|
المؤلف : الدكتور مصطفى السباعي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
القلائد من فرائد الفوائد
الدكتور مصطفى السباعي
---
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
---
مذاهب العلماء في التفسير ... 11
تقدير العلم والعلماء ... 11
وفاء وسخط! ... 11
نعمت الإمارة وبئست ... 12
القيام بالواجب خير من التفرغ للعبادة ... 12
رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم ... 12
جهد الشعوبية في محو العربية ... 12
الأمويون والعباسيون ... 12
بهذا تقوى الدول ... 12
وبهذا تنهار الدول ... 13
أتلحنين وأنت شريفة؟ ... 13
كيف لي بما سارت به الركبان ... 13
توبة الفرزدق من الهجاء ... 13
معنى ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) ... 14
أحكام البسملة والحمدلة ... 14
عي المقال وعي الفعال ... 14
كلب الله ! ... 15
نهر الله ! ... 15
أخشن من مضغ الحديد ! ... 15
صدقات في عيد الفطر ... 15
لغويات .. ... 15
من أين لهم هذا؟ ... 16
تركة ! .. ... 17
يعيش مائة وثلاثين سنة ... 18
يعدد ذنوبه ! ... 18
يفطر خمسمائة إنسان في كل ليلة ... 18
شدة في الحق .. مع شدة في الفقر ... 18
أنواع مرض القلوب ... 19
الطب الروحي ... 19
ظرف الأعراب من الجوع .. ... 19
أعرابي يدركه رمضان في المدينة ... 19
لماذا سمنوا؟ ... 20
الثريد ومرق اللحم ... 20
دعاء على جار بخيل ! ... 20
تعصيه في الخير وتطيعه في الشر ... 20
أب يسرُّ بوفاة ابنه ... 20
طول ليل الحزين ... 21
من أيمان العرب ... 21
أحق الناس ... 21
أمارات السلاطين لندمانهم إذا أرادوا النهوض ... 21
يوم الأذان ! ... 21
عاقٌّ يحتج لعقوقه ! ... 22
الحمدلله الذي لم يجعل ذلك على يدي ... 22
هكذا يكون الإيمان الصادق ... 22
الشعر عند أدباء الكتاب ... 22
غرور الكيميائيين القدامى ... 22
دفاع عن المأمون ... 22
هذا رجل جائع ! ... 23
من حكمة العرب ... 23
لا يكلمه لأنه لم ير على باب عالم ... 23
بث الصنائع ... 24
لا أجر على فعل الخير ... 24
اجتنب ثلاثة وعليك بأربعة ... 24
ما تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة ... 24
معنى الحكمة ... 25
حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم ... 25
ثلاثة صحابة يروي بعضهم عن بعض ... 25
ليس قصر الرجال بعيب ... 25
لا خير في الجسوم من غير عقول ... 26
من الورع ما يبغضه الله ... 26
(1/1)
أكرم على الله من إسحاق بن إبراهيم ... 26
حسن الإجابة والمحاورة ... 27
آلة البلاغة للخطيب والمتكلم ... 27
الأوائل . . . ... 27
. . . والأواخر ... 27
لم يرد في فضل العقل حديث صحيح ... 28
درجات العقل والدهاء والجهل ... 28
الجواني والبراني ... 28
غليان القلوب ... 28
علامة الحمق ... 28
ما أحسن وقع السيوف على الأنوف ... 28
الحرص على العلم ... 29
مجالسة الصحابة والتابعين ... 29
اكتب واحفظ وحدِّث ... 29
استعارة الكتب ... 29
دقاقة الأعناق ... 29
لا ينفع ... 29
بشرط أن لا يعلم أهل الجنة ... 29
يتشممون الأماني ... 30
من بركة العلم ... 30
المأدبة والمأدبة ... 30
لماذا وضع علم النحو ... 30
بين أب مريض وابنه النحوي ... 30
جنية تتكلم الهندية ... 31
تعلمتم العبرية! ... 31
لماذا لا يشمل عدله الجميع؟ ... 31
أكثر الخلفاء خلافة ... 31
لذة الشيوخ من العلماء ... 31
لا تكن كصاحب السلَّم ... 31
الجمع بين الجد واللهو المباح ... 32
من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ... 32
فوائد لغوية ... 32
الطواعين المشهورة في الإسلام ... 32
حدة العلماء وتقتيرهم ... 32
بين بهلول والرشيد ... 33
الزهد وأكل الطيبات ... 33
الرحلة في طلب العلم ... 33
الصبر على كشف حقائق العلم ... 33
صفة المسلم الحق ... 33
هواية جمع الخطوط ... 34
الخط ثلاثة أقسام ... 34
محدث يحبط مؤامرة شعوبي ... 34
حتى يمسخ ابن أبي ليلى حماراً! ... 35
جائزة ((تعب الأسنان)) ... 35
ولو حشي بالتقوى والمغفرة ... 35
ثلاثيات ... 35
لغويات ... 35
أصول التحقيق الجنائي اليوم كانت كذلك في صدر الإسلام ... 36
لبس البياض في الأحزان ... 36
طبيعتهن في كل زمان ... 36
أي الرأسين أثقل؟ ... 36
كم عدد علوم القرآن، وما هي أم هذه العلوم؟ ... 36
حمل البقولات والخضر مزروعة على الجمال ... 37
أصل كلمة ((أغا)) ... 37
برقية من نار ... 37
دين العقل والفطرة ... 37
الصراط المستقيم ... 37
ماذا تذم منه؟ ... 37
من مجازات القرآن ... 37
فضل الكتابة على الحفظ ... 38
تلد خمسة توائم خمس مرات ... 38
مدح السلطان في خطبة الجمعة ... 38
الصامت والناطق ... 38
تولية الظالمين ... 38
لا تفريط في النوم ... 38
أعمار الزوجات ... 39
(1/2)
يصاب بالماليخوليا فيقتل أصحابه ونساءه وأبناءه ... 39
يفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه ... 39
حشو اللوزينج ... 39
النساء ذوات اللحى والشوارب ... 39
كسنور عبدالله ... 39
معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بلغة العرب ... 40
منطق الأقوياء الظالمين ... 40
الصدق أنجى ... 40
جواب امرأة جميلة تزوجت قبيحاً ... 40
من أمثلة التورية في القرآن ... 40
تضيء للناس وهي تحترق ... 41
الظلم ثلاث دواوين ... 41
فتوى في مصلحة الشعب ... 41
الخليفة المثمن ... 41
توبة أمير ... 41
بين نحوي وطبيب ... 42
مصر وأهلها ... 42
الإمامة لا تورث ... 42
لمَ سميت المولودة بالقابلة؟ ... 42
من علامات الحمق ... 43
أيهما أعلم بالنحو ... 43
ست هن أزواج ... 43
ببركة امتناعه عن القضاء ... 43
فقيه ينقذ زوجة الرشيد من الطلاق ... 43
لا تنسَ الكامخ ... 43
يعشيه ويحبسه ... 44
حقيقة القلب السليم ... 44
اشترِ من باعة حيِّك ... 44
هل يستحقون هذا الإكرام ... 44
لغات ست وحركات ثلاث ... 44
فارق السن بين أب وابنه ... 44
على أي شيء أضع ابنتي عندك؟ ... 44
الصفات المؤهلة لتولي القضاء ... 45
الملك ثلاثة ... 45
ثقيل ... 45
قاضي يعض الخصوم ... 45
لغويات ... 45
الحجاج يصف نفسه ... 45
فلسفة البخل ... 46
الأمل حتى الأجل ... 46
أحد أبويه جني ... 46
دعني أخنقه ... 46
إلاَّ من؟! ... 46
ينهاه الطبيب عن التدريس فيأبى ... 46
خصال عالم ... 47
السياسة الحكيمة ... 47
البلدة التي تحسن الإقامة فيها ... 47
يربح فيشتري بربحه أوقافاً للمجاهدين ... 47
له ثلاثة كنى ويروي عن ثلاثة أجيال ... 47
يزوج بناتها ويبقي لها دارها ... 47
آفة العلم وهجنته ونكده ... 47
حمى الروح ... 48
هزل العلماء مع الجهال ... 48
حمار طياب ... 48
نجابة ابن الزبير في صغره ... 48
الحاكم الناجح ... 48
إنما الدر داخل الصدف ... 48
كتب العالم أولاده المخلدون ... 49
أصل الفاحشة من عندكم ... 49
الفرق بين نسائنا ونسائهم ... 49
إنما يثاب الإنسان على قدر عقله ... 49
أما تجد فيه بعيراً لنا ضل ... 49
آباء وأمهات لم يلدوا ... 49
أسقط ثلاثة أرباع الكلام ... 50
ذكاء وبخل ... 50
فائدة إسناد الحديث في عصرنا ... 50
ثلاثيات ... 50
لو أحلّ الله الكذب ما كذبت ... 51
(1/3)
من وصايا المعمرين ... 51
يدعو الله أن يكسر يداً ليجبرها ... 51
الزنبور والعصفور الأعمى ... 52
قحط البلاد وانهيارها الاقتصادي مطمعة للأعداء ... 52
تنزل فيه أربع آيات ... 52
من روائع تشبيهات ابن الرومي ... 52
ثراء وبله وغفلة ... 52
عزمات ... 53
إذا مات أصدقاء الرجل ذل ... 53
إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك ... 53
صنوف الإخوان ... 54
من أنصار عنترة ... 54
من أعذار المنهزمين في المعارك ... 54
نصرة أهل الحق بعضهم لبعض ... 54
تزاور أرواح المؤمنين ... 54
عرض أعمال الأحياء على الموتى ... 55
ما أضيف إلى اسم الله تعالى ... 55
أحمق! . . ... 55
قيمة المرء عمله ... 55
الميزان الأكبر ... 55
يتعلمون العمل كما يتعلمون العلم ... 56
الحديث كالنار ... 56
عليَّ أن أقرر حقاً وإن أجحف ببيت المال ... 56
ما قيل في الثقلاء ... 56
إذا كنت في قوم عور فغمض عينك الواحدة ... 56
معنى ((كاد)) في الإثبات والنفي ... 57
لطيفتان في إسناد واحد ... 57
فطنة من سفير ... 57
ذاك عرس لم أشهده ... 57
بسم الله الرحمن الرحيم ... 57
ما يريد عبدالله من زيد ... 57
متى تصمت ومتى تتكلم ... 58
فتيس خير منه! . . ... 58
من دهاء عمرو بن العاص ... 58
كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم ... 58
كتّاب الخلفاء الراشدين ... 58
ثلاثة لا تحتملها الملوك ... 58
وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل! ... 59
لغويات ... 59
من أخلاق العلماء ... 59
حين يجوع الشعب! ... 59
عندما يثور الشعب على تسلط اليهود! ... 60
لا يليق بالمسلمة لبس ما يصف جسمها ... 60
مقدمة المؤلف
(1/4)
الحمدلله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الذي جاءنا بكتاب مبين، أعجز العالمين بما حواه من علوم وآداب، وبما امتاز به من روعة البيان وبلاغة التعبير حتى ذهلت له الألباب، وعنت لإعجازه عقول المفكرين، وبلغاء المتكلمين، ومتقدمو الكتاب، وعلى آله وصحبه حَمَلَة هذا التراث الإنساني الرائع، وحَمَلَة هذا الوحي الإلهي الخالد، وجمعنا بهم وبرسوله صلى الله عليه وسلم في مستقر الخلد والرضوان، ورضي الله عمن تبع هذا الهدى،و حمل لواءه، وأعلى شرعته، وبدد بنوره دياجير الشك والحيرة والأوهام.
أما بعد .. فقد كان دأب طلاب العلم – ولا يزالون كذلك – أن يقيدوا ما يجدونه من فوائد متناثرة خلال مطالعاتهم؛ في أوراق خاصة يرجعون إليها عند الحاجة لها، وقد كان مما يوصي به علماؤنا طلابهم: ((قيدوا العلم بالكتاب)).
ودرجت على ذلك منذ طلبي للعلم، فتجمع لي من ذلك قدر كبير ضاع أكثره في سنوات من السفر والسجن والمرض، وقد كنت بما جمعت حفياً، وعليه حريصاً.
( 1 (
ولما صدرت مجلة ((حضارة الإسلام)) في دمشق منذ سنتين، رأيت أن أجعل من أبوابها باباً لفوائد مجموعة من كتب متعددة في أبحاث متنوعة، واخترت عنواناً لها (( فرائد الفوائد)) وأخذت اتابع نشر ما أختاره بقدر ما يتسع له نطاق المجلة، وكان لهذا الاب أثره المستحب في نفوس جمهرة القراء، حيث كان أحب أبواب المجلة إليهم، وأقربه إلى نفوسهم، وكانوا أسرع إلى قراءته من كل باب آخر من أبواب المجلة.
ولعل سر إقبال القراء عليه وحفاوتهم به، أنه متنوع الفائدة، طليُّ المادة، مُزجت فيه الحكمة بالأدب، وضمت فيه الطرائف والمِلَح إلى عيون من مسائل التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الشريعة، ولم يخل من عبرة تاريخية، أو أثر أدبي، أو بحث لغوي، مما تناثر في بطون أمهات التب وكبريات المراجع.
( 2 (
(1/5)
وقد استحسن كثير من قراء ((حضارة الإسلام)) أن تنتشر هذه الفوائد في كتاب مستقل، لتعمَّ به الفائدة ويسهل الرجوع إليه، وتعده بالمطالعة فترة بعد أخرى.
ورأيت في هذه الرغبة تحقيق ما أصبو إليه وأعمل له، من نشر الثقافة الإسلامية والعربية الأصيلة، ولفت أنظار المثقفين ذوي الاجاهات الإسلامية إلى ما في تراثنا الإسلامي من غذاء روحي وفكري عظيم، وما في تاريخنا الإسلامي من مفاخر الأخلاق الكريمة، ومحاسن الآداب العالية، مما يجدر بشبابنا أن يطلعوا عليه، ويفيدوا منه في حياتهم الفكرية والأخلاقية.
وها أنذا أصدر الجزء الأول من هذه الفوائد، وهو يحتوي على ما نشر في السنتين الأولى والثانية من ((حضارة الإسلام)) مضافاً إليه ما يعادل ضعفها من فوائد لم تُنشر من قبل. وقد أسميته: ((القلائد من فرائد الفوائد)) راجياً من الله أن يمدني بعون من رحمته لأتمكن من الاستمرار في متابعة نشر هذه الفوائد، في أجزاء متتابعة، كلما تجمع منها قدر كاف لإصداره في كتاب في مثل حجم هذا الكتاب.
(3 (
إن هذا الكتاب ليس لي فيه إلا الاختيار مما قرأت وطالعت، فقد فيه كل ما اعتقدت أن جيلنا الإسلامي في حاجة إلى معرفته من علوم وآداب ولغة وتاريخ بأسلوب لا يملُّون من قراءته، حيث يتنقلون فيه من زهرة إلى زهرة، ومن روضة إلى روضة، وبقدر لا يضيف عبئاً ثقيلاً إلى أعباء الثقافة المتنوعة المطلوبة منهم في عصرنا الحاضر.
لقد نثرت هذه الفوائد كما اتفقت من غير ترتيب ولا جمع الشبيه إلى ما يشبه، إذ رأيت ذلك أنشط للقارئ، وابعث له على متابعة القارءة، وقديماً سارت كتب الأدب –وبخاصة كتب الأمالي- على هذا النهج، وإنك لتجد من المتعة في قراءة كتاب كـ ((الأمالي)) لأبي علي القالي، أو ((الكامل)) للمبرد، أو ((الحيوان)) للجاحظ، أو (( البيان والتبيين)) له، ما لا تجد من المتعة في كتاب علمي مرتب الأبحاث والمسائل.
( 4 (
(1/6)
ويتلخص غرضي في نشر هذه السلسلة الفكرية من الفوائد الثقافية ما يلي:
1- تزويد الشباب المسلم بثقافة إسلامية شاملة، تجعل منه مشاركاً للمختصين في الدراسات الإسلامية بالمعلومات الضرورية منها أو المسائل الطريفة فيها.
2- إطلاع الشباب المسلم على روائع الخلق الإسلامي الأصيل، حين كان الإسلام في صفائه وقوّته يوجه المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة إلى أن يكونوا أقرب إلى الكمال الإنساني من كل الأجيال التي تربيتهم المبادئ الدينية والفلسفية والخلقية الأخرى، وفي ذلك دعوة غير مباشرة إلى العودة لأخلاق الإسلام في عصوره الذهبية، فليس أجدى في التربية من أن نجعل شبابنا يعيشون في أجواء عظمائهم، لينشؤوا عظماء في أخلاقهم وسلوكهم وأهدافهم، ولينهضوا بعبء الرسالة الفكرية والخلقية والاجتماعية نحو حياة كريمة، وعيش رغد، ومستقبل سعيد.
3- التوجيه الروحي النبيل من معدنه الصافي، لهذا الجيل من شبابنا المسلم، وهو الذي يعيش في بيئة ابتعدت كثيراً عن النبع النمير لنهرنا المتدفق، وفي ظل حضارة مادية ونظم مختلفة لا تحفل بالقيم الروحية والإنسانية كثيراً، مما جعل شبابنا يعيشون في خلق نفسي يعرضهم لكثير من الانحرافات في سلوكهم الاجتماعي، إذا لم تلقح أرواحهم نسمات من الجنة تنعش قلوبهم، وتحيي نفوسهم، وتصعد بأرواحهم نحو آفاق السمو والنبل والكمال.
4- تقوية الشاباب المسلم في لغته العربية مادة وأسلوباً، بحيث يستطيع فهم كتاب الله وتذوق بلاغته واحتذاء أسلوبه، عسى أن تعود للبيان العربي اليوم جزالته وسلامته وعذوبته، كما كان في الصدر الأول، وعسى أن يعود تأثير القرآن في نفس قارئه المسلم كما كان له في نفوس المسلمين الأوائل، فصنع منهم المعجزات، وأنبت بهم الجنات، وسطّر بهم روائع المكرمات.
(1/7)
وقد تصاعدت الشكوى من جهل أبنائنا المثقفين بلغتهم جهلاً معيباً، لا يستطيعون معه فهم بيت من الشعر العربي القديم، أو قطعة من الأدب ((الجاحظي)) أو ((المقفعي)) البديع، بله آية من كتاب الله، وهو كتاب العربية الأكبر، وسفر الإنسانية الخالد.
ويقيني أن تغيير النفس المشسلمة والعربية المعاصرة، وتخليصها من العيوب النفسية والخلقية والفكرية لن يتم إلا بأن تعود إلى التأثر ببلاغة القرآن الكريم وأسلوبه. فكل تقوية للغة العربية الفصحى في أساليبها البليغة، هو تمهيد لصنع المعجزة الإنسانية مرة أخرى بالقرآن ورسوله العظيم.
5- الترويح عن النفس ببعض المِلَح المستظرَفة، مما يشبه الهزل وليس بالهزل، فالنفس تملُّ من الجد في التفكير، كما يملُّ الجسم من الجد في العمل، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((روِّحوا القلوب ساعة فساعة))(1). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأجم فؤادي ببعض الباطل (أي اللهو الجائز) لأنشط للحق، وقال علي كرّم الله وجهه: أجموا هذه القلوب (أريحوها) والتمسوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل (تكل) كما تمل الأبدان، والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهويني، جانحة إلى اللهو، أمّارة بالسوء، مستوطنة للعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل، فإن أكرهتها أنضيتها (أتعبتها وأبليتها) وإن أهملتها أرديتها.
وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا هذه القلوب (لا تشتدوا عليها) ولا تهملوها، وخير الكلام ما كان عقيب جمام. ومن اكره بصره عشي (ضعف) وعاودوا الفكرة عند نبوت القلوب، واشحذوها بالمذاكرة، ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا امتحنتم ببعض الاستغلاق، فإن من أدمن قرع الباب ولج.
__________
(1) رواه أبو داوود مرسلاً عن ابن شهاب الزهري، قال المناوي في شرح ((الجامع الصغير)): ويشهد له ما في مسلم وغيره: يا حنظلة! ساعة وساعة.
(1/8)
وليس المزاح البريء والأحاديث المستطرَفة مما يتنافى مع كمال الأدب وحسن الخلق، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم – وهو المثل الأعلى للكمال الإنساني – يمازح أصجابه، ويداعب نساءه، وكان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان يبتسم لدعابات بعض صحابته معه مثل ((نعيمان))، وكان ذلك دليلا على ما يتمتع به عليه الصلاة والسلام من حلاوة النفس، ودماثة الخلق، ورقة الشمائل، ولطف المعاشرة، وكذلك درج على سيرته الصحابة والتابعون وعلماء الإسلام وأئمته المقتدون
إن التحرج من المزاح أو الدعابة المحتشمة كما يفعل بعض المتظاهرين بالوقار، مرض نفسي ينشأ من جفاف الروح وانحراف المزاج واعتلال الصحة، وأعظم الناس تزمتاً في المجالس العامة لا يستغني عن المرح والدعابة ورواية المِلَح والطرائف والحكايات المضحكة في مجالسه الخاصة، وإني لأكره هؤلاء الذين يرون في التزمُّت وعبوس الوجه دليل الجد وعنوان الوقار والكرامة، ولو كان هذا صحيحاً لكان أجدر الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أني لا أحب الذين يفرطون في طلب النوادر المضحكة وحكايتها وقتل أوقاتهم في المزاح والدعابة، والخير وسط بين الأمرين. وقد قال مطرف بن عبدالله لولده: يا بني إن الحسنة بين السيئتين – يريد بين المجاوزة والتقصير – وخير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة (شدة السير).
(1/9)
وقد اقتصرت فيما اخترته من الفوائد، على تراثنا العربي دون الغربي، لا لشيء من كره التراث الأجنبي أو عدم الاعتداد به، بل لأن الأدب الغربي قد كثر مترجموه وناقلوه وناشروه والمقتبسون منه في أوساطنا الثقافية، حتى اعتبر عند كثير من الناس هو الأدب الإنساني وحده دون أدبنا العربي. ولست هنا في سبيل مناقشة هذا الرأي، ولكني أحببت أن أعرض صفحة من تراثنا العربي، منوعة المادة، غزيرة الفائدة، ليتعلم الذين يجهلون هذا الثرات من مصادره الأولى أية خسارة فكرة ونفسية تلحق بهم من جهلهم به وإعراضهم عنه، ونحن نخوض اليوم معارك عديدة في سبيل الاحتفاظ بسيادتنا وشخصيتنا ومقومات حياتنا، والمعركة الثقافية أشد هذه المعارك خطورة وأبعدها آثاراً، وإذا كانت الأمم الحية لا تعيش في بيت مقفل يسد عليها منافذ الهواء والنور، بل تأخذ من كل الثقافات، وتطلع على نتائج العقل الإنساني أنى كان وكيفما كان، فإنها أشد حرصاً على معرفة تراثها الإنساني والتزود منه، وبخاصة إذا كان هذا التراث عنواناً لحضارة إنسانية من أسمى الحضارات الإنسانية في التاريخ، فإذا رأيت أمة تريد الحياة والبقاء والإسهام في ركب الإنسانية السائر، ثم هي تزدري أدبها الرائع، وتحتقر تراثها الفني، وتهمل نتاجها الفكري الخصيب، فاعلم أنها أمة هازلة جاهلة بأقوى عوامل بقائها ومقومات وجودها، وهي كالتاجر الذي يريد أن يزاحم كبار التجار وليس له مال يتجر به.
... وقد كنت أود أن أذكر تراجم موجزة للأعلام الذين تضمنهم هذا الكتاب، ولكني وجدت ذلك يكلفني أمراً عسيراً لا تتحمله حالتي الصحية، ولعلي أفعل ذلك في الأجزاء التالية إن شاء الله.
... وأخيراً فإني حرصت على طبع الكتاب بحجم يسهل معه حمله في جيب القارئ أو حقيبة كتبه، ليكون سميره في الأسفار والمتنزهات ومجالس السمر، فيجمع بين متعة الجسم ومتعة الفكر.
... وإنس لأسأل الله أن يؤدي هذا الكتاب أغراضه ويتقبله لوجهه الكريم.
(1/10)
دمشق: 1 ربيع الأول/1382 = 1 آب/1962.
الدكتور مصطفى السّباعي
1- مذاهب العلماء في التفسير
... ( الشوكاني في تفسيره ((فتح القدير)):
... إن غالب المفسرين تفرقوا فريقين، وسلكوا طريقين: فالفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم على مجرد الرواية، وقنعوا برفع هذه الراية.
