محاضرة : الكلمة الحرة ضمان
فضيلة الشيخ : سلمان بن فهد العودة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد أيها الأحبة الكرام فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته.
أكد لكم في بداية هذا اللقاء ما قلته مرارا وتكرارا أن موضوعات هذا اللقاء في الغالب هي موضوعات من طرف الذهن، وليس لها أي طابع إعداد أو تحضير بالشكل الذي يليق بوقتكم الذي تبذلونه للحضور.
لكنها مؤانسات ومحادثات واجتهادات، إن كانت صوابا فمن الله وهو أهل الفضل والمن، وإن كانت خطأ فمن الشيطان، ومن نفسي الأمارة بالسوء.
وإني أستغفر الله ما علمت منها وما لم أعلم، وأتوب إليه من ذلك كله.
كما أسألكم أن لا يقبل أحد منكم مني ولا من غيري فكرا أو رأيا أو اجتهادا إلا بعد أن يتأمله، فإن وجد فيه حقا وإن وجد فيه خطأ رده، ولا عصمة لأحد دون الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم إني أعتقد وأدين في قلبي أنكم جميعا خير مني، ولكن هذا لا يمنع أن المفضول قد يقدم للفاضل شيئا، وقد يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار كما يقال، وقد يجعل الله الحق على لسان أي كان من الناس.
ولست بحاجة أن استشهد لكم بقصص من هذا القبيل، بل وآيات في كتاب الله تعالى الكريم تدل على تجرد المؤمنين للحق، وشغفهم به وشوقهم إليه أيا وجدوه أخذوه، حتى أخذ سليمان عليه السلام الحق من الهدهد، فالهدهد كان شجاعا يقول لرسول من رسل الله:
(أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ).(1/1)
يقول مخاطبا نبي الله عند معلومات لم تصل إليها أنت، وما اتخذ سليمان عليه السلام موقفا منه أو عاقبه أو سجنه، أبدا فالأمر عادي: ( قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
هذا هو الفيصل، هل المعلومات صحيحة أم غير صحيحة، وحتى لو كانت المعلومات غير صحيحة، ما كان هناك تهديد واضح أنه إن كانت المعلومات مكذوبة فسنتخذ ضدك إجراء معينا، كل ما في الأمر أننا سنتثبت، وهذا مبدأ شرعي عظيم ينبغي الأخذ به.
العنوان الذي اخترته لحديث الليلة هو (الكلمة الحرة ضمان)، وقد حرصت أن يكون العنوان معبرا عن نهاية الفكرة، فقد لا يكتشف الواحد منكم مقصودي في هذا العنوان إلا في آخر الحديث.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
فأنظر كيف ذكر الله تعالى من ضمن نعمه على قريش أهل البيت العتيق أنه أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف، إذا الطعام والأمن هو مطلوب ضروري للإنسان، وفي العصر الحاضر يسمونه بالأمن الإستراتيجي:
أي أمن شامل، أمن للإنسان على عقله.
أمن للإنسان على ممتلكاته.
وأمن للإنسان على أولاده.
وأمن للإنسان على ماله.
وأمن للإنسان على نفسه.
وأمن للإنسان على خصوصياته، فهو مفهوم الأمن الشامل كما يعبرون أيضا.
بمعنى أن مفهوم الأمن ليس مقصورا على عدم وجود قطاع طرق فقط، نعم هذا مطلوب لكنه لا يكفي، بل لابد من أن نفهم الأمن من كل المخاوف: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف).
وقوله تعالى (خوف) وهي نكرة قال عنها الأصوليون هي نكرة في سياق الإثبات فتعني كل خوف، فأمنهم الله تعالى من المخاوف كلها.(1/2)
كذلك يقول الله تعالى في الآية الأخرى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً). فدل على أن تحقيق الأمن مطلوب ضروري في هذه الدنيا.
والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في حديث خباب الصحيح عندما اشتكى إليه أصحابه وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وأخبرهم أن الدين سوف يستقر، فماذا جعل العلامة والمعيار على استقرار الدين؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).
صنعاء وحضرموت كما تعلمون كلها في اليمن، رغم أن بعض العلماء ذهبوا يقولون أن صنعاء هي مدينة في الشام، ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب الجمهور، والأغلب أن المقصود بصنعاء هي صنعاء التي يعرفها الناس كلهم عامهم وخاصهم منذ فجر التاريخ.
فالمقصود إذا صنعاء وحضرموت اليمن، ولا مانع أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب هذا المثال بالذات لأن تلك المنطقة في زمن النبوة وفي زمن الجاهلية كانت منطقة خوف كونها متطرفة في أقصى الجزيرة، وكانت مليئة بقطاع الطرق وبالخوف وبالفتن وبالحروب، ولذلك ضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المثل بها.
وليس المقصود أنه أشار إلى المسافة من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب، لا ليس بالضرورة، لكن ضرب مثالا بين مدينتين كانتا رمزا للمخاوف، فإذا أتم الله هذا الأمر يعني استوثق أمر الدين كانت العلامة أن يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.(1/3)
بمعنى أنه قد زالت المخاوف وذهب قطاع الطرق واستتب الأمن، وأمن الناس على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى ممتلكاتهم وعلى عقولهم وعلى أولادهم بسبب استقرار أمر الدين وأمر الإسلام.
إذا من ضمن المطالب التي يسعى الإسلام إليه تحقيق هذا المطلب، وهذه نصوص صحيحة أمامك من القرآن والسنة، بمعنى أن الدين حينما جاء ليحكم البشرية كان من أهدافه تحقيق الأمن والاستقرار للناس كلهم.
ونقول هذا الكلام بسبب الجلبة التي يتحدث عنها الكثير من الصحفيين الإعلاميين ويستغلون بعض الأوضاع التي تعيشها بعض البلاد الإسلامية كمصر والجزائر وغيره، فيستغلون تلك الأوضاع في ترويج أن الاستقرار يكون في ظل العنف والقصف والعداء للإسلام، وفي ظل الدول التي تبطش بالمسلمين وتقضي عليهم، فيقولون هنا يتحقق الأمن، أما إذا قوي المسلمون وقويت شوكتهم فهنا يتحقق الخوف.
وأقول أن هذا في الحقيقة لبس في المفاهيم، نعم هناك الصراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، بل هناك الصراع بين جهات وأحزاب متعددة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية هذا شيء.
أما كون الناس أو بعض المنتسبين للإسلام يعتبرون أن الأمن أصبح مطلبا مفقودا في ظل وجود دعوة وصحوة إسلامية فهذا من أخطر المفاهيم السيئة التي يجب أن نحاربها.
إن الأمن والاستقرار والبحبوحة الاقتصادية أو غير الاقتصادية التي يمكن أن يعيشها أي مجتمع هي غنيمة لنا فيها سهم، فأنا وأنت نستفيد من الاستقرار الأمني، نسافر آمنون، نقيم ونحن آمنون، نأكل ونشرب براحة، نؤدي عبادتنا لله سبحانه كما قال
( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ).(1/4)
وكذلك كل خير يغدق الله تعالى به على المسلمين من مال أو مغانم أو طعام أو شراب أو غير ذلك فهو مما يستفيد منه الجميع، ولذلك فمن الطبيعي جدا أن نكون جميعا حريصون على تحقيق ذلك واستتبابه واستقراره، وهذا أمر طبيعي كون الإنسان بفطرته يطمح ويحب أن يعيش في جو مستقر، في جو آمن، في جو مستتب بعيدا عن الخوف، فيحب أن ينام ويأكل ويشرب وهو مرتاح، وأن يخرج وهو آمن على زوجته وأطفاله.
ولذلك كلما انتشرت أخبار الجرائم والسرقات والاقتحامات والاعتداءات زادت مخاوف الناس، وكثر بلبالهم وانشغل بالهم، وهذا أمر فطري مثله كحرص الإنسان على الحياة مثلا، أو حب البقاء أو التملك.
فهذه أشياء فطرية عند الإنسان والأديان والتربية الشرعية تعمق هذا المعنى عند الإنسان.
إذا فمن الطبيعي أن أكون أنا وأنت حريصون على استقرار البلاد، حريصون على استتباب الأمن، حريصون على الوحدة وعدم الانشقاق أو الانقسام أو الصراع بأي شكل وأي لون كان.
هذه كلها أمور طبيعية وينبغي أن يكون مفهوما أن هذا مطلب للجميع، ولا يحق لي أن أدعي أني أكثر منك حرصا على ذلك، وأنت كذلك لا يحق لك أن تدعي أنك أكثر مني حرصا على ذلك إلا إن كان لديك دليل صحيح بعيدا عن التلبيس والخداع والتضليل.
فليس من حقي مثلا أن أقول لك أنك إنسان حريص على زعزعة الأمن، وعلى تشتيت البلاد وعلى قلقلة الأوضاع وعلى القضاء على الاستقرار.
