بسم الله الرحمن الرحيم القرآن الكريم هو دستور الله الخالد الذى جاء يخرج الناس من الظلمات الى النور.. ظلمات الشرك والجهل والعبودية والتخلف.. الى نور التوحيد والعلم والحرية والحضارة. وقد شاء الله العظيم أن يبدأ نزول القرآن الكريم فى شهر رمضان الكريم، وقد كان نزوله فى هذه الليلة المباركة.. ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر.. فكانت- هذه الليلة- هى عيد ميلاده الشريف، الذى ولدت معه الأمة الفتية التى سادت العالم، ونشرت فيه المدنية والحضارة، وأقرت بين ربوعه.. الأمن والسلام.. هذه الأمة التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وهذا الكتاب " القرآن وليلة القدر" نظرات تأمل وفكر فى كتاب الله الكريم، وسياحة مفعمة بالأمل والرجاء فى رحاب ليلة عيد ميلاده العظيم، يقدمها ثلاثة من كبار علمائنا ومفكرينا هم: فضيلة العالم الجليل الشيخ محمد الغزالى، والدكتور محمد سيد طنطاوى مفتى الجمهورية، والدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ مادة الحديث الشريف فى جامعة الأزهر. انهم يقدمون هذه النظرات فى ضوء القرآن الكريم والسيرة النبوبة والحديث الشريف، فى محاولة للتعريف بهذا الدستور الالهى الخالد، وليلته العظيمة.. هدية لهذه المناسبة الكريمة.. وتحية للقارىء الكريم.
ص _004
الإعجاز القرآني الإعجاز النفسي ..كيف ؟ الإعجاز العلمي .. وأمثلة شتى ! الإعجاز البياني .. وهذا التفرد !! القرآن مدهش .. من أى وجه كان ! ص _005(1/1)
الاعجاز النفسى.. كيف؟ احتوى القرآن على شرائع الإسلام وأصول دعوته. لكن هذه الشرائع والأصول لا تستغرق جزءاً كبيراً منه، فإن الإسلام دين يسير الرسالة، محدود التكاليف، وإنما كثرت السور واستبحرت الآيات لكى يمكن عرض الحقائق الدينية فى أسلوب عامر بالإقناع، فياض بالأدلة! نعم تستطيع حصر أحكام القرآن، وزبدة عقائده وتعاليمه فى بضع صفحات. وبضع صفحات ليست شيئا هينا، إنها تتسع لحشد كبير من المعارف الثمينة. بيد أن الوحى الإلهى ليس مجموعة من العلوم رصت فى كتاب ثم قدمت للناس. إن عماد هذا الوحى- بعد تقرير الحق الذى جاء به- هو: كيف يغرس هذا الحق فى النفوس، وكيف تفتح أقطارها له، وكيف تبقى عليه وإن تعرضت للفتن، وكيف يبقى فيها وإن زاحمه الباطل وضيق عليه الخناق بصنوف المحرجات...!!! إن وحدانيه الله جل جلاله أم العقائد الإسلامية، ومبدأ التوحيد لا يحتاج فى بيانه إلى كراسات أو مجلدات، بل كلمة التوحيد تكتب فى سطر وتنطق فى لحظات، فهل كذلك الأمر فى إشراب القلوب حقيقة التوحيد؟ وتتبع مسالك الإنسان لنفى الشرك عنها، وإلزامها الصراط المستقيم؟ وسرد تاريخ الأمم الأولى، وكيف اجتالتها الشياطين عن الفطرة، فاتخذت من دون الله أوثاناً؟ وكيف لقيت المصير الأسود الذى يجب أن تتعظ به الأجيال الجديدة بعد بوار القرون السابقة؟.. الأمر هنا يحتاج الى إفاضة واستطراد حتى يستطاع التغلب على طبيعة الإنسان المعاندة، وإغلاق كل منفذ يمكن أن تهرب منه. ولذلك يقول الله عز وجل: "ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" قد يجد فى القرآن حقيقة علمية مفردة، ولكن هذه الحقيقة تظهر فى ألف ثوب، وتتوزع تحت عناوين شتى، كما تذوق السكر فى عثرات من الطعوم والفواكه، وهذا التكرار مقصود، وإن لم تزد به الحقيقة العلمية فى مفهومها. ِذلك أن الغرض ليس تقرير الحقيقة فقط ، بل بناء الأفكار والمشاعر عليها ، ص _006(1/2)
والتقاط آخر ما تختلقه اللجاجة من شبهات وتعلات، ثم الكر عليها بالحجج الدامغة حتى تبقى النفس وليس أمامها مفر من الخضوع للحق والاستكانة لله. وعندى أن قدرا كبيرا من إعجاز القرآن الكريم يرجع الى هذا. فما أظن إمرأً سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم يزعم أنه لم يتأثر به. قد تقول: وَلِم يتأثر به؟ والجواب أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية- من ناحية الحقائق الدينية- إلا ويعرض القرآن له بالهداية وسداد التوجيه. ما أكثر ما يفر المرء من نفسه، وما أكثر الذين يمضون فى سبل الحياة هائمين على وجوههم، ما تمسكهم بالدنيا إلا ضرورات المادة فحسب.إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يرد الصواب الى أولئك جميعاً ، وكأنه عرف ضائقة كل ذى ضيق، وزلة كل ذى زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعى أين تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا وهناك، لا يغيب عن بصره ولاعن عطفه واحد منها. وذاك سر التعميم فى قول الله عز وجل : " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل " .حتى الذين يكذبون بالقرآن ويرفضون الاعتراف بأنه من عند الله. إنهم يقفون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل، قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليه، ولكنه يؤخذ فترة ما بصدق العاطفة الباكية. أو مثلما يقف الخلى أمام خطيب يقذر بالصدق، ويحدث العميان عن اليقين الذى يرى ولا يرون. إنه قد يرجع مستهزئا، ولكنه يرجع بغير النفس، التى بها جاء. والمنكرون من هذا النوع لا يطعنون فى التأثير النفساني للقرآن الكريم. كما أن العميان لا يطعنون فى قيمة الأشعة، ولذا يقول عز وجل: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد". ص _007(1/3)
وتصريف الأمثال للناس ترددهم بين صنوف المعانى الرائعة. قال العلماء فى شرح الآية: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل..) رددنا وكررنا من كل معنى كالمثل فى غرابته وحسنه، أو سقنا لهم وجوه العبر والأحكام والوعد والوعيد، والقصص وغير ذلك. والمقصود أن القرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التى تقهر تفوقه فى الجدل، أى بتقديم الدليل المفحم لكل شبهة، وتسليط البرهان القاهر على كل حجة. فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يكون كفراً عن تجاهل لا عن جهل وعن تقصير لاعن قصور. والجدل! آفة نفسية وعقلية معاً، والنشاط الذهنى للمجادل يمده حراك نفسى خفى قلما يهدأ بسهولة. وجماهير البشر لديها من أسباب الجدل ما يفوق الحصر، ذلك أنهم يرتبطون بما ألفوا أنفسهم عليه من أديان وآراء ومذاهب ارتباطاً شديداً، ويصعب عليهم الإحساس بأنهم وآباءهم كانوا فى ضلال- مثلا- فإذا جاءت رسالة عامة تمزق الغشاوات عن العيون، وتكشف للناس ما لم يكونوا يعرفون، فلا تستغربن ما تلقى من الإنكار والتوقف، أو التكذيب والمعارضة. وأسلوب القرآن فى استلال الجفوة من النفس، وإلقاء الصواب فى الفكر،أوفى على الغاية فى هذا المضمار. ذلك أنه لون حديثه للسامعين تلويناً يمزج بين إيقاظ العقل و الضمير معاً ، ثم تابع سوقه متابعة إن أفلت المرء منها أولا لم يفلت آخراً . كما يصاب الهدف حتما على دقة المرمى، وموالاة التصويب. وذلك هو تصريف الأمثال للناس، إنه إحاطة الإنسان بسلسلة من المغريات المنوعة لا معدى له من الركون الى إحداها. أو معالجة القلوب المغلقة بمفاتيح شتى، لابد أن يستسلم القفل عند واحد منها. وتراكيب القرآن ـ التى تنتهى حتما بهذه النتيجة ـ تستحق التأمل الطويل. ولسنا هنا بصدد الكلام عن بلاغتها، بل بصدد البحث عن المعاني التى تألفت منها، فكان من اجتماعها هذا الأثر الساحر. وهاك مثلا من مئات الأمثلة فى هذا الشأن، ترى في! حديثاً عن مظاهر(1/4)
الكون، ثم إيماء، إلى مشاهد القيامة، ثم تحذيراً للإنسان من الغفلة، ثم دفعا قويا إلى الطريق السوى لابد فيه من الجمع بين صلاح العقيدة وسلامة الحق وحسن العبادة ودقة المعاملة للناس أجمعين. ص _008
"كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر* كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين* *في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين ". إننى أقرأ هذه الآيات فأحس عملها القوى فى أرجاء نفسى، غير أننى لا أدرى سر هذا العمل القوى! الكلمات ومعانيها من جنس ما نعرف، أما آثارها فلسنا نعرف مأتاها، وإن تشبثت بأنفسنا الى أبعد الحدود. والشىء قد يكون فى إحدى حالاته مألوفاً لا يثير انتباها، فإذا أظهر هذا الشىء نفسه في أوضاع أخرى اكتنفته معان شتى ! ألا ترى الزخرفة فى فن الرسم تتكون من "وحدة" معينة؟ لو رأيت صورتها مفردة ما لفتت نظرك، فإذا كررها الرسام بطرق مختلفة برزت معالم الجمال فى أنواع من الزخارف تسحر الألباب. ثم إن إلفك الشىء قد يخفى ما فيه من أسرار، ويصرفك عن اكتشافها. و كثيرا ما تتلو آيات القرآن مثلما تتصفح آلاف الوجوه فى الطريق، ملامح تراها قد تكون دميمة، وقد تكون وسيمة، تمر أشكالها بالعين، فما ثبات على أحدها إلا قليلا و في ذهول. لأن المرء مشغول بشأنه الخاص عن دراسة القدرة العليا فى نسج هذه العيون، وغرس هذه الرؤوس، وصوغ تلك الشفاه ، وإحكام ما تنفرج عنه من أسنان، وما تؤدى إليه من أجهزة دوارة لا تقف لحظة. إننا نقرأ القرآن فيحجبنا ابتداء عن رؤية إعجازه. إنه كلام من جنس ما نعرف، وحروف من جنس ما ننطق، فنمضى فى القراءة دون حس كامل بالحقيقة الكبيرة. إلا أن طبيعة هذا القرآن لا تلبث أن تقهر(1/5)
برودة الإلف، وطول المعرفة،فإذا كتاب تتعرى أمامه النفوس، وتنسلخ من تكلفها وتصنعها، وتنزعج من ذهولها وركودها، وتجد نفسها أمام الله جل شأنه يحيط بها ويناقشها ويعلمها ويؤدبها، فما تستطيع أمام صوت الحق المستعلى العميق إلا أن تخشع وتصيخ . وكما قهر القرآن نوازع الجدل فى الإنسان وسكن لجاجته. تغلب على مشاعر الملل فيه، وأمده بنشاط لا ينفد. ص _009
والجدل غير الملل، هذا تحرك ذهنى قد يجسم الأوهام، ويحولها الى حقائق، وذاك موات عاطفى قد يجمد المشاعر، فما تكاد تتأثر بأخطر الحقائق. وكثير من الناس يصلون في حياتهم العادية الى هذه المنزلة من الركود العاطفى، فتجد لديهم بروداً غريباً بإزاء المثيرات العاصفة، لا عن ثبات وجلادة، بل عن موت قلوبهم، وشلل حواسهم..!! ونحن نعرف هذه الحالة فى طباع الناس، ونحاول علاجها بألوان المثيرات التى لا تخطر ببال. خذ مثلا عاطفة الحب الجنسى، إن هذه العاطفة مع ارتباطها بأعتى الغرائز الانسانية لم تترك للون واحد من المنشطات المادية والأدبية، بل تسابق الشعراء والمغنون، والملحنون والموسيقيون لمداعبة النفس الإنسانية بألوان من الغناء واللحن والعزف تفوق الحصر. فمن لم تعجبه أغنية هاجته أخرى، ومن استغلق فؤاده أمام لحن انفتح أمام لحن آخر، ومن طال به الإلف فهدأ، اخترعت له فنون أخرى تثير الهامد من إحساسه، وهكذا. وفى أغلب الآفاق المادية المعنوية يحسب لملال الإنسان وكلاله حساب دقيق، وتؤخذ الحيطة له كى لا يقف بالمرء فى بدايات الطريق...!!! والقرآن الكريم فى تحدثه للنفس الإنسانية حارب هذا الملل، وأقصاه عنها إقصاء، وعمل على تجديد حياتها بين الحين والحين حتى إنه ليمكنها أن تستقبل فى كل يوم ميلاداً جديداً: "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ". وإحداث الذكر هو تجديد معنويات الإنسان كلما صدئت على طول التعب ومس الذهول. وأسلوب القرآن فى هذا المجال(1/6)
يربى على كل تقدير. إنه يخترق أسوار الغفلة ويصل الى صميم القلب. وتوجد سورة بأكملها حافلة بهذه الإثارات المحركة لوعى الإنسان، المجددة لقواه ومشاعره كلما استراخت وفترت. وقد تقوم سور أخرى على طراز من المعاني التوجيهية كالتشريعات والأحكام لا صلة لها بانفعالات القلوب، وذلك لا يغير من الحقيقة التى شرحناها، فإن شئون المعاملات فى القرآن الكريم تستمد قداستها وصدق التأثر بها من مقررات ص _010
العقيدة والتقوى التى غرستها سائر السور والآيات. والشعور بالرهبة والرقة يغمرك وأنت تستمع الى قصص الأولين والآخرين تروى بلسان الحق، ثم يتبعها فيض من المواعظ والحكم و المغازى و العبر تقشعر منه الجلود. وأقرب الأمثلة لذلك سور الأعراف وهود والشعراء والقصص. الخ . والهدف الأهم من وراء هذا السرد المتكرر، ليس بيان الحق فقط، بل هو- الى جانب ذلك- تعميقً مجراه فى القلوب تعميقاً ينفى ما طبع عليه الإنسان من جدل وملل. ص _011(1/7)
الإعجاز العلمي.. وأمثلة شتى ! ! لا سبيل الى معرفة الله عن طريق التأمل فى ذاته، فإن الوسائل الى ذلك معدومة، وإنما طريق التعرف على الله يبدأ من التأمل فى خلقه. وعن طريق التفكير السليم فى الحياة والأحياء، واستخلاص المعارف القيمة الخارجة من الأرض أو النازلة من السماء، يمكننا أن ندرك طرفاً من عظمة الخالق، الأعلى، وما ينبغى أن يوصف به من كمال... !!! كيف يعرف روعة القدرة وإحاطة العلم، ودقة الحكمة، وجلال الموجد الكبير، امرؤ مغلق الذهن، مكفوف البصيرة؟ يمشى على الأرض كما تمشى السائمة، لا يستبين من صفحات العالم إلا ما تستبينه الدواب من قوانين الكهرباء، أو أسرار الجاذبية، أو معالم الجمال، أو طبائع العمران. إنك تنظر الى الآله الدوارة، ذات التروس المتراكبة، والأذرع المتشابكة تتحرك كما أريد لها بسرعة ونظام، وتؤدى العمل المطلوب منها برتابة وإحكام، فما تملك نفسك من أن تشهد بحدة الذكاء للذى اخترعها، ومهارة اليد التى قدرتها، ثم سيرتها. ونحن كذلك ننظر الى ما بين أيدينا وما خلفنا، وما فوقنا وما تحتنا، فما نملك أنفسنا من الشهادة لله- الذى أبرز ذلك كله من العدم- بأنه خلق فسوى، وقذر فهدى. وكلما ازدادت معرفتنا بمادة الوجود وسره، وانكشفت لنا آياته وخباياه أحسسنا أن عظمة المبدع الماجد فوق ما يطيقه وعينا المحدود، وأن التحية التى تقدم لهذا الإله الجليل هى!لاعتراف بأن مظاهر وجوده بهرت كما يبهر السنا المتألق عيون الناظرين! إن درساً في الطبيعة والكيمياء هو صلاة خاشعة. وإن سياحة فى علم الأفلاك هى تسبيح و تحميد . وإن جولة فى الحقول الناضرة، والحدائق الزاهرة، أو جولة مثلها فى المصانع الطافحة بالحركة، المائجة بالوقود والإنتاج، هى صلة حسنة بالله. ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد كنت أهش لحصص العلوم الكونية يوم كنا نتلقى دروسها فى مرحلة التعليم الثانوى . ص _012(1/8)
وكانت حصيلتنا من هذه الدراسات حسنة، أو هى على الأقل مهاد يستطيع- طالب المزيد أن يبنى عليه. ثم عرفت أن لجنة تعديل المناهج فى الجامع الأزهر طوحت بنصف هذه الدراسات، وردت أكثر الباقى الى مرحلة التعليم الابتدائى. وحجتها فسح المجال لعلوم اللغة والشريعة. وهذا عمل طائش، والحجة فيه داحضة، فإن العلوم الكونية من صميم المعارف الإسلامية، بل هى أولى بالله وبدينه من أكثر العلوم المنسوبة الى الإسلام الآن. والحقيقة أن هذا التصرف عودة الى المعصية التى ارتكبها المفكرون الإسلاميون عندما ذهلوا عن البحث فى المادة، وانشغلوا بالبحث فيما وراءها، فرجعوا بعد عدة قرون من هذا الشطط وأيديهم صفر. فلا هم الذين فهموا المادة وانتفعوا بعلومها المتاحة. ولا هم الذين اخترقوا أسوار الغيوب، وعرفوا كنه ما وراء الطبيعة. بل ليت أيديهم!م عادت صفرا، لقد عادت وملؤها الوهم من فلسفات النظر الفاشل، والتفكير المريض. إن كل توهين للدراسات المادية هو"مشاقة واضحة لآيات النظر والتدبر الواردة فى القرآن الكريم- وما أكثرها-. وما نغالى إذا قلنا: إنها حكم بالإعدام على هذه الآيات، ثم إقامة مجتمع ساذج، أو مستغفل أو بليد بين أرض وسماء حافلتين بالنور والقوة. إن الله الذى خلق العقل نوه به وأشاد بقيمته. وإن الله الذى أنزل الإسلام، وأتم به النعمة، جعل ملاك فقهه وقيام أمره على ذلك العقل. وإن الله الذى أبدع هذا العالم لم يلق مفاتيح ابداعه للبله والحمقى، وإنما ألقاها للعالمين الأذكياء. ولم يتح تسخيرها للمفرطين العاجزين، وإنما أتاحها لأولى العزم الأقوياء...! والتطابق بين الكون الممهد، وبين العقل الواعى كالتطابق بين الحق، وغطائه.. فإذا لم يستفق العقل ويؤدى رسالته، انفصمت العلائق بينه وبين هذا ص _013(1/9)
