مقدمة
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [سورة آل عمران، آية: 102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [سورة النساء، آية: 1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [سورة الأحزاب، آية: 70] (1) .
أما بعد:
__________
(1) خطبة الحاجة للشيخ الألباني.(1/1)
(لما كانت هذه الدنيا دار مممر ومعبراً إلى الآخرة، وجب التزود منها بالقدر الذي يصل به الإنسان إلى الآخرة، ولذلك وجب على المرء أن يقنع بما أتاه الله عز وجل، وليعلم أن الغنى هو غنى النفس؛ وليس كثرة المال والمتاع؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس») (1) (2) ، ولكن الناظر في أحوال الناس اليوم يجد أن الدنيا ألهتهم عن طاعة الله؛ بل شغلت قلوبهم عن الواجبات مثل أداء الصلاة وتربية الأبناء؛ فبعض الناس قد تفوته الصلاة انشغالا بالدنيا وجمعاً لحطامها، وإن صلاها البعض فصلاة بلا روح؛ لأن قلبه قد تفرق في شعاب الدنيا وأوديتها, فبين صفقة تجارية أو محل تجاري يريد أن يفتحه أو عمارة يريد أن يبنيها أو قطعة أرض يريد أن يشتريها أو وظيفة يطمح لها... الخ من الأشغال، وكأن المصلي إذا رفع يديه مكبرًا للصلاة الله أكبر قال: لسان حاله بل الدنيا أكبر، وهذه الدنيا دار ممر لا مقر ودار عمل لا نعيم والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» (3) .
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.
وإن من أسباب الانشغال بالدنيا والإقبال عليها هو الطمع فيها والحرص عليها، لذا أحببت أن أكتب هذه الرسالة حول موضوع أجدُ أننا بحاجة إليه وهو موضوع القناعة.
__________
(1) متفق عليه.
(2) كتاب ذم الدنيا للزهيري ص36.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن.(1/2)
ولأني لم أجد فيما بحثت من كتب عن هذا الموضوع بشكل متكامل، أحببت أن أجمع ما تيسر حول هذا الموضوع وأقدمه زادًا لي ولأخواني, عسى أن يكون تذكرة لنا جميعًا؛ { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } (1) وأسأله تعالى أن يجعل عملي خالصًا لوجهه لكريم وأن يجعل هذه الكلمات حجة لنا لا حجة علينا، وأن ينفعنا بها والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * * *
بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة
إن مما يرغب الإنسان في الإقبال على الأعمال الصالحة وجعلها أكبر همه هو معرفة ما أعد الله من النعيم في الآخرة لعباده المؤمنين، وكذلك المقارنة بين نعيم الدنيا الزائل المشوب بالتعب والمنغصات ونعيم الآخرة الخالي من الأكدار والأحزان والانقطاع أو الزوال، لذلك أحببت أن أقدم مقارنة مختصرة بين نعيم الآخرة ونعيم الدنيا، وذلك من خلال بعض ما جاء في القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - .
يقول تعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } (2) .
ويقول تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } (3) .
ويقول تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ } (4) .
ويقول تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } (5) .
__________
(1) سورة الذاريات آية 55.
(2) النساء 77.
(3) الأنعام 32.
(4) الرعد 26.
(5) التوبة 36.(1/3)
ويقول تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (1) .
والآيات في ذلك كثيرة وأكتفي بما سبق للذكرى فقط.
أما الأحاديث النبوية فكثيرة أيضًا نذكر منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «والله ما الدنيا في ألآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه – وأشار بالسبابة – في اليم فلينظر بم ترجع» (2) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» (3) . وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لو أن امرأة من نساء الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» (4) .
ونكتفي بهذا القدر لعل فيه بلاغ لما يراد إبلاغه.
ولعلنا نستخرج من هذه الآيات والأحاديث وغيرها ما لم نذكره.
* * * *
بعض مميزات نعيم الجنة عن نعيم الدنيا (5) :
1- نعيم الدنيا قليل ونعيم الآخرة كثير.
2- نعيم الآخرة أفضل من حيث النوع في ثيابهم وطعامهم وشرابهم ونساءهم وقصورهم من نعيم الدنيا.
3- إن الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها في الأكل والشرب والنساء.
__________
(1) آل عمران 14، 15.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري.
(5) من كتاب الجنة والنار للدكتور عمر الأشقر باختصار ص222-228.(1/4)
4- نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باق دائم.
5- إن العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النار.
وأختم بهذا الحديث العظيم الذي فيه عبرة وأي عبرة, عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة, فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتي بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة, فيصبغ صبغةً في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط» (1) .
بين تقدير الرزق وطلبه
ينبغي للمسلم أن يجعل نصب عينيه أمرين مهمين في مسألة طلب الرزق والقناعة فيه:
الأمر الأول: هو أن الله أمر بطلب الرزق، وحث على العمل، في آيات عديدة، نذكر منها، قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (2) .
وقوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ } (3) .
وقال تعالى: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ } (4) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) سورة الملك آية 15.
(3) سورة الجمعة آية 10.
(4) سورة المزمل آية 20.(1/5)
وغيرها كثير وكذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حَثَّ على كسب الرزق بل عده من العمل الصالح الذي يثاب عليه الإنسان إذا صلحت نيته وجاء الحث عليه في أحاديث كثيرة نذكر منها: عن كعب بن عجرة قال: مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل, فرأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله (أي: في الجهاد ولإعلاء كلمة الله وكان أفضل العبادات عندهم) فقال: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومنافرة فهو في سبيل الشيطان» (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (4) .
ووجه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أصحابه فقال: «لأن يأخذ أحدكم حبله, فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» (5) .
والأحاديث كما قلت كثيرة ولكن أكتفي بهذا القدر.
__________
(1) قال المنذري رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(2) رواه الترمذي وحسنه.
(3) متفق عليه.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه البخاري.(1/6)
أما الأمر الثاني: فهو علم العبد ويقينه أن الله قد كتب له رزق معين قبل أن يولد، لن يزيد ولن ينقص إلا أن يشاء الله ويدل على ذلك حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك, فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله وعمله وشقي أم سعيد...» الحديث (1) .
وقوله تعالى: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (2) .
وقوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (3) .
إذا علم العبد هذين الأمرين وآمن بهما عن يقين وتصديق, فإن عليه أن يطلب الرزق في هذه الدنيا بالطرق المشروعة والمباحة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اعلموا فكل ميسر لما خلق له» (4) ، دون أن يكون طلبه برزقه مشغلاً عن العبادة وأداء الواجبات أو الازدياد من المستحبات وليعلم العبد أن رزقه قد كتب وقسم له, فلا يزيده حرص حريص ولا يرده كراهية كاره؛ فعليه الاقتصاد في الطلب بما يوفي بالحاجة ولا يشغل عن الطاعة.