أما أنا فاليد الحانية الحريصة على استقرار البلاد وعلى تصحيح الأوضاع وعلى حفظ الأمن وعلى وحدة المواطنين وغير ذلك مما ينادي به كثير من العلمانيين اليوم سرا وجهارا ليلا ونهارا، ويتمدحون بأنهم الحريصون على الوحدة الوطنية.(1/5)
أما أنتم يا معشر الأخيار فأنتم تسعون إلى شق الوحدة الوطنية، فهم حريصون على استقرار الأمن أما أنتم فتدقون المسامير في نعش الأمن وتسعون إلى تحويل بلاد الإسلام إلى غابة تتعاوى فيها الذئاب، وتتهارش فيها الكلام ويأكل القوي فيها الضعيف، هذا ما يطرحونه ويتكلمون به ويقولونه.
بأي حق يدّعون ذلك، هذه هي نفسها دعوى فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ).
ففرعون ينادي بما يسمونه اليوم بالحل الأمني، البطش والعسف والعنف:
(ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُم أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ْ).
هذا التعليل، ففرعون ليس خائفا على سلطانه إنما يخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد، أي كأن يشق عصا الوحدة الوطنية، لأنه سوف يحول شعب مصر إلى شعب مؤمن وشعب غير مؤمن أو إلى إسرائيليين وأقباط أو غير ذلك مثلا، وزعزعة الأمن والاستقرار الموجود في ذلك البلد.
لا شك أن هذه مجرد دعوى عارية عن الدليل، ونعلم يقينا بمقتضى إيماننا أنه دعوى كاذبة كافرة، وأن موسى عليه الصلاة والسلام أحرص على وحدة البلاد واستقرار الأمن وأرواح الناس لا أقول من فرعون، بل من أكثر الناس حرصا في ذلك الوقت، بل لا يقاس به غيره.
ولهذا قال الله تعالى في وصف عباد الرحمان الصالحين: ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً).
وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاث مع بعض:
فهم موحدون في عبادتهم.
وهم حريصون على حفظ أرواح الناس، والحريص على حفظ أرواح الناس أن لا يقتلوا بغير حق من باب أولى أن يكون حريص على أن لا يجرحوا بغير حق، وأن لا ينالهم سوء.(1/6)
وهم حريصون أيضا على حفظ أعراض الناس، كما في قوله تعالى ( ولا يزنون)، ولذا جاء الدين لحفظ الضرورات الخمس وهي الدين، والعقل، والنفس، والمال، والعرض أو النسب.
هذه هي الضرورات الخمس التي جاء الدين بحفظها، ومدار الأحكام الشرعية على حفظ هذه الأشياء الخمسة، ولهذا سمها الفقها الضرورات، ولعل أفضل من تكلم فيها هو الأمام الشاطبي رحمه الله تعالى.
فالمقصود أن هذا مطلب مشترك لدى الجميع، وأنا إذ أقول ذلك لا أزكي كل أعمال المسلمين، فالمسلم بشر فيهم المؤمن وغير المؤمن، وفيهم الفاجر، وفيهم الحكيم والأهوج والسفيه، وفيهم العاقل وناقص العقل، وفيهم القوي والضعيف، وفيهم المتدين وضعيف الدين، وفيهم من يريد الدنيا وفيهم من يريد الآخرة.
فلا يمكن أن تزكي أعمال أمة من الأمم كلها أبدا، ولكن المقصود أن هذه الكلمة التي تستخدم اليوم:
(كلمة الإخلال بالأمن)، وكلمة (تدمير الوحدة الوطنية)، وكلمة (السعي إلى بث الفرقة)، أصبحت يرمى بها كل متحدث أو داعية في أمر من أمور الإسلام، وأصبح الأمر محتاجا إلى تفصيل وبيان.
إذا لندعي أننا جميعا حريصون أو مشتركون في الحرص على الأمن وعلى الاستقرار وعلى الوحدة في ظل شريعة الله سبحانه وتعالى، وعلى الرفاهية للناس، بمعنى أن من مطالب الشريعة تحقيق الرفاهية للناس، تحقيق المسكن المناسب للإنسان، الملبس المناسب، الوظيفة المناسبة، المأكل المناسب، هذه كلها حقوق، وقد كان أبو بكر، وكان عمر، وكان عثمان، وكان المسلمون منذ القرون السلفة يتولون هذه الأمور بأنفسهم خاصة في أزمنة المجاعة، واقرأ كيف كان عمر رضي الله عنه عندما يقرقر بطنه من الجوع كان يخاطب بطنه ومقصودة خطاب غيره أنه قرقر أو لا تقرقر والله لا ينالك إلا ما تأكله الآن حتى يشبع المسلمون.
وهذا واقع تاريخي شهدت به الأجيال كلها، والعدل ما شهدت به الأعداء.(1/7)
فإذا ادعينا أننا جميعا نشترك في الحرص على هذه المطالب وأنها مصالح ومغانم مشتركة لنا جميعا تبين لنا أنه ليس هناك داعي أن اتهمك بأنه قصدك كذا، وكذلك أرجو منك أن لا تتهمني أن قصدي كذا، لأننا جميعا مستفيدون من هذه الأمور إن وجدت، ومتضررون منها إذا فقدت، فكيف نسعى إلى تدمير أنفسنا بأيدينا؟ هذا لا يعقل ولا يكون.
لكن الأمر الذي قد أختلف معك فيه هو الطريقة التي نحافظ بها على الوحدة، وعلى الاستقرار، وعلى الأمن، وعلى المصالح الاجتماعية والاقتصادية وغيرها:
أما أنت – وأنا لا أخاطبك وإنما أخاطب علمانيا ربما سمعت مثل هذه النبرة منه- أنت ترى أن المحافظة تتم من خلال الصمت والسكوت وترك الفساد وعوامل الفساد في المجتمع تعبث به.
فهو يتربى إعلاميا على فنون السرقة والتلصص والنهب والسلب والاغتصاب والاختطاف، وأنت تقول لا تحرك ساكنا لا تسعى إلى معارضة هذه الأمور، دعها لأن معارضتك لهذه الأمور يعني أنك سوف تخلخل الوحدة والاستقرار والأمن.
وأنت تريد أن يأكل الناس المال الحرام من خلال الربا والسرقة والغش ومن خلال الوسائل والأساليب الكثيرة التي أصبح معمولا بها فتنشأ أجساد المجتمع على الحرام وعلى الغش وعلى الباطل، وأيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به، ولا نتوقع أن الأجساد التي نشأت على الحرام أن تكون كارهة له.
وأنت أيضا توافق على ترك من يربون المجتمع على الشهوات ويحرضون عليها صباح مساء، وتطالب بأن يتركوا في حالهم، وتغفل أن الشهوة إذا تحركت فستبحث عن طريق للإشباع بكل وسيلة، وحيث أن الطرق المباحة مغلقة وصعبة في الغالب، والطرق المحرمة مفتوحة وسهلة وليس فيها كبير خسارة ولا خطر ولا مغرم مادي في وقت ضعف فيه الدين، والنوازع الأخلاقية قد قلت، فسيكون هناك مجال للإشباع الشهواني المحرم في المجتمع.(1/8)
أنت ترى أن التعكير على هذا الإشباع المحرم أنه يزعزع الوحدة ويزعزع الأمن ويزعزع الاستقرار، ولذلك تقول لمن ينكر: اسكت ودع الأمور على ما هي عليه لأن لا تتهم بتدمير الوحدة الوطنية.
مثلا من يشيعون الطبقية والتفاوت بين أفراد المجتمع، وبالتالي ينشرون الضغينة والأحقاد، فهذا أخذ كذا، وهذا أعطى كذا، وهذا له كذا، وهذا قال كذا، وهذا معطى، وهذا محروم، إضافة إلى شيوع المحسوبية وانتشار الرشوة وألوان الفساد الإداري، أنت ترى أن تحريك وعلاج مثل هذا الأشياء مدعاة إلى تمزيق المجتمع، ولا ترى أنة وجودها هو الذي يمزق المجتمع فتقول أسكتوا عنها ولو كانت موجودة، لماذا ؟ لأن الحديث عنها سوف يخلخل الوحدة الوطنية ويزعزع أمن البلاد واستقرارها.
أما أنا فأختلف معك في ذلك، وأرى أن ليس الحديث عن هذه الأشياء هو الذي يحدث الخلخلة ويدمر الوحدة ويزيل الاستقرار، بل وجود هذه الأشياء هو المزعج.
فعلى سبيل المثال عندما يذهب أحدهم إلى شاطئ البحر فيرى الأجساد العارية، ويرى الاختلاط الشائن، ويرى الإغراء الجنسي الذي يقول هيت لك، ثم يأتي ويتكلم أنه رأى كذا ورأى كذا، فيأتي إنسان ويقول له أسكت فأنت تثير الشهوات بهذا الكلام.. سبحان الله.
الذي يصف واقعا وهو محروق من هذا الواقع يصبح يثير الشهوة، لكن ذلك الواقع المرير الأليم الموجع القائم الذي هو في متناول اليد لا يتحدث هذا الإنسان عن أنه يثير الشهوة أو يحرك الغريزة.
مثلا هذا الإنسان الذي ينشر الضغينة داخل المجتمع من خلال التمييز بين الناس فيتعامل مع هذا من منطلق خاص، فتقول له لماذا يا أخي ؟ قال لك هذا بدوي مثلا.