العالم، وبالتالى وهت صلته بالله، وانحسرت دون مداها. فمن أين تتأتي معرفة الله على وجه مستكمل جميل إلا عن طريق إمعان النظر فى ملكوت الله، ومطالعة روائعه بين الحين والجين؟؟ وإذا كان ذلك طريق ابتداء المعرفة، فهو كذلك طريق مضاعفتها. ولا يصدنك عن هذا الحق أن هناك علماء بالكون يجهلون ربهم، فإن أسباب جهلهم أو جحدهم لا تنبعث من هذه الدراسات. وإذا وجدنا من يقرأ الكتاب العزيز ويكفر به، فليس كفرانه آتيا من قبل قراءته، وما يجرؤ مسلم على تحريم القراءة، لأن بعض المعلولين لم يحسن الإفادة منها، كذلك لا يقبل من أحد أبدا أن يغض من شأن الدراسات الكونية لأنها لم تهد بعض الملحدين الى رب العالمين. وليس ثمة تفاوت بين العلم والدين، فإن الله الحق هو مصدر الاثنين، وإذا لوحظ أن هناك اختلافاً فليس بين علم ودين، بل بين دين وجهل أخذ سمة العلم، أو بين علم ولغو لبس سمت الدين. وسترى أن القرآن الكريم مستقيم كل الاستقامة مع كل الكشوف التى يميط العلم عنها الستار، وذلك لاريب من دلائل صدقه وآيات إعجازه. فإن راكب الناقة ابن الصحراء ـ الذى لم يعل اللجج يوما أو يكابد الأنواء ـ حين يجىء على لسانه وصف علمى دقيق للبحر والجو، نجزم بأن هذا الوصف ليس من عنده، بل من عند عالم الغيب والشهادة. هب أن فلاحاً من أغمار الصعيد كتب وصفاً لرحلة جوية بين شاطئ المحيطين، ذكر فيها أنباء لا تعرفها إلا أدق المراصد، وأحوالا ما يتبينها إلا أذكى الطيارين. أتحسب أحداً يصدق بأنه قال ذلك من عند نفسه؟؟ وقبل أن نذكر نماذج للرد المحكم الذى أفرغ القرآن فيه أوصاف الكون، ومشاهد الطبيعة، وقوى العالم، نحب أن نذكر طبيعة الصلة بين العلم والدين، أو بين آيات الله فى كتابه الكريم وآياته فى هذا الكون العظيم.. وذلك نقلا عن كتاب سنن الله الكونية للدكتور العالم محمد أحمد الغمراوي. قال بعد شرح للمسالك التى يتأدى بها العلم الى نتائجه: "رأيت مثلا من طريقة العلم(1/10)
فى تعرف أسرار الفطرة، والاهتداء الى سنن الله فى الكون، وتبينت كيف أن هذه الطريقة تضمن الوصول الى الحق فى القريب أو البعيد، إن استعانت على ذلك بفرض الفروض. ص _014
لكن لا خوف قط على الحقيقة من هذه الفروض مادام العلم يطبق فروضه على الواقع، ويمحصها بالتجربة والاختبار. فهذه الطريقة فى الواقع هى طريقة العلم فى الاجتهاد، وبينها وبين طريقة اجتهاد المجتهدين فى الدين وجه شبه مهم هو: أن رجال العلم يستوحون الحقيقة من صنع الله، ورجال الدين يستوحون الحقيقة من كلام الله وحديث رسوله. فكل فى الحقيقة مرجعه الى الله ، وإن لم يصل رجال العلم بعد الى الله. وكل فى حكم الدين نفسه مرجعه الى الله، إذ أن هذه الحقائق الطبيعية التى يكشف عها العلم ببحوثه إن هى إلا نوع من كلمات الله، أوهى كلمات الله الواقعة النافذة، كما أن آيات القرآن هى كلمات الله الصادقة المنزلة. ولقد سفى القرآن حقائق أسرار الخلق كلمات لثه فى مثل قوله تعالى: " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم". " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا". وكلمات الله فى هاتين الآيتين الكريمتين لا يمكن أن تكون كلماته المنزلة على رسله، لأن كلماته سبحانه فى كتبه المنزلة محصورة محدودة. فى حين أن كلماته المشار إليها فى هاتين الآيتين لا حصر لها ولانهاية. فلابد أن تكون هى كلماته النافذة فى خلقه، والتى يبدو أثرها متجسما فيما يشاهد من الحوادث، وفيما يكشف العلم من أسرار الكون. فالإسلام متسع للعلم كله: حقائقه وفروضه، والمجتهد مثاب أخطأ أم أصاب، مادام يريد وجه الحق، وإن كان العلم لا يعرف إلى الآن: أن سبيل الحق من سبيل الله. وهذا الكلام يحتاج إلى أمثلة تشرح غوامضه وتكشف خوافيه. ما مظهر الوفاق بين آيات القرآن وأسرار الكون التى أطلعنا العلم عليها فى هذا(1/11)
الزمان؟ وأين مصداق ما تلاه محمد على الناس منذ أربعة عشر قرناً، فكان سبقه به دليلا على أنه لا ينطق على الهوى، إن هو إلا وحى يوحى؟ لقد ذكر الدكتور العالم أمثلة شتى تلمحها وهو يصف بدقة حقائق الطبيعة،ثم يسوق بعدها الآيات القرآنية فإذا هى منطوية على هذه الأوصاف أو متجاوبة معها. ص _015
وكما سخر الله سبحانه وتعالى الجاذبية للإنسان فى إجراء الأنهار تسير الهوينى أو غير الهوينى الى سطح البحر، سخرها له أيضاً فى كبح جماح البحر، ومنعه أن يطغى بمائه الأجاج على النهر أو على اليابسة، فهى دائما تحبسه فى مستقره الذى هو كما قلنا من قبل أقرب مواطن سطح الأرض الى مركز الأرض. فالبحر لا يستطيع أن يفارق فى مستقره ذلك إلا بقوة أخرى تغلب قوة الجاذبية عليه وهيهات، فكأنما البحر ملجم بالجاذبية أن يهجم على اليابسة من الأرض، كلما هم بالهجوم بفعل المد، أو الريح، أو حركة الأرض، جذبته قدرة الله بلجام، الجاذبية من خلف، فيعود الى موطنه الذى كتب عليه أن يبقى مقيداً فيه . ولقد من الله سبحانه على الإنسان بهذا حين من عليه بحجزه بين البحرين، أو بين البحر والنهر، فى قوله: " وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ". وليس ذلك البرزخ- والله أعلم- إلا ارتفاع ما بين سطح البحر وسطح اليابسة التى يجرى فيها النهر. وليس ذلك الحجر المحجور- والله أعلم- إلا الجاذبية بين البحر ومركز الأرض وحبسها البحر فى موطنه. ولقد من الله على الإنسان بذلك مرة أخرى، وعاب عليه، وعجب منه، كيف يشرك مع الله إلها آخر رغم ذلك فى قوله سبحانه: " أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " فتفهم هذه الآية الكريمة فى ضوء ما ذكرناه لك، وتأمل تعقبه سبحانه بقوله: " بل أكثرهم لا يعلمون" تعلم أن ذلك العلم من هذا الدين، وأن هذا القرآن لم يأت إلا من خالق(1/12)
الفطرة، وأنه لا غنى للمسلم عن علم الفطرة إن كان يريد حقاً أن يفهم شيئاً من سر الآيات الكونية فى القرآن. على أن أهمية الجاذبية فى الكون أعظم من هذا بكثير، فإن الجاذبية كما قد عرفنا ليست بين الأرض وما عليها فقط، بل بين الأرض وماعداها من الكواكب ثم هى أيضا بين كل كوكب وماعداه. فكل كوكب فى ملكوت الله يجذب كل كوكب آخر طبق سنة الجاذبية السابق ذكرها، أى بقوة تتناسب مع حاصل ضرب كتلتى الكوكبين مقسوماً على مربع ص _016(1/13)
