دعواه.
2- علامة محبة الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
3- أن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته سبب لمحبة الله لعبده ومغفرة ذنوبه.
4- حقيقة اتباع الرسول؛ هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخبر.
5- أن الإعراض عن طاعة الله ورسوله كفر بالله.
6- أن الله لا يحب الكافرين بل يبغضهم وينتقم منهم.#
7-
وعيد الكفرة والعصاة.
8- الحث على الحب في الله والبغض في الله وأن عليه مدار الدين.
9- فضل الحب في الله والبغض في الله وأعظم منه محبة الله لعبده.(1/58)
10- إثبات صفة المحبة والمغفرة والرحمة لله تعالى.#
4- تقوى الله حق تقاته وشكر نعمه والاعتصام بحبله المتين ودينه القويم
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } سورة آل عمران آية 102 – 105.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر (1) .
__________
(1) ذكره عنه ابن كثير وقال رواه - ابن أبي حاتم وقال هذا إسناد صحيح موقوف.(1/59)
أمر الله عباده أن يتقوه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا؛ عليه فإن من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) أي تمسكوا بدين الله وكتابه واجتمعوا عليه ولا تفرقوا فيه (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا) أي اذكروا ما أنتم عليه قبل نعمة الإسلام حين كنتم أعداء متفرقين فجمعكم الله بهذا الدين وألف بين قلوبكم وجعلكم إخوانًا (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) أي كنتم قبل الإسلام على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم فأنقذكم منها بالإيمان وأخرجكم من الشقاء ونهج بكم طريق السعادة (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) إلى شكر الله على نعمة الإسلام، والتمسك به وأمرهم بتتميم هذه الحالة، والسبب الأقوى الذي يتمكنون به من إقامة دينهم بأن يتصدى منهم طائفة يحصل فيها الكفاية (يدعون إلى الخير) وهو الدين كله أصوله وفروعه وشرائعه (ويأمرون بالمعروف) وهو ما عرف حسنه شرعًا وعقلا (وينهون عن المنكر) وهو ما عرف قبحه شرعًا وعقلا (وأولئك هم المفلحون) المدركون لكل مطلوب الناجون من كل مرهوب (ولا تكونوا كالذين تفرقوا#(1/60)
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) ينهى الله تعالى المؤمنين أن يسلكوا مسلك المتفرقين الذين جاءهم الدين والبينات الموجبة لقيامهم به واجتماعهم عليه فتفرقوا واختلفوا ولم يصدر ذلك منهم عن جهل وضلال وإنما صدر عن علم وبغي وقصد سيء فتركوا العمل بدينهم والدعوة إليه مع قيام الحجة عليهم، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» وفي رواية «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
ما يستفاد من هذه الآيات:
1- وجوب تقوى الله بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى.
2- الحث على طاعة الله وذكره وشكره على نعمة الإسلام.
3- الحث على الاستقامة على دين الله حتى يموت الإنسان عليه لأن الأعمال بالخواتيم.
4- وجوب الاعتصام بدين الله والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاجتماع على ذلك.
5- تحريم التفرق والاختلاف في دين الله والوعيد على ذلك.
6- التذكير بنعمة الإسلام والاجتماع عليه بعد الفرقة والعداوة والاختلاف.
7- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلزام الناس بطاعة الله ونهيهم عن معاصيه.
8- فضل تعلم العلم وتعليمه والعمل به والدعوة إليه بالوعظ والإرشاد والخطابة.
9- يدخل في الآية الكريمة كل من دعى الناس إلى خير وقام بنصيحة على وجه العموم والخصوص.
10- معرفة المعروف والمنكر.
11- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإذا تركه الكل أثموا.
12- الحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.#
5- (النهي عن أكل الربا والحث على المسارعة إلى مغفرة الله وجنته)(1/61)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } سورة آل عمران 130 – 136.(1/62)
يقول الله تعالى: ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافًا مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يكون كثيرًا مضاعفًا وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الدنيا وفي الآخرة ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها وأن يتركوا ما يوجب دخولها من الكفر والفسوق والمعاصي ومن ذلك أكل الربا كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } (2) وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه في الحديث الذي رواه مسلم. والربا في اللغة الزيادة وفي الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة والأعيان المنصوص على الربا فيها ستة كما في حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد». رواه مسلم.#
__________
(1) سورة البقرة آية 275.
(2) سورة البقرة آية 278 – 279.(1/63)
ومن أعظم الربا ما يتعاطاه أهل البنوك المرابون وغيرهم وهو قبولهم الودائع من النقود في بنوكهم مقابل نسبة من الربح يقبضها صاحب الوديعة وكذلك إقراضهم مثلا ألفًا لمدة سنة على أن يدفع المقترض ألفًا وخمسين ونحو ذلك وغيره من المعاملات الربوية التي نهى الله عنها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل قرض جر نفعًا فهو ربا وكل حيلة إلى الربا
فهي ربا.(1/64)
ثم قال تعالى: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } يأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ويخبر أن ذلك من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (1) وقال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } (2) الآيتين. ثم أمر تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض فكيف بطولها وذلك بالمبادرة إلى طاعته والمنافسة في خدمته فقد أعد الله الجنة للمتقين فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها ثم وصف الله المتقين وأعمالهم فقال: { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي ينفقون أموالهم في مرضات الله وفي سبيله في الشدة والرخاء والعسر واليسر والمنشط والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال كما قال تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } (3) فلا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه والإحسان إلى خلقه من أقربائهم وغيرهم بأنواع البر { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } أي إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية بل يكظمون ما في قلوبهم من الغيظ بمعنى يكتمونه فلم يعملوا به وصبروا عن مقابلة المسيء إليهم بقول أو فعل فعفوا عنه والعفو أبلغ من الكظم لأن العفو ترك المؤاخذة مع المسامحة عن المسيء { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ } (4) وفي الحديث: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا» رواه أبو داود وغيره.
__________
(1) سورة الأعراف آية 56.
(2) سورة الأعراف آية 156.
(3) سورة البقرة آية 274.
(4) سورة الشورى آية 40.(1/65)
فالكاظمون الغيظ لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله ومع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال: (والله يحب المحسنين) فهذا من#
مقامات الإحسان والإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق وإحسان إلى المخلوقين. فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» رواه مسلم.(1/66)
فتستحضر عظمته وتعبده كأنك تشاهده فإن لم تقدر على ذلك فاعلم أنه يراك ويسمعك ولا تخفى عليه خافية، وأما الإحسان إلى المخلوقين فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ودفع الشرور عنهم فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليم جاهلهم ووعظ غافلهم والنصيحة لعامتهم وخاصتهم والسعي في جمع كلمتهم وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم فقال: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) أي إذا صدر منهم أعمال سيئة كبيرة أو ما دون ذلك «ذكروا الله» أي ذكروا عظمة الله وعلمه بهم ورؤيته لهم وذكروا وعده ووعيده وثوابه وعقابه وجنته وناره فبادروا إلى التوبة والاستغفار وذكروا ربهم وما توعد به العاصين من العقاب ووعد به المتقين من الثواب فسألوه المغفرة لذنوبهم والستر لعيوبهم مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها ولهذا قال: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير تائبين ولا مقلعين عنها ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» رواه أبو داود وغيره وحسنه ابن كثير. وقوله: «وهم يعلمون» أي يعلمون أن من تاب تاب الله عليه كما قال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } (1) وقال سبحانه { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا } (2)
__________
(1) سورة التوبة آية 104.
(2) سورة النساء آية 110..(1/67)
ثم ذكر جزاءهم فقال: «أولئك» أي الذين ينفقون أموالهم في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والمستغفرين لذنوبهم «جزاؤهم مغفرة من ربهم» أي مغفرة لذنوبهم تزيل عنهم كل محذور { وجنات تجري من تحتها الأنهار } فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من الشراب اللذيذ والمأكل الهنيء والملبس الناعم الفاخر والأزواج الحسان الناعمات الراضيات الجميلات والنعيم المقيم والبهجة والحبور والخير والسرور والقصور والمنازل الأنيقة العاليات والأشجار المثمرة والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات «خالدين فيها» أي مقيمين فيها على الدوام#
لا يخرجون منها ولا ينقطع عنهم نعيمها ولا يبغون عنها حولا ويقال لهم (إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا (1) وإن لكم أن يحل الكريم عليكم رضوانه فلا يسخط عليكم بعده أبدًا (ونعم أجر العاملين) أي نعم الثواب ثوابهم ونعم الجزاء جزاؤهم ونعمة الجنة مأواهم ومستقرهم وسكناهم جزاء عملهم الصالح عملوا قليلا فأجروا كثيرًا وتعبوا قليلا فاستراحوا دائمًا فعند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يجد العامل أجره كاملا موفرًا.
نسأل الله الكريم من فضله.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- أن الإيمان هو السبب الأعظم الموجب لامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
2- تحريم الربا بأنواعه والوعيد الشديد عليه وشدة شناعته لما فيه من الظلم.
3- الحث على تقوى الله بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى وأن ترك الربا من موجبات التقوى وأن الفلاح متوقف على التقوى.
4- الحذر من نار جهنم بترك ما يوجب دخولها من الكفر والفسوق والمعاصي.
5- أن طاعة الله ورسوله توجب حصول الرحمة ودخول الجنة.
__________
(1) كما في الحديث الذي رواه مسلم.(1/68)
6- الحث على المسارعة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات الموجبة لمغفرة رب الأرض والسماوات ودخول الجنات العاليات.
7- أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون المتقون لله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
8- معرفة أوصاف المتقين والترغيب فيها والحث عليها وهي إنفاق الأموال ابتغاء مرضات الله في السراء والضراء والعسر واليسر وكظم الغيظ والعفو عن الناس والاستغفار من الذنوب.
9- الحث على الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى المخلوقين.
10- إثبات صفة المحبة لله تعالى وأنه يحب المحسنين.
11- الحث على التوبة والاستغفار في كل وقت من جميع الذنوب والمعاصي.
12- وعيد المصرين على ذنوبهم بعدم التوبة والاستغفار منها.
13- عظمة نعيم الجنة ودوامه وخلود أهلها فيها أبدًا.
14- أن الأعمال تدخل في الإيمان ووجه الدلالة يتم بذكر الآية التي في سورة الحديد#
نظير هذه الآية وهي قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله وفي هذه الآية قال: أعدت «للمتقين» ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية فدل على أن المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون.
15- أن الدين والإيمان قول واعتقاد وعمل.#
6- (أهداف ومقاصد رسالة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - )(1/69)
قال الله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } سورة آل عمران 164 هذه المنة التي امتن الله بها على عباده أكبر المنن وأجلها وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي جمع جميع المحاسن الموجودة في الرسل ومن كماله العظيم هذه الآثار التي جعلها الله نتيجة رسالته التي بها كمال للمؤمنين وعلمًا وعملا وآدابًا وأخلاقًا وبها زال عنهم كل شر وضرر فبعثه الله من أنفسهم وأنفسهم وقبيلتهم يعرفون نسبه أشرف الأنساب وصدقه وأمانته وكماله الذي فاق به الأولين والآخرين ناصحًا لهم مشفقًا عليها حريصًا على هدايتهم ورشدهم وصلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة (يتلو عليهم آياته) فيعلمهم ألفاظها ويشرح لهم معانيها ويدعوهم إلى العمل بها «ويزكيهم» يطهرهم من الشرك والمعاصي ورذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية وسائر الخصال الذميمة ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويحثهم على الأخلاق الجميلة (ويعلمهم الكتاب والحكمة) أي القرآن والسنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.(1/70)
فبالقرآن والسنة كمل الله للرسول ولأمته الدين وبهما حصل العلم بأصول الدين وفروعه؛ وبهما حصلت جميع العلوم النافعة وما يترتب عليها من الخيرات وزوال الشرور؛ وبهما حصل العلم اليقيني بجميع الحقائق النافعة؛ وبهما حصلت الهداية والصلاح للبشر فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم المعلم لهذين الأمرين الذين تتفجر منهما ينابيع العلوم كلها فعلم صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة وأوقفهم على حِكَم الأحكام وأسرارها فكانت حياته كلها أقواله وأفعاله وتقريراته وهديه وأخلاقه الظاهرة والباطنة وسيرته الكاملة المتنوعة في كل فن من الفنون تعليمًا منه لأمته وشرحًا للكتاب والحكمة فجمع لهم بين تعليم الأحكام الأصولية والفرعية وما به تدرك وتنال والطرق التي تفضي إليها عقلا ونقلا وتفكيرًا وتدبرًا واستخراجًا للعلوم الكونية من مظانها وينابيعها ويبين لهم فوائد ذلك كله وثمراته وشرح لهم الصراط المستقيم -اعتقاداته وأخلاقه وأعماله وما لسالكه عند الله من الخير العاجل والآجل وما على المنحرف عنه من العقاب والضرر العاجل والآجل، وكان الناس قبل مجيء هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعثته في غي وضلال وفي جهل وظلمات وفي فقر وفاقة وفي تفرق كلمة واختلاف وجهات فهدى الله به من الضلالة وعلم به من الجهالة وأرشد به من الغي وجمع به بعد الفرقة وأغنى به بعد العيلة وكثر به بعد القلة وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا#
غلفًا وبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله جهاده حتى أتاه اليقين من ربه فأكمل به الدين وأتم به النعمة فخرج الناس بتعليماته وهدايته من جميع الضلالات وانجالت عنهم الشرور المتنوعة والجهالات وتم لهم النور الكامل وانقشعت عنهم الظلمات فيا لها نعمة ما أعظمها وأجلها ومنة ما أكبرها وأكملها لا يقدر قدرها ولا يحصى شكرها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/71)
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- منة الله الكبرى ونعمته العظمى ببعثة هذا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكونه من جنس أمته بحيث يتمكنون من مخاطبته.
2- أنه صلى الله عليه وسلم بلغ عن ربه رسالته وأدى أمانته ونصح أمته وعلمهم القرآن والسنة ألفاظهما ومعانيهما ودعاهم إلى العمل بهما وبين لهم أحكامهما وحكمهما.
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم هدى أمته ودعاهم إلى ما فيه رشدهم وسعادتهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.
4- أنه صلى الله عليه وسلم طهر أمته من ضلال الجاهلية وعقائدهم وأخلاقهم وأدناسهم التي كانوا ملتبسين بها.
5- وجوب شكر الله تعالى على هذه المنة الكبرى والنعمة العظمى باللسان والقلب والجوارح وذلك بالإيمان بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وتصديق خبره وطاعة أمره واجتناب نهيه والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ونسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتمسك بسنته والاهتداء بهديه وأن يرزقنا شفاعته ويسقينا من حوضه ويحشرنا في زمرته إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلوات الله وسلامه على خير خلقه وأنبيائه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.#
من سورة النساء
1- (النهي عن أكل الأموال بالباطل وقتل النفس ووعيد من فعل ذلك)
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } (1) .
__________
(1) سورة النساء آية 29 – 30.(1/72)
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على درجة البطر والإسراف؛ لأن هذا من الباطل وليس من الحق، ثم إنه لما حرم أكلها بالباطل أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع المشتملة على الشروط من التراضي وغيره (ولا تقتلوا أنفسكم) أي لا يقتل بعضكم بعضًا ولا يقتل الإنسان نفسه ويدخل في ذلك الإلقاء باليد إلى التهلكة وفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك. (إن الله كان بكم رحيمًا). ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود.
ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات وأنواع الحرف والإجارات فقال: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) أي فإنها مباحة لكم وشرط التراضي مع كونها تجارة لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا؛ لأن الربا ليس من التجارة بل هو مخالف لمقصودها وأنه لابد وأن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا، ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلومًا لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرهن وأن يكون مقدورًا على تسليمه لأن غير المقدور عليه شبيه... ببيع القمار فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضى فلا ينفذ عقده ثم ختم الآية بقوله (إن الله كان بكم رحيمًا) ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها ثم قال: (ومن يفعل ذلك) أي أكل الأموال بالباطل وقتل النفوس (عدوانًا وظلمًا) أي لا جهلا ولا نسيانًا (فسوف نصليه نارًا) أي عظيمة كما يفيده التنكير (وكان ذلك على الله يسيرًا) أي سهلا هينًا
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تحسى سمًّا#(1/73)
فقتل نفسه فسمه يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا» رواه البخاري ومسلم وغيرهما (1) وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة» الجماعة (2) .
ما يستفاد من الآيتين:
1- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل الحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك.
2- إباحة التجارة والحق عليها بصدق وأمانة.
3- اشتراط التراضي بين البائع والمشتري.
4- تحريم قتل الإنسان نفسه وقتل غيره.
5- أن العقود تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد.
6- تحريم بيع الغرر بجميع أنواعه لخلوه من الرضى.
7- تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
8- إثبات صفة الرحمة لله على ما يليق بجلاله وعظمته.
9- تحريم العدوان والظلم بجميع أنواعه.
10- الوعيد الشديد على أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس التي حرم الله قتلها.#
2- (تكفير الذنوب الصغائر لمن اجتنب الكبائر)
__________
(1) قوله: يتردى، التردي هو الوقوع من أعلى إلى أسفل. وقوله: يتوجأ؛ أي يضرب نفسه.
(2) انظر تفسير ابن كثير جـ 1 ص 480 وتفسير الخازن 1/341.(1/74)
قال الله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } سورة النساء 31 تكفل الله في هذه الآية لمن اجتنب الكبائر والمحرمات؛ أن يكفر عنه الصغائر من السيئات ويدخله الجنة وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين بأن وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريمًا كثير الخير وهو الجنة المشتملة على كل نعيم مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبًا كبيرة كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان كما قال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» رواه مسلم. والكبائر ما فيه حد في الدنيا كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر أو جاء فيه وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب عليه أو تهديد أو نفي إيمان أو لعن فاعله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كبيرة وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل وما هن يا رسول الله قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» رواه البخاري ومسلم وفي الحديث: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» رواه أبو داود والترمذي وحسنه ابن كثير.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- أن الذنوب قسمان صغائر وكبائر.(1/75)
2- أن من قام بأداء الواجبات واجتنب الكبائر من المحرمات غفرت له الصغائر واستحق دخول الجنة.
3- أن اجتناب الكبائر سبب لتكفير الصغائر وأنه مشروط باجتناب الكبائر.
4- وجوب اجتناب الكبائر والخوف من الوقوع فيها.
5- الترغيب في رجاء رحمة الله ومغفرته ودخول جنته والجد في أسباب ذلك.
6- سعة فضل الله وكرمه وجوده وإحسانه ورحمته.#
3- (آية الحقوق العشرة)
قال الله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } . سورة النساء آية 36 – 37.(1/76)
يأمر الله تعالى عباده بما خلقهم له وهو عبادته وحده لا شريك له والدخول تحت رق عبوديته والانقياد لأوامره ونواهيه محبة وذلا وخضوعًا وإخلاصًا لله في جميع العبادات الظاهرة والباطنة، وينهى عن الشرك به شيئًا لا شركًا أصغر ولا أكبر لا ملكًا ولا نبيًا ولا وليًا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا بل الواجب إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد.(1/77)
ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب فقال: (وبالوالدين إحسانًا) أي أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (وبذي القربى) أيضًا إحسانًا ويشمل ذلك جميع الأقارب بأن يحسن إليهم بالقول والفعل (واليتامى) الذي فقدوا آباءهم وهم صغار دون البلوغ فلهم حق على المسلمين سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم (والمساكين) وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر فلم يحصلوا على كفايتهم في طعامهم وكسوتهم وسكناهم ولا كفاية من يمونون فأمر الله بالإحسان إليهم بسد خلتهم وبدفع فاقتهم وضرورتهم والحض على ذلك وبالقيام بما يمكن منه (والجار ذي القربى) أي الجار الذي بينك وبينه قرابة فله حقان: حق الجوار، وحق القرابة؛ فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف وكذلك الجار الجنب الذي ليس له قرابة وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًا فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل (والصاحب بالجنب) يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه من مساعدته على أمور دينه ودنياه والنصح له والوفاء معه في اليسر والعسر والمنشط والمكره.#(1/78)
وأن يحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد (وابن السبيل) وهو الغريب الذي احتاج في بلد الغربة فله حق لغربته على المسلمين ولشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعضه وبإكرامه وتأنيسه وبتزويده ما يوصله إلى بلده (وما ملكت أيمانكم) من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما تحملوه وتأديبهم لما فيه مصلحتهم فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه المتواضع لعباده المنقاد لأمر الله وشرعه الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل (إن الله لا يحب من كان مختالا) معجبًا بنفسه متكبرًا على الخلق (فخورًا) بقوله يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله (الذين يبخلون) أي مع ما بهم من الاختيال والفخر يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة (ويأمرون الناس بالبخل) بأقوالهم وأفعالهم (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين فلهذا قال تعالى: (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) أي كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البذل والعطاء والاهتداء أهانهم الله بالعذاب الأليم والخزي الدائم فعياذًا بك اللهم من كل سوء.
ما يستفاد من هاتين الآيتين:
1- وجوب عبادة الله وحده لا شريك له وتوحيده والإخلاص له.
2- تحريم الشرك بالله شيئًا في القول والعمل والاعتقاد.
3- وجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما بالقول والفعل وتحريم عقوقهما وعدم الإحسان إليهما.
4- الحث في الإحسان إلى الأقارب بالقول والفعل وتحريم قطيعة الأرحام.
5- الترغيب في كفالة اليتيم وتربيته والإحسان إليه.
6- الحث على الإحسان إلى الفقراء والمساكين والقيام بكفايتهم.(1/79)
7- الحث على إكرام الجار والإحسان إليه وتعاهده بالصدقة والهدية والدعوة وخصوصًا الجار القريب المسلم.
8- الحث على الإحسان إلى الصاحب أيًا كان سبب الصحبة وفي أي مكان وزمان وذلك بالقول والفعل والمال والجاه والنصيحة.#
9-
الحث على إكرام المسافر والإحسان إليه والصدقة عليه وإعطائه ما يوصله إلى بلده ويعينه على سفره.
10- الحث على الإحسان إلى المماليك من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم.
11- تحريم الإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق وأن الله لا يحب من هذه صفته.
12- تحريم ثناء الإنسان على نفسه ومدحها على وجه الفخر على عباد الله.
13- تحريم البخل بالواجبات وأمر الناس بذلك بالقول والفعل.
14- تحريم كتم العلم والبخل به على عباد الله بعدم تذكير الجاهل ووعظ الغافل.
15- وعيد الكافرين الجاحدين لآيات الله والعاصين رسله والمتكبرين على عباده بأن الله قد أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم -عياذًا بالله من ذلك.#
4- (عدم مغفرة الله لمن لقيه وهو مشرك)
قال الله تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } سورة النساء آية 48.
الشرك بالله أكبر الكبائر وهو نوعان: أحدهما: صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله كأن يجعل لله ندًا يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله أو يعبده مع الله من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو ولي أو شيخ أو نجم أو ملك أو إنس أو جن من حي أو ميت أو غير ذلك، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر الله لصاحبه وهو مبطل لجميع الأعمال ومخرج عن الملة الإسلامية وصاحبه خالد مخلد في النار.(1/80)
والنوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل وسيلة إلى الشرك الأكبر ولم تبلغ رتبة العبادة كالياء والسمعة والحلف بغير الله. وصاحبه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو يحبط العمل الذي قارنه.
وقد أخبر الله في هذه الآية أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدًا من المخلوقين ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها لمن يشاء من عباده إذا اقتضت حكمته مغفرته فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين وفوق ذلك كله رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء وعمت كل مخلوق التي وعد بها أهل الإيمان والتوحيد، بخلاف المشرك فإنه قد سد على نفسه أبواب المغفرة وأغلق دونه أبواب الرحمة فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد ولا تفيده المصائب شيئًا وليس له يوم القيامة من شافعين ولا صديق حميم.
ولهذا قال تعالى: (ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا) أي ذنبًا كبيرًا. وقال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (1) وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق من تراب الناقص من جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي لا يملك لنفسه فضلا عمن عبده نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا بالخالق لكل شيء القادر على
كل شيء الكامل من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود في#
__________
(1) سورة لقمان آية 13.(1/81)
العذاب وحرمان الثواب (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب وأما التائب فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (1) أي لمن تاب إليه وأناب.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- عدم حصول المغفرة للمشركين بالله معه أحدًا في القول أو العمل والاعتقاد.
2- أن الله يغفر ما دون الشرك من الذنوب بأسباب المغفرة إذا اقتضت مشيئته ذلك.
3- أن الشرك أعظم الذنوب وأظلم الظلم وأقبح القبيح وأكبر الكبائر.
4- إثبات صفة المشيئة لله تعالى وأن ما شاء لابد من وقوعه.
5- الخوف من الشرك والتحذير منه صغيره وكبيره قليله وكثيره.
6- الترغيب في الرجاء والطمع في مغفرة الله ورحمته وبذل الجهد في أسباب ذلك.
7- الحث على التوبة إلى الله من جميع الذنوب والإنابة إليه بالإيمان والعمل الصالح.
8- وعيد المشركين بالخلود في العذاب الأليم في نار جهنم وحرمان النعيم المقيم في الجنة. عياذًا بوجه الله من ذلك.#
5- (الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر)
__________
(1) سورة الزمر آية 53.(1/82)
قال الله تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } . سورة النساء
58 – 59.
الأمانات كل ما اؤتُمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به فأمر الله عباده بأدائها أي كاملة موفرة لا منقوصة ولا مبخوسة ولا ممطولا بها ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله، ويدخل في الأمانات حقوق الله التي أوجبها على الإنسان وائتمنه عليها كالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة والزكاة والصيام والحج، وحقوق الآدميين كأداء الودائع ورد العواري وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران ونحو ذلك، وقد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لظلمه وجهله، ومن الأمانات الصدق في الحديث والوفاء بالوعد والعهد والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ومن ذلك رعاية الأهل والأولاد وتأديبهم وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم، فالقيام بأداء الواجبات كلها أمانة والتقصير فيها خيانة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } الأنفال
آية 27.(1/83)
{ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالعَدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض القليل من ذلك والكثير على القريب والبعيد والبر والفاجر والولي والعدو، والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به، ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: (إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا) وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية ويعلم من مصالح العباد ما لا يعلمون، ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أوامرهما الواجبة والمستحبة واجتناب نهيهما، وأمر بطاعة أولي الأمر وهم الولاة على الناس من الأمراء والعلماء والحكام والمفتين فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم#(1/84)
ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم طاعة لله ورغبة فيما عنده ولكن بشرط أن لا يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بطاعة الله ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية، ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنة رسوله فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية إما بصريحهما أو عمومهما أو إيماء أو تنبيه أو مفهوم أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبه لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين ولا يستقيم الإيمان إلا بهما فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة بل مؤمن بالطاغوت كما ذكر في الآية بعدها (ذلك خير وأحسن تأويلا) أي الرد إلى الله ورسوله والتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير وأحسن عاقبة ومآلا فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم.
ما يستفاد من هذه الآيات:
1- وجوب أداء الأمانات كلها المتعلقة بحقوق الله وحقوق خلقه إلى أهلها.
2- أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها فوجب ذلك.
3- أن الأمانة كالوديعة والعارية لا تدفع ولا تؤدي لغير صاحبها.
4- وجوب العدل في الأحكام بين الناس القريب منهم والبعيد والعدو والصديق.
5- وجوب معرفة العدل ليحكم به وهو الحق الذي شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام.
6- أن أمر الله بأداء الأمانة والحكم بين الناس بالعدل أوامر حسنة عادلة لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارها.(1/85)
7- إثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله.
8- وجوب طاعة الله ورسوله بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.
9- وجوب طاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء في المعروف ما لم يأمروا بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.#
10- وجوب رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
11- أن رد ما تنازع فيه الناس إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان إذ لا يستقيم دين إلا بهما وأن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة.
12- أن التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله خير للناس وأصلح لهم في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم. وبالله التوفيق.#
6- (وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم إيمان من لم يرض بحكمه ويسلم لأمره)
قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } سورة النساء 64 – 65.(1/86)
يخبر الله تعالى خبرا يتضمن الأمر والحث على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد له وأن الغاية والمقصود من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسل إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطاع من المطيع، وقوله (إلا بإذن الله) أي الطاعة من المطيع صادرة بأمر الله وقدره وقضائه. ثم أخبر الله سبحانه عن كرمه العظيم وجوده ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك) أي معترفين بذنوبهم (فاستغفروا الله) أي طلبوا منه المغفرة لذنوبهم بألسنتهم وقلوبهم (واستغفر لهم الرسول) أي طلب من ربه المغفرة لهم (لوجدوا الله توابًا رحيمًا) أي لتاب الله عليهم بمغفرته ظلمهم ورحمهم بقبول توبتهم والتوفيق لها والثواب عليها.
وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك.
ثم أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم «فيما شجر بينهم» أي في كل شيء يحصل فيه اختلاف بخلاف مسائل الإجماع فإنها لا تكون إلا مستندة إلى الكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق من نفوسهم ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر وطمأنينة نفس وانقياد في الظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام وانتفاء الحرج في مقام الإيمان والتسليم في مقام الإحسان فمن استكمل هذه المراتب وكملها فقد استكمل مراتب الدين كلها ومن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومن تركه مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين
وبالله التوفيق.#
ما يستفاد من هذه الآيات:
1- الحث على طاعة الرسول في فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والانقياد له في ذلك.(1/87)
2- إثبات عصمة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما يبلغونه عن الله وفيما يأمرون به وينهون عنه لأن الله أمر بطاعتهم.
3- إثبات القضاء والقدر والحث على الاستعانة بالله لأنه لا يمكن الإنسان أن يطيع الرسول إن لم يعنه الله ويقدر له ذلك.
4- الحث على التوبة والاستغفار من جميع الذنوب.
5- بيان كرم الله تعالى وجوده وإحسانه حين دعى إلى التوبة من الذنوب ووعد بقبولها والتوفيق لها والثواب عليها فلله الحمد والشكر على ذلك.
6- أن المجيء إلى الرسول لطلب الاستغفار منه خاص بحياته.
7- إثبات صفة الرحمة لله تعالى.
8- عدم إيمان من لم يحكم الرسول فيما اختلف فيه.
9- أنه لابد في تحكيم الرسول من انتفاء الحرج والضيق والتسليم لحكمه والرضا به والانقياد له في الظاهر والباطن.
10- وعيد من لم يستسلم لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
11- فضل من استسلم لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه قد استكمل مراتب الدين كلها والله الموفق.#
7- (الذين أنعم الله عليهم)
قال الله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا } سورة النساء آية 69 – 70.(1/88)
يخبر الله تعالى أن كل من أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فإنه يحشر ويجزي وينعم مع أفضل خلق الله (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) أي في الدنيا والآخرة بالنعم العظيمة والمنح الجسيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة. (من النبيين) الذين فضلهم الله بوحيه واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق ودعوتهم إلى الله تعالى: (والصديقين) الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل فعلموا الحق وصدقوه وعملوا به ودعوا إليه بأقوالهم وأفعالهم فكان الصدق وصفهم في جميع أحوالهم (والشهداء) الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقتلوا (والصالحين) الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء وفي صحبتهم (وحسن أولئك رفيقًا) أي حسنت رفقتهم والاجتماع بهم في جنات النعيم والأنس بقربهم في جوار رب العالمين (ذلك الفضل من الله) أي الذي نالوه فضل من الله فهو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه أعمالهم كرمًا منه وجودًا وإحسانًا (وكفى بالله عليمًا) يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب الجزيل بسبب ما قام به من الأعمال الصالحة الخالصة لله.
ما يستفاد من هاتين الآيتين:
1- الحث على طاعة الله ورسوله بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
2- فضل من أطاع الله ورسوله وأن له الدرجات العلى والنعيم المقيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
3- أن أفضل البشر وأعلى طبقات الخلق هم الأنبياء والمرسلون الذين فضلهم الله بنبوته واختارهم لرسالته.
4- فضل الصدق في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات والحث عليه وبيان أنه أوصل أهله إلى الجنة.#
5-
فضل الشهادة في سبيل الله والحث عليها.
6- الحث على الصلاح وبيان فضله وحسن عاقبته.(1/89)
7- أن عمل هؤلاء الأصناف الأربعة وطريقهم هو الصراط المستقيم الذي أمرنا بسؤاله في دعاء الفاتحة في كل ركعة من صلاتنا وهو طريق الحق.
8- أن التوفيق لطاعة الله ورسوله بالإيمان والعمل الصالح وامتثال الأوامر واجتناب النواهي مجرد فضل من الله ومحض كرم وجود وإحسان منه تعالى حيث وفقهم لذلك ويسره لهم وقبله منهم وأثابهم عليه.#
8- (طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله)(1/90)
قال الله تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } سورة النساء آية 80 أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعًا بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ودعا الخلق إلى الله ليلا ونهارًا سرًا وجهارًا وبلغت دعوته المشارق والمغارب ودخل الناس في دين الله أفواجًا ولم يمت حتى كمل الله به الدين وأتم به النعمة ورضي له ولأمته الإسلام دينًا وقامت حجة الله على خلقه ببعثة هذا الرسول وإنزال القرآن عليه فعلم الناس ألفاظه وشرح لهم معانيه ودعاهم إلى العمل به، وقد أوجب الله طاعة رسوله والاقتداء بسنته والاهتداء بهديه، فطاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله وما أمر به الرسول؛ فقد أمر به الله وما نهى عنه الرسول فقد نهى الله عنه { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } (1) { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) وقد ضمن الله التوفيق والهداية لمن أطاع الرسول بقوله تعالى: { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } (3)
__________
(1) سورة النجم آية 3 – 4.
(2) سورة الحشر آية 7.
(3) سورة النور آية 54..(1/91)
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قيل: ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، فوجب بذلك تصديق خبره وطاعة أمره واجتناب نهيه، ومحبته والرضا به نبيًّا ورسولا ومتابعته في القول والاعتقاد والعمل والحب والبغض والفعل والترك فهو - صلى الله عليه وسلم - الواسطة بيننا وبين الله وهو أولى بنا من أنفسنا وأشفق علينا من والدينا ولذلك علمنا ما ينفعنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا ورغبنا فيه ودعانا إليه وبين لنا ما يضرنا في ذلك كله ونهانا عنه فلم يترك خيرًا إلا هدانا إليه ولا شرًا إلا حذرنا منه رحمة بنا وإحسانًا إلينا وشفقة علينا فوجب أن يكون أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين. وقد حذرنا الله من مخالفة أمره وتوعد من خالف أمره بإصابته بالفتنة والعذاب الأليم وأقسم بنفسه الكريمة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما اختلف فيه
ثم لا يجد في نفسه حرجًا مما حكم به ويسلم لحكمه#
تسليمًا بانشراح صدر وطمأنينة نفس ولهذا قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) أي كل من أطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أوامره ونواهيه فقد أطاع الله تعالى لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله وله من الثواب والخيرات ما رتب على طاعة الله (ومن تولى) عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا (فما أرسلناك عليهم حفيظًا) أي لم ترسل لتحفظ أعمالهم وأحوالهم بل أرسلناك مبلغًا ومبينًا وناصحًا لهم { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (1) .
ما يستفاد من الآية الكريمة:
__________
(1) سورة الغاشية آية 21 – 22.(1/92)
1- عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم في تشريعاته وأوامره ونواهيه لأن الله أمر بطاعته وأخبر أن طاعته طاعة لله.
2- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في امتثال ما أمر واجتناب ما نهى.
3- إن من عصى الرسول فقد عصى الله.
4- وعيد المعرضين عن طاعة الله ورسوله.#
9- (الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله)
قال تعالى: { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } سورة النساء
آية 114.(1/93)
أي لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون به، وإذا لم يكن فيه خير فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح وإما شر ومضرة محضة كالغيبة والنميمة والسباب والكلام المحرم بجميع أنواعه، ثم استثنى الله من ذلك ما فيه خير فقال: (إلا من أمر بصدقة) من مال حلال أو علم نافع أو أي نفع كان بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة والمتعدية كالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن بكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة» الحديث رواه مسلم، (أو معروف) يدخل فيه الإحسان والطاعة وكل ما عرف حسنه في الشرع والعقل من قول أو فعل أو مال أو جاه أو علم نافع أو عمل صالح، وإذا ذكر الأمر بالمعروف وحده من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر لأن ترك المنهيات من المعروف ولا يتم فعل الخير إلا بترك الشر، وإذا ذكرا جميعًا فيفسر المعروف بفعل المأمور والمنكر بترك المنهي. (أو إصلاح بين الناس) والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام يوجب الشحناء والفرقة والاختلاف فلذلك رغب الإسلام في الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض بكل وسيلة حتى في الأديان كما قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } (1) وقال تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ } (2) الآية وقال تعالى: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (3)
__________
(1) سورة آل عمران آية 103.
(2) سورة الحجرات آية 9.
(3) سورة النساء آية 128..(1/94)
والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لابد أن يصلح الله سعيه وعمله كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } (1) فالجزاء من جنس العمل في الخير والشر فهذه الأشياء: الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس والأمر بها حيثما#
فعلت فهي خير ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية الصالحة والإخلاص لله ولهذا قال تعالى: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا) أي من يفعل هذه الأشياء مخلصًا فيها محتسبًا ثوابها عند الله فله ثواب عظيم وفضل كثير؛ فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل عبادة وجزء من أجزاء الخير ليحصل له بذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين وليتم له الأجر سواء تم مقصوده أم لا لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل وبالله التوفيق.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- فيها شاهد للحديث القائل: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر» رواه الترمذي وابن ماجة وابن مردوية.
2- الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضله والحث عليه.
3- الحث على الصدقة بالنفس والعلم والمال والجاه.
4- الحث على فعل المعروف والإحسان بالقول والفعل.
5- استحباب الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا والتقريب بينهم إذا تباعدوا وبيان فضله والحث عليه.
6- وجوب الإخلاص لله وطلب مرضاته في جميع الأقوال والأعمال والأمر والنهي.
7- فضل العاملين المخلصين، وأن لهم الجزاء الأوفى والثواب العظيم.
8- أن دين الإسلام قول واعتقاد وعمل.
9- فضل الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله.
10- حصول الأجر العظيم والثواب الجسيم لمن فعل ذلك.#
__________
(1) سورة يونس آية 81.(1/95)
10- (فضل الإيمان والعمل الصالح)
قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا } سورة النساء 122.
لما ذكر تعالى في الآية السابقة مآل الأشقياء أولياء الشيطان وأن مستقرهم النار بقوله: (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) ذكر في هذه الآية مآل السعداء أولياء الرحمن الذين (آمنوا) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علمًا وتصديقًا وإقرارًا.(1/96)
(وعملوا الصالحات) الناشئة عن الإيمان وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب الذي على القلب واللسان والجوارح فدخل في ذلك تحقيق التوحيد والإخلاص لله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وما يتعلق بها من السنن والنوافل، ودخل في ذلك بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران، ودخل في ذلك ذكر الله ودعاؤه واستغفاره، ودخل في ذلك إطعام الطعام وطيب الكلام والصلاة بالليل والناس نيام، ودخل في ذلك إفشاء السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض واتباع الجنائز والنصح لكل مسلم، ودخل في ذلك صدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالوعد والعهد والميثاق إلى غير ذلك من الواجبات والمستحبات ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك فقال (سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) أنهار اللبن والعسل والخمر والماء وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من أنواع المآكل الشهية والمشارب اللذيذة والمناظر العجيبة والأزواج الحسنة والقصور العالية والغرف المزخرفة والأشجار المتدلية والفواكه المستغربة والأصوات المطربة والنعم السابغة وتزاور الإخوان في رياض الجنة وأعلى من ذلك وأجل منه رضوان الله عليهم وتمتع أرواحهم بقربه وعيونهم برؤيته وإسماعهم بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أعطاهم الرب الكريم وما حصل هلم من كل خير وبهجة وفرح لا يصفه الواصفون وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة والمنازل العالية ولهذا قال (خالدين فيها أبدًا) لا يزولون عنها ولا يتحولون ولا يتغيرون ولا يموتون ولا ينقطع عنهم نعيمها نسأل الله الكريم بإسمائه الحسنى وصفاته العلا ألا يحرمنا إياها ووالدينا بمنه وكرمه (ومن أصدق من الله قيلا) فصدق الله العظيم الذي بلغ قوله وكلامه في الصدق أعلى ما يكون وقد وعد سبحانه من آمن وعمل صالحًا بدخول الجنة والخلود فيها وهو(1/97)
لا يخلف الميعاد.#
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- الحث على الإيمان والعمل الصالح.
2- أنه لابد مع الإيمان من العمل ولابد في العمل أن يكون صالحًا خالصًا لله موافقًا لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
3- أن الإيمان ليس بالتسمي ولا بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما وقع في القلوب وصدقته الأعمال.
4- بيان الجزاء العظيم والثواب الجسيم لمن آمن وعمل صالحًا وهو دخول الجنة والخلود فيها بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
5- أن الجنة التي وعد المتقون لا تفنى ولا تبيد.
6- أنه لا أصدق من الله ولا أوفى بوعده من الله فيجب تصديق كلامه والثقة بوعده.#
من سورة المائدة
(ومن أسباب الفوز والفلاح)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } سورة المائدة سورة آية 35.
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحرمات وترك المنهيات المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح الظاهرة والباطنة (وابتغوا إليه الوسيلة) أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه من العبادات القلبية كالمحبة له وفيه الخوف والرجاء والإنابة والتوكل عليه، والبدنية كالزكاة والحج، والمركبة من ذلك كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاستغفار والإحسان إلى الخلق بما يمكن من العلم والمال والجاه والبدن ثم خص تعالى الجهاد في سبيله وهو بذل الجهد في قتال الكفار بالنفس والمال وما يمكن من ذلك.
(لعلكم تفلحون) أي إذا أطعتم الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وجاهدتم في سبيله أفلحتم ونجحتم ونلتم ما تطلبون وأمنتم مما تخافون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما يستفاد من الآية:
1- الأمر بتقوى الله وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
2- الحث على التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة.(1/98)
3- الحث على الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس.
4- بيان ثمرة ذلك وهو الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.#
من سورة الأنعام
قال الله تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } سورة الأنعام آية 59.
مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى خمس وهي المذكورة في سورة لقمان في قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) فلا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله قبل تعليمه لمن شاء من خلقه ولا تدري نفس ماذا تكسب غدًا إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله تعالى.
وهذه الآية الكريمة من أعظم الآيات تفصيلا لعلم الله المحيط بكل شيء وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها من شاء من خلقه وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم من العالمين وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار والرمال والحصى والتراب. وما في البحار من حيواناتها ومعادنها وصيدها وغير ذلك مما تحويه أرجاؤها ويشتمل عليه ماؤها (وما تسقط من ورقة) من أشجار البر والبحر والبلدان والقفار والدنيا والآخرة (إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض) من حبوب الثمار والزروع والبذور التي يبذرها الخلق وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات (ولا رطب ولا يابس) مما تقدم وغيره وهذا عموم بعد خصوص (إلا في كتاب مبين) وهو اللوح المحفوظ قد حواها واشتمل عليها وهذا مما يبهر عقول العقلاء.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:(1/99)
1- اختصاص الله تعالى بعلم مفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية الأخرى.
2- عظمة الرب العظيم وكماله في أوصافه كلها.#
3-
أن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفات الله لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك.
4- الدلالة على علم الله المحيط بجميع الأشياء الظاهرة والباطنة والبارزة والخفية.
5- الإيمان باللوح المحفوظ أصل الكتب ومادتها وينبوعها المحيط بجميع الحوادث فتبارك الرب العظيم الواسع العليم الحميد المجيد الشهيد المحيط وجل من إله لا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده.#
2- (وصية الله لخلقه وما حرم عليهم)
قال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } سورة الأنعام آية 151 – 153.(1/100)
هذه آيات محكمات فصل الله فيها كثيرًا من المحرمات وأوصانا بتركها والبعد عنها، كما رسم لنا الطريق السوي والصراط المستقيم الموصل إليه وإلى دار كرامته كل ذلك لطفًا بنا ورحمة وإحسانًا إلينا فله الحمد والشكر والثناء على ذلك ونسأله تعالى أن يعيننا على العمل بها والقيام بها علمًا وعملا واعتقادًا ودعوة إنه على كل شيء قدير. وكما تضمنت هذه الآيات وصية الله لخلقه فقد تضمنت وصية رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لأمته كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) إلى قوله: (وأن هذا صراطي مستقيمًا).
وأما تفسيرها فيقول الله تعالى لنبيه ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشيطان لهم، قل لهم: (تعالوا) هلموا وأقبلوا (أتل ما حرم ربكم عليكم) أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم تحريمًا عامًا شاملا لكل أحد ومحتويًا على سائر المحرمات من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال (أن لا تشركوا به شيئًا) أي لا قليلا ولا كثيرًا، وحقيقة الشرك بالله أن يعبد المخلوق كما يعبد الله أو يعظم كما يعظم الله ويصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدًا مخلصًا لله في جميع أحواله فهذا حق الله على عباده أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئًا. ثم بدأ بالوصية بآكد الحقوق بعد حقه تعالى فقال: (وبالوالدين إحسانًا) من الأقوال الكريمة الحسنة والأفعال الجميلة المستحسنة فكل قول
وفعل يحصل به منفعة للوالدين وسرور لهما#(1/101)
فإن ذلك من الإحسان، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق (ولا تقتلوا أولادكم) من ذكور وإناث (من إملاق) أي بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم كما كان ذلك موجودًا في الجاهلية القاسية الظالمة وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال وهم أولادهم فنهيهم عن قتلهم لغير موجب أو قتل أولاد غيرهم من باب أولى وأحرى (نحن نرزقكم وإياهم) أي قد تكفلنا برزق الجميع فلستم الذين ترزقون أولادكم بل ولا أنفسكم فليس عليكم منهم ضيق (ولا تقربوا الفواحش) وهي الذنوب العظام المستفحشة كالقتل والزنا وشرب الخمر والكبر (ما ظهر منها وما بطن) أي لا تقربوا الظاهر منها والخفي والمتعلق منها بالظاهر والمتعلق بالقلب والباطن والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) وهي النفس المسلمة من ذكر وأنثى صغير وكبير بر وفاجر والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق (إلا بالحق) كالزاني المحصن الذي قد تزوج والقصاص النفس بالنفس والتارك لدينه المرتد عن الإسلام المفارق لجماعة المسلمين (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) أي وصاكم بما ذكر لعلكم تعقلون عن الله وصيته، ثم تحفظونها ثم تراعونها وتقومون بها (ولا تقربوا مال اليتيم) بأكل أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم أو أخذ من غير سبب (إلا بالتي هي أحسن) أي إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم وينتفعون بها (حتى يبلغ أشده) أي حتى يبلغ اليتيم ويعرف التصرف فإذا بلغ أشده أعطي حينئذ ماله وتصرف فيه على نظره (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) أي بالعدل والوفاء التام فإذا اجتهدتم في ذلك فإننا (لا نكلف نفسًا إلا وسعها) أي بقدر ما تستطيعه ولا تضيق عنه فمن حرص على الإيفاء في الكيل والوزن ثم حصل تقصير لم يفرط فيه ولم يعلمه فإن الله غفور رحيم (وإذا قلتم) قولا تحكمون به بين الناس وتفصلون بينهم الخطاب وتكلمون به على المقالات والأحوال(1/102)
(فاعدلوا) في قولكم بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم (وبعهد الله أوفوا) وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد من القيام بحقوقه والوفاء بها ومن العهد الذي يقع التعاون به بين الخلق فالجميع يجب الوفاء به ويحرم نقضه والإخلال به (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) أي الأحكام المذكورة وصاكم الله بها لعلكم تذكرون ما بينه لكم من الأحكام وتقومون بوصية الله لكم حق القيام وتعرفون ما فيها من الحكم والأحكام. ولما بين كثيرًا من الأوامر الكبار والشرائع المهمة أشار إليها وإلى ما هو أعظم منها فقال (وأن هذا صراطي مستقيمًا) أي هذه الأحكام وما أشبهها مما بينه الله في كتابه ووضحه لعباده صراط الله الموصل إليه وإلى دار#(1/103)
كرامته المعتدل السهل المختصر (فاتبعوه) تناولوا الفوز والفلاح وتدركوا الآمال والأفراح (ولا تتبعوا السبل) أي الطرق المخالفة لهذا الطريق (فتفرق بكم عن سبيله) أي تضلكم عنه وتفرقكم يمينًا وشمالا فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم، فليس ثم إلا طرقًا توصل إلى الجحيم (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) أي أنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علمًا وعملا صرتم من المتقين وعباد الله المفلحين فوحد الصراط وأضافه إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه والله هو المعين للسالكين على سلوكه، وجمع طرق الباطل لأنها كثيرة متشبعة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيمًا وخط عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه النسائي وابن جرير وغيرهم، وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس هلموا ادخلوا الصراط المستقيم ولا تفرقوا وداع يدعوا من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» رواه أحمد والترمذي والنسائي.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- تحريم الشرك بالله شيئًا في القول والعمل والاعتقاد.
2- وجوب الإحسان إلى الوالدين ببرهما وطاعتهما بكل ما يعد إحسانًا قولا أو عملا وتحريم عقوقهما، أو معصيتهما.
3- تحريم القتل بغير حق.