... والفريق الآخر جردوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللغة العربية، وما تفيده العلوم الآلية، ولم يرفعوا إلى الرواية رأساً، ولم يصححوا لها اساساً، وكلا الفريقين قد أصاب، وأطال وأطاب، وإن رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب، وترك منها ما لم يتم بدونه كمال الانتصاب؛ فإن ما كان من التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المصير إليه متعيناً، وتقديمه متحتماً، غير أن الذي صح عنه من ذلك إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن، ولا يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا لشأن اثنان.
... وأما ما كان منهما ثابتاً عن الصحابة رضي الله عنهم، فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير للمعنى اللغوي بوجه من الوجوه فهو مقدم على غيره، وإن كان من الألفاظ التي لم ينقلها الشرع، فهو كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم، فإذا خالف المشهور المستفيض لم تقم الحجة علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب، فبالأولى تفاسير من بعدهم من التابعين وتابعيهم وسائر الأئمة.
(1/11)
... وأيضاً، كثيراً ما يقتصر الصحابي ومن بعده من السلف على وجه واحد مما يقتضيه العلم القرآني باعتبار المعنى اللغوي، ومعلوم أن ذلك لا يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية ولا إهمال ما يستفاد من العلوم التي تتبين بها دقائق العربية وأسرارها، كعلم المعاني والبيان، فإن التفسير بذلك هو تفسير باللغة لا بمحض الرأي المنهي عنه. وقد أخرج سعيد بن منصور في ((سننه)) وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية عن سفيان قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف، إنما هو كلام جامع يراد منه هذا وهذا. وأخرج ابن سعد في ((الطبقات)) وأبو نعيم في ((الحلية)) عن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآ، وجوهاً. وأيضاً لا يتيسر في كل تركيب من التراكيب القرآنية تفسير ثابت عن السلف، بل قد يخلو عن ذلك كثير من القرآن، ولا اعتباراً بما لم يصح كالتفسير المنقول بإسناد ضعيف ولا بتفسير من ليس بثقة منهم وإن صح إسناده إليه.
... وبهذا تعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين؛ وعدم الاقتصار على مسلك أحد الفريقين.
2- تقدير العلم والعلماء
... ( الخطيب البغدادي في ((تاريخه)):
... كان طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان نزل بـ ((مرو)) يطلب رجلاً ليحدثه ليله، فقيل له: ما هنا إلا رجل مؤدب فأدخل عليه أبو عبيد القاسم بن سلام، صاحب كتاب ((الأموال)) فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه، فقال له: من المظالم تركك بهذا البلد، فدفع إليه ألف دينار وقال له: أنا متوجه إلى خراسان إلى حرب، وليس أحب استصحابك شفقاً عليك، فأنفق هذا إلى أن أعود إليك. فألَّف أبو عبيد غريب المصنف إلى أن عاد طاهر بن الحسين من خراسان فحمله معه إلى ((سرّ من رأى)). وكان أبو عبيد ديِّناً ورعاً جواداً.
3- وفاء وسخط!
... ( الحافظ الذهبي في ((تاريخ دول الإسلام)) كما جاء في التقديم لكتاب ((الأموال)):
(1/12)
... كان أبو عبيد القاسم بن سلَّام مع عبدالله بن طاهر، فبعث إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيد شهرين، فأنفذه إليه فأقام شهرين، فلما أراد الانصراف وصله بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لم يحوجني إلى صلة غيره، فلما عاد ابن طاهر وصله بثلاثين ألف دينار فقال: أيها الأمير قد قبلتها ولكن قد أغنيتني بمعروفك وبرك، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً وأوجه بها إلى الثغر ليكون الثواب متوفراً على الأمير، ففعل.
4- فساد الشعب بالتجسس عليه
... ( أخرج الإمام الطحاوي في ((مشكل الآثار)):
... بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)) ثم قال الطحاوي رحمه الله: معنى ذلك عندنا أن الله تعالى قد أمر عباده بالستر وأن لا يكشفوا عنهم ستره الذي سترهم به فيما يصيبونه مما قد نهاهم عنه لمن سواهم من الناس، فكان الأمير إذا تتبع ما أمر الله بترك تتبعه امتثل الناس لذلك منه وكان في ذلك إفسادهم.
5- نعمت الإمارة وبئست
... ( أبو عبيد في ((الأموال)):
... عن عطاء بن يسار قال: قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الشيء الإمارة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحلِّها وحقها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها وحلِّها، تكون عليه يوم القيامة حسرة وندامة)).
6- القيام بالواجب خير من التفرغ للعبادة
... ( وفيه أيضاً:
... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعمل الإمام العادل في رعيته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام – أو خمسين عاماً)) الشك من هشيم أحد الرواة.
7- رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم
... ( وفيه أيضاً:
(1/13)
... عن أبي البُختري قال: حاصر سلمان رضي الله عنه حصناً من حصون فارس؛ فقال: حتى أفعل بهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فأتاهم فقال: إني رجل منكم أسلمت فقد ترون إكرام العرب إياي، وإنكم إن أسلمتم كان لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، وإن أبيتم فعليكم الجزية، فإ، أبيتم قاتلناكم.
8- جهد الشعوبية في محو العربية
... ( ابن أبي الحديد في شرح ((نهج البلاغة)):
... كتب إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني: ((إن استطعت أن لا تدع بخراسان أحداً يتكلم بالعربية إلا قتلته فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، وعليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار، فإبد خضرائهم ولا تدع على الأرض منهم ديّاراً)).
9- الأمويون والعباسيون
... ( الجاحظ في ((البيان والتبيين)):
... دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية.
10- بهذا تقوى الدول
... ( الطبري في ((تاريخه)) عن يحيى بن سليم قال:
... لم يُر في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو والعبث واللعب إلا يوماً واحداً، فإنا رأينا ابناً له يقال له: عبدالعزيز (توفي وهو حدث) قد خرج على الناس متنكباً قوساً، متعمماً بعمامة متردياً برداء، في هيئة غلام أعرابي راكباً على قَعود بين جُوالقين فيهما مقل ونعال ومساويك وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه، فعبر الغلام الجسر وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجوالقين وملأهما دراهم، وانصرف الغلام، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.
11- وبهذا تنهار الدول
... ( أبو الفرج الأصبهاني في ((الأغاني)):
... بلغ مجموع ماأخذه إبراهيم الموصلي من الرشيد أكثر من مائتي ألف دينار !..
12- أتلحنين وأنت شريفة؟
... ( الشريف المرتضى في ((أماليه)):
... تكلمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت وهي عند الحجاج فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة وفي بيت قيس؟ قال: أما سمعت قول أخي ((مالك)) لامرأته الأنصارية:
(1/14)
منطلق صائب وتحلن أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا
فقال لها الحجاج: إنما عنى أخوك اللحن في القول إذا كنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك.
13- كيف لي بما سارت به الركبان
... ( وفيه أيضاً:
... قيل للجاحظ: مثلك في عقلك وعلمك وأدبك ينشد قول مالك بن أسماء الفزاري – البيت السابق – ويفسره على أنه أراد اللحن في الإعراب، وإنما أراد وصفها بالظرف والفطنة؛ وأنها تورّي عما قصدت له وتتنكب التصريح؟ فقال الجاحظ: قد فطنت لذلك بعدُ، قيل: فغيّره من كتابك! فقال: كيف لي بما سارت به الركبان! قال الصولي: فهو في كتابه على خطئه ..
14- توبة الفرزدق من الهجاء
... ( وفيه أيضاً:
... عن معاوة بن عبدالكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق فجعلت أحادثه فسمعت صوت حديد يتقعقع، فتأملت الأمر فإذا هو مقيد الرجلين، فسألت عن السبب في ذلك. فقال إني آليت على نفسي ألا أنزع القيد من رجلي حتى أحفظ القرآن.
... وعن سلام بن مسكين قال: قيل للفرزدق: علام تقذف المحصنات؟ فقال: والله لَلّهُ أحب إليَّ من عينيَّ هاتين، أفتراه يعذبني بعدها؟
... وروي أنه تعلق بأستار الكعبة، فعاهد الله على ترك الهجاء والقذف وقال:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني لبين رِتاج قائم ومقام(1)
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ولا خارجاً من فيّ زور كلام
أطلعتك يا إبليس تسعين حجة فلما قضى عمري وتم تمامي
فزعت إلى ربي وأيقنت أنني ملاق لأيام الحتوف حِمامي
__________
(1) هكذا جاءت رواية هذا البيت في الديوان. ورواه في ((اللسان)): ألم ترني عاهدت ربي وإنني لبين رتاج مقفل ومقام
والرتاج: الباب العظيم، وقيل: الباب المغلق.
(1/15)
... وعن إدريس بن عمران قال: جاءني الفرزدق فتذاكرنا رحمة الله، فكان أوثقنا بالله، فلما قيل له ذلك مع قذفه وهجائه، قال: أترونني لو اذنبت ذنباً إلى أبويَّ أكانا يقذفاني في تنور وتطيب أنفسهما بذلك؟ فقلنا: لا، بل كانا يرحمانك، قال: فأنا والله برحمة ربي أوثق مني برحمتهما.
... ولما توفيت زوجته النوار قال له الحسن البصري – وكان فيمن حضر جنازتها – وهو عند القبر: ما أعددت لهذا المضجع يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إلا إلا الله منذ ثمانين سنة. فقال له الحسن: هذا العمود فأين الطنب(1)؟ وفي رواية أنه قال له: نِعمَ ما أعددت! ثم أنشد الفرزدق في الحال:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... ... أشد من الموت التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد ... ... ... عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا
يقاد إلى نار الجحيم مسربلاً ... ... ... سرابيل قطران لباساً محرقا
قال: فرأيت الحسن يدخل بعضه في بعض، ثم قال: حسبك!
15- معنى ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))
... ( الشوكاني في (( فتح القدير)) بعد أن ذكر الأقوال في ذلك إنه الإسلام، أو القرآن؛ أو النبي:
... وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي عن الفضيل، وهو قوله: الصراط المستقيم: طريق الحج – يصدق بعضه على بعض، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبي فقد اتبع الحق، وقد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي معنيّاً به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفق إليه ممن أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم. اهـ.
__________
(1) الطنب: حبل الخباء.
(1/16)
16- أحكام البسملة(1)والحمدلة(2)
( ابن عابدين – من فقهاء الحنفية – في حاشيته على ((الدر المختار)):
... تاتي الأحكام الشرعية (أي الخمسة) في كل من البسملة والحمدلة.
... أما البسملة فتجب في: ابتداء الذبح، ورمي الصيد، والإرسال إليه (أي إرسال كلب الصيد) لكن يقوم مقامها كل ذكر خالص. وفي بعض الكتب أنه لا يأتي بـ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، لأن الذبح ليس بملائم للرحمة؛ لكن في ((الجوهرة)) أنه لو قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فهو حسن، وفي ابتداء الفاتحة في كل ركعة، قيل: وهو قول الاكثر، لكن الأصح أنها سنة.
... وتسن في ابتداء الوضوء، والأكل، وفي ابتداء كل أمر ذي بال.
... وتجوز أو تستحب فيما بين الفاتحة والسورة على الخلاف في ذلك.
... وتباح في ابتداء المشي، والقيام، والقعود.
... وتكره عند: كشف العورة، أو في محل النجاسات، وفي أول سورة (براءة) إذا وصل قراءتها بـ (الأنفال) كما قيده بعض المشايخ. قيل: وعند شرب الدخان، أي ونحوه من كل ذي رائحة كريهة كأكل ثوم وبصل.
... وتحرم عند استعمال محرم، بل في ((البزازية)) وغيرها: يكره من بسمل عند مباشرة كل حرام قطعي الحرمة، وكذا تحرم على الجنب إذا لم يقصد بها الذكر.
... وأما الحمدلة فتجب في الصلاة، وتسن في الخطب، وقبل الدعاء، وبعد الأكل، وتباح بلا سبب، وتكره في الأماكن المستقذرة، وتحرم بعد أكل الحرام، بل في ((البزازية)) أنه اختلف في كفره.
17- عي المقال وعي الفعال
... ( الجاحظ في ((البيان والتبيين)):
... ومما ذموا به العي قوله:
وما بي من عيّ ولا أنطق الخنا ... ... إذا جمع الأقوامَ في الخطب محفلُ
وقال الراجز وهو يمتح(3)بدلوه:
علقتُ يا حارث عند الورد(4) ... ... ... بجابئ(5)لا رفلِ التردّي
وهذا كقول بشار الأعمى:
__________
(1) هي: بسم الله الرحمن الرحيم
(2) هي: الحمدلله رب العالمين. وما أشبهها من عبارات الحمد.
(3) يستقي من البئر بالدلو
(4) عند ورود الماء.
(5) الجابئ: المفاجئ.
(1/17)
وعيّ الفعال كعيّ المقال ... ... وفي الصمت عيّ كعيّ الكلم
18- كلب الله !
... ( أبو المنصور الثعالبي في ((ثمار القلوب)):
... قال الجاحظ: يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتيبة ابن أبي لهب: ((أكلك كلب الله)) فأكله الأسد، وفي هذا الخبر فائدتان: إحداهما أنه ثبت بذلك أن الأسد كلب الله، والثانية أن الله تعالى لا يضاف إليه إلا العظيم من جميع الأشياء من الخير والشر، أما الخير فقولهم ((بيت الله)) و ((زوار الله)) و ((كتاب الله)) و ((أرض الله)) و ((خليل الله)) و ((روح الله)) وأشباه ذلك. وأما الشر فكقولهم: دعه في لعنة الله تعالى وسخطه وأليم عذابه، ودعه في نار الله وسقره.
19- نهر الله !
... ( وفيه أيضاً:
... من أمثال العامة والخاصة: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى، ونهر معقل بالبصرة، ونهر عيسى ببغداد، وعليهما أكثر الضياع الفاخرة، والبساتين النزهة ببغداد و (البصرة) وإنما يريدون: نهر الله البحر والمطر والسيل فإنها تغلب سائر المياه والأنهار وتطم عليها، ولا أعرف نهراً مخصوصاً بهذه الإضافة سواهما. ومما يجري مجرى المثل المذكور قول الشاعر:
إذا جاء موسى وألقى العصا ... ... فقد بطل السحر والساحر
20- أخشن من مضغ الحديد !
... ( الصفدي في ((الوافي بالوفيات)) في ترجمة ((محمد بن إبراهيم بن عمران القفصي المغربي)):
... ذكره ابن رشيق أيضاً فقال: شاعر متقدم، علامة بغريب اللغة؛ قادر على التطويل يضع القصيدة تبلغ المائة وأكثر في ليلتها ويحفظها فلا يشذ عنه منها شيء، ويسرد أكثر مسائل كتاب (( العين)) للخليل بن أحمد، أورد له قوله:
ومن غيرَ الأيام أنيَ شاعر ... ... أديب بسربال الخمول مُسربَلُ
أروم على إكداء حالي تجملاً ... ... وأخشن من مضغ الحديد التجملُ
21- صدقات في عيد الفطر
... ( وفيه أيضاً في ترجمة ((صدر الدين لقنائي)) (توفي سنة 672 هـ):
(1/18)
... وكان كثير الصدقة، وكانت له معصرة يرسل غلمانه يجعلون في دهليز كل بيت من الفقراء قادوس محلب وطنّ قصب في ليلة عيد الفطر.
22- لغويات ..
( الأنباري في ((كتاب الأضداد)):
... و((النَّدُّ)) يقع على معنيين متضادَّين، يقال: فلان نِد فلان إذا كان ضده، وفلان نده إذا كان مثله، وفسر الناس قول الله جل وعز: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) على جهتين:
... قال الكلبي: عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه فلا تجعلوا لله أعدالاً، فالأعدال جمع عِدْل، والعدل: الكثل.
... وقال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة: ((فلا تجعلوا لله أنداداً)) أضداداً! ويقال: فلان نِدّي، ونديدي، ونديدتي، فالثلاث لغات بمعنى واحد.
قال حسان لأبي سفيان بن الحارث:
أتهجوه ولست له بندٍّ؟ ... ... فشرُّكما لخيركما الفداء
وقال لبيد:
أحمد الله فلا نِدَّ له ... ... ... بيديه الخير ما شاء فعل
وقال الىخر:
أتيماً تجعلون إلىَّ نداً ... ... وما تيمٌ لذي حسبٍ نديدُ
وقال لبيد في إدخال الهاء:
لكي لا يكون السَّندريّ(1)نديدتي ... ... وأشتم أقواماً عموماً عماعما
العماعم: الجماعات، ويروى: ((وعُماً عماعماً)) فالعُمّ الرجال البالغون، ويستعمل في غير الرجال أيضاً. اشترى بعض الشعراء نخلاً، بعضه بالغ وبعضه غير بالغ، فعذل في ذلك فقال:
فعُمٌّ لِعُمّكم نافع ... ... وطِفل لطفلكُم يؤمل
أراد: فالبالغ من النخل ينفع الرجال البالغين، والذي ليس ببالغ ينفع الأطفال ويؤمّل بلوغُه لهم.
... وإنما دخلت الهاء في ((نديدة)) للمبالغة، كما قالوا: رجل علاَّمة ونسَّابة، وجاءني كريمة القوم، يراد به: البالغ في الكرم، المشبه بالداهية. ويقولون في الذم: رجل هِلبَاجة، إذا كان أحمق فيشبهونه بالبهيمة.
__________
(1) هو شاعر كان مع علقمة بن علاثة، وكان لبيد مع عامر بن الطفيل، فدعي لبيد إلى مهاجاته فأبى.
(1/19)
... ويقال في تثنية الند: ندّان، وفي جمعه: أنداد، ومن العرب من لا يثنيه ولا يجمعه ولا يؤنثه، فيقول: الرجلان نِدِّي، والرجل نِدِّي، والمرأة نِدِّي، والنساء نِدِّي؛ كما قالوا: القوم مثلي، والقوم أمثالي؛ قال الله عز وجل: (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) وقال تبارك وتعالى في موضع آخر: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).
ومجرى ((ند)) إذا وحد مجرى قولهم: رجلٌ كَرَمٌ، ورجالٌ كَرَمٌ، ومنزلٌ حَمَدٌ، ودارٌ حَمَدٌ، أي محمودة، ورجال شَرَطٌ وقَزَمٌ، إذا كانوا سُقَّاطاً لا أقدار لهم.
قال الأموي:
تمنَّيتُمُ قومكم فخراً بأمكمُ ... ... أُمٌّ لعمري حَصَانٌ(1)برَّة كرمُ
هي التي لا يوازي فضلها أحدٌ ... وبنت النبي وخير الناس قد علموا
وأنشدنا أبو العباس:
سقى الله نجداً من ربيع وصيِّف ... ... وماذا ترَجّي من سحاب سقى نجدا
بلى إنه قد كان للعيش مره ... ... ... وللبيض والفتيان منزلة حّمدا
وقال الكميت:
وجدت الناس غير ابنَي نزار ... ... ... ولم أذممهمُ شَرَطاً ودونا
السكِّيت:
لقد زاد الحياة إليَّ طيباً ... ... ... بناتي إنهن من الضِّعاف
مخافة أن يذقن البؤس بعدي ... ... ... ويشربن رنقاً(2)بعد صاف
وأن يَعْرَين إن كسي الجواري ... ... فتنبو العين عن كرم عِجاف
23- من أين لهم هذا؟
... ( القاضي الرشيد بن الزبير في ((الذخائر والتحف)):
وكان لأحمد بن عبدالعزيز بن أبي دلف أيام ولايته الكرخ اسطبلات تشتمل على أكثر من عشرين ألف دابة. وكان ربما حمل في اليوم الواحد على أكثر من ألف فرس، وكانت له خزانة سروج فيها ستة آلاف سرج وخمسمائة سرج، سوى المخلَّع منها والمصاغ الذي لم يركب. وكان في بيت ماله ستة آلاف ألف (ستة ملايين) درهم، وخمسمائة ألف دينار في بعض أوقاته، سوى ما عنده من خزائن السلاح والكسوة والطيب والشراب والفرش والطرائف وغير ذلك مما لا تحدُّ قيمته.
24- تركة ! ..
... ( نقل محمد كرد علي في ((الإسلام والحضارة العربية)):
__________
(1) عفيفة.
(2) كدراً.
(1/20)
... أن الوزير التركي ((سنان باشا)) الذي كان والياً على الشام ومصر وفتح اليمن وتونس وتولى الصدارة (رئاسة الوزراء) غير مرة قد خلَّف تركة كان فيها:
- مائة وستون مصحفاً مرصعاً بالدر والجواهر.
- وثلاثون طستاً وإبريقاً من الذهب مرصعة بالدر والياقوت.
- وخمسة صناديق زبرجد عليها خمسة أقفال من الذهب مرصعات بالجوهر، وفي داخل كل صندوق منها مائتا مثقال من الإكسير، كل مثقال منها على ألف قنطار من الحديد يستحيل ذهباً خالصاً.
- وشطرنج بيادقه البيض ماس، وبيادقه السود لعل (كذا).
- ومائتا مرآة مرصعة بالدر والياقوت.
- واثنان وثلاثون زوجاً من الركابات ذهباً مرصعة بالدر والياقوت.
- وستون ((رختاً)) من الذهب مرصعة بالجواهر.
- ومثلها سلاسل ذهبية.
- وأربعمائة ((رخت)) فضة مطلية بالذهب.
- ومائة وستون رشمة ذهب.
- وأربعمائة رشمة فضة.
- ومائة وستون سرجاً مرصعة بالدر والياقوت.
- ومائة وستون عباءة مكللة باللؤلؤ الرطب.
- ومائة وستون سكيناً ذهباً مرصعات بالدر والياقوت.
- وثلاثمائة وأربعون تاجاً مرصعة بالجواهر.
- ومائتان وستون ((حمايليا)) مرصعة بالدر والجواهر.
- ومائة وستون خنجراً ذهباً مرصعة بالماس.
- ومائتان وثلاثون زناراً من الجوهر.
- ومائتان وستون ((بازونه)) مرصعة بالجواهر.
- وخمسة وثلاثون صندوق كتب مرصعة بالياقوت والمعدن.
- وسفرة صحون وثلاث صوان من ذهب وجميعها مرصعة.
- وعشر طاسات بأغطية وتحتها صوانيها من ذهب مرصعة بالدر والجواهر.
- وعشر مباخر وعشر قماقم ذهب مرصعة بالدر والجواهر.
- وخمسة وستون خاتماً من الماس.
- ومائة وأربعة وأربعون خاتماً من الياقوت الأحمر.
- ومائتا خاتم من لعل. ومثلها من الياقوت الأصفر والأزرق والزمرد الخالص.
- وسبعون وسادة كل واحدة بمائتي دينار.
- ومائتان وستون وسادة مرصعة بالجواهر.
- وستون قفلاً ومفتاحاً مرصعات بقطع ماس في كل قفل منها نحو ألف دينار.
(1/21)
- وقبضة ماس مقدار كف الإنسان لا نظير لها.
- وأربعمائة شماعدين من ذهب وتحتها سفرها مرصعة بالجواهر قوَّموها بمائة ألف دينار.
- ومائة وخمسون خلعة صراصر كل واحدة منها تساوي مائة دينار.
- وسبعون خلعة مرصعة بالجواهر قيمة كل واحدة ألف دينار.
- وثلاث صور عجاب قيمتها ثلاثة آلاف دينار.
- وثلاثمائة فروة سمور قيمة كل واحدة منها خمسمائة دينار.
- وأربعمائة فروة وشق قيمة كل واحدة ثلاثمائة دينار.
- وأربعمائة فروة ناقة وغيرها قوّمت كل واحدة بسبعين ديناراً.
- وثمانية أباريق كبيرة من نحاس أصفر في جوف كل إبريق منها مائة ألف دينار.
- وستة وسبعون كيساً في كل كيس منها اثنا عشر ألف دينار.
- وثلاثمائة شمامة من العنبر.
- إلى غير ذلك من الأمتعة والعود الخالص المختوم.
- وثمانية آلاف جمل.
- وألف بغل.
- وتسعمائة فرس وحصان لركوبه خاصة بسرج حرير.
- وما عدا الصيني والنحاس والبندق المجوهر والدروع والقامات والسناجق المذهبة وعدة ((الشكار) مع طاساتها الذهب، وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها.
قال المرحوم كرد علي عن هذه الثروة: إن أقل ما يقال فيها: إنها مجموعة ثروة قسم عظيم من الولايات العربية، إذا وجد بعضها في أحد متاحف الغرب عُدَّ غنياً بما في تركته من غرائب.
