وهكذا فإن من طهرت ألسنتهم فلم تنطق إلا بكلمة الإيمان والتوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يثبِّتهم الله تعالى ويؤيِّدهم في الدنيا، فلا تزعزعهم رياح الشرِّ، ولا تقضي عليهم المصائب، ويؤيِّدهم ويثبِّتهم في الآخرة؛ منذ وصولهم إلى أوَّل منزل من منازلها وهو القبر، وإلى أن يجتازوا الصراط إلى قصورهم في الجنَّة، فلا يحزنون حين يحزن الناس، ولا ينالهم فزع حين يفزعون، بل يُلَقَّون الأمن والأمان، والطمأنينة والتحيَّة والسَّلام، وعن البرَّاء رضي الله عنه عن النبي r أنه قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله فذلك قوله: يثبِّت الله الَّذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة». وأمَّا الَّذين تعوَّدوا الفُحش في القول والسوء في العمل، فإنهم يضلُّون في الدنيا والآخرة، لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الفجور، والله يجزي كلَّ فريق بما يستحقُّ، بعد أن اختار هذا الفريق طريقه ونهايته بإرادته دون إجبار ولا إكراه.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {وقُلْ لعبادي يقولوا الَّتي هيَ أحسنُ إنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بينَهُم إنَّ الشَّيطانَ كان للإنسانِ عدوّاً مُبيناً(53)}
ومضات:
ـ صاحب الذوق السليم ينتقي من حديقة الورد أجملها، ومن الفواكه أطيبها، وكذلك هو المؤمن الراقي الحس، المهذَّب الجوارح يختار من الكلمات أطيبها، ولا يدع لسانه مطيَّة للشيطان يحرِّكه لينطق بما يرضيه في بثِّ الفتن والأحقاد بين قلوب المؤمنين، ليحيل ودَّهم عداوة، ووحدتهم وتعاضدهم فرقة وضعفاً.
في رحاب الآيات:(2/255)
يملك الشيطان سهاماً عديدة للإيقاع بالمؤمن، فالنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، والكلمة الفاحشة سهم أشدُّ سُمَّاً وإيذاءً، يفجِّر الغضب ونيران الحقد في نفوس الناس، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء. لذلك يأمرنا الله تعالى بالتحكُّم في أقوالنا وأعمالنا لتكون مسدَّدة صائبة بحيث لا نتفوَّه من القول إلا بأحسنه، ولا نأتي من الأعمال إلا بأفضلها، لنسدَّ بذلك على الشيطان مسالكه، ونمنعه من التغلغل بين صفوفنا كمؤمنين متحابِّين متوادِّين، كي لا يفسد علينا سعادتنا وطمأنينتنا. فالشيطان ينزغ بين الإخوة، وينفث سمومه في صدورهم فتكون الكلمة الفظَّة السيئة من أولى آثار سمومه، ثم يتلوها الردُّ السيء، فإذا جوُّ الوفاق والود والمحبَّة، ينقلب خلافاً يثمر جفوة فعداءً، بينما تبقى الكلمة الطيِّبة بلسماً يداوي جراح القلوب، ويجمعها على الودِّ والتفاهم الكريم، ويمكننا أن نجد نظير هذه الآية في قوله تعالى: {..وقولوا للنَّاس حُسناً..} (2 البقرة آية 83)، وقوله أيضاً في وصف المؤمنين: {وهُدوا إلى الطَّيِّب من القولِ وهُدوا إلى صراط الحميد} (22 الحج آية 24).(2/256)
فالعداوة مستحكمة بين الإنسان والشيطان لأنه لا يريد صلاح الناس أصلاً بل يريد هلاكهم، وقد أظهر عداوته لهم في كلِّ مناسبة أتيحت له، كما حذَّرنا الله تعالى من العهد الَّذي أخذه الشيطان على نفسه لإضلال بني آدم عندما قال: {قال فبما أغويْتَني لأَقْعُدَنَّ لهم صِراطكَ المستقيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ من بين أيديْهِم ومن خلْفِهِمْ وعن أيمانِهِمْ وعن شمائِلِهمْ..} (7 الأعراف آية 16ـ17). ولكي تصل البشرية إلى وحدتها فتكون أمَّة واحدة، وإلى تواصلها فتكون أسرة واحدة، أمر الله جَلَّت حكمته بحسن الأدب ولين القول وجميل الفعال، لأنه جميل يحبُّ الجمال، طيِّب يحبُّ الطيِّب. وما علينا في سبيل الفوز بمحبَّته إلا أن نسعى إلى ذلك بالتجمُّل بأخلاق القرآن، والتحلِّي بشمائل المصطفى العدنان r، لأن أعلى مستوى من مستويات الكمال هو أن نتخلَّق بأخلاق القرآن الَّتي جسَّدها الرسول الكريم r قولاً وعملاً؛ فهاهو ذا كتاب الله يصفه بأجلِّ الصفات عندما يقول سبحانه: {وإنَّك لعلى خُلُقٍ عظيم} (68 القلم آية 4) وهاهي ذي السيِّدة عائشة رضي الله عنها تصفه قائلة: (كان خلقه القرآن).
الفصل الحادي عشر:
إصلاح ذات البين
سورة الحجرات(49)
قال الله تعالى: {وإنْ طائِفتان من المؤمنين اقْتَتَلُوا فأصلحوا بينَهما فإنْ بَغَتْ إحداهما على الأُخرى فقاتِلوا الَّتي تَبْغي حتَّى تَفِيء إلى أمر الله فإنْ فاءَتْ فأصلحوا بينَهما بالعدلِ وأقْسِطُوا إنَّ الله يحبُّ المُقْسطين(9) إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ فأصلحوا بين أخوَيْكم واتَّقوا الله لعلَّكم تُرحمون(10)}
ومضات:
ـ المؤمن أخو المؤمن، والأُخوَّة رباط قويٌّ من روابط الإيمان الحقيقي، لذلك كان لزاماً علينا أن نسارع ودون أيِّ تهاون إلى رأب الصدع، وإصلاح الخلل بين الإخوة قبل أن يستفحل الشر ويُعْضِلَ الداء، لننال الرحمة والبرَّ الإلهي.
في رحاب الآيات:(2/257)
لقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع خلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار؛ وذلك لأن المؤمنين بَشَر، والبشر يخطئون ويصيبون، ويعسر أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائماً. ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف هذه، على اختلاف مستوياتها؛ بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة، ومروراً بالهجر والتباعد، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال. وقد نصَّ القرآن الكريم على الحلِّ الأمثل لعلاج مثل هذه الحالة الطارئة ويتمثَّل بانتهاج طريقين اثنين هما:
أوَّلاً: العمل على جمع شمل المتخاصمين وإصلاح ذات بينهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
ثانياً: في حال تمرُّد إحدى الفئتين المتخاصمتين على أحكام الصلح وقبول الأخرى بها؛ يجب أن يقوم المجتمع بأكمله في وجه الفئة المتمرِّدة منهما لإلزامها برأي الجماعة، ولو أدَّى ذلك إلى إخضاعها له بالقوَّة. فإذا ارتدعت وانقادت فالصلح سيِّد الأحكام، والعدل رائد الجميع في إتمام مسيرة السَّلام، وبذلك تُنتزع جذور الشرِّ من القلوب وتُزرع مكانها بذور المحبَّة والوئام.(2/258)
إن الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة الَّتي يوغر بها صدور الناس، لينفصلوا بعد اتحاد، ويتنافروا بعد اتفاق، ويتعادوا بعد أُخوَّة؛ فما دامت هناك مجتمعات وتجمُّع واجتماعات، فلابدَّ من وجود أسباب للاتفاق وأخرى للاختلاف، ولابدَّ من وجود آراء متقاربة وأخرى متنافرة، قد تؤدِّي عند بعض الناس إلى نشوب خلاف مردُّه إلى التباين في تلك الآراء، وعجز كلِّ طرف من أصحاب الخلاف عن إدراك وجهة نظر الطرف الآخر، ممَّا يؤدِّي بدوره إلى سوء التصرُّف الَّذي لا تُحمَد عقباه في كثير من الأحيان. وكما وضع القرآن الكريم في الحسبان احتمال وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين، فقد أبقى وصف الإيمان للطائفتين كلتيهما على الرغم من اقتتالهما، مع احتمال أن تكون إحداهما أو كلتاهما باغية. وفي مواجهة ظرف كهذا يتوجَّب على كلِّ عاقل حكيم مدرك للأمور، يتمتَّع بسعة الصدر، وبُعد النظر أن يتقدَّم لإصلاح ذات البين، وتضييق شقَّة الخلاف، ونزع العداوة من القلوب، وإحلال المحبَّة والسلام، على أن يكون حكماً عدلاً منصفاً في إيصال كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، فقد جاء في الحديث الشريف: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصِّيام والصَّلاة والصَّدقة؟ قالوا: بلى يارسول الله! قال: إصلاح ذات البين» (رواه البخاري ومسلم).(2/259)
فإذا ما صدر الحُكم العدل عن هيئة اجتماعية معروفة بالعدالة والتَّقوى وجب على الجميع الالتزام به، والتقيُّد بأحكامه، إذعاناً للحقِّ وإرضاءً للضمائر الحيَّة، أمَّا إذا قلب بعض الناس ظهر المِجنِّ، وغلبتهم أهواؤهم ومطامعهم، وانْبَرَوا للاعتداء والخروج عن الجماعة، فلابدَّ للجميع من الوقوف ضدَّهم لصدِّهم عن غيِّهم وتماديهم، دون أن تأخذهم في دين الله رحمة أو شفقة بهم. فإذا انتهَوْا والتزموا جانب الصواب يُعفى عنهم ويُتجاوز عن سيئات أعمالهم، بعد أن يصلحوا ما قاموا بإفساده. وينبغي تحرِّي العدل والإنصاف في الإصلاح بين المتخاصمين لأن الله يحبُّ العادلين، جاء في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قلت يارسول الله: هذا نصرتُه مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إيَّاه».
وفي الختام تقرِّر الآية الكريمة أن الأُخوَّة الحقيقية هي أُخوَّة الإيمان، فالمؤمنون إخوة تجمعهم رابطة الدِّين، فلا يليق بهم أن يسمحوا للعداوة أو الشحناء أن تسري بينهم، فأُخوَّة الإسلام أقوى من أُخوَّة النَّسب، بحيث أن أُخوَّة النسب تفقد قيمتها إذا خلت من أُخوَّة الإسلام.
والخلاصة: أنه يجب الإصلاح بين المتخاصمين، والوقوف في وجه المعتدين، وعَدُّ رابطة الإيمان أقوى من رابطة الدم والنسب، وكذلك السعي الحثيث لمنعِ الفرقة من أن تُنشب أظفارها، والحيلولة دون نفثِ البغضاء سمومها في جسد مجتمعنا، وأن نتحلَّى جميعاً بالتَّقوى لتهبَّ علينا نفحات الله عزَّ وجل، ولتبقى المحبَّة مزدهرة بيننا وارفة الظلال.
القسم الثالث:
آداب اجتماعية إسلامية
الفصل الأوَّل:
التحيَّة
سورة النساء (4)
قال الله تعالى: {وإذا حُيِّيتُم بتحيَّةٍ فَحيُّوا بأحسنَ منها أو ردُّوها إنَّ الله كان على كلِّ شَيْءٍ حسيباً(86)}
ومضات:(2/260)
ـ إن الإسلام يُدْخل الاطمئنان والسرور إلى أعماق النفس البشرية بأيسر الوسائل وأقلِّ التكاليف، منطلقاً من الحثِّ على التبسُّم في وجوه الآخرين وتحيَّتهم بملء الودِّ والمحبَّة.
ـ إن المبادرة الطيِّبة من الناس يجب أن تلقى قبولاً حسناً، وأن يُكافَأَ البادئ بخير على مبادرته، فإن لم نستطع ذلك كان لزاماً علينا أن نردَّ على الإحسان بمثله.
ـ لقد رتَّب الله تعالى أمور الناس بما يكفل لهم السعادة والوحدة، وأعطى لكلِّ شيء حقَّه لتتوازن الحياة وفق أدقِّ المعايير، فلا يكون هناك أي خلل يؤدِّي إلى الانقسام أو التفسخ.
في رحاب الآيات:
في هذه الآية الكريمة لمسات ودِّية جديرة بالوقوف أمامها، فهي تحدِّد السمة الَّتي يحرص المنهج الإسلامي على طبع المجتمع المسلم بها، ألا وهي الترغيب بكلِّ وسيلة من شأنها أن توثِّق عُرى الأخُوَّة وتعزِّز علاقات الموَّدة بين أفراد المجتمع؛ وإن إفشاء السَّلام والتحيَّة في مقدِّمة تلك الوسائل الَّتي تتجلى ثمراتها في تصفية القلوب، وتوسيع دائرة التعارف بين الناس، وتوثيق الصلة بين عباد الله، وهي ظاهرة يدركها كلُّ من يمارسها على صعيد المجتمع ويتدبَّر نتائجها الإنسانية العجيبة.
وقد اختار الله للمؤمنين أجمل معاني التحيَّة ليتبادلوها فيما بينهم؛ وجعلها كلمة السَّلام، فمن أسمائه الحسنى السَّلام، وقد سمَّى الجنَّة دار السَّلام، وتحية المؤمنين والملائكة فيها السَّلام، قال تعالى: {دعوَاهُم فيها سبحانَكَ اللَّهمَّ وتحيَّتُهُم فيها سلام..} (10يونس آية10) والعالَمُ اليوم بأجمعه يسعى جاهداً لنشر السَّلام، فما أجملها من تحيَّة كريمة أهداها دين الإسلام للبشرية.(2/261)
وللتحيَّة مرتبتان: أدناهما ردُّها بمثلها، وأعلاهما الردُّ بأحسن منها، والمجيب مُخَيَّر بينهما، ومن السُنَّة أن يسلِّم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والفرد على الجماعة. ويسلِّم الرجل على أهل بيته حين يدخله، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يابُنَيَّ إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» (رواه الترمذي) وقال قتادة: (إذا دخلت بيتك فسلِّم على أهلك، فهم أحقُّ من سلَّمت عليهم). فمن دخل بيتاً ليس فيه أحد فليقل: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن الملائكة تردُّ عليه السَّلام.
والسَّلام سنَّةٌ عند الدخول على قوم ما، قال تعالى:{ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تدخلوا بُيوتاً غيرَ بُيوتِكُم حتَّى تستأنِسوا وتُسلِّموا على أهلها..} (24 النور آية 27)، وكذلك يُسنُّ عند المغادرة والرحيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم فليست الأولى بأحقَّ من الآخرة فمن فعل ذلك شاركهم في كلِّ خير فعلوه بعده» (رواه أبو داود والترمذي).
ومن أدب السَّلام الجهر به لأنه أدعى لإدخال السرور في القلب، ويجوز أن يكون السَّلام على النساء الأجنبيات بالإشارة، قالت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: «مرَّ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يوماً، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم» (رواه الترمذي وأبو داود) فالحديث يشير إلى جواز التسليم بالإشارة على النساء الأجنبيات، وجواز تسليمهن على الرجال، إذا أُمِنَت الفتنة. والسُّنة في السَّلام بين الرجال المصافحة لما لها من فضلٍ عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتفرَّقا» (رواه أبو داود والترمذي).(2/262)
والسَّلام أمانة يجب تأديتها لأصحابها فمن قال لآخر: أَقْرِئ فلاناً عني السَّلام، وجب عليه أن يفعل. ويجب ردُّ السَّلام على الغائب، وأن يُشرك المُبلِّغ كقوله: (عليك وعليه السَّلام) فقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: «إن أبي يقرئك السَّلام فقال: عليك وعلى أبيك السَّلام» (رواه أبو داود). والأكمل أن نبدأ نحن بالتحيَّة لمن نعرف ولمن لا نعرف، وهذا إفشاءٌ للسَّلام ونشرٌ لأسباب المحبَّة على مستوى الأفراد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أَوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم» (رواه مسلم). أمَّا على مستوى الدول والشعوب فالأجدر بها أن يكون بينها تحيَّة وتعاون مثمر بنَّاء، لما فيه من تحقيق لمصلحة الإنسانية في الإعمار والازدهار، وخيرُ شعوب الأرض هو السبَّاق إلى إنشاء جسور السَّلام والتفاهم، ونشر المودَّة والمحبَّة والإخاء، والله تعالى رقيب شهيد.
الفصل الثاني:
آداب الاستئذان
سورة النور(24)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تدخلوا بُيوتاً غيرَ بيوتِكُم حتَّى تستأْنِسوا وتُسلِّموا على أهلِها ذلكم خيرٌ لكم لعلَّكم تَذَكَّرون(27) فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخُلوها حتَّى يُؤذَنَ لكم وإن قيلَ لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملونَ عليم(28)}
ومضات:
ـ لقد جعل الله تعالى البيوت سكناً، يؤوب إليها الناس، فتستريح أجسادهم، وتسكن أرواحهم، وتطمئن نفوسهم، ويأمنون فيها على عوراتهم وحرماتهم، لذلك جعل لها حرمة، ولدخولها آداباً لا يجوز انتهاكها، فلم يسمح للناس أن يفاجِئ بعضهم بعضاً بدخولها من غير استئذان.
في رحاب الآيات:(2/263)
لكي نستوعب أهمية التربية الإسلامية علينا أن نعود بالمخيِّلة إلى الزمن الَّذي نزلت فيه هذه الرسالة، ونمط السلوك الَّذي كان عليه أهل ذلك الزمان. فنحن لا ندرك أهمية هذه التعاليم ما لم نتخيَّل حياة العرب حينها من حيث بداوتهم وخشونتهم، وكيف أنهم تحوَّلوا بفضل الإسلام إلى سادة مهذَّبين، يحترمون الآخرين في حياتهم الخاصَّة والعامَّة، فلا يقتحمون عليهم بيوتهم، ولا يتطفَّلون عليها كما كانوا يفعلون قبل الإسلام، فقد كان أحدهم يدخل البيت، ثم يقول: لقد دخلت، أيّاً كانت الحالة الَّتي يكون عليها صاحب الدار وأهله.(2/264)
من أجل هذا أدَّب الله المسلمين بهذا الأدب العالي، أدب الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت والسَّلام على أهلها، لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم. وبذلك غدت البيوت حَرَماً آمناً، لا يستبيح أحد دخوله إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الَّذي يريدون، وعلى الحالة الَّتي يحبُّون أن يلقاهم الناس عليها. ومن هذا الأدب أن يستأذن المرء ثلاثاً، فإنْ أُذنَ له دخل وإلا انصرف، فقد ثبت في الصحيح أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر رضي الله عنه ثلاثاً فلم يُؤذن له فانصرف، فقال عمر: ألم أسمع صوت أبي موسى يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يُؤذن لي، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يُؤذن له فلينصرف». وقد بيَّن قتادة أن معنى قوله تعالى: {حتَّى تَستأْنِسوا} هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له فليرجع. وأمَّا الحكمة من ذلك فإن الأُولى لِيَسمعَ أهل البيت، والثانية ليأخذوا أُهْبَتَهم واستعدادهم، والثالثة ليأذنوا إن شاؤوا أو يردُّوا. وقد نهى الله تعالى المرء عن أن يقف بباب قوم ردُّوه، فَإِنَّ للناس حاجات ولهم أشغال. ومن أدب الاستئذان أيضاً أن يُفصح المرء عن اسمه حتَّى يعرفه صاحب البيت جيداً، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب فقال صلى الله عليه وسلم : «من ذا؟ فقلت: أنا، قال: أنا.. أنا..!! كأنه كرهه» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي في السنن وابن حبان في صحيحه) وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرف بها صاحبها، ما لم يُصَرِّح بذكر اسمه أو كنيته الَّتي يشتهر بها، ولأنه إذا عبَّر كلُّ واحد عن نفسه بـ(أنا) فإن المقصود من الاستئذان لا يحصل.(2/265)
ومن ذلك أيضاً استقبال الباب من أحد ركنيه، والسَّلام على أهل البيت، فقد روي عن عبد الله بن بِشْر رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السَّلام عليكم، السَّلام عليكم» (أخرجه البخاري)، وروى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يبدأ بالسَّلام فلا تأذنوا له». ذلك لأن السَّلام من سنَّة المسلمين، وهو جالب للمودَّة، مانع للحقد والضغينة. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حقُّ المسلم على المسلم ست: يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وينصح له بالغيب، ويشمِّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات» (رواه البخاري ومسلم)، وفي هذا المقام يحسن إيراد الحادثة التالية:
يروى أن عمر بن الخطاب كان يمشي ليلة مع ابن مسعود رضي الله عنهما فسمعا لغطاً في أحد البيوت، فتسوَّرا حائطه، فإذا شيخ بين يديه شراب وقينة (مُغَنِّية) تغنِّي، فقال عمر: ما صحَّ لشيخ مثلك أن يكون على مثل هذه الحالة، فقام إليه الرجل فقال: ياأمير المؤمنين!! أنشدك الله، إلا ما أنصفتني حتَّى أتكلم، قال رضي الله عنه : قل، فقال: إن كنتُ عصيتُ الله في واحدة فقد عصيتَ أنت في ثلاث، قال: ما هُنَّ؟ قال: تجسَّست وقد نهاك الله فقال: {..ولا تجسَّسوا..} (49 الحجرات آية 12)، وتسوَّرت وقد قال الله: {..وليس البِرُّ بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورِها ولكنَّ البِرَّ منِ اتَّقى وأْتوا البيوتَ من أبوابها..} (2 البقرة آية 189)، ودخلت بغير إذن وقد قال تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غيرَ بيوتِكُم حتَّى تستأنسوا وتسلِّموا على أهلها} فقال عمر: صدقتَ، فهل أنت غافر لي؟ فقال: غفر الله لك، فخرج عمر وهو يبكي ويقول: ويلٌ لعمر إنْ لم يغفر الله له. وفي رواية أخرى قال عمر: هل لك في أن تتوب وأتوب فقال نعم.(2/266)
أمَّا إذا عَرَضَ أمر في دار؛ من حريق أو هجوم سرقة أو قتل، فيجوز الدخول حينها دون استئذان فإن ذلك مستثنى بالدليل، حسب القاعدة الفقهية: (الضرورات تبيح المحظورات).
وبعدُ، فالقرآن الكريم منهاج حياة، يحفل بهذه الجزئية الاجتماعية ويمنحها هذه العناية لأنه يعالج الحياة كليَّاً وجزئيَّاً، لينسِّق بين أجزائها وبين غاياتها الكلِّيَةِ العليا. فأدب الاستئذان يحفظ للبيوت حرمتها، ويحمي أهلها من أذى المفاجأة؛ والتمسك بهذا الأدب أمر يجب الالتزام به مع عامَّة البيوت المسكونة، لكن مراعاته بدخول بيوت أهل العلم أدقُّ وأبلغ، ذلك لأن بعض العلماء يفتحون أبوابهم لكلِّ سائل ولكلِّ صاحب حاجة، ولا يغلقونها في وجه أحد ممن يَرِدُ عليهم خوفاً من المسؤولية أمام الله، ورغبة في التقرُّب إليه بقضاء حوائج خلقه. ولكن بعض الثقلاء من الناس يتهاونون في الالتزام بهذه الآداب، ويزهدون في هذا العطاء ولا يقدِّرونه حقَّ قدره، بل ربَّما تعدَّوا ذلك إلى إطالة وقت جلوسهم حتَّى يحين وقت الطعام، فَيُوقِعون أهلها بالحرج والإزعاج، وهذا ممَّا يرفضه الذوق السليم، ويستنكره الأدب الرفيع الَّذي أراده الإسلام أن يكوِّن ملامح الحياة الاجتماعية الإسلامية.
إن الإسلام وطَّن نفوس أتباعه على حسن قبول الاعتذار عن عدم استقبال الزائر، إن كانت ظروف المزور ليست مواتية لاستقباله، فقال تعالى: {وإن قيلَ لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملونَ عليم}. وبما? أن وسائل الاتصال أصبحت متوافرة في غالب الأحيان، فإن ممَّا ينبغي على المسلم أن لا يحضر لزيارة العالِم، بشكل خاص، إلا بعد إعلامه وأخذ موافقته ليكون المزور قد لاءَم ظروفه مع هذه الزيارة.
سورة النور(24)(2/267)
قال الله تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرج حَرَجٌ ولا على المريض حَرَجٌ ولا على أنفسِكم أن تأكلوا من بيوتِكم أو بيوتِ آبائِكم أو بيوت أمَّهاتِكم أو بيوتِ إخوانِكم أو بيوتِ أخواتِكم أو بيوتِ أعمامِكم أو بيوتِ عمَّاتِكم أو بيوتِ أخوالِكم أو بيوتِ خالاتِكم أو ما مَلكْتم مفاتِحَهُ أو صديقِكم ليس عليكم جُنَاحٌ أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً فإذا دخلتُم بيوتاً فسلِّموا على أنفسِكم تحيَّةً من عند الله مباركةً طيِّبةً كذلك يبيِّنُ الله لكمُ الآياتِ لعلَّكم تعقلون(61)}
ومضات:
ـ عندما يُرفَعُ الحرج بين الأقارب والأصدقاء وأصحاب العلل، تذوب الفوارق الاجتماعية، وتنصهر القلوب في بوتقة واحدة، وتتآلف الأرواح لِتَكْبُرَ العائلة الإسلامية وتصبح أسرة إنسانية واحدة.
ـ الإطعام متعة للكريم السخي، يحصل عليها حين يشاركه الناس طعامه، فهو يتلذَّذ بمؤاكلتهم وكأنهم عياله يرعاهم ويحنو عليهم.
ـ إطعام الطعام وإفشاء السَّلام والقنوت لله سَحَراً والناس نيام؛ جواز سفر للمؤمن يؤهِّله لدخول جنَّات النعيم بإذن الله.
في رحاب الآيات:
لكأنِّي بهذه الآية الكريمة قد حوَّلت العالم كلَّه إلى عائلة واحدة تأكل مع بعضها بعضاً، بانفتاح وتواصل دون حدود أو قيود تفصل بين أفرادها، الغني منهم والفقير، الصحيح فيهم والسقيم، وهذه هي الغاية الَّتي يسعى الإسلام إلى تحقيقها، وهي أن تُظِلَّ مظلَّة الإيمان الأسرة الإنسانية كلَّها وتجمعها في رحاب الحبِّ والتراحم. ولعلَّ تَشارُكَ الناس في الطعام من أنجع الوسائل للتحابب، وتقوية روابط الألفة والمودَّة فيما بينهم، فقد تعارفوا منذ القدم على أن للخبز والملح حرمة، وهناك مقولة مفادها: من أكل مِن زادنا دخل في أهلنا، فلا يجوز لنا أن نغدر به، ولا ينبغي له أن يعتدي علينا.(2/268)
وقد بدأت الآية بذكر أصحاب الإصابات الجسدية للفت الأنظار إلى العناية بهم، وإعطائهم الأفضلية في الطعام، والأولوية في المجالس، تخفيفاً لمصابهم، وإشعاراً لهم بانتمائهم الوثيق إلى مجتمعهم، شأنهم في ذلك شأن الأفراد الأصحَّاء. ثم بيَّنت الآية الكريمة حكم الأكل من البيوت المذكورة من غير إذن صريح؛ فهو جائز ومباح ولا إثم فيه ولا حرج، ويكون حكم الأكل من بيت القريب والصديق، كحكم أكل الإنسان من بيته الخاص على حدٍّ سواء. أمَّا غير تلك البيوت فإن أصحابها قد ينفرون من هذا التصرف ويجدون فيه حرجاً وكلفة؛ فلا يجوز لمن يدخلها أن يأكل من طعام أهلها في حال غيبتهم أو وجودهم إلا بإذن صريح منهم، وعليه أن يتعفَّف ويتجنَّب الأكل منها لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود: «لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».
وقد ورد في سبب نزول الآية موضوع بحثنا روايات كثيرة نذكر منها رواية سعيد ابن المسيب رضي الله عنه فقد قال: أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا ممَّا في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتَّقون أن يأكلوا منها ويقولون، نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيِّبة فأنزل الله هذه الآية.(2/269)
وهذه الآية الكريمة آية تشريع، لذلك نلحظ فيها دِقَّة الأداء اللفظي، والترتيب الموضوعي، والصياغة الَّتي لا تدع مجالاً للشكِّ أو الغموض في حكمها، كما نلمح فيها ترتيب القرابات، فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم، بل تقول: {من بيوتِكم} فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج، لأن بيت الزوج بيت لزوجته، وبيت الابن بيت لأبيه، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم». وتليها بيوت الآباء فالأمَّهات، فالإخوة، والأخوات، فالأعمام والعمَّات، فالأخوال والخالات. ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل، فله أن يأكل ممَّا يملك مفاتيحه بالمعروف، ولا يزيد على حاجة طعامه، ويلحق بها بيوت الأصدقاء عند عدم التأذِّي والضرر، لأن صديقك أخ لك. عن محمَّد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة، فأبصرت فيه رُطباً، فجعلتُ آكله، فدخل فقال: ماهذا؟ فقلت: أبصرت في بيتك رطباً فأكلتُ، فقال: أحسنت؛ قال تعالى {… أو صديقِكم…}. وكذلك رفع الله الحرج عن المسلمين أن يأكلوا مجتمعين، أو متفرقين إذا صَعُبَ على المسلم أن يطلب في كلِّ مرة أحداً يأكل معه.(2/270)
وبعد أن بيَّنت الآية الحالة الَّتي يكون عليها الأكل، ذكرت آداب دخول البيوت الَّتي يؤكل فيها: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلِّموا على أنفسكم تحيَّةً من عند الله مباركة طيِّبةً} وهو تعبير لطيف عن قوَّة الرابطة بين المذكورين في الآية، فالَّذي يسلِّم منهم على قريبه أو صديقه إنما يسلِّم على نفسه، والتحيَّة الَّتي يلقيها عليه هي تحيَّة من عند الله، تحمل تلك الروح، وتفوح بذاك العطر، وتربط بينهم بالعروة الوثقى الَّتي لا انفصام لها، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «للإسلام ضياء وعلامات كمنار الطريق، فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وتمام الوضوء، والحكم بكتاب الله وسنَّة نبيِّه، وطاعة ولاة الأمر، وتسليمكم على أنفسكم، وتسليمكم إذا دخلتم بيوتكم، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم» (رواه أبو يعلى والديلمي وصححه الذهبي).
الفصل الثالث:
لباقة الحديث وأدب النجوى
سورة المجادلة(58)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إذا تَناجَيْتُم فلا تتناجَوْا بالإثْمِ والعُدْوانِ ومعصيةِ الرَّسولِ وتَناجَوا بالبِرِّ والتَّقوى واتَّقوا الله الَّذي إليه تُحشرون(9)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {لا خيرَ في كثيرٍ من نجواهُم إلاَّ من أمرَ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النَّاسِ ومن يفعلْ ذلك ابتغاءَ مرضاتِ الله فسوف نُؤْتِيهِ أجراً عظيماً(114)}
ومضات:
ـ يحرص المؤمنون على الرقيِّ بأفكارهم والسموِّ بأحاديثهم ومجالسهم نحو الأحسن والأفضل، لذا ينهاهم الله تعالى عن التعرُّض في مجالسهم إلى ما فيه أذىً للناس في أعراضهم، أو اعتداءٌ على كراماتهم، وينهاهم عن الخوض فيما يؤذي الرسول أو يكون مقدِّمة لمخالفته.(2/271)
ـ يعطي الإسلام للوقت قيمة غالية ثمينة، ويحرص على عدم هدره، وذلك بدعوة المؤمنين لأن تكون مجالسهم جادَّة تثمر ما فيه خير البلاد والعباد، فوَّاحة بعبق الإيمان والرياحين الربَّانية، زاخرة بكلِّ ما فيه شدٌّ للهمم والعزائم إلى المزيد من الطاعات والأخلاق الحميدة.
في رحاب الآيات:
روى أبو بَرْزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أواخر عمره إذا قام من المجلس يقول: «سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يارسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى! قال: كفَّارة لما يكون في المجلس» (أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه).(2/272)
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبِّح الله ويحمده ويستغفره كلَّما انتهى من مجلسه، الَّذي لا يخرج عن دائرة الدعوة إلى دين الله تعالى، وإلى ما فيه خير الناس في الدنيا والآخرة، فما الَّذي يتوجَّب علينا فعله عند فراغنا من مجالسنا، الَّتي تدور معظم الأحاديث فيها في دائرة اللغو، الَّذي لا طائل تحته ولا نفع منه ولا ضرر، ناهيك عن الغيبة والنميمة وربَّما البُهتان! هذا عن مجالس عموم النَّاس، أمَّا أصحاب النوايا المغرضة والنفوس الخبيثة، فمجالسهم مؤامرات واجتماعاتهم مكائد، للنيل من كلِّ ما هو خير، ومن كلِّ من هو مخلص يعمل لإصلاح أمر الأمَّة. وقد نفى القرآن الكريم صفة اللغو عن المؤمنين الخاشعين في أكثر من موضع، من ذلك قوله عزَّ وجل: {قد أفلحَ المؤمنونَ * الَّذين همْ في صلاتِهِم خاشعون * والَّذين همْ عنِ اللَّغوِ معرِضُون} (23 المؤمنون آية 1ـ3)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (رواه مسلم والبيهقي). والآية الكريمة تنهانا عن الجلوس في مجالس اللغو والنميمة، أو الخوض في هذه الأحاديث، وتأمرنا بأن نستبدلها بمجالس تحضُّ على العمل البنَّاء الخيِّر المثمر، وتهدف المسامرة فيها إلى ما فيه خير الأمَّة وصلاحها، وتبيِّن لنا ما يليق بالمؤمن من أحاديث تهدي إلى البرِّ والتَّقوى؛ وأهمُّها ذكر الله، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناقشة السُّبُل لتحسين أحوال المسلمين في المجالات كافَّة. لذا كانت المحاور الأساسية الَّتي ينبغي أن يدور حولها حوار المجالس ثلاثة: أوَّلها الترغيب بالصدقة، والحثُّ على الإنفاق، ودراسة شؤون الفقراء والمحتاجين الَّذين لا يجدون ضروريات الحياة، ووضع منهج منظَّم لجمع ما يفيض عن حاجاتنا، واستثماره في خدمتهم من خلال عمل بنَّاء، يوظِّف الأيدي العاملة، ويعود بالنفع على الجميع. وثانيها: الأمر بالمعروف والنهي(2/273)
عن المنكر، فلا خير في مجتمع يعيش أفراده حسب أهوائهم دون رادع أو وازع، ولابدَّ من وجود عين يقظة ترصد الخطأ، وضمير حيٍّ يقوِّم الاعوجاج ويصلح الخلل بلطف ورويَّة، وهذا ما دعا إليه رسول الإنسانية محمَّد صلى الله عليه وسلم حين قال: «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (رواه الخمسة إلا البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ). أمَّا ثالثها: فهو القيام بالعمل المجدي الخلاَّق الَّذي نزلت به الشرائع السماوية في بعض ما نزلت من أجله، وهو نشر المحبَّة والسَّلام بين الناس جميعاً، لتسود المجتمع رابطة الأُخوَّة الَّتي تحقق التماسك والقوَّة. إن نشر المحبَّة بين الناس يعني فيما يعنيه الإصلاح بين المتخاصمين، فالخصومات والشحناء تنتشر في كلِّ المجتمعات، صغيرها وكبيرها، ففي الأسرة الواحدة خلافات وخصومات، وفي الحيِّ الواحد والبلد الواحد أيضاً، وكذلك بين الدول، ممَّا يؤدِّي إلى الفشل وتردِّي الأخلاق وتدهور المجتمعات. لذلك جاء فيما رواه البيهقي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ياأبا أيوب ألا أخبرك بما يُعْظِمُ الله به الأجر، ويمحو به الذنوب؟ تمشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا فإنها صدقة يحبُّ الله موضعها». فالمؤمن لا يدَّخر جهداً لرأب الصدع بين المتخاصمين، وتحويل ما بينهم من النزاع والعداوة إلى محبَّة وسلام، باذلاً في سبيل ذلك جهده ووقته وماله إذا اقتضى الأمر، لعلَّ المحبَّة تنتشر بين الأفراد، ثمَّ تشمل الشعوب والدول، فتتحوَّل هذه الأرض إلى كوكب تغمره الطمأنينة والسعادة.(2/274)
ومراعاةً للآداب والسلوك الاجتماعي السليم؛ فقد نهى الإسلام عن التناجي إذا كان في ذلك أذىً لأحد، ونهى أيضاً عن تناجي اثنين في مجلس يحضره شخص ثالث دون مشاركته؛ حفاظاً على مشاعره وصيانة لكرامته. والنجوى هي الحديث الخافت الَّذي يدور بين اثنين على الأغلب، أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يَحزُنه». ومع ذلك فإن للتناجي وجهاً آخر رائعاً وهو ما كان بين المتحابِّين، وما كان فيه توادد وتراحم وتقارب، وأجمل صور هذا التناجي وأحبُّها هو ما يكون بين الله عزَّ وجل وعبده المؤمن يوم القيامة، فقد روى الإمام أحمد أن صفوان بن محرز رضي الله عنه قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضي الله عنه إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرِّره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثمَّ يُعطى كتاب حسناته، وأمَّا الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الَّذين كذبوا على ربِّهم، ألا لعنة الله على الظالمين».
فلنتَّقِ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ففي ذلك كلِّه خيرنا، ثمَّ إنه سيجمعنا للحساب، ويجازي كلاً بعمله، وهو شاهد عليه ومحصيه مهما سترناه وأخفيناه.
الفصل الرابع:
التجمُّل وحسن المظهر
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {يابني آدم قد أَنزلنا عليكم لِباساً يُواري سَوْءاتِكُم ورِيشاً.. (26)}
وقال أيضاً: {يابني آدمَ خذوا زينَتَكم عند كلِّ مسجدٍ.. (31)}
وقال أيضاً: {قُلْ من حرَّمَ زينةَ الله الَّتي أخرجَ لعباده.. (32)}
ومضات:(2/275)
ـ الإسلام دين الواقع والحياة؛ لأنه الدِّين الَّذي جمع بين مطالب الروح وحاجات الجسد على حدٍّ سواء، وجعل من كلِّ ما ينسجم مع الفطرة السليمة مباحاً حلالاً، وحرَّم ما يتناقض معها ويسيء إليها.
ـ لمَّا كان التجمُّل والتزيُّن رغبة فطرية في الإنسان، جعله الإسلام أمراً مباحاً في كلِّ حين، ومندوباً وواجباً في الأعياد والصَّلوات الَّتي تجمع كثيراً من الناس في مكان واحد؛ وذلك ليكون قريباً من إخوته في هذه اللقاءات، وبعيداً عن كلِّ ما ينفِّرهم ويؤذي مشاعرهم.
في رحاب الآيات:
لقد كرَّم الله الإنسان على جميع مخلوقاته بالعقل والإرادة والتكليف، وميَّزه عنها بأشياء كثيرة وعديدة من أهمِّها اتخاذ الملابس والزينة، لأنها تدلُّ على مظهر حضاري رفيع، أمَّا التجرُّد عنها فيُعَدُّ انحداراً عن المستوى الإنساني العالي إلى المستوى البهيمي المتدنِّي. وقد امتنَّ الله على الناس بأن خلق لهم المادَّة الَّتي يصنعون منها ثيابهم، وجعلها في متناول أيديهم كالصوف والقطن والوبر والحرير وهذا هو معنى قوله تعالى: {أنزلنا عليكم لباساً}، حيث ألهمهم طرق تصنيعه تحقيقاً لغايتين هما: الستر لعوراتهم فتسمَّى لباساً، وزينة لمظهرهم فتسمَّى ريشاً، فاللباس من الضرورات، والريشُ الَّذي ذكر في الآية الكريمة يعني الزينة من التحسينات والكماليات المباحة الَّتي فُطِرَ الإنسان على الرغبة فيها، بحيث يبدو أمام الناس بالمظهر الجميل اللائق.(2/276)
فالمسلم الحقيقي حسن المظهر دائماً، حلو الكلام، عذب اللسان، يألف ويُؤْلف. وقد أحلَّ الله له الاستمتاع بالطيِّبات ملتزماً حدود الاعتدال، فلا إسراف ولا تبذير، ولا إفراط ولا تفريط. وليس من الدِّين في شيء إهمال نظافة الجسد، أو ارتداء البالي من الثياب بحجَّة الزهد والتقشُّف، فقد أخرج أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قلت: نعم، قال: من أيِّ المال؟ قلت: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله فليُرَ أثرُ نعمةِ الله عليك وكرامته».
ويشترط في التزيُّن ألا يصل حداً يفتتن الإنسان به، ولابأس في أن يتفنَّن به بما علَّمه الله وهيَّأ له من الأسباب، كي يتوصَّل إلى أنواع كثيرة من الزينة المباحة الَّتي لا يخالطها إسراف أو تكبُّر. أخرج مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبَّة من إيمان، ولا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال حبَّة من كِبْر، فقال رجل: يارسول الله! إنه يعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً، وذكر أشياء... أَمِنَ الكِبْرِ ذاك يارسول الله؟ قال: لا، ذاك الجمال، إن الله عزَّ وجل جميل يحبُّ الجمال، ولكن الكِبْرَ من سَفَّهَ الحقَّ وازدرى الناس».(2/277)
فالإسلام لا يُحرِّم شيئاً من الزينة الَّتي خلقها الله لعباده، وهو ينكر على الغُلاة والمتشدِّدين تحريمهم لما أحلَّ الله، قال تعالى: {قل من حرَّمَ زينةَ الله الَّتي أخرج لعباده..} فالزينة مباحة لجميع الناس، ولكن الشكر عليها واجب لله الَّذي خلقها وأنعم بها على عباده، وذلك ليقترن نعيم الدنيا برضوان الله، ولتنقلب العادات إلى عبادات وترتفع الأعمال من الأرض وتكتب مقبولة في السموات. روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من استجدَّ ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ تَرْقُوَته: الحمد لله الَّذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلِق فتصدَّق به كان في ذمَّة الله وفي جوار الله، وفي كَنَفِ الله، حياً وميتاً».(2/278)
فاتخاذ الزينة، وارتداء الثياب النظيفة والجميلة والأنيقة مستحبٌّ ومستحسن كلَّ حين، ولكنَّه أكثر استحباباً عند أداء العبادة لاسيَّما في أماكنها الخاصَّة بها لقوله تعالى: {يابني آدم خذوا زينتكم عند كلِّ مسجد}، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا صلَّى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله عزَّ وجل أحقُّ مَنْ تُزُيِّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليأتزر إذا صلَّى» (أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه ) ؛ و إقتداءً بعمله صلى الله عليه وسلم واستحبابه لبس الجميل من الثياب، فعن جندب بن مكيث رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قَدِم عليه وفدٌ لَبِسَ أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك، فرأيته وَفَدَ عليه وَفدُ كِندَه وعليه حُلَّةٌ يمانية، وعلى أبي بكر، وعُمر مثل ذلك» (رواه أبو نعيم والواقدي). وعن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حُلَّة حمراء» (رواه البخاري). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «مارأيت أحداً من الناس أحسن في حُلَّة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم » (رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي) أمَّا عن الزينة في يوم الجمعة فهي سنَّة مستحبَّة يُثاب عليها صاحبها ويؤجر لقوله صلى الله عليه وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده ثم أتى المسجد فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلَّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إِمامُهُ حتَّى يفرغ من صلاته كانت كفَّارة لما بينها وبين جمعته الَّتي قبلها» (رواه أبو داود عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ).(2/279)
ويُستثنى من هذا الحكم خروج المرأة إلى المساجد أو الطرقات وعليها أثر من أثر الزينة، فعن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنه قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباً» (رواه مسلم). فزينة المرأة في بيتها ولزوجها فهو أحقُّ من تتزيَّن له، فإذا خرجت من بيتها فهي مأمورة بالاحتشام وعدم إبداء شيء من تلك الزينة أمام الأجانب والغرباء عنها، حفاظاً على نفسها من أن ينالها ضرر وأذى، وحفاظاً على المجتمع من الانحراف والفساد.
القسم الرابع:
بعض الأحكام والحدود في الإسلام
مقدمِّة:
حرصت جميع الشرائع في تشريعاتها على حماية أصول خمسة، فيها قوام كلِّ مجتمع إنساني، وهي على الترتيب: حماية الدِّين والنفس والعرض والعقل والمال. فهذه الخمسة هي مقاصد الشرائع السماوية، والمحور الَّذي تدور أحكامها حوله، وتُسمَّى بالضروريات الخمس لأن استقرار حياة النَّاس دينياً ودنيوياً متوقِّف عليها، ومرهون بحفظها، فإذا ما فُقِدت اختلَّت الحياة في الدنيا، وانعدم النظام في المجتمع، ووجب العقاب بحقِّ كلِّ مفرِّط ومتهاون.
ويرى الباحث أن الإسلام قد سلك في سبيل الحفاظ على هذه الضروريات اتجاهين متوازيين:
أوَّلهما: تحقيقها وإيجادها. وثانيهما: المحافظة على استمرارها وحمايتها من المعتدين وعبث العابثين.(2/280)
ففي المجال الأوَّل: أشبع الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاجات الإنسان، فهداه إلى التَّوحيد ـ من خلال أنبيائه ورسله ـ تلبية لحاجته الفطريَّة إلى الدِّين والحياة الروحية، ومنحه الحياة وأمره أن يحافظ عليها ويقدِّم لجسده جميع ما يحتاج إليه، ليبقى صالحاً لاستمرارها فيه، لذلك أباح له الطيِّبات من الرزق، من المأكل والمشرب والملبس. وأباح له الزواج ليكون سبباً في بقاء النوع الإنساني إلى ما شاء الله. وأنعم عليه بالمكانة الاجتماعية اللائقة، والاعتبار الإنساني، وأعطاه الأهل والزوجة والولد وأمره أن يصون ذلك كلَّه، فلا يفرِّط بشيء منه تحقيقاً لهذه المطالب الإنسانية الأساسية. ودعاه إلى النظر والتأمُّل في أرجاء هذا الكون الفسيح وفي نفسه وما حوله، والبحث عن الحقائق إشباعاً لمتطلَّبات العقل والحياة الفكرية.
ولما كان المال عصب الحياة، والنفوس مجبولة على حبِّه، فقد تجاوب الدِّين مع هذه الفطرة، فأباح الكسب الحلال وأطلق الأيدي المنتجة تبدع في إنتاجها فتقدِّم لعباد الله حاجاتهم وتستثمر جهودها، وصان الملكية الفردية المشروعة انسجاماً مع متطلَّبات الفطرة في حبِّ التملُّك، وهذا كلُّه في دائرة الاتجاه الأوَّل لتحقيق تلك الضرورات وإيجادها.(2/281)
أمَّا في الاتجاه الثاني وهو اتجاه المحافظة على هذه الضروريات من الأيدي الآثمة والاختيار الخاطئ، فقد حرَّم الله من خلال شرائعه ـ وخاصَّة الإسلام ـ كلَّ اعتداء يحول دون تحقيقها، وفرض عقوبات محدَّدة رادعة بحقِّ المعتدين أيّاً كانوا، تدعى بالحدود، ولم يأت هذا التحريم والعقاب الَّذي يترتَّب على انتهاكه إلا بعد تشريع ما يشبع تلك الرغبات والدوافع من الحلال الطيِّب. فلم يقمع الشرع الحنيف حاجة من الحاجات، بل جعل لها السبيل الآمن السليم لبلوغها، والوصول بصاحبها إلى الغاية الإنسانية الفضلى المرجوَّة من ورائها، وبذلك يعيش النَّاس جميعاً سعداء آمنين في ظلال العدالة الإلهية، والاطمئنان الروحي والنفسي، والأمن الاجتماعي والصحِّي. وبغية الحفاظ على النفس وضمان حقِّ الحياة لجميع أفراد المجتمع، فقد حرَّم الإسلام قتل النفس وجعله من كبائر الذنوب والآثام، ورتَّب على جريمة القتل عقوبة القصاص بأن يُقْتَلَ القاتل المتعمِّد، وكما حرَّم الاعتداء على النفس، حرَّم كلَّ ما من شأنه أن يوقع ضرراً أو أذى على جسد الإنسان.
وكذلك حرَّم الإسلام الاعتداء على الأعراض في المجتمع، فصانها من أن يقع النَّاس فيها ويفسدوا على أصحابها حياتهم، ورتَّب على انتهاك هذه الحرمات عقوبات زاجرة تجعل الأعراض بمنأى عن العدوان. وتحقيقاً لذلك فرض عقوبة القذف ـ وهو الاتِّهام بالزِّنا والفاحشة دون دليل ـ وزيادة على عقوبته الجسدية أمر بحرمان القاذف من قبول شهادته في شيء. كما جعل عقوبة الزنا عقوبة شديدة تحجز النَّاس عن هذه الجريمة الكبرى، الَّتي تكاد آثارها الوبائية تقضي على جانب كبير من الجنس البشري.(2/282)
كما أن الإسلام حرَّم الاعتداء على العقول والوعي فحفظ على الفرد اتِّزانه وأبقى على عقله ووعيه، فحرَّم شرب المسكرات بأنواعها وكلَّ المخدرات والمُفَتِّرات ـ قليلها وكثيرها ــ وبذلك صان الفرد من سائر أمراض المسكرات، ومن مرض خطير جداً أوسع مدى من أن يكون حالة عارضة من فقد الوعي، ألا وهو مرض الإدمان، الَّذي تئنُّ منه البشرية المعذَّبة الآن، لأنها لم تلتزم بمنهج الله الَّذي رسم مخطط الحياة الفاضلة الآمنة الأمثل. وتحقيقاً لقيام مثل هذا المجتمع، والبعد بالنَّاس عن كلٍّ من السُّكْرِ والإدمان، فقد شرَّع عقوبة رادعة عن شرب الخمر وسائر المؤذيات.
وحفظاً للأموال وضماناً لحقِّ أبناء المجتمع في التملُّك المشروع، فقد حرَّم الإسلام السرقة، وجميع التصرفات والأعمال الَّتي تؤدِّي إلى أكل أموال النَّاس بالباطل، لذلك فرض عقوبة رادعة على السارق وهو آخِذُ أموال النَّاس بغير وجهٍ مشروع.
ويلاحظ في هذا المجال أن الإسلام لم يتَّجه هذا الاتجاه، إلا بعد أن ربَّى النبي r المجتمع التربية المُثلى، فارتقى به إلى آفاق عالية من الإيمان والشعور بحقوق الآخرين، والرغبة في رضا الله والخشية من سخطه، وبعد هذا التهذيب الحقيقي لأخلاق وسلوك الأفراد، شُرِّعَت العقوبات لتردع القلَّة الشاذَّة عن هذا المنهج، لئلا تتفشَّى عدواها في المجتمع الإسلامي مرَّة ثانية. ومع كلِّ هذا أمر القاضي أن يكون رؤوفاً بالمخطئين، فيخفِّف عنهم العقاب أو يمنعه لأيِّ شبهة تمنع تطبيقه؛ بغية إعطائهم الفرصة للتوبة والإصلاح، فعن السيِّدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم : «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخَلُّوا سبيله فإنَّ الإمام إنْ يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (رواه الترمذي والحاكم في باب الحدود والبيهقي).(2/283)
وبالإضافة إلى أن الإسلام أمر القاضي بالرأفة بالخاطئين، فإنه دعا المسلمين إلى أن يستر بعضهم هفوات بعض، خصوصاً إذا كان الخاطئ متستِّراً غير مجاهر بالخطأ، وأعطى صاحب الحقِّ سلطة العفو ما لم يعلم بها ولي الأمر، وعندها لا يقبل منه العفو، لأن الحقَّ تحوَّل إلى حقٍّ عام، فوق كونه حقاً شخصياً لصاحبه.
إن العقوبة في الإسلام شُرعت انطلاقاً من هذه المبادئ، وتحقيقاً لهذه الأهداف، ولا يجوز النظر إليها إلا من خلال هذه المفاهيم، وهي في الوقت نفسه مطهِّرة لصاحبها، مخلِّصة له من عقاب الله في الدار الآخرة، فمن عوقب على ذنبه في الدنيا وفقاً لأحكام شرع الله، لقي الله تعالى طاهراً نظيفاً ما عليه ذنب. عن عبادة بن الصامت في حديث بيعة العقبة، عن رسول الله r «... فإن وفَّيتم فلكم الجنَّة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأُخذتم بحدِّه في الدنيا فهو كفَّارة له...» (رواه البخاري ومسلم).
الفصل الأوَّل:
إباحة ما طاب من الأطعمة وتحريم ما خبُث منها
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس كُلُوا ممَّا في الأرضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطَانِ إنَّهُ لكُم عَدُوٌّ مبِينٌ(168)}
سورة المائدة(5)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ الله لكُم ولا تَعتَدُوا إنَّ الله لا يُحِبُّ المُعتَدينَ(87) وكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واتَّقُوا الله الَّذي أنتُم به مُؤمِنُونَ(88)}
سورة النحل(16)(2/284)
وقال أيضاً: {فَكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكُروا نِعمَةَ الله إن كُنتُم إيَّاهُ تَعبُدونَ(114) إنَّما حَرَّمَ عليكمُ المَيتَةَ والدَّمَ ولَحمَ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ لِغَيرِ الله به فَمَنِ اضطُرَّ غير بَاغٍ ولا عادٍ فإنَّ الله غَفُورٌ رحِيمٌ(115) ولا تَقُولُوا لما تَصِفُ ألسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لِتَفتَرُوا على الله الكَذِبَ إنَّ الَّذين يَفتَرونَ على الله الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ(116)}
ومضات:
ـ الخطاب في الآية الأولى عامٌّ لجميع البشر، لأن الرزق نعمة عامَّة يصل خيرها إلى النَّاس جميعاً دون استثناء.
ـ الحلال هو ما أحلَّه الشرع، والطيِّب هو ما كان مستطاباً في نفسه، غير ضارٍّ بالأجسام ولا بالعقول.
ـ الشيطان بيِّن العداوة للإنسان، ولا تخفى عداوته على عاقل؛ وقد أخذ على نفسه عهداً بأن يوقع ببني آدم، ويغويهم لكي يُسيئوا إلى الخلافة الَّتي أوكلها الله تعالى إليهم في هذه الأرض. ولايزال يزيِّن لهم من الأسباب والبواعث، ما ينحرفون به عن المنهج الَّذي وضعه الله، لإعمار الأرض وسعادة البشرية، فيعطِّلون الإفادة ممَّا خلقه لنفعهم بتحريمهم له، ويجنحون إلى ما فيه ضررهم بتحليل ما حرَّمه، ومن يتبع إغواء الشيطان فهو يعين عدوَّه على نفسه.
ـ لا ينبغي للمؤمن أن يهمل نعم الله تعالى أو يسيء استعمالها بحجَّة التقشُّف والزهد، لأن لله تعالى حكمة في خلقها، فقد جعل لها دوراً تؤدِّيه من أجل استمرار حركة إعمار الأرض وازدهارها.
ـ الحلال بيِّن والحرام بيِّن، والمؤمن الحقيقي لا يتجاوز الحلال إلى الحرام، بل يقف عند حدود الله.
ـ إنَّ الله تعالى يبغض الَّذين ينحرفون بنعمه عن الصراط السوي المستقيم، ويدعوهم إلى حسن التصرُّف بالأرزاق والطيِّبات، دون إفراط ولا تفريط بما يكفل لهم حياة خيِّرة طيِّبة.(2/285)
ـ يدعو الله تعالى المؤمنين بألطف أسلوب إلى التَّقوى، الَّتي تعني حسن التقيُّد بما ارتضاه لنا، والابتعاد عن كلِّ ما يسيء إلينا أو إلى غيرنا ويكون سبباً لغضبه علينا، وذلك في قوله سبحانه: {واتَّقوا الله الَّذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان يستلزم التَّقوى، والتَّقوى برهان الإيمان.
ـ لم يحرِّم الله تعالى على النَّاس ـ بوصفهم أفراداً، ومجتمعات ـ إلا ما فيه ضرر لأنفسهم، وإخلال بالنظام الَّذي تقوم عليه حياتهم.
ـ من ألجأته الضرورة إلى أكل ما حرَّم الله، ليحفظ على نفسه حياته أو حياة عياله، من غير بغيٍ ولا عدوان، فإنه غير ملوم، والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة. وهذا تقرير للمبدأ الشرعي العام: الضرورات تبيح المحظورات، والقاعدة الأخرى: يُحتمل الضرر الأخفُّ لدفع الضرر الأشد.
ـ لا ينبغي لأحد، من النَّاس أن يحلِّل أو يحرِّم من تلقاء نفسه، ثمَّ ينسب ذلك إلى الله تعالى، فهذا تلاعب سافر في تعاليم الشريعة وأحكامها. وقد توعَّد الله عزَّ وجل من يفعل ذلك بأنَّ له الخذلان في الدنيا والآخرة.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين شامليعالج جميع مشكلات الحياة، فيحقِّق منافع النَّاس ويدفع الأذى عنهم، ويتجاوب مع فطرتهم، والله تعالى خلق الإنسان وسخَّر له مافي الأرض جميعاً، وجعل الانتفاع به حلالاً مطلقاً، لا يقيِّده إلا إذا اقتضت مصلحة الإنسان ذلك، وهذا التوافق بين الإسلام ومصلحة الإنسان دليل قاطع على شموليته، وحرصه على سعادة النَّاس في كلِّ زمان ومكان.(2/286)
ولأن الإسلام دين عالمي، جاء لإسعاد البشرية جمعاء، فقد توجَّه الله بخطابه إلى النَّاس كافَّة دون تخصيص بقوله سبحانه: {ياأيُّها النَّاس كُلوا ممَّا في الأرضِ حلالاً طيِّباً..}، فقرَّر حكماً عاماً من شأنه إطلاق يد الإنسان في خيرات البرِّ والبحر من نبات وحيوان، شريطة أن يكون حلالاً طيِّباً. والحلال هو ما أحلَّه الله لأنه طيِّب ونافع، والحرام هو ما حرَّمه الله لأنه ضارٌّ وخبيث. والتحليل والتحريم هما من أمر الله تعالى، وكلُّ من يدَّعي لنفسه الصلاحية لذلك، فهو متجاوز حدوده، معتدٍ على حرمات الله تعالى، وهذا ما وقع فيه بعض رجال الدِّين في كثير من الشرائع، إذ أنهم وضعوا أنفسهم في موضع المشرِّع، وراحوا يحلِّلون الحرام الضارَّ، ويحرِّمون الحلال النافع، وفقاً لأهوائهم ومصالحهم، ويعبثون بما شرَّعه الله من أجل تنظيم حياة النَّاس، سعياً وراء مكاسب دنيوية عاجلة، ورغبةً في التسلُّط، وحبّاً في الظهور، معتدين بذلك على تعاليم الله، وعلى حريَّات النَّاس ومعتقداتهم، وعلى أمنهم الصحيِّ والغذائي والاجتماعي.
لذلك كان لابدَّ من التركيز على تبيين الحلال والحرام لإزالة الالتباس وتجنُّب الوقوع في المحظورات، وقد أشار الله تعالى إلى مجمل الأحكام المتعلِّقة بهذا الموضوع، في آيات متفرِّقة من كتابه الكريم، نورد بعضها فيما يلي:
1 ـ أُحِلَّت لنا ذبائح أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {..وطعامُ الَّذين أوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم..} (5 المائدة آية 5)، وليس المقصود بكلمة (طعام) هو الخبز والفاكهة فقط، فهذه وأمثالها كلُّها حلال، ولا خلاف في ذلك، إنما المقصود هو ذبائح أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، فهي محلَّلة، أمَّا ذبائح الوثنيين فَيَحْرُمُ أكلها بدليل قوله تعالى: {… وما أُهِلَّ لغيرِ الله به …}.(2/287)
2 ـ أُحِلَّ لنا أكل الحيوان البحري، لقوله صلى الله عليه وسلم : «هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته» (رواه الخمسة عن أبي هريرة رضي الله عنه ) وهذا يعني جواز أكل الحيوان البحري من غير تزكية شرعية (الذبح)، شريطة عدم وضعه في النار قبل التأكد من موته.
3 ـ وكذلك أُحِلَّ لنا أكل الحيوان البري إلا ما ورد فيه نصٌّ بتحريمه، قال تعالى: {..أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ إلاَّ ما يُتْلى عليكم..} (5 المائدة آية 1) وبهيمة الأنعام تشمل: الإبل والبقر والغنم، والماعز، وبقر الوحش وإبل الوحش، والظباء. وقد ثبت في السُّنة الترخيص في حمار الوحش والضبِّ والأرنب. وأمَّا ما حرَّمه تعالى منها في آيات لاحقة، فهي المنصوص عليها في قوله عزَّ وجل: {حُرِّمَت عليكمُ المَيتَةُ والدَّمُ ولَحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله بِه والمُنخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمُتَردِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ ما ذَكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُب..} (5 المائدة آية 3)؛ والميتة تشمل كلَّ ما مات من الدابَّة حتف أنفه أو بإحدى الطرق الَّتي ذكرتها الآية الكريمة، وقد كانت حلالاً لو أنها ماتت مذبوحة، ويلحق بها ما قطع من الدابة الحيَّة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «ما قطع من البهيمة وهي حيَّة فهو ميتة» (رواه أبو داود والترمذي) «وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل كلِّ ذي ناب من السباع» (رواه الشيخان) مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر والهر...إلخ.