4- أن الله قد تكفل بأرزاق عباده حين خلقهم كتب أرزاقهم وهم في بطون أمهاتهم.(1/104)
5- تحريم الفواحش الظاهرة والخفية؛ كالزنا وشرب الخمر والكبر ووسائلها.
6- أنه بحسب عقل الإنسان يكون قيامه بما أمره الله به.
7- تحريم أكل مال اليتيم بغير حق وأنه لا يجوز قربان أموالهم والتصرف فيها على وجه يضر اليتامى أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة.
8- أن اليتيم قبل بلوغ الأشد محجور عليه وأن وليه يتصرف في ماله بالأحظ وأن هذا الحجر ينتهي بالرشد الذي هو بلوغ الأشد هنا.#
9- وجوب إيفاء الكيل والوزن بالعدل والوفاء التام وتحريم البخس والتطفيف فيهما.
10- أن من حرص على إيفاء الكيل والوزن، ثم حصل منه تقصير لم يفرط فيه ولم يعلمه أنه لا إثم عليه.
11- أن الله لا يكلف أحدًا ما لا يطيق.
12- أن من اتقى الله فيما أمر وفعل ما يمكنه من ذلك فلا حرج عليه فيما سواه.
13- وجوب العدل في الأحكام والولايات كلها بمراعاة الصدق والإنصاف مع القريب والبعيد والعدو والصديق وإعطاء كل ذي حق حقه.
14- وجوب الوفاء بالعهد وتحريم نقضه.
15- وجوب سلوك الصراط المستقيم واتباعه وهو معرفة الحق والعمل به.
16- تحريم اتباع طرق الضلال المخالفة لطريق الحق من الكفر والفسوق والمعاصي.
17- أن من امتثل أوامر الله وانتهى عن محرماته ومعاصيه وقام بواجباته فقد عمل بوصاياه وصار من عباد الله المتقين وأوليائه المفلحين المقربين والله الموفق.#
من سورة الأعراف
1- (الأمر بأخذ الزينة والأكل والشرب من الطيبات وعدم الإسراف وتحريم الفواحش والإثم والبغي):(1/105)
قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } 31 – 33.
يقول الله تعالى بعدما أنزل على بني آدم لباسًا يواري سوآتهم (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) أي استروا عوراتكم عند كل صلاة من فرض ونفل فإن سترها زينة للبدن كما أن كشفها يدع البدن قبيحًا مشوهًا، ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن (وكلوا واشربوا) مما رزقكم الله من الحلال الطيب (ولا تسرفوا) في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك. والسرف إما أن:
1- يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات التي تضر بالجسم.
2- وإما أن يكون بزيادة الترف والتنوع في المآكل والمشارب والملابس.
3- وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام.(1/106)
(إنه لا يحب المسرفين) فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى أنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عن ما يجب عليه من النفقات وفي الحديث «كل واشرب والبس وتصدق في غير سرف ولا مخيلة» أخرجه أحمد وأبو داود وعلقه البخاري، (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه (والطيبات من الرزق) من مأكل ومشرب بجميع أنواعه، أي مَنْ هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله به على العباد؟ ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسع الله، وهذا التوسيع من الله لعباده بالطيبات جعله لهم ليستعينوا به على عبادته (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) ليشكروه عليها وليتقووا بها على طاعته (خالصة يوم القيامة) أي هذه الزينة من الله والطيبات من الرزق هي للمؤمنين في الدنيا والآخرة خالصة من التبعات كاملة موفرة بسبب الإيمان والطاعة والشكر لله. ومفهوم الآية أن من لم يؤمن بالله ولم يطعه ولم يشكره بل استعان بهذه النعم#(1/107)
على معاصيه فإنها غير خالصة ولا مباحة له بل يعاقب عليها ويسأل عنها يوم القيامة (كذلك نفصل الآيات) نوضحها ونبينها (لقوم يعلمون) لأنهم الذين ينتفعون بما فصله الله من الآيات ويعلمون أنها من عند الله فيعقلونها ويفهمونها، ثم ذكر المحرمات التي حرمها في كل شريعة من الشرائع فقال (قل إنما حرم ربي الفواحش) وهي الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها وذلك كالزنا واللواط ونحوهما (ما ظهر منها وما بطن) أي السر والعلانية التي تتعلق بحركات البدن والتي تتعلق بالقلوب كالكبر والعجب والرياء والنفاق ونحو ذلك (والإثم والبغي بغير الحق) الإثم الذنوب التي تؤثم فاعلها وتوجب له العقوبة في حقوق الله، والبغي الاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا الذنوب المتعلقة بحقوق الله والذنوب المتعلقة بحقوق الخلق (وإن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) أي وحرم الله أن تشركوا به ما لم ينزل به عليكم حجة بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد والإيمان.
والشرك هو أن يشرك مع الله في عبادته أحدًا من الخلق وشمل ذلك الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير الله ونحو ذلك (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) أي وحرم ربي القول عليه بغير علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها الله ونهى العباد عن تعاطيها لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجرؤ على الله والاستطالة على عباد الله وتغيير دين الله وشرعه.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- وجوب ستر العورة في الصلاة فرضها ونفلها.
2- مشروعية التجمل وأخذ الزينة في الجمع والأعياد وسائر الصلوات باللباس الحسن وأفضله البياض وتمام ذلك وكماله بالتنظيف والتطيب والسواك.
3- الأمر بتناول الأكل والشرب والنهي عن تركهما.
4- تحريم السرف في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك.
5- وعيد المسرفين بأن الله لا يحبهم وإذا كان لا يحبهم فهو يبغضهم ويمقتهم.(1/108)
6- الإنكار على من يحرم ما أحل الله له من الطيبات الأكل والشرب والزينة.
7- اختصاص المؤمنين بأكل الطيبات وخلقها لأجلهم في الدنيا وخلوصها لهم في الآخرة.#
8-
تحريم الفواحش الظاهرة والباطنة المتعلقة بحقوق الله وحقوق العباد.
9- تحريم الاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
10- تحريم الشرك بالله في القول والاعتقاد والعمل والحب والبغض والفعل والترك قليلا ذلك أو كثيرًا صغيرًا أو كبيرًا.
11- تحريم القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته وأفعاله ودينه وشرعه (فائدة) قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) فأمر بالأكل والشرب اللذين بهما قوام البدن ونهى عن الإسراف الذي يضر البدن.#
2- (من أدلة التوحيد)
قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } 55 – 57 الأعراف.(1/109)
يقول الله تعالى مبينًا أنه الرب المعبود المالك المتصرف وحده لا شريك له: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) وما فيهما من العوالم وأصناف المخلوقات على عظمهما وسعتهما وإحكامهما وإتقانهما وبديع خلقهما (في ستة أيام) أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة فلما قضاهما وأودع فيهما ما أودع من خلقه وأمره (استوى على العرش) استقر وصعد وعلا وارتفع كما فسره بذلك أهل السنة كما يليق بجلاله وعظمته وسلطانه (يغشي الليل) المظلم (النهار) المضيء، فيظلم ما على وجه الأرض ويسكن الآدميون وتأوي المخلوقات إلى مساكنها ويستريحون من التعب الذي حصل لهم في النهار (يطلبه حثيثا) كلما جاء الليل ذهب النهار وكلما جاء النهار ذهب الليل وهكذا أبدًا على الدوام حتى يطوى هذا العالم وينتقل العباد إلى الدار الآخرة (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) أي بتسخيره وتدبيره وما له من أوصاف الكمال، فخلقها وعظمها دال على كمال قدرته، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وعلمه وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له (ألا له الخلق والأمر) أي له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات فالخلق يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، ثم أحكام الجزاء وذلك يكون في دار البقاء (تبارك الله) عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير فكل بركة في الكون فمن آثار رحمته (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) أي اسألوه تعالى واعبدوه (تضرعا) إلحاحًا في المسألة واستمرار في العبادة وتذللا واستكانة (وخفية) أي سرًا لا جهرًا وعلانية يخاف منه الرياء بل خفية وإخلاصًا لله (إنه لا يحب المعتدين) المتجاوزين للحد في(1/110)
كل الأمور ومن الاعتداء كون#
العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له أو يتنطع في السؤال أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه (ولا تفسدوا في الأرض) بعمل المعاصي (بعد إصلاحها) بالطاعات فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق وهي سبب زوال النعم وحصول النقم وهلاك الأمم، قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } (1) كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق والأعمال والأرزاق وأحوال الدنيا والآخرة (وادعوه خوفًا وطمعًا) أي خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه طمعًا في قبولها وخوفًا من ردها لا دعاء معجب بنفسه معظم لها أو دعاء من هو غافل لاه ساه وهذا من إحسان الدعاء ولهذا قال: (إن رحمت الله قريب من المحسنين) في عبادة الله المحسنين إلى عباد الله فكلما كان العبد أكثر إحسانًا كان أقرب إلى رحمة ربه وكان ربه قريبًا منه برحمته.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- انفراد الله تعالى بالربوبية والخلق والأمر واستحقاقه للعبادة دون سواه.
2- من أدلة ربوبية الله خلقه للسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وتسخيره الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم.
3- أن خلق السماوات والأرض وقع في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ليعلم عباده التريث وعدم العجلة في الأمور وإلا فهو قادر على خلقها بلحظة.
4- الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه.
5- الحث على عبادة الله تعالى بإخلاص ودعائه وسؤاله بعزم وحزم واجتهاد وذل وخفية ورغبة ورهبة خوفًا وطمعًا.
6- تحريم الاعتداء في الدعاء ووعيد المعتدين بأن الله لا يحبهم.
7- النهي عن الإفساد في الأرض بالمعاصي بعد إصلاح الله إياها بالطاعة.
8- أن المعاصي سبب لكل شر وهلاك وشقاء في الدنيا والآخرة.
9- أن طاعة الله سبب لكل خير وصلاح وسعادة.
__________
(1) سورة الروم آية 41.(1/111)
10- الحث على الإحسان في عبادة الله بإخلاصها وتكميلها والإحسان إلى خلقه بالقول والفعل والعلم والمال والجاه.
11- إثبات صفة المحبة والرحمة لله سبحانه وتعالى.#
3- (التحذير والتخويف من مخالفة أوامر الله والتجرؤ على محارمه)
قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } سورة الأعراف 97 – 100.(1/112)
لما ذكر الله تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارًا وبالسراء استدراجًا ومكرًا ذكر أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدقته الأعمال بما جاءت به الرسل واتقوا الله بفعل الطاعات وترك المحرمات لفتح عليهم بركات من السماء والأرض فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق من غير عناء ولا تعب ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا بل كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك والبلايا ونزع البركات وكثرة الآفات وهي بعض جزاء أعمالهم وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ } (1) ثم قال تعالى محذرًا ومخوفًا من مخالفة أوامره والتجرؤ على محارمه: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون) أي: أفأمن أهل القرى الكافرة المكذبة أن يأخذهم عذابنا الشديد ونكالنا (بياتًا) ليلا في حال غفلتهم وراحتهم وغرتهم (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) في حال شغلهم ولهوهم أي شيء يؤمنهم من ذلك وقد فعلوا أسبابه وارتكبوا من الجرائم العظيمة ما يوجب الهلاك (أفأمنوا مكر الله) أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) الهالكون فإن من أمن مكر الله فإنه لم يصدق بالجزاء على الأعمال ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- أن الإيمان بالله وطاعته سبب لنزول البركات وحصول الخيرات.
2- أن الكفر بالله ومعاصيه سبب لنزع البركات وأنواع العقوبات.
3- عدم الأمن من مكر الله وخسارة من فعل ذلك.
__________
(1) سورة الروم آية 41.(1/113)
4- أنه ينبغي للعبد أن لا يزال خائفًا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب إيمانه.
5- أن لا يزال داعيًا بقوله (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك).
6- أن يعمل ويسعى في كل سبب يخلصه من الشر عند وقوع الفتن.#
3- (سعة رحمة الله وحصولها للمتقين الذين يتبعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤمنون به)
قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } سورة الأعراف 157 – 159.(1/114)
يقول تعالى مخبرًا عن كرمه وإحسانه وسعة رحمته (ورحمتي وسعت كل شيء) من العالم العلوي والسفلي البر والفاجر والمؤمن والكافر فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله وغمره فضله وإحسانه ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست لكل أحد ولهذا قال عنها (فسأكتبها للذين يتقون) أي يجتنبون المعاصي صغارها وكبارها (ويؤتون الزكاة) أي يزكون أنفسهم بطاعة الله ويخرجون زكاة أموالهم إلى مستحقيها (والذين هم بآياتنا يؤمنون) أي يصدقون ومن تمام الإيمان بآيات الله معرفة معناها والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا في أصول الدين وفروعه (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وليس عندها قبل القرآن كتاب (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) باسمه وصفته التي من أعظمها وأجلها ما يدعو إليه وينهى عنه وأنه (يأمرهم بالمعروف) وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه (وينهاهم عن المنكر) وهو كل ما عرف قبحه في العقول والفطر فيأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج وصلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى الجار والفقير والمسكين وبذل النفع لسائر الخلق والصدق والعفاف والبر والنصيحة وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك بالله وقتل النفوس بغير حق والزنا وشرب ما يسكر العقل والظلم لسائر الخلق والكذب والفجور ونحو ذلك فأعظم دليل على أنه رسول الله ما دعى إليه وأمر به ونهى عنه وأحله
وحرمه فإنه (يحل لهم الطيبات) من المطاعم والمشارب والمناكح (ويحرم
عليهم الخبائث) من المطاعم والمشارب والمناكح والأقوال والأفعال#(1/115)
(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) أي ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر لا إصر فيه ولا إغلال ولا مشقات ولا تكاليف ثقال (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه) أي صدقوا به وعظموه وبجلوه وأيدوه (واتبعوا النور الذي أنزل معه) وهو القرآن الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات والشبهات (أولئك هم المفلحون) الظافرون بخير الدنيا والآخرة والناجون من شرهما وأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح، وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي ويعزره وينصره ولم يتبع النور الذي أنزل معه فأولئك هم الخاسرون، ولما دعى أهل التوراة من بني إسرائيل إلى اتباعه وكان ربما توهم متوهم أن الحكم مقصور عليهم أتى بما يدل على العموم فقال: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) عربكم وعجمكم أهل الكتاب وغيرهم (الذي له ملك السماوات والأرض) يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها أن أرسل إليكم رسولا عظيمًا يدعوكم إلى الله وإلى دار كرامته ويحذركم من كل ما يباعدكم منه ومن دار كرامته (لا إله إلا هو) لا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله (يحيي ويميت) أي من جملة تدابيره الإحياء والإماتة التي لا يشاركه فيها أحد، وقد جعل الله الموت جسرًا ومعبرًا يعبر الإنسان منه إلى دار البقاء التي من آمن بها صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قطعًا (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي) إيمانًا في القلب متضمنًا لأعمال القلوب والجوارح (الذي يؤمن بالله وكلماته) أي آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله (واتبعوه لعلكم تهتدون) في مصالحكم الدينية والدنيوية فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدًا وخسرتم خسرانًا مبينًا.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- سعة رحمة الله وشمولها لكل شيء.(1/116)
2- بيان من يستحق رحمة الله، وهم المؤمنون بالله وآياته المطيعون لله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى والمتبعون لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - المزكون لأنفسهم وأموالهم.
3- أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم موصوفًا في التوراة والإنجيل.
4- أنه صلى الله عليه وسلم يأمر بكل معروف وينهى عن كل منكر.
5- أنه صلى الله عليه وسلم يحل الطيبات النافعة ويحرم الخبائث الضارة.
6- أن دينه سهلا سمحًا ميسرًا لا عسر فيه ولا مشقة.
7- تحريم الخبائث المأكولة والمشروبة المسكرة وغيرها.#
8-
تحريم شرب الدخان لأنه من الخبائث المضرة بالصحة والدين والبدن والمال، وكذلك تحرم قيمته وبيعه وشراؤه؛ لأن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه.
9- فلاح من آمن بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - واتبعه ونصره وخسران من لم يؤمن به ويتبعه.
10- عموم وشمول رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب والعجم واليهود والنصارى والإنس والجن.
11- انفراد الله بملك السماوات والأرض والتصرف فيهما وتدبير شؤونهما.
12- أنه لا يستحق العبادة أحد غير الله سبحانه وتعالى.
13- قدرة الله على الإحياء والإماتة وحده لا شريك له.
14- هداية من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصالح دينه ودنياه.
15- ضلال من لم يتبعه وخسارته.
16- أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.#
5- (التمسك بالكتاب وإقام الصلاة وثواب المصلحين)
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } الأعراف 170.(1/117)
يقول الله تعالى مادحًا لمن تمسك بكتاب الله فتعلمه وعمل بما فيه من الأحكام والأخبار التي علمها أشرف العلوم ويعملون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب وأفراح الأرواح وصلاح الدنيا والآخرة، ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات إقامة الصلاة ظاهرًا وباطنًا ولهذا خصها بالذكر لفضلها وشرفها وكونها ميزان الإيمان وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات، ولما كان عملهم كله صالحًا قال تعالى: (إنا لا نضيع أجر المصلحين) في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم مصلحين لأنفسهم ولغيرهم.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- الحث على التمسك بكتاب الله علمًا وعملا واعتقادًا ودعوة.
2- الحث على إقام الصلاة في أوقاتها مع الجماعة بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها في المساجد بخشوع وحضور قلب.
3- الحث على الصلاح والإصلاح وثواب المصلحين.
4- أن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد وأنهم بعثوا بصلاح الدارين فكل من كان أصلح كان أقرب إلى اتباعهم.
5- ثواب المصلحين وأنه لا يضيع منه شيء بل سيجدونه مدَّخرًا لهم عند الله تعالى أوفر ما كان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا مجيب دعوة المضطر إذا دعاك اجعلنا من المتمسكين بكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - واجعلنا من المقيمين الصلاة والمحافظين عليها واجعلنا من الصالحين المصلحين والهداة المهتدين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا مجيب دعوة المضطر إذا دعاك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.#
6- (إثبات الأسماء الحسنى الدالة على الصفات العليا لله تعالى وترك من عارض فيها)(1/118)
قال تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1) هذا بيان لعظيم جلال الله وسعة أوصافه بأن له الأسماء الحسنى أي له كل اسم حسن وهو كل اسم دال على صفة كمال وبذلك كانت حسنى فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها مستغرق لجميع معناها وذلك نحو (العليم) الدال على أن له علمًا محيطًا عامًا لجميع الأشياء فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء و (الرحيم) الدال على أن له رحمة عظيمة واسعة لكل شيء (والقدير) الدال على أن له قدرة عامة لا يعجزها شيء ونحو ذلك، ومن تمام كونها حسنى أنه لا يدعى إلا بها ولذلك قال (فادعوه بها) وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة فيدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب يقول الداعي مثلا: اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، وتب عليَّ يا تواب وارزقني يا رزاق والطف بي يا لطيف، ونحو ذلك، وقوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) أي عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه، وحقيقة الإلحاد الميل بها عمَّا جعلت له إما بأن يسمى بها من لا يستحقها كتسمية المشركين بها لآلهتهم كما سموا اللات من الإله، والعزَّى من العزيز، ومناة من المنان، وإما بنفي معانيها وتحريفها أو أن يجعل لها سمي ما أراده الله ولا رسوله أو أن يشبه بها غيره فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها بجميع أنواعه ويحذر الملحدون فيها وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» رواه البخاري ومسلم، أي أحصى عددها وحفظها وعرف معناها ودعى الله بها.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- الإيمان بأسماء الله وأنها حسنى.
2- الحث على دعاء الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
__________
(1) سورة الأعراف آية 180.(1/119)
3- ترك من عارض من الجاحدين الملحدين.
4- وعيد من ألحد في أسماء الله بالعذاب والعقوبة.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.#
7- (معاني حسن الخلق)
قال تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } سورة الأعراف آية 199.(1/120)
هذه الآية الكريمة جامعة لمعاني حسن الخلق مع الناس وما ينبغي للعبد سلوكه في معاملتهم ومعاشرتهم فأمر تعالى بأخذ (العفو) وهو ما سمحت به أنفسهم وسهلت به أخلاقهم من الأعمال والأخلاق بأن يقبل ما سهل منها ولا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم ولا ما لا يطيقونه بل عليه أن يشكر من كل أحد ما قام به من قول أو عمل وخلق جميل وما هو دون ذلك ويتجاوز عن تقصيرهم ويغضُّ طرفه عن نقصهم وعن ما أتوا به وعاملوه به من نقص ولا يتكبر على صغير لصغره ولا ناقص العقل لنقصه ولا فقير لفقره بل يعامل الجميع باللطف وما تقتضيه الحال وبما تنشرح له صدورهم ويوقر الكبير ويحنو على الصغير ويجامل النظير (وأمر بالعرف) وهو كل قول حسن وفعل جميل وخلق فاضل للقريب والبعيد فاجعل ما يأتي إلى الناس منك إما تعليم علم ديني أو دنيوي أو نصيحة أو حثا لهم على خير من عبادة الله أو صلة رحم وبر والدين أو إصلاح بين الناس أو رأي مصيب أو معاونة على بر وتقوى أو زجر عن قبيح أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية أو تحذير من ضد ذلك ولما كان لابد للعبد من أذية الجاهلين بجهلهم أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله فمن آذاك بقوله أو فعله فلا تؤذه ومن حرمك فأعطه ولا تحرمه ومن قطعك فصله ومن ظلمك فاعف عنه واعدل فيه؛ فبذلك يحصل لك ثواب عظيم من الله وراحة لقلبك وسكون والسلامة من الجاهلين وينقلب العدو صديقًا وتتبوأ من مكارم الأخلاق أكبر حظ وأوفر نصيب { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } سورة فصلت آية 34 – 35.
ما يستفاد من الآية الكريمة:
1- الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
2- الحث على شكر الجميل وتحمل الأذى والجفا من الغير.
3- الترغيب في الأمر بالمعروف وبذل النصيحة.(1/121)
4- الأمر بالإعراض عن جهل الجاهلين ومقابلة الإساءة بالإحسان.#
من سورة الأنفال
1- (من صفات المؤمنين الكمل)
قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } سورة الأنفال 2 – 4.(1/122)
يخبر تعالى أن المؤمنين الكاملي الإيمان (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي خافت ورهبت فأوجبت لهم خشية الله تعالى فعل أوامره رغبة في الثواب وترك محارمه خوفًا من العقاب (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا) أي تصديقًا لأنهم يلقون لها السمع ويحضرون قلوبهم لتدبرها فعند ذلك يزيد إيمانهم ويظهر لهم معنى كانوا يجهلونه ويتذكرون ما كانوا نسوه أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير واشتياقًا إلى كرامة ربهم أو وجلا من العقوبات وازدجارًا عن المعاصي وكل هذا مما يزداد به الإيمان (وعلى ربهم يتوكلون) أي يعتمدون على الله وحده لا شريك له في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك. والتوكل شرط في الإيمان، قال تعالى: { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) .
__________
(1) سورة المائدة آية 23.(1/123)
(الذين يقيمون الصلاة) من فرائض ونوافل بأعمالها الظاهرة والباطنة كحضور القلب فيها الذي هو روح الصلاة ولبها وهذا تنبيه من الله على أعمالهم بعد ذكر اعتقادهم (ومما رزقناهم ينفقون) النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقة على الزوجات والأقارب وما ملكت أيمانهم، والمستحبة كالنفقة في جميع طرق الخير (أولئك) أي المتصفون بتلك الصفات الخمس وهي وجل القلوب وخوفها عند ذكر الله، وزيادة الإيمان إذا تليت عليهم آيات الله، والتوكل على الله وحده وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله (هم المؤمنون حقًا) المتصفون بهذه الصفات المؤمنون حق الإيمان لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان وبين الأعمال الباطنة والظاهرة وبين العلم والعمل وبين أداء حقوق الله وحقوق عباده، ثم ذكر ثواب المؤمنين حقًا فقال (لهم درجات عند ربهم) أي منازل ودرجات عالية في الجنات (ومغفرة) لذنوبهم (ورزق كريم) وهو ما أعدَّ الله لهم من دار كرامته من النعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر نسأل الله الكريم أن لا يحرمنا ما عنده بشر ما عندنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.#
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- من أوصاف المؤمنين الكمَّل خوف الله عند ذكره وزيادة الإيمان عند سماع آياته واعتمادهم على الله في كل شيء وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله.
2- أن الإيمان يزيد بالطاعة كما ينقص بالمعصية.
3- أن الإيمان يشمل قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح.
4- أنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه بالكلم الطيب والعمل الصالح وتدبر كتاب الله والتأمل لمعانيه.
5- ثواب المؤمنين حق الإيمان بمغفرة ذنوبهم ورفع درجاتهم وحسن نعيمهم في الجنة.
6- أن طاعة الله ورسوله شرط في الإيمان كما قال تعالى في الآية التي قبلها (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) ثم ذكر أوصافهم.(1/124)
اللهم حبب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا عن بابك مطرودين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.#
2- (شر الدواب عند الله)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } سورة الأنفال 20 – 24.(1/125)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ويزجرهم عن معصيته ومخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ولهذا قال (ولا تولوا عنه) أي لا تتركوا طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه (وأنتم تسمعون) ما يتلى عليكم من كتاب الله وأوامره ووصاياه ونصائحه (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) أي لا تكونوا كالكفرة والمنافقين ولا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية التي لا حقيقة لها فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، ثم أخبر تعالى أن هذا الجنس من الناس الذين لم تفد فيهم الآيات والنذر شر من دب على وجه الأرض من الخليقة فهم (الصُّمُّ) عن سماع الحق (البكم) عن فهمه والنطق به ولهذا قال (الذين لا يعقلون) ما ينفعهم ويؤثرونه على ما يضرهم فهؤلاء شر البرية لأن الله أعطاهم أسماعًا وأبصارًا وأفئدة ليستعملوها في طاعة الله فكفروا بها واستعملوها في معاصيه وعدموا بذلك الخير الكثير، ثم أخبر تعالى أنه لا فهم لهم ولا قصد صحيح لو فرض أن لهم فهمًا فقال (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم) أي لأفهمهم وإنما لم يسمعهم السماع النافع لأنه لم يعلم فيهم خيرًا يصلحون به لسماع آياته لأنه يعلم أنه (لو أسمعهم) أفهمهم (لتولوا) أعرضوا عن الطاعة قصدًا وعنادًا بعد فهمهم ذلك (وهم معرضون) لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) أمر من الله لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله ولرسوله أي لأمرهما علمًا وعملا واعتقادًا ودعوة (إذا دعاكم لما يحييكم) أي لما يصلحكم ولما فيه حياتكم وسلامتكم فإن حياة القلب والروح بعبودية الله ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام، ثم حذَّر من عدم الاستجابة لله وللرسول فقال (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم فيحال بينكم وبينه إذا رأيتموه بعد ذلك وتختلف قلوبكم فإن(1/126)
الله يحول بين المرء وقلبه يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنَّى شاء فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا مصرف القلوب صرِّف قلوبنا إلى طاعتك (وأنه إليه تحشرون) تجمعون يوم القيامة فيجازي المحسن بإحسانه المسيء بعصيانه.#
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- وجوب طاعة الله وطاعة رسوله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وأن ذلك من مقتضيات الإيمان.
2- تحريم الإعراض عن طاعة الله ورسوله بعد قيام الحجة بإنزال القرآن.
3- تحريم التشبه بالكفرة المعرضين عن سماع الحق والعمل به.
4- أن الكافرين بالله المعرضين عن كتابه وسنة رسوله هم شر الخليقة عند الله.
5- وصفهم في عدم قبولهم للحق بالصم والبكم الذين لا يعقلون.
6- أن عدم توفيق هؤلاء الكفرة أن الله لم يعلم فيهم خيرًا وقبولا للحق.
7- وجوب الاستجابة لله ورسوله.
8- أن الله لا يمنع الإيمان والخير إلا عن من لا خير فيه.
9- أن الإيمان لا يحصل بالتمني والتحلي والتسمي ولكنه ما حصل في القلوب وصدقته الأعمال.
10- أن في طاعة الله ورسوله حياة القلوب والأرواح.
11- أن عدم امتثال أمر الله ورسوله من أسباب الضلال ومن أسباب زيغ القلوب عن الحق والهدى كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ } (1) { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (2) فنسأل الله العظيم ألا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
12- أن مرجع العباد إلى الله وسوف يجزي كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.#
3- (أداء الأمانات إلى أهلها وعدم الخيانة فيها)
__________
(1) سورة الصف آية 5.
(2) سورة الأنعام آية 110.(1/127)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } سورة الأنفال آية 27 – 29.
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم الله عليه من امتثال أوامره واجتناب نواهيه وأن لا يخونوا في شيء من ذلك فالأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية، وقد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لظلمه وجهله، فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل وصار خائنًا لله وللرسول ولأمانته منقصًا لنفسه لكونه اتصف بأقبح الصفات وهي الخيانة مفوتًا لها أكمل الصفات وأتمها وهي الأمانة، ولما كان العبد ممتحنًا بأمواله وأولاده فربما حملته محبتهم على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته أخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلى الله بهما عباده وأنهما عارية ستؤدى لمن أعطاها وترد لمن استودعها (وأن الله عنده أجر عظيم) فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا.... الآية) امتثال العبد لتقوى الله عنوان سعادته وعلامة فلاحه، وقد رتب الله على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئًا كثيرًا فذكر هنا أن من اتقى الله حصل له أربعة أشياء كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:
الأول: الفرقان وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال والحق والباطل والحلال والحرام.(1/128)
الثاني والثالث: تكفير السيئات ومغفرة الذنوب وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.
الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه والله ذو الفضل العظيم، وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (1) .#
وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (2) { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } (3) والآيات في فضل التقوى وحسن عاقبتها كثيرة معلومة.
ما يستفاد من الآيات الكريمات:
1- الحث على أداء الأمانات الخاصة والعامة القاصرة والمتعدية.
2- تحريم الخيانة لله ولرسوله وخيانة الأمانة.
3- التحذير من الافتتان بالأموال والأولاد عن طاعة الله ورسوله وحفظ الأمانات.
4- الثواب العظيم والأجر الجسيم لمن آثر طاعة الله على هوى نفسه.
5- من فضل التقوى وحسن عاقبتها:
أ- حصول العلم النافع المفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والحلال والحرام.
ب- تكفير السيئات ومغفرة الذنوب وإعظام الأجور.
ج- حصول المخرج من كل ضيق وشدة.
د- الرزق من حيث لا يحتسب.
ه- تيسير أمر الدنيا والآخرة.#
4- (طريقة الشجاعة في الحرب وآداب اللقاء وأسباب النصر والهزيمة)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } الأنفال 45 – 46.
__________
(1) سورة الطلاق الآيات 2 – 3.
(2) سورة الطلاق الآية 4.
(3) سورة الطلاق آية 5.(1/129)
هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة في الحرب عند مواجهة الأعداء وبيان لأسباب النصر والهزيمة فقال (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) أي طائفة من الكفار تقاتلكم (فاثبتوا) لقتالهم ولا تزعزعوا واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة التي عاقبتها العز والنصر واستعينوا على ذلك بالإكثار من ذكر الله (لعلكم تفلحون) أي تدركون ما تطلبون من الانتصار على أعدائكم (وأطيعوا الله ورسوله) بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في جميع الأحوال (ولا تنازعوا) تختلفوا في ما بينكم (فتفشلوا) تجبنوا (وتذهب ريحكم) قوتكم وتنحل عزائمكم وما كنتم فيه من الإقبال (واصبروا إن الله مع الصابرين) بالعون والنصر والتأييد أي صبِّروا أنفسكم على طاعة الله ورسوله وجهاد أعدائه لتنالوا النصر والفوز والسعادة فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم فلا يفروا ولا ينهزموا ولا يجبنوا وأن يذكروا الله تعالى في تلك الحال لا ينسوه بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم وأن يطيعوا الله ورسوله، فما أمرهم به ائتمروا وما نهاهم عنه انزجروا ولا يتنازعوا فيما بينهم فيختلفوا فيكون سببًا لتخاذلهم وفشلهم وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا إن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال صلى الله عليه وسلم اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم (1)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم..(1/130)
وقد كان لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب الشجاعة والائتمار بما أمروا الحظ الأوفر والنصيب الأكبر ببركة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في مدة يسيرة مع قلة عَددهم وعُددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم في ذلك الوقت وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.#
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- من أسباب النصر على الأعداء الصبر والثبات وكثرة ذكر الله ودعائه وطاعة الله ورسوله.
2- من أسباب الهزيمة معصية الله ورسوله وقلة الصبر وعدم الثبات أمام العدو وحصول التنازع والاختلاف في الكلمة.
3- فوز وفلاح من امتثل أمر الله ورسوله وذكر الله كثيرًا.
4- فضل الصبر والحث عليه وحسن عاقبته وأن الله مع أهله.
5- الحث على الإكثار من ذكر الله وأنه سبب للفوز والفلاح والسعادة.#
من سورة التوبة
(معاوضة المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عن أنفسهم وأموالهم بالجنة)
قال تعالى: { إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } 111 – 112.(1/131)
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله بالجنة وهذا من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له بتوفيقه بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وصفة العقد والمبايعة بأن يبذلوا لله نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه لإعلاء كلمته وإظهار دينه يقاتلون في سبيل الله (فيقتلون ويقتلون) أي سواء قَتلوا أو قُتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة (وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن) التي هي أشرف الكتب وأعلاها وأكملها وهو تأكيد لهذا الوعد الصادق وأخبر بأنَّه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (ومن أوفى بعهده من الله) فإنه لا يخلف الميعاد (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم (وذلك هو الفوز العظيم) الذي لا أعظم منه لأنه يتضمن السعادة الأبدية والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات، وقوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات فقال هم (التائبون) أي الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات (العابدون) المتصفون بالعبودية لله والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت (الحامدون) لله في السراء والضراء والعسر واليسر المعترفون بنعم الله الظاهرة والباطنة المثنون على الله بذكرها وذكره في آناء الليل والنهار (السائحون) قيل(1/132)
هم#
المجاهدون وقيل هم طلبة العلم وقيل هم الصائمون، واختاره الحافظ ابن كثير في تفسيره، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: والصحيح أن المراد بالسياحة السفر في القربات كالحج والعمرة والجهاد وطلب العلم وصلة الأقارب ونحو ذلك. (الراكعون الساجدون) المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود (الآمرون بالمعروف) ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات (والناهون عن المنكر) وهو جميع ما نهى الله عنه ورسوله من محرمات ومكروهات (والحافظون لحدود الله) العالمون بشرع الله وأوامره ونواهيه الملازمون لها فعلا وتركًا فانتفعوا بأنفسهم ونفعوا خلق الله بإرشادهم إلى طاعته وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علمًا وعملا فقاموا بعبادة الله ونصح عباده (وبشر المؤمنين) بكرامة الله لهم لأن الإيمان يشمل جميع ما ذكر من العلم والعمل والدعوة والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمة:
1- أن بذل الأنفس والأموال في سبيل الله هو ثمن الجنة مع الإيمان.
2- أن القاتل والمقتول في سبيل الله في الأجر سواء وكلاهما في الجنة.
3- أن عهد الله حق ووعده صدق وهو لا يخلف وعده ومن أصدق من الله قيلا.
4- عظمة التوراة والإنجيل والقرآن المتضمنة لكلام الله وشرعه وأخباره الصادقة وأحكامه العادلة وعظمة الرسل المنزلة عليهم.
5- من أوصاف المؤمنين بالله التوبة الصادقة والعبادة المستمرة وكثرة الحمد لله والثناء عليه والصيام له والجهاد في سبيل الله وكثرة الصلاة والمداومة عليها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ حدود الله.
6- بشارة المؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف الحميدة بالفوز العظيم والثواب الجسيم والسعادة الأبدية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.#
من سورة الرعد
الفرق بين أهل العلم والعمل وأهل الضلال والجهل(1/133)
قال تعالى: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } سورة الرعد 19 – 24.(1/134)
يقول الله تعالى مفرقًا بين أهل العلم والعمل وبين أهل الضلال والجهل (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق) ففهم ذلك وعمل به كمن هو أعمى لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا فيؤثر طريقها ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره (إنما يتذكر أولوا الألباب) أصحاب العقول الرزينة (الذين يوفون بعهد الله) الذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة فالوفاء بها توفيتها حقها من التكميل لها والنصح فيها (ولا ينقضون الميثاق) أي العهد الذي عاهدوا الله عليه فدخل في ذلك جميع العهود والمواثيق والأيمان والنذور التي يعقدها العباد فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم إلا بأدائها كاملة وعدم نقضها وبخسها (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) أي يصلون كل ما أمر الله بوصله من الإيمان به وبرسوله ومحبته ومحبة رسوله والانقياد لعبادته وحده لا شريك له والطاعة لرسوله ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب والأرحام بالإحسان إليهم قولا وفعلا، ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملا موفرًا من الحقوق الدينية والدنيوية. والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل خشية الله وخوف يوم الحساب؛ ولهذا قال: (ويخشون ربهم) أي يخافونه؛ فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب أن يتجرؤوا على معاصي الله أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفًا من العقاب ورجاء للثواب. والذين صبروا على المأمورات بامتثالها وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر (ابتغاء وجه ربهم) لا لغير ذلك من#(1/135)
المقاصد والأغراض الفاسدة فإن هذا الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه طلبًا لمرضات ربه ورجاء للقرب منه والحظوة بثوابه وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته الجلد ومنتهاه الفخر فهذا يصدر من البر والفاجر والمؤمن والكافر فليس هو الممدوح على الحقيقة (وأقاموا الصلاة) بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرًا وباطنًا (وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية) دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون من حيث دعت الحاجة إلى النفقة سرًا وعلانية (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي من أساء إليهم بقول أو فعل قابلوه بالإحسان إليه فيعطون من حرمهم ويعفون عمن ظلمهم ويصلون من قطعهم ويحسنون إلى من أساء إليهم (أولئك) الذين تقدمت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة (لهم عقبى الدار) وهي العاقبة الحميدة فسرها بقوله (جنات عدن) أي بساتين إقامة مشتملة على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين لا يزولون منها ولا يبغون عنها حولا لأنهم لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور الذي تنتهي إليه المطالب والغايات ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم (يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) من الذكور والإناث وكذلك النظراء والأشباه والأصحاب والأحباب الصالحين فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم بالسلامة من العذاب وكرامة الله لهم بالثواب.(1/136)
ويقولون (سلام عليكم) أي حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم وذلك متضمن لزوال كل مكروه ومستلزم لحصول كل محبوب (بما صبرتم) أي بسبب صبركم وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية والجنات الغالية (فنعم عقبى الدار) أي نعم عاقبة الصبر على طاعة الله في الدنيا جنات النعيم في الآخرة فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قدر وقيمة أن يجاهدها لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب ولعلها تحظى بهذه الدار التي هي أمنية النفوس وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون وبالله التوفيق.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمة:
1- عدم التسوية بين العالم والجاهل والمهتدي والضال.
2- تشبيه عادم العلم والعمل بالأعمى لأنه تائه في ظلمات الجهل والضلال.
3- أنه لا يتذكر ويتعظ إلا أصحاب العقول الحية الواعية.
4- من أوصاف المؤمنين الوفاء بالعهد وعدم الغدر لأن ذلك من صفات المنافقين.#
5- من أوصاف المؤمنين امتثال أمر الله وصلة ما أمر بوصله فيبرون الوالدين ويصلون الأرحام ويحسنون إلى الأقارب والجيران والمماليك من الآدميين والبهائم.
6- من أوصاف المؤمنين خشية الله في السر والعلانية والخوف من سوء الحساب فلذلك يؤدون الواجبات ويتركون المحرمات.
7- من أوصاف المؤمنين الصبر على طاعة الله والصبر على أقدار الله والصبر عن محارم الله ابتغاء وجه ربهم.
8- من أوصاف المؤمنين إقامة الصلاة فرضًا ونفلا بجميع مكملاتها.
9- من أوصافهم النفقة مما رزقهم الله في الواجبات والمستحبات في السر والعلانية.
10- من أوصافهم مقابلة الإساءة بالإحسان فيصلون من قطعهم ويعطون من حرمهم ويعفون عمن ظلمهم.
11- حسن عاقبة المؤمنين وجزائهم، وعظم ثوابهم حيث فازوا بالجنة والخلود فيها وما اشتملت عليه من النعيم المقيم في جوار الرب الكريم ونجوا من النار.
12- أن من كمال نعيم أهل الجنة إلحاق أحبابهم الصالحين بهم.(1/137)
13- أن الملائكة يسلمون على المؤمنين إذا دخلوا الجنة ويهنئونهم بسلامة الله وكرامته لهم في الجنة بسبب صبرهم في الدنيا على طاعة الله. اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.#
من سورة إبراهيم عليه السلام
(وصية الله لعباده المؤمنين بإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله قبل أن لا يقدروا على ذلك وتذكيرهم بنعم الله عليهم ليشكروها)
قال تعالى: { قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ * اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (1) .
__________
(1) سورة إبراهيم آية 31 – 34.(1/138)
يقول الله تعالى: آمرًا عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الخلق في السراء والضراء في الخفية والعلانية وهي الجهر وليبادروا إلى ذلك وينتهزوا الفرصة لخلاص أنفسهم من قبل أن يأتي يوم القيامة حيث لا ينفع فيه أحد بمعاوضة بيع وشراء ولا بهبة خليل أو صديق فكل امرئ له شأن يغنيه فليقدم العبد لنفسه ولينظر ما قدمه لآخرته ويتفقد أعماله ويحاسب نفسه قبل الحساب الأكبر. ثم عدد الله تعالى نعمه بأن خلق لهم السماوات سقفًا محفوظًا والأرض فراشًا على اتساعهما وعظمهما { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم } كما قال تعالى { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } (1) ما بين زروع وثمار مختلفة الألوان والطعوم والروائح والمنافع (وسخر لكم الفلك) وهي السفن والمراكب والبواخر البحرية بأن سخر صنعتها وأقدركم عليها وحفظها على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى وسخر البحر لحملها لتحملكم وتحمل تجاراتكم وأمتعتكم إلى بلد تقصدونه (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) لا يفتران ليلا ولا نهارًا يسعيان لمصالحكم من حساب أوقاتكم ومصالح أبدانكم وحيواناتكم وزروعكم وثماركم (وسخر لكم الليل) لتسكنوا فيه (والنهار) مبصرًا لتبتغوا من فضله وسخر الأنهار للشرب وسقي الحروث والأشجار وغير ذلك من المنافع (وآتاكم من كل ما سألتموه) أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم مما تسألونه إياه بلسان الحال أو بلسان المقال من أنعام وآلات وصناعات وغير ذلك ثم أخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها فقال: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان#
__________
(1) سورة طه آية 53.(1/139)
لظلوم كفار) أي هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي مقصر في حقوق ربه كفار لنعم الله لا يشكرها ولا يعترف بها إلا من هداه الله فشكر نعمه وعرف حق ربه وقام بها ففي هذه الآيات من أصناف نعم الله على العباد شيء عظيم مجمل ومفصل يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره وذكره ويحثهم على ذلك ويرغبهم في سؤاله ودعائه آناء الليل والنهار كما أن نعمته تتكرر عليهم في جميع الأوقات.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- حث المؤمنين على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنفقة من رزق الله على الأقارب والمحتاجين في السر والعلن والمبادرة بذلك قبل فوات الأوان.
2- أن يوم القيامة لا ينفع فيه أحد أحدًا إلا من رحم الله.
3- الحث على المبادرة في الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات.
4- قدرة الله العظيمة على خلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن.
5- نعم الله الكبرى على خلقه بإنزال المطر وإنبات النبات وإخراج الثمرات رزقًا للعباد وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والمراكب البحرية لصالح العباد وكذلك تسخير الأنهار.
6- فضل الله العظيم على عباده حيث أعطاهم من كل ما سألوه.
7- وجوب الشكر لله على نعمه والثناء عليه بها والاستعانة بها على طاعته.
8- عجز العباد عن تعداد نعم الله وإحصائها.
9- ظلم الإنسان لنفسه في تقصيره في حقوق ربه وكفر نعمه وعدم شكرها.#
من سورة النحل
الأوامر والنواهي
قال تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } سورة النحل آية 90.(1/140)
يخبر الله تعالى أنه يأمر بالعدل والإحسان فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده ويعامل الخلق بالعدل التام فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونوَّاب الخليفة ونوَّاب القاضي والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقًا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم فالعدل واجب والإحسان فضيلة مستحبة وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم وغير ذلك من أنواع النفع حتى يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره وخص الله إيتاء ذي القربى وإن كان داخلا في العموم لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم والحرص على ذلك. ويدخل في ذلك جميع الأقارب قريبهم وبعيدهم لكن كل من كان أقرب كان أحق بالبر وقوله (وينهى عن الفحشاء) وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بالله والقتل بغير حق والزنا والسرقة والعجب والكبر واحتقار الخلق وغير ذلك من الفواحش. ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى، وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض.(1/141)
فصارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إلا دخل فيها فهذه قاعدة سائر الجزئيات فكل مسألة مشتملة على عدل وإحسان أو إيتاء ذي القربى فهي مما أمر الله به، وكل فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى الله عنه، وبها يعلم حسن ما أمر الله به وقبح ما نهى الله عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال وترد إليها سائر الأحوال فتبارك من جعل من كلامه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الأشياء ولهذا قال: (يعظكم لعلكم تذكرون) أي بما بينه لكم في كتابه بأمركم بما فيه غاية صلاحكم
ونهيكم عن ما فيه مضرتكم، لعلكم تذكرون ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه عملتم بمقتضاه فسعدتم#
سعادة لا شقاوة معها، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن أجمع آية في القرآن هذه الآية (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية. اهـ. وقد أمر الله تعالى في هذه الآية بثلاثة أشياء هي أصول التقوى وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، كما نهى عن ثلاثة أشياء هي أصول المعاصي والآثام وهي الفحشاء والمنكر والبغي.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- وجوب العدل في الأقوال والأفعال والأحكام بين الناس والعدل بين الزوجات في النفقة والكسوة والمبيت والقسمة والعدل بين الأولاد في العطية والترغيب فيه وفضله والحث عليه.
2- الحث على الإحسان في كل شيء في عبادة الله في إتقانها والإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران والإحسان إلى المماليك والبهائم.
3- الحث على إيتاء ذي القربى حقوقهم ووجوب ذلك.
4- تحريم الفواحش والمنكرات ما ظهر منها وما بطن.
5- تحريم البغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
6- فضل الله على خلقه حيث أرشدهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وحذرهم عن ما يضرهم في دينهم ودنياهم فله الحمد والشكر والثناء على ذلك.#
من سورة الإسراء(1/142)
قال الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } سورة الإسراء آية 1.
يمجد الله تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه من الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أنه (أسرى بعبده) ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (ليلا من المسجد الحرام) وهو مسجد مكة الذي هو أجلُّ المساجد على الإطلاق (إلى المسجد الأقصى) وهو بيت المقدس الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء (الذي باركنا حوله) بكثرة الأشجار والأنهار والزروع والثمار (لنريه) أي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (من آياتنا) أي العظام كما قال تعالى { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } (1) .
__________
(1) سورة النجم آية 18.(1/143)
(إنه هو السميع البصير) أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم ومصدقهم ومكذبهم البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة قال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة سبحان بعد سياق الأحاديث الواردة في الإسراء: (فصل): وإذ حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة، والحق أنه عليه والصلاة والسلام أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله وصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السماوات السبع فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة ثم جاوز منزلتيهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القدر بما هو كائن ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته التي خلق
عليها وله ستمائة جناح ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق ورأى البيت المعمور
وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه لا يعودون إليه إلى#(1/144)
يوم القيامة ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفًا بعباده وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما يستفاد من الآية الكريمة:
1- تنزيه الله تعالى عن ما لا يليق به من النقائص والعيوب.
2- الإيمان بإسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وعروجه إلى السماء.
3- بيان الحكمة في ذلك وهي إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم ورؤيته آيات ربه الكبرى وفرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته.
4- فضل المسجد الحرام الذي هو أفضل المساجد على الإطلاق لأنه يحوي الكعبة المشرفة قبلة المسلمين وموضع حجهم ولذلك عظم فضل الصلاة فيه.
5- فضل المسجد الأقصى بيت المقدس وبركته التي منها تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد الرسول بالمدينة، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه وأن الله اختصه محلا لكثير من أنبيائه وأصفيائه، خلصه الله من اليهود البغاة.
6- إثبات صفة السمع والبصر لله كما يليق به، وأنه يسمع أقوال عباده ويبصر أعمالهم والله سبحانه وتعالى أعلم.#
2- (حقوق الله وحقوق عباده)(1/145)
قال الله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا * وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا *(1/146)
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا * وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } سورة الإسراء آية 23 – 39.