طيب وما الفرق بين البدوي والحضري، أليسوا كلهم في ميزان الله سواء وأكرمهم عند الله أتقاهم؟ وممكن أن تعير أنت بأنك حضري فما المانع ؟(1/9)
فتجده يتعامل مع الناس من هذا المنطلق فيعطي هذا ويمنع ذاك، ويقرب هذا ويبعد ذاك، ويرفع هذا ويخفض ذاك، هذا التعامل من نتيجته الطبيعية أن يتحول المجتمع إلى مجتمع حقد، إلى مجتمع كراهية، إلى مجتمع بغضاء، فإذا قام واحد يستنكر هذه الأساليب، ويدعو إلى التعامل من منطلق الكفاءة (القوي الأمين)، أن يوضع في كل عمل من يحسنه، وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واختيار الأكفاء والتعامل مع الناس من منطلق قدراتهم وإمكانياتهم وعقولهم، وليس من منطلقات غير شرعية أخرى.
إذا قام إنسان ينادي بذلك فليس معنى ذلك أنه يحرك الضغينة والبغضاء، كلا بل هو يعمل على علاج ذلك المرض الذي ينخر في المجتمع والسوس الذي يدمره تدميرا.
إذا أنا أختلف معك في وجهة النظر:
فأنت ترى ترك كل عوامل الفساد وعوامل الانحراف ودوافع البغضاء والضغينة والانشقاق والتمزق في المجتمع، ومثل ذلك كل المنكرات، وترى أن الحديث عنها يولد الانشقاق.
أما غيرك فيرى أن نبش الجرح وتحريكه وتنظيفه ولو آلم المريض بعض الشيء ليتم ضماد الجرح على نقاء وصفاء، أن ذلك هو الخير وأنه هو الذي يحمي الجسد من أن يتحول إلى جسد فتكت به الأمراض وأصبح استدراكها أمرا صعبا لأنه لم ينتبه لها إلا بعد فوات الأوان.
هذه العملية عملية نبش الجرح هي عملية الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي عملية النقد الهادف للمجتمع، أن تقول هاهنا في المجتمع خطأ، وهاهنا مرض، وهاهنا عيب، وهاهنا آفة.
وإن لم نكن جميعا أيادي تسعى إلى التنظيف فإن هذا الجسد سو يوسد التراب عن قريب، وحين يكون المنكر شائعا معروفا معلنا يصبح مثل المرض الذي سرى في الجسم كله، فحين إذ لابد من أن يواجه بإعلان الإنكار عليه، لأن كل فرد في المجتمع يتوقع أنه لو كان هذا المنكر خطأ ما قبله الناس ولما استقر.(1/10)
ولهذا كان الفقهاء أو كثير منهم يعتبرون الإجماع السكوتي من الأدلة الشرعية، يعني أن ينتشر أمر عند الناس ولم يوجد من ينكره البتة فهذا دليل على أن هذا الأمر ليس بحرام عندهم وإلا لأنكروه، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فهذا دليل على أن المنكر الشائع المعلن يجب إنكاره بغض النظر عمن يقف ورائه.
المجتمع إذا تدمر بمنكر أو منكرات شاعت وذاعت بلا نكير فإن هذا الدمار لا يقف عند حد عالم، وتقول ينكر العالم الفلاني.
بالله عليك إذا جاء دمار للمجتمع سواء كان هذا الدمار بأي صورة من الصور داخليا أو خارجيا، هل هذا الدمار سوف يستثني أحدا ؟
هل سوف يكون الدمار مقصورا على عالم ؟ أو على مدير أو رئيس ؟
كلا بل سوف يشمل الجميع إلا فئة واحدة هم الذين ينهون عن السوء:
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).
فذكر أن الله تعالى يحفظ المصلحين فقط، أما الساكتون فحتى لو كانوا بقلوبهم منكرين فإن هذا لا يكفيهم ولا ينجيهم وإن كانوا يبعثون على نياتهم كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الأحبة، إن الفزع الذي يصيبنا عند الجهر بالإنكار هو بسبب عدم ألف آذاننا لذلك، يعني لم نتعود، فمجتمعنا خاصة لم يتعود الإنكار العلني، ولم يتعود هذه الأساليب، ولذلك أصبح بعض الناس يصيبهم فزع إذا وجد إنكار بمثل هذه الطرق مع أن هذا الإنكار أمر طبيعي وهو موجود عبر التاريخ، وموجود في بلاد الدنيا كلها بلا استثنى.
مع أنني أقول أن الإنكار العلني له أصول وله ضوابط.(1/11)
فمثلا لا أحد قط يقول أنه يجب أن تنكر على شخص بعينه منكر في بيته ولو كان كبيرا أو صغيرا، بمعنى أن الإنسان الذي يمارس منكرات داخل المنزل مهما كان ضخامتها وحجمها، لا داعي لأن تعلن، لأنك بذلك تخبر الناس بأنه فعل المنكر ثم تنكر عليه فلا داعي لذلك.
لكن المنكر الاجتماعي الذي أنا وأنت وولدي وولدك وجار وجارك كلنا نشترك فيه ونعلم به، وربما نتعامل معه بجهل أو تجاهل أو لضرورة أو لغير ذلك من الاسباب، فمثل هذه المنكرات يجب أن تكون الأمة شاهدة على إنكارها كما ذكر الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ). وأيضا:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
بهذا صرتم خير أمة أخرجت للناس، فإذا تركتم مسئوليتكم كأمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، إذا تركتم هذه المسؤولية لا تصبحون خير أمة، لماذا تكونون خير أمة عند إذ؟
خير أمة بالأكل، بالشرب، بكبر البطون، بهز الرؤوس، خير أمة بالتمدح بتاريخ مضى كنا وكنا!
كن أبن من شئت واكتسب أدبا....... يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول هاأنا ذا...............ليس الفتى من يقول كان أبي
لا تكن عظاميا أو كنتيا مجدك بتاريخ مضى تعيده صباح مساء، أصنع أنت مجدا بنفسك ولو قل، أما التمدح بمجد الآخرين فهذه أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
إذا بهذا كنتم خير أمة أخرجت للناس أنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر تشهدون على الناس: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ).
الغريب أننا جميعا نقرأ الحديث المتفق عليه عن قصة الرجل الذي مر به ميتا على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فأثنى الناس عليه خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام وجبت، قال الناس ما وجبت ؟(1/12)
قال (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبت له الجنة، لماذا لأنكم أثنيتم عليه خيرا.
والآخر وجبت له النار، لماذا ؟ لأنكم أثنيتم عليه شرا.
هذه حالة شخص، يعني أمة الصحابة رضي الله عنهم شهدوا علانية وأقولها بملء فمي، شهدوا علانية على شخص بعينه بالخير فوجبت له الجنة، وشهدوا علانية على شخص بعينه بالشر فوجبت له النار، حتى وهو ميتا لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول اذكروا محاسن موتاكم، ويقول لا تسبوا الأموات فأنهم أفضوا إلى ما قدموا.
ولم يذكر قط أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنكر على أصحاب هذه الشهادة، لماذا ؟
الجواب والله أعلم أن الظاهر من سياق الحديث أن ذلك الشخص الذي كان يرتكب المنكرات كان يرتكبها علانية ويجاهر بها، ولذلك أصبح أمره مشهورا مفضوحا عند الناس يتكلم عنه الخاص والعام، فلما ذُكر لم يملك ذلك الجيل الطيب النقي المخلص الورع، لم يملكوا أنفسهم من الفرح بموته والثناء عليه شرا بما كان معروفا من سوء حاله، استراح منه البلاد والعباد والطيور والشجر والدواب والأرض.
فكانت تلك شهادة، وهكذا يجب أن يشهد الناس على الأعمال في مجملها إن كانت خيرا أو كانت شرا، ولا يمكن أن تكون الشهادة والإنسان يتكلم في بطنه، بل يجب أن تكون الشهادة بالوسائل التي يعلمها الناس، ولهذا جاء في حديث لا يصح:
(من خلع جلباب الحياء فلا غيبة له، أترعوون عن ذكر الفاسق، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس).
وذكر البيهقي أحاديث عديدة من هذا القبيل ليست أسانيدها بالقوية ولا تصح، ولكن الأحاديث التي ذكرت وغيرها كثير يدل فعلا على أن المجهرين المشهرين بالمفاسد والمنكرات والمخالفات والمعاصي.
فضلا عن ألوان المخالفات الصريحة للدين مما يعلن من محاربة الله ورسوله.
ومن مسبة الدين ومن السخرية بالمؤمنين، ومن الإلحاد أحيانا.(1/13)
سواء كان ذلك على شكل كتب أو أشرطة أو مقالات أو برامج أو أفلام أو على شكل معهد أو على أي حال كان، أن هذه الأشياء ينبغي أن يشهد عليها بموجب كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أنا أعجب لماذا نستثني مجتمعنا من أمم الأرض كلها ؟
علما أنه كما قلت قبل أيام أن هناك واقع عملي لم يعد يخفى على أحد، أن كل أمم الأرض اليوم ليس عندهم مشكلة أن يتكلم أحد، فالكلام بحد ذاته لا يمثل مشكلة عندهم، ففي أمم الغرب وأمم الشرق وعند اليهود وعند النصارى وحتى في بعض البلاد الإسلامية بل في معظمها ليس عندهم مشكلة في أن يتكلم إنسان أو ينتقد أو ينكر أو يأمر أو يخطب أو يتحدث، المهم أن لا يمد يده بحرب أو ضرب أو قتال، وهذا الأمر مشاع في أكثر دول العلم استقرارا على الإطلاق.