4 ـ أمَّا عن الطيور: فقد ثبت في السنة الشريفة الترخيص في أكل الدواجن والجراد والطيور، إلا ما كان منها ذا مخلب، روى مسلم أنه: «نهى عليه السلام عن أكل كلِّ ذي مخلب من الطير»، كالغراب والصقر والحدأة.(2/288)
وأمَّا ما سكت عنه الشارع، ولم يَرِدْ نصٌّ بتحريمه فهو حلال ما لم يكن سامّاً مؤذياً فيكون حراماً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياءً فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة).
أمَّا حكم اللحوم المستوردة من خارج البلاد الإسلامية فيحلُّ أكلها بشرطين:
1 ـ أن تكون من اللحوم الَّتي أحلَّها الله، ولم يخالطها شيء محرم كلحم الخنزير.
2 ـ أن تكون قد ذُكِّيت ذكاة شرعية (مذبوحة من الوريد إلى الوريد مع أخذ شيء من الحلقوم)، ولا يخفى أن الذبح يُخرج معظم الدم من جسم الحيوان وبأسرع وقت ممكن، ويخفِّف عليه الكثير من الآلام فيما لو قتل بطريقة أخرى غير الذبح بالطريقة المذكورة.
ويمكن التحقُّق من الشرطين السابقين في عصرنا الحاضر، إذ كثيراً ما يُكتب على المعلَّبات الَّتي تحتوي هذه اللحوم ما يدلُّ على نوعها وطريقة ذبحها، ويمكن الاكتفاء بهذه المعلومات الدالَّة على الشرطين السابقين لأن الغالب فيها هو الصدق.
وأهمُّ شرط في الذبح هو التسمية بالله. ودفعاً للشكِّ تجب التسمية عند أكلها، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روته السيِّدة عائشة رضي الله عنها أنه قال: «سمُّوا عليه أنتم وكلوا» (رواه مسلم). أمَّا الذابح فيجب أن يكون عاقلاً سواءً أكان ذكراً أو أنثى، مسلماً أو كتابياً، وأن تكون أداة الذبح حادَّة يمكن أن تخرج الدم، وتقطع الحلقوم والمري بأقصى سرعة وبأسهل طريقة.(2/289)
وختام ذلك فإن هناك رُخَصاً أُبيح فيها للمضطر أن يأكل شيئاً من المآكل الَّتي نصَّ الشارع على تحريمها، وذلك عند الاضطرار الشديد، كأن يصل الجوع بالإنسان إلى حدِّ الهلاك، وكذلك إذا وجد المضطر طعاماً لغيره فله أن يأكل منه ما يقيم به أَوَدَه، ولو لم يأذن له صاحبه، على أن يضمن له قيمته، وأن لا يكون مضطراً إليه فيكون صاحبه أولى به. وهذا بيان على مدى يُسْر الإسلام ومراعاته لحاجات الإنسان وضروراته، قال الله تعالى: {..وما جعلَ عليكُم في الدِّينِ من حَرَج..} (22 الحج آية 78).
أمَّا فيما يتعلَّق بالتداوي بالخمر فقد نهى الإسلام عنه لأن فيه زيادة في أذى المريض، فعن طارق بن سويد الجعفي: «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أضعها للدواء، فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بدواء ولكنه داء» (رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي) وقد أجاز بعض أهل العلم التداوي بالكحول أو المواد المخدِّرة، بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقامها، وألا يقصد المتداوي بها اللذَّة والنشوة، وألا يتجاوز المقدار الَّذي يحدِّده الطبيب.
وبعد فإن الأحكام الشرعية هي جملة أوامرَ ونواهٍ، وضعها الله تعالى لتكون خططاً وبرامجَ لحياة الإنسان المادِّية والروحية ولحسن تعايشه مع من حوله، فلا يجوز للإنسان أن يحرِّم ما أحلَّ الله له من الأشياء الَّتي تطيب بها النفوس، وتميل إليها القلوب بحجَّة التنسُّك والتقرُّب إلى الله، فالله لا يحبُّ من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته. إن تحريم الطيِّبات على النفس لتعذيبها ليس له أصل إلا في العبادات المتوارثة عن قدماء الهنود واليونان، قلَّدهم فيها أهل الكتاب فحرَّموا على أنفسهم ما لم تحرِّمه الكتب المقدَّسة.(2/290)
ولما جاء الإسلام أباح الزينة والطيِّبات، وأرشد إلى إعطاء البدن حقَّه، والروح حقَّها، وبهذا كانت الأمَّة الإسلامية أمَّة وسطاً. والحكمة في ذلك أن الله يحبُّ لعباده أن يستعملوا نعمه الَّتي أنعمها عليهم، فيما خُلِقَتْ له وبالشكل الصحيح، ويشكروه عليها، ويكره لهم أن يتجنَّوا على الشريعة الَّتي شرعها؛ فيغالوا بتحريم ما لم يحرِّمه عليهم القرآن الكريم أو السنَّة النبوية الشريفة. روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن المقداد بن مَعْدِ يَكْرِِب رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (سنته صلى الله عليه وسلم ) ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه» (رواه أبو داود والترمذي)، أي يكتفي بالقرآن الكريم كمصدر للتشريع، ويتجاهل السنَّة النبوية؛ فالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى، وقد أكَّد الله تعالى أنَّ إحدى مهامِّه عليه الصلاة والسلام أنَّه: {..يأْمُرهُم بِالمَعْروف ويَنْهَاهُم عَنِ المُنكَر ويُحِلُّ لَهمُ الطَّيباتِ ويُحَرِّمُ عَليهِمُ الخَبائِثَ..} (7 الأعراف آية 157).
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطعَمُهُ إلاَّ أن يَكُونَ مَيتَةً أو دماً مسفُوحاً أو لَحمَ خِنزِيرٍ فإنَّهُ رجسٌ أو فِسقاً أُهِلَّ لغيرِ الله به فَمَنِ اضطُرَّ غيرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فإنَّ ربَّكَ غَفُورٌ رحِيمٌ(145)}
ومضات:
ـ لم يحرِّم الله تعالى على النَّاس إلا الخبائث، لأنها تحمل في طيَّاتها الضرر المؤكَّد.
ـ من ألجأته ضرورة قاهرة إلى أكل شيء من المحرَّمات بشرط ألا يكون ساعياً في فساد، ولا متجاوزاً مقدار الحاجة، فلا عقوبة عليه في ذلك.(2/291)
ـ الله تعالى يغفر الذنوب ويرحم العباد، ومن رحمته أنه أباح المحرَّمات وقت الضرورة، فلم يجعل على النَّاس في الدِّين من حرج.
ـ الله تعالى هو المشرِّع للحلال والحرام، ضمن أطر واضحة محدَّدة، بما فيه خير النَّاس وسعادتهم، وليس لإنسان أن يتطاول على شرع الله، فيحلِّل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء، مهما بلغ من علم أو دراية.
في رحاب الآيات:
لَمَّا كان هذا الكون البديع مخلوقاً وفقاً لقوانين ثابتة، قوامها التوازن والاعتدال؛ فقد كان لابدَّ من وضع نظم تشريعية وصحية واجتماعية للبشرية، تكفل بقاءها وسعادتها على هذه الأرض وتجنِّبها ما يؤذيها في عقلها وجسدها. لذا عُنيَ الإسلام بالنفس الإنسانية، وأولاها اهتماماً كبيراً من حيث تأمين حاجاتها، والحفاظ على سلامتها، وإن من أبرز جوانب هذا الاهتمام؛ العناية بصحَّة الأبدان، كشرط أساسي لقيام الإنسان بواجباته الدِّينية والدنيوية. والجدير بالذكر أن معظم الأحكام الشرعية الإسلامية المتعلقة بصحَّة الأبدان كانت تشريعات وقائية من شأنها أن تدفع الأمراض والأوبئة قبل وقوعها، ومن جملة هذه التشريعاتالَّتي جاء بها الإسلام إباحة الطيِّب والنافع من الطعام والشراب وهو الأصل، وتحريم الخبيث والضارِّ منهما؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير.
وقد كشف العلم والطبُّ في يومنا هذا عن الأضرار والعِلل الَّتي أَدخَلت هذه الأطعمة في دائرة التحريم؛ فثبت أن كلَّ حيوان يموت حتف أنفه يبقى دمه مختزناً في جثَّته، ثمَّ يدبُّ فيه الفساد ممَّا يعرِّض هذه الجثَّة لتغيُّرات عديدة ناجمة عن انحباس الدم فيها: مثل الزرقة في اللون، وسرعة التفسخ الناتج عن تحلل خضاب الدم الزاخر بالجراثيم، ممَّا يسبب انبعاث رائحة كريهة، تجعل المرء يتقزَّز منها، ويبتعد عنها نفوراً واشمئزازاً، ناهيك عن الأضرار الصحِّية الَّتي تصيب الإنسان في حال أكلها.(2/292)
أمَّا الدم فيُعدُّ بحقٍّ وسطاً صالحاً لنموِّ أنواع الجراثيم كافَّة الَّتي يمكن أن تتوالد فيه، إضافة إلى أنه يحمل السموم والفضلات الناتجة عن العمليات والتفاعلات الحيوية الَّتي تتمُّ
داخل الجسم، والَّتي منها: البولة، وحمض البول، وغاز الكربون والكريانتين، وجميعها تُطرَح في الدم بغرض التخلُّص منها بواسطة وسائل الإطراح المختلفة. ناهيك عن أن الدم بحدِّ ذاته لا يُعَدُّ غذاءً بشرياً، فنسبة البروتينات المفيدة فيه قليلة، أمَّا خضاب الدم المتوافر فيه بكثرة فإنه عسير الهضم. ولهذا فإنَّ تناول الدم بغرض معالجة فقر الدم أمر مرفوض علمياً، لأن الحديد الدموي عضوي بطيء الامتصاص، نقيض الحديد اللاعضوي المتوافر في أوراق النباتات الخضراء.. ومن هنا جاءت حكمة الذبح الشرعي الَّذي هو قطع أوردة العنق وشرايينه، ممَّا يكفل تصفية أكبر قدر ممكن من الدم.
أمَّا عن لحم الخنزير فهو بحقٍّ بؤرة أساسية لمجموعة أمراض منها:
ا ـ أمراض ينقلها الخنزير بقذارته مثل: الزحار الزقي، وداء وايل ـ وهذا الداء الخطير يسبِّب النزوف والإصابة الكبدية ـ وداء شريطية السمك العريضة، الأميبيا الحالَّة للنسج، الحمرانية أو حصبة الخنزير.
ب ـ أمراض من أحد أسبابها أكل لحم الخنزير: منها تصلُّب الشرايين وداء النقرس، والتسمم الوشيقي، والَّتي يعود سببها إلى احتواء لحم الخنزير على نسبة عالية من حمض البول، وكذلك ازدياد نسبة الشحوم والأملاح فيه.
ج ـ أمراض سببها الوحيد أكل لحم الخنزير: مثل الإصابة بالدودة الشريطية المسلَّحة، الَّتي تسبِّب لدى الإنسان اضطرابات هضمية عديدة، وبيوض هذه الدودة قد تتوضَّع في القلب أو الرئة أو الدماغ، محدثة حويصلات تنتفخ في مكانها، مسبِّبة أمراضاً مختلفة تحتاج إلى الجراحة لشفائها. والشعرية الحلزونية الَّتي تسبِّب آلاماً عضلية قد تصل لدرجة الشلل، وإذا أصابت عضلات التنفس أو القلب أدَّت إلى الوفاة.(2/293)
هذا بعض ما توصَّل إليه العلم في الوقت الحالي بخصوص مضارِّ لحم الخنزير، إلا أن العقيدة السماوية المنزَّلة من لَدُن ربٍّ عليم، سبقت العلم بقرون طويلة لتُجنِّب الإنسان هذه المضارَّ وتجعله في مأمن منها.
أمَّا ما أُهِلَّ به لغير الله، فهو ما ذكر عليه عند الذبح غير اسم الله، وبذا تكون النيَّة متوجِّهة إلى غير الله عزَّ وجل. وحكمة تحريمها حكمة شرعية، لأنها من أعمال الوثنية، وفيها إشراك بالله واعتماد على غيره سبحانه، ولأن عدم التوجُّه لله ينافي صحَّة التصوُّر وسلامة القلب، والله طيِّب لا يقبل إلا طيِّباً، ولا يرضى لعباده إلا كلَّ طيِّب خالص لوجهه الكريم.
وهذا كلُّه إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على رحمة الله تعالى بخلقه، وحرصه على سلامتهم الجسدية والروحية، علاوة على أنه لم يُغفل الضرورات، بل وضعها في الحسبان، فأباح المحظورات بقدر ما تقتضيه هذه الضرورات بغير تجاوز لها أو تعدٍ لحدودها.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {فكلوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه إن كنتم بآياتِهِ مؤمنين(118) وما لكم ألاَّ تأكلوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه وقد فصَّلَ لكم ما حرَّمَ عليكُم إلاَّ ما اضطُرِرْتُمْ إليه وإنَّ كثيراً ليُضِلُّونَ بأهوائِهِم بغير علمٍ إنَّ ربَّك هو أعلمُ بالمعتدين(119) وذروا ظاهرَ الإثم وباطِنَهُ إنَّ الَّذين يَكسِبُونَ الإثمَ سيُجزَونَ بما كانوا يقترفون(120) ولا تأكلوا ممَّا لم يُذكرِ اسمُ الله عليه وإنَّه لفسقٌ وإنَّ الشَّياطين لَيُوحون إلى أوليائِهِم ليُجادِلوكُم وإن أطعتموهمْ إنَّكم لمشركون(121)}.
ومضات:(2/294)
ـ إنَّ من أبرز أهداف الشريعة الإسلامية الحرص على سلامة الإنسان جسدياً وروحياً. وقد قرن الله تعالى إباحة الطيِّبات من الذبائح بذكر اسمه الجليل عليها عند ذبحها، لتكون الطهارة المعنوية متمِّمة للطهارة الحسية، وليكون إخلاص النية لله تاجاً يُظلُّ أعمال المؤمن لتنال القبول، وبهذا يشعر الإنسان أنه يعيش في مُلْكِ الله، ويأكل من رزقه، ويقوم بسائر نشاطاته في رعاية الله وعنايته.
ـ إن الإنسان واقع تحت رقابة الله تعالى، وعلى المؤمن أن يقف عند حدود ما أحلَّ الله من الطيبات، ولا يسمح لنفسه بتجاوزها إلا بما تقتضيه الضرورة. ففي الأحوال الاعتيادية يَحْرُم عليه أن يتعدَّى حدود الله تعالى في مأكله ومشربه وملبسه، لأن هذه النعم الإلهية وسائل لأهداف، وأسباب لغايات من أجلِّها وأعظمها التَّقَوِّي على طاعة الله وخدمة دينه، وأي إساءة أو مخالفة في التعامل معها؛ كأن تصبح غايات بذاتها، أو يبلغ الاسترسال فيها حدَّ السرف، أو أن تُستخدم في معصية الله، فإن كلَّ ذلك يوقع صاحبها في دائرة الإثم المنهي عنه.
في رحاب الآيات:
لقد دخلت في عقائد الأمم القديمة عادات وتقاليد، وأعراف خاطئة ومشوَّشة، تتعلَّق بطعامهم وشرابهم، وقد توارثوها جيلاً بعد جيل، فامتزج الحلال بالحرام حتَّى أصبح يخالف شرائع السماء. والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعالج قضية كانت معاصرة للبيئة الجاهلية، حيث كان المشركون يمتنعون عن أكل ذبائح أحلَّها الله، ويُحِلُّون أكل ذبائح حرَّمها عليهم؛ ويزعمون أن هذا هو شرع الله، وتفصل هذه الآيات في أمر هؤلاء المشرِّعين المفترين على الله، فتقرِّر أنهم إنما يشرِّعون بأهوائهم بغير علم ولا هدى، ويُضِلُّون النَّاس بما يشرِّعونه لهم من عند أنفسهم، معتدين بذلك على شرائع الله حيث تجاوزوا حدودهم وعَتَوا عُتُوّاً كبيراً.(2/295)
ولمَّا كان للعادة سلطانها القويُّ على غالبية النَّاس، حتَّى إنها لتصبح فيهم طبيعة ثانية؛ فقد تكرَّر في القرآن الكريم ذكر الآيات الَّتي تحارب تلك العادات، وتذكِّر أصحابها وتنبِّههم ليعودوا إلى جادَّة الصواب؛ فالصواب أن تكون أعمالنا كلُّها خالصة لوجه الله تعالى، فنحن نأكل باسم الله لكي نتقوَّى بالطعام على طاعته وتنفيذ أوامره، وعلينا أن نتحرَّى الحلال من الأطعمة ونجتَنِبَ الخبيث منها وهو ما حرَّمه الله علينا، لما يترتَّب عليه من إلحاق الضرر الفادح بنا. وكلُّ ذبيحة ذبحت لغير الله تدخل في الأطعمة الَّتي يُحرَّم أكلها؛ ومنها الذبائح الَّتي كان المشركون يذكرون عليها أسماء آلهتهم، أو ينحرونها للمَيسر، ويقتسمونها بواسطة الأزلام، أو الميتة الَّتي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، ويزعمون أن الله ذبحها، ويقولون: كيف يأكل المسلمون ممَّا ذبحوا بأيديهم ولا يأكلون ممَّا ذَبح الله؟.
وأمَّا اللحم المذبوح والَّذي يتعذَّر الجزم فيما إذا كان قد ذكر عليه اسم الله عند ذبحه أم لا، فيمكن لنا أن نذكر اسم الله عليه ثمَّ نأكله؛ فعن عائشة رضي الله عنها: «أن ناساً قالوا: يارسول الله! إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : سمُّوا عليه أنتم وكلوا» (رواه مسلم) وبهذا يتبيَّن لنا أن ذكر اسم الله تعالى على الذبائح، إنما هو تزكية وتطهير لها، ليأكلها المؤمن حلالاً طيباً.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {..وكلوا واشربوا ولا تُسْرِفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين(31)}
ومضات:
ـ الاعتدال والتوازن من المعايير الَّتي حرص الإسلام عليها وأكَّد الالتزام بها.(2/296)
ـ كثير من النَّاس من يملك مفاتيح العلم، ولكنَّ القليل النادر منهم من يملك التوفيق للعمل بما علم. وكثير منهم من يحسن الشكر القولي اللساني، ولكنَّ القليل منهم من يتحقَّق بالشكر العملي، الَّذي يتجسَّد في استعمال نعم الله بالشكل الصحيح، كما اقتضت الحكمة من خلقها والغاية من إيجادها.
في رحاب الآيات:
إن الجسم الإنساني يحتاج إلى الغذاء الكامل ليقوم بوظيفته في الحياة. والطعام والشراب هما الدعامتان اللتان تتوقَّف عليهما فعالية القدرات الجسدية، الَّتي ترتبط بها فعاليات القدرات الأخرى؛ العقلية منها والنفسية وغيرها. والآية الكريمة تقرِّر مبدأً عامّاً للحفاظ على صحَّة الإنسان، ووقاية جهازه الهضمي من الأمراض الَّتي يصاب بها، وغالباً ما يكون الإنسان هو ذاته المتسبِّب بتلك الإصابة؛ وذلك لجهله بكيفية استعمال النعمة الَّتي أكرمه الله بها من طعام وشراب، ونتيجةً لإساءته وجهله، يحيل الغذاء الَّذي بين يديه إلى داء، فإذا ما أراد في هذه الحالة الشفاء، وجد في المبدأ الَّذي وضعته الآية الكريمة خير علاج ودواء.
فإباحة الطعام والشراب في الإسلام مقيَّدة بالاعتدال، حفاظاً على الصحَّة، فلا يُدخِل المرء طعاماً على طعام، ولا يأكل كلَّ ما اشتهى؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن من الإسراف أن تأكل كلَّ ما اشتهيت» (رواه ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ). ولعدم الاعتدال وجهان: إفراط وتفريط، فالإفراط ما يكون فوق الحاجة الضرورية، أو مخالفاً للشرع، والتفريط: أن ينقص عن قدر الحاجة الضرورية، ويكون سبباً لنقص القوَّة والطاقة، والتقصير في تأدية حقوق الله.(2/297)
وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من مغبَّة الإسراف في تناول الطعام فقال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صُلبه فإن كان لا محالة فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفَسِه» (رواه أحمد والترمذي وحسَّنه النسائي)، فمن الأصول الصحِّية العامَّة أن لا يمدَّ الإنسان يده للطعام إلا وهو جائع، ثمَّ ينبغي أن يرفع اليد عن الطعام قبل الشِّبَع وهو يشتهيه. وفي الحديث الشريف: «أن المقوقس ملك مصر أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جارية وطبيباً وبغلة، أمَّا الجارية وهي مارية القبطية فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا البغلة فاتَّخذها رَكوباً له، وأمَّا الطبيب فمكث مدَّة طويلة لم يُقْبِل عليه أحد يشكو مرضاً، فقال للنبي عليه السلام: مكثت مدَّة ولم يأتني مريض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : نحن قوم لا نأكل حتَّى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» (أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها).
وإذا كان الإسراف في أكل الطعام مذموماً مؤذياً؛ فإن الإسراف في تناول نوع معيَّن منه زيادة عن حاجة الجسم مذموم مؤذٍ أيضاً، والسلوك الأمثل هو الاعتدال في كلِّ شيء.
إن الله عزَّ وجل يكره من كان جُلَّ همِّه أن يملأ بطنه، لأن البِطنة تُذْهِب الفطنة، وتُوقع في الغفلة وتشكِّل حجاباً حول القلب يحجب عنه نور المعرفة، لذلك فرض الله تعالى الصِّيام على عباده تطهيراً لنفوسهم وجلاءً لقلوبهم. وأمرهم بالاعتدال في طعامهم وشرابهم ليستفيدوا منه، ولئلا يُجهدوا جهازهم الهضمي ويُحمِّلوه فوق طاقته فتضطرب عمليات الهضم، ويؤدي بهم ذلك إلى أسوأ النتائج الَّتي تضرُّ بصحَّتهم، وسلامة أبدانهم. فالاعتدال مطلوب ومحمود، والشراهة والنهمة مكروهة مذمومة، والسعيد من احتاط للمرض واتَّقاه قبل وقوعه، وعمل بقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنَّه لا يُحِبُّ المسرفين}.(2/298)
وختاماً: لابدَّ أن نشير إلى أنه من الإسراف والتبذير إتلاف مايزيد عن طعام الآكل، أو عن طعام العائلة، أو عن طعام الولائم والحفلات. ولابدَّ من مراعاة الدقَّة في تقدير ما سنأكله أو سنشربه؛ لتجنُّب إتلاف مايزيد عن حاجتنا. ولو أن العالم كلَّهُ راعى هذه الدقَّة، وابتعد عن هذا الإتلاف بدافع البطر واللامبالاة، لما وُجِد جائع على سطح الأرض، حيث أن كمِّية مايُتلفونه من الطعام تكفي لإشباع فقراء البشرية جمعاء.
الفصل الثاني:
تحريم شرب الخمر وعقوبته
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوه لعلَّكم تُفلحون(90) إنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُم العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويَصُدَّكم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاةِ فهل أنتم منتهون(91)}
ومضات:
ـ يسعى الإسلام إلى بناء شخصيَّة الإنسان المسلم، وحمايتها من كلِّ الأضرار الَّتي يمكن أن تلحق بها، فيحذِّره من تعاطي المواد المضرَّة الَّتي تفتك بجسده وعقله، ومن اتِّباع السُّبل الَّتي تدخله في متاهات الإنفاق الطائش، طلباً للَّذائذ السريعة والمتع الجسدية الآنيَّة؛ الَّتي تشغله عن ذكر الله عزَّ وجل والشعور برقابته، وتجعله ينغمس في الأخطاء والمعاصي والآثام.
ـ الإنسان لا يمارس القمار ولا ينزلق إليه غالباً إلا بعد معاقرته للخمر، الَّذي يذهب بعقله ويفقده الإرادة والاتِّزان والتصرُّف السليم، وفي جميع الأحوال فإن الخسائر الماديَّة والمعنويَّة، الَّتي تلحق بمدمن الخمر وممارس القمار، توقعه في براثن العداوة للآخرين والحقد عليهم، فهم الَّذين جرُّوه إلى دائرة الخطأ، وأوقعوا به واستنزفوا أمواله.
في رحاب الآيات:(2/299)
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، عيدان في حزمة واحدة، تربطها النتائج المشتركة الَّتي تصدر عنها، وهي أنها تؤدِّي جميعاً إلى الفجور وإفساد بنية المجتمع. وقد بدأ الإسلام بكسر هذه العيدان بشكل منهجي، فغزا القلوب وطهَّرها أوَّلاً من رجس الشرك؛ باجتثاث جذور الجاهليَّة الفاسدة، الاجتماعيَّة منها والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة، ثم نقَّى تربتها من رواسب الشيطان، وغرس فيها بذار عقيدة التَّوحيد الطيِّبة، فحلَّ بذلك عقدة الشِّرك، ومنع كلَّ ما من شأنه أن يشكِّل رابطة بين الإنسان والوثنيَّة وما يتَّصل بها لحكمة لا تخفى على كلِّ ذي لُبٍّ، وأهمُّ أشكال هذه الوثنية كانت الأنصاب والأزلام.
فالأنصاب هي الحجارة الَّتي كان الجاهليون يذبحون ذبائحهم عليها وينضحونها بها، وهي الرمز الأهم للوثنية. وأمَّا الأزلام فهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها على سبيل التفاؤل والتشاؤم، وهذا مناقض لما يؤمن به المسلم من أن القضاء والقدر هما من أمر الله وحده، وأنه لا دخل لأيَّة قوَّة في تسييرهما أو تحويل مجراهما نحو النفع أو الضرر، وأن علم الغيب من اختصاص الله لا يعلمه إلا هو، فلا يعلم القسمة إلا من قسمها. وبالقضاء على الأنصاب والأزلام انتهت المعالم الأخيرة لعبادة الأصنام، وتحرَّرت قلوب المؤمنين من قيود الوثنية، وانطلقت من أسر الخرافات والأضاليل والأوهام.
وبعد مرحلة الإعداد النفسي والروحي للمؤمنين، بدأ تشريع التكاليف المتعلِّقة بالشعائر التعبُّدية وبالحلال والحرام، فلاقت في هذه القلوب الطاهرة خصوبة وسرعة استجابة، وتنافساً على الطاعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشرع الحنيف جعل الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما نصَّ على حكمه وبيَّنه؛ بدليل قوله تعالى: {هو الَّذي خلقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً..} (2 البقرة آية 29).(2/300)
لقد أحلَّ الله تعالى لعباده جميع الطيِّبات من الرزق من مأكل ومشرب، إلا أنه جلَّ وعلا استثنى منها ما فيه ضرر للإنسان وأنزل فيه نصّاً خاصّاً، كما هو الحال بالنسبة للخمر والدم والميتة ولحم الخنزير. وقد حرَّم الله تعالى الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة، وشدَّد على ذلك تشديداً بالغاً، لما فيهما من ضرر كبير وخطورة عظيمة تهدِّد الأمَّة والمجتمع وتقوِّض دعائم الحياة السليمة.
أمَّا الخمر فهو كلُّ شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم التمر أم التفاح أم غيره، وهذا مذهب جمهور المحدِّثين، قال صلى الله عليه وسلم : «كلُّ شراب أسكر فهو حرام» (أخرجه الستة). وعلَّة تحريمها أنها تُذهِب العقل وتنهك الصحَّة، وتضيِّع المال، ومتى ذهب العقل حلَّ الإجرام وكانت العربدة. وحَسْبُ السكران ضرراً أنه لا يفرِّق بين النافع والضارِّ، ولا يميِّز بين الجواهر والأقذار، لغياب عقله، إلى جانب الأضرار النفسية والجسمية والعقلية الَّتي تستدعي تحريمها وهي تتلخَّص بما يلي:
1 ـ تثبيط وظيفة قشرة الدماغ وتعطيلها مع التشكُّلات الشبكية في أعلى الدماغ المتوسط وأُذينةِ المخيخ والجذع المخِّي والأعصاب القحفية والشوكية.
2 ـ التهاب المريء والمعدة الَّذي قد يؤدي إلى إصابتها بالتَّقرُّح.
3 ـ التهاب البنكرياس الحادِّ وتشمُّع الكبد.
4 ـ اعتلال العضلة القلبية وتسريع حوادث التصلُّب الشرياني.
5 ـ اضطرابات سوء الامتصاص والإصابة بمختلف أنواع فقر الدم.
6 ـ الإصابة بأمراض نفسية كثيرة كالهذيان الارتعاشي والتأخُّر العقلي.
وقد أثبت الطبُّ الحديث ضرر الخمرة الفادح، فقال أحد أطباء ألمانيا: [اقفلوا الحانات أضمَنْ لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والمِصحَّات العقلية والسجون].(2/301)
أمَّا من الناحية الدِّينية والاجتماعية: فإن غيبوبة العقل بأي مسكر تنافي اليقظة الَّتي يطلبها الإسلام من المسلم ليكون متصلاً بالله في كلِّ لحظة، مراقباً له في كلِّ خطوة، ليلعب دوره الموكول إليه في هذه الحياة، وهو القيام بالتكاليف تجاه ربِّه أو نفسه أو أهله أو مجتمعه أو إخوته في الإنسانية. ثم إن الغيبوبة الَّتي ينشدها مُعاقِر الخمر ما هي في الواقع إلا محاولة فاشلة للهروب من مشاكله ومسؤولياته، والإسلام ينكر عليه هذه الطريق، ويريد منه أن يكون قوياً صلباً في مواجهة الواقعات والأحداث، لأن مواجهتها هي مِحَكُّ العزيمة والإرادة، أمَّا الهروب منها إلى تصوُّرات وأوهام، فهو طريق التحلُّل والانسلاخ عن الواقع، الَّذي يفقد صاحبه هويَّته ومقوِّمات شخصيته، ويعطِّل دوره الإنساني. وأمَّا إذا كان ينشد ما يسمُّونه النشوة، فإن كلَّ لحظة منها ستكلِّفه من سوء السمعة وفساد الصحَّة ما لا يقدَّر بثمن.(2/302)
من أجل ذلك كلِّه شدَّد الإسلام العقوبة على شارب الخمر، وأمر أن يُجْلَد ردعاً له وإنقاذاً لروحه؛ أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شرب الخمرة فاجلدوه، قالها ثلاثاً، فإن شربها الرابعة فاقتلوه». وفي صحيح مسلم أن عثمان رضي الله عنه قال: (جَلَدَ النبي شارب الخمر أربعين جلدة وكذلك فعل أبو بكر). وعن الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: (إذا شرب الرجل سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة) (رواه الدارقطني). واجتناب الشيء لغة يعني الابتعاد عنه، والاجتناب للخمر لا يعني فقط الامتناع عن شربها؛ وإنما الابتعاد عن كلِّ ما يمتُّ لها بصلة، وعن كلِّ تعامل معها بأيِّ شكل كان، بدليل ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاني جبريل فقال: يامحمَّد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وساقيها ومسقيها» (أخرجه الحاكم وصححه البيهقي).
على أن تحريم الخمر في الإسلام لم يأت دفعة واحدة، بل لقد جاء عبر مراحل وخطوات تمهيدية، لعلاج الأمراض الناجمة عنها، والمتغلغلة في حنايا النفوس وخلايا الجسد. وهذا من الحكمة الَّتي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق التدرُّج في تشريع الأحكام، حتى تتهيَّأ لها النفوس، وتصبح قادرة على تطبيقها، بقناعة فكرية وقبول نفسي، فبدأ بتنفير الناس من الخمر بطريق غير مباشر، كخطوة أولى، وذلك حين أنزل الله تعالى: {ومن ثمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تتَّخذونَ منه سَكَراً ورزقاً حَسناً..} (16 النحل آية 67) وهي تتضمَّن تلميحاً إلى ضرره مع وجود منافع اقتصادية للنخيل والأعناب، حيث ذكر أنهم اتخذوا من ثمراتها سَكَراً ورزقاً فوصف الرزق بأنه حسن وسكت عن السَّكَر لِيَفهمَ السامعَ أنه قبيح.(2/303)
ثم تبعتها الخطوة الثانية، وهي تحريك الوجدان الدِّيني في نفوس المسلمين، وتنفيرهم بشكل مباشر من الخمر؛ عن طريق الموازنة بين نفعها المادي الضئيل، وضررها الجسدي والروحي الكبير؛ بنزول الآية الكريمة: {يسألونكَ عن الخمرِ والميسرِ قلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافِعُ للنَّاسِ وإثمُهُما أكبرُ من نفعِهِما..} (2 البقرة آية 219) وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأَوْلى مادام الإثم أكبر من النفع، إذ أنه قلَّما يخلو شيء من نفع، ولكن الحِلَّ والحرمة ترتكزان على غلبة الضرر أو النفع، فما غلب نفعه حلَّ وما رجح ضرره حرم.
ثمَّ كانت الخطوة الثالثة، وهي التحريم الجزئي للخمر في أوقات الصلاة، لما لها من أثر سيء على العقل والتفكير، فهي تفقد شاربها القدرة على التركيز والتوجُّه أثناء إقامة فريضة الصلاة، فنزلت الآية الكريمة: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تَقْربوا الصَّلاةَ وأنتم سُكارى حتَّى تعلموا ما تقولون..} (4 النساء آية 43) وفي هذا تقليل لفرص المعاقرة العملية للشراب، وكسر لسلطان عادة الإدمان، بتدريب الجسم على ترك الخمر في أوقات معينة، تساعده في النهاية على تركها نهائياً. فكأنَّما حرَّم الخمر في هذا النصِّ سائر النهار، ولم يبق للمولعين بها إلا الليل من بعد صلاة العشاء، وفي هذا التضييق على شاربي الخمر، إعداد لهم وتأهيل، لاستقبال الحكم النهائي بالتحريم القطعي لها.(2/304)
ثم جاءت الخطوة الحاسمة، وهي التحريم القطعي للخمر، وفي جميع الأوقات، بعد أن تهيَّأت النفوس والأجساد لها؛ فصدر الأمر الجازم في قوله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوهُ لعلَّكمْ تُفلحون}، وكان جواب المؤمنين هو السمع والطاعة. جاء في مسند أحمد وأبي داود والترمذي: أن عمر رضي الله عنه كان يدعو الله تعالى (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً) فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلَّ على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دُعي فقرئت عليه، فلما بلغ قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} قال: انتهينا، انتهينا. ونلاحظ في قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} استفهاماً خرج عن معناه إلى معنى الأمر، أي انتهوا؛ وهذا أسلوب للنهي بألطف الوجوه وأشدِّها تأثيراً في النفوس.(2/305)
وفي تحريم الخمر على هذا الترتيب حكمة بالغة، ذلك أن القوم كانوا قد ألِفوا شرب الخمر حتى أصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حُرِّمت دفعةً واحدة، ومنذ بداية عهدهم بالإسلام، لشقَّ ذلك عليهم تحت سلطان العادة، وربَّما لم يستجيبوا لهذا النهي. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نشير إلى أن الإسلام نجح في مكافحة الخمر، وقطع دابره من المجتمع الإسلامي دون إحداث أي ضجيج، في حين فشلت تشريعات البشر في القضاء على ظاهرة الخمرة في المجتمع. فهذه الولايات المتحدة الأمريكية، أصدرت فيما مضى قانوناً يمنع الخمر لشدَّة الأضرار الناجمة عنه، واضطرَّت إلى التراجع عن هذا المنع لأنها لم تسلك السبيل الصحيحة إلى ذلك؛ ألا وهو الإيمان الراسخ بالله عزَّ وجل وبكلِّ عناصر العقيدة، وهذا ما يقوِّي إرادة الإنسان، ويشحنه بطاقات هائلة، فيكون على استعداد لامتثال أمر الله عزَّ وجل، لأنه يجد في هذا الامتثال أعلى درجات السعادة والمتعة. هذا هو السبيل للخلاص من الخمر ولا سبيل سواه، وما على البشرية المعذَّبة، والَّتي تكتوي بنار الخمر، إلا أن تلجأ إلى الله وتعتصم بشرعه الحنيف، لتتخلَّص من كلِّ ما ينغِّص عليها صحَّتها وسعادتها.
ويجدر بنا الحديث هنا عن تدخين التبغ؛ حيث صدرت أخيرا عدَّة فتاوى بتحريمه، قياساً على تحريم الدم والخمر ولحم الخنزير، لثبوت ضرره بالدَّلائل العلمية القطعية، حيث أن مادَّة النيكوتين الموجودة في التبغ تتسبَّب في مقتل الجينات الناظمة لتكاثر الخلايا في جسم الإنسان، مما يؤدِّي إلى الإصابة بالسرطان الَّذي هو تكاثر فوضوي غير منضبط للخلايا، وقد اعترفت الشركات المصنِّعة للتبغ بأضراره، ووضعت التحذيرات الصحيَّة على كلِّ علبة لفائف (سجائر أو سيجار).(2/306)
ولكن المؤسف هو أن تلك الفتاوى قُوبلت من المدخنين بكثير من العناد، وذلك بسبب تخاذلهم، واستسلامهم لسلطان الإدمان وقهره؛ وهنا يأتي دور الإيمان، ويظهر أثره من خلال التوجُّه نحو حضرة الله، وطلب المدد والعون والقوَّة منه، مع الإرادة القويَّة، والعزم والتصميم، حتى يصل إلى اتخاذ قرار ـ لا رجوع فيه ـ للإقلاع عن التدخين، حماية لصحَّته وصحَّة زوجه وأولاده ـ حتى الجنين في رحم أمه ـ وحماية لمن حوله، وهذا ما يتَّفق مع قوله تعالى: {.. وَلا تُلْقُوا بَأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَة.. } (2 البقرة آية 195). وما ينطبق على التدخين ينسحب على جميع أنواع المفتِّرات والمخدِّرات والمغيِّبات، أيّاً كان نوعها.
أمَّا الميسر، أي القمار، فقد حرَّمه الله تعالى لأنه يُفقد الإنسان الإحساس والشعور أثناء انغماسه في اللعب، حتَّى إنه لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكلت قلبه الندامة وحرق جوفه الحسد، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال. وربَّما أدَّى به ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو ربَّما قتل نفسه هرباً من عواقب الجريمة الَّتي ارتكبها في حقِّ نفسه وحقِّ عياله. فكم من أسرة تهدَّمت وكم من عائلة تشرَّدت بسبب مقامرة أربابها، بعد أن كانت تتقلَّب في ربوع النعيم والرفاهية. إضافة إلى أنه وسيلة كسبٍ غير مشروعة، لأنها تقوم على الحظِّ والمصادفة، ولا تحتاج إلى عناء عمل أو إعمال فكر، يعودان في النهاية بفائدة على المجتمع. وهكذا فإن طاعة الله عزَّ وجل فيما جاء به من أوامر وإرشادات، للمحافظة على قوام المجتمع سليماً معافى، تقطع دابر الشيطان وتسدُّ في وجهه جميع المنافذ، وتأخذ بيد الإنسان إلى واحة الطمأنينة والسكينة المنشودة، والَّتي هي أمل كلِّ إنسان، لكنَّها لا تتحقَّق إلا بالسير على المنهج الإلهي للحياة.
الفصل الثالث:
تحريم القتل وعقوبته
سورة الإسراء(17)(2/307)
قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سُلطاناً فلا يُسْرِفْ في القتلِ إنَّه كان منصوراً(33)}
ومضات:
ـ الإسلام دين الحياة ودين السَّلام، وقتل النفس يُعَدُّ من أكبر الكبائر ويأتي بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها.
ـ القاتل يُقتَل ويجري عليه القصاص من قبل الحاكم المسؤول، ولا يُسمَح أبداً أن يَطالَ القصاص غير القاتل ممَّن لا ذنب لهم، كعادة (الأخذ بالثأر) الَّتي أبطلها الإسلام.
في رحاب الآيات:
لا يمكن للإنسان أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا تمتَّع بحقوقه كاملة، وفي مقدِّمتها حقُّ الحياة وحقُّ التملك، وحقُّ صيانة العرض، وحقُّ الحرِّية وحقُّ المساواة وحقُّ التعلُّم. وكلُّ هذه الحقوق واجبة له من حيث أنه إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أو مركزه الاجتماعي، قال الله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبحرِ ورزقناهُم من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقْنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70). وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع فقال: «أيُّها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت؟ اللهمَّ فاشهد» (متفق عليه).
وقد حرص الإسلام أشدَّ الحرص على حماية حياة الإنسان، فهدَّد من يستحلُّها بأشدِّ عقوبة بقوله تعالى: {ومن يَقْتُلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤهُ جهنَّمُ خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنَهُ وأعدَّ له عذاباً عظيماً} (4 النساء آية 93)، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».(2/308)
إن القتل يُشيع الفساد والخراب في البلاد، قال تعالى: {ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..} (7 الأعراف آية 56). ولو أنه أُبيح؛ لفتكَ القويُّ بالضعيف واختلَّ الأمن، وأصبحت الحياة حِكْراً على الأقوى والأغنى. وقد جعل الإسلام لكلِّ نفس حَرَماً آمناً لا يُمسُّ إلا بالحقِّ، وهذا الحقُّ الَّذي يبيح قتل النفس واضح لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي ولا متأثِّراً بالهوى. فمن قُتل مظلوماً بغير حقٍّ فقد جعل الله لوليِّه سلطاناً على القاتل، إن شاء سلَّمه للعدالة لتقتله جزاء فعلته، وإن شاء عفا عنه بِدِيَةٍ أو بلا دِيَة، ومع هذا ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل، أي أن يتجاوز القاتلَ إلى غيره ممن لا ذنب لهم، أو أن يقوم بالتمثيل بالقاتل أو تعذيبه. فالإنسان في شرع الله غير مفروض عليه مخالفة ما غُرس في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص، لذلك يلبِّي الإسلام حاجات هذه الفطرة في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها، فلم يفرض التسامح فرضاً، إنما هو يدعو إليه ويؤثره، ويحبِّب فيه، ويؤجر عليه ولكن بعد أن يعطي وليَّ المظلوم حقَّ القصاص، فلوليِّ الدم أن يَقتصَّ أو يصفح، وفي هذا تهدئة للغليان والألم الَّذي تستشعره نفسه، ومن تقيَّد بما شرعه الله من القصاص نصره الله، ونصره الحاكم، وأيَّده الشرع.
ويستوي في الحرمة قتل المسلم أو الذِّمي، فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مُعاهَداً لم يَرِحْ رائحة الجنَّة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».(2/309)
وفيما يتعلَّق بقتل النفس فقد حذَّر الله جلَّ وعلا من أن يقتل الإنسان نفسه حيث قال في كتابه الكريم: {..ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (4 النساء آية 29)، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً أبداً، ومن تحسَّى سُمّاً فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها (يضرب بها نفسه) في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً»، وهكذا فإن الإسلام قد حرَّم قتل النفس؛ وجعله من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غيره أن يتصرَّف فيها إلا بإذنه وضمن الحدود الَّتي رسمها.
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {من أجْلِ ذلك كتبنا على بني إسرائِيلَ أنَّه من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً ولقد جاءتهُم رسُلُنا بالبيِّناتِ ثمَّ إنَّ كثيراً منهُم بعد ذلك في الأرض لمسرِفونَ(32)}
ومضات:
ـ الشريعة الإسلامية شديدة الحرص على توجيه سلوك الإنسان وأخلاقه، وحماية حياته من أي اعتداء، لذلك فهي تشدِّد على ضرورة اتحاد المنظومة البشرية في وجه أية عملية قتل غير مبررة شرعاً.
ـ ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلاً، ببني إسرائيل، بسبب تقديسهم للدم اليهودي واستباحتهم ما سواه خلال فترات التاريخ كلِّها ولغاية اليوم.
ـ شدَّد رسل الله على التعاليم المتعلِّقة بقدسية حياة الإنسان وكرامته، ولكن المتهاونين في تطبيق هذه التعاليم كثيرون، بسبب اعتدادهم بلونهم أو عرقهم أو انتمائهم الدِّيني.
في رحاب الآيات:(2/310)
إن حقَّ الإنسان في الحياة هو أغلى الحقوق وأقدسها على الإطلاق لأن الحياة هي أثمن ما وهبه الله، وبدونها فإنه لا قيمة لأي شيء آخر يملكه مهما كان عظيماً. ولهذا فقد اعتبر الإسلام أن الاعتداء على هذا الحقِّ بالقتل هو أفظع جريمة يرتكبها الإنسان في حقِّ أخيه الإنسان، وقد أغلظ الله تعالى العقوبة عليها، وشدَّد في التحذير منها، وقيَّد إنزال عقوبة القتل بالفرد بشرطين صارمين لا يمكن الحياد عنهما وهما:
أوَّلاً: أن يكون القتل دفعاً للقتل أو جزاءً عليه. فمن يتعرَّض لاعتداء مباشر على حياته أو أهله أو ماله أو عرضه، لا رادَّ له إلا قتل المعتدي، يحقُّ له أن يقاتل ذلك المعتدي ليدفع أذاه. والقاتل بغير حقٍّ يُقتَل لقاء ما اقترفته يداه، منعاً من انتشار جريمة القتل النكراء بين الناس أو الاستهانة بأمرها.
ثانياً: أن يكون القتل منعاً للإفساد في الأرض. فيتعيَّن قتل من ينشر الفساد ويلجأ إلى القتل بدافع اللصوصية والاعتداء على الحرمات، أو يمارس تجارة المخدِّرات وأشباهها فينشر السموم بين صفوف الشباب الَّذين هم عماد المجتمع وبُناته الأقوياء، أو أن يخون وطنه ويتجسَّس لصالح أعدائه، فمثل هذا الإنسان يُعدُّ مصدر قلق وخطر يهدِّد حياة الآخرين، وفي قتله صيانة لحياتهم وأمنهم. والهيئة القضائية فقط هي الَّتي تنفِّذ قتله لا الأفراد، ولا يحقُّ لأيِّ جهة سواها، فردية كانت أو جماعية، أن تُنزِلَ الموت بأي إنسان مهما علا شأنها اجتماعياً أو سياسياً أو مادياً.ولكنَّ بعض الناس يخالفون هذا الضابط الدِّيني الَّذي يحفظ الحياة والكرامة الإنسانية، وينتهكون حرمات الله بالاعتداء على أرواح الأبرياء بغير حق.(2/311)
لقد كان بنو إسرائيل ولا زالوا أوضح نموذج لهؤلاء الناس، فقد قام المنحرفون والمتطرِّفون منهم بقتل كثير من الأنبياء على مدار التاريخ، وحاول أشقياؤهم قَتْلَ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنه كشف تحريفهم للتوراة وإضلالهم للناس. لذلك فقد خصَّهم الله تعالى بالذِّكر في هذه الآية، مصوِّراً حالهم الَّذي لم يتبدَّل منذ القرون الغابرة وحتى اليوم. فنحن نجد في عصرنا هذا ـ عصر العلم والحضارة والرقي الفكري ـ أن الغلاة منهم والمتطرِّفين لا يزالون يستبيحون دماء الناس، وعلى مشهد من أعين العالم أجمع، دون رادع يثنيهم أو وازع يصرفهم عن جرائمهم، وفي كلِّ يوم نطالع خبراً جديداً عن مقتل العرب من سكان الأراضي المحتلة على أيديهم، وكأن دماء أولئك العرب مباحة، أو كأنهم ليسوا من جنس البشر، مع أنهم شركاؤهم في الإنسانية والعبودية لله الواحد الأحد، وأَتْباعٌ مثلهم لرسالة سماوية مقدَّسة تنزَّلت من عند الله ربِّ الناس أجمعين. وفي الوقت ذاته يُعظِّمون حرمة دمائهم، فيغضبون ويثورون إذا قُتِلَ يهودي واحد في أي بقعة من بقاع العالم وكأنهم قُتلوا جميعاً، ولا يزالون يطالبون بثأره ويلاحقون قاتله بعقدة الذنب إلى قيام الساعة.
وليست هذه الصورة بعيدة أبداً عما يمارسه بعض البيض هنا وهناك ضد الملوَّنين، حيث يرتعون في أحضان الرفاهية المادية، بينما يضطهدون الملوَّنين ولا يتورَّعون عن قتلهم إذا اقتضت مصالحهم ذلك، دون أن يطرف لهم جفن أو تتحرَّك ضمائرهم قيد أُنملة، وكأن هؤلاء الناس لا يستحقُّون الحياة، ولا يحقُّ لهم صيانتها.(2/312)
أمَّا الإسلام، الدِّين الإنساني العالمي، فإنه يحفظ حقَّ الحياة لكلِّ إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه أو انتماؤه الدِّيني، ويقرِّر عقوبة شديدة في حقِّ من يعتدي على هذه الحياة، وهي العذاب الشديد والطرد من رحمة الله، ويعتبره معتدياً على الإنسانية كلِّها، وبالتالي ففي حماية الفرد ـ وهو الجزء ـ حماية للإنسانية ككلّ، فمن سوَّلت له نفسه قتل إنسان بريء، لم يتورَّع عن قتل الآلاف لوجود نوازع الشر لديه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كرامة الفرد من كرامة أُمَّته، وقد يؤدي مقتل فرد من أفرادها على يد فرد من أمَّة أخرى، إلى نشوب حرب طاحنة بينهما، يُقتل فيها الآلاف وجميعهم ضحيَّة لفعل القاتل الأوَّل. ومن حفظ حياة إنسان بأن منع عنه القتل، أو نجَّاه من غرق أو حرق أو هلكة أو سوى ذلك، فكأنما أحيا الناس جميعاً، لأن بذرة الخير مزروعة في نفسه ولابدَّ أن تنمو وتزهر وتثمر ويعمَّ خيرها الناس جميعاً.
والله جلَّ وعلا لم يترك عباده تائهين في شعاب الحياة، بل أرسل إليهم الرسل بالآيات البيِّنات الَّتي تحذِّر وتنذر، وتحبِّب وترغِّب، ولكن ظلمة بعض النفوس حجبت نور الله عنها، فعشَّش الشيطان فيها واتخذها مطية له، فمشى أصحابها في الأرض يُهلكون الحرث والنسل، استعلاءً وغروراً، وحباً للسيطرة واستغلالاً لثروات غيرهم.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {وإنْ عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُم به ولئنْ صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين(126)}
ومضات:
ـ تكفل الشريعة الإسلامية للمؤمن عزَّته وكرامته، وتبيح له الاستعداد واستعمال القوَّة، ليتمكَّن من الدفاع عن نفسه وردِّ أي اعتداء عليه بمثله. وهي في الوقت ذاته تدعوه حين يملك القوَّة والإمكانات للردِّ الحاسم، إلى تمالك أعصابه والتحلِّي بالصبر، صبر الشجاعة مع القدرة لا صبر المهانة، وترغِّبه بالتجاوز عن خصمه والعفو عنه، عسى أن يثوب إلى رشده حين يرى عظمة الإسلام في منعته وفي عفوه.(2/313)
في رحاب الآيات:
الإسلام دين العدل والاعتدال، دين السلم والمسالمة، إلا أنه يدفع عن نفسه وعن أهله البغي. لذلك يُقِرُّ القرآن الكريم وهو الدستور المتوازن الأمثل، في عدد من آياته قاعدة القصاص، وهي المعاملة بالمثل، صيانة للنفس البشرية وحماية لها؛ فالدفاع عنها في حدود القصد والعدل، يحفظ لها كرامتها وعزَّتها، فلا تهون في نفوس الناس. والله تعالى لا يترك دعوته مهينة مهيضة الجناح، والمؤمنون لا يقبلون الضيم وهم دعاة إلى الله ـ والعزَّة جميعاً لله ـ ثم إنهم أمناء على إقامة الحقِّ في الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وهداية البشرية إلى الطريق القويم؛ فكيف ينهضون بهذا كلِّه وهم يُعاقَبون ولا يُعاقِبون، ويُعْتَدَى عليهم فيستكينون؟. ومع تقرير مبدأ القصاص فإن القرآن يدعو إلى العفو والصبر مع الصفح عند القدرة، وذلك في الحالات الَّتي يكون فيها المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، ولكنَّهم يميلون إلى العفو والصبر، إذا كان أجمل وأعمق أثراً، وأكثر فائدة للدعوة، فأهواؤهم الشخصية لا وزن لها حين تميل مصلحة الدعوة إلى العفو والصبر.(2/314)
إنَّ رسولَ الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو المثل البشري الأعلى في ذلك، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُدْ عندما قُتِل حمزة ومُثِّل به: «لئن ظفرت بقريش لأمثِّلنَّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله تعالى: {وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُمْ به ولئن صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نصبر يارب. ولما مكَّنه الله تعالى منهم وفُتِحت مكَّة عفا عنهم جميعاً وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومن هنا ندرك أنه على الرغم من أن ضبط الإنسان لانفعالاته هو من الصعوبة بمكان، وخاصَّة عندما يتعرَّض للاعتداء أو الإهانة، وعلى الرغم من وجود القوانين السماوية الَّتي تبيح للمُعتدى عليه ردَّ الاعتداء، ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وردِّ المظالم إلى أهلها، فإن الله تعالى يرغِّب عباده بالتعالي والتسامي فوق الأحقاد، والتعامل مع الخصوم بالصبر والتسامح، أملاً بتحويل عداوتهم إلى محبَّة، وأذاهم إلى إصلاح، قال تعالى: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34).
الفصل الرابع:
تحريم الزنى وعقوبته
سورة النور(24)
قال الله تعالى: {سورةٌ أَنْزَلناها وفَرضْناها وأَنْزلنا فيها آياتٍ بيِّناتٍ لعلَّكم تَذَكَّرون(1) الزَّانيةُ والزَّاني فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأْخذْكُم بهما رأْفَةٌ في دينِ الله إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وَلْيَشْهدْ عذابَهُما طائفةٌ من المؤمنين(2)}
سورة النور(24)(2/315)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين يُحبُّونَ أن تَشِيعَ الفاحشَةُ في الَّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون(19) ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ وأنَّ الله رؤوفٌ رحيم(20) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ ومن يتَّبعْ خُطُواتِ الشَّيطانِ فإنَّه يأمرُ بالفحشاءِ والمنكرِ ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ الله يُزكِّي من يشاءُ والله سميعٌ عليم(21)}
ومضات:
ـ إن جريمة الزنى من أشدِّ الأخطار الَّتي تصيب صميم المجتمع في ضميره وشرفه ووجدانه وصحَّته، لأنها تجعل منه مجتمعاً منحلاً أخلاقياً، ومنهاراً اجتماعياً وصحِّياً.
ـ الغريزة الجنسية قوَّة فطرية جامحة لا يستطيع المرء لجمها ووضعها في المسار الصحيح إلا بعون الله تعالى ورعايته؛ وبما يملأ قلبه من حبِّ الله وخشيته؛ فتزكو النفس المريضة، وتكتسب المناعة ضدَّ دوافع الشهوة والانحراف.
ـ إن الكثير من أبناء الدول المتحضرة الَّذين يدرسون الإسلام يرغبون في تطبيق تعاليمه في مجتمعاتهم؛ لكي يتجنَّبوا الأمراض الناجمة عن الفُحش والإباحية.
في رحاب الآيات:
يكاد يكون المحور الأساسي الَّذي تدور حوله سورة النور مقتصراً على عملية التربية، الَّتي تشتدُّ في وسائلها إلى درجة تطبيق الحدود كعقاب رادع، وترِقُّ في أسلوبها إلى درجة الاحتكاك مع الإنسان باللمسات الوجدانية الرقيقة، الَّتي تصل القلب بنور الله وآياته المبثوثة في كلِّ مخلوقٍ في هذا الكون الفسيح، وفي ثنايا الحياة الَّتي يعجُّ بها، والهدف واحد في كلٍّ من حالتي الشدَّة واللين ألا وهو تربية الضمائر، وترقية المقاييس الأخلاقية للحياة.(2/316)
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على أحكام عامَّة تتعلَّق بالأسرة الَّتي هي النواة الأولى للمجتمع الأكبر؛ ووضَّحت الآداب الاجتماعية الَّتي يجب أن يتمسَّك بها المؤمنون بدءاً من الاستئذان عند الدخول، إلى غضِّ البصر، وحفظ الفرج، وتقييد الاختلاط، كما ذكرت ما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة من العفاف والستر والطهارة والنزاهة، صيانة لها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكُّك والانهيار الخلقي. كذلك ذُكرت في هذه السورة بعض الحدود الشرعية كحدِّ الزنى وقذف المحصنات (الاتِّهام بالزنا من غير دليل)، وهذه الحدود إنما شُرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، والتحلُّل الخلقي وحفظاً للأمَّة من عوامل التردِّي في مهاوي الإباحية والفجور، الَّتي تسبِّب ضياع الأنساب وذهاب العرض والشرف.. إضافة إلى الأمراض الجسدية الفتَّاكة والمعضلات الاجتماعية الَّتي تنتج عنها. وباختصار فإن هذه السورة عالجت أموراً تخصُّ الأسرة من النواحي الأخلاقية والأدبية والشرعية والصحِّية، وتعرَّضت كذلك لما هو سبب لإشاعة الفاحشة بين الناس، وغير ذلك ممَّا يُعَدُّ علاجاً للأمراض الاجتماعية والمفاسد الخُلقية الَّتي تفتك بالأسرة والمجتمع، إضافة إلى ما فيها من آداب سامية وحكم عالية، وإرشادات سديدة إلى أسس الحياة الفاضلة، وما يجب أن تكون عليه بيوت المؤمنين من النزاهة والعِفَّة والاستقامة والطهر.
وقد تعرَّضت السورة الكريمة للحديث عن الزنى لأنه يُعَدُّ في نظر الإسلام جريمة نكراء، فهو قتلٌ من نواحٍ شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادَّة الحياة في غير موضعها الشرعي، وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريق الزنى يجعل الحياة الزوجية أمراً ثانوياً، فتصبح الأسرة وأعباؤها تَبِعةً لا داعي لها، وما من أمَّة فشت فيها الفاحشة إلا كانت عاقبتها الانحلال والدمار؛ منذ قديم الزمان وحتَّى يومنا هذا.(2/317)
والله جلَّ وعلا، بحكمته البالغة، أوجد الارتباط بين الذكر والأنثى بالشكل المنظم والمضمون، الَّذي يكفل الحقوق للطرفين وللأولاد، وارتقى بهذه العلاقة إلى المستوى الإنساني الكريم، فحماها من التردِّي إلى الدرك البهيمي الذميم. لقد وضع الإسلام العلاقة بين الزوجين في دائرة الطهارة والعفاف، عن طريق الزواج الشرعي الَّذي يحقِّق الهدف النبيل، والغاية الإنسانية المُثلى، في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى: {والله جعلَ لكم من أنفسِكُم أزواجاً وجعلَ لكم من أزواجِكُم بنينَ وحفدة..} (16 النحل آية 72).(2/318)
وإذا استقرأنا الواقع وجدنا أن الحضارة الأوربية الَّتي عاشت عشرات السنين وهي تدعو إلى الحرِّية المطلقة، بما في ذلك الحرِّية الجنسية، قد بدأت اليوم تحصد هي وأنصارها نتائج هذا الانفلات من قيود الفضيلة، أمراضاً وأوبئة تفتك بالمذنب بشكل مباشر، كما تفتك بالبريء بشكل غير مباشر عن طريق الوراثة والعدوى ونقل الدم؛ حيث يولد الطفل مصاباً بالمرض الَّذي تحمله الأم الجانية أو الأب الآثم، أو يصاب بمرض كاليرقان فيضطر الطبيب إلى إعطائه دماً تعويضياً، ثم يظهر أن هذا الدم ملوَّث بجرثوم الإيدز. وفي مثل هذه الحالة لو عُرِض الأمر على القضاء وسمح القاضي لوالد هذا الطفل أن يقتصَّ من الجاني الحقيقي الَّذي عاث في الأعراض فساداً كما يشاء، فهل سيكتفي هذا الوالد المتحضِّر بعقابه مئة جلدة، أم أنها ستكون عقوبة صارمة جداً؛ يقتلع بها جذور الشرِّ من أعماق المجتمع الإنساني؟. إن الغربيين لا يعدُّون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا تمَّ بالإكراه، أمَّا إذا كان بالرضا فإنه برأيهم لا يستوجب العقوبة لأنه يخلو حينئذٍ من فكرة العدوان، ونتيجة لهذه النظرة المادِّية البحتة والواقع العملي الَّذي نتج عنها، فقد فسدت الروابط العائلية بينهم، وتخرَّبت الأسرة، وانتشرت الأوبئة والجرائم الخُلُقية في مجتمعاتهم. فإذا سلكنا مسلكهم في ذلك نالنا ما نالهم، فالحذرَ الحذرَ من الانزلاق إلى منزلقاتهم، لاسيَّما وقد بدأت بؤر من العدوى تظهر بيننا؛ إنها صرخة الغيور على مجتمعه وأمَّته كي تعتصم بحبل الله وشرعه الكريم، وبذلك تمتطي قارب النجاة في هذا البحر الهادر فتتحقَّق سلامتها بعون الله تعالى.(2/319)
والقرآن الكريم يحذِّر من مجرَّد مقاربة ما يفضي إلى الزنى بقوله تعالى: {ولا تَقرَبوا الزِّنا إنَّه كان فاحشةً وساءَ سبيلا} (17 الإسراء آية 32) وهي مبالغة في التحرز؛ لأن الزنى تدفع إليه شهوة عنيفة، لكنها لا تتولَّد بلا أسباب، فإذا ما باشر الإنسان أسبابها ودواعيها لم يبق هناك ضمان لكبحها. لذلك فالإسلام يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرِّم الخلوة، ويأمر بغضِّ النظر، وينهى عن التبرُّج، ويحضُّ على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصَّوم من لا يستطيع، ويجعل من كلِّ حاجز يمنع من الزواج مكروهاً، وينفي الخوف من العَيْلة والإملاق بسبب الأولاد، ويحضُّ على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصِّنوا أنفسهم؛ وفي مقابل ذلك كلِّه فإنه شدَّد العقوبة على من يقع في الزنا، وحدَّدها على الشكل التالي:
1 ـ عقوبة المُحْصَنَيْنِ (المتزوِّجَيْنِ): إن كان الزانيان مُحْصَنَيْنِ وكانا بالغين عاقلين، حُرَّين، مسلمين، متزوِّجَين بعقد صحيح، وجب رجمهما حتَّى الموت، ويكون ذلك على مرأى من المسلمين ليعتبروا بهما؛ وقد ثبت هذا بالسُّنة برواية الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2 ـ عقوبة غير المُحْصنين: إذا كان الزانيان غير محصنين (أي لم يسبق لهما زواج)، فالعقوبة مائة جلدة لكلٍّ منهما بحضور جمعٍ من المسلمين، كما مرَّ معنا في الآية الكريمة.