المسافة بينهما، وناتج كل هذه القوى الواقعة على الكوكب قوة واحدة يمسكه الله بها فى مداره أو فلكه أوفى موقعه الذى هو فيه إذا كان النجم من الثوابت. فالجاذبية إذن على قدر علم الإنسان الى الآن، هى القوة التى يمسك الله بها سبحانه السموات والأرض فى مواقعها التى قدر لها، أو هذا إن شئت هو ما أدركه الإنسان الى الآن من سر قوله تعالى: " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ". وفى قوله تعالى : "الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ". و ما يشبهها من آيات القرآن الكريم، إشارة الى قوى الجاذبية الخافية، التى هى بعد تقدير الله لها سبب بقاء أجرام السماء فى أماكنها، ومداراتها المقدرة لها. فإنه إذا فهم من قوله تعالى : "بغير عمد ترونها "! أن السموات مرفوعة بعمد غير مرئية- كما هو ظاهر الآية- كانت تلك العمد غير المرئية هى قوى الجاذبية بين بعض الكواكب وبعض. لأن العمد المعروفة المادية تؤثر أثرها وتحمل احمالها بإرسال قوى أو ضغوط تساوى وتضاد ضغوط الأبنية عليها كما هو صريح علم القوى، وكما يحصل بالضبط بين الكواكب المتجاذبة. فإذا عجزت العمد عن أن تكون ضغوطها المضادة لضغوط المحمولات عليها مساوية لهذه الضغوط، تكسرت الأعمدة والجدران، أو تشققت، ويكون البناء أقرب الى التداعى بقدر ما بين ضغوط الأعمدة وضغوط الأحمال من فروق. ففى حالة الأعمدة وما تحمل يوجد تضاغط واتزان، كما أن هناك بين الأجرام السماوية تجاذباً وتوازنا، وإن اختلف مدى التوازن ونوعه فى الحالين. وينبغى أن نتذكر أيضاً أن الأعمدة ضاغطة، وليست هى- بداهة- نفس الضغوط الخارجة منها، وأن هذه الضغوط المقاومة لتقل الأبنية غير مرئية وإن رأينا الضاغط من عمود أو جدار". كذلك قوى التجاذب بين أجرام السماء غير مرئية، وإن رأينا أجرام السماء، فالتعبير بالعمد غير المرئية عن القوى التى رفع الله بها السموات هو أدق تعبير، وأبلغه فى(1/14)
الخطاب، يفهم كل منه بقدر ما رزقه الله من الفهم والعلم. "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". فقانون الجاذبية هو مفتاح فهم أمثال الآيتين السابقتين من كتاب الله عز وجل، إلا أن الإشارة الى القانون فى تلك الآيات الكريمة إشارة عامة من ناحية الوصفية!. ص _017
وهاك شرحه كذلك لظاهرة طبيعية أخرى. الأمطار: أما العوامل المسببة للأمطار- ومحورها كما رأيت الكهربائية الجوية- فقد أشير إليها إشارات واضحة فى أكثر من آية من تلك الآيات الكريمة آية الحجر: " وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ". ومفتاح هذه الآية الكريمة هو ترتيب إنزال الماء لسقيا الناس- على إرسال الرياح لواقح. والناس يحملون وصف الرياح باللواقح على أنها لواقح للزرع والشجر، وهذا منهم إغفال للنصف الثاني من الآية، إذ لو كان ما ذهبوا إليه هو المراد، لترتب عليه إزكاء الزرع، وإخراج الثمر للناس يأكلونه، لا إنزال الماء من السماء يشربونه. أما وقد رتب الله على إرسال الرياح لواقح إنزال الماء من السماء يسقاه الناس فقد تحتم أن يكون للواقح معنى آخر غير معنى تلقيح الزرع، ويكون مع ذلك من ناحية شبيهاً بلقاح الأحياء، من زروع وحيوان، ومن ناحية أخرى يكون بينه وبين نزول اناء ما بين العلة والمعلول، أو السبب والمسبب. وما عليك إلا أن تذكر ما قدمنا لك عن تكاثف السحاب مطراً، وعن إثر كهربائيته فى ذلك التكاثف، وأثر الرياح فى تمهيد سبل الاتحاد بين كهربائية وكهربائية فى سحاب وسحاب، لتعلم أن المراد من وصف الرياح بأنها "لواقح" ليس هو الإشارة الى أثرها فى الجمع بين طلع أعضاء التذكير، وبويضات التأنيث فى النبات، ولكن هو الإشارة الى أثرها فى الجمع بين الكهربائية الموجبة والكهربائية السالبة فى السحاب. فالملاقحة هنا بين قطيرات و قطيرات او به سحاب وسحاب لا بين زهر وزهر!! والشبه تام بين هذا التلقيح النباتي، وذلك(1/15)
التلقيح الكهربائى، أو بالأحرى ليس هناك تشبيه مطلقاً، فإن اتحاد الكهربائتين تلقيح، إن كان اتحاد الخليتين تلقيحاً، لأنه فى الحالين اتحاد تام بين شيئين متضادين متجاذبين، يختفى به الشيئان، ويظهر مكانهما شىء آخر غيرهما. ففى حالة التلقيح النباتي ينشأ من بين الخليتين خلية واحدة لها خواص غير خواص أيهما، وفى حالة التلقيح الكهربائى ينشأ من بين الكهربائتين ضوء وحرارة لهما خواص غير خواص الكهربائيتين. ص _018(1/16)
فهذا شرط الشبه الشديد للقاح الأحياء قد توفر. أما شرط ترتب نزول الماء على تحقق هذا الإلقاح، فقد عرفت توفره من ترتب تكاثف السحاب مطراً على التفريغ الكهربائى السحابى . فآية الحِجر تلك هى مظهر من مظاهر الإعجاز المتجدد للقرآن، لأن تلاقح السحاب وأثره فى نزول المطر، أمر كان يجهله الإنسان، حتى كشف عنه العلم الحديث. وهى طبعاً مثل رائع من التطابق التام بين العلم والدين فى الإسلام. وآية أخرى أكثر تفصيلا من آية الحجر هى آية النور: " ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " . ومفتاح هذه الآية الكريمة هو فى قوله تعالى: "ثم يؤلف بينه! فقد كان الناس يمرون بهذه الكلمات الكريمة يرونها مجازا من المجازات البلاغية، وهى حقيقة من أمهات الحقائق الكونية. وهذه الكلمات مفتاح الآية الكريمة، لأنها تدل بوضوح على الحقيقة الكهربائية التى تقوم عليها تلك الظواهر الجوية كلها، فإن التأليف بين السحاب ما هو إلا شارة واضحة، بل وصف دقيق للتقريب بين السحاب المختلف الكهربائية، حتى يتجاذب، و يتعبأ فى الجو تعبئة كتعبئة الجيوش، يتفق مع ما يريد الله أن يخلقه من بين السحاب من برق، وصواعق، ومن مطر أو برد. فإذا كان السحاب المتجاذب بعضه فوق بعض، نشأ السحاب الركام. وقد ذكرنا لك قبل..ما وجدوه من أن عمق الركام فى العواصف الرعدية يكون عظيما، فإذا حدث التفريغ داخل السحاب بين بعض تلك الطبقات وبعض- كما هو الغالب- نزل المطر النا شىء عن ذلك التفريغ من خلال الطبقات الدنيا، وتكبر قطراته أثناء نزولها بما تستلحقه من القطيرات، وهو الودق. فإذا بلغت الحالة الجوية الكهربائية فى ذلك السحاب الركام من القوة ومن الاضطراب، ما يسمح بوقوع تلك الظاهرة الغزيبة، ظاهرة تردد بلورات الماء بين منطقتين، ثلجية علوية(1/17)
ومطرية سفلية، تكون البرد، ونما حتى يصير أثقل من أن يظل فى أسر تلك القوى، فيسقط على الأرض رحمة إن كان صغيراً هيناً، ونقمة إن كان كبيراً راجماً. ص _019
" فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء". وليس يدرى الإنسان كثيراً عن الظروف التى يتكون فيها البرد، لكنه يدرى أنها ظروف يسودها اضطراب جوى عظيم. هذا الاضطراب قد أشارت الآية اليه والى طبيعته إشارتين: الأولى: حين شبهت السحاب الركام الذى يتكون البرد داخله ...بالجبال. والثانية: حين أشارت الى عظم القوى الكهربائية المشتركة فى تكوينه بنصها على عظم برقه وشدته وبلوغه من الحرارة درجة الابيضاض أو ما فوق ذلك: " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار". وهناك آية أخرى أشارت الى الطبيعة الكهربائية لتلك الظواهر إشارة من نوع آخر، هى آية الواقعة: " أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون). وتستطيع- بعد أن عرفت العوامل المتعددة التى لابد من تعاونها على تكوين المطر- أن تدرك شيئاً من سر الحجة فى هذا السؤال العجيب: " أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟". لكن الإشارة التى أردنا أن نلفت النظر إليها هى فى قوله تعالى: "لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون). والناس طبعاً يسلمون بالقدرة الإلهية على قلب العذب أجاجاً، وبظنون أن هذا يكون عن طريق الخوارق، ولا يتساءلون: هل فى سنن الله ما يسمح بهذا؟ ولو تساءلوا وتطلبوا الجواب فى العلم لوجدوه قريباً، ولعرفوا أن عذوبة الماء الذى يسقيهم الله اياه من السحاب هى بمحض رحمة الله. إن الماء طبعاً عذب بطبيعته، وماء المطر معروف أنه أنقى المياه، لكن طبيعة تكونه من السحاب تعرضه لأن ينقلب أجاجاً لا ينتفع به الإنسان. إن الهواء كما تعرف أربعة أخماسه أزوت و نتروجين، و الأزوت كما تعرف أيضاً لا يكاد يتحد فى العادة بكل شئ، ولا بالأكسجين الذى يعد يتحد بكل شئ. لكن الكيميائيين(1/18)
وجدوا أنهم يستطيعون بالكهربائية أن يحولوا الأزوت غير الفعال الى أزوت فعال، يتحد بأشياء كثيرة فى درجة الحرارة العادية. كما وجدوا أنهم يستطيعون أن يحملوا الأزوت على الاتحاد بالأكسجين، بإمرار الشرر الكهربائى فى مخلوط منهما، ومن هذا الاتحاد ينشأ بعض أكاسيد للأزوت ص _020