* * * *
تعاريف:
(قال ابن السني: القناعة: الرضا بالقسم، يقال قنع الرجل قناعة إذا رضي) (5) .
(وقال الفيروزآبادي: القناعة الرضا) (6) .
(وقال الراوي: القناعة: الرضا بالقسم وبابه سلم فهو قنع وقنوع وأقنعه الشيء أي: أرضاه وقال بعض أهل العلم: إن القنوع أيضًا قد يكون بمعنى: الرضا والقانع بمعنى: الراضي وأنشد:-
وقالوا قد زهيت فقلت كلا
ولكن أعزني القنوع
__________
(1) متفق عليه.
(2) سورة الذاريات آية 22.
(3) سورة هود آية 6.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) كتاب القناعة ص11.
(6) القاموس المحيط ص977.(1/7)
وفي المثل: خير الغنى القنوع وشرُّ الفقر الخضوع) (1) .
(قال ابن حزم: القناعة فضيلة مركبة من الجود والعدل) (2) .
(قال مصطفى السباعي: القناعة والطمع هما الغني والفقر؛ فرب فقير هو أغنى منك، ورب غني هو أفقر منك) (3) .
فالقناعة: هي أن ترضى بما قسم الله لك في هذه الدنيا، قل هذا أو كثر, وتفوض أمرك لربك، وتعلم أنه أعلم أرحم بك من نفسك.
آيات في الحث على القناعة
الآيات في ذلك كثيرة، أذكر بعضها، وأدعوك لتدبر معانيها:
قال تعالى: { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } (4) .
وقال تعالى: { لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } (5) .
وقال تعالى: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } (6) .
وقال تعالى: { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ... } (7) .
وقال تعالى لموسى - عليه السلام - : { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (8) .
وقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } (9) .
قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما قالا: بالقناعة [تفسير ابن كثير 2/645 – الطبري 7/115 – القرطبي 3790].
__________
(1) مختار الصحاح ص353.
(2) مداواة النفوس ص129.
(3) هكذا علمتني الحياة ج1 ص14.
(4) سورة النساء آية 32.
(5) سورة البقرة آية 273.
(6) سورة هود آية 6.
(7) سورة الشورى آية 49.
(8) سورة الأعراف آية 144.
(9) سورة النحل آية 97.(1/8)
وقال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (1) .
وقال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } (2) .
وقال تعالى: { إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ } (3) .
قال تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } (4) .
وقال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (5) .
وقال تعالى: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (6) .
أحاديث في الحث على القناعة
عن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (7) .
(سربه بكسر السين المهملة: أي نفسه، وقيل قومه) (8) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه» (9) .
__________
(1) سورة البقرة آية 216.
(2) سورة آل عمران آية 14.
(3) سورة لقمان آية 33.
(4) سورة القصص آية 77.
(5) سورة القصص آية 83.
(6) سورة الذاريات آية 22.
(7) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(8) رياض الصالحين ص227.
(9) رواه مسلم.(1/9)
وعن فضالة بن عبيد الأنصاري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قد أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا وقنع به» (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس» (2) . قال النووي: (العَرَض هو المال) (3) ، وفي شرح هذا الحديث قال بعض أهل العلم: ليس حقيقة الغنى كثرة المال، لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي، فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير؛ لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به، ورضي ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غنى.
وقال آخرون: إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح، هو غنى النفس، وبيانه: أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت، وحصل لها من الخطوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال، لدناءة همته وبخله ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل, وقال ابن حجر: والحاصل إن المتصف بغنى النفس يكون قانعًا بما رزق الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يلحف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد بدًا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه؛ لكونه لا يقنع بما أعطي بل هو أبدًا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه ثم إذا فاته المطلوب، حزن وأسف، فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغن بما أعطي، فكأنه ليس بغني، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن لحرص والطلب) (4) .
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) متفق عليه.
(3) رياض الصالحين ص234.
(4) ذم الدنيا لسمير الزهري ص26-38.(1/10)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم, فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وفي رواية للبخاري: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى ما هو أسفل منه) لماذا؟ ليستريح الإنسان من نصب الدنيا ويملأ قلبه قناعة ويتزود بالتقوى ويرضى عن فعله الله جل وعلا) (1) .
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (يا لها من وصية نافعة وكلمة شافية وافية، فهذا يدل على الحث على شكر الله بالاعتراف بنعمه والتحدث بها والاستعانة بها على طاعة المنعم, حتى ربما كان فقيرًا يفوق بهذه النعمة – نعمة القناعة وراحة القلب – كثيرًا من الأغنياء) (2) .
وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) (3) .
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله, وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) (4) .
قال الشيخ ابن سعدي في معرض كلامه عن الحديث: (وتمام ذلك بصلاح القلب وطمأنيته بالعفاف عن الخلق والغنى بالله ومن كان غنيًا بالله فهو الغني حقًا وإن قلَّتْ حواصله فليس الغنى من كثرة العرض إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله) (5) .
__________
(1) مجلة الإسلام ص12 عدد 43 للأستاذ الشيخ مصطفى محمد عمار.
(2) بهجة قلوب الأبرار ص55-56.
(3) السلسلة الصحية للألباني ج2 رقم 944.
(4) متفق عليه.
(5) بهجة قلوب الأبرار ص92.(1/11)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلى ما قدر له» (2) .
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم ِإن هذا المال خضر حلو, فمن أخذه بسخاوة نفس بورك فيه, ومن أخذه بإشراف نفس لما يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع...» الحديث (3) .
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله» (4) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أصابته فاقه فأنولها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (5) .
قال النووي: يوشك: أي يسرع (6) .
وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي - رضي الله عنه - قال: «ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ما عنده الدنيا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تسمعون ؟ ألا تسمعون ؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان، يعني: التقحل» (7) .
(قال النووي: البذاذة هي رثاثة الهيئة وترك فاخر اللباس) (8) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(2) رواه الترمذي وصححه الألباني السلسلة الصحيحة ج2 (2005).
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(5) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
(6) رياض الصالحين ص236.
(7) رواه أبو داود.
(8) رياض الصالحين ص228.(1/12)
وعن أنس بن مالك وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» (1) .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما طلعت الشمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعان من على الأرض غير الثقلين: أيها الناس هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» (2) .
وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس» (3) .
وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لديه» (4) (5) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يقول العبد مالي، مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» (6) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» (7) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) رواه الحاكم وحسنه الألباني لشواهده السلسلة الصحيحة.