ولما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي (الجلد أو الرجم) فقد شرطت الشريعة الإسلامية شهادة الشهود لإثبات جريمة الزنى، وأخضعت هذه الشهادة لشروط شديدة حاسمة، بتحقُّقها يُقام الحد، وهي:(2/320)
أوَّلاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {واللاَّتي يَأتِيْنَ الفاحشةَ من نسائِكُم فاستشهدوا عليهِنَّ أربعةً منكم..} (4 النساء آية 15) وقوله أيضاً: {والَّذين يرمونَ المحصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلدوهم ثمانينَ جلدةً..} (24 النور آية 4) بخلاف سائر القضايا فإنه يُقبَل فيها شهادة اثنين فقط.
ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً من أهل العدالة ــ كما في كلِّ شهادة ـ لقوله تعالى: {..وأَشْهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم..} (65 الطلاق آية 2).
ثالثاً: أن يكون الشهود مسلمين عاقلين بالغين.
رابعاً: أن يكونوا قد رأوا الجريمة بتفاصيلها ودقائقها بأعينهم (أي أن يروا ما يمكن وصفه بالمِيل في المُكحُلَة)، بهذا الوضوح التام الَّذي لا شبهة فيه على الإطلاق، وهذا بلاشك لا يمكن أن يتحقَّق أو يُتَصوَّر إلا إذا كان الزانيان يباشران جريمتهما بشكل مكشوف كما يفعل الحيوان.
خامساً: اتحاد المجلس بأن يشهد الشهود مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم.
وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسدَّ السبيل على الَّذين يتَّهمون الأبرياء ظلماً ويقذفون المحصنات بهتاناً، كلُّ ذلك بغية حماية الإنسان أن تطاله العقوبة وهو بريء من فعل ما يوجبها، إذ أن غرض الإسلام منها هو الردع عن ممارسة أسبابها؛ لا إيقاعها بالفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات» (رواه الخمسة) فربَّما كانا في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.(2/321)
كما يمكن إثبات الزنى عن طريق الإقرار، بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف اعترافاً صريحاً بالزنى. وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحدَّ بعد إصرارهما على الاعتراف ولم يكلِّفهما البيِّنة، ولكن التثبُّت في أمر الإقرار مطلوب، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لماعز ما عساه أن يصرفه عن الاعتراف فقال له أربع مرات: «لعلك قبَّلت، لعلك نظرت» حتَّى ذكر له ماعز أنه فعل الزنا باللفظ الصريح الَّذي لا شُبْهة فيه، كلُّ ذلك بغية التثبُّت من جهة، وفتحاً لباب الرجوع عن الاعتراف واللجوء إلى التوبة والاستغفار، فإن التائب من الذَّنْب كمن لا ذَنْب له، شرط أن تكون هذه التوبة توبة حقيقية. وعدَّ بعض الفقهاء حمل المرأة الَّتي ليست في عصمة رجل، قرينة على اقتراف فاحشة الزنى.(2/322)
ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حدِّ الزنى إلا عن طريق الإقرار، وفي حادثتين اثنتين، إحداهما حادثة ماعز بن مالك الأسلمي، الَّذي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه: «يارسول الله إني زنيت. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، وتنحَّى عنه. فأعرض قبله فقال: (إني زنيت) فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثانية وتنحَّى عنه، فأعرض قبله فقال: طهِّرني يارسول الله فقد زنيت. فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أبى فقال: يارسول الله زنيت فطهِّرني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا. فسأله رسول الله باللفظ الصريح الَّذي معناه (الجماع) فقال: نعم. قال: حتَّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال: كما يغيب الميل في المُكْحُلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: إني أريد أن تطهِّرني. فأمر صلى الله عليه وسلم به فرُجم. وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يتكلَّم عنه ويقول: لقد رُجم رجم الكلاب فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: لقد تاب توبة لو قُسِمَتْ بين أمَّة لوسعتهم». وفي رواية أخرى: «والَّذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنَّة ينغمس فيها» (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي).(2/323)
أمَّا الحادثة الثانية فهي حادثة الغامدية، فقد روى مسلم في صحيحه أن امرأة تدعى الغامدية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يارسول الله إني زنيت فطهِّرني. فردَّها صلى الله عليه وسلم ، فلما كان من الغد قالت: يارسول الله لِمَ ترُدُّني؟ لعلك تردُّني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني لحبلى، فقال: أمَّا الآن فاذهبي حتَّى تَلِدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فأرضعيه حتَّى تفطميه. فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يانبي الله قد فَطَمتُه وقد أكل الطعام. فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه خالد بن الوليد فسبَّها، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً ياخالد فوالَّذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت» (رواه مسلم وأصحاب السنن) (المكس: هو النقص والظلم)، فانظر إلى هذه النفوس الكريمة الَّتي لم تتحمل عِظَمَ هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه.(2/324)
ولعلَّ بعض الَّذين تأثَّروا بالثقافة الغربية يرون في هذه الحدود والعقوبات، شيئاً من الشدَّة والقسوة، الَّتي لا تتَّفق مع روح العصر، والواقع أن العقوبة الَّتي شرَّعها الإسلام صارمة، ولكنَّها في الوقت نفسه عادلة، فهي تقع فقط على من استهتر، وسعى في طريق شهوته دون أن يبالي بأي طريق نال الشهوة، ولا ما يترتَّب عليها من أخطار وأضرار. ثمَّ إن الإسلام يعتبر الزنى لوثة أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة، ينبغي أن تكافَحَ دون هوادة، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة (الجلد أو الرجم) ـ كما بيَّنا ـ لمجرد التهمة أو الظن، بل على النقيض يوجب التحقُّق والتثبُّت، ويُدرأ الحدُّ بالشُّبُهات، ويشترط شروطاً شديدة تكاد لا تتوافر؛ هي شهادة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافاً صريحاً لا شُبهة فيه من الشخص الَّذي اقترف الجريمة. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر أن الاعتراف سلوك باعثه داخلي ذاتي، ولا يحصل إلا من قِبَل أصحاب الإحساس المرهف، والضمير الإيماني الحي اليقِظ، الَّذي يحمل صاحبه على الاعتراف بأمرٍ ستره الله عليه لينال عقاب الدنيا ويطهِّر به نفسه من دنس المعصية، فيَلقى ربَّه طاهراً نقياً. فأي سلطان للقاضي في مثل هذه الأحوال إذا قام الفرد بعمله وكتم ذلك في نفسه، لاسيَّما وأن الله تعالى فتح باب التوبة لكلِّ من أراد إرادة حقيقية تَرْكَ ما حرَّم الله، وسلوكَ سبيلِ ما أباح وأحلَّ.(2/325)
إن الناظر بعُمقٍ يرى أن إثبات جريمة الزنى بالبيِّنة والشهادة أمر شبه مستحيل، وأن الإسلام أمَرَ القاضي بهذا الحرص الشديد في قبول الاعتراف من المعترفين، فيخرج بنتيجة مفادها أنه أمر بالحدِّ والعقوبة تلويحاً بها وزجراً، فإذا ما وقع بها بعض المسلمين تحت ظرف ما من الظروف، وبعد أن عاد إلى رُشده وصحا إيمانه وضميره؛ التمس له الشرع الوسائل والأسباب الَّتي تمنع عنه العقاب، وتوجِّهه إلى أبواب رحمة الله، ضارعاً إليه تائباً متنصِّلاً من ذنبه، ليجد ربَّه غفوراً رحيماً.
ونظراً لبشاعة جريمة الزنى ولفداحة الخسائر الَّتي تنجم عنه، فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخطار سواء منها الدنيوية والأخروية، فقد رُوي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يامعشر الناس! اتقوا الزنى فإن فيه ستَّ خصالٍ: ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة، أمَّا الَّتي في الدنيا فيُذهب البهاء، ويُورث الفقر، وينقص العمر، وأمَّا الَّتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» (أخرجه البيهقي في الشعب).(2/326)
وقد حذَّر الله تعالى من الرأفة أو الرحمة في إقامة الحدِّ؛ بعد أن تثبت الجريمة بشكل قاطع، لا لَبْس فيه ولا خفاء، فقال تعالى: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأْخُذْكُم بهما رَأْفَةٌ في دينِ الله}، لأن الرأفة والرحمة قد تُخَفِّف شدَّتكم في الحقِّ فتعطِّلوا الحدود، أو تخفِّفوا الضرب؛ فالواجب هو أن تكونوا حازمين في دين الله، وذلك لاجتثاث أسباب الفتنة من جذورها، وليأخذ المتهاونون في شرع الله الأمر على محمل الجد، وتدبُّر العواقب قبل أن تقع الواقعة. والعقوبة لا تقتصر على من يرتكب جريمة الزنى فحسب، بل إنها تمتدُّ لتشمل كلَّ من يُعين عليها، ويكون سبباً في إشاعتها؛ بنشر الفاحشة بين الناس وتشجيعهم على ارتكابها، لأنه مجرم في حقِّ مجتمعه إذ يحوِّله إلى مجتمع بهيمي حيواني، لا عقلانية تردعه ولا أخلاق تقوِّمه. ومن ذلك ما يفعله تجار الجنس في يومنا هذا، زمن الأفلام والفيديو، حيث يُحضرون زناة من الجنسين، وحتَّى من الجنس الواحد ليمارسوا أقبح الأعمال وأوقحها، وآلة التصوير تدور معهم حيثما داروا، ليُخرِجوا بذلك فيلماً تتخاطفه النفوس المريضة، ويشاهده المراهقون في غفلة من آبائهم، لتنهار بذلك القيم، ولنخرج بإحصائية مرعبة نجد فيها أطفالاً يمارسون الجنس، وفتيات يَحملن دون زواج وهنَّ دون الخامسة عشرة من أعمارهن، ولنجد أعمال الجنس تُمارَس في الأسرة الواحدة بين الأب وبناته، وبين الأخ وأخته، وبين الرجل والرجل وبين الفتاة والفتاة. ومحصِّلة ذلك كلِّه: أوبئة تستشري، ومجتمعات تنحلُّ، ومخدِّرات تتفشى، حتَّى ليتمنَّى المرء من هؤلاء أن يدركه الموت في أيَّة لحظة ليتخلَّص من الآلام الَّتي تنهش فيه، علاوة على الاضطرابات الفكرية والنفسية، الَّتي أودت وتودي بكثير منهم إلى الانتحار أو الجنون. ولو أنَّا أقمنا عقوبة الرجم في حقِّ تجار الجنس وأعوانهم، لأنقذنا عدداً كبيراً من الناس من الهلاك(2/327)
والدمار. لذلك كلِّه، يشدِّد الله تعالى في تحذير عباده من اتِّباع خطوات الشيطان، أو سلوك مسالكه بإشاعة الفاحشة، فمن ينهج نهجه فإنه يضلُّ عن السبيل القويم، فهو لا يأمر إلا بالمنكر الَّذي ينكره الشرع، وتنفر منه العقول والأذواق السليمة. ولولا فضل الله على المؤمنين الَّذي تفضَّلَ به عليهم، بإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور العلم والتربية، ما زَكى ولا تطهَّر منهم من أحد، ولكنهم عندما اهتدَوْا بذلك النور ظهرت آثاره في أخلاقهم وآدابهم، وانعكس ضياؤه في قلوبهم فأشرقت، وفي أرواحهم فرقَّت وشفَّت، وفي ضمائرهم فاستيقظت وتنبَّهت، فاستنارت جميع جوانب حياتهم، بذلك النور الإلهي الشامل لجميع ما في الكون.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ولوطاً إذ قالَ لقومِهِ أتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالَمِين(80) إنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ شهوةً من دونِ النِّساءِ بل أنتم قومٌ مُسرفون(81) وما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا أخرِجوهم من قريَتِكم إنَّهم أُناسٌ يتطهَّرون(82) فأنجيناهُ وأهلَهُ إلاَّ امرأَتَهُ كانت من الغابِرين(83) وأمطرنا عليهم مطراً فانْظُرْ كيف كان عاقبةُ المجرمين(84)}
سورة العنكبوت(29)
وقال أيضاً: {ولوطاً إذ قال لقومِهِ إنَّكم لتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالمين(28) أئنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ وتقطعونَ السَّبيلَ وتأتونَ في ناديكُمُ المنكَرَ فما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا ائتِنا بعذابِ الله إن كنتَ من الصَّادقين(29) قال ربِّ انصرني على القومِ المفسدين(30)}
سورة الأنبياء(21)
وقال أيضاً: {ولوطاً آتيناهُ حُكْماً وعِلْماً ونجَّيناهُ من القريةِ الَّتي كانت تعمل الخبائثَ إنَّهم كانوا قومَ سَوْءٍ فاسقين(74) وأدخلناهُ في رحمَتنا إنَّه من الصَّالحين(75)}
ومضات:(2/328)
ـ لو علم الله خيراً في الشذوذ الجنسي لأباحه، وما كان تحريمه إلا لكثرة أضراره النفسية والصحِّية والاجتماعية، وحتَّى اليوم لم يكتشف العلم عنه سوى المزيد من الآثار المدمِّرة لصاحبه ولمجتمعه.
في رحاب الآيات:
لقد خلق الله تعالى الحياة وجعل لها نظاماً دقيقاً تسير أمورها وفقاً له، وخلق الإنسان وأعطاه إمكانات التعايش مع هذا النظام، وإن أي إساءة في تطبيقه أو معاندة في تنفيذه، تحدث الخلل والاضطراب في حياة الإنسان وما حوله. والإنسان يلتزم تلقائياً بهذا النظام في حياته العملية، سعياً للحفاظ على راحته وبقائه، والأجدر به أن يلتزم في سلوكه الجنسي بالقوانين الإلهية، للحفاظ على سعادته الروحية والإبقاء على الجنس البشري وحضارته. وإن من هذه القوانين قانون الله في التوالد الَّذي يحكم الكون بأسره، فما من شيء في هذا الوجود إلا ويتوالد بالتقاء عنصرين متخالفين متكاملين: الذكر والأنثى، أو السالب والموجب. وفي عموم الطبيعة نشهد تلاقح الذكورة مع الأنوثة؛ ففي النبات يولِّد الثمرة، وفي مجال الكهرباء تتولَّد الطاقة والإضاءة من تلاقي الشحنات الكهربائية السالبة مع الشحنات الموجبة، بينمايسفر تلاقي الشحنات المتماثلة عن تنافر، ولا يأتي بأية طاقة. وكذلك النسل والإنجاب عند الإنسان لا يتمُّ إلا عن طريق التقاء الرجل مع المرأة؛ ولولا تلاقيهما لانقرض الجنس البشري، وكذلك الحال في عالم الحيوان. إذن، فقانون بقاء النوع قائم على هذا التزاوج الإيجابي البنَّاء، وإن الإخلال بهذا القانون يؤدِّي إلى تعطيل توالد هذه الأجناس ومن ثَمَّ اندثارها.(2/329)
والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعرض نموذجاً لهؤلاء الَّذين عطَّلوا قانون الله بانحرافهم عن فطرتهم، وفساد سلوكهم، فألحقوا بأنفسهم الدمار والخراب، إنهم قوم لوط، الَّذين أحدثوا في عهدهم ما لم يحدثه غيرهم من الأمم السابقة، حيث جنحوا إلى الاتصال الجنسي بين الرجل والرجل بما فيه من القبح الَّذي يمجُّه الذوق السليم، وينبو عنه الخلق الكريم، وانحدروا بذلك حتَّى عن مستوى البهائم. فلم نرَ أبداً حيواناً ذكراً يقارب ذكراً مثله، لأن غريزته لا تتحرَّك في هذا الاتجاه ـ إلا في حالات نادرة ـ فهل يُعقل أن تكون الغريزة الحيوانية أرقى من بعض أفراد النوع البشري؟؟ لقد عطَّلوا بذلك قانون الزوجية الَّذي يقضي بالتقاء الرجل والمرأة لغايتين نبيلتين: أولاهما تحقيق المتعة الحلال كما أمر الله تعالى، وثانيتهما إنجاب الأولاد لحفظ النسل وعمارة الكون.
وقد حرَّم الله تعالى الشذوذ الجنسي هذا لأنه:
1 ـ مفسدة لنفسية الشباب يزرع السلبية فيهم ولا يشبع عواطفهم، فهم لا يستطيعون ممارسته غالباً إلا بعد تعاطي الخمرة أو المخدِّرات لخلق جو وهمي من المتعة بداخلهم؛ وهذا يعني أنه يجرُّهم إلى المزيد من الدمار والعدائية.
2 ـ مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهن إلى الرجال، ويقصِّرون فيما يجب عليهم من إحصانهن، فينجرفن إلى طريق الانحراف أو الشذوذ بين بعضهن، أو يرتمين في أحضان رجال غرباء عنهن.
3 ـ تقليل النسل؛ فمن وقع في براثن الشذوذ فرغب عن الزواج، وتنصَّل من تحمُّل مسؤوليته، فقد ساهم في تهديم مجتمعه، والحدِّ من نسبة التوالد فيه.
4 ـ الأمراض الفتَّاكة القاتلة الَّتي تنجم عنه، والَّتي كان آخرها مرض فقد المناعة الخطير المعروف باسم الإيدز أو السِيدا.(2/330)
لذلك كلِّه بعث الله الرسل، ليحذِّروا أقوامهم وينذروهم من أن يضلُّوا في شعاب الرذيلة، أو ينغمسوا في حمأة الخطيئة، فها هو لوط عليه السَّلام كما تصفه الآيات الكريمة، يفتح باب الحوار بينه وبين قومه، طارحاً عليهم سؤالاً استنكارياً: {أتأتونَ الفاحشة} وهو يعرف جوابه ولكنه ينكره لبشاعته، فلعلَّ ألسنتهم تخجل من النطق به، ولعلَّ صحوتهم الروحية ترتدُّ إليهم، لكن القوم جاهروا بالمعصية وأصرُّوا عليها، فتابع حواره معهم أملاً في إنقاذهم، وعدولهم عن فعلتهم الذميمة، وترغيبهم بمباشرة النساء بالزواج المشروع، فهنَّ أطهر وأزكى، لكنَّهم سخِروا منه وقالوا: أنت تعلم أننا لا نرغب في النساء! ولكنه لم يَيئَسْ وبيَّن لهم بشاعة فضائحهم الأخلاقية من إتيان الذكور، والتعرُّض لهم في الطرقات، والقيام بأعمال مُخِلَّة بالآداب العامَّة؛ لإثارة غرائزهم كالصفير، ورمي الحصى، وفكِّ الإزار، ثم انتقل إلى مجالسهم فعرَّاها بكلِّ ما فيها من فواحش، حيث كانوا يمارسون الشذوذ بشكل علني دون تورُّع ولا خجل، وأنذرهم عقاب الله. ولكنَّ جهوده كلَّها لم تؤثِّر في تلك القلوب الميتة، فتابع تحذيرهم، وذكَّرهم بمصير الأمم السابقة الَّتي عتت عن أمر ربِّها، فكانت عاقبة أمرها خُسراً، فأمعنوا في السُّخرية منه وسفَّهوا رأيه وقالوا متحَدِّين إيَّاه: أرنا إذن العذاب الَّذي تتوعَّدنا به. وازدادوا عناداً وإصراراً، وائتمروا به ليخرجوه من قريتهم، ورمَوه بأنبل تهمة يمكن أن توجَّه إلى إنسان؛ وهي الطعن به أنه طاهر، تلك الصفة الجليلة ذات الأهمية البالغة، في نظر من استقامت به السبل، وانعقدت له أسباب الهداية.(2/331)
هنالك، أعيت لوطاً عليه السَّلام الحيلة، ونفض يديه من القوم، ودعا الله قائلاً: {..ربِّ انصُرني على القومِ المفسدين}، فأوحى إليه ربُّه أن اترك القرية وارحل ومعك أهلك، إلا امرأتك فإنه مُصيبها ما أصاب القوم، وخرج من القرية، فأمطرها الله بوابل من العذاب، وخسف الأرض بمن كان عليها من الشواذ، وأصبحوا عبرة لمن أراد أن يعتبر حتَّى قيام الساعة.
وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاقتداء بقوم لوط فقال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (أخرجه أحمد والترمذي وحسَّنه ابن ماجه والبيهقي) وورد عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (أخرجه عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي).
وممَّا يؤسف له أشد الأسف أن نرى اليوم شرذمةً من أبناء الدول الراقية يمارسون هذا الشذوذ، في وقت أدركوا فيه من خلال علومهم المتقدِّمة نتائجه الفتَّاكة، والأمراض الخطيرة الناجمة عنه، والَّتي عمَّ ضررها المذنب والبريء. فهل من عودة إلى طريق الله المستقيم؟ وهل من استجابة لنداء الله الَّذي يتَّفق مع الفطرة الَّتي تتلوَّى ألماً، والضحايا يتساقطون بالملايين، فيصحو الإنسان من شرِّ عمله، وتعود إليه طمأنينته وعافيته وتوازنه النفسي، فيسعد في دنياه قبل أن يسعد في أخراه؟!.
الفصل الخامس:
تحريم القذف وعقوبته
سورة النور(24)
قال الله تعالى: {والَّذين يرمونَ المُحْصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلِدُوهم ثمانينَ جلدةً ولا تقْبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك همُ الفاسقون(4) إلاَّ الَّذين تابوا من بعدِ ذلك وأصلحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيم(5)}
ومضات:
ـ إنَّ تَرْكَ الألسنة تنهش في أعراض الناس، دون دليل قاطع وشهادة بيِّنة، يُنذِرُ بتفشي حالة من الشكِّ والريبة بين أفراد الأسر الشريفة، ويهدِّد بانهيارها.(2/332)
ـ لقد حمى الإسلام أعراض الناس وأموالهم وحريَّاتهم الشخصية، فأحاطها بسياج كثيف من الضمانات والزواجر الرادعة، وجعل أيَّ اعتداء عليها سبباً للعقاب الشديد، والحرمان من بعض الحقوق المدنية.
ـ على الرغم من فداحة ذنب التعدِّي على حرمات الناس، فقد ترك الله تعالى باب التوبة مفتوحاً، لمن تاب من أولئك المعتدين، وأصلح ما أفسده واستقام في سيرته.
في رحاب الآيات:
اعتاد كثيرون من عامَّة الناس وجهلائهم أن يقضوا أوقات التقائهم وسهراتهم في التحدُّث عن الآخرين، وتعرية أخطائهم وانتقاد تصرُّفاتهم الشخصية، ونادراً ما تخلو أحاديثهم من الإضافات والمبالغات بغرض الإثارة والتشويق. وهذه التُرَّهات من الكلام محرَّمة شرعاً وتدخل تحت مصطلح الغيبة والنميمة، فلا يجوز حضور هذه المجالس حتَّى يخوض أصحابها في أحاديث مثمرة مفيدة لمصلحة الفرد والجماعة.
ويتمادى الناس في تلك المجالس في انتهاك أعراض الآخرين، وتشويه سمعتهم الأخلاقية، ويبلغ تماديهم ذروته عندما يرمي بعضهم رجلاً أو امرأة بتهمة الزنى، سواء كان رَميه لهما مباشراً كأن يقول: فلان رجل زان، أو فلانة امرأة زانية، أو كان رميه غير مباشر كأن ينسب شخصاً إلى غير أبيه، أو يشتمه بقوله: أنت ابن حرام. فمن صدر منه هذا التصرف اعتبر قاذفاً، وجزاؤه أن يُجلد ثمانين جلدة، ما لم يأت بأربعة شهداء، رأوا المتَّهم بأعينهم وهو يزني، وإلا فيُقامُ عليه الحَدُّ، رجلاً كان القاذف أو امرأة. ولا يخفى أنه يُشترط في هذه الشهادة من التثبُّت واليقين ما يُشترط لإثبات الزنى، وإلا عُدَّ الشهود جميعاً قاذفين، ويجب على القاضي إقامة حدِّ القذف عليهم، كلُّ ذلك ضماناً للأعراض وعدم تركها ألعوبة تلوكها ألسنة السفهاء وتشوِّهها النيَّات الخبيثة.(2/333)
وقد أشارت الآية الكريمة إلى شرط من أهمِّ الشروط الَّتي توجب العقوبة؛ وهو أن يكون المقذوف مُحْصَناً؛ ذَكراً كان أم أنثى. ومعنى الإحصان هنا أن لا يكون المتَّهم قد ارتكب جريمة الزنى قبل أن يُقذف بها، بل كان عفيفاً طاهراً. أمَّا إن ثبت عنه ذلك فلا يكون محصناً، وبالتالي تسقط العقوبة الدنيوية عن القاذف، ولا يخلو اتِّهامه هذا من إثم يستحقُّ عليه العقوبة في الدار الآخرة.
وقد خصَّ الله تعالى المقذوفات من النساء بالذِّكر في الآية بقوله: {المُحْصَنات} لأن قذف المرأة والنَّيلَ من سمعتها يتعدَّى ضرره إلى جميع أفراد أسرتها، فيُلْحِق بهم عاراً كبيراً بخلاف الرجل. أمَّا تخصيصه للقاذفين من الرجال بقوله: {والَّذين يرمون} لأن صنف النساء يغلب عليهن الحياء عادة فلا يقذفن الرجل بالزنى.
ولم يكتف الإسلام بعقوبة الجَلْدِ في حقِّ القاذفين، بل إنه أقام حَجْراً مدنياً على هؤلاء المتهتكين، فلم يقبل لهم شهادة بعدها أبداً، وهذا العقاب أشدُّ إيلاماً للنفس وأوجع. وهناك عقوبة ثالثة هي وصمهم بالفسق، والانحراف عن طريق الله المستقيم. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تتبُّع عورات المسلمين وإفشاء سرِّهم فقال: «يامعشر من أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإن من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عزَّ وجل عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (رواه الترمذي وغيره مرفوعاً) وقال أيضاً: «من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» (رواه الطبراني).
وتبقى مِظلَّة الإسلام الرحيم، تشمل التائب بظلالها وبركاتها، فتنشر عليه عفو الله ومغفرته، فمن اعترف بذنبه من بعد معاقبته، والتزم بشروط التوبة الحقيقية، وأصلح الضرر الحاصل عن شهادته الكاذبة، فإن الله تعالى غفور رحيم.(2/334)
ونستنتج من ذلك كلِّه أن الإسلام قد حرص أشدَّ الحرص على تمتين الروابط الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الإسلامي، وصان سمعة الناس بصيانة أعراضهم وخاصَّةً النساء؛ لأن سمعة المرأة الأخلاقية أثمن شيء تملكه، فجاء زَجْرُ السُّنَّةِ عن انتهاك الأعراض كما مرَّ في الحديث السابق؛ وهاهو ذا كتاب الله الخالد يهدِّد هؤلاء المجرمين بحقِّ ?أعراض غيرهم، بأشد تهديد يمكن أن يسمعه أولئك المغفَّلون، الَّذين أطلقوا لألسنتهم العنان تنهش في أعراض إخوانهم، فقال تعالى: {إنَّ الَّذين يرمونَ المُحْصَناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ لُعِنوا في الدُّنيا والآخرةِ ولهم عذابٌ عظيم} (24 النور آية 23).
الفصل السادس:
تحريم السَّرقة وعقوبتها
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {والسَّارقُ والسَّارقةُ فاقطعوا أيْدِيَهُما جزاءً بما كسبا نَكالاً من الله والله عزيزٌ حكيمٌ(38) فمن تابَ من بعدِ ظُلْمهِ وأصلحَ فإنَّ الله يتوبُ عليه إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ(39)}
ومضات:
ـ الإسلام يعالج المشاكل من جذورها، ولا تهاون في تشريعه ولا محاباة لشخص على حساب شخص آخر، والجميع سواسية أمام أحكامه.
ـ توبة السارق وإعادته الحقوق إلى أصحابها، قبل انكشاف أمره، يُسقِطُ عنه الحدَّ ويضعه في عداد التائبين.
ـ يمكن للسارق في الإسلام أن يعود عضواً فاعلاً وصالحاً بعد أن يتوب، وينال العقوبة المترتِّبة على سرقته، ويتمتَّع بكامل حقوقه المدنية والإنسانية.
في رحاب الآيات:(2/335)
احترم الإسلام حقَّ الملكية للأفراد، وجعل صيانتها حقاً من حقوقهم المقدَّسة، وعدَّ جريمة الاعتداء على الأموال، كجريمة الاعتداء على النفس أو العرض، ومن ارتكب واحدة منها فقد استوجب أشدَّ أنواع العقوبات، أمَّا من يموت مدافعاً عن حقِّ من هذه الحقوق فإنه يموت شهيداً. عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه).
فإذا سرق السارق وهو مكتفٍ، غير محتاج لطعام يقيم أوَدَه، أو لباس يستر جسده، أو دواء يعالج به سقمه، فلا تجوز الرأفة به متى ثبتت عليه الجريمة. أمَّا حين تكون هناك شبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العامُّ في الإسلام هو درء الحدود بالشُّبُهات؛ لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه يد سارق الطعام في عام الرمادة حين عمَّتِ المجاعة. في حين تسقط العقوبة عنه، إذا تاب وأعاد ما سرقه إلى أصحابه، قبل رفع أمره إلى القاضي.
والعقوبة الَّتي حدَّدها الشارع الحكيم بحقِّ السارق هي، قطع يده اليمنى من الرسغ، لأنها الأداة الفاعلة في الجريمة، والعضو الَّذي كان ينبغي على السارق السيطرة عليه وكبحه ولجمه عن الحرام، وما ذلك إلا لاستئصال داء السرقة من جذوره، إذ أنه ليس من المصلحة أن نترك الداء يستشري حتَّى يعمَّ الخراب المجتمع كلَّه، أو نترك فرداً مريضاً ينقل العدوى إلى غيره، بل من الرحمة أن تُبتر تلك اليد، ليَسلمَ الناس كلُّهم من شرِّ صاحب هذه النفس المريضة؛ فإذا عاد السارق إلى السرقة بعد قطع يده، يُحْكَمُ بقطع رجله اليسرى إلى الكعب.(2/336)
وسبب فرض عقوبة القطع هو أن السارق حين يفكر في السرقة، فإنما يفكر في أن يزيد كسبه من حقِّ غيره، متجاهلاً ما عسى أن يكون صاحب الحقِّ المسلوب قد بذل من جهد وتعب ليحصل عليه، متغافلاً عن مدى حاجته إليه، ولا يهمُّه إلا أن ينمِّيَ ماله ويكثر متاعه عن طريق الكسب الحرام، فيعطِّل بذلك الطرق الشرعية الموصلة للكسب الشريف، وهذا كلُّه بدافع الشَّرَه والأنانية المطلقة، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع، بهذه العقوبة الصارمة، لتمنعه من هذا التفلُّت والانتهاك لحقوق الآخرين. وإنَّ يداً واحدة تُقطع لكفيلةٌ بردع كثير من المجرمين، وكفِّ عدوانهم، وتأمين الاستقرار والأمن المالي للمجتمع.
وقد شدَّد الإسلام في عقوبة السرقة دون غيرها من جرائم الاعتداء على الأموال كالاختلاس الوظيفي والتلاعب التجاري، لأنه يمكن استرجاع الحقوق الَّتي من النوع الآخر بالادِّعاء لدى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البيِّنة عليه بخلاف السرقة، فإن إقامة البيِّنة عليها متعسِّرة وتكاد تكون مستحيلة، لذلك عظُم أمرها، واشتدَّت عقوبتها، ليكون ذلك أبلغ في الزجر عنها. لذلك فلا قطع على المُؤتَمَنِ على مال إذا سرقه، ولا على الخادم المأذون له بدخول البيت، ولا على أخذ الثمار من الحقل، ولا قطع على الشريك حين يسرق من مال شريكه، والعقوبة في مثل هذه الحالات هي التعزير، وهي عقوبة مفوَّضة إلى القاضي وهي دون الحدِّ حتماً، وتكون بالجلد أو الحبس أو التوبيخ أو الموعظة في بعض الحالات. وتثبت السرقة بشهادة رجلين أو بالإقرار.(2/337)
واليوم نجد أن القوانين الوضعية جعلت الحبس عقوبة للسارق على سرقته، وقد أخفقت هذه العقوبة في محاربة الجريمة على العموم، والسرقة على الخصوص، والعلَّة في الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية الَّتي تصرفه عن جريمة السرقة، لأنها لا تحول بين السارق وبين متابعته للسرقات إلا مُدَّة حَبسِه، وقد يسرق غيره من المساجين وهو داخل السجن، وقد يتعلَّم فيه ما يجهله من أساليب اللصوصية وهذا أمر مشاهد ملموس، بالإضافة إلى أنه يقضي فترة عقوبته وكأنه في نادٍ اجتماعي، يأكل ويشرب على نفقة الدولة، مع قضاء وقته في المسامرة أو التدخين، وأحيانا تعاطي الممنوعات، وممارسة الفواحش مع غيره من المساجين، دون أن يزرع السجن في أعماقه أي رادعٍ من الخوف أو الزجر. ناهيك عن رغبة بعض المشرَّدين أو العاطلين عن العمل، قضاء أيامهم في سجون تُؤمِّن لهم ما لا يؤمِّنه لهم المجتمع المترف... لذا فهم ما إن يخرجوا منه حتَّى يعودوا إليه، بسبب ارتكابهم لسرقات جديدة؛ فإن كُشف أمرهم كان ذلك كسباً لهم، وإن لم يُكشَف أمرهم فيكون ما سرقوه كسباً لهم أيضاً.
أمَّا عقوبة القطع فتحول بينه وبين قيامه بالسرقة أو تنقص من قدرته عليها، إضافة إلى أن عقوبة القطع تجعله مفضوحاً في نفسه أمام الناس، وعبرة لغيره، وهذا من أشدِّ الروادع عن ارتكاب جريمة السرقة.(2/338)
وقد يعترض على ذلك معترض ويقول: إن عقوبة القطع لا تتَّفق مع ما وصلت إليه الإنسانية من حضارة ومدنية،? ولكنَّ ما نراه اليوم هو أن الرجل الَّذي يُسرق ماله أو تُغتصب ممتلكاته، يلجأ إلى قتل الفاعل إذا استطاع الإمساك به، تشهد على ذلك الإحصائيات والأخبار اليومية، الَّتي نقرؤها أو نسمع عنها، من أجهزة الإعلام ، حول حوادث القتل الَّتي تدور في الشوارع الرئيسة، والأزقَّة الثانوية، وفي أرقى المدن من تلك البقاع، علاوة على أن السارق نفسه قد يلجأ أحياناً وبدافع السرقة إلى القتل، فيشكِّل بذلك خطراً على حياة الإنسان الآمن إلى جانب الخطر على ممتلكاته، ولهذا فإن تطبيق عقوبة قطع يد السارق هي رحمة به وبضحاياه في آن واحد؛ وحفظٌ لحياته وحياتهم على السواء. وقد ثبت اليوم أنها الأنجع والأنجح، لأنها تقوم على أساس من علم النفس، ومعرفة لطبائع البشر وتجارب الأمم، وهي الأسس الَّتي تقوم عليها المدنيَّة نفسها. والواقع التاريخي يشهد بذلك، إذ أن عقوبة القطع لم تطبَّق في صدر الإسلام خلال قرن من الزمان، إلا في حوادث فردية قليلة جداً؛ لأن المجتمع بنظامه وتربية خشية الله في أفراده من جهة، والعقوبة بشدَّتها من جهة أخرى، كلُّ ذلك لم يسمح بظهور غير هذه الحوادث الفردية النادرة، ومع كلِّ هذا فلم يسمح بإقامة الحدِّ إلا بعد تدقيق وتمحيص شديد وتوافر شروطٍ قاسية؛ بتحقُّقها تزول جميع البواعث الفطريَّة على السرقة؛ ويبقى السارق معها مخلوقاً لا يحمله على السرقة إلا الجشع والطمع في أموال الناس.
أمَّا الشروط الَّتي يجب اعتبارها في السارق لتطبيق الحدِّ عليه فهي:
1 ـ أن يكون بالغاً عاقلاً، ولا يُشترط فيه الإسلام؛ فإذا سرق ذميٌّ أو مرتدٌّ فإنه تُقطع يده، كما أن يد المسلم تُقطع إذا سرق من الذميِّ.(2/339)
2 ـ أن لا يكون السارق مضطراً إلى السرقة بدافع الجوع، أو أي حاجة أساسية من حاجات الإنسان، فقد أوقف سيِّدنا عمر حدَّ السرقة عام المجاعة للاشتباه في أن جميع من سرق وقتها كان مضطراً.
3 ـ الاختيار: فلو أُكره على السرقة وثَبَتَ عامل الإكراه فلا يُعَدُّ سارقاً.
4 ـ ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة تملُّك، فإن كانت له فيه شبهة فإنه لا يُقطع، ولهذا لا يُقطع الأب والأم بسرقة مال ابنهما وكذلك لا يُقطع الابن بسرقة مالهما، أو مال أحدهما، لأن الابن يتبسَّط في مال أبيه وأمِّه عادة. وأمَّا ذوو الأرحام، فلا قطع على أحد من ذوي الرَّحم المحَرَّم.
أمَّا الصفات والشروط الَّتي يجب اعتبارها في المال المسروق فهي:
1 ـ أن يكون المال مُحرزاً أي محفوظاً في الأماكن الَّتي يحفظ بها مثله، فإن تُرك المال سائباً فلا يُعَدُّ آخذه سارقاً يجب قطع يده.
2 ـ أن يكون ممَّا يُتمَوَّل ويُملَك ويَحِلُّ بيعه وأخذ العِوَض عنه.
3 ـ أن يبلغ الشيء المسروق نصاباً، لأنه لابدَّ من ضابط لإقامة الحد. وقد اختلف الفقهاء في مقدار هذا النصاب، فذهب بعضهم إلى أن القطع لا يكون إلا في سرقة ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم. روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه).(2/340)
والله تعالى الَّذي وضع الحدود والعقوبات، إنما وضعها بحسب الحكمة الَّتي توافق المصلحة العامَّة للمجتمع، لذا لا يجوز العفو عن السارق، لا من قِبَلِ المجني عليه ولا من قِبَلِ الحاكم، بعد أن كُشِف أمره وأصبح بين يدي الحاكم، كما لا يجوز أن يُستبدلَ قطع اليد بعقوبة أخرى أخفَّ منها أو تأخير تنفيذها أو تعطيلها، بحجَّة الرأفة بالسارق، لأن مثل هذا التهاون سيغري كثيراً من أصحاب النفوس المريضة بارتكاب هذه الجريمة، ويُلحق الضرر البالغ بالمجتمع. أمَّا تطبيق العقوبة الصارمة على السارق، فإنها تقوِّي من هيبة الهيئة الاجتماعية، وتدفع بالأفراد للبحث عن طرق سويَّة للكسب، وعدم التفكير بالسرقة، لتعمَّ بذلك الفائدة على الفرد والمجتمع معاً.
ومع كلِّ ما تقدم فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المال المسروق على أن يعفو عن السارق، ولكن قبل إعلام ولي الأمر ورفع القضية إليه، وعندها يفقد هذا الحقَّ ويصبح الأمر بيد القاضي وليس من صلاحيَّاته العفو، فقد ثبت «أن رجلاً سرق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء صاحب المال إلى رسول الله يشكو سرقة ماله، فلما عَرَفَ الفاعلَ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فعفا صاحب المال عنه فقال له صلى الله عليه وسلم : هَلاَّ عفوت قبل أن تأتيني» (أخرجه أحمد والحاكم ومالك في الموطأ، والبغوي عن صفوان بن أمية رضي الله عنه ).ومع إنزال عقوبة القطع بالسارق يجب عليه أن يردَّ المسروق إلى أصحابه، وأن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه، ويُقبِل عليه عزَّ وجل بصدق وإخلاص لينال منه العفو والمغفرة.(2/341)
وحِرصاً من الإسلام على تحقيق الهدف المطلوب من تطبيق حدِّ السرقة، فقد أكَّد على ضرورة المساواة في تطبيق هذا الحدّ بين الخواصِّ والعوام، والشريف والوضيع، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّها الناس إنما ضلَّ منكم من كان قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطع محمَّد يدها» (رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها).
الفصل السابع:
أحكام استثنائية رُخِّص بها لرفع الحرج
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {..يريدُ الله بكمُ اليُسْرَ ولا يريدُ بكمُ العُسْرَ.. (185)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {يُريدُ الله أَن يُخفِّفَ عنكم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفاً(28)}
سورة الحج(22)
وقال أيضاً: {..وما جعلَ عليكم في الدِّينِ من حرجٍ.. (78)}
ومضات:
ـ اليُسْرُ وعدم الحرج سِمَة بارزة في الأحكام الَّتي كَلَّف الله بها عباده، وتتمثَّل في الإقرار بوجود الدوافع الفطريَّة وتنظيم الاستجابة لها، ليكون التوازن قائماً ومنسجماً، بين التكليف وبين متطلَّبات الحياة، على صعيد الفرد والجماعة.
ـ ليست غاية الإسلام تعذيب النفس وإرهاقها بالمبالغة في التكاليف والأعباء الدِّينية، فقد رحمها الله تعالى لضعفها وعجزها، حيث أن قدراتها محدودة واستعداداتها الطبيعية متفاوتة.
في رحاب الآيات:
من كمال حكمة الله التخفيف على عباده فيما شرع لهم من الحدود والأحكام، وذلك رحمة منه بهم، ومراعاة لضعفهم، ورفعاً للحرج ودفعاً للمشقَّة عنهم، فلا ضرر ولا ضرار. وتأكيداً على هذه المبادئ الَّتي تُبرز يُسر الإسلام وسماحته؛ شُرع كثير من أحكام الرُّخَص الَّتي تتعلَّق بالعبادات والمعاملات والعقوبات، والأمثلة عليها كثيرة وعديدة، سنأتي على ذكر بعضها، فيما يتعلَّق بالعبادات من صلاة وصيام وحج.(2/342)
فعلى سبيل المثال فرض الله تعالى عدداً من ركعات الصَّلاة يومياً، لكنَّه رخَّص بجواز قَصْرِها في ظروف معيَّنة، كما ورد في قوله تعالى: {وإذا ضرَبْتُم في الأرضِ فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصَّلاة..} (4 النساء آية 101) أي إذا سافرتم أيُّها المؤمنون في الأرض للجهاد ـ وقياساً لأي داعٍ من دواعي السفر ـ فلا إثم عليكم في أن تَقصُروا الصَّلاة المفروضة، فَتُصَلُّوا الرباعيَّة ركعتين، لأن في السفر من المشقَّة والتعب ما لا يخفى على أحد، والإسلام دين اليُسر الملائم لكلِّ الظروف، وكذلك أبيح الجمع بين فرضين بسبب وجود حرج على المكلَّف، أو دون سبب لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه : «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولاسفر»، وهذا استثناء وليس قاعدة عامَّة.(2/343)
كما أنه يجوز لمن جهل جهة القبلة، وتعسَّر عليه تحديد جهتها في سفر أو غيره؛ أن يتوجَّه في صلاته إلى أي جهة يغلب على ظنِّه أنها جهة القبلة. كما يجوز للمصلِّي أن يصلِّي صلاة النافلة على المركوب الَّذي يمكن توقيفه والنزول عنه كالدابَّة والسيارة، أمَّا صلاة الفريضة في القطار والباخرة والطائرة، فيمكنه أداءها قاعدا، فيما إذا تعذَّر عليه الصَّلاة واقفا. وتكون قبلته حيث تتجه مركوبته، لما أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي وهو مُقبل من مكَّة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت الآية: {ولله المَشرقُ والمَغربُ فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ الله..}» (2 البقرة آية 115). فالحكمة من الاتجاه للقبلة هي توحيد وجهة المصلِّين، ولكنَّ يُسر الإسلام يحكم بجواز الاتجاه لغير جهتها، فيما إذا كان المصلِّي يخضع لظرف يمنعه من استقبالها. فالله موجود في كلِّ مكان، لا تقيِّده الحدود، ولا تحدُّه الجهات، بل هو الواسع العليم، الَّذي يتقبَّل العبادة من المكلَّف على الشكل الَّذي يمكنه أن يقوم بأدائها عليه، وهو الرحيم الرؤوف الَّذي يتجاوز عن الضعفاء من عباده، ولا يكلِّفهم ما لا يطيقون، فيرخِّص لهم في الأحكام في ظروف الجهل والمرض والسفر والخطأ والنسيان وغيرها من الأسباب الاضطرارية، لأنه يريد بهم اليُسر ولا يريد بهم العُسر.(2/344)
ومن الرُّخَص الَّتي شُرعت فيما يتعلَّق بالصَّلاة، التخفيف عن المؤمنين بمقدار صلاة قيام الليل، ونَسْخُ حُكمها من الوجوب إلى التطوُّع، لأنه عندما نزل قول الله تعالى: {ياأيُّها المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيلَ إلاَّ قليلاً * نِصفَهُ أو انقُصْ منه قليلاً * أو زدْ عليه ورتِّلِ القرآنَ ترتيلاً} (73 المزمل آية 1ـ4) سارع الرسول صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه إلى امتثال أمر الله في المداومة على قيام الليل. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتَّى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله تعالى وخفَّف عنهم، بعد أن أثنى عليهم في محكم تنزيله فقال جلَّ من قائل: {إنَّ ربَّكَ يعلمُ أنَّك تقومُ أدْنى من ثُلُثَي اللَّيلِ ونصفَهُ وثُلُثَهُ وطائفةٌ من الَّذين معك والله يُقَدِّرُ اللَّيلَ والنَّهارَ عَلِمَ أن لن تُحصوهُ فتابَ عليكم فاقرؤوا ما تيسَّرَ من القرآن عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مرضى وآخرونَ يَضْربونَ في الأرضِ يبْتغونَ من فَضْلِ الله وآخرونَ يُقاتِلونَ في سبيلِ الله فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه..} (73 المزمل آية 20).(2/345)
ففي هذا منتهى الرأفة بهم من الله تعالى، وغاية العناية الربَّانية الَّتي شاءت أن تخفِّف عنهم وتيسِّر أمورهم، ليبقى التوازن قائماً بين متطلَّبات الروح وحاجات الجسد، فقد يكون الإنسان مريضاً أو مسافراً لأجل كسبه ومعاشه، وقد يكون مجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وكلٌّ من هؤلاء الثلاثة قد يشقُّ عليه قيام الليل، فخفَّف الله عنهم وعن أمثالهم، وأسقط عن عموم المسلمين وجوب قيام الليل، وتركه نافلة للمتطوِّعين الراغبين في ذلك. ويؤكِّد ذلك الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه الَّذي قال فيه: «قال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عليَّ غيرها؟ يعني الصَّلوات الخمس، فقال: لا، إلا أن تَطَّوَّع»؛ فهو يدلُّ على عدم وجوب غير الصلوات الخمس المفروضة، ومن تطوَّع خيراً فهو خير.(2/346)
أمَّا عن الأحكام المتعلِّقة بالصَّوم، فقد فرض الله على عباده المسلمين صيام شهر رمضان، ولكنَّه رخَّص لهم بالإفطار لأسباب مانعة أو مرهقة كالمرض أو السفر، قال تعالى: {..فمن شَهِدَ منكمُ الشَّهرَ فلْيَصُمهُ ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ يُريدُ الله بكمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بكمُ العسرَ..} (2 البقرة آية 185) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى وضع شطر الصَّلاة عن المسافر، وأرخص له في الإفطار، وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما» (أخرجه أصحاب السنن عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). وقد كان الصحابة الكرام تجاه مثل هذه الأحكام على فريقين، فبعضهم يأخذ بالعزيمة ـ في حال السفر أو المرض ـ إذا وجد في نفسه القدرة فيصوم، وبعضهم الآخر يأخذ بالرخصة إذا وجد في الصَّوم مشقَّة وحرجاً فيفطر، إلا أنه لم يكن صائمهم ليَعيب على مفطرهم، ولا مفطرهم على صائمهم. والأخذ بمثل هذه الرُّخص سنةٌ؛ ولا ينقص من الأجر شيئاً، كما أن عدم الأخذ بها يجعل المكلَّف آثماً إذا ترتَّب على عدوله عنها ضرر يؤذيه. ويؤكِّد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزَّم المفطرون وعملوا، وضعُف الصُوَّام عن بعض العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (رواه مسلم والنسائي).
وعن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكَّة في رمضان فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم فصام النَّاس، ثمَّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتَّى نظر النَّاس ثمَّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض النَّاس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة» (أخرجه مسلم والترمذي) ويؤيِّد هذا حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس من البرِّ الصيام في السفر» (رواه الخمسة عن جابر رضي الله عنه ).(2/347)
أمَّا فيما يتعلق بفريضة الحج فقد رُخِّص في بعض أحكامها المتعلِّقة ببعض شعائره كَرَمي الجمار؛ فأصل الحكم في ذلك أنه لا يجوز لأحد أن يرمي قبل نصف الليل الأخير بالإجماع. إلا أنه يُرخَّص للنساء والصبيان، والضعفاء، وذوي الأعذار، ورعاة الإبل أن يرموا جمرة العقبة من نصف ليلة النحر (ليلة الإفاضة من عرفات)، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت ثمَّ أفاضت» (رواه أبو داود والبيهقي).(2/348)
والأمثلة على التخفيف في الإسلام كثيرة يضيق المجال عن إحصائها، وهي تصل إلى حدِّ إباحة بعض ما حرَّم الله في حال الضرورة القصوى، ومن ثمَّ فإن ميزة التيسير ميزة واضحة في التشريع الإسلامي، نلمس آثارها وملامحها في معظم سور القرآن الكريم، وفي كثير من الحوادث الَّتي جرت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كثير من الأقوال الَّتي أُثِرت عنه في هذا الصدد، كقوله عليه الصَّلاة والسلام فيما رواه أحمد عن جابر رضي الله عنه : «بُعثت بالحنيفية السمحة»، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنه حين بعثهما إلى اليمن: «بشِّرا ولا تنفِّرا ويسِّرا ولا تعسِّرا» (رواه البخاري ومسلم). فاليسر في الدِّين هدية من الله لعباده، والتشدُّد فيه والتطرُّف بدعة يبتدعها المتعصِّبون والغُلاة، والله ورسوله بريئان منهم، ويؤكِّد هذا ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنَّهم تقالُّوها (عدُّوها قليلة) فقالوا: وأين نحن من النبي وقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الَّذين قلتم كذا وكذا؟ أمَّا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني» (رواه البخاري ومسلم) وبهذا فإنه صلى الله عليه وسلم عدَّ من يسعى إلى التطرُّف في دين الله، والغُلُو في تطبيق أحكامه، معادلاً للمقصِّر في دين الله، والراغب عن سنَّته صلى الله عليه وسلم ، وتبرَّأ منه. وخَيْرُ منهجٍ في هذا السبيل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث صحَّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين، إلا اختار أيسرهما(2/349)
ما لم يكن إثماً.
ومع ذلك كلِّه فإننا نصادف أناساً يشدِّدون على أنفسهم وعلى غيرهم من المسلمين، وينصِّبون أنفسهم قضاة عليهم، يُسفِّهون هذا ويُكفِّرون ذاك بداعي التعصُّب والغُلُو، وبدعوى أنهم يريدون من النَّاس أن يكونوا كاملين، بينما يؤكِّد الله تعالى أن الإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ وليس بكامل {يُريدُ الله أن يُخففَ عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}. ثمَّ إنهم يلجؤون إلى الوعظ بفظاظة وغلظة، فيُنفِّرون النَّاس منهم ومن الإسلام، حتَّى كان بعضهم سبباً في جعل بعض الدول تلاحقهم، وتمنعهم من نشر أفكارهم، لما فيها من دعوة إلى العنف والتطرُّف باسم الإسلام، والإسلام من عنفهم وتعصُّبهم بريء؛ فإذا كان الله تعالى قد أراد أن يخفِّف عن المؤمنين، فلماذا يجنح هؤلاء ليثقلوا كواهلهم بتشدُّدهم؟!
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {لله ما في السَّمواتِ وما في الأَرضِ وإن تُبدُوا ما في أنفسِكُم أو تُخفُوهُ يُحاسِبْكُم به الله فَيَغفِرُ لمن يشاءُ ويُعَذِّبُ من يشاءُ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ(284)}
سورة البقرة(2)
وقال أيضاً: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسعَهَا لها ما كَسَبَت وعليها ما اكتَسَبَت ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطَأنا ربَّنا ولا تَحمِلْ علينا إصْراً كما حَمَلتَهُ على الَّذين من قَبلِنا ربَّنا ولا تُحَمِّلنَا مالا طاقةَ لنا به واعْفُ عنَّا واغفِر لنا وارحَمنا أنتَ مولانا فانصُرنَا على القومِ الكافرين(286)}
سورة آل عمران(3)
وقال أيضاً: {قلْ إن تُخفوا ما في صدورِكُم أو تُبْدوهُ يَعْلَمْهُ الله ويعلمُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ(29)}
ومضات:
ـ كيف لخالق هذا الكون بمجرَّاته اللامعدودة وآفاقه اللامحدودة أن يغيب عنه ما نُخفي، أو ما نُسِرُّ وما نعلن، والوجود كلُّه تحت بصره، محاط برعايته وعنايته.(2/350)
ـ لقد وضَعَنا الإسلام أمام نظام اجتماعي تربوي في غاية المثالية، فمن التزم به سعد بالمغفرة ونال رضا الله، ومن خالفه أشقى نفسه وحكم عليها بالعذاب.
ـ لم تتجاهل الدعوة الأخلاقية في الإسلام طاقة النفس البشرية ومقدار تحمُّلها، إنما راعت ظروفها في حالة النسيان وحالة الخطأ غير المتعَمَّد، لتبقي على زخمها المتجدِّد في صلتها بالله تعالى، واستمدادها العون والقوَّة منه عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين سَمْحٌ قويم، لم يفرض على الإنسان إلا ما يرفع عنه الأغلال ويحطُّ عنه الأثقال، ويُفيض عليه الرحمة واليُسر وأسباب الاستقامة على الطريق السويِّ. وعندما نزل قول الله تعالى: {لله ما في السَّمواتِ وما في الأرض وإن تُبْدوا ما في أنفسِكُم أو تُخفوهُ يُحاسِبْكم به الله..} اشتدَّ ذلك على الصحابة، فأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: (كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصَّلاة والصِّيام والجهاد والصَّدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها)، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالطاعة والتسليم الكامل لأمر الله حتَّى يكونوا من القوم المهتدين. فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم، وتغلغلت في قلوبهم، أنزل الله تعالى : {لا يُكلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسبَت وعليها ما اكتَسبَت..} فَنَسَخت هذه الآيةُ الآيةَ الأولى.(2/351)
لقد أنزل الله تعالى في الآية الأولى ما أخاف المسلمين، فهي تنبِّئهم بأن الله سبحانه مالك لكلِّ ما في السموات والأرض، مطَّلعٌ على ما فيهن، عالمٌ بظواهر الأمور وبواطنها، ومحاسبٌ عليها جميعاً. وقد قال الصحابة ما قالوه لأنهم يرجون الوصول إلى الكمال الخلقي والعملي برغبة صادقة، ولكنهم أدركوا الضعف البشري الَّذي يتسلَّط على النفوس في بعض اللحظات، كالغضب والحبِّ والبغض والكراهية، وما إلى ذلك من جملة الانفعالات، الَّتي تولِّد لدى الإنسان خواطرَ وأفكاراً شتَّى، لا يستطيع التحكُّم بها في لحظتها، لأنها أمور قلبية نفسية بعيدة عن الإرادة والاختيار، فأقبلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ملتجئين إليه ممَّا يعتصر قلوبهم من الخوف، لعدم أهليَّتِهم لتحمُّل ما تكلِّفهم به الآية، مدفوعين بالرجاء من حضرة الله عزَّ وجل ليخفِّف عنهم بعض ما أصابهم. ويطالبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال دون اعتراض، كي يُقدِّموا الدليل الساطع على صحَّة إيمانهم واستسلامهم لأمر الله، فيكونوا من أصحاب السمع والطاعة؛ ويمتثل الصحابة الكرام وينجحون في الامتحان، فتأتيهم البُشرى من عنده سبحانه وتعالى لتهدِّئ من روعهم وتثلج صدورهم، فتتنزَّل الآية الَّتي تطمئنهم بأن الله تعالى، خالقهم ومولاهم، ولا يريد بهم إلا خيراً، ولن يكلِّفهم من الأمر ما لا يطيقون. فهو العليم بما يختلج في نفس العبد من الأفكار والميول، وما يكتنفه من خواطر وخصوصاً في لحظات الضعف، ولهذا فإنه لا يحاسبه إلا على ما تأصَّل في نفسه، وعقد العزم على الاستجابة له من النوايا والمشاعر، الَّتي كان لها دورٌ موجِّهٌ في أعماله، كمشاعر الحقد والحسد والعُجْب وغيرها، والله سبحانه يتجاوز له عن الخواطر والهواجس الَّتي تتوارد على قلبه بغير إرادته، ولا تترك أثراً في نفسه ولا ينتج عنها فعل، أو قول يكرهه الله، أمَّا إذا استرسل فيها إلى أن قادته إلى دائرة الأذى وإلحاق الضرر(2/352)
بالآخرين فإنه آثم، ويحاسَبُ على ما اقترف من أعمال سيئة.
وبهذا لم يُغفل الإسلام مراعاة متطلَّبات الطبيعة البشرية للإنسان ـ وما فيها من قوَّة وضعف ـ أثناء عملية توجيه مسار سلوكه وتربية نفسه؛ بل نظر إليه على أنه وحدة متكاملة مؤلَّفة من جسد ذي نوازع ودوافع، وعقل ذي تفكير وتقدير، وروح ذات أشواق وآفاق، ففرض عليه من التكاليف ما يطيق، وراعى التناسب بين الطاقة والتكليف بدون مشقَّة، ولبَّى حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق ينسجم مع الفطرة، فكلُّ تَوَهُّمٍ باستحالة القيام بهذه التكاليف هو من وساوس الشيطان، الَّذي يثني صاحبه عن الطاعات وما صلح من الأعمال والعبادات. فسائر التكاليف في الشريعة الإسلامية هي في حدود الطاقة البشرية وقدراتها، والله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وُسْعها، وهذا ما يدفع المسلم إلى تحسُّس آثار رحمة ربِّه وعدله، فيشعر بالطمأنينة والراحة والأُنْس، وقوَّة العزيمة للنهوض بهذه التكاليف.