قابل للذوبان فى الماء، وإذا ذاب فيه اتحد به، وكون حمضين أزوتين، أحدهما: حمض الأزوتيك، أو ماء النار، كما كان يسميه القدماء، واليه يصير الحمض الثاني. وقليل من حمض الأزوتيك فى الماء كاف لإفساد طعمه. وأظنك الآن بدأت تدرك الطريق الذى يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماء أجاجاً، من غير خرق لأى سنة من سنن الله. فهو نفس الطريق الكهربائى الذى يتكون به المطر، وكل الذى يلزم: أن يتعدل التفريغ الكهربائى، ويتكرر فى الهواء تكراراً يتكون به مقدار كاف من تلك الأكاسيد الأزوتية يذوب ف ماء السحاب، ويحوله حمضياً لا يسيغه الناس. وهذا هو موضع المن من الله على الناس: أنه يكيف التفريغ بالصورة التى ينزل بها المطر، ولا يؤج بها الماء. إن شيئا من ذينك الحمضين لابد أن يترك فى ماء العواصف، وهذا ضرورى للحياة لأنه يتحول فى الأرض الى الأزوتات الضرورية لحياة النبات. لكن الله برحمته وحكمته يقذر تكونه بحيث لا يتأذى به إنسان ولا حيوان. ولو شاء الله لكثر الحمض فى ماء المطر فأفسده على الناس. وسواء شكر الناس هذه النعمة أم كفروها، فإن فى قوله تعالى: "لو نشاء جعلناه أجاجا"ً إشارة إلى تلك العوامل الكهربائية التى يتكون بها المطر، ويفهمها من يفقه تلك الحقائق السابقة، ومن يعرف أن الطريق الكهربائى هو أحد الطرق العلمية التى يمكن بها تحويل الأزوت الجوى إلى حمض. ص _021(1/19)
الاعجاز البيانى.. وهذا التفرد ! ! إننى واحد من الألوف التى قرأت هذا القرآن، ومررت بمعانيه وغاياته مرور العابر حيناً، ومرور المتفرس المتأمل حيناً آخر. والقرآن ليس الكتاب الوحيد الذى طالعته، فقد طالعت مئات الكتب الأخرى على اختلاف موضوعاتها، واقتربت من نفوس أصحابها ومن ألبابهم، وأذنت لهذه الكتب أن تترك آثارها فى فكرى، لأقلبها على مكث، وأنتفع بما أراه نافعاً وألفظ ما أراه باطلا. ومن اليسير علىً وعلى أى قارئ مثلى أن يكوٍن حكماً معيناً على الكتاب الذى تناوله. فقد أخلص من قراءة كتاب ما، ثم أقول: هذا لمؤلف واسع الاطلاع. أو أقول: إن ثقافته غزيرة فى الآداب الأجنبية، أو إنه طائل الثروة فى الأدب العربى القديم، أو إنه ملم بآخر ما وصلت اليه الكشوف العلمية، أو أنه قصير الباع فى إعطاء المعنى حقه، أو إنه مصطبغ بلون يسارى، أو أنه من المعجبين بالفيلسوف الفلاني ، أو إن فى نفسه عقده تميل بأسلوبه الى الحدة فى ناحية كذا، أو إنه مرن الفهم والأداء.. الخ. وقلما أعجز من استبانة الخصائص الإنسانية المتبانية فى تآليف الرجال الذين طالعت نتاجهم الذهنى، أو آثارهم الرواة. وكثيرون غيرى يجدون فى أنفسهم هذه القدرة. وقد تلوت القرآن مراراً، ورجعت بصرى فى آياته وسوره، وحاولت أن أجد شبها بين الأثر النفسى والذهنى لما يكتب العلماء والأدباء، وبين الأثر النفسى والذهنى لهذا القرآن، فلم أقع على شىء البتة. وقد أحكم بأن كتابا ما صدر عن مؤلف فى عصر كذا، وأن جنسية هذا المؤلف ومزاجه وأهدافه هى كيت وكيت. أما بعد قراءة القرآن، فأجزم بأن قائل هذا الكلام محيط بالسموات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر وأسرار النفوس، يتحدث الى الناس تحدث السيد الحقيقى الى عباده الذين خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون فى هالة من الجبروت والتعالى، يستحيل أن تلمح فيها شارة لتكلف أو ادعاء. ومع رفعة المصدر الذى(1/20)
تحس أن القرآن جاء منه إحساسك بأن هذا الشىء أتى ص _022
من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك، متجاوب مع فطرتك، صريح فى مكاشفتك بمالك وما عليك، متلطف فى إقناعك، فما تجد بدأ من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله. ولا تحسبن هذا الوصف متأثراً بمواريث التدين التى انتقلت إلينا من الأولين فإن الكفار أنفسهم ادركوا أن القرآن مباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدى سماعه. فقد روى أن الوليد بن المغيرة- وهو من زعماء الكفر فى مكه- جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم، واستمع الى ما يتلو من هذا القرآن فلما أنصت وتدبر، كأنما رق له قلبه، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال له: " يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك إياه، فإنك أتيت محمداً وملت الى دينه.. !! قال الوليد ـ مستنكراً عرض المال عليه ـ لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك، فيعلمون انك مكذب له وكاره. قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم منى بالشعر، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذى يقوله محمد شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وغضب أبو جهل لهذه الشهادة، فإن الصدق فى هذه القضية لا يعنيه، بل يؤذيه!! والعراك على الرياسة فى هذه البيئات يذهل عن شئون الكفر والإيمان. فليكن محمد صادقاً. وليكن كلامه وحيا. بيد أن المصلحة القبلية تقضى بكتمان أمره، وانتقاص شخصه. ولذلك عاد أبو جهل يلح على الوليد: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! فقال الوليد: دعنى أفكر. وفكر الوليد، ثم أحب أن يكون منطقياً مع نفسه فقال: هذا سحر!! ولعله يقصد بالسحر ما جاءت به قوى خفية، لا يعرف الناس عادة حقيقتها. و فى هذا الحوار نزل قوله عز وجل: ص _023(1/21)
" ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر" والواقع أن من الكذب الشائن على الفطرة والبداهة، وعلى العقل والرواية ، أن يزعم زاعم بأن القرآن كلام عادى، وأن أديباً راسخ القدم فى البلاغة يستطيع أن يجئ بمثله. وقد تساءل كثيرون عن أسرار هذا التفرد الذى اتصف به القرآن الكريم. ولاشك أن المعاق التى يتضمنها والتى نسج سداها ولحمتها من الحق الخالد أساس لهذا الاعجاز، بيد أن المعنى على جلاله إن لحقه قصور في صورته وأثره، نقصت قيمته، وطاشت دلالته. وهناك معان جميلة في نفوس أصحابها، ولو استبانت على السطور لأشرقت بها الصحائف.. ولكنها مشاعر فى النفوس فحسب. إن الكلام لفى الفؤاد وإنما.. جعل اللسان على الفؤاد دليلا. فتصوير المعنى الصادق حتى يبرز فى الحروف كما يبرز الجمال الإنساني فى أبهى حلله، وحتى ينتقل سناه الى الأفئدة نفاذاً أخاذاً ركن ركين فى خدمة الحقيقة، وبسط سلطانها، وإزاحة العوائق من أمامها. وقد تعرض لفيف من علماء الإسلام لشرح الإعجاز البياني فى القرآن الكريم. وكنت أنا نفسى كثير الطواف حول هذا الجمال البياني، أسرح فيه الطرف وأردد فيه الفكر، لكنى كنت كالذى شغله الإعجاب بالجمال، عن وضع تفاسير له، أو لعلنى حاولت ثم غلبنى القصور، فتوقفت مؤقتا حتى تسنح فرصة. إلى أن قرأت للمرحوم العلامة "الشيخ محمد عبد الله دراز" كتابه " النبأ العظيم- نظرات جديدة فى القرآن " فرأيت الرجل وفي هذا المجال حقه، و أفاض فى الحديث، كأنما يتدفق من ينبوع لا يغيض أبداً. وودت لو أن الرجل بقى حتى أكمل ما بدأ، بيد أن المنية عاجلته فقفز وهو مجاهد فى سبيل ربه- طيب الله ثراه. شرح الدكتور(1/22)
فى تفصيل طويل المعاني التى احتواها القرآن والتى يستحيل. ص _024