(4) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(5) هناك شرح قيم لهذا الحديث لابن رجب الحنبلي ينصح بقرائته.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه البخاري.(1/13)
قال النووي: قالوا في شرح هذا الحديث معناه: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق الغريب في غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله» (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميلة إن أعطى رضي وإن لم يعطَ لم يرضَ» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصية عظيمة لمن أراد القناعة: «أجمع الياس مما في أيدي الناس) (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اجملوا في طلب الدنيا فإن كلاً ميسر لما خلق له» (4) .
وعن قتادة بن النعمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله إذا أحب عبدًا حماه من الدنيا, كما يزل أحدكم يحمي سقيمه الماء» (5) .
وعن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» (6) .
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا أبا بكر؛ إذا صليت، فصل صلاة مودع، وإياك وكثرة السؤال عما لا يعنيك، واكتف بما أتاك الله يغنيك» (7) .
فائدة:
حديث (القناعة مال لا ينفد) أورده السيوطي في الجامع الصغير من حديث أنس عند القضاعي في الشهاب.
قال الشيخ الألباني: ضعيف جدًا، ضعيف الجامع (4144).
سؤال الله القناعة:
__________
(1) رياض الصالحين ص215-216.
(2) رواه البخاري.
(3) أخرجه الإمام أحمد ج5 ص412 وابن ماجه وحسنه الألباني السلسلة الصحيحة 401.
(4) أخرجه الترمذي.
(5) رواه ابن ماجه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة قم 898.
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه.
(7) أخرجه الحاكم وحسنه الألباني السلسلة الصحيحة (401).(1/14)
جاءت أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه فيها القناعة نذكر منها:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو فيقال: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» (1) .
يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها وهو يتضمن سؤال خير الدين والدنيا (فالعفاف والغنى) يتضمن العفاف عن الخلق وعدم التعلق بهم والغنى بالله ورزقه والقناعة بما فيه، وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية، وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا والراحة القلبية وهي الحياة الطيبة.
فمن رزق الهدى والتقى والعفاف والغنى نال السعادتين وحصل له كل مطلوب ونجا من كل مرهوب. والله أعلم) (2) .
وعن ابن عمر قال: قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الكلمات لأصحابه «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا» (3) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم ارزق آل محمد قوتًا» (4) متفق عليه وفي رواية «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا».
- قال النووي (قوتًا: أي ما يسد الرمق) (5) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) بهجة قلوب الأبرار ص232.
(3) صحيح الترمذي للألباني ج3 ص168.
(4) متفق عليه.
(5) رياض الصالحين ص124.(1/15)
(وقال ابن بطال في شرح هذا الحديث وفيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة في الدنيا والزهد فيها فوق ذلك، رغبة في توفير نعيم الآخرة وإيثار لما يبقى على ما يفنى، فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك، وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طلب الكفاف, فإن القوت هو ما يقوت البدن ويكفيه عند الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعًا» (1) .
من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه:
عن عروة عن عائشة رضي الله عنها إنها كانت تقول: « - صلى الله عليه وسلم - الله يا ابن أختي إن كنا ننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار, قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا» (2) .
- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: «لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه» (3) .
قال النووي: الدقل: تمر ردئ (4) .
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أدم (5) حشوه ليف» (6) .
- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينا تسع تمرات فكنا تسعة، فأعطى تمرة تمرة» (7) .
- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء, إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين, فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته» (8) .
__________
(1) فتح الباري ج11 ص193.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.
(4) رياض الصالحين ص222.
(5) ادم: جلد.
(6) رواه البخاري.
(7) رواه ابن السني في كتاب القناعة وأصله في البخاري.
(8) رواه البخاري.(1/16)
- وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله ولقد كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الحبله وهذا السمر حتى إن كان أحدنا ليضع ما تضع الشاة ما له خلط» (1) .
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير» (2) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.(1/17)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: والله الذي لا إله إلا هو إني لاعتمد على كبدي على ألأرض من الجحوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه, فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي ثم قال: «أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق»، ومضى فاتبعته، فدخل واستأذن فأذن لي فدخلت فوجدت لبنًا في قدح فقال: «من أين هذا اللبن» قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي» قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأتون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها, فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة اتقوى بها، فإذا جاؤوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله قال: «فخذ فأعطهم»، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل, فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: «أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت» قلت: صدقت يا رسول الله قال: «اقعد فاشرب»، فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت، فما زال يقول: «اشرب» حتى قلت لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا، قال: «فأرني» فاعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة (1) .
__________
(1) رواه البخاري.(1/18)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟» فقال: صالح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من يعوده منكم؟» فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص نمشي في تلك السباخ حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين معه» (1) .
وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر علينا أبا عبيدة - رضي الله عنه - نتلقى عيرًا لقريش وزودنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، فقيل: كيف تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله.. الحديث» (2) .
قال النووي: الخبط شجر معروف تأكله الإبل (3) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رياض الصالحين ص229.(1/19)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «قال أبو طلحة لأم سليم: قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفًا أعرف فيه الجوع, فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقداحًا من شعير ثم أخذت خمارًا لها, فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه, ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبت به, فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أرسلك أبو طلحة؟»، فقلت: نعم فقال: «الطعام؟» فقلت: نعم، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قوموا» فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس عندنا ما نطعمهم؟ فقالت: الله ورسوله أعلم فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه حتى وصلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه حتى وصلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هلمي ما عندك يا أم سليم» فأتت بذلك الخبز فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففتت وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته ثم قال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول ثم قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة». حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون» (1) .
هذا شيء يسير من خبرهم أوردته للمثال لا للإحاطة، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب السير والزهد، مثل: كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكتاب الزهد للإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله، وكتاب حياة الصحابة للكاندهلوي.
* * * *
آثار
__________
(1) متفق عليه.(1/20)
«سأل موسى - عليه السلام - ربه عز وجل: أي ربي أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكرًا. قال: يا رب فأي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم بما أعطيته. قال: يا رب فأي عبادك أعدل؟ قال: من دان نفسه» (1) .
وقال سليمان بن داود - عليه السلام - : «قد جربنا العيش كله، لينه من شديده، فوجدناه يكفي من أدناه» (2) .
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في خطبته على المنبر: (أيها الناس، إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا يئس من الشيء استغنى عنه.
وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - لابنه: يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع؛ فإنه الفقر الحاضر، وعليك اليأس مما في أيدي الناس؛ فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه (3) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال موسى - عليه السلام - : يا رب ما علاقة من صافيته من خلقك؟ فأوحى الله تعالى إليه: أقنعه باليسير، وأدخر له في الآخرة الكثير) (4) .
ولما حضر سلمان الفارسي الموت بكى، فقيل: ما يبكيك أبا عبد الله وأنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: أما إني لا أبكي جزعًا على الدنيا؛ ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فتركنا عهده؛ أن تكون بُلْغَةُ أحدنا من الدنيا كزاد الراكب. قال: فلما مات نظروا فإذا نحو من قيمة ثلاثين درهمًا (5) .