وأنتم تعلمون ماذا يوجد في أمريكا مثلا أو في بريطانيا، أو في ألمانيا أو في فرنسا وفي جميع دول الغرب، بل ماذا يوجد في عدد كبير من الدول العربية، بل ماذا يوجد مع الأسف في إسرائيل ؟
أنهم يرون أن الكلام بحد ذاته لا يمكن تصور أنه يؤدي إلى قتال وإلى فتنة وإلى تمزيق الوحدة الوطنية وإلى نهاية الاستقرار، بل جميعهم يعتبرون أن حرية الكلمة هي ضمان لوحدة المجتمع، وضمان لاستقرار المجتمع.
وهنا نحن نضيف حرية الكلمة في ضوء الشريعة، بضابط الشريعة، فلا نريد حرية يتكلم بموجبها مثلا ألا ديني، أو يتكلم بموجبها الملحد، أو يتكلم بموجبها المستهتر ليقول ما يشاء، لا.
وإنما نقصد حرية الكلمة التي تستهدف الإصلاح وتستهدف المصلحة العامة للمجتمع، وتستهدف الخير للأمة بموجب ضوابط يمكن أن يتفق عليها جميع الناس، جميع المؤمنين، بل جميع العقلاء أحيانا.
فهذا أمر موجود ولم يُحدث مثل ذلك أي قلاقل أو تمزيق بل على النقيض من ذلك كان هو صمام أمان، لأن ذلك بمثابة التنفيس للناس يجعلهم يتحركون بهدوء.(1/14)
ويشعرون بأن قضيتهم قائمة وأن إمكانية التعبير عن أفكارهم موجودة وأنهم جزء من هذا المجتمع.
وأنهم مستفيدون من فرصه، ومستفيدون من إمكانياته، مستفيدون من حظوظ الخير الموجودة فيه.
وأنه ليس مجتمعا لطائفة معينة أو لحزب خاص أو لشخص بذاته، لا، هو مجتمع لنا جميعا.
كما قلت غنيمة لنا فيها سهم فكلهم يستفيدون من هذه القنوات، ويستفيدون من هذه الفرص، ويستفيدون من هذه الإمكانيات، ولذلك يكونون حريصين على وحدة المجتمع، وحريصين على استقرار المجتمع، ويكونون يدا واحدة ضد أي إنسان يكتشفون أنه يسعى إلى تدمير المجتمع أو تمزيقه أو حربه.
هذا من الناحية الواقعية، أما من الناحية التاريخية فإن المنهج السلفي السليم الصحيح يشهد بذلك كله من عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما شئت من الوقت والتاريخ، من عصر الصحابة مثلا من أشهر الأمثلة قصص عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
كان عمر الخليفة أمير المؤمنين يقف على المنبر ويقوم واحد من عامة الناس ليعترض عليه حتى وهو على المنبر، لم يصبر حتى ينزل بل يتصدى له في وسط الناس ويقوم ليخطئ عمر رضي الله عنه.
وهذه ليست حادثة أو اثنتين أو عشر أو مائة، بل هي حوادث أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصى، ولا مجال لعرضها أو الحديث عنها، بل لا مجال لأحد أن ينكرها، لأن بعض الناس قد يأتي ليقول أثبت الأسانيد، لماذا كل سيرة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قبلتها ما عدا هذا الجزء فتطالب بإثباته بالأسانيد؟
كل أحداث التاريخ، وكل القصص هذه لا يشترط فيها أسانيد مثل أسانيد صحيح البخاري، هي قضايا متواترة مشهورة ومعروفة، بل حتى في الجاهلية لم يكن الناس توارثوا الأبهة والتعظيم المبالغ فيه للأشخاص وللرجال أيا كانت منازلهم ومواقعهم ومسؤولياتهم أو علمهم، فقد كان الرجل في الجاهلية وهو شيخ القبيلة يطلب من شخص عادي أن يمنحه فرسه فيرفض ذلك ويقول:
أبيت اللعن إن سكاب علق........نفيس لا يباع ولا يعار(1/15)
فلا تطمع أبيت اللعن فيها........ومنعكها بشيء يُستطاع
يقول ما دمت أستطيع أن أمنعك لا أعطيك هذا الشيء، فهو شيء خاص بي ولا تستطيع أخذه بالقوة.
إن العرب في الجاهلية كان فيهم أنفة وعزة، وكان فيهم رجولة واستقلال مع قدر من الانضباط عندهم حسب ما هو معروف.
المقصود أن الإسلام حينما جاء لم يحول هؤلاء إلى مجموعة من الدواجن تربى في حظيرة، لا بل عمق في نفوسهم هذه المعاني واستثمر هذه الروح، روح القوة والرجولة والمروءة، روح الاستقلال والشجاعة قواها في نفوسهم ونظمها ووظفها بشكل صحيح.
ولذلك أبو بكر رضي الله عنه ثاني يوم بويع بالخلافة حمل على كتفه البز وذهب يبيع في السوق يضرب كتفه كتف رجل آخر يقول له السلام عليكم يا خليفة رسول الله.
فحتى الاسم كان أسم عادي، فتوارث هذا التفخيم والتعظيم في الأسماء لم يكن وارد، حتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا ينادونه يا رسول الله، يا نبي الله، بل بلغ الجهل ببعض الجفاة أنهم نادوه يا محمد أخرج إلينا فأدبهم الله تعالى بقوله:
(إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال الله تعالى للمؤمنين: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً).
يعني لا تنادوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإسمه المجرد كما ينادي بعضكم بعضا، ولكن خاطبوه بلفظ التبجيل، ما هو ؟ يا رسول الله، يا نبي الله.
وحينما قال له واحد كما في بعض الروايات أنت سيدنا وأبن سيدنا نهاه عن ذلك وأنكر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال السيد هو الله، على خلاف في صحة الحديث.
وقال لا تطروني كما أطرت النصارى أبن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله.(1/16)
فهكذا كان العرب في جاهليتهم، ثم هكذا عمق الإسلام هذه المعاني وربى الناس على الانضباط بالسمع والطاعة في الحق في المعروف في الخير وفي ما يرضي الله ورسوله، دون أن يصل الأمر إلى حد الضعف والعبودية كما كان موجودا عند فارس والروم من هذه المعاني الرديئة التي ورثها المسلمون منذ قرون وظلت تتعاظم وتكبر بينهم شيئا فشيئا.
فهكذا كان الأمر في عهد الصحابة رضي الله عنهم.
البعض يضرب المثل بعثمان رضي الله عنه وأن إسامة رضي الله عنه رفض أن ينكر على عثمان علانية.
أولا موقف إسامة كان موقف شخصي يقابله موقف جماعة من الصحابة الذين كلموه وهم كثر.
وإذا احتج واحد بموقف إسامة فللآخر أن يحتج بالذين انتقدوا إسامة وطلبوا منه أن يتكلم مع عثمان رضي الله عنهم، هذا جانب، والجانب الثاني أن إسامة رضي الله عنه أجتهد وأصاب، لأنه رأى أن هناك بوادر فتنة يستغلها بعض الخصوم، وبعض أعداء الدين وأعداء الصحابة وبعض الموتورين، وأنها بدأت تدر بقرونها وتطل برأسها فرأى أن لا يشارك في هذا الأمر بناء على معطيات حقيقة والواقع التاريخي يشهد ببعد نظر إسامة في هذه القضية.
لكن مع ذلك هذا لم يمنع عبد الله ابن مسعود لما صلى بهم عثمان بمنى فأتم الصلاة أربعا أنكر عليه أبن مسعود وقال وددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان، وهذا إنكار، ولم يقل أبن مسعود أنه لا داعي لأن أقولها لعثمان أو أن أقولها سرا بيني وبينه، لأن هذا عمل علني وهذا دين ولو سكت الناس كلهم لأندرس الدين، واشتهرت أمور مرجوحة أو ضعيفة أو اجتهادات خاصة، فلابد من بيان الحق.
ولهذا ابن مسعود رضي الله عنه قال ما قال، كما قاله غيره وهم كثير كما هو معروف.
أيضا من الصحابة من كان له مواقف مشهورة:(1/17)
فعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه، حينما حج مع عثمان، فنهى عثمان أن يحرم أحد بالمتعة، أي بالعمرة متمتعا إلى الحج وأعلن ذلك، فقال علي ابن أي طالب رضي الله (لبيك عمرة) وهو في أشهر الحج يعني متمتع، فقال عثمان أتخالفني وأنا أمير المؤمنين؟
قال ما أخالفك ولكن سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالاتباع، وقد أعلن علي ذلك من أجل أن يشهر السنة وينكر على عثمان رضي الله عنه اجتهاده في النهي عن المتعة، وهو اجتهاد مرجوح وإن كان سبقه إليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولهم فيه حجة على أية حال.