قوله تعالى: (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذمومًا مخذولا) أي لا تعتقد أن أحدًا من المخلوقين يستحق شيئًا من العبادة ولا تشرك بالله أحدًا منهم فإن ذلك داعيًا للذم والخذلان لأن الله تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت من دونه معه، وهو لا يملك ضرًا ولا نفعًا لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له فمن تعلق بغيره فهو مخذول في أمر دينه ودنياه وقد وكل إلى من تعلق به. ولما نهى تعالى عن الشرك به أمر بعبادته وحده لا شريك له، فقال (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أي قضى قضاء شرعيًا وأمر أمرًا دينيًا أن لا يعبد أحد من أهل السماوات والأرض الأحياء والأموات إلا الله وحده لا شريك له لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وهو المتصف بصفات الكمال المتنزه عن صفات النقص وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله دون سواه، ثم ذكر بعد الأمر#(1/147)
بحقه الأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما مقرونًا بعدم الإساءة فقال: (وبالوالدين إحسانًا) أي أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي؛ لأنهما السبب في وجود العبد ولهما من الإحسان إلى الولد والمحبة له والقرب منه ما قضي تأكد حقهما عليه ووجوب البر منه (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) أي إذا كبرا ووصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما فلا تؤذهما أدنى إيذاء ولا تسمعهما قولا سيئًا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ (ولا تنهرهما) أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح ولا تزجرهما (وقل لهما قولا كريمًا) أي لينًا لطيفًا بتأدب وتوقير وتعظيم، ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) أي تواضع لهما بفعلك ذلا لهما ورحمة واحتسابًا للأجر لا لأجل الخوف منهما والرجاء لما عندهما ونحو ذلك (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) أي ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتًا جزاء على تربيتهما إياك صغيرًا وهذا بيان لبعض الأسباب الموجبة للبر وأن الوالدين اشتركا في تربية بدنك وروحك بالتغذية والكسوة والحضانة والقيام بكل المؤن وبالتعليم والإرشاد والإلزام بطاعة الله والآداب والأخلاق الجميلة (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا) أي أن الله تعالى مطلع على أسراركم وضمائركم ونياتكم يعلم ما تكنونه من خير وشر (إن تكونوا صالحين) بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة الله ورغبتكم فيما يقربكم إليه (فإنه كان للأوابين) الرجَّاعين إليه في جميع الأوقات من المعاصي إلى الطاعات والتوبة مما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه (غفورًا) لذنوبهم وسيئاتهم إذا تابوا منها، ولما ذكر تعالى بر الوالدين عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام فقال (وآت ذا القربى حقه) من البر والإكرام الواجب والمسنون(1/148)
(والمسكين) أعطه حقه من الزكاة وغيرها لتزول مسكنته (وابن السبيل) وهو الغريب المنقطع عن بلده (ولا تبذر تبذيرًا) لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطًا كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } (1) الآية ثم قال منفرًا عن السرف والتبذير (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) أي أشباههم في ذلك والتبذير الإنفاق في غير حق ولا مصلحة ومن التبذير النفقة في معصية الله وما يوصل إليها كاشتراء الصور ذوات الأرواح والأشرطة التي سجل فيها أغاني، وإنفاق المال في الدخان الخبيث ونحو ذلك فكل هذا وما في معناه فالنفقة فيه إسراف وتبذير والله لا يحب المسرفين وقد أخبر أن المبذرين إخوان الشياطين، فالشيطان يدعو إلى كل خصلة ذميمة فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك فإن عصاه دعاه الإسراف#
__________
(1) سورة الفرقان آية 67.(1/149)
والتبذير وإنفاق المال بالباطل وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة» (1) فالمبذرون إخوان الشياطين في السفه والتبذير وترك طاعة الله وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: (وكان الشيطان لربه كفورا) أي جحودًا لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته بل أقبل على معصيته ومخالفته، وقوله تعالى: (وأما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة (فقل لهم قولا ميسورًا) أي عدهم وعدًا بسهولة ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله. ثم قال تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامًا للبخل ناهيًا عن السرف: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) كناية عن شدة الإمساك والبخل أي لا تكن بخيلا منوعًا لا تعطي أحدًا شيئًا (ولا تبسطها كل البسط) أي لا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك (فتقعد) إن فعلت ذلك (ملومًا) إن بخلت بمالك يلومك الناس ويذمونك، ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه فتكون (محسورًا) حاسر اليد فارغها، ثم أخبر تعالى بأنه هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء فقال: (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء فيغني من يشاء ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة ولهذا قال: (إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا) أي بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر كما جاء في الحديث القدسي: «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك» (2)
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه الطبراني..(1/150)
أو كما جاء في الحديث، وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجًا والفقر عقوبة نعوذ بالله من ذلك كله (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا) ينهى الله المؤمنين عن قتل أولادهم خشية الفقر فهو تعالى المتكفل برزق الجميع وهذا من رحمته بعباده حيث كان أرحم بهم من والديهم وأخبر (إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا) أي ذنبًا عظيمًا من كبائر الذنوب لزوال الرحمة من القلب والتجري على قتل الأطفال الذين لم يصدر منهم ذنب ولا معصية (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه كالنظر المحرم والسماع المحرم والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه: (إنه كان فاحشة) أي أن الزنا كان إثمًا كبيرًا#
وذنبًا عظيمًا يستفحش في الشرع والعقل والفطر لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وفي حق المرأة وحق أهلها وزوجها وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد وقوله: (وساء سبيلا) أي بئس طريقًا ومسلكًا سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم.(1/151)
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) يقول تعالى ناهيًا عن قتل النفس إلا بحق شرعي وهو شامل لكل نفس حرم الله قتلها من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد ومسلم وكافر له عهد: (إلا بالحق) كالنفس بالنفس قصاصًا والزاني المحصن والتارك لدينه المرتد عن الإسلام المفارق للجماعة والباغي في حال بغيه إذا لم يندفع إلا بالقتل (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا) أي من قتل بغير حق فقد جعل الله لوليه وهو أقرب عصابته وورثته إليه سلطنة على القاتل فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودًا وإن شاء عفى عنه إلى الدية وإن شاء عفى عنه مجانًا وذلك حين تجتمع الشروط الموجبة للقصاص كالعمد العدوان والمكافأة. (فلا يسرف في القتل) أي لا يسرف الولي في قتل القاتل، والإسراف مجاوزة الحد بأن يمثل به أو يتقص من غير القاتل أو يقتله بغير ما قتل به (إنه كان منصورا) أي أن ولي المقتول منصورًا على القاتل شرعًا وغالبًا قدرًا.(1/152)
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا فيما ينفعه من تجارة فيه وعدم تعرضه للأخطار والحرص على تنميته إلى أن يبلغ رشده ويعقل فإذا بلغ رشده دفع إليه ماله وصار ولي نفسه (وأوفوا بالعهد) الذي عاهدتم الله عليه والذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملونهم بها (إن العهد كان مسئولا) مسئولون عن الوفاء به فإن وفيتم به فلكم الثواب العظيم، وإن لم تفعلوا فعليكم الإثم الوبيل (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) هذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط من غير بخس ولا نقص ولا تطفيف (والقسطاس المستقيم) هو الميزان السوي الذي لا اعوجاج فيه (ذلك خير وأحسن تأويلا) إيفاء المكاييل والموازين وإعطاء الناس حقوقهم خير لكم من معاشكم ومعادكم من عدمه وأحسن عاقبة وثوابا في آخرتكم وبذلك تتنزل البركات (ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبع ما ليس لك به علم فلا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم فالله ينهى عن القول بلا علم بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) أي أن العبد مسؤول عما قاله وفعله واستمع إليه وعن ما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته فحقيق به أن يعد للسؤال#(1/153)
جوابًا وذلك لا يكون إلا باستعمالها في عبادة الله وإخلاص الدين له وكفها عن ما يكرهه الله تعالى، فعلى من يؤمن بالله واليوم الآخر ويرجو الثواب ويخاف العقاب أن يعرض عن السماع المحرم كالغناء والغيبة، والنظر المحرم كالنظر إلى النساء الأجانب الذين ليسوا من محارمه، ثم نهى الله عباده عن التكبر والتبختر في المشية فقال: (ولا تمش في الأرض مرحا) أي متبخترًا متمايلا كمشي الجبارين متكبرًا على الحق ومتعاظمًا في تكبرك على الخلق، (إنك لن تخرق الأرض) أي لن تقطع الأرض بمشيك (ولن تبلغ الجبال طولا) بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل تكون حقيرًا عند الله ومحتقرًا عند الخلق مبغضًا ممقوتًا قد اكتسبت شر الأخلاق وفي الحديث: «من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وفي أعين الناس كبير، ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أهون عليهم من كلب وخنزير» (1)
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان..(1/154)
(كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) كل ما نهى الله عنه فيما تقدم من قوله: (لا تجعل مع الله إلها آخر) والنهي عن عقوق الوالدين، وما عطف على ذلك يسوء العاملين ويضرهم والله تعالى يكرهه ويأباه (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) يقول الله تعالى هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس من الحكمة وهي الأمر بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والنهي عن أراذل الأخلاق وأسوأ الأعمال وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات من الحكمة العالية التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين في أشرف الكتب ليأمر بها أفضل الأمم فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا وختمها بالنهي عن عبادة غير الله كما افتتحها بذلك فقال: (ولا تجعل مع الله إلهًا آخر فتلقى في جهنم) خالدًا مخلدًا فيها أبدًا فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار والله لا يغفر لمن أشرك (ملومًا) وتلوم نفسك ويلومك الله والخلق (مدحورًا) مبعدًا مطرودًا من كل خير قد لحقتك اللائمة واللعنة والذم من الله والملائكة والناس أجمعين، والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- تحريم الشرك بالله في القول والعمل والاعتقاد؛ كدعاء غير الله والذبح لغيره والتوكل على غيره في جلب نفع أو دفع ضر أو حصول نصر أو غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله.#
2- وعيد من أشرك بالله بالذم والخذلان واللوم والطرد والإبعاد عن رحمة الله ودخول نار جهنم والخلود فيها إن مات ولم يتب.
3- وجوب عبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين له.
4- وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما بالقول والفعل وتحريم أذيتهما بالقول والفعل وخصوصًا عند الكبر.(1/155)
5- مشروعية الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة في حياتهما وبعد موتهما مقابل تربيتهما للولد وعطفهما عليه وهو صغير.
6- أنه كل ما ازدادت التربية ازداد الحق.
7- أن من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين، فإن له على من رباه حق التربية.
8- علم الله بأحوال خلقه من صلاح وفساد وما تكنه ضمائرهم.
9- مغفرة الله للرجاعين إليه بالتوبة والإنابة في جميع الأوقات.
10- الحث على صلة الأرحام والأقارب والمساكين والمسافرين المنقطعين والإحسان إليهم.
11- تحريم تبذير المال والإسراف في إنفاقه بغير حق في المعاصي والمحرمات.
12- وعيد المبذرين وذمهم ووصفهم بكونهم إخوان الشياطين وأتباعهم في معصية الله وكفر نعمه.
13- أنه ينبغي لمن عجز عن الإحسان بماله أن يحسن بقوله، ويعد بذلك عند حصول الرزق وعدًا حسنًا.
14- لطف الله بالعباد حيث أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه لأن انتظار ذلك عبادة وكذلك وعدهم بالصدقة والمعروف عند التيسير عبادة حاضرة؛ لأن لهم بفعل الحسنة حسنة.
15- ينبغي للإنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير؛ ليثاب على ذلك ولعل الله ييسر له بسبب رجائه.
16- الحث على التوسط في الإنفاق بقدر الحاجة من غير بخل ولا تبذير وإسراف.
17- حكمة الله في بسط الرزق لمن يشاء وتضييقه على من يشاء وعلمه بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر.
18- أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد كما وصى الآباء بالأولاد في الميراث.#
19- تحريم قتل الأولاد خوف الفقر فرزق الجميع بيد الله فقد كتبت أرزاقهم وهم في بطون أمهاتهم بالأسباب المقدرة لهم.
20- أن قتل الأولاد خطأ عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب؛ حيث كان ظلمًا وعدوانًا بغير حق.
21- تحريم الزنا ودواعيه ومقدماته كالنظر إلى النساء الأجانب والخلوة بهن وسماع أصواتهن والتلذذ بذلك وسماع الأغاني ونحو ذلك.
22- قبح الزنا وفحشه في الشرع والعقل والفطرة السليمة.(1/156)
23- تحريم قتل المسلم إلا بحق القصاص والزنا بعد الإحصان أو الردة عن الإسلام أعاذنا الله من ذلك.
24- أن من قتل مظلومًا فلوليه سلطة على القاتل فله الخيار بين أن يقتل أو يأخذ الدية أو يعفو مجانًا إذا كان القتل عمدًا عدوانًا والمقتول مكافئًا للقاتل مع بقية الشروط.
25- تحريم الإسراف في القتل بالتعدي إلى غير المشروع.
26- أن ولي المقتول منصور على القاتل، وأن الحق في القتل له فإن عفى سقط القود.
27- تحريم قرب مال اليتيم لغير مصلحة حتى يبلغ رشده.
28- وجوب الوفاء بالعهد وعدم نقضه وأنه سوف يسأل عنه ويجازى عليه.
29- وجوب إيفاء الكيل والوزن بالعدل في ذلك بعدم التطفيف والنقص وأن ذلك خير لفاعله وأحسن عاقبة.
30- النهي عن كل غش في ثمن أو مثمن أو معقود عليه.
31- الأمر بالصدق والنصح في المعاملة.
32- لطف الله ورحمته باليتيم الذي فقد والده وهو صغير غير عارف بمصلحة نفسه ولا قائم بها أن أمر أولياءه بحفظه وحفظ ماله وإصلاحه وأن لا يقربوه إلا بالتي هي أحسن.
33- الأمر بالتثبت في كل ما يقوله الإنسان ويفعله والنهي عن القول بغير علم.
34- أن العبد سوف يسأل عما قاله وفعله واستمع إليه من خير وشر وحق وباطل فعليه أن يحاسب نفسه في ذلك وأن يعد للسؤال جوابًا.
35- تحريم المشي في الأرض كبرًا وتبخترًا وتعاظمًا وعجبًا بالنفس.
36- التنبيه على قبح هذه الجرائم وسوء مضرتها لقوله تعالى: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها).
37- التنبيه على عظم شأن هذه الأحكام لقوله: (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة).#
3- (وصية الله لعباده المؤمنين أن يقولوا الكلام الأحسن في مخاطباتهم)
قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبيِنًا } سورة الإسراء آية 53.(1/157)
يأمر الله تبارك وتعالى عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا الكلام الأحسن والكلمة الطيبة في مخاطباتهم ومحاوراتهم فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم، وعداوته ظاهرة بينة ولهذا نهي الرجل أن يشير إلى أخيه المسلم بحديدة فإن الشيطان ينزغ في يده فربما أصابه بها ولهذا قال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) وهذا أمر بكل كلام حسن يقربه إلى الله من قراءة قرآن وحديث ودراسة علم وذكر الله وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يؤمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما، والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره، وقوله: (إن الشيطان ينزغ بينهم) أي يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه فإنه يدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير فعليهم أن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- لطف الله بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة.
2- الأمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر.
3- التحذير من طاعة الشيطان ووساوسه.
4- عداوة الشيطان للإنسان عداوة ظاهرة حيث يحاول إضلاله وإفساد دينه ليكون من أصحاب السعير.#
من سورة مريم
إنذار الناس يوم الحسرة حين يقضى الأمر وهم في غفلة(1/158)
قال تعالى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } آية 39 – 40.
يأمر الله تعالى رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر الناس، والإنذار هو الإعلام بالمخاوف على وجه الترهيب والإخبار بصفاته وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد يوم القيامة وهو يوم الحسرة حين يقضى الأمر فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد ويسألون عن أعمالهم فمن آمن بالله واتبع رسله سعد سعادة لا يشقى بعدها ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله بل كفر بالله وعصاه شقي شقاوة لا يسعد بعدها وخسر نفسه وأهله، فحينئذ يتحسر ويندم ندامة تتقطع منها القلوب وتتصدع منها الأفئدة حيث لا ينفع الندم ولا التحسر (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) (1) (يا ليتني قدمت لحياتي) (2) (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) (3) وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته واستحقاق سخطه والنار، على وجه لا يتمكن من الرجوع ليستأنف العمل ولا سبيل إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا فهذا أمامهم والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم ولو خطر فعلى سبيل الغفلة التي عمتهم وشملتهم السكرة؛ فهم لا يؤمنون بالله ولا يتبعون رسله ألهتهم دنياهم وحالت بينهم وبين الإيمان شهواتهم المنقضية الفانية فالدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها ستذهب عن أهلها ويذهبون عنها وسيرث الله الأرض ومن عليها ويرجعهم إليه فيجازيهم بما عملوا فيها وما خسروا فيها وربحوا فمن وجد خيرًا فليحمد الله على توفيقه وهدايته ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لتفريطه وإضاعته.
ما يستفاد من الآية الكريمة:
1- الحث على الاستعداد للموت وما بعده بالإيمان والعمل الصالح.
__________
(1) سورة الزمر آية 56.
(2) سورة الفجر آية 24.
(3) سورة الفرقان آية 27.(1/159)
2- التحذير من الغفلة في هذه الحياة عن طاعة الله وما ينجي من عذابه.
3- في يوم القيامة يندم المفرط على تفريطه ويتحسر الغافل على غفلته.
4- أن الله سوف يفني الخلائق ويرث الأرض ومن عليها.#
أسباب المغفرة
من سورة طه
قال الله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } سورة طه آية 82.
ذكر الله في هذه الآية للمغفرة أربعة أسباب:
1- التوبة النصوح في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات قال الله تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } سورة النور آية 31.
فإذا تبتم أفلحتم ونجحتم وسعدتم في الدنيا والآخرة وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } سورة التحريم آية 8 وتكفير السيئات ودخول الجنات المشتملة على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين حاصل لمن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحًا صادقة بأن يفعل التائب الواجبات ويترك المحرمات ويندم على ما فات من ذنوب وسيئات ويعزم أن لا يعود إليها في المستقبل فإنها تكفر سيئاته ويدخل الجنة برحمة الله تعالى بسبب توبته النصوح. وقال تعالى: { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة الأعراف آية 153 وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } سورة الشورى آية 25 والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.(1/160)
2- ومن أعظم أسباب المغفرة الإيمان الصادق بالله تعالى وأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، والإيمان بملائكة الله الكرام البررة وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، والإيمان بكتب الله المنزلة على رسله لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور وفي مقدمتها القرآن الكريم أفضل الكتب السماوية { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } سورة فصلت آية 42 وقال تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } سورة النحل آية 89. وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } سورة المائدة
آية 15 – 16#
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } سورة يونس آية 57.
والإيمان برسل الله عليهم الصلاة والسلام جملة وتفصيلا وفي مقدمتهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله رحمة للعالمين وجعل أمته خير الأمم وكتابه القرآن خير الكتب وشريعته أفضل الشرائع وأسمحها وأسماها وأكمل الله له ولأمته دينهم ورضيه منهم وأتم عليهم به النعمة فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك.(1/161)
والإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء والحساب والثواب والعقاب والحوض والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثواب للمحسنين وعقاب للمسيئين! والإيمان بالقدر خيره وشره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه قال عليه الصلاة والسلام «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيَّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يوتى إليه» رواه مسلم.
3- ومن أعظم أسباب المغفرة: العمل الصالح الخالص لله الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صلاة وصدقة وصوم وحج وتلاوة قرآن وذكر لله ودعاء واستغفار وأمر بمعروف ونهي عن منكر وجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } سورة لقمان آية 8 – 9.
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } سورة الكهف آية 107 – 108 وفي القرآن ما يزيد على خمسين آية يقرن الله فيها الإيمان بالعمل الصالح ويرتب عليهما سعادة الدنيا والآخرة والسلامة من شقاوة الدنيا والآخرة.(1/162)
4- والاستمرار على الإيمان الصادق والعمل الصالح والتوبة النصوح مدى الحياة حتى الممات قال الله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } سورة الحجر آية 99. أي حتى تموت وقال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سورة الأحقاف آية 13 – 14.#
وطلب رجل من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصية جامعة لأبواب الخير فقال: «يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم» وفي رواية «قل ربي الله ثم استقم» رواه مسلم. والاستقامة هي لزوم طاعة الله تعالى، وتشمل فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، قال - صلى الله عليه وسلم - : «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه أحمد وغيره ورمز السيوطي لصحته.
فأسباب المغفرة كلها منحصرة في هذه الأسباب الأربعة: الإيمان الصادق والعمل الصالح والتوبة النصوح والاستقامة على ذلك، فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، والإيمان والإسلام يهدم ما قبله والعمل الصالح الذي هو الحسنات يذهب السيئات، وسلوك طرق الهداية من تعلم علم وتعليمه والدعوة إليه والعمل به والصبر عليه -كلها مكفرات للذنوب وموجبات للمغفرة والرحمة والرضوان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (1) .#
أسباب العذاب
قال الله تعالى: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } سورة طه آية 48 وقال تعالى: { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } سورة الليل آية 14 – 16.
__________
(1) انظر تفسير ابن سعدي جـ 5 ص 88 ط1.(1/163)
وقال تعالى في حق بعض الكفار { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } سورة القيامة آية 31 – 32، فأسباب العذاب منحصرة في هذين السببين وهما تكذيب القلب بخبر الله ورسوله وإعراض البدن عن طاعة الله ورسوله { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } سورة النور آية 63.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. #
من سورة الأنبياء
(اقتراب حساب الناس ومجازاتهم على أعمالهم وهم في غفلة معرضون)(1/164)
قال الله تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (1) هذا تعجب من حالة الناس وأنهم لا ينفع فيهم تذكير ولا يرعوون إلى نذير، وأنهم قد قرب حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة، والحال أنهم (في غفلة معرضون) أي في غفلة عما خلقوا له وإعراض عما زجروا به كأنهم للدنيا خلقوا وللتمتع بها ولدوا وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم ولهذا قال (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم ويرهبهم منه وهذا إخبار أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزله الله على رسوله (محدث) أي جديد إنزاله (إلا استمعوه) سماعا تقوم عليهم به الحجة حيث لم يعملوا به (وهم يلعبون لاهية قلوبهم) أي قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها الدنيوية، وأبدانهم لاعبة قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل والأقوال الخاطئة مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه وتستمعه استماعا تفقه المراد منه وتسعى جوارحهم في عبادة ربهم التي خلقوا لأجلها ويجعلون القيامة والحساب والجزاء نصب أعينهم فبذلك يتم لهم أمرهم وتستقيم أحوالهم وتزكو أعمالهم.
__________
(1) سورة الأنبياء آية 1 – 4.(1/165)
ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون والظالمون على وجه العناد ومقابلة الحق بالباطل وأنهم تناجوا وتواطأوا فيما بينهم أن يقولوا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه بشر مثلكم فما الذي فضله عليكم وخصه من بينكم فإنه ساحر وما جاء به من القرآن سحر (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) أفتتبعونه فتكونوا كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر، فقال تعالى: مجيبا لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض) أي أن الله تعالى يعلم القول الجلي والخفي في السماء والأرض لا يخفى عليه خافية في جميع أرجائها وهو السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم.#
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- التنبيه على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها لا يعملون لها، ويستعدون لها ولا يستعدون من أجلها.
2- الزجر عن الغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة وما يقرب إليها.
3- العجب من الغافل المعرض ولا يدري متى يفجؤه الموت صباحا أو مساء.
4- أن من مات قامت قيامته ودخل في دار الجزاء على الأعمال وأول منازل الآخرة القبر.
5- علم الله بأقوال عباده في السماوات والأرض.
6- إثبات صفة السمع والعلم لله على ما يليق به سبحانه.
7- وعيد الكفرة والعصاة بأن الله يراهم ويسمعهم ويعلم أقوالهم وأفعالهم وسرهم وعلانيتهم، وسوف يجازيهم على ذلك أوفر الجزاء.#
من سورة الحج
عظم زلزلة الساعة وأهوالها(1/166)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ } (1) يخاطب الله الناس كافة بأن يتقوا ربهم الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، فحقيق بهم أن يتقوه بترك الشرك والفسوق والمعاصي ويمتثلوا أوامره فيما استطاعوا، ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ويحذرهم من تركها وهو الإخبار بما يستقبلونه من أهوال القيامة وزلازلها وأحوالها فقال (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) هائل لا يقدر ولا تعلم صفته ذلك بأنها إذا وقعت الساعة رجفت الأرض فارتجت وزلزلت زلزالها وتصدعت الجبال واندكت وكانت كثيبًا مهيلا ثم كانت هباء منبثًّا. ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون فهناك تنفطر السماء وتكور الشمس والقمر وتنتثر النجوم ويكون من الحوادث المزعجة ما تنصدع له القلوب وتشيب منه الولدان ولهذا قال: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) أي تندهش الوالدة عن ولدها في حال إرضاعها له فتشغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها والتي هي أشفق الناس عليه. (وتضع كل ذات حمل حملها) أي قبل تمامه لشدة الفزع والهول (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) أي تحسبهم أيها الرائي لهم سكارى من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه فدهشت عقولهم وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى وليس كذلك (ولكن عذاب الله شديد) فلذلك أذهب عقولهم وفرغ قلوبهم وملأها من الفزع وبلغت القلوب الحناجر وشخصت الأبصار في ذلك اليوم { لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } (2) ويومئذ
__________
(1) سورة الحج آية 1 – 2.
(2) سورة لقمان آية 33.(1/167)
{ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ } (1) وهناك { يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } (2) وتسودُّ حينئذ وجوه وتبيض وجوه وتنصب الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذر من الخير أو الشر، وتنشر#
__________
(1) سورة عبس آية 34 – 37.
(2) سورة الفرقان آية 27 – 28.(1/168)
صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأقوال والأفعال والنيات من صغير وكبير، وينصب الصراط على متن جهنم وتزلف الجنة للمتقين { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } (1) { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } (2) ويقال لهم { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } (3) وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } (4) قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب الأليم وأيسوا من كل خير ووجدوا أعمالهم كلها لم يفقدوا منها صغيرًا ولا كبيرًا، هذا والمتقون في روضات الجنات يحبرون وفي أنواع اللذات يتفكهون وفي ما اشتهت أنفسهم خالدون، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه أن يعدَّ له عدته وأن لا يلهيه الأمل فيترك العمل وأن تكون تقوى الله شعاره وخوفه دثاره ومحبة الله وذكره روح أعماله { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } (5) { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } (6) والله ولي التوفيق.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- وجوب تقوى الله بفعل ما أمر وترك ما نهى.
2- الحث على المسابقة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات.
3- عظم زلزلة الساعة وأهوالها وإفزاعها حيث تذهل المرضعة عن ولدها، وتضع الحامل حملها ويصبح الناس كأنهم سكارى.
4- شدة عذاب الله لمن كفر به وعصاه.#
من سورة المؤمنين
- 1 -
من أوصاف المؤمنين
__________
(1) سورة الشعراء آية 91.
(2) سورة الفرقان آية 12 – 13.
(3) سورة الفرقان آية 14.
(4) سورة المؤمنون آية 108.
(5) سورة الصافات آية 61.
(6) سورة المطففين آية 26.(1/169)
قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } سورة المؤمنون 1 – 11.
روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ (قد أفلح المؤمنون)» حتى ختم العشر.
وقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) أي فازوا وسعدوا ونجحوا وحصلوا على الفلاح، وهم المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وهم المتصفون بهذه الأوصاف (الذين هم في صلاتهم خاشعون) خائفون ساكنون والخشوع في الصلاة هو حضور القلب بين يدي الله تعالى مستحضرًا لقربه، فيسكن لذلك قلبه وتطمئن نفسه وتسكن حركاته ويقل التفاته متأدبًا بين يدي ربه مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته من أولها إلى آخرها؛ فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة وهذا هو روح الصلاة ولبها والمقصود منها وهو الذي يكتب للعبد فليس له من صلاته إلا ما عقل منها
والصلاة بلا خشوع كبدن ميت بلا روح وهي وإن كانت مجزئة فإن الثواب بحسب ما تعقل منها، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «حبب إلي(1/170)
من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» (1) وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : «يا بلال أرحنا بالصلاة» (2) (والذين هم عن اللغو معرضون) اللغو الباطل وهو يشمل الشرك والمعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال#
__________
(1) رواه النسائي وأحمد في المسند وسنده حسن وصححه الحاكم وجوده العراقي وحسنه ابن حجر (زاد المعاد 1/265 بتحقيق الأرنؤوط).
(2) رواه أبو داود في الأدب وأحمد في المسند وسنده صحيح (المصدر السابق في نفس الجزء والصفحة).(1/171)
كما قال تعالى { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } (1) وإذا ملك العبد لسانه إلا في الخير كان مالكًا لأمره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما وصاه بوصايا: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله قال قلت بلى يا رسول الله قال: كف عليك هذا» (2) فمن صفات المؤمنين الحميدة كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات (والذين هم للزكاة فاعلون) أي مؤدون لزكاة أموالهم على اختلاف أجناسها ومزكُّون لأنفسهم عن أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكو النفوس بتركها كما قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } (3) فلما أحسنوا في عبادة الخالق بالخشوع أحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة (والذين هم لفروجهم حافظون) أي الذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ودواعيه كالنظر واللمس والخلوة بالأجنبية واللواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري المملوكات ومن تعاطى ما أحله الله فلا لوم عليه ولا حرج ولهذا قال (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) أي من طلب غير الأزواج والإماء فأولئك الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي مراعون لأماناتهم وعهودهم ضابطون لها حريصون على القيام بها وتنفيذها، فإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا وفوا ولم يغدروا. وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق الله والتي هي حق للعباد، فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة عليه حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين كالأموال والأسرار ونحوهما فعلى العبد مراعاة الأمرين وأداء الأمانتين { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } (4)
__________
(1) سورة الفرقان آية 72.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(3) سورة الشمس آية 9.
(4) سورة النساء آية 58..(1/172)
وكذلك العهد يشمل العهود التي بينهم وبين العباد والتي يلتزمها العبد لله فعليه مراعاتها والوفاء بها (والذين هم على صلواتهم يحافظون) يداومون عليها في أوقاتها وشروطها وأركانها فمدحهم بالخشوع في الصلاة والمحافظة عليها؛ لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع أو يخشع فيها من غير محافظة عليها فإنه مذموم ناقص. ولما وصف الله المؤمنين بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال (أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) والفردوس أعلى الجنة ووسطها وأفضلها؛ لأنهم حُلُّوا من صفات الخير أعلاها وذروتها، والمراد بذلك جميع الجنة ليدخل بذلك عموم#
المؤمنين على حسب درجاتهم في مراتبهم كل بحسب حاله (هم فيها خالدون) لا ينتقلون، ولا يموتون ولا ينقطع عنهم نعيمها ولا يبغون عنها حولا لاشتمالها على أكمل نعيم وأفضله وأتمه من غير مكدر ولا منغص. وثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن».
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- فلاح المؤمنين وفوزهم بالمطلوب ونجاتهم من الذنوب.
2- الحث على الاتصاف بصفات المؤمنين والترغيب فيها.
3- الحث على الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها.
4- من صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو من الكلام الباطل وما لا خير فيه ولا فائدة.
5- من صفاتهم الحميدة تزكية النفوس والأموال.
6- من صفاتهم حفظ الفروج عن الحرام والزنا ودواعيه كالنظر واللمس ونحوهما.
7- تحريم نكاح المتعة، وهو النكاح إلى مدة معلومة.
8- تحريم نكاح المحلل والمحلل له.
9- تحريم العادة السرية، وهي الاستمناء باليد ونحوها.(1/173)
10- يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه فلو كان له بعضها لم تحل لأنها ليست مما ملكت يمينه بل هي ملك له ولغيره فكما أنه لا يجوز أن يشترك في المرأة الحرة زوجان فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة سيدان.
11- الحث على مراعاة الأمانات والعهود بحفظها وتنفيذها وعدم الخيانة فيها سواء في ذلك حقوق الله وحقوق عباده التي ائتمنوا عليها وأخذ عليهم العهد فيها.
12- الحث على المحافظة على الصلوات في أوقاتها مع الجماعة في المسجد والمداومة عليها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها.
13- التنبيه على فضل الصلاة وعظم شأنها حيث افتتح الله بها أعمال البر واختتمها بها فدل ذلك على أفضليتها كما قال صلى الله عليه وسلم «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه مالك وأحمد وابن ماجة والدارمي وصححه الحاكم والمنذري (1) .#
2- الجمع بين الإحسان في عبادة الله والخوف من عقابه
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } سورة المؤمنون آية
57 – 61.
__________
(1) انظر مشكاة المصابيح 1/96.(1/174)
لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن الذين يزعمون أن إعطاء الله إياهم في الدنيا دليل على كرامتهم وفضلهم -ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف فقال (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من ربهم خائفون أن لا يقبل منهم، وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى وخوفا على إيمانهم من الزوال ومعرفة منهم بربهم وما يستحقه من الإجلال والإكرام، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عن الذنوب وعدم التقصير في الواجبات (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) أي يصدقون بآيات الله الشرعية والأفقية والكونية، وإذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيمانًا وتفكرا ويقينا (والذين هم بربهم لا يشركون) أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، فلا يشركون شركًا جليًا كاتخاذ غير الله معبودًا يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله ولا شركًا خفيًّا كالرياء ونحوه بل هم مخلصون لله في أقوالهم وأفعالهم وسائر أحوالهم.
(والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، ويعطون من أنفسهم مما أمروا به ما آتوا من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة وحج وصدقة وقراءة وذكر وغير ذلك، ويخافون أن لا يقبل منهم (أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) أي يخافون عند رجوعهم إلى الله أن لا تكون أعمالهم مقبولة، وهم يسارعون في أعمال الخير همهم فيما يقربهم إلى الله وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه فكل خير سمعوا به بادروا إليه فهم يسارعون في كل خير وينافسون في الزلفى عند ربهم.
ولما كان السابق لغيره قد يسبق بجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره -أخبر أن هؤلاء من القسم السابقين، فقال (وهم لها) أي للخيرات (سابقون) قد بلغوا أعلاها، وقد سبقت لهم من الله سابقة السعادة أنهم سابقون. وروى الإمام أحمد(1/175)
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله (الذين يؤتون ما آتوا
وقلوبهم وجلة) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر#
وهو يخاف الله عز وجل قال: «لا يا ابنة الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل. وفي رواية وهم يخافون أن لا يتقبل منهم (أولئك يسارعون في الخيرات)». رواه الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم (1) .
ما يستفاد من هذه الآيات:
اشتملت هذه الآيات على عدة أوصاف للمؤمنين:
1- خشية الله وخوفه في السر والعلانية.
2- الإيمان بآيات الله والعمل بها.
3- عدم الشرك بالله شيئًا.
4- توحيد الله وإخلاص الدين له.
5- فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
6- الجمع بين الإحسان والخوف من عدم القبول والرجاء.
7- الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال.
8- المسارعة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات.
9- سبق هؤلاء المؤمنين إلى مطلوبهم وفوزهم بمرغوبهم.#
من سورة الفرقان
صفات المؤمنين المتقين عباد الرحمن
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 3/248.(1/176)
قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } الآيات 63 – 77 من سورة الفرقان.(1/177)
هذه صفات المؤمنين المتقين عباد الرحمن الذين وصلوا إليها واتصفوا بها برحمته، فذكر من صفاتهم أكمل الصفات فوصفهم بأنهم (الذين يمشون على الأرض هونًا) أي ساكنين متواضعين لله وللخلق، فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده (وإذا خاطبهم الجاهلون) أي خطاب جهل وإساءة وقلة أدب (قالوا سلاما) أي خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله (والذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا) أي يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه كما قال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1) (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) أي من صفات المؤمنين الخوف من الله ومن عذابه وأنهم يدعون الله أن يصرف عنهم عذاب النار وأن عذابها ملازم لأهلها كملازمة الغريم لغريمه، فهم يسألون الله أن يدفعه عنهم بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منهم من أسباب#
العذاب (إنها ساءت مستقرًا ومقامًا) أي بئست النار مسكنًا ومستقرًا، هذا على جهة التضرع إلى الله وشدة الحاجة إليه في صرف هذا العذاب وأنه ليس في طاقتهم احتماله.
__________
(1) سورة السجدة آية 16-17.(1/178)
(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا) أي إذا أنفقوا النفقات الواجبة والمستحبة (لم يسرفوا) بأن يزيدوا على الحد فيدخلون في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة (ولم يقتروا) يضيقوا على أنفسهم وأولادهم ومن تلزمهم نفقته (وكان بين ذلك قوامًا) كان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير وسطًا بقدر الحاجة فبذلوا في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة في ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا إضرار (والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر) بل يعبدونه ويوحدونه مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه معرضين عما سواه في جميع شؤونهم.(1/179)
(ولا يقتلون النفس التي حرم الله) وهي نفس المسلم والكافر المعاهد (إلا بالحق) كقتل النفس بالنفس والزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله (ولا يزنون) لا يفعلون جريمة الزنا بل يحفظون فروجهم (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) (ومن يفعل ذلك) الشرك أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو الزنا (يلق أثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا) أي يخلد في العذاب ويلقى الذل والإهانة فيه، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: فالوعيد بالخلود على فعلها كلها ثابت لا شك فيه وكذلك لمن أشرك بالله وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة لكونها إما شركًا وإما من أكبر الكبائر. وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود لأنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن جميع المؤمنين يخرجون من النار ولا يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما فعل، ونص تعالى على هذه الثلاثة لأنها أكبر الكبائر فالشرك فيه فساد الأديان والقتل فيه فساد الأبدان، والزنا فيه فساد الأعراض والأنساب.اهـ. (إلا من تاب) عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى من فعلها وعزم عزمًا جازمًا أن لا يعود إليها أبدًا في المستقبل، (وآمن) بالله إيمانًا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات (وعمل عملا صالحًا) خالصًا لله جاريًا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) أي تتبدل أقوالهم وأفعالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانًا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا لكل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تتبدل حسنات كما هو ظاهر الآية.(1/180)
(وكان الله غفورًا رحيمًا) لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة رحيمًا بعباده المؤمنين حيث دعاهم إلى التوبة ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم (ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا) فليعلم أن توبته في غاية الكمال لأنها رجوع إلى الطريق الحق المستقيم الموصل إلى الله#
الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه فيها وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة.
(والذين لا يشهدون الزور) أي لا يحضرون الزور وهو القول والفعل المحرم فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة كالخوض في آيات الله والجدال بالباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء وشرب الخمر وفرش الحرير والصور ونحو ذلك. وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ولا يفعلوه وشهادة الزور داخلة في قول الزور (وإذا مروا باللغو) وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة دينية ولا دنيوية (مروا كرامًا) نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة وفي قوله (وإذا مروا باللغو) إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه.(1/181)
(والذين إذا ذكروا بآيات ربهم) التي أمرهم باستماعها والاهتداء بها (لم يخروا عليها صمًا وعميانًا) أي لم يقبلوها بالإعراض عنها وعدم سماعها، وصرف النظر والقلوب عنها كما يفعله من لم يؤمن بها ويصدق، وإنما حالهم أنهم يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها وتجد عندهم آذانًا سامعة وقلوبًا واعية فيزداد بها إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطًا ويفرحون بها سرورًا واغتباطًا (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) أي الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وإخوانهم وأزواجهم ومن ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له فتقر أعين والديهم بهم (واجعلنا للمتقين إمامًا) أي أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين، وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يُقتدى بأفعالهم، ويُطمأن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون، ودرجة الإمامة في الدين إنما تنال بالصبر واليقين كما قال تعالى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (1) ولما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم الله بالمنازل العاليات فقال (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) أي المنازل الرفيعة الجامعة لكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وذلك بسبب صبرهم كما قال تعالى: { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (2) ولهذا قال هنا (ويلقون فيها تحية وسلامًا) من ربهم ومن ملائكته الكرام ومن بعضهم على بعض ويسلمون من جميع المكدرات (قل ما يعبأ بكم ربي#
__________
(1) سورة السجدة آية 24.
(2) سورة الرعد آية 23 - 24.(1/182)
لولا دعاؤكم) أي لولا دعاؤكم إياه وعبادتكم له لم يبال بكم (فقد كذبتم) أيها الكافرون فلا يبالِ الله بكم إذا لم تعبدوه (فسوف يكون لزامًا) أي فسوف يكون العذاب ملازمًا لكم ملازمة الغريم لغريمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات من صفات المؤمنين عباد الرحمن:
1- من صفات المؤمنين عباد الرحمن التواضع والسكينة والوقار.
2- حسن الأدب والحلم وسعة الخلق، والعفو عن الجاهلين والإعراض عنهم ومقابلة إساءتهم بالإحسان.
3- قيام الليل والإخلاص فيه.
4- الخوف من النار والتضرع لربهم إن ينجيهم منها.
5- إخراج الواجب والمستحب في النفقات والاقتصاد في ذلك وغيره.
6- السلامة من كبائر الذنوب والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته والعفة عن الدماء والأعراض، والتوبة عند صدور شيء من ذلك.
7- أنهم لا يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية ولا يفعلونها بأنفسهم.
8- أنهم يتنزهون عن اللغو والأفعال التي لا خير فيها وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي.
9- أنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها والاجتهاد في تنفيذ أحكامها.
10- أنهم يدعون الله تعالى بأكمل الدعاء لهم ولمن يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صلاح أزواجهم وذرياتهم.
11- تكميل التوبة واتباعها على أكمل الوجوه وأجلها.
12- الدعاء ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة وهي درجة الإمامة في الدين.
13- عدم مبالاة الله بعباده إذا لم يعبدوه.#
من سورة الأحزاب
أعمال المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم وثوابهم(1/183)
قال تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } الآية 35 من سورة الأحزاب.
عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا نبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ولا يذكر النساء فأنزل الله: (إن المسلمين والمسلمات) الآية. رواه النسائي.
فقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات) أي المستسلمين لأمر الله المطيعين له القائمين بأركان الإسلام الظاهرة، الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام، ويسلم من أذيتهم بالقول والعمل (والمؤمنين والمؤمنات) وهذا في الأمور الباطنة من عقائد القلب وأعماله فيصدقون الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من البعث بعد الموت والجزاء والحساب والثواب والعقاب والميزان والصراط والجنة والنار، ويصدقون بالقدر خيره وشره (والقانتين والقانتات) المطيعين لله ولرسوله والقنوت هو الطاعة في سكون، فالإسلام بعده مرتبة يُرتقى إليها وهو الإيمان، ثم القنوت ناشئ عنهما.(1/184)
(والصادقين والصادقات) الصادقين في أقوالهم وأفعالهم فإن الصدق خصلة محمودة وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب علامة النفاق ومن صدق نجا، وفي الحديث الصحيح «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» (1) .
(والصابرين والصابرات) أي الصابرين على الطاعات بعدم تركها، والصابرين عن المعاصي والمحرمات بعدم فعلها والصابرين على الأقدار والمصائب بعدم تسخطها (والخاشعين والخاشعات) الخشوع السكون والطمأنينة#
والتؤدة والوقار، والتواضع فيخشعون لله في جميع أحوالهم خصوصًا في عباداتهم ولاسيما في صلواتهم، والحامل على الخشوع الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (2) .
(والمتصدقين والمتصدقات) أي فرضًا ونفلاَ، والصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإحسانًا إلى خلقه، وقد ثبت في الصحيح: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه (3) ، وفي الحديث الآخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفي الماء النار» (4) والآيات والأحاديث في فضل الصدقة والحث عليها كثيرة جدًا.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/185)
(والصائمين والصائمات) الفرض والنفل، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة: (الصوم زكاة البدن) أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاق الرديئة طبعًا وشرعًا، ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (1) ناسب أن يذكر بعده حفظ الفروج فقال: (والحافظين فروجهم والحافظات) أي عن الزنا ومقدماته وعن جميع المحارم والمآثم إلا عن المباح كما قال تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (2) وقوله تعالى: (والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات) أي في أكثر الأوقات خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة بالصلوات والصباح والمساء وعند النوم والانتباه ودخول المنزل والخروج منه ودخول المسجد والخروج منه وعند الأكل والشرب والفراغ منهما وغير ذلك.
(أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا) هذا خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم بأن الله قد هيأ لهم مغفرة لذنوبهم وثوابًا عظيمًا وهو الجنة؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولاشتمال هذه الأعمال على أعمال القلوب وأقوال اللسان وأعمال الجوارح من واجب، ومستحب فمن قام بهذه الصفات المذكورة في هذه الآية فقد قام بالدين كله ظاهره وباطنه وقوله واعتقاده وعمله، وقد قام بالإسلام والإيمان والإحسان فجزاهم الله أوفر الجزاء نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه.#
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- أن الإيمان غير الإسلام وأخص منه فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا ووجوب الإسلام والإيمان وفضلهما.
2- أن دين الإسلام قول واعتقاد وعمل.
3- الحث على طاعة الله ورسوله والمداومة عليها.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) سورة المؤمنون آية (5 - 7)، وسورة المعارج آية 29 - 31.(1/186)
4- الحث على الصدق في الأقوال والأفعال والأخبار.
5- فضل الصبر على طاعة الله والصبر عن معاصي الله والصبر على أقدار الله المؤلمة.
6- الترغيب في الخشوع لله في عبادته وفضله والحث عليه.
7- فضل الصدقة والإحسان إلي الفقراء والمساكين.
8- وجوب حفظ الفروج عن المحرمات والفواحش ودواعيهما.
9- فضل الصوم الواجب والمستحب والحث عليه.
10- فضل الذكر لله كثيرًا في جميع الأوقات والأحوال والمناسبات في الليل والنهار والصباح والمساء.
11- مغفرة الله للمؤمنين والمؤمنات المتصفين بما ذكر الله وأجرهم العظيم وثوابهم الجسيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.#
ذكر الله كثيرًا وتسبيحه بكرة وأصيلا
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } سورة الأحزاب آية 41 - 44.(1/187)
يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن لما لهم في ذلك من جزيل الثواب وجميل المآب، أمرهم بذكره وأقل ذلك أن يلازم الإنسان أوراد الصباح والمساء وأدبار الصلوات الخمس وعند العوارض والأسباب، وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة الله ومعرفته، وعون على الخير، وفي ذلك كف اللسان عن الكلام القبيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا ثم عذر أهلها في حال العذر -غير الذكر فإن الله تعالى لم يجعل له حدًا ينتهي إليه ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على تركه قال: (الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم) بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر و العلانية وعلى كل حال» (1) .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (2) ، وأخبر أن ذكر الله خير الأعمال وأزكاها عند الله وأنه خير من إنفاق الذهب والفضة، وخير من القتال في سبيل الله (3) وقوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلا) أي في الصباح والمساء في أول النهار وآخره لفضلهما وشرفهما وسهولة العمل فيهما. (وهو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي إذا فعلتم ما سبق من الإيمان بالله وذكره كثيرًا وتسبيحه بكرة#
__________
(1) ذكره عنه ابن كثير عند تفسير هذه الآية 3/495.
(2) لحديث عائشة رواه مسلم.
(3) في الحديث الذي رواه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم.(1/188)
وأصيلا -صلى الله عليكم هو وملائكته، وهذا تهييج من الله لعباده إلى ذكره أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم (1) والصلاة من الله تعالى على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة، والصلاة من الملائكة بمعنى الدعاء للناس والاستغفار لهم، وقوله تعالى: (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم واستغفار ملائكته لكم يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين والعلم والعمل: (وكان بالمؤمنين رحيمًا) أي أن الله تعالى رحيم بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة ففي الدنيا خلقهم ورزقهم وعافاهم وهداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم وبصَّرهم الطريق الذي ضل عنه سواهم وفي الآخرة أمَّنهم من الفزع الأكبر وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وذلك لمحبته لهم ورأفته بهم فهذه أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده الطائعين تستدعي منهم شكرها والإكثار من ذكر الله الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل أفضل الملائكة وهم حملة عرشه ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا (تحيتهم يوم يلقونه سلام) أي تحية الله لهم يوم يلقونه سلام منه عليهم كما قال تعالى: { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } (2) وقيل إن المراد أنهم يحيِّي بعضهم بعضًا بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة. [قلت]: ولا منافاة بين القولين، وقد قال تعالى: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (3)
__________
(1) كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
(2) سورة يس آية 58.
(3) سورة يونس آية 10..(1/189)
وقوله تعالى: (وأعد لهم أجرًا كريمًا) يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر نسأل الله تعالى أن لا يحرمنا فضله.
ما يستفاد من الآيات:
1- الحث على ذكر الله كثيرًا وتسبيحه بكرة وأصيلا.
2- أن ذكر الله وتسبيحه من المؤمن سبب لصلاة الله وملائكته عليه وإخراجه من الظلمات إلى النور.#
3- رحمة الله بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة.
4- تحية الله لعباده المؤمنين عند لقائه يوم القيامة وتسليمه عليهم وسلامته لهم وتسليم بعضهم على بعض.
5- حسن جزاء المؤمنين وكثرة ثوابهم وتكريم الله لهم بالجنة وما فيها من النعيم المقيم والفضل العظيم.#
مقاصد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأهدافها
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلا كَبِيرًا * وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا } سورة الأحزاب آية 45 – 48.
هذه الأشياء التي وصف الله بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم هي المقصود من رسالته وزبدتها وأصولها التي اختص بها وهي خمسة أشياء:
أحدها: كونه (شاهدًا) أي لله بالوحدانية وأنه لا إله غيره ولا رب سواه وشاهدًا على أمته بما عملوه من خير وشر وطاعات ومعاصي كما قال تعالى: { وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } (1) { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (2) فهو صلى الله عليه وسلم شاهد عدل مقبول.