لقد نسخت هذه الآية الكريمة ما أشفق منه الصحابة في قوله تعالى: {..وإن تُبْدوا ما في أنفسِكُم أو تُخفوهُ يُحاسِبْكم به الله..} فلئن سأل الله تعالى وحاسب فإنه لا يعذِّب إلا بما يملك الإنسان دفعه، أمَّا ما لا يملك دفعه من وساوس النفس وحديثها فهو لا يعاقب عليه. وكلُّ نفس تحاسَبُ وتُجزى بما فعلت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.(2/353)
ومن كمال عدله وإحسانه تعالى أنه يجازي المسيء بقدر إساءته، فلا يضاعف له العقاب، ولا يحاسبه على نيَّة السوء ما لم تقترن بالعمل، بل إنه يكافئه إذا عدل عنها فلم ينفِّذها. ومن فضله وكرمه أيضاً أنه يجزي المحسن على نيَّته إذا عزم على عمل حسنة؛ وإن لم يتيسَّر له تنفيذها، ويضاعف له ثواب حسنةٍ عمل بها عشرات الأمثال ويزيد، قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات ثمَّ بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» (رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تَكلَّم أو تعمل» (رواه الستة).(2/354)
بعد هذا يرشدنا الله إلى كيفية سؤاله والتضرع إليه: {ربَّنالا تُؤاخِذْنا..} ويقدِّم لنا صورة رائعة البيان للدعاء الَّذي يُظهر حال المؤمنين مع ربِّهم وإحساسهم بضعفهم وافتقارهم إليه سبحانه، وحاجتهم إلى مدده وعونه. فدائرة الخطأ والنسيان تُحْكِمُ حصارها حول الإنسان، وحينها يتوجَّه إلى ربِّه يطلب منه العفو والسماح إذا وقع فيهما بعد بذل الجُهد والتفكر. إن هذا الدعاء يقوِّي في النفس خشية الله ورجاء مغفرته، فيتحوَّل إقبال المؤمن على ربِّه إلى نور تنقشع به ظلمة النسيان والخطأ والتقصير، فيستحقُّ العفو والمغفرة من الله الرَّحمن الرَّحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله وضع عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه» (رواه ابن ماجه والبيهقي). ومن خلال هذا الدعاء يتصل الخطاب بين الأرض والسماء، وتتَّجه القلوب المؤمنة الوَجِلة إلى خالقها، تطلب الإعفاء من التكاليف الشاقَّة، الَّتي تعجز عن القيام بها، والَّتي كُلِّفت بها أمم سابقة. ولا يخفى ما يمثِّله هذا الدعاء من الشعور بنعمة الانطلاق والتحرُّر من أسر العبودية لغير الله، وتَلَقِّي الشرائع والقوانين منه وحده، مع الاستعداد التام للتقيُّد بها والالتزام. ويتابع المؤمنون تضرُّعهم إلى الله راجين أن يرحم ضعفهم، فلا يكلِّفهم فوق طاقتهم كي لا يقصِّروا في أداء ما فرضه عليهم، وأن يمحو ذنوبهم، ويستر عيوبهم، ويرحمهم برحمته الواسعة الَّتي وسعت كلَّ شيء.
وهكذا فالإسلام دين كامل متكامل لا تعارُضَ بين أهدافه وغاياته، ولا بين طرق وأساليب تطبيقه المنسجمة مع الطاقات البشرية، إنه يصنع القلوب الَّتي يشرِّع لها، والمجتمع الَّذي يدعو إليه، صنعة إلهية متكاملة تسمو به إلى أُفُق الالتزام العقائدي، فلا رقابة سوى رقابة الضمير الإيماني، ولا هدف إلا رضا الله.(2/355)
إن أي قانون في العالم يمكن التحايل عليه، وكشف ثغراته ومنافذه، بسبب عدم كمال واضعه ومحدوديَّة إمكاناته، ولأنَّه يتعامل مع ظاهر أفعال الإنسان وتحرُّكاته؛ أمَّا التشريع الإسلامي الإلهي فإنه يُوَجَّهُ إلى كلِّ مُعتقِدٍ ملتزمٍ يُحِسُّ برقابة الله، الَّذي لا يخفى عليه شيء في ملكوته، فيستقيم المؤمنون عليه ويلتزمون بأحكامه، مع علمهم اليقيني المحسوس بأن الله تعالى لا يشاء لعباده إلا ما فيه الرحمة والعدل. ومن ثمَّ يتجرَّد المؤمنون تجرُّداً مطلقاً، ويطلبون من الله تعالى العون والنصر والسداد في سائر أمورهم الَّتي تتعلَّق بدينهم ودنياهم، فيا سعادة مثل هؤلاء القوم ويا هنيئاً لهم دنياهم العاجلة وأخراهم الآجلة.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللَّغوِ في أَيمَانِكُم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما كَسَبَت قُلُوبُكُم والله غفورٌ حليمٌ(225)}.
سورة المائدة(5)
وقال أيضاً: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللَّغو في أَيمَانِكُم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما عَقَّدْتُمُ الأَيمانَ فَكفَّارَتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسَطِ ما تُطعِمونَ أَهلِيكُم أو كِسوَتُهُم أو تحريرُ رَقَبَةٍ فمن لم يَجِد فصيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كَفَّارَةُ أيمانِكُم إذا حَلَفتُم واحفَظُوا أيمانَكُم كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتهِ لعلَّكُم تَشْكرون(89)}
ومضات:
ـ تُقَيَّم الأعمال عند الله تعالى بالنيَّات، ومن هنا كانت محاسبته على اليمين مرهونة بالنيَّة المعقودة عليها، ولهذا كانت الكفَّارة واجبة على اليمين المؤكَّدَة وبعد الحِنْث بها، لا على اليمين الَّتي ينزلق بها اللسان لغواً ودون قصد اليمين؛ وفي كلِّ الأحوال فإن لليمين حُرمة وقدسية لا يجوز أن تُنتَهك.
ـ إن الله واسع المغفرة، يغفر الزلاَّت ويتجاوز عن ضعف العبد، طالما أنه لا يقصد بخطئه الإساءة إلى العباد، ولا مخالفة أمر الله سبحانه.(2/356)
ـ الإسلام دين المجتمع، لهذا فقد شرَّع أغلب الكفارات بشكل يجعل فائدتها تعود على المجتمع بشكل عام، فهو يُلزم مَنْ أقسَمَ يميناً ثمَّ حَنِث بها بإطعام عشرة مساكين، على ألا يرهق نفسه بل يكون إطعامهم مماثلاً لما يأكل، أو كسوتهم ممَّا يرتديه وأُسرَتُهُ، أو تحرير عبد من عبوديَّة الإنسان. وبعد أن أعطى الأولوية لهذه الخدمات الاجتماعية تحت شعار الكفَّارة وأعطى الفرد الحرِّية في اختيار إحداها، شرع الكفَّارة الفردية، لمن لا يقدر على واحدة ممَّا سبق بأن يصوم ثلاثة أيام، وهي كفَّارة تعود منفعتها المباشرة على المرء شخصياً، وتنعكس منافعها بشكل غير مباشر على المجتمع، بتقويم أفراده وتهذيبهم.
ـ الله تعالى يفصِّل الأحكام بما يتلاءم ومصلحة الخلق، وعليهم في مقابل ذلك أن يشكروه ويقدِّروا نعمه عليهم.
في رحاب الآيات:
اليمين في الشرع هو قَسَمٌ يعقده الحالف على نفسه ليؤكِّد به ثبوت أمرٍ أو نفيه، أو عزمه على فعل أمر أو تركه، بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته، ويترتَّب عليه التزامه بصحَّة ما أقسم عليه، وتنفيذه حفظاً لحرمة اليمين وقدسيته. ومن بعض آثاره الهامَّة إيجاب حقٍّ للحالف أو حجب ذاك الحقِّ عمن امتنع عن القسم، ومن هنا كان لليمين دورٌ فاعلٌ في العلاقات بين النَّاس لاسيَّما القضائية منها. ولا يجوز شرعاً الحلف إلا بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم : «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد (أي الأصنام) ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون» (رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
ويُشترط فيمن يعقد اليمين: العقل والبلوغ وإمكان التنفيذ والاختيار (الحرِّية) فمن حلف مُكْرَهاً لم تنعقد يمينه.
واليمين أنواع: 1 ـ اللغو 2 ـ المنعقدة 3 ـ الغموس(2/357)
1 ـ اللغو في اليمين: هو ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف بمقتضى العرف والعادة، أو أن يحلف المرء على شيء يظنُّ صدقه فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ، وهذا اليمين لا كفَّارة فيه ولا مؤاخذة عليه.
2 ـ اليمين المنعقدة: هي اليمين الَّتي يقصدها الحالف ويصمِّم عليها، فهي يمين متعمَّدة ومقصودة، وحكمها وجوب الكفَّارة عند الحِنْث بها، والحِنْث في اليمين يكون بفعل ما حُلف على تركه أو ترك ما حُلف على فعله.
3 ـ اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة الَّتي يُقصد بها الغشُّ والخيانة، وهي من الكبائر، لأنه يقصد بها اغتصاب الحقِّ من صاحبه وإلحاقه بمعتدٍ كاذب. ولا كفَّارة فيها ويجب التوبة منها، وردُّ الحقوق المتعلِّقة بها إلى أصحابها؛ إذا ترتَّب عليها ضياع هذه الحقوق، قال صلى الله عليه وسلم : «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» (رواه البخاري).
والمقصود بالكفارات: الأعمال الَّتي تكفِّر بعض الذنوب وتسترها، حتَّى لا يكون لها أثر يؤاخذ به صاحبها في الدنيا أو في الآخرة.
وكفَّارة اليمين المنعقدة إذا حنث فيها الحالف هي، الإطعام أو الكسوة أو العتق، فمن لم يستطع أي أمر منها فليصم ثلاثة أيام. أمَّا الإطعام فإنه لم يرد نصٌّ شرعي في بيان مقداره، إنما يرجع في تقديره إلى العُرْف فيكون الطعام مقدَّراً بقدر ما يُطعم منه الإنسان أهل بيته من الطعام المتوسط، وقد حدَّدت الآية الإطعام إمَّا لعشرة مساكين يوماً واحداً، أو مسكيناً واحداً لعشرة أيام، كلَّ يوم أكلتين مشبعتين.
وأمَّا الكسوة فهي إكساء عشرة مساكين ثوباً سابغاً لكلِّ واحد منهم، وأَقَلُّ ذلك ما يلبسه المساكين عادة، قال مالك وأحمد رضي الله عنهما: (يُدفع لكلِّ مسكين ما يصحُّ أن يصلِّي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كلٌّ بحسبه).(2/358)
وأمَّا تحرير الرقبة فهو عَتْقُ رقيق وتحريره من العبودية. فإذا تعذَّرت الوسائل الثلاث كان عليه أن يصوم ثلاثة أيام، فإن لم يستطع لمرض أو نحوه، ينوي الصِّيام عند الاستطاعة.
ويجوز للحالف أن يحنث بيمينه عمداً ويُكفِّر عنها إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ شريطة أن لا يترتَّب على الحِنْث المتعمَّد إيذاءٌ لأحد أو ضياعٌ للحقوق، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا حلفْتَ على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فَأْتِ الَّذي هو خير وكفِّر عن يمينك» (رواه أحمد والبخاري ومسلم).
-------------------
الباب التاسع -صور من تنظيم بعض المعاملات المالية في الإسلام
الفصل الأوَّل: الإنفاق والقرض الحسن والصدقات
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {وأنفِقُوا في سبيلِ الله ولا تُلقُوا بأَيدِيكُم إلى التَّهلُكةِ وأحسنُوا إنَّ الله يُحبُّ المحسنين(195)}
ومضات:
ـ الإنفاق المثمر في سبيل الله هو ما كان خالصاً لوجه الله تعالى، ويشمل سائر وجوه الخير الَّتي أمر الله بها، وهو أساس التضامن العائلي والاجتماعي البنَّاء، ومن ثماره الطيِّبة تطوير الإمكانات العلمية والاقتصادية والدفاعية للأمَّة، فإذا بخل الأفراد في الإنفاق أصاب الأمَّة الهلاك وطمع بها الأعداء.
ـ ليس الإنفاق مقتصراً على بذل المال، بل يشمل بذل كلِّ ما ينفع المجتمع ويعود عليه بالخير، فهناك من هو بحاجة إلى المال، وهناك من هو بحاجة إلى الهداية والتوجيه الرشيد، وهناك من يفتقر إلى العلم والمعرفة والخبرة، وهناك من يفتقر إلى المساعدة بالجهد العضلي وغير ذلك من مصالح الضعفاء والفقراء والعاجزين.
ـ إن الله تعالى يحبُّ من المؤمن إذا قام بعمل صالح أن يؤدِّيه على أكمل وجه، دون أن يخالطه أيُّ شعور بالتعالي على مخلوقات الله، وهذا وجه من وجوه الإحسان الَّذي يثمر الحبَّ والمودَّة بين النَّاس، ويقوِّي الروابط الَّتي تؤلِّف بين قلوبهم، وتزرع في حناياها المحبَّة والرحمة والتآلف، ومن ثمارها القوَّة والمنعة والرقي.(2/359)
في رحاب الآيات:
إن الإنفاق في سبيل الله يزكِّي النفس ويطهِّرها من الأثرة وحبِّ الذات، وبالمقابل فالشحُّ من الأسباب المؤدِّية إلى ظهور الأنا وإيثار الذَّات، وتقديم المصالح الخاصَّة على المصالح العامَّة، ولهذا صُنِّف السخاء في الأخلاق الحميدة الَّتي يحبُّها الله ويرضى عنها، وصُنِّف الشحُّ والبخل في الأخلاق الذميمة الَّتي يبغضها الله، فقد ورد فيما أخرجه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خُلُقانِ يحبُّهما الله، وخُلُقان يبغضهما الله، فأمَّا اللذان يحبُّهما الله، فالسَّخاء والسَّماحة، وأمَّا اللذان يبغضهما الله، فسوء الخلق والبخل، فإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله على قضاء حوائج النَّاس».
فالشحُّ والبخل والإمساك كلُّها أدوات بيد الشيطان، يحرِّكها في نفس الشحيح متى أراد وكيف يشاء، كي يزعزع ثقته بالله، ويزرع لديه الخوف غير المبرر من الفقر، ممَّا يؤدِّي إلى نتائج اجتماعية سيِّئة؛ لأن الأغنياء إذا انصرفوا إلى إيثار مصالحهم الخاصَّة من تجميع للثروات وتوسيع للعقارات والممتلكات، وتخلَّوا عن رعاية مصالح الأمَّة من الدفاع عن الأرض، وصيانة العرض، ورعاية البائس والمحروم، وإطعام الجائع، فقد ألقوا بأُمَّتهم إلى التهلُكة، ونعق فيهم ناعق الخراب، وغدت الأنانية والأثرة وحبُّ الذات طبيعة لهم، فيصبحون مطمعاً للأعداء لتفكُّك قوى الأمَّة وضعف عزيمتها، ويصير فقراؤها سخَطةً متمرِّدين، لا يهمُّهم عمران الأرض أو خرابها؛ وهم يرون جيوب الأغنياء عامرة بما يجب أن يُطعِمَ أفواههم ويشبع بطونهم الخاوية.(2/360)
وكما يكون الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله إهلاكاً للنفس، فكذلك يكون الإنفاق فيما لا يُرضي الله مُهلكاً لصاحبه؛ لأنه يتلف ماله في المحرَّمات، والتهالك على ملذَّات الحياة، أو يسرف في المباحات كالطعام والشراب والتحلِّي بفاخر الثياب، ويحرم الفقراء من حقِّهم في هذا المال. لذلك أمرنا الله تعالى أن نتصرَّف بحكمة واتزان، بعيداً عن العشوائية الَّتي تعود علينا بأسوأ النتائج وتقودنا إلى الهلاك.
إن الإنفاق في سبيل الله يعبِّر عن عروج المؤمن في مراقي العلم والسير للأفضل في كلِّ مناهج الحياة، سواء في سبيل الدعوة إلى الله، والتطوُّر الفكري والسلوكي للإنسان، أو إعداد العدَّة وحشد الإمكانات في معركة التهذيب والترقية الخُلقية. ويشمل الإنفاق أيضاً بذل الإنسان ممَّا يملك؛ دعماً لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بالحقِّ بالحكمة والموعظة الحسنة. ويشمل أيضاً تسخير معظم الأوقات في سبيل الله، وتوظيفها لنشر دين الله وتطبيقه، وكذلك توظيف الفكر والمشاعر والتأمُّلات من أجل فتح مجالات متنوِّعة، يتمُّ من خلالها تقديم الدِّين الحقِّ وعرضه، الدِّين الخالي من الرواسب الطائفية والأفكار الدخيلة كافَّة، وتوجيه الأهداف والآمال لتحقيق ذلك الغرض. ولكي يؤتي الإنفاق ثماره، ويحظى بالقبول عند الله عزَّ وجل، يجب أن يتوافر في المُنفق الإخلاص وصدق النيَّة، في ابتغاء مرضاة الله في كلِّ ما ينفق؛ من مال أو جهد أو وقت أو فكر أو أي طاقة يملكها من نعم الله وفضله.(2/361)
ولقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنفاق وبذل المال في وجوه البرِّ مرَّات ومرَّات، مبيِّناً أجر المنفق وجزاء الممسك فقال: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهمَّ أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهمَّ أعطِ ممسكاً تلفاً» (رواه مسلم) وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «السخاء شجرة في الجنَّة فمن كان سخيّاً أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتَّى يدخله الجنَّة، والشحُّ شجرة في النار فمن كان شحيحاً أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتَّى يدخل النار» (أخرجه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا أنفقوا ممَّا رزقناكُم من قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شفاعةٌ والكافرُونَ هُمُ الظَّالمون(254)}
ومضات:
ـ يُحسن الله تعالى إلى خلقه بالعطاء والرزق، والمؤمنون يقابلون هذا الإحسان بالإحسان إلى النَّاس؛ فينفقون من أموالهم في وجوه الخير والبِرِّ الَّتي تُرضي الخالق سبحانه.
ـ الدار الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء، ومن لم ينفق اليوم في سبيل تحقيق ما يحبُّه الله تعالى، فسيواجه يوماً تتوقَّف فيه آلة العمل عن الدوران، فلا يعود بقدرته أن يفتدي نفسه بحسنة أو عمل صالح، فقد جفَّت الأقلام وطُويت الصحف، فلا حسنة تسجَّل ولا سيئة تمحى، ولن يجد المرء في ذلك اليوم من يدفع عنه العذاب، أو يشفع له لينجو من عاقبة ذنوبه، وعليه منذ الآن أن يختار الطريق الآمن المنجي من الشقاوة الأبدية والموصل إلى السعادة السرمدية.
ـ الكافر ظالم لنفسه قبل أن يكون ظالماً لغيره، لأنه انحرف عن مسبِّبات السعادة السرمدية، واتخذ خطوات عدوِّه الشيطان مرشداً له وسبيلاً.
في رحاب الآيات:(2/362)
إذا نشأ حبُّ الله في القلب وترعرع، ارتقى بالإنسان إلى مصافِّ الأتقياء ومراتب الأبرار، حتَّى يصبح كلُّ ما يملكه أداة طيِّعة يسخِّرها في سبيل هذا الحبِّ الإلهي. ولا غرابة في ذلك فإن نفس المؤمن الزكية تجود في سبيل محبوبها بالنفيس من مالها قبل الرخيص. ومن رحمة الله وسعة عطائه، أنه يرزق العبد ويهديه لينفق في وجوه الخير والبِرِّ فيُجزل له الثواب على ذلك، فهو المعطي للمال وهو المثيب على إنفاقه.
أمَّا نفس البخيل والَّتي لم يتغلغل في حناياها حبُّ الله، ولم يهذِّبها حبُّ السخاء في سبيله، فهي أسيرةُ نوازعِ الطمع والتقتير، مكبَّلَة بأغلال المخاوف والوساوس، حتَّى يغدو صاحبها عبداً لماله بدلاً من أن يكون المال خادماً له. بينما تتحرَّر نفس المؤمن السخي من هذه القيود، فينطلق إلى ما فيه إعمار مجتمعه وازدهاره. والله تعالى لم يجعل في الصدقات إرهاقاً ولا حرجاً على الغني، فقد فرض في ماله حقاً يسيراً للفقير يكفل له الحصول على مصدر للكسب والإنتاج، فيحقِّق له عيشاً كريماً ويحوِّله إلى متصدِّق بدلاً من أن يكون آخذاً للصدقات. جاء في الحديث الشريف: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الَّذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً» (رواه الطبراني).(2/363)
وبهذا نجد أن أمام المؤمن فرصاً كثيرة مبثوثة في ساعات عمره كلِّها، وعليه أن يغتنمها ليجني منها ما استطاع من ثمرات الخير والبِرِّ الَّتي تعود عليه في الدارين حُسناً، مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحَّتَك قبل سُقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك» (رواه البخاري ومسلم) وإلا فاته قطار العمر، وندم حيث لا ينفع الندم، في يوم لا يجد فيه مالاً يفتدي نفسه به، وتنقطع فيه الصلة بين الأخِلاَّء إلا المتَّقين منهم، قال تعالى: {الأخِلاَّءُ يومئذٍ بعضُهُم لبعضٍ عدوٌّ إلاَّ المتَّقين} (43 الزخرف آية 67)، ولا تُقبل فيه شفاعة إلا لمن أذن له الله من الرسل والأبرار، ولا يجد إلا ما قدَّمته يداه وسيُجزى عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ولا ريب في أن من الحكمة بمكان أن يضع المرء الأشياء في مواضعها الصحيحة ومن جملتها المال، فمن الظلم للنفس والمجتمع أن يضعه الإنسان في غير موضعه، وأن يصرفه في غير وجوهه الَّتي أمر الله بها، ويمنعه عن الملهوف فلا يغيثه، وعن المضطر فلا يكشف الضُرَّ عنه ولا يواسيه به، ولا يبذله في سبيل المصالح العامَّة الَّتي تفيد الأمَّة وترفع من قدرها.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {لن تَنالوا البِرَّ حتَّى تُنفقُوا ممَّا تُحِبُّونَ وما تُنفِقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليم(92)}
ومضات:
ـ أعظم الصدقات أجراً تلك الَّتي يبذلها المؤمن من خير ماله وأحبِّه إلى نفسه، فهي مفتاح البِرِّ وصندوقه ومحتواه.
في رحاب الآيات:
آية الصدق في العطاء وميزانه الصحيح؛ هو الإنفاق في سبيل الله تعالى من نفائس الأموال وأكرمها، وأطيبها كسباً، وذلك حباً في الله وإخلاصاً له وشكراً على نعمه.(2/364)
وبما أن الصَّدقة تُبذل لتحقيق مرضاة الله، فيجدر بنا أن نجود من أفضل الموجود، وألا يكون من الرديء الخبيث الَّذي تعافه نفس صاحبه ويهون عليها تركه، والله تعالى لا يقبل إلا الطيب ويجزي عليه جزاء الراضي الشاكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تصدَّق بعدل تمرة من كَسبٍ طيِّبٍ، ـ ولا يقبل الله إلا الطيِّب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثمَّ يُربِّيها لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّهُ ـ مهره ـ حتَّى تكون مثل الجبل» (متفق عليه).
وممَّا أُثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبُّوا شيئاً جعلوه لله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه اشتهى في مرضٍ له حوتاً، فأخذته امرأته، فصنعته ثمَّ قربته إليه، فأتى مسكين، فقال ابن عمر: خُذْهُ، فقال له أهله: سبحان الله، قد عنَّيتنا، ومعنا زادٌ نعطيه منه، فقال: إن عبد الله يحبُّه. ورُوي أن سائلاً وقف بباب الربيع بن خيثم رحمه الله، فقال لأهله: أطعموه حلوى، فقالوا: نُطعمه خُبزاً أنفع له، فقال: ويحكم أطعموه حلوى، فإن الربيع يحبُّ الحلوى. وقد كان عليه السَّلام يُحسن توجيه صحابته إلى محلِّ الإنفاق ويحثُّ على إعطاء الأقارب والاهتمام بهم، لأن الإنفاق العشوائي لا يحقِّق الغاية المرجوَّة منه، أمَّا الإنفاق الموجَّه فإنه يصل بصاحبه إلى البِرِّ الَّذي هو جوهر محبَّة الله لعباده المصطفين الأخيار. وتدخل الصدقات في دائرة الإنفاق، وكلُّ ما ينفقه المرء فالله به عليم، ويجازيه عليه بحسب ما يعلم من نيَّته ومن موقع ذلك في قلبه.
سورة التغابن(64)
قال الله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم واسْمَعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسِكم ومنْ يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك همُ المفْلِحون(16) إن تُقْرِضوا الله قرْضاً حسناً يُضاعِفْهُ لكم ويغْفِرْ لكم والله شَكورٌ حليم(17) عالمُ الغيبِ والشَّهادةِ العزيزُ الحكيم(18)}
ومضات:(2/365)
ـ يبيِّن الله تعالى مبادئ أساسيَّة ليلتزم المؤمنون بها، تبدأ باتِّقاء محارمه كلِّها وامتثال أوامره ضمن الطاقة البشرية، فلا يُكلِّف الله أحداً بأكثر من طاقته، ومن ثمَّ فقد أوجب علينا سبحانه السمع والطاعة لأمر الله عزَّ وجل وأولي الأمر منَّا، والإنفاق السخي ونبذ الأثرة والأنانية. وبالمقابل فقد منح الطائعين المهديين وعداً بالفلاح والنصر ما داموا ملتزمين بذلك.
ـ إن تقديم القرض لله تعالى يعني الإنفاق على المحتاجين زيادة عن حدود التكليف، والله تعالى يبارك في هذه الأموال المنفَقَة وينمِّيها ويردُّها مضاعفة لمقدِّميها، مقرونة بالمغفرة والشكر وحسن الثواب.
ـ الله تعالى رؤوف بعباده حليم عليهم، أعطاهم من نعمه ورزقهم من فضله، ثمَّ طلب إليهم أن يتصدَّقوا بشيء من هذا العطاء، وهو العالم بما يجهلونه، الشَّاهد على ما يقدِّمونه، وهو العزيز في سلطانه الغني في ملكه، الحكيم في تقديره ولا يشرِّع إلا ما فيه خير النَّاس جميعاً.
في رحاب الآيات:
إن طموحات الإنسان المؤمن إلى المزيد من الكمال وفضائل الأعمال لا حدود لها، لكنَّه لن يستطيع أن يدركها كلَّها بجهده البشري المتواضع، وطاقاته المحدودة، لذا أحاطت به عناية الله وتوفيقه فعامله بفضله، فكان له ثواب ما عمل من الطاعات والقربات، وثواب النيَّة على ما لم يتمكَّن من عمله. فالله جلَّ وعلا يدعو الَّذين آمنوا ليتَّقوه في حدود الطاقة والاستطاعة، {فاتَّقوا الله ما استَطَعْتُم} وفي هذا الحنوِّ {ما استطعتم} يتجلَّى لُطف الله بعباده، وعلمه بحدود طاقتهم في طاعته وتقواه. ومع ذلك فلابدَّ للمرء من أن يقوم بالجهد الممكن المقرون بالبذل والإنفاق، لأنه لا يمكن لأي عمل فاضل أن يستمرَّ ما لم يُدعم مادياً ومعنوياً وعملياً.(2/366)
إن الإنفاق في سبيل الله أوَّل ما يعود بالنفع على المنفق نفسه، وهذا ما أكَّده قوله تعالى في هذه الآية: {وأنفقوا خيراً لأنفسِكُم} فجعل ما ينفقونه وكأنه نفقة مباشرة لذواتهم، ويعدُّها خيراً لهم حين يفعلون، ويريهم شُحَّ النفس بلاءً خطيراً، والسعيد السعيد من يقي منه نفسه فينجو من شرِّه. ولا يخفى أن التكافل الاجتماعي قد يحتاج إلى مزيد من البذل والإنفاق، ممَّا يستلزم المزيد من التضحية، ولهذا دعانا الله تعالى إلى الإقراض وعَدَّ نفسه هو المستقرض، حيث يردُّ للمقرض الجواد ما أنفقه أضعافاً مضاعفة، مقروناً بالمغفرة والعفو الإلهي، ولولا حلمه تعالى وفضله على عباده ما أثابهم على إنفاقهم لشيء هو مالكه الحقيقي، وهو الَّذي وضعه تحت تصرُّفهم ليحسنوا التصرف فيه فيضعوه في الجهة الَّتي يرضاها.
إن إنفاق المسلم على أخيه المسلم تفريجاً لكربه، وإزالةً لهمِّه ومواساةً له في ضائقة أَلمَّت به؛ هو عمل لله يراد به وجهه، وكأن العبد يقدم قرضاً لله عزَّ وجل، وهو خير من يكافئ على هذا التقديم. فتبارك الله ما أكرمه وما أعظمه! فهو ينشئ العبد ثمَّ يرزقه، ثمَّ يسأله فضل ما أعطاه، قرضاً يضاعفه، ثمَّ يشكر لعبده الَّذي أنشأه وأعطاه، كما أنه يعامله بالحلم في حال تقصيره عن شكر مولاه. إن الله يعلِّمنا بصفاته كيف نتسامى عن الضعف والنقائص، ونتطلَّع دائماً إلى الخير والإحسان، لنشهد فضله سبحانه، ونحسن إلى خلقه كما أحسن إلينا في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة. والله عالم بكلِّ شيء، بما غاب وما حضر ولا تخفى عليه خافية، كلُّ شيء خاضع لسلطانه، مدبَّر بحكمته، كي يعيش النَّاس وهم يشعرون بأن عين الله ترعاهم، وسلطانه مهيمن عليهم، وحكمته تدبِّر الأمر كلَّه حاضره وغائبه، ويكفي أن يستقرَّ هذا التصوُّر في القلوب لتتَّقي الله، وتخلص له، وتستجيب لأوامره.
سورة البقرة(2)(2/367)
قال الله تعالى: {من ذا الَّذي يُقرِضُ الله قَرضاً حسناً فيُضاعفَهُ لهُ أضعَافاً كثيرَةً والله يَقبِضُ وَيَبْسُطُ وإليه تُرجَعُونَ(245)}
ومضات:
ـ المؤمن مدعوٌّ لبذل المزيد من ماله في طرق الخير، ابتغاءً لمرضاة الله تعالى وإعلاءً لكلمته، والله تعالى يلقي على هذا البذل صفة القرض لأن القرض لا إلزام فيه، وردُّه مضمون من قِبَلِهِ تعالى مضاعفاً في الحياة الدنيا والآخرة.
ـ الله تعالى يضيِّق الرزق على من يشاء ويوسِّعه على من يشاء، ابتلاءً وامتحاناً، فليس كلُّ تقتير في الرزق نقمة، ولا كلُّ سعة فيه نعمة، بل هو وسيلة لاختبار مدى صبر المؤمن على القليل، وحسن تدبيره وشكره على الكثير.
في رحاب الآيات:
يحثُّ الله تعالى عباده على التصدُّق والإنفاق، لما في ذلك من تهذيبٍ لنفوسهم التوَّاقة بطبعها إلى جمع المال واكتنازه، باعتبار أنه الوسيلة الَّتي تحقِّق بها لذائذها الدنيوية، فتأنس به في هذا العالم الزائل، وتنفر من أجله من الموت، وتنشغل به عن الاستعداد للقاء الله عزَّ وجل.
وقد قضى الله تعالى بامتحان النفس البشرية لبيان صدقها في محبَّته من كذبها، وذلك بدعوتها إلى التصدُّق بأجزاء من بعض محبوباتها الدنيوية ومنها المال ابتغاءً لمرضاته، وما سُمِّيت الصَّدقة صدقةً إلا لأنها تدلُّ على صدق العبد في محبَّة ربِّه.(2/368)
إن الحضَّ على الإنفاق يأتي هنا في صورة عقد القرض بين الله والعبد، وقد سمَّى الله تعالى المال المُنْفَق، والزائد عن حدود الزَّكاة، قرضاً له ليشير إلى أن نماءه سيأتي مضاعفاً في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وإلا لسمَّاه تبرُّعاً أو هبة لا يتوجَّب سدادها في المستقبل المنظور. أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ملكاً بباب من أبواب السَّماء يقول: من يقرض الله اليوم يُجْزَ غداً، وملك بباب آخر ينادي اللَّهم أَعطِ منفقاً خَلَفاً وأعطِ ممسكاً تَلَفاً، وملك بباب ثالث ينادي يا أيُّها النَّاس هلمُّوا إلى ربِّكم، ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى».
ثمَّ إن لله تعالى طريقاً آخر يمتحن به عبده فهو يقلِّل المال بين يديه ليختبر صبره وثباته، وليُبقي قلب المؤمن متعلِّقاً به سبحانه لا يشغله عنه شاغل. وربَّما عاقب الله العاصي من عباده بتقتير الرزق عليه ليدفع به إلى لحظة الصحو والتنبُّه من غفلته، والتضرُّع إليه جلَّ وعلا ليعيده إلى جادَّة الصواب وينتشله من ضيقه. ولربَّما منع الرزق أيضاً عمَّن هو جاهلٌ بسنن الحياة، متوانٍ عن الأخذ بالأسباب، قاعدٌ عن السعي في مناكب الأرض ليعلِّمه أن الرزق لمن يعمل ويتعب، لا لمن يتقاعس ويتواكل. فالله تعالى يبسط المال إنعاماً وانتقاماً، ينعم به على من أناب وعمل صالحاً، وأنفقه حيث أمره أن ينفقه، ويفتن به من جحد واستكبر. وهكذا يكون المال وسيلة ابتلاء للأغنياء والفقراء على السواء، المؤمنين منهم والضالِّين، والفائز هو من تعمل يده في الدنيا، بينما قلبه معلَّقٌ بالله وعينه متطلِّعة إلى يوم الحساب.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {مثَلُ الَّذين يُنفِقُونَ أموالَهُم في سبيلِ الله كمثَلِ حَبَّةٍ أَنبتَت سَبعَ سنابِلَ في كلِّ سُنبُلَةٍ مائةُ حَبَّةٍ والله يُضاعِفُ لمن يشاءُ والله واسِعٌ عليمٌ(261)}
ومضات:(2/369)
ـ من يبذل المال ابتغاءَ مرضاة الله تعالى لا يخشَ الفقر أو الحاجة، لأنه بذلك يدير تجارة ناجحة مضمونة الأرباح، تصل عائداتها إلى سبعمائة ضعف لرأسمالها وربَّما أكثر إذ أن فضل الله غير محدود.
ـ ذكر الله تعالى أن المال يجب أن ينفق في سبيله على وجه العموم ولم يقيِّده بكيفية أو صيغة محدَّدة، إشعاراً بأن أوجه البِرِّ كثيرة وجميعها توصل إلى طاعته ورضوانه.
ـ بعد أن ذكر الله تعالى أن ثواب الإنفاق في سبيل الله يصل إلى سبعمائة ضعف قال: {والله يُضاعِفُ لمن يَشاءُ} إيذاناً بأن هذا هو الحدُّ الأدنى للثواب، بينما الحدُّ الأقصى لا نهاية له، وهو متاح ومبذول لكلِّ من ضحَّى وصدق النيَّة والعزيمة من أجل طاعة الله الَّذي وَسِعَ علمه وفضله كلَّ شيء.
في رحاب الآيات:
من خلال سعي الإسلام إلى بناء مجتمع متعاضد متلاحم، يرغِّب بإنفاق المال في أوجه الخير كوسيلة لتهذيب نفس معطيه وتفريج كرب آخذه، ليتحوَّل المجتمع بذلك إلى أسرة يسودها التعاون والتراحم. وقد دعا الشارع الحكيم إلى البذل وحثَّ عليه بأسلوب يستهوي الأفئدة، ويثير في النفس كوامن الخير والبِرِّ والإحسان، حيث بدأ بالحضِّ والتأليف، ولم يبدأ بالفرض والتكليف. وهو في هذه الآية يحفز المشاعر والانفعالات الخيِّرة في الكيان الإنساني، من خلال صورة من صور الحياة الفَيَّاضة المعطاء، صورة الزرع، هبة الأرض الَّتي هي هبة الله، الأرض الَّتي تعطي من الزرع أضعاف ما تأخذ من البذار.(2/370)
وتَجسَّد مشهد الحياة النابضة، والطبيعة المتجدِّدة، في صورة العُودِ الَّذي يحمل سبع سنابل، في كلِّ سنبلة منها مائة حبَّة، فتكون الحبَّة قد تضاعفت سبعمائة ضعف، تمثيلاً لمضاعفة أجر من أخلص في صدقاته وأعماله الصالحة، فالله تعالى يربِّيها كما تربِّي الأرض الطيِّبة الزرع. وقُيِّد الإنفاق بأن يكون خالص النيَّة في سبيل الله، وسبيل الله مدخل واسع يتَّسع لكلِّ حاجات المجتمع، فيشمل الإنفاق على الفقراء والمساكين والأقارب وطلبة العلم، وكذلك وجوه البِرِّ كالمستشفيات والمدارس، كما تدخل فيه أي نفقة تعود بالرقي الفكري والنُّمُوِّ الاقتصادي على المجتمع، وإزالة أسباب التخلُّف والجهل ورفع المستوى الحضاري للناس جميعاً.
والله سبحانه يضاعف العطاء لمن يشاء من عباده، وهو عطاء لا يعلم حدوده إلا هو، ويضاعف من رحمته الَّتي لا يعرف أحد مداها، ويجعل من فضله للناس بذاراً في مزرعة الدنيا تنضج فيها ثمَّ تُحصد في الدار الآخرة.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {ولا يحسبَنَّ الَّذين يَبخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فضلِهِ هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلوا به يومَ القيامة ولله ميراثُ السَّمواتِ والأرضِ والله بما تعملونَ خبير(180)}
سورة الحديد(57)
وقال أيضاً: {وما لكم ألاَّ تُنفِقوا في سبيلِ الله ولله ميراثُ السَّمواتِ والأرضِ لا يستوي منكم من أنفقَ من قبْلِ الفتْحِ وقاتلَ أولئك أعظمُ درجةً مِنَ الَّذين أنفَقوا من بعدُ وقاتَلوا وكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسنى والله بما تعملونَ خبير(10) من ذا الَّذي يُقرِضُ الله قرْضاً حسناً فيُضاعِفَهُ له وله أجرٌ كريم(11)}
سورة محمَّد(47)
وقال أيضاً: {هاأنتم هؤلاء تُدْعَونَ لِتُنفقوا في سبيلِ الله فَمِنكُم من يَبْخَلُ ومن يَبْخَلْ فإنَّما يَبْخَلُ عن نفسه والله الغنيُّ وأنتم الفقراءُ وإن تَتَولَّوا يستبدِلْ قوماً غيرَكُم ثمَّ لا يكونوا أمثالَكُم(38)}
ومضات:(2/371)
ـ يخطئ البخيل التقدير إذا ظنَّ أن كنزه للمال وإمساكه عن الإنفاق في سبيل الله يحفظ عليه ماله ويحقِّق له الخير والربح، لأن بخله سينقلب في النهاية وبالاً عليه، حين يتحوَّل ماله إلى قيد يحكم وثاقه ويزيد من عذابه في الآخرة.
ـ إن إعراض كثير من النَّاس عن البذل والإنفاق في أوجه الخير يثير الاستغراب والاستنكار، لأنهم يدركون تماماً أن الله تعالى خالق السموات والأرض، قد أعطى خلائقه ما أعطاهم على سبيل الوديعة، فهو يقلِّبها ويداولها بين أيديهم كيفما يشاء، وفي النهاية سيعود كلُّ شيء إليه، لأنه هو المالك الحقيقي لكلِّ شيء، ولن يتملَّك أيُّ فرد، كائناً من كان، مُلْكاً خالداً في هذه الأرض، ففيمَ يتشبَّثون وعلامَ يحرصون؟.
ـ الإنفاق الأكمل هو ما كان في وقت الحاجة الماسَّة إليه، وهو أهم بكثير من الإنفاق حين الرخاء والبحبوحة، ولكلٍّ أجره مع التفاوت؛ فالمؤمن الحقيقي ينفق في الحالين، فلا الضرَّاء تُنسيه حقَّ الفقير، ولا السرَّاء تُطغيه.
ـ الدعوة إلى إقراض الله تعالى، هي دعوة المؤمن إلى البذل طوعاً أكثر ممَّا هو مفروض عليه، بلا حدود أو قيود، وهذا القرض يردُّه الله تعالى للمنفق في الحياة الدنيا أضعافاً مضاعفة، ثمَّ يُجزِلُ له الثواب في الدار الآخرة.
ـ الله تعالى قادر على إنفاذ أمره، وإتمام نور شريعته، ومن تقاعس عن حمل الرسالة وتولّى عن شرف خدمة دينه، يستبدله بمن هو أشدُّ حرصاً على إعلاء كلمته ونُصرة دينه.
في رحاب الآيات:(2/372)
الإنسان يحبُّ المال بطبعه، وقد يتطوَّر هذا الحبُّ ليصبح شغفاً ونهماً، وهذا التعلُّق يدفع صاحبه إلى البخل والجشع وحبِّ الأثرة وغير ذلك من المساوئ الخُلُقية، ولا يمكن للمرء أن يتخلَّص من ذلك إلا بتربية النفس وتزكيتها وتمرينها على البذل، وتدريبها على العطاء، وبقدر ما يملك المرء من قوَّة الإيمان وعمق اليقين، يستطيع مغالبة نفسه والانتصار عليها بإخراج المال المحبوب من دائرة تعلُّقاته القلبية.
إن البُخل مرض نفسي واجتماعي خطير، من آثاره الضارَّة نشوء فئتين من النَّاس، فئة غنية مترفة تتكدَّس الأموال في خزائنها وبين أيديها، وتبذل كلَّ وقتها من أجل تنميتها والحفاظ عليها، ولا تحتاج منها إلا القليل، وفئة أخرى فقيرة مُعوِزة بحاجة ماسَّة إلى المال لتأمين ضروريَّات العيش، تنفق جُلَّ وقتها في طلبه ولا تحصل عليه. ولو بسط البخيل يده وأنفق قسماً من ماله لوجد الفقير حاجته فالتقت بذلك مصلحة الطرفين، ولَعَمَّ الجميعَ حبٌّ وتفاهم وتعاون ولعاش النَّاس جنَّة الأرض قبل جنَّة السماء. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر مُنصف أن ما يمكن تصوُّره بذلك، من سعادة وأمن ورفاهية على مستوى الأشخاص؛ ينطبق تماماً على مستوى الأمم والدول، ولو تحقَّق ذلك عملياً لامتنعت الحروب ولعمَّ السَّلام، ولعاش النَّاس كلُّ النَّاس متآخين متعاونين متواسين.(2/373)
ومن ناحية أخرى فإن الَّذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله يبخلون بما لا يملكونه فعلاً؛ لأنهم جاؤوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئاً، فمنَّ الله عليهم وأغناهم، حتَّى إذا طلب إليهم أن ينفقوا بعضاً ممَّا أعطاهم بخِلوا ونَسُوا فضله عليهم، وحسِبوا أن في كنزه خيراً لهم، وهو شرٌّ كبير لهم، ينعكس على حياتهم الخاصَّة وترابطهم العائلي والاجتماعي. إن حبس المال عن المحتاجين يؤدِّي إلى فساد بُنية المجتمع وظهور تيَّارات يتبنَّاها أناس آذاهم الفقر وأَقَضَّ مضجعهم الجوع، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشحَّ فإن الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلُّوا محارمهم» (رواه مسلم) وهم بعد ذلك كلِّه ذاهبون وقد خلَّفوه وراءهم، والله وحده هو الوارث الحقيقي للكون كلِّه {ولله ميراث السموات والأرض}.
ولعلَّ وِقفة تأمُّلٍ لمصير ما نملك ومآله إلى غيرنا من بعدنا، ومن ثمَّ ميراث الله تعالى للأرض وما عليها، يعطينا الباعث لأن نعيد حساباتنا ونفكر بمدَّخراتنا للرحلة الأبدية، فكلُّ ما ننفقه اليوم في سبيل الله يُدَّخر لنا مضاعفاً لدى المصارف الإلهية، وأمَّا ما ننفقه في سبيل ملذَّاتنا الدنيوية فهو ذاهب إلى العدم، وكلُّ ما نكنزه ونحجبه عن مساعدة النَّاس وإسعاد المؤمنين، سينقلب إلى طوق يُشدُّ حول أعناقنا ويضيِّق عليها الخناق، ويذيقنا العذاب الَّذي لا يطاق. فما حَرِصنا عليه في الحياة الدنيا وبخلنا به وعشنا في همِّ الاستزادة منه وقلقنا في سبيل المحافظة عليه، يتحوَّل إلى أثقال تَرزحُ كواهلُنا تحتها في الدار الآخرة، ليصبح كلُّ مكسب حصلنا عليه في رحلة الحياة القصيرة هذه همّاً في الحياة وهمّاً بعد الممات.(2/374)
إن الله تعالى الرحيم بعباده لم يرتضِ لهم هذا المآل فأرشدهم إلى طريق الخلاص من الشُّحِّ وآثاره، ولهذا نجد أن الآيات الَّتي تحثُّ على الإنفاق في كتاب الله العزيز كثيرة جداً. فالمال مال الله، والإنسان مُستخلَفٌ فيه، لا يجوز له أن ينفقه إلا فيما أباح الله، ولله ميراث السموات والأرض، والمال سيؤول إليه في النهاية ضمن هذا الميراث، فما الَّذي يعيق النَّاس عن الإنفاق في سبيله حين يدعوهم إلى ذلك؟. إن الآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها توضح أفضلية الإنفاق وأولويته، وترشد المؤمن متى ينفق، وأين ينفق، وكيف يحسب جدوى الإنفاق، والعائد من هذا الإنفاق. وتُبَيِّن كذلك أنَّ مَنْ يُنفِقُ وهو في ضيق وفي وقت الحاجة الماسَّة أفضل ممَّن ينفق عن سعة أو في وقت الرخاء، وفي كلٍّ خير. وقد بذلت النُّخبة المصطفاة من المهاجرين والأنصار وُسعها من النفس والمال في ساعة العسرة ـ قبل فتح مكة ـ حين كان الإسلام غريباً مُحاصَراً من كلِّ جانب، فكان هذا البذل خالصاً لا تشوبه شائبة من طمع أو رياء، وعلى الرغم من أن ما بذلوه من ناحية الكمِّ كان قليلاً بالقياس إلى مَنْ أنفق من بعد الفتح، فإن القرآن الكريم الَّذي يَزِنُ الأمور بميزان الحقِّ، يقرِّر أن الكمَّ ليس هو الراجح في ميزان الله، بل الراجح هو الباعث على الانفاق وما يمثِّله من حقيقة الإيمان؛ فالَّذين آمنوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وأنفقوا في سبيل نشر دعوته، وهو لم يزل بعد في بداية أمره ـ ودَعوَتُه ما زالت في مهدها ضعيفة الوسائل ـ خيرٌ من أولئك الَّذين آمنوا به وأنفقوا في سبيل دعوته بعد أن أصبحت ذات سطوة ومنعة. فبينما حمل الأوَّلون الدعوة على كواهلهم، حتَّى وصلت إلى ما وصلت إليه، دون أن يعلموا ما الَّذي كانت تخبِّئه لهم الأقدار، دخل المتأخرون في الإسلام منتفعين به بعد أن عرفوا وأدركوا النصر الَّذي حقَّقه بالفتح. فالَّذي ينفق والعقيدة مطاردة، والأنصار قلَّة، وليس في(2/375)
الأفق بشائر أمل منظورة، غير الَّذي ينفق والعقيدة آمنة، والأنصار كثيرون، والنصر قريب المنال، لأن إنفاق الأوَّل متعلِّق مباشرة بالله، متجرِّداً تجرُّداً كاملاً لا شُبْهة فيه. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخِلالٍ، فنزل عليه جبريل عليه السَّلام فقال: يانبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلال؟ فقال: قد أنفق عليَّ ماله قبل الفتح، قال: فإن الله يقول لك: اقرأ على أبي بكر السَّلام، وقل له: أَرَاضٍ أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن الله عزَّ وجل يقرأ عليك السَّلام ويقول: أراضٍ أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربِّي؟؟ إني عن ربِّي لراضٍ، إني عن ربِّي لراضٍ، إني عن ربِّي لراضٍ!! قال: فإن الله يقول لك قد رضيتُ عنك كما أنت عني راض، فبكى أبو بكر، فقال جبريل عليه السَّلام: والَّذي بعثك يامحمَّد بالحق، لقد تخلَّلت حَملةُ العرش بالعُبيِّ منذ تخلَّل صاحبُك هذا بالعباءة» (أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، والقرطبي).
ومن ينفق عندما تدعو الحاجة للإنفاق خير ممن ينفق في وقت يَعُمُّ فيه الرخاء والخير بين النَّاس. ومن ينفق لإغناء عائلة ونشلها من دائرة الفقر خير ممن يوزِّع إنفاقه بين عدد كبير من النَّاس، بحيث يبقى الجميع محتاجين، ولو أننا أمسكنا عليهم الرمق لوقت قصير. والخير فيمن ينفق لشراء أدوات الإنتاج ليضعها بين يدي الفقراء المحتاجين ويحوِّلهم إلى عناصر منتجة، يعملون ويسدِّدون قيمة هذه الأدوات من حاصل إنتاجهم. والإنفاق على عالِمٍ ليتفرَّغ للعلم والتعليم وهداية الخلق إلى الحقِّ خير من الإنفاق على جاهل فقير مُعْرِضٍ عن العلم والتعلُّم.(2/376)
وأفضل أنواع الإنفاق وقمَّة العطاء، حين يعطي المرء حسب الحاجة بلا حساب، ولا قيود، ويقدِّم بعطائه هذا قرضاً كريماً لحضرة الله، ولوجهه تعالى، ومن أوفى منه جلَّ وعلا بتسديد القروض، وإعادتها لأصحابها مضاعفة مع حسن الثواب؟، فإذا كانت الفوائد محرَّمة حين يقرض الإنسان أخاه الإنسان فهي مباحة ودون حدود بين العبد وخالقه. وفي كلِّ الأحوال، فإن هناك دائماً من هو بحاجة إلى المساعدة، سواء بسبب مصيبة أَلَمَّت به أو نازلة حلَّت بساحته، أو ضيق ألقاه بين براثن الجوع والحاجة، أو مرض أقعده عن السعي وطلب الرزق، وهناك أناس طيِّبون يبذلون ويقدمون لهؤلاء المحتاجين ما يحتاجونه من مال أو جهد، وهناك أيضاً من يبخل ويتقاعس. ولكن ـ ولحاجة ماسَّة ولظروف طارئة ـ قد يُدعى النَّاس جميعاً إلى البذل الكثير والعطاء الوفير، لضرورات أَمنيَّةٍ أو اجتماعية تستلزم حشد الطاقات جميعها، المادية والفكرية والعلمية، وذلك للنهوض بالمجتمع من كبوته ورفع راية الإيمان والتوحيد، وحينها ينبغي على الجميع أن يُلَبُّوا داعي الحقِّ، وأن يقدِّموا الغالي والنفيس، سواء من أموالهم أم من وقتهم أم من جهدهم وعرقهم. وإذا ما تقاعس بعض الأغنياء والعلماء والقادرين عن دعم مجتمعهم، أو قصَّروا في بناء كيانه الروحي والأخلاقي والعلمي والمادي، فإن الله تعالى بحكمته وقدرته العليَّة سيستبدلهم بأناس مُتحمِّسين ومندفعين لمتابعة المسيرة، وحمل شُعلة الإيمان بعزم وتصميم يسبقون به من جاء قبلهم، ويكونون خيراً منهم في حُسن العمل وجودة البناء. وخير مثل على موقف المجتمع المؤمن عند الحاجة العامَّة ما فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دعا داعي الجهاد والبذل والتضحية بالمصالح وبالمال والأنفس، حيث هبَّ المجتمع كلُّه ودون استثناء ليدافع عن وجوده وكيانه ودينه، واسترخص في سبيل هذه الغاية العظمى كلَّ تضحية فلم يمسك تجاهها شيئاً، بل جاد المجتمع كلُّ المجتمع(2/377)
المؤمن المربَّى بكلِّ ما يملك، فكان أهلاً للنصر والعزَّة والكرامة وقد فاز بها في الدنيا، وله في الآخرة ما هو أَعزُّ وأكرم وأبقى.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {وآتِ ذا القُرْبى حقَّهُ والمسكينَ وابنَ السَّبيلِ ولا تبذِّر تبذيراً(26) إنَّ المبذِّرين كانوا إخوانَ الشَّياطينِ وكان الشَّيطانُ لربِّهِ كفوراً(27) وإمَّا تُعرِضَنَّ عنهم ابتغاءَ رحمةٍ من ربِّكَ تَرجوها فقلْ لهم قولاً ميسوراً(28) ولا تجعلْ يدَكَ مغلولةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كلَّ البَسْطِ فتقعدَ مَلَوماً مَحسوراً(29) إنَّ ربَّكَ يَبْسُطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ ويقدِرُ إنَّه كان بعبادِهِ خبيراً بصيراً(30) ولا تقتلوا أولادَكُم خشيَةَ إمْلاقٍ نحن نَرزُقُهم وإيَّاكم إنَّ قَتْلَهم كان خِطْأً كبيراً(31)}
ومضات:
ـ يجعل القرآن الكريم للقريب والمسكين وابن السبيل حقاً في الأعناق يُوفَّى بالإنفاق، وينهى عن التبذير في الإنفاق الَّذي يجعل من المنفق فقيراً معدماً. فالإنفاق الَّذي دعا إليه هو يد محسنة تمتدُّ إلى بائس فتنقذه من بؤسه، وليس ضربة قاضية تحوِّل الباذل المعطي إلى فقير معدم يحتاج إلى من يساعده.
ـ عدَّ الله تعالى المبذِّرين الَّذين ينفقون أموالهم فيما يسخط الله إخواناً للشياطين، لأنهم يندفعون وراء أهوائهم ويلقون بأنفسهم في التهلُكة، من غير توازن ولا شعور بالمسؤولية.
ـ عند تعذُّر أداء المال لذوي القربى والمساكين وابن السبيل، يمكن للمرء أن يكرمهم بالقول الليِّن والكلمة الطيِّبة بما يطيِّب خاطرهم ويشرح صدورهم.
ـ التوازن هو القاعدة الأساسية في النهج الإسلامي فخير الأمور بنظره أوسطها، والإفراط كالتفريط يُخِلُّ بسنن الحياة، فالبخل بمثابة اليد المغلولة إلى العنق، والإسراف يدٌ مبسوطة كلَّ البسط، ونهاية الاثنين على السواء الحسرة والندامة.(2/378)
ـ إن الله عزَّ وجل يبسط الرزق لمن يشاء، ويَقْدِر الرزق على من يشاء فهو الخبير البصير بعباده، العالم بما فيه خيرُهم أو شرُّهم، ولو اطَّلع الإنسان على الغيب لاختار الواقع الَّذي يَنْفُذُ قَدَرُه.
ـ ما دام الرزق بيد الله فينبغي على الإنسان ألا يخاف من فقدان لقمة العيش، وأن لا يجزع من تبعة إعالة أولاده، وألا يفكر مُجرَّد تفكير بالتخلُّص منهم خوفاً من الفقر. وما عليه إلا أن يسعى في طلب الرزق امتثالاً لأمر الله: {هو الَّذي جعل لكم الأرضَ ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رِزقه وإليه النُّشور} (67 سورة الملك آية 15) لِيَجِدَ الرزق الَّذي يُصْلِحُ حاله قد سعى إليه مصداق قوله تعالى: {نحن نرزقهم وإيَّاكم}. ولا يخفى ما تصرِّح به الآية الكريمة من أنَّ ما يُرزَق به الآباء إِنْ هو إلا رزق الأبناء أصلاً، والآباء تبعاً، فلولا هؤلاء الأولاد الضعاف لما رُزق الآباء الأقوياء هذا الرزق الواسع.
في رحاب الآيات:(2/379)
تزداد قوَّة الفرد بمقدار شدَّة ارتباطه بمجتمعه والرعاية المتبادلة بينهما. وتأكيد الشريعة الإسلامية على رعاية ذوي القربى من حيث الأولويَّة تمتين لهذا الارتباط، وضمان لرعاية الأفراد في الأسرة الواحدة، ثمَّ لرعاية الأفراد في المؤسسات الاجتماعية الأوسع والَّتي تكون بحاجة للعناية والمساعدة. وقد أولى الإسلام اهتمامه لذوي القربى قبل غيرهم لأنهم أقرب النَّاس للمكلَّف، وأحقُّهم بمعروفه وإحسانه، والإحسان إليهم هو من صلة الرحم الَّتي حثَّ الله عليها، وحذَّر من مَغبَّة الإخلال بها أو الإساءة إليها، أخرج البيهقي أن أعرابياً قال: «يارسول الله! إني رجل موسر، وإن لي أُمّاً وأباً وأختاً وأخاً وعمّاً وعمَّة وخالاً وخالة، فأيُّهم أولى بِصِلتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمُّك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك». وأخرج البيهقي وابن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل البيت إذا تواصلوا أجرى الله عليهم الرزق، وكانوا في كَنَفِ الرحمن عزَّ وجل».
وبعد ذوي القربى يأتي دور المسكين، وهو من عفَّت نفسه عن سؤال النَّاس، بعد أن أَلزمَته دارَهُ قوَّةٌ قاهرة، ومنعته من إمكانية العمل والسعي في طلب الرزق الحلال. ويليه ابن السبيل وهو المنقطع في دار الغُربة، والَّذي تجب نجدته ومساعدته ليصل سليماً معافى إلى أهله ووطنه. هؤلاء جميعاً لهم حقوق على الأغنياء، وإن أداء هذا الحقِّ واجب عليهم وليس تفضُّلاً منهم، وقد فرضه الله وقرَنه بعبادته وتوحيده، وهو واجب على المكلَّف يؤدِّيه فيبرئ ذِمَّته، ويصل حبل المودَّة بينه وبين من يعطيه. ومع ذلك فإنَّ الإسلام لا يدعو إلى ذلك بشكل عشوائي بل إنه يحضُّ على الإنفاق الموجَّه وبحسب الضرورة، وعلى أسس عقلية حكيمة، فلا يجوز العبث بالثروة وتبديدها حتَّى لا تفقد قوَّتها في الإنتاج والعطاء.(2/380)
وكذلك فإن إنفاقك جميع مالك أو معظمه ولو في سبيل الخير وتركك عائلتك في حالة من الحاجة هو من الإسراف المرفوض، فقد ورد في الصحيحين عن سعد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لئن تترك أهلك أغنياء خير من أن تتركهم فقراء يسألون النَّاس». ومن أشكال التبذير أيضاً إنفاق المال في غير وجهه الصحيح، كالَّذين ينفقون أموالهم في معاصي الله فهم إخوان الشياطين، أي في حكمهم، لأنهم يسعون في الفساد كالشياطين، ويتَّبِعون الباطل الَّذي تُسَوِّل لهم أنفسهم.
أمَّا إذا لم يجد الإنسان ما يؤدِّي به حقَّ ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، واستحيا أن يواجههم، وتوجَّه إلى الله يرجوه أن يرزقه ليعطيهم ويؤدِّي حقوقهم، فليَعِدهم خيراً وليقل لهم قولاً ليِّناً، ولا يضق بهم ذرعاً، ففي القول الميسور عوض وأمل وتجمُّل.
إن التوازن هو القاعدة الأساسية في النهج الإسلامي، والغُلُو في الشيء كالتفريط فيه، يُخلُّ بالتوازن المطلوب، لذلك ينهى الله عن البخل كما ينهى عن الإسراف، ويكنِّي عن البخل باليد المغلولة إلى العنق فهي لا تنفق شيئاً، وعن الإسراف باليد المبسوطة كلَّ البسط فهي لا تمسك شيئاً، ويؤكِّد أن نهاية البخل ونهاية الإسراف على السواء عجز وضعف. إذن ينبغي على المرء أن يقتصد في عيشه، ويتوسَّط في الإنفاق دون بخل ولا إسراف، روى أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عال من اقتصد»، وأخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة».(2/381)
والله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده عن تبصُّر وحكمة، ويقلِّل الرزق على من يشاء عن خبرة وتبصُّر أيضاً، وهو يعلم من الَّذي تصلحه السعة في الرزق ومن الَّذي تفسده، ومن الَّذي يصلحه الإقتار ومن الَّذي يفسده. وقد ورد في الأثر: يقول تعالى: [إن من عبادي المؤمنين من لا يُصلِحُ إيمانه إلا الغِنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يُصلِحُ إيمانه إلا الصحَّة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السُّقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أُدبِّر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير].
وبعد هذا البيان من الله تعالى بأنه كفيل بأرزاق العباد، وأنه هو الَّذي يبسط ويَقْدِر، نهى عن قتل الأولاد ـ وخاصَّة البنات ـ خشية الفقر، فالأرزاق بيده وحده، وخزائن السموات والأرض بيده يفتحها للبنين والبنات. وإنَّ قتلهم خوف الفقر هو من سوء الظنِّ بالله، ويُعدُّ جريمة كبرى لما فيه من انقطاع النسل واعتداء على حقِّ الحياة الَّذي منحه الله لمخلوقاته جميعاً. أخرج أحمد والترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فيتَّقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنَّة»، وهذا ردٌّ على التشاؤم من الأنثى والاستبشار بالذكر. إنها مسؤولية جسيمة، مسؤولية الإنسان نحو ماله وأولاده وأقربائه وبني جنسه، ولا يوفَّق في حملها إلا من كان ذا حظ عظيم.