بالبراهين الحاسمة- أن تصدر عن بشر، وأحمى جملة الشبه التى يمكن أن تخطر ببال أى متردد مرتاب، ثم أجهز عليها. ومضى يستعرض ما يقوله المستقصى فى طلب الحقيقة وبسط الإجابة فى أدب وفقه، واسمع الى هذا البيان: "فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزاً. وأنهم وجدوا فى طبيعة القرآن سراً من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم، ولكنى لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من نطاق هذا السر، لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب فى لغتهم العربية. فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، على مناهجهم فى التأليف جاء تأليفه. فأى جديد فى مفردات القرآن لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها، وأى جديد في تركيب القرآن لم يعرفه العرب من طرائقها، ولم تأخذ به فى مذاهبها حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية. قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج فى لغته عن سنن العرب فى كلامهم إفراداً وتركيباً فذلك فى جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل فى الإعجاز وأوضح فى قطع الأعذار " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ". فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان. فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن فى الأرض، ولا يخرجون فى صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدراناً مرفوعة، وسقفا موضوعة، وأبواباً مشرعة. ولكنهم تتفاضل صناعتهم وراء ذلك فى اختيار أمتن المواد، وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر و القر، وفى تعميق الأساس، وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة فى المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء. فمنهم من يفى بذلك كله، أوجله، ومنهم من يخل بشىء منه أو أشياء. إلى فنون من الزينة(1/23)
والزخرف يتفاوت الذوق الهندسى فيها تفاوتاً بعيداً. كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى، يتفاوت الذوق الهندسي فى الحسن والقبول. وما من كلمة من كلامهم، ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة ص _025
وقواعدها فى الجملة. ولكنه حسن الاختيار فى تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعى سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار فى شئ من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتفتر منه نفسك، وينفر منه طبعك. وينتقل الدكتور. الشيخ محمد عبد الله دراز إلى خصائص الأسلوب القرآني، فيبين الأسباب التى بلغ بها درجة الإعجاز، ولولا أن الرجل حافظ فاقه لكتاب الله، وضليع مكين فى آداب العربية، وعابد مخبت تفتت أمام بصيرته النيرة الحكم البالغات التى غابت عن غيره، ما استطاع أن يصور لنا هذه الخصائص ويجعلها منا رأى العين.. ونكتفى بنماذج قليلة من كلماته، لا تغنى ألبته عن مدارسة الكتاب ذاته. قال: وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس. فلو إنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذى تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم فى الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التى تخاطب بها الأذكياء، لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك- إن أردت أن تعطى كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك-أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى. كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال. فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء،وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله، وعلى وفق حاجته، فتلك ما لا تجده على أتمه إلا فى القرآن الكريم. فهو قرآن واحد، يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، لا يلتو على أفهامهم ، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة. فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر(1/24)
لكل من أراد: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"!. وفى النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. ص _026
فأما إحداهما، فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به. وأما الأخرى: فتسجل إحساسها بما فى الأشياء من لذة والم. والبيان التام هو الذى يوفى لك هاتين الحاجتين، ويطير الى نفسك بهذين الجناحين "فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية، والمتعة الوجدانية معا. فهل رأيت هذا التمام من كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلواً فى جانب، وقصوراً فى جانب. فأما الحكماء: فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم الى استهواء نفسك، و اختلاب عاطفتك. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعرى ونبو عن الطباع. "وأما" الشعراء: فإنما يسعون الى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غياً أو رشداً، وأن يكون حقيقة أو تخيلاً. فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون إن كانوا لا يطربون. "والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون". وكل امرئ حين يفكر، فإنما هو فيلسوف صغير، فسل علماء النفس: "هل رأيتم أحداً تتكافأ فيه قوة التفكير، وقوة الوجدان، وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى الى شىء من التعادل عند قليل من الناس، هل ترونها تعمل فى النفس دفعة واحدة وبنسبة واحدة؟ ". يجيبونك بلسان واحد: كلا، بل لا تعمل إلا مناوبةً فى حال بعد حال، وكلما تسلط واحدة منهن اضمحلت الأخرى، وكاد ينمحى أثرها. فا لأى ينهمك فى التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذى يقع تحت تأثير لذة أو الم، يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية الي جانب من هاتين الغايتين قصداً واحداً، وإلا(1/25)
لكانت مقبلة مدبرة معاً. وصدق الله: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ". فكيف تطمع من إنسان فى أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء؟ ص _028
أو لا تراه فى معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل و تعجيب، وتبكيت وتأنيب، يبث ذلك فى مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها. " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ". " إنه لقول فصل * وما هو بالهزل ". ص _029(1/26)
( القرآن مدهش.. من أى وجه كان !! ) وكتب السيد هبة الدين الحسينى رسالة جيدة فى اعجاز القرآن لخصها الأستاذ عيسى صباغ فى هاتين النظرتين: يقول الشيخ هبة الدين: لا ريب أن القرآن قد أدهش نوابغ العرب، وأخرس شقشقة البلغاء فى عصره. ولكن: ألأسلوبه الرائق، ولفظه الريق، ونظامه العجيب؟ أم لبدائع معانيه الجذابة، وعظمة مبادئه، ولطائف أمثاله فيه؟ لا نعلم.. وإنما نعلم أنه أدهش ويدهش العربى العارف.. وربما كان أثره فى العامة من النواحى الأولى، وفى الخاصة من النواحى الأخرى، كما أثر بأنبائه الغريبة، وبأسرار فى إشاراته واستعاراته فى الأجيال السائرة. أجل، هذا القرآن مدهش من أى وجه كان، وآية عبقريته ساطعة، وقد استعان به منقذ العرب بعد ما غدوا سكارى بخمرته، فأحيا ذكرهم، وأصلح أمرهم، وأدبهم كما شاء وشاءت المصلحة، و استخرجهم من ظلمة العادات القاسية الى ضياء عيشة راضية. ثم استخدم أولئك المهتدين بأنوار القرآن كألسنة لدعوة الأمم، وسيوف لإدانة العالم. ويستطرد الى بيان ميزة القرآن بين المعجزات، فيقول بأسلوبه السهل البليغ: "إن أكبر ميزة فى القرآن- وهى التى وضعته فوق المعجزات كلها- هى أنه مجموعة فصول ليست سوى صبابة أحرف عربية.. من أيسر أعمال البشر، وقد فاقت مع ذلك عبقرية كل عبقرى.. فلم يخلق رب الإنسان للإنسان عملا- بعد التفكر- أيسر لديه من الكلام ". وكلما كان العمل البشرى أيسر صدوراً، وأكثر وجوداً، قل النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه. هذا. ونرى الناس فى عهدنا مطبوعين على استحباب الشهرة والأثرة وطلب التفاضل والتفاخر فإذا رأوا أحدهم يبغى التفوق عليهم بصناعته، اندفعوا بكل قواهم الى مباراته، وجادوا لكى يأتوا بخير منه. وقد فطر البشر على مثل هذا الشعور.. والشعب العربى المعاصر للنبى صلى الله عليه وسلم، كان ولا ريب، منطويا على هذا الشعور تماماً. ص _030(1/27)