معاوية رضي الله عنه قام يوم من الأيام على المنبر كما عند أبي يعلى وسنده صحيح وقال المال مالنا والفيء فيئنا ومن نازعنا فيه فعلنا به كذا وكذا، فسكت الناس.
ثم قام في الأسبوع الثاني وقال مثل قوله، قام في الأسبوع الثالث وقال مثله فقام رجل من وسط الناس وقال المال مال الله والفيء فيء الله وأنكر على معاوية رضي الله علانية على الملأ في خطبة الجمعة.
فلما صلى معاوية رضي الله عنه توقع الناس أن ينال هذا الرجل سوء، فدعاه إلى مجلسه وأدناه وأكرمه وقال أحييتني أحياك الله، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
( يكون هناك أمراء فمن سكت عليهم يناله أثمهم، ومن أنكر عليهم فقد برأ). أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ثم دعا معاوية لهذا الرجل.
وأخرى حين كان معاوية يطوف بالبيت ويستلم الأركان الأربعة كلها، والحديث صحيح أيضا، فراءاه ابن عباس رضي الله عنه وأنكر عليه علانية وهو الخليفة وقال له:
لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستلم الأركان الأربعة إنما كان يستلم الركنيين.
فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورا، يعني كله بيت وكله حرم وكله كعبة، قال نعم ولكن:
((1/18)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً). اقتدي بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقصة أبي سعيد الخدري مع مروان ابن الحكم حينما قدم الخطبة على الصلاة، كي لا يخرج الناس حيث أنه يتكلم بكلام لا يريده الناس فيخرجون فقدم الخطبة قبل صلاة العيد.
فأنكر عليه رجل علانية، وجاء أبو سعيد ليمنعه بالقوة، فتل مروان يده وقال قد ترك ما هنالك، قد ترك ما تعلم. قال أبو سعيد ما أعلم خير مما تعلم، ثم قال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه يعني الرجل الذي أنكر على مروان، ثم ساق حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان).
ومثل ذلك عمارة ابن رويبة وحديثه في صحيح مسلم، حينما قام الخطيب على منبر المدينة ورفع يديه في الدعاء في خطبة الجمعة، قام وقال قبحت من يدين ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع يديه على المنبر قط، قال ذلك علانية لأن الناس سمعوه ونقلوا الرواية.
يستثنى من ذلك بالطبع رفع اليدين في الاستسقاء والاستصحاء كما جاء في حديث أنس وغيره.
المقصود أن هذا الأمر (يعني الإنكار علانية) كان شائعا عندهم، ولم يكن الأمر مقصورا على الصحابة رضي الله عنهم، أو على غيرهم وإنما كانت السيرة العملية للصحابة والتابعين والسلف الصالحين، كانت السيرة العملية لتلك الأجيال كلها هي الاحتساب خاصة في المنكرات العامة، وأنهم لم يكن عندهم حساسية اتجاه إنكار المنكر، واتجاه النقد البناء الهادف.
أما إذا كان منضبطا بالضوابط الشرعية، ولم يكن فيه تعدي أو ظلم أو تعسف وإنما فيه قول الحق كان الجميع يرون أن هذا جزء من دين الله سبحانه وتعالى، وحتى لو فرض أن فيه بعض الخطأ أو بعض الاستعجال فيرون أن إنكارا فيه خطأ واستعجال خير من الصمت.(1/19)
إن خيّرنا بينهم فإنكار فيه خطأ واستعجال لا يؤدي إلى فتن عظيمة، هو خير من صمت الناس على المنكر لأن العقوبة ليست على الإنكار وإنما العقوبة على المنكر الذي قد يوجد في المجتمع ثم لا ينكره الناس ولا يمتعضون منه أو يعترضون عليه.
ولا أريد أن استطرد معكم، ولكن تجد عبر التاريخ أنه حينما تنظر إلى ما كان عليه الإمام أحمد ابن حنبل، ثم الحنابلة من بعده في زمنه وبعد زمنه أنهم معروفين بأنهم كانوا أهل قوة في الإنكار، كما ذكر الطبري ومن بعده في هذا الباب.
أيضا المؤلفات المعاصرة التي ذكرت جهود الحنابلة في بغداد وفي الشام وفي غيرها في إنكار المنكرات والاحتساب على أهل المعاصي حتى ربما تعدوا في ذلك حدود المطلوب على حسب ما تذكر بعض الروايات التاريخية، لكنهم كانوا مشهورين معروفي بذلك.
ومثله أيضا تجد القصص المعروفة عن العز ابن عبد السلام، عن الإمام ابن حزم، عن ابن تيمية، عن المنذر ابن سعيد البلوطي رحمهم الله، وكثير من علماء مصر والشام والعراق والحجاز في القرون الماضية إلى قبل سنوات ليست بالبعيدة، وكانوا يسلكون هذا المسلك وينكرون المنكرات الظاهرة المعلنة، ويأمرون بالمعروف ويحتسبون على الصغير والأمور والأمير ويرون أن هذا عهد قطعوه على أنفسهم لرب العالمين أنهم يفعلون ذلك، ولو لم يفعلوه ما قاموا بالمسؤولية التي حملهم الله تعالى إياها، والأمثلة والقصص كثيرة لا أريد أن استطرد بها مراعاة لضيق الوقت.
هناك حديث يستشهد به البعض، وقد رواه أبن أبي عاصم في السنة، وأظن أن الإمام أحمد رواه أيضا، ومضمون الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من رأى من سلطانه شيئا فليقم إليه ولينكر عليه بينه وبينه ولا يجهر بذلك، فإنه قد يقتله فيكون هذا قتيل الحاكم في الأرض.
ولن أتكلم عن إسناد الحديث فأنا لم أدرسه، وقد يكون الحديث صحيحا أو حسنا، كما صححه بعض من وقفت عليهم من أهل العلم، لكن الكلام على متن هذا الحديث:(1/20)
أولا لماذا نجعل هذا الحديث هو الحجة في باب إنكار المنكر، هذا واحد من أحاديث، والإنسان الذي زينه الله بالحكمة يجمع الأحاديث في الباب الواحد ليستخرج منها الحكم العام، ولا يقتصر على حديث واحد.
ولو أن إنسانا مثلا اقتصر في باب الصلاة على الطهور فقط واحتج بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ما كانت صلاته صحيحة.
تقول له أين استقبل القبلة، أين دخول الوقت، أين النية، أينَ أين، قال الحديث يقول لا يقبل الله صلاة بغير طهور، نقول له هذا لا يكفي، هذا حديث واحد، ولكن عندك أحاديث أخرى لابد أن تضم أحاديث الباب كلها بعضها إلى بعض حتى تخرج بالنتيجة النهائية الصحيحة.
ثانيا هذا الحديث الذي ينهى عن الإنكار، قد يكون هذا في ما يتعلق بمنكر خاص على السلطان فيمكن أن تنكر عليه بينك وبينه، أو قد يكون في حالات خاصة يغلب على الظن فيها أن الإنكار فيه ضرر على المنكر من تعرض للضرب والقتل والسجن دون أن يكون فيه نفع للمسلمين عامة.
إذا يغلب على الظن أن هناك ضرر في الإنكار دون أن يكون هناك مصلحة عامة، وما أشبه ذلك بالمفاهيم الصحيحة السليمة للحديث.
وإلا لو فرض أنه لا يوجد أمامنا إلا الحديث هذا، بالله علينا كيف سنصنع مثلا بالأحاديث التي ذكر فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن سيدا الشهداء هما حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.
هذا قتل ومع ذلك ما عاتبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل ذكر أنه سيد الشهداء وهذا يدل على الثناء عليه، وإطراء موقفه وعلى تزكية عمله، وأنه قام بعمل صحيح استحق به أن يقرن مع حمزة ابن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه وأرضاه الذي قتل وتشحط بدمه في سبيل الله عز وجل.(1/21)
كيف سنصنع بحديث عبادة المتفق عليه، والذي لا يوجد طالب علم إلا ويحفظه والذي فيه: بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي أخره قال: وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
حيثما كنا ولم يستثني شيئا، في كل مكان وفي كل زمان وفي كل ظرف، وأن الميزة أنهم لا يخافون في الله لومة لائم.
لو كنت لن تقول الحق إلا في ظل يؤيدك ويساعدك، ومع ناس يوافقونك لم يكن هناك لوم أصلا، وإنما كلمة الحق لها ثمن ولها تضحية ولها متاعب، والذي يقولها يجب أن يتحمل تبعتها، يتحمل غرمها، ويحتسب ذلك لله عز وجل، وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
فكيف سنصنع بهذا الحديث ؟ وإذا أولنا هذا فلماذا لا نؤول ذلك، ولماذا لا نفهم الأحاديث كلها ونجمع بينها على سنن الوفاق والانسجام لنفهم الموضوع من كليته.
نسأل الله أن لا يجعلنا ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، أو الذين جعلوا القرآن عضين، أو الذين أخذوا بعض الكتاب وتركوا بعضه.