... وأقول: إن هذا الوزير هو الذي بنى مسجد السنانية المعروف في دمشق. فهل بناه ليغفر الله له ما سلبه من أموال الناس؟ وهل يفعل الله ذلك؟
25- يعيش مائة وثلاثين سنة
... ( الحافظ الذهبي في ((العبر)) في حوادث سنة مائة:
... وفيها (توفي) أبو عثمان النَّهدي عبدالرحمن بن مُلّ بالبصرة، وكان قد أسلم وأدى الزكاة إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم وحج في الجاهلية، وعاش مائة وثلاثين سنة، وصحب سلمان الفارسي اثنتي عشرة سنة.
26- يعدد ذنوبه !
... ( وفيه أيضاً في حوادث سنة ثلاث ومائة:
(1/22)
... وفيها (توفي) مقرئ الكوفة يحيى بن وثّاب الأسدي، مولاهم، أخذ عن ابن عباس وطائفة. وقال الأعمش: كنت إذا رأيته قد جاء قلت: هذا قد وقف للحساب. كان يعد ذنوبه رحمه الله.
27- يفطر خمسمائة إنسان في كل ليلة
... ( وفيه أيضاً في حوادث سنة عشرين ومائة:
... وفيها (توفي) فقيه الكوفة أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان الأشقري مولاهم (شيخ الإمام أبي حنيفة) صاحب إبراهيم النخعي، روى عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وطائفة، وكان سرياً محتشماً، يفطِّر كل ليلة في رمضان خمسمائة إنسان. رحمه الله.
28- شدة في الحق .. مع شدة في الفقر
... ( وفيه أيضاً في حوادث سنة تسع وخمسين ومائة:
... وفيها توفي الإمام أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب: هشام بن شعبة القرشي العامري المدني الفقيه، ومولده سنة ثمانين، روى عن عكرمة ونافع وخلقٍ.
... قال أحمد بن حنبل: كان يشبَّه بسعيد بن المسيب، وما خلَّف مثله، كان أفضل من مالك، إلا أن مالكاً أشد تنقية للرجال.
... وقال الواقدي: كان ابن أبي ذئب يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، فلو قيل: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد، وأخبرني أخوه أنه كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً ثم سردَه، وكان شديد الحال، يتعشى بالخبز والزيت، وكان من رجال العالم صرامة وقولاً بالحق، وكان يحفظ حديثه لم يكن له كتاب.
... وقال أحمد: دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر – يعني المنصور – فلم يؤهّله أن قال: الظلم ببابك فاشٍ، وأبو جعفر أبو جعفر (أي مشهور في شدته وبطشه).
29- أنواع مرض القلوب
... ( ابن القيم في ((زاد المعاد)):
... والمرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن، ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن.
... قال تعالى في مرض الشبهة: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا).
(1/23)
... وقال تعالى: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا).
... وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50)).
... فهذا مرض الشبهات والشكوك.
... وأما مرض الشهوات فقال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) فهذا مرض شهوة الزنى والله أعلم.
30- الطب الروحي
... ( وفيه أيضاً:
... وأين يقع هذا وأمثاله (الطب المادي) من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم (الأطباء) من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلة ما جاءت به الأنبياء، بل ههنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم تهتد إليها عقول أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم: من الأدوية القلبية والروحية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه.
... وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة؛ ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية؛ بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الأطباء.
(1/24)
... وهذا جارٍ على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجاً عنها، ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء؛ كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه، المعرض عنه.
... وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على وضع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه؛ وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه، أن يكون ذلك من أكبر الأدوية، وتوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية؛ ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجاباً وأكثفهم نفساً، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.
31- ظرف الأعراب من الجوع ..
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
... قال العُعيبيّ: قلت لرجل من أهل البادية: يا أخي ! إني لأعجب من أن فقهائكم أظرف من فقهائنا؛ وعوامَّكم أظرف من عوامّنا؛ ومجانينكم اظرف من مجانيننا. قال: وما تدري لمَ ذاك؟ قلت: لا؛ قال: من الجوع؛ ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لخلو جوفه ! ..
32- أعرابي يدركه رمضان في المدينة
... ( وفيه:
... قدم اعرابي على ابن عم له بالحضر، فأدركه شهر رمضان فقيل له: أبا عمرو لقد أتاكَ شهر رمضان. قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام؛ قال: أبلليل أم بالنهار؟ قالوا: لا؛ بل بالنهار؛ قال: أفترضون بدلاً من الشهر؟ قالوا: لا؛ قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تُضرب وتُحبَس ! فصام أياماً، فلم يصبر فارتحل عنهم وجعل يقول:
يوقل بني عمي وقد زرت مصرهم ... ... تهيأْ أبا عمرو لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومِزوَدي ... ... ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام
فبادرت أرضاً ليس فيها مسيطر ... ... ... عليَّ ولا منَّاعُ أكل طعام
33- لماذا سمنوا؟
... ( وفيه:
(1/25)
... قيل لرجل رُئي سميناً: ما أسمنك؟ قال: أكلي الحارّ، وشربي القارّ (البارد) واتكائي على شمالي، وأكلي من غير مالي . . .
... وقيل لآخر: ما أسمنك؟ قال: قلة الفكرة؛ وطول الدَّعَة؛ والنوم على الكِظَّة(1).
... قال الحجاج للغضبان بن القبعثرى في حبسه: ما أسمنك؟ قال: القيد والدَّعَة؛ ومن كان في ضيافة الأمير فقد سمن !
... وقال آخر لرجل رآه سميناً: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك !
34- الثريد ومرق اللحم
... ( وفيه:
... قيل لأعرابي: ما لكم تأكلون اللحم وتَدَعون الثريد؟ فقال: لأن اللحم ظاعن، والثريد باقٍ !
... وقيل لآخر: ما تسمُّون المرق؟ قال: السخين، قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه يبرد ! .
35- دعاء على جار بخيل !
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... كتب أبو الأسود الدؤلي إلى رجل يستسلفه، فكتب إليه: المؤونة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه ابو الأسود: إذا كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً.
36- تعصيه في الخير وتطيعه في الشر
... ( وفيه أيضاً:
... سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، فتشفع إليه برجل فقضاها، فقال:
ذُممتَ ولم تُحمَد وأدركتُ حاجتي ... ... تولى سواكم أجرها واصطناعها
أبي لك كسبَ المجد رأيٌ مقصر ... ... ونفسٌ أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... ... عصاها وإن همَّت بشرٍّ أطاعها
37- أب يسرُّ بوفاة ابنه
... ( أبو عمر بن قدامة المقدسي في ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن القيم:
... لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دفنه عمر وسوَّى عليه (التراب) ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال: رحمك الله يا بني ! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت مذ وهبك الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد منك سروراً، ولا أرجي بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيَّرك الله إليه.
38- طول ليل الحزين
__________
(1) الكظة: شيء يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام
(1/26)
... ( أبو عليّ القالي في ((أماليه)):
... وأنشدنا أبو بكر رحمه الله قال: أنشدنا أبو حاتم – ولم يسمِّ قائله – في طول الليل:
ألا هل على الليل الطويل معين ... ... إذا نزحَتْ دارٌ وحنَّ حزين؟
أكابد هذا الليل حتى كأنما ... ... على نجمه – ألاّ يغور – يمين
فوالله ما فارفتكم قالياً لكم ... ... ... ولكنَّ ما يُقضى فسوف يكون
وقد ذكر الفرزدق العلة في طول الليل فقال:
يقولون طال الليل والليل لم يَطُل ... ... ولكنَّ من يبكي من الشوق يسهرُ
39- من أيمان العرب
... ( وفيه أيضاً:
... من أيمان العرب: لا والذي أخرج العذق من الجريمة (أي النخلة من النواة) والنار من الوثيمة (أي قدح حوافر الخيلِ النارَ من الحجارة).
ويقولون: لا والذي شق خمساً من واحدة، يعنون: الأصابع.
ويقولون: لا والذي أخرج قائبة من قوب، يعنون: فَرْخَاً من بيضة.
ويقولون: لا والذي وجهي زَمَمَ بيته، أي قصده وحذاءه.
40- أحق الناس
... ( قال ابن المقفع في ((الأدب الصغير)):
(1/27)
... أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة (أي أحقهم بالملك والحكم أهل المعرفة بسياسة الملك) وأحقهم بالتدبير العلماء، واحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديباً، وأحقهم بالغنى أهل الجود، واقربهم إلى الله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله، وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعا بعلمه أبعدهم عن الأذى، وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفاً؛ وأقواهم أحسنهم معونة، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلحهم بحجةٍ أغلبهم للشهوة والحرص؛ وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حباً، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً، وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالاً، وأقلهم دهشاً أرحبهم ذراعاً، وأوسعهم غِنَىً أقنعهم بما أوتي، وأخفضهم عيشاً أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس أكلُّهم ناباً ومِخلَباً، وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم؛ وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم، وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها.
41- أمارات السلاطين لندمانهم إذا أرادوا النهوض
... ( الراغب الأصبهاني في ((محاضراته)):
... كان لكل ملك أمارة يستدل بها أصحابه إذا أراد أن يقوموا عنه، فكان أزدشير إذا تمطى قام سمَّاره، وكان ((كيشاسف)) يدلك عينيه، و((يزدجرد)) يقول: شب بشد (مضى الليل) و((بهرام)) يقول: خرَّم (المسرور، ومستريح الحال) و((سابور)) يقول: حسبك يا إنسان، و((أبرويز)) يمد رجليه، و((قباذ)) يرفع رأسه إلى السماء، و((أنو شروان)) يقول: قرَّت أعينكم، وكان عمر يقول: قامت الصلاة، وعثمان يقول: العزة لله، ومعاوية يقول: ذهب الليل، وعبد الملك يقول: إذا شئتم، والوليد يلقي المخصرة، والرشيد يقول: سبحان الله، والواثق يمس عارضيه. وحكي عن بعض البخلاء أنه سئل: ما أمارتك لقيامنا؟ قال: قولي: يا غلام هات الطعام !
42- يوم الأذان !
... ( وفيه أيضاً:
(1/28)
... دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فقال له: اذكر يا أمير المؤمنين ويم الأذان! قال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله تعالى فيه: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) فبكى سليمان وأزال ظلامته.
43- عاقٌّ يحتج لعقوقه !
... ( وفيه أيضاً:
... ضرب رجل أباه فقيل له: أما عرفت حقه؟ قال: لا، للأنه لم يعرف حقي. قيل: فما حق الولد على الوالد؟ قال: أن يتخير أمه، ويحسن اسمه، ويختنه، ويعلمه القرآن، ثم كشف عن عورته فإذا هو أقلف، وقال: اسمي ((برغوث)) ولا أعلم حرفاً من القرآن، وقد استولدني من زنجية، فقيل للوالد: احتمله فإنك تستاهل . .
44- الحمدلله الذي لم يجعل ذلك على يدي
... ( أبو عبيد في ((الأموال)):
... أُتي عمر بن الخطاب بمال كثير – قال أبو عبيد: أحسبه قال: من الجزية – فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس ! قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً، قال: بلا سوط ولا نوط(1)؟ قالوا: نعم ! قال: الحمدلله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني.
45- هكذا يكون الإيمان الصادق
... ( وروى أبو عبيد في ((الأموال)) بسنده إلى الليث بن سعد عن محمد بن عجلان أن عمر رضي الله عنه فضل أسامة بن زيد في فرض العطاء على ولده عبدالله بن عمر، قال:
... فلم يزل الناس بعبدالله بن عمر حتى كلم عمرَ فقال: أتفضل عليَّ من ليس بأفضل مني؟ فرضتَ له في ألفين، وفرضتَ لي في ألف وخمسمائة، ولم يسبقني إلى شيء؟ فقال عمر: فعلت ذلك لأن زيد بن حارثة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر، وأن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبدالله بن عمر! . . وفي رواية أخرى: أن زيداً كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وإن أسامة كان أحب إليه منك ! . .
__________
(1) النوط: العلاوة بين عدلين، والجلة الصغيرة فيها التمر، ومنه المثل: إن أعيا البعير فزده نوطاً، أي لا تخفف عنه إذا تلكأ في السير ((قاموس)).
(1/29)
46- الشعر عند أدباء الكتاب
... ( الصفدي في ((شرح لامية العجم)):
... قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقل إلا فيما اتصل بالأخبار وتعلق بالأنساب والأيام، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبدالملك.
47- غرور الكيميائيين القدامى
... ( وفيه أيضاً في ترجمة ((الظغرائي)) صاحب ((لامية العجم)):
... وقد ألَّف كتباً في الكيمياء. ومن شعره قوله:
أما العلوم فقد ظفرت ببغيتي ... ... منها فما أحتاج أن أتعلما
وعرفت أسرار الخليقة كلها ... ... علماً أنار لي البهيم المظلما
وورثت هرمس سر حكمته الذي ... ... ما زال ظناً في الغيوب مترجما
وملكت مفتاح الكنوز بفطنة ... ... كشفت لي السر الخفي المبهما
لولا التقية كنت أُظهر معجزاً ... ... من حكمتي يشفي القلوب من العمى
أهوى التكرم والتظاهر بالذي ... ... عُلّمته والعقل ينهى عنهما
وأريد لا ألقى غبياً موسراً ... ... في العالمين ولا لبيباً معدما
والناس إما ظالم أو جاهل ... ... فمتى أطيق تكرماً وتكلما؟
48- دفاع عن المأمون
... ( وفيه أيضاً:
... حدثني من أثق به أن الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها.
... (قلت) إن المأمون لم يبتكر النقل والتعريب، بل نقله قبله كثير، فإن يحيى بن خالد البرمكي عرّب من كتب الفرس كثيراً مثل ((كليلة ودمنة)) وعرب لأجله كتاب ((المجسطي)) من كتب اليونان، والمشهور أن أول من عرّب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية، كما أولع بكتب الكيمياء.
(1/30)
... ثم قا لالصفدي: والخلاف ما زال في هذه الأمة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: في موته ودفنه، وأمر الخلافة بعده، وأمر ميراثه، وأمر قتال مانعي الزكاة، إلى غير ذلك، بل في نفس مرضه صلى الله عليه وسلم لما قال: (ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي)) على ما هو مذكور في مواطنه. وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال: ((إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)). وهو صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، قد أخبر أن الأمة ستفترق، ومتى افترقت خالف بعضها بعضاً، ومتى خالفت تمسكت بشبه وحجج، ةناظر كل فرقة من يخالفها، فانفتح باب الجدل، واحتاج كل واحد إلى ترجيح مذهبه وقوله بحجة عقلية، أو نقلية، أو مركبة منهما؛ فهذا الأمر كان غير مأمون قبل المأمون، ثم زاد الشر شراً، وقويت به حجج المعتزلة وغيرهم، وأخذ اصحاب الأهواء ومخالفو السنة مقدمات عقلية من الفلاسفة، فأدخلوها في مباحثهم، وفرجوا بها مضايق جدالهم، وبنوا عليها قواعد بدعهم، فاتسع الخرق على الراقع، على أن السنة الشريفة مرفوعة المنار، وأهل السنة فتح لهم السلف الصالح مغلق أبوابها، وذللوا بالشواهد الصادعة ما جمع من صعابها.
49- هذا رجل جائع !
... ( وفيه أيضاً:
... وأين هذا من فراسة أبي الحارث حمير وقد أنشد بين يديه قول العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... ... يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي غذا ... ... كان عدوي بين أضلاعي
إن دام بي هجرك مع كل ذا ... ... يوشك أن ينعاني الناعي
(1/31)
فبكى وقال: هذا رجل جائع يصف جارية طباخة مليحة. فقيل له: من أين لك هذا؟ قال: لانه بدأ فقال: قلبي إلى ما ضرني داعي، وكذلك الإنسان تدعوه شهوته وقلبه إلى ما يضره من الطعام والشراب، فيأكل فتكثر عليه أوجاعه. وهذا تعريض، ثم صرح فقال: كيف احتراسي . . . إلخ البيت، وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلا معدته، فهي تتلف ماله، وهي سبب أسقامه، ومفتاح كل بلاء عليه، ثم قال: إن دام بي هجرك . . إلخ البيت، فعلمت أن الطباخة كانت صديقته فهجرته ففقدها وفقد الطعام، ولو دام عليه لمات جوعاً ونُعي . .
50- من حكمة العرب
... ( ابن نباتة في ((شرح رسالة ابن زيدون)) في الحديث عن ابن قيس سعيد بن تميم:
... ومن كلامه: لا خير في لذة تُعقب ندماً، لن يفتقر من زَهد، اقبلوا عذر من اعتذر، ما أقبح القطيعة بعد الصلة، أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك، لا تكوننَّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، العم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، أنفق في حق ولا تكونن خازناً لغيرك، لا راحة لحسود، ولا مروءة لكذوب، عجبت لمن يتكبر وقد خرج من مخرج البول مرتين.
... ومن أقواله: ما نازعني أحد إلا وأخذت في امره بثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
51- لا يكلمه لأنه لم ير على باب عالم
... ( ابن بشكوال في ((صلته)):
... عن صالح بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما الناس إلا من قال: حدثنا، وأخبرنا (يعني المحدثين) وسائر الناس لا خير فيهم، ولقد التفت المعتصم إلى أبي، فقال له: كلّم بن أبي داوود، فأعرض أبي عنه بوجهه وقال: كيف أكلم من لم أره على باب عالم قط؟
52- بث الصنائع
... ( وفيه أيضاً في ترجمة سراج بن عبدالملك:
... أنشد أبو القاسم خلف بن محمد صاحبنا رحمه الله قال: أنشدنا أبو الحسين سراج بن عبدالملك لنفسه:
بُثّ الصنائع لا تحفل بموقعها ... ... من آمِلٍ شكرَ الإخوان أو كفرا
(1/32)
فالغيث ليس يبالي أين ما انسكبت ... ... منه الغمائم تُرباً كان أو حجرا
53- لا أجر على فعل الخير
... ( ظهير الدين البيهقي في ((تاريخ حكماء الإسلام)) في ترجمة أبي علي ((ابن الهيثم)):
... وقد قصده من أمراء أسمنان(1)أمير يقال له ((سرخاب)) متعلماً. فقال له أبو علي: أطلب منك للتعليم أجرة وهي مائة دينار في كل شهر، فبذل ذلك الأميرمطلوبه وما قصر فيه، وأقام عنده ثلاث سنين، فلما عزم الأمير على الانصراف قال له أبو علي: خذ أموالك بأسرها فلا حاجة لي إليها، وأنت أحوج إليها مني عند عودك إلى مقر ملكك ومسقط رأسك، وإني قد جربتك بهذه الأجرة، فلما علمت أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم بذلت مجهودي في تعليمك وإرشادك، واعلم أن لا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير، ثم ودعه وانصرف.
54- اجتنب ثلاثة وعليك بأربعة
... ( وفيه أيضاً في ترجمة الحكيم أبي الحسن البسطامي:
... وقال: اجتنب ثلاثة وعليك بأربعة، ولا حاجة لك إلى الطبيب:
... اجتنب الغبار، والنتن، والدخان. وعليك بالحلو، والدسم، والحمَّام، والطيب مع الاقتصاد.
55- ما تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة
... ( الشيخ محمد يوسف الداعية الإسلامي الهندي الكبير في كتابه ((حياة الصحابة)):
__________
(1) بلد يجاور قومس بين الري والدامغان.
(1/33)
... وأخرج أبو نعيم في ((دلائل النبوة)) ص 243(1)عن عبدالرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ، فقال: ((ممن القوم؟)) قلنا: من بني عامر بن صعصعة، قال: ((من أي بني عامر؟)) قلنا: بنو كعب بن ربيعة، قال: ((كيف المنعة فيكم؟)) قلنا: لا يُرام ما قبلنا ولا يُصطلى بنارنا، فقال لهم: ((إني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولم أكره أحداً منكم على شيء؟)) قالوا: ومن أي قريش أنت؟ قال: ((من بني عبدالمطلب)) قالوا: فأين أنت من بني عبد مناف؟ قال: ((هم أول من كذبني وطردني)) قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك، فنزل إليهم والقوم يتسوقون (أي يبيعون ويشترون) إذا أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال: من هذا الذي أراه عندكم؟ أنكره، قالوا: محمد بن عبدالله القرشي، قال: ما لكم وله؟ قالوا: زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه، قال: فماذا رددتم عليه؟ قالوا: قلنا في الرحب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع به أنفسنا. قال بجرة: ما أعلم أحداً من اهل هذا السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به! بدأتم لتنابذ الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة؟ قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به؛ تعمدون إلى رهيق قوم(2)
__________
(1) جاء في الكتاب الذي ننقل عنه أن هذا الخبر الذي أخرجه أبو نعيم وارد في ((دلائل النبوة)) ص100 والصواب هو ما ذكرناه من النسخة المطبوعة في الهند (الطبعة الثانية) ونعتقد أنها النسخة التي نقل عنها الأستاذ المؤلف.
(2) من معاني الرهق في اللغة: السفه والظلم والشر والكذب..
(1/34)
قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه تنصرونه؟ فبئس الرأي رأيتم! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم والحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث ((بجرة)) شاكلتها (أي خاصرتها) فقمصت (نفرت) برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته، وعند بني عامر يومئذٍ ضباعة بنت عامر بن قرط – كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة – جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: يا آل عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، لا يمنعه أحد منكم؟ فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بجرة – واثنان أعاناه – فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره، ثم علوا وجوههم لطماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك على هؤلاء. والعن هؤلاء))! قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه فقتلوا شهداء، وهلك الآخرون لعناً، واسم النفر الثلاثة الذين نصروا بجرة: فراس، وحزن بن عبدالله، ومعاوية بن عبادة، وأما اسم الثلاثة الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقطريف وغطفان ابنا سهل، وعروة بن عبدالله.
... وأخرجه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في ((مغازيه)) عن أبيه به، كما في ((البداية)) ج3 ص141.
56- معنى الحكمة
... ( الإمام النووي في ((شرح مسلم)) عند قوله في الحديث ((الفقه يمانٍ والحكمة يمانية)):
(1/35)
... وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة، قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات، وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن: العلم المتَّصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقال أبو بكر ابن دريد: كل كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر حكمة))، وفي بعض الروايات: ((حكماً)) والله أعلم.
57- حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم
... ( وفيه أيضاً:
... وهذه المسألة، وهي اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها تفصيل معروف:
... فأما أمور الدنيا فاتفق العلماء رضي الله عنهم على جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها ووقوعه منه، وأما أحكام الدين فقال أكثر العلماء بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا جاز لغيره، فله صلى الله عليه وسلم أولى. وقال جماعة: كان يجوز في الحروب دون غيرها، وتوقف في كل ذلك آخرون، ثم الجمهور الذين جوزوه اختلفوا في وقوعه. فقال الأكثرون منهم: وجد ذلك، وقال آخرون: لم يوجد وتوقف آخرون. ثم الأكثرون الذين قالوا بالجواز والوقوع اختلفوا هل كان الخطأ جائزاً عليه صلى الله عليه وسلم؟ فذهب المحققون إلى أنه لم يكن جائزاً عليه صلى الله عليه وسلم، وذهب كثيرون إلى جوازه ولكن لا يقر عليه، بخلاف غيره.
58- ثلاثة صحابة يروي بعضهم عن بعض
... ( وفيه أيضاً عند شرح حديثٍ أورده مسلم وفي سنده: حدثنا ثابت عن أنس بن مالك قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك:
... وفي هذا الإسناد لطيفتان من لطائفه: إحداهما أنه اجتمع فيه ثلاثة صحابيون يروي بعضهم عن بعض، وهم أنس، ومحمود، وعتبان، والثانية أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن أنساً أكبر من محمود سناً وعلماً ومرتبة، رضي الله عنهم أجمعين.
59- ليس قصر الرجال بعيب
(1/36)
... ( أبو إسحاق الحصري القيرواني في ((زهر الآداب)):
... وكان ((كثيرٌ)) قصيراً دميماً، ولذلك قال:
فإن أك معروق العظام فإنني ... ... إذا ما وزنت القوم بالقوم وازنُ
ودخل كثير على عبدالملك بن مروان في أول خلافته فقال: أنت كُثَيِّرٌ؟ فقال: نعم، فاقتحمه(1)وقال: ((تسمع بالمَعيديّ لا أن تراه))(2)فقال: يا أمير المؤمنين؟ كل إنسان عند محلّه رحْبِ الفِناء، شامخ البناء، عالي السَّناء، وأنشد يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... ... وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطير إذا تراه ... ... ... فيخلف ظنَّك الرجل الطرير(3)
بغاث الطير أطولها رقاباً ... ... ولم تطُل البُزاة ولا الصقور(4)
خَشاش الطير أكثرها فراخاً ... ... وأم الباز مقلاةٌ نَزور(5)
ضعاف الأُسْد أكثرها زئيراً ... ... وأصرمها اللواتي لا تزير(6)
وقد عظُم البعير بغير لُبّ ... ... فلم يستغنِ بالعِظم البعير
يُنوَّخُ ثم يُضرب بالهراوَى ... ... فلا عُرفٌ لديه ولا نكير
يقوِّده الصبي بكل أرض ... ... ... ويصرعه على الجنب الصغير
فما عِظم الرجال لهم بزينٍ ... ... ولكن زينهم حسب وخِير
فقال: قاتله الله! ما أطول لسانه، وأمد عنانه، وأوسع جنانه، إني لأحسبه كما وصف نفسه.