فلماذا لم يندفع الى مباراة القرآن.؟ ولا سيما بعدما شاهدوا من صناعة هذا النبى صلى الله عليه وسلم فائدة وعائدة. و لم يعارضوا عبقريته فى البلاغة وهو فرد وهم ألوف؟ ألعدم وجود أساتذة فيهم لهذه الصناعة؟ كلا، لقد كانت تربة الحجاز خصبة منبتة لأساتذة الفصاحة والبلاغة. فلم لم يندفعوا الى معارضته بالمثل، وهو المعارض لهم بكل ما يستطيع من قوة؟ ولماذا اندفعوا الى مقاتلته دون مقابلته؟ والى مقابلته بالأسنة دون الألسنة؟ وبالحراب بدل الكتاب؟ حتى أفرغوا كنانتهم برمى آخر نبلة فيها ولم ينجحوا. ليت شعرى مم وبم أعجزت عبقرية ذلك الفرد المستضعف فيهم وهم ألوف، ومعتزون بألوف؟ وكيف أعجزتهم أسطر وكلمات وحروف؟ ثم ينتقل المؤلف الى تحليل تلك الدهشة وتعليل بواعثها، فيقول: " حرى بنا أن نحلل هذه الدهشة الغريبة وأسبابها الحقيقية ونقيس أنفسنا "ونحن فى هذا القرن" على أولئك الأساتذة "وإن كانوا فى القرون الأولى قياساً حسب ذلك المقياس القائل "الناس كالناس"، والأيام واحدة" فإذا عم الإعجاب بالقرآن أساتذة عصرنا الراقى، فلا نلوم المعجبين بالقرآن فى القرون الأولى". ثم يستشهد بتقدير العلامة جبر ضومط فى كتاب " الخواطر الحسان " لآيات القرآن وبلاغتها وبشعر ونثر للفيلسوف الدكتور شيلى شميل القائل: دع من محمد، فى صدى قرآنه ما قد نحاه للحمة الغايات إني وإن أك قد كفرت بدينه هل أكفرن بمحكم الآيات؟ ومواعظ لو أنهم عملوا بها ما قيدوا العمران بالعادات؟ من دونه الأبطال فى كل الورى من حاضر أو غائب أو آت! كما قال: إن في القرآن أصولا اجتماعية عامة فيها من المرونة ما يجعلها صالحة للآخذ بها فى كل زمان ومكان.. حتى فى أمر النساء، فإنه كلفهن بأن يكن محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج واحدة عند عدم إمكان العدل. والقرآن قد فتح أمام البشر أبواب العمل فى الدنيا والآخرة، بعد أن أغلق غيره من الأديان تلك الأبواب. وذكر أن الشيخ(1/28)
ناصيف اليازجى أوصى ولده إبراهيم لتقوية براعته فى الأدب العربى قائلا: "إذا شئت أن تفوق أقرانك فى العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن، ونهج البلاغة". ص _031
ونوه بإعجاب طائفة من نوابغ الفرنجة أمثال كارليل و ولز وتولستوى و مونتيه بالقرآن الشريف وبعبقرية النبى محمد صلى الله عليه وسلم. ثم انتقل الى موضوع دهشة الأولين الذين قهرتهم عبقرية النبى الأمى و قرآنه فقال: "إذا قام بيننا البناء والحداد ينظمان القريض أعجبنا حسن القصيدة من جهة، وغرابة المصدر من جهة أخرى، لأنهما عاملان أميان لم يأخذا من الدراسة والكتابة خطأ. فمحمد الأمى المخاطب بآية "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ " ربيب البادية، وخريج حى بنى سعد ينهض فى أم القرى بدعوة نسخ الانظمة، وتعديل الشرائع، وإصلاح العالم. هذا من جهة. ومن جهة أخرى: إنه أفنى قواه فى معارضة أقوام سفلة، وكابد الأذى والأسى من الأفواه والأيدى، وقضى حياته فى إدارة الحروب و المغازى، وهو ما بين هذه وتلك يأتي بكتاب يعجز عن مباراته بلغاء عصره ونوابغ دهره، لا بد أن يدهش الناس مره، وحق لهم أن يندهشوا، لأن الرجل الأمى قد يفوز بالعبقرية، ولكن عبقريته لابد أن تتجه إما الى ميادين الحروب فيكون من عظماء الفاتحين، وإما تتجه الى اندية الرأى ومجالس الشورى فيكون من كبار الساسة و الدهاة. أما أن يجمع تلكما الحسنيين ويضيف اليهما نبوغاً فى العلم، و نبوغاً فى التشريع والقضاء، و نبوغاً فى جذب عواطف الخاصة والعامة، فلم يسمع به التاريخ، ولم يسمع به الزمان. وربما عد الفن وجوده ضرباً من المحال.. إذن فالدهشة طبيعية لدى مشاهدة بطل كهذا. بطل فى العلم والنظم. بطل فى السياسة والفلسفة معاً. بطل فى الإرادة وفى مداراة الخاصة والعامة جميعاً. بطل فى التشريع والتنفيذ حتى على نفسه. بطل فى كل ذلك، ثم هو فوق ذلك أمى غير متعلم. وأكثر ما يعجب(1/29)
فيه: أنه لم يتخصص بفن واحد من الفنون، لا فى ألفاظه ونظمه، ولا فى معانيه وحكمه. فبينما نراه يتصدر ببلاغة عجبى، وأمثال عذبى، إذ يجرى فى ميدان العلم أو مضمار الفلسفة، فيبدى من أسرار الطب والطبيعة وكائنات الأرض وكامنات السماء ونواميس الكون ما لا تفى بشرحه الصحائف مما نطق به امس وانكشف سره اليوم. ص _032
ثم نراه خائضاً فى تاريخ القرون الخالية والأمم البائدة، كير مستند على آثار وأسفار، ثم تأتي الحفريات والأثريات مصدقتين له وشارحتين إياه، بعد قرون وأجيال. وكذلك نراه يسن نظاماً، ويفسخ أحكاماً، غير مستند فى ذلك الى مشاورات أو مؤتمرات ولكن الظروف الأخيرة، والتجارب المتعاقبة، ومؤتمرات عصورنا الحالية تذعن له، وتعلن اتفاقها معه، ذلك عدا الأنباء الغيبية عن أحوال أفراد وأقوام. هى والله بواعث الإعجاب والدهشة العامة التى اعزت وتعترى الناس من عرب ومستعربة.، كما تلوا القرآن أو تليت عليهم آياته وفسرت بيناته". رأينا فى نظرتنا السابقة نموذجاً شائقاً من التفكير والتحليل فى أسلوب عصرى سائغ جرى به قلم العلامة هبة الدين الحسينى الشهر ستاني تمهيدا لبحثه فى إعجاز القرآن. يبدأ علامتنا تحليله بسؤاله: هل تحدى الرسول بالقرآن؟ ثم يقول: صدور التحدى من الرسول لأهل الصنعة أساس ينبغى ثبوته قبل أى شىء آخر، حتى يكون المعجز معجزة، وعدم التصدى بعد التحدى ملزما للخصم.. ويتبع هذا بشواهد الآيات الناطقة بالتحدى، ومنها هذه الآية: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ". ولكن فصحاء العرب أعرضوا عن هذا التحدى المتكرر، وأحجم أبو سفيان عن تجنيد جيش من شعراء الجزيرة وأدبائها لمعارضة القرآن. بل جد فى تأليف جيش من عشرة آلاف لمقاتلة النبى وحزبه. وإلى جانب هذا فشل من حاولوا المعارضة. ثم نجد أمثال الوليد ولبيد و الأعشى وكعب بن زهير يذعنون لسمو معاني القرآن وبلاغته،(1/30)
وقد كانوا معدودين أساطين البلاغة فى زمنهم . وتؤثر روعة القرآن فى نفوس العرب فيرفعون القصائد السبع المعلقات من حول الكعبة وهى خير ما جادت به قرائح الشعراء العباقرة أمثال امرئ القيس وطرفه ابن العبد وكعب بن زهير، وعمرو بن كلثوم، خجلا منهم وانفعالا، كالذى زين البيت بقناديل الزيت، ثم سطعت من حولهن مصابيح الكهرباء القوية على حد تعبير المؤلف. و قد حاول أفذاذ من الأدباء بعد معارضة القرآن فلم يوفقوا ، وذكر المؤلف ص _033(1/31)