ما هي الأشياء التي تجعلنا نخاف كثيرا من إنكار المنكر؟
نخاف من الإعلان بخطبة، أو بدر أو بمحاضرة، أو بكتاب أو حتى بمقالة في جريدة، بمعنى ما هي الأشياء التي تجعلنا نتخوف ونتردد من الكلمة الحرة الشرعية ؟
الكلمة الحرة الشرعية، ولا يأتي واحد يقول حرية العلمانية أو حرية الإلحاد، فهؤلاء والله المستعان فرصوا وأخذوا بأيديهم الشيء الكثير في بلاد عدة، ولكن نحن أيضا نضبط الأمر بالضوابط الشرعية.
الكلمة الحرة التي عليها دليل من كتب الله أو من سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو هو اجتهاد على أقل تقدير له ما يصوغه ويبرره إن لم يكن حقا صريحا، وصاحبه مع تأويل قوي.
إن هذا التنويع وهذا الانفتاح وهذا التوسع هو الذي يحفظ المجتمع من التصادم من الانشقاق من الانحراف، من الزعازع الأمنية، من الاختلاف، من انتشار الضغائن والأحقاد والبغضاء التي تجعل كل فرد يشعر بأنه غير منتميا لهذا المجتمع.(1/22)
قرأت بحثا لأحد المستشرقين نشر في جريدة الحياة من سبع حلقات يتحدث عن الأوضاع في الجزائر من عشرات السنين، ويتكلم عن الخليفة التاريخية للأوضاع التي تعاش الآن، فيشير إلى أنه منذ زمن بعيد كان الناس لا يشعرون بالانتماء لذلك المجتمع بكيانه، بأفراده، بموظفيه، بجهاته، بإداراته، بمؤسسات.
لا يشعرون بأنه هو المجتمع الأمين على مصالحهم، لا يشعرون بأنه هو المجتمع الذي يمثلهم، بل يشعرون بغير ذلك ويتربصون به الدوائر، ولذلك بمجرد ما وجد أدنى قضية، وبمجرد ما أشعل أدنى فتيل تحول المجتمع كله إلى وضع صعب وحرب أهلية شاملة كما تعرفون منذ أكثر من سنتين الآن.
والأمر له أسبابه، وليس الحديث الآن عن قضية الجزائر، وسيكون لي عنها –إن شاء الله حديث خاص-، ولا عن قضية مصر ولا عن غيرها، لكن أقول يجب أن نعتبر بسوانا وأن نعلم أن هذه كلها عقوبات ربانية، نعم كل شيء بقضاء الله وقدره، لكن هو نتيجة لعمل الإنسان:
( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).
( بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا).
هذا نص القرآن، هذه سنة الله في عباده، كل منكر يشيع ويذيع ويعلن ولا تقاومه الأمة، والله الذي لا إله غيره لسوف تدفع الأمة ثمنه، سواء كانت في بلاد الجزيرة العربية، أو في مصر، أو في الشام، أو في العراق، أو في المغرب، أو في المشرق أو القاصي أو الداني، ليس بين أحد وبين الله سبب إلا سبب التقوى.
إذا خالفنا أمر الله وإذا أقررنا المنكرات في مجتمعاتنا، وإذا سكتنا عليه، والله الذي لا إله غيره لسوف ندفع الثمن. ولكن ما هو الثمن ؟
قد يكون الثمن ترديا اقتصاديا وأزمات تأخذ بخناقنا.
قد يكون الثمن شظف في العيش، وفقرا وقحطا وجذبا وتأخرا في الزراعة.
قد يكون الثمن آفات وأمراض وترديا في الأوضاع الصحية.
قد يكون الثمن اختلافا وانشقاقا وتمزقا وانقساما في ما بيننا.(1/23)
قد يكون الثمن خلخلة في الأمن، أو تسليطا لعدو داخلي أو خارجي.
(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ).
بالله عليكم أيها الكرام، أسألكم وأجيبوني، هل عند أحد منكم عهد من الله أننا نحن غير مشمولين بهذه الآيات ؟ أبدا .
إذا هل نعتقد أن هذا القرآن نزل لغيرنا ؟ كلا، بل نزل لنا ولغيرنا.
وكما قال حذيفة رضي الله عنه:
نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم الحلو ولهم المر.
بمعنى أن نتصور أن ما أصاب الشعوب الأخرى، وما أصاب الأمم في العصور الفائتة أن هذا بسبب ذنوبهم، أما نحن فما شاء الله، وتبارك الله كل شيء عندنا على ما يرام !
نحن قائمون بأمر الله، مطيعون لله، محتسبون.
آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر.
كلمة واحدة، ولهذا لن يصيبنا شيء وستكون أمورنا كلها على ما يرام.
من يقول بهذا يا إخوان ؟
هل ينتظر أن نغمض عيوننا ونطأطأ رؤوسنا ونسكت ونصم آذننا ونغلق أفواهنا حتى إذا أصبحت الأمة كلها وأصبح الأفراد في وضع صعب وفي مأزق وفي نفق لا يستطيعون الخروج منه بدأ التلاوم، وبدأ التشاتم، وبدأ الاختلاف، وبدأ كل واحد يلقي باللوم على الآخر، وبالتبعات على فلان هو الذي فعل، وفلان هو الذي فعل.
لا، الحكمة أن نعي، وأن ندرك وأن نكون صاحين مدركين، وكما جاء في الحديث: الخراج بالضمان.
بمعنى أن الأمة التي عنده وعي وعندها إدراك وعندها يقظة هي أمة لك وعليك.
بمعنى أنها في زمن الخوف تستطيع أن تعتمد عليها لأنها أمة قوية واعية لا يستغلها عدوها، تستطيع أن تدافع عن نفسها، تستطيع أن تقوم بواجبها، تستطيع أن تصلح.
ولكن أيضا هذه الأمة تريد أن تعرف ما لها وما عليها، وتريد أن تأخذ حقوقها، وتريد أن تمارس ما أوجب الله عليها.(1/24)
في الدول الغريبة يفتخرون ويمتدحون بأنهم أعطوا الإنسان حق إبداء الرأي، والشريعة الإسلامية سبقتهم بقرون طويلة، ولم تكتفي بإعطاء الإنسان الحق في إبداء الرأي فقط بل جعلته واجبا وليس حقا، جعلته واجبا على الإنسان أن يبدي رأيه لأن هذا جزء من النصيحة وجزء من الدين الذي ائتمننا الله تعالى عليه ويعتبر من الخيانة أن يسكت الإنسان، ولهذا فالله سبحانه وتعالى يقول:
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). وما هو الحل؟
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). بينوا بيانا وأوضحوا.
ما معنى (يكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) ؟
هل معناه أنهم يخفون القرآن؟ هل يستطيع أحد أن يخفي القرآن، كلا.
هل يستطيع أحد أن يخفي السنة؟ كلا.
ما يستطيع أحد أن يفعل ذلك، فالقرآن موجود في المصاحف، والسنة موجودة في الكتب، وإنما المقصود أنهم لا يُنزلون ذلك على الواقع، ولا يحكمون على أحوال الناس بموجبه، ولا يفتون به، ولا ينصحون الأمة عامها وخاصها .، محكومها وحاكمها، كبيرها وصغيرها، فتوعدهم الله بهذا الوعيد.
وبالمقابل أثنى الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً).(1/25)
لماذا عبر بقوله (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) ؟ لو لم يكن للقضية تبعات، ولها آثار وفيها أضرار، وربما يترتب عليها بعض الأذى، ولو لم يكن ذلك، لم يكن هناك معنى لأن يمدحهم الله بقوله (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ). ما يخشى الناس إلا أمر يلم بهم أو ينزل بهم.
سبحان الله، أمة هذا قرأنها، أمة تقرأ القرآن لكن كما قال الحسن البصري رحمه الله: نزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا قراءته عملا).
بمعنى أنه قد نتمدح بأننا نقرأ القرآن، أو نحفظ القرآن، لكن هل نعي القرآن؟ هل نعقل القرآن؟
هل نحن أمة صنع القرآن أفكارها وعقولها ونظراتها وقناعاتها؟
أم نحن في واد والقرآن في واد آخر؟
لا بأس أن أعطيك مثالا:
قبل قليل قلت لك أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخاطب بـ يا رسول الله، و يا نبي الله، فأنظر كيف أصبح العام والخاص عندنا لا يريد أن تخاطبه إلا بألقاب التفخيم، مثلا:
أستاذ في الجامعة لو لم تقل له يا فضيلة الدكتور، أو يا سعادة الدكتور فقد يقول لك، هل ترى فيني نقص عن الناس، أو هل عندك خبر أن شهادتي مزورة، خاطبني بلقبي.
ولا بأس فالأدب طيب ولكن في حدود معينة، ولا يطلب الإنسان أن يخاطب بذلك، لكن أن يخاطبه الناس به فهذا شيء.
ومن يكون طالب علم أو يسمى الشيخ، لو خاطبه إنسان وقال له يا أخي فربما وجد في نفسه عليه شيئا، وقال لماذا الناس يخاطبونني بالشيخ والأستاذ الفاضل وهذا لا يخاطبني بذلك.
ومثل ذلك المدير أو الرئيس أو غيره، فأصبح التفاخر بهذه الأشياء جزء، بل أصبح هناك عقاب أحيانا على من لا يستعمل هذه الألقاب، أو من لا ينادي بها.