60- لا خير في الجسوم من غير عقول
... ( وفيه أيضاً:
... وأنشد أحمد بن عبيدالله لشاعر قديم:
... وعاذلةٍ هبَّت بليل تلومني ... ... ولم يَغتمرني قبل ذاك عَذول(7)
تقول: اتئد لا يَدْعُك الناس مملقاً ... ... وتُزري بمن يا ابن الكرام تعول
فقلت: أبت نفسٌ عليّ كريمة ... ... وطارق ليلٍ عند ذاك يقول
ألم تعلمي يا عَمْرَكِ الله أنني ... ... كريم على حينَ الكرامُ قليلُ
__________
(1) ازدراه.
(2) المشهور هو: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وكذلك ذكره القالي في ((أماليه)).
(3) الطرير: من له هيئة حسنة.
(4) البغاث: شرار الطير.
(5) خشاش الطير: هي العصافير ونحوها، والمقلاة: التي لا يحيا لها ولد، والنزور: قليلة الأولاد.
(6) أصرمها: أشدها. ولا تزير: لا تزأر.
(7) اغتمره يغتمره: عده غمراً – بضم الغين وقد تفتح – وهو لمن لم يجرب الأمور.
(1/37)
وأنيَ لا أخزَى إذا قيل مملق ... ... سخيّ وأخزى أن يقال: بخيل
فلا تتبعي النفس الغَوية وانظري ... ... إلى عنصر الأحساب كيف يؤول
ولا تذهبن عيناك في كل شرمح ... ... له قصَبٌ جُوف العظام أسيل(1)
عسى أن تمَنَّى عِرسه أنني لها ... ... به، حين يشتد الزمان؛ بديل
إذا كنت في القوم الطوال فطلتهم(2) ... ... بعارفةٍ حتى يقال طويل
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... ... إذا لم تزِنْ حسنَ الجسوم عقول
فكائن رأينا من فروع طويلة ... ... تموت إذا لم تحيهن أصول
فإلا يكن جسمي طويلاً فإنني ... ... له بالفعال الصالحات وَصول
ولم أرَ كالمعروف: أما مذاقه ... ... فحُلو وأما وجهه فجميل
61- من الورع ما يبغضه الله
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... قال رجل: أفطرت البارحة على رغيف، وزيتونة ونصف، أو زيتونة وثلث، أو زيتونة وربع؛ أوَ ما علم الله من زيتونة وأخرى، فقال له بعض من حضر المجلس: يا فتى؛ إنه بلغنا أنّ من الورع ما يبغضه الله؛ وأحسبه ورعك هذا!
62- أكرم على الله من إسحاق بن إبراهيم
... ( وفيه أيضاً:
... الأصمعي قال: وَليَ رجل مُقلٌّ قضاء الأهواز؛ فأبطأت عليه أرزاقه، وحضر الأضحى ليس عنده ما يضحِّي به ولا ما ينفق، فشكا ذلك إلى امرأته، وأخبرها بما هو فيه من الضيق، وأنه لا يقدر على الأضحية، فقالت له: لا تغتم فإن عندي ديكاً جليلاً قد سمَّنته، فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه، فبلغ جيرانه الخبرُ، فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلَّى لا يعلم، فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأتهِ: من أين هذا؟ قالت: أهدى لنا فلان وفلان وفلان، حتى سمَّت جماعتهم، فقال لها: يا هذه تحفظي بديكنا هذا؛ فلهو أكرم على الله من إسحاق بن إبراهيم، إنه فُدي بكبش واحد، وقد فدي ديكنا هذا بثلاثين كبشاً! . .
__________
(1) الشرمح: الرجل الطويل، والأسيل كأمير: الأملس المستوي. يقال: فلان أسيل الخد: إذا كان لين الخد طويله، وكل مسترسل أسيل.
(2) في رواية القالي في ((أماليه)): فضلتهم، ونحسب أنها أصح وأحسن.
(1/38)
63- حسن الإجابة والمحاورة
... ( أبو طاهر البغدادي في ((قانون البلاغة)) أوردها كرد علي في ((رسائل البلغاء)):
... إن من آلة الكاتب وأداته أن يضيف إلى الإحسان في المكاتبة مثل ذلك في المحاورة والمخاطبة، حتى تكون ألفاظه مهذبة، وإشاراته مستعذَبة، والنفوس نحوه إذا نطق منصِتة، فمن المحاورة المستحسَنَة قول الفضل بن الربيع، فقد قال له الرشيد: كذبت! قال: يا أمير المؤمنين! وجه الكذوب لا يقابلك، ولسانه لا يخاطبك (يعني به الرشيد نفسه) فإنه لا يقابل نفسه، ولسانه لا يخاطبه. فوصله وقال: كذَّبني فوصلته لحسن جوابه. ودخل سعيد بنُ مُرَّة على معاوية فقال له: أنت سعيد بن مرة؟ فقال: انا ابن مرَّة وأنت السعيد، فوصله لحسن جوابه. وقال الشفاح أو المنصور للسيد الباقر: أأنت السيد؟ فقال: أنا ابن أبي وأنت السيد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: ((أنت أكبر مني)) فقال: أنا أسنُّ وأنت أكبر مني، وقال سعيد بن عمرو بن عثمان لطُويس المخنث: أينا أسن؟ فقال: بأبي أنت وأمي؛ لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب! فلو جعل الطيب وصفاً للأم قد هجَّن بالابن. وعلى حسب ما يستحسن هذا الجنس من الجواب يُستقبح ما كان خلافه من الخطاب، كما يروى أن رجلاً مر بأبي بكر أو بعمر ومعه ثوب وقال: تبيعه؟ قال: لا، عافاك الله، فقال: قد عُلِّمتم لو تعلمون، هلّا قلت: لا وعافاك الله.
64- آلة البلاغة للخطيب والمتكلم
... ( وفيه أيضاً:
... ومما جاء في وصف البليغ وترتيب البلاغة ما أنا ذاكره: حكى الجاحظ عن بعض حكماء الهند أنه قال: أول البلاغة جماع آلة البلاغة. وذلك ان يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون معه من القوة ما يُصرِّف به لفظه في كل طبقة؛ حتى لا يدقق المعنى إذا خاطب أوساط الناس، ولا يدع ذلك إذا خاطب حكيماً أو كاتب فيلسوفاً.
65- الأوائل . . .
(1/39)
... ( الشيخ علاء الدين علي دده السكتواري في ((محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر)):
- أول من صلى بمكة جماعةً بعد الفتح: جبير بن عجلان الثقفي، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (نقله الطبري).
- أول من فرش المسجد بالحصباء عمر رضي الله عنه. وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا وجوههم بأيديهم، فأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بالحصباء قائلاً: حصبوه من الوادي المبارك من العقيق ((أوائل السيوطي)).
- أول من أسرج المسجد: تميم الداري رضي الله عنه في أيام عمر رضي الله عنه.
- أول من أحكم قوافي الشعر: امرؤ القيس وهو مقدم الشعراء عند علماء البصرة، والأعشى عند علماء الكوفة، وزهير عند أهل الحجاز وأهل البادية ((المزهر للسيوطي)).
- أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن العبيد بلال، رضي الله عنهم أجمعين ((أوائل السيوطي)).
- أول من كسا البيت (الكعبة) بالديباج: والدة العباس بن عبدالمطلب، حين أضلّت العباس صغيراً، فنذرت إن وجدته لتكسونَّ الكعبة، فوجدته ففعلت ((أوائل السيوطي)).
66- . . . والأواخر
... ( وفيه أيضاً:
- آخر شيء نزل من القرآن قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية، قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليالٍ ثم مات صلوات الله وسلامه عليه (السيوطي عن البخاري).
- آخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة: الراضي بالله، وفي أيامه ضعفت الخلافة العباسية.
- آخر من قتله الحجاج بن يوسف: سعيد بن جبير التابعي الزاهد رحمة الله عليه، استشهد على نطع الحجاج، دعا عليه بقوله: اللهم لا تسلطه على أحد من بعدي يقتله، فما عاش الحجاج بعد إلا خمس عشرة ليلة.
67- لم يرد في فضل العقل حديث صحيح
... ( قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البُستي:
(1/40)
... لست أحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً صحيحاً في العقل، لأن الذين رووا الأحاجيث في فضل العقل لست ممن أحتج بأخبارهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب مكارم الأخلاق ويكره سفسافها)) وإن محبة المرء المكارم من الأخلاق، وكراهة سفسافها، هو نفس العقل.
68- درجات العقل والدهاء والجهل
... ( ثم قال:
... والعقل اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان في أول درجته يسمى أديباً، ثم أريباً، ثم لبيباً، ثم عاقلاً.
... كما أن الرجل إذا دخل في أول حد الدهاء قيل له: شيطان، فإذا عتا في الطغيان قيل: مارد، فإذا زاد على ذلك قيل: عبقري، فإذا جمع إلى خبثه شدة شر، قيل: عفريت.
... وكذلك الجاهل يقال له في أول درجته: المائق ثم الرقيع، ثم الأنوَك، ثم الأحمق.
69- الجواني والبراني
... ( في ((لسان العرب)):
... وفي حديث سليمان: من صلح جوَّانيُّه أصلح الله برَّانيَّه.
... قلت: فالبراني والجوَّاني من العامية الفصحى، إلا أن العامة تضم الجيم.
70- غليان القلوب
... ( قال مالك بن دينار:
... إن القلب إذا لم يكن فيه حزن، خرب كما يخرب البيت إذا لم يكن فيه ساكن، وإن القلوب الأبرار تغلي بأعمال البر وإن قلوب الفجّار تغلي بأعمال الفجور، والله يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله.
71- علامة الحمق
... ( قال محمد بن حبيب النيسابوري:
... تقول العرب: فلان من فرط ثَطاتِهِ لا يعرف قَطاتَه من لطاته.
... أقول: هو في ((مجمع الأمثال)) للميداني، والثطاة (ويقال: النطاة والرطاة) هي الحمق، والقطاة: مقعد الرديف من الفرس، واللطاة الجبهة، وهذا مثل يضرب للأحمق، أي: إنه لحمقه لا يعرف مقدمه من مؤخره.
72- ما أحسن وقع السيوف على الأنوف
... ( قال الصفدي في ((الوافي بالوفيات)):
(1/41)
... الأمير بدر الدين الهكاري، استشهد على الطور؛ وأبلى ذلك اليوم بلاءً حسناً، وكانت له المواقف المشهورة في قتال الفرنج، وكان من أكابر ((المعظم)) يصدر عن رأيه ويثق به لصلاحه، وكان سمحاً لطيفاً ديناً ورعاً باراً بأهله وبالفقراء والمساكين، كثير الصدقات، بنى بالقدس مدرسة للشافعية ووقف عليها والأوقاف، وبنى مسجداً قريباً من الخليل عليه السلام عند يونس عليه السلام على قارعة الطريق، وكان يتمنى الشادة دائماً ويقول: ((ما أحسن وقع سيوف الكفار على أنفي ووجهي!)) دفن بالقدس سنة أربع عشرة وستمائة.
73- الحرص على العلم
... ( قال أبو بكر الخطيب في ((تقييد العلم)):
... قال المبرد: نظر أعرابي إلى رجل وهو لا يسمع شيئاً إلا كتبه فقال: ما تترك نُقارة إلا انتقرتها، ولا نُماصة إلا انتمصتها، وإنك لمَلْقَفَةُ الكلمة الشرود.
74- مجالسة الصحابة والتابعين
... ( وقال الخطيب أيضاً بسنده إلى عبدالله بن المبارك:
... قلنا لابن المبارك: إذا صليت معنا لماذا لا تجلس إلينا؟ قال: اذهب فأجلس مع التابعين والصحابةّ قلنا: فأين التابعون والصحابة؟ قال: اذهب فأنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، ما أصنع معكم؟ أنتم تجلسون تغتابون الناس، فإذا كان سنة مائتين . . فالبعد من كثير من الناس اقرب إلى الله تعالى، فر من الناس كفرارك من الأسد، وتمسك بدينك يسلم لك لحمك ودمك.
... قلت: فإذا كان سنة 1380 فماذا؟ ولكن . . لا . . إن مجالسة الناس للتعليم والإرشاد أقرب إلى الله تعالى.
75- اكتب واحفظ وحدِّث
... ( كان المأمون يوصي بعض بنيه فيقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وحدِّث بأحسن ما تحفظ!
76- استعارة الكتب
... ( جار رجل إلى رجل يستعير منه كتاباً فأعاره وقال له: لا تكن في حبسك (الكتاب) كصاحب القربة!، قال: لا، ولا تكن في ارتجاعك (الكتاب) كصاحب المصباح، قال: لا . .
(1/42)
... وكان من حديث هذين أن رجلاً استعار من رجل قربة على أن يستقي فيها مرة واحدة ثم يردها، فاستقى فيها سنة ثم ردها إليه متخرقة.
... وأما الآخر فإن رجلاً ضافه ضيف من النهار فاستعار من جار له مصباحاً ليسرجه لضيفه في الليل، فلما كان بعد ساعة أتاه وطالبه بردِّه، فقال له: أعرتني مصباحاً لليل أو للنهار؟ قال: لليل، قال: فما دخل الليل!
77- دقاقة الأعناق
... ( كان العرب يسمون السبعين عاماً دقّاقة الأعناق! ولما دخل المنصور في سن الثالثة والستين قال: هذه تسميها العرب: القاتلة والحاصدة.
78- لا ينفع
... ( قال الحافظ ابن حبان في ((روضة العقلاء)):
... لا ينفع الاجتهاد بغير توفيق، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا السرور بغير أمن، ولا العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عمل؛ وكما أن السرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة؛ كذلك المروءات كلها تبع للعقل.
79- بشرط أن لا يعلم أهل الجنة
... ( قال سعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي:
... خرجت حاجّاً فمللت المحمل، فنزلت أساير القُطُرات(1)، فأتانا أعرابي فقال لي: يا فتى! لمن الجِمال بما عليها؟ قلت: لرجل من باهلة. قال الأعرابي: يا الله! أن يعطيَ الله باهلياً كل ما أرى. قال سعيد: فأعجبني ازدراؤه بهم؛ ومعي صرة فيها مائة دينار فرميت بها إليه؛ فقال: جزاك الله خيراً، وافقت مني حاجة. فقلت: يا أعرابي! أيسرك أن تكون الجِمال بما عليها لك وأنت من باهلة؟ قال: لا، قلت: أفيسرك أن تكون من أهل الجنة وأنت باهلي؟ قال: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني من باهلة! فقلت: يا أعرابي الجمال بما عليها لي وأنا من باهلة، فرمى الأعرابي بالصرة إليَّ، فقلت: سبحان الله! ذكرت أنها وافقت منك حاجة؛ قال: ما يسرني أن ألقى الله ولباهلي عندي يد! . .
... قال سعيد: فحدثت المأمون بهذا؛ فجعل يتعجب ويقول: ويحك يا سعيد؛ ما كان أصبرك عليه!
__________
(1) القطار من الإبل: قطعة منها يلي بعضها بعضاً على نسق واحد، جمع: قطر، وقطرات.
(1/43)
80- يتشممون الأماني
... ( الحصري القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... قال ابن أبي عتيق لامرأته:
... تمنيت أن يهدى إلينا مسلوخ (أي: شاة سلخ جلدها) فنتخذ من الطعام لون كذا، ولون كذا؛ فسمعته جارةٌ له، فظنت أنه أمر بعمل ما سمعته؛ فانتظرت إلى وقت الطعام؛ ثم جاءت فقرعت الباب؛ وقال: شممت رائحة قدوركم فجئت لتطعموني منها؛ فقال ابن أبي عتيق لامرأته: أنت طالق إذا أقمنا في هذه الدار التي جيرانها يتشممون الأماني.
81- من بركة العلم
... ( قال القرطبي في ((تفسيره)):
... فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله، وكثيراً ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهماً لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فبقي من لا خبرة له بذلك حائراً لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك على جسيم، فلا يقبل منه الاحتجاج به، ولا الاستدلال، حتى يضيفه إلى من خرّجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام.
82- المأدبة والمأدبة
... ( وقال أيضاً:
... قال أبو عبيد في غريبه (غريب القرآن) عن عبدالله (بن مسعود): إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل، فمن دخل فيه فهو آمن.
... قال: وتأويل الحديث أنه شبه القرآن بصنيع (طعام) صنعه الله عز وجل للناس، لهم فيه خير ومنافع، ثم دعاهم إليه. يقال: مأدُبة ومأدَبة، فمن قال: مأدُبة، أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس، ومن قال: مأدَبة، فإنه يذهب به إلى الأدب يجعله مفعلة من الأدب، ويحتج بحديثه الآخر: ((إن هذا القرآ، مأدَبة الله عز وجل فتعلموا من مأدَبته)) وكان ((الأحمر)) يجعلها لغتين بمعنى واحد، ولم أسمع أحداً يقول هذا غيره، والتفسير الأول أعجب إليَّ.
83- لماذا وضع علم النحو
... ( وقال أيضاً:
(1/44)
... وعن أبي مليكة قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرأ مما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقرأه رجل سورة (براءة)، فقرأ: أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ (بالجر) فقال الأعرابي: أوَ قد برئ الله من رسوله؟ فإن يكن الله قد برئ من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه فقال له: يا أعرابي! أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقصَّ عليه الأعرابي القصة، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن الله برئ من المشركين ورسوله (بالنصب)(1)فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألاَّ يُقرئ الناس إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو. اهـ.
... قلت: والمشهور أن أبا الأسود وضع النحو بإشارة من علي رضي الله عنه.
84- بين أب مريض وابنه النحوي
... ( أبو إسحاق الحصري القيرواني في ((جمع الجواهر)):
__________
(1) قرأ بنصب (رسولَه) يعقوب الحضرمي والحسن البصري، وبقيّة القرّاء العشرة قرؤوا بالرفع (ورسولُهُ) كما في المصحف الشريف (المبسوط في القراءات العشر لابن مهران الأصبهاني ص225) (الناشر).
(1/45)
... كان رجل من التجار له ولد يتقعر في كلامه ويستعمل الغريب، فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به ومما كان يأتي به، فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت، فقال: أشتهي أن أرى وُلدي، فأحضروهم بين يديه، وأُخِّر حتى لم يبقَ سواه، فقالوا له: ندعو لك بأخينا فلان؟ فقال: هو والله يقتلني بكلامه، فقالوا: قد ضمن ألاَّ يتكلم بشيء تكرهه، فأذن له، فلما دخل قال: السلام عليك يا أبت! قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وإن شئتَ قل: أشهد أنَّ لا إله إلا الله، فقد قال الفراء: كلاهما جائز، والأولى أحب إلى سيبويه! والله يا أبتي ما أشغلني غير أبي علي، فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدس (أي قدم له الهريسة والعدس) وأرزز وأوزز، وسكبج وسبج، وزربج وطهبج، وأبصل وأمصر، ودجدج وافلوذج ولوذج! . .
... فصاح أبوه العليل: السلاح! السلاح! صيحوا لي بجارنا الشماس لأوصيه أن يدفنني مع النصارى وأستريح من كلام هذا البندُق! . .
85- جنية تتكلم الهندية
... ( وفيه أيضاً:
... هاج بأبي علقمة النحوي مِرار (المِرة: مزاج من أمزجة البدن) فسقط، فأقبل قوم يعضون إبهامه ويؤذنون في أذنه، فقام من غمرات غشيته، فقال: ما لكم تتكأكؤون عليَّ (تتجمعون) كتكأكئكم على ذي جِنَّة؟ افرنقعوا عني. فقال بعضهم: اتركوه! فإن جِنيَّته تتكلم بالهندية! . .
86- تعلمتم العبرية!
(1/46)
... ( ويشبه الحكاية السابقة ما سمعته بعد رجوعنا من معركة فلسطين عام 1948 فقد كنا التقينا هناك ببعض المجاهدين من إخواننا العراقيين، وكان بعض ممن معنا لم يسمع من قبل عراقياً يتكلم بلهجته؛ فكان يستغرب كلماتهم ولهجتهم، وذات يوم أراد أن يقلد اللهجة العراقية مع بعض من كان معه من المجاهدين السوريين، فقال له: ((ماكو شَكَر))؟ (ألا يوجد سكر)؟ فأجابه الثاني ((أكو شَكَر هواي)) (يوجد سكر كثير) وكان بعض السوريين يسمع كلامهما فلم يفهم مما قالا كلمة واحدة، فقال لهما جاداً: لقد استفدتم من معركة فلسطين أن تعلمتم كيف تتكلمون باللغة العبرية! . . وهو يظن فعلاً أنهما كانا يتكلمان بالعبرية! . .
87- لماذا لا يشمل عدله الجميع؟
... ( القيرواني في ((الجواهر)):
... شكا أهل بلدة إلى المأمون والياً عليهم، فقال: كذبتم عليه، فقد صح عندي عدله فيكم وإحسانه إليكم، فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين! فما هذه المحبة لنا دون سائر رعيتك؟ قد عدل فينا خمس سنين، فانقله إلى غيرنا حتى يشمل عدله الجميع، وتريح معنا الكل، فضحك منهم وصرفه عنهم.
88- أكثر الخلفاء خلافة
... ( ابن تغري بردى في ((المنهل الصافي)):
... قال في ترجمة أمير المؤمنين الناصر لدين الله العباسي (552 – 622 هـ):
... أقام في الخلافة مدة طويلة نحواً من سبع وأربعين سنة، ولم نعلم أحداً من خلفاء بني العباس أقام هذه المدة الطويلة غيره، غير أن المستنصر العبيدي أقام في الخلافة نحواً من ستين سنة، وأيضاً أبو الحكم عبد الرحمن الأندلسي بقي نحواً من خمسين سنة. اهـ.
89- لذة الشيوخ من العلماء
... ( الخطيب في ((تقييد العلم)):
... قال المأمون لعبد الله بن الحسن العلوي: ما بقي 3ن لذتك يا ظابا علي؟ قال: اللعب مع الصغير من ولدي، ومحادثة الموتى – يعني الكتب - .
90- لا تكن كصاحب السلَّم
... ( وفيه أيضاً:
(1/47)
... أعار رجل كتاباً وقال له: لا تكن كصاحب السلّم، قال: وما معنى ذلك؟ قال: جاء رجل إلى رجل يستعير منه سلَّماً، فقال له: ما أطيق حمله! قال: سبحان الله! وهل أكلفك حمله؟ أنا أَحمله. قال: صدقت أنت تحمله ولا ترده، فأحتاج إلى أن أجيء وأحمله!
91- الجمع بين الجد واللهو المباح
... ( البخاري في ((الأدب المفرد)):
... كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبادحون (يترامون) بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال!
92- من لم يصلحه الخير أصلحه الشر
... ( البخاري في ((الأدب المفرد)):
... عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإِفريقي قال: حدثني أبي أنهم كانوا غزاة في البحر زمن معاوية، فانضم مركبنا إلى مركب أبي أيوب الأنصاري، فلما حضر غداؤنا أرسلنا إليه، فأتانا فقال: دعوتموني وأنا صائم فلم يكن لي بد من أن أجيبكم، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن للمسلم على أخيه ست خصال واجبة، إن ترك منها شيئاً فقد ترك حقاً واجباً عليه لأخيه: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويحضره إذا مات، وينصحه إذا استنصحه)).
... قال: وكان معنا رجل مزَّاح يقول لرجل أصاب طعامنا جزاك الله خيراً وبراً، فغضب عليه حين أكثر عليه، فقال لأبي أيوب: ما ترى في رجل إذا قلت له: جزاك الله خيراً وبراً غضب وشتمني؟ فقال أبو أيوب: إنا كنا نقول: من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، فاقلب عليه، فقال له حين أتاه: جزاك الله شراً وعراً، فضحك ورضي وقال: ما تدع مزاحك؟ فقال الرجل: جزى الله أبا أيوب الأنصاري خيراً.
93- فوائد لغوية
... ( السرخسي في ((أصوله)):
... قال قتادة في قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الطائفة: تطلق على الواحد فصاعداً، وقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ونقل في سبب النزول أنهما كانا رجلين.