__________
(1) سورة النساء آية 41.
(2) سورة البقرة من آية 143.(1/190)
والثاني: كونه (مبشرًا) أي بشيرًا للمؤمنين بجزيل الثواب في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (1) ففي الدنيا بكل ثواب ديني ودنيوي رتب على الإيمان والتقوى { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (2) وفي الآخرة بالنعيم المقيم في جوار الرب الرحيم.
الثالث: كونه (نذيرًا) أي منذرًا للكافرين والظالمين والعاصين من وبيل العقاب في الدنيا والآخرة ففي الدنيا من العقوبات الدينية والدنيوية المرتبة على الكفر والظلم والمعاصي وفي الآخرة بالعقاب الأليم والعذاب.
الرابع: كونه (داعيًا إلى الله بإذنه) أي داعيًا إلى عبادة ربِّه عن أمره له بذلك، أرسله الله يدعو الخلق إلى الله ويشوقهم لكرامته ويأمرهم بعبادته التي خلقوا لها.#
__________
(1) سورة يونس آية 64.
(2) سورة يونس آية 62 – 64.(1/191)
الخامس: كونه (سراجًا منيرًا) فالناس قبل بعثة هذا النبي تائهون في ظلمة الجهالات والضلالات والشكوك والشبهات حتى جاء الله بهذا النبي الكريم فأضاء به تلك الظلمات وعلم به من الجهالات وهدى به ضلالا إلى الصراط المستقيم فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا بواسطته الخير والشر وطريق السعادة والشقاوة واستناروا به لمعرفة معبودهم فأمره ظاهر في ما جاء به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا ينكرها إلا معاند، ولا يجحدها إلا مكابر، وقوله تعالى: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرًا) ذكر هنا المبشرين وهم المؤمنون العاملون بالإعمال الصالحة والمبشر به، وهو الفضل الكبير أي العظيم الجليل الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ منتهاه ولا يتصور عظمه من النصر في الدنيا وهداية القلوب وغفران الذنوب وكشف الكروب وكثرة الأرزاق الدارة وحصول النعم السارة والفوز برضى ربهم وثوابه والنجاة من سخطه وعقابه.
ولما كان هناك طائفة من الناس مستعدة لصد الدَّاعين إلى الله من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر والفجور، والكفار ظاهرًا وباطنًا نهى الله رسوله عن طاعتهم وحذره منهم فقال: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه في كل أمر يصد عن سبيل الله (ودع أذاهم) أي اصفح وتجاوز عنهم، وكل أمرهم إلى الله تعالى فإن فيه كفاية لهم وذلك جالب وداع لهم إلى قبول الإسلام، وكف إيذائهم له ولأهله: (وتوكل على الله) في إتمام أمرك وخذلان عدوك واعتمد عليه في جميع أمورك (وكفى بالله وكيلا) تفوض إليه الأمور المهمة فيسهلها على عبده { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (1) أي كافيه ومتولى أمره.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
__________
(1) سورة الطلاق آية 3.(1/192)
1- معرفة المقصود من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس وهي الشهادة عليهم بأعمالهم، وتبشير الطائعين بالثواب، وإنذار العاصين بالعقاب، والدعوة إلى الله بأمره وهداية الخلق وإرشادهم إلى ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
2- تبشير المؤمنين بالله المطيعين له بالفضل العظيم والثواب الجسيم.#
3-
التحذير من طاعة الكافرين والمنافقين في ما يدعون إليه من الكفر والنفاق والانحلال من الدين والزندقة والإلحاد وترك أذاهم.
4- وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه.
5- كفاية الله لمن توكل عليه.
6- فضل الإيمان والعمل الصالح والحث عليه.
7- التحذير من الكفر والنفاق وسوء عاقبتهما.
8- فضل التوكل على الله والحث عليه.
9- نعمة الله الكبرى ومنته العظمى بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس بالهدى ودين الحق.
10- الجمع بين الخوف والرجاء والوعد والوعيد والترغيب والترهيب.#
الأمر بالصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال الله تعالى: { إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب آية 56.(1/193)
يخبر الله تعالى عباده المؤمنين بمنزلة عبده ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه وتدعو له وتستغفر له ثم أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، اقتداء بالله وملائكته وجزاء له على بعض حقوقه عليهم، وتكميلا لإيمانهم وتعظيمًا له صلى الله عليه وسلم ومحبة وإكرامًا وزيادة في حسنات المؤمنين المصلين عليه وتكفيرًا لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم، وأفضل هيئات الصلاة عليه ما علم به أصحابه أن يقولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - مشروع في جميع الأوقات وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة بعد التشهد الأخير، ويتأكد استحباب الصلاة والسلام عليه عند ذكر اسمه وفي يوم الجمعة وليلتها وعند دخول المسجد والخروج منه، وفي أول الدعاء وآخره وبعد الأذان، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالصلاة عليه والترغيب فيها والحاث عليها والترهيب من تركها فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا» رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة» (1) «رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل علي» (2) «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي» (3)
«لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم#
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/194)
تبلغني حيث كنتم» (1) «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» (2) صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
ما يستفاد من الآية الكريمة:
1- كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعة درجته وعلو منزلته عند الله وعند خلقه ورفع ذكره.
2- مشروعية الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في جميع الأوقات والأحوال والمناسبات.
3- وجوب امتثال أمر الله وطاعته.
4- الجمع بين الصلاة والتسليم على محمد صلى الله عليه وسلم.
5- فضل المؤمنين حيث خوطبوا باسم الإيمان وأمروا بما فيه سعادتهم.#
الأمر بتقوى الله وبالقول السديد وحسن عاقبتهما
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } سورة الأحزاب آية 70 – 71.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح (انظر هذه الأحاديث في رياض الصالحين للنووي، وانظر فضل الصلاة على النبي ومواطنها وثمراتها وفوائدها في كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم لابن القيم ص302 – 310 وانظر بهجة الناظرين للمؤلف ص265.
(2) رواه أبو داود بإسناد صحيح (انظر هذه الأحاديث في رياض الصالحين للنووي، وانظر فضل الصلاة على النبي ومواطنها وثمراتها وفوائدها في كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم لابن القيم ص302 – 310 وانظر بهجة الناظرين للمؤلف ص265.(1/195)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بتقواه في جميع أحوالهم في السر والعلانية ويخص من ذلك القول السديد، وهو القول الموافق للحق والصواب والمقارب له عند تعذر اليقين من قراءة قرآن وذكر الله ودراسة علم نافع وتعليمه وأمر بمعروف ونهي عن منكر والحرص على إصابة الصواب في المسائل العلمية وسلوك كل طريق يوصل إلى ذلك وكل وسيلة تعين عليه، ومن القول السديد لين الكلام ولطفه في مخاطبة الأنام والقول المتضمن للنصح والإرشاد والإشارة بما هو الأصلح، ثم ذكر ما يترتب على تقواه وقول القول السديد فقال: (ويصلح لكم أعمالكم) أي يوفقكم لصالح الأعمال ويحفظها عما يفسدها ويتقبلها منكم: (ويغفر لكم ذنوبكم) التي هي السبب في هلاككم فالتقوى تستقيم بها الأمور ويندفع بها كل محذور وتقبل بسببها الأعمال: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } (1) ولهذا قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا) أي من يمتثل أوامر الله ورسوله، وينتهي عما نهاه الله عنه ورسوله فقد فاز بكل مطلوب ومحبوب ونجا من كل مكروه ومرهوب وذلك أنه يجار من نار الجحيم ويصير إلى جنات النعيم المقيم: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } (2) فمن اتقى الله ولزم القول السديد يسره الله لليسرى وجنبه العسرى وغفر له في الآخرة والأولى وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ما يستفاد من الآية الكريمة:
1- وجوب تقوى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
2- الحث على لزوم القول السديد الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
3- أن من اتقى الله ولزم القول السديد وفقه الله للأعمال الصالحة وغفر ذنوبه الماضية.
4- فوز من أطاع الله ورسوله بدخول الجنة والنجاة من النار.#
من سورة فاطر
التجارة الرابحة
__________
(1) سورة المائدة آية 27.
(2) سورة آل عمران آية 185.(1/196)
قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } الآية 29 – 32.(1/197)
يخبر الله تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه من الأوامر فيمتثلونها، والنواهي فيتركونها، والأخبار فيصدقونها ولا يقدمون علي ما خالفه من الأقوال، فيمتثلون أوامره ونواهيه ويتلون ألفاظه بدراسته ومعانيه ويعلمون بما فيه من إقام الصلاة التي هي عماد الدين ونور المسلمين وميزان الإيمان وعلامة صدق الإسلام، والنفقة مما رزقهم الله تعالى على الأقارب والمساكين وغيرهم من الزكاة والكفارات والنذور والصدقات في جميع الأوقات ليلا ونهارًا سرًا وجهارًا (يرجون) بذلك (تجارة لن تبور) أن لن تكسد أو تفسد بل تجارة لابد من حصولها، وهي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها ألا وهي رضا ربهم والفوز بجزيل ثوابه والنجاة من سخطه وعقابه، ثم ذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) أي يوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه بزيادات عن أجورهم لم تخطر ببالهم (إنه غفور شكور) غفر لهم السيئات وقبل منهم القليل من الحسنات، ثم أخبر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله وهو القرآن (هو الحق) لكثرة ما اشتمل عليه من الحق والصدق والعدل فإذا كان هو الحق لزم أن يكون كل ما دل عليه مطابقًا للواقع (مصدقًا لما بين يديه) لما قبله من الكتب والرسل؛ لأنها أخبرت به وهو صدقها (إن الله بعباده لخبير بصير) أي خبير وعليم بعباده بصير بمن يستحق التفضيل على من سواه فيعطي كل أمة وكل شخص ما هو اللائق بحاله ولهذا فضل الله الأنبياء والرسل على سائر البشر. وفضل النبيين بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات وجعل منزلة محمد - صلى الله عليه وسلم - فوق منزلة جميعهم
وجعله خاتم الرسل وأرسله إلى الناس كافة فجاء بهذا الشرع الشريف والدين القويم الذي تكفل بمصالح الخلق إلى يوم القيامة وجعل#(1/198)
أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم وأكرمها على الله ولهذا اصطفاهم الله تعالى واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم هذا الكتاب المهيمن على سائر الكتب ولهذا قال: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) أي جعلنا القائمين بهذا القرآن علمًا وعملا واعتقادًا ودعوة الذين اخترنا من عبادنا وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال: (فمنهم ظالم نفسه) وهو المفرط في بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات والمعاصي التي هي دون الكفر (ومنهم مقتصد) وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) أي سارع فيها واجتهد فسبق غيره وهو المؤدي للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات فيؤدي الفرائض ويكثر من النوافل فكل هذه الأقسام الثلاثة اصطفاه الله لوارثة هذا الكتاب وإن تفاوتت مراتبهم وتنوعت أعمالهم فلكل قسط من وراثة الكتاب حتى الظالم لنفسه فإن ما معه من أصل الإيمان من وراثة الكتاب لأن المراد من وراثة الكتاب وراثة علمه وعمله ودراسة ألفاظه واستخراج معانيه وذلك بتوفيق الله ومعونته بعلمهم كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1) وقال تعالى: { يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (2) . (ذلك هو الفضل الكبير) أي وراثة الكتاب لمن اصطفى الله تعالى من عباده هو الفضل الكبير والنعمة العظمى، فأجل النعم على الإطلاق وأكبر الفضل وراثة هذا الكتاب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما يستفاد من الآيات الكريمات:
1- فضل من قرأ القرآن وعمل بما فيه.
2- الحث على إقامة الصلاة والمحافظة عليها والعناية بها.
3- الترغيب في الإنفاق من رزق الله في الواجبات والمستحبات بالليل والنهار سرًا وعلانية.
__________
(1) سورة فاطر آية 28.
(2) سورة المجادلة آية 11.(1/199)
4- الحث على الإخلاص في العمل لله ابتغاء مرضاته ورجاء ثوابه.
5- أن من رجا شيئًا وسعى في تحصيله بنية صالحة نال مطلوبه.
6- أن تجارة الآخرة رابحة حيث يفوز طالبها بالنعيم المقيم وينجو من العذاب الأليم.#
7-
أن الله يوفي العاملين ثواب ما عملوا ويتكرم عليهم بالزيادة من فضله فيغفر لهم ذنوبهم ويضاعف حسناتهم ويرفع درجاتهم.
8- اشتمال القرآن الكريم على الحق والصدق والعدل في أوامره ونواهيه وأحكامه وأخباره.
9- أنه لا يمكن لأحد أن يؤمن بالكتب السابقة وهو كافر بالقرآن أبدًا لأن كفره به ينقض إيمانه بها لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن أنه منزل من رب العالمين.
10- علم الله بأحوال خلقه وأعمالهم وأنه مطلع عليهم.
11- فضل هذه الأمة حيث اختارهم الله لوراثة كتابه علمًا وعملا واعتقادًا.
12- الحث على المسابقة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات.
13- انقسام هذه الأمة إلى سابقين ومقتصدين وظالمين لأنفسهم.
14- فضل العلم النافع وهو علم القرآن والسنة وفضل العلماء العاملين به.
15- أن أجل النعم وأكبر الفضل وراثة هذا الكتاب العظيم.
16- فضل الله على المؤمنين حيث وفقهم للإيمان والعمل الصالح ثم قبله منهم وأثابهم عليه فله الحمد والشكر والثناء ملء الأرض والسماء دائمًا وأبدًا.#
من سورة الزمر
مغفرة الله للتائبين ودعوته للمقصرين(1/200)
قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } سورة الزمر آية 53 – 59.(1/201)
يخبر الله تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه ويحثهم على الإنابة إليه قبل أن لا يمكنهم ذلك. وهذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما بلغت وكثرت وإن كانت مثل زبد البحر ولهذا قال تعالى: (قل) يا أيها الرسول ومن سلك طريقه من الدعاة لدين الله مخبرًا للعباد عن ربهم: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) باتباع الهوى المضل وما تدعوهم إليه أنفسهم الأمارة بالسوء من الذنوب والمعاصي والسعي فيما يسخط الله علام الغيوب: (لا تقنطوا من رحمة الله) أي لا تيأسوا منها فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة فتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان متزودين مما يغضب عليكم الرحمن، ولكن ارجعوا إلى ربكم واعلموا (أن الله يغفر الذنوب جميعًا) من الشرك والزنا والقتل والربا والظلم وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار (إنه هو الغفور الرحيم) أي وصفه المغفرة والرحمة يغفر الذنوب ويرحم عباده المؤمنين وقد سبقت رحمته غضبه. ثم حث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة والإنابة والمبادرة
إلى ذلك فقال (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) أي ارجعوا إلى الله بقلوبكم واستسلموا له بجوارحكم (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) أي بادروا بالتوبة
والعمل الصالح قبل مجيء العذاب مجيئًا لا يدفع وحلول النقمة بكم (واتبعوا أحسن ما نزل إليكم من ربكم) وهو القرآن العظيم مما أمركم به#(1/202)
من الأعمال الباطنة كمحبة الله وخشيته وخوفه ورجائه والنصح لعباده ومحبة الخير لهم وترك ما يضاد ذلك، ومن الأعمال الظاهرة كالصلاة والزكاة والحج والصدقة وأنواع الإحسان ونحو ذلك مما أمر الله به وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) أي أطيعوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه من قبل أن تموتوا فيأتيكم العذاب فجأة من حيث لا تعلمون. ثم حذرهم أن يستمروا على غفلتهم حتى يأتيهم يوم يندمون فيه حيث لا تنفع الندامة (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة حيث لا يجدي التحسر ويود لو كان في الدنيا من المحسنين والمخلصين المطيعين لله (وإن كنت لمن الساخرين) أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير مؤمن مصدق بالجزاء حتى رأيته عيانًا (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) أي ليت الله هداني فكنت متقيًا له فأسلم من العقاب وأستحق الثواب (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) أي تقول حين تشاهد العذاب لو أن لي رجعة على الدنيا فأحسن العمل وذلك غير ممكن، فأخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) (1) . ولما تمنى أهل الجرائم العودة إلى الدنيا وتحسروا على عدم تصديق آيات الله واتباع رسله قال الله تعالى: (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) أي جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه من آياتي الدالة على الحق في الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها فسؤال الرد إلى الدنيا نوع عبث.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- سعة رحمة الله.
__________
(1) سورة الأنعام آية 28.(1/203)
2- مغفرة الله لذنوب التائبين مهما بلغت ورحمته بهم فهو الغفور الرحيم.
3- عدم القنوط من رحمة الله وقطع الرجاء منها بالإصرار والاستمرار على الذنوب.
4- وجوب الإنابة إلى الله والرجوع إليه بالتوبة والاستغفار والطاعة والاستسلام له.
5- الحث على المسارعة إلى الخيرات وانتهاز الفرصة بالعمل الصالح قبل الفوات.
6- أن المجرم يتحسر يوم القيامة على تفريطه في الدنيا بطاعة الله وسخريته بآياته.#
7-
أنه يتمنى في ذلك اليوم لو كان متقيًا لله في الدنيا بفعل الواجبات وترك المحرمات فيفوز بالسعادة في ذلك اليوم.
8- أنه في ذلك اليوم يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليحسن العمل وهو كاذب في نفس الأمر لأنه قد عمر وقتًا يتذكر فيه من تذكر وجاءته آيات الله فكذبها واستكبر عن اتباعها.
9- وجوب اتباع ما أنزل الله من البينات والهدى ودين الحق الذي تضمنه القرآن الكريم والسنة المطهرة قبل هجوم الموت وانقطاع العمل.
10- وجوب الإخلاص لله في القول والعمل والاعتقاد وأنها بدون إخلاص لا تفيد شيئًا.
11- إثبات صفة المغفرة والرحمة لله الغفور الرحيم.
ذكر حديث يتعلق بقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الآية:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقرات الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
فدل هذا الحديث على سعة رحمة الله، وعلى فضل الدعاء مع الرجاء، وعلى فضل الاستغفار من جميع الذنوب والمعاصي والحث عليه، وعلى فضل التوحيد والإخلاص في العمل لله وحده.#
من سورة فصلت
الاستقامة وحسن عاقبتها(1/204)
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } آية 30 – 36.(1/205)
يخبر الله تعالى عن عباده المؤمنين ويثني عليهم فقال: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي اعترفوا بربوبية الله تعالى لهم واستسلموا لأمره وعملوا بطاعته على ما شرع لهم وأخلصوا له القول والعمل ثم استقاموا على الصراط المستقيم واستمروا على طاعة الله حتى ما توا فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (تتنزل عليهم الملائكة) عند الموت وقيل عند خروجهم من قبورهم ولا منافاة يبشرونهم قائلين (أن لا تخافوا) على ما يستقبل مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (ولا تحزنوا) على ما مضى مما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال فإنا نخلفكم فيه فنفوا عنهم المكروه في الماضي والمستقبل (وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فإنها قد حصلت لكم وكان وعد الله مفعولا فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير والرحمة والرضوان كما جاء في الحديث «إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان» (1) وقيل أن الملائكة تبشر المؤمن عند موته وفي قبره وحين يبعث وهو يجمع الأقوال كلها وهو الواقع والله أعلم، ويقولون: أيضًا مثبتين لهم ومبشرين (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الموت نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم وندعو لكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وظلماتها ونؤمنكم يوم البعث والنشور في#
__________
(1) رواه أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وغيرهم وصححه بن مردويه والحاكم.(1/206)
القيامة وأهوالها ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم ونهنئكم بذلك { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (1) ويقولون لهم أيضًا (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون) أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون (ولكم فيها ما تدعون) ما تطلبون مهما طلبتم وجدتم وحضر لكم بين يديكم من اللذات والمشتهيات من المأكولات والمشروبات والملابس والمراكب والمناكح والبساتين والأنهار الجارية والغرف العالية وغير ذلك (نزلا من غفور رحيم) أي هذا الثواب الجزيل والنعيم المقيم ضيافة وعطاء وإنعام من غفور لذنوبكم رحيم بكم حيث وفقكم لفعل الحسنات ثم قبلها منكم وأثابكم عليها فغفر وستر ورحم ولطف فبمغفرته أزال عنكم المحذور وبرحمته أعطاكم المطلوب فله الحمد والشكر والثناء أولا وآخرًا وفي الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم حدثني بأمر أعتصم به قال قل ربي الله ثم استقم (2)
__________
(1) سورة الرعد آية 23 – 24.
(2) رواه مسلم بلفظ: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك..(1/207)
ثم قال تعالى مرغبًا في الدعوة إلى الله (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) أي لا أحسن قولا أي كلامًا وطريقة وحالة ممن دعا عباد الله إليه بتعليم الجاهلين ووعظ الغافلين والمعرضين ومجادلة المبطلين بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها والحث عليها وتحسينها مهما أمكن والزجر عما نهى الله عنه وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه خصوصًا الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال تعالى: (وعمل صالحًا) أي مع دعوته الخلق إلى الله بادر هو بنفسه إلى امتثال أمر الله بالعمل الصالح الذي يرضي ربه (وقال إنني من المسلمين) أي المستسلمين لأمر الله المنقادين لطاعته وهذه الآية عامة في كل من دعى إلى خير وهو في نفسه مهتد، وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء الذين يدعون إلى الصلاة بالأذان، والصحيح أنها عامة في المؤذنين وغيرهم من الدعاة إلى الله، ثم قال تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) أي لا يستوي فعل الحسنات والسيئات والطاعات والمعاصي ولا يستوي الإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم لا في ذاتها ولا في وصفها ولا في جزائها (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (ادفع بالتي هي أحسن) أي من أساء إليك فادفعه بالإحسان إليه وذلك بأن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) أي قريب شفيق والمعنى إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى محبتك ومصافاتك والإحسان إليك والحنو عليك (وما#(1/208)
يلقاها إلا الذين صبروا) أي لا يوفق لهذه الخصلة الحميدة ويقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر نفسه على ما تكره فإنه يشق على النفوس فإنها مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه فكيف بالإحسان إليه (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة لكونها من خصال خواص الخلق التي هي من أكبر مكارم الأخلاق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قالك «أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم» (1) ولما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من الشياطين الإنس وهو مقابلة إساءته بالإحسان إليه ذكر ما يدفع به العدو الجني وهو الاستعاذة بالله منه فقال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه أي يبعثه إلى مالا ينبغي ومعنى الآية وإن صرفك الشيطان عما أمرت به من الدفع بالتي هي أحسن أو وسوس لك بتزيين الشر وتحسين القبيح والتثبيط عن الخير والإحسان (فاستعذ بالله) اعتصم بالله خالقه الذي سلطه عليك فإذا استعذ بالله والتجأت إليه كفه عنك وأعاذك من شره ورد كيده { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } (2) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه (3) قيل في تفسيرها همزه الموته وهي الخنق ونفخه الكبر ونفثه الشعر ولهذا قال تعالى: (فاستعذ بالله) أي اسأله مفتقرًا إليه أن يعيذك ويعصمك منه (إنه هو السميع العليم) أي السميع لاستعاذتك وتضرعك العليم بحالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته.
__________
(1) ذكره عنه ابن كثير 4/101.
(2) سورة المؤمنون آية 97 – 98.
(3) رواه أحمد وأهل السنن الأربعة انظر تفسير ابن كثير 1/13.(1/209)
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- الحث على الاستقامة بلزوم طاعة الله قولا واعتقادًا وعملا.
2- فضل الاستقامة وحسن عاقبتها بزوال الخوف والحزن في الدنيا والآخرة.
3- بشرى لأهل الاستقامة بدخول جنات النعيم والخلود فيها.
4- تكرر نزول الملائكة لتبشير المؤمن وتطمينه وتهنئته عند الموت وفي القبر وعند البعث#
يهنئونه بالسلامة وحصول المحبوب وزوال المكروه.
5- تولى الملائكة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
6- اشتمال الجنة على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وتطلبه الألسن ضيافة من الله لهم.
7- وصف الله بالمغفرة لذنوب عباده والرحمة بهم.
8- أنه لا أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا لنفسه واستسلم لربه.
9- أن الدين قول واعتقاد وعمل.
10- عدم استواء الحسنة والسيئة في العمل والجزاء والثواب والعقاب.
11- الحث على مقابلة الإساءة بالإحسان والعفو عن المظالم والحلم على الجاهل ووصل القاطع وحسن عاقبة ذلك.
12- أنه لا يوفق لمقابلة الإساءة بالإحسان إلا الصابرون أهل الحظ الوافر.
13- الحث على الاستعاذة بالله من الشيطان ووساوسه ونزغاته امتثالا لأمر الله وامتناعًا به والتجاءً إليه واقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم - .
14- وصف الله بالسمع لأقوال عباده ودعائهم والعلم بأحوالهم.
فائدة: عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية (ومن أحسن قولا ممن دعى إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين) فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة خلق الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله (1) .#
من سورة الشورى
الأشياء التي ينال بها ما عند الله
__________
(1) رواه عنه عبد الرزاق ونقله عنه ابن كثير في تفسيره 4/101.(1/210)
قال الله تعالى: { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } الآيات 36 – 39.(1/211)
يقول الله تعالى محقرًا لشأن الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني ومرغبًا في الآخرة بذكر الأعمال الموصلة إليها (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) أي مهما حصلتم في هذه الحياة من ملك ورئاسة وأموال وبنين وصحة وعافية بدنية فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهو دار دنيئة فانية زائلة ولذاتها منغصة منقطعة (وما عند الله خير وأبقى) أي ما عند الله من الثواب الجزيل والأجر العظيم والنعيم المقيم خير من لذات الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي فيشغلكم هذا عن ذلك.(1/212)
ثم ذكر لمن يكون هذا الثواب الدائم فقال: (للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) أي جمعوا بين الإيمان الصحيح المستلزم لأعمال الجوارح وأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة وبين التوكل وهو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار ليعينهم على فعل الواجبات وترك المحرمات (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) وهي موجبات الحدود، وقيل كبائر الإثم كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة شبه ذلك، والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وقيل هما بمعنى واحد فذكر الفواحش بعد كبائر الإثم من عطف البعض على الكل والله أعلم، (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي إذا أغضبهم أحد بقوله أو فعله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه وقابلوا المسيء بالإحسان والعفو والصفح قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم عادة أو طبيعة (والذين استجابوا لربهم) أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته وطاعة رسوله فامتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي، ومن الاستجابة لله إقامة الصلاة فلهذا عطفها على ذلك من باب عطف الخاص على العام الدال على شرفه وفضله فقال: (وأقاموا الصلاة) أي باطنها وظاهرها فرضها ونفلها بجميع واجباتها وحقوقها وهي أعظم العبادات لله تعالى بعد توحيده (وأمرهم شورى بينهم) يعني يتشاورون فيما يبدو لهم من الأمور المشتركة ولا ينفردون بأمر لم يجتمعوا عليه وذلك كالرأي في الحرب#(1/213)
والجهاد وتولية الموظفين الوظائف الهامة كالإمارة والقضاء ونحو ذلك من المصالح العامة الدينية والدنيوية فيتساعدون بآرائهم كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) (1) ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر حين طعن وهم عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وقد قيل ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم (ومما رزقناهم ينفقون) يتصدقون في الواجبات والمستحبات بالإحسان إلى خلق الله (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أي إذا وصل إليهم الظلم من أعدائهم والعدوان ينتقمون ممن ظلمهم من غير تعد ولم يذلوا أنفسهم فيجترى عليهم الفساق وفيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع ذلك في الغالب إذا قدروا عفوا فحصل لهم العز بذلك العفو كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا»، رواه مسلم.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- التزهيد في الدنيا الفانية والترغيب في الآخرة الباقية.
2- عدم الاغترار بالحياة الدنيا وزهرتها.
3- إن ما عند الله من الثواب في الآخرة خير من الدنيا وأبقى للمؤمنين.
4- الجمع بين الإيمان بالله والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه.
__________
(1) سورة آل عمران من آية 195.(1/214)
5- وجوب اجتناب كبائر الذنوب وفواحشها كالسبع الموبقات وهي الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ومثل الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ونحو ذلك من كبائر الذنوب التي ورد فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة والتي وعد الله مجتنبها بالمغفرة في قوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا) (1) .
ومن الكبائر ترك الصلاة ومنع الزكاة وإفطار يوم رمضان بدون عذر وترك#
الحج مع القدرة عليه، ومن ذلك عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام نعوذ بالله من ذلك كله ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
6- استحباب كظم الغيظ والعفو عند الغضب ومقابلة المسيء بالإحسان.
7- وجوب الاستجابة لله بطاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
8- الحث على إقام الصلاة والمحافظة عليها والعناية بها.
9- الحث على المشاورة في كل الأمور التي لم يتبين الحق فيها وأن ذلك من صفات المؤمنين.
10- الأمر بالإنفاق من رزق الله في الواجبات والمستحبات.
11- جواز الانتصار من الباغي الظالم بقدر ظلمه وإساءته وتحريم ظلمه والترغيب في العفو عنه بترك معاقبته لله تعالى، قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) سورة الشورى آية 40.
12- الحث على الاتصاف بهذه الأوصاف التي وصف الله بها المؤمنين في القول والعمل والاعتقاد لأن الجزاء من جنس العمل ومن تشبه بقوم فهو منهم.#
من سورة القتال وتسمى سورة محمد
الطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله
__________
(1) سورة النساء آية 31.(1/215)
قال الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } الآية 19. هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله، والعلم لابد فيه من إقرار القلب ومعرفته بمعنى ما طلب منه وتمامه أن يعمل بمقتضاه وهذا العلم الذي أمر الله به وهو علم التوحيد لله فرض عين على كل إنسان لا يسقط عن أحد كائنا من كان، قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره: والطريق إلى العلم بأنه لا إليه إلا الله أمور:
أحدها: بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله.
الثاني: العلم بأنه تعالى هو المتفرد بالخلق والتدبير فيعلم بذلك أنه هو المتفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية.
الرابع: ما نواه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ومن عقوبته لأعدائه المشركين به.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله واتخذت آلهة وأنها ناقصة من جميع الوجوه فقيرة بالذات لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ولا ينصرون من عبدهم ولا ينفعونهم بمثقال ذرة من جلب خير أو دفع شرفان العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله وبطلان ألوهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقًا وعقولا ورأيًا وصوابًا وعلمًا وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون قد شهدوا بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية التي تدل على توحيده أعظم دلالة تنادي عليه بلسان حالها أو بما أودعه الله فيها من لطيف حكمته وبديع صنعه وغرائب خلقه.#(1/216)
التاسع: وهو الدليل العظيم تدبر القرآن العظيم والتأمل في آياته فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله مالا يحصل في غيره. اهـ.
وقوله تعالى: (واستغفر لذنبك) أي اطلب من الله المغفرة لذنبك بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة والحسنات الماحية وترك الذنوب والعفو عن الجرائم واستغفر أيضًا (للمؤمنين والمؤمنات) فإنهم بسبب إيمانهم كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة ومن جملة حقوقهم أن يدعى لهم بالمغفرة لذنوبهم.
(والله يعلم متقلبكم ومثواكم) أي يعلم تصرفاتكم وحركاتكم وذهابكم ومجيئكم ومستقركم الذي تستقرون به فهو يعلمكم في الحركات والسكنات فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- العلم بأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه.
2- أن العلم يبدأ به قبل القول والعمل.
3- الحث على الاستغفار من الذنوب والخطايا والتوبة منها.
4- الأمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات.
5- علم الله بأحوال عباده في الحركات والسكنات.#
من سورة الحجرات
آداب إسلامية
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } الآيتان 11 – 12.(1/217)
ينهى الله تعالى عن السخرية بالناس وهي احتقارهم والاستهزاء بهم وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرًا عند الله وأحب إليه من المحتقر له الساخر منه وهو عام في كل كلام وقول وفعل يدل على تحقير المسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (1) ، ثم قال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم) أي لا تلمزوا الناس ولا يعب بعضكم على بعض والهماز اللماز مذموم ملعون متوعد عليه بالنار كما قال تعالى: (ويل لكل همزة لمزة) والهمز بالفعل واللمز بالقول وسمي الأخ المسلم نفسًا لأخيه لأن المؤمنين ينبغي أن يكونوا كالجسد الواحد ولأنه إذا لمز غيره أوجب للغير أن يلمزه فيكون هو المتسبب لذلك (ولا تنابزوا بالألقاب) أي لا تداعوا بالألقاب وهي التي يسوء الشخص سماعها، والمعنى لا يعير أحدكم أخاه ويلقبه بلقب يكرهه (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) أي بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه باسم الفسوق والعصيان ومنه التنابز بالألقاب فتوبوا إليه من جميع المعاصي واستغفروه (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) ظلموا أنفسهم بتأثيمها وظلموا غيرهم بالسخرية منه وتحقيره وتعييره (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن) ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن كثير من الظن وهو الظن الخالي من الحقيقة حيث قال: (إن بعض الظن إثم) وهو الظن السيء بالمؤمنين في غير محله وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملا» (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم#
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(2) رواه ابن كثير في تفسيره.(1/218)
والظن فإن الظن أكذب الحديث» (1) (ولا تجسسوا) أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوها، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا» (2) . والتجسس البحث عن الشيء، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، والتدابر التصارم والتقاطع والإعراض (ولا يغتب بعضكم بعضًا) ينهى تعالى عن الغيبة وهي كما قال صلى الله عليه وسلم «ذكرك أخاك بما يكره» (3) ولو كان فيه وهي محرمة ولا يستثنى منها إلا ما رجحت مصلحته كالنصيحة والجرح والتعديل ثم بقيتها على التحريم الشديد المتوعد عليه بالعقوبة ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه) أي كما تكرهون أكل لحمه ميتًا طبعًا فاكرهوا أكل لحمه حيًا بالغيبة شرعًا فإن عقوبته أشد وقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع يوم النحر بمنى «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» (5) وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» (6) ، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظاهر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (7)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) ذكره بن كثير في تفسيره 4/213.
(3) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(4) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه الترمذي.
(7) رواه أبو داود..(1/219)
والأحاديث في ذم الغيبة والتحذير منها كثيرة، ثم قال تعالى: (واتقوا الله إن الله تواب رحيم) أي اتقوا الله في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه وهو التواب على من تاب إليه بتوفيقه للتوبة وقبولها منه وهو رحيم بعباده حيث دعاهم إلى ما ينفعهم وحذرهم مما يضرهم.#
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- تحريم السخرية بالمسلمين واحتقارهم وتنقصهم.
2- أنه ربما كان المحتقر أعظم عند الله وأحب إليه ممن إليه احتقره وسخر منه.
3- تحريم النميمة وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد بينهم.
4- تحريم عيب الناس والحط من قدرهم.
5- تحريم التنابز بالألقاب وهي المعايير التي يسوء الشخص سماعها.
6- أنه ينبغي للمسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد بأن يشعر بعضهم بشعور البعض الآخر.
7- أن التنابز بالألقاب فسوق وخروج عن طاعة الله.
8- الحث على التوبة من جميع الذنوب والمعاصي القولية والفعلية.
9- أن من لم يتب فقد ظلم نفسه وحملها فوق طاقتها وعرضها لعطبها.
10- النهي عن ظن السوء بالمسلمين وأنه ينبغي أن لا نظن بالمسلم إلا خيرًا.
11- النهي عن التجسس والبحث عن عورات الناس.
12- تحريم الغيبة وأنها من كبائر الذنوب.
13- تشبيه الغيبة في قبحها ونتنها بأكل اللحم من الإنسان الميت.
14- وجوب تقوى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
15- أن الله تعالى يتوب على من تاب بقبول توبته ويرحمه فيثيبه على إحسانه وتوبته (وكان بالمؤمنين رحيمًا).#
من سورة الذاريات
- 1 -
من أوصاف المتقين وثوابهم(1/220)
قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } (15 – 23) من سورة الذاريات.(1/221)
يقول الله تعالى مخبرًا عن ثواب المتقين لله بطاعته بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وذكر أعمالهم التي وصلوا بسببها إلى ذلك الجزاء فقال تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون) أي جازاهم الله من فضله بسبب تقواهم بدخول جنات النعيم المشتملة على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين والمشتملة على العيون الجارية التي يشرب منها عباد الله يفجرونها تفجيرًا (آخذين ما آتاهم ربهم) أي الجنة من النعيم والسرور والغبطة، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا وأنهم آخذين ما آتاهم الله من الأوامر والنواهي يمتثلونها ويعملون بما فرض الله عليهم فيها (إهم كانوا قبل ذلك محسنين) أي كانوا في الدار الدنيا محسنين في عبادة الله مخلصين له فيها محسنين إلى عباد الله بالقول والفعل والمال والجاه والعلم والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق البر وأنواع الإحسان. ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق صلاة الليل الدالة على الإخلاص ولهذا قال (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) أي كان قليلا من الليل هجوعهم أي نومهم بالليل قليلا وأما أكثر الليل فإنهم قانتون لربهم ما بين صلاة وقراءة وذكر لله واستغفار ودعاء وتضرع (وبالأسحار هم يستغفرون) أي يطلبونه المغفرة لذنوبهم والأسحار آخر الليل، وللاستغفار بالأسحار خصوصية وفضيلة ليست لغيره كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة (وبالأسحار هم يستغفرون) { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } (1)
__________
(1) سورة آل عمران آية 17..(1/222)
(وفي أموالهم حق معلوم) أي جزء مقسوم من واجب ومستحب (للسائل والمحروم) أي للذي يتعرض للسؤال وله حق كما في الحديث: «للسائل حق وإن جاء على فرس» رواه أبو داود وصححه السيوطي في الجامع الصغير، وأما المحروم فهو الفقير المحتاج المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه (وفي الأرض آيات للموقنين) أي فيها من العبر والآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة مما خلق فيها من جبال وأنهار وأشجار ونبات وحيوانات وبحار وغير ذلك (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) أي أفلا تتفكرون في أنفسكم وما أودع الله فيها من العبر والحكمة والرحمة واختلاف ألسنتكم وألوانكم ففي خلقكم آيات وعجائب كالسمع والبصر والنطق والعقل (وفي السماء رزقكم وما توعدون) أي مادة رزقكم من الأمطار وأنواع الأقدار للرزق الديني والدينوي. وما توعدون من الجزاء في الدنيا والآخرة فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار والجنة التي وعد بها المؤمنون فإنها فوق السماوات وسقفها عرش الرحمن، ثم أقسم سبحانه بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة وحق لا شك فيه فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون شبه تحقق ما أخبر به بتحقق نطق الآدمي.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- الحث على تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
2- فضل تقوى الله وحسن عاقبتها.
3- الحث على الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه بما أمكن.
4- الترغيب في قيام الليل وفضله.
5- الحث على الاستغفار وخصوصًا وقت الأسحار آخر الليل.
6- الترغيب في الصدقة على المحتاجين من السائلين والمتعففين المحرومين.
7- الحث على التفكر في آيات الله ومخلوقاته الدالة على عظيم قدرته.
8- دعوة الإنسان إلى التفكر في نفسه وما فيها من عجائب الخلق وبديع الصنع.
9- أن مصدر الرزق والجزاء ينزل من السماء بالمطر والقدر والقضاء وإجابة الدعاء.
10- أن وعد الله بالبعث والجزاء حق لا شك فيه ولا امتراء.(1/223)
11- أن الجزاء يكون من جنس العمل.#
2- الأمر بالتذكير وبيان الحكمة في خلق الجن والإنس
قال الله تعالى: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } الذاريات 54 – 58.(1/224)
يقول الله تعالى: آمرًا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين لرسوله بعد ما بلغتهم رسالة الله «فتول عنهم» أي أعرض عنهم ولا تبال بهم «فما أنت بملوم» أي لا لوم عليك في ذنبهم وإعراضك عنهم وإنما عليك البلاغ وقد أديت ما حملت وبلغت الرسالة قيل وهذا قبل الأمر بجهادهم «وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين» أي بالقرآن بما فيه من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والوعد والوعيد وإنما ينتفع بالذكرى القلوب المؤمنة التي ترجو الثواب وتخاف العقاب وتؤمن بالحساب. والتذكير نوعان: تذكير بما عرف بمجمله ولم يعرف تفصيله فإن الله قد فطر الخلق على محبة الخير وإيثاره وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك فكل أمر ونهي من الشرع فهو من التذكير. والنوع الثاني من التذكير تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكنهم غفلوا عنه وذهلوا وغاب عن أذهانهم فيذكرون بذلك ما نسوه أو غفلوا عنه ليرسخ في أذهانهم وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه، وتمام التذكير أن يذكر ما في الأمور به من الخير والحسن والمصالح وما في المنهي عنه من القبح والشرور والمضار، وذكر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة إلى الله واتباع رضوانه يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى وتقع الموعظة منهم موقعها، وأما من ليس معه إيمان ولا استعداد لقبول الذكرى فهذا لا ينفع تذكيره بمنزلة الأرض السبخة التي لا يفيدها المطر شيئًا، وهؤلاء النوع من الناس لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون ولا يعملون حتى يروا العذاب الأليم، ولهذا قال الله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } (1)
__________
(1) سورة الأعلى آية 9 – 12..(1/225)
ثم قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي ما خلقتهم إلا لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم ومعنى الآية أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ومن عصاه عذبه أشد#
العذاب وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم فهو خالقهم ورازقهم وهذه هي الغاية التي خلق الله لها الجن والإنس وبعث بها جميع الرسل وأنزل بها جميع الكتب وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) أي ما خلقهم لحاجة منه إليهم فالله غني عن جميع خلقه لا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه وإنما جميع الخلق فقراء إليه في جميع حوائجهم ومطالبهم الضرورية وغيرها ولهذا قال (إن الله هو الرزاق) أي كثير الرزق الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها وهو خير الرازقين (ذو القوة المتين) يعني هو القوي الشديد القوة المقتدر البليغ القدر الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة الذي له القوة والقدرة كلها الذي أوجد بها الأجرام العظيمة العلوية والسفلية وبها تصرف في البواطن والظواهر ونفذت مشيئته في جميع المخلوقات فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا يعجزه هارب ولا يخرج عن سلطانه أحد فسبحان القوي المتين.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- مشروعية تذكير الغافلين وإرشاد الحائرين ووعظ الجاهلين.
2- أنه لا ينتفع بالتذكير والموعظة إلا المؤمنون بثواب الله وعقابه ووعده ووعيده.
3- أن الذي لا ينتفع بالذكرى فليس بمؤمن.
4- الحكمة في خلق الجن والإنس توحيد الله وإخلاص العبادة له.
5- إن العبادة هي التوحيد وطاعة الله.
6- أن من لم يوحد الله لم يعبده.
7- أن الله تعالى غني عن خلقه من كل وجه وهم فقراء إليه من كل وجه.
8- أن الله قد تكفل بأرزاق خلقه جميعهم.
9- قوة الله العظيمة وقدرته البالغة المحيطة بكل شيء.(1/226)
10- الإعراض عن المكذبين المعرضين بعد ما قامت عليهم الحجة وبلغتهم الدعوة وأنه لا لوم على من أعرض عنهم بعد ذلك، وقيل الإعراض منسوخ بآية السيف والله أعلم.#
من سورة الحشر
محاسبة النفس، وعظمة القرآن، وعدم استواء أصحاب النار وأصحاب الجنة، وإثبات الأسماء الحسنى لله تعالى.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الآيات 18 – 24.(1/227)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سرًا وعلانية في جميع الأحوال وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره ونواهيه وشرائعه وحدوده وينظروا ما لهم وما عليهم وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من الرياء والسمعة والقواطع والعوائق التي تعوقهم عن السير وتصرفهم عنه ولهذا قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي أطيعوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) أي لينظر أحدكم أي شيء قدمه لنفسه عملا صالحًا ينجيه أو سيئًا يوبقه وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) كرر الأمر بالتقوى للتأكيد وأخبر أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية ولا يغيب عنه منكم جليل ولا حقير (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) أي لا تنسوا ذكر الله وتتركوا طاعته فينسيكم العمل لصالح أنفسكم الذي ينفعكم في آخرتكم حتى لا تقدموا لها خيرًا (أولئك
هم الفاسقون) الخارجون عن طاعة الله إلهًا لكون يوم القيامة الخاسرون في ذلك اليوم لما أعد الله لأوليائه المؤمنين من النعيم المقيم كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ#(1/228)
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (1) (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) أي لا يستوي من آمن بالله واتقاه وحافظ على فرائضه واجتنب محارمه وحاسب نفسه في العمل الذي يعمله لآخرته وعلم أن الله يراه فأسرع فيما يرضيه وانزجر عن معاصيه، لا يستوي هذا ومن نسي الله وعظمته وثوابه وعقابه فترك أوامره وارتكب زواجره، فلا يستوي هذا وذاك في حكم الله يوم القيامة فالله تعالى يكرم الأبرار ويهين الفجار، ولهذا قال تعالى: (أصحاب الجنة هم الفائزون) أي الناجون المسلمون من عذاب الله المنعمون بكرامة الله ومن المعلوم أن من نجا من النار ودخل الجنة فقد فاز فوزًا عظيمًا كما قال تعالى { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } (2) نسأل الله العظيم بوجهه الكريم أن يمن علينا بالمغفرة لذنوبنا ودخول جنات النعيم.
__________
(1) سورة المنافقون آية 9.
(2) سورة آل عمران آية 185.(1/229)
ثم قال تعالى معظمًا لأمر القرآن ومبينًا علو قدره ورفعة شأنه وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله) أي أن الجبل مع قساوته لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع وخضع وتقطع من خوف الله لكمال تأثير القرآن فيه فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم ولا تخشع ولا تتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه، ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال ويوضح لعباده الحلال والحرام لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها فإن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم ويبين له طرق الخير ويحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه ثم قال تعالى (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم) أخبر تعالى أنه لا إله إلا هو أي لا معبود بحق سواه وكل معبود سواه فباطل وأنه يعلم جميع الكائنات المشاهدة لنا والغائبة عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، وأنه ذو الرحمة الواسعة الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وهو الرحيم بالمؤمنين رحمة خاصة { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } (1) (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك) أي المالك المتصرف في جميع الأشياء في السماوات والأرض والدنيا والآخرة بلا ممانعة ولا مدافعة فجميع الخلق تحت تصرفه وقهره (القدوس) الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به المعظم الممجد لأن القدوس يدل على التنزيه عن كل نقص والتعظيم لله في أوصافه وجلاله (السلام) السالم من جميع العيوب والنقائص وكل آفة تلحق الخلق#
__________
(1) سورة الأحزاب آية 43.(1/230)
لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله (المؤمن) المصدق لأنبيائه ورسله بما جاءوا به من الآيات البينات والبراهين الواضحات والحجج القاطعات وهو الذي أمن خلقه من أن يظلمهم وأمن عباده المؤمنين من عذابه (المهيمن) الشاهد الرقيب على خلقه بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء (العزيز) القوي الغالب الذي لا يغالب ولا يمانع بل قد قهر كل شيء وخضع له كل شيء (الجبار المتكبر) الجبار العظيم المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم الذي يجبر الكسير ويغني الفقير (المتكبر) الذي له الكبرياء والعظمة المتنزه عن كل سوء وعن جميع العيوب والظلم والجور (سبحان الله عما يشركون) أي تنزه سبحانه عما يصفه به المشركون من الشرك والنقائص (هو الله الذي لا إله إلا هو الخالق) المقدر لما يوجده من جميع المخلوقات (البارئ) الموجد المخترع المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود فالخلق هو التقدير والبرء هو التنفيذ وإبراز ما قدره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئًا يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله تعالى (المصور) الذي يخلق صور الخلق على صور مختلفة وأشكال متباينة الذي إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار كما قال تعالى { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } (1) { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (2)
__________
(1) سورة آل عمران آية 6.
(2) سورة الانفطار آية 8..(1/231)
(له الأسماء الحسنى) أي له الأسماء الكثيرة التي لا يحصيها غيره وهي كلها حسنى دالة على الصفات الكاملة العلا له سبحانه التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه فله سبحانه كل وصف حمد ومدح وثناء وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» ومن حسنها أن الله يحبها ويحب من يحبها ويحب من عباده أن يسألوه ويدعوه بها (يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) أي جميع من في السماوات والأرض من المخلوقات يسبحون الله ويعظمونه وينزهونه عن كل ما لا يليق به وهم مفترقون إليه على الدوام ويسألونه حوائجهم وهو القوي الغالب الممتنع بعزته فلا يرام جنابه وهو الحكيم في خلقه وشرعه وقدره الذي لا يريد شيئًا إلا ويكون ولا يكون شيئًا إلا لحكمة ومصلحة. روى الإمام أحمد عن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم#
مات شهيدًا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» ورواه الترمذي وقال حديث غريب.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- الحث على تقوى الله تعالى وطاعته بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
2- الحث على محاسبة النفس في عمل الآخرة قولا وعملا سرًا وعلانية.
3- قرب الآخرة لأن الله أنزلها منزلة غد اليوم الذي بعد يومك لأن من مات قامت قيامته وانتقل إلى الآخرة ولعل الموت يأتي في الصباح أو المساء وكل ما هو آت قريب.
4- علم الله بأحوال خلقه وطاعاتهم ومعاصيهم.
5- التحذير من نسيان العبد لربه بأن ينسى عظمته وحسابه وثوابه وعقابه وجنته وناره فيترك طاعته.