ويقال: إن أبلغ شيء جاء في القناعة قول علي - رضي الله عنه - : (لا تحمل هَمَّ قوتَ يومِك الذي لم يأت على يومك الذي أتى؛ فإنه إن يكن من أيام حياتك جاءك رزقك، واعلم أنك لن تدخر أكثر من قوت يومك إلا كنت فيه خازنًا لغيرك) (6) .
__________
(1) أخرجه ابن السني في كتابه القناعة ص18.
(2) كتاب الزهد للإمام أحمد ص145.
(3) الكفاف والقناعة ص34.
(4) الكفاف والقناعة ص12.
(5) رواه الإمام أحمد 5/438 وابن سعد في الطبقات 4/11.
(6) جامع العلوم والحكم ص289.(1/21)
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : (اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تلوم أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله بقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط) (1) .
جاء في بعض الآثار الإسرائيلية: (الرزق مقسوم والحريص محروم، ابن آدم إذا أفنيت عمرك في طلب الدنيا فمتى تطلب الآخرة) (2) .
قال ابن رجب الحنبلي: (فالحرص على الدنيا معذبُ صاحبه، مشغول لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله؛ فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته؛ لالتفاته لما يفنى وغفلته عما يدوم ويبقى) (3) .
كان عبد الواحد بن زيد يقول: (الحرص حرصان؛ حرص فاجع وحرص نافع؛ فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا) (4) .
قال ابن رجب:
قال الفضيل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل. وقال: القنوع هو الزاهد وهو الغني؛ فمَنْ حقَّق اليقين وَثق بالله في أموره كلها ورضي بتدبيره له وانقطع عن التعلق بالمخلوقين؛ رجاءًا وخوفًا، وضعة ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهدًا في الدنيا حقيقة، وكان من أغنى الناس وإن لم يكن له شيء من الدنيا) (5) .
قال مالك بن دينار: إني لأغبط الرجل الذي يكون عيشه كفافًا ويقنع به (6) .
حكم
قيل: مثل طالب الدنيا، مثل شارب البحر؛ كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله.
قال بعض الحكماء: أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة.
قال أبو حازم: ثلاث من كن فيه كمل عقله؛ من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزقه الله عز وجل.
__________
(1) ص19. «ذم المال والجاه».
(2) ص18. «ذم المال والجاه».
(3) ص20. «ذم المال والجاه».
(4) ص20 من كتاب ذم المال والجاه في شرح (ذئبان جائعان) لابن رجب.
(5) جامع العلوم والحكم ص289.
(6) الكفاف والقناعة ص20.(1/22)
وقال بعض الحكماء: (أطول الناس همًّا الحسود، وأهْنَؤهم عيشًا القنوع).
* * * *
ذكرى
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذَمِّ الدنيا كتابًا طويلاً فيه:
أما بعد..
فإن الدنيا دار ظعن وليست بدار مقام، وإنما نزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإن الزاد منها تَرْكُها، والغنى فيها فقرُها؛ تُذل من أعزها، وتفقر من جمعها؛ كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حَتْفُه؛ فاحذر هذه الدار الغَرَّارة الخالبة الخداعة، وكن أسرّ ما تكون فيها؛ أَحْذَرَ ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر؛ فلو كان الخالق لم يُخْبر عنها خبرًا ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبَّهت الغافل؛ فكيف وجاء من الله عنها زاجر! وفيها واعظ، فما لها عند الله سبحانه قَدْر ولا وزن، ما نَظَرَ إليها منذ خلقها.
ولقد عرضت على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مفاتيحها وخزائنها، لا ينقصه عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغضه خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، زواها عن الصالحين اختيارًا وبسطها لأعدائه اغترارًا؛ فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها! ونسي ما صنع الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به- إلا كان قد نقص عقلاه، وعجز رأيه، وما أمسك عن عبد فلم يظن أنه فد خير له فيها إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه.
الدنيا خداعة
[الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج؛ إنما تخطب الأزواج ليتحسنوا عليها، فلا ترضى بالدياثة.
ميزت بين جمالها وفعالها
فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
حلفت لنا ألا تخون عهودنا
فكأنها حلفت لنا أن لا تفي
السير في طلبها سير في أرض مسبعة (1) والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، المفروح به منها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها.
__________
(1) مسبعة: أي أرض كثيرة السباع.(1/23)
مآرب كانت في الشباب لأهلها
عِذابًا فصارت في المشيب عَذابا
طائر الطبع يرى الحبة، وعين العقل ترى الشرك، غير أن عين الهوى عمياء.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
تزخرفت الشهوات لأعين الطباع فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب ووقع تابعوها في بيداء الحسرات، فـ { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وهؤلاء يقال لهم: { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } .
لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى طلبًا لحياة الأبد، ولما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريق تلمحوا المقصد فقرب عليهم البعيد، وكلما أمرت لهم الحياة حلى لهم تذكر: { هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ] (1) .
* * * *
قصص في القناعة
- أصابت داود الطائي فاقة كبيرة؛ فجاءه حماد بن أبي حنيفة رحمه الله بأربعمائة درهم من تركة أبيه، وقال: هي من مال رجل لا أقدم عليه امرأً في زهده وورعه وطيب كسبه، فقال له داود: لو كنت أقبل من أحد شيئًا لقبلتها تعظيمًا للميت وإكرامًا للحي؛ ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة.
كان ابن أبي الصادق الطبيب حسن الشمائل مهذب الأخلاق، متقنًا لأجزاء الحكمة، دعاه السلطان إلى خدمته، فأرسل إليه يقول: إن القنوع بما عنده لا يصلح لخدمة السلطان، ومن أكره على الخدمة لا ينتفع بخدمته.
- لما عزم الملك (برهس) على محاربة الرومان تقدم إليه (سينباس) الحكيم وقال له: هب أنك حاربت الرومان وتغلبت عليهم، فماذا تفعل بعد ذلك؟ فقال: أهجم على جزيرة صقلية وأقتحمها.
فقال (سينباس): ثم ماذا تفعل بعد صقلية وفتحها؟
__________
(1) الفوائد لابن القيم ص60-61.(1/24)
فقال: أعبر إلى إفريقية وأفتح (قرطاجنة). فقال (سينباس): ثم ماذا تفعل بعد فتح قرطاجنة؟ قال: أعيد الكرة على اليونان وأتغلب عليهم. فقال سينباس: ماذا تفعل بعد ذلك؟
قال الملك: أقيم في قصري وأرتاح فيه.