وهناك مثل طال عجبي عند الوقوف عنده، وله تعلق بما ذكرته قبل قليل في موضع الجهر بالإنكار.
أفضل إنسان وجد على الوجود من هو ؟(1/26)
محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي مسلم يخطر في قلبه بادرة انتقاص للرسول عليه السلام يخشى على أصل عقيدته من الزوال والانهيار أم لا.
أي شخص حرام عليه أن يدخل الجنة بعد بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يؤمن به وأنه خاتم النبيين وأنه الصادق المصدوق المبلغ عن ربه تبارك وتعالى، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهود ولا نصرانيا ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.
إذا علم ذلك فكيف خاطب الله تعالى هذا النبي الكريم العظيم ؟
قال : (عَبَسَ وَتَوَلَّى). من هو الذي عبس وتولى ؟ هو نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كأن الله سبحانه يتكلم ليس مع الرسول مباشرة إنما يحكي حاله وكأنه غائب.
(أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى). الضمير ضمير غائب وهذا له معنى بمناسبة العتاب.
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى). ما عليك من حسابهم من شيء.
(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى). فأنظر كيف سمى انهماك نبينا وسيدنا محمد ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة سمه تلهيا من اللهو (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى).
ثم قال له (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ). وهذا فيه ردع وزجر.
الله تعالى خاطب رسوله بقرآن يتلى إلى يوم القيامة بهذا الكلام، وكان الله قادرا أن على أن يبعث جبريل ليهمس في أذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبينه بأن هذا الموقف لا يتكرر، وأن هذا أمر ينبغي أن لا تفعله، وينتهي الأمر لأن القضية شخصية، لكن الله أدب الأمة كلها من وراء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأعجب من ذلك أن الله تعالى يخاطب رسوله في صدر سورة الأحزاب:
((1/27)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ). لو قال لك أحد في مجلس في عشرة أو عشرين يا فلان اتق الله، اتق الله ربما خرجت من ثيابك، وقلت له هل رأيتني على جرم ؟ هل رأيتني على ظاهر منكر أو معصية فتخاطبني بهذا الأسلوب؟
فكيف إذا قال لك يا فلان اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين، فربما تقول له وهل رأيتني عميلا ، أو ضبطت عندي معاهدة مع الغرب أو الشرق، هل رأيت أنني أدور في فلك أعداء الإسلام من الأمريكان والروس أو الألمان أو غيرهم حتى تخاطبني بقولك ولا تطع الكافرين والمنافقين ؟ ولربما أرغى وأزبد.
الله تعالى خاطب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا في القرآن إلى يوم القيامة:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً).
وفي نفس السورة يقول الله تعالى لنبيه ومصطفاة عليه صلوات الله:
( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ). من هو الذي يخفي في نفسه ما الله مبديه ؟ الرسول عليه السلام، وربنا يخاطبه بهذا في القرآن، وكلنا معشر المحبين للرسول عليه السلام نقرأ هذا إلى يوم القيامة.
(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ). تصور أنت لو أن أحد قال لك مثل هذا أمام عشرة من الناس، أو حتى خمسة أنك تخفي في نفسك أشياء الله سبحانه يبديها ويظهرها.
( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ). الله أكبر، ما أعظم هذا الرسول عليه السلام الذي يقرأ هذا الكلام ثم ينقله للناس، ولو كان مخفيا شيئا من القرآن لأخفى هذا، لكنه كما قال عنه ربه:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ).
وكما قال عنه ربه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).(1/28)
وهذا من أعظم الأدلة على ربانية القرآن، أن فيه عتاب لشخص النبي عليه السلام الذي جاء بالقرآن.
المقصود أن الله كان قادرا على أن ينبه نبيه عليه السلام عن هذه الأشياء بطريقة خاصة دون أن يكون هذا علانية، ودون أن يكون هذا قرأنا يتلوه الناس.
وقد يقول قائل أنه ربما يكون في هذا مظنة أن أحد قد يفهمه على غير وجهه.
نقول لا عبرة في هذه الافهام الناقصة، ولكن العبرة في الحق الصراح البواح الواضح، وفي ذلك تربية على أن من كان دون الرسول عليه الصلاة والسلام بمراحل لا تقاس ولا تجارى - وإن كان الصالحون يكونون معه يوم القيامة - من كان من عامة المسلمين أو من خاصتهم من أهل العلم أو من أهل الفضل، أو من أهل الرئاسة، أو من أهل الشهرة والمكانة الاجتماعية أنه لا حرج قط في الإنكار عليه جهرا في ما يكون الأولى فيه الجهر، وإسرارا في ما يكون الأولى في الإسرار.
أما المنكرات المعلنة العامة فينبغي أن يجاهر بإنكارها بالأسلوب المناسب.
أي بأسلوب ليس فيه تشهير، وليس فيه تعنيف وليس فيه تعدي للحدود، وليس فيه اتهام وتقول، وإنما فيه قول الحق الذي يتحمل الإنسان مسؤولية إثباته والبوح به متى استدعى الأمر ذلك.
إن الكلمة الحرة في صحيفة أو إذاعة أو شريط أو منبر أو مجلس أو كتاب أو ندوة إنها هي الضمان بإذن الله تعالى من انشقاق المجتمع، ومن انشطار.
إن المجتمع وقد تعلم وترقى وأصبحت أجهزة الإعلام تنقل له كل شيء، ومع اختلاطه بالمجتمعات الأخرى، وكثرة الاتصال الدولي من خلال الوسائل الحديثة التي تعتبر ثورة في الاتصالات من خلال الإذاعات والصحف وأجهزة التلفزة والكمبيوتر.
ووسائل الاتصالات اليوم أصبحت وسائل أكبر من إمكانياتنا، أكبر من تفكيرنا، أكبر من عقولنا بكثير، انفتح العالم بعضه على بعض ليصبح كما يقال قرية صغيرة.(1/29)
في ظل هذا الاجتياح الإعلامي الواسع جدا، لا يمكن أن تصور أي مجتمع في ظل هذا الانفتاح الكامل أن يظل مجتمعا صامتا لا يناقش ولا يشارك ولا يأخذ ولا يعطي ولا يقم رأيا أو مشورة.
الكلمة الحرة الهادفة الراشدة هي الضمانة من تحول الآراء إلى أن تعبر عن نفسها بعد ما وأدت وكبتت وصُودرت، فتعبر عن نفسها بأساليب القوة وأساليب اللجوء إلى العنف حتى ولو كان هذا العنف عملا انتحاريا، يعني في بعض الأحيان تعلم أن هؤلاء الذين يمارسون لونا من العنف لا يمكن أن يحدثوا تغييرا، لا يمكن أن يصنعوا شيئا، لكن هذه ثمرة طبيعية لما واجهوه من مصادرة الرأي، مصادرة الكلمة فكانت النتيجة مثل هذه التشققات والتبعجات والتصدعات التي نخشى على مجتمعات المسلمين منها، وندري أنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، وأن الله قد بين لنا العلاج بكلمة مختصرة شرعية هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين كل إنسان لأن يقوم بدوره في هذا الواجب، لا بل وإلزام كل إنسان لأن يقوم بدوره في هذا الواجب.
أحيانا نحن نبالغ في النتائج، أي كما يقول المثل نجعل من الحبة قبة، ونبني نتائج وهمية كبيرة جدا على أعمال يسيرة لا تنطبق عليها.
على سبيل المثال وكما تعرفون أنه منذ أكثر من ست سنوات أنا ومجموعة من الدعاة وطلبة العلم والخطباء المتحدثين، وليس بخاف عليكم بعض أسماء هؤلاء الأخوة والمشايخ كانوا يتكلمون والأشرطة انتشرت والكتب شرقت وغربت.
السؤال هل سمع أي إنسان أو يستطيع أن يثبت أيا كان موقعه وأيا كان رأيه أن هناك لا أريد أن أقول من حمل مسدسا، بل من ضُرب ضربا حقيقيا بسبب ما كنا وغيري نطرحه من اجتهادات أو آراء أو كتب وأشرطة؟
في حدود علمي أنه لم يوجد شيء من ذلك، مع أن الناس قد يتضاربون في أمور تافهة، الإنسان قد يتضارب مع بائع الخضار، قد يتضارب الطالب مع المدرس، قد يتضارب حتى الأب مع ولده والعياذ بالله، وقد يحدث من ذلك بل ما هو أشد منه الشيء الكثير.(1/30)
ففي كل المجتمعات يوجد نسبة من الجرائم يرون أن وجود هذه الجرائم أمر طبيعي في أي مجتمع، صحيح أنها جرائم ليست مقبولة، ولكن بحكم اجتماع الناس وما قد يوجد بينهم من الشاذ والمنحرف والعصبي والأهوج والمتسرع، ولذلك يرون أن هذه النسبة من الجرائم يظل وجودها طبيعيا، لكن إن تعدت هذه النسبة فمعناه أن هناك خلل في المجتمع يجب أن يعالج.
إذا حينما يأتي أحد ليقول أن الكلام وإنكار المنكر قد يترتب عليه كذا وكذا.