(1/48)
... فإن قيل: هذا بعيد فإن تاء التأنيث لا تلحق بنعت الواحد من الذكور، قلنا: هذا عند ذكر الرجل، فأما عند ذكر النعت يصلح للفرد من الذكور والإناث، فللعرب عادة في إلحاق هاء التأنيث به، وكتاب الله يشهد به، قال تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) والمراد الواحد لا من الإناث خاصة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
94- الطواعين المشهورة في الإسلام
... ( قال أبو الحسن المدائني كما نقل النووي في ((شرح مسلم)):
... كانت الطواعين العظام المشهورة في الإسلام خمسة:
1- طاعون شيرويه بالمدائن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة.
2- طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفاً، وكان سنة ثماني عشرة.
3- طاعون الجارف في زمن ابن الزبير في شوال سنة تسع وستين هلك في ثلاثة أيام، كل يوم سبعون ألفاً، مات فيه لأنس بن مالك رضي الله عنه ثلاثة وثمانون ابناً، ويقال: ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لعبدالرحمن ابن أبي بكرة أربعون ابناً.
4- طاعون الفتيات، لأنه بدأ بالعذارى، في شوال سنة سبع وثمانين بالبصرة وواسط والشام والكوفة.
5- طاعون في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة، واشتد في شهر رمضان فكان يحصى في سكة المربد في كل يوم ألف جنازة أياماً، ثم خف في شوال.
95- حدة العلماء وتقتيرهم
... ( ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم)):
... قال امرأة لإبراهيم النخعي: يا أبا عمران! أنتم معشر العلماء أحدّ الناس وألوم(1)الناس؟ فقال لها: ما ذكرت من الحِدة، فإن العلم معنا والجهل مع مخالفينا، وهم يأبون إلا دفع علمنا بجهلهم، فمن ذا يطيق الصبر على هذا؟
__________
(1) يقال في اللغة: لي فيه لومة، أي تلوم، والتلوم: هو التريث والانتظار، تعني المرأة أن العلماء أشد الناس تريثاً في الإنفاق، تعرض في ذلك بتقتيرهم وإمساكهم.
(1/49)
... وأما اللوم – كذا بالأصل ولعلها التلوم أو اللومة – فأنتم تعلمون تعذر الدرهم الحلال وإنا لا نبتغي الدرهم إلا حلالاً، فإذا صار إلينا لم نخرجه إلا في وجهه الذي لا بد منه! .
96- بين بهلول والرشيد
... ( الحصري القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... لما دخل الرشيد إلى الكوفة خرج الناس للنظر إليه فناداه بهلول ثلاثاً، فقال: من المجترئ علينا؟ قيل: بهلول المجنون، فرفع السجافة (الستر) وقال: بهلول؟ قال: لبيك أمير المؤمنين، روينا عن أيمن بن نائل قال: حدثنا قدامة عن ابن عبدالله العامري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد، ولا قيل بين يديه: إليك إليكّ وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تجبرك وتكبرك، قال: فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا يرحمك الله!
... قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل آتاه الله مالاً وجمالاً وسلطاناً، فأنفق في ماله، وعفّ في جماله، وعدل في سلطانه، كُتب في خالص ديوان الله من الأبرار، قال: أحسنت يا بهلول، وأمر له بجائزة سنية، فقال: يا أمير المؤمنين ردَّها على من أخذتها منه فلا حاجة لي بها، فقال: يا بهلول! إن كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين! هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين لا يجوز!
... قال: فنجري عليك ما يكفيك، فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا أمير المؤمنين! أنا وأنت في عيال الله، ومحال أن يذكرك وينساني! . .
... فأرسل الرشيد السجف وسار . . .
... وقيل: إن بهلولاً كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه.
97- الزهد وأكل الطيبات
... ( الأبشيهي في ((المستطرف)):
(1/50)
... سئل الفضيل بن عياض عمن يترك الطيبات من اللحم والخبيص(1)ويزهد. فقال: ما للزهد وأكل الخبيص؟ ليتك تأكل وتتقي الله، إن الله لا يكره أن تأكل الحلال إذا اتقيت الحرام، انظر كيف برك بوالديك، وصلتك للرحم، وكيف عطفك على الجار، وكيف رحمتك للمسلمين، وكيف كظمك للغيظ وكيف عطفك عمن ظلمك، وكيف إحسانك إلى من أساء إليك، وكيف صبرك واحتمالك للأذى، أنت إلى إحكام هذا أحوج من ترك الخبيص.
98- الرحلة في طلب العلم
... ( القرطبي في ((تفسيره)):
... قال الشعبي: رحل مشروق إلى البصرة في تفسير آية. فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام. فتجهّز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها.
99- الصبر على كشف حقائق العلم
... ( القرطبي أيضاً:
... وقال عكرمة في قوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته، قال ابن عبدالبر: هو ضمرة بن حبيب.
100- صفة المسلم الحق
... ( البخاري في ((الأدب المفرد)):
... لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
101- هواية جمع الخطوط
... ( ابن النديم في ((الفهرست)):
__________
(1) الخبيص: طعام يصنع من التمر والسمن كان يأكله الأغنياء وعلية القوم.
(1/51)
... قال محمد بن إسحاق: كان بمدينة الحديثة رجل يقال له: محمد بن الحسين، ويعرف بابن أبي بعرة، جمّاعة للكتب، له خزانة لم أرَ لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات، فأنس بي، وكان نفوراً ضنيناً بما عنده خائفاً من بني حمدان؛ فأخرج لي قمطرياً كبيراً فيه نحو ثلثمائة رطل جلود: فلجان وصكاك، وقرطاس مصر، وورق صيني، وورق تهامي، وجلود أدم، وورق خراساني فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأسماء والأنساب، وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم، وذلك أن رجلاً من أهل الكوفة – ذهب عني اسمه – كان مشتهراً بجمع الخطوط القديمة، وأنه لما حضرته الوفاة خصَّه بذلك لصداقة كانت بينهما وإفضال من محمد بن الحسين عليه، ومجانسة المذهب، فإنه كان شيعياً.
(1/52)
فرأيتها وقلبتها، فرأيت عجباً، إلا أن الزمن قد أخلقها وعمل فيها عملاً أدرسها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحداً إثر واحد، فذكر فيه خط من هو؛ وتحت كل توقيع آخر: خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض لبعض؛ ورأيت في جملتها مصحفاً بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي رضي الله عنه، ثم وصل هذا المصحف إلى أبي عبدالله بن حاني رحمه الله؛ ورأيت فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين، ورأيت عنده أمانات وعهوداً بخط أمير المؤمنين علي عليه السلام، وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خطوط العلماء في النحو واللغة، مثل أبي عمرو بن العلاء، وأبي عمرو الشيباني، والأصمعي، وابن الأعرابي، وسيبويه، والفراء، والكسائي، ومن خطوط أصحاب الحديث؛ مثل سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، والأوزاعي وغيرهم، ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته، وهي أربعة أوراق أحسبها من ورق الصين، ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه، بخط يحيى بن معمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علاّن النحوي، وتحته: هذا خط النضر بن شميل.
... ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القمطر وما كان فيه، فما سمعنا له خبراً، ولا رأيت منه غير المصحف، هذا على كثرة بحثي عنه.
... قلت: هذا نص تاريخي ينضم إلى مئات الأدلة التي تثبت أن الحضارة الإسلامية بنت قاعدة علمها الحضاري على التثبت والتحقيق في جميع مختلف الميادين العلمية التي تكوَّن منها بنياننا العلمي العظيم، وبذلك انفردت حضارتنا من بين جميع الحضارات الماضية بالتثبت العلمي والبعد عن تلقف الخرافات والأكاذيب، وسر هذا هو أن الإسلام ذاته دين لا يقبل إلا الحق واليقين؛ ومن هنا نشأت عندنا الثقة التي لا يداخلها الشك بصحة مؤلفاتنا العلمية ونسبتها إلى مؤلفيها.
102- الخط ثلاثة أقسام
... ( الزركشي في ((البرهان)):
... الخط ثلاثة أقسام:
(1/53)
1- خط يتبع به الاقتداء السلفي، وهو رسم المصحف.
2- وخط جرى على ما أثبته اللفظ وإسقاط ما حذفه، وهو خط العروض، فيكتبون التنوين ويحذفون همزة الوصل.
3- وخط جرى على العادة المعروفة، أي القواعد الموضوعة للخط العادي، وهو الذي يتكلم عليه النحوي.
103- محدث يحبط مؤامرة شعوبي
... ( الفرغاني في ((الذخائر والتحف)):
... أصاب المأمون بخراسان كانوناً من ذهب مرصعاً بجوهر كثير؛ قيل: إنه كان ليزدجرد بن شهريار الفارسي لا تعرف قيمته لكثرتها، فقال ذو الرئاستين الفضل بن سهل السرخسي: يا أمير المؤمنين! الرأي أن تجعله في الكعبة يوقد عليه العود والند بالليل والنهار، فقال المأمون: افعل، وأمر بحمله إلى مكة، واتصل الخبر بيزيد بن هارون المحدث، فأمر مستلميه أن يقف يوم الخميس عند اجتماع الناس وأصحاب الحديث، فيشكر المأمون ويدعو له ويخبر بخبر الكانون، ففعل المستملي ذلك، فلما سمع يزيد كلامه صاح وانتهره وقال له: ويلك! اسكت! إن أمير المؤمنين أجلّ قدراً وأعلم بالله عز وجل من أن يجعل بيته بيت نار! فكتب اصحاب البريد إلى المأمون؛ فأمر بكسر الكانون وبطل ما دبره ذو الرئاستين.
104- حتى يمسخ ابن أبي ليلى حماراً!
... ( الحصري القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... أتي رجل نخاساً (تاجر الدواب) فقال: اشترِ لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المشتهر؛ إن أشبعته شكر، وإن أجعته صبر، وإن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري(1)، ولا يدخل بي تحت البواري(2)، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري هام.
... فقال له النخاس: أنظرني (أمهلني) قليلاً، فإن مسخ الله ابن أبي ليلى القاضي حماراً اشتريته لك! . .
105- جائزة ((تعب الأسنان))
... ( أبو الفضل البيهقي في ((تاريخه)):
__________
(1) جمع سارية وهي الاسطوانة التي يعتمد عليها السقف.
(2) جمع بورية، وهي الحصير المنسوج من القصب.
(1/54)
... وكانوا قد أعدوا مأدبة فاخرة فأكلوا وقدَّم علي للرسول مالاً طائلاً لقاء ((تعب الأسنان)) مما صار له وقع حسن لدى السلطان.
... علق ناشر الكتاب على ذلك بقوله: كانت هذه العادة متبعة آنذاك (في أيام الدولة الغزنوية) ولم تزل معروفة في إيران للآن، حيث يعطون للضيف مالاً مكافأة له على ما تجشمت أسنانه من المشقة أثناء الأكل!
106- ولو حشي بالتقوى والمغفرة
... ( الأبشيهي في ((المستطرف)):
... قيل لإنسان: ما تقول في الباذنجان؟ -وكان الرجل يكره أكله- فقال: أذناب المحاجم، وبطون العقارب، وبذور الزقوم! قيل له: إنه يحشى باللحم فيكون طيباً، فقال: لو حُشي بالتقوى والمغفرة ما صلح!
107- ثلاثيات
... ( في الحديث الصحيح:
... ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (رواه البخاري).
... وقال إبراهيم الخليل عليه السلام:
... ثلاثة أشياء أحبها لنفسي ولمن أحب رشده: أحب أن أكون بيني وبين ربي من أفضل عباده؛ وأكون بيني وبين الخليقة من أوسطهم، وبيني وبين نفسي من شرهم.
... وقال عمرو بن شبة:
... ثلاثة من أعجب الأشياء اقتران بعضها ببعض: الحرفة للأدباء، وتباعد المل عن الظرفاء، وإقبال الدنيا على النوكى (الحمقى).
108- لغويات
... ( في كتب اللغة:
- يقال: فرس عُري، ورجل عريان. ولا يقال: رجل عُري.
- ((يا هنتاه)) بمعنى ((يا هذه)) لفظة تختص بالنداء، ويقال في التثنية: هنتان، وفي الجمع ((هنوات)) و ((هنات)) وفي المذكر: هنٌ، وهنان، وهنون . . .
- أول السحاب ((نشيء)) فإذا انسحب في الهواء قيل له: سحاب؛ فإذا تغيرت به السماء قيل له: غمام؛ فأن سمع صوت رعده من بعيد قيل له: عثر،فإذا أظل قيل: عارض، فإذا كان بحيث إذا رؤي ظن أن فيه مطراً قيل له: مخيِّلةً.
109- أصول التحقيق الجنائي اليوم كانت كذلك في صدر الإسلام
... ( ابن القيم الجوزية في ((الطرق الحكمية)):
(1/55)
... وقال أصبغ بن نباتة: إن شاباً شكا إلى علي رضي الله عنه نفراً فقال: إن هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر فعادوا ولم يعد أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك شيئاً، وكان معه مال كثير؛ وترافعنا إلى شريح فاستحلفهم وخلَّى سبيلهم، فدعا علي رضي الله عنه بالشرط (الشرطة) فوكل بكل رجل رجلين، وأوصاهم ألا يمكّنوا بعضهم أن يدنوا من بعض ولا يمكنوا أحداً يكلمهم، ودعا كاتبه ودعا أحدهم، فقال: أخبرني عن أب هذا الفتى، أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف أصيب بماله؟ وسأله عمن غسله ودفنه، ومن تولى الصلاة عليه وأين دُفن؟ ونحو ذلك، والكاتب يكتب، فكبّر علي وكبّر الحاضرون، والمتهمون لا علم لهم إلا أنهم ظنوا أن صاحبهم قد أقرّ عليهم، ثم دعا آخر بعد أن غيَّب الأول عن مجلسه، فسأل كما سأل صاحبه، ثم الآخر كذلك، حتى عرف ما عند الجميع، فوجد كل واحد منهم يخبر بضد ما أخبر به صاحبه، ثم أمر برد الأول، فقال له: يا عدو الله قد عرفت عنادك وكذبك بما سمعت من أصحابك، وما ينجيك من العقوبة إلا الصدق، ثم أمر به إلى السجن، وكبَّر علي وكبر معه الحاضرون، فلما أبصر القوم (المتهمون) الحال لم يشكوا أن صاحبهم قد أقرّ عليهم، فدعا آخر منهم فهدّده، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد كنت كارهاً لما صنعوا، ثم دعا الجميع فأقروا بالقصة، واستدعي الذي بالسجن وقيل له: قد أقرّ أصحابك ولا ينجيك سوى الصدق، فأقرّ بكل ما أقرّ به القوم؛ فأغرمهم المال وأقاد منهم بالقتيل (حكم عليهم بالإعدام).
110- لبس البياض في الأحزان
... ( أبو الفضل البيهقي في ((تاريخه)):
(1/56)
... لما توفي السلطان محمود الغزنوي جلس ابنه الأمير (السلطان فيما بعد) مسعود للناس مرتدياً قباءًا ورداءًا، وعمامة بيضاء كلها، وحضر كل الأعيان والمقدمين وأصناف الجند إلى الخدمة مرتدين البياض، وكان الجزع شاملاً، واستمر العزاء السلطاني على الرسم ثلاثة أيام.
111- طبيعتهن في كل زمان
... ( الفرغاني في ((الذخائر والتحف)):
... افتصدت الخيزران في يوم من أيام خلافة المهدي، فأهدى إليها ألف وصيفة، مع كل وصيفة منهن جام ذهب في وسطه ألف درهم، وألف وصيف، مع كل وصيف جام فضة فيه ألف دينار، ثم دخل إليها ليأكل طعامه عندها، فما انقضى المجلس بينهما حتى قال له في بعض ما جرى: وأي خير رأيت منك؟
112- أي الرأسين أثقل؟
... ( الحصري في ((جمع الجواهر)):
... أتى رجل إلى أبي محمد النوبهاري فقال له: وضعت رأسي في حجر امرأتي، فقالت: ما أثقل رأسك! فقلت: أنت طالق إن كان رأسي أثقل من رأسك! فقال له أبو محمد: تطلق عليك امرأتك، قيل له: ولمَ؟ قال: لأن القصابين أجمعوا على أن رأس الكبش أثقل من رأس النعجة!
113- كم عدد علوم القرآن، وما هي أم هذه العلوم؟
... ( الزركشي في ((البرهان)):
... ذكر القاضي عياض في كتاب ((قانون التأويل)) أن علوم القرآن خمسون علماً وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف علم (77450) على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، قال بعض السلف: إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع! . . .
... قال: وأم علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد، وتذكير، وأحكام.
... فالتوحيد، تدخل فيه معرفة المخلوقات، ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله.
... والتذكير؛ ومنه الوعد والوعيد، والجنة والنار، وتصفية الظاهر والباطن.
... والأحكام، ومنها التكاليف كلها، وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب.
... فالأول: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فيه التوحيد كله في الذات والصفات والأفعال.
... والثاني: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)).
(1/57)
... والثالث: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ).
114- حمل البقولات والخضر مزروعة على الجمال
... ( أبو بكر الدواداري في ((الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر)):
... قال وهو يتحدث عن حجة ((الآدُر الشريفة)) وكيف حملت في قافلتها الخضروات مزروعة في مباقل على الجمال:
... إن ((جميلة بنت ناصر الدولة)) إحدى بنات ملوك بني بويه لما حجت كانت أول من استنت محامل البقولات مزروعة على أظهر الجمال مع عدة من أصناف الرياحين.
115- أصل كلمة ((أغا))
... ( الزركلي في ((أعلامه)):
... آقا – بالمد – فارسية معناها: السيد، يكتبونها بالقاف وينطقونها بالغين ((آغا)) وربما قالوا: ((أقا)) بغير مد.
116- برقية من نار
... ( وفيه أيضاً في ترجمة ابن الأغلب (237 – 289 هـ) صاحب إفريقيا:
... قال ابن خلدون: بنى الحصون و ((المحارس)) بسواحل البحر، حتى كانت النار توقد في ساحل ((سبتة)) إنذاراً بالعدو، فيصل إيقادها بالإسكندرية في الليلة الواحدة.
117- دين العقل والفطرة
... ( ابن القيم في ((مدارج السالكين)):
... قيل لبعض الأعراب – وقد أسلم لما عرف دعوته صلى الله عليه وسلم -: عن أي شيء أسلمت؟ وما رأيت منه مما دلك على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به، ولا أحل شيئاً فقال العقل: ليته حرَّمه، ولا حرَّم شيئاً فقال العقل: ليته أباحه.
118- الصراط المستقيم
... ( الأبشيهي في ((المستطرف)):
... أتي أعرابي بفالوذج (حلواء تصنع من الدقيق والعسل) فقيل له: هل تعرف هذا؟ فقال: هذا – وحياتك – الصراط المستقيم!
119- ماذا تذم منه؟
... ( وفيه أيضاً:
... سُمع رجل يذم الزبد (الزبدة) فقيل له: ما الذي ذممت منه؟ سواد لونه؟ أم بشاعة طعمه؟ أم صعوبة مدخله؟ أم خشونة ملمسه؟
120- من مجازات القرآن
... ( الشريف الرضي في ((تلخيص البيان)):
(1/58)
... وقوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)) (الأحزاب:72)
...
... وهذه استعارة؛ وللعلماء في ذلك أقوال:
... فمنهم من قال: المراد بذلك أهل السموات والأرض والجبال، فحذف لفظ الأهل اختصاراً لدلالة الكلام عليه وذلك كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهلها (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) أي ركبانها، وكقولهم ((صلى المسجد)) فلما حذف الأهل أجرى الفعل على لفظ السموات والأرض والجبال فقيل: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) كقوله تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) أي من أهل القرية، فلما حذف الأهل أجرى الفعل على القرية، فقيل: كانت تعمل الخبائث، رداً على أهل القرية، وهذا موضع حسن.
... وقال بعضهم: المراد بذلك تفخيم شأن الأمانة؛ وأن منزلتها منزلة ما لو عرض على هذه الأشياء المذكورة مع عظمها وكانت تعلم ما فيها لأبت أن تحملها وأشفقت كل الإشفاق منها، إلا أ، هذا الكلام خُرِّج مخرج الواقع لأنه أبلغ من المقدر.
... وقال بعضهم: عرض الشيء على الشيء ومعارضته سواء، والمعارضة والمقابلة والمقايسة والموازنة بمعنى واحد، فأخبر الله عن عظم أمر الأمانة وثقلها، وأنها إذا قيست بالسموات والأرض والجبال، ووزنت بها؛ رجحت عليها ولم تطق حملها ضعفاً عنها، وذلك معنى قوله تعالى: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) ومن كلامهم: فلان يأبى الضيم إذا كان لا يحتمله، فالإباء هنا هو ألا يقام بحمل الشيء، والإشفاق في هذا الموضع هو الضعف عن الشيء.
121- فضل الكتابة على الحفظ
... ( الخطيب في ((تقييد العلم)):
(1/59)
... قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أعجب إليَّ من الحفظ، إن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشده الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام.
122- تلد خمسة توائم خمس مرات
... ( في ((العذب الفائض)):
... وحكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: رأيت في بعض البوادي شيخاً ذا هيبة فجئت لأستفيد منه، فإذا بخمسة كهول قد جاؤوا فقبّلوا رأسه ودخلوا الخباء، ثم خمسة شبان فعملوا كذلك، ثم خمسة منحطين (أي: أصغر منهم) ثم خمسة أحداث، فسألته عنهم فقال: كلهم أولادي، وكل خمسة منهم في بطن وأمهم واحدة، فيجيئون كل يوم ويسلمون علي ويزورونها، ولي منها خمسة أخر في المهد!
123- مدح السلطان في خطبة الجمعة
... ( السيد رشيد رضا رحمه الله في ((المنار)):
... وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة، أبدع الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان، وأطنب فيه، فلما فرغ من صلاته أنكر عليه الملك الظاهر، وقال: ما لهذا الخطيب يقول في خطبته: السلطان، السلطان، ليس شرط الخطبة هكذا، وأمر به أن يُضرب بالمقارع! فتشفَّع له الحاضرون، هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه . .
124- الصامت والناطق
... ( الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)):
... المال: هو كل ما يتمول، وعن المفضل الضبي: المال عند العرب: الصامت والناطق، فالصامت: الذهب والفضة والجوهر. والناطق: البعير والبقرة والشاة، فإذا قلت عن حضري: كثر ماله، فهو الصامت، وإذا قلت عن بدوي: كثر ماله، فالمراد الناطق.
125- تولية الظالمين
... ( محمد بن يحيى التادفي في ((قلائد الجواهر)):
(1/60)
... لما ولي المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين القضاء أبا الوفاء يحيى بن سعيد بن يحيى المظفر المشهور بابن المزحم الظالم، قال له الشيخ عبدالقادر الجيلاني وهو يخطب الجمعة: ولَّيتَ على المسلمين أظلم الظالمين! ما جوابك غداً عند رب العالمين أرحم الراحمين؟ فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته.
126- لا تفريط في النوم
... ( الإمام أحمد في ((المسند)):
... في حديث أبي قتادة حين نام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة عن صلاة الصبح، فقال بعضهم لبعض: فرَّطنا في صلاتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإليَّ)) قلنا: يا رسول الله فرطنا في صلاتنا، فقال: ((لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة)).
127- أعمار الزوجات
... ( شمس الأئمة السرخسي في ((مبسوطه)):
... سئل أبو يوسف رحمه الله (صاحب أبي حنيفة) عن بنات الشعر من النساء فقال: لَهو اللاهين، فسئل عن بنات العشرين فقال: لذة المعانقين، فسئل عن بنات الثلاثين فقال: تنمو وتلين، فسئل عن بنات الأربعين فقال: ذات مال وبنين، فسئل عن بنات الخمسين فقال: عجوز في الغابرين، فسئل عن بنات الستين فقال: لعنة اللاعنين! . .
128- يصاب بالماليخوليا فيقتل أصحابه ونساءه وأبناءه
... ( الزركلي في ((أعلامه)) في ترجمة ابن الأغلب صاحب إفريقية:
... وأصيب بالماليخوليا (نوع من الجنون) فقتل كثيراً من أصحابه وكتَّابه وحُجّابه ونسائه، وقل اثنين من أبنائه وثمانية إخوة له، وسائر بناته، فشكاه أهل تونس إلى المعتضد العباسي فعزله سنة 289 .
129- يفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه
... ( القرطبي في ((تفسيره)) عن أبي جعفر الطبري:
(1/61)
... سمعت الجرميَّ يقول: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه! قال محمد بن يزيد: وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه (في النحو) تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً.