سورة البقرة(2)(2/382)
قال الله تعالى: {الَّذين يُنفقونَ أموالَهُم في سبيلِ الله ثمَّ لا يُتبِعونَ ما أنفَقوا مَنّاً ولا أذىً? لهم أجرُهُم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون(262) قولٌ معروفٌ ومغفِرةٌ خيرٌ من صَدَقَةٍ يَتبَعُها أذىً والله غنيٌّ حليمٌ(263) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تُبطِلوا صَدقاتِكُم بالمَنِّ والأذى كالَّذي يُنفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاس ولا يؤمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فمَثَلُهُ كمَثَلِ صَفوانٍ عليه ترابٌ فأصابهُ وابِلٌ فتركَهُ صَلداً لا يَقدِرونَ على شيءٍ ممَّا كسَبُوا والله لا يهدي القومَ الكافرينَ(264) ومثَلُ الَّذين يُنْفِقونَ أموالَهُمُ ابتغاءَ مرضاتِ الله وتَثبيتاً من أنفُسِهِم كمَثَلِ جنَّة برَبوةٍ أصابها وابِلٌ فآتَت أُكُلَها ضعفَينِ فإن لم يُصِبها وابِلٌ فَطَلٌّ والله بما تعمَلُون بصيرٌ(265)}
ومضات:
ـ إن مَن ينفق المال بِنِيَّة خالصة لله، ثمَّ لا يُعْقِبُ إنفاقه بالمنِّ على من أحسن إليه أو بالإيذاء والتشهير، سيجد ثواب ما قدَّم عند الله، وسيكون من الآمنين في ظلِّه؛ لا يعتريه الخوف في الدنيا ولا في يوم القيامة، ولن يفوته شيء من مسرَّات الدنيا ومباهجها، بل يكون من سعداء الدَّارين.
ـ إن ردَّ السائل بالكلمة الطيِّبة ومعاملته المعاملة اللائقة والدعاء له، هو عند الله تعالى أحسن وأعظم أجراً من إعطائه المال مع الإساءة إلى كرامته؛ بإغلاظ القول والتحقير والإهانة. فالإسلام دين التوادد والتراحم لذلك حمى كرامة الفقير، ومنع إهانته من قبل ضعاف النفوس ومرضى الإيمان، تحت طائلة إحباط عملهم وعدم قبوله.
ـ خزائن الله ملأى وعطاؤه لا ينضب، فهو الغني والمغني، وهو الحليم الَّذي يُمهل المسيء إلى أن يرجع عن إساءته، ويصحِّح مسيرته وأسلوب تعامله مع خلق الله.(2/383)
ـ المنافق الَّذي يبذل ماله أمام النَّاس كسباً لمدحهم وثنائهم، دون أن يؤمن بالله ويرجو ثوابه، سينظر يوم القيامة إلى ما أنفقه فيجده هباءً منثوراً. فمهما كان ظاهر عمله صالحاً فإنه لا يعدو كونه رياءً ونفاقاً، فإذا ما تعرَّض للامتحان، تنكشف حقيقته وتتهاوى الأقنعة الَّتي يختبئ وراءها، لتظهر حقيقة أعماله الَّتي لا جذور لها في أرض الإيمان ولا ثمر لها من الخير، بل هي أعمال عقيمة بتراء.
ـ الإنفاق المُجدي هو الإنفاق المقترن بالرغبة الصادقة بالتقرُّب إلى الله، وتثبيت ركائز الإيمان والسعادة للمجتمع، وهو عمل خصب منتج، وثوابه مضمون بإذن الله سواء قلَّ أم كثر، لأنه محاط برعاية الله تعالى وعنايته.
في رحاب الآيات:
الإنفاق الحقُّ في الإسلام هو التبرُّع المَحْضُ الَّذي يفي بالحاجات ويهذِّب المشاعر دون أن يؤذي كرامة، أو يخدش شعوراً، وهو الَّذي يصدر عن أريحية ونقاء، ويُقصَد به مرضاة الله وحده. وكلُّ تصرُّف يحوِّل هذا التبرُّع عن هذه الغاية السامية فهو محُبِطٌ للعمل، مُبْطِلٌ للأجر. فثواب الإنفاق عند الله تعالى ومنه وحده، والإسلام يدعو المرء إلى الإنفاق من غير أن ينتظر جزاءً من النَّاس ولا شكوراً، ويُعلِّق ثواب الإنفاق على ترك المنِّ والأذى ليكون خالصاً نقيّاً ممَّا يشوبه أو يفسده، وليحفظ على الفقير كرامته ومشاعره.(2/384)
فالزَّكاة أو الصَّدقة ليست مِنَّةً يهبها الغني للفقير، يستذِلُّه بها وينتظر منه مقابَلَتها على حساب كرامته ومشاعره، وإنما هي حقٌّ استودعه الله لدى الغني ليؤدِّيَه إلى أهله، وليوزِّعه على مستحقِّيه. وبذلك تتقرَّر حقيقة هامَّة هي أن المال ليس وقفاً على الأغنياء دون غيرهم، وإنما هو للجميع؛ الأغنياء والفقراء على حدٍّ سواء، يتداولونه فيما بينهم وتستقيم به حياتهم. وحين يُصْرَفُ المال في وجوهه الصحيحة، يتحوَّل المجتمع إلى أسرة واحدة، يسودها التعاون والتكافل والتوادد والتراحم، وترتفع البشرية إلى المستوى الكريم الَّذي يليق بها حيث المعطي والآخذ سواء. وهذا السلوك غير مقيَّد بزمن معين ولا بشروط محدَّدة، بل إنه يأتي تلبية لاحتياجات واقعية في المجتمع الإنساني تتكرَّر في كلِّ الأزمنة والظروف.
وبما أن الغاية الأولى للصَّدقة هي تهذيب النفوس، وتأليف القلوب، فإنه لا حاجة بالمجتمع إلى الصَّدقة الَّتي يتبعها أذى، وأولى منها كلمة طيِّبة، وشعور سَمْح، لأن الكلمة الطيِّبة تضمِّد جراح القلوب، وتُشعرها بالرضا والبشاشة، وأحسن منها أيضاً دعاء من الأعماق يغسل أحقاد النفوس ويزرع فيها الإخاء والمحبَّة.(2/385)
لقد جعل الإسلام كرامة الإنسان أغلى بكثير من راحته المادية، ونهى الأغنياء عن جَرْحِ مشاعر الفقراء أو إيذائهم بعد إنفاقهم عليهم، لأن الصَّدقة الَّتي يتبعها التجريح أكثر ضرراً بالمرء من منفعتها، وهذا يقرِّر القاعدة العامَّة في الفقه الإسلامي: (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح). وقد حذَّر الله المؤمنين من مداخل الشيطان ومخارجه في الرِّياء وحبِّ الظهور والمفاخرة، ورغَّبهم بالإنفاق سرّاً حتَّى لا تعلم شمالُ أحدهم ما تُنفق يمينه، وجعل حافزهم إلى ذلك يقينهم بأنهم سيَلقَون الأجر والعوض من الله. وهذا اليقين هو الحلقة المفقودة عند أهل الرياء والمفاخرة، الَّذين يَرَوْنَ المجد مجد الدُّنيا، والثواب ثواب الدُّنيا فقط، فيفقدون بذلك نصيبهم في الآخرة. عن الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: (ما أنفقتَ على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقتَ فلك، وما أنفقت رياءً وسُمعة فذلك حظُّ الشيطان).
والرِّياء معناه طلب الجاه والمنزلة لدى النَّاس بالتظاهر بالطاعات، وقد نهى الله عنه وحذَّر منه؛ لما له من آثار سيئة في النفس والمجتمع، ولأنه نوع من الشرك المحبط للعمل. ومن يتتبَّع الآثار السيئة للرِّياء في المجتمع البشري، وفي الحياة الإنسانية جمعاء، ومدى ما يحدثه من فساد في الخُلُق، واضطراب في النُّظُم، وانحراف للعُرف، وإعاقة عن النهوض والارتقاء، يُدرك على الفور الحكمة من تحريم الرِّياء والنهي عنه. ذلك أنه قناع زائف بصورة الفضيلة، سُرعان ما يَسقطُ ليكشف عن قبح النفس الَّتي كان يسترها، فيصيب مَنْ حولها بخيبة الأمل وضياع الرجاء، ويجعلهم يشكُّون بقيم الفضيلة ذاتها.(2/386)
لقد كان التوجيه القرآني من خلال الآيات الكريمة حريصاً على تسديد سلوك المؤمنين في الإنفاق بأسلوب رمزي غير مباشر؛ فضرب الله لنا فيها المثل بنموذجين متغايرين من المتصدِّقين والمنفقين، يشتركان معاً في صفة الإنفاق من حيث الصورة، إلا أنهما يختلفان من حيث المقدِّمة والنتيجة؛ فالمقدِّمة هي النيَّة الَّتي تكون خالصة لله عند أحد الطرفين، ومشوبةً عند الطرف الآخر، وحسب هذا الاختلاف بين المقدِّمتين تختلف النتيجة عند الله، فمن صحَّت نيَّته كانت نتيجة إنفاقه إيجابية فيُقْبَلُ عمله ويُثاب عليه، أمَّا من فسدت نيَّته فستكون نتيجة إنفاقه سلبية فيُحْبَطُ عمله، ويُحْرَمُ الأجر والثواب.
فمثل الَّذين يبطلون صدقاتهم بالمنِّ والأذى كمَثَل المرائي الَّذي يُظهر أنه يريد وجه الله فيما يفعل، وإنما قصدُه مدح النَّاس له، وذكرهم له بالخير مع غفلته عن معاملة الله تعالى، وابتغاء رضوانه، وجزيل ثوابه، ولهذا وَصَفتهُ الآية بأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ومثل هذا المرائي كمثل الحجر الأملس المغطَّى بشيء من التراب، يظنُّه المرء أرضاً طيِّبة منبتة، فإذا أصابه مطر شديد ذهب عنه التراب فإذا به صَلْدٌ عقيم ليس عليه شيء حتَّى الغبار، كذلك هو حال المنافق يظنُّ النَّاس أن له أعمالاً صالحة، فإذا كان يوم القيامة، انكشفت حقيقة أعماله واضمحلَّت واندثرت فلا يجد لها ثواباً. قال عليه الصلاة والسَّلام: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا يارسول الله وما الشرك الأصغر قال: الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الَّذين كنتم تراؤون لهم فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً» (رواه الإمام أحمد بإسناد جيد وابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً).(2/387)
والإنفاق الَّذي يَتْبَعه مَنٌّ يتحوَّل إلى أذىً للواهب والآخذ على السواء، فهو أذىً للواهب لما يزرع في نفسه من كِبْر وخُيَلاء ورغبة في رؤية أخيه متذلِّلاً له، كسيراً أمامه، وما ينتج عن هذا التصرُّف من نتائج سلبية حيث يُدخله في زمرة المنافقين المرائين، ويُحبط عمله ويجعله من الأخسرين. وهو أذىً للآخذ لما يثير في نفسه من الشعور بالانكسار والذلِّ والإهانة، وهذه تعدُّ دوافع للحقد والرغبة بالانتقام والثأر للكرامة المهدورة والشرف المُهان، وهذا كلُّه يناقض ما أراده الإسلام من الإنفاق، ألا وهو التهذيب، وتطهير نفس المعطي، واستثارة مشاعره الإنسانية، وتذكيره بنعمة الله عليه، وإرضاء نفس الآخذ وتلبية حاجاته، وتوثيق صلته بأخيه في الله وفي الإنسانية.
وهكذا فإن الصَّدقات تفقد ثوابها ومصداقيتها ما لم نسلك بها طريق الكرامة والفضيلة، والله ذو الغنى المطلق غنيٌّ عن عباده، فهو لا يأمرهم ببذل المال لحاجته إليه بل ليطهِّرهم ويزكِّيهم ويؤلِّف بين قلوبهم، ويصلح شؤونهم، ليكونوا أَعِزَّة؛ بعضهم لبعض ناصر ومعين.(2/388)
فالصَّدقة ليست تفضُّلاً من المانح على الآخذ، بل هي تفضُّل من الله تعالى على المانح والآخذ على السواء، لأنها تفتح للأوَّل الأبواب إلى الجنَّة وتيسِّر للآخر شؤون دنياه، ويجدر بالعباد أن يتعلَّموا من خالقهم كيفية البذل والإحسان، فهو يعطي عباده عطاء كريماً بلا حساب، منزَّهاً عن المنِّ والأذى؛ فإن اقتدى المؤمنون بذلك أصبحوا يمثِّلون الوجه المشرق للمنفقين، والصورة البيضاء الناصعة للمحسنين؛ لأنهم تَبنَّوا القِيم العليا عن عقيدة إيمانية ثابتة، ثمَّ ترجموها إلى عمل مبرمج وموجَّه في أوجه البرِّ والإحسان، سمت منهم المشاعر، وتطهَّرت القلوب، فأنفقوا أموالهم في سبيل الله، تزكية لأنفسهم وتمكيناً لها في مراتب الإيمان والإحسان، فغدا البذل طبعاً فيهم، يُنقِّيهم من الشوائب الَّتي تعوقهم عن الكمال. ومَثلُ أحدهم في الكرم والعطاء الخالص لوجه الله؛ كمَثلِ الجنَّة الخصبة، العميقة التربة، تقوم على مكان مرتفع، فإذا نزل عليها المطر الغزير أحياها وأخصبها ونَمَّى زرعها. وكذلك هي الصَّدقة تُحيي قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، كما يزكو ماله ويُضاعف بقدر ما يشاء الله له. وإذا أصاب هذه الجنَّة مطر خفيف فإنه يكفيها لأن التربة جيدة، خصبة، كريمة العطاء، حسنة الموقع، وهكذا هو الإنسان الجواد، إن أصابه خيرٌ كثيرٌ أغدق ووسَّع في الإنفاق، وإن أصابه خيرٌ قليلٌ أنفق بقدر ما أصابه، فخيره دائم وبِرُّه ـ وإن قلَّ ـ لا ينقطع. ورد عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ أنَّه قال: (إنَّ الصَّدقة إذا خرجت من يد صاحبها وقبل أن تدخل في يد السائل تتكلَّم بخمس كلمات أولاها تقول كنت قليلة فكثَّرتَني، وكنت صغيرة فكبَّرتني، وكنت عدواً فأحببتني، وكنت فانية فأبقيتني، وكنت محروسة والآن صرت حارسك).(2/389)
ولعلَّ أفضل أوجه الإنفاق هو الَّذي يؤهِّل الفقير لكي يكون مصدراً للعطاء في يوم من الأيام، وصورَتُه أن ينفق الغني قسماً من الزَّكاة في تأسيس نواة عمل تُوظَّف فيه الأيدي العاملة الفقيرة، ويُملَّك فيها العاملون بعض الأسهم علاوة على مرتَّباتهم، ويمكن لهذا العمل أن يحقِّق أرباحاً، وإذا ما أضيفت إلى زكاة السنوات المتتالية ساعدت في إنشاء أعمال أخرى؛ تستقطب أكبر عدد من العاطلين عن العمل، ليصبحوا منتجين ومشاركين في إنعاش الحركة الاقتصادية، ممَّا يعود بالخير على البلاد والعباد. وهذا المشروع يمكن أن يُدعم بإقامة مؤسَّسة عامَّة للزَّكاة يدفع لها المسلمون زكاة أموالهم وصدقاتهم، بحيث يتمُّ توظيف قسم من الزَّكاة والصَّدقات في مشاريع مُجدية ثابتة، ويُنفَقُ القسم الباقي لتأمين الحاجات الآنيَّة والضرورية للفقراء والمعوزين. ويمكن لهذه المؤسسة أن تتطوَّر لِتصلَ إلى الحلول المناسبة للمشاكل الاقتصادية الَّتي يعاني منها المجتمع الإسلامي، مثل تقديم القروض للمعوزين لشراء منازل تؤويهم، أو أمكنة عمل ينطلقون منها إلى العمل والبناء، وغير ذلك ممَّا يعود بالنفع على كامل الأمَّة.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {إنْ تُبدوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هي وإن تُخفوها وتُؤتوها الفقراءَ فهو خيرٌ لكم ويُكَفِّرُ عنكم من سيِّئاتِكُم والله بما تعملونَ خبيرٌ(271)}
ومضات:
ـ لا بأس في إعلان الصَّدقة المفروضة، إن كان يُرجى من إعلانها خيرٌ، وحضٌّ على الاقتداء بالصالح من الأعمال.
ـ الصَّدقة كلُّها خير، ما أُعْلن منها وما أُخْفي، إلا أن صدقة السرِّ تَفْضُلُ مثيلتها العلنية لأنها تحقِّق الهدف المرجو منها بشكل كامل، وهو قضاء حاجة من حاجات الفقير وحفظ كرامته في آن واحد، كما أن كتمانها يجعلها خالصة مخلَّصةً من شبهة الرِّياء.
ـ الصَّدقة مدعاة لمغفرة الله تعالى ورضوانه، ووسيلة للتكفير عن الذنوب.(2/390)
ـ ينبغي على المؤمن حين يقوم بالعمل الصالح أن لا يغيب عن باله أن الله تعالى مُطَّلع على السرائر، وأن عمله لا يرقى إلى مرتبة البِرِّ إلا إذا حَسُنت سريرته كما حسن ظاهره.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين الكمال والاعتدال، فهو يجمع بين الواقعية والمثالية بشكل يحقِّق السعادة لمعتنقيه، ويشيع بينهم الحبَّ والتضامن، وينزع من قلوبهم العداوة والبغضاء المؤدِّية إلى الفشل والتنازع. وينطلق الإسلام إلى تحقيق أهدافه من قاعدة أساسية هي بناء الإنسان من داخله بناءً متوازناً سليماً، يكون فيه سِرُّه كعلانيته، فإذا تناقض الظاهر مع الباطن، وتعارض القول مع العمل، حلَّ النفاق والرِّياء اللذان يُفقدان المرء شخصيته، ويُحبطان عمله.
وقد رغَّب الإسلام بالإنفاق الطوعي في السرِّ، لتحقيق التعاون الاجتماعي؛ مع حفظ الكرامة الإنسانية في آن واحد. ولكنَّه في حثِّه هذا لا يُغفِل طبيعة النفس البشرية الَّتي تهتزُّ عند المدح والثناء، بل ربَّما يكون عند بعض النَّاس مشجِّعاً ودافعاً يحفزهم لمزيد من العطاء. وممَّا لا يخفى أنَّ من سِمات الأصالة العربية السخاء والكرم، إلا أن ذلك قد لا يخلو أحيانا من أن يكون بقصد الذِّكر الحسن أو إثارة إعجاب الآخرين، فكان الأمر بحاجة إلى التربية الطويلة والجُهد الكثير مع التجرُّد والإخلاص، لذلك كان من الحكمة التعامل معها ضمن دائرة الممكن والعرف؛ كي لا يضيعَ شيء من مصالح الخير، ولا يفوتَ الفقراءَ شيءٌ من البِرِّ. وهكذا وضع التشريع الإسلامي الإنفاق الخفي والعلني في كفَّتي ميزان دقيق تَرجُحُ فيه كفَّة الإنفاق الخفي على العلني في حال التطوُّع، وتتساوى فيه كفَّة الإنفاق العلني مع الخفي في حال الفريضة، وحين يكون الهدف من الإعلان تشجيع الآخرين على القيام بها يحصل المنفق على أَجْرَي السرِّ والعلانية.(2/391)
وقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه البخاري عن السبعة الَّذين يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه أنَّ منهم: «..ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: «صدقة السرِّ تطفئ غضب الربِّ، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء» (أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).
ولا يخفى ما للصدقة من دور في حطِّ الخطايا وتكفير الذنوب، فهي تطهِّر النفس ممَّا علق بها من الأدران وتزكِّيها من الآثام، قال تعالى: {خُذْ من أموالِهِم صَدَقَةً تُطهِّرُهُم وتُزَكِّيهِم بها..} (9 التوبة آية 103) وهي باب من أبواب مغفرة الله تعالى وسبيل لنيل رضاه، وأفضل الأعمال وأحبُّها إليه تعالى، لما فيها من إدخال السرور على قلوب عباده، وتفريج لكُرَبِهم، وقضاء لديونهم وحوائجهم.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {للفقراءِ الَّذين أُحصِرُوا في سبيل الله لا يستطيعونَ ضَرْباً في الأرضِ يحسَبُهُمُ الجاهلُ أغنياءَ من التَّعفُّفِ تَعرِفُهُم بسيماهُم لا يسئَلُون النَّاس إلْحافاً وما تُنفِقُوا من خيرٍ فإنَّ الله به عليمٌ(273) الَّذين ينفقونَ أموالَهُم باللَّيلِ والنَّهارِ سِرّاً وعلانيَةً فلهم أجرُهُم عندَ ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنُون(274)}
ومضات:
ـ لقد أولى الإسلام عنايته لجميع طبقات المجتمع، ومنهم الفقراء والمعوزون، لاسيَّما أولئك الَّذين غادروا بلادهم وديارهم جهاداً في سبيله وابتغاء مرضاته، ولم تعد لديهم المقدرة على كسب أرزاقهم انشغالاً بمتابعة مسيرتهم الإيمانية، وأبت عليهم كرامتهم أن يسألوا النَّاس المعونة المادية حتَّى في أشدِّ حالات الضيق؛ فهؤلاء يقع على عاتق المجتمع الإسلامي تأمين كفايتهم.(2/392)
ـ يجب على المؤمن أن يُعمِل عقله ليتبيَّن حال أخيه وألا يكتفي بمعاينة ظاهره، وأن يطمئن إلى أنه بخير، لأن بعض النَّاس تمنعهم كرامتهم من الطلب على الرغم من شدَّة حاجتهم، فيحسبهم المرء أغنياء من التعفُّف لأنهم لا يتذلَّلون ولا يشتكون، بينما تنبِئ ملامحهم عن الجوع والفقر الَّذي يعانون منه.
ـ إنَّ المؤمن الَّذي ينفق في ليله ونهاره سرّاً وعلانية، من أجل المصلحة الإسلامية، تظلِّله الرحمة والطمأنينة، فلا يخشى الفقر في الدنيا، ويأمن العذاب ـ بمشيئة الله ـ في الآخرة.
في رحاب الآيات:
لقد قابل الجاهلون دعوة الإسلام بالصدِّ والإعراض، ثمَّ تجاوزوا ذلك إلى مرحلة إعلان الحرب والقتال، ممَّا حمل المسلمين الصادقين على الهجرة والفرار بدينهم من جهة، ومتابعة دعوتهم لنشر كلمة التَّوحيد والتَّعريف بالإسلام من جهة ثانية. وكان من نتائج ذلك حرمان هؤلاء من ممتلكاتهم فأصبحوا فقراء، إنهم فقراء، ولكن ليس عن خمول أو كسل، أو قعود وتواكل، وإنما أفقرهم السعي في خدمة دينهم والهجرة في سبيل إعلاء كلمة الله، والعمل على بناء المجتمع الفاضل وتبليغ رسالة الإسلام. فهم جماعة من المسلمين المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم في مكَّة، ووقفوا أنفسهم على العمل في سبيل نشر العلم والخير والفضيلة، فلم يستطيعوا متابعة السفر من أجل الكسب، وهم مع هذا لا يسألون النَّاس شيئاً، ويحسبهم من يجهل حالهم أنهم أغنياء لامتناعهم عن إظهار حاجتهم، وهذا خلق كريم أولاه الإسلام ما يستحقُّه من رعاية وتقدير. فالغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، وما للمال من سلطان في رفع منزلة أحد أو وضعها. وبهذا نعلم أن التسوُّل ليس من خلُق المسلم المحتاج، ومع ذلك فقد نُهينا عن ردِّ السائل والمحروم مهما كانت عقيدته وانتماؤه، قال تعالى: {والَّذين في أموالِهِم حقٌّ معلوم * للسَّائلِ والمحروم} (70 المعارج آية 24ـ25).(2/393)
والنصُّ عام لا يقتصر على مهاجري مكَّة إلى المدينة فحسب، بل ينطبق على غيرهم في جميع الأزمان، من الكرام المُعْوَزين الَّذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب، كالمرض أو العجز أو الاشتغال بما فيه خير الأمَّة من التعليم والتربية وما إلى ذلك، ثمَّ تأبى عليهم كرامتهم أن يسألوا النَّاس المساعدة والعون، ولكنَّ ذا الحسِّ المُرهف والبصيرة النافذة يدرك ما يستتر وراء تجمُّلهم وتصبُّرهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس المسكين الَّذي يطوف على النَّاس تردُّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكنَّ المسكين الَّذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن له فيُتَصَدَّقُ عليه ولا يقوم فيسأل النَّاس» (رواه البخاري ومسلم). لذلك ينبغي على بيت مال المسلمين أن يكفل لهؤلاء ما يكفيهم ويجنِّبهم الحاجة، وفي الحاجة يقول أحد المؤرخين في تصوُّره للدولة المثالية: [كلُّ مَنْ حَبَسَ نفسه لخدمة المسلمين فكفايته وحاجاته مضمونة في بيت مال المسلمين على الأمَّة].
ثمَّ يُطَمئن الله تعالى أهل الإنفاق بأن أجرهم محفوظ، وأنه ـ جلَّ شأنه ـ مطَّلع على إنفاقهم سرّاً وعلانية، ليلاً ونهاراً. وقد قدَّم الليل على النهار، والسرَّ على العلانية للإشارة إلى فضل صدقة السرِّ على صدقة العلانية، لأن فيها ضمانتين أساسيتين: الأولى أنه لا يلحق بمنفقها غرور، والثانية أنه لا يلحق بآخذها مَنٌّ أو ضررٌ أو أذى، وهؤلاء المنفقون لهم مكافأتهم عند ربِّهم في خزائن فضله لما للصَّدقة من عظيم الثواب. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (متفق عليه).(2/394)
هؤلاء المنفقون يغبطهم الأنام يوم القيامة على ما يَنعُمون به من الأمن والسكينة، حين يُصدِّع الخوف قلوب أولئك الَّذين بخِلوا بأموالهم وحبسوها حين الحاجة إلى بذلها في سبيل الله، وكذلك ينالون خير الثواب لأن نفوسهم سمت وبلغت حدّاً من الكمال لم يبق فيه لسلطان المال موضع في قلوبهم
هذه بعض خصائص الإسلام الَّتي لا تستطيع تشريعات الأرض أن ترقى إليها، لافتقارها للمحتوى الإيماني والأخلاقي، الَّذي يملأ وجود المؤمنين الصادقين، فالفقير في المجتمع الإسلامي غني بتعفُّفه والمنفق مُؤْثِرٌ على نفسه حتَّى ولو كانت به خصاصة.
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {ما أفاءَ الله على رسولِهِ من أهلِ القُرى فلله وللرَّسولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السَّبيلِ كي لا يكونَ دُولَةً بين الأغنياءِ منكم وما آتاكم الرَّسولُ فخذوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا واتَّقوا الله إنَّ الله شديدُ العقاب(7)}
ومضات:
ـ توزيع المال في الإسلام له أهمِّية بارزة تكمن في الحفاظ على التوازن الاقتصادي في المجتمع، واجتناب تكتُّل الأموال في يد فئة قليلة تتحوَّل إلى قوَّة طاغية متحكِّمة في مصيره، وتحجزها عن الأكثرية فينعدم النفع العامُّ منها.
ـ إن في تعاليم السماء توضيحاً لمسار الإنفاق وتوزيعه، لذا وجب علينا الالتزام بما أتى به هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من عند الله عزَّ وجل ومحاذرة ما نهانا عنه، كيلا نقع في سخط الله الشديد العقاب.
في رحاب الآيات:(2/395)
في الآية الكريمة إرساء لقواعد أساسية من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي وكذلك التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي. أمَّا القاعدة الأولى، فتمثِّل جانباً هامّاً من أسس النظام الاقتصادي في الإسلام، فالملكية الفردية معترف بها، ولكنَّها محدَّدة بألا يكون المال متداولاً بين الأغنياء وحدهم، محجوباً عن الفقراء. فكلُّ وضع ينتهي إلى أن يكون المال في متناول الأغنياء وحدهم، هو وضع شاذٌّ يخالف هذا النظام، كما يخالف هدفاً من أهدافه الاجتماعية، لأن الإسلام ينظِّم جميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد.(2/396)
ولقد أقام الإسلام نظامه بالفعل على أساس هذه القاعدة، ففرض الزَّكاة، وحرَّم الاحتكار، وحظَر الربا، وهما الوسيلتان الرئيستان لجعل المال دُولَةً بين الأغنياء. على أن النظام الإسلامي يبيح الملكية الفردية، ولكنَّه ليس نظاماً رأسمالياً، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولاً عنه، لأنه لا يقوم دون ربا واحتكار، بينما النظام الإسلامي نظام خاص من لدن حكيم خبير، نظام فريد متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات. والفرق بين الإسلام وسائر الأنظمة الاجتماعية الهادفة إلى حسن توزيع الثروات بين أفراد المجتمع، هو أن الإسلام قد قام أوَّلاً بتربية النفوس وتزكيتها، وزرع حبِّ الخير فيها، وبعد ذلك طلب منها البذل والإنفاق فلم تتراجع، بل أقدمت باندفاع وحبٍّ، وقدَّمت الغالي والنفيس في سبيل مرضاة الله. أمَّا الأنظمة والنظريات الاقتصادية الأخرى فإنها تقدِّم للناس قوانين وقواعد جافَّة، ليس لها في الواقع أرضيَّة معطاء، فهي تُفرض قسراً ولا تنبع من نفوس من يعيشون تحت ظلالها. ولذلك فقد ظهر كثير من الأنظمة البرَّاقة، وعاشت حيناً من الزمن ثمَّ اندثرت بسبب عدم توافر الرجال الشرفاء الأمناء الَّذين يطبِّقون ما ينادون به على أنفسهم أوَّلاً ثمَّ على الآخرين. فكيف لا يرضى الصحابة بذل أموالهم وكلَّ ما يملكون، ونبيُّهم يعيش بينهم كأفقر رجل فيهم؟! وكيف يرضى النَّاس تطبيق النظريات المثاليَّة، بينما زعماء هذه النظريات يترفَّهون وكأنَّهم أباطرة؟! إن ميزان العقل والفطرة السليمة يدفعنا إلى الأخذ بما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه طبَّقه على نفسه قبل أن يُلزِمَ به غيره، وهذه هي القدوة الصالحة، وهذا ما فعله صحابته الكرام في حياته وبعد وفاته، لذلك استمرَّ الدفق الروحي للإسلام، وسيستمرُّ إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى.
الفصل الثاني:
الوصيَّة
سورة البقرة(2)(2/397)
قال الله تعالى: {كُتِبَ عليكُم إذا حَضَرَ أحدَكُمُ الموتُ إن تركَ خيراً الوصيَّة للوالِدَينِ والأقربينَ بالمعروفِ حقّاً على المتَّقينَ(180) فمن بَدَّلَهُ بعد ما سمِعَهُ فإنَّما إثْمُهُ على الَّذين يُبَدِّلُونَهُ إنَّ الله سميعٌ عليمٌ(181)}
ومضات:
ـ الآيات الكريمة تُرسي قاعدة من قواعد الترابط والتكافل الاجتماعي بين الناس، فهي تحضُّ على من أشرف على الموت وله مال أن يوصي ببعضه لمن يستحقُّه، تكفيراً عن سيئاته وزيادة في حسناته، على أن تستوفي الوصيَّة شروطها ولا تحمل ظلماً للورثة الشرعيين. وفي هذا توازن واعتدال دعا الله تعالى إليهما، من أجل إقامة المحبَّة والمودَّة بين الناس من جهة، وحفظ حقوقهم وكرامتهم من جهة أخرى.
ـ من يبدِّل الوصيَّة سواء كان من الشهود عليها أو من منفِّذيها بعدما عَلِمَها فهو آثم، لأنه يعطِّل الغاية الَّتي أرادها الله تعالى من تشريعها، ويعتدي على حقوق غيره.
ـ ليس للمؤمن أن يُحجم عن كتابة الوصيَّة مخافة أن يُبدِّلها بعض المستفيدين، لأنهم إن فعلوا فإنما وزرهم على أنفسهم، أمَّا هو فقد قام بواجبه وسينال الثواب عليه؛ فالله يعلم ويرى ويشهد ولن يضيع لعامل عمله ولو كان مثقال ذرَّة من خير.
في رحاب الآيات:(2/398)
المال عصب الحياة الدنيا، لذلك اهتمَّ الإسلام به، وشجَّع على كسبه بوجه حلال، وأقام له نظاماً مرتَّباً منسجماً، وهذا مظهر من المظاهر العملية للإسلام. وما التشجيع على العمل والكسب الحلال، وفرض الزَّكاة في مال الأغنياء، وإباحة البيع، وتحريم الربا، والنهي عن كنز المال، إلا صور عن واقعيَّة الإسلام، وتعامله مع الإنسان على أساس فطرته ونوازعه واحتياجاته في كلِّ زمان ومكان. واستكمالاً لدور المال في بناء المجتمع، فقد أنزل الله تعالى أحكام الميراث الَّتي جعلت للوارثين حقوقاً شرعية يرثونها، ووجَّه الإنسان إلى أن يترك وصيَّة للأقربين الَّذين لا يرثون بسبب وجود ورثة أَوْلى منهم، صدقة وقربى؛ بل إن في الوصيَّة تعويضاً للفقراء عمَّا تقاعس المسلم عن دفعه من زكاة ماله. والوصيَّة هي أن يمنح الإنسان لغيره عيناً أو منفعة، على أن يملك المُوصَى له هذه المنحة بعد موت الموصي، وهذه الوصيَّة تؤخذ من التركة على أن لا تتجاوز الثلث؛ والتركة هي ما يتركه الميت من الأموال مطلقاً والَّتي لها قيمة في نظر الشرع.
وقد حضَّ الإسلام على الوصيَّة فيما يخلِّفه الإنسان بعد موته من مال كصورة من صور التكافل العائلي والاجتماعي العام في خارج حدود الوراثة، وكنوع من أنواع المعروف والإحسان إلى الناس وجعلها من جملة الحقوق الأساسية المتعلقة بالتركة وهي:
1 ـ تكفين الميت وتجهيزه.
2 ـ قضاء ديونه.
3 ـ تنفيذ وصيَّته.
4 ـ تقسيم ما بقي من مال بين الورثة وهم: كل من ينتمي إلى الميت برابطة نسب أو زوجيَّة.
أمَّا رابطة الزوجيَّة فتشمل كلاً من الزوج والزوجة وأمَّا رابطة النسب فتشمل الأقرباء كافَّة والَّذين يمكن تصنيفهم فيما يلي:(2/399)
كلُّ من كان من فروع الميت وهم أبناؤه وبناته وأولادهم مهما تفرَّعوا، وكلُّ من كان من أصول الميت وهم أمُّه وأبوه وأجداده وجدَّاته مهما علوا، وكلُّ من كان من فروع أبويه وهم الإخوة والأخوات مهما تفرَّعوا، وكلُّ من كان من فروع أجداده وجدَّاته وهم الأعمام والعمَّات والأخوال والخالات مهما تفرَّعوا، على ترتيب وتفصيل في توريث بعضهم من بعض أو حجب بعضهم ببعض ممَّا هو من اختصاص علم الفرائض والمواريث.
وكما نصَّ الكتاب على الوصيَّة فقد نصَّت السنَّة عليها أيضاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات على وصيَّة مات على سبيل وسُنَّة، ومات على تقىً وشهادة ومات مغفوراً له» (رواه ابن ماجه).
وفي حديث آخر يحثُّ النبي صلى الله عليه وسلم على الوصيَّة ويحرِّض عليها فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيَّته مكتوبة عنده» (متفق عليه).
وللوصيَّة حكمة بالغة، فهي قُربة يتقرَّب بها الإنسان إلى الله عزَّ وجل في آخر حياته، كي تزداد حسناته أو يتدارك بها ما فاته، لما فيها من البرِّ بالناس والمواساة لهم. ويجب أن لا تزيد الوصيَّة على ثلث المال فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «..الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفَّفون الناس في أيديهم» (رواه البخاري ومسلم).
ويختلف حكم الوصيَّة بحسب الظروف المحيطة بها فهي:
1 ـ واجبة إذا كان على الإنسان حقٌّ شرعي يخشى أن يضيع كالزَّكاة والحج.
2 ـ مستحبَّة للأقرباء والفقراء والصَّالحين من الناس.
3 ـ مباحة للغني سواء أكان قريباً أم بعيداً.
4 ـ مكروهة إذا كان الموصي قليل المال وله ورثة يحتاجون إليه.(2/400)
5 ـ مُحرَّمة إذا كان فيها إضرار بالورثة ولو كانت دون الثلث؛ روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: (الإضرار في الوصيَّة من الكبائر).
أمَّا ثبوت الوصيَّة فيتمُّ بالمشافهة وبالإشارة المُفْهمة إذا كان الموصي عاجزاً عن النطق، وكذلك بالكتابة، وهي من العقود الجائزة الَّتي يجوز فيها للموصي أن يغيِّرها أو يبدِّل فيها أو يرجع عما أوصى به، وهي لا تستحقُّ للموصَى لهم إلا بعد سداد دين الموصي، وكونها في حدود ثلث المال الباقي بعد تسديد الدَّين.
وللوصيَّة شروط أربعة:
1 ـ أن يكون الموصي كامل الأهلية لعقد الوصيَّة، متمتِّعاً بالعقل والبلوغ والحرِّية والاختيار، وعدم الحجر عليه لسفاهته أو غفلته.
2 ـ ألا يكون الموصَى له وارثاً إذ أنه «لا وصية لوارث» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
3 ـ أن يكون الموصَى له على قيد الحياة حين كتابة الوصيَّة، وألا يكون الموصى له سبباً في مقتل الموصي.
4 ـ أن يكون الموصى به قابلاً للتمليك كالمال والعقار وما يثمره الشجر.
ثمَّ يأتي التحذير الإلهي للقائمين على الوصيَّة من أقرباء وأوصياء من أن يحرِّفوها أو يزيدوا فيها أو ينقصوا منها، أو يكتموها لتحقيق مغنم شخصي لهم. والقرآن الكريم يحمِّل هؤلاء إثم ما بدَّلوه، ونكال ما غيَّروه، ويذكِّرهم بأنه إذا لم يكن هناك من شهد معهم الوصيَّة فاجترؤوا على تغييرها، فإن الله معهم يسمع ويعلم، وإذا أُفلِتُوا من عقاب الناس فإنهم لن يُفْلتوا من عقابه عزَّ وجل.(2/401)
إن الوصيَّة تعدُّ إحدى شعائر ديننا الخالد، وهي لا تقتصر على التبرع بمبلغ من المال ينفَّذ بعد الموت، ولكنها يمكن أن تتناول كلَّ التزام أو حقوق للذَّات أو للآخرين. فكم من إنسان يموت فجأة فتضيع حقوق كثيرة على ورثته أو التزامات عليه تجاه غيره، ولو أن هذا الإنسان اتَّبع سُنَّة الإسلام في هذا الشأن، لبيَّن ما له وما عليه، وكتب ذلك ضمن وصيَّة مخطوطة محفوظة في داره، وبذلك يوفِّر على من بعده متاعب كثيرة ويتلافى حدوث ظلم لأسرته أو لغيرهم، فما أحوج الناس أن يصيخوا السمع لتعاليم الشرع كلِّها، سواءً منها ما كان فرضاً لازماً أو نفلاً مستحباً.
الفصل الثالث:
تحريم الرِّبا
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {الَّذين يأكلونَ الرِّبا لا يقومونَ إلاَّ كما يقومُ الَّذي يتَخبَّطُهُ الشَّيطانُ من المَسِّ ذلك بأنَّهم قالوا إنَّما البيعُ مثلُ الرِّبا وأحلَّ الله البيعَ وحرَّمَ الرِّبا فمن جاءهُ مَوعظةٌ من ربِّهِ فانتهى فلهُ ما سَلَفَ وأمرُهُ إلى الله ومن عادَ فأولئكَ أصحابُ النَّارِ هم فيها خالدونَ(275) يَمحَقُ الله الرِّبا ويُربي الصَّدقاتِ والله لا يُحبُّ كلَّ كَفَّارٍ أثيم(276)}
ومضات:
ـ يصبح المرابي بسبب نهمه الشديد، للمال الحرام والأرباح الفاحشة، كمن أصابه مسٌّ من الجنون والصَّرع، فيفقد توازنه العقلي والروحي، ويفقد صوابه أمام بريق المال، فلا يشعر بمعاناة الفقراء وبؤس المعوَزين المسحوقين تحت وطأة الفوائد المفروضة عليهم؛ ويُبعَثُ يوم القيامة أشدَّ تخبُّطاً واضطراباً.
ـ يبحث المرابي عن أعذار وتبريرات لعمله، فيدَّعي أن الرِّبا عمل شريف كالتجارة، إلا أن الفرق بينهما بيِّنٌ وشاسع، فالرِّبا استغلال وجشع وكسل، والتجارة الشريفة استقامة في التعامل وكدٌّ وتعب.(2/402)
ـ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فمن عجز عن ردِّ ما اكتسبه من الرِّبا قبل نزول آيات التحريم فلا إثم عليه، أمَّا من أراد تطهير ماله وتزكيته وكان ذلك بمقدوره، فإن ردَّه أَوْلَى لقوله تعالى: {وأمرُهُ إلى الله}.
ـ آكل الرِّبا آثم ومصيره إلى جهنَّم، ومال الرِّبا محكوم عليه بذهاب البركة والتلف والزوال، بينما يربو مال الصَّدقات وينمو بفضل الله.
في رحاب الآيات:
لما كانت الثروات مِلْكاً لله تعالى وضعها بين أيدي العباد، ليتصرَّفوا فيها وفق منهجه وحسب شريعته، فقد نهى عزَّ وجل عن إساءة استعمال هذه الأرزاق، وانحراف الإنسان عن منهج الربح الشريف، إلى الجشع والسيطرة المادِّية؛ باللجوء إلى الوسائل غير المشروعة كالرِّبا، الَّذي يعدُّ من أشدِّها فحشاً، وأبشعها صوراً.
والرِّبا لغةً: هو الزيادة، وفي الشرع الرِّبا نوعان:
1 ـ ربا النَّسيئة: وهو الزيادة المشروطة الَّتي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل؛ وهو من أبشع أنواع الاستغلال والإيذاء، لما فيه من استغلال حاجة الناس إلى المال، وهو كسب لا يقابله جهد ولا عمل، ممَّا تختلُّ معه قاعدة الكسب الحلال؛ وهو ما كان فيه توازن بين الجُهد والثمرة الناتجة عنه، وهذه معدومة في الرِّبا فالجُهد والتعب على جهة واحدة؛ والثمرة والنفع لجهة أخرى، وهو حرام أيضاً لما يصحبه من تحكُّم المرابي بالمدين وإهانته.
2 ـ ربا الفضل: وهو بيع النقود بالنقود، أو الطعام بالطعام مع الزيادة. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «الذهب بالذهب والفضَّة بالفضَّة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثْلاً بِمِثْل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمُعطي فيه سواء» (رواه الخمسة)؛ وقد نُهِيَ عن هذا النوع من الرِّبا لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة.(2/403)
والرِّبا محرَّمٌ في جميع الشرائع السماوية، فقد جاء في العهد القديم (التوراة): (إن أقرضت فضَّةً لشعبي الفقير الَّذي عندك فلا تكن له كالمرابي، لا تضعوا عليه رِباً). (الإصحاح 2225 من سفر الخروج) وجاء أيضاً: (إذا افتقر أخوك وقَصُرَت يده عندك فاعضده غريبا أو مستوطنا فيعيش معك، لا تأخذ من رِباً، ولا مرابحة بل اخشَ إلهك فيعيش أخوك معك) (إصحاح 2535 من سفر اللاويين) إلا أن اليهود لا يرون مانعاً من أخذ الرِّبا من غير اليهودي، كما جاء في الإصحاح (2320) من سفر التثنية: (للأجنبي تُقرض برِباً ولكن لأخيك لا تُقرض برِباً...).
وجاء في العهد الجديد (الإنجيل): (وإن أقرضتم الَّذين ترجون أن تستردُّوا منهم فأيُّ فضلٍ لكم، فإن الخطاة أيضاً يقرضون الخطاةَ لكي يستردُّوا منهم المثل... وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً فيكون أجركم عظيما وتكونوا بني العليِّ فإنه منعم على غير الشاكرين والأشرار..) (لوقا 63536). وقد اتفقت كلمة رجال الكنيسة على تحريم الرِّبا تحريماً قاطعاً؛ قال سكوبار: (إن من يقول إن الرِّبا ليس معصية يُعَدُّ ملحداً خارجاً عن الدِّين)، وقال الأب بوني: (إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا وليسوا أهلاً للتكفين بعد موتهم).
وقد مرَّ تحريم الرِّبا في الإسلام بمراحل، وهذه حكمة التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية والاقتصادية، فمن المعلوم أنه سار بسُنَّة التدرُّج في تقرير كثير من الأحكام، لأنها تتعلَّق بعادات تمكَّنت من نفوسهم، وإنَّ تَرْكَها دفعة واحدة يوقع الناس في الحرج، فاقتضت حكمة العليم بخلقه، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره، أن يأخذ الناس بالتدرُّج فَيُسَهِّلَ عليهم بذلك كل عسير.(2/404)
ففي المرحلة الأولى: نزل قوله تعالى: {وما آتيْتُم من رِباً ليَرْبُوَا في أموالِ النَّاسِ فلا يَرْبوا عندَ الله وما آتَيْتُم من زكاةٍ تُريدون وجهَ الله فأولئك همُ المُضْعِفُون} (30 الروم آية 39) وقد نزلت هذه الآية بمكَّة، وليس فيها ما يشير إلى تحريم الرِّبا، وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للرِّبا، وأنه لا ثواب عليه عند الله. وفي المقابل ذكر الزَّكاة الهادفة لرضا الله تعالى، ووعد أهلها بالثواب المضاعف أضعافاً كثيرة، ولاشكَّ أن هذا الأسلوب فيه تعريض بالرِّبا وثناءٌ على الزَّكاة، وهذا يعني أن اتركوا الرِّبا وافعلوا الزَّكاة تعريضاً لا تصريحاً.
وفي المرحلة الثانية: نزل قوله تعالى: {فبظُلْمٍ منَ الَّذين هادُوْا حرَّمنا عليهِم طيِّباتٍ أُحِلَّت لهم وبِصدِّهم عن سبيلِ الله كثيراً * وأخذِهِمُ الرِّبا وقد نُهُوا عنه..} (4 النساء آية 160ـ161) وفي هذه الآية تحريم بالتلميح لا بالتصريح، لأنها وردت بشأن اليهود، وليس فيها ما يدلُّ دلالة قطعية على أن الرِّبا محرَّم عند المسلمين. لكنَّها تُعِدُّهم نفسيّاً لقبول مثل هذا الحكم إذا فُرِضَ عليهم لئلا يصيبهم ما أصاب الَّذين حُرِّم عليهم ففعلوه، فحرَّم الله عليهم طيِّبات كانت حلالاً لهم قبل المخالفة.
وفي المرحلة الثالثة: نزل قوله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مُضاعفة..} (3 آل عمران آية 130) وهذه الآية مدنية وفيها تحريم صريح للرِّبا، لكنَّه تحريمٌ جزئي وليس كليّاً، لأنه تحريم لنوع من الرِّبا هو الرِّبا الفاحش؛ حيث كان الدائن يأتي المدين عند حلول أجل الدَّين ويقول له، إمَّا أن تؤدِّي وإمَّا أن أُرْبي، فإن لم يؤدِّ إليه دينه، ضاعف عليه مبلغ الدَّين.(2/405)
وفي المرحلة الرابعة: نزل التحريم الكلِّي القاطع بقوله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله وذَرُوا ما بَقيَ منَ الرِّبا إن كنتم مؤمنين} (2 البقرة آية 278) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لعن الله آكل الرِّبا وموكله وشاهديه وكاتبه» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي)، وهي المرحلة النهائية في تحريم الرِّبا.
وقد تركَّز تحريم الرِّبا في ستَّة أعيان هي: الذهب والفضَّة والقمح والشعير والتمر والملح، وهي الحاجات الأساسية الَّتي لا غنى للناس عنها. فالذهب والفضَّة هما العنصران الأساسيان للنقود، تنضبط بهما المعاملات والمبادلات التجارية، لأنهما معيار الأثمان الَّذي يُرْجَع إليه في تقويم السلع، فإذا وُجِدت العلَّة في نقد آخر أخذ حكمهما؛ فلا يباع إلا مِثْلاً بمِثل. وأمَّا القمح والشعير والتمر والملح فهي عناصر الأغذية الَّتي تقوم عليها الحياة، لذلك فهي من الضروريات الأساسية في كلِّ مجتمع، فإذا وُجدت العلَّة في شيء آخر فإنه لا يباع إلا مِثلاً بمِثل، وكل ما يقوم مقام هذه الأجناس الستَّة يقاس عليها ويأخذ حكمها.
وقد حرَّم الله الرِّبا رحمة بعباده، وإنقاذاً لهم من الاستغلال والفساد في المعاملة، لما يترتَّب عليه من أضرار عامَّة شاملة، حيث ينشئ نظاماً يسحق البشرية ويشقيها لمصلحة حفنة من المرابين. ومن الناحية النفسية يولِّد في نفس المرابي حبَّ الأَثرة والأنانية، فلا يخدم إلا نفسه، ولا تهمُّه إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم لديه روح التضحية والإيثار ويصبح عبداً للمادَّة، وتتردَّى روحه في مهاوي السفاسف من الأمور، كما أنه يخلق لدى المدين نوعاً من العجز والقهر، ويقيِّده بأغلال من الاستعباد والذُّل، فتنعدم بذلك قِيَم الخير بين الأفراد والجماعات.(2/406)
أمَّا من الناحية الاجتماعية فهو يولِّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على مظاهر الشفقة والتعاون والإحسان، فيتحوَّل المجتمع البشري إلى غابةٍ، البقاء فيها للأقوى، ويخرج عن السِّمات الإنسانية النبيلة.
وأمَّا من الناحية الاقتصادية فهو يقسم المجتمع إلى طبقتين الفرق بينهما حادٌّ وشاسع؛ طبقة مُتْرَفة تعيش في نعيم ورفاهية، وأخرى مُعدَمة تعيش على الفاقة والحاجة والبؤس والحرمان، وبذلك ينشأ الصراع بينهما، ويحدث الخلل في دورة المال ونموِّ الاقتصاد نمواً سويّاً. فقد ثبت أن الرِّبا يؤدِّي إلى تكديس الثروات في أيدي فئة قليلة من الناس، ممَّا يُحِلُّ البلاء بالأمم؛ فتكثر المِحَن والفتن، ذلك أن مكر الَّذين تخصَّصوا في التعامل بالرِّبا وجشعهم، يوصلانهم إلى استنباط شروط من الإجحاف والاستغلال، لا تخطر إلا في بال المرابي، قد تصل إلى حدِّ استرقاق المستقرض إذا عجز عن أداء دينه، فهو يقضي حياته يردُّ فوائد الدَّين، دون أن يتمكَّن من وفاء أصل الدَّين، بسبب ارتفاع معدل الفائدة المستقرض به؛ ناهيك عن الاستعمار الاقتصادي الَّذي تفرضه الدول الغنية المقرضة، على الدول الفقيرة المستقرضة حين تعجز عن سداد فوائد القرض، فما بالك بالقرض نفسه.
لذلك صوَّرت الآية الكريمة آكل الرِّبا بصورة إنسان أصابه مسٌّ من الشيطان، فهو يتخبَّط على غير هدى، ولا يعرف استقراراً ولا طمأنينة أو راحة. فهو مفتون بحبِّ المال، استعبدته بهارجه حتَّى جعله مقصوداً لذاته، وركن إلى الرِّبا وترك جميع موارد الكسب المشروعة الأخرى، وهذا لا يقوم من قبره يوم القيامة، إلا كمن أصيب بالصرع أو الجنون، يتعثَّر ويقع لثقل المال الحرام الَّذي أكله، ويحصد الأشواك الَّتي زرع، قال ابن عباس y فيما رواه ابن أبي حاتم: (آكل الرِّبا يُبْعَثُ يوم القيامة مجنوناً يُخنق).(2/407)
وفي غمرة تخبُّطه وفقده لتوازنه يبحث المرابي عن أعذار وتبريرات لعمله، فيدَّعي أن الرِّبا عمل شريف كالتجارة، والفرق شاسع بين هذا وتلك، فالرِّبا حرام لأن فيه ضرراً وغُبناً يلحق بالمدين، ومنافعه تنحصر بالدائن وحده، بينما تكمن في البيع السليم منافع للناس وقضاء لحوائجهم، وتعود خيراته أو أضراره وخسائره على جميع الأطراف، فالخير إذا وُزِّع، عمَّ نعيمه الجميع، والضرر إذا وُزِّع، خفَّ حمله على الجميع، لذلك كان حلالاً صرفاً.
فما البيع إذن إلا تبادل منافع، والعمليات التجارية قابلة للربح والخسارة، وتخضع للمهارات الشخصية، والجُهد الفردي، والظروف الطبيعية الَّتي تدور هذه التجارة في فلكها. أمَّا الرِّبا فهو زيادة مشروطة مقتطعة من جهد المدين إن هو ربح، وعملياته محدَّدة الربح للمقرض سلفاً، مهما كانت ظروف المستقرض، سواء منها الربح والخسارة. إلا أن الكارثة أشدُّ والطامَّة أشمل عندما تحصل الخسارة، حيث تجتمع الأعباء على المدين، فيعجز عن سداد الرِّبا فضلاً عن أصل المال، الَّذي يزيد حيناً بعد حين، وهذا إجحاف في حقِّه ونهبٌ لجهده، وهذا هو الفارق الأساسي الَّذي ترتكز عليه علَّة التحريم. ثم إن الرِّبا يتحوَّل مع الوقت إلى إدمان ولا يزيد آكله إلا طمعاً ونهماً، ولا يمكن القضاء على هذه الآفة بمجرد الكشف عن أضرارها وسلبياتها، بل لابدَّ إلى جانب ذلك من إيجاد دافع إيماني، يطال النفس ويحاسبها ويؤنِّبها، إلى جانب الوازع القانوني والتوجيهي.(2/408)
وقد أقام الإسلام سائر أنظمته الاقتصادية على أسس واقعية إيمانية دون أن يُحدث هِزَّة اجتماعية أو اقتصادية في المجتمع العربي آنذاك. فهو دين يرعى مصالح الجميع، ويتعامل مع الأمور بمنطقية وحكمة، لذلك لم يطالب المسلم بعد تحريم الرِّبا بردِّ جميع ما كان قد كسبه منه في حياته السابقة، لأن في ذلك إرهاقاً له قد يعجز عن تحمُّله، والإسلام يَجُبُّ ما قبله ويفتح صفحة جديدة للتعامل بين الناس. أمَّا من أحبَّ أن يطهِّر ماله ويزكِّيه، وكان ذلك في وُسْعه، فإنَّ ردَّه أَوْلى وأجدر وأكثر زُلفى إلى الله. وأمَّا من عاد إلى ما كان عليه من أكل الرِّبا والتعامل به، فأولئك لم يغمر الإيمان قلوبهم بعد، ولهم جزاؤهم عند ربِّهم؛ إذ أنه لا يمكن للإثم أن يجتمع مع الإيمان الَّذي يملأ النفس خوفاً ورهبة من عقاب الله تعالى.
وتُمْعِنُ الآية الكريمة في التحذير من الرِّبا والتنفير منه، فتشير إلى أن الله يُذْهِبُ بركة المال المأخوذ عن طريقه، ويُهلك المال الَّذي يدخل فيه. فالرِّبا يمحق المتعة وبسطة العيش والجاه والمنزلة الَّتي يطلبها الناس بزيادة المال، بل يصل بصاحبه إلى نقيض ذلك من الهموم والأحزان والحبِّ الشديد للمال، ومقت الناس واحتقارهم، وبذلك لا يتسنَّى له أن يقطف ثمرة المال المقصودة في الحياة، وهي أن يكون ناعم البال، عزيزاً شريفاً بين الناس، لكونه مصدر الشرِّ لهم، كما يكون محروماً في الآخرة من ثواب الله متعرِّضاً لعقابه.
أمَّا الصَّدقة فالله يزيدها وينمِّيها أضعافاً مضاعفة، ويورث صاحبها البهجة حينما يرى سرور البائسين وفرحهم بصنائعه، فيكثر أحبابه والداعون له بالليل والنهار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد مسلم يتصدَّق بصدقة من كسبٍ طيِّب ـ ولا يقبل الله إلا طيِّباً ـ إلا كان الله آخِذَهَا بيمينه فيربيها كما يربِّي أحدكم فصيله حتى تبلغ التمرة مثل أحُد» (رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه).(2/409)
وفي الختام، وبعد أن تطوَّرت سُبُل بيع وشراء البضائع والعقارات وغيرها، وطرائق تسديد قيمتها، وظهور المصارف التجارية كوسيط لا غنى عنه في هذا التبادل التجاري، لابدَّ من وقفة شجاعة للبحث في التسهيلات المصرفية، والرسوم المستوفاة، والأرباح الحاصلة، والتفريق بينها وبين الاستغلال والجشع، وإهدار كرامة الإنسان، وهذا مانرجو أن تحققه المصارف الإسلامية، قولاً وفعلاً، دون كسب عواطف المسلمين بشعارات برّاقة؛ تضيع معها رغبة الشارع الحكيم في تحقيق الأمن الاقتصادي للجميع ودون الخروج عن دائرة الحلال إلى الحرام.
الفصل الرابع:
تحريم أكل المال بالباطل
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ولا تأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالباطِلِ وتُدلوا بها إلى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فريقاً من أموالِ النَّاسِ بالإثمِ وأنتُم تعلمون(188)}
ومضات:
ـ العدالة هي الميزان الَّذي يضبط سائر المعاملات والعلاقات بين البشر، والجنوحُ إلى الظلم، إخلال بهذا الميزان، من شأنه أن يُشيع الفوضى والاضطراب بينهم، وينزع الثقة من صدورهم تجاه بعضهم بعضاً.
ـ الحاكم أو القاضي يحتلُّ دوراً شديد الأهمِّية والخطورة، إذ أن مهمَّة إقامة العدالة ملقاة على كاهله بالدرجة الأولى، ممَّا يُخضِع مسألة اختيار القاضي من قِبَلِ المجتمع لشروط ومعايير دقيقة. وعلى القاضي أن يعي حقيقة مسؤولياته، ويعمل على أن يكون جديراً للاضطلاع بها، قادراً على قهر أيِّ محاولة لإغرائه أو الضغط عليه، بل ومجاهداً من أجل نُصرة الحقِّ والعدالة.
في رحاب الآيات:
إن طبيعة المعاملات الفردية تنعكس على المجتمع ككل، فإذا حُفظت الحقوق بين الأفراد ظهر المجتمع سليماً معافى ممَّا يشجِّع المجتمعات الأخرى المجاورة له على احترامه والتعامل معه، وإذا هُدرت هذه الحقوق، ظهر المجتمع مريضاً متفكِّكاً، وحَمَل المجتمعات الأخرى على الاستهانة به والتطاول عليه.(2/410)
ولا يمكن للإنسان بصفته فرداً في المجتمع أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا توافرت له جميع عناصر النُّمو، في مناخ تتساوى فيه الحقوق والواجبات، وفي طليعتها حقُّ التملك، وهو حقٌّ واجب له بصفته إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه. وقد احترم الإسلام هذا الحقَّ وعدَّه مقدَّساً، لا يحلُّ لأحد أن يعتدي عليه؛ فقد خطب رسول الله r الناس في حجَّة الوداع، وبعد أن وجَّهَ انتباههم إلى حرمة اليوم الَّذي هم فيه، وحرمة الشهر الَّذي هم فيه، وحرمة البلد الَّذي هم فيه، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم» (متفق عليه). وبناءً على ذلك فقد عُدَّ كلُّ مال أُخذ بغير سبب مشروع تعدِّياً على حقوق الإنسان وكرامته؛ كالسرقة والغصب والاختلاس والربا والغش وتطفيف الكيل والوزن والرشوة.
وجعل إقامة العدل قيمة عليا من قيمه، وهي تعني إشاعة الطمأنينة في المجتمع ونشر ظلال الأمن فيه، بما يوثِّق علاقات الأفراد فيما بينهم، ويعمِّق الثقة بين الناس. والعدلُ هو الحُكم بمقتضى ما شرَّع الله من أحكام، وإقامة النظام القضائي الَّذي جاء به الإسلام، وجعله جزءاً من تعاليمه وركيزة من ركائزه الأساسية.