عدداً منهم، ولعل أشهرهم عبد الله بن المقفع. ثم استشهد المؤلف بآراء نخبة من أعلام الفرنجة النقاد والأدباء فى تقدير مزايا القرآن وإعجازه. وينتقل المؤلف بعد ذلك الى تشريح هذه المزايا. فيعد منها ثمانية وعشرين كرؤوس أقلام، ثم يتناول وجوه الإعجاز على المحك، ويقارن بين الشهنامة الفارسية فى امتيازها، والقرآن العربي فى إعجازه على سبيل المثال. ثم يذكر النظريات السبع للعلماء فى وجه الإعجاز، وأهمها صدور القرآن من أمى، وبلاغته الفائقة، وغرابة أسلوبه، وأنباؤه الغريبة الصادقة. وحرى بنا أن نذكر هنا مع ذلك المزايا الإجمالية التى سردها المؤلف لمزايا القرآن، ألا وهى: 1- فصاحة ألفاظه الجامعة لكل شرائطها. 2- بلاغته بالمعنى. أى موافقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبا عن المقام، أو بلاغته الذوقية المعنوية. 3- مسحة البداوة، أى عروبة العبارات الممثلة لسذاجة البداوة مع اشتمالها على بسائط الحضارة. 4- توافر المحاسن الطبيعية فوق المحاسن البديعية. 5- إيجاز بالغ حد الإعجاز بدون أن يخل بالمقصود. 6- إطناب غير ممل فى مكرراته. 7- سمو المعنى وعلو المرمى فى قصد الكمال الأسمى. 8- طلاوة أساليبه الفطرية ومقاطعه المبهجة، و أوزانه المتنوعة. 9- فواصله الحسنى وأسجاعه الفطرية. 10- أنباؤه الغيبية وأخباره عن كوامن الزمان وخفايا الأمور. 11- أسرار علمية لم تهتد العقول اليها بعد عصر القرآن إلا بمعونة الأدوات الدقيقة، والآلات الرقيقة المستحدثة. 12- غوامض أحوال المجتمع، وآداب أخلاقية تهذب الأفراد، وتصلح شئون العائلات. 13- قوانين حكيمة فى فقه تشريعى فوق ما فى التوراة والإنجيل وكتب الشرائع الأخرى. 14- سلامته من التعارض و التناقض والاختلاف 15- خلوصه من تنافر الحروف وتنافى المقاصد. 16- ظهوره على لسان بدوى أمى لم يعرف الدراسة، ولا ألف محاضرة العلم ص _034(1/32)
ولاجاب الممالك سائحاً مستكملا. 17- طراوته فى كل زمن وكونه غضاً طريا كلما تلى وأينما تلى. 18- اشتماله على السهل الممتنع الذى يعد فى الشعر ملاك الإعجاز والتفوق النهائى. 19- قوة عباراته لتحمل الوجوه وتشابه المعاق. 20- قصصه الحلوة وكشوفه التاريخية من حوادث القرون الخالية. 21- أمثاله الحسنى التى تجعل المعقول محسوساً وتجعل الغائب عن الذهن حاضراً لديه. 22- معارفه الإلهية كأحسن كتاب فى علم اللاهوت، وكشف أسرار عالم الملكوت، وأوسع سفر من مراحل المبدأ والمعاد. 23- خطاباته البديعية وطرق إقناعه الفذة. 24- تعاليمه العسكرية ومناهجه فى سبيل الصلح وفنون الحرب. 25- سلامته من الخرافات والأباطيل التى من شأنها إجهاز العلم عليها كلما تكاملت أصوله وفروعه. 26- قوة الحجة وتفوق المنطق. 27- اشتماله على الرموز فى فواتح السور، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها. 28- جذباته الروحية الخلابة للألباب، الساحرة للعقول، الفتانة للنفوس. ولكن اختيار المؤلف يقع على الوجه الأخير الى جانب بلاغة القرآن الجامعة فهما عنده وجه الإعجاز المقصود فى آيات التحدى. ولعل من الأصوب أن يضاف إلى ذلك تضمنه الأسس لشريعة إنسانية صالحة لكل زمان ومكان. وهاك هذه الصورة من طرائف الأدب العربى، ونحن حين نسوقها نعلم أنها تضمنت وقائع من نسج الخيال، بيد أن الرمز الذى يتألق فيها يشير الى المنزلة الجلية التى كونها القرآن فى النفوس، ويشرح كيف نفذ بيانه الى شغاف القلوب ثم استقر. وهذه الصورة من رواية صاحب الأمالى : حدثنا أبو بكر قال: حدثنى عمى عن أبيه عن ابن الكلبى عن أبيه قال: كان خنافر بن التوأم الحميرى وكان قد أوتى بسطة فى الجسم وسعة فى المال وكان عاتيا.
ص _035(1/33)
فلما وفدت وفود اليمن على النبى صلى الله عليه وسلم وظهر الإسلام ، أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشجر، فحالف جودان بن يحى الفرضمى وكان سيداً منيعا، ونزل بواد من أودية الشجر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين. قال " خنافر وكان" رئيى " (شيطان يشبه شياطين الشعراء) فى الجاهلية لا يكاد يتغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة و ساءنى ذلك. فبينما أنا ليلة بذلك الوادى نائم، إذ هوى قوِى العقاب.. قلت من؟ فقال خنافر؟ فقلت شصار؟ فقال اسمع أقل. قلت: قل أسمع ، فقال: عه تغنم. لكل مدة نهاية، وكل ذى أمد الى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة الى أجل، ثم يتاح لها حول. إنتسخت النحل ورجعت الى حقائقها الملل! إنك سجير "يعنى صديق! موصول والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشام نفرا من آل العذام " الجن "حكاماً على الحكام، تذبرون "يقرأون" ذا رونق من الكلام ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلمت "اى منعت " . فقلت : بم تهينمون و الإم تعتزون؟ قالوا: خطاب كعمر، جاء من عند الملك الجبار. فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والايمان، رسول من مضر، من أهل المدر ابتعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآى الكبر. قلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنت أعطيت الشبر "يعنى الخير" وإن خالفت أصليت سقر . فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر وإلا فهو الفراق لا عن تلاق. قلت: من أين أبغى هذا الدين؟ قال: من ذات الأحرين "صحراء حول المدينة" والنفر اليمانين ، أهل الماء والطين. قلت: أوضح! قال: إلحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل،
ص _036(1/34)
فهناك أهل الطول والفضل، و المواساة والبذل. ثم أملس عنى "يعنى ذهب" فبت مذعوراً أراعى الصباح. فلما برق لى النور امتطيت راحلتى، وآذنت "يعنى اعلمت" أعبدى ، واحتملت أهلى، حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها و سقابها. وأقبلت أريد صنعاء فأصبت بها معاذ بن جبل أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلمنى سوراً من القرآن فمن الله على بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة، وقلت فى ذلك: ألم تر أن الله عاد بفضله.. فأنقذ من لفح الجحيم خنا فرا وكشف لى عن حجمتي عماهما.. وأوضح لى نهجى وقد كان دائراً دعاني شصار للتى لو رفضتها.. لأصليت جمرا من لظى الهوب واهراً فأصبحت والإسلام حشو جوانحى.. وجانبت من أمسى عن الحق نافراً وكان مضلى من هديت برشده.. فلله مغو عاد بالرشد آمراً نجوت بحمد الله من كل قحمة.. تورث هلكاً يوم شايعت شاصراً وقد أمنتني بعد ذاك يحابر.. بما كنت أغشى المنديات يحابراً فمن مبلغ فتيان قومى ألوكة .. بأني من أقتال من كان كافرا عليكم سواء القصد لا فل حدكم.. فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا ص _027(1/35)
و ما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به فى كل لسان وقلم، أى القوتين كان خاضعاً لها حين قال أو كتب. فإذا رأيته يتجه الى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة علمية، قلت: هذا ثمرة الفكرة. "واذا" رأيته يعمد الى تحريص النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة. "هذا" رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين الى الآخر، فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض الى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه. وأما أن أسلوباً واحداً،. يتجه اتجاهاً واحداً، يجمع لى يديك هذين الطرفين معاً، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقاً و أزهاراً و أثماراً معاً، أو كما يسرى الروح فى الجسد، والماء فى العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به فى كلام بشر، ولاهو من سنن الله فى النفس الإنسانية. فمن لك اذن بهذا الكلام الواحد الذى يجىء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضى حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟ ذلك الله رب العالمين. فهو الذى لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان، وأن يمزج الحق والجمالي معاً، يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شراباً خالصا سائغاً للشاربين. وهذا هو ما تجده فى كتابه الكريم حيثما توجهت. ألا تراه فى فسحة قصصه وأخباره، لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟(1/36)