6- أن الجزاء من جنس العمل فمن نسي ذكر الله أنساه العمل الصالح لنفسه فلم يقدم لها خيرًا ينفعها عند الله.(1/232)
7- خسران من خرج عن طاعة الله من ثوابه في الآخرة.
8- عدم استواء المؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار في العلم والعمل والجزاء فإن الله يكرم الأبرار بالنعيم ويهين الفجار في الجحيم.
9- فوز المؤمنين بدخول الجنة والنجاة من النار.
10- عظمة القرآن الكريم وأنه لو أنزل على الجبال الصم لقطعها وذللها لو كانت تعقل وتفهم.
11- الحث على الخشوع لذكر الله وتلاوة كتابه والتفكر بآياته والتدبر لمعانيه.
12- انفراد الله بالألوهية واستحقاقه للعبادة دون سواه.
13- علم الله بما غاب وحضر.
14- وصف الله بالرحمة العامة الشاملة لجميع المخلوقات في الدنيا والآخرة والرحمة الخاصة بالمؤمنين (وكان بالمؤمنين رحيما).
15- انفراد الله بملك السماوات والأرض والدنيا والآخرة.
16- تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من العيوب والنقائص وسلامته منها.
17- تصديق الله لأنبيائه ورسله وأنه قد أمن عباده من ظلمه والمؤمنين من عذابه.
18- أن الله تعالى مطلع على خلقه رقيب على أعمالهم وشهيد عليها.#
19- عزة الله وقوته وقدرته وغلبته لكل شيء.
20- وصف الله بالكبرياء والعظمة التي لا تنبغي إلا له.
21- تنزيه الله عن كل ما يصفه به المشركون من الشرك والنقائص.
22- انفراد الله بالخلق والإيجاد وتصوير المخلوقات على ما أراد.
23- انفراد الله بالأسماء الحسنى والصفات العلا.
24- تسبيح جميع المخلوقات لله في السماوات والأرض.
25- حكمة الله البالغة في خلقه ورزقه وتدبيره وتقديره وتكوينه وهدايته وإضلاله.
26- فضل هذه الآيات الكريمات حيث اشتملت على إرشاد المؤمنين ووعظهم وتذكيرهم وتحذيرهم من سلوك الخاسرين من المغضوب عليهم والضالين وعدم التسوية بين المؤمنين والكافرين وفوز المؤمنين أصحاب الجنة بالنعيم المقيم ووصف القرآن بالعظمة حيث أنه لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها ووصف الله بصفات العظمة والجلال والجمال وتنزيهه عن كل نقص وعيب سبحانه وتعالى.#(1/233)
(الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله
بالأموال والأنفس تجارة رابحة للمؤمنين)
من سورة الصف
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الآيات 10 – 13.(1/234)
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فأنزل الله هذه السورة ومن جملتها هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) وهذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين لأعظم تجارة وأجل مطلوب يحصل بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، فكأنه قيل ما هذه التجارة العظيمة المحصلة للمقصود والمزيلة للمحذور ثم فسرها فقال: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به المستلزم لأعمال الجوارح التي من أجلها الجهاد في سبيله فلهذا أرشد إليه بقوله: (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) بأن تبذلوا أنفسكم ومهجكم لمصادمة أعداء الإسلام والقصد نصر دين الله وإعلاء كلمته وتنفقوا ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب فإن ذلك وإن كان كريها للنفوس شاقًا عليها فهو (خير لكم إن كنتم تعلمون) أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها فإن فيه الخير الدنيوي من النصر على الأعداء والعز المنافي للذل والرزق الواسع وسعة الصدر وانشراحه والخير الأخروي بالفوز بثواب الله والنجاة من عقابه ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة فقال: (يغفر لكم ذنوبكم) أي إن فعلتم ما ذكر من الإيمان بالله ورسله والجهاد في سبيله بأموالكم وأنفسكم غفر الله لكم ذنوبكم الصغائر والكبائر فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله مكفر للذنوب ولو كانت كبائر (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي جنات عظيمات عاليات وبساتين واسعات فيها من كل أنواع الأشجار والفواكه والثمار والأنهار تجري من تحت مساكنها وقصورها وغرفها وأشجارها (أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير#(1/235)
طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات) (ومساكن طيبة في جنات عدن) أي جمعت كل طيب من علو وارتفاع وحسن بناء وزخرفة لا يأتي عليه وصف الواصفين، وبناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك وحصباؤها الدر والياقوت وتربتها الزعفران، ومن صفاء تلك المساكن والغرف أنه يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وسميت جنة عدن لأن أهلها مقيمون فيها على الدوام لا يموتون ولا يخرجون منها ولا ينقطع عنهم نعيمها ولا يبغون عنها حولا، وذلك الثواب الجزيل والأجر الجميل هو (الفوز العظيم) الذي لا فوز مثله (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) (1) وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجنة العظيمة بقوله «هي ورب الكعبة نور يتلألأ وقصر مشيد ونهر مطرد وريحانة تهتز وزوجة جميلة وثمرة نضيجة وحلل كثيرة ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية» (2) فهذا الثواب الأخروي، وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة فذكره بقوله: (وأخرى تحبونها) أي وأزيدكم على ذلك خصلة أخرى تحبونها وهي (نصر من الله) لكم على الأعداء يحصل بها العز والفرح (وفتح قريب) أي عاجل تتسع به دائرة الإسلام ويحصل به الرزق الواسع أي إذا قاتلتم في سبيل الله ونصرتم دينه تكفل بنصركم كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (3) وقال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (4) فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر الله ودينه.
__________
(1) سورة آل عمران آية 185.
(2) رواه ابن ماجة وابن حبان.
(3) سورة محمد آية 7.
(4) سورة الحج آية 40.(1/236)
ولهذا قال تعالى: (وبشر المؤمنين) أي بالثواب العاجل والآجل كل على حسب إيمانه وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وجبت له الجنة» فعجب لها أبو سعيد الخدري وقال أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين درجتين كما بين السماء والأرض فقال وما هي يا رسول الله قال: «الجهاد في سبيل الله» رواه مسلم. نسأل الله رب العرش العظيم بوجهه الكريم أن يتوفانا مسلمين مؤمنين مجاهدين في سبيله وأن يدخلنا الجنة برحمته وهو أرحم الراحمين وهو حسبنا ونعم الوكيل.#
ما يستفاد من الآيات الكريمات:
1- أن أحب الأعمال إلى الله الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس وأن ذلك تجارة رابحة تنجي من العذاب الأليم وهي السبب في حصول النعيم المقيم.
2- أن الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله سبب في مغفرة جميع الذنوب ودخول جنات النعيم.
3- أن الإيمان بالله ورسوله يستلزم فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات لأنه رتب عليه مغفرة الذنوب ودخول الجنة ولابد في ذلك مما ذكر.
4- فضل الإيمان والعمل الصالح والحث عليهما.
5- رحمة الله بعباده المؤمنين حيث وفقهم للإيمان والعمل الصالح ثم قبله منهم وأثابهم عليه.
6- أن الإيمان الذي هو تصديق القلب يستلزم قول اللسان وعمل الجوارح.
7- أن الجهاد يكون بالمال والنفس كما يكون باللسان والقلم.
8- اشتمال جنات النعيم على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا يأتي عليه وصف الواصفين.
9- خلود أهل الجنة فيها أبدًا حيث لا يموتون ولا يخرجون منها ولا ينقطع عنهم نعيمها.
10- حصول النصر العاجل والفتح القريب للمؤمنين بالله والمجاهدين في سبيله بالأموال والأنفس.
11- بشارة المؤمنين بالثواب العاجل والآجل في الدنيا والآخرة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.#(1/237)
من سورة الجمعة
من أحكام الجمعة
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } الآيات 9 – 11.
قال ابن كثير رحمه الله: «إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار وفيه كمل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق فيها السماوات والأرض، وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه كما ثبت بذلك الأحاديث. وكان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه واختار اليهود يوم السبت واختار النصارى يوم الأحد واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل فيه الخليقة» (1) .اهـ ملخصًا.
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/365.(1/238)
وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) أي: إذا سمعتم الأذان لصلاة الجمعة فاقصدوها واهتموا في سيركم إليها وإن كان يندب السعي إليها من الصباح الباكر اغتنامًا للأجر والمراد بالسعي هنا المبادرة والاهتمام لا المشي السريع فإنه منهي عنه عند المضي إلى الصلاة، ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها وأن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر، والمراد بالنداء في قوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) المراد به هو الأذان الثاني للجمعة الذي كان يفعل بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج فجلس على المنبر فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه فهذا هو المراد، #(1/239)
قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره قال: فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فإنما كان هذا لكثرة الناس لكي يجتمعوا قبل خروج الإمام. وقوله تعالى: (وذروا البيع) أي اتركوا البيع إذا نودي للصلاة وامضوا إليها (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) أي ترككم للبيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم في الدنيا والآخرة من اشتغالكم بالبيع أو تفويتكم لصلاة الفريضة التي هي من أعظم الفروض (إن كنتم تعلمون) أن ما عند الله خير وأبقى وأن من آثر الدنيا على الآخرة والدين فقد خسر خسرانًا مبينًا من حيث يظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة (فإذا قضيت الصلاة) أي فرغ منها (فانتشروا في الأرض) لطلب المكاسب والتجارات والأرزاق كما منعهم من التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، ولما كان الاشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله أمر الله بالإكثار من ذكره فقال: (واذكروا الله كثيرًا) أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم وفي حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم اذكروا الله كثيرًا ولا تشتغلوا بالدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة (لعلكم تفلحون) أي: لكي تفوزوا فإن الإكثار من ذكر الله من أكبر أسباب الفلاح والفوز (وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائمًا) يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة من الشام يومئذ والرسول صلى الله عليه وسلم قائمًا يخطب على المنبر، عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا فقال والذي نفسي بيده لو تتابعتم لسال بكم الوادي نارًا ونزلت هذه الآية (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائمًا) وقد روى(1/240)
مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس، قال ابن كثير: ولكن ههنا شيئًا ينبغي أن يعلم وهو أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل (قل ما عند الله) أي من الأجر والثواب في الدار الآخرة لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله (خير من اللهو ومن التجارة) والمراد باللهو الطبل الذي ضرب إيذانًا بقدوم العير (والله خير الرازقين) لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته منه فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب، هذا وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل يوم الجمعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس وأنه يكفر به ما بين الجمعتين من الذنوب لمن#
اجتنب الكبائر وأنه خير الأيام وأفضلها عند الله وأفضل عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر وفيه خصائص لا توجد في غيره من الأيام كما ورد الوعيد الشديد على ترك الجمعة في عدة أحاديث منها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع الله على قلبه» (2) وهم صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجمعة (3) فعلى المسلم أن يحافظ عليها امتثالا لأمر الله ورسوله وخوفًا من عقاب الله ورغبة في ثوابه المعد لمن أطاعه وبالله التوفيق.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- أن الجمعة فريضة على المؤمنين يجب عليهم السعي إليها والمبادرة والاهتمام بشأنها.
2- أن الخطبتين يوم الجمعة فريضة يجب حضورهما لأن فسر الذكر هنا بالخطبتين فأمر الله بالمضي إليه والسعي له.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
(3) في الحديث الذي رواه مسلم.(1/241)
3- مشروعية الأذان للجمعة والأمر به.
4- النهي عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة الثاني وتحريم ذلك لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه.
5- أن كل أمر وإن كان مباحًا في الأصل إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب فإنه لا يجوز في تلك الحال.
6- أن ترك البيع والسعي إلى الجمعة خير لفاعله في الدنيا والآخرة.
7- الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة وذم من لم يحضرهما ومن لازم ذلك الإنصات لهما.
8- أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائمًا.
9- أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله وقت دواعي النفس لحضور اللهو والتجارات والشهوات أن يذكرها بما عند الله من الخيرات وما يؤثر رضا الله على هواه.
10- الحث على ذكر الله كثيرًا على كل حال وفي كل مكان وزمان وفوز وفلاح من فعل ذلك.
11- الحث على التوبة إلى الله وطلب الرزق منه لأنه المتكفل بأرزاق العباد بالأسباب التي ينالونها به وهو خير الرازقين.#
من سورة المنافقين
خسارة من اشتغل بأمواله وأولاده عن ذكر الله
والحث على النفقة من رزق الله
قبل نزول الموت المحتوم
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الآيات 9 – 11.(1/242)
يقول الله تعالى آمرًا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيًا لهم من أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك فإن فيه الربح والفلاح والخيرات الكثيرة ومخبرًا لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، والمطلوب ذكر الله عمومًا على كل حال وفي كل زمان ومكان وفي مقدمة ذلك الصلوات الخمس، ثم حثهم على الإنفاق في طاعته (وأنفقوا مما رزقناكم) يشمل جميع النفقات في طرق الخيرات وفي مقدمة ذلك الزكاة الواجبة والنفقة على الزوجات والوالدين والأولاد المحتاجين (من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني) أي: بادروا بالصدقات هجوم الموت قبل أن تندموا وتصير أموالكم ملكًا لغيركم وتسألوا الرجوع إلى الحياة لكي تتوبوا وتصدقوا وتعملوا صالحًا فلا يمكن، ولهذا قال تعالى: (فيقول رب لولا أخرتني) أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي (إلى أجل قريب) زمن قريب لأتدارك ما فرطت فيه (فأصدق) أؤدي الزكاة وأخرج من مالي ما به أنجو من العذاب وأستحق الثواب (وأكن من الصالحين) بأداء المأمورات كلها وترك المنهيات ويدخل في هذا الحج وغيره فكل مفرط يندم عند الموت ويسأل طول المدة ولو شيئًا يسيرًا ليستدرك ما فاته وهيهات هيهات كان ما كان وأتى ما هو آت
ثم قال تعالى: (ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها) أي: لا يؤخر أحدًا بعد
حلول أجله وانتهاء مدته وحصول موته (والله خبير بما#(1/243)
تعملون) وهو أعلم وأخبر بما كان وما يكون من أعمالكم خيرها وشرها وسرها وعلانيتها وسوف يجزيكم عليها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من كان له مال يبلغه حج بيت الله فلم يحج وتجب فيه الزكاة فلم يزك سأل الرجعة عند الموت فقال له رجل: يا ابن عباس اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار. قال: سأتلوا عليك بذلك قرآنًا: قال تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) الآية. قيل فما يوجب الزكاة قال إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدًا قيل فما يوجب الحج قال الزاد والراحلة.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- النهي عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله وطاعته وعن أداء الصلوات الخمس.
2- خسران من اشتغل بأمواله وأولاده عن صلاته وذكر ربه وعبادته فقد خسر السعادة الأبدية والنعيم المقيم.
3- الحث على النفقة من رزق الله في الواجبات والمستحبات على الفقراء والمساكين والمحتاجين.
4- الحث على المسارعة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات وانتهاز الفرصة قبل الفوات وهجوم الموت وانقطاع العمل.
5- أن من كان له مال فلم يؤد زكاته أو استطاع الحج فلم يحج يسأل الرجوع إلى الحياة عند الموت كما فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
6- أن الأجل محتوم لا يزاد فيه ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر.
7- علم الله بأحوال خلقه وأعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم وسرهم وعلانيتهم.#
من سورة التحريم
وقاية الأنفس والأهل نار جهنم والحث على التوبة النصوح(1/244)
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } الآيات 6 – 8.(1/245)
يقول تعالى: يا من من الله عليهم بالإيمان قوموا بلوازمه وشروطه (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) موصوفة بهذا الأوصاف الفظيعة ووقاية الأنفس بلزوم طاعة الله وتقواه بفعل أوامره واجتناب مناهيه والمسارعة إلى مرضاته والتوبة عن ما يسخط الله ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد بتعليمهم وتأديبهم فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه وفي من تحت ولايته وتصرفه، ووصف الله النار بهذه الأوصاف ليزجر عباده عن التهاون بأمره فقال: (وقودها الناس والحجارة) أي ليست تتقد بالحطب كنار الدنيا ولكنها تتقد بأجسام الناس ومعبوداتهم من دون الله من الأصنام والأوثان كما قال تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } (1) وقيل هي حجارة من كبريت أنتن من الجيفة؛ لأنه أسرع إيقادًا وأشد الأشياء حرًا (عليها ملائكة غلاظ شداد) أي: يلي أمرها وتعذيب أهلها ملائكة وهم الزبانية خزنة النار التسعة عشر وأعوانهم وصفهم الله بأنهم (غلاظ شداد) غليظة طباعهم شديد تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والنظر المزعج يفزعون بأصواتهم ويزعجون من يراهم ويهينون أصحاب النار بقوتهم وينفذون فيهم أمر الله الذي حتم عليهم بالعذاب وأوجب عليهم شدة العقاب قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) أي: مهما أمرهم الله به يبادرون إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين وهم قادرون
أقوياء على تنفيذه ليس بهم عجز منه وهم الزبانية#
عياذًا بالله منهم روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها». قال الفقهاء وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر، والله الموفق.
__________
(1) سورة الأنبياء آية 98.(1/246)
(يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون) أي: يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا عما قدمتم لأنفسكم من الكفر بالله والتكذيب بآياته ومحاربة رسله وأوليائه فإنه لا يقبل عذركم وإنما تجزون اليوم بأعمالكم فإنه ذهب وقت الاعتذار وزال نفعه ولم يبق إلا الجزاء على الأعمال (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا) التوبة هي الرجوع إلى الله بالقلب واللسان والعمل والنصوح هي الصالحة الخالصة بأن يتوب من المعصية فلا يعود إليها كما لا يعود اللبن في الضرع توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات وقد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية ووعد عليها بتكفير السيئات ودخول الجنات والفوز والفلاح حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم ويمشون بضيائه ويتمتعون بروحه وراحته ويشفقون إذا طفئت الأنوار التي تعطى المنافقين ويسألون الله أن يتم لهم نورهم ويغفر لهم ذنوبهم فيستجيب الله دعوتهم ويوصلهم بما معهم من النور واليقين إلى جنات النعيم وجوار الرب الكريم وكل هذا من آثار التوبة النصوح وهي التوبة الجازمة الشاملة لجميع الذنوب وليستمر عليها في جميع أحواله. قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب صغير وكبير فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى: لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية في الوقت الحاضر الثاني: أن يندم على فعلها في الماضي. الثالث: أن يعزم ألا يعود عليها أبدًا في المستقبل فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شروط أربعة هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها فإن كان مالا ونحوه رده إليه وإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه وإن كان غيبة استحله منها.(1/247)
ويجب أن يتوب إلى الله تعالى من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي (1) وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة قال الله تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2) وقال تعالى:#
__________
(1) انظر رياض الصالحين ص 12 – 13.
(2) سورة النور آية 31.(1/248)
{ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (2) هذا وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكنه - صلى الله عليه وسلم - عبد شكور وهو القدوة المشرع لأمته { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه مسلم. فإذا جزم المسلم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطايا والسيئات كما ثبت في الصحيح: «الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها ولهذا فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ولهذا قال تعالى: (عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) يعني: إذا تبتم إلى الله توبة نصوحًا كفر عنكم السيئات وأدخلكم الجنات التي تجري من تحت غرفها وأشجارها أنهار اللبن والعسل والخمر والماء، وعسى من الله موجبة (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) أي: لا يخزيهم معه يوم القيامة كما يخزي الكافرين (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) أي نور المؤمنين يمشي معهم ويضيء لهم الصراط وحين ينطفئ نور المنافقين يدعو الله أن يتم لهم نورهم ويكمله حتى يدخلوا الجنة ويغفر لهم ذنوبهم بقدرته العظيمة على كل شيء.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- الحث على طاعة الله بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى والمسارعة إلى مرضاته التي هي السبب في الوقاية من نار جهنم.
__________
(1) سورة هود آية 90.
(2) رواه مسلم.
(3) سورة الأحزاب آية 21.(1/249)
2- الأمر بتأديب الأهل والأولاد وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم والأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق أطرًا وقصرهم عليه قصرًا وتربيتهم التربية الشرعية الدينية وبذلك يقيهم الإنسان من نار جهنم.
3- شدة حر نار جهنم وفظاعتها وتنوع وقودها بالناس والحجارة.
4- شدة خزنة النار وقوتهم وبشاعة منظرهم.
5- أنهم يمتثلون أمر الله بإعداد النار وتعذيب أهلها وينفذونه.#
6-
عدم الإذن للكفار بالعذر عن ما قدموا لأنفسهم من الكفر والتكذيب.
7- أن الجزاء يكون من جنس العمل.
8- وجوب التوبة إلى الله تعالى توبة نصوحًا من جميع الذنوب بأن يقلع العبد عن الذنب في الوقت الحاضر ويندم على ما مضى منه ويعزم ألا يعود إليه في المستقبل.
9- مغفرة الله لذنوب التائبين وتكفير سيئاتهم ودخولهم جنات النعيم.
10- عدم خزي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه كما يُخزى الكافرون والمنافقون بدخول النار.
11- سعي النور مع المؤمنين يوم القيامة بين أيديهم وبأيمانهم وعلى الصراط حتى يدخلوا الجنة.
12- قدرة الله على كل شيء ومن ذلك إتمام نور المؤمنين ومغفرة ذنوبهم.#
من سورة المعارج
من أوصاف المؤمنين(1/250)
قال الله تعالى: { إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } الآيات 19 – 35.(1/251)
يقول الله تعالى مخبرًا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة أنه هلوع، وفسر الهلوع بقوله: (إذا مسه الشر جزوعًا) أي: إذا أصابته مصيبة فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب وأيس ألا يحصل له بعد ذلك خير فيجزع إن أصابه فقر أو مرض أو ذهاب محبوب له من مال أو أهل أو ولد ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله (وإذا مسه الخير منوعًا) أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره ومنع حق الله فيها فلا ينفق مما آتاه الله ولا يشكر الله على نعمه وبره فيجزع في الضراء ويمنع في السراء (إلا المصلين) أي: الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون الموصوفون بتلك الأوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله وأنفقوا مما خولهم، وإذا مسهم الشر والضر صبروا عليه فأثابهم، وقوله تعالى في وصفهم: (الذين هم على صلاتهم دائمون) أي يداومون عليها في أوقاتها بشروطها وبكمالاتها والخشوع فيها وليسوا كمن لا يفعلها أو يفعلها في وقت دون وقت أو يفعلها على وجه ناقص (والذين في أموالهم حق معلوم) أي نصيب مقسوم من زكاة وصدقة حق مقرر لذوي الحاجات (للسائل) الفقير الذي يتعرض للسؤال (والمحروم) المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس فيعطوه ولا يفطنوا له فيتصدقوا عليه (والذين يصدقون بيوم الدين) أي: يؤمنون بما أخبر الله به وأخبرت به رسله من البعث والحساب والجزاء ويتيقنون ذلك فيستعدون للآخرة فيسعون لها سعيها ويعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ولهذا قال تعالى: (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) أي خائفون وجلون فيتركون لذلك كل#(1/252)
ما يقربهم من عذاب الله (إن عذاب ربهم غير مأمون) أي لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى: (والذين هم لفروجهم حافظن) أي يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه فلا يطأون بها وطأ محرمًا من زنا أو لواط أو وطء في دبر أو حيض ونحو ذلك ويحفظونها أيضًا من النظر إليها ومسها ممن لا يجوز له ذلك ويتركون أيضًا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة كالسماع المحرم والنظر المحرم (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) من الإماء المملوكات (فإنهم غير ملومين) لا لوم عليهم في وطئهن في المحل المأذون فيه: (فمن ابتغى وراء ذلك) أي: غير الزوجة وملك اليمين (فأولئك هم العادون) أي: المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي: إذا ائتمنوا لم يخزنوا وإذا عاهدوا لم يغدروا وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه والتي بينه وبين الخلق في الأموال والأسرار وكذلك العهد شامل للعهد الذي عاهدوا الله عليه والعهد الذي عاهدوا الخلق عليه فإن العهد يسأل عنه العبد هل قام به ووفاه أم رفضه وخانه ولم يقم به وهذه صفات المنافقين التي هي ضد صفات المؤمنين «إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» عياذًا بالله من ذلك. وقوله تعالى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون) أي لا يشهدون إلا بما يعلمون من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } (1) ولا يحابوا بها قريبًا ولا صديقًا ونحوه ويكون القصد بإقامتها وجه الله تعالى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ } (2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } (3) .
__________
(1) سورة البقرة آية 283.
(2) سورة الطلاق آية 2.
(3) سورة النساء آية 135.(1/253)
(والذين هم على صلاتهم يحافظون) بالمداومة عليها على أكمل الوجوه على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها كما تقدم في أول سورة (قد أفلح المؤمنون) سواء ولهذا قال هناك (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) وقال هنا (أولئك في جنات مكرمون) أي الموصوفون بتلك الصفات قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم وأنواع الملاذ والمسار ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وحاصل هذا أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة والأخلاق المرضية الفاضلة من العبادات البدنية كالصلاة#
والمداومة عليها، والأعمال القلبية كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية والعقائد النافعة والأخلاق الفاضلة ومعاملة الله ومعاملة خلقه أحسن معاملة من إنصافهم وحفظ حقوقهم وأماناتهم والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكرهه الله تعالى.
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- ذم الإنسان من حيث هو حيث كان متصفًا بالهلع والجبن والجزع عند المصائب ومنع الحقوق عند النعم إلا من عصمه الله بالإيمان والتوفيق للعمل الصالح.
2- عظم شأن الصلاة والتنويه بشرفها وفضلها.
3- الحث على المحافظة والمداومة عليها بجميع واجباتها ومكملاتها.
4- الحث على إخراج الزكاة والحقوق الواجبة والمستحبة لذوي الحاجات شكرًا لنعمة المال.
5- إن للسائل حقًّا وأحق منه الفقير المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس.
6- فضل الصدقة والترغيب فيها لدفع حوائج المحتاجين والسائلين.
7- من أوصاف المؤمنين التصديق بالبعث والحساب والجزاء والاستعداد لذلك.
8- من أوصافهم حفظ الفروج عن الحرام كالزنا واللواط والوطء في الدبر والحيض والبعد عن وسائل ذلك كالنظر المحرم والسماع المحرم والكلام المحرم.(1/254)
9- من أوصافهم الخوف من عذاب الله والبعد عن أسبابه وعدم الأمن من العقاب.
10- تحريم نكاح المتعة والتحليل لكونها غير زوجة مقصودة ولا ملك يمين.
11- من أوصاف المؤمنين حفظ الأمانات والعهود ومراعاتها وعدم الخيانة فيها.
12- من أوصافهم القيام بالشهادة تحملا وأداء وتأديتها كما علموها من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان.
13- من أوصافهم المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة في المسجد وكذلك يحافظون على النوافل المكملة للفرائض.
14- وجوب الطمأنينة في الصلاة لأن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده ليس بدائم على صلاته لأنه لم يسكن فيها ولم يدم بل نقرها فلم يفلح فيها.
15- حسن عاقبة المؤمنين وكمال جزائهم وإكرامهم بجنات النعيم.
16- أن الجزاء من جنس العمل.#
17-
تحريم العادة السرية (الاستمناء باليد ونحوها) حيث لم يبح قضاء الشهوة إلا بجماع الزوجة والمملوكة - وما سواهما يعتبر اعتداء وتجاوز الحلال إلى الحرام وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع من الشباب إلى الزواج ومن لم يستطع أرشده إلى الصوم لأنه يكبح جماح النفس ويضعف الشهوة.#
تفسير سورة إذا زلزلت
وهي مكية وقيل مدنية
وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة
ومائة وتسعة وثلاثون حرفًا
[أهوال القيامة وجزاء كل نفس بما عملت](1/255)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وله عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ إذا زلزلت عدلت له نصف القرآن ومن قرآ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له ثلث القرآن» وقال حديث غريب. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقرأني يا رسول الله قال له اقرأ ثلاثًا من ذوات الراء فقال له الرجل كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني قال فاقرأ من ذوات حم فقال مثل مقالته الأولى فقال اقرأ ثلاثًا من المسبحات فقال مثل مقالته فقال الرجل ولكن أقرأني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه (إذا زلزلت) حتى فرغ منها. قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبيًا لا أزيد عليها أبدًا ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح الرويجل أفلح الرويجل) الحديث. وروى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «هل تزوجت يا فلان؟» قال لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به... قال: «أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟» قال: بلى، قال: ربع القرآن قال: «أليس معك قل هو الله أحد؟» قال: بلى، قال: ثلث القرآن قال: «أليس معك قل يا أيها الكافرون؟» قال: بلى، قال: ربع القرآن قال: «أليس معك إذا زلزلت؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن تزوج» ثم قال هذا حديث حسن.
فقوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) يخبر الله تعالى عما يكون يوم القيامة وأن الأرض تزلزل وتتحرك حركتها الشديدة واضطربت حتى يزول ما عليها من بناء وجبل وشجر حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزلزلة فتندك جبالها وتسوي تلالها وتكون قاعًا صفصفًا#(1/256)
لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا ولهذا قال: (وأخرجت الأرض أثقالها) أي لفظت ما في بطنها من الموتى والكنوز وهذه الآية كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } (1) وكقوله تعالى: { وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } (2) وقوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها) أي: شيء عرض لها استنكر أمرها بعدما كانت قارة ثابتة وهو مستقر على ظهرها أي: انقلبت الحال فصارت متحركة مضطربة قد جاءها من الله تعالى ما أعده لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين وحينئذ استنكر الإنسان أمرها وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار (يومئذ تحدث أخبارها) أي تخبر بما عمل العاملون على ظهرها من خير أو شر وتشهد عليهم بذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (يومئذ تحدث أخبارها) قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإن أخبارهم أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. (بأن ربك أوحى لها) أي شهدت بما عمل عليها بسبب أن الله أوحى إليها وأمرها بذلك فامتثلت أمره. (يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم) أي يرجعون من موقف القيامة متفرقين أنواعًا وأصنافًا فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار ليريهم الله جزاء ما عملوا في الدنيا من خير أو شر ولهذا قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره) أي: من يعمل وزن نملة صغيرة من خير يرى ثوابه أو شر يلقى جزاءه.
__________
(1) سورة الحج آية 1.
(2) سورة الانشقاق آية 3 – 4.(1/257)
قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أو شرًا في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته. وقيل (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره) من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير (ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره) من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وولده وأهله حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. قيل لما نزلت هذه الآية (ويطعمون الطعام على حبه) كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة وأشباه ذلك فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير مثل: الكذبة#
والنظرة والغيبة ونحو ذلك ويقولون إنما توعد الله بالنار على الكبائر فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه فإنه يوشك أن يكثر وحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه قد يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : أحكم آية في القرآن هذه الآية (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره) وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الفاذة الجامعة حين سئل عن زكاة الحمير فقال ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفذة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره) (1) وفي الحديث إياكم ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبًا وإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (3) وبالله التوفيق.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الإمام أحمد وغيره.
(3) متفق عليه.(1/258)
1- فضل هذه السورة حيث عدلت نصف القرآن أو ربعه.
2- الإيمان بيوم القيامة وأهواله من زلزلة الأرض وإخراج موتاها وشهادتها على الناس بما عملوا وانقسام الناس إلى شقي وسعيد ومجازاتهم بما يعملون من خير وشر.
3- الترغيب في فعل الخير ولو قليلا والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا.
4- إخبار الأرض يوم القيامة بما عمل عليها من خير أو شر.
5- أن الجزاء يكون من جنس العمل.#
تفسير سورة التكاثر وهي مكية
وهي ثمان آيات وعشرون كلمة
ومائة وعشرون حرفًا
ذم الاشتغال بالتكاثر في الدنيا
عن عمل الآخرة والوعيد عليه برؤية نار جهنم
وسؤال العبد عن شكر نعم الله عليه
قال تعالى: (ألهاكم التكاثر) أي: شغلتكم المفاخرة والمباهاة والمكاثرة بكثرة المال والولد والعدد والعدد عن طاعة الله ربكم وما ينجيكم من عذابه وسخطه فاستمرت غفلتكم ولهوكم وتشاغلكم (حتى زرتم المقابر) أي حتى متم ودفنتم في المقابر فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على كثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك فانكشف حينئذ لكم الغطاء ولكن بعدما تعذر عليكم استئنافه (كلا) ردع عن التكاثر أو بمعنى حقًا (سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون) وعيد بعد وعيد المعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم إذا نزل بكم الموت (كلا لو تعلمون علم اليقين) أي لو علمتم علمًا يقينيًا يصل إلى القلوب لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة حتى صرتم إلى المقابر ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة (لترون الجحيم) هذا تفسير الوعيد المتقدم وهو جواب قسم محذوف لتوكيد الوعيد والمعنى لترون النار بأبصاركم التي إذا زفرت زفرة واحدة خر كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال (ثم لترونها عين اليقين) أي: رؤية بصرية هي نفس اليقين كما قال تعالى: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } (1) .
__________
(1) سورة الكهف آية 53.(1/259)
(ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الأمن والصحة صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وكذلك نعمة الأرزاق من المأكل والمشرب والملبس#(1/260)
ولذة النوم والراحة والمسكن وغير ذلك ماذا قابلتم نعمه من شكره وعبادته فيسأل عن كل لذة من لذات الدنيا وفي الحديث: «إن أول ما يسأل عنه العبد من النعم أن يقال ألم نصح لك بدنك ونروك من الماء البارد» رواه الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» (1) ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون ولهذا قال تعالى: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) أي الذي تنعمتم به في الدار الدنيا هل قمتم بشكره وأديتم حق الله فيه ولم تستعينوا به على معاصيه فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل أم اغتررتم به ولم تقوموا بشكره أو استعنتم به على المعاصي فيعاقبكم على ذلك قال تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } (2) الآية عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: (ألهاكم التكاثر) فقال: «يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» رواه أحمد ومسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» رواه البخاري.
ما يستفاد من هذه السورة:
1- الزجر عن التكاثر بالأموال والأولاد والتشاغل بذلك عن طاعة الله.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) سورة الأحقاف آية 20.(1/261)
2- الحث على المبادرة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات قبل الفوات.
3- أنه ينبغي للعاقل أن يكون اهتمامه وسعيه وشغله في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه تعالى.
4- الدلالة على البعث والجزاء على الأعمال لأن الله سمى المقبورين زائرين ولم يسمهم مقيمين.
5- وعيد المتكاثرين بالدنيا المشتغلين بها عن الآخرة بالعذاب ورؤية جهنم بأبصارهم.
6- أن العبد يسأل يوم القيامة عن شكر ما أنعم الله عليه من لذات الدنيا.
7- استحباب زيارة القبور لتذكر الآخرة والعمل لها.#
تفسير سورة العصر
مكية وقيل مدنية
وهي ثلاث آيات وأربع عشرة كلمة وثمانية وستون حرفًا
(خسر الإنسان بدون الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق)
والتواصي بالصبر
بسم الله الرحمن الرحيم: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } .(1/262)
أقسم الله تعالى بالعصر وهو الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم وأعمالهم من خير وشر، وقيل أقسم بصلاة العصر لشرفها وفضلها، والمشهور الأول. أقسم أن جنس الإنسان من حيث هو لفي خسران ونقصان وهلاك، والخسار مراتب متعددة متفاوتة فقد يكون خسارًا مطلقًا كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم المقيم واستحق العذاب الأليم، وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات وهي قوله: (إلا الذين آمنوا) أي صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث بعد الموت والحساب والجزاء والصراط والجنة والنار والثواب والعقاب للمحسنين والمسيئين وصدقوا بالقدر خيره وشره حلوه ومره وبكل ما أمر الله بالإيمان به ولا يكون الإيمان إلا بالعلم فهو فرع عنه لا يتم إلا به (وعملوا الصالحات) أي عملوا الأعمال الصالحة من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران والأصحاب وغير ذلك من أفعال الخير المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الظاهرة والباطنة الواجبة والمستحبة خالصة لله وعلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (وتواصوا بالحق) أي أوصى بعضهم بعضًا بالإيمان والعمل الصالح وأداء الواجبات وترك المحرمات وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات فتواصوا بالخير كله من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله علمًا وعملا واعتقادًا ودعوة. (وتواصوا بالصبر) أي أوصى بعضهم بعضًا بالصبر وهو حبس النفس على طاعة الله بعدم تركها والصبر عن#(1/263)
المعاصي بعدم فعلها والصبر على الأقدار والمصائب والمؤذيات بعدم تسخطها فأهل هذه الأوصاف الأربعة ليسوا في خسران فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا، فبالأمرين الأولين يكمل العبد نفسه وبالأمرين الآخرين يكمل غيره وباستكمال الأمور الأربعة يكون قد سلم من الخسران وفاز بالربح العظيم فهذه السورة ميزان للمؤمن يزن بها نفسه فيعرف ربحه من خسرانه وسعادته من شقاوته فإنها قد تضمنت منهاج السعادة ولهذا قال فيها الإمام الشافعي لو فكر الناس فيها لكفتهم، وروى الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله بن حفص قال كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- أن للخالق أن يقسم بما شاء من مخلوقاته بخلاف المخلوق فلا يقسم إلا بالله الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء المستحق للعبادة وحده.
2- خسران الإنسان لسعادته إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
3- وجوب العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
4- أنه لا يستقيم الإيمان إلا بالعمل.
5- أن العمل لا ينفع إلا إذا كان صالحًا خالصًا لله جاريًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الاستطاعة والقدرة.
7- أن الدين يشمل قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح.
8- وجوب الصبر على طاعة الله بعدم تركها والصبر عن المعاصي بعدم فعلها والصبر على الأقدار والمصائب بعدم تسخطها فالصبر هو طريق النجاح فمن صبر ظفر { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (1) .#
تفسير سورة الكوثر
وهي مكية وقيل مدنية
وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفًا
(منة الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - )
__________
(1) سورة الزمر آية 10.(1/264)
بإعطائه نهر الكوثر
[والحث على إخلاص العبادة لله وذم من عصى رسوله]
صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } .
يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ممتنا عليه بإعطائه الكوثر وهو الخير الكثير في الدنيا والآخرة الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ... من النهر الذي يقال له الكوثر في الجنة ومن الحوض الذي ترد عليه أمته يوم القيامة ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك وألين من الزبد طوله شهر وعرضه شهر آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا ويطرد عنه من غير سنة رسوله وردها أو خالفها فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا هَلُمُّوا فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم القهقري منذ فارقتهم فيقول - صلى الله عليه وسلم - : «سُحْقًا لمن بدل بعدي» (1) ولما ذكر نعمته عليه أمره بشكرها فقال: (فصل لربك وانحر) أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ومن ذلك النهر والحوض الذي تقدمت صفته فأخلص لربك صلاتك المفروضة والنافلة فاجعل صلاتك كلها لربك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والآلهة وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان شكرًا على ما أعطاك من الكرامة والخير الكثير. خص هاتين العبادتين وهما الصلاة والنُّسُك بالذكر لأنهما أفضل العبادات وأجل القربات لأن الصلاة تتضمن الخشوع والخضوع لله في#
__________
(1) سورة الزمر آية 10.(1/265)
القلب والجوارح والتنقل في أنواع العبودية لله رب العالمين، وفي النحر تقربًا إلى الله بأفضل ما عند العبد من الأضاحي وإخراج المال الذي جبلت النفوس على محبته والشُّح به، قال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (1) ، وأفضل العبادات البدنية الصلاة وأفضل العبادات المالية النحر والذبح لله فأمر الله رسوله أن يخلصهما لله وحده لا شريك له وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير الله والذبح على غير اسمه كما قال تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } (2) وبخلاف ما عليه أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم والذين لا يذبحون له خوفًا من الفقر والفاقة (إن شانئك) عدوك ومبغضك وذامك ومنتقصك (هو الأبتر) المقطوع من كل خير الأذل الأقل منقطع الذكر ومنقطع العمل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الكامل حقًا الذي له الكمال الممكن للمخلوق من رفع الذكر وكثرة الأنصار والأتباع وبقاء الذكر والعمل إلى يوم القيامة فلا يذكر الله إلا ويذكر معه الرسول صلى الله عليه وسلم كما في التشهد والأذان والإقامة والخطب، وكل خير نالته الأمة فبسببه، وكل من عمل خيرًا فله مثل عمله وأكثر من ذلك لأنه هو الذي سنه ودل عليه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (3) «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء» (4)
__________
(1) سورة الأنعام آية 162 – 163.
(2) سورة الأنعام آية 121.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم..(1/266)
فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ونسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحشرنا في زمرته وأن يدخلنا في شفاعته وأن يوردنا حوضه ويسقينا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- فضل الله ومنته على رسوله بإعطائه الخير الكثير في الدنيا والآخرة الذي من جملته نهر الكوثر.
2- الحث على إخلاص الصلاة والذبح وجميع العبادات لله رب العالمين.
3- تحريم السجود لغير الله والذبح لغيره.#
4-
تحريم سب الرسول صلى الله عليه وسلم والوعيد الشديد عليه وتحريم بغضه وعداوته.
5- كمال الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار شرفه ورفع ذكره وعلو شأنه.
6- الإيمان بنهر الكوثر الذي أعطيه محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة.
7- الإيمان بحوض النبي - صلى الله عليه وسلم - الكائن في القيامة من نهر الكوثر ترده أمته وقد ورد في صفة الحوض أنه يُشْخَبُ (يصبُّ) فيه ميزابان من نهر الكوثر، وأن ماءه أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأطيب رائحة من المسك طوله شهر وعرضه شهر آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوردنا حوضه وأن يسقينا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.#
تفسير سورة (قل يا أيها الكافرون)
وهي مكية
وهي ست آيات وست وعشرون كلمة وأربعة وتسعون حرفًا
(البراءة من الشرك والمشركين ومما يعبد من دون الله)
بسم الله الرحمن الرحيم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } .(1/267)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه السورة وبـ (قل هو الله أحد) في ركعتي راتبة الفجر والمغرب وركعتي الطواف بالبيت الحرام (1) وروى الإمام أحمد عن الحارث بن جبلة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئًا أقوله عند منامي. قال إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: (قل يا أيها الكافرون) فإنها براءة من الشرك. وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ إذا زلزلت عدلت له نصف القرآن ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له ثلث القرآن. رواه الترمذي.
قال في تفسير الخازن: ووجه كون هذه السورة تعدل ربع القرآن أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى وهي من الاعتقاد وذلك من أفعال القلوب فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم والله سبحانه وتعالى أعلم.
قيل نزلت هذه السورة في جماعة من قريش قالوا يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظنا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرًا شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم معاذ الله أن أشرك به غيره قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك قال حتى أنظر ما يأتي من ربي فأنزل الله: (قل يا أيها الكافرون) إلى آخر السورة. فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام فقرأها عليهم فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه (2) . قيل والمخاطبون بهذه السورة كفرة قد سبق في علم الله أنهم#
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه.
(2) انظر تفسير الخازن جـ 4 ص 417.(1/268)
لا يؤمنون فهم كفرة مخصوصون والكافرون الجاحدون للحق الساترون له بالكفر والجحود (لا أعبد ما تعبدون) أي لا أعبد الذي تعبدونه من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تنفع ولا تضر (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وأنتم لا تعبدون الله مع إقامتكم على الكفر والشرك وعبادة غير الله لأن عبادة الله لا تستقيم مع الإشراك به ودين الله لا يستقيم إلا بالبراءة من الشرك والمشركين ومعبوداتهم من دون الله ولهذا أمر الله رسوله أن يتبرأ منهم ومما يعبدون في الحال والاستقبال فقال: (ولا أنا عابد ما عبدتم) أي في المستقبل فأنا بريء منكم وأنتم بريئون مني كما قال تعالى: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (1) ولهذا قال تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين) أي لكم شرككم وكفركم ولي توحيدي وإخلاصي لله رب العالمين، قيل وهذه الآية منسوخة بآية القتال والله أعلم.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- فضل هذه السورة حيث كانت تعدل ربع القرآن وأنها براءة من الشرك.
2- وجوب البراءة من الشرك والمشركين ومما يعبدون من دون الله.
3- وجوب الإخلاص لله في القول والعمل والاعتقاد.
4- أن العبادة المقترنة بالشرك لا تسمى عبادة لعدم الإخلاص لله فيها.#
تفسير سورة النصر وهي مدنية
وهي ثلاث آيات وسبع عشرة كلمة وسبعة وسبعون حرفًا
حصول النصر على الأعداء
وفتح بلادهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والحث على التسبيح والاستغفار
تقدم في الكلام على سورة الزلزلة أنها تعدل ربع القرآن وإذا جاء نصر الله تعدل ربع القرآن. وهي من آخر ما نزل من القرآن قيل نزلت في أيام التشريق في حجة الوداع وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة أنه قد اقترب أجله ودنا موته فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة.
__________
(1) سورة يونس آية 41.(1/269)
هذا وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكنه صلى الله عليه وسلم عبدٌ شكورٌ.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع هذه السورة بكى وقال الكمال دليل الزوال، وبكى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قال نعيت إليك نفسك قال إنه لَكَمَا تقول.
فقوله تعالى: (إذا جاء نصر الله) أي إذا حصل عون الله لرسوله على أعدائه وظهوره عليهم (والفتح) فتح مكة (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا) أي وأبصرت الناس يدخلون في الإسلام جماعات متتابعة (فسبح بحمد ربك واستغفره) نزه ربك عما لا يليق به وصل له حامدًا وشاكرًا له على نعمة النصر والفتح وأكثر من الاستغفار والتسبيح لله فإنها قد انتهت مهمتك وبلغت رسالات ربك ودخل الناس في الإسلام وقد قرب أجلك ودنى موتك فتهيأ للقدوم على ربك فالآخرة خير لك من الدنيا
(ولسوف يعطيك ربك فترضى)، وقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فلما فتح مكة صلى ثمان ركعات شكرًا لله على نعمة الفتح وأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة كما تقدم وكان يكثر من التسبيح والاستغفار وكان
بعد نزول هذه السورة لا يصلي صلاة إلا ويقول في ركوعه#
وسجوده (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأول القرآن وكان لا يقوم ولا يقعد ولا يأتي ولا يذهب إلى ويقول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، وشرع لأمته كفارة المجلس بأن يقولوا عند القيام من المجلس (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) فإن كان مجلس ذكر كان كالطابع عليه وإن كان مجلس لغو كان كفارة له. وقوله تعالى: (إنه كان توابًا) أي كثير القبول لتوبة التائبين كما قال تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) سورة الشورى آية 25.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- البشارة بحصول النصر على الأعداء وفتح بلادهم.(1/270)
2- دخول الناس في دين الله أفواجًا بعد فتح مكة.
3- الحث على شكر النعم بالصلاة والتسبيح والاستغفار.
4- أن النصر يستمر للدين ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره فإن هذا من الشكر وقد قال الله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم).
5- الحث على الإكثار من التسبيح والاستغفار امتثالا لأمر الله واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- فضل التسبيح والتحميد والاستغفار حيث جعل ذلك كافيًا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح.
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم مع عصمته وشدة اجتهاده ما كان يستغني عن التسبيح والتحميد والاستغفار فكيف بغيره ممن هو دونه.
8- فضل هذه السورة حيث كانت تعدل ربع القرآن.#
سورة الإخلاص مكية وقيل مدنية
وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفًا
(انفراد الله بالوحدانية وجميع أوصاف الكمال)
(وفقر الخلائق إليه وغناه عنهم)
ذكر فضلها:
عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن». وفي رواية: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» فشق ذلك عليهم فقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله فقال: «قل هو الله أحد الله الصمد ثلث القرآن» رواه البخاري.(1/271)
وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءً من القرآن» رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ قل هو الله أحد الله الصمد حتى ختمها. رواه مسلم. قال العلماء: ومعنى كونها ثلث القرآن أن القرآن على ثلاثة أنواع قصص وأحكام وتوحيد، وقل هو الله أحد متضمنة للتوحيد فهي ثلث القرآن. عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السورة (قل هو الله أحد) قال - صلى الله عليه وسلم - : «حبك إياها أدخلك الجنة» رواه الترمذي (1) وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال: إني أحب أن أقرأ بها لأنها صفة الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله تعالى يحبه (2) فصارت قراءتها توجب محبة الله لمن أحبها وتوجب دخول الجنة، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو في صلاته بما تضمنته هذه السورة من الأسماء يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم#
يولد ولم يكن له كفوًا أحد فقال: صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب». رواه أهل السنن وورد الترغيب في قراءتها عشر مرات بعد المكتوبة وفي قراءتها عند دخول المنزل وفي الإكثار من قراءتها مع المعوذتين في الصباح والمساء وعند النوم وبعد الصلوات المكتوبات وأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها. رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن. ذِكْرُ سبب نزولها:
__________
(1) وقال حديث حسن ورواه البخاري في صحيحه تعليقًا.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/272)
نزلت لما قال بعض المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك. وقال بعضهم انسب لنا ربك (1) وقيل نزلت لما قالت اليهود نحن نعبد عزير ابن الله وقالت النصارى نحن نعبد المسيح ابن الله وقالت المجوس نحن نعبد الشمس والقمر وقال المشركون نحن نعبد الأوثان (2) فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (قل هو الله أحد) أي قل بلسانك قولا جازمًا به معتقدًا له بقلبك عارفًا بمعناه عاملا بمقتضاه هو الله الواحد في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته الذي له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا الموصوف بصفات الكمال والجلال والجمال والعظمة المتنَزه عن صفات النقص فهو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا شبيه ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله لأنه الكامل في جميع أسمائه وصفاته وأفعاله: (الله الصمد) هو السيد المقصود لقضاء الحوائج من جلب المنافع ودفع المضار { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } (3)
__________
(1) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والواحدي في أسباب النزول.