وقد نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، والتقاضي بخصوصها أمام ذوي النفوذ والسلطة، اعتماداً على المغالطة والبراعة في القول، أو من خلال التلاعب بالألفاظ واستغلال العواطف، أو اللجوء إلى الرشوة، أو التستُّر على الحقائق، ودفع القاضي ليقضي بما يظهر له ممَّا هو بعيد عن الحق.(2/411)
على أنَّ حُكْمَ القاضي بما يظهر له لا يرفع إثماً عن منتهك حرمة ما حرَّم الله، ولا يخلِّص من عقاب الآخرة، لأن حكمه لا يُحِلُّ حراماً ولا يحرِّم حلالاً. قال صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النَّار» (رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أم سلمة رضي الله عنها) فإذا ادَّعى إنسان على آخر ادِّعاءً، وأقام الشهادة والحجَّة على دعواه فحكمَ القاضي له، فإنه يُتاح له أن يأخذ ما حكم به القاضي طالما أنه جاء بالبيِّنة، فإذا كانت هذه البيِّنة كاذبة، كاستشهاده بشهداء زور، فإن الحكم الَّذي حصل عليه لا يُحلُّه من الإثم، ولا يُنجيه من العقاب، ولا يُبيح له أن يأخذ حقَّ غيره لأن هذا اعتداء وبغي، فالقاضي يأخذ بالظاهر والله يتولَّى السرائر.(2/412)
إنَّ كُلاً من الراشي والمرتشي لا حظَّ لهما من رحمة الله، لأن الرشوة تُفسد أداة الحكم، وتدفع المنحرفين من القضاة للتلاعب بالأحكام والانقياد للهوى فيضلُّون عن الحقِّ، وإذا وصلوا إلى هذا الدَّرْك ولم يجدوا من يقوِّم انحرافهم، ألقَوْا بالأمَّة إلى التهلُكة، قال صلى الله عليه وسلم : «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» (رواه أحمد وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان). ولقد نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، وتقديمها إلى القضاة للاستعانة بهم بغير حقٍّ، فقد روى مسلم عن أبي أمُامة y أن رسول الله r قال: «من اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النَّار وحرَّم عليه الجنَّة. فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يارسول الله؟ فقال: وإن كان قضيباً من أراك». وغنيٌّ عن القول أن هذا الحديث وإن خصَّ المسلم، إلا أنه يمكن تعميمه لحفظ حقوق جميع الناس، مهما كانت جنسياتهم ودياناتهم، بدليل الأحاديث الشريفة الأخرى في هذا المجال، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : «من ظلم معاهَداً، أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه ـ خصمه ـ يوم القيامة» (رواه أبو داود) علماً بأن أيَّ عمل مجيد، ولو بلغ الاستشهاد في ميدان الجهاد، لا يكفِّر خطيئة أخذ المال بغير حق.(2/413)
والآية تلقي بالمسؤولية العظمى على كاهل القاضي كي يكون أميناً في حُكمه، عادلاً في قضائه، متقصِّياً للحقيقة، ومبتعداً عن التحيُّز. وتُهيب به ألا يقبل هدية أو رشوة في قضية ما، لأنها لا تتعدَّى كونها متاعاً زائلاً ومالاً حراماً يعقبه العقاب الشديد، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله مع القاضي ما لم يجُر، فإذا جار تخلَّى الله عنه ولزمه الشيطان» (رواه ابن ماجه والترمذي)، وهذا ينطبق على سائر العاملين بالقضاء، ممَّن يمكن لهم أن يُدلوا بدلوهم في توجيه الحكم في حقوق الناس نحو هذا الطرف أو ذاك، سواء كانوا محامين أم شهوداً أم محكَّمين أم مستشارين.
ولم يترك الإسلام القضاة لأهوائهم، بل حذَّرهم وهدَّدهم أفظع تهديد إن هم انساقوا وراء أهوائهم وشهواتهم فظلموا عباد الله، قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامينَ لله شهداءَ بالقِسْطِ ولا يجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تعْدِلوا اعدِلوا هوَ أقربُ للتَّقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون} (5 المائدة آية 8).
وقال النبي r محذِّراً من القضاء بغير علم ومن الجور والمحاباة: «القضاة ثلاثة واحد في الجنَّة واثنان في النَّار، فأمَّا الَّذي في الجنَّة فرجل عرف الحقَّ وقضى به، وأمَّا الَّذي في النَّار فرجل عرف الحقَّ فجار في الحكم فهو في النَّار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النَّار» (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن بريدة عن أبيه).
الفصل الخامس:
تحريم التطفيف
سورة المطففين(83)
قال الله تعالى: {ويلٌ للمُطَفِّفين(1) الَّذين إذا اكْتالوا على النَّاسِ يَستَوفون(2) وإذا كالوهُم أو وزنوهُم يُخْسِرون(3) ألا يَظنُّ أولئك أنَّهم مبْعوثون(4) ليومٍ عظيم(5) يومَ يَقومُ النَّاسُ لربِّ العالَمين(6)}
ومضات:(2/414)
ـ إن الأمانة في التعامل التجاري مبدأ هامٌّ وحيوي، وقد أعدَّ الله تعالى عذاباً أليماً لمن يتلاعب بحقوق الناس، فيبخسهم أشياءهم بينما يستوفي حقَّه منهم كاملاً. ذلك لأنه غفل عن رقابة الله عليه وتناسى يوم الحساب، الَّذي تستسلم فيه الخلائق جميعاً لربِّ العالمين، وهي على غاية من الخشوع والذُّل والانكسار، تخشى حسابه وترتجي جنَّته.
في رحاب الآيات:
إذا ركب الطمع النفس البشرية، وأفقدها النَّهمُ إحساسها بحقوق الآخرين، أصبح همُّها الأوحد أن تكون السبَّاقة إلى الظفر بكلِّ شيء سواء أكان بحقٍّ أم بباطل، فيسيطر عليها حبُّ الذَّات فيعميها عن الحقِّ، فلا ترى إلا ذاتها. إن صاحب هذه النفس إذا باع شيئاً أكل من حقِّ المشتري فأنقص له الوزن أو الكيل، وإذا اشترى من أحد شيئاً زاد فيه، يتلاعب بالموازين، ويتغافل عن المعايير الأخلاقية والقِيَم الإنسانية الفاضلة، ولكن الله ليس غافلاً عنه بل لقد أعدَّ له عذاباً وخِزياً يوم القيامة، وقد يُعَجِّلُ له جزءاً من العذاب فيفضحه في دار الدُّنيا.
وعندما نزلت هذه الآية، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الصحابة وقال: «خمس بخمس، قيل: يارسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا فشا فيهم الموت، ولا طفَّفوا الكيل إلا مُنِعوا النبات وأُخِذوا بالسنين، ولا منعوا الزَّكاة إلا حُبس عنهم المطر» (رواه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه ).(2/415)
والملفت للنظر بأن هذه الآيات سواء كانت مكيَّة أم مدنيَّة، فالتصدِّي لشأن المطفِّفين كان بمثابة إعلان الحرب عليهم، وهم حينها من طبقة السادة وذوي النفوذ؛ حيث كانوا يمارسون التطفيف معتمدين على مركزهم ونفوذهم. فهم يكتالون {على الناس} لا من الناس، فكأنَّ لهم سلطاناً يجعلهم يستوفون بالمكيال والميزان بالقسر على أكثر من حقِّهم، دون أن يستطيع هؤلاء الناس منعهم أو الوقوف في وجههم.
فكان الإسلام بهذه الصيحة المبكرة موقظاً للجماهير المستَغَلّة، معرِّياً سادة مكَّة أو المدينة المهيمنين على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم. لذلك عارض هؤلاء السادة ـ مشركين أو منافقين ـ الإسلام دفاعاً عن مراكزهم ومصالحهم، وشنُّوا حرباً عليه لاهوادة فيها، لأنه يهدِّد كيانهم الزائف وسلوكهم المنحرف. هذه الحرب مازالت قائمة إلى يومنا هذا، في كل جيل وفي كلِّ أرض، والطغاة المطففون ـ في أيِّ صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات، وسواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو بين الدول القوية والدول الضعيفة ـ هم الَّذين يخافون أكثر من غيرهم ظهور ذلك المنهج النظيف العادل، الَّذي لايقبل المساومة ولا المداهنة، بل العدل المطلق لجميع الأفراد وجميع الشعوب، على اختلاف عروقها وأديانها.
تلك النفوس الجائرة، الجشعة الماكرة، لو أنها خفَّفت من غلوائها وتحرَّرت من أَسْر شهواتها، وفكَّرت مليّاً، لتذكَّرت بأن أمامها محكمة، قاضيها ربُّ العالمين، والقانون المعتمد فيها هو قانون العدل الَّذي قامت عليه السموات والأرض، حيث يُنصِف الله جلَّ وعلا عباده من جور بعضهم على بعض، ويُكافِئ المحسن، ويعاقب المسيء. إن هذه النتيجة الحتمية الَّتي لا مِراء فيها لجديرة بأن يقف المرء أمامها وقفة تأمُّل واعتبار، ومن ثَمَّ المسارعة إلى نبذ كلِّ ما نهى الله عنه، والتمسُّك بكلِّ ما دعا إليه سبحانه.
الفصل السادس:
الحَجْر على مال السفيه
سورة النساء(4)(2/416)
قال الله تعالى: {ولا تُؤْتوا السُّفهاءَ أموالَكُم الَّتي جعَلَ الله لكم قِياماً وارزُقُوهُمْ فيها واكسُوهُمْ وقولوا لهم قَولاً معروفاً(5)}
ومضات:
ـ بما أن المال وسيلة للإعمار والبناء، فإن الإسلام حريص على ألا تتعطَّل هذه الوسيلة، لأن غايته النماء والازدهار لجميع الموارد، والرفع من سويَّة القوى المنتجة المعطاء، ليَسْعد الناس جميعاً في ظلال نِعم الله الوافرة وأرزاقه المستمرَّة.
ـ السفيه هو كلُّ من لم يستطع أن يجيد الرقابة على نفسه، أو المحافظة على المال بين يديه، أو الإنفاق بشكل إيجابي مثمر.
ـ الحَجْر على مال السفيه لا يعني إهانته أو إيذاءه، بل إن من شروطه توفير كرامته الإنسانية، وتلبية جميع متطلَّباته الَّتي شرعها الله تعالى.
في رحاب الآيات:
خير المال ما كان يؤدِّي عملاً نافعاً مثمراً يساهم مساهمة فعَّالة في إنعاش اقتصاد الأمَّة وازدهارها. فالمال أمانة استودعها الله في أيدي عباده، فمن أساء استعماله فصرفه في غير موضعه، يعدُّ هادماً لأركان هذا الاقتصاد وبالتالي فهو سفيه يجب الحجر عليه. والسفيه في نظر الإسلام هو كلُّ من لا يُحسن التصرُّف في ماله؛ سواء كان السفه بسبب ضعف الملَكَات العقلية، أو كان بسبب ضعف الإيمان، وتبديد المال في المآثم.
والحَجْر: منع الإنسان من التصرُّف بماله، حفظاً لمصلحته وصيانةً لهذا المال، كالحجر على الصغير كيلا يُتلفه، والمبذِّر كيلا يبدِّده، والمجنون كيلا يضيِّعَه أو يُسرَق منه؛ لأنهم عاجزون عن إدراك القيمة الحقيقية للمال الَّذي بين أيديهم. والحجر معناه ألا ينعقد للمحجور عليه بيع ولا شراء، وألا يَصِحَّ له إقرار، فيُسلب بذلك حقَّ التصرُّف بالمال، دون حقوقه الإنسانية الأخرى في الكرامة والحياة، ويُستحبُّ إظهار الحجر على السفيه، حتَّى يتبيَّن الناس الأسس المالية الَّتي يتعاملون معه من خلالها.(2/417)
والولاية على اليتيم، أو الصغير، أو المجنون تكون للأب فإن لم يكن موجوداً انتقلت إلى الوصي، فإن لم يكن هناك وصي انتقلت إلى القاضي الشرعي. وبالمقابل فإن انتقال المال إلى الولي يُرَتِّبُ عليه مسؤوليات هامَّة، إذ أن عليه أن يحفظ المال ويستثمره ويزيده كأنَّه ماله، وأن يؤمِّن للمحجور عليه كفايته من تكاليف الطعام والمأوى والزواج والكسوة. وعليه أن يحسن له القول كأن يقول له: إن المال مالك وما أنا إلا خازن له إن كان صغيراً، وإذا كان سفيهاً وَعَظَه ونصحه ورغَّبه في ترك الإسراف، وعرَّفه أن عاقبة ذلك الفقر، على أن يحاول الارتقاء بتفكيره ليعود سويّاً قادراً على التصرُّف في ماله بنفسه.
واستطراداً نقول: بما أن الإسلام يهدف إلى بناء المجتمع السليم المترابط، ويحجر على السفيه؛ فهو بالتالي لا يتغاضى عن مقامر يبدِّد أمواله على موائد القمار، أو عن مفتون بموائد الخمرة والنساء، أو عن مدمن للمخدِّرات، حيث أن تصرُّفات هؤلاء وأمثالهم تبدِّد القوى المنتجة المعطاء، وتضعهم في قائمة السفهاء الَّذين يتوجَّب الحجر عليهم ومراقبتهم، ففي الإسلام لا حرِّية بلا حدود، وإنما حرِّية موجَّهة في حدود عدم إيذاء صاحبها أو من حوله في المجتمع.
-----------------
الباب العاشر -الدعوة إلى دين الله
الفصل الأوَّل : المَحاورُ العامَّة الَّتي تدور حولها مهمَّة الدعوة:
آ ـ التوجُّه إلى حقيقة الإيمان وجوهر الإسلام
ب ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفصل الأوَّل:
المحاور العامَّة الَّتي تدور حولها مهمَّة الدعوة
آ ـ التوجُّه إلى حقيقة الإيمان وجوهر الإسلام
سورة الروم(30)
قال الله تعالى: {فأَقِمْ وَجهَكَ للدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عليها لا تبديلَ لخَلْقِ الله ذلك الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمون(30)}
ومضات:(2/418)
ـ لو تُرك الحسُّ الدِّيني عند الطفل ينمو بشكل حيادي دون مؤثِّرات خارجية سلبية لتوافقت طبائعه مع التربية الدِّينية، لأن كلَّ مولود يولد على الفطرة، وهذه سنَّة الله في خلقه، وليس لسنَّة الله تبديلاً.
ـ إن جهل الناس بقِيَم الدِّين الحقِّ وأهدافه السامية في إقامة المجتمع الفاضل، واتِّباعهم نهج المجتمع المنحرف الَّذي يعيشون فيه، يُبعدهم عن دين الله، فإن لم تُتَح لهم فُرص التعرُّف عليه، فسوف يخبطون في الحياة خبط عشواء، ولا ينعمون بأمن أو طمأنينة أو سلام.
في رحاب الآيات:
تعدُّ الآية موضوع البحث دعوة عامَّة لكلِّ إنسان على هذه الأرض ليبرمج حياته كلَّها وفق تعاليم الدِّين الحنيف، ويتوجَّه إليه قلباً وقالباً. فهذا الدِّين هو العاصم من الأهواء الَّتي لا تستند إلى حقٍّ، ولا تستمدُّ من علم، إنما تتبع الشهوات والنزوات بغير ضابط ولا دليل، فهي طرق متفرقة متشعِّبة لا يجوز للعاقل أن يسير فيها لئلا يضل، وإنما ينبغي أن يبقى مستقيماً مبتعداً عن كلِّ سلوك يضلُّه ويؤدِّي به إلى الخسران.(2/419)
ولو أننا أمعنَّا النظر في جوهر الدِّين، لرأينا فيه سعادة الإنسان المفطور أصلاً على التلاؤم معه وعلى عشق هذه السعادة الصافية النقية، الَّتي تشعُّ منه لتشمل الإنسان ومن يلوذ به من قريب أو بعيد، ثمَّ تأتيه الظروف، والعوامل الخارجية الَّتي تجرفه عن نقاء هذه الفطرة، يقول صلى الله عليه وسلم : «مامن مولودٍ إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وبذلك يربط القرآن الكريم بين فطرة النفس البشرية وتعاليم الدِّين، فكلاهما من صنع الله الَّذي أحسن كلَّ شيء خَلَقه، وكلاهما موافق لناموس الوجود، وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الَّذي خلق الإنسان هو الَّذي أنزل إليه هذا الدِّين ليهديه ويرشده، ويحميه من الأمراض ويقوِّمه من الانحراف، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
فالفطرة ثابتة والدِّين ثابت، فإذا ما انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردَّها إلا الدِّين المتناسق معها، لذلك تتبعثر جهود جميع المدارس الفكريَّة الَّتي تلهث وراء سعادة الإنسان بعيداً عمَّا فُطر عليه وتضيع سدىً. لكنَّ انغماس الإنسان في حمأة المادَّة، وأدران الرذيلة، وبُعده عن تعاليم الله يحجب عنه نور الإيمان، ويجعل قلبه في معزل عن معرفة الحقِّ، وهذا الَّذي وصفته الآية الكريمة: {ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلَمون} فيتبع الهوى بغير علم، ويضلُّ عن الطريق الموصل إلى النجاة على الرغم من استقامة هذه الطريق ووضوحها، ويختار الطرق الملتوية الَّتي تؤدِّي إلى سوء العاقبة والندامة، فهو في حاجة إلى صحوة سريعة تنجيه ممَّا هو فيه، وتضع قدميه على طريق السعادة والنجاح.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {صِبغَةَ الله ومن أحسنُ من الله صِبغَةً ونحنُ له عابِدُونَ(138)}
ومضات:(2/420)
ـ الإيمان الَّذي يلتقي مع قناعة العقل الحرِّ والمنطق السليم هو عطاء الله النوراني، الَّذي صبغ به عباده الأخيار الَّذين اختاروا الاستجابة لدعوة الله، فظهر أثر هذا العطاء في سلوكهم كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
ـ تنعكس ملامح هذه الصبغة في أعمال المؤمنين، وتتجلَّى بوضوح في عبادتهم الحقَّة لله عزَّ وجل المبنيَّة على توحيده وطاعته.
في رحاب الآيات:
عندما يتغلغل الإيمان بالله عزَّ وجل في القلوب الصافية، فإنه يصبغها بألوان وظلال من الحبِّ والخير تفيض على من حولها من الخلق. وهذا الإيمان هو منحة الله تعالى يهبها لمن فتحوا عقولهم وبصائرهم أمام نور الحقيقة، والَّذي يوافق القناعة الحرَّة النقية من الخرافة والتقليد الأعمى. فإذا نفضنا غبار المعتقدات الخرافية والتقاليد البالية الَّتي تتراكم عبر السنين، والَّتي يتوارثها الناس جيلاً بعد جيل على أنها قوانين لا يجوز اختراقها ولا تجاوزها، لوجدنا العقل الإنساني الرشيد متفتِّحاً ومستعداً لتقبُّل الحقيقة الَّتي فُطر الإنسان عليها، وهي وحدانية الله عزَّ وجل، والتسليم بها. ولوجدنا القلب الإنساني كذلك مسكناً تُشِعُّ فيه الأنوار الإلهية، ويستقرُّ فيه الإيمان، لينعكس بعد ذلك أعمالاً وأخلاقاً تتبدَّى جلية في محبَّة الإنسان لأخيه الإنسان، والتعاون معه على إعمار الأرض بالعقل الإيماني، والإيمان العقلاني، والعلم المُسْعِد، وبناء الأخلاق الفاضلة، وهذا كلُّه يتمُّ ضمن إطار قوله تعالى: {ونحن له عابِدون} أي العبادة الحقيقية لله عزَّ وجل.(2/421)
ولقد توالت الرسالات السماوية، من عصر إلى آخر، لترسِّخ هذا الإيمان في قلوب الناس وتشحذ هممهم لينطلقوا إلى نشر التعاليم الإلهية الَّتي تحمل الخير والسلام للناس كافَّة. ولئن اختلفت بعض الأحكام والتشريعات من رسالة سماوية إلى أخرى، على الرغم من وحدة منشئها جميعاً، فإن هذا الاختلاف كي تلبِّي حاجات الناس الحقيقية في العصر الَّذي جاءت فيه، وهي تختلف من عصر إلى عصر، إلا أن جوهر الشرائع السماوية الإلهية جميعاً يقوم على عقيدة التَّوحيد الَّتي لا يصح الدِّين دونها. ومهمَّة الدعاة إلى الله هي إيصال هذه العقيدة إلى الناس كافَّة، وتعريفهم إيَّاها بالشكل السويِّ الَّذي يحبُّه الله، وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة، وهي إخلاص العبادة لله وحده، بعيداً عن الأهواء، خاصَّة وأنَّ الإنسان عدوُّ ما جهل، وأن أكثر الناس لا يعلمون بأن الدِّين جاء لتحقيق مصلحتهم وإعلاء شأنهم ونشر السلم والإخاء بينهم، فيسعدون حاضراً في دنياهم ويسعدون مستقبلاً في أخراهم.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {الَّذين آمنوا ولم يَلْبِسوا إيمانَهُم بظُلْمٍ أولئك لهم الأمْن وهم مهتدون(82)}
ومضات:
ـ المؤمن الحقُّ هو الَّذي لا يشوب إيمانه بما يعكر صفوه من إساءة لنفسه أو للآخرين.
ـ الأمن مُحصِّلةُ الإيمان الحقيقي الَّذي يكون بمثابة منارة تضيء دروب التائهين، وتهديهم إلى بَرِّ السلام والمحبَّة والإخاء.
في رحاب الآيات:(2/422)
كلُّ مخلوق سويٍّ على وجه البسيطة يحبُّ أن يرى الأشياء على صفائها ونقائها الَّذي فُطرت عليه، إنْ في ذاته أو في الموجودات حوله. فإذا ما استيقظ ذات يوم وشعر بأن شمس قلبه قد توارت بحُجب الغفلة والذنوب، ضاقت نفسه، وبادر بالتوسُّل إلى خالقه كي يكشف عنه هذه الحجب. فشأنه في هذا شأن من قُدِّم إليه كأس ماءٍ فجعل يُقَلِّب نظره فيه؛ فإن رآه متألِّقاً صافياً استحبَّته نفسه، وأقبلَ على شربه، وإن وجده شائباً متَّسخاً عافته نفسه، فأعرض عن تناوله.
فإذا كان الإنسان المخلوق يعشق النقاء والصفاء بهذا الشكل، ويتوخَّاه في مأكله ومشربه وملبسه، وفي بيته وعمله، فكيف بالخالق العظيم المبرَّأ من النقائص والعيوب، والمنزَّه عن الأشباه والنظائر، هل يرضى من عباده أن يرفعوا إليه إيماناً مزيَّفاً تُعَكِّرُ صفاءه الشوائب، وتشوِّه نقاءه الأخلاط؟.
لذلك كان علينا بوصفنا مؤمنين موحِّدين لله عزَّ وجل أن نصحِّح مسيرة إيماننا ونطهِّره من كلِّ ما علق به من شوائب جرَّاء جهلنا وسوء تصرفنا وغفلتنا عن القيادة الحكيمة الَّتي غابت عن بصائرنا. فالمرشد لنا هو الله تعالى الَّذي يمنحنا الأمن والهداية كثمرتين لالتزامنا بأمرين اثنين:
الأوَّل: أن نؤمن به إيماناً عميقاً، صافياً، خالصاً، بأنه ربُّنا وخالقنا والمستحقُّ وحده لعبادتنا وتوجُّهنا، وأنه وحده النافع والضارُّ، فما يكون لأحد غيره سلطانٌ علينا في شيء لم يقدِّره تعالى لنا، وهو الرزَّاق الَّذي بيده خزائن كلِّ شيء فلا نلتمس الرزق من غيره.
والثاني: أن لا يشوب إيماننا ظلم ولا ظلمة، كالشرك الَّذي يجعل قلوب بعض الناس معابد تنتصب فيها أصنام شتَّى من المتعلَّقات المادِّية والحسِّية كالمال والأهل والناس، والمتعلَّقات المعنوية كالهوى والنفس والشهوة، فما دام التعلُّق بواحد منها أقوى من التعلُّق بالله كان الإيمان ناقصاً مشوباً.(2/423)
فالإيمان هو تنفيذ مراد الله وإيثاره على ما نريد ونهوى، أما الإشراك فهو أن نرغب عن تنفيذ مراد الله ونؤثر ما تريده أنفسنا وأهواؤنا، فنقع في الظلم؛ لأننا أسأنا بهذا الإشراك إلى أنفسنا ونحن نظنُّ أننا نحسن صنعاً، فنتردَّى في مهاوي الضلال، ونعيش في ضياع وتشتُّت وتمزُّق بعد أن قطعنا حبال الصلة الَّتي كانت تربطنا بالله، وبعد أن ضللنا الطريق الَّتي كانت تسلك بنا إلى ينابيع عطائه وإمداده. فأيُّ ظلم أشدُّ من هذا الظلم؟! وأية خسارة أبلغ من هذه الخسارة؟! ولهذا فقد وصف الله لنا الإشراك به على لسان لقمان حين قال لابنه: {..يابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بالله إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيم} (31 لقمان آية 13) وكذلك قوله تعالى في آية أخرى: {..وقد خابَ من حَمَلَ ظُلْماً} (20 طه آية 111) (حمل ظلماً: أي شِركاً وكُفْراً).
فالله جلَّ وعلا هو المؤمن والسَّلام، وقد وهب قبساً من هذه الصفات جميعها لعباده المؤمنين المتَّقين، الَّذين نزَّهوه وعبدوه كما ينبغي لجلاله وكماله، فأفاض عليهم من خيره ما ذكرته الآية الكريمة: {ولِمن خافَ مقامَ ربِّه جَنَّتان} (55 الرحمن آية 46) جنَّة في الأرض وجنَّة في السماء، جنَّة الهدى والرضا في الدنيا، وجنَّة النعيم في الآخرة ومَنْ أصدق من الله قولاً؟.
ولابدَّ لنا أن ننوِّه أن للظلم مظاهر شتَّى يتجلَّى فيها لدى مُدَّعي الإيمان، حيث يصيبه الكِبْر والخُيَلاء والشعور بالفوقية ممَّا يجعله يتحامل على الآخرين بسبب تقصيرهم أو جهلهم. وهذا التحامل هو الظلم بعينه، والمؤمن الحقيقي كلَّما ازداد إيماناً ازداد رحمة وتواضعاً للآخرين، وبذلك يشعر كلُّ من يلوذ به بالأمن والأمان، والراحة النفسية والاطمئنان.
سورة الحُجُرات(49)(2/424)
قال الله تعالى: {قالتِ الأعرابُ آمنَّا قُلْ لم تُؤمِنوا ولكنْ قولوا أسلَمنا ولمَّا يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِكُم وإن تُطيعوا الله ورسولَهُ لا يَلِتْكُم من أعمالِكُم شيئاً إنَّ الله غفورٌ رحيم(14) إنَّما المؤمنونَ الَّذين آمنوا بالله ورسولِهِ ثمَّ لم يرْتابوا وجاهدوا بأموالِهِم وأنفسِهِم في سبيلِ الله أولئك هم الصَّادقون(15)}
ومضات:
ـ كلُّ من ابتعد عن روح الإيمان غدا كأعرابي جاهل، وتبقى روحه عارية عن كسوة الإيمان، الَّذي هو يقين يستقرُّ في القلب، ويقتلع منه كلَّ جذور الشكِّ والريبة بالرسالة والرسول، ولا يكفي المرء أن ينسب نفسه للإسلام ليكون مؤمناً حقيقياً، بل إنَّ عليه أن يجسِّد اعتناقه للإسلام عملاً وواقعاً بطاعة الله ورسوله.
ـ المؤمن الحقيقي يسير في طريق الدعوة وهو كامل الثقة بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ينفق ماله ويبذل روحه في سبيل إشادة بناء الإيمان والسَّلام والإخاء العالمي، فيستحقُّ بذلك لقب المجاهد الصَّادق.
في رحاب الآيات:(2/425)
ادَّعى سكان البادية زمن الرسول r بأنهم آمنوا، وردَّ الله تعالى عليهم وعلى من كان على شاكلتهم في كلِّ زمان ومكان بأنهم لم يؤمنوا بعد، ولكنَّهم مازالوا معتقدين فقط بالإسلام، وبصحَّة نبوَّة الرسول الكريم. فالإيمان الحقيقي: إضافة إلى ما تقدَّم هو التطبيق العملي لتعاليم الإسلام قلباً وقالباً، روحاً وجسداً، ولا يمكننا الوصول إليه، ونحن بمنأى عن الصلة المادِّية والروحية بالنبي محمَّد عليه السلام، لأن في القرب منها علماً وتعلُّماً وأخلاقاً وتزكيةً، وكلَّما اقتربنا منه r حباً وصدقاً وإخلاصاً، كلَّما ارتشفت قلوبنا من أنوار الهداية، وتغذَّت عقولنا بثمار العلم، واشتدَّت هممنا في العمل المجدي البنَّاء. وليس المقصود في هذه الآية التفرقة بين أهل المدن وأهل البادية، بل القصد هو إثبات قرب أهل المدينة منه r وابتعاد أهل البادية عنه، ذلك القرب الَّذي كان يهيِّئ لصحابته المحيطين به إمكانية التأسِّي به صلى الله عليه وسلم ، والالتزام بمدرسة التعليم والهداية قولاً وعملاً؛ أما الأعراب فهم في باديتهم مشغولون.(2/426)
وبهذا المعنى يبقى الناس وعلى مرِّ العصور أعراباً ولو سكنوا المدن والقصور، ما لم يلتزموا برياض العلم والعلماء، وما لم توصلهم محبَّتهم لرسول الله إلى طاعة أوامر الله تعالى، والالتزام بسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممَّا يؤهِّلهم لأن يتقبَّل الله تعالى أعمالهم كاملة غير منقوصة. أخرج ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» وهذا لا يحصل إلا بعد الدخول في مدرسة العمل، لأن الإيمان تصديق قلبي واطمئنان نفسي وسلوك عملي في طريق التربية وتهذيب النفس. ومع هذا فإنَّ كَرَمَ الله اقتضى أن يجزي الطائعين على كلِّ عمل صالح يصدر عنهم، فلا ينقص من أجرهم شيئاً ما استقاموا على الطاعة والتسليم. وهو تعالى ستَّار للهفوات، غفَّار لزلاَّت من تاب وأناب، وأخلص له، رحيم به فلا يعذِّبه بعد التوبة. أما من أقرَّ بالإسلام واكتفى من تعاليمه بالأماني، وأصرَّ على أعرابيَّته، فلم يكلِّف نفسه مشقَّة الالتزام بأحكام الإسلام وتكاليفه فله تهديد الله تعالى بقوله: {الأعرابُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً وأجْدَرُ ألاَّ يعلموا حُدودَ ما أنزلَ الله على رسولهِ والله عليمٌ حكيم} (9 التوبة آية 97).
ثم يُبيِّن الله تعالى صفة المؤمنين الصادقين الَّذين صدقوا الله ورسوله، ثمَّ لم يتشكَّكوا، ولم يتزعزعوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وبذلوا مُهَجهم، ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، وتسلَّحوا بسلاح الصَّبر في مقاومة التجارب القاسية، والابتلاءات الشديدة. والتعبير على هذا النحو ينبِّه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق، وأخطار الرحلة لتحزم أمرها، وتحتسب معاناتها، وتستقيم، ولا ترتاب عندما يَدلَهمُّ الأمر، ويظلم الأفق، فالله تعالى وصف المؤمنين الصادقين بثلاثة أوصاف:(2/427)
الأوَّل: التصديق الجازم بالله ورسوله.
والثاني: عدم الشكِّ والارتياب، بل اليقين المبني على العلم والحكمة وتزكية النفس.
والثالث: الجهاد بالمال والنفس، وهذا يتطلَّب الجُهد الحثيث للحصول على المال الحلال، وتكريسه في سبيل الله، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصَّادق.
وبهذا ندرك أنه لكي ينتقل الإنسان من أعرابيَّته إلى حضريَّته فعليه أن يؤمن إيماناً راسخاً عميقاً وكاملاً بالله ورسوله، إيماناً لاشكَّ بعده ولا زيغ، إيماناً يدفعه لأن يكون على استعداد لتقديم كلِّ ما يملك في سبيل الله، بكلِّ صدقٍ ومحبَّةٍ وتفانٍ، إيماناً لا يدع مجالاً لحبٍّ يغلب على حبِّ الله تعالى ورسوله وتكاليف الإسلام، قال الله تعالى: {قُل إن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَونَ كسادَها ومساكنُ ترْضَونَها أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ وجهادٍ في سبيله فتربَّصوا حتَّى يأتيَ الله بأمرهِ والله لا يهدي القومَ الفاسِقين} (9 التوبة آية 24).
سورة الحُجُرات(49)
قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عليك أن أسْلَموا قُلْ لا تَمُنُّوا عليَّ إسْلامَكُم بلِ الله يَمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمانِ إن كنتم صادقين(17)}
ومضات:
ـ أعطى الله تعالى البشر العقل المميِّز، والروح الصافية، والعواطف المتنوِّعة، والحواسَّ المدركة، وأرسل لهم الرسل والأنبياء لتبيان طريق الإيمان، فإن هم تلَقَّوا دعوة الهداية فاستجابوا لما فيه خيرهم؛ فأيُّ فضل لهم أو منَّة على الله أو رسوله؟!.
ـ المنَّة الحقيقية والفضل الكامل لله ربِّ العالمين في كلِّ ما منحه للخلائق من عناية ورعاية، وأسباب موصلة للسعادة، لأن التوفيق للهداية والإيمان أثمن نِعَمِ الله على الإطلاق.
في رحاب الآيات:(2/428)
لقد مَنَّ بعض المسلمين على رسول الله r اعتناقهم للإسلام، فجاءهم الردُّ بأن المنَّة ليست لهم في شيء بل منَّة الله عليهم في هدايتهم للإيمان كبيرة، وعليهم أن يبرهنوا عملياً على صدق إيمانهم. ونحن نقف أمام هذا الردِّ الَّذي يتضمَّن حقيقة جلية يغفل عنها كثير من النَّاس، وقد يغفل عنها بعض المؤمنين أيضاً؛ وهي أن الإيمان يعدُّ كُبرى النِّعم الَّتي يُنعم الله بها على عباده في الأرض بعد نعمة الإيجاد الَّتي منحها لهم، ويلحق بها سائر ما يتبعها من الآلاء كالرزق والصحَّة والحياة والمتاع وغيرها. إنها المِنَّة الَّتي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميَّزة، وتجعل له في نظام الكون دوراً أصيلاً عظيماً. وأوَّل ما يمنحه الإيمان للكائن البشري هو سعة تصوُّره لهذا الوجود، ولارتباطاته به، ودوره فيه، وشعوره بقيمته وكرامته، وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يُرْضي الله تعالى، ويحقِّق أسباب السعادة الشاملة. فالإيمان يوسِّع أفق المؤمن ويعمِّق معرفته بما يجري حوله، فيرى أن الدُّنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجزيٌّ على الصغيرة والكبيرة، وأنه لم يُخلق عبثاً، ولن يُترك سدىً، وبهذه المعرفة تختفي من نفسه مشاعر القلق الناشئة عن الجهل بحقائق المنشأ والمصير.(2/429)
فالمؤمن يعرف بقلب مطمئن أنه يلبس ثوب العمر بقَدَرِ الله الَّذي يصرِّف الوجود كلَّه تصريف الحكيم الخبير، وأن اليد الَّتي ألبسته إيَّاه أحكم منه، وأرحم به، قال الله تعالى: {الله خالقُ كلِّ شيءٍ وهوَ على كلِّ شيءٍ وكيل * له مقاليدُ السَّمواتِ والأرضِ والَّذين كفروا بآيات الله أولئك همُ الخاسرون} (39 الزمر آية 62ـ63). وقد يرتقي المؤمن في المعرفة الإيمانية فيقطع الرحلة، ويؤدِّي الدور في فرح واستبشار؛ شاعراً بجمال الهبة، هبة العطاء الإلهي، وهذا كسب عظيم في عالم الشعور والتفكير، كما أنه كسب في عالم الجسد والأعصاب، وهو كسب في جمال العمل والنشاط والتأثير. والإيمان قوَّة دافعة وطاقة مجمِّعة عجيبة، فما تكاد حقيقته تستقرُّ في القلب حتَّى تتحرَّك لتعمل ولتحقِّق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة. وهو يجعل صاحبه يستشعر العبودية المطلقة لله تعالى، فينسب له الفضل كلَّه، فالله جلَّ وعلا هو مصدر الهداية، وهو الَّذي أنعم على الإنسان بهذا التكوين الروحي والفكري والنفسي والجسدي، وهو الَّذي زرع بذور الإيمان والخير في أعماق النفس البشرية، وترك للإنسان حرِّية استخدام ما أوتي من قوى وإمكانات، وتسخيرها للتقرُّب من خالقه، وتنفيذ تعاليمه، واجتناب نواهيه. فلو أعطانا قوَّة العقل وسلبنا قوَّة الإرادة لما استطعنا تنفيذ تعاليمه، ولو أعطانا قوَّة الروح وسلبنا قوَّة الحركة لما كان بإمكاننا تطبيق شريعته. وبهذا فإن الله تعالى قد سخَّر كلَّ الإمكانات للإنسان، وجعله مُثاباً على تحريكها ومعاقَباً على تعطيلها.
ب ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وَلْتَكُن منكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرُونَ بالمعرُوفِ ويَنهَونَ عنِ المُنكَرِ وأولئك هُمُ المُفلِحُون(104)}
سورة آل عمران(3)(2/430)
وقال أيضاً: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاسِ تأمُرُونَ بالمَعرُوفِ وَتنهَونَ عنِ المُنكَرِ وتؤمنونَ بالله.. (110)}
ومضات:
ـ لابدَّ من وجود علماء دعاة في كلِّ أمَّة؛ يحسنون دعوة أفرادها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، وينقذونهم من الانقياد للشهوات والوقوع في شباك الفواحش والمنكرات، ويقتلعون جذورها من نفوسهم.
ـ الخير: هو كلُّ سبب يؤدِّي إلى رقيِّ الإنسان روحيا ومادِّياً.. والمعروف: هو أصالة الأخلاق بصفائها ونقائها.. والمنكر: هو ما تعافه الأنفس السليمة من قول أو فعل أو عمل..
في رحاب الآيات:
لا يمكن للأمَّة المسلمة أن تكون خير أمَّة ما لم تأخذ زمام المبادرة في الانقياد التام لأحكام الإسلام، ومن ثمَّ نشر الفضيلة والعلم والإيمان العقلاني، والقضاء على مصادر الجهل والتخلُّف والفساد. هكذا كان الصحابة الأوَّلون، ولهذا شرَّفهم الله بمنزلة خير أمَّة؛ ولهذه المنزلة الرفيعة تبعاتها والتزاماتها، فهي لا تُنال ادِّعاءً، ولا يحظى بها إلا من تأهَّل لها بالتمسُّك الوثيق بمنهج القرآن الكريم، وإدراك مقتضياته. فالدور الَّذي ينتظر هذه الأمَّة يلقي على عاتقها الكثير من المسؤوليات، ويدفعها إلى السبق في كلِّ مجال، وعلى رأس هذه المسؤوليات صيانة حياة الناس من الشرِّ والفساد، ولا يمكن أن يتحقَّق ذلك إلا عندما تملك الأمَّة الطاقة الإيمانية والقدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه غايات الناس والسمو بها نحو الخير المطلق.
ولقد أكَّد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على ضرورة الدعوة إلى الخير، لما فيه من إيجابية بنَّاءة تسهم في صلاح الأمَّة ونجاحها؛ ولا يخفى أن العقول السليمة المُوَفَّقَة سُرعان ما تهتدي إليه وقلَّما تحتاج إلى من يبصِّرها به أو يدلُّها عليه؛ لأنه هدفها الَّذي تتطلَّع إليه وتسعد به. وللخير ضروب شتَّى وسبل عديدة، أشار القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة إلى بعضها، ومن ذلك:(2/431)
ـ الاستزادة من الحكمة، قال تعالى: {..ومن يُؤْتَ الحكمَةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً..} (2 البقرة آية 269).
ـ الإرشاد إلى أوجُه الخير؛ وهو عمل لا يقلُّ أهميَّة عن القيام بالخير نفسه، قال صلى الله عليه وسلم : «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» (رواه مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه ).
ـ التواصي البنّاء والتراحم والكلمة الطيِّبة، كلُّ ذلك من مظاهر الخير الَّذي يهدف إلى إعلاء كلمة الله والرقي بالإنسانية نحو الأفضل، قال تعالى: {ثُمَّ كان من الَّذين آمنوا وتواصوا بالصَّبر وتواصوا بالمرحمة} (90 البلد آية 17).
ـ عمل المعروف الَّذي يُقدَّم إلى الناس ابتغاء مرضاة الله مهما كبر أو صغر، قال تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهلين} (7 الأعراف آية 199)، ويقول صلى الله عليه وسلم : «لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» (رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه ).
ـ المبادرة إلى العلم البنَّاء في شتَّى نواحي الحياة والتنافس فيه من أَجَلِّ أبواب الخير الَّذي يدفع إليه الإسلام، ويرغِّب فيه ليكون رصيداً للإنسان، يسمو به إلى أقصى درجات العُلُوِّ والرفعة، قال تعالى: {..وقُل ربِّ زدني علماً} (20 طه آية 114).
وعلاوةً على كلِّ ما سبق، فإن للخير وجوهاً كثيرة أَجْمَلَها الرسول r حين قال: «إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتُسمع الأصمَّ، وتهدي الأعمى، وتدلُّ المستدلَّ على حاجاته، وتسعى بشدَّة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بقوَّة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كلُّه صدقة منك على نفسك» (رواه مسلم وأبو داود وابن حبَّان والبيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه ).(2/432)
وأفضل الخير ما قام به المرء وهو في عافية من البدن، ووفرة من المال، وإقبال من الدنيا، فإن ذلك دليل إيثار ما عند الله تعالى، ومظهر للوعي الدِّيني. ورأسمال الخير، هو استثمار الوقت في العمل الصالح، فالزمن لا ينتظر أحداً بل يمضي سريعاً، والوقت هو الفرصة الذهبية الَّتي وهبها الله للإنسان ليغتنمها بالخير والصلاح، فإذا فرَّط في النهوض بالعمل الصالح، وقصَّر في أداء الواجب فقد عرَّض نفسه لخسارة فادحة لا تُعوَّض.
والإسلام يفتح باب الخير على مصراعيه للناس جميعاً، فقيرهم وغنيهم، كبيرهم وصغيرهم، وليس في الإسلام حيِّزٌ لا يستطيع المرء أن يجول فيه، وإنما هناك متَّسعٌ كبيرٌ للعمل المنتج، قلَّ أم كثر، لأن دعوة الناس إلى الخير تعدُّ أحد أمرين إذا قامت بهما الأمَّة غدت خير أمَّة أخرجت للناس، وفي هذا قال عمر رضي الله عنه : (من سرَّه أن يكون من هذه الأمَّة فليؤدِّ شرط الله فيها)، وهذا الشرط واضح في قوله تعالى: {تأمُرُونَ بالمعرُوفِ وتَنْهَون عَنِ المُنْكَرِ وتُؤمِنونَ بِالله}.(2/433)
ولا يخفى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهوض بتكاليف الأمَّة ـ بما تحمله هذه التكاليف من متاعب، وبما يعترض طريقها من أشواك ـ ليس أمراً سهلاً، ويظهر ذلك عند الاطلاع على طبيعته ومدى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائه. وهو واجبٌ على كلِّ فرد من أفراد الأمَّة، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ) وكلمة (فبقلبه) تعني: أن يصلح المرء قلبه ويجعله مسكناً للأنوار الإلهية، حتَّى يستمدُّ القوَّة من حضرة الله، ويتمكَّن من زرع الإيمان في قلوب الآخرين وإصلاحهم، وهذا بالإضافة إلى الاستنكار القلبي وعدم الرضا الضمني بالمنكر، والتوجه بالدعاء لهم بالخير والصلاح.
على أنه يجب أن تتوافر فيمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط عديدة منها:
1 ـ أن يكون عالماً بالقرآن والسنَّة والسيرة النبوية، ملمّاً بقسطٍ من العلوم الكونية والاجتماعية.
2 ـ أن يكون مدركاً لحال من يُوجِّه إليهم الدعوة، متعمِّقاً فيه بدراسة ووعي.
3 ـ أن يكون مُجيداً للغة الأمَّة الَّتي يريد دعوة أبنائها إلى المعروف ونبذ المنكر.
4 ـ أن يتمتَّع باللين والرفق والحكمة، فكثيراً ما يُقدِم الإنسان على المنكر لجهله به؛ فإذا نُبِّهَ بالحسنى إلى أنه منكر تركه، وليس أدلَّ على ذلك من قصَّة المأمون مع الرجل الَّذي وعظه فأغلظ له القول، فما كان منه إلا أن قال: يارجل! ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شرٌّ منِّي، بعث موسى وهارون إلى فرعون وقال لهما: {فقولا له قولاً ليِّناً لعلَّهُ يَتذَكَّرُ أو يخشى} (20 طه آية 44).(2/434)
ولابدَّ من اللجوء إلى الإيمان بالله لإقامة الميزان الصحيح للقيم الإنسانية، فهو يزوِّد المؤمن بتصوُّر صحيح للوجود والإنسان ويحدِّد علاقته بخالقه، ودوره الحقيقي في هذا الكون، ومن هذا التصوُّر تنبثق القواعد الأخلاقية المستمَدَّة من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى. فالإيمان هو المفتاح إلى جميع الطاعات، ومع ذلك فقد تقدَّم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان في الآية الكريمة؛ لأنهما سياجه، وركنه الشديد، ومن المتعارف عليه عند الناس أن ركن البناء يسبق البناء! وعلى هذا فالمؤمن الصادق هو الطبيب الحاذق، الَّذي يجعل هَمَّهُ بَرْءُ الناس من الفساد والشرور، فيحذِّرهم قبل الوقوع في التهلُكة، وينقذهم إذا زلَّت بهم الأقدام، وهو الحارس الأمين لسلامتهم الروحية والفكرية والاجتماعية.
وأُمَّة المؤمنين هي خير أمَّة لأنها مكلَّفة بإنقاذ جميع الأفراد والأمم من الجهل والفقر والتخلُّف وجميع أشكال الانحلال الخلقي، وهذا يلزمه دعاة علماء ربَّانيون أكفاء. وأفراد المجتمع ملزمون بنصح بعضهم بعضاً، على اختلاف عقائدهم ومللهم ومذاهبهم، في كلِّ المجالات، وبكلِّ الإمكانات المتوافرة. ومهما قلَّ حجم المساعدة فإنه خير من التقاعس واللامبالاة الَّتي توصل الإنسانية إلى التعاسة والشقاء؛ فحين يُعْرِضُ أحدنا عن إغاثة ملهوف بدافع اللامبالاة وعدم الاهتمام، فإنه سيواجه يوماً تبحث فيه عيناه بتوسُّل ورجاءٍ عن يد تمتدُّ إليه، وتنتشله من مصيبة ألمَّت به، فلا يجد سوى الإعراض وعدم الاكتراث. وحين لا يكترث المؤمن بدرء الأخطار عن مجتمعه، ويتوانى عن توجيه أفراده نحو الطريق القويم، فإنه سيقطف ثمار تقصيره فساداً عاماً ووبالاً شاملاً.(2/435)
ولو أن أهل الشرائع السماوية تعاونوا معاً على درء أخطار الفتن المادية عن بعضهم بعضاً وعن غيرهم من الأمم، لغدا مجتمع الأرض متوازناً، يسوده العدل والسَّلام، لكنَّ إهمالهم لهذه المسؤولية يدفع الكثير من أبناء الإنسانية إلى التردِّي في وديان الفسق، ويصبح المجتمع بؤرة للفساد والإفساد، ويتعسَّر بعد ذلك تعديل مساره، ويغدو وحشياً تعمد ذئابه إلى افتراس أبنائه، بإشاعة ألوان الفساد بين صفوفهم من جنس ومخدِّرات وفواحش، والَّتي ستؤدِّي بدورها إلى انهيار المجتمع، والقضاء عليه.
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {إنَّ الله اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهُم وأموالَهُم بأنَّ لهم الجنَّة يُقاتِلون في سبيلِ الله فيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُون وَعْداً عليه حقّاً في التَّوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ ومن أوفى بعهدِهِ من الله فاستَبْشِروا ببيعِكُم الَّذي بايَعْتُم به وذلك هو الفوزُ العظيم(111) التَّائبونَ العابدونَ الحامدونَ السَّائحونَ الرَّاكعونَ السَّاجدونَ الآمرونَ بالمعروفِ والنَّاهونَ عن المنكرِ والحافظونَ لحدودِ الله وبَشِّرِ المؤمنين(112)}
ومضات:
ـ إن الله عزَّ وجل اشترى من المؤمنين برسالته أعزَّ نفائسهم، المال والنفس، فمن وافق على البيع فجزاؤه الجنَّة ولا يُخلف الله وعده.
ـ مَنْ قُبِلَ بيعه فله البشرى والسعادة والسرور في الدنيا والآخرة، ولن يُقبل إلا من الراجعين عن ذنوبهم والمخلصين في عباداتهم، والحامدين الله في السرَّاء والضرَّاء، والسائحين في الأرض للاستزادة من العلوم والخيرات، والَّذين يدعون إلى العلم وما يتبعه من أعمال البرِّ والخير، وينهون عن الجهل وما يجرُّه من المعاصي والآثام، والحافظين لشرائع الله وأحكامه، يطبِّقون مضمونها فينفِّذون أوامرها ويجتنبون محارمها ويتخلَّقون بأخلاقها.
في رحاب الآيات:(2/436)
جميع الشرائع السماوية من مصدر واحد، وهذه حقيقة قائمة تركِّز عليها آيات القرآن الكريم لتثبت وحدة الهدف بين أنبياء الله جميعاً، وبين ما جاؤوا به من الكتب السماوية، فهي جميعها تُسقى من معين واحد، وتتفرَّع من شجرة واحدة. لذلك نجد أن الحقائق المطلقة الَّتي لا يعتريها تغيير أو تبديل تتكرَّر في كتب الله كلِّها، وهذه واحدة من تلك الحقائق المبثوثة في كتب الله الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، والَّتي ترفع قيمة الإنسان إلى المكانة الَّتي رشَّحه الله لها وهي التكريم والتفضيل على سائر المخلوقات، فالنفس من صنع الله، والروح من أمره، والمال ماله، وهو وحده المعطي، ومع ذلك فإنه يكافئ من ينفق في سبيله بأجزل العطاء، إنه كَرَمُ الله وجودُهُ الَّذي ليس له حدود.
وفي مسيرة التبليغ كانت هناك دائماً طائفة من الناس استطاعت بقوَّة إرادتها، وتصعيد رغباتها، أن تتحرَّر من أسر الجسد، ومن رِبْقة المادَّة، فتكشَّفت لأرواحها بعض اللطائف الربَّانية، فأدركت عظمة الوجود، فانصرفت بكيانها كلِّه إلى مرضاة الخالق المعبود. هؤلاء الناس الَّذين صفت قلوبهم، وتطهَّرت نفوسهم، باعوا أرواحهم وأموالهم لله تعالى لا يبغون سوى مرضاته، ولا يتحرَّون إلا صالح العمل وقول الحقِّ مع الإخلاص فيهما، ويؤثرون ما عند الله من نعيم دائم على عرض الدنيا وزخرفها.
وكم كان البَوْن شاسعاً بين من باع نفسه ابتغاء مرضاة الله، وبين من باع إيمانه ابتغاء أهوائه وغرائزه. والله سبحانه وتعالى يشتري من المؤمنين أموالهم وأنفسهم وهي ملك له، بما لا يُعدُّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم فيبذلونها في سبيله لدفع الشرِّ والفساد عن عباده، وتقرير الحقِّ والعدل فيهم، ولولا ذلك لغلب شرُّ المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح.(2/437)
إنها عملية مبايعة من نوع فريد، لأنها تجارة بين الله والإنسان، المشتري فيها هو الله تعالى، والعبد هو البائع، وماذا يبيع ربَّه؟ يبيعه أشياء من ممتلكاته سبحانه وتعالى هو أعطاه إياها دون مقابل، الروح والمال، تلك هي البضاعة النفيسة، وثمنها الجنَّة! أَكْرِم بها من تجارة! تحتاج من العبد شيئاً من التنازل، وشيئاً من التسليم، وشيئاً من تغليب حقِّ الله على حقِّ الذات، وشيئاً من الثقة بما عند الله. لكنَّ قبول البضاعة يحتاج إلى شروط، إذ ينبغي أن تكون في مستوى يؤهِّلها لتُرفع إلى الله، ولا يُرفع إلى الله إلا ما هو طيِّب، مُزكّى، مُخْلَص لله تعالى، إنها النفس في لحظة نقائها وتجرُّدها، حين تهجر كلَّ ما نهى الله عنه، وتنقطع عن كلِّ متعلَّقاتها من الدنيا، من المال والولد والزوجة والجاه، وتهب ذاتها خالصة لربِّها، فتندفع للجهاد في سبيل الله، لتكون كلمته هي العليا، ولنشر تعاليم السماء، ووأد كلِّ مظاهر الوثنية والشرك والعبودية لغير الله، وتلقي بنفسها في ساحات الدفاع عن الشرف والعقيدة، وفي سبيل نُصرة الضعفاء والمظلومين. إنه الجهاد بشتَّى صوره وأشكاله، في سبيل نشر الفضيلة والقضاء على الرذيلة، ونشر العلم والمعرفة، وإزالة الجهل والتخلُّف، وإغناء الإنسان وسعادته، ومحو آثار الفقر والحاجة، ونشر الصحَّة والعافية ومكافحة الأمراض والأوبئة، وباختصار هو في سبيل مرضاة الله ونشر رسالته لأجل سلام العالم وأمنه.(2/438)
هؤلاء المؤمنون الصادقون لم يصلوا إلى هذا المستوى الرفيع من الإيمان إلا بفضل صدقهم مع ربِّهم، وبفضل الميزات الَّتي يتَّصفون بها، فهم تائبون توبة نصوحاً تردُّهم إلى الله وتكفُّهم عن الذنوب، وتدفعهم إلى صالح القول والعمل، وهم عابدون تقرَّبوا من خالقهم بفضل ثباتهم وإيمانهم وعبوديَّتهم الخالصة له، وهم يحمدون الله في جميع حالاتهم، في العُسر واليُسر نتيجة استسلامهم الكامل له، والثقة المطلقة برحمته وعدله، وهم المتفكِّرون في ملكوت السماء والأرض، المستخلِصون لحكمة الوجود من خلال آلاء الله الناطقة في جميع ما خلق، والَّتي تدلُّ على القدرة والحكمة في إبداع الخلق، وهم الراكعون تواضعاًلله، والسَّاجدون تقديساً له واستشعاراً لعظمته بأنه المهيمن عليهم، وبأنهم ضعفاء أذِلاَّء، وإن لم يتداركهم الله برحمته فإنهم خاسرون. وهم لا يكتفون بصلاحهم بل يتجاوزون صلاح ذواتهم إلى إصلاح غيرهم؛ وقد أصبحوا مؤهَّلين لهذه المهمَّة خير تأهيل، لذلك يدأبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لبناء مجتمع الإيمان الفاضل، ويحفظون حقوق الله فلا يتعدَّون حدوده الَّتي رسمها لهم، بل يحمونها من الضياع ويصونونها من التهجُّم والانتهاك.
لهؤلاء البُشرى فيما باعوه وفيما قدَّموه وبذلوه في سبيله تعالى، ولهم البشرى في تحقيق مجتمع آمن مسيَّج بالعدل والحقِّ والعلم، وكلِّ ما فيه خير للإنسان في دينه ودنياه، في حاضره ومستقبله.
الفصل الثاني:
صفات الداعي إلى الله
1 ـ الاقتداء بالصالحين
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {أولئك الَّذين هَدى الله فبِهُدَاهُم اقْتَدِهْ قُلْ لا أسئَلُكم عليه أجراً إن هو إلاَّ ذِكرى للعالمين(90)}
ومضات:
ـ إن الدَّعوة إلى دين الله لا تثمر ولا تؤتي أُكُلها، ما لم يكن الداعي متخلِّقاً بأخلاق النبيين الَّتي تجعل منه قدوة حسنة للآخرين.(2/439)
ـ يكتفي بعض الناس بقراءة الكتب الدِّينية وسِيَر الأنبياء والصالحين، لعلَّهم يهتدون إلى المعرفة ويتزوَّدون بالعلوم الدِّينية، ولكنَّ هذا لا يفي بالغرض، بل ربَّما يؤدِّي بهم إلى العزلة ضمن محيط الدائرة النظرية للكتب، دون أن تمنحهم اللمسة الروحية والإحساس العميق بالهداية الَّتي يكتسبونها من قلبٍ حيٍّ نابض بالإيمان.
ـ هذه الآية تُوجِّه دعوةً للمؤمن كي ينطلق خارج دائرة العُزلة والانطواء على الذات ويبحث عن أهل العلم والفضل، عن ورثة الأنبياء الحقيقيين الداعين إلى الله بإذنه، للاستفادة والاستزادة من علومهم والتخلُّق بأخلاقهم، لتكتمل بنية المجتمع الإيماني الَّذي يُطلَبُ من جميع أفراده أن يكونوا في عداد أحد فريقين: إمَّا فريق العلماء، أو فريق المتعلِّمين، ولا خير فيمن سواهما.
في رحاب الآيات:
بعد أن ذكر الله تعالى لنبيِّه المصطفى صلى الله عليه وسلم خصوصاً، ولكلِّ داع إلى الله عموماً، ثُلَّة من الأنبياء والمرسلين وجهادهم في الدعوة إلى الله، أمره بقوله: {أولئك الَّذين هدى الله فبهداههم اقتده}. وهؤلاء القدوة هم: نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويونس ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب وزكريا وإلياس واليسع ويحيى وعيسى عليهم الصَّلاة والسَّلام.(2/440)
إن القدوة الحسنة هي من أهمِّ الوسائل الناجحة في سلامة مسار العملية التربوية، وهي دعامة متينة يستند إليها كلٌّ من المعلم والمتعلِّم على حدٍّ سواء. ولما كانت رحلة الإنسان على الأرض قصيرة إذا قيست بسنيِّ الزمن المديدة، وتحتاج إلى السير بخطوات مدروسة منظَّمة منضبطة بضوابط صحيحة سليمة، كان لابدَّ لها من المشرِّع الحكيم ذي العلم الشامل والَّذي يعرف ما ينفع الإنسان فيأمره به، وما يضرُّه فينهاه عنه؛ إنه الله الَّذي اقتضت حكمته أن يجعل حياة الإنسان قسمين يدوران حول محور واحد ألا وهما: التعلُّم والتعليم. وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما بإيجاز شديد فقال: «ليس منِّي إلا عالم أو متعلِّم» (رواه ابن النجار والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه ) فالمتعلِّم الناجح هو من لا يأخذ العلم من بطون الكتب فحسب، بل منها ومن صدور العلماء الَّذين تشرَّبوا هذا العلم وعملوا به، ثمَّ قدَّموه للناس نقياً صافياً كريماً. وإذا كان لابدَّ لكلِّ صاحب حرفة من معلِّم يوجِّهه ويصحِّح أخطاءه، ويأمره بما يجب أن يفعله وينهاه عمَّا يجب أن يتركه؛ فمن الطبيعي بل من الضروري أن يكون هناك معلِّم يعلِّم أمور الدِّين، ويعرِّف بالله عزَّ وجل، وعلى كيفية التوجُّه إليه إلهاً واحداً لا شريك له، وكيفية حمل الأمانة الَّتي أوكلها الله تعالى إلينا. فمهما أوتي الإنسان من حِدَّة الذكاء، ورجاحة العقل فإنه لا يستطيع أن يتوصَّل إلى علوم الدِّين كافَّة وحده، معتمداً على الفطرة أو العقل فقط، فالفطرة قد تُشاب ببعض التيارات العقيدية المنحرفة، والعقل قد تغزوه بعض الأفكار الضالَّة فتختلط عليه الأمور ويغدو حيرانَ، لهذا كان لابدَّ من وجود حارس يقظ يضبط الفطرة والعقل معاً، وهذا الحارس هو الشريعة الَّتي يبلِّغُها الله إلى عباده عن طريق الأنبياء والرسل.(2/441)
فالداعية إلى الله هو الدليل الَّذي يدلُّ العباد على الله، وقبل أن يكون داعية هو بحاجة إلى من يدلُّه على شرائع الله وأحكامه، وعلى الأساليب والوسائل الَّتي يتَّبعها للتبليغ، وله في سِيَر الأنبياء والعلماء الَّذين كان لهم السبق في هذا المجال العون والمدد، لكي ينهج نهجهم ويقتدي بهم، ففي اطِّلاعه على سيرتهم وثباتهم وصبرهم، ومواقفهم من أقوامهم ومواقف أقوامهم منهم، ومعاشرته للدُّعاة المخلصين ما ينير له الطريق، ويذلِّل له الصعاب من أجل تحقيق الهدف المرجوِّ وهو الوصول بالناس إلى الإيمان الحقيقي.