فقال (سينباس): ومن يمنعك الآن عن القيام في قصرك والراحة فيه؟ ثم قال: اعلم يا مولاي؛ إن من لم تقنعه مملكةٌ واحدة لا يقنع ولو ملك المسكونة كلها. فاقتنَع الملك بكلامه وعدل عن محاربة الرومان.
وهذا يؤيد قول الشاعر:
ما كل ما فوق البسيطة كافيًا
فإذا اقتنعت فبعض شيء كافٍ
بنى أحد الأغنياء بيتًا جميلاً وكتب على بابه هذه الجملة: «إنني قد عاهدت نفسي أن أهب هذا البيت لمن كانت له قناعة تامة». فجاء إليه رجل وقال: إنني لم أكن قط في حياتي غير قانع ولم تزل القناعة درسي وديدني؛ فإن كان ما كتبته هنا حقًا يكون البيت لي شرعًا، فأجابه على الفور: يا صاحبي لو كنت قنوعًا لما طلبت بيتي.(1/25)
حكي أن وزيرًا عزل فانخرط في سلك العباد والزهاد فلما عاش فيهم وامتزجت نفسه بنفوسهم واستل خيرهم ما كمن في نفسه من الشرور التي تلصق برجال الدولة، فعادت إليه القناعة بعد أن هدرته، ووصلته الفضيلة بعد أن قطعته وحدث أن السلطان عاد فرضي عنه واستدعاه إلى منصبه، فأبى الوزير القنوع أن يعود إلى متاعب الوزارة وفضل الاعتزال على السفر والمال وحسنت لديه حياة الزاهدين بقدر ما قبحت في عينه حياة الوزراء والسلاطين، فلما ألح السلطان في طلبه أجابه الوزير: اعلم يا مولاي أنني تركتُ وراء ظهري حدائق وأعنابا وكواعب أترابا، وخيلاً مسومة، وقناطير مقنطرة، وعدةً وعديدًا، ومواكب وعبيدا، وخرجت خروج الحية من جحرها، وبرزت بروز الطائر من وكره، مؤثرًا ديني على دنياي، جامعًا يمناي في يسراي؛ لأنني أثرت الفقر مع الحرية، على الغنى مع المذلة، ومن كان مثلي فقد اعتق رقبته، واستل من قلبه سخائم الضغن والحقد، وأخرج سموم الغيظ والحسد، ودان بدين التساهل والتسامح وبذا نجوت من لوم اللائمين وقطعت ألسنة القادحين.
فأجابه الملك: لا ريب أن الدولة محتاجة إلى حكيم مثلك، طاهر النفس قويم الخلق، حسن السلوك؛ ليدبر شؤونها، ويصلح ما فسد من أمورها، فقال الوزير: إنه من الحكمة التي تصفني بها أن ابتعد بطهري وعفتي عن شؤون الملك، لئلا يعتريها الرجس ويشويها الكدر.
(ذكر ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا عوف بن عمارة البصري قال: قال أبو محرز الطغاوي: شكوت إلى جارة لنا ضيق المكسب علي وأنا شاب، فقالت لي: (يا بني: استغن بغنى القناعة عن ذل المطالب، فكثيرًا والله رأيت الكثير عاد وخيمًا، ووالله رأيت القليل عاد سليمًا. قال أبو محرز: ما زلت أعرف بركة، كلامها في قنوعي) (1) .
__________
(1) القناعة والكفاف ص18.(1/26)
(وقال الأصمعي: بينما أنا بالحاجز من عنزة إذ بصرت بأعرابي إلى جانب أكمه قد اشتمل بشملة فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: يا أعرابي: أين منزلك؟ قال: بالخضراء حيث ترى، وأشار إلى شجرة غير بعيدة، فقلت: وأين أهلك؟ قال: في ملك مالك. قلت: فما مالك؟ فقال:
للناس مال ولي مالان ما لهَما
إذا تحارس أهل المال حراس
مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه
ومالي اليأس مما يملك الناس
قال: فأخرجت درهمًا فأعطيته، فقال: يا فتى هذا من مالي الذي أخبرتك به) (1) .
كان وهب بن منبه يعظ عطاء الخرساني ويقوله له:
ألم أخبر أنك تأتي الملوك وتحمل علمك إليهم؟! يا عطاء, ارضَ بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولا ترض بالدون من الحكمة مع الدنيا. ويحك يا عطاء, إن كان يغنيك ما يكفيك فإن أدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك, فليس في الدنيا شيء يكفيك!
فقر النفوس بقدر حاجتها
وغنى النفوس بقدر ما تقنع) (2)
نموذج معاصر في القناعة
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3)
جاء في ترجمته:
ومن أبرز ما كان عليه الشيخ رحمه الله الزهد في الدنيا والتقلل منها والإخبار عنه رحمه الله في تثبيت ذلك متواترة، أذكر طرفًا منها ليتخذ منها طلاب العلم قدوة لهم في هذا الزمان الذي فتن فيه كثيرون بالدنيا, تضاف إلى قدوات الزمان الأول الذين زخر بهم تاريخنا الإسلامي:
- قال ابنه عبد الله: «كان يحذرني من الدنيا كثيرًا، ويقول: الكفاف منها يكفي، وإن الشيطان ربما سول للإنسان جمعها ليتصدق بها، وهو تلبيس».
- وأهدى له الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود شقيق الملك عبد العزيز بيتًا في الطائف، فرده، ولم يقبله، فسئل عن ذلك؟ فقال: «الذي بناه يحتاجه لنفسه، أما أنا فلم أبنه ولا أحتاجه، وعندي بيت في المدينة يكفيني».
__________
(1) القناعة والكفاف ص35.
(2) مجلة لواء الإسلام العدد السادس ص11.
(3) صاحب أضواء البيان.(1/27)
- وكان الأمير المذكور آنفا قد عهد إلى البنك الأهلي بالمدينة أن إذا طلب الشيخ منهم أي مبلغ يعطونه، فلم يطلب، ولم يأخذ شيئًا إطلاقًا.
- وقال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه «حلية طالب العلم» ما نصه: «وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله تعالى) متقللاً من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة والورقية، وقد شافهني بقوله: لقد جئت من البلاد (شنقيط) ومعى كنز قل أن يوجد عند أحد، وهو القناعة، ولو أردت المناصب، لعرفت الطريق إليها، فإني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية، فرحمه الله رحمة واسعة] (1) .