(2) انظر تفسير ابن كثير 4/570.
(3) سورة الرحمن آية 29..(1/273)
وهو المرغوب إليه في الرغائب المستعان عند المصائب وتفريج الكروب وهو الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب وهو الباقي بعد خلقه الغني عما سواه المحتاج إليه كل من عداه الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتلك دالة على أنه المتناهي في الشرف والسؤدد والعلو والعظمة والكمال والكرم والإحسان وهو الذي (لم يلد ولم يولد) أي لم يكن له ولد ولا والد ولا صاحبة لكمال غناه وفي هذا رد على مشركي العرب حيث قالوا أن الملائكة بنات الله وعلى اليهود القائلين عزير ابن الله وعلى النصارى القائلين المسيح ابن الله فكذبهم الله تعالى ونفى عن نفسه ما قالوا: (ولم يكن له كفوًا أحد) أي ليس له شبيه أو مثيل أو نظير لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله تبارك وتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1) قيل سميت سورة الإخلاص لأنها أخلصت الخبر عن الله أو لأن قارئها أخلص لله التوحيد.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- فضل هذه السورة حيث كانت تعدل ثلث القرآن.
2- انفراد الله بالألوهية فلا يستحق العبادة غيره.
3- انفراده تعالى بالربوبية فهو الخالق الرازق المدبر وهو المعبود المالك المتصرف.
4- انفراده تعالى بالأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا فلا شبيه له فيها.
5- عظمة الله وكماله وغناه عن خلقه وفقر الخلائق إليه في جميع أحوالهم.
6- انتفاء الوالد والولد عنه تعالى لكمال غناه.
7- الرد على المشركين عُبَّاد الأوثان الذين يزعمون أنها تنفع أو تضر.
8- الرد على من زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى.
9- الرد على اليهود القائلين عزير ابن الله.
10- الرد على النصارى الزاعمين أن المسيح ابن الله.
11- انتفاء المثل والشبيه والنظير عن الله تعالى.
12- أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل.
__________
(1) سورة الشورى آية 11.(1/274)
13- أن الاشتغال بقراءة هذه السورة يفيد الاشتغال بالله وملازمة الإعراض عن ما سوى الله تعالى.
14- أنها متضمنة تنزيه الله تعالى وبراءته عن كل ما لا يليق به لأنها على قصرها جامعة لصفات الأحدية والصمدانية وعدم النظير.
15- شرف علم التوحيد لأن العلم يشرف بشرف المعلوم ويتضع بضعته ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته.
16- انفراد الله تعالى بملكه وأفعاله لا شريك له في ذلك.
17- تعليم الله عباده كيف يوحدونه.
18- الرد على المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه.
19- الرد على المعطلة الذين ينفون عن الله صفات الكمال.
20- الرد على الممثلة الذين يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.#
تفسير سورة الفلق
مدنية وقيل مكية والأول أصح
وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفًا
(الاستعاذة بالله من جميع الشرور)(1/275)
نزلت هذه السورة والتي بعدها لما سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتر به إحدى عشر عقدة فأعلمه الله بذلك وبمحلِّه فأحضر بين يديه صلى الله عليه وسلم وأمر بالتعوذ بهاتين السورتين فكان كلما قرأ آية منهما انحلت عقده ووجد خفة حتى انحلت العقد كلها وقام كأنما نشط من عقال (1) روى مسلم عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس. قال في تفسير الخازن: فيه بيان عظيم فضل هاتين السورتين وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن وفيه رد على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا وفيه بيان أن لفظة (قل) من القرآن أيضًا وأنه من أول السورتين بعد البسملة وقد أجمعت الأمة على هذا بعد خلاف ذكر فيه (2) وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أعلمك ثلاث سور لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلهن قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس» (3) وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة رواه أحمد وغيره وفي رواية لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما (4) وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح.
بسم الله الرحمن الرحيم: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } .#
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/572 وأسباب النزول للواحدي ص 263.
(2) تفسير الخازن 4/428.
(3) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن.
(4) رواه النسائي عن عقبة بن عامر.(1/276)
(أعوذ) ألوذ والتجئ وأعتصم بالله (برب الفلق) الصبح أو الخلق أو هو واد في جهنم أو جُبٌّ فيها والصحيح الأول، وسبب تخصيصه في التعوُّذ أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم قادر على أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه ويخشاه (من شر ما خلق) أي من شر جميع المخلوقات من إنس وجن وحيوانات فيستعاذ بخالقها من الشر الذي فيها، ودخل في ذلك نار جهنم وإبليس وذريته وجنوده ثم خص بعد ما عم فقال: (ومن شر غاسق إذا وقب) الليل إذا أظلم أو القمر إذا غرب؛ لأن الليل تنتشر فيه الآفات والأرواح الشريرة والحيوانات المؤذية (ومن شر النفاثات في العقد) النفاثات النساء السواحر أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها ويرقين، والنفث النفخ مع ريق قليل، وفي الحديث «من عقد عقدة ثم تفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك» (1) (ومن شر حاسد إذا حسد) أي إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه والحسد هو الأسف على الخير عند الغير وتمني زوال النعمة عن المحسود والاستعاذة من شر هذه الأشياء بعد الاستعاذة من شر ما خلق لشدة شرها وختمت بالحسد ليعلم أنه أشرها وهو ذنب عصي الله به في السماء من إبليس وفي الأرض من قابيل فاحتيج إلى الاستعاذة من شره وإبطال كيده ويدخل في الحاسد العائن؛ لأنها لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع خبيث النفس، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال «يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك» رواه مسلم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة (2) وبالله التوفيق.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
__________
(1) رواه النسائي.
(2) رواه في شرح السنة وقال هذا الحديث صحيح 5/228.(1/277)
1- فضل هذه السورة والتي بعدها حيث ورد الحث على قراءتهما وأنه لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما.
2- الحث على الاستعاذة بالله والالتجاء إليها والتحصن به من شر كل ذي شر.
3- الاستعاذة بالله من جميع أنواع الشرور عمومًا وخصوصًا.
4- الاستعاذة بالله من شر ما يكون في ظلمة الليل من المؤذيات.#
5- أن للسحر حقيقة يخشى من ضرره ويستعاذ بالله منه ومن أهله.
6- الرد على من أنكر حقيقة السحر وظهور أثره.
7- تحريم الحسد والتحذير منه والتعوذ بالله من شر الحاسد إذا أظهر حسده
وعمل به.
تتمة:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
1- التعوذ بالله من شره والتحصن واللُّجأُ إليه.
2- تقوى الله وحفظه عند أمره.
3- الصبر على عدوه بأن لا يقابله بأذى أصلا.
4- قوة التوكل على الله.
5- فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه.
6- الإقبال على الله.
7- التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه.
8- الصدقة والإحسان مهما أمكنه.
9- الإحسان إلى الحاسد الباغي.
10- السبب الجامع لذلك وهو تجريد التوحيد والترحل بالتفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم (1) .
فائدة:
وينحصر شر الشيطان في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدًا منها أو أكثر:
1- شر الكفر والشرك.
2- ثم البدعة.
3- ثم كبائر الذنوب.
4- ثم صغائرها.#
5-
ثم الاشتغال بالمباحات عن الخير.
6- ثم بالعمل المفضول عن الفاضل (2) .
والأسباب التي يعتصم بها العبد من الشيطان عشرة:
1- الاستعاذة بالله منه.
2- قراءة المعوذتين.
3- قراءة آية الكرسي.
4- قراءة سورة البقرة.
5- قراءة خاتمة البقرة.
6- قراءة أول حم المؤمن إلى إليه المصير.
7- (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة في اليوم.
8- كثرة ذكر الله.
9- الوضوء مع الصلاة.
__________
(1) انظر بدائع الفوائد لابن القيم 2/230 – 245.
(2) بدائع الفوائد لابن القيم 2/260 – 261.(1/278)
10- إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس (1) .#
تفسير سورة الناس
وهي مدنية وقيل مكية والأول أصح
وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وسبعون حرفًا
وهي حرز من الشيطان
بسم الله الرحمن الرحيم: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } .
قوله عز وجل: (قل أعوذ برب الناس) أي: مربيهم ومصلحهم (ملك الناس) مالكهم ومدبر أمورهم (إله الناس) معبودهم الذي لا يستحق العبادة غيره، وإنما خص الناس بالذكر مع أنه رب جميع المخلوقات تشريفًا لهم ولمناسبة الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم فإنه هو الذي يعيذهم من شره وهذه ثلاث صفات من صفات الله تعالى وهي الربوبية والملك والألوهية فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة عبيد له فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات من شر الشيطان الموكل بالإنسان فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش ولا يألوه جهدًا في الخبال والإضلال، والمعصوم من عصمه الله ولهذا قال تعالى: (من شر الوسواس الخناس) يعني الشيطان الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها الذي من فتنته وشره أنه يوسوس في صدور الناس فيحسن لهم الشر ويريهم إياه في صورة حسنة وينشط إرادتهم لفعله ويثبطهم عن الخير ويريهم إياه في صورة غير صورته وهو دائمًا بهذه الحال يوسوس، والوسوسة الهمس والصوت الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع ثم يخنس أي: يتأخر ويرجع عن الوسوسة إذا ذكر العبد ربه واستعاذ بالله من عدوه بقراءة هذه السورة وغيرها من التعوذات الشرعية واستعان بالله على دفعه وطرده فإذا غفل عن ذكر الله وسوس وهكذا فالحرب سجال.
__________
(1) المصدر السابق 2/267 – 271.(1/279)
وقد أمر الله بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في غير ما آية من القرآن، قال تعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } (1) وقال تعالى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (2) وقد حذرنا مولانا منه وقد أعذر من أنذر قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } (3) وقد أخبرنا الله تعالى بتعهد إبليس بإضلال بني آدم والقعود لهم بكل طريق يوصل إلى الله وإلى جنته وكرامته قال تعالى: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (4) وأخبر تعالى عن هذا العدو وعن براءته من الناس بعد إضلالهم { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } (5) وقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } (6) وقال تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (7)
__________
(1) سورة المؤمنون آية 97 – 98.
(2) سورة فصلت آية 36.
(3) سورة الأعراف آية 27.
(4) سورة الأعراف آية 16 – 17.
(5) سورة إبراهيم آية 22.
(6) سورة الحجر آية 42 – 43.
(7) سورة فاطر آية 6..(1/280)
فلما سلط علينا هذا العدو وابتلينا به أرشدنا ربنا إلى سلاح نكافح به وحصن نتحصن به منه وهو ذكر الله كثيرًا، قال صلى الله عليه وسلم: «ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر الله فطرد الشيطان عنه» رواه الحافظ أبو موسى المديني وغيره وفي حديث آخر أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وفيه «وآمركم بذكر الله وإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو سراعًا في أثره حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» رواه أحمد والترمذي وفي الحديث: «إذا قلت باسم الله تصاغر الشيطان حتى يصير مثل الذبابة» رواه أحمد وأبو داود، والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس فلهذا قال تعالى: (من الجنة والناس) أي من شر شياطين الجن والإنس. وفي حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس»، قال: فقلت يا رسول الله: أو للإنس شياطين قال: نعم. الحديث.#
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- الاستعاذة بالله والالتجاء إليه والاعتصام به من شر الشيطان.
2- الاستعاذة بربوبية الله وملكه وإلاهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
3- تشريف الناس على سائر المخلوقات حيث خصهم بالذكر مع أنه تعالى رب كل شيء ومليكه وإلهه.
4- عداوة الشيطان لبني آدم ومحاولته إضلالهم بالوسوسة.
5- التحذير من الشيطان ووساوسه وقت الغفلة عن ذكر الله.
6- أن ذكر الله يطرد الشيطان فيولي ذاهبًا خاسئًا وهو حسير.
7- الاستعاذة بالله من شر شياطين الإنس والجن.
8- الاستعاذة بالله عبادة فصرفها لغيره شرك.
9- انفراد الله بالربوبية والملك والإلهية لجميع المخلوقات.
10- أن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس.
فائدة:(1/281)
في الأذكار التي تطرد الشيطان من أعظمها قراءة المعوذتين (قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس)، وقراءة آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة وأول الصافات وآخر الحشر ومنها الاستعاذة بالله منه كما سبق والأذان يطرد الشيطان وكثرة ذكر الله كما تقدم (1) .
فائدة:
قال ابن جزي الكلبي رحمه الله في تفسيره: وسوسة الشيطان في صدر الإنسان بأنواع كثيرة من فساد الإيمان بالتشكيك في العقيدة فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي فإن لم يقدر على ذلك ثبطه عن الطاعات فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها فإن سلم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه واستكثار عمله، ومن ذلك أنه يدخل عليه نار الحسد والحقد والغضب حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال وقبح الأحوال، وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء:#
1- الإكثار من ذكر الله كما تقدم.
2- الإكثار من الاستعاذة بالله منه ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة.
3- مخالفته والعزم على عصيانه (2) .#
القسم الثاني من الكتاب
في ذكر أحاديث نبوية جامعة لأنواع
العلوم والأحكام والأخلاق والآداب في القول
والاعتقاد والعمل مع شرحها
وذكر ما يستفاد منها#
- 1 -
الإسلام والإيمان والإحسان
__________
(1) انظر الوابل الصيب لابن القيم بتحقيق إسماعيل الأنصاري ص 240 – 242.
(2) انظر تفسير ابن جزي 4/454.(1/282)
«عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: أخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: أخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال: أخبرني عن الساعة قال: ما ولمسئول عنها بأعلم من السائل قال: أخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبثت مليًا ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل قلت: الله ورسوله أعلم قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه مسلم هذا حديث عظيم متفق على صحته وجلالة قدره وكثرة فوائده فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لجمعها معاني القرآن، قوله «فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» أي إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمن هذا الحديث التعريف الشرعي للإسلام والإيمان والإحسان، والأسس التي ينبني عليها كل واحد منها، فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله وهو ثلاث مراتب الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان فأركان الإسلام خمسة:(1/283)
الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق إلا الله وقد اشتملت على النفي والإثبات فنفت عبادة جميع ما يعبد من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين والأولياء والأشجار والأحجار والقبور والشمس والقمر وجميع المخلوقات التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت وأثبتت العبادة لله الواحد القهار النافع الضار المنفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار وحده لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه كما قال تعالى: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ#
لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (1) وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ } (2) وهذه الكلمة العظيمة تستلزم المحبة لله والخوف والرجاء منه وامتثال أوامره واجتناب مناهيه وفعل ما أوجب واجتناب ما حرم فمن قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه عارفًا بمعناها عاملا بمقتضاها قائمًا بشروطها دخل الجنة. وشروطها ثمانية نظمها بعضهم بقوله:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من ارتداد قد ألها
__________
(1) سورة آل عمران آية 18.
(2) سورة الزخرف آية 26 – 28.(1/284)
وهي العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد لها والقبول والكفر بما يعبد من دون الله كائنًا من كان، قال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل» (1) أما من قال هذه الكلمة ولم يعرف معناها ولم يعمل بمقتضاها لم ينفعه مجرد التكلم بها وإن ادعى أنه يحب الله فإن محبته تستلزم طاعته كما قيل:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا محال في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
ولما ادعى قوم أنهم يحبون الله جعل لمحبته دليلا وهو متابعة رسوله، قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (2) فأوجب اتباع الرسول محبة الله لمن اتبعه ومغفرة ذنوبه، قوله: (وأن محمدًا رسول الله) أي: تقر وتعترف أن الله أرسل محمدًا إلى الناس كافة أرسله بالحق شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وشهادة أن محمدًا رسول الله تستلزم طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع فهو صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع شرفه الله بالعبودية الخاصة والرسالة العامة، قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
وقد أوجب الله طاعة رسوله ومتابعته والانقياد#
__________
(1) رواه مسلم.
(2) سورة آل عمران آية 31.(1/285)
لحكمه والاستسلام لأمره وذلك من مستلزمات شهادة أن محمدًا رسول الله فمن لم يطعه صلى الله عليه وسلم في ما أمر ونهى فهو لم يحقق هذه الشهادة، قال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وما أمر به صلى الله عليه وسلم فقد أمر الله به وما نهى عنه فقد نهى الله عنه ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن يعصي الرسول فقد عسى الله، قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } سورة النساء آية 80.
الركن الثاني من أركان الإسلام:
إقام الصلاة: وهي الإتيان بها بشروطها المعروفة وأركانها وواجباتها ومستحباتها وخشوعها وبجميع ما يجعلها كاملة فدخل في ذلك الطهارة واجتناب النجاسة وأداؤها مع الجماعة في المسجد وحضور القلب فيها والإخلاص واجتناب مراءات الناس فيها فبذلك تكمل وينمو ثوابها ويعظم أجرها ويستحق صاحبها الفلاح والفوز بجنات الفردوس الأعلى بما فيها من الكرامات وتكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر ومكفرة للذنوب والآثام ونورًا لصاحبها في وجهه وقبره ونجاة له يوم القيامة.
الركن الثالث:(1/286)
إيتاء الزكاة: الواجبة في أنواع الأموال لمستحقيها امتثالا لأمر الله وإحسانًا إلى خلقه وسموًا بالنفوس عن رذيلة البخل والشح، قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وقال تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وفي ذلك مغفرة للذنوب وتطهير للقلوب وتزكية للنفوس، قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وقال تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } وعلاوة على ذلك فقد وعد بإخلاف النفقة ومضاعفة الأجر وحصول البركة والزيادة فعادت مصلحة الزكاة والصدقة ومنفعتها إلى المال نفسه والمنفق له والمنفق عليه ولهذا سميت زكاة وصدقة لأنها تزكي المال وتحل فيه البركة وتزكي المالك له أي تنمي إيمانه
وأخلاقه وحسناته وتزكي الفقير بمنفعته وسد حاجته وهي دليل على صدق إيمان المتصدق ولهذا سماها الرسول صلى الله عليه وسلم برهانًا#
وأخبر أنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقد سبق شيء من فضل الصدقة في الآيات وشرحها وسيأتي شيء من فضل الصدقة في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى.
الركن الرابع:(1/287)
صوم رمضان: وهو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح بنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الآيات إلى قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» رواه البخاري ومسلم.
الركن الخامس من أركان الإسلام:
حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، والحج معناه قصد مكة لعمل مخصوص في زمن معين، والاستطاعة تتحقق بحصول ثلاثة أشياء وهي صحة البدن وأمن الطريق ووجود الزاد والراحلة أي النفقة والمركب المؤدي إليه وهي متوفرة في هذه الأوقات، قال تعالى: { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع الحج فلم يحج فليمت أن شاء يهوديًا وأن شاء نصرانيًا» (1) ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لقد هممت أن أبعث إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة فلم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين (2) وقال ابن عباس: من كان عنده مال
فلم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت، قال تعالى:
__________
(1) رواه الترمذي والبيهقي وقال الترمذي حديث غريب وله شاهد عند البيهقي (انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2/334).
(2) رواه سعيد بن منصور في سننه انظر تفسير ابن كثير 1/386.(1/288)
{ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (1) فهذه أركان الإسلام الخمسة التي من قام بها#
حق القيام فهو المسلم حقًّا واستحق مغفرة ربه ورضوانه ومن أخل بها أو ببعضها نقص إسلامه بحسبه واستهان بحق ربه وتعرض لعقوبته وعذابه وفي الحديث: «من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة» (2) وفي رواية غفر له ذنبه، وفي رواية فقد ذاق طعم الإيمان، وفي رواية كان حقًا على الله أن يرضيه، ولكن الرضا كما تقدم يستلزم الانقياد والمتابعة والطاعة فمن عصى الله ورسوله وأخل بأركان الإسلام وترك الواجبات وارتكب المحرمات ولم يمتثل المأمورات والمنهيات فهو لم يذق طعم الإيمان ولم يرض بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، ومن استقام على ذلك فقد استحق هذا الوعد الكريم وذاق طعم الإيمان وغفر له ذنبه وكان حقًا على الله أن يرضيه ويدخله الجنة بفضله ورحمته وتوفيقه وكرمه.
المرتبة الثانية: من مراتب الدين: الإيمان: وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وهو في اللغة التصديق وفي الشرع التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والتصديق بالقدر خيره وشره، قال تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وقال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فهذه أسس الإيمان وأركانه وهي ستة:
__________
(1) رواه الترمذي وانظر تفسير ابن كثير 4/373.
(2) رواه مسلم.(1/289)
1- الإيمان بالله وهو التصديق بأنه سبحانه وتعالى موجود موصوف بصفات الكمال والجلال والعظمة منزه عن صفات النقص وأنه واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا حي لا يموت قيوم لا ينام عليم بكل شيء قادر على كل شيء خالق جميع المخلوقات متصرف فيها بما يشاء يفعل في ملكه ما يريد.
2- والإيمان بالملائكة عليهم السلام وهو التصديق بأنهم { عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ويجب الإيمان بهم إجمالا في الإجمال وتفصيلا في التفصيل فمن ساداتهم جبريل عليه السلام وهو أفضل الملائكة وهو الموكل بتبليغ الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وقد وصفه الله بالأمانة والقوة وحسن الخلق وقد كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بصفات متعددة ورآه على صورته التي#
خلق عليها مرتين. ومن ساداتهم ميكائيل عليه السلام وهو الموكل بالقطر والنبات. ومن ساداتهم إسرافيل وهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور. قال ابن كثير رحمه الله إن الملائكة بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام: فمنهم حملة العرش، ومنهم كروبيون الذين هم حول العرش وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة وهم المقربون ومنهم موكلون بالجنات وإعداد الكرامات لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها من ملابس ومآكل ومشارب ومساكن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومنهم الموكلون بالنار أعاذنا الله منها وهم الزبانية ومقدموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو مقدم على الخزنة ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم وحفظ أعمالهم (1) .
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير 1/49 – 52.(1/290)
3- والإيمان بالكتب المنزلة من السماء وهي مائة صحيفة وأربعة كتب على ما ورد في حديث أبي ذر (1) وهي خمسون صحيفة نزلت على شيث بن آدم وثلاثون صحيفة على إدريس وعشر صحف على إبراهيم وعشر على موسى قبل التوراة وأربعة كتب وهي التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والقرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أفضلها وأعلاها وناسخًا لها ومهيمنا عليها ومتضمنًا لما فيها وزيادة فهو { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } فيه نبأ الأولين والآخرين وفيه جميع ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم وأخراهم كما قال تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } .
4- الإيمان بالرسل وهو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلغوا عن الله تعالى رسالاته وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به وأنه يجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.
5- والإيمان باليوم الآخر وهو التصديق بما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والتصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثواب وعقاب للمحسنين والمسيئين إلى غير ذلك مما صح به النقل.
__________
(1) في عدد الأنبياء والرسل وغير ذلك رواه الإمام أحمد وابن مردويه في تفسيره وابن حبان في صحيحه وأبو الحسين الآجري (انظر تفسير ابن كثير جـ 1 ص 585 – 587 عند تفسير الآية 164 من سورة النساء).(1/291)
6- والإيمان بالقدر وهو التصديق بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال صلى الله عليه وسلم «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ما ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» (1) .
ومراتب الإيمان بالقدر أربع: الأول: علم الله بالأشياء قبل كونها، والثانية كتابته لها، والثالث: مشيئته لها، والرابع: خلقه لها وإيجاده وتكوينه وقد جمعت في بيت من الشعر، قال:
علم كتابة مولانا مشيئته ... كذاك خلق وإيجاد وتكوين
ثم إن أنواع التقادير أربعة: الأول: التقدير السابق في علم الله وكتابته في اللوح المحفوظ والثاني: التقدير العمري وهو الذي يرسل به الملك إلى الجنين في بطن أمه فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيًا أو سعيدًا والثالث: التقدير الحولي وهو الذي يكون في ليلة القدر يقدر فيها ما يكون في السنة من أقدار. والرابع: التقدير اليومي وهو المذكور في قوله تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أي: أمر يظهره على وفق ما قدره من إحياء وإماتة وإعزاز وإذلال وإغناء وإفقار وإجابة داع وإعطاء سائل وغير ذلك (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: لما ذكر نحو ما تقدم: فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وكل هذه التقادير كالتفصيل من القدر السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته ورحمته، ثم قال: وقد اتفقت الأحاديث على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) انظر شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتحليل ص19-50.(1/292)
والفرق بين الإسلام والإيمان حيث ذكرا جميعًا فالإسلام أعم فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا بدليل قول الله تعالى: { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } . أو يفسر الإيمان باعتقاد القلوب والإسلام بأعمال الجوارح، أما إذا ذكر الإسلام وحده أو الإيمان وحده دخل فيه الآخر وصار اسما لاعتقاد القلوب وأعمال الجوارح ونطق اللسان.#(1/293)
المرتبة الثالثة من مراتب الدين الإحسان وهو نوعان: إحسان في عبادة الله، وإحسان إلى خلقه فالإحسان في عبادة الله قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا مقام المشاهدة لأن من قدر أن يشاهد الملك استحيى أن يلتفت إلى غيره وأن يشغل قلبه بغيره «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فينبغي أن لا تقصر في إحسان العمل له والإخلاص فيه فإنه يرى مكانك ويسمع كلامك ويعلم سرك وعلانيتك فراقبه ولا تستهن بنظره إليك ورؤيته إياك غافلا عنه أو مسيئًا في عبادته. وأما الإحسان إلى خلقه فهو بذل ما يمكن من أنواع الإحسان بالقول والفعل والمال والجاه والتعليم والنصيحة وبذل المعروف، والله يحب المحسنين وهو معهم بتوفيقه وتسديده قوله: «فأخبرني عن الساعة» أي متى قيامها، قوله: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» أي علمي وعلمك فيها سواء لا يعلمها إلا الله لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل قال تعالى: { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } قوله: فأخبرني عن أماراتها، أي علامات مجيئها، قوله: «أن تلد الأمة ربتها» أي سيدتها، قيل: هذا إخبار عن كثرة السراري وأولادهن فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، وقيل معناه أن الإماء يلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته، ويحتمل أن يكون المعنى أن الشخص يستولد الجارية ولدًا ويبيعها فيكبر الولد ويشتري أمه وهذا من أشراط الساعة، قاله النووي قوله «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» العالة الفقراء ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة يترقون في البنيان ويتطاولون فيه أي: أن بعضهم يجيد بناء داره ويطيل ارتفاعها لتكون أطول من دار الآخر بعد أن تبسط لهم الدنيا يتباهون في البنيان، قوله «فلبث مليًا» قيل هو بفتح الثاء على أنه للغائب، وقيل فلبثت بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح.(1/294)
قوله «مليًا» معناه وقتًا طويلا وفي رواية بعد ثلاثة أيام.
قال النووي وفي هذا مخالفة لقول أبي هريرة في حديثه ثم أدبر الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فأخذوا يردونه فلم يروا شيئًا فقال صلى الله عليه وسلم هذا جبريل فيمكن الجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال وأخبر عمر بعد ثلاث إذ لم يكن حاضرًا عند الباقين والله أعلم.#
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- استحباب تحسين الهيئة عند الدخول على العلماء وأهل الفضل.
2- صفة الجلوس لطلب العلم وحسن الأدب في ذلك.
3- سؤال الإنسان عما يجهل من أمر دينه.
4- أن دين الإسلام ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان.
5- أن أسس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام مع الاستطاعة.
6- أن أسس الإيمان هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.
7- الفرق بين الإيمان والإسلام من حيث العموم والخصوص والعمل والاعتقاد.
8- تفسير الإحسان بمراقبة الله في القول والعمل والإخلاص له في ذلك.
9- أنه لا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله.
10- من أشراط الساعة أن تلد الأمة المملوكة سيدتها وأن يتطاول الأعراب في البنيان.
11- فيه علم من أعلام النبوة حيث قد وجدت هذه الأمارات.
12- أن الدين يشمل قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح.
13- أن الإسلام والإيمان والإحسان كلها تسمى دينًا كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «أتاكم يعلمكم دينكم».
14- وجوب الإيمان والرضا بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره.
15- فضل جبريل عليه السلام حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة أمر دينهم.(1/295)
16- فضل محمد صلى الله عليه وسلم حيث أرشد أمته إلى ما ينفعهم ويقربهم إلى الله ودلهم الصراط المستقيم صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.#
- 2 -
رسالة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم وسماحتها
عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال كنت -وأنا في الجاهلية- أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جرءآء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه فقلت له: ما أنت قال أنا نبي قلت وما نبي؟ قال: أرسلني الله قلت بأي شيء أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء قلت فمن معك على هذا قال: حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما قلت إني متبعك قال إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم نفر من أهل المدينة فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فعصمه الله منهم فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال: نعم أنت الذي لقيتني بمكة فقلت يا رسول الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال: صل الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار قال فقلت يا نبي الله فالوضوء حدثني عنه فقال: ما منكم(1/296)
رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله#
تعالى إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه.
فحدث عمرو ابن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو أمامة يا عمرو بن عبسة، انظر ما تقول في مقام واحد يعطي هذا الرجل. فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي ومالي حاجة إلى أن أكذب على الله تعالى ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثًا حتى عد سبع مرات ما حدثت به ولكني سمعته أكثر من ذلك. رواه مسلم.
هذا حديث جليل القدر عظيم الشأن كثير الفوائد اشتمل على جمل كثيرة من قواعد الإسلام وأحكامه وآدابه قوله: «جرءآء عليه قومه» أي: جاسرون عليه مستطيلون غير هائبين. قوله «بين قرني شيطان» أي ناحيتي رأسه والمراد التمثيل ومعناه أنه حينئذ يتحرك الشيطان وشيعته ويتسلطون قاله النووي. وقوله «يقرب وضوءه» معناه يحضر الماء الذي يتوضأ به. وقوله: «إلا خرت خطايا» أي سقطت وقوله: «فلينتثر» أي فيستخرج ما في أنفه من أذى، وقوله «مستخفيًا» أي مستترًا. وقوله «قيد رمح» أي قدر طوله في رأي العين. وقوله «تسجر جهنم» أي توقد ويزاد في حرها. وقوله: «حتى يستقل الظل بالرمح» أي ينقضي ظله الممتد حينما تكون الشمس في وسط السماء.
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- ضلال الجاهلية الأولى بسبب عبادة الأوثان.(1/297)
2- بيان المقصود من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو صلة الأرحام وكسر الأوثان والقضاء عليها وتوحيد الله وإخلاص الدين له.
3- فضل أبي بكر الصديق وبلال بن رباح الحبشي رضي الله عنهما حيث سبقا إلى الإسلام قبل غيرهما.
4- سؤال الجاهل العالم عن ما يحتاج إليه من أمر دينه.
5- كراهة الصلاة في أوقات النهي الثلاثة وهي بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح وعند قيامها حتى تزول وبعد العصر حتى تغرب.
6- بيان الحكمة في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وهي طلوع الشمس وغروبها بين قرني شيطان وسجود الكفار لها وشدة الحر وسط النهار لأنها تسجر جهنم.#
7-
تحريم مشابهة الكفار والمشركين في عباداتهم ومعاملاتهم وعاداتهم لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
8- فضل الوضوء وأنه يكفر الذنوب ويغسل الخطايا.
9- فضل الصلاة بعد الوضوء مع الخشوع وحضور القلب ومراقبة الله فيها.
10- التثبت فيما يقوله الإنسان ويحكيه.
11- قرن الحكم بدليله وتعليله.
12- يسر الإسلام وسماحته.
13- الحث على إسباغ الوضوء وتكميله.
14- مشروعية المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء.
15- فضل عمرو بن عبسة في حرصه على الإسلام وسؤاله عن ما يحتاج إليه من أمر دينه رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرتهم.
فائدة:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عز وجل إذا قهر شهوته وهواه وإلا فقلب قد قهرته الشهوة وأسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدًا تمكن فيه كيف يخلص من الوساوس والأفكار.#
- 3 -
وصايا يحيى بن زكريا ومحمد صلى الله عليهما وسلم (1)
__________
(1) انظر شرح هذه الوصايا في الوابل الصيب لابن القيم ص 44 – 82 بتحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.(1/298)
روى الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله أمر يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل بهن وإنه كاد أن يبطئ بها فقال عيسى عليه السلام إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجبه ريحه وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم فقال رجل يا رسول الله وإن صلى وصام قال: وإن صلى وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»(1/299)
قال الترمذي حديث حسن صحيح.#
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله ما ينجي من الشيطان وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه فذكر مثل الموحد والمشرك فالموحد كمن عمل لسيده في داره وأدى لسيده ما استعمله فيه، والمشرك كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل ويؤدي خراجه وعمله إلى غير سيده فهكذا المشرك يعمل لغير الله في دار الله ويتقرب إلى عدو الله بنعم الله تعالى.(1/300)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وآمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا» الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان؛ أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى، والثاني التفات البصر، وكلاهما منهي عنه ولا يزال الله مقبلا على عبده مادام العبد مقبلا على صلاته فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله عنه، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» (1) وفي الحديث: «إياكم والالتفات في الصلاة فإنه هلكة» (2) وفي أثر: يقول الله تعالى: «إلى خير مني إلى خير مني» (3) وقوله صلى الله عليه وسلم «وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجبه ريحه وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، وإنما مثل صلى الله عليه وسلم ذلك بصاحب الصرة التي فيها المسك لأنها مستورة عن العيون مخبوءة تحت ثيابه كعادة حامل المسك وهكذا الصائم صومه مستور عن العيون ومشاهدة الخلق لا تدركه حواسهم، والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش والغيبة والنميمة وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الحرام فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه فيخرج كلامه نافعًا صالحًا وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة الطيبة التي يشمها من جالس حامل المسك كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ففي الحديث: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (4) ، وفي الحديث أيضًا: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (5)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(3) رواه البزار من حديث جابر.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصححه..(1/301)
فالصوم الكامل المقبول هو صوم#
الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الطعام والشراب فكما أن الطعام والشراب عمدًا يفسد الصوم فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته فتصيره بمنزلة من لم يصم وقوله صلى الله عليه وسلم: «وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم» وهذا من الكلام الذي برهانه وجوده ودليله وقوعه فإن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو ظالم فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض كلهم يقرون به لأنهم جربوه. وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء» وكما أنها تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما يطفي الماء النار. وفي بعض الآثار باكروا بالصدقة فإنه البلاء لا يتخطاها (1) .
__________
(1) قال المنذري في الترغيب والترهيب 2/142 رواه البيهقي مرفوعا وموقوفا على أنس ولعله أشبه.(1/302)
وفي تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن قدم ليضرب عنقه ففدى نفسه منهم بماله كفاية فإن الصدقة تفدي العبد من عذاب الله سبحانه وتعالى: وقوله صلى الله عليه وسلم: «وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي: يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وانقبض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» (1) أي: الذاكر مثل الحي والغافل مثل الميت وفي الحديث أيضًا: «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر الله فطرد الشيطان عنه» (3) وفي ذكر الله تعالى أكثر من مائة فائدة ذكرها الإمام شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه الوابل الصيب في الكلم الطيب وهو#
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) أخرجه ابن أبي شيبه والطبراني بإسناد حسن.
(3) رواه أبو موسى المديني وقال حديث حسن.(1/303)
كتاب نافع، وذكر الله تعالى يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والجهاد في سبيل الله وهو يطرد الشيطان ويرضي الرحمن ويزيل الهم والغم عن القلب ويجلب الفرح والسرور ويقوي القلب والبدن وينور الوجه والقلب ويجلب الرزق ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة وذكر الله يورث مراقبته والإنابة إليه والقرب منه ويورث حياة القلب فإن الذكر للقلب كالماء للسمك وهو قوت القلب والروح وهو يحط الخطايا ويذهبها ويزيل الوحشة بين العبد وربه وهو سبب لتنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا: بلى يا رسول الله قال ذكر الله (1) وذكر الله في الأرض سبب لذكره لعبده في السماء، قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (2) وقال الشاعر:
وأكثر ذكره في الأرض دوما ... لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - : «سبق المفردون. قالوا ومن المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرًا» (4) وقال تعالى: { وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (5) وبالله التوفيق.
6- انظر شرح هذا الحديث في الوابل الصيب لابن القيم ص 44 – 82 بتحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.
ما يستفاد من هذا الحديث العظيم:
__________
(1) رواه الترمذي وصححه الحاكم.
(2) سورة البقرة آية 152.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) سورة الأحزاب آية 35.(1/304)
1- وجوب عبادة الله وحده لا شريك له حيث خلقنا ورزقنا وأنعم علينا.#
2-
أن التوحيد أعظم العدل، والشرك أعظم الجور والظلم.
3- مثل الموحد والمشرك.
4- تحريم التفات القلب والبصر في الصلاة.
5- فضل الصيام والحث عليه والترغيب فيه.
6- طيب رائحة فم الصائم عند الله وأنها أطيب عنده من ريح المسك حيث نشأت عن طاعته وابتغاء مرضاته.
7- فضل الصدقة والحث عليها وأنها سبب قوي لدفع شرور الدنيا والآخرة وجلب مصالحهما.
8- فضل ذكر الله والحث عليه وأنه سبب للنجاة من عذاب الله وسبب لمغفرته ورضوانه وأنه حصن حصين من شر الشياطين.
9- وجوب السمع والطاعة لأوامر الله ورسوله.
10- مشروعية الجهاد في سبيل الله للذب عن دينه ولتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله.
11- مشروعية الهجرة إلى الله ورسوله بالطاعة وترك المعاصي والانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
12- الحث على لزوم جماعة المسلمين وسلوك طريقهم والسير على منهاجهم.
13- أن من خالف المسلمين وشذ عنهم فقد خرج من الإسلام إلا أن يرجع ويتوب إلى الله.
14- تحريم الادعاء بدعوى الجاهلية وهي كل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
15- تشريف المسلمين وتفضيلهم بالإسلام والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح.
تتمة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة»، أي: لأوامر الله ورسوله بفعل الواجبات وترك المحرمات، والجهاد، يشمل جهاد النفس بتعلم العلم النافع وهو علم القرآن والسنة والعمل به والدعوة إليه
والصبر على الأذى فيه كما قال تعالى: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر،
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا#(1/305)
بالصبر)، وجهاد الكفار بالدعوة والقتال، وجهاد المنافقين بإقامة الحجة والبرهان، وجهاد أهل المعاصي باليد ثم باللسان ثم بالقلب وجهاد الشيطان بالاستعاذة بالله منه ودفع ما يلقي إلى العبد من الوساوس والشبهات والشكوك، والهجرة تشمل هجر المحرمات كما قال صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (1) وهجر الأوطان التي لا يتمكن المسلم فيها من إظهار دينه بالقول والعمل وذم ما خالفه كبلاد الشرك والكفر والتي يحكم فيها بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية المخالفة للكتاب والسنة والجماعة أي: جماعة الإسلام بسلوك طريقهم قولا واعتقادًا وعملا. وبالله التوفيق.#
الدين قول وعمل واعتقاد وأخلاق
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/306)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد (1) (فصل) في قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان الداراني قال حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث قال وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا قال ما أنتم قلنا مؤمنون فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم قلنا خمس عشرة خصلة خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها وخمس أمرتنا أن نعمل بها وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها الآن إلا أن تكره منها شيئًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تؤمنوا بها قلنا أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، قال وما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها قلنا أمرتنا أن نقول لا إله إلا الله ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا، فقال وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية قالوا الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء والرضاء بمر القضاء وترك الشماتة بالأعداء والصدق في مواطن اللقاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماء علماء كادوا لفقههم أن يكونوا أنبياء ثم قال وأنا أزيدكم خمسًا فتتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدًا تزولون واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظوا وصيته وعملوا بها.
__________
(1) جـ 3 ص 672 بتحقيق الأرنؤوط.(1/307)
هذا حديث عظيم جامع للإسلام والإيمان والأخلاق الفاضلة التي ينبغي للإنسان أن يتخلق بها والحث على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فهو يشبه حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان فأجابه بما ذكر في الحديث من أصول الإيمان وقواعد الإسلام.#
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- أن دين الإسلام والإيمان قول واعتقاد وعمل وأخلاق.
2- أنه ليس الإيمان بالتسمي ولا بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما حصل في القلوب وصدقته الأعمال.
3- أنه إذا قرن الإسلام بالإيمان فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان باعتقاد القلب وتصديقه.
4- أن الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء والرضاء بمر القضاء من كمال الإيمان ومن أخلاق الإسلام كما في الحديث: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له». رواه مسلم.
5- الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره من أصول الإيمان التي لا يتم إلا بها كما في حديث جبريل «وتؤمن بالقدر خيره وشره». رواه مسلم.
6- الحث على ترك الشماتة بالأعداء وهي إظهار الفرح لحزنهم.
7- الحث على الصدق والثبات في مواطن القتال في سبيل الله ولقاء الأعداء.
8- الحث على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
9- كراهة جمع الأموال وبناء المساكن لمن لا يحتاج إليها.
10- أن الإعراض عن ما لا يحتاج إليه من الدنيا من كمال الإيمان.
11- الحث على تقوى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
12- الحث على الاستعداد للقاء الله بالإيمان والعمل الصالح الذي سوف يقدم عليه العبد ويجزى به ويخلد فيه.
13- أن مرجع العباد إلى الله وسوف يعرضون عليه للحساب والجزاء.
14- فضل وفد الأزد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قبلوا وصيته وحفظوها وعملوا بها.#
- 5 -
تيسير عمل أهل الجنة(1/308)
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفي الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون). ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال كف عليك هذا قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/309)
هذا حديث عظيم الشأن جليل القدر اشتمل على الإرشاد إلى عمل أهل الجنة وهو القيام بأركان الإسلام الخمسة التي هي عبادة لله وحده لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام مع أداء بقية الواجبات وترك المحرمات والإرشاد إلى نوافل الطاعات وأبواب الخيرات التي هي الصوم والصدقة وصلاة الليل والإخلاص فيها لله وحده كما أرشد إلى رأس الدين وهو الإسلام وإلى عموده وهو الصلاة وإلى ذروة سنامه وأعلاه وهو الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله كما أرشد إلى ما يملك على الإنسان أمره وهو لسانه وأن وقوع الناس بنار جهنم إنما هو بسبب حصائد ألسنتهم بالكلام في المحرمات كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والتكلم بكلمة الكفر كدعاء غير الله وسؤاله قضاء الحاجة وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وكالدعاء إلى البدع والضلالات والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف فكل هذا وما أشبهه مما يحبط الأعمال ويوجب العذاب فالعمل الذي يؤدي إلى الجنة ويبعد عن النار عظيم وهو يسير على من يسره الله عليه وهو
امتثال الأوامر واجتناب المناهي وفعل الواجبات وترك#(1/310)
المحرمات وهذا العمل هو الذي لأجله عمل العاملون وتصدق المتصدقون وصام الصائمون وجاهد المجاهدون فالمقصود بذلك كله امتثال أمر الله وطلب رضاه وجنته والخوف من عذابه وسخطه. قوله صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنَّة» أي سترة وحصن حصين من النار كجنته من القتال وهو الدرع الذي يقي المجاهد من القتال، وفي الحديث يقول الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (1) قوله «وقيام الرجل في جوف الليل» يعني أنه يطفئ الخطيئة وفي الحديث «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد» (2) قوله «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» عام في كل أنواع الصدقة سواء كانت مأكلا أو مشربًا أو ملبسًا أو غير ذلك وفي الحديث: «أيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم كسى مسلمًا على عري كساه الله من حلل الجنة وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم» (3) وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقه فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وقد قال تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } (4) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الطبراني في الكبير والترمذي في الدعوات من جامعه عن سلمان الفارسي، ورواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري.
(3) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعًا.
(4) سورة البقرة آية 271.(1/311)
الآية وقال تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) وقال تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } (2) والقرض الحسن هو الصدقة من المال الحلال بطيب نفس من غير أن يتبعها منٌّ ولا أذى وقال تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (3) والآيات في فضل الإنفاق والحث عليه وكثرة ثوابه كثيرة قوله «رأس الأمر الإسلام» قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ } (4) { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (5) { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } (6) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } (7) فقد أخبر تعالى أن الدين المقبول المرضي عنده هو الإسلام وأنه لا يقبل دينًا غيره ومن يبتغ دينًا غير الإسلام فقد خسر دينه ونفسه وآخرته الباقية الدائمة وأخبر تعالى أنه قد أكمل لنا ديننا وأتمَّ علينا النعمة ورضيه لنا فلا يسخطه أبدًا ولا يتطرق إليه النقص فيحتاج إلى تكميل وأوجب علينا الدخول في جميع أوامره وشرائعه وأن من خرج عنها فقد اتبع خطوات الشيطان { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (8)
__________
(1) سورة البقرة آية 274.
(2) سورة التغابن آية 17.
(3) سورة سبأ آية 39.
(4) سورة آل عمران آية 19.
(5) سورة آل عمران آية 85.
(6) سورة المائدة آية 3.
(7) سورة البقرة آية 208.
(8) سورة النور آية 21..(1/312)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رأس الأمر والدين هو الإسلام فهو عال على جميع الأديان وعموده الذي يقوم عليه هو الصلاة فلا قيام له بدونها «وذروة سنامه» أي أعلاه هو الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس.
قوله «ثكلتك أمك» أي فقدتك ولم يقصد حقيقة الدعاء عليه بل جرى ذلك على عادة العرب في المخاطبات.
وحصائد ألسنتهم جناياتها على الناس بالوقوع في أعراضهم بالغيبة والنميمة والكذب والبهتان كما تقدم وكلمة الكفر والسخرية وإخلاف الوعد ونحو ذلك قال تعالى: { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } سورة الصف آية 3.
(انظر شرح هذا الحديث في جامع العلوم والحكم لابن رجب). ص 236 ط2 رقم 29.#
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- سؤال الإنسان عما يقربه إلى ربه ويوصل إلى جنته والسلامة من عذابه.
2- يسر عمل أهل الجنة على من يسره الله عليه وهو امتثال الأوامر واجتناب المناهي.
3- من أعظم الأعمال المؤدية إلى الجنة القيام بأركان الإسلام الخمسة حق القيام.
4- وجوب توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له.
5- الحث على إقام الصلاة كما شرع الله ورسوله.
6- وجوب إخراج الزكاة إلى مستحقيها.
7- وجوب صوم رمضان وحج البيت الحرام.
8- فضل هذه الأعمال الجليلة حيث رتب عليها دخول الجنة والنجاة من النار.
9- الإرشاد إلى أبواب الخير وأعمال البر ونوافل الطاعات.
10- فضل الصوم حيث يستر الصوم من العذاب كما يستر الدرع من القتال.
11- فضل الصدقة حيث أنها تطفئ الخطيئة وتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء وتفدي المتصدق من عذاب الله وتدفع أنواع البلاء.
12- فضل الصلاة في وسط الليل حيث أنها تطفئ الخطيئة أيضًا ويُدَّخَر لصاحبها من الثواب ما لا يعلمه إلا الله مما تقر به الأعين.
13- فضل الإسلام.
14- أن عمود الدين الذي يقوم عليه وبه يقبل هو الصلاة.
15- فضل الجهاد في سبيل الله الذي هو أعلى سنام الدين.(1/313)
16- الحث على كف اللسان وحفظه عن ما لا يحل من الكلام المحرم.
17- أن أكثر ما يدخل الناس النار جنايات ألسنتهم.
18- فضل الصحابي الجليل معاذ بن جبل حيث تقدم بهذا السؤال العظيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يدخل الجنة وينجي من النار فكان له بذلك الفضل على الأمة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل» (1) .#
- 6 -
الكفارات والدرجات والمنجيات والمهلكات
روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعًا أشار في الجامع الصغير إلى ضعفه إلا أن له شواهد:
«ثلاث كفارات وثلاث درجات وثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما الكفارات فهي إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأما الدرجات فهي إطعام الطعام وطيب الكلام والصلاة بالليل والناس نيام. وأما المنجيات فهي تقوى الله في السر والعلانية والقول بالحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى. وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن».
هذا حديث عظيم اشتمل على اثنتي عشرة خصلة من الخصال المكفرة للذنوب، والخصال التي هي سبب لرفع الدرجات والأشياء المنجيات من عذاب الله، والأنواع المهلكات لمن اتصف بها فهي أربعة أنواع كفارات ودرجات ومنجيات ومهلكات.
فالنوع الأول الكفارات للذنوب وهي ثلاث:
1- إسباغ الوضوء وهو إتمامه وإكماله في السبرات أي في شدة البرد.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي والنسائي.(1/314)
2- ونقل الأقدام إلى الجماعات أي المشي إلى المساجد لأداء الصلوات فإن الماشي إلى المسجد أحد خطواته ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة ولذلك استحب بعد البيت عن المسجد واستحب مقاربة الخطا لتكثر الخطا فتكثر الحسنات وفي الحديث «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح» (1) «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (2) «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية» رواه الترمذي وقال حديث حسن.
3- الثالثة من الكفارات انتظار الصلاة بعد الصلاة أي الجلوس في المسجد بعد الصلاة
لانتظار صلاة أخرى فمن فعل ذلك لم يزل في صلاة والملائكة تصلي عليه وتستغفر له وتدعو له مادام في المسجد تقول اللهم صل عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه (3) وفي الحديث الآخر: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط». رواه مسلم.