إن كلَّ فرد مكلَّف أن يتَّخذ دليلاً يدلُّه على الله، يسلِّم له أمر تربيته، وقيادته، ليكون له عوناً في تزكية نفسه وتَعَلُّم الكتاب والحكمة، غير آبِهٍ بأقوال الحسَّاد الناقمين، والأعداء الناقدين الَّذين يشوِّهون سمعة رجال الدِّين، بل عليه أن يقوم بدراسة ميدانية جادَّة ليصل إلى الهداة الحقيقيين، ويرتشف نور الإيمان من قلوبهم وتوجُّهاتهم وأعمالهم وتربيتهم.
إن هذه الخطوة تعقبها خطوة ثانية هي مرحلة التعليم، فإذا استوعب المؤمن تعاليم الله من معلِّمه، ووعاها وعمل بها، فعليه أن يبلِّغها للناس، وهو مسؤول عن ذلك أمام الله، ولا تنجح مهمَّته هذه إلا إذا كان مخلصاً متجرِّداً، لا يبتغي منها إلا مرضاة الله، قاصداً وجهه، متخلِّياً عن مآربه الشخصية، نافضاً الدنيا عن منكبيه، مهاجراً إلى الله بقلبه ولسانه، ليفتح الله له مغاليق القلوب، ويُفيض الخير على يديه.(2/442)
وفي الختام يجب ألاَّ ننسى عالميَّة الإسلام فهو مُرسَل للناس كافَّة، ممَّا يوسِّعُ دائرة مسؤولية الدعاة إلى الله، فعليهم أن ينتشروا في أرض الله الواسعة، يحملون الهدى والنور إلى نفوس متعطِّشة لقطرات من رحيق السماء، لتطفئ ظمأها الروحي الَّذي تئنُّ تحت وطأته. والعالم بأسره اليوم ينتظر بروز هؤلاء العلماء بشوق ولهفة بوصفهم منقذين ومصلحين، ليُدخلوه في مرحلة جديدة من عمر الدهر، هي مرحلة الطمأنينة بالإيواء إلى ركن شديد، ركن محبَّة الله القويِّ العزيز ومعرفته معرفة خلاَّقة، تهدي إلى مكامن الخير في هذا العالم، وتجمع القلوب جميعاً على سلامة الأسرة الإنسانية وسعادتها. هذه السعادة هي ثمرة لا تحملها إلا شجرة الإسلام، فهيَّا يا دعاة الإسلام أكثروا من غرس هذه الشجرة المباركة، لتكونوا المصنع العالمي للسعادة تصدِّرون منه إلى جميع خلق الله: الحبَّ والسعادة والإخاء، بإذن الله وتوفيقه، وبصدقكم وإخلاصكم؛ فعلى بركة الله سيروا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.
2 ـ الحكمة
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {ادعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادِلْهم بالَّتي هي أحسنُ إنَّ ربَّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيلهِ وهو أعلمُ بالمهتدين(125)}
ومضات:
ـ يجب أن تبقى الدعوة إلى دين الله قائمة دون تهاون، وبالأسلوب الَّذي يتناسب مع عظمة الشريعة الَّتي ندعو إليها.
ـ تقضي الحكمة بأن نعطي المريض الدواء المناسب في الوقت المناسب وبالأسلوب الأمثل، وبالتالي فإن من الحكمة أيضاً أن نأخذ الشخص البعيد عن جادَّة الحقِّ بالرفق، لأنه مريض في فكره وقلبه، فالضلالة داؤه والإيمان دواؤه والسبيل إلى ذلك الحكمة.
ـ الموعظة الحسنة هي أن تخاطب الناس على قدر عقولهم، لا على قدر بلاغتك وفصاحتك.(2/443)
ـ الحوار الإيجابي البنَّاء، القائم على الحُجَّة والبرهان، والَّذي يهدف إلى إقامة جسور المودَّة مع الآخرين، يثمر الإقناع والهداية والارتباط بمنهج السعادة، وعلى النقيض من ذلك فإن الجدال العقيم القائم على التبجُّح بالمعارف، والاستعلاء على الآخرين، يثمر التنافر وضياع الهدف.
ـ الإسلام لا يعوِّل على المظاهر بقدر ما يعوِّل على البواطن والحقائق، والله ربُّ العالمين هو وحده العالم بخفايا الناس، القادر على تقييمهم وإنزالهم المنازل الَّتي يستحقُّونها، فكم من أشعث أغبر ذي طمرين (ثوبين باليين) لا يؤْبَه له لو أقسم على الله لأبرَّه، وكم من متظاهر بالدِّين مدَّعٍ لفهمه، متستر بثياب العلم، يتفوَّه بالكلمة الضالَّة المُضلَّة لتهوي به وبغيره في النار سبعين خريفاً.
في رحاب الآيات:
إن كثيراً من الناس يفتقرون إلى المعرفة الصحيحة بأسلوب الدعوة إلى الله، الَّذي اتبعه الأنبياء والرسل وذكره القرآن الكريم، وجسَّده النبي محمَّد عليه الصلاة والسلام قولاً وعملاً. فالأمر الشائع لدى بعض من يلبسون مسوح الدِّين هو استعمال التعابير القاسية، أو القيام بتصرُّفات مستهجنة تجاه كلِّ من يرتكب خطأً ما، أو لا يوافقهم في آرائهم ولا يُقِرُّهم على أسلوبهم الفظِّ في الدعوة إلى الدِّين، بل إنهم يمعنون في ذلك فيعاملون الناس وكأنهم شياه تقاد إلى الحظيرة بالعصا الغليظة، فيُنفِّرونهم ويسيؤون إليهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إن القرآن الكريم رسم منهج الدعوة؛ للرسول الكريم أوَّلاً، ولكلِّ داع إلى الله من بعده، فأرسى قواعدها ومبادئها وعيَّن وسائلها وطرائقها. والدعوة يجب أن تكون خالصة وموجَّهة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس على الداعي في دعوته إلا البلاغ، وأجره بعد ذلك على الله. ويجب أن يرتكز أسلوب الدعوة إلى شريعة الله تعالى على النقاط التالية:(2/444)
1 ـ الحكمة: وهي حسن مخاطبة الآخرين في الوقت المناسب، والمكان المناسب، وبالأسلوب المناسب الَّذي يكفل الوصول إلى شغاف قلوبهم لاستمالتها، وإلى عقولهم وضمائرهم لتحريكها وتسديد مسارها.
2 ـ الموعظة الحسنة: وهي الترغيب الحسن، والعرض المشوِّق المبني على المنطق والعقل السليم، وبالرفق والمداراة ولين الكلام، والتعريض دون التصريح والتنبيه دون الزجر، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلِّف بين القلوب المتنافرة. فالرفق ما دخل في شيء إلا زانه ولا مُنِعَ من شيء إلا شانه، ويكفي في هذا المجال ما جاء في الأثر: [من حُرِم الرفق فقد حُرِم الخير كلَّه].
3 ـ الجدال المثمر: وهو الحوار القائم على دراسة نفسيَّة من نخاطبهم، وإيجاد أفضل السبل للوصول معهم إلى قناعات مقرِّبة لا إلى صدامات حادَّة منفِّرة، ودون تحامل على المخالف حتَّى يطمئن إلى الداعي، ويشعر أن هدفه ليس الغلبة في الجدل، ولكنَّ الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا ترجع عن الرأي الَّذي تعتقد صحَّته إلا بالرفق حتَّى لا تشعر بالهزيمة، فالجدل بالحُسنى يُشعر المجادل أن ذاته مصونة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة والهدي إليها من أجل الله تعالى. أمَّا الهداية والضلال والمجازاة عليهما فأمرهما إلى الله سبحانه، إذ هو أعلم بحال من ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى، وإليه ترجع الأمور جميعاً.(2/445)
وإن المتتبِّع لمسيرة الدعوة النبوية يجد أن الحكمة من أهمِّ الصفات المُمَيِّزَة والمرافقة لها، من حيث اختيار الزمان والمكان المناسب، واختيار الطريقة الحكيمة السليمة في التعامل مع الأشخاص والأحداث. وقد كان من نتائج هذه الحكمة توحيد الجزيرة العربية تحت راية الإسلام في مدة لم تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة، بأقل من خمسمائة قتيل وشهيد من المشركين والمسلمين. والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم في مكَّة أكثر من عشر سنوات يدعو إلى توحيد الله، ونبذ عبادة الأصنام، ومع ذلك كان يطوف حول الكعبة الشريفة، وحولها ثلاثمائة وستون صنماً دون أن يتعرَّض لأحد هذه الأصنام أو يؤذيها، حرصاُ منه على عدم استثارة مشاعر المشركين، وتجنُّب المزيد من إيذائهم له. ولكن حين فتح عليه السَّلام مكَّة، ودخلها بالنصر المبين، طاف حول الكعبة، ثمَّ أخذ يمرُّ على الأصنام واحداً واحداً، ويطعنها بعود كان بيده، ويقول: «جاء الحقُّ وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحقُّ وما يبدئُ الباطل وما يُعيد». (رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك منذ بداية الدعوة، لكان مصيره مثل إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ الَّذي تحدَّى قومه منذ الأيام الأولى لدعوته، وحطَّم العديد من أصنامهم، فأثار غضبهم، وكانت نتيجة ذلك أن أوقدوا له ناراً عظيمة وألقوه فيها ، وكاد يهلك لولا أن تدخَّل الله تعالى وأنجاه منها، قال تعالى:{قَالوا حَرِّقُوه وَانْصُروا آلِهَتِكُم إِنْ كُنتم فَاعِلين * قُلْنَا يَا نَارُ كُوْنِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ} (21 الأنبياء آية 68-69).(2/446)
وكذلك تظهر الحكمة في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم من خلال استفادته من كلِّ ما يخدم الدعوة، حتَّى لو كان من العادات الجاهلية، ومن ذلك أنه لمَّا ذهب إلى دعوة أهل الطائف وعَلِم المشركون من أهل مكَّة بذلك أرادوا أن يمنعوه من الرجوع إلى مكَّة ودخولها.. فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى عدد من زعماء المشركين طالباً منهم أن يدخل مكَّة في حمايتهم وجوارهم فرفضوا إلا المُطعم بن عدي، الَّذي خرج بأبنائه السبعة، وأحاط برسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى طاف حول الكعبة، وهو في ظلِّ حمايتهم.. وبات في بيت المُطعم ليلتين، واستمرت الدعوة في حمايته قريباً من سنة. وهكذا شأن الداعي الحكيم الَّذي لا يُبالي إلا باستمرار الدعوة ووصولها إلى جميع الخلق، ولو كان ذلك لا يتمُّ إلا في حماية المشركين.
إن دراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ بدء نزول الوحي ولحين هجرته إلى المدينة، يعطينا نموذجاً عملياً في أسلوب الدعوة إلى الله، وفي براعة التعامل مع غير المسلمين، على الرَّغم من الضغوط الشديدة الَّتي عانى منها بسبب تعنُّتهم وإيذائهم. فالداعي إلى الله يجب أن ينظر إلى الواقع الحالي مع أَملٍ بالمستقبل نظرة واحدة وفي نفس الوقت.. وهذه ميزة عجز عن الاستفادة منها الكثير ممن ينتسبون إلى الدعوة، ويلبسون لباس الدعاة. فإن تمكَّنتَ من كظم غيظك أمام عدوٍ للإسلام، أملاً في أن يُصبح مسلماً يشدُّ من أزر الدعوة في الغد القريب، تمكَّنت بهذا الشعور أن تسايره وتلاطفه، وتعامله بحنوٍّ وعطف؛ حنوِّ الأمِّ على طفلها المريض... وعلى العكس من ذلك فإن أعطيت لنفسك العنان، فانطلقت تخاصم وتعاتب وتهدِّد وتتوعَّد، فإنك ولا شكَّ تقلب العمل المنتج إلى بناء متَصدِّع ، والإيمان إلى تكفير؛ وتقريب القلوب إلى تهجير، ويفوت على الكثير من المقبلين الخير الكثير، بسبب قصورنا عن فهم الحكمة وأسلوب تطبيقها الفهم الصحيح.(2/447)
أما إذا رغبنا معرفة صورة عن السلوك العملي للنبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق الحكمة، وعُدْنا إلى ما جرى بينه ـ عليه السَّلام ـ وبين سهيل بن عمرو في صلح الحديبية.. فقد كان سهيل هذا لا يترك فرصة تمرُّ لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم إلا واستغلَّها، يُعينه في ذلك أبو سفيان. وعندما جلس سهيل مندوباً عن قريش ومفاوضاً للنبي صلى الله عليه وسلم وبعد الاتفاق على شروط الصلح، دعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب وقال له: «اكتب: بِسمِ الله الرَّحمن الرَّحيم»، فقال سهيل أمَّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو.. ولكن اكتب: باسمك اللهم. ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «هذا ما قضى عليه محمَّد رسول الله»، فقال سهيل: والله لو كُنَّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، اكتب: محمَّد بن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «والله إنِّي لرسول الله وإن كذَّبتموني، اكتب: محمَّد بن عبد الله»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخلُّوا بيننا وبين البيت، فنطوف به». فقال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب أنَّا أُخِذنا ضَغْطةً، ولكن ذلك من العام المقبل، وعلى أن لا يأتيك مِنَّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.. (رواه البيهقي عن المِسور بن مخرمة).
وهكذا قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشروط كافَّة الَّتي تهضم الكثير من حقوق المسلمين، وبالرغم من معارضة جميع الصحابة لهذا الاتفاق؛ ما خلا أبو بكر رضي الله عنه. وكلُّ ذلك حرصاً من النبي صلى الله عليه وسلم على عدم نشوب القتال بين المشركين والمسلمين، ورغبةً منه في أن يسود بينهما جوٌّ من السلم ـ ولو المؤقَّت ـ يتمكَّن فيه المسلمون من دخول مكَّة ودعوة أهلها إلى الإسلام.(2/448)
أمَّا ما كان من أمر سهيل، بعد ذلك، فقد أخرج ابن عساكر قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: (ما كان فتحٌ أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكنَّ الناس يومئذٍ قَصُرَ رأيهم عما كان بين محمَّد وربِّه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتَّى يُبلغ الأمور ما أراد. ولقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجَّة الوداع قائماً عند المنحر يُقدِّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاّق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيل يلتقط من شَعْرِهِ، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه يوم الحديبية أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب: محمَّد رسول الله). وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ارتدَّت أكثر العرب من حول المدينة ومكَّة، وكان أن خطب أبو بكر رضي الله عنه في أهل المدينة خطبة كان لها دور كبير في تثبيتهم. وقام سهيلٌ خطيباً في أهل مكَّة بمثل خطبة أبي بكر رضي الله عنه ثبَّت فيها أهل مكَّة.. فتأمل كيف أثمرت الحكمة في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وحوَّلت أشدَّ أعداء الإسلام إلى أنصار له، مدافعين عنه.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {يؤتي الحكمةَ من يشاءُ ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أولوا الألبابِ(269)}
ومضات:
ـ آلة الحكمة هي العقل المستنير بهداية الله، المستقلُّ في حكمه عن الأهواء، والقادر على إدراك الأشياء وفهمها على حقيقتها.
ـ إن الوصول إلى الحكمة يتمُّ بتوفيق الله عزَّ وجل، ومن هداهُ الله إلى الحكمة فقد هدي إلى خيري الدنيا والآخرة.
ـ الحكمة سجية متأصِّلة في الناجحين من الدعاة، تعينهم على تحقيق غايتهم بالوصول إلى قلوب الناس لحملهم على الاستجابة للدعوة، وهي هدفٌ سامٍ يتطلَّع للوصول إليه كبار العلماء والمفكرين والمخلصين، لكي تُتوَّج أعمالهم بالنجاح والتوفيق، وتبقى ضمن الأطر الأخلاقية السليمة.(2/449)
ـ لا يتَّعظ بالعلم ولا يتأثَّر به إلا ذوو العقول السليمة والنفوس التوَّاقة إلى المعرفة والحقيقة.
في رحاب الآيات:
الحكمة لفظة ذات أبعاد كثيرة ومعان عميقة، فهي تجمع عناصر الخير كلَّها من عقل سليم وفكر سديد، وعلم نافع. ولعلَّ من أهمِّ معاني الحكمة إدراك الأسباب والمسبَّبات في جميع ما خلق الله تعالى أو أنزل من التشريعات، ورَبْطها مع بعضها بتمعُّن ورويَّة لمعرفة الغاية الَّتي أرادها من إيجادها.
والحكمة هي أن يهيمن عقلُك الراجح الواعي على أهوائك وميولك في تقديرك للأمور، وأن تتشاور مع الآخرين قبل أن تُمضي حكمك في شيء، وأن تتوكَّل على الله حتَّى يمدَّك بالبصيرة والرشاد فلا يلتبس عليك الحقُّ بالباطل، لذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : «اللهمَّ أرنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتِّباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه».
ومن الحكمة تحصيل العلم الشرعي والكوني لما له من عميق الأثر على الفكر والنفس، ومن ثمَّ العمل به والإخلاص فيه، حتَّى يصل بصاحبه إلى الإصابة في القول والعمل، ونتيجة ذلك هي السعادة في الدنيا والآخرة. وقد جاء في تفسير الحكمة أيضاً أنها التفقُّه في الدِّين ومعرفة ما فيه من الهدى والحكم البالغة، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أراد الله بعبده خيراً فقَّهه في الدِّين وألهمه رشده» (رواه البزَّار والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه ). وقد عرَّف أحد الحكماء الحكمة العملية بقوله: [فعل ما ينبغي في الوقت الَّذي ينبغي، على الشكل الَّذي ينبغي، وفي المكان الَّذي ينبغي].(2/450)
ومنبع الحكمة من الله تعالى، ووسيلتها الإيمان والتواضع والعقل القادر على إدراك العلاقات بين الأشياء وحسن الإفادة منها. والغاية منها هي معرفة وسائل السعادة وأسبابها، وتوظيفها لصالح الإنسان في سائر أموره، أمَّا من يحظى بها فهو من هيَّأ نفسه لتلقِّيها، وأخلص عمله لله لأنه تعالى يسبغ على عباده المخلصين ظلالاً من صفاته العليَّة.
ولهذا نجد الآية الكريمة ترفع من شأن الحكمة، وتدعو المرء إلى استعمال عقله في السعي إليها والبحث عنها وتلقُّفها أينما وجدها، فقد ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «الحكمة ضالَّة المؤمن أينما وجدها فهو أحقُّ بها» (أخرجه القضاعي في مسنده مرسلاً عن زيد بن أسلم، وأخرجه الترمذي والعسكري والقضاعي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ). ومن يوفِّقه الله إلى مناهل الحكمة، ويرشده إلى هداية الإيمان والعقل، فقد رُزق سعادة الدارين، ووُفِّق إلى تسخير القوى الَّتي خلقها الله له في المفيد من الأشياء، وإعدادها لتحقيق ما فيه الخير العميم، متوكِّلاً على الله فلا يكون للجهل أو التعصُّب إلى مواقفه سبيل.
ولا يتعظ بالعلم ويتَّخذ الحكمة منارة له إلا ذو العقل السليم والنفس الزكية، الَّتي تغوص في بحر الحقائق، وتستخرج منه أغلى كنوزه، وتجعلها سلَّماً ترقى به إلى معارج التَّقوى والكمال.(2/451)
ولابدَّ لنا أن نشير في الختام إلى أن الله تعالى قدَّم الحكمة على العلم في مثل قوله عزَّ وجل عن سيِّدنا يوسف: {ولمَّا بلَغَ أشُدَّهُ آتيناهُ حُكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين} (12 سورة يوسف آية 22) وحكماً هنا تعني الحكمة. وفي مثل قوله تعالى: {ولوطاً آتيناه حُكماً وعلماً..} (21 الأنبياء آية 74) وفي مثل قوله تعالى عن سيِّدنا موسى: {ولمَّا بلَغَ أشُدَّه واستوى آتيناه حُكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين} (28 سورة القصص آية 14). فالحكمة هي المِقوَد في مركبة الدعوة على طريق الأمان، وهي النور في ظلمات الجهل، والعالِم الفاقد للحكمة ضرره أكثر من نفعه، بل قد يُودي بالآخرين إلى التعصُّب والتهوُّر، بدل الحبِّ والرحمة والإخاء.
3 ـ الرِّفْق واللين
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفَضُّوا من حولكَ فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاوِرهُم في الأمرِ فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله إنَّ الله يُحِبُّ المتوكِّلينَ(159)}
سورة التوبة(9)
وقال أيضاً: {لقد جاءَكُم رسولٌ من أنفسِكُم عَزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ حريصٌ عليكم بالمؤمنين رَؤوفٌ رحيم(128)}
ومضات:
ـ القانون الإلهي قائم على الرحمة لأنها مفتاح كلِّ خير لاسيَّما في مقام الدعوة. فالداعية الناجح هو من يُوغِل برفق في القلوب، ويتعهَّد بذور الخير فيها بالرعاية واللطف واللين إلى أن تنمو وتزهر.
ـ المؤمن يألف ويؤلف، والفظاظة تنفِّر القلوب وتبعثر الطاقات.
ـ ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ثمَّ عزم وقرَّر، متوكِّلاً على رعاية الله وحفظه وعنايته.
في رحاب الآيات:(2/452)
يحتاج الناس الشاردون عن الحقِّ، البعيدون عن جادَّة الصواب، التائهون في صحراء الجاهلية، يحتاج هؤلاء وأمثالهم إلى قلب كبير يحتويهم، وكَنَف رحيم يشملهم برعايته وحمايته وهدايته، إنهم بحاجة إلى العناية الفائقة والتوجيه الرشيد؛ بالرفق والإحسان والترغيب. والسبيل إلى ذلك الكلمة الطيِّبة، والوجه الطلق والثغر الباسم، والصدر الواسع الحليم، فلا يضيق بهم ذرعاً بل يصبر على جهلهم وطفولة عقولهم، ويزيل همومهم، ويمسح دموعهم، ويقدِّم لهم العلاج الروحي الَّذي ينقلهم من المعاناة إلى السعادة، ومن المرض إلى الشفاء. إنهم بحاجة إلى الأسلوب الحكيم حيث يُخاطَبُون على قدر عقولهم، وفوق كلِّ ذلك فلابدَّ من قلب منوَّر بنور الله، يمدُّ قلوبهم وأرواحهم بالطاقة النورانية الإلهية، الَّتي تحرك فيهم القُدُرات، وتبعث فيهم الطاقات، فتتهيَّأ النفوس لقبول الدعوة والتفاعل معها، ومن ثمَّ جني ثمارها وخيراتها، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس جميعاً. والآية الكريمة تشير إلى الرحمة الَّتي ألقاها الله في حنايا قلبه عليه السلام وتُثْني على أخلاقه السامية، وقيادته الحكيمة، فعلى الرغم من مخالفة بعض الصحابة لأوامره في بعض المواقف فقد وسعهم بخلقه الكريم، وقلبه الرحيم، ولم يخاطبهم بالقسوة والشدَّة بل باللين والرحمة، لذلك اجتمعت القلوب حول دعوته، وتوحَّدت تحت قيادته.(2/453)
إن القانون الإلهي يوضح أنه لا يمكن للناس أن يستجيبوا لتعاليم السماء، إذا قُدِّمت لهم بشكل فظٍّ وأسلوب مستهجن، وإن كانت مقدَّمةً من الأنبياء أنفسهم، فلابدَّ من الرحمة والرفق ليدخل شعاع النور الإلهي إلى قلوبهم. وفي هذا تعليم لجميع الدعاة ليكونوا مع الناس متراحمين متآلفين متآخين، لأنَّ المقصود من عمل الدعوة تبليغُ شرائع الله إلى الناس كافَّة، ولا يتمُّ ذلك إلا إذا مالت قلوب المدعوين إلى الدعاة، وسكنت نفوسهم إليهم، وهذا ما يوجب أن يكون الداعي رحيماً حليماً، أُسوة بالمثل الأعلى محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام الرحمة المهداة، الرؤوف الرحيم الَّذي هدى أمَّته إلى مفاتيح النجاح، وكنوز التوفيق قولاً وعملاً، وسلوكاً وتوجيهاً، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : «لا ينبغي للرجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتَّى تكون فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى، عدل فيما ينهى» (أخرجه الديلمي عن أبان عن أنس رضي الله عنه ).
فليس من العسير إيراد المعارف ولا بذل النصيحة، ولكنَّ العسير تخيُّر أسلوب العرض لضمان النتائج، فكم من نفوس أعرضت عن كلمة الحقِّ، ولم يكن إعراضها ناشئاً عن طعن في صحَّتها أو شكٍّ في وضوحها؛ بل كان العامل الَّذي أدَّى إلى نفورها هو أسلوب الداعي الَّذي غلب عليه الجمود والفظاظة، ونأى عن الرِّفْق واللين، فنفرت منه القلوب، وأصبح البعد بينه وبينها شاسعاً.(2/454)
وكان على الداعي أن يكون رحيماً بعباد الله، لأن التراحم بين الناس يشدُّ بعضهم إلى بعض، ويخلق بينهم جواً من الألفة والترابط، ويزرع في أعماقهم غيرة على المصلحة العامَّة، ممَّا يجعلهم أهلاً للمشورة وإبداء الرأي في سياسة الأمَّة وفي الحرب والسلم، وغير ذلك للوصول إلى الحلِّ السديد. فالإسلام يقرِّر مبدأ الشورى، وهذا نصٌ قاطع لا يدع للأمَّة المسلمة شكاً في كونه مبدأً أساسياً يجب ألا يقوم نظام الحياة على أساس سواه، أمَّا الوسيلة الَّتي يتحقَّق بها فهي تبعٌ لأمور قابلة للتحوير والتطوير، وفق أوضاع الأمَّة وملابسات حياتها. وللشورى فوائد عظيمة منها: أن العقول متفاوتة والأفكار متباينة بين الناس، وربَّما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيرهم، ولكنَّ تبادُل الأفكار والآراء يهيِّئ الفرصة أمام هذه العقول لتتضافر مع بعضها، فتغدو وكأنها عقل واحد كبير، يكون على مستوى الأمر المتداول فيه، قادراً على رؤيته من جميع الزوايا رؤية دقيقة شاملة.(2/455)
كما أن في الشورى دلالة على الصحَّة الاجتماعية تُظهر اجتماع القلوب على أمر واحد وتسعى إلى إنجاحه، فالجماعة أبعد عن الخطأ من الفرد، لذلك أمر الله تعالى رسوله الكريم بأن يقرِّر هذا المبدأ بشكل عملي، فكان صلى الله عليه وسلم يستشير صَحْبَه بهدوء وسكينة، ويُصغي إلى كلِّ قول، ويرجِّح رأياً على رأي حسبما يرى فيه من المصلحة والفائدة، وكان عليه السَّلام يستشير السواد الأعظم من المسلمين ولاسيَّما أهل الرأي والفضل، علماً بأن وجود الرسول ومعه الوحي، يكفي لإدارة شؤون الأمَّة دون الحاجة إلى الشورى، ولكنَّ الله لم يُلغ ذلك لأنه يعلم أن المجتمع لا يصلح دون مبدأ التشاور، وأن أي فردٍ في الأمَّة لا ينجح دون أمناء يستشيرهم، فضرب لهم المثل الصالح في الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ينبغي أن لا يستكبر الدعاة عن مشاورة من حولهم أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم . وبالمقابل فإن إبداء الرأي في مشورةٍ ما أمانة عظيمة يتوجَّب على حاملها أن يحسن أداءها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» (رواه أبو داود والحاكم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المستشار مؤتمن» (رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه ).(2/456)
ومن ناحية ثانية فإن نجاح أي عمل، مشروط بالتوكُّل على الله، وهو الثقة المطلقة بالله والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به في كلِّ شأن، والتيقُّن بأن قضاءه نافذ، مع الأخذ بالأسباب وتدريب الأُمَّة على التشاور في كلِّ أمورها، لزرع الروح الجماعية وإلغاء الأثرة والأنا والفردية من صفوف المجتمع. والإنسان في صراعه مع مشكلات الحياة تنتابه المخاوف، وتعترضه الصعاب، وتنزل به الآلام، فلا يُحِسُّ بطعم الحياة، ولا يتمكَّن مع هذا القلق من القيام بدوره الرئيس في إسعاد نفسه ونفع غيره، فتتعطَّل قواه المادِّية والمعنوية، ويصبح شيئاً لا قيمة له، ولا تطيب حياته إلا إذا استمتع بسكينة النفس، وطمأنينة القلب، وراحة البال، وعافية البدن، وسبيله إلى ذلك أن يثق بالله ويحسن الظنَّ به ويتوكَّل عليه، ويردَّ الأمر كلَّه إليه، جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني» (رواه البخاري والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ). فتوكُّل المؤمنين على الله قوَّة نورانية تعينهم إذا أقدموا، وتمسح آلامهم إذا أخفقوا، ولا يُحسن التوكُّل على الله إلا من امتلأ قلبه بالإيمان لأنه ثمرة من ثماره، فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي). على أن التوكُّل على الله لا يتنافى مع اتخاذ الأسباب، بل إنه لا يصحُّ إلا إذا اتخذ الإنسان لكلِّ أمر أسبابه الموصلة إلى تحقيقه، فالله سبحانه قد ربط المسبَّبات بأسبابها، والنتائج بمقدِّماتها. وقد تخفى علينا بعض الأمور فلا ندرك أسبابها وحكمتها، ويتوجَّب علينا حينها أن نلجأ إلى مسبِّب الأسباب لعلَّه بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها الأمثل، أو يبدلنا خيراً منها، ويجب مع هذا بذل كلِّ الجهد الممكن والطاقة(2/457)
الَّتي نملك مع اعتقادنا بأنها كلُّها من فضل الله، وأنه قد هدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر؛ قال تعالى: {وأَن لَيسَ للإنسان إلا ما سَعى * وأن سَعيهُ سوفَ يُرى * ثمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الأَوْفى} (53 النجم آية 39ـ41). إن التوكُّل محلُّه القلب ولكي يتمَّ التوكُّل وتتكامل درجاته يُحتاج إلى معرفة الله وصفاته والإيمان المطلق بأن الأشياء صادرة عن مشيئته وقدرته، وإخلاص القلب في توحيده له، واعتماده عليه، وحسن الظنِّ به، وتفويض الأمور كلِّها إليه، وهذا كلُّه يثمر الرضا بما يقضي الله عزَّ وجل. إن التوكُّل على الله خلَّة يحبُّها الله ويحبُّ أهلها، لذلك يجب أن يحرص عليها المؤمنون، لأنه يشكِّل أداة التوازن في الحياة الإسلامية، وهو التسليم المطلق بأنَّ مَردَّ الأمر لله وحده، ودون تعطيل لطاقاتنا وجهودنا الفردية.
4 ـ الثبات
سورة الجاثية(45)
قال الله تعالى: {ثمَّ جعلناكَ على شَريعَةٍ من الأمر فاتَّبِعْها ولا تتَّبع أهواءَ الَّذين لا يعلمون(18) إنَّهم لن يُغْنوا عنكَ من الله شيئاً وإنَّ الظَّالمينَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ والله وليُّ المتَّقين(19)}
سورة الإسراء(17)
وقال أيضاً: {وإن كادوا لَيَفْتِنونَكَ عن الَّذي أوحينا إليكَ لتفتَريَ علينا غيرَهُ وإذاً لاتَّخذوكَ خليلاً(73) ولولا أنْ ثبَّتناكَ لقد كدتَّ ترْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً(74) إذاً لأذَقْناكَ ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ثمَّ لا تجدُ لك علينا نصيراً(75)}
ومضات:
ـ رسم الله تعالى معالم طريق الدعوة الَّتي ينبغي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلكها، محدِّداً له القواعد الثابتة في الشريعة، وطلبمنه أن يلتزم بالسير عليها، دون الالتفات إلى الجَهَلة المغرضين، لأن جهلهم مبني على الظلم، وتعاونهم قائم على البغي والعدوان.(2/458)
ـ يجب أن لا يغفل قلب الداعي عن حضرة الله، وأن يبقى متمسِّكاً بحبل العناية الإلهية حذراً من التأثُّر بالفتن الَّتي يحيكها المغرضون من حوله، والإغراءات الَّتي يحاولون بها صرفه عن هدفه.
ـ إن أيَّ خطأ قد يبدر عن الدعاة سيقتدي به الناس اعتقاداً منهم بصوابه، لذلك كانت مسؤوليَّتهم كبيرة جداً، وعقابهم مضاعفاً عن عقاب بقية الناس بقدر هذه المسؤولية.
في رحاب الآيات:
لقد أمر الله تعالى النبي عليه السَّلام أن يكون أوَّل الملتزمين بهذه الرسالة، وأوَّل المطبِّقين لها، وأن يتصدَّى لأرباب الكفر والضلالة دون أن يتأثَّر بهم، أو يسايرهم في أهوائهم وانحرافاتهم؛ لأنهم غارقون في جهلهم، متمادون في غيِّهم، ثمَّ إن موافقتهم ومسايرتهم لا تعطي أي ثمرات إيجابية بنَّاءة تفيد في إصلاح بُنية المجتمع، لأن تعاونهم قائم أصلاً على الظلم وسلب الحقوق وتحقيق المكاسب المحرَّمة.
إن هذه الآيات وأمثالها تلفت انتباه المسلم الداعية ليحذر الوقوع في شرك أعدائه وحُسَّاده، خاصة إذا كان على مستوى من العطاء والقيادة الفاعلة في مجتمعه. فهي تذكِّر بمحاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأوَّلها محاولة فتنته عمَّا أوحي إليه، وافتراء غيره عليه وهو الصَّادق الأمين. تلك المحاولات الَّتي اتخذت صوراً شتَّى، منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم، وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حرماً آمنا كالبيت العتيق الَّذي حرَّمه الله، ومنها طلب بعض الكُبراء أن يخصَّهم بمجلس غير مجلس الفقراء. ثمَّ يذكر النصُّ فضل الله على الرسول في تثبيته على الحقِّ، وعصمته من الفتنة، وإلا لَمالَ إلى إغراءاتهم ووقع في شراكهم، ثمَّ لقي عاقبة ذلك وهي مضاعفة العذاب في الحياة وبعد الممات، دون أن يجد منهم نصيراً له يحميه من عقاب الله تعالى.(2/459)
إن هذه المحاولات الَّتي عصم الله رسوله منها هي محاولات المغرضين دائماً مع أصحاب الدعوات الروحية النبيلة بغية إغرائهم لينحرفوا عن طريق الدعوة المستقيم، ويرضوا بأنصاف الحلول الَّتي يغرونهم بها من مغانم دنيوية جمَّة. ولكنَّ روحانية الرسول الكريم كانت غالبة على بشريته، إذ لم يكن أمام روحه ما يحجبها عن نور الله، ولولا تثبيت الله، ونور الهداية، وأثر العناية الربَّانية لكان يمكن أن يركن إلى أهل الأهواء ولو قدراً يسيراً. وممَّا لا ريب فيه أن العظيم إذا ارتكب إثماً أو خطيئة فعقابه شديد على قدر عظمته، لأنه يفتح الطريق لغيره لارتكاب إثم كإثمه اقتداءً به وتأسِّياً، فكأنه سنَّ ذلك لهم، قال صلى الله عليه سلم فيما أخرجه مالك وأحمد ومسلم وغيرهم عن أبي جُحَيْفة وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهما: «من سنَّ سنَّة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
وروي عن قتادة أنه قال: «لما نزل قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك..} قال صلى الله عليه وسلم : اللهمَّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله عنه والطبراني في الصغير والأوسط عن أنس رضي الله عنه ). فينبغي للمؤمن أن يتدبَّر هذه الآيات حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بدعاء النبي عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، لكي يبقى في عناية الله عزَّ وجل وحفظه وإرشاده. فلا يتَّكل على قواه ولا يركن إلى طاقاته، بل يشعر دائماً وأبداً أنه مفتقر إلى الله وعونه وتأييده، وفي ذلك السَّلامة والنجاة من الزيغ والانحراف والبعد عن جادَّة الحق.
الفصل الثالث:
رعاية الدعوة للمستضعَفين من أتباعها
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {واصبِرْ نَفْسكَ مع الَّذين يَدْعونَ ربَّهم بالغَداةِ والعشيِّ يُريدونَ وَجْههُ ولا تَعْدُ عيناكَ عنهم تُريدُ زينةَ الحياةِ الدُّنيا ولا تُطعْ من أغفلنا قلبَهُ عن ذِكرنا واتَّبعَ هواهُ وكان أمْرُهُ فُرُطاً(28)}
ومضات:(2/460)
ـ لابدَّ من ترسيخ جذور الشريعة في قلوب المؤمنين الصادقين، لتكوين جيل من الدُّعاة، يتابعون المسيرة في سبيل إنارة الدرب للأجيال القادمة.
ـ على الرغم من الدور الفعَّال لأصحاب المال والجاه في تنشيط عملية الدعوة، فإن الأولويَّة تبقى لأصحاب القلوب المنكسرة، والنفوس الطيِّبة ذات النوايا الصافية، ليكونوا القواعد الثابتة للمجتمع الإيماني السليم، نظراً لصدق سرائرهم وعدم تقيُّدهم بقيود المال ومتع الحياة.
ـ إن عدد الَّذين يدخلون في دين الله وينتسبون إليه هو من الأهميَّة بمكان، ولكن الأهمَّ منه هو عدد الصادقين منهم والمخلصين في حمل الرسالة ومتابعة الدعوة، فهؤلاء هم الَّذين يجب أن نصبر أنفسنا معهم ونلازمهم من أجل القيام بالعمل المثمر، مبتعدين عن المراوغين الَّذين يرومون الجاه والأهواء الشخصية من وراء الانخراط في صفوف المؤمنين.
في رحاب الآيات:(2/461)
نزلت هذه الآية الكريمة في عُيَيْنَةَ بن حصن وأصحابه، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء، منهم سلمان الفارسي، وعليه شملة صوف قد عَرِق فيها، فقال عُيَيْنَةُ للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ ونحن سادة مُضَر وأشرافها، إن أسلمنا يسلم الناس، وما يمنعنا من اتِّباعك إلا هؤلاء، فنحِّهم حتَّى نتَّبعك، أو اجعل لنا مجلساً، ولهم مجلس. فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم إلى ما طلبوا رغبة في إسلامهم، لولا أن نزلت الآية الكريمة، عندها خرج رسول الله يلتمس هؤلاء الفقراء، إلى أن رآهم فجلس معهم وقال: «الحمد لله الَّذي جعل في أمَّتي من أمرني ربِّي أن أصبر نفسي معهم» (أخرجه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوَّة، والبغوي في شرح السنَّة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ). والسؤال الَّذي يطرح نفسه: أين هو المكان الحقيقي للأنبياء والرسل والدعاة؟ وأين هو مجلسهم؟ هل في قصور مشيَّدة، وأبراج شامخة مع أغنياء الأمَّة وزعمائها، أم مع من؟.(2/462)
والجواب الإلهي عن هذه التساؤلات: إن مكان الأنبياء مع المحبِّين لله، الذاكرين له، مع أهل العشق الإلهي والوصال، فهؤلاء أهل الله وأحبابه، تجب مواصلتهم والعناية بهم، لأنهم جنود صامدون، يحملون الرسالة بصدق، ويتابعون المسيرة بأمانة وشرف. فقد أحاط الحواريون بالسيد المسيح، وهم من عامَّة الشعب، فأخذوا من علم النبوَّة، ورشفوا من رحيقها، وتقيَّدوا بإرشاداتها، فكانوا رسل السَّلام والمحبَّة، وكانوا نماذج صادقة أمينة لتطبيق الشريعة السماوية. وكذلك فعل الصحابة الكرام، فقد أحاطوا بالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وجُلُّهم من فقراء الأمَّة، وحملوا لواء الإسلام إلى أصقاع الأرض. لذلك يأتي الأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يصاحب هؤلاء العامَّة ويجالسهم ويعلِّمهم، ففيهم يكمن الكثير من الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات، لأنهم أصحاب القلوب المتجهة إلى الله بإخلاص، لا يبغون جاهاً ولا متاعاً ولا انتفاعاً، إنما يبتغون وجهه الكريم، ويرجون رضاه، ويطلبون منه تعالى أن يعمَّهم بفضله. ولو ذكر المستكبرون الله لاستشعروا جلاله الَّذي تتساوى في ظلِّه الرؤوس، وتتطهَّر النفوس، ولأَحسُّوا برابطة العقيدة الَّتي تذوب أمامها الفوارق بين الناس ليصبحوا إخوة في الدِّين، فقد جاء الإسلام ليسوِّي بين الناس أمام الله، فلا تفاضل بينهم بمال ولا نسب ولا جاه؛ بل بالفضائل والمكارم والتَّقوى: {..إنَّ أكرمَكُم عند الله أتقاكُمْ..} (49 الحجرات آية 13).(2/463)
ثم يأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بألاَّ يُطيع من غفل قلبه عن ذِكر الله والتفت عنه إلى نفسه وذاته، وإلى ماله وأبنائه، ومتاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متَّسع لله، والقلب الَّذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لاجرم أنه غافل عن الله؛ فماذا يُرتجى من إنسان تشعَّبت به الأهواء، وتفرَّقت نفسيته، فهو مُضيِّعٌ لُباب الحياة وجوهرها، مضيِّع لحقوق ربِّه وحقوق نفسه، وحقوق الناس، لقد عاقب نفسه بنفسه قبل أن يحيق به عذاب الله؛ وهل هناك عقوبة أشدُّ من الغربة الروحية الَّتي يعيشها من ترك قلبه خالياً من محبَّة الله، وتركه نهباً لهموم الحياة وشكوكها واضطراباتها؟. وما أكرمه من إنسان لو أنه أغنى قلبه بحبِّ الله وطاعته، كما أنه أغنى يده بمال الله، فجمع خيري الدنيا والآخرة؟.
وينبغي ألاَّ يُفهم من كلامنا أنَّ إرادة وجه الله حِكرٌ على فقراء الأمَّة، بل هي متاحة لكلِّ من أراد وجه الله بصدق، فاتَّجه بقلبه ومشاعره إلى ذات الله؛ دون أن تفتر همَّته عن عطاء الدنيا وكسبها، بل سخَّر ما أعطاه الله في سبيل خدمة دين الله، كما تحلَّى وتمثَّل بفضائل الدِّين، ليكسب بذلك قلوب الناس ومحبَّتهم بسبب صدقه في التعامل، وبذلك تزداد أرباحه الوفيرة وكأنني أسمع ترداد قول الشاعر يأتي من الأفق البعيد:
ما أجمل الدِّين والدنيا إذا اجتمعا وأقبحَ الكفر والإفلاس بالرجل
وكأنِّي أرى أغنياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنفقوا وبذلوا وأعطوا.. حتَّى طربت لعطاءاتهم السماء، وفرحت بما قدموه القلوبُ المنكسرة المعدمة...
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {ولا تطْرُدِ الَّذين يدعونَ ربَّهم بالغَداةِ والعشيِّ يُريدونَ وجههُ ما عليكَ من حِسابِهم من شيءٍ وما مِنْ حِسابِكَ عليهم من شيءٍ فتطْرُدَهم فتكونَ من الظَّالمين(52)}
ومضات:(2/464)
ـ جعل الإسلام الإخلاص في العبادة، والصِّدق في العمل، حبل الأمان الَّذي يشدُّ المؤمنين كافَّة للتعلُّق به.
ـ صانت رسالة الإسلام كرامة الإنسان، ومنعت الناس من محاسبة بعضهم بعضاً فيما يتعلَّق بالعقيدة والاجتهادات الَّتي تصبُّ في مجراها، وبالتالي فإن المحاسب الحقيقي هو ربُّ العالمين، ولا يحقُّ لأحد تحقير الناس أو تجريحهم، أو تقييم مقدار التزامهم الدِّيني، أو إبعادهم عن دائرة العمل الإيماني المشترك، أو التشهير بهم، أو تكفيرهم.
ـ من يخالف هذه التعاليم فإنه يظلم نفسه ويظلم الآخرين.
في رحاب الآيات:(2/465)
لقد كانت غالبيَّة الأتباع الَّذين سارعوا للاستجابة إلى دعوة النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم في بدايتها من الفئة المستضعَفَة الفقيرة، كما كانت صفة الأتباع الأُوَل لجميع الرسل. وقد شاءت حكمة الله أن ترفع من شأنهم، وأن يكونوا بمثابة القاعدة الأساسية الَّتي يستند إليها الرسل في مهامِّ الدعوة والتبليغ، قال تعالى: {ونريدُ أن نَمُنَّ على الَّذين استُضْعِفوا في الأرضِ ونجعَلَهم أئمَّةً ونجعلَهم الوارثين} (28 القصص آية 5). وكثيراً ما كان يُشكِّل هذا التعامل الإنساني العادل ـ الَّذي منح هؤلاء الأتباع حقوقهم وكرامتهم ــ عقبة في طريق إقبال المترفين من الناس على الاستجابة للدعوة، ووجدوا أنه من غير اللائق بحقِّ أنفسهم وكبريائهم أن يجتمعوا وإيَّاهم في مجلس واحد على قدم العدل والمساواة. فكانوا يقترحون على أنبيائهم طَرْدَهُم وإبعادهم، كما حدث مع نبي الله نوح عليه السَّلام عندما قالوا له: {..وما نراكَ اتَّبَعكَ إلاَّ الَّذين هم أراذِلُنَا بادِيَ الرَّأي..} (11 هود آية 27)، وذلك ظنّاً منهم بأن الحقَّ سيتَّبع أهواءهم، ويُصوِّب آراءَهم الجاهلية ومعتقداتهم الزائفة، فما كان من نوح عليه السَّلام إلا أن ازداد بالحقِّ تمسُّكاً، وعلى الدفاع عن المؤمنين إصراراً، فأجابهم بقوله: {..وما أنا بطاردِ الَّذين آمنوا إنَّهم مُلاقوا ربِّهم ولكنِّي أراكم قوماً تجهلونَ} (11 هود آية 29). وقد جرت مثل هذه الأحداث مع كثير من الأنبياء، فقُدِّر لخاتمهم محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام ما قُدِّر عليهم من مواجهة المعترضين والمتكبِّرين، فقد روى أحمد وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مرَّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمَّار وخبَّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يامحمَّد، أرضيتَ بهؤلاء من قومك؟! أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن(2/466)
طردتهم أن نتَّبعك)، فنزلت الآية الكريمة لتقطع على الكفَّار السبيل إلى ذلك، وتُنَبِّه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يستجيب لأهوائهم بطرد المؤمنين من مجلسه بسبب فقرهم، فلا تفاضل بين الناس إلا بالتَّقوى والعمل الصالح، وبيوت الله مفتَّحة الأبواب لكلِّ مسلم، والعلم فيها ثروة للجميع على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومراتبهم الاجتماعية؛ فمن أقبل غَنِم وله أجر ما عمل، ومن أعرض خسر وعليه إثم ما فرَّط. وبناءً على ذلك، تمكَّن من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقراء الجيوب أغنياء القلوب؛ الَّذين لا يبتغون غير الله، وأعرض عن الاستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم المستكبرون وهم يقولون: كيف يمكن أن يختصَّ الله بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء من دوننا؟، وهكذا وقعوا في فتنة غرورهم وإعجابهم بأنفسهم دون أن يدركوا طبيعة العلاقة بين المؤمن والرسول، وبين الرسالة ومُنزل الرسالات سبحانه وتعالى.(2/467)
إن هذا الدرس الإلهي وإن كان موجَّهاً للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بشخصه، إلا أنَّ المسلمين كلَّهم من بعده معنيُّون به، فنحن سواء كنا ضمن مجموعة، أم ضمن مجتمع إسلامي، يجب علينا أن نكون متحابِّين، متناصحين، متعاونين، وأن نحذر أن نكون بسوء تصرفاتنا سبباً في إخراج أحد المسلمين من هذه الدائرة الاجتماعية المتراحمة. لكن وياللأسف، نرى أن إساءة التصرُّف مع الآخرين قد أصبحت في الوقت الراهن أحد الأمراض المتفشِّية في معظم العلاقات فيما بين المسلمين، حتَّى إننا نجد بعض الناس يحاسب الآخرين على تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم وإن كانت في أمورهم الخاصَّة، ومنهم من نصَّب نفسه مكان القاضي أو الحاكم، حتَّى وصل بهم الأمر إلى تكفير الآخرين، وإخراجهم من دائرة الدِّين. فأيُّ إرهاب روحي هذا الَّذي يعيشه المسلم إذا وقع فريسة لأمثال هؤلاء من أصحاب النفوس المريضة المتسلِّطة؟ وكيف يُنسَبُ إلى الإسلام ما ليس منه، وهو دين الحرِّية، ودين الشورى، ودين الراحة النفسية، فيظهره بعض المسلمين، وكأنه دين التعصُّب والتزمُّت وفرض الأمور دون مناقشة أو اعتراض؟. والمحصِّلة أنهم بعملهم هذا وسوء تدخلهم يطردون الَّذين يدعون ربَّهم بصدق وخشوع، لقلب موازين حياتهم حسب رغباتهم. وما أشدَّ تناقض هذه الرغبات لدى هذه الفئات الَّتي توقع المسلم في الحيرة والقلق حتَّى يظنَّ أن راحته تكمن في الابتعاد عن مثل هذا الجوِّ المرعب، والَّذي كان يُفترض أن يكون جوّاً إسلامياً ينبع منه السِّلم والسَّلام.(2/468)
إن حكومات العالم باتت تنظر بقلق وحذر لمثل هؤلاء المتعصِّبين الَّذين يسعَوْن إلى كسب عواطف البسطاء الخيِّرين، ليحوِّلوهم إلى أدوات للتنفير والتكفير، وتحت شعار الإسلام، فتراهم يُكفِّرون كل من يعارض خطَّ سيرهم، وقد يبيحون دمه وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، والإسلام منهم ومن فعلهم براء، وهم لا يدركون ـ بسبب عدم دراستهم للإسلام الدراسة الصحيحة الصادقة ـ بأن تعاليمه مبنيَّة على اليُسر والتسامح، والتِمَاسِ الأعذار للآخرين، ومعاملتهم بحسن النيَّة وسلامة الطوية، ولا يسلِّمون بأن القاضي الحقيقي هو الله الفرد الصمد الَّذي بيده مقاليد الأمور وإليه المآب، فأين يذهبون بقول الله تعالى: {وإذا جاءَكَ الَّذين يُؤمنونَ بآياتنا فقلْ سلامٌ عليكم كتَبَ ربُّكم على نفْسهِ الرَّحمَةَ أنَّه من عملَ منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تابَ من بعدهِ وأصلَحَ فأنَّه غفورٌ رحيم} (6 الأنعام آية 54).
سورة عبس(80)
قال الله تعالى: {عبسَ وتولَّى(1) أنْ جاءَهُ الأعمى(2) وما يُدريكَ لعلَّه يزَّكَّى(3) أو يذَّكَّرُ فتنْفَعَهُ الذِّكرى(4) أمَّا من استغنى(5) فأنت له تصدَّى(6) وما عليك ألاَّ يزَّكَّى(7) وأمَّا من جاءَكَ يَسْعَى(8) وَهوَ يَخْشَى(9) فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى(10)}
ومضات:
ـ في هذه الآيات الكريمة، تكريم لطالب العلم ولو كان شخصاً أعمى، وتفضيل له على سادات القوم وكبرائهم المعرضين عن رسالة الله، فالتكريم في مفهوم السماء باعتبار الفضائل والمآثر لا باعتبار الشكل والمظاهر.(2/469)
ـ لقد جاء هذا الأعمى يحثُّ الخطى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبه مملوء من خشية الله تعالى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً عنه بدعوة سادة قريش ووجهائها إلى الإسلام، فأنزل الله تعالى آيات تُتلى إلى يوم القيامة، يعاتب فيها رسوله على إعراضه عنه، وينبِّهه إلى أن في صدق إيمان هذا الأعمى الفقير وأمثاله من المؤمنين، خيراً عميماً للدعوة والمجتمع معاً، فينبغي أن يكون اهتمامه بالمقبل ولو كان فقيراً أعمى دون الجاحد المدبر ولو كان غنياً قوياً.
في رحاب الآيات:(2/470)
لقد كانت قضية الأعمى عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مناسبة لبثِّ التشريع الإلهي والقيم السماوية الخالدة، الَّتي جسَّدها وحي الله عزَّ وجل حول الإنسان وكرامته عند الله، وخصوصاً عندما يكون مقبلاً على الهداية طالباً لها، يأوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيراً بهدايته من ظلمات الجاهلية، فلا يمنعه والحالة هذه، رثاثة ثيابه، ولا كَفُّ بصره، ولا فقره وجوعه من قبوله في مدرسة الهداية، والإقبال عليه وترك من سواه كائناً من كان لاسيَّما عندما يكون هذا المُعرض متكبِّراً مغروراً بماله أو قوَّته. إن مهمَّة الأنبياء والرسل هي أشرف المهمَّات وأعلاها قدراً، لذلك فهي مهمَّة صعبة للغاية، فالنبي مسؤول عن كلِّ كلمة ينطق بها، وعن كلِّ عمل يعمله، وعن كلِّ موقف يسكت عنه، لأنه يُبيِّن للأمَّة دستورها بشكل عملي، ويُرسي للمجتمع قواعده السلوكية والعملية، وأي خطأ أو إهمال يصدر عنه فإنه سَيُورَّثُ للأجيال المتلاحقة من ورائه، ويمارسه الناس على أنه الصواب، وهو في واقع التشريع الربَّاني خطأ. لذلك كان لابدَّ من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار في كلِّ سلوكه وتصرُّفاته وأقواله، لكي تُرسَى قواعد الشريعة على ما يريد الله تعالى لها أن تُرسَى عليه. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً عن الخطايا والذنوب فإنه ليس معصوماً عن الزلاَّت والهفوات غير المقصودة لأنه إنسان؛ فقد يرتكبها أو يتعرَّض لها أثناء دعوته بحكم إنسانيته وبشريته، فيفعل ما هو حسن في نظره مع وجود الأحسن في نظر الله عزَّ وجل، إلا أنه بحكم نبوَّته وكونه قدوة للناس، يتعيَّن تبيين أخطائه من قبل وحي السماء وتصحيحها على الفور. فما أن يصدر عنه خطأ اجتهادي يختار فيه أمراً رآه فاضلاً من وجهة نظر ما، حتَّى تنقضه السلطة التشريعية السماوية وتُصَوِّبَ ذلك الحكم، ويتنزَّل وحيها عليه ليَعْدِل عن الفاضل إلى(2/471)
الأفضل. ويبدو أن مثل هذه الأخطاء لابدَّ من وقوعها ليشعر كلُّ من يسير في طريق الدعوة، بضرورة استمراره ومتابعته للعمل، ضمن منهاج تشريعي متكامل بصفته إنساناً، وفي جميع الظروف والأحوال. إن التوجيه الَّذي نزل بشأن ما حدث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل الأعمى هو أمر عظيم جداً، لأنه عتاب للنبي مسجَّل في كتاب خالد محفوظ، يُقْرَأُ ويُتَعبَّدُ بتلاوته إلى يوم الدِّين، ولكن هذا التوجيه يَرِدُ تعقيباً على حادث فردي، على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد مناسبة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطَّرد. هذه الحقيقة لا تقتصر على مجرَّد التوجيه إلى الكيفية الَّتي يُعامَل بها فرد من الناس أو صنف منهم، بل هي أبعد من هذا بكثير، إنها تعليم الناس كيف يزِنون كلَّ أمور الحياة، ومن أين يستمدُّون القيم الَّتي يزِنون أمورهم وفقاً لها.(2/472)
والحقيقة الَّتي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي أن يستمدَّ الناس في الأرض قِيَمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيَّدة بملابسات أرضهم، ولا نابعة من تصوُّراتهم المقيَّدة بهذه الملابسات. يجيء الرجل الأعمى الفقير ابن أم مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مشغول بأمر النَّفر من سادة قريش: عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل (عمرو بن هشام)، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة ومعهم العباس ابن عبد المطلب، وهم زعماؤها وكبراؤها، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في شدَّته الَّتي كان فيها بمكَّة، وأكثر هؤلاء النَّفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوَّتهم، ويصدُّون الناس عنه، ويوصدون دونه السبل والأبواب، حتَّى ليجمِّدون دعوته في مكَّة ولو ظاهراً، بينما يقف الآخرون خارج مكَّة لا يُقبلون على الدعوة الَّتي يقف في وجهها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدُّهم عصبية له، وذلك في بيئة جاهلية قبلية تجعل لموقف القبيلة كلَّ قيمة وكلَّ اعتبار. فلو أسلم هؤلاء ـ من وجهة نظر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ـ لانزاحت العقبات الكبيرة، ولزالت الأشواك الحادَّة من طريق الدعوة في مكَّة، ولانتشر بعد ذلك الإسلام فيما حولها بإسلام هؤلاء الصناديد الكبار. وفي الوقت نفسه يجيء هذا الأعمى فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يارسول الله، أقرئني وعلِّمني ممَّا علَّمك الله، ويكرِّر، فيكره الرسول مقاطعته لحديثه، وتظهر آثار الامتعاض على وجهه الَّذي لا يراه الرجل، ولكن يراه ربُّ العالمين الَّذي يكره كلَّ العيوب والنقائص، فيعبس صلى الله عليه وسلم ويُعْرِضُ عنه لكي لا يعطِّله عن الأمر الخطير، الَّذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير. وهنا يتنزَّل الوحي الإلهي حاملاً كلمة الفصل، الَّتي تضع بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم الميزان(2/473)
الَّذي توزن به القيم، بغضِّ النظر عن جميع المظاهر.
إن الأسلوب الَّذي تولَّى به القرآن هذا العتاب الإلهي، أسلوب فريد لا يمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية، جاء على شكل لمسات سريعة وعبارات مقتضبة، وتعبيرات كأنها نبرات ولمحات حية: {عبسَ وتَوَلَّى} هكذا بصيغة الغائب، فالله سبحانه لا يحبُّ أن يوجِّه العتاب المباشر لنبيِّه وحبيبه عطفاً عليه ورحمةً به وإكراماً له. ثمَّ يتحوَّل العتاب من صيغة الغائب إلى صيغة الخطاب: وما يدريك يا محمَّد أن يتطهَّر هذا الأعمى الفقير الَّذي جاءك راغباً فيما عندك من الخير، وأن يتيقَّظ قلبه فيتذكَّر فتنفعه الذِّكرى؟ وما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله فيستحيل منارة في الأرض تشعُّ بنور السماء، الأمر الَّذي يتحقَّق كلَّما تفتَّح قلب للهدى، وترسَّخت حقيقة الإيمان فيه، وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله؟!
ويستمرُّ التوجيه وترسيخ القيم المثالية بصيغة العتاب... وكيف تنصرف عن المقبِل عليك بقلبه إلى من استغنى بماله وقوَّته عن الإيمان وعن العلوم الَّتي يشتمل عليها الكتاب المنزَّل عليك؟! فأنت تنشغل به وتمنحه جهدك ورعايتك وتحتفل بأمره، وتجهد لهدايته، وتتعرَّض له وهو عنك معرض! وأيُّ حَرَجٍ عليك في إصراره على الإعراض والتكبُّر؟ فما أنت إلا رسول مبلِّغ عن الله، وقد أدَّيتَ ما يجب عليك، فَلِمَ يشتدُّ بك الحرص على إسلامه؟. وأمَّا من جاءك مسرعاً في طلب الهداية والقرب من ربِّه، وهو يخاف الله تعالى، ويتَّقي محارمه، ويحذر الوقوع في الغواية، فأنت تتشاغل عنه وتتلهَّى بالانصراف عنه إلى رؤساء الكفر والضلال. وقد وُصف الانشغال عن الرجل المؤمن بالتلهِّي، وهذا وصف ينطوي على العتاب الشديد المؤلم.(2/474)
إنه درس للدعاة إلى الله ليساووا بين الناس في وجوههم ودعوتهم وألا يستصغروا شأن إنسان ولا يميلوا إلى إكبار شخص حسب مظهره وهيئته، فلا يعلم الإنسان أين الخير، والمعوَّل عليه في القبول عند الله الصدور لا القشور، والحقائق لا الصور والأشكال.