* * * *
القناعة في عيون الشعراء
* قال أبو ذؤيب الهذلي:-
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
* وقال علي زين العابدين:
خذ القناعة من دنياك وارض بها
لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن
فلا تغرنك الدنيا وزينتها
وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن (2)
* وقال آخر:
يا واردًا سور عيش كله كدر
انفقت دهرك في أيامك الأول
فيم اغترارك لُج البحر تشربه
وأنت تكفيك منه مصة الوشل
* قال ابن الرومي:-
قرب الحرص مركب لشقيٍ
إنما الحرص مركب الأشقياء
مرحبًا بالكفاف يأتي هينًا
وعلى المتعبات ذيل العفاء
* وقال آخر:
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس
واقنع بعز فإن العز في الياس
واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم
إن الغنى منن استغنى عن الناس
* وقال حافظ إبراهيم يمدح عمر بن الخطاب:
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
لا تمتطي شهوات النفس جامحة
فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها
قال: اذهبي واعلمي أن كنت جاهلة
إن القناعة تغنى نفس كاسيها
* وقال آخر:
كن بما أوتيته متقنعًا
تقتفي عيش القنوع المكتفى
__________
(1) من كتاب ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص199-201 مع الاختصار.
(2) مهلا يا جامع الدنيا ص26.(1/28)
كسراج دهنه قوت له
فإذا غرفته فيه طفي
* وقال آخر:
رضيت من الدنيا بقوت يقيني
فلا ابتغي من بعدُ أبدا فضلا
ولست أروم القوت إلا لأنه
يعين على علم أرد به جهلاً
فما هذه الدنيا يطيب نعيمها
ولا يسر ما في العلم من نكتةٍ عدلا
* وقال آخر:
والنفس كالطفل أن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
* وقال آخر:
إن القناعة من يحلل بساحتها
لم يلق في ظلها همًا يؤرقه
* وقال آخر:
قنعت فاستغنى فؤادي بما
أعطيت من قوت واطمارِ
فلم أنافس في الغنى أهله
ولا تطاولت على جارِ
والفقر خير من غنى واسع
يورث طول الذل في النار) (1)
* قال ابن أبي الدنيا وانشد في أبي جعفر الأموي شيخ من أهل الحجاز (شعر):
عليك بتقوى الله واقنع برزقه
فخير عباد الله من هو قانع
ولا تلهك الدنيا ولا طمع بها
فقد تهلك المغرور فيها المطامع
صبرًا على ما فات منها فما يستوي
عبد صبور وجازع)
* لقي رجل ابن العتاهية على باب المسجد الجامع فقال له قبل أن يدخل المسجد أبيات فقال:
نصف القنوع وأيُّنَا يقنع
أو أيُّنا يرضى بما يجمع
لله دَرُّ ذوي القناعة
ما أصفى معاشهم وما أوسع
فقر النفوس بقدر حاجتها
وغنى النفوس بقدر ما تقنع) (2)
* وقال أحدهم:
ونازح الدار لا ينفك مغتربا
عن الأحبة لا يدرون بالحال
بمشرق الأرض طورًا ثم مغربها
لا يخطر الموت من حرص على بال
ولو قنعت أتاك الرزق في دعة
إن القنوع الغنى لا كثرةُ المال (3)
* وقال محمود الوراق:
أيها المتعب جهدًا نفسه
يطلب الدنيا حريصًا جاهدًا
لا لك الدنيا ولا أنت لها
فاجعل الهمين همًا واحدًا (4)
* قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
عزيز النفس من لزم القناعة
ولم يكشف لمخلوق قناعه
أفادته القناعة كل عز
وهل عز أعز من القناعة
فصيرها لنفسك رأس مال
وصير بعدها التقوى بضاعة
لتحرز ما يغني عن بخيلٍ
__________
(1) الكفاف والقناعة ص12، ص35.
(2) القناعة والكفاف ص36.
(3) ذم المال والجاه.
(4) ذم المال والجاه.(1/29)
وتحظى الجنان بصبر ساعة
* قال أبو فراس:
إن الغني هو الغني بذاته
ولو أنه عاري المناكب حافِ
ما كل ما فوق البسيطة كافيًا
فإذا قنعت فكل شيءٍ كافِ
* قال إبراهيم الصولي:
لا تأسفن على الدنيا وما فيها
فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
ومن يكن همه الدنيا ليجمعها
فسوف يوما على رغم يخليها
لا تشبع النفس من دنيا تجمعها
وبلغة من قوام العيش تكفيها
النفس تطمع في الدنيا وقد علمت
أن السلامة منها ترك ما فيها
والله لو قنعت نفسي بما رزقت
من المعيشة إلا كان يكفيها
والله والله إيمان مكررةٌ
ثلاثة عن يمين بعد ثانيها
لو أن في صخرةٍ صمّا ململمة
في البحر راسية ملس نواحيها
رزقًا لعبدٍ براها الله لانفلفت
حتى تؤدي إليه كل ما فيها
أو كان فوق طباق السبع مسلكها
لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى ينال الذي في اللوح خط له
فإن أتته وإلا سوف يأتيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودارنا لخراب البُوم نبنيها
وهذه الدار لا تغررك زهرتها
فعن قريب ترى معجبك ذوايها
خداعة لم تدم يومًا على أحدٍ
ولا استقرت على حال لياليها
فانظر وفكر فكم غرت ذوي طيش
وكم أصابت بسهم الموت أهليها
اغتر قارون في دنياه من سفه
وكان من خمرها يا قوم ذاتيها
يبيت ليلته سهران منشغلاً
في أمر أمواله في الهم يفديها
وفي النهار لقد كانت قضيته
تحز في قلبه حزًا فيخفيها
فمن بناها بخير طاب مسكنه
ومن بناها بشر خاب بانيها
أين الملوك التي عن حظها غفلت
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أفنى القرون وأفنى كل ذي عُمر
كذلك الموت يفني كل ما فيها
فالموت أحدق بالدنيا وزخرفها
والناس في غفلة عن ترك ما فيها
لو أنها عقلت ماذا يراد بها
ما طاب عيش لها يوما ويلهيها
نلهو ونأمل آملا نسر بها
شريعة الموت تطوينا وتطويها
فاغرس أصول التقى ما دمت مقتدرًا
واعلم بأنك بعد الموت لاقيها (1)
الشافعي والقناعة (2)
النفس تجزع أن تكون فقيرة
__________
(1) مهلا يا جامع الدنيا ص32-34.