130- حشو اللوزينج(1)
... ( ابن خلكان في ((وفيات الأعيان)):
... قال الشاعر:
ولو جاورَتنا العامَ سمراءُ لم نُبَلْ ... ... على جَدْبنا أن لا يَصُوب ربيع
... لله دره! فما أحلى هذه الحشوة! وهي قوله ((على جدبنا)) وأهل البيان يسمون هذا النوع: حشو اللوزينج.
131- النساء ذوات اللحى والشوارب
... ( الجاحظ في ((الحيوان)):
... وقد توجد المرأة ذات لحية، وقد رأيت ذلك، وأكثر ما رأيته في عجائز الدهاقين(2)، وكذلك الغَبَب(3)والشارب، وقد رأيت ذلك أيضاً، وقد ذكر أهل بغداد أنه كان لابنة من بنات محمد بن راشد الخناق، لحية وافرة، وأنها دخلت مع نساء متنقبات إلى بعض الأعراس لترى العرس وجَلْوة العريس، ففطنت لها امرأة فصاحت: رجل والله، فأقبل الخدم والنساء عليها بالضرب فلم تكن لها حيلة إلا الكشف عن عورتها، فنزعن عنها وقد كادت تموت.
132- كسنور عبدالله
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... كان يزيد بن منصور يجري لبشار العقيلي وظيفة في كل شهر ثم قطعها عنه فقال:
أبا خالد ما زلت سابحَ غَمرة ... ... صغيراً فلما شبتَ خيمتَ بالشاطي
جريت زماناً سابقاً ثم لم تزل ... ... تأخر حتى جئت تقطو مع القاطي(4)
كسِنَّور عبدالله بيع بدرهم ... ... صغيراً فلما شبّ بيع بقيراط!
__________
(1) هو نوع من الحلوى شبه القطائف يؤدم بدهن اللوز ويحشى بالجوز أو غيره.
(2) الدهقان: رئيس الإقليم، والتاجر أيضاً.
(3) هو اللحم المتدلي تحت الحنك من الديك والنقر.
(4) القاطي: الثقيل المشي، أو الذي يقارب في مشيه.
(1/62)
133- معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بلغة العرب
... ( إبراهيم بن محمد البيهقي في ((المحاسن والمساوئ)):
... جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أيُدالِك الرجل امرأته بمهرها؟ فأجابه عليه السلام: ((لا، إلا أن يكون مُلْفَجَاً)) فقال له أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إنما نشأت فيما بيننا ونحن قد سافرنا وأنت مقيم، فنراك تكلّم بكلام لا نعرفه ولا نفهمه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أدّبني وأحسن أدبي، وهذا الرجل كلَّمني بكلامه، فأجبته على حسبه، سألني: أيدالك الرجل امرأته بمهرها؟ أي يماطلها، فقلت: لا، إلا أن يكون مُلْفجاً؛ أي معدماً)).
134- منطق الأقوياء الظالمين
... ( وفيه أيضاً:
(1/63)
... كان يوسف بن عمر يتولى العراقَيْن لهشام بن عبدالملك وكان مذموماً في عمله، حدّث المدائني قال: حدّثني رضيع: كان ليوسف بن عمر من بني عبس قال: كنت لا أحجب عنه وعن حرمته، فدعا ذات يوم بجوار له ثلاث، ودعا بخصي أسود يقال له: حُديج؛ فقرب إليه واحدة فقال لها: إني أريد الشخوص، أفأخلفك أم أشخصك معك؟ فقالت: صحبة الأمير أحب إليَّ، ولكني أحسب أن مقامي وتخلفي أعفى وأخف عليَّ، فقال لها: أحببت التخلف للفجور، اضرب يا حديج! فضربها حتى أوجعها، ثم أمره أن يأتيه بأخرى قد رأت ما لقيت صاحبتها، فقال لها: إني أريد الشخوص، أفأخلفك أم أخرجك؟ قالت: ما أعدل بصحبة الأمير شيئاً بل يخرجني، فقال لها: أحببت الجماع ما ترين أن يفوتك! اضرب يا حديج! فضربها حتى أوجعها، ثم أمر بالثالثة أن يأتيه بها وقد رأت ما لقيت المقدمتان، فقال لها: أريد الخروج أفأخلفك أم أشخصك؟ قالت: الأمير أعرف أي الأمرين أخف عليه، قال: اختاري لنفسك، قالت: ما عندي لهذا اختيار فليختر الأمير، فقال لها: فرغت أنا الآن من كل شيء ومن كل عمل، ولم يبق عليَّ إلا أن أختار لك! أوجع يا حديج؛ فضربها حتى أوجعها، قال الرجل: وكأنما يضربني من شدة غيظي عليه، فولت الجارية وتبعها الخادم؛ فلما بعدت قالت: الخيرة والله في فراقك، ما تقر عين أحد بصحبتك، فلم يفهم يوسف كلامها، فقال: ما تقول يا حديج؟ قال: قالت كذا وكذا، فقال يوسف: يا ابن الخبيثة من أمرك أن تخبرني؟ يا غلام خذ السوط من يده وأوجع به رأسه! فما زال يضرب حتى اشتفيت! . . .
135- الصدق أنجى
... ( الحافظ ابن حبان في ((روضة العقلاء)):
(1/64)
... كان ((ربعي)) رجلاً من أشجع، زعم قومه أنه لم يكذب قط، فسعى به ساع إلى الحجاج؛ فقال: ها هنا رجل من أشجع زعم قومه أنه لم يكذب قط؛ وإنه يكذب لك اليوم، فإنك ضربت على ابنيه البعث (فرض عليهما الخروج للجهاد) فعصيا وهما في البيت، وكان عقوبة الحجاج للعاصي ضرب السيف، فدعاه الحجاج، فإذا شيخ منحن؛ فقال له: أنت ربعي؟ قال: نعم؛ قال: ما فعل ابناك؟ قال: ها هما ذان في البيت! فحمله وكساه وأوصى به خيراً . .
136- جواب امرأة جميلة تزوجت قبيحاً
... ( الأبشيهي في ((المستطرف)):
... قال الأصمعي: رأيت بدوية من أحسن الناس وجهاً ولها زوج قبيح؛ فقلت لها: يا هذه أترضين أن تكوني تحت هذا؟ فقالت: يا هذا! لعله أحسن فيما بينه وبين ربه فجعلني ثوابه؛ وأسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عذابي! أفلا أرضى بما رضي الله به؟! .
137- من أمثلة التورية في القرآن
... ( السيوطي في ((الإتقان)):
... ونقلت من خط شيخ الإسلام ابن حجر أن من التورية في القرآن قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) فإن (كَافَّةً) – في هذه الآية – بمعنى ((مانع)) أي تكفهم عن الكفر والمعصية؛ والهاء للمبالغة؛ وهذا معنى بعيد؛ والمعنى القريب المتبادر أن المراد ((جامعة)) بمعنى جميعا؛ لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول: رأيت جميعاً الناس، لا تقول: رأيت كافةً الناس.
138- تضيء للناس وهي تحترق
... ( ابن بشكوال في ((الصلة)) في ترجمة ((أبي عمر أحمد بن سعيد الهمداني)):
... زكان وسيماً حسن الخلق والخُلُق، وكان إذا حدّث بيَّن، وأصاب القول فيه وشرحه بأدب صحيح، ولسان فصيح، وخاصم يوماً عند صاحب الشرطة والصلاة إبراهيم بن محمد الشرفي، فنكل وعجز عن حجته، فقال له الشرفي: ما أعجب أمرك يا أبا عمر؟! أنت زكي لغيرك، بكييٌّ (عيي) في أمرك. فقال: كذلك يبين الله آياته للناس، وأنشد متمثلاً:
صرت كأني ذبالة نضُبت ... ... تضيء للناس وهي تحترق
(1/65)
139- الظلم ثلاث دواوين
... ( ابن القيم في ((مدارج السالكين)):
... في الحديث الذي روي مرفوعاً وموقوفاً: ((الظلم ثلاث دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً وهو الشرك، وديوان لا يترك الله منه شيئاً (أي يحاسب عليه كله) وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه)).
140- فتوى في مصلحة الشعب
... ( البيهقي في ((المحاسن والمساوئ)):
... دخل أحمد بن أبي داوود على الخليفة الواثق، فقال له الواثق: بالله يا أبا عبدالله إني حنثت في يمين فما كفارتها؟ فقال: مائة ألف دينار! فقال ابن الزيات: والله ما سمعنا بهذا في الكفارات، إنما قال الله عز وجل: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فقال ابن أبي داوود: تلك كفارة مثله (مثل الواثق) في بعد همته وجلالة قدره، أو مثل آبائه، إنما تكون كفارة اليمين على قدر جلال الله من قلب الحالف بها، ولا نعلم أحداً الله جل وعز في قلبه أجل من أمير المؤمنين، فقال الواثق: تُحمل إلى أبي عبدالله يتصدق بها.
141- الخليفة المثمن
... ( الذهبي في ((العبر)) في حوادث سنة 226 هـ:
... وفيها توفي الخليفة ((المعتصم)) . . وكان يقال له ((المثمَّن)) لأنه:
... ولد سنة ثمانين ومائة في ثامن شهر فيها.
... وهو ثامن الخلفاء من بني العباس.
... وفتح ثمان فتوح: عمورية؛ ومدينة بابك، ومدينة الزط، وقلعة الأحزان، ومصر، وأذربيجان، وديار ربعية، وأرمينية.
... ووقف في خدمته ثمان ملوك: الأفشين، والمازيار، وبابك، وباطس ملك عمورية، وعجيف ملك أسباخنج، وصول صاحب أسبيجاب، وهاشم ناحور ملك طخارستان، وكناسة ملك السند، فقتل هؤلاء سوى صول، وهاشم.
... واستُخلف ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام.
... وخلَّف ثمانية بنين وثماني بنات.
... وخلَّف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار (8 ملايين).
(1/66)
... ومن الفضة ثمانية عشر ألف درهم (كذا، ولعلها ثمانية عشر ألف ألف درهم).
... ومن الخيول ثمانين ألف فرس.
... ومن الجمال والبغال مثل ذلك.
... ومن المماليك ثمانية آلاف مملوك، وثمانية آلاف جارية.
... وبنى ثمانية قصور . .
142- توبة أمير
... ( الذهبي في ((العبر)) أيضاً في حوادث سنة 320 هـ:
... وفيها توفي أمير المشرق أبو العباس عبدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي؛ وله ثمان وأربعون سنة، وكان شجاعاً مهيباً عاقلاً جواداً كريماً، يقال إنه وقَّع مرة على قِصص بصلات بلغت أربعة آلاف ألف درهم (4 ملايين) وقد خلف من الدراهم خاصة أربعين ألف ألف درهم، وقد تاب قبل موته، وكسر آلات الملاهي، واستفكّ أسرى بألفي ألف، وتصدّق بأموال.
143- بين نحوي وطبيب
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... حصلت لأبي علقمة النحوي علة فدخل عليه ((أعين)) الطبيب يعوده، فقال: ما تجد؟ قال: أكلت من لحوم هذه الجوازل (أفراخ الحمام) فطسئت طسأة (أتخم من الطعام) فأصابني وجع ما بين الوابلة (بطرف الكتف) إلى دأية العنق (فقار العنق) فما زال يزيد وينمى حتى خالط الخلب (الظفر) والشراسيف (الغضاريف المعلقة بكل ضلع) فماذا ترى؟
... فقال له الطبيب: خذ خربقاً، وسلفقاً، وشبرقاً، فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه!
... فقال له أبو علقمة: ماذا تقول؟ فأجابه: وصفت لي من الداء ما لا أعرف، فوصفت لك من الدواء ما لا تعرف. قال: ويحك فما أفهمتني، قال: لعن الله أقلَّنا إفهاماً لصاحبه . . .
144- مصر وأهلها
... ( ابن بطوطة في ((رحلته)) يصف مصر وأهلها:
(1/67)
... هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة، المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها، شابها يجدُّ على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منازل السعد، قهرت قاهرتها الأمم، وتمكنت ملوكها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل الذي أجلَّ خطرها، وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجدّ السير، كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة.
... ويقال: إن بمصر (أي القاهرة) من السقَّائين على الجمال اثني عشر ألف سقَّاء، وإن بها ثلاثين ألف مكار، وإن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفاً للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق.
... وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، وشاهدت بها مرة فرحة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين أهل كل سوق سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحُلل وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياماً.
145- الإمامة لا تورث
... ( أبو بكر الجصاص ((في أحكام القرآن)):
(1/68)
... قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) (البقرة:247)، يدل على أن الإمامة ليست وراثة؛ لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة ولا الملك، وبيَّن أن ذلك مستحق بالعلم والقوة، لا بالنسب، ودلّ ذلك أيضاً على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس، وأنها مقدمة عليه، لأن الله أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرف منه نسباً، وذكره للجسم ها هنا عبارة عن فضل قوته، لأن في العادة من كان أعظم جسماً فهو أكثر قوة، ولا يرد بذلك عظم الجسم بلا قوة، لأن ذلك لا حظ له في القتال، بل هو وبال على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة.
146- لمَ سميت المولودة بالقابلة؟
... ( ابن خلدون في ((مقدمته)):
... صناعة ((التوليد)) يُعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك، ثم ما يصلحه بعد الخروج، وهي مختصة بالنساء في غالب الأمر، لما أنهن الظاهرات بعضهن على بعض، وتسمى القائمة على ذلك منهن ((لقابلة)) واستعير فيها معنى الإعطاء والقبول، كأن النفسا تعطيها الجنين وكأنها تقبله.
... أقول: وحيث أصبح الرجال في عصرنا يقومون بصناعة التوليد كالنساء، فهل لنا أن نسمي الطبيب المولد ((القابل)) قياساً على ((القابلة))!
147- من علامات الحمق
... ( الحافظ ابن حبان في ((روضة العقلاء)):
... من علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدها ممن خفي عليه أمره: سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار.
... والأحمق إذا أعرضت عنه اغتم، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإذا ظلمته انتصفتَ منه، ويظلمك إذا انصفته.
... وما أشبِّه عشرة الحمقى إلا بما أنشدني محمد بن إسحاق الواسطي:
(1/69)
لي صديق يرى حقوقي عليه ... ... نافلات وحقه كان فرضا
لو قطعت الجبال طولاً إليه ... ... ثم من بعد طولها سرت عرضا
لرأى ما صنعت غير كبير ... ... واشتهى أن أزيد في الأرض أرضا
148- أيهما أعلم بالنحو
... ( القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... قال أبو العير: قال لي أبو العباس أحمد بن يحيى – ثعلب (من أئمة النحو في عصره): الظبي معرفة أو نكرة؟ فقلت: إن كان مشوياً على المائدة فمعرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة! . . فقال ثعلب: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو! . .
149- ست هن أزواج
... ( ابن المقفع في ((الأدب الصغير)):
... من حاول الأمور احتاج فيها إلى ست: العلم، والتوفيق، والفرصة، والأعوان، والأدب، والاجتهاد.
... وهن أزواج:
... فالرأي والأدب زوج: لا يكمل الرأي بغير الأدب، ولا يكمل الأدب إلا بالرأي. والأعوان والفرصة زوج: لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا تتم الفرصة إلا بحضور الأعوان. والتوفيق والاجتهاد زوج: فالاجتهاد سبب التوفيق، وبالتوفيق ينجح الاجتهاد.
150- ببركة امتناعه عن القضاء
... ( الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)):
... روي أن المتوكل دعا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، وأحمد بن المعدل، وإبراهيم التيمي من البصرة، وعرض على كل واحد منهم قضاء البصرة، فاحتج محمد بن عبدالملك بالسن العالية وغير ذلك، واحتج أحمد بن المعدل بضعف البصر وغير ذلك، وامتنع إبراهيم التيمي. فقال له المتوكل: لم يبقَ غيرك، وجزم عليه فولي، فنزلت حال إبراهيم عند أهل العلم، وعلت حال الآخرين، قال أبو العلاء الواسطي: فيرى الناس ان بركة امتناع محمد بن عبدالملك دخلت على ولده، فولي أربعة وعشرون قاضياً، منهم ثمانية تقلدوا قضاء القضاة.
151- فقيه ينقذ زوجة الرشيد من الطلاق
... ( القاضي ابن الزبير في ((الذخائر والتحف)):
(1/70)
... لما أعضلت مسألة الرشيد فقهاء الإسلام، أشخص الليث بن سعد إليه فأخرجه منها، وذلك أن الرشيد خاصم زوجته أم جعفر زبيدة، فقالت له: والله لا رأيت الجنة ولا دخلتها، فقال لها: إن لم أكن من اهل الجنة فأنت طالق ثلاثاً! فأشخص مالك بن أنس من المدينة، وسفيان بن عيينة من مكة، وإسماعيل بن عياش من حمص، والليث بن سعد من مصر، وسألهم عن ذلك، فما أفتاه أحد منهم غير الليث بن سعد، فإنه قال: يا أمير المؤمنين! تصدقني عما أسألك عنه؟ قال: نعم. قال: هل تخاف مقام الله؟ قال: نعم. قال: فليست لك جنة واحدة، لك جنتان. قال الله تبارك وتعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)) راجع زوجتك فلا حنث عليك. فأمر له بعشرة آلاف دينار، وأقطعه ضيعة بريف مصر تعرف بقرقشندة.
152- لا تنسَ الكامخ
... ( في بعض كتب الأدب:
... جاء أحد الأعراب صديقاً له حضرياً، فقدّم له الكامخ (طعام يُصنع من الحنطة ممزوجة باللبن) فلم يستطبه، وأكل منه قليلاً، ثم غادر دار صديقه إلى المسجد فوجد الإمام في الصلاة يقرأ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فقال الأعرابي: والكامخ لا تنسه أصلحك الله!
153- يعشيه ويحبسه
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... قال الأصمعي: مر رجل بأبي أسود الدؤلي وهو يقول: من يعشي الجائع؟ فقال أبو الأسود: عليَّ به، فأتاه بعشاء كثير وقال: كل حتى تشبع، فلما أكل ذهب ليخرج، قال: أين تريد؟ قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك، اطرحوه في الأدهم، فبات عنده مكبولاً، حتى أصبح.
154- حقيقة القلب السليم
... ( ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)):
(1/71)
... والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله، هو القلب الذي قد سلم لربه وسلم لأمره، ولم تبقَ فيه منازعة لأمره ولا معارضة لخبره، فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره، فالله وحده غايته، وأمره وشرعه وسيلته وطريقته، لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره، لكن لا تمر (الشبهة) عليه (القلب) إلا وهي مجتازة تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه، ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل.
155- اشترِ من باعة حيِّك
... ( الخوارزمي في ((مفيد العلوم)):
... كان علي بن الفضل يشتري من باعة المحلة، فقيل له: لو دخلت السوق واسترخصت! فقال: هؤلاء نزلوا بقريتنا رجاء منفعتنا.
156- هل يستحقون هذا الإكرام
... ( وفيه أيضاً:
... كان لعبدالله بن المبارك جار يهودي فأراد أن يبيع داره، فقيل له: بكم تبيع؟ قال: بألفين، فقيل له: لا تساوي إلا ألفاً، قال: صدقتم ولكن ألف للدار، وألف لجوار عبدالله! فأخبر ابن المبارك بذلك، فدعاه فأعطاه ثمن الدار وقال: لا تبعها!
157- لغات ست وحركات ثلاث
... ( النووي في ((شرح مسلم)):
... وفي يونس ست لغات: ضم النون وكسرها، وفتحها مع الهمز، وتركه، وكذلك في (يوسف) اللغات الست، والحركات الثلاث في سينه، ذكر ابن السكيت معظم اللغات فيهما، وذكر أبو البقاء باقيهن.
158- فارق السن بين أب وابنه
... ( وفيه أيضاً:
... ومن طرف احوال عبدالله بن عمرو بن العاص أنه ليس بينه وبين أبيه في الولادة إلا أحد عشرة سنة أو اثنتا عشرة.
159- على أي شيء أضع ابنتي عندك؟
... ( الخوارزمي في ((مفيد العلوم)):
(1/72)
... جاء إلى سفيان بن عيينة (المحدث) ابنُ أخيه فقال: جئت إليك خاطباً لابنتك، فقال له عمه سفيان: كفء كريم، ثم قال: اجلس، فجلس، قال: يا بني اقرأ عشر آيات من كتاب الله تعالى، فلم يستطع الشاب، قال: اروِ عشرة أحاديث، فلم يستطع، فقال له سفيان: لا قرآن ولا حديث ولا شعر؟! فعلى أي شيء أضع ابنتي عندك؟ ثم قال له: لا أخيبنك، وأمر له بأربعة آلاف درهم . .
160- الصفات المؤهلة لتولي القضاء
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
أحضر الرشيد رجلاً ليوليه القضاء فقال له: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه.
... قال الرشيد: فيك ثلاث خلال: لك شرف، والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قلّ خطؤه، وأنت رجل تشاور في أمرك، ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فسنضم إليك من تتفقه به، فولي القضاء، فما وجدوا فيه مطعناً.
161- الملك ثلاثة
... ( وفيه أيضاً:
... وقرأت في كتاب لابن المقفع: الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى . . .
... فأما ملك الدين فإنه إذا اقام لأهله دينهم فكان دينهم هو الذي يعطيهم ما لهم، ويلحق بهم ما عليهم أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم.
... وأما ملك الحزم فإنه تقوم به الأمور، ولا يسلم من الطعن والتسخط، ولن يضره طعن الضعيف مع حزم القوي . .
... وأما ملك الهوى، فلعب ساعة ودمار دهر.
162- ثقيل
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... قال بشار في أحد الثقات وكنيته أبو عمران:
ربما يثقل الجليس وإن كا ... ... ن خفيفاً في كفة الميزان
ولقد قلت حين وتَّد في الأر ... ... ض ثقيل أربى على ثهلان
كيف لم تحمل الأمانة أرضٌ ... ... حملت فوقها أبا عمران؟
163- قاضي يعض الخصوم
... ( الثعالبي في ((ثمرات القلوب)):
(1/73)
... يقال في المثل: أجهل من قاضي جُبَّل ، وجُبَّل مدينة طسوج، وكان قاضيها أغر محجلاً، فرفع إلى المأمون أنه يعض الخصوم، فوقَّع المأمون على هذا الخبر بقوله: يُزنَّق (أي يعمل له زناق وهو رباط من الجلد يشد به تحت الحنك) وكان هذا القاضي قضى لخصم جاءه وحده، ثم نقض حكمه لما جاءه الخصم الآخر . .
164- لغويات
... ( في ((لسان العرب)) و ((القاموس)) وغيرهما:
... ابنة الجبل: هي الحية؛ والداهية، والصدى، ويكون مدحاً لسرعة الإجابة؛ وقد يضرب ابنة الجبل الذي هو الصدى مثلاً للرجل الإمَّعة المتابع الذي لا رأي له. وفي بعض الأمثال: ((كنتَ الجبل مهما يقُل أو تقُل)) وابنة الجبل القوس إذا كانت من النبع الذي يكون هنا لأنها من شجر الجبل.
... ورجل جبيل الوجه: قبيحه؛ وهو أيضاً الغليظ جلدة الرأس والعظام، ويقال: فلان جبل من الجبال إذا كان عزيزاً، وعز فلان يزحم الجبال.
165- الحجاج يصف نفسه
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
... قال عبدالملك للحجاج: إنه ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فعِب نفسك؛ قال: أعفني يا أمير المؤمنين، قال: لتفعلنَّ؛ قال: أنا لجوج حقود حسود؛ قال عبدالملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت.
166- فلسفة البخل
... ( الجاحظ في ((البخلاء)):
(1/74)
... قلت مرة للخزامى (أحد المشهورين بالبخل): قد رضيتَ بقول الناس: عبدالله بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم. قلت: كيف؟ قال: لأنه لا يقال: فلان بخيل إلا وهو ذو مال؛ فسلِّم لي المال، وادعني بأي اسم شئت، قلت: ولا يقال: سخي إلا وهو ذو مال؛ فقد جمع هذا الاسم المال والحمد وجمع هذا الاسم (بخيل) المال والذم؛ قال: بينهما فرق، قلت: هاته، قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه؛ وفي قولهم: سخي إخبار عن خروج المال عن مكله؛ واسم البخل اسم فيه حزم وذم، واسم السخاء اسم فيه تضييع وحمد، والمال راهن نافع، ومكرم لأهله معز، والحمد ريح وسخرية، واستماعه ضعف وفُسولة (نذالة وقلة مروءة) وما أقل والله غَنَاء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعري جلده، وضاع عياله وشمت عدوه! .