وأما الدرجات فهي ثلاث أيضًا:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أبو داود والترمذي.
(3) كما في الحديث الذي رواه البخاري.(1/315)
1- إطعام الطعام أي الصدقة به على المحتاجين والجائعين من الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمستضعفين ابتغاء مرضاة الله وثوابه وخوفًا من سخطه وعقابه كما قال تعالى في مدح الأبرار: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } (1) وفي الحديث: «أيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة» رواه الترمذي.
2- الثانية من الدرجات طيب الكلام أي ملازمة الكلام الطيب من ذكر الله ودعائه واستغفاره وتلاوة القرآن وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع ونحو ذلك.
3- الثالثة من الدرجات الصلاة بالليل والناس نيام وأفضلها وأعلاها وأولاها صلاة العشاء والفجر حيث ورد في الحديث الصحيح أن من صلاهما في جماعة فكأنما قام الليل كله ويليهما في الأفضلية السنن الرواتب ثم الوتر ثم بقية النوافل في الليل كله وآخره أفضل لمن وثق من نفسه بالقيام وإلا أوتر قبل أن ينام.
وفي الحديث: «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (2) .
وأما المنجيات فهي ثلاث أيضًا:
1- تقوى الله في السر والعلانية أي مراقبته في جميع الأوقات وطاعته بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى وفعل ما أوجب وترك ما حرم.#
2-
__________
(1) سورة الإنسان آية 8 – 12.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/316)
والقول بالحق في الغضب والرضا فلا يخرجه الغضب والشهوة عن الحق ولا يدخلانه في الباطل وذلك عنوان على الصدق وأكبر برهان على الإيمان وقهر العبد لغضبه وشهوته وفي الدعاء المأثور «أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا» (1) .
3- الثالثة من المنجيات القصد في الفقر والغنى فلا يخرجه الغنى إلى السرف والتبذير بل يقتصد في حال الغنى كما يقتصد في حال الفقر فينفق بقدر الحاجة بغير تفريط ولا إفراط ومن غير بخل ولا إسراف - كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } (2) وقوله تعالى: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } (3) وفي الدعاء المأثور: «وأسألك القصد في الفقر والغنى» (4) . وذلك علامة على قوة العقل وحسن التدبير فهذه الثلاث جمعت كل خير متعلق بحق الله وحق النفس وحق العباد.
وأما الثلاث المهلكات:
1- فأولها شح مطاع وهو البخل بالحقوق مع الحرص الشديد على المال وفي الحديث «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (5) فهو يحمل على البخل ومنع الحقوق ويدعو إلى القطيعة والعقوق، أمر الشح أهله بالقطيعة فقطعوا ودعاهم إلى منع الحقوق الواجبة فامتثلوا وأغراهم بالمعاملات السيئة من الغش والبخس والربا ففعلوا فهو يدعو إلى كل خلق رذيل وينهى عن كل خلق جميل.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه.
(2) سورة الفرقان آية 67.
(3) سورة الإسراء آية 29.
(4) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه.
(5) رواه مسلم.(1/317)
2- وأما الهوى المتبع فهو يهوي بصاحبه إلى أسفل الدركات ويعمي عن رؤية الحق ويصم عن سماعه وبالهوى تندفع النفوس إلى الشهوات المحرمة الضارة المهلكة { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ } (1) قال تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا } الفرقان 43 – 44.#
3-
وأما إعجاب المرء بنفسه فإنه من أعظم المهلكات وفظائع الأمور فإنه يحبط الأعمال وهو باب الكبر والزهو والغرور بالنفس ووسيلة إلى الفخر والخيلاء واحتقار الخلق فهذه الثلاث الشح المطاع والهوى المتبع والإعجاب بالنفس من جمعها فهو من الهالكين ومن اتصف بها فقد باء بغضب من الله واستحق العذاب المهين (2) .
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- الإرشاد إلى ما يكفر الذنوب ويمحو الخطايا والسيئات.
2- الحث على إسباغ الوضوء وخصوصًا في شدة البرد وحمل النفس على ما تكره.
3- الترغيب في كثرة الخطا إلى المساجد والمشي إليها لأداء الصلوات لاسيما في ظلمة الليل.
4- الحث على الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة وفضله.
5- الإرشاد إلى ما يرفع درجات العبد عند الله ويقربه إليه.
6- الحث على إطعام الطعام للمحتاجين إليه.
7- الترغيب في طيب الكلام وتحسينه للمخاطب.
8- الترغيب في قيام الليل للصلاة والناس نيام وفضله.
9- الإرشاد إلى الخصال المنجية من عذاب الله.
10- الحث على تقوى الله ومراقبته وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه سرا وعلنا.
11- الحث على الاعتدال في القول وملازمة الحق فيه في حال الغضب والرضا.
__________
(1) سورة القصص آية 50.
(2) انظر رسالة (اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) في الكفارات والدرجات للحافظ عبد الرحمن بن رجب.(1/318)
12- الاعتدال في النفقات من غير تقتير ولا إسراف في حال الفقر والغنى.
13- الترهيب والتحذير من الخصال المهلكة والجرائم الموبقة.
14- التحذير من البخل والشح في الواجبات وطاعة النفس في ذلك.
15- التحذير من اتباع الهوى في معصية الله بترك أوامره وارتكاب زواجره.
16- الحذر من إعجاب المرء بنفسه وغروره بها.
17- أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
18- أن الدين قول واعتقاد وعمل وفعل وترك.#
- 7 -
حق المسلم على المسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه» رواه مسلم.
هذه الحقوق الستة من قام بها في حق المسلمين كان قيامه بغيرها أولى وحصل له أداء هذه الواجبات والحقوق التي فيها الخير الكثير والأجر العظيم من الله تعالى.
1- الأولى: إذا لقيته فسلم عليه فإن السلام سبب للمحبة التي توجب الإيمان بالله الذي يوجب دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» رواه مسلم.
والسلام من محاسن الإسلام فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الآفات والشرور وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجد التآلف والمحبة ويزيل الوحشة والتقاطع، فالسلام حق للمسلم على المسلم وعلى المسلم عليه رد التحية بمثلها أو أحسن منها وخير الناس وأولاهم بالله من بدأهم بالسلام.
2- وإذا دعاك فأجبه أي دعاك لدعوة طعام أو شراب فاجبر خاطر أخيك الذي أكرمك بالدعوة وأجبه لذلك إلا أن يكون لك عذر شرعي، قال النبي صلى الله عليه وسلم «من دعاكم فأجيبوه» رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.(1/319)
3- وإذا استنصحك فانصح له أي إذا استشارك في عمل من الأعمال هل يعمله أم لا فانصح له بما تحب لنفسك فإن كان العمل نافعًا من كل وجه فحثه على فعله وإن كان مضرًا فحذره منه وإن احتوى على نفع وضر فاشرح له ذلك ووازن بين المنافع والمضار والمصالح والمفاسد وكذلك إذا شاورك على معاملة أحد من الناس أو التزوج منه أو تزويجه فأظهر له محض نصحك واعمل له من الرأي ما تعمله لنفسك وإياك أن تغشه في شيء من ذلك فمن غش المسلمين فليس منهم وقد ترك واجب النصيحة، وهذه النصيحة واجبة على كل حال ولكنها تتأكد إذا استنصحك وطلب منك الرأي النافع ولهذا قيده بهذه الحالة التي تتأكد، وفي الحديث: «الدين النصيحة» قالها ثلاثًا رواه مسلم.#
4-
الرابعة: إذا عطس فحمد الله فشمته وذلك أن العطاس نعمة من الله بخروج هذه الريح المحتقنة في أجزاء بدن الإنسان يسر الله لها منفذًا تخرج منه فيستريح العاطس فشرع له أن يحمد الله على هذه النعمة وشرع لأخيه المسلم أن يقول له يرحمك الله وأمره أن يجيبه بقوله يهديكم الله ويصلح بالكم فمن لم يحمد الله لم يستحق التشميت ولا يلومن إلا نفسه فهو الذي فوت على نفسه النعمتين نعمة الحمد لله ونعمة دعاء أخيه المرتب على الحمد وسمي الدعاء للعاطس بالرحمة تشميتًا لأنه دعاء له بما يزيل عنه شماتة الأعداء وهي فرحهم بما يصيبه وقيل تسميت - بالسين المهملة - فيكون دعاء له بحسن السمت وهو السداد والاستقامة.(1/320)
5- الخامسة: قوله إذا مرض فعده فإن عيادة المريض وزيارته من حقوق المسلم وخصوصًا من له حق عليك متأكد كالقريب والجار والنسيب والصاحب وهي من أفضل الأعمال الصالحة ومن عاد أخاه المسلم لم يزل يخض في الرحمة فإذا جلس عنده غمرته الرحمة ومن عاده في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي ومن عاده آخر النهار صلت عليه الملائكة حتى يصبح كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود. وينبغي للعائد أن يشرح خاطر المريض بالبشارة بالعافية والدعاء له بالشفاء ويذكره التوبة والإنابة إلى الله والإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار ويأمره بالوصية النافعة ولا يطيل عنده الجلوس بل بقدر العيادة إلا أن يؤثر المريض كثرة تردده وجلوسه عنده فلكل مقام مقال.
6- السادسة: من حق المسلم على المسلم اتباع جنازته إذا مات فإن من اتبع الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط من الأجر فإن تبعها حتى تدفن له قيراطان كل قيراط مثل الجبل العظيم، واتباع الجنازة فيه حق الله وحق للميت وحق لأقاربه الأحياء. اهـ من بهجة قلوب الأبرار لابن سعدي ببعض تصرف.
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- الإرشاد إلى حق المسلم على أخيه المسلم حيث ربط بينهما الإسلام.
2- استحباب إفشاء السلام وإجابة الدعوة والنصح للمسلم وتشميت العاطس وعيادة المريض واتباع الجنازة.
3- فضل هذه الأشياء والحث عليها.#
8- من سنن الفطرة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (يعني الاستنجاء) قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» رواه مسلم.
الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وهي محبة الخير وإيثاره وكراهة الشر ودفعه وفَطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه وجعل تعالى شرائع الفطرة نوعين:(1/321)
أحدهما: يطهر القلب والروح وهو الإيمان بالله وتوابعه من خوفه ورجائه ومحبته والإنابة إليه، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (1) فهذه الفطرة تزكي النفس وتطهر القلب وتنميه وتذهب عنه الآفات الرذيلة وتحليه بالأخلاق الجميلة وهي كلها ترجع إلى أصول الإيمان وأعمال القلوب.
والنوع الثاني: ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته ودفع الأوساخ والأقذار عنه وهي هذه العشرة وهي من محاسن الدين الإسلامي إذ هي كلها تنظيف للأعضاء وتكميل لها لتتم صحتها ويظهر جمالها. فأما قص الشارب أو حفه حتى تبدو الشفة فلما في ذلك من النظافة والتحرز مما يخرج من الأنف فإن شعر الشارب إذا تدلى على الشفة باشر به ما يتناوله من مأكول ومشروب مع تشويه الخلقة بوفرته وإن استحسنه من لا يعبأ به وفي الحديث: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» رواه أحمد والترمذي والنسائي وإسناده جيد. وهذا بخلاف اللحية فإن الله جعلها وقارًا للرجل وجمالا له واعتبر ذلك بمن يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم فيحلقها كيف يبقى وجهه مشوها قد ذهبت محاسنه وخصوصًا وقت الكبر فيكون كالمرأة العجوز إذا وصلت إلى هذا السن ذهبت محاسنها ولو كانت في صباها من أجمل النساء وهذا شيء محسوس ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجب استحسان القبيح واستقباح الحسن، هذا وفي حلق اللحية محاذير:#
1-
تغيير خلق الله.
2- ومخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- والتشبه بالنساء الملعون فاعله.
4- والتشبه بالكفرة والمشركين والمجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم.
5- وتشويه الخلقة وتقبيح الصورة وذهاب الجمال.
__________
(1) سورة الروم آية 30 – 31.(1/322)
وأما قص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة وهي الشعر الذي حول الفرج وغسل البراجم وهي مطاوي البدن التي تجتمع فيها الأوساخ فلها من التنظيف وإزالة المؤذيات والأوساخ وخفة البدن ونشاطه ما هو معروف.
وأما المضمضة والاستنشاق فإنهما مشروعان في طهارة الحدث الأصغر والأكبر بالاتفاق وهما فرضان فيهما تطهير الفم والأنف وتنظيفهما لأن الفم والأنف يتوارد عليهما كثير من الأوساخ والأبخرة ونحوها وهو مضطر إلى إزالة ذلك. وكذلك السواك يطهر الفم ويرضي الرب ويجلو الأسنان ولهذا يشرع كل وقت ويتأكد عند الوضوء والصلاة والانتباه من النوم وتغير الفم وصفرة الأسنان وقراءة القرآن. وأما الاستنجاء وهو إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو بالأحجار أو بهما معًا وهو أفضل فهو لازم وشرط من شروط الطهارة.
فعلم أن هذه الأشياء كلها تكمل ظاهر الإنسان وتطهره وتنظفه وتدفع عنه الأشياء الضارة والمستقبحة، والنظافة من الإيمان، والمقصود أن الفطرة شاملة لجميع الشريعة باطنها وظاهرها لأنها تنقي الباطن من الأخلاق الرذيلة وتحليه بالأخلاق الجميلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان والتوحيد والإخلاص لله والإنابة إليه وتنقي الظاهر من الأنجاس والأوساخ وأسبابها وتطهره الطهارتين الحسية والمعنوية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «الطهور شطر الإيمان» (1) وقال الله تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } (2) فالشريعة كلها طهارة وزكاء وتنمية وتكميل وحث على معالي الأمور ونهي عن سفاسفها وبالله التوفيق. اهـ من بهجة قلوب الأبرار ببعض تصرف.
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- فطر الله الخلق على محبة الخير وكراهة الشر.#
2- من السنة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والمضمضة والاستنشاق وقص الأظفار. ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) سورة البقرة آية 222.(1/323)
3- إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة إلى ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم.
4- الحث على النظافة والطهارة من الأحداث والأنجاس والأقذار.
5- كمال الشريعة وأنها جاءت بجلب المنافع ودفع المضار.#
(9- الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله):
(والأعمال التي تكون سببًا في ظل أصحابها يوم القيامة في ظل العرش).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» متفق عليه.
يوم القيامة يوم عظيم شديد الأهوال شديد الحر عظيم الكرب فيبلغ الناس من ذلك ما لا يطيقون ولا يحتملون حيث تصهرهم الشمس في ذلك اليوم الطويل العبوس القمطرير فيعرقوا حتى يخوضوا في العرق، فمنهم من يبلغ به العرق إلى كعبيه ومنهم من يبلغ به ركبتيه ومنهم من يبلغ إلى حجزته ومنهم من يبلغ إلى ترقوته ومنهم من يبلغ إلى أنصاف أذنيه حتى يلجمه إلجامًا ويغوص في الأرض سبعين ذراعًا وفي ذلك الحر وتلك الشدة يظل الله طائفة من عباده المؤمنين وسبعة من أوليائه المتقين الذين صفت عقيدتهم وزكت نفوسهم وراقبوا الله في سرهم وعلانيتهم خوفًا منه ورغبة فيما لديه فهم يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلى ظله:(1/324)
1- أولهم إمام عادل وهو كل من تولى شيئًا من أمور المسلمين فعدل فيه من حاكم وأمير وقاض وغيرهم من ولاة العدل الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا فلا يطمع ظالم في حيفهم ولا ييأس مظلوم من عدلهم بل ينصفون المظلوم من الظالم والضعيف من القوي، وقد أمن الناس بسبب عدلهم على أنفسهم وأموالهم ومحارمهم لأنهم يقيمون حدود الله على القريب والبعيد والقوي والضعيف ويمهدون السبل لإقامة دين الله وفي الحقيقة أن العدل دعامة الملك ووسيلة التقدم والعمران وسير الأمم في سبيل الرقي بخطوات واسعة في جميع مرافق حياتها ووسائل نهضتها وسعادتها.
2- وثانيهم شاب امتلأ فتوة ونشاطًا واكتمل قوة ونموًا ولازم عبادة الله وراقب مولاه في سره وجهره منذ صباه وهو يتمتع في طاعة ربه وعبادته وذكره وشكره ومحبته وخوفه ورجائه لم تغلبه الشهوة ولم تخضعه لطاعتها ودوافع الهوى والطيش.(1/325)
3- وثالثهم من حبب إليه المساجد فيظل متعلقًا بها قلبه يسرع إليها إذا حان وقت الصلاة ويحافظ على أوقاتها وليس المراد حب الجدران ولكن حب العبادة والتضرع إلى الله فيها وهذا يستلزم تجافيه عن حب الدنيا واشتغاله بها وحبها رأس كل خطيئة. والمساجد بيوت الله التي أذن { أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (1) والمساجد مجتمع المسلمين ومناط وحدتهم والتآم كلمتهم شرعت فيها الجماعات في الصلوات الخمس والجمع والأعياد لما في ذلك من حكم جمة وفوائد مهمة لا تحصى ولا يحافظ على الصلوات جماعة في المساجد إلا مؤمن قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» (2) قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللهَ } ولقد أحسن من قال:
وخير مقام قمت فيه وحلية ... تحليتها ذكر الإله بمسجد
__________
(1) سورة النور آية 36 – 38.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.(1/326)
4- ورابعهم رجلان تمكنت بينهما أواصر المحبة، والصداقة المتينة الخالصة لله من شوائب النفاق وابتغاء النفع الدنيوي لا يؤثر فيها غنى ولا فقر ولا شدة ولا رخاء ولا تزيدها الأيام إلا رسوخًا وإحكامًا، سرهما في طاعة الله وجهرهما في مرضاته لا يتجاهران في معصية ولا يسران منكرًا ولا تسعى أقدامهما إلى فسق أو فجور تجمعهما رابطة الدين وحبه وتفرقهما الغيرة على الدين والذود عن حرمته لا لعرض زائل أو متاع من الدنيا قليل وفي الحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) وفيه «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان.... ومنها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» (2) فالحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان وأحب الأعمال إلى الله.#
5-
وخامسهم: رجل دعته إلى منكر في نفسها امرأة، اجتمعت لديها دواعي الغنى والطغيان من جمال رائع وحسب ومال يغري ذوي النفوس المريضة والإيمان الضعيف ويهب بأولى الشهوات الجامحة ولكن هذا الرجل صدها عن غيها وزجرها عن ما تبغيه منه وذكرها بالله وشدة بطشه لأنه يعرف ويؤمن أن الله يراه ويسمعه ويعلم سره وعلانيته وسوف يجزيه على عمله فهو خائف منه لا يقوى على عصيانه ولا يطيق عذاب نيرانه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/327)
6- وسادسهم رجل يتصدق من ماله في سبيل الله لا يبتغي من الناس جزاء ولا شكورًا فهو من المراءات بعيد يكاد لإخفائه الصدقة ألا تعلم شماله ما تنفق يمينه فهو يوم القيامة في ظل الصدقة أو في ظل العرش بسببها وقد قال تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } الآية 271 من سورة البقرة.
7- وسابعهم رجل خلا بنفسه فذكر عظمة ربه وجبروته وعزته وقوة سلطانه وشدة عقابه وسعة رحمته بعباده المؤمنين وجزيل إحسانه فاغرورقت عيناه بالدموع وفاضت طمعًا في ثواب ربه وغفرانه وخوفًا من عذابه وأليم عقابه لم يفعل ذلك رياء وسمعة بمشهد أحد من الناس مما يدل على صدق تأثره وعمق رهبته، وفي الحديث «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع» (2) فكل واحد من هؤلاء السبعة في الذروة من التقوى والصلاح والمنزلة العليا من منازل الأبرار والمتقين لذلك كلأهم الله بحفظه وأحاطهم بحياطته، وأظلهم في ظل عرشه في يوم الحر الأكبر يوم لا ظل إلا ظله ومن كان في حفظ الله فلا خوف عليه (3) .
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- شدة حر يوم القيامة وأهواله.
2- إظلال الله لهؤلاء السبعة بسبب خوفهم من الله وطاعتهم وتقواه.
3- الحث على العدل في الأقوال والأفعال والأحكام وفضله.#
4-
فضل الشاب التقي النقي المطيع لله منذ الصغر الذي لم تدنسه الذنوب والآثام.
5- فضل ملازمة المساجد التي هي خير البقاع وأحبها إلى الله والحث على ذلك.
__________
(1) سورة البقرة آية 274.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(3) انظر الأدب النبوي ص 289 – 291.(1/328)
6- فضل الحب في الله والبغض في الله والحث على ذلك والترغيب فيه.
7- فضل الخوف من الله وعقابه والرغبة في ثوابه.
8- الحث على البعد عن أسباب الفتنة والمغريات بها.
9- الترغيب في الصدقة بإخلاص وإخفائها عن أعين الناس.
10- الحث على ذكر الله وذكر عظمته ووعده ووعيده وثوابه وعقابه.
11- فضل البكاء من خشية الله والحث عليه وخصوصًا في حال الخلوة والانفراد عن الناس.
12- فضل الحاكم العادل الذي يحكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويدافع عن عقيدتهم وإيمانهم ويحفظ لهم أموالهم وبلادهم وينشر الأمن فيما بينهم.
فهؤلاء الأنواع السبعة من الناس يظلهم الله تعالى في ظله في ذلك اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق في صعيد واحد وتدنو الشمس من رؤوسهم ويشتد الحر ويعظم الكرب حيث لا يجدون سقفًا يستظلون به ولا شجرًا يتفيئون ظلالها في هذا الوقت العصيب تؤخذ هذه الأصناف السبعة ويوقفون تحت العرش فلا يرون حرًا ولا شدة ولا بأسًا. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك واسقنا من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شربة لا نظمأ بعدها أبدًا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.#
تضعيف الحسنات بحسب النيات
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة. رواه البخاري ومسلم.(1/329)
قال النووي رحمه الله: فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله وتأمل هذه الألفاظ، وقوله «عنده» إشارة إلى الاعتناء بها، وقوله «كاملة» للتأكيد وشدة الاعتناء بها، وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها «كتبها الله عنده حسنة كاملة» فأكدها بـ «كاملة» وإن عملها كتبها سيئة واحدة، فأكد تقليلها بـ «واحدة» ولم يؤكدها بـ «كاملة» فلله الحمد سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق.
قوله صلى الله عليه وسلم «كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة» وروى البزار في مسنده (1) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال سبعة عملان موجبان وعملان واحدًا بواحد وعمل الحسنة فيه بعشرة وعمل الحسنة فيه بسبعمائة ضعف وعمل لا يعلم ثوابه إلا الله تعالى. فأما العملان الموجبان فالكفر والإيمان فالإيمان يوجب الجنة والكفر يوجب النار، وأما العملات اللذان هما واحدًا بواحد فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة ومن عمل سيئة كتب الله عليه سيئة واحدة، وأما العمل الذي بسبعمائة ضعف فدرهم الجهاد في سبيل الله قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } » سورة البقرة آية 261 ثم ذكر تعالى إنه يضاعف لمن#
__________
(1) ذكره عنه النووي في شرح الأربعين، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/182 عن ابن عمر وقال رواه الطبراني في الأوسط وفيه يحيى بن المتوكل وقد ضعفه جمهور الأئمة ووثقه بن معين في رواية وضعفه في أخرى وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2/205 وقال رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي، وهو في صحيح ابن حبان من حديث خريم بن فاتك بنحوه ولم يذكر فيه الصوم.(1/330)
يشاء زيادة على ذلك قال تعالى: { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } سورة النساء آية 40 فدلت الآية والحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إلى أضعاف كثيرة» أن العشر والسبعمائة كلمة ليست للتحديد وأنه تعالى يضاعف لمن يشاء ويعطي من لدنه ما لا يعد ولا يحصى فسبحان من لا تحصى آلاؤه ولا تعد نعماؤه فله الحمد والنعمة والفضل والشكر والثناء الحسن.
وأما السابع فهو الصوم يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» رواه البخاري ومسلم فلا يعلم ثواب الصوم إلا الله سبحانه وتعالى (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة» هذا بشرط أن يكون تركها لله خوفًا من عقابه ورغبة في ثوابه ولهذا جاء في بعض روايات الحديث: «إنما تركها من جرائي» أي من أجلي فأما من تركها عاجزًا عنها أو خوفًا من الناس في طلبها فهو بمنزلة فاعلها فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. وقوله «هم بها» أي نواها بقلبه والله الموفق.
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب النيات.
2- الإيمان بالقدر لقوله «كتب الحسنات والسيئات».
3- تضعيف الحسنات بحسب النيات إلى أضعاف كثيرة من غير حد.
4- تفاضل الحسنات بحسب تفاضل الأعمال.
5- تبديل السيئة بحسنة إذا تركت لله وتاب العبد منها.
6- جزءا السيئة بمثلها من غير مضاعفة.
7- لطف الله بخلقه ورحمته بهم وإحسانه إليهم.#
تحريم الظلم وتنزيه الله نفسه عنه
وفقر العباد إلى الله وغناه عنهم
__________
(1) انظر شرح الحديث السابع والثلاثين من الأربعين النووية.(1/331)
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم.
وقوله تعالى: «إني حرمت الظلم... إلخ» الظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد نزه الله نفسه عن الظلم قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } سورة يونس آية 44 { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } سورة النساء آية 40 .(1/332)
وحرم تعالى ظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم فحرم الظلم بأكل أموال الناس وأخذه ظلمًا، وظلمهم بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء ويدخل في ذلك الخائن والسارق وآكل الربا وآكل مال اليتيم وشاهد الزور ومن استعار شيئًا فجحده وآكل الرشوة ومنقص الكيل والوزن ومن باع شيئًا فيه عيب فغطاه والمقامر والساحر والمنجم والمصور (1) . قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } سورة إبراهيم آية 42#
__________
(1) انظر كتاب الكبائر للذهبي ص117.(1/333)
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } سورة الشورى آية 42 { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } سورة الشعراء آية 227 وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } رواه البخاري ومسلم. والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا وهو الشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وديوان لا يترك الله منه شيئًا وهو ظلم العباد بعضهم بعضًا فإن الله تعالى يستوفيه كله، وديوان لا يعبأ الله به أي لا يبالي به شيئًا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل وهذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محوًا فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك بخلاف الشرك فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد. وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها واستحلال أربابها. قوله: «فلا تظالموا» أي لا يظلم بعضكم بعضًا قوله: كلكم ضال: أي تائه في الضلالات والجهالات «فاستهدوني» أي اسألوني الهدى أهدكم، قوله: «فاستغفروني» أي اسألوني المغفرة لذنوبكم وخطاياكم أغفر لكم، وقوله: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم....(1/334)
إلخ» قد دلت الأدلة السمعية والعقلية على أن الله غني بذاته عن كل شيء، وعلى فقر الخلائق إليه من كل وجه لأنه تعالى هو الذي خلقها ورزقها وملكها وتصرف فيها وفق مشيئته وإرادته، قال تعالى: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } سورة هود آية 6 وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } سورة فاطر آية 15 فالخلق فقراء إليه على كل حال من أحوالهم في إيجادهم وإعدادهم وإمدادهم وخلقهم ورزقهم وحياتهم وموتهم وهو الغني عنهم بكل حال لا يتكثر بشيء من مخلوقاته { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } سورة الإسراء آية 111 فوصف العز ثابت له أبدًا ووصف الذل منتف عنه تعالى: ومن كان كذلك فهو مستغن عن طاعة المطيع ولو أن الخلق كلهم أطاعوه كطاعة أتقى رجل وبادروا إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه ولم يخالفوه لم ينفعه ذلك ولم يكن زيادة في ملكه، وطاعته إنما حصلت بتوفيقه وإعانته وهي نعمة منه عليهم.
ولو أنهم كلهم عصوه كمعصية أفجر رجل وهو إبليس وخالفوا أمره ونهيه لم يضره ذلك ولم ينقص من ملكه شيئًا فإنه لو شاء أهلكهم وخلق غيرهم فسبحان من لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية. قوله: «فمن وجد خيرًا فليحمد الله» أي على توفيقه وهدايته لطاعته «ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» حيث أعطاها مناها واتبع هواها وأهمل العناية بها والعمل لإسعادها.#
ما يستفاد من هذا الحديث العظيم:
1- تنزيه الله نفسه عن الظلم: { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } سورة يونس آية 44.
2- تحريم الظلم بأنواعه بين الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
3- ضلال الخلق كلهم إلا من هداه الله.
4- الحث على سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم والدين القويم.(1/335)
5- الناس كلهم عراة إلا من كساه الله حسيًا ومعنويًا ظاهرًا وباطنًا.
6- الحث على سؤال الله لباس التقوى ولباس البدن الذي يجمله ويواري عورته.
7- الناس كلهم جياع إلا من أطعمه الله.
8- الحث على سؤال الله من فضله ورزقه.
9- خطأ العباد بالليل والنهار في غفلتهم عن عبادة الله وذكره وتقصيرهم في ذلك وفي ارتكابهم المحرمات في المأكل والمشرب وفي الكلام المحرم وفي النظر المحرم والسماع المحرم ونحو ذلك.
10- أن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب إليه منها واستغفر.
11- الحث على الندم والاستغفار والتوبة آناء الليل والنهار إلى الله التواب الغفار.
12- أن العباد لا يستطيعون أن يضروا الله ولا ينفعوه.
13- أن معاصي العباد لا تنقص ملكه ولا تزيده طاعتهم.
14- أن الله تعالى لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي.
15- أن رزق الله لجميع خلقه وإعطائهم ما سألوه لا يغيظ خزائنه ولا ينقص ما عنده كما أن الإبرة إذا غمست في الماء ثم نزعت منه لا تنقصه.
16- أن أعمال العباد تحصى عليهم ثم يوفون جزاءها من خير وشر { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } سورة الزلزلة آية 7 – 8.
17- فقر العباد إلى الله وغناه عنهم.#
- 12 -
من عادى وليًا لله فقد حارب الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولإن سألني لأعطيته ولإن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه» رواه البخاري.(1/336)
هذا حديث شريف جليل وهو أشرف حديث في أوصاف الأولياء وفضلهم، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } سورة يونس آية 62 – 64 فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا.
قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» أي أعلمته بأني محارب له، فأخبر أن معاداة أوليائه معاداة ومحاربة له، ومن كان متصديًا لعداوة الرب ومحاربة مالك الملك فهو مخذول. فالله تعالى إذا حارب العبد أهلكه، ومن تكفل الله بالذب عنه فهو منصور. ثم ذكر صفات الأولياء الكاملة وأن أولياء الله هم الذين يتقربون إلى الله أولا بأداء الفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة، ثم ينتقلون من هذه الدرجة إلى التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإن كل جنس من العبادات الواجبة مشروع من جنسه نوافل فيها فضائل عظيمة تكمل الفرائض وتكمل ثوابها. فأولياء الله قاموا بالفرائض والنوافل فتولاهم
وأحبهم وسهل لهم كل طريق يوصلهم إلى رضاه ووفقهم وسددهم في جميع حركاتهم فإن سمعوا سمعوا بالله وإن أبصروا أبصروا بالله وأن بطشوا ومشوا ففي طاعة الله.
فمن صلى النوافل مع الفرائض يكون أحب إلى الله، فإذا أحب عبده شغله بذكره وطاعته وحفظه من الشيطان، واستعمل أعضاءه في#(1/337)
الطاعة وحبب إليه سماع القرآن والذكر وكره إليه سماع الغناء وآلات اللهو وصار من الذين قال الله فيهم: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } سورة الفرقان آية 72 { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } سورة القصص آية 55 { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } سورة المؤمنون آية 3 وحفظ الله بصره عن المحارم فلا ينظر إلى ما لا يحل له وصار نظره نظر فكر واعتبار فلا يرى شيئًا من المخلوقات إلا استدل به على خالقه، وتصير حركاته باليدين والرجلين كلها لله تعالى لا يمشي فيما لا يعنيه ولا يفعل بيديه شيئًا عبثًا، بل تكون حركاته وسكناته لله فيثاب على ذلك في حركاته وسكناته وفي جميع أفعاله وسائر أحواله، ومع تسديد الله لأوليائه في حركاتهم وسكناتهم جعلهم مجابي الدعوة، إن سألوه أعطاهم مصالح دينهم ودنياهم، وإن استعاذوه من الشرور أعاذهم. ومع ذلك لطف بهم في جميع أحوالهم ولولا أنه قضى على عباده بالموت لسلم منه أولياؤه لأنهم يكرهونه لمشقته وعظمته وشدة كروبه والله يكره مساءتهم ولكن قضاؤه نافذ لابد منه (1) .
ما يستفاد من هذا الحديث الشريف:
1- صفة أولياء الله وفضائلهم المتنوعة.
2- محبة الله لأوليائه المؤمنين التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون.
3- أن الله مع أوليائه المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم ومسددهم ومجيب دعواتهم واللطيف بهم في كل أحوالهم.
4- إثبات صفة محبة الله وتفاوتها لأوليائه بحسب مقاماتهم.
5- وصف الأولياء المؤمنين بالإكثار من النوافل بعد الفرائض.
6- أن الفرائض مقدمة على النوافل وأحب إلى الله وأكثر أجرًا وثوابًا.
7- أنه عند تزاحم الفروض والنوافل تقدم الفرائض على النوافل.
8- أنه من عادى وليًا لله فقد حارب الله ومن حارب الله فهو مهزوم.
9- تحذير الإنسان من التعرض لكل مسلم بالمحاربة والأذى.
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 313 وبهجة قلوب الأبرار لابن سعدي ص 110 – 112.(1/338)
10- الحث على محبة أولياء الله وموالاتهم فالمرء مع من أحب يوم القيامة.#
- 13 -
من أسباب العذاب
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وأنه قال لنا ذات غداة إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ههنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى، قال: قلت لهما سبحان الله! ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود إليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى.(1/339)
قال قلت: سبحان الله! ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل بناء التنور، وإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا قال قلت: من هؤلاء؟ قال فقالا لي انطلق انطلق قال فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، فإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه، فيلقمه حجرًا فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغرله فاه فألقمه حجرًا قال قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلا وإذا هو عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال قلت لهما ما هذا قال قالا لي. انطلق انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان ما رأيتهم قط قال قلت ما هذا؟ وما هؤلاء؟ قال قالا لي انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن، قال قالا لي ارق#(1/340)
فيها. فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة قال فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر منهم كأقبح ما أنت راء قال قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر قال وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قال فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء قال قالا لي هذاك منزلك قال قلت لهما بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا أما الآن فلا وأنت داخله، قال قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة عجبًا فما هذا الذي رأيت؟ قال قالا لي أما إنا سنخبرك. أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا وأما الرجل الكريه المرآة المنظر، الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة -وفي رواية البرقاني: ولد على الفطرة -فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأولاد المشركين وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا... تجاوز الله عنهم» رواه البخاري.
معاني المفردات اللغوية:
يثلغ رأسه: يشدخه ويشقه.
يتدهده: يتدحرج.
الكلوب: المنشار أو شبهه.
يشرشر: يقطع.
ضوضوا: صاحوا.
فيفغر: أي يفتح.
كريه المرآة: أي كريه المنظر.(1/341)
يحشها: يوقدها.#
معتمة: وافية النبات طويلته.
المحض: اللبن.
سما بصري: ارتفع.
الدوحة: الشجرة الكبيرة.
صعدا: مرتفعًا.
الربابة: السحابة.
شرح الحديث:
رؤيا الأنبياء حق وتعتبر من أنواع الوحي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا أناسًا يعذبون بأنواع العذاب بسبب جرائم ارتكبوها فذكر من أسباب العذاب رفض القرآن بعدم تلاوته وترك العمل به والنوم عن الصلاة المفروضة، ومن أسباب العذاب الكذب على الله أو على رسوله أو على عباده المؤمنين في الأخبار والأحكام وغير ذلك وهو من صفات المنافقين، قال تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } الزمر آية 60 وقال تعالى { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ } النحل آية 105 وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } النحل آية 116 وقال صلى الله عليه وسلم: «إن كذبًا علي ليس ككذب على غيري، من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري ومسلم والترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» رواه البخاري ومسلم.(1/342)
ولما كان الكذب ينتشر في الآفاق والجهات عوقب الكذاب من جنس عمله بشق شدقيه وعينيه ومنخريه إلى قفاه وصار متصفًا بالنفاق والفجور الذي هو طريق إلى نار جهنم فينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه عن الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة فإن في السكوت سلامة والسلامة لا يعد لها شيء، ومن أسباب العذاب ارتكاب فاحشة الزنا، قال تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } الإسراء آية 32 وقال تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } سورة النور آية 2. قال العلماء: هذا عذاب الزانية والزاني في الدنيا إذا كانا عزبين غير متزوجين فإن كانا متزوجين أو قد تزوجا ولو مرة في العمر فإنهما يرجمان بالحجارة إلى أن يموتا كذلك ثبت#(1/343)
بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» رواه البخاري ومسلم، وأنه قال: «من زنا أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه» (1) وقد قرن الله الزنا بالشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لذلك عوقب الزناة والزواني بالعذاب في ثقب مثل التنور يتوقد تحته نار يأتيهم لهبها وحرها حتى يصيحوا من شدة حره فهذا عذابهم إلى يوم القيامة نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ومن أسباب العذاب المذكور في هذا الحديث أكل الربا قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } آل عمران آية 130. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ } البقرة 278، 279. فالمرابي قد حارب الله ورسوله، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } البقرة آية 275. أي كما يقوم المصروع الذي يقوم تارة ويسقط أخرى وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ظهر في قوم الربا إلا ظهر فيهم الجنون» (2) . وأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم الحجارة وهو المال الحرام الذي جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار كما ابتلع الحرام في الدنيا. هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له.
ما يستفاد من الحديث:
__________
(1) أخرجه الحاكم ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة.
(2) رواه ابن ماجة والبزار والبيهقي والحاكم وقال على شرط مسلم.(1/344)
1- وعيد من رفض القرآن وأعرض عن قراءته وتدبره والتفكر في معانيه والعمل به.
2- وعيد من نام عن الصلاة المفروضة عياذًا بالله من ذلك.
3- وعيد أكلة الربا بأنواع العذاب.
4- وعيد الزناة والزواني بالعذاب في النار في سجن مثل التنور.
5- تحريم الكذب والوعيد الشديد عليه.
6- الترغيب في العمل الصالح المؤدي إلى الجنة والتحذير من عمل السوء المؤدي إلى النار عياذًا بالله منها ومما يقرب إليها من قول وعمل.#
7-
شرف وفضل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
8- قبح وبشاعة صورة مالك خازن جهنم.
9- علو منزلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ورفعتها عند الله.
10- أن أطفال المسلمين في الجنة وكذلك أطفال المشركين والله أعلم.
11- هذه الجرائم المذكورة في هذا الحديث من أكبر الكبائر المهلكة عياذًا بالله منها وقد ارتكبها أكثر الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.#
- 14 -
الخصال المنجية من عذاب الله(1/345)
عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وكنا في صفة بالمدينة فقال: «إني رأيت البارحة عجبًا رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله عز وجل فطرد الشيطان عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلتهب عطشًا وفي رواية يلهث عطشًا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسًا حلقًا حلقًا كلما دنا إلى حلقة طرد فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير فيها فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلا من أمتي يتقي بيده وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت سترة بينه وبين النار وظللت على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت يا معشر المسلمين إنه كان وصولا لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيًا على ركبتيه وبينه وبين الله عز وجل حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل، ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي قائمًا على شفير جهنم فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت(1/346)
رجلا من أمتي قد هوى في النار فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قائمًا على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف فجاءه حسن ظنه بالله عز وجل فسكن رعدته ومضى، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا#
فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة» رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب الترغيب في الخصال المنجية والترهيب من الخصال المردية، وبنى كتابه عليه وجعله شرحًا له وقال هذا حديث حسن جدًا.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعظم شأن هذا الحديث، قال ابن القيم: وبلغني عنه أنه كان يقول شواهد الصحة عليه.
هذا حديث جليل القدر عظيم الشأن كثير الفوائد ينبغي لكل مسلم حفظه وفهمه والعمل بما فيه من الخصال المنجية من عذاب الله فقد ذكر فيه ثماني عشرة خصلة كل واحدة صارت سببًا في نجاة المتصف بها من العذاب الذي كاد أن يهلكه وهي:(1/347)
1- بر الوالدين الذي صار سببًا في طول العمر وبركته ورد ملك الموت عنه، ففيه الترغيب في بر الوالدين بالقول اللطيف والفعل الجميل والمعاملة الحسنة والإكرام والاحترام والإجلال والتقدير وقد قال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } الإسراء 23، 24. وقد قرن تعالى حق الوالدين بحقه فقال: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } سورة لقمان آية 14 وقال صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين» (1) والحديث دليل على وجوب إرضاء الوالدين وتحريم سخطهما.
2- الثاني من الخصال المنجية الوضوء الذي صار سببًا للنجاة من عذاب القبر ففيه الترغيب في الوضوء وإسباغه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان» (2) وقد تقدم في حديث عمرو بن عبسة أن المتوضئ كلما غسل عضوًا من أعضائه تحاتت وتناثرت خطاياه من يديه ورجليه وعينيه وشعره.
3- وذكر الله تعالى الذي صار سببًا في حفظ الذاكر من الشياطين وطردهم عنه وقد تقدم في وصايا يحيى بن زكريا عليه السلام لبني إسرائيل قوله: «وآمركم أن تذكروا#
الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو سراعًا في أثره حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
__________
(1) أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.
(2) رواه مسلم.(1/348)
4- والصلاة من فرض ونفل صارت سببًا في إنقاذ المصلي من ملائكة العذاب، وفضل الصلاة عظيم وشأنها جسيم فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتكفر الذنوب والآثام وهي نور لصاحبها في وجهه وقلبه وفي قبره ويوم حشره ونجاة له يوم القيامة وقد شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في محوها للخطايا بالنهر الجاري الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات فيذهب بذلك درنه وأوساخه، قال صلى الله عليه وسلم: «كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» (2) فهي صلة بين العبد وربه وعلى قدر صلته بربه يفتح عليه من الخيرات أبوابها ويغلق عنه من الشرور أسبابها، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» (3) وفضائل الصلاة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
5- الخامسة مما ينجي من عذاب الله صيام رمضان الذي أسقى الصائم من العطش وأرواه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، وفي رواية: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي» وفي رواية: «لكل عمل كفارة إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به» (4) فلا يعلم ثواب الصوم إلا الله فإن الصوم من الصبر وقد قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } سورة الزمر آية 10.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مالك وأحمد وابن ماجة والدارمي وصححه الحاكم والمنذري.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.(1/349)
6- ومن المنجيات الغسل من الجنابة الذي قرب المغتسل من الرسول صلى الله عليه وسلم فأقعده إلى جنبه بعد ما طرد لأنه امتثل أمر الرسول بهذا الغسل واقتدى بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وهو أمانة في عنق صاحب الجنابة لا يطلع عليه إلا الله وهو يشبه الوضوء في تكفير الذنوب ويزيد عليه لأنه يعم جميع البدن والمشقة فيه أكثر، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } البقرة آية 222#
ولأن من عليه جنابة لا يقرأ القرآن ولا يمس المصحف ولا يلبث في المسجد ولا يصلي حتى يغتسل فالغسل يؤهله لكل ذلك فيجتمع له بسبب الغسل من الجنابة فضائل متعددة ومزايا كثيرة وخصوصًا مع النية الصالحة بالإضافة إلى نشاط البدن بسبب الاغتسال.(1/350)
7- ومن المنجيات الحج والعمرة حيث أخرجا الحاج والمعتمر من الظلمة المحيطة به وهي ظلمة الذنوب وأدخلاه في النور وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (1) «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (2) وفضائل الحج والعمرة كثيرة ففيهما تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات ورفع الدرجات كسائر النوافل والواجبات إلى أنه يجتمع في الحج والعمرة من العبادات البدنية والمالية والقولية والاعتقادية والعملية ما لا يجتمع في غيرهما، وفي الحديث أيضًا: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (3) والحج المبرور هو الذي لا يقع فيه معصية قولية أو فعلية. وعن بعض السلف وروي مرفوعًا: «ما يصنع من يؤم هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال ورع يحجزه عما حرم الله، وحلم يضبط به جهله، وحسن صحبة لمن يصحب وإلا فلا حاجة لله بحجه» (4) فهذه الثلاث كالشروط في المغفرة والمضاعفة. وقيل بر الحج إطعام الطعام وإفشاء السلام وطيب الكلام. وقيل بر الحج بذل الزاد وقلة الخلاف مع الأصحاب. وكل ذلك مطلوب ومقصود وفي الحديث: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض وكل معروف صدقة» (5) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) رواه الترمذي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(3) ذكره ابن رجب في اللطائف ص 246.
(4) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(5) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما.(1/351)
8- وصلة الرحم شفعت لصاحبها حتى كلمه المؤمنون وصافحوه بعد أن هجروه فلم يكلموه ولم يصافحوه، وصلة الرحم من أفضل الأعمال والمراد بالرحم القرابة كالأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة وأبناؤهم وكالجد والجدة ونحو ذلك يصلهم#
بالطعام والشراب والكسوة والسلام والإكرام والاحترام وما يحتاجون إليه إذا كانوا فقراء. وقد قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } النساء آية 1. أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } محمد: 22 – 23 وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» (1) فمن وصل رحمه وصله الله ومن قطعها قطعه الله فإن الجزاء من جنس العمل.
9- ومن المنجيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنقذ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من ملائكة العذاب وأدخلهم في ملائكة الرحمة. والمعروف ما عرف حسنه في الشرع من الأقوال والأفعال. والمنكر ما عرف قبحه شرعًا من ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات الأنبياء والمرسلين وصالحي المؤمنين لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الدين الإسلامي وبه إعزاز الدين وأهله وذلة الكفر وأهله وقد أثنى الله على هذه الأمة المحمدية بأنها خير أمة أخرجت للناس بسبب إيمانها بالله وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ } . آل عمران آية 110.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/352)
وحكم بالفلاح والفوز لمن دعى إلى الخير وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران آية 104. وجعله من صفات المؤمنين والمؤمنات فقال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } التوبة آية 71. ولعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم بسبب عصيانهم لله ورسله واعتدائهم على خلقه وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه وتولي كثير منهم للذين كفروا فكان عاقبة ذلك { أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } المائدة: 80. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» (1) ثم يدعونه فلا يستجيب لهم ويسألونه فلا يعطيهم ويستغفرونه فلا يغفر لهم، وقد وردت آيات#
وأحاديث كثيرة تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب القدرة باليد ثم باللسان ثم بالقلب ودلت على ثواب من فعله وعقاب من تركه مع القدرة ولكن بشرط أن يكون عليمًا بما يأمر به عليمًا بما ينهى عنه فيعرف المنكر قبل أن ينهى عنه ويعرف المعروف قبل أن يأمر به وأن يكون رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا بما ينهى عنه حليمًا فيما يأمر به حليمًا فيما ينهى عنه، وأن يكون عاملا بما يأمر به منتهيًا عما نهى عنه حتى يكون قدوة لغيره بأقواله وأفعاله وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.(1/353)
10- ومن المنجيات حسن الخلق حيث أدخل المتصف به على الله تعالى، وحسن الخلق عبارة عن امتثال ما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه في القرآن والسنة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن حيث يأتمر بأوامره وينزجر بزواجره ويسارع إلى ما حث عليه ويبتعد عما نهى عنه ويدخل في ذلك كظم الغيظ واحتمال الأذى والعفو عن المسيئين والإعراض عن الجاهلين، ومن أعظم محاسن الأخلاق أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } فصلت: 35. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: «الفم والفرج» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (2) ومن محاسن الأخلاق البشاشة وطلاقة الوجه ولين الجانب وإفشاء السلام وطيب الكلام وأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به من الأقوال والأفعال وفي الحديث: «حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق» (4) والبر عبارة عن وجوه الخير وأبوابه كلها من قول وعمل واعتقاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة» (5) .
وقال الشاعر:#
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(3) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأشار المنذري إلى ضعفه.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري ومسلم.(1/354)
11- ومن المنجيات الخوف من الله تعالى حيث أخذ صحيفة المتصف به من شماله فوضعها في يمينه وخوف الله يثمر الانكفاف عن معاصيه والمسارعة إلى ما يرضيه وهو من أنواع العبادة ومن شروط الإيمان قال تعالى: { فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } آل عمران: 175.
12- وقال تعالى: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } البقرة 40. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } الملك: 12. يخافون الله ولم يروه ويخافون عذابه ولم يروه، يخافونه سرًا كما يخافونه علانية ويعلمون أن الله يراهم ويسمع كلامهم ويعلم سرهم وعلانيتهم وأنه سوف يجازيهم بأقوالهم وأعمالهم من خير وشر لذلك خافوا عذابه ورجوا رحمته فإذا علم ذلك منهم أمن خوفهم وحقق رجاءهم وغفر لهم ورحمهم.(1/355)
13- ومن المنجيات الأفراط وهم الأولاد الذين ماتوا وهم صغار ثقلوا ميزان والدهم بعد ما خف بشرط أن يصبر ويحتسبهم ويحمد الله ويسترجع فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، ويعلم أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى وأن الأولاد عواري ولابد للعارية بأن تسترجع وفي الحديث: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون: نعم فيقول: فما قال عبدي فيقولون: حمدك واسترجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» (1) وقال صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم قالوا: واثنان قال: واثنان» (2) وقد قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } البقرة 155 – 157. وقال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر: 10. والصبر حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التسخط وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» (3) وأنه - صلى الله عليه وسلم - برئ أو#
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.(1/356)
لعن الصالقة والحالقة والشاقة (1) فالصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة فمن عمل هذا العمل فلا ثواب له بل عليه الإثم والعذاب اللعنة والسخط وفي الحديث: «إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط» (2) .