(2) من ديوان الشافعي.(1/30)
والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن
أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
دع الأيام تفعل ما تشاء
وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع بحادثة الليالي
فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلاً على ألأهوال جلدًا
وشيمتك السماحة والوفاء
وإن كثرت عيوبك في البرايا
وشرك أن يكون ها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب
يغطيه كما قيل السخاء
ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناء
ولا حزن يدوم ولا سرور
ولا بؤس عليك ولا رخاء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء
رأيت القناعة رأس الغنى
فصرت بأذيالها مستمسك
فلا ذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به منهك
فصرت غنيا بلا درهم
أمر على الناس شبه الملك
إذا أصبحت عندي قوت يومي
فخل الهم عني يا سعيدُ
ولا تخطر هموم غد ببالي
فإن غدًا له رزق جديد
إن أنا عشت لست أعدم قوتًا
وإذا مت لست أعدم قبرًا
همتي همة الملوك ونفسي
نفس حر ترى المذلة كفرًا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري
فلماذا أزور زيدًا وعمرًا
العبد حر إن قنع
والحر عبدٌ إن طمع
فاقنع ولا تطمع فلا
شيء يشين سوى الطمع
توكلت في رزقي على الله خالقي
وأيقنت أن الله لا شك رازقي
وما يك من رزق فليس يفوتني
ولو كان في قاع البحار الغوامق
سيأتي به الله العظيم بفضله
ولو لم يكن منى اللسان بناطق
ففي أي شيء تذهب النفس حسرةً
وقد قسم الله رزق الخلائق
وكذا الغنى هو الغنى بحاله
ليس الغنى بملكه وبماله
أمت مطامعي فأرحت نفسي
فإن النفس ما طمعت تهونُ
وأحييت القنوع وكان ميتًا
ففي إحيائه عرض مصون
إذا طمع يحل بقلب عبدٍ
علته مهانةٌ وعلاه هونُ
بلوت بني الدنيا فلم أرى فيهم
سوى من غدا والبخل ملء إهابه
فجردت من غمد القناعة صارمًا
قطعت رجائي منهم بذبابه
فلا ذا يراني واقفًا في طريقه
ولا ذا يراني قاعدًا عند بابه
غنى بلا مال عن الناس كلهم
وليس الغنى إلا عن الشيء لا به
* * * *
الأسباب التي تنال بها القناعة(1/31)
(هذه المرتبة العالية كل يحب الوصول إليها والاتصاف بها، ولكن أكثر الخلق متخلف عنها غير عامل بالأسباب الموصلة إليها، ولا متجرد من الموانع المانعة من تحصيلها جهلاً وتهاونًا واشتغالاً بما يضر عما ينفع وبالمراتب الدنيئة عن المراتب العلية) (1) .
فمن الأسباب التي ذكرها العلماء ما يلي:
1- (مجاهدة النفس على الاتصاف بذلك) (2) . «ومن يستغن يغنه الله» (3) .
2- (سؤال الله والإلحاح عليه ودعائه أن يعينه على الوصول إلى هذه المرتبة، فإن من اجتهد واستعان بالله وألح عليه في السؤال لم يخيبه الله فإنه أمر بالدعاء ووعده الإجابة في جميع الأدعية التي أفضلها وأعلاها أن تدعو الله بالتوفيق لمراضيه وبالحفظ والوقاية عند مناهيه، فما خاب من سأله ورجاه، ولا من طمع في تحصيل فضله وخيره وهداه) (4) { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (5) .
3- (علم العبد أن الله تعالى عنده جميع مطالب السائلين وبيده خزائن الخيرات والبركات وأنه ما يفتح للناس من رحمة, فلا ممسك لها، وما يمسك إلا هو، وإنه هو النافع الضار، والمعطي المانع، وأن الخلق ليس بيدهم من هذه الأمور من شيء، وأنهم جميعًا مهما كانت أحوالهم ومراتبهم, فإنهم فقراء إلى الله في كل شؤونهم.
من عرف هذا حق المعرفة اضطرته هذه المعرفة الجليلة الواصلة إلى القلب إلى تعليق الأمور كلها على الله، وتعلق القلب له وانقطاعه عن الخلق، وعلم العبد أنه كلما قوى تعلقه وطمعه في فضله أتاه من الخير والبركة وطيب الحياة ما لا يخطر ببال) (6) .
__________
(1) الرياض الناضرة ص148-149.
(2) الرياض الناضرة ص148-149.
(3) سبق تخريجه.
(4) الرياض الناضرة ص148-149.
(5) سورة غافر آية 60.
(6) الرياض النضرة ص148-149.(1/32)
4- (علم العبد حق العلم أن تعلق القلب بالمخلوق يهبط بصاحبه إلى أسفل الدركات ويجعله حقيرًا ذليلاً مهينًا مهانًا، وأن ذلك غير نافع ولا مفيد, بل ضره كبير وشره مستطير) (1) .
5- (علم العبد بأن افتقاره إلى الخلق وتعلقه بهم واستشرافه لما بين أيديهم وسؤالهم يجلب الهم والغم والإكدار والقلق وأن استغناءه وعدم تعلقه بهم يوجب راحة القلب وروحه وطمأنينته.
ثم إنه كلما قوي طمع العبد بالله وقوي رجاؤه لديه وقوي توكله عليه يسر الله له كل عسير وهون عليه كل صعب ورزقه من حيث لا يحتسب، وكفاه الهموم كلها وكسب الحرية التي لا أرفع منها ولا أنفع) (2) .
6- (الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم لأمره والعلم بأن الذي عند الله خير وأبقى) (3) سبب لغنى النفس ومن ثم القناعة وترك الحرص والطمع.
7- (إذا أجممتها (4) - أي: النفس - من ذكر الزيادة من الدنيا، وحملتها على درجة الخوف مما في يديها – أي عدم أداء شكرها – قنعت ورضيت وعفت عن طلب الدنيا بالحرص والرغبة ورجعت إلى الآخرة بالحرص عليها والرغبة فيها, فإن النفس مبينة على أساس الطمع) (5) .
8- (تدريب النفس على الاقتصاد في المعيشة والرفق في الانفاق).
9- (إذا تيسر به في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين فإن رزقه لابد أن يأتيه وليعلم أن الشيطان يعده الفقر) (6) .
10- (أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل) (7) .
__________
(1) الرياض النضرة ص148-149.
(2) الرياض النضرة, ص150
(3) ذم الدنيا للزهيري ص38.
(4) عجائب القرآن للرازي ص127.
(5) أي أرحتها.
(6) مختصر منهاج القاصدين ص200-201 باختصار.
(7) مختصر منهاج القاصدين ص200-201 باختصار.(1/33)
11- (أن يكثر تفكره في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين، ويسمع أحاديثهم، ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أرذال العالمين، أو صفوة الخلق عند الله تعالى، حتى يهون عليه الصبر على التقليل والقناعة باليسير، وإنه إن تنعم بالأكل, فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالبهائم أكثر) (1) .
12- (أن ينظر أبدًا إلى من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين) (2) .
13- التدرب على القناعة: فإن النفس الإنسانية دائمة التطلع لما عند الآخرين، فإذا رد الإنسان نفسه عن ذلك وعرفها قيمة ما لديها من النعيم وأنه يكفي وقد يفضل عن بعض ما عند الآخرين فإن النفس تقنع، وعلى الإنسان المحب للقناعة أن يأخذ نفسه بالتدرج والسياسة فإذا اشتهت أربعة أصناف فليشتر لها صنفين, ويقول لنفسه: فيهما كفاية وبركة وهكذا... بالمران تنمو أخلاق الإنسان.