167- الأمل حتى الأجل
... ( النووي في ((شرح مسلم)) في ترجمة أبي عثمان النهدي:
... ومن طرف أخباره ما رويناه عنه أنه قال: بلغت نحواً من ثلاثين ومائة سنة، وما من شيء إلا وقد أنكرته، إلا أملي، فإني أجده كما هو . .
168- أحد أبويه جني
... ( القاضي ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) في ترجمة ((أبي بكر الأثرم)):
... وكان معه تيقظ عجيب، حتى نسبه يحيى بن معين، ويحيى بن أيوب المقابري، فقال: أحد أبوي الأثرم جني .
169- دعني أخنقه
... ( وفيه أيضاً في ترجمة ((أحمد بن نصر)):
... قال أحمد بن نصر: رأيت مصاباً بالصرع قد وقع، فقرأت في أذنه، فكلمتني الجنية في جوفه فقالت: يا أبا عبدالله، دعني أخنقه، فإنه يقول: القرآن مخلوق!
170- إلاَّ من؟!
... ( القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... دخل أبو الخطاب عمرو بن عامر السعدي على الخليفة موسى الهادي فأنشده:
يا خير من عقدت كفاه حُجزته ... ... وخير من قلدته أمرَها مُضرُ
(1/75)
... فانقلبت عيناه (الهادي) في رأسه؛ واحمرَّ وجهه، وقال: إلا مَن؟ ويحك! ولم يكن أبو الخطاب استثنى أحداً؛ وإنما جرى على مذهب الشعراء في تفضيل الممدوح على أهل العصر، فلما رأى ما بوجه الهادي من إرادة الإيقاع به قال ارتجالاً:
إلا النبي رسول الله إن له ... ... فخراً وأنت بذات الفخر تفتخر
... فسُرّي عنه ووصله.
171- ينهاه الطبيب عن التدريس فيأبى
... ( النووي في ((شرح صحيح مسلم)) في ترجمة ((الحافظ منصور بن عبدالمنعم الفرواي)):
... ونهاه الطبيب عن التمكين من القراءة عليه؛ وعرّفه أن ذلك ربما كان سبباً لزيادة تألمه (في مرضه) فيقال: لا أستجيز أن أمنعهم من القراءة، وربما أكون قد حبست في الدنيا لأجلهم.
172- خصال عالم
... ( وفيه أيضاً في ترجمة ((عبدالله بن المبارك)):
... اجتمع جماعة من أصحاب عبدالله بن المبارك، مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين، ومحمد بن النضر، فقالوا: تعالوا نعدَّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم (أي الحديث) والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والشعر والفصاحة والورع والإنصاف وقيام الليل والعبادة والشدة في رأيه، وقلة الكلام فيما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه.
... وقال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفِرَق.
173- السياسة الحكيمة
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
... قال الوليد لعبدالملك: يا أبت! ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
174- البلدة التي تحسن الإقامة فيها
... ( وفيه أيضاً:
... قال كسرى: لا تنزل ببلد ليس فيه خمسة أشياء: سلطان قاهر (أي حازم) وقاضٍ عادل، وسوق قائمة (أي فيها تجارة رابحة) وطبيب عالم، ونهر جارٍ.
175- يربح فيشتري بربحه أوقافاً للمجاهدين
... ( ابن الأزرق الفارقي في ((تاريخ ميّا فارقين)):
(1/76)
... وكان بها رجل يسمى (ابن البهات) وكان متقدماً من جملة العدول، فوصلت قافلة كان معها خام كثير، واشترى جميعه منهم، واتفق أن وصل قوم وقت الظهر فطلبوا خاماً فباعهم من يومه الخام جميعه، وقبض ثمنه فربح فيه خمسمائة دينار، ولم يكن وفى ثمنه لأصحابه، فسمع الأمير نصر الدولة (أمير ميَّا فارقين) فاستحضره ومعه المال، فسأله عن ذلك فقال: هو صحيح، وقدم المال بين يديه، فقال الأمير: والله ما أحضرتك لآخذ، ولكني أردت أن أعلم صحة الحديث، وأن في بلدي من كسب في يوم واحد خمسمائة دينار! فحلف ابن البهات لا تدخل إلى ماله، وحلف الأمير أنه لا يأخذ منها شيئاً، فاتفق أن عرضت قرية من ناحية قلعة (فتراثا) للبيع فاشتراها ابن البهات، ووقفها على حراس الحصون في تلك المنطقة! . .
176- له ثلاثة كنى ويروي عن ثلاثة أجيال
... ( النووي في ((شرح صحيح مسلم)) في ترجمة الحافظ منصور بن عبدالمنعم الفراوي:
... وأما شيخ شيخنا الفراوي فهو الإمام ذو الكنى: أبو القاسم، أبو بكر، أبو الفتح، روى عن أبيه وجده وجد أبيه.
177- يزوج بناتها ويبقي لها دارها
... ( الخوارزمي في ((مفيد العلوم)):
... كانت عجوز في جوار عبدالله بن طاهر؛ ولها أربع بنات، فقيل لها: أنت فقيرة فلو بعت دارك وتوسعت بها على نفسك وعيالك؟ فقالت: نعم غير أني لا أبيع جوار عبدالله بن طاهر بالدنانير؛ فانتهى إليه الخبر، فدعا عبدالله دلاَّلة النساء وقال لها: إن لي أربع بنات؛ فاطلبي لهن أزواجاً كراماً، ثم جهزهن: كل واحدة بمائة ألف . .
178- آفة العلم وهجنته ونكده
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
(1/77)
... عن رؤبة بن العجَّاج، قال: أتيت النسابة البكري فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا بن العجاج، قال: قصرت وعرفت، لعلك من قوم إن سكت عنهم لم يسألوني، وإن تكلمت لم يعوا عني؟! قلت: أرجو ألا أكون كذلك، قال: ما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني، قال: بنو عم السوء، إن رأوا حسناً ستروه، وإن رأوا سيئاً أذاعوه، ثم قال: إن للعلم آفة وهجنة ونكداً، فآفته نسيانه، ونكده الكذب فيه، وهجنته نشره عند غير أهله.
179- حمى الروح
... ( وفيه أيضاً:
... قال بختيشوع للمأمون: لا تجالس الثقلاء، فإنا نجد في الطب: مجالسة الثقيل حُمَّى الروح.
180- هزل العلماء مع الجهال
... ( القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... صحب الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قوماً في سفره، فكان يجاريهم على أخلاقهم، ويخالطهم في أحوالهم وهم لا يعرفونه، فلما دخل مصر حضروا الجامع، فوجدوه يُفتي في حلال الله وحرامه، ويقضي في شرائعه وأحكامه، والناس مطرقون لإجلاله، فرآهم فاستدعاهم؛ فلما انصرفوا سئل عنهم فأنشد:
وأنزلني طولُ النوى دارَ غربة ... ... إذا شئت لاقيت امرءاً لا أشاكله
أحامقه(1)حتى يقال سجية ... ... ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
181- حمار طياب
... ( الثعالبي في ((ثمرات القلوب)):
... كان لطيَّاب السقاء حمار قديم الصحبة، ضعيف الحملة، شديد الهزال، ظاهر الانخذال، كاسف البال، يسقي عليه ويرفق به، ويرتزق منه مدة مديدة من الدهر، وكان عرضة لشعر أبي غلالة المخزومي، كما أن شاة سعيد كانت عرضة لشعر الحمدوني، ولأبي غلالة في وصفه بالضعف والتوجع له من الخسف نيف وعشرون مقطوعة، وحكى محمد بن داوود الجراح عن جعفر رفيق طياب أن حمار طياب نفق (هلك) فمات طياب على أثره بأسبوع؛ ثم مات أبو غلالة على أثر حمار طياب، وكان ذلك من عجيب الاتفاقات.
182- نجابة ابن الزبير في صغره
... ( ابن ظفر في ((أنباء نجباء الأبناء)):
__________
(1) أي أساعده على حمقه.
(1/78)
... ويروى أن عمر رضي الله عنه مرّ بعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وهو يلعب مع الصبيان، ففروا حين رأوا عمر، وثبت عبدالله، فقال له عمر: ما لك لا تفر مع أصحابك؟ فقال: لم أجرم فأخاف منك، ولم يكن في الطريق ضيق فأوسع لك! .
183- الحاكم الناجح
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
... قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا الليّن من غير ضعف، والقوي في غير عنف.
184- إنما الدر داخل الصدف
... ( الكلاباذي في ((التعرف لمذهب أهل التصوف)):
... قال ذو النون: رأيت فتى عليه أطمار رثة، فتقذرته نفسي، وشهد له قلبي بالولاية، فبقيت بين نفسي وقلبي أفكر، فنظر إليَّ الفتى وقال: يا ذا النون! لا تبصرني لكي ترى خِلَقي، وإنما الدر داخل الصدف، ثم ولى وهو يقول:
تِهتُ على أهل ذا الزمان فما ... ... أرفع منهم لواحد رأسا
ذلك لأني فتى أخو فِطَن ... ... أعرف نفسي وأعرف الناسا
فصرت حراً مملَّكاً ملكاً ... ... مدرعاً بالقنوع لبَّاسا
185- كتب العالم أولاده المخلدون
... ( ابن الجوزي في ((صيد الخاطر)):
... فإذا علم الإنسان وإن بالغ في الجد بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفاً، وغرس غرساً، وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده فيكون له الأجر، أو يصنف كتاباً من العلم، فإن تصنيف العالم ولده المخلد، وأن يكون عاملاً بالخير، عالماً فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به، فذلك الذي لم يمت.
186- أصل الفاحشة من عندكم
... ( أبو بكر بن عبدالله بن أيبك الدواداري في ((كنز الدرر)) وهو يتحدث عن أسر التتار للأمير حسام الدين المجيري وما جرى بينه وبين ملك التتار ((غازان)) بعد أسره؛ ويلاحظ أن المؤلف عامي في تعبيره، فنحن ننقل عبارته كما هي مع تهذيب قليل . .
(1/79)
... قال المجيري: ثم سألني غازان: كيف يترك أمراؤكم النساء ويستخدمون السباب؟ فعلمت أنه يريد قتلي وأذيتي، فقلت في نفسي: ما من الله إلا واليه، فأجبته: يحفظ الله القآن (لقب ملوك التتار) إن أمراءنا ما كانوا يعرفون شيئاً من هذا، وإنما هذا استجد في بلادنا لما جاء إلينا طرغاي من عندكم، فإنه ورد إلينا بشباب من أولاد التتار، فانشغل الناس بهم، فاغتاظ غازان من ذلك غيظاً شديداً.
187- الفرق بين نسائنا ونسائهم
... ( وفيه أيضاً تتمة الحديث السابق:
... ثم قال غازان للمجيري: ما تقول في نسائنا ونسائكم؟ قال: فعلمت أنه يريد التأكيد في قتلي، فتشاهدت في نفسي، وأخلصت النية في لقاء الله عز وجل، وقلت: يحفظ الله القآن! أنت ملك الشرق ويقبح أن تذكر النساء في هذا المجلس! إن نساءنا يستحين من الله تعالى ومن الناس، ويسترن وجوههن؛ ونساؤكم أنتم أخبر بهن وبحالهن . . .
188- إنما يثاب الإنسان على قدر عقله
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
... كان في بني إسرائيل رجل له حمار؛ فقال: يا رب لو كان لك حمار لعلفته مع حماري هذا، فهمَّ به نبي، فأوحى الله إليه: إنما أثيب كل إنسان على قدر عقله.
189- أما تجد فيه بعيراً لنا ضل
... ( وفيه أيضاً:
... قالت أم غزوان الرقاشي لابنها – ورأته يقرأ في المصحف – يا غزان؛ أما تجد فيه بعيراً لنا ضلَّ في الجاهلية؟ فما كهرها (انتهرها) وقال: يا أماه أجد فيه والله وعداً حسناً ووعيداً شديداً.
190- آباء وأمهات لم يلدوا
... ( أبو المنصور الثعالبي في ((ثمار القلوب في المضاف والمنسوب)):
(1/80)
... يقال: أبو مرة هو إبليس، وأبو يحيى وهو قابض الأرواح، وأبو دثار للكلة التي يتوقى بها من البعوض، وأبو رياح لتمثال فارس من نحاس بمدينة حمص على عمود حديد فوق قبة كبيرة بباب الجامع، يدور مع الريح حيث هبت، ويمينه ممدودة، وأصابعها مضمومة إلا السبابة، فإذا أشكل على أهل حمص مهب الريح عرفوا بأبي رياح، وقد يقال للرجل الطائش الذي لا ثبات له: أبو رياح تشبيهاً به.
... ويقال: أبو مالك كناية عن الجوع والكبر. قال الشاعر:
أبو مالك يعتادنا في الظهائر ... ... يُلمُّ فيلقي رحله عند جابر
... والعرب تسمي الخبز جابراً وعاصماً وعامراً، وإنما سمي الكِبر بهذه الكنية لأنه يملك الرجل فيلزمه ولا يفارقه.
... ويقال: أم القِرى للنار، وأم النجوم للمجرَّة، وأم خنور للدنيا وهي كنية الضبع، وأم الطعام للحنطة، وأم عامر للضبع، وأم عوف للجرادة، وأم طلحة للقملة، وأم ملدم للحمى، مأخوذة من الدم وهو ضرب الوجه حتى يحمر، وأم الخل للخمر، وأم عبيد للمغارة، وأم شملة للشمس، لأنها تشمل الخلق بطلوعها، وأم جابر للسنبلة، وأم الندامة للعجلة، وأم الفضائل للعلم، وأم الرذائل للجهل.
191- أسقط ثلاثة أرباع الكلام
... ( ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)):
... كان إبراهيم بن المهدي يطيل السكوت، فإذا تكلم انبسط، فقيل له ذات يوم: لو تكلمت؟ فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمنه كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته، فالفضل منه السلامة. ومنه كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقل مالك في تركه خفة المؤونة على بدنك ولسانك. ومنه كلام لا ترجو منفعته وتخشى عاقبته، وهذا هو الداء العضال. ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نشره.
... قال: فإذا هو قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام.
192- ذكاء وبخل
... ( الجاحظ في ((البخلاء)):
(1/81)
... قال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة. قال: وأنا لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك إلي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت، قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة، فانصرف الرجل عنه.
193- فائدة إسناد الحديث في عصرنا
... ( الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في ((مقدمته)):
... اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا (577-643) وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى، إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط في كتابه ضبطاً يصلح لأن يعتمد عليه في ثبوته؛ وإنما المقصود بها إبقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة زادها الله كرامة؛ وإذا كان كذلك، فسبيل من أراد الاحتجاج بحديث من ((صحيح مسلم)) وأشباهه، أن ينقله من اصل مقابل على يدي ثقتين بأصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة.
... وتعقبه النووي بأن كلام الشيخ هذا محمول على الاستحباب والاستظهار، وإلا فلا يشترط تعداد الأصول والروايات، فإن الأصل الصحيح المعتمد يكفي.
... أقول: وكتب السنة المشهورة المطبوعة المتداوَلة في أيدي أهل العلم اليوم يصح الاعتماد عليها لأنها طُبعت على أصل أو أصول صحيحة موثوقة.
194- ثلاثيات
... ( في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد (الاعتدال) في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضى، وثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) (رواه البيهقي والبزار وغيرهما).
... وفي الحديث الصحيح أيضاً: ((ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
(1/82)
... وفي الحديث عنه أيضاً: ((ثلاث من كنَّ فيه آواه الله في كنفه ونشر عليه رحمته وأدخله جنته: من إذا أعطي شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر)) (رواه الحاكم والبيهقي).
195- لو أحلّ الله الكذب ما كذبت
( السباعي في ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) في ترجمة الإمام الزهري (توفي 124 هـ) نقلاً عن ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (مخطوطة في مكتبة الأزهر، وهي مقروءة على المؤلف نفسه):
...
(1/83)
... سأل هشام بن عبدالملك سليمان بن يسار عن تفسير قوله تعالى في قصة الإفك: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فقال هشام: مَن الذي تولى كبره فيه؟ قال سليمان: هو عبدالله بن أبي سلول، فقال هشام: كذبت! إنما هو علي بن أبي طالب – ويظهر أن هشاماً لم يكن جاداً فيما يقول، ولكنه يريد أن يختبر شدتهم في الحق – فقال سليمان بن يسار: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، ثم وصل ابن شهاب (الزهري) فقال له هشام: من الذي تولى كبره منهم؟ فقال الزهري: هو عبدالله بن أبيّ بن سلول، فقال له هشام: كذبت إنما هو علي بن أبي طالب، قال الزهري وقد امتلأ غضباً/ أنا أكذب؟! لا أبا لك! فوالله لو ناداني مناد من السماء بأن الله أحل الكذب ما كذبت . . . حدثني فلان وفلان أن الذي تولى كبره منهم هو عبدالله بن أبي بن سلول، قال الشافعي (وهو راوي هذا الخبر): فما زالوا يغرون به هشاماً حتى قال له: ارحل فوالله ما كان ينبغي لنا أن نحمل عن مثلك (وكان الزهري تركبه الديون لكثرة كرمه فيقضي عنه الخلفاء ديونه الفترة بعد الفترة) قال ابن شهاب: ولمَ ذاك؟ أنا اغتصبتك على نفسي؛ أو أنت اغتصبتني على نفسي؟ فخل عني، قال له هشام: لا ولكنت استدنت ألفي ألف (مليونين) فقال الزهري: قد علمت وأبوك قبلك أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك، ثم خرج الزهري مغضباً، فقال هشام: إنا نهيج الشيخ! . . . ثم أمر فقضى عنه من دينه ألف ألف؛ فأخبر بذلك فقال: الحمدلله الذي هذا هو من عنده! . .
196- من وصايا المعمرين
( أبو حاتم السجستاني في ((المعمرون)) في حديثه عن أكثم بن صيفي الذي عاش مائتي سنة على ما يزعم الرواة:
...
... قالوا: وكتب النعمان بن المنذر إلى أكثم بن صيفي – وذكر ملك من ملوك فارس رجال العرب وعداوة بعضهم لبعض وحالهم في بلادهم – فقال فارسي: هذا لخفة أحلامهم وقلة عقولهم.
(1/84)
... فكتب المنذر إلى أكثم أن اعهد إلينا أمراً نُعجب به فارس، ونرغبهم به في العرب؛ فكتب اكثم:
... ((لن يهلك امرؤ حتى يُضيّع الرأي عند فعله، ويستبد على قومه بأموره، ويُعجب بما ظهر من مروءته ويغتر بقوته والأمر يأتيه من فوقه، وليس للمختال في حسن الثناء نصيب؛ والجهل قوة الخُرْق، والخُرق قوة الغضب، وإلى الله تصير المصائر، ومن اتى مكروهاً إلى أحد فبنفسه بدأ، إن الهلكة إضاعة الرأي، والاستبداد على العشيرة يجر الجريرة، والعُجب بالمروءة دليل على الفسولة (قلة العقل والدناءة)، ومن اغتر بقوته فإن الأمر يأتيه من فوقه. لقاء الأحبة مسلاة للهمِّ. من أسر ما لا ينبغي إعلانه، ولم يعلن للأعداء سريرته، سلم الناس عليه، والعي أن تكلم بفوق ما تسد به حاجته، وأقل الناس راحةً الحقود، ومن أتي على يديه غير عامد فاعفه من الملامة، ولا تعاقب على الذنوب إلا بقدر عقوبة الذنب فتكون مذنباً، ومن تعمد الذنب لم تحُل الرحمة دون عقوبته، والأدب رفق، والرفق يُمن، والخرق شؤم، وخير السخاء ما وافق الحاجة؛ وخير العفو ما كان مع القدرة، ومن سوء الأدب كثرة العتاب، ومن اغتر بقوته وهن، ولا مروءة لغاش، ومن سفه حلمه هان أمره، والأحداث تأتي بغتة، وليس في قدرة القادر حيلة، ولا صواب مع العجب، ولا بقاء مع بغي، ولا تثقنَّ بمن لم تختبره)).
197- يدعو الله أن يكسر يداً ليجبرها
... ( أبو بكر بن عبدالله بن أيبك الدواداري في ((كنز الدرر)):
(1/85)
... وفيها (أي سنة ثلاثين وسبعمائة) حصل للمقام الشريف (السلطان الناصر بن السلطان قلاوون) ما حصل من التوعك بسبب يده الشريفة وقاها الله المحذورات، وبسطها وإن كانت لم تزل مبسوطة في الخيرات؛ وكان التوعك بهذا السبب مدة سبعة وثلاثين يوماً، ولقد بلغ العبد (أي المؤلف) أن المجبر الذي جبر الله الإسلام بصناعته يقال له: ابن أبي ستة، وكان حاله قد تضعضع (أي أصبح في فقر وحاجة) فكان أكثر أوقاته يقول دعائه: يا الله كسرة بجبرة! فلما جبر الله تعالى الإسلام بعافية يد سيد ملوك الأنام، حصل له (للمجبر) من البر والإحسان والإنعام، ما جبر به كسره العام! .
198- الزنبور والعصفور الأعمى
... ( ابن كثير في ((البداية والنهاية)):
... حكي عن الشيخ الصالح عز الدين عبدالعزيز بن عبدالمنعم بن الصقيل الحراني (594- 686) أنه قال: كنت مرة بقليوب (من قرى مصر) وبين يدي صبرة قمح، فجاء زنبور فأخذ حبة واحدة ثم ذهب بها، ثم جاء فأخذ أخرى ثم ذهب بها، ثم جاء فأخذ أخرى، أربع مرات، فاتبعته فإذا هو يضع الحبة في فم عصفور أعمى بين تلك الأشجار التي هناك.
199- قحط البلاد وانهيارها الاقتصادي مطمعة للأعداء
... ( الحافظ الذهبي في ((العبر)):
... وفيها (سنة أربع وخمسين وثلاثمائة) بنى الدمستق نقفور مدينة الروم وسماها ((قيسارية)) وقيل: قيصرية، وسكنها ليغير كل وقت، وجعل أباه بالقسطنطينية، فبعث إليه طرسوس والمصيصة يخضعون له؛ ويسألونه يقبل منهم القطيعة كل سنة، وينفذ إليهم نائباً له، فأجابهم، ثم علم ضعفهم وشدة القحط عليهم، وأن أحداً لا ينجدهم، وأن كل يوم يخرج من طرسوس ثلاثمائة جنازة، فرجع عن الإجابة، وخاف إن تركهم حتى تستقيم أحوالهم أن يتمنعوا عليه، فأحرق الكتاب على رأس الرسول، فاحترقت لحيته، وقال: امضِ، ما عندي إلا السيف، ثم نازل المصيصة فأخذها بالسيف واستباحها، ثم افتتح طرسوس بالأمان، وجعل جامعها اصطبلاً لخيله، وحصن البلد وشحنها بالرجال.
(1/86)
200- تنزل فيه أربع آيات
... ( الزركشي في ((البرهان)):
... روى البخاري في كتاب ((الأدب المفرد)) في بر الوالدين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: نزلت فيَّ أربع آيات من كتاب الله عز وجل: كانت أمي حلفت ألاَّ تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) والثانية أني كنت أخذت سيفاً (أي من المغانم) فأعجبني، فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا، فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) والثالثة أني كنت مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني أريد أن أقسم مالي، أفأوصي بالنصف؟ فقال: لا، فقلت: الثلث؟ فسكت؛ فكان الثلث بعد جائزاً. والرابعة أني شربت الخمر (قبل أن ينزل التحريم البات) مع قوم من الأنصار، فضرب رجل منهم أنفي بلحي جمل (العظم الذي تنبت فيه اللحية) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تحريم الخمر.