14- ومن المنجيات رجاء رحمة الله حيث أنقذ الراجي من نار جهنم قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } الكهف: 110. فرجاء رحمة الله يستلزم خوفه وطاعته بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى وفعل ما أوجب وترك ما حرم وقال صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» (3) قال ابن القيم: وينبغي أن يعلم أن من رجى شيئًا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور محبة ما يرجو وخوفه من فواته وسعيه في تحصيله بحسب الإمكان (4) ورجاء الله عبادة وصرفه لغيره شرك كما تقدم في الآية الكريمة. وينبغي للمؤمن أن يكون خائفًا من عقاب الله راجيًا ثوابه فإن مال إلى أحد الأمرين دون الآخر هلك فيجعلهما متزنين مثل كفتي الميزان قال ابن القيم: السائر إلى الله بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه فإن قطع رأسه مات وإن كسر أحد جناحيه سقط عن الطيران فهكذا المؤمن يعبد الله على المحبة لله والخوف من عقابه والرجاء لثوابه (5) .
__________
(1) في الحديث الصحيح المتفق عليه.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(4) انظر الجواب الكافي لابن القيم ص40.
(5) انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/517.(1/357)
15- والبكاء من خشية الله تعالى أنقذ الباكي من النار بعد أن هوى فيها، والباكي من خشية الله هو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فإذا ذكر شدة عقاب الله لمن عصاه وكثرة ثوابه لمن أطاعه ثم ذكر ذنوبه وتقصيره في حق الله رجى ثوابه وخاف عقابه ثم بكى على نفسه وتقصيره، وهذه صفة المؤمنين الذين إذا تليت عليهم آيات الرحمن زادتهم إيمانًا وخروا سجدًا وبكيًا وفي الحديث: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع» (1) وفيه أيضًا:#
«عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» (2) .
16- ومن المنجيات حسن الظن بالله تعالى: حيث سكن رعدة الخائف على الصراط حتى مضى إلى الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» (3) وفي حديث آخر« إن ظن بي خيرًا فله وإن ظن بي شرًا فله» (4) فالمؤمن يعمل صالحًا ويحسن ظنه بربه أن يغفر له فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } النساء: 40. وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } طه: 112. أي لا يخاف زيادة في سيئاته ولا نقصًا من حسناته بشرط أن يكون مؤمنًا يعمل أعمالا صالحة خالصة لله موافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولن يحسن الظن إلا من أحسن العمل.
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي.(1/358)
17- والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أقامت المصلي عليه على قدميه وأنقذته بعد ما كان يزحف أحيانًا ويتعلق أحيانًا، وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عظيم وشأنها جسيم وقد قال تعالى: { إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } الأحزاب: 56. وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا» (1) . وقال: «رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل علي» (2) وقال: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي» (3) وتجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وتتأكد يوم الجمعة وليلتها وعند ذكره وفي أول الدعاء وآخره وبعد الأذان وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تأدية لبعض حقه وتنمية لمحبته وفيها تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات ورفع الدرجات ورضا رب الأرض والسماوات وهي نور للمصلي عليه وسبب لشفاعته له يوم القيامة. قال ابن الجوزي في بستان الواعظين: في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عشر كرامات إحداهن صلاة الملك الجبار، والثانية شفاعة النبي المختار، والثالثة اقتداء بالملائكة الأبرار، والرابعة مخالفة المنافقين والكفار، والخامسة محو#
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/359)
الخطايا والأوزار، والسادسة قضاء الحوائج والأوطار، والسابعة تنوير الظواهر والأسرار، والثامنة النجاة من عذاب النار، والتاسعة دخول الجنة دار الرحمة والقرار، والعاشرة سلام الملك الغفار (1) صلى الله عليه وسلم عدد قطر الأمطار وعدد رمال الأودية والقفار وعدد ورق الأشجار وعدد زبد البحار وعدد مياه الأنهار وعدد مثاقيل الجبال والأحجار وعدد أهل الجنة وأهل النار وعدد الأبرار والفجار واجعل اللهم صلاتنا عليه سببًا للنجاة من عذاب النار ودخول الجنة دار القرار اللهم أمتنا على سنته، واحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، وأدخلنا الجنة مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا أرحم الراحمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
__________
(1) انظر بستان الواعظين لابن الجوزي ص297.(1/360)
18- ومن المنجيات الصدقة حيث صارت سترة بين المتصدق وبين النار وظللت على رأسه، وهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله حيث تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وقد تقدم في وصايا يحيى بن زكريا عليه السلام شيء من فضائل الصدقة وفوائدها، وفي الحديث: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» (2) وفي الحديث أيضًا: «أيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ أسقاه الله من الرحيق المختوم، وأيما مسلم كسى مسلمًا على عري كساه الله من حلل الجنة» (3) ، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - : أن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء (4) وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (5) وقال تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } البقرة 274.
19- ومن أعظم المنجيات شهادة أن لا إله إلا الله حيث فتحت لقائلها أبواب الجنة#
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أبو داود والترمذي قال الألباني وإسناده ضعيف.
(4) في الحديث الذي رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن غريب.
(5) في الحديث الذي رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/361)
وأدخلته فيها وهذه الكلمة العظيمة لأجلها خلقت الخليقة ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لأجلها شرع الجهاد فقامت بذلك الحجة على العباد وهذه الكلمة هي كلمة الإسلام وهي مفتاح الجنة دار السلام. وحقيقة هذه الكلمة «لا إله إلا الله» إفراده بجميع أنواع العبادات وتخصيصه بالقصد والإرادات ونفيها عما سواه من جميع المعبودات وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي لا يبقي في القلب شيئًا لغير الله ولا إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله به هذا هو حقيقة لا إله إلا الله، وأما من قالها بلسانه وناقضها بأفعاله لم تنفعه فمن صرف لغير الله شيئًا من العبادات وأشرك به أحدًا من المخلوقات فهو كافر وإن قال لا إله إلا الله، فيجب توحيد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة، وأن يخص بالذل والتعظيم والقصد والإرادة وأن يفرد بالتوكل والاعتماد عليه فهو أساس الملة والدين وهي حبل الله المتين وهي العروة الوثقى وهي كلمة التقوى، فمن نفى ما نفته، وأثبت ما أثبتته، وولى عليها وعادى، وأدى حقها وفرضها وقام بشروطها أدخلته الجنة. وشروط لا إله إلا الله ثمانية ذكرها بعضهم بقوله:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من ارتداد قد ألها
الأول: العلم المنافي للجهل لأن بعض من يقولها يكون جاهلا بمعناها وما دلت عليه الذي هو النفي والإثبات وأنه لا معبود بحق إلا الله.
الثاني: اليقين المنافي للشك لأن بعض من يقولها يكون شاكًا بمعناها
ومدلولها.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك لأن بعض المشركين يقولونها وهم يفعلون أنواع الشرك بالقول أو بالعمل أو بالاعتقاد فيدعون ويسألون غير الله ويلجأون إلى غير الله في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ويذبحون لغير الله(1/362)
من الأولياء والمقبورين الذين يعتقدون فيهم النفع والضر ويتوكلون ويعتمدون على غير الله في ما يرجون أو يخافون وكل هؤلاء لا ينفعهم قول لا إله إلا الله لعدم
إخلاصهم لله.
الرابع: الصدق المنافي للكذب لأن بعض من يقولها يكون كاذبًا في قوله لعبادته غير الله وتألهه لغيره.#
الخامس: المحبة النافية للبغض والكراهة لأن بعض من يقولها يكون مبغضًا لها. ودليل المحبة المتابعة والطاعة، قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } آل عمران آية 31.
وقال الشاعر:
شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا عصيان
فإذا أدعيت له المحبة مع خلا ... فك ما يحب فأنت ذو بهتان
وقال آخر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا محال في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته ... أن المحب لمن يحب مطيع
السادس: الانقياد المنافي للترك لأن بعض من يقولها لا ينقاد لما دلت عليه من الحب والبغض والفعل الترك والولاء والبراء، يقولها ويترك عبادة الله.
السابع: القبول لها المنافي للرد؛ لأن بعض من يقولها يرد على من دعاه إلى العمل بها وبلوازمها وحقوقها.
الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله فلا ينفع قوله لهذه الكلمة إلا بالكفر بالطاغوت، قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (1) فلا يكون مستمسكًا بهذه العروة الوثيقة حتى يكفر بالطاغوت وهو ما عبد من دون الله أيًا كان نوعه، وحتى يؤمن بالله بالقول والعمل والاعتقاد.
__________
(1) سورة البقرة آية 256.(1/363)
قال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل» (1) فلم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، ولا معرفة معناها مع لفظها، ولا الإقرار بذلك، ولا كونه يدعو ولا يعبد إلا الله فلا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه. فيا لها من كلمة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع وقال أبو هريرة يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» (2) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله#
ولا تكون لمن أشرك بالله. وفي الحديث: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» (3) وفي حديث آخر: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا اله خالصًا من قلبه» وفي رواية «مخلصًا من قلبه» وفي رواية «غير شاك دخل الجنة» (5) وهذه الروايات ترجع إلى ما ذكر من شروطها جعلنا الله ممن أخلصها وصفاها وقام بشرائطها واستوفاها وأدى حقوقها ووفاها وجانب نواقضها وتوقاها، ووفقنا لمعرفة معناها والعمل ظاهرًا وباطنًا بمقتضاها ولقي الله بها وقد أخلصها وصفاها ومن شوائب الشرك طهرها ونقاها فأمن شدائد القيامة وشقاها. آمين يا رب العالمين وأرحم الراحمين وإله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين#
- 15 -
السبع المهلكات والجرائم الموبقات
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري والنسائي وأحمد وصححه ابن حبان.
(3) رواه أبو داود في سننه والحاكم وقال صحيح الإسناد.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البزار في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/364)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات: قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحسنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه.
معاني المفردات:
اجتنبوا: ابتعدوا.
الموبقات: المهلكات.
الشرك بالله: صرف العبادة لغير الله.
السحر: عبارة عما خفي ولطف سببه وهو عزائم ورقى يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه بإذن الله تعالى.
الربا: في اللغة: الزيادة، وفي الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة.
اليتيم: من فقد أباه وهو صغير دون البلوغ.
التولي يوم الزحف: الإعراض والإدبار عن الكفار وقت التحام القتال وتقارب الصفوف يوم جهاد الكفار.
قذف المحسنات: رمي النساء العفيفات بالزنا.
الغافلات: اللاتي لا يفكرن في الفواحش.
المؤمنات: المصدقات بالله ورسوله وكتابه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه.
الشرح:
يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن الجرائم المهلكات المترتب عليها الوعيد الشديد فأولها وأعظمها الشرك بالله تعالى وهو نوعان: أحدهما شرك أكبر يخرج من الملة الإسلامية ويوجب الخلود في النار لمن لم يتب منه وهو صرف العبادة لغير الله كائنًا من#(1/365)
كان في القول أو العمل أو الاعتقاد كدعاء غير الله أو الذبح لغيره أو التوكل والاعتماد على غيره في جلب نفع أو دفع ضر أو حصول نصر، وكذلك يكون الشرك في المحبة لغير الله كما يحب أو الخوف والرجاء من غيره فأي نوع من أنواع العبادة صرف لغير الله كان ذلك شركًا به أكبر، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } النساء 48 { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } المائدة 72 فمن أشرك بالله ثم مات مشركًا فهو من أصحاب النار كما أن من آمن بالله ثم مات مؤمنًا فهو من أصحاب الجنة وإن عذب بالنار.
والنوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الأكبر ولم تبلغ رتبة العبادة كالرياء وهو إظهار العمل ليراه الناس، والسمعة وهي إظهار العمل ليسمعه الناس، والتصنع للخلق بملاحظتهم وقت العبادة، وكالحلف بغير الله كالنبي والكعبة والأمانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (1) ومن ذلك قوله ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وأنا بالله وبك، والواجب أن يؤتى بثم فيقال لولا الله ثم أنت وأنا بالله ثم بك. قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } الكهف 110 أي لا يرائي بعمله أحدًا ولا يقصد به غير الله، وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (2) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.(1/366)
وقال صلى الله عليه وسلم: «رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» (1) يعني إذا لم تكن الصلاة والصوم لوجه الله فلا ثواب له وفي الحديث: «من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك» (2) .
وقال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } الفرقان 23 يعني الأعمال التي عملوها لغير وجه الله أبطلنا ثوابها وجعلناها كالهباء المنثور وهو الغبار الذي يرى في شعاع الشمس فالشرك بالله واتخاذ الأنداد والوسطاء والأولياء والشفعاء ودعاؤهم في
الملمات كما يدعى الله وعبادتهم كما يعبد والتقرب إليهم بالقرابين والنذر وأنواع التقديس وتلك أكبر جريمة أن تجعل لمن خلقك ندًا تدعوه أو ترجوه أو تخافه أو تحبه كمحبة الله فتشرك به ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
__________
(1) رواه بن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري قال في الفتح الرباني 10/76 وإسناده حسن.
(2) رواه أحمد مشكاة المصابيح 3/1465 حديث رقم 5331.(1/367)
أو وتشرك به أمواتًا غير أحياء عجزة غير أقوياء أو تشرك به من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا وربك أقرب إليك من حبل الوريد قد فتح بابه للسائلين وأظهر غناه للراغبين ووعد بالإجابة للداعين فادع الله وحده مخلصًا له الدين، وصدق قولك بعملك: «إياك نعبد وإياك نستعين» ولما كان الشرك بالله أعظم الذنوب عند الله عز وجل حرم الجنة على أهله فلا يدخل الجنة نفس مشركة وإنما يدخلها أهل التوحيد والإخلاص لله في القول والعمل والاعتقاد فإن التوحيد هو مفتاح باب الجنة فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به. وأسنان هذا المفتاح هي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وبر الوالدين ونحو ذلك فأي عبد اتخذ له في هذه الدار مفتاحًا صالحًا من التوحيد وركب فيه أسنانًا من الأوامر جاء يوم القيامة إلى الجنة ومعه مفتاحها الذي لا يفتح إلا به فلم يعقه عن الفتح عائق اللهم إلا أن يكون له ذنوب وخطايا وأوزار لم يذهب عنه أثرها في هذه الدار بالتوبة والاستغفار فإنه يحبس عن الجنة حتى يطهر منها فإن الجنة دار الطيبين الذين طابت أقوالهم وأعمالهم في هذه الدار فطاب لهم النعيم في دار القرار قال تعالى: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } النحل 32 وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } الزمر: 73 وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأفعال والمآكل والمشارب. ودار الخبيثين فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون.(1/368)
الثانية من المهلكات:
السحر: وهو ذنب كبير وإثم عظيم، وهو كما تقدم عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه عزائم ورقى تؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، قال تعالى: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } الفلق: 4 وهن السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيوط، وفي الحديث: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك» (1) #.
فالسحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن جهة ما فيه من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والساحر لابد وأن يكفر كما قال تعالى: { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ... إلى قوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } البقرة: 102. وما للشيطان الملعون غرض في تعليم الإنسان السحر إلا ليشرك بالله، وحد الساحر القتل وفي الحديث: «حد الساحر ضربه بالسيف» (2) .
الثالثة من المهلكات:
قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق:
قال تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } النساء: 93.
__________
(1) قال في فتح المجيد ص 296 رواه النسائي وحسنه ابن مفلح.
(2) رواه الترمذي وقال الصحيح أنه موقوف المصدر السابق ص 291.(1/369)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» متفق عليه من حديث أبي بكرة، والحق الذي يبيح قتل النفس الكفر بعد الإسلام والزنا بعد الإحصان، والقصاص بشروطه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا» (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه نسأل الله العافية، فقتل النفس المحرمة وإزهاق الروح الآمنة البريئة وإراقة الدماء الطاهرة الزكية فتلك جريمة ترفع الأمن وتنشر الخوف وتفتك بالأمة وتضعفها وتقطع روابط الإخاء بينها تلك الجريمة المرملة للنساء الميتمة للأطفال الزارعة للإحن والعداوات تلك التي يقول الله فيها: { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } المائدة 32 تلك الجريمة التي لا تخطر على قلب مؤمن { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطًَا } النساء 92 وقتل النفس يشمل قتل العدوان وقتل الأولاد خشية الفقر ووأد البنات خشية العار فالنفس الإنسانية محترمة إلا إن كانت نفسًا شريرة مجرمة مفسدة فإن دواءها إراحة المجتمع منها فالقاتل يقتل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } البقرة 179 والزاني المحصن إذا انتهك عرض امرأة وارتكب الفاحشة يرجم والمرتد عن الإسلام التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين في عقائدهم وأقوالهم المحارب لله ورسوله الساعي في الأرض فسادًا يقتل.#
الرابعة من المهلكات:
__________
(1) رواه أبو داود والإمام أحمد والنسائي والحاكم وقال صحيح وأقره الذهبي (في فيض القدير 5/20).(1/370)
أكل الربا وهو ثلاثة أنواع: ربا الفضل وربا النسيئة وربا القرض، فربا الفضل كأن يبيعه مائة بمائة وعشرين من جنسها، وربا النسيئة كأن يبيعه صاعًا بصاعين مؤجلا أو حالا لم يقبض ولو كان من غير جنسه فإذا بيع الشيء بجنسه اشترط فيه شرطان المماثلة والقبض في مجلس العقد قبل التفرق وإذا بيع بغير جنسه جاز فيه التفاضل بشرط التقابض في مجلس العقد لقوله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» (1) والنوع الثالث ربا القرض كأن يقرضه قرضًا ويشترط عليه منفعة أو بيعًا أو شراء فكل قرض جر نفعًا فهو ربا. والربا ظلم للإنسان وأكل لماله بالباطل ومحاربة لله ورسوله وموجب للخلود في النار إذا لم يمنع من ذلك مانع. وأن الربا ماحق للمال مذهب للبركة ونازع للرحمة وموجب للعداوة: { يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } البقرة: 276.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت.(1/371)
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } آل عمران 130. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ } البقرة 278-279. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى أن تقوم الساعة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم الحجارة وهو المال الحرام الذي جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقمه حجارة من نار كما ابتلع الحرام في الدنيا (1) . هذا العذاب له في البرزخ مع لعنة الله له. نسأل الله العافية.
الخامسة من المهلكات:
أكل مال اليتيم ظلمًا: وكان واجبًا على الناس أن يكفلوه وينموا ماله ويرعوه ويساعدوه حتى يبلغ رشده ولكن هناك نفوسًا خبيثة تنتهز فرصة الصغر والضعف فتأكل أموال اليتامى إسرافًا وبدارًا أن يكبروا، وفيهم يقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ#
__________
(1) كما في حديث سمرة بن جندب الطويل في قصة العصاة الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام يعذبون بأنواع العذاب بحسب جرائمهم رواه البخاري.(1/372)
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } النساء: 10 وهل ترضى أن يكون لك ذرية ضعاف تتركهم صغارًا تموت عنهم فيأتي ظالم يجتاح ثروتهم، إذا كنت تخاف عليهم ذلك وتمقته فلماذا لا تمقته من نفسك لأولاد غيرك؟ قال تعالى: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا } النساء:9، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها» (2) وكفالة اليتيم هي القيام بأموره والسعي في مصالحه من طعامه وكسوته وتنمية ماله وفي الحديث: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» (3) .
السادسة من المهلكات:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه ابن ماجة.(1/373)
التولي يوم الزحف: الفرار من لقاء العدو والهرب من وجه الجيش المهاجم والعدم المناجز فإن ذلك جبن وإضعاف لشوكة المسلمين وفت في عضد المجاهدين وضياع البلاد وإضعاف الدين والقضاء عليه وفي ذلك تمكين الأعداء من دمائنا ونسائنا وأولادنا وفي ذلك الاستبعاد والاستذلال والقضاء على الحريات فبع نفسك واشتر بمالك ونفسك جنة عرضها السماوات والأرض، وما الشجاع إلا من يميت نفسه في سبيل الله في حياة دينه وإرضاء ربه وإن الموت لابد نازل فيها فليكن في سبيل الله في سبيل العزة والكرامة. وفي التولي يوم الزحف يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } الأنفال 15، 16 والمتحرف للقتال الذي يفر عن وجه العدو لخدعة حربية، والمتحيز إلى فئة من يفر عن وجه العدو لينضم إلى جماعة المجاهدين وجملتهم فهؤلاء لا حرج عليهم.
السابعة من المهلكات: وهي الأخيرة:
قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ#(1/374)
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } النور 23 – 25. وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } النور: 41. بين الله تعالى في هذه الآيات أن من قذف امرأة محصنة حرة عفيفة عن الزنا والفاحشة أنه ملعون في الدنيا والآخرة وله عذاب عظيم وعليه الحد في الدنيا ثمانون جلده وتسقط شهادته وإن كان عدلا والقذف أن يقول لامرأة حرة عفيفة مسلمة يا زانية أو يا باغية أو يا قحبة أو يقول لزوجها يا زوج القحبة أو يقول لولدها يا ولد القحبة أو يا ولد الزانية أو يقول لبنتها يا بنت الزانية أو يا بنت القحبة فإن القحبة عبارة عن الزانية. فإذا قال ذلك أحد من رجل أو امرأة لرجل أو امرأة وجب عليه الحد ثمانون جلدة إلا أن يقيم بذلك بينة والبينة كما قال الله أربعة شهداء يشهدون على صدقه فيما قذف به تلك المرأة أو ذلك الرجل. فإن لم يقم البينة جلد إذا طالبته بذلك التي قذفها وطالبه بذلك الذي قذفه (1) .
__________
(1) هذا مبني على أن الحد حق للمقذوف، وقيل يجلد القاذف وإن لم يطلب المقذوف لأن الحد حق لله.(1/375)
وكثير من الجهال واقعون في هذا الكلام الفاحش الذي عليهم فيه العقوبة في الدنيا والآخرة، ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» (1) ، وقال معاذ بن جبل يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: «ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» (2) . وقال عقبة بن عامر يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك علي لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك» (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (4) وقانا الله شر ألسنتنا بمنه وكرمه.
فيا أيها المسلم لا تدنس نفسك بهذه الموبقات فتوجب لها مقت الله ومقت الناس وتعرضها لشديد العذاب في الدنيا والآخرة بل اجعلها طاهرة نقية طيبة مهذبة متصفة بالخوف من عقاب الله والرجاء لثوابه والحياء منه ثم من خلقه متأدبة بآداب الشريعة الغراء متحلية بالأخلاق الفاضلة لا ترضى بالخير بديلا.#
تنبيه:
__________
(1) انظر كتاب الكبائر للذهبي ص 90 – 91.
(2) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. وانظر كتاب الكبائر للذهبي ص 90 – 91.
(3) رواه أحمد والترمذي.
(4) رواه البخاري ومسلم.(1/376)
ليس الغرض حصر الموبقات في هذه السبع بل الغرض التنبيه إلى أمثالها كالزنى والسرقة والخيانة في الأمانة ونحوها وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام واليمين الغموس وترك الصلاة ومنع الزكاة والإفطار من رمضان بلا عذر وترك الحج مع القدرة عليه والإلحاد في الحرم وشرب المسكرات وشهادة الزور والغيبة والنميمة والكذب على الله أو على رسوله أو في سائر الأخبار وغالب الأقوال ومفارقة جماعة المسلمين بالردة عن الإسلام وترك التنزه من البول والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله والإضرار في الوصية والجمع بين الصلاتين من غير عذر، فكل هذه من الكبائر المهلكات والموبقات المردية التي جاء فيها الوعيد الشديد بالعذاب الأليم وبعضها أكبر من بعض فترك أحد أركان الإسلام مع القدرة أكبر إثمًا من غيره وأشد عقوبة، وقد اختلف العلماء في حد الكبائر وعددها فقيل هي سبع وقيل سبعون، وقيل سبعمائة، والحد الجامع لذلك أن الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو عذاب أو نفي إيمان أو جاء فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة ونحو ذلك، وقد جمع من ذلك العلامة محمد بن أحمد الذهبي سبعين كبيرة من جنس ما ذكر وجمع من ذلك العلامة ابن حجر الهيتمي ما يزيد على أربع مائة كبيرة مرتبة على أبواب الفقه في كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر».
وقد ضمن الله لمن اجتنب الكبائر بتكفير سيئاته ودخول الجنة، قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } النساء: 31 كما أن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، فالتكفير مشروط باجتناب الكبائر فإذا اجتنبت الكبائر كفرت الصغائر بهذه الأعمال والله أعلم.
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عن ما يضرهم وبيان حكمة ذلك.(1/377)
2- وعيد من أشرك بالله شيئًا وهو أكبر الكبائر.
3- تحريم السحر والوعيد الشديد عليه وأنه من الكبائر المهلكات.
4- تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والوعيد الشديد على ذلك.
5- تحريم أكل الربا بأنواعه وأنه من الكبائر الموبقات وأن المتعامل به متوعد بالوعيد الشديد.#
6-
تحريم أكل مال اليتيم ظلمًا والتصرف فيه بغير حق.
7- تحريم الإدبار عن جهاد الكفار وقت التحام القتال.
8- تحريم قذف المحصنات الغافلات المؤمنات ورميهن بالزنا.
9- أن هذه الأشياء من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالعذاب الأليم لمن لم يتب منها.
10- شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته حيث حذرهم مما يهلكهم.#
- 16 -
شعب الإيمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه.(1/378)
هذا الحديث من جملة النصوص الدالة على أن الإيمان اسم يشمل عقائد القلب وإعماله وإعمال الجوارح وأقوال اللسان فكل ما يقرب إلى الله من قول وعمل مما يحبه ويرضاه من واجب ومستحب فإنه داخل في الإيمان وذكر هنا أعلاه وأدناه وما بين ذلك وهو الحياء ولعل ذكر الحياء لأنه السبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان فإن من استحيا من الله لكثرة نعمه عليه وسوابغ كرمه وجزيل هباته حيث خلقه ورزقه وأطعمه وسقاه وكساه وآواه ووفقه لما يحب وصرف عنه ما يكره وعلمه وفهمه، والعبد مع هذا كثير التقصير مع هذا الرب العظيم الجليل، يظلم نفسه ويجني عليها أوجب له هذا الحياء اجتناب المحرمات والمكروهات وفعل الواجبات والمستحبات. فأعلى هذه الشعب وأفضلها وأصلها وأساسها قول لا إله إلا الله صادقًا من قلبه بحيث يعلم ويوقن أنه لا يستحق العبادة غير الله وحده فإنه هو ربه الذي خلقه ورباه وربا جميع العالمين بنعمه وفضله وإحسانه والكل فقير إليه وهو الغني عما سواه والكل عاجز وهو القوي، ثم يقوم هذا العبد بعد شهادة أن لا إله إلا الله بتحقيق هذه الكلمة فيقوم في كل أحواله بعبودية ربه مخلصًا له الدين في قوله وعمله واعتقاده وفي حبه وبغضه وخوفه ورجائه وفي توكله ودعائه وسؤاله فلا يسأل ولا يدعو إلا الله ولا يرجو إلا إياه ولا يخاف
ولا يخشى أحدًا سواه فيخصه بالعبادة والاستعانة فلا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به محققًا قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن جميع شعب الإيمان فروع وثمرات
لهذا الأصل (1) ونبه بإماطة الأذى عن الطريق على جميع أنواع الإحسان القولي والفعلي الإحسان الذي فيه وصول المنافع والذي فيه دفع المضار عن#
__________
(1) انظر بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله ص 203.(1/379)
الخلق. وإذا علمنا أن شعب الإيمان كلها ترجع إلى هذه الشعب علمنا أن كل خصلة من خصال الخير فهي من شعب الإيمان سواء كانت قولية أو فعلية أو اعتقادية ظاهرة أو باطنة أو مالية فكل خصلة وردت عن الله ورسوله من واجب أو مستحب فهي من شعب الإيمان ونصيب العبد من الإيمان بقدر نصيبه من هذه الخصال قلة وكثرة وقوة وضعفًا وهي ترجع إلى تصديق خبر الله وخبر رسوله وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما وقد وصف الله الإيمان بالشجرة الطيبة أصلها ثابت في قلب المؤمن وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من الكلم الطيب والعمل الصالح (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون).
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- أن الإيمان قول واعتقاد وعمل.
2- فضل لا إله إلا الله حيث كانت أفضل وأعلى شعب الإيمان وأصلها وأساسها.
3- الحث على إماطة الأذى عن الطريق وأنه من شعب الإيمان.
4- أن الحياء من الإيمان وأن من اتصف به فقد قام بجميع شعب الإيمان ولهذا جاء في الحديث: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (1) .
5- أن شعب الإيمان بعضها يرجع إلى الإخلاص لله المعبود الحق وبعضها يرجع إلى الإحسان إلى الخلق.
تتمة:
حيث جاء في هذا الحديث عدد شعب الإيمان وحصرها فقد تكلم العلماء في تعيينها فمنهم من وصل إلى هذا المبلغ المقدر في الحديث ومنهم من قارب ذلك، وقد جمعها الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي صاحب السنن الكبرى وغيره المولود سنة 384 والمتوفى سنة 458 جمعها حتى وصلت هذا العدد 77 شعبة وأودعها
كتابه (شعب الإيمان) سبعًا وسبعين بابًا في ستة مجلدات ثم اعتنى بتفاصيل شروحها فصارت مفرقة في ذلك الكتاب ثم جاء الإمام أبو جعفر عمر القزويني
__________
(1) رواه البخاري.(1/380)
المتوفي سنة 699 فاختصرها وجمعها واستدل لكل شعبة منها بآية من كتاب الله أو حديث مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما زاد في بعض الشعب آية أو آيات أو حديثًا أو كلمات أو حكاية أو حكايات أو بيتًا من الشعر أو أبيات فأحببت أن أنقلها وأختصرها للقارئ بدون تلك الأدلة تتميمًا للفائدة#
ومن أراد الأدلة فليطلب ذلك الكتاب المختصر أي (مختصر شعب الإيمان) المطبوع من المكتبات.
1- الشعبة الأولى الإيمان بالله عز وجل.
2- الثانية الإيمان برسل الله عليهم الصلاة والسلام.
3- الثالثة الإيمان بالملائكة الكرام.
4- الرابعة الإيمان بالقرآن وجميع الكتب المنزلة قبله من الله تعالى.
5- الخامسة الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
6- الإيمان باليوم الآخر ومعناه التصديق بأن لأيام الدنيا آخرًا وأنها منقضية.
7- الإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء.
8- الإيمان بحشر الناس بعد ما يبعثون من قبورهم إلى الموقف.
9- الإيمان بأن دار المؤمنين الجنة ودار الكافرين النار نعوذ بوجه الله منها.
10- الإيمان بوجوب محبة الله عز وجل.
11- الإيمان بوجوب الخوف من الله عز وجل.
12- الإيمان بوجوب الرجاء من الله عز وجل.
13- الإيمان بوجوب التوكل على الله عز وجل ومعناه تفويض الأمر والثقة به مع ما قدر من سبب.
14- الإيمان بوجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه.
15- الإيمان بوجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وهذه منزلة فوق المحبة إذ ليس كل محب معظمًا.
16- شح المرء بدينه حتى يكون القذف في النار أحب إليه من الكفر.
17- طلب العلم الصحيح وهو معرفة الله ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم ومعرفة دين الإسلام بالأدلة مع العمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه كما دلت على ذلك سورة العصر.
18- نشر العلم النافع وتعليمه من لا يعلمه وهو علم الكتاب والسنة.(1/381)
19- تعظيم القرآن المجيد بتعلمه وتعليمه وحفظ حدوده وأحكامه وعلم حلاله وحرامه وتبجيل أهله وحفاظه.
20- الطهارات من الأحداث والأنجاس فالله يحب المتطهرين.#
21-
أداء الصلوات الخمس مع الجماعة في حق الرجال { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } التوبة آية 18.
22- الزكاة والصدقة الواجبة والمستحبة.
23- الصيام الواجب والمستحب.
24- الاعتكاف وهو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى.
25- الحج الواجب والمستحب.
26- الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله.
27- المرابطة في سبيل الله تعالى وهي لزوم حدود البلاد الإسلامية لإخافة العدو.
28- الثبات للعدو وترك الفرار من الزحف.
29- أداء الخمس من المغنم إلى الإمام أو عامله.
30- العتق بوجه التقرب إلى الله تعالى.
31- الكفارات الواجبة وهي أربع: كفارة القتل الخطأ، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة اليمين.
32- الإيفاء بالعقود وهي ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن.
33- تعدد نعم الله عز وجل التي من أعظمها نعمة الإسلام والصحة في الأبدان والأمن في الأوطان وما يجب من شكرها.
34- حفظ اللسان عن ما لا يحتاج إليه فضول الكلام.
35- الأمانات وما يجب فيها من أدائها إلى أصحابها.
36- تحريم قتل النفوس بغير حق والجنايات عليها.
37- تحريم الفروج وما يجب فيها من التعفف وغض الأبصار.
38- قبض اليد عن الأموال المحرمة ويدخل فيها السرقة والربا والعش والرشا وما لا يستحقه شرعًا.
39- وجوب التورع في المطاعم والمشارب والاجتناب عما لا يحل منها.
40- تحريم الملابس والزي المخالف لزي المسلمين.
41- تحريم الملاعب والملاهي المخالفة للشريعة الإسلامية.
42- الاقتصاد في النفقات وتحريم أكل المال بالباطل كالغش والربا والرشوة.
43- ترك الغل والحقد والحسد ونحوها.
44- تحريم الوقوع في أعراض الناس كالغيبة والنميمة والسب ونحوها.#
45-(1/382)
إخلاص العمل لله عز وجل وترك الرياء.
46- السرور بالحسنة والاغتنام بالسيئة.
47- الذبائح التي يتقرب بها إلى الله عز وجل وهي الهدي والأضحية والعقيقة.
48- طاعة أولي الأمر وهم الأمراء والعلماء ما لم يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
49- التمسك بما عليه أهل السنة والجماعة من العلم والعمل والمعتقد والسمت والطاعة.
50- معالجة كل ذنب بالتوبة إلى الله تعالى والاستغفار فإن الله يتوب على من تاب ويغفر لمن استغفر.
51- الحكم بين الناس بالعدل قريبهم وبعيدهم وعدوهم وصديقهم.
52- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
53- التعاون على البر والتقوى.
54- الحياء وحقيقته فعل ما يجمل ويزين والابتعاد عن ما يدنس ويشين.
55- بر الوالدين والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال والطاعة لهما ما لم يأمرا بمعصية الله.
56- صلة الرحم وهي القرابة كالأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة وأبنائهم والإحسان إليهم بما يمكن بالمال والمساعدة والصدقة إذا كانوا فقراء وبالسلام والزيارة والهدية إذا كانوا أغنياء.
57- حسن الخلق ويدخل فيه كظم الغيظ ولين الجانب والتواضع، ومعنى حسن الخلق سلامة النفس نحو الأرفق والأحمد من الأفعال.
58- الإحسان إلى المماليك من الآدميين والبهائم.
59- حق السادة على المماليك وهو لزوم العبد سيده وطاعته في ما يطيقه.
60- أداء حقوق الأولاد والأهل وهي قيام الرجل على ولده وأهله وتعليمه إياهم من أمور دينهم ما يحتاجون إليه وتحذيرهم مما يضرهم.
61- مقاربة أهل الدين ومودتهم وإفشاء السلام بينهم والمصافحة لهم ونحو ذلك من أسباب تأكيد المودة.
62- رد السلام لقوله تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } النساء آية 86.
63- عيادة المريض لأنه من حق المسلم على أخيه المسلم.
64- الصلاة على من مات من أهل القبلة.#
65-(1/383)
تشميت العاطس إذا حمد الله أي الدعاء له بالرحمة والسداد وإزالة الشماتة.
66- مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم.
67- إكرام الجار لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (1) .
68- إكرام الضيف لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (2) .
69- الستر على أصحاب الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» (3) .
70- الصبر على طاعة الله بعدم تركها والصبر عن معاصيه بعدم فعلها والصبر على الأقدار المؤلمة والمصائب المزعجة بعدم تسخطها والصبر عن ما تنزع إليه النفس من لذة وشهوة محرمة.
71- الزهد في الدنيا وقصر الأمل.
72- الغيرة وترك المذاء وهو أن يجمع بين الرجال والنساء.
73- الإعراض عن اللغو وهو الباطل الذي لا يعنيه ولا يتصل بقصد صحيح ولا يكون لقائله فائدة.
74- الجود والسخاء وهو الإنفاق لله بالليل والنهار سرًا وعلانية في السراء والضراء والعسر واليسر.
75- رحمة الصغير وتوقير الكبير لحديث: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» (4) .
76- الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا والتقريب بينهم إذا تباعدوا.
77- أن يحب الشخص لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق المشار إليها في حديث أبي هريرة المتقدم «الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم#
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وهو كما قال انظر حاشية جامع الأصول 6/574.
(5) رواه البخاري ومسلم.(1/384)
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، متفق عليه وصلى الله وسلم على محمد.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا عن بابك مطرودين ولا من رحمتك آيسين ولا تجعل مصيبتنا في الدين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا قريب يا مجيب يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعال لما تريد ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم اللهم صل وسلم على محمد.#
- 17 -
الجليس الصالح والجليس السوء
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» متفق عليه.
اشتمل هذا الحديث على صفة الجلساء الصالحين وجلساء السوء ومثل النبي صلى الله عليه وسلم بهذين المثالين مبينًا أن الجليس الصالح جميع أحوالك معه وأنت في مغنم وخير وفي منفعة وفائدة وفي راحة وسلامة كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك إما بهدية أو بعوض أو هبة بمن أو بثمن وأقل ذلك مدة جلوسك معه وأنت قرير النفس برائحة المسك.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد...".(1/385)
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر الخالص فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك أو يهدي لك نصيحة أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام ويبصرك بعيوب نفسك ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال بقوله وفعله وحاله فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه والأرواح والطباع جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير وإلى ضده وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح أن تنكف بسببه عن السيئات والمعاصي رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك ومحبته لك. وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى وحسب المرء أن يعتبر بقرينه وأن يكون على دين خليله كما في الحديث: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (1) .
وقال الشاعر:#
واختر من الأصحاب كل مرشد ... إن القرين بالقرين يقتدي
وصحبة الأشرار داء وعمى ... تزيد في القلب السقيم السقما
فإن تبعت سنة النبي ... فاجتنبن قرناء السوء
وقال آخر في الحث على صحبة الأخيار:
وخير جليس المرء كتب تفيده ... علوما وآدابا كعقل مؤيد
وخالط إذا خالطت كل موفق ... من العلماء أهل التقى والتسدد
يفيدك من علم وينهاك عن هوى ... فخالطه تهدى من هداه وترشد
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه.(1/386)
وأما صحبة الأشرار فإنها بعكس جميع ما ذكر وهي مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم وشر على من خالطهم فكم هلك بسببهم أقوام وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون قال تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا } سورة الفرقان
آية 27 – 29 (1) .
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- الحث على اختيار الأصحاب الصالحين والتحذير من ضدهم.
2- من أعظم نعم الله على العبد المؤمن أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبة الله لعبده أن يبتليه بصحبة الأشرار.
3- صحبة الأخيار توصل العبد إلى أعلى عليين وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين.
4- صحبة الأخيار توصله إلى العلوم النافعة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وصحبة الأشرار تحرمه ذلك أجمع.#
مراجع كتاب
الكواكب النيرات في المنجيات والمهلكات
1- تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن".
2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
3- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
4- تفسير الخازن "لباب التأويل في معاني التنزيل".
5- تفسير ابن جزي الكلبي "التسهيل لعلوم التنزيل.
6- رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم للإمام النووي.
7- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار للشيخ عبد الرحمن السعدي.
8- الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم.
9- بدائع الفوائد لابن القيم.
10- زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم.
11- جامع العلوم والحكم للشيخ عبد الرحمن بن رجب.
12- مختصر شعب الإيمان لعمر القزويني.
__________
(1) انظر بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار لابن سعدي ص 177.(1/387)
13- الأدب النبوي لعبد العزيز الخولي.
رحم الله الجميع رحمة واسعة وغفر لنا ولهم ولوالدينا ولجميع المسلمين.
ملاحظة:
يرجى قراءته على الجماعة في المساجد وعلى الأهل والأولاد في البيوت... اللهم اغفر لمن كتبه أو قرأه أو طبعه إنك على كل شيء قدير.
فهرس الكتاب
الموضوع ... الصفحة
المقدمة................................................... ... 5
تفسير سورة الفاتحة...................................... ... 7
من سورة البقرة
1- أعمال المتقين وجزاؤهم.............................. ... 11
2- توحيد الله بربوبيته وإلاهيته........................... ... 15
3- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله................... ... 17
4- توحيد الله بالأدلة..................................... ... 19
5- النهي عن اتباع خطوات الشيطان..................... ... 22
6- الأمر بالأكل من الطيبات وشكر الله عليها............ ... 24
7- أنواع البر........................................... ... 26
8- قرب الله ممن دعاه وأسباب إجابة الدعاء............. ... 29
9- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل................... ... 31
10- الأمر بالدخول في الإسلام كله والنهي عن اتباع
خطوات الشيطان.......................................... ... 33
11- الإيمان والهجرة والجهاد............................. ... 35
12- الأمر بالمحافظة على الصلوات...................... ... 36
13- انتهاز الفرص بالإنفاق من رزق الله................. ... 38
14- أعظم آية في كتاب الله تعالى......................... ... 39
15- ثواب الإيمان والعمل الصالح......................... ... 42
16- الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإرشاد الله
إلى دعائه واستجابته...................................... ... 43
من سورة آل عمران
1- الإسلام هو الدين المقبول المرضي عند الله............ ... 45
2- انفراد الله بالملك والتصرف وقدرته على كل شيء.... ... 47(1/388)
3- دليل محبة الله........................................ ... 49
4- تقوى الله حق تقاته وشكر نعمه والاعتصام بحبله المتين ... 51
5- النهي عن أكل الربا................................... ... 53
6- أهداف ومقاصد رسالة الرسول محمد صلى الله
عليه وسلم ................................................. ... 58
من سورة النساء:
1- النهي عن أكل الأموال بالباطل وقتل النفس ووعيد من
فعل ذلك................................................... ... 60
2- تكفير الذنوب الصغائر لمن اجتنب الكبائر............. ... 62
3- آية الحقوق العشرة.................................... ... 63
4- عدم مغفرة الله لمن لقيه وهو مشرك................... ... 66
5- الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها......................... ... 68
6- طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم إيمان
من لم يرض بحكمه ويسلم الأمر........................... ... 71
7- الذين أنعم الله عليهم................................... ... 73
8- طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله........... ... 75
9- الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس
ابتغاء مرضاة الله......................................... ... 77
10- فضل الإيمان والعمل الصالح....................... ... 79
من سورة المائدة:
1- من أسباب الفوز والفلاح............................. ... 81
من سورة الأنعام:
1- مفاتح الغيب وإحاطة علم الله بكل شيء............... ... 82
2- وصية الله لخلقه وما حرم عليهم........................ ... 84
من سورة الأعراف:
1- الأمر بأخذ الزينة والأكل والشرب من الطيبات........ ... 88
2- من أدلة التوحيد...................................... ... 91
3- التحذير والتخويف من مخالفة أوامر الله والتجرؤ على محارمه ... 93
4- سعة رحمة الله وحصولها للمتقين...................... ... 94
5- التمسك بالكتاب وإقام الصلاة وثواب المصلحين........ ... 97(1/389)
6- إثبات الأسماء الحسنى الدالة على الصفات العليا لله تعالى........ ... 98
7- معاني حسن الخلق................................... ... 99#
من سورة الأنفال:
1- من صفات المؤمنين الكمل............................ ... 100
2- شر الدواب عند الله................................... ... 102
3- أداء الأمانات إلى أهلها وعدم الخيانة فيها............... ... 104
4- طريقة الشجاعة في الحرب وأسباب النصر والهزيمة... ... 106
من سورة التوبة:
1- معاوضة المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عن أنفسهم
وأموالهم بالجنة............................................ ... 108
من سورة الرعد:
1- الفرق بين أهل العلم والعمل وأهل الضلال والجهل..... ... 110
من سورة إبراهيم عليه السلام:
1- وصية الله لعباده المؤمنين بإقام الصلاة والإنفاق مما
رزقهم الله قبل ألا يقدروا على ذلك.......................... ... 113
من سورة النحل:
1- الأوامر والنواهي...................................... ... 115
من سورة الإسراء:
1- الإسراء والمعراج..................................... ... 117
2- حقوق الله وحقوق عباده................................ ... 119
3- وصية الله لعباده المؤمنين أن يقولوا الكلام الأحسن
في مخاطباتهم.............................................. ... 126
من سورة مريم:
1- إنذار الناس يوم الحسرة حين يقضى الأمر وهم في غفلة. ... 127
من سورة طه:
1- أسباب المغفرة.......................................... ... 128
من سورة الأنبياء:
1- اقتراب حساب الناس ومجازاتهم على أعمالهم وهم في
غفلة معرضون............................................ ... 132
من سورة الحج:
1- عظم زلزلة الساعة وأهوالها........................... ... 134#
من سورة المؤمنون:
1- من أوصاف المؤمنين................................ ... 136
2- الجمع بين الإحسان في عبادة الله والخوف من عقابه.. ... 139
من سورة الفرقان:(1/390)
1- صفات المؤمنين المتقين عباد الرحمن................. ... 141
من سورة الأحزاب:
1- أعمال المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم وثوابهم.......... ... 145
2- ذكر الله كثيرًا وتسبيحه بكرة وأصيلا.................. ... 148
3- مقاصد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأهدافها...... ... 151
4- الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.. ... 154
5- الأمر بتقوى الله وبالقول السديد وحسن عاقبتهما........ ... 156
من سورة فاطر:
1- التجارة الرابحة........................................ ... 157
من سورة الزمر:
1- مغفرة الله للتائبين ودعوته للمقصرين................... ... 160
من سورة فصلت:
1- الاستقامة وحسن عاقبتها................................ ... 163
من سورة الشورى:
1- الأشياء التي ينال بها ما عند الله....................... ... 167
من سورة القتال وتسمى سورة محمد:
1- الطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله.................... ... 170
من سورة الحجرات:
1- آداب إسلامية......................................... ... 172
من سورة الذاريات:
1- من أوصاف المتقين وثوابهم.......................... ... 175
2- الأمر بالتذكير وبيان الحكمة في خلق الجن والإنس.... ... 177
من سورة الحشر:
1- محاسبة النفس وعظمة القرآن وعدم استواء أصحاب
النار وأصحاب الجنة وإثبات الأسماء الحسنى لله تعالى..... ... 179
من سورة الصف:
1- الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله بالأموال
والأنفس تجارة رابحة..................................... ... 184
من سورة الجمعة:
1- من أحكام الجمعة..................................... ... 187
من سورة المنافقين:
1- خسارة من انشغل بأمواله وأولاده عن ذكر الله والحث
على النفقة من رزق الله قبل نزول الموت.................. ... 190
من سورة التحريم:
1- وقاية النفس والأهل نار جهنم والحث على التوبة
النصوح.................................................. ... 192
من سورة المعارج:(1/391)
1- من أوصاف المؤمنين................................ ... 196
تفسير سورة إذا زلزلت:
أهوال القيامة وجزاء كل نفس بما عملت.................. ... 200
تفسير سورة التكاثر...................................... ... 203
تفسير سورة العصر...................................... ... 205
تفسير سورة الكوثر...................................... ... 207
تفسير سورة قل يا أيها الكافرون.......................... ... 210
تفسير سورة النصر....................................... ... 212
تفسير سورة الإخلاص................................... ... 214
تفسير سورة الفلق........................................ ... 217
تفسير سورة الناس....................................... ... 221#
القسم الثاني من الكتاب
في شرح بعض الأحاديث النبوية......................... ... 225
1- الإسلام والإيمان والإحسان.......................... ... 226
2- رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسماحتها.... ... 235
3- وصايا يحيى بن زكريا ومحمد صلى الله عليهما وسلم... ... 238
4- الدين قول وعمل واعتقاد وأخلاق..................... ... 244
5- تيسير عمل أهل الجنة................................ ... 246
6- الكفارات والدرجات والمنجيات والمهلكات............ ... 250
7- حق المسلم على المسلم.............................. ... 254
8- سنن الفطرة......................................... ... 256
9- الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله........... ... 259
10- تضعيف الحسنات بحسب النيات..................... ... 263
11- تحريم الظلم وتنزيه الله نفسه عنه وفقر العباد إلى
الله وغناه عنهم............................................ ... 265
12- من عادى وليًا لله فقد حارب الله...................... ... 268
13- من أسباب العذاب................................... ... 270
14- الخصال المنجية من عذاب الله...................... ... 275(1/392)
15- السبع المهلكات والجرائم الموبقات................... ... 288
16- شعب الإيمان....................................... ... 297
17- الجليس الصالح والجليس السوء.................... ... 304
المراجع................................................. ... 307
الفهرس................................................. ... 309(1/393)