وبحدود ما عملنا وما اطلعنا عليه وما سمعنا، والله أني لا أعرف أنه يترتب عليه إلا أن الناس أصبح عندهم هم كي يغيروا، فقد يكتب أحد منهم خطابا، أو برقية، أو يتكلم في مسجد.
ثم افترض أن إنسانا ما كتب خطابا حتى لو كان شديد اللهجة، أنا قد لا أوافق أن يكون الخطاب شديد اللهجة ولكن ما يضر، وكل ما يفترض أن يقال له أن الخطاب طيب ولكن لهجته شديدة، فلعلك تلطف الخطاف في المرة القادمة، إنما لا تنقلب الدنيا ولا تنطبق السماء على الأرض لمجرد أن واحد كتب خطاب شديد اللهجة، يعني أنكر وأخطأ في أسلوب الإنكار.
أو هب إن إنسانا قام وتكلم في مسجد، وكان كلامه في شيء من التعدي، فنقول له كلمة طيبة ومبدأ النصيحة مطلوب، لكن ليت الكلمة كانت الطف وليت الأسلوب كان أحسن من هذا لكي يكون أوقع وأدعى إلى تحقيق ما تهدف وتصبو إليه، هذا هو القدر الذي يمكن أن يكون.
هب أن عشرة أو عشرين كتبوا برقية أو خطابا أو نصحوا لله ولرسوله، هذا هو غاية ما يمكن أن يحدث ويكون، هذه جزء من المشاركة التي نطالب المجتمع بها وندعو إليها، ونرى أن المجتمع ما لم يتحمل هذه المسؤولية فهو على خطر عظيم.
هذا يذكرني بالقصة التي حدثت في اليمن في عهد أحد أئمة الزيدية، فيقولون أن إحدى القبائل اشتكوا للإمام أن المراسل الذي يأتيهم بأوامر الملك أنه رجل قاسي عنيف وشديد أحمق وأنهم يطالبون أن يغير ويأتي بإنسان أحكم منه.(1/31)
فأرسل إليهم الإمام – كما كان يسمى – قائلا أنتم اليوم تطلبون تغيير الرسول الذي يأتيكم مني، وغدا تطلبون تغيير مأمور القرية، وبعد غد تطلبون تغيير الذي فوقه، وربما يأتي يوم تطلبون إبعادي أنا أو تغييري.
لكن نقول أن القضية لا تصل إلى هذا الحد، الأمور أهون من ذلك، كل ما في الأمر أن هناك مجموعة من الناس عندهم رأي، ولهم مشاركة، ولهم اجتهاد ومطلب إصلاحي، هذا كل ما في الأمر، فلماذا تبني نتائج وهمية، وخيالية وبعيدة على أسباب قريبة جدا ولا يتوقع أن تحدث الأمر الذي تحدثه.
لماذا نتصور أن الناس دائما بلا عقول ولا إدراك ولا شعور بالمسؤولية، وأننا وحدنا الذي نملك ذلك أما الآخرون فهم يحتاجون إلى وصاية.
متى تشب الأمة عن الطوق وتصل إلى مرحلة من الرشد تجعلها ليست بحاجة إلى وصاية من أحد ؟
نعم لابد للأمة من علماء عبر التاريخ كله، لكن العلماء إنما هم مبلغون عن الله تعالى، ناطقون بإسم الشرع، والأمة تختار من أقوالهم وفتاويهم ما تعتقد أنه أقرب إلى الدليل.
وكذلك لابد للأمة من عرفاء كم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن مع ذلك يظل للأمة رأيها، ولذلك عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة، أراد أن يعين بعض الصحابة لتحمل بعض المسؤوليات.
فقاموا عليه وقالوا لا يا أمير المؤمنين، كل واحد أراد أن يتنصل من المسؤولية.
فقام عمر وأعلنها على المنبر، والله لتتحملون المسؤولية معي أو لأنسحب وأترككم وأتخلى عن الخلافة، ما دام أنكم وضعتموها في عنقي فلابد أنى تتحملوا الأمر معي.
فأنظر كيف انقلاب المفاهيم وانعكاسها اليوم:
عمر يطالب الناس ويجرهم جرا بالقوة لأن يتحملوا عنه هذه التبعة العظيمة الضخمة التي وضعوها في نقه، يتملون عنه حتى بالإنكار عليه، بالتصحيح بالاستدراك، بالنصيحة وبالدعاء له أيضا وبالتوجيه وبغير ذلك من الوسائل الشرعية.(1/32)
إن أي إنسان مهما بلغ من العظمة والكمال لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية كل شيء حتى لو كان عمر رضي الله عنه، فكيف بمن دونه.
أخيرا ينبغي أن أعيد ما ذكرته أثناء هذه الكلمة أن الله توعد في القرآن الكريم الأمة التي يشيع فيها المنكر، ولا تنكره، توعدها بألوان من العقوبات، منها: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).
وهذا ما يسمى خطر التقسيم الذي يجتاح أو يهدد أي بلد من البلدان الإسلامية، وقبل فترة ليست بالبعيدة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يتكلم أنه يجب أن تزداد الدول العربية إلى أكثر من أربعين دولة، وهذا يوحي بأنه يخطط لتمزيق البلاد العربية والإسلامية وتمزيقها، وما قصة اليمن عنا ببعيد، فقد كان هناك مخطط لتقسيم اليمن إلى ثلاث دول وفي بعض الدراسات إلى خمس دول، لكن الله تعالى أحبط كيدهم بإخلاص المخلصين وصدقهم واحتسابهم، وبمشاركة الأمة مشاركة فعلية في الإنكار وكشف الجريمة ومقاومة الظالمين والمعتدين والعملاء الذين ينفذون المخططات الأجنبية في بلادنا.
ومثل ذلك التردي الاقتصادي وهو ما يعبر عنه في القرآن بالسنين: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
وفي الحديث : إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، وهذا أيضا عقوبة على معصيتهم وعدم وجود من ينكرها منهم، فهذا ما يمكن أن نسميه بالتردي الاقتصادي.
ومثل ذلك الخوف وهو ما يمكن أن يعبر عنه باختلال الأمن، وسبق الإشارة إلى ذلك في آيات في أول الكلام، وهذا أيضا خطر يهدد المسلمين في أي مكان.(1/33)
ونحن نعرف أننا في هذه البلاد مثلا منذ فترة ليست بالطويلة كانت هذه البلاد صحراء ممتدة وكان السلب والنهب موجودا قائما فيها، والذي جرى بالأمس ممكن أن يجري اليوم، ومسألة صنعاء إلى حضرموت هذا مثل ضربه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه لنا عبرة وأسوة إن لم نقم بأمر الله تعالى فإن الله تعالى يسلط علينا ما توعد به الناكثين والناكرين والقاسطين عن الطريق.
فضلا عن العدو الخارجي، وقد يقول قائل كيف العدو الخارجي ؟
فأقول ليس شرطا بالضرورة أن يكون العدو الخارجي يهودا أو نصارى مع أن اليهود والنصارى أمرهم مكشوف ومعروف ومخططهم الآن أصبح باليوم يتغير، وهو مكشوف عبر أجهزة الإعلام، والذي يتابع عملية السلام مثلا وكيف تسير الآن بالكيلو متر وليس بالمتر، يجدها غريبة جدا فهم يتكلمون عن تبادل اقتصادي وتبادل سياحي وانفتاح أمني واتصالات هاتفية وشيء الحقيقة مذهل جدا.
ومطلوب من الأمة أن تسكت ولا تنكر، لماذا حتى لا تحدث الأمة زعزعة للأمن أو تفريق للكلمة، بمعنى أنه من حق أعداء الأمة أن يفعلوا ما شاءوا، وحق على الأمة أن تسكت على ذلك كله.
وأخيرا أن من أنكر فينبغي أن ينكر بالمعروف، ينبغي أن يكون أمره بمعروف، ونهيه عن المنكر غير منكر، كما قال سفيان الثوري وغيره، وكما ذكر ذلك الإمام ابن تيميه وفصله في رسالته العظيمة رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا رسالة الحسبة وتكلم فيها في هذا الباب وأصل في هذه القضية التي أشرت إليها.
أقول والله لأن ينكر الإنسان ولو بشيء من التعجل وعدم الانضباط خير وأحب إلينا من الصمت.
ونحن نرى الانتقاد الكبير لمن ينكرون، لكن لا نرى انتقادا لهؤلاء الصامتين، مع أن الصامتون هم أولى بالإنكار عليهم، وأولى بالانتقاد، لأن المنكر قد بذل وسعه، وربما دفعه الغيرة، لكن ذلك الساكت، الشيطان الأخرس ما هو تأويله ؟ ما تعليله ؟(1/34)
لا شك أنه ما سكت إلا بسبب ضعف إيمانه وضعف غيرته على الدين وأهل، وحتى ضعف غيرته على المجتمع وعلى البلد.
فمن لا يكون خائفا على الدين ينبغي أن يخاف على الأمن والاستقرار ووحدة الأمة التي نحن جزء منها وجزء من المستفيدين منها.
هذا ما لدي، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
واحات الهداية: http://www.khayma.com/ante99/index.htm(1/35)