201- من روائع تشبيهات ابن الرومي
... ( الحصري القيرواني في ((جمع الجواهر)):
... ومن تشابيهه (ابن الرومي) العُقْمِ (في وصف الخباز والرغيف بين يديه):
ما أنس لا أنس خبازاً مررت به ... ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... ... ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... ... ... في صفحة الماء يُرمى فيه بالحجر
202- ثراء وبله وغفلة
... ( وفيه أيضاً:
(1/87)
... كان بمصر شريف من ولد أبي العباس يعرف بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة والجد (الثراء) والنعمة. قال أبو القاسم ابن محمد التنوخي: بعثني إليه أبي من قرية تعرف بـ ((تلا)) يستقرضه عشرة أرادب قمحاً؛ وثلاثين زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة، فأتيت إليه وسلمت عليه ودفعت إليه الرقعة فقال: ذكرت أباك بخير وحرسه (الله) وأسعده، فهو صاحبي وصديقي وخليطي، وأين هو الآن؟ قلت بقرية ((تلا)) أعز الله سيدي الشريف. قال: نعم حفظه الله هو بالفسطاط معنا!. زقد انقطع عنا كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً؛ قلت: لا يا سيدي هو بـ ((تلا)) قال: فما لك؟ ما قلت لي؟ فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله؟ قلت: يا سيدي قد دفعت إليك رقعة. قال: وأين هي؟ قلت: تحت البساط، فأخذها وقرأها وقال: قل لي الآن: كان لك اخ أعرفه حار الرأس حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به؟ أنا هو أعزك الله! قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه وانت بزقة مخطة لعقة قردلاش؟! . . قلت: نعم أيد الله الشريف، قال: وما الذي جئت فيه؟ قلت له: والدي بعثني إليك برقعة يسألك فيها قرض عشرة أرادب قمحاً، وثلاثين زوج بقر؛ قال: وهو الآن بالفسطاط؟ قلت: لا يا سيدي هو بـ ((تلا)) قال: نعم، وإنما ذاك الفتى أخوك؟ قلت: لا، أنا هو، فهو يراجعني بالكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته وكثرة نسيانه لما أقوله، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين، فقال: سل هذا الفتى ما أراد، فسألني فعرّفته فأخبره، فقال له: نفذ له حاجته، فوقَّع لي الكاتب بما أراد، وقال: تلقاني للقبض بالديوان، فشكرت الشريف ونهضت.
(1/88)
... فقال: اصبر يا بني فقد حضر طعامنا، وقدم الطعام وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده وقال: مثل مطبخي يكون فيه مثل هذه؟ عليَّ بالطباخ، فأتى، فقال له: ما هذا العمل؟ فقال: يا سيدي إنما أنا صانع، وعلى قدر ما أُعطى أعمل، وقد سألت المشتري ينفق ما أحتاج إليه، فتأخر عني فعملت على غير تمكن، فجاء التقصير كما ترى.
... فقال: عليَّ بالمنفق، فحضر؛ فقال: مالي قليل؟ قال: لا يا سيدي بل عندك نعم واسعة، قال: فما لك تضايقنا في النفقة ولا توسع كما وسع الله علينا؟ قال: يا سيدي إنما أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ (الذي ينفذ أوامر الرئيس) أن يدفع لي، فتأخر عني.
... فقال: عليَّ بالجهبذ، فأتي به، فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً؟ قال: لم يوقّع لي الكاتب، فقال للكاتب: لمَ لم تدفع إليه شيئاً؟ فتلعثم في الكلام ولم يكن عنده جواب، فقال للكاتب: قف هاهنا، فوقف ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ، وقال: نفيت من العباس إن لم يصفع كل واحد منكم من يليه فأكثر ما يقدر عليه، فتصافعوا، قال: فخرجت وأنا متعجب من غباوته ودقته في هذا الحكم.
203- عزمات
... ( في كتب التراجم:
... كان أبو مسلم الخولاني يقوم الليل، فإذا أدركه الإعياء ضرب رجليه قائلاً: أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه أن يفوزوا به دوننا، والله لأزاحمنَّهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا من بعدهم رجالاً! . . .
204- إذا مات أصدقاء الرجل ذل
... ( القاضي ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)):
... وأنبأنا يوسف بن محمد المهرواني، حدثنا عبدالواحد بن عبدالعزيز التميمي قال: سمعت المطيع الخليفة على المنبر يقول يوم عيد: سمعت شيخي عبدالله بن محمود البغوي يقول: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل.
205- إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك
... ( وفيه أيضاً:
(1/89)
... وقال أبو العباس محمد بن أحمد بن الصلت: سمعت عبدالرحمن المتطبب – يعرف بطبيب السنة – دخلت على أحمد بن حنبل أعوده فقلت: كيف تجدك؟ فقال: أحمد الله إليك، أنا بعين الله، ثم دخلت على بشر بن الحارث فقلت: كيف تجدك؟ فقال: أحمد الله إليك، أجد كذا، أجد كذا، فقلت: أما تخشى أن يكون هذا شكوى؟ فقال: حدثنا المعافى بن عمران عن سفيان بن سعيد عن منصور عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا: سمعنا عبدالله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك)) فدخلت على أحمد بن حنبل فحدثته، فكان إذا سألته قال: أحمد الله إليك أجد كذا وكذا.
206- صنوف الإخوان
... ( الراغب الأصبهاني في ((محاضرات الأدباء)):
... قال لقمان: الإخوان ثلاثة: مخالب، ومحاسب، ومراغب، فالمخالب الذي ينال من معروفك ولا يكافئك، والمحاسب الذي ينيلك بقدر ما يصيب منك، والمراغب الذي يرغب في مواصلتك بغير طمع.
... وقال المأمون: الإخوان ثلاثة: أخ كالغذاء لا يحتاج إليه كل وقت، وأخ كالدواء يحتاج إليه أحياناً، وأخ كالداء لا يحتاج إليه أبداً.
207- من أنصار عنترة
... ( وفيه أيضاً:
... قال عنترة:
ولقد خشيتُ بأن أموت ولم تدُر ... ... للحرب دائرة على ابنَي ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... ... ... والناذرين إذا لقيتهما دمي
... وحكي عن أبي عمرو ابن العلاء قال: انصرفت من الجامع في الهاجرة (شدة الحر في منتصف النهار) فلقيني عيّار (البطال الذي يتردد بلا عمل يخلي نفسه وهواها) قد جرد سكيناً فوضعها تجاه قلبي وقال: كيف تروي بيتي عنترة؟ فأنشدتهما كما تقدم، فقال: والله لولا أنني أخشى أن أفجع فيك أهل الأرض لقتلتك! ما كان عنترة يستجدي هذا الاستجداء، إنما قال:
الشاتمي عرضي بما هو فيهما ... ... والناذرين إذا لقيتهما دمي
208- من أعذار المنهزمين في المعارك
... ( وفيه أيضاً:
(1/90)
... قيل لرجل: إنك انهزمت! فقال: غَضَبُ الأمير عليَّ وأنا حي خير من أن يرضى وأنا ميت! وقال زفر بن الحارث:
ألا لا تلوماني على الجبن إنني ... ... أخاف على فخارتي أن تحطما
ولو أنني أبتاع في السوق مثلها ... ... إذا شئت ما باليت أن أتقدما
... وقال آخر:
يقول لي الأمير بغير نصح ... ... ... تقدم! حين جدَّ بنا المراس
وما لي إن أطعتك من حياة ... ... ... وما لي بعد هذا الرأس راس
...
وهرب الوليد من الطاعون فقيل له: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)) فقال: ذلك القليل أطلب.
... وقيل لرجل يوم صفين قد انهزم: ما خبر الناس؟ فقال: من صبر أخزاه الله، ومن انهزم نجاه الله!
209- نصرة أهل الحق بعضهم لبعض
... ( ابن كثير في ((تفسيره)) في تفسير قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ):
... أي هو حق أوجبه تعالى على نفسه تكرماً وتفضلاً كقوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا موسى بن أيمن عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة)) ثم تلا هذه الآية: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
210- تزاور أرواح المؤمنين
... ( وفيه أيضاً:
(1/91)
... والسلف مجمعون على هذا (أي أن الميت يرد السلام على من يزور قبره) وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر. فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم)) وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد متَّ؟ قال: بلى! قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبدالله المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات قد بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
211- عرض أعمال الأحياء على الموتى
... ( وفيه أيضاً:
... وأبلغ من ذلك الميت يعلم بعمل الحي من اقاربه وإخوانه. قال عبدالله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد عن إبراهيم عن أيوب قال: تعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع به. وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا محمد أخي، قال: دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح (العباسي) وهو على فلسطين، فقال: عظني، فقال: بمَ أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته.
212- ما أضيف إلى اسم الله تعالى
... ( الثعالبي في ((ثمار القلوب)):
(1/92)
... أهل الله: كان يقال لقريش في الجاهلية: عترة الله: لآل البيت، بيت الله: للكعبة، أسد الله: لحمزة، سيف الله: لخالد، قوس الله: لقوس قزح، رمح الله: للكوفة، كلب الله: للأسد، ميزان الله: للعدل.
213- أحمق! . .
... ( الراغب الأصبهاني في ((محاضرة الأبرار)):
... سئل أعرابي عن رجل فقال: لو كان في بني إسرائيل ووقعت قصة البقرة ما ذبحوا غيره!
... وقيل: ليس مع فلان من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه إذا أمر به إلى النار.
... وقال آخر:
رَبِّ ما أبين التباين فيه ... ... منزل عامر وعقل خراب!
214- قيمة المرء عمله
... ( وفيه أيضاً:
... قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: قيمة كل امرئ ما يحسنه، وأخذ ابن طبابا هذا المعنى فقال:
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ... ويضحى كئيب المال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم دائباً ... ... أجمع من عند الرواة فنونه
فيا عاذلي دعني أغالي بقيمتي ... ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
215- الميزان الأكبر
... ( الخطيب البغدادي في ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)):
... عن سفيان بن عيينة كان يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء على خلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل.
216- يتعلمون العمل كما يتعلمون العلم
... ( وفيه أيضاً:
... وقال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، وبعث ابن سيرين رجلاً فنظر كيف هدي القاسم (أحد الفقهاء السبعة في المدينة) وحاله.
217- الحديث كالنار
... ( وفيه أيضاً:
... كان أبو زكريا العنبري يقول: علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسد، وإنما شبهت العلم بالنار لما روينا عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما وجدت للحديث شبهاً إلا النار نقتبس منها ولا ينتقص عنها.
218- عليَّ أن أقرر حقاً وإن أجحف ببيت المال
... ( الماوردي في ((الأحكام السلطانية)):
(1/93)
... جلس المهدي يوماً للمظالم، فرفعت إليه قصص في الكسور (ضرائب كانت تؤخذ من الشعب) فسأل عنها، فلما تأكد من ظلم الناس بها قال: معاذ الله أن ألزم الناس ظلماً تقدم العمل به أو تأخر، أسقطوه عن الناس! فقال الحسن بن مخلد: إن أسقط أمير المؤمنين هذا، ذهب من أموال السلطان (الدولة) في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم (اثنا عشر مليوناً) فقال المهدي: عليَّ أن أقرر حقاً وأزيل ظلماً وإن أجحف ببيت المال.
219- ما قيل في الثقلاء
... ( الحافظ ابن حبان البستي في ((روضة العقلاء)):
... الاستثقال من الناس يكون سببه شيئين: أحمدهما مقارفة المرء ما نهى الله عنه من المآثم، لأن من تعدى حدود الله، أبغضه الله، ومن أبغضه الله أبغضته الملائكة، ثم يوضع له البغض في الأرض، فلا يكاد يراه أحد إلا استثقله وأبغضه.
... والسبب الآخر هو استعمال المرء من الخصال ما يكره الناس منه، فإذا كان كذلك استحق الاستثقال منهم، وأنشدني الكريزي (في شخص ثقيل):
ليتني كنت ساعة ملكَ المو ... ... ت فأفني الثقال حتى يبيدوا
ولوَ أني وأنت في جنة الخلـ ... ... د لقلت: الخروج منها أريد
لَدخولُ الجحيم أهونُ من ... ... جنةِ خُلدٍ أراك فيها ترود
... وقال مخلد: إذا أبغضت الرجل أبغضت شقي (جانبي) الذي يليه.
... وقال المقنع الكندي في بعض من صحبه:
إلا يا مركب المقت الذ ... ... ي أرسى فلا يبرحْ
ويا من سكرات المو ... ... ت من طلعته أروح
لقد صورت في فكري ... ... فلا أدري لما تصلح؟
فلا تصلح أن تهجى ... ... ... ولا تصلح أن تمدح
بلى؛ تصلح أن تقتل ... ... ... أو تصلب أو تذبح
وعن ابن سيرين قال: سمعت رجلاً من أهل البادية يقول: نظرت إلى ثقيل مرة فغشي عليَّ، وكان أبو هريرة إذا استثقل جليساً له قال: اللهم اغفر لنا وله، وأرحنا منه في عافية!
220- إذا كنت في قوم عور فغمض عينك الواحدة
... ( وفيه أيضاً:
(1/94)
... من التمس رضى جميع الناس التمس ما لا يدرك، ولكن يقصد العاقل رضى من لا يجد من معاشرته بداً، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، واستقباح أشياء كان يستحسنها ما لم يكن مأثماً، فإن ذلك من المداراة، وما أكثر من دارى فلم يسلم، فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟ أنشدني محمد بن عبدالله البغدادي:
يا ذا الذي أصبح لا والدٌ ... ... له على الأرض ولا والدة
قد مات من قبلهما آدم ... ... فأي نفس بعده خالدة؟
إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... ... عور فغمض عينك الواحدة
221- معنى ((كاد)) في الإثبات والنفي
... ( النووي في ((شرح صحيح مسلم)):
... قال أهل اللغة: ((كاد)) موضوعة للمقاربة؛ فإن لم يتقدمها نفي كانت لمقاربة الفعل ولم يفعل، كقوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) وإن تقدمها نفي كانت للفعل بعد بطء، وإن شئت قلت: لمقاربة عدم الفعل، كقوله تعالى: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ).
222- لطيفتان في إسناد واحد
... ( وفيه أيضاً:
... وأما قول مسلم: وحدثني أبو سعيد الأشج قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش عن المسيب بن راقع عن عامر بن عبدة إلخ . . . فهذا إسناد اجتمع فيه طرفتان من لطائف الإسناد: (إحداهما) أن إسناده كوفي كله، والثانية أن فيه ثلاثة تابعين يوري بعضهم عن بعض، وهم الأعمش، والمسيب وعامر، وهذه فائدة نفيسة قلّ أن يجتمع في إسنادٍ هاتان اللطيفتان.
223- فطنة من سفير
... ( الحافظ الذهبي في ((تذكرة الحفاظ)):
... وجه عبد الملك الشعبي (هو عامر بن شراحيل الشعبي المحدث الفقيه علاَّمة التابعين) رسولاً إلى ملك الروم، قال الشعبي: فلما عدت قال لي عبدالملك: يا شعبي! تدري ما كتب به إليَّ ملك الروم؟ كتب إليَّ: العجب لأهل دينك كيف لم يستخلفوا رسولك؟ قال الشعبي: فقلت: يا أمير المؤمنين لأنه رآني وما رآك، ذكرها الأصمعي وزاد فيها: إنما أراد أن يغريني بقتلك! فبلغ ذلك ملك الروم فقال: ما أردت إلا ذاك.
(1/95)
224- ذاك عرس لم أشهده
... ( وفيه أيضاً:
... أتى رجل الشعبي فقال: ما اسم امرأة إبليس؟ فقال الشعبي: ذاك عرس ما شهدته.
225- بسم الله الرحمن الرحيم
... ( القرطبي في ((تفسيره)):
... قال العلماء: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده أن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وأني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) مما أنزله الله في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصاً بعد سليمان عليه السلام، وقال بعض العلماء: إن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح.
226- ما يريد عبدالله من زيد
... ( ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)):
... قال بعض الوراقين:
رأيت يا حماد في الصيد ... ... أرنباً تؤخذ في الأيدي
إن ذوي النحو لهم أنفس ... ... معروفة بالمكر والكيد
يضرب عبدالله زيداً وما ... ... يريد عبدالله من زيد؟
227- متى تصمت ومتى تتكلم
... ( وفيه أيضاً:
... قال رجل لعمر بن عبدالعزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت أن تصمت، قال: فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت أن تتكلم . . .
228- فتيس خير منه! . .
... ( ابن بشكوال في ((الصلة)):
... أنشدني محمد بن حزم قال: أنشدني أبو عمرو البيَّاني:
إذا القرشي لم يشبه قريشا ... ... بفعلهم الذي بذَّ الفعالا
فتيس من تيوس بني تميم ... ... بذي العَبَلات أحسنُ منه حالا
229- من دهاء عمرو بن العاص
... ( محمد بن يحيى بن بهران الصعدي في حواشيه على ((البحر الزخار)):
... خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب ابنته؛ فأنعم له (أي أبدى له الموافقة) فشق ذلك على ابنه عبدالله، فذكر ذلك لعمرو بن العاص وسأله أن يدبر (أي يحاول عدم تمام هذا الأمر) فأتى عمرو سلمان فقال له: هنيئاً لك يا أبا عبدالله! تواضع لك عمر! . . فقال سلمان: لي تواضع؟! والله لا تزوجتها.
230- كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم
(1/96)
... ( أبو العباس القَلْقَشندي في ((صبح الأعشى)):
... وقد رأيت في سيرة لبعض المتأخرين أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم نَيِّف وثلاثون كاتباً: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فهيرة، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وأبان أخوه؛ وسعيد أخوهما، وعبدالله بن الأرقم الزهري؛ وحنظلة بن الربيع الأسدي، وأبيّ بن كعب، وثابت بن قيس بن شمَّاس، وزيد بن ثابت، وشرحبيل بن حسنة، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن زيد، وجُهَيْم بن الصلت، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبدالله بن عبدالله بن أبيّ، ومعيقب بن أبي فاطمة، وطلحة بن يزيد بن أبي سفيان، ووالأرقم بن الأرقم الزهري، والعلاء بن عتبة، وأبو أيوب الأنصاري، وبُرَيدة بن الحصيب، والحُصين بن نمير، وأبو سلمة المخزومي، وحويطب بن عبدالعزى، وأبو سفيان بن حرب، وحاطب بن عمرو، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وكان ألزمهم له في الكتابة معاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت.
231- كتّاب الخلفاء الراشدين
... ( وفيه أيضاً:
... وكتب لأبي بكر رضي الله عنه: عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعثمان هو الذي كتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة عن أبي بكر رضي الله عنه.
... وكتب لعمر رضي الله عنه: زيد بن ثابت، وعبدالله بن خلف.
... وكتب لعثمان رضي الله عنه: مروان بن الحكم.
... وكتب لعلي رضي الله عنه: عبدالله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعيد بن نجران الهمداني.
... وكتب للحسن بن علي رضي الله عنهما: عبدالله بن أبي رافع كاتب أبيه.
232- ثلاثة لا تحتملها الملوك
... ( وفيه أيضاً:
... قال المأمون وهو من أعلى الخلفاء مكاناً وأوسعهم علماً: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القَدْح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحُرَم.
233- وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل!
(1/97)
... ( وفيه أيضاً:
... حكي عن علي بن الجهم أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين المتوكل، فرأيت الفتح بن خاقان وزيره واقفاً على غير مرتبته التي يقوم عليها، متكئاً على سيفه، مطرقاً إلى الأرض، فأنكرت حاله، وكنت إذا نظرت إليه نظر الخليفة إليّ، وإذا صرفت وجهي إلى نحو الخليفة أطرق، فقال لي الخليفة: يا علي أنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما هو؟ قلت: وقوف الفتح بن خاقان في غير منزلته، قال: وسوء اختياره أقامه ذلك المقام، قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند جارية لي فأسررت إليه سراً فما عداني السرُّ أن عاد إليَّ! قلت: لعلك أسررت إلى غيره؟ قال: ما كان هذا. قلت: فلعل مستمعاً استمع إليكما؟ قال: لا ولا هذا أيضاً، قال: فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي فقلت: يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً، قال: وما هو؟ قلت: خبر أبي الجوزاء، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلَّقت امرأتي في نفسي وأنا بالمسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: طلقتني يا أبا الجوزاء؟ قلت: من أين لك هذا؟ قالت: حدثتني به جارتي الأنصارية. قلت: ومن أين لها هذا؟ قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك، قال: فغدوت على ابن عباس رضي الله عنهما، فقصصتُ عليه القصة فقال: أما علمت أن وسواس الرجل يحدثُ وسواس الرجل؟ فمن هنا يفشو السر.
... فضحك المتوكل وقال: إليَّ يا فتحُ! فصب عليه خلعة، وحمله على فرس، وأمر له بمال؛ وأمر لي بدونه، فانصرفت إلى منزلي: وقد شاطرني الفتح فيما أخذ، فصار إليَّ الأكثر . .
234- لغويات
... ( في ((لسان العرب)):
(1/98)
... ((أجَأ)) على وزن فَعَل بالتحريك: جبل لطيء يُذَكَّر ويؤنَّث. وهناك ثلاثة أجبل: أجَأ، وسلمى؛ والعوجاء. وذلك أن أجأ اسم رجل تعشق سلمى وجمعتهما العوجاء، فهرب أجأ بسلمى، وذهبت معهما العوجاء، فتبعهم بعل سلمى فأدركهم وقتلهم، وصلب اجأ على أحد الأجبل، فسمي أجأ، وصلب سلمى على الجبل الآخر، فسمي بها، وصلب العوجاء على الثالث؛ فسمي باسمها.
235- من أخلاق العلماء
... ( الجبرتي في ((تاريخه)) في حوادث سنة 1233 هـ:
... وممن مات من الأعيان في هذه السنة شيخ الإسلام الشيخ الشنواني شيخ جامع الأزهر، وكان مهذب النفس بالتواضع والانكسار لكل أحد من البشاشة. وكان يشمر ثيابه؛ ويخدم الجامع الفاكهاني بنفسه فيكنسه ويسرج قناديله، ولما انتقل إلى رحمة الله الأستاذ الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر سنة 1226 هرب الشيخ الشنواني من مصر؛ فأحضروه من الريف؛ وولوه نشيخة الأزهر، واستمر على ملازمته لخدمة الفاكهاني كما كان. وأقبلت عليه الدنيا آخر عمره، وعارضته العلل عن التهني بملاذها إلى أن توفي رحمه الله.
236- حين يجوع الشعب!
... ( وفيه أيضاً في حوادث المحرم سنة 1107 هـ:
... اجتمع الفقراء والشحاذون؛ رجالاً ونساءً وصبياناً، وطلعوا إلى القلعة، ووقفوا بحوش الديوان؛ وصاحوا من الجوع، فلم يجبهم أحد؛ فرجموا بالأحجار، فركب الوالي وطردهم، فنزلوا إلى الرملية ونهبوا حواصل الغلة التي بها وكالة القمح وحاصل كتخدا الباشا، وكان ملآناً بالشعير والفول. وكانت هذه الحادثة ابتداء الغلاء . .
... وحضر أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت بهم الأزقة، واشتد الكرب حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من اهلها؛ وخطف الفقراء الخبز من الأسواق ومن الأفران، ومن على رؤوس الخبازين، ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطف وبأيديهم العصي حتى يخبزونه بالفرن ثم يعودون به.
237- عندما يثور الشعب على تسلط اليهود!
(1/99)
... ( وفيه أيضاً في حوادث سنة 1108 هـ:
... قامت العساكر على ياسف اليهودي وقتلوه وجروه من رجله وطرحوه في الرملية؛ وقامت الرعايا، فجمعوا حطباً وأحرقوه، وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة. وسبب ذلك، أنه كان ملتزماً بدار الضرب (دار سك النقود للدولة) في دولة علي باشا المنفصل. ثم طلب إلى إسلامبول (استانبول) فسئل عن أحوال مصر فأملى أموراً، والتزم بتحصيل الخزينة زيادة على المعتاد؛ وحسَّن بمكره إحداث محدثات (إحداث ضرائب جديدة) ولما حضر مصر تلقته اليهود من بولاق وأطلعوه إلى الديوان، وقرئت الأوامر التي حضر بها، ووافقه الباشا على إجرائها وتنفيذها، وأشهر النداء بذلك في شوارع مصر، فاغتمّ الناس، وتوجه التجار وأعيان البلد إلى الأمراء، وراجعوهم في ذلك؛ فركب الأمراء والسناجق وطلعوا إلى القلعة، وفاوضوا الباشا، فجاوبهم بما لا يرضيهم؛ فقاموا عليه قومة واحدة، وسألوه أن يسلمهم اليهودي، فامتنع من تسليمه، فأغلظوا عليه وصمموا على أخذه منه؛ فأمرهم بوضعه في العرقانة، ولا يشوشوا عليه حتى ينظروا في أمره، ففعلوا به كما أمرهم، فقامت الجند على الباشا، وطلبوا أن يسلمهم اليهودي المذكور ليقتلوه فامتنع، فمضوا إلى السجن وأخرجوه وفعلوا به ما ذكر.
238- لا يليق بالمسلمة لبس ما يصف جسمها
... ( عبدالله عفيفي في ((المرأة العربية)):
... أهدى المنذر إلى أمه أسماء بنت أبي بكر ثياباً رقاقاً – وكانت قد عميت – فلما لمستها ردتها. فقال لها ابنها: إنها لا تشف. فقالت: إن لم تشف فإنها تصف.
( ( (
(1/100)