* * * *
من فوائد القناعة
1- الغنى: أي: غنى النفس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من يستغن يغنه الله» (3) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس» (4) .
وكما قال الشافعي:-
رأيت القناعة رأس الغنى
فصرت بأزيالها متمسك
2- إنها سبب الفلاح: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «قد أفلح من أسلم ورزق كفاف وقنعه الله بما أتاه» (5) .
3- إنه سبب لحصول محبة الله ومحبة الناس؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) (6) .
4- إنها طريق العز والشر والنزاهة؛ فإن العز في القناعة والذل في الطمع، كما قال أحد الحكماء :
أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة.
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين ص200-201 باختصار.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص200-201 باختصار.
(3) متفق عليه.
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(5) رواه مسلم.
(6) السلسلة الصحيحة ج2 رقم 944.(1/34)
5- راحة البدن والنفس والبال, كما قال الشاعر:
خذ القناعة في دنياك وارض بها
لو لم يكن لك إلا راحة البدن
6- السعادة وانشراح الصدر وطيب الخاطر, كما قال ابن الرومي:
قرب الحرص مركب لشقي
إنما الحرص مركب الأشقياء
مرحبًا بالكفاف يأتي هنيئًا
وعلى المتعبات ذيل العفاء
وكما قال أحدهم (ليست السعادة بتحقيق الأماني المادية ولا ملذات وأهواء النفس البشرة إنها فقط في راحة البال.. في الرضا والقناعة) (1) .
7- القناعة كنز عظيم:
كما في الحكمة (القناعة كنز لا يفنى).
8- إنها علامة من علامات التقوى (قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل) (2) .
* بالإضافة إلى غيرها من الفوائد والأدلة والتي سبق ذكرها في سطور هذه الرسالة.
القناعة في ماذا؟
إن القناعة تكون فيما يفنى لا فيما يبقى، انطلاقًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» متفق عليه، هذا في أمور الدنيا مثل المال والأولاد والزوجة والمسكن والمركب والخلقة والنسب والجاه والوظيفة وغيرها من أمور الدنيا الزائلة أو غير الاختيارية.
ولكن في أمور العبادة واعلم والأخلاق ينظر الإنسان إلى من هو أعلى منه لتسمو همته وتشرف نفسه للوصول إلى معالي الأمور والبعد عن دنياها.
__________
(1) مجلة الجندي المسلم ص103 عدد 58.
(2) كتاب التقوى ص16.(1/35)
ومما يؤسف له أن تجد كثيرًا من الناس الذين حرموا من هذا الخلق الجليل يعيش وكأنه أفقر الناس أو أتعس الناس, فهو رغم غناه وكفاية ما لديه فيرى أنه فقير؛ لأنه ينظر دائمًا إلى حال الأغنياء فهو أفقر منهم، وآخر لم يسعد مع زوجته الجميلة وذات الخلق الحسن؛ لأنه أطرق سمعه لحديث عن زوجة أجمل منها أو أحسن خلقًا وهكذا صور متكررة من ألوان الإحساس بالفقر وعدم السعادة, لماذا؟ لأنه حرم القناعة ولم يعمل بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - السابقة، لذا أدعوك أخي القارئ وأختي القارئة أن تتحليا دائمًا بخلق القناعة؛ فهو سر من أسرار السعادة لا يعرفه إلا من جربه، والتجربة خير برهان.
خاتمة
في الختام أرجو أن تكون قد وجدت فيما قرأت ما يسرك ويحصل به رضاك وأن تكون قد ازددت علمًا ثم عملاً بهذا الخلق الكريم بإذن الله.
ولابد يا أخي أن هذا العمل قد اعتراه بعض النقص ولكن كما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
لذا أرجو السماح عن الخطأ وأذكرك بأن الله أبى العصمة إلا لكتابه وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وأود منك يا أخي القارئ طلبين:
* الأول: دعوة صادقة لي ولك ولأمتنا بظهر الغيب خاصة من قلبك.
* الثانية: إذا وجدت ملاحظة أو إضافة أن تكتبها لي وجزاك الله خيرًا.
وأخيرًا, أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به وأن يجعله حجة لي ولمن قرأه إنه سميع قريب مجيب الدعاء. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
عبد الإله بن إبراهيم بن داود
الرياض 7/7/1413هـ
المراجع مرتبة أبجديا
1- أدب الدنيا والدين. للماوردي.
2- بهجة قلوب الأبرار. للشيخ عبد الرحمن السعدي.
3- ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. لعبد الرحمن بن عبد العزيز السديس.(1/36)
4- التقوى. لصلاح الدين مارديني.
5- جامع العلوم والحكم. لابن رجب الحنبلي.
6- ديوان الشافعي. تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.
7- ذم المال والجاه. لابن رجب الحنبلي، تحقيق أشرف عبد المقصود.
8- ذم الدنيا. لسمير الزهيري.
9- رياض الصالحين. للإمام النووي.
10- الرياض الناضرة. للشيخ عبد الرحمن السعدي.
11- سلسلة الأحاديث الصحيحة. للشيخ ألألباني.
12- صحيح البخاري. الإمام البخاري.
13- صحيح مسلم. الإمام مسلم.
14- عجائب القرآن. للرازي.
15- فتح الباري شرح صحيح البخاري. لابن حجر العسقلاني.
16- الفوائد. لابن قيم الجوزية.
17- القناعة. لابن السني، تحقيق عبد الله بن يوسف.
18- الكفاف والقناعة. للقرطبي، تحقيق مجدي السيد.
19- مختص منهاج القاصدين. لابن قدامة المقدسي.
20- مهلا يا جامع الدنيا. جمع محمد أحمد سيد أحمد.
* وغيرها من المراجع والدوريات الموجودة بهامش الصفحات.
* * * *
الفهرس
مقدمة ... 5
بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ... 6
بعض مميزات نعيم الجنة عن نعيم الدنيا ... 6
بين تقدير الرزق وطلبه ... 6
تعاريف: ... 6
آيات في الحث على القناعة ... 6
أحاديث في الحث على القناعة ... 6
فائدة: ... 6
سؤال الله القناعة: ... 6
من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: ... 6
آثار ... 6
حكم ... 6
ذكرى ... 6
الدنيا خداعة ... 6
قصص في القناعة ... 6
نموذج معاصر في القناعة ... 6
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ... 6
القناعة في عيون الشعراء ... 6
الشافعي والقناعة ... 6
الأسباب التي تنال بها القناعة ... 6
من فوائد القناعة ... 6
القناعة في ماذا؟ ... 6
خاتمة ... 6
المراجع مرتبة أبجديا ... 6
الفهرس ... 6
* * * *(1/37)