إن المتأمِّل في هذه القصَّة يدرك أن الله سبحانه يقطع بهذا الموقف كلَّ تعلُّق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغير الله مهما كان هذا التعلُّق ضعيفاً، فالإسلام دين الله الخالد، ولن يتوقَّف انتشاره على أشخاص أو زعماء معينين، رفضوه ووجدوا فيه قيداً يكبِّل أيديهم عن التمادي في غيِّهم وظلمهم وأهوائهم، وما على الرسول إلا البلاغ، فمن استجاب فقد فاز ومن أعرض أو عادى فقد خاب وخسر، وما دور الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر إلا البلاغ المبين كما أوضح ذلك كتاب الله تعالى في قوله سبحانه: {إن أنت إلاَّ نذير} (35 فاطر آية 23) وقوله تعالى: {..وما أنت عليهم بجبَّارٍ فذكِّر بالقرآنِ من يخافُ وعيد} (50 ق آية 45) وقوله عزَّ وجل: {ليس عليك هُداهم ولكنَّ الله يَهدي من يشاء..} (2 البقرة آية 272). ولقد أشفقت عناية السماء على أمين دعوة الإسلام والسَّلام، من تحميله نفسه فوق طاقتها، رغبة في تقديم هدية الله إلى عباده، وحرصاً على قبولهم لها فقال تعالى: {فلعَلَّكَ باخِعٌ نفْسَكَ على آثارِهِم إن لم يؤمنوا بهذا الحديثِ أسَفاً} (18 الكهف آية 6) أي هوِّن عليك فقد كدت تقتل نفسك أسفاً بسبب امتناعهم عن قبول هدية الله ودينه الخالد الَّذي ارتضاه لعباده السعداء.(2/475)
ما أشبه هذا الموقف التزكوي الَّذي يزكِّي فيه خالق الكون قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بموقفه الآخر في سورة الكهف، لمَّا سُئل عن قصَّة أصحاب الكهف فقال أجيبكم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فجاءته التزكية لنفسه وقلبه صلى الله عليه وسلم بسلوكين مختلفين، فقد أبطأ الوحي عليه ومنع عنه العلم بالإجابة، ليُحرج موقفه فيلتجئ إلى ربِّه، ومن ناحية ثانية عُوتب صلى الله عليه وسلم عتاباً شديداً بقوله تعالى: {ولا تقولَنَّ لشيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غداً * إلاَّ أن يشاءَ الله واذكر ربَّك إذا نسيتَ وقل عسى أن يَهْديَنِ ربِّي لأقرَب من هذا رَشَداً} (18 الكهف آية 23ـ24). إنها التربية الإلهية المُثلى الَّتي عبَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي» (أخرجه العسكري عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ وقال فيه الحافظ ابن حجر: غريب لكن معناه صحيح).
الفصل الرابع:
صفات المؤمنين بالدعوة
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسولُ بما أُنزلَ إليهِ من ربِّهِ والمؤمنونَ كلٌّ آمَنَ بالله وملائكتهِ وكتُبهِ ورسُلهِ لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رُسُلهِ وقالوا سَمِعنا وأطعنا غُفرانَكَ ربَّنا وإليكَ المصيرُ(285)}
ومضات:
ـ إن رسل الله تعالى هم أوَّل من آمن بالرسالات الإلهية الموحى إليهم بها، وهم أكمل العاملين على تطبيقها وإرساء قواعدها، لأنهم بُعثوا متمِّمين لبناء صرح التشريع الإلهي، وقد اتَّبعهم المؤمنون فصدَّقوا برسالاتهم وكتبهم، واقتدوا بهم إيماناً بوحدانية الله تعالى، وبقدرة ملائكته على تنفيذ أوامره، ويقيناً بوحدة مصدر الشرائع السماوية وتماسكها.(2/476)
ـ السمع والطاعة في الإسلام التزام عملي للمؤمن، وسلوك فعلي في بناء حضارة الإنسان، وتشييد منارة الدعوة؛ لهداية الخلائق إلى رحاب الإيمان، ليعمَّ السَّلام والأمن ربوع العالم، ولتكتمل سعادة الإنسان في دارَيْ الدنيا والآخرة، محاطة برضاه تعالى ومسيَّجة بمغفرته.
في رحاب الآيات:
لقد كان إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم إيمان التلقي المباشر للفيض الإلهي والوحي الربَّاني، والاتصال الوثيق بالحقيقة المباشرة، وهذه أرفع درجات الإيمان. أمَّا إيمان الصحابة، ومن نهج نهجهم، فهو الإيمان الشامل المطلق الَّذي يليق بالأمَّة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة.
والإيمان بالله هو حجر الزاوية في الإسلام ومادَّته التَّوحيد؛ وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، والإقرار له بالعبودية، وانعتاق الإنسان من كلِّ أسرٍ أو قيد أو هوى يحجبه أو يبعده عن الله.
ويستتبع الإيمان بالله الإيمان بملائكته، وهذه حقيقة غيبيَّة لا سبيل للعقل البشري أن يدركها كإدراكه للحقائق المادِّية، ولكنَّ الإيمان بها يمنح صاحبه حساً روحياً يتلمَّس به آثار هذه المخلوقات الطاهرة الَّتي تحفُّ به، وتشاركه إيمانه بربِّه، وتستغفر له، وتعينه على الخير.(2/477)
وممَّا لاشكَّ فيه أن الإيمان بالله يقتضي الإيمان بما أنزله من الكتب، والتصديق بجميع الرسل الَّذين بعثهم لهداية الناس، كما يقتضي وحدة الأصل الَّذي تقوم عليه رسالاتهم ودعواتهم، فكلُّها جاءت من عند الله في صورة مناسبة لحال القوم الَّذين أُرسلت إليهم، حتَّى انتهى الأمر إلى خاتم الأنبياء محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فجاء الإسلام بالصورة الأخيرة المتكاملة للدين الواحد، لدعوة الخلق إلى الله حتَّى يوم القيامة. وما أروعها من ومضات تُشِعُّ ببهائها من هذا الدِّين الحنيف، فالمسلمون لا يكمل لهم إيمان، ولا تصح لهم عقيدة حتَّى يؤمنوا بالرسالات السماوية المتقدمة، وبالكتب المقدَّسة السابقة، إيمان من استسلمت جوارحه ومداركه لله ربِّ العالمين، فهم بذلك يُجلُّون جميع الشرائع السماوية، ويوقِّرون الأمم الَّتي اتبعتها واهتدت بها، فضلاً عن إيمانهم بالقرآن الكريم الَّذي حوى خلاصة تعاليمها وروحانيتها، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصَدِّقاً لما بين يديهِ من الكتاب ومهيمناً عليه..} (5 المائدة آية 48) أي أنزلنا إليك القرآن بالحقائق الثابتة مصدِّقاً لما سبقه من الكتب السماوية، ومتضمِّناً ما تهدف إليه وتسعى لإقراره في المجتمع البشري.
وبعد هذا الإيمان الكامل، والتخلُّق بأخلاق الرسل وصفاتهم، يرتمي قلب المؤمن على أعتاب محبَّة الله بالطاعة والتسليم، ويغمره اليقين بالعودة إليه، فيقدِّم ما يقدر عليه من الطاعات، ويعتذر إلى الله سبحانه عن تقصيره، ويطلب منه الصفح والغفران. لِمَ لا؟ وقد امتلأ قلبه برصيد من الإيمان والهدى والطمأنينة والسعادة واليقين، ذلك الرصيد الَّذي ما خلا قلب إنسان منه؛ إلا اجتاحه القلق وخيَّم عليه الظلام، وغمرته الوساوس والشكوك، واسْتَبَدَّ به الأسى، وتخبَّط في التِّيه والضياع، حتَّى ولو كان منغمساً في الرَّغد المادِّي، وتوافرت له الحرِّية والأمن والسَّلام الظاهري.(2/478)
فالإيمان بالله واليقين بأن المصير إليه، هو الشعاع الَّذي ينير الطريق أمام الإنسان ويكشف له الحقائق، ويكيِّف ضميره وسلوكه وتقديره للمقدِّمات والنتائج، ويدفعه للمضي في طريق الطاعات مُسْرِعَ الخطا، حريصاً على الخير، ليجتاز الامتحان الَّذي وضعه الله تعالى أمامه عندما استخلفه في الأرض، وأعطاه قوَّة العقل والروح، ليؤدِّي هذه الخلافة على أفضل وجه.
سورة الشورى(42)
قال الله تعالى: {فما أُوتِيْتُم من شيءٍ فمتاعُ الحياةِ الدُّنيا وما عندَ الله خيرٌ وأبقى للَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون(36) والَّذين يجتنبونَ كبائِرَ الإثْمِ والفواحشَ وإذا ما غَضِبوا هم يغفرون(37) والَّذين استجابوا لربِّهمْ وأقاموا الصَّلاة وأمْرُهُم شُورى بينَهُم وممَّا رزقناهم يُنفِقون(38) والَّذين إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم ينتَصرون(39) وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلُها فمن عفا وأصْلَحَ فأجرُهُ على الله إنَّهُ لا يحبُّ الظَّالمين(40) ولَمَنِ انتصرَ بعدَ ظُلْمهِ فأولئك ما عليهم من سبيلٍ(41) إنَّما السَّبيلُ على الَّذين يَظلِمُون النَّاسَ ويبْغُونَ في الأرضِ بغير الحقِّ أولئك لهم عذابٌ أَليم(42) ولَمَن صبرَ وغفرَ إنَّ ذلك لَمِن عزمِ الأمور(43)}
ومضات:
ـ إن ما يحظى به الإنسان من نعيم وخيرات في الدنيا هو نعيم مؤقَّت تشوبه المخاوف من الزوال، ممَّا ينغِّص على صاحبه فرصة التمتُّع به، بينما النعيم الحقيقي هو ما يحظى به المؤمن؛ عندما يتوكَّل على ربِّه، ويجتنب الرذائل والموبقات، ويحلم عند الغضب؛ فلا خوف عليه من القلق والهمِّ، ولا مكدِّر لسعادته النفسية في جميع الأحوال.
ـ يستجيب المؤمنون طائعين لما يقرِّبهم من حضرة الله، فهم للصلاة الحقيقية مقيمون، ويشكِّلون مجتمعاً منسجماً متفاهماً، قائماً على التشاور وتبادل الآراء فيما بينهم بحكمة وحسن تدبير، ويبذلون الجهد والمال في سبيل إسعاد الإنسانية وإنقاذها من براثن الفقر والحاجة.(2/479)
ـ يجب على المؤمنين أن يتزوَّدوا بالقوَّة المادِّية والمعنوية، ليحموا بها أنفسهم من كلِّ اعتداء أو جور، وينتصروا بها لكلمة الله القائمة على التوحيد.
ـ يحقُّ لمن أوذي من المؤمنين أن يردَّ الأذى بمثله، أمَّا من ترقَّى في مدارج الحلم والأخلاق الفاضلة، وعفا عمَّن جهل عليه، وحاول إصلاحه، وردَّه إلى جادَّة الصواب، فله ثوابه الجزيل من حضرة الله الَّذي يمقت الظلم وأهله.
ـ لا إثم على من يدافع عن نفسه وعرضه وماله، ويردُّ كيد المعتدين إلى نحورهم، إنما الإثم على الَّذي ينتهك الحرمات الآمنة، ويروِّع الناس المسالمين، ويسعى في الأرض فساداً فيكون عُرضة للعذاب الأليم.
ـ المؤمن مبتلى، فمن ابتُليَ بأشرار الناس واستعان بالصبر والمسامحة والمغفرة، فهو من أصحاب الإيمان الحقيقي، والإرادة الفولاذية، وهو من خيار الناس حقاً.
في رحاب الآيات:(2/480)
لَمَّا كانت البشرية بحاجة إلى قيادة رشيدة حكيمة تنقذها من جاهلية الفكر الَّتي ترزح تحت نيرها، والضلالة الَّتي تخوض فيها، وفي الوقت ذاته تأخذ بيدها، وتسدِّد خطاها على الطريق الموصل إلى الله ربِّها وربِّ هذا الوجود كلِّه، أُنزلت هذه الآيات وتكررت، وتكرر معها الترغيب والترهيب، والتعليم والإرشاد، عساها تصيب شغاف القلوب لتهديها إلى صراط مستقيم؛ فجاءت بجُملتها تعرض الصفات الأساسية للمجتمع المسلم. فما هي هذه الصفات وما حقيقتها، وما قيمتها في حياة البشرية جميعها؟ إنها الإيمان والتوكُّل، واجتناب الكبائر، والحلم عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصَّلاة، والشورى والإنفاق، والانتصار على البغي، والعفو، والإصلاح، والصبر. وتبدأ الآيات بالتقليل من أهميَّة الدنيا وأموالها، فتشير إلى أن في هذه الأرض متاعاً جذَّاباً براقاً، وفيها أرزاق وأولاد وشهوات، ولذائذ وجاه وسلطان. وهناك نِعَمٌ آتاها الله عباده في الأرض تلطُّفاً منه وهبة خالصة، لا يرتبط المنع منها في هذه الدنيا بمعصية ولا عطاؤها بطاعة، ولكنَّ هذا كلَّه نعيم مؤقت، ومتاع محدود الأجل لا يرفع ولا يخفض، ولا يُعَدُّ بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة، ولا يُعدُّ بذاته علامة رضا من الله أو غضب، إنما هو متاع زائل، فيجب أن لا يعلِّق الإنسان قلبه بشيء زائل، يُنسيه واجبه تجاه ربِّه ونفسه ومجتمعه. وليضع نصب عينيه النعيم الأبدي الخالد، فيسهل عليه الإنفاق والمساعدة بكلِّ رغبة وتسامح، فإن ما عند الله خير وأبقى، خير في ذاته، وأبقى في مدته. فمتاع الدنيا زهيد إذا ما قيس بما عند الله، وهو محدود بالمقارنة مع الفيض المنساب، وهو معدود الأيام، أقصى أمده للفرد؛ عمر الفرد، وأقصى أمده للبشرية؛ عمر هذه البشرية، وهو بالقياس إلى أيام الله غمْضَةُ عين أو أقرب منها، قال تعالى: {ولله غيبُ السَّمواتِ والأرضِ وما أمرُ السَّاعةِ إلاَّ كلَمحِ البصرِ أو هوَ أقرب وهو على(2/481)
كُلِّ شيءٍ قَديرٍ} (16 النحل آية 77).
وتتابع الآيات بيان صفات المؤمنين الَّذين يدَّخر الله لهم ما هو خير لهم من هذه الدنيا وأبقى، ويبدأ بصفة الإيمان: {للَّذين آمنوا}، وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الكبرى والذات الأولى، الَّتي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء من حقائق الوجود إلا عن طريقها، فعن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك حقيقة هذا الوجود، وأنه مِنْ صُنْعِ الله. والإيمان حارس لأمانة الإنسان وعِفَّته وكرامته، به يملك نفسه أمام المطامع الجارفة والشَّهوات الجامحة، في الجلوة حيث يراه الناس، وفي الخلوة حيث لا يراه أحد إلا الله، وبه يقوى فلا يخاف إلا الله. ومن مقتضيات الإيمان بالله التوكُّل عليه دون سواه، فالمؤمن يؤمن بالله وبصفاته، ويستيقن أنه لا يمكن لأحد في هذا الوجود أن يفعل شيئاً إلا بمشيئته، ومن ثمَّ يَقصِر توكُّله عليه.
والإيمان شجرة من ثمارها طهارة القلب، كما أن استقامة السلوك هي فرع من فروعها، وضرورة لازمة من ضرورات القيادة الرشيدة للنفس، فالقلب الطاهر النظيف الَّذي يكون على صفاء الإيمان ونقاوته، لا يميل إلى الذنوب بل يجتنبها، ولا يَصلُح قلبٌ قد فارقه صفاء الإيمان، وطَمستْه المعصية، وذهبت بنوره. والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري، لذلك جعل اجتناب كبائر الإثم والفواحش الحدَّ الَّذي إن وقف عنده نال وعد الله؛ والفواحش هي كلُّ ما ينكره الشرع والعقل والطبع السليم من قول أو عمل. وتشمل رحمةُ الله المؤمنَ بما يقع منه من الصغائر، فيمحوها له بما يأتي به من صالح الأعمال، لأنه أعلم بطاقته ودوافعه، ولا يخفى أن أثر البعد عن كبائر المعاصي والفواحش ينعكس على المجتمع الإنساني، فيبقى زكياً طاهراً نقياً.(2/482)
ثم يأمرنا الله جلَّ وعلا أن نواجه المغضبات من الأمور، بالعفو عن فاعليها، والتسامح مع مثيريها، لتعلو المحبَّة فوق الأحقاد والضغائن، فيأتي الأمر الإلهي بالتسامح بعد الإشارة الخفيَّة إلى سماحة الله تعالى مع الإنسان، وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون. فالله سبحانه يعلم بوجود الغضب في الفطرة والطبيعة البشرية، فيُعْفِي الإنسان من الحيرة والتمزُّق بين مقتضيات فطرته وأمر دينه، ولكنَّه في الوقت ذاته يُرغِّبه بأن يتغلَّب على غضبه، وأن يعفو ويغفر، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قطُّ إلا أن تُنتهك حرمات الله. ثمَّ تعيدنا الآيات إلى الجانب الروحي والصلة المستمرِّة بالله، والاستجابة لما يحبُّه ويرضاه لنا، فالمؤمنون هم الَّذين يزيلون العوائق الَّتي يقيمها حبُّ الدنيا بينهم وبين ربِّهم، ولا يقوم بين النفس وربِّها إلا عوائق من ذاتها، عوائق من شهواتها ونزواتها، وتشبُّثها بذاتها، أمَّا حين تخلص من هذا كلِّه، فإنها تجد الطريق إلى بارئها مفتوحاً وموصولاً، وحينئذ تستجيب مسرعة بلا عائق.(2/483)
ثم أخذ كتاب الله يفصِّل بعض صور هذه الاستجابة؛ فقال تعالى: {وأقاموا الصَّلاة} فللصلاة في هذا الدِّين مكانة عظمى، لأنها المرسِّخة والمؤكِّدة للقاعدة الأولى في الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وهي الصلة بين العبد وربِّه، وهي ترسِّخ مبدأ المساواة بين العباد في الصف الواحد. ومن أشكال الاستجابة لله، الشورى، فالمؤمنون يتشاورون في الأمور كلِّها، ولا يتعجلون ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدِّين إلا بعد المشورة. وطابع الشورى مِنْ أَوْجَبِ صفات القيادة، والشكل الَّذي تتمُّ به الشورى ليس مصبوباً في قالب حديدي، بل هو متروك للصورة الملائمة لكلِّ بيئة وزمان، ذلك هو التطبيق العملي للاستجابة، يتجلَّى في التكاتف والتشاور والعمل بالرأي الأرشد، ولو كان القائل به أدناهم، وتوحيد الصفوف شكلاً ومضموناً. أخرج الخطيب من رواية مالك عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: «قلت يارسول الله! الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يُسمع منك فيه شيء! قال: اجمعوا له العابد من أُمَّتي، واجعلوه بينكم شورى، ولا تقضوه برأي واحد». وأخرج البيهقي في شُعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أمراً فشاور فيه وقضى اهتدى لأرشد الأمور»، وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن رضي الله عنه قال: (ما تشاور قوم إلا هُدوا وأُرشدوا أمرهم، ثمَّ تلا: {وأَمْرُهُم شُورى بينَهم}). والاستجابة لله تكون كذلك بالإنفاق في سبيله، والإحسان إلى خلقه، وقد كان الإنفاق توجيهاً مبكِّراً في حياة المجتمع المسلم، بل إنه وُلد مع مولده، ولابدَّ من الدعوة للإنفاق تطهيراً للقلب من الشح، وتشذيباً لحبِّ التملُّك، وثقة بما عند الله، وهذه كلُّها ضرورية لاستكمال معنى الإيمان.(2/484)
والمؤمن ليس ضعيفاً ولا ذليلاً، فإذا بغى عليه عدو لا يستسلم لعدوانه، بل يثأر لنفسه وكرامته، وهذه الصفة تقرير لصفة أساسية من صفات المسلم، صفة الانتصار على البغي وعدم الخضوع للظلم، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لأمَّة معتزَّة بالله. إذن فجزاء العدوان عدوان مثله من غير زيادة، ومع ذلك فقد ترك الله تعالى باب التسامح والعفو مفتوحاً، ليَلِج فيه من أُوتي قدراً أكبر من الحلم والصبر، والقدرة على العفو والمغفرة، والله يثيبه على ذلك أفضل الجزاء. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال موسى بن عمران عليه الصَّلاة والسَّلام: يا رب! من أعزُّ عبادك عندك؟ قال: مَنْ إذا قدر عفا». وبالمقابل فإن الله جلَّ وعلا يكره الظالمين الَّذين يبدؤون بالعدوان، ويتجاوزون الحد في الانتقام، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا لِيَقُمْ مَنْ كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا».(2/485)
والَّذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي السيئة بالسيئة، ولا يعتدي بتجاوز حدود ما أسيء إليه، فليس عليه من جُناح وهو يزاول حقَّه المشروع، إنما الَّذين يجب الوقوف في طريقهم والأخذ على أيديهم هم الَّذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحقِّ، والله يتوعَّد الظالم الباغي بالعذاب الأليم. ثمَّ يكرر الدعوة إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية، وعند المقدرة على الدفع، وحين يكون الصبر والسماحة استعلاءً لا استخزاءً، وتجمُّلاً لا تذَلُّلاً. إن مجموعة النصوص في هذه القضية تُصَوِّر الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين، وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ، ومن الضعف والذل، ومن الجَور والبغي، وتعلُّقها بالله ورضاه في كلِّ حال، وتحْمِلها على الصبر الجميل، زادِ الرحلة الأصيل، لتكون رايات المجتمع خفَّاقة بالمحبَّة والتوادد والتواصل على الدوام.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {والَّذين اجْتَنبوا الطَّاغوتَ أن يعْبُدوها وأنابوا إلى الله لهمُ البُشْرى فبَشِّرْ عبادِ(17) الَّذين يستمعونَ القولَ فيتَّبِعونَ أحسنَهُ أولئك الَّذين هَداهُمُ الله وأولئك همْ أُولوا الألباب(18)}
ومضات:
ـ من استطاع أن يحطِّم أصنام الهوى ويجتثَّ جذورها من أعماقه، واتجه بصدق إلى حضرة الله، عاش حياة رغيدة بالإيمان والعلم والفلاح.
ـ من سمات المؤمن المتَّصل بالله تعالى نموُّ حسِّه الإيماني، فهو يُلقي بسمعه إلى طيِّب الكلام، ويطبِّق مفهومه ومضمونه أحسن التطبيق، وهو بذلك المهتدي بهداية الله، وصاحب البصيرة المستنيرة بحبِّ الله عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:(2/486)
القلب مركز العواطف والانفعالات والحس الروحي، وبأعماقه تضطرم المشاعر بين مدٍّ وجزرٍ، ولا بُدَّ للمؤمن الحقيقي من إخلاء ساحة قلبه من جميع الأغيار، والاتجاه به إلى الله الواحد القهار. فالقلب لا يمكن أن يبقى خالياً من تعلُّقات تشغله، وما أكثر ما يتعلَّق بأهواء ومتع مختلفة، ولكنَّه ما إن يتذوَّق حلاوة الصلة بالله، حتَّى تذوب التعلُّقات الدنيوية كافَّة وتتلاشى، ليصبح المرء منيباً محباً لله الواحد الأحد، ولتغمره ظلال السعادة والسرور والبشائر. والله تعالى يبشِّر الَّذين يحقِّقون هذه المعادلة، بالثواب العظيم على لسان رسله، لأنهم كما وصفهم يستمعون الكلام فيتَّبعون أحسن ما فيه، قال ابن عباس رضي الله عنه : (هو الرجل يستمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن، ويستنكف عن القبيح فلا يتحدث به)، وهذا ثناء من الله تعالى عليهم لنفاذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإذا سمعوه تبصَّروه وعملوا بما فيه.
وأحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّد صلى الله عليه وسلم ، أخرج سعيد بن منصور عن الكلبي في قوله: {الَّذين يستمعونَ القولَ فيتَّبعون أحسنَهُ} قال: (لولا ثلاث يسرني أن أكون قد مِتُّ، لولا أن أضع جبيني لله، وأجالس قوماً يلتقطون طيِّب الكلام كما يلتقطون طيِّب الثمر، والسير في سبيل الله).إن أمثال هؤلاء تأتيهم البشارة من الملأ الأعلى، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلِّغها لهم بأمر الله، فهي بشرى علوية يحملها إليهم رسول كريم، وهذه وحدها نعمة ونعيم! وهؤلاء المتصفون بتلك الصفات الجليلة، هم الَّذين هداهم الله ووفَّقهم لما يرضاه، وأولئك هم أُولو الألباب، لأن العقل السليم هو الَّذي يقود صاحبه إلى معرفة الله والتمسك بحبال النجاة.(2/487)
والخلاصة: إن المؤمن المحبَّ لله تنمو عنده خاصيَّة التذوُّق، فلا يأكل إلا طيِّباً، ولا يسمع إلا طيِّباً، ولا يرى إلا طيِّباً، ولا يعمل إلا طيِّباً، وبهذا يرتفع إلى مستوى أولي الألباب الَّذين ينظرون بنور الله وينعمون برعايته وكنفه.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {إنَّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصَّادقينَ والصَّادقاتِ والصَّابرينَ والصَّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدِّقينَ والمتصدِّقاتِ والصَّائمينَ والصَّائماتِ والحافظينَ فروجَهُم والحافظاتِ والذَّاكرينَ الله كثيراً والذَّاكراتِ أعدَّ الله لهم مَغفرةً وأجراً عظيماً(35)}
ومضات:
ـ عشر صفات تعبُّدية يشترك الرجل والمرأة على السواء في تحمُّل مسؤولياتها والتحلِّي بها، وبناء ركائز المجتمع الإسلامي على قواعدها. ولو طُبِّقَتْ كلُّها لوُجِد مجتمع طاهر نظيف، تتمنَّى شعوب الأرض كافَّة أن تترسَّم خطاه، لما فيه من أسس السعادة الدنيوية والأخروية.
في رحاب الآيات:
في العبادات يتساوى الرجل والمرأة، فلكلِّ مجتهد نصيب، والصفات الَّتي ذَكرتها الآية الكريمة هي جواهر النفس البشرية، بها تُشِعُّ نوراً، وبها تتزين وتتزكى، ولا نستطيع وضع أفضليات لهذه الصفات فهي متكاملة بعضها مع بعض، لكنَّ ركيزتها الأولى هي العبوديَّة المطلقة لله تعالى، والَّتي تعني الاستسلام له والتصديق بما جاء من عنده، والمبادرة العاجلة لفعل ما يطلب ونبذ ما ينهى عنه، والتقرُّب إليه بالتطوُّع زيادة عمَّا يطلب.(2/488)
وأمَّا حَمَلةُ هذه النفوس الزكيَّة فهم المسلمون والمسلمات: أي المتمسكون بأوامر الإسلام، المتخلقون بأخلاقه. والمؤمنون والمؤمنات: وهم أصحاب اليقين في عبادتهم لله تعالى ومحبَّتهم لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم . والقانتون والقانتات: وهم العابدون الطائعون المداومون على الطاعة الناشئة عن التسليم لله والإيمان به، وعن رضا داخلي لا عن إكراه خارجي. والصادقون والصادقات: أي الصادقون في إيمانهم ونيَّاتهم وأقوالهم وأعمالهم، والصدق هو الصفة الَّتي يخرج من لا يتصف بها من صفوف الأمَّة المسلمة لقوله تعالى: {إنَّما يَفْتري الكذبَ الَّذين لا يُؤمنون بآياتِ الله وأُولئِك همُ الكاذِبون} (16 النحل آية 105) فالكاذب مطرود من الصف، صف هذه الأمَّة الصادقة.
والصابرون والصابرات: هم الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وعند الشدائد، والصبر هو الصفة الَّتي لا يستطيع المسلم حمل عقيدته والقيام بتكاليفها إلا به، وهو يحتاج إليه في كلِّ خطوة من خطواته؛ الصبر عن شهوات النفس وعلى مشاق الدعوة، وعلى أذى الناس، والتواء النفوس وضعفها، وانحرافها وتلونها، وعلى الابتلاء والامتحان والفتنة، وعلى السرَّاء والضرَّاء.
والخاشعون والخاشعات: هم الخائفون من الله جلَّ وعلا، المتواضعون له بقلوبهم وجوارحهم، والخشوع صفة القلب والجوارح، الدالَّةُ على تأثر القلب بجلال الله، واستشعار هيبته وتقواه.
والمتصدِّقون والمتصدِّقات: هم الباذلون لأموالهم على الفقراء بالإحسان وأداء الزَّكاة، والتصدُّق هو دلالة التطهُّر من شحِّ النفس، والشعور بمرحمة الناس، والتكافل بين المسلمين، والوفاء بحقِّ المال.(2/489)
والصَّائمون والصَّائمات: هم الَّذين يصومون شهر رمضان وغيره من الأيام، فالصَّوم زكاة القلب والبدن، يزكِّيهما ويطهِّرهما. والنصُّ يجعل الصوم صفة من صفات أهل المغفرة إشارة إلى التزامهم به بشكل منتظم ومطَّرد، فهو استعلاء على الضرورات وصبر عن الحاجات الأولية للحياة، وتقرير للإرادة، وتوكيد لتغلب الإنسان على أهوائه وشهواته.
والحافظون فروجهم والحافظات: وهم الَّذين يصونون غرائزهم عن الانحطاط والانحدار، ويحصِّنونها بسياج الزواج. إن حفظ الفرج وما فيه من تطهُّر، هو ضبط وتنظيم لأعنف ميل وأعمقه في تركيب كيان الإنسان، وسيطرة على الدفَّة الَّتي لا يسيطر عليها إلا تقي أدركه عون الله. وهذا دليل على إيمان المرء وتهذيبه لمشاعره وتصعيدها إلى مستوى رفيع يرضاه الله، وفي هذا كلِّه تنظيم للعلاقات بين الجنسين، واستهداف لما هو أرفع من فورة اللحم والدم في التقاء الرجل والمرأة. ولا شكَّ أن إخضاع هذا الالتقاء لشريعة الله، وللحكمة العليا من خلق الجنسين، هو مساهمة كبرى في عمارة الأرض وترقية الحياة مع الصحة والأمان وحفظ حقوق كلا الطرفين.
والذاكرون الله كثيراً والذاكرات: وهم الَّذين يداومون على ذكر الله بألسنتهم وقلوبهم، في الأوقات جميعها والأمكنة جميعها. وذكر الله هو حلقة الاتصال بين العمل والعقيدة، لأنه استشعار قلبي لله يلازم الذاكرَ في كلِّ لحظة، فلا ينفعل بخاطر ولا حركة تغضب الله، وهو إشراق القلب ببشاشة الذِّكر الَّذي يسكب فيه النور والحياة.
وهكذا فإن الَّذين تتجمع فيهم هذه الصفات المتعاونة في بناء الشخصية المسلمة المتكاملة، لهم أعظم الأجر والثواب عند الله وهو الجنَّة، بسبب ما قدَّموه من الأعمال الحسنة.(2/490)
هذا هو درب المغفرة الإلهية ولا أحد يملكها إلا الله، وهذه هي ركائزها، إنه جهاد نفسي نحلِّي أنفسنا من خلاله بهذه الصفات الإنسانية الراقية. فالنفس البشرية لا يمكن أن تعيش في شيء اسمه الركود أو السُّبات، فإن لم يشغلها الإنسان بالخير شغلته بالشرِّ، وإن لم يكن مستسلماً لأوامر الله فهو مستهترٌ بالقيم الأخلاقية الفاضلة، الَّتي لا يمكنه اكتسابها إن لم يتعهَّد نفسه بالتربية والمجاهدة، لتصبح أهلاً للتحلِّي بالصفات الإنسانية السامية.
ولا يخفى أسلوب القرآن في رسم معالم شخصية المسلم الحقِّ الَّذي تتحقَّق فيه هذه الصفات، وتصبح مع الأيام صفة من صفاته وجزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ومن كان كذلك فقد أضاء سراجه، ولا يمكن للسراج المضيء إلا أن ينشر النور والضياء على من حوله، حيث يسعدون بقربه ويترسَّمون الطريق المضيء الآمن الَّذي يسير عليه، وبذلك يكون سعيداً مسعداً، وهذه هي رسالة الإسلام دين الله الخالد، في تعميم السعادة الدنيوية والأخروية على كلِّ من ارتضوه منهجاً لهم في هذه الحياة.
سورة السجدة(32)
قال الله تعالى: {إنَّما يُؤمِنُ بآياتنا الَّذين إذا ذُكِّروا بها خَرُّوا سُجَّداً وسَبَّحوا بحمدِ ربِّهمْ وهم لا يستكبرون(15) تتجافى جُنوبُهُم عن المضاجعِ يدعونَ ربَّهم خَوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم يُنفقون(16) فلا تَعلمُ نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون(17)}
ومضات:
ـ المؤمن الحقيقي هو الَّذي تسري عظمة الله في فؤاده، فيسجد جسده، ويخشع قلبه، وتتواضع نفسه.
ـ لا يجد المؤمن في فراشه طعم الراحة والسعادة، إن لم يجعل جزءاً من ليله لمناجاة ربِّه، والتضرُّع إليه طمعاً في القرب وخوفاً من القطيعة.
ـ الجوائز المعدَّة للمؤمنين ثمينة جداً، والمكافآت أكبر من أن يتصوَّرها عقل البشر، إكراماً لهم لحسن صنيعهم وصالح أعمالهم.
في رحاب الآيات:(2/491)
قلب المؤمن روضة منيرة تضطرم فيها مشاعر الحبِّ والشوق لحضرة الله، وبركان يتفجَّر خشيةً منه وشوقاً إليه، ولا يشعر بالاطمئنان إلا بمزيد من الدعاء والتضرُّع؛ لباسه الخوف، وحافزه الأمل بعطاء الله، وهو على الرغم من ذلك كلِّه متواضع هيِّن ليِّن. والآيات هنا ترسم صورة هذا المؤمن موضِّحة علاقته بربِّه، وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفافة، الحساسة، المرتعشة من خشية ربِّها، المنتشية بتقواه، المتجهة إليه بالطاعة، المتطلعة إليه بالرجاء، من غير استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي الَّتي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحسِّ المرهف، والقلب المنوَّر، والضمير الحي، فإذا ما ذُكِّر أصحابها بآيات ربِّهم خرُّوا سُجَّداً، تأثُّراً بذكره، وتعظيماً للمذكور، وشعوراً بجلاله الَّذي يُقابَلُ بالسجود تعبيراً عن الإحساس بالتواضع المطلق بين يديه، كما أنهم ينزِّهونه في سجودهم عما لا يليق به؛ ممَّا يصفه به أهل الجهل من اتِّخاذ الزوجة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، بل يستجيبون استجابة الطائع الخاشع، المنيب، الشاعر بجلال الله الكبير المتعال. ولئن انحنى الجسد وطأطأ الرأس، ولامس الجبينُ الأرضَ خضوعاً لله بُرهةً محددة من الزمن، فإن بقية الأعضاء والجوارح منقادة لأمر الله، فهي في سجود دائم بعيدة عن التمرد والتعالي على أمر الله.(2/492)
والمؤمنون الموصوفون بالآية، هم الَّذين يقومون لصلاة الليل، ويتهجَّدون بالصَّلاة والدعاءلله. والقرآن يعبِّر عن هذا القيام بصورة حسِّية، فَيُقرِّب إلى أذهاننا صورة المضاجع في الليل، وهي تغريهم بالرُّقاد والراحة، والتلذذ بدفء الفراش، ولكنَّ أجسادهم لا تستجيب، بل تجتهد في مقاومة الإغراء، لأنها في شغل عنها بالوقوف بين يدي الله، والتوجُّه إليه في خشية وطمع، يتنازعها الخوف والرجاء، الخوف من عذابه، والرجاء في رحمته. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصَّلاة الخاشعة، والدعاء الحار، يؤدُّون واجب الإنفاق طاعةً لله وزكاة لأموالهم.
وترافق هذه الصورة المشرقة صورة للثواب الرفيع الخاص، الفريد، الَّذي تتجلَّى فيه ظلال الرعاية الخاصَّة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي، هذا الجزاء يُلخَّص في قول الله تعالى: {فلا تعلَمُ نفْسٌ ما أُخفيَ لهم من قُرَّةِ أعين جزاءً بما كانوا يعملون} وهو تعبير يوحي بحفاوة الله بهؤلاء القوم، وتولِّيه لهم وإعداد المُدَّخَرِ لهم عنده من الكرامة الَّتي تَقَرُّ بها العيون، وهذا المُدَّخر لا يطَّلع عليه أحد سواه، ويظل مستوراً عنده حتَّى يَكشِفَ عنه لأصحابه يوم لقائه. وإنها لصورة حبيبة لهذا اللقاء الفريد بين حضرة الله وعباده المؤمنين، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تبارك وتعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخراً بَلْهَ ما أطلعكم عليه، ثمَّ قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}». قال أحد الصالحين: [المراد به النظر إلى الله تعالى]، وقيل أيضاً: [أخفى القوم أعمالاً، فأخفى الله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت]. ومن ذلك يمكن أن ندرك أن علامَتي الإيمان الخضوع والتسبيح، وأن دافِعَيْه الخوف والرجاء، وأن ثمرتَيه الرضا والقرب.
سورة لقمان(31)(2/493)
قال الله تعالى: {وإذ قال لقمانُ لابنهِ وهوَ يعِظُهُ يابُنَيَّ لا تُشْركْ بالله إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيمٌ(13) ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ حملَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وفصالُهُ في عامين أن اشكرْ لي ولوالدَيْكَ إليَّ المصير(14) وإن جاهداكَ على أن تشْرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ فلا تُطعْهُما وصاحِبْهُما في الدُّنيا مَعْروفاً واتَّبع سبيلَ من أنابَ إليَّ ثمَّ إليَّ مرجعُكُم فأُنبِّئُكُم بما كنتم تعملون(15) يابُنَيَّ إنَّها إن تَكُ مثقالَ حبَّةٍ من خردلٍ فتكن في صخرةٍ أو في السَّمواتِ أو في الأرضِ يأْتِ بها الله إنَّ الله لطيفٌ خبيرٌ(16) يابُنَيَّ أقمِ الصَّلاة وأْمُرْ بالمعروفِ وانْهَ عن المنكرِ واصبرْ على ما أصابَكَ إنَّ ذلك من عزمِ الأُمور(17) ولا تُصَعِّرْ خدَّكَ للنَّاسِ ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحاً إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ مختالٍ فخور(18) واقصِدْ في مشيكَ واغضُضْ من صوتِكَ إنَّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير(19)}
ومضات:
ـ كان لقمان رجل حكمة ورأي حصيف، أمضى حياته ينشر مبادئ الحكمة والعدل والإحسان في صفوف الناس، ونراه في هذه الآيات يعظ ابنه فلذة كبده، فيهدي إليه جملة من الوصايا الَّتي تتجلَّى فيها حقائق التَّقوى، وصفات المؤمنين.
ـ واجب كلُّ أبٍ أن يكون لقمان زمانه، ويفتح مدرسة تعليم لأولاده؛ قوامها الإيمان والتوحيد، وموادُّها حسن الصلة بالله، وحسن السلوك مع الناس.
في رحاب الآيات:(2/494)
إنها عظة مُبرَّأةٌ من أي شكٍّ، فما يريد الوالد لولده سوى الخير، وما يكون الوالد إلا ناصحاً. فهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشِّرك بالله، ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلمٌ عظيم، ولا يخفى أن النصيحة من الوالد لولده بعيدة عن كلِّ شبهة، لأنها الحقيقة المعلنة الَّتي تجري على لسان كلِّ من آتاه الله الحكمة من الناس، ولا يراد منها إلا الخير المحض، وهذا هو المؤثِّر النفسي المقصود. وهذه الحقيقة ذاتها هي الَّتي يعرضها محمَّد صلى الله عليه وسلم على قومه فيجادلونه فيها، ويرتابون في غرضه من وراء عرضها، ويخشون منه على سلطانهم وزعامتهم وما ورثوه من دين آبائهم وأجدادهم، وقد أثبت القرآن ذلك بقوله تعالى: {فقال الملأُ الَّذين كفروا من قومه ما هذا إلاَّ بشرٌ مثلُكم يُريد أن يتفَضَّل عليكم..} (23 المؤمنونآية 24) وقوله تعالى حكاية لقولهم: {أَجَعَلَ الآلهةَ إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ} (38 ص آية 5).(2/495)
وفي ظلِّ نصيحة الأب لابنه، يتعرض القرآن الكريم للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، ويصوِّر هذه العلاقة بصورة مؤثِّرة جذَّابة، فيها رأفة ورحمة وحكمة. ولقد تكررت وصيَّة الولد بوالديه في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وكذلك في وصايا الرسول عليه السَّلام، بينما لم ترد وصيَّة الوالدين بالولد إلا قليلاً، لأن الفطرة تدفع الآباء إلى رعاية الجيل الناشئ، لضمان استمرار الحياة كما يريدها الله، وإن الوالدين ليبذلان لأولادهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما من غير تأفُّف ولا شكوى، ومن غير انتباه أو شعورٍ بما يبذلان، بل يعطيان في نشاط وسرور ولذَّة كأنهما هما اللذان يأخذان. فالفطرة الإلهية الَّتي فُطِرَ الناسُ عليها، وحدها كفيلة بتوصية الوالدين بالأولاد دون تنصيص عليها، أمَّا الولد فهو الَّذي يحتاج إلى الوصيَّة المتكررة، ليلتفت إلى الجيل المضحِّي المتَّجه نحو مغرب الحياة، بعد أن سكب عصارة روحه وأعصابه للجيل المتَّجه نحو مشرق الحياة، ولا يملك الابن أن يعوِّض الأبوين بعض ما بذلاه إلا برعايتهما وطاعتهما وحسن معاملتهما، وهاهي ذي آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: {ووصَّينا الإنسان بوالديه حملَتْهُ أمُّهُ وهناً على وهنٍ وفصالُهُ في عامين} ترسم صورة تنبض بالحياة وتُجسِّد بذل الأم الَّذي يبرهن على نبلها وتضحيتها وعطائها، إنها تحتمل النصيب الأوفر، وتجود به في عطف أشد وأعمق وأحنى وأرفق. وفي ظلال تلك الصورة الحانية، يُرتِّب القرآن الواجبات على المكلَّفين فيجيء شكر الله أوَّلاً، ويتلوه شكر الوالدين، ويربط بين هذه الحقيقة وحقيقة الآخرة فيقول سبحانه: {إليَّ المصير} حيث ينفع رصيد الشكر المُدَّخر، وتتلاشى ذكريات الدنيا ومُتَعُها، وتصبح كسراب لا حقيقة له.(2/496)
لكنَّ رابطة الوالدين بولدهما ـ على هذه المكانة من الكرامة والرفعة ـ إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة، فمهما بذل والدان ضالاَّن من جهدٍ وجهادِ مغالبةٍ وإقناعٍ، ليغريا ولدهما بأن يشرك بالله، فلا إثم عليه في مخالفتهما، ويسقط عنه واجب الطاعة؛ لتعلو رابطة العقيدة على كلِّ رابطة، ومع ذلك فإن الاختلاف في العقيدة لا يُسقِطُ حقَّ الوالدين في المعاملة الطيِّبة والصحبة الكريمة، وإنَّ كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب الَّتي تحمَّلاها في تربية الولد، بل إن عليه مصاحبتهما في أمور الدنيا، صحبة يرتضيها الله ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما وعدم مجافاتهما والعناية بهما، لاسيَّما في حالة المرض والشيخوخة. ذكر الصحابي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما أسلمتُ حلفَتْ أُمِّي لا تأكل شيئاً ولا تشرب شيئاً حتَّى أعود عن إسلامي. فناشدتها أوَّل يوم فأبت وصبرَتْ، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مائة نَفْسٍ فخرجت نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني) ولما رأت هذا التصميم والثبات رضخت للأمر الواقع فأكلت.(2/497)
وفي توجيهات الله وأوامره، هداية للإنسان ليسلك سبيل من رجع عن شِرْكِهِ، وأوى إلى رياض الإيمان بالعمل والإنابة، لأن مصير الخلق جميعاً بعد مماتهم إلى الله، حيث يخبرهم بما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، ثمَّ يجزيهم عليه، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ونستشف ذلك من وصيَّة لقمان لولده والَّتي تتحدَّث عن حقيقة الآخرة وما فيها من حساب دقيق، وجزاء عادل، ولكنَّ هذه الحقيقة لا تُعرَضُ هكذا مجرَّدة، إنما تُعرَضُ في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثِّرة يرتعش لها القلب ويتأثر بها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الدقيق. إنها صورة معبِّرة عن دقَّة علم الله وشموليته، وعن قدرة الله سبحانه، ودقَّة الحساب وعدالة الميزان، وهي صورة حبَّة من خردل صغيرة منسية ضائعة، لا اعتبار لوزنها ولا قيمة، قد دُفنت في جوف صخرة صلبة فلا تظهر للعيان، ولا يتوصَّل إليها إنسان، أو انتثرت في آفاق السموات، الَّتي يبدو فيها النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة، فإذا بعلم الله الواسع يدركها، وإذا بقدرته تحيط بها. ويظلُّ الخيال يلاحق حبَّة الخردل هذه في مكامنها العميقة السحيقة، ويتجلَّى علم الله الَّذي يتابعها، حتَّى يخشع القلب وينيب إلى اللطيف الخبير، وهذا يوحي بأن نورانية الله تعالى ألطف قوَّة في هذا الوجود، فهي تَعُمُّهُ وتظلِّله وتحصي كلَّ شيء فيه وجوداً وعدداً ونيَّةً وعملاً.(2/498)
ويمضي السياق يقصُّ علينا قول لقمان لابنه وهو يعظه، فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها في الضمير ويقول لابنه: يابني أدِّ الصَّلاة كاملة على النحو المُرْضي، لما فيها من رضا الربِّ بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، فإذا تَحقَّقْتَ بها صَفَتْ نفسك، وأنابت إلى بارئها في السرَّاء والضرَّاء. وبعد أن يأمره بأداء حقِّ الله عليه في العبادة، يعطف على ذلك أداء حقِّ الناس فيقول: {وأْمُرْ بالمعروف} أي وأمرْ غيرك بأداء ما تعارف عليه المؤمنون من الخير، وذلك بتهذيب النفس وتأديبها، تزكية لها وسعياً إلى الفلاح، {وانْهَ عن المنكر} أي: وانْهَ الناس عن معاصي الله ومحارمه الَّتي توبق من اكتسبها، وتلقي به في عذابَيْ الدنيا والآخرة. واصبر على ما أصابك من أذى الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر. وقد بدأ هذه الوصيَّة بالصَّلاة، وختمها بالصبر لأنهما عماد الدعوة والوصول إلى رضوان الله.(2/499)
ويستطرد لقمان في وصيته لينتقل إلى أدب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير، ولا تجيز احتقارهم بسبب ارتكابهم للذنوب وعدم حصولهم على الرُقي الإيماني فوراً، فأنين العُصاة من ذنوبهم أحبُّ عند الله من تأوُّهات العاشقين؛ فها هو ينهاه عن تصعير خدِّه؛ والصَّعَرُ داء في العنق لا يُستطاع معه الالتفات، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصَّعَر، وهي حركة الكِبْر وإمالة الخد للناس في تعالٍ واستكبار. وينهاه عن المشي في الأرض مَرَحاً، والمرح هو المشي في تخايُلٍ وقلَّة مبالاة بالناس، وهي حركة كريهة يمقتها الله لأنها توحي بأن صاحبها يعتقد أنه قد أصبح في مأمن من عذاب الله، أو أنه تجاوز مرحلة ارتكاب الأخطاء، وهذا هو الخطأ بعينه، وهي تعبير عن شعورٍ مريض يجسِّده في مشية الخُيَلاء: {إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فخور}، ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة، والقصد هنا يعني عدم الإسراف، بل التوسُّط وعدم المغالاة في التبختر والتثنِّي والاختيال، واحترام الناس وصيانة مشاعرهم وكراماتهم. والمشية القاصدة إلى هدف كريم لا تتلكَّأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وتصميم وانطلاق. أمَّا الغضُّ من الصوت ففيه أدب وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوَّته، ولا يُغلظ في الخطاب إلا شاكٌّ في قيمة قوله أو قيمة شخصه، فيحاول أن يُخفي هذا الشكَّ بالحدَّة والغلظة. إن الأسلوب القرآني يزدري هذا الفعل ويقبِّحه في صورة منفِّرة محتَقرَة بشعة، حيث يعقِّب عليه بقوله: {إنَّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير} فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية مع النفور والاشمئزاز، ولا يكاد ذو الحسِّ السليم يتصوَّر هذا المشهد المضحك من خلال التعبير المبدع، حتَّى يتبين قبح هذا الفعل!! وهذا تأديب من الله تعالى لعباده(2/500)
لترك الصياح في وجوه الناس، استهانة بهم واحتقاراً لأمرهم، وسعياً للهيمنة عليهم.
سورة الفرقان(25)
قال الله تعالى: {وعبادُ الرَّحمنِ الَّذين يَمشُونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطبَهُمُ الجاهلونَ قالوا سلاماً(63) والَّذين يبِيْتونَ لربِّهم سُجَّداً وقياماً(64) والَّذين يقولونَ ربَّنا اصْرِفْ عنَّا عذابَ جهنَّمَ إنَّ عذابَها كان غَراماً(65) إنَّها ساءَتْ مُستَقراً ومُقاماً(66) والَّذين إذا أنفقوا لم يُسْرِفوا ولم يَقْتُروا وكان بين ذلك قَواماً(67) والَّذين لا يدعونَ مع الله إلهاً آخرَ ولا يقتلونَ النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ولا يزْنونَ ومن يفعلْ ذلك يَلْقَ أثاماً(68) يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامةِ ويخلُدْ فيه مُهاناً(69) إلاَّ من تابَ وآمنَ وعمِلَ عملاً صالحاً فأولئك يُبدِّلُ الله سيِّئاتِهِم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً(70) ومن تابَ وعمِلَ صالحاً فإنَّه يتوبُ إلى الله مَتاباً(71) والَّذين لا يشهَدونَ الزُّورَ وإذا مرُّوا باللَّغْوِ مرُّوا كراماً(72) والَّذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربِّهم لم يَخِرُّوا عليها صُمّاً وعُمياناً(73) والَّذين يقولون ربَّنا هبْ لنا من أزواجنا وذُرِّيَّاتنا قُرَّةَ أعينٍ واجعلنا للمتَّقينَ إماماً(74) أولئك يُجزونَ الغُرْفَةَ بما صبروا ويُلَقَّون فيها تحيَّةً وسلاماً(75) خالدين فيها حَسُنَتْ مُستقرّاً ومُقاماً(76) قلْ ما يعبؤ بكم ربِّي لولا دُعاؤكُم فقد كذَّبتُم فسوف يكونُ لِزاماً(77)}
ومضات:
ـ وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم عباد الرحمن ولم يَدْعُهم بعباد الجبَّار، لأن الرحمة هي أداة الجذب القوية، الَّتي تشدُّ أحاسيس الإنسان نحو خالقه بملء إرادته وكامل اختياره.(3/1)
ـ العبد الحقيقي هو المتواضعُ في مشيه، فلا خُيَلاء ولا كِبْرياء، وهو الطيِّبُ في كلامه ولو جُهِلَ عليه، الكثيرُ القيام والسجود، سجوداً بقلبه وجسده، المعترف لله بعظمته وقدرته، القائم بصلاته على الشكل الصحيح قلباً وقالباً.
ـ وهو الخائف أبداً من عذاب الله، الخائف من نار جهنم وأُوارها، المستعيذ بالله من أن يحاسبه ويعاقبه، الراجي عفوه برحمته وكرمه.
ـ وهو المنفق بالقسط والعدل، ليس بالبخيل ولا بالمسرف المستهتر، وهو المحطِّم لآلهة الهوى والرغبات الشيطانية، فلا يتعدى على حرمات الله بل يقف عندها لا يتعداها، ولا يعتدي على أعراض الناس بل يَعِفُّ عنها ويصونها ويحميها.
ـ وهو البعيد عن شهادة الزور الآثمة الكاذبة، فلا يشهد إلا بما رأت عيناه من الحقِّ، وهو المُعرض عن مجالس لغو الكلام وباطله وكلِّ ما لا خير فيه.
ـ وهو الَّذي يفتح عيني قلبه لأنوار الله، وأُذُنَيْ روحه ليسمع نداءه؛ وكأنه يخاطبه مباشرة ويعنيه بشكل خاص بتعاليمه وأوامره.
ـ وهو الَّذي يؤسِّس الأسرة المؤمنة التقية، فيطلب الزوجة الورعة، ويرعى الأبناء البررة، ويسعى لأن يكون إمامهم بأعماله، والقدوة الصالحة لهم بأفعاله.
ـ لابدَّ من الصبر والمصابرة من أجل نيل هذه الجواهر من الصفات والتحلِّي بها، ليتأهَّل صاحبها لدخول أشرف مكان وأطهره وأجمله، ليدخل جنان الخلد برحمة من ربِّ العالمين.
في رحاب الآيات:(3/2)
آيات مباركات تُشِعُّ بالنور الإلهي، هي جواهر تُرصِّع قلب المؤمن الصادق الصَّدوق، فإذا انطبعت مؤثراتها في سلوكه العملي غدا عبداً حقيقياً لحضرة الله، مشمولاً برحمته، جديراً بدخوله في زمرة عباد الرحمن، الَّذين ميَّزهم الله عن غيرهم بأوصاف وعلامات تبدو واضحة في كلٍّ منهم، فإذا أردنا تتبُّعها في أحدهم وجدناه متواضعاً في مشيته، فلا خُيَلاء ولا كِبرياء، ولا استعلاء ولا تصعير خد، فمشية المرء تعبِّر عن شخصيته، وعما يستكنُّ فيها من مشاعر. والنفس السويَّة المطمئنة تخلع صفاتها على مشية صاحبها، فيمشي مشية وقار وسكينة، وعزيمة وقوَّة. وليس معنى: {يمشونَ على الأرضِ هَوْناً} أنهم يمشون أذلاَّء منكِّسي الرؤوس، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التَّقوى والصلاح؛ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد كان أسرع الناس مشية وأحسنهم حركة وأسكنهم موطئاً، فعن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفَّأ تكفِّياً كأنما ينحطُّ من صبب» (أخرجه الحاكم في المستدرك، والبغوي في شرح السنَّة)، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (هم المؤمنون الَّذين يمشون علماء حلماء ذوي وقار وعفَّة، فهم متواضعون بعيدون عن الصلف والكبر..).(3/3)
وعباد الرحمن أيضاً هم الَّذين طاب كلامهم، وحسنت أخلاقهم وإن جُهِلَ عليهم، وهم في جَدِّهم ووقارهم وانصرافهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يلتفتون إلى صغائر الأمور، ولا يشغلون وقتهم الثمين بالجدال مع السفهاء والحمقى، ويترفَّعون عن المهاترة مع الطائشين، لا لضعف وعجز في أنفسهم، بل رُقِيّاً في درجات إيمانهم، وسموّاً بمكارم أخلاقهم، وصيانة لجهودهم من الإنفاق فيما لا ينفع، وحرصاً على أوقاتهم من الضياع فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن السفاسف بأكرم الأعمال وأنبل الأفعال. وإذا سَفِه عليهم السفهاء لم يقابلوهم بالمثل، بل تراهم يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً. جاء في الحديث الشريف: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنَّة لمن حَسَّن خُلقَه» (رواه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي وإسناده صحيح)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «أحبُّ عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً» (رواه الطبراني عن أسامة بن شريك).(3/4)
وعباد الرحمن يكثرون السجود والقيام، يسجدون بقلوبهم مع جوارحهم، معترفين لله بعظمته وقدرته، ويقومون بصلاتهم على الشكل الصحيح قلباً وقالباً. والتعبير في الآية يقتصر على ذكر السجود والقيام من أفعال الصَّلاة لتصوير حركة عباد الرحمن في جوف الليل والناس نيام، وهم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو في المآل أشد راحة وأكثر متعة وسعادة. وإذا ما أخلد الناس إلى الأرض تراهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام، وقد وصفهم الله تعالى في آيات أخرى من كتابه الكريم فقال: {تتجافى جُنوبُهُم عن المضاجِعِ يدعونَ ربَّهم خوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم ينفقون} (32 السجدة آية 16)، وقال في وصفهم وحثِّ الناس على محاكاتهم: {كانوا قليلاً من اللَّيلِ ما يهْجَعون * وبالأسحارِ هم يستغفرون} (51 الذاريات آية 17ـ18)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة» (رواه مسلم وأبو داود). وقيل: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار]. والَّذي يحول بين المرء وقيامه لصلاة الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا وكثرة الانشغال بها، وإتعاب الجوارح، والامتلاء من الطعام، وكثرة الحديث واللغط، واللهو وإهمال القيلولة.(3/5)
وعباد الرحمن هم الخائفون دائماً من عذاب الله، المشفقون من نار جهنم وشدة أُوارها، لذلك فهم يستعيذون بالله من أن يحاسبهم ويعاقبهم، ويرجونه أن يعفو عنهم برحمته وكرمه. وفي هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حُسن معاملتهم للخلق، واجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له يخافون عذابه، ويبتهلون إليه ولا يغترُّون بأعمالهم مهما حسنت كما وصفهم الله تعالى بقوله: {والَّذين يؤتونَ ما آتَوا وقلوبُهُم وَجِلَةٌ أنَّهم إلى ربِّهم راجعون} (23 المؤمنون آية 60)، ويرتعش نداؤهم ودعاؤهم وهم يتضرَّعون إلى ربِّهم خوفاً وفزعاً: {إنَّ عذابَها كان غَرَاما} أي ملازماً لا يتحوَّل عن صاحبه ولا يفارقه ولا يُقيله، وهذا ما يجعله مروِّعاً، مخيفاً، شنيعاً. وهل أسوأ من جهنم مكاناً يستقر فيه الإنسان ويقيم؟ وأين الاستقرار وهي النَّار، وأين المُقام وهو التقلُّب على لظاها دائماً وأبداً؟.
وعباد الرحمن ينفقون بالقسط والعدل دون إفراط ولا تفريط، وهذه سمة الإسلام الَّتي يحقِّقها في حياة الأفراد والجماعات، ويتَّجه إليها في التربية والتشريع، إذ إنه يقيم بناءه كلَّه على التوازن والاعتدال. ومع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية، فليس المسلم حراً في إنفاق أمواله الخاصَّة بشكل عشوائي ومزاجي دون قيود، بل هو مُقيَّد بالتوسط بين الأمرين الممنوعين الإسراف والتقتير، فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع المجتمع من حوله. فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية، والإسلام وهو ينظِّم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من الفرد نفسه، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: {والَّذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يَقتروا وكان بين ذلك قَواما}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من السَّرف أن تأكل كُلَّ ما اشتهيت» (رواه ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ).(3/6)
ويتابع القرآن الكريم بيان صفات عباد الرحمن فيصفهم بالموحِّدين، لأن توحيد الله جلَّ وعلا هو أساس هذه العقيدة، ومفترق الطريق بين الوضوح والاستقامة في الاعتقاد، وبين الغموض والالتواء فيه، فالشرك بالله لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة. ومن صفات الموحِّدين عباد الرحمن الابتعاد عن قتل النفس الَّتي حرَّمها الله إلا بالحقِّ قصاصاً وعدلاً من قبل أولي الأمر، وهذا هو مفترق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة الَّتي تُحترم فيها الحياة الإنسانية، ويُقام لها وزن، وبين حياة الغابات والكهوف الَّتي لا يأمن فيها أحد على نفسه، ولا يطمئن إلى عمل أو بناء. كما أن عباد الرحمن يحذرون من الزنا، فلا يقعون فيه، وهذا الحذر هو أوَّل الطريق أمام الحياة النظيفة الَّتي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحسِّ الحيواني البهيمي الساذج، ويحسُّ أن الالتقاء بالجنس الآخر هدف سام نبيل. فهو الخطوة الأولى على طريق بناء الخلية الاجتماعية الإنسانية الرفيعة، لذلك نرى الإسلام أحاط هذا اللقاء بكثير من الأحكام والآداب، الَّتي تكفل ارتقاءه إلى المستوى الإنساني الحضاري النبيل، بعيداً عن التبذُّل الوضيع والدناءة البهيمية. فمن أجل هذه الصفات الثلاث الَّتي تشكِّل مفترق الطريق بين الحياة النظيفة اللائقة بالإنسان الكريم على الله، وبين الحياة الرخيصة الهابطة إلى درك الحيوان، من أجل ذلك ذكرها الله عزَّ وجل في سِمَات عباد الرحمن أرفع الخلق عنده، وأكرمهم عليه، وقد لخَّصها النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعة الصحابة له بعد بيعة النساء بمكة بعد الفتح فقال: «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس الَّتي حرَّم الله إلا بالحقِّ، ولا تزنوا، ولا تسرقوا» (أخرجه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه )، وقد عقَّب الله تعالى بالتهديد الشديد لمن يقع في المخالفة؛ بأن له عذاباً ليس مضاعفاً فحسب، بل معه الإهانة والإذلال والإهمال من(3/7)
قِبَلِ الله تعالى وهذا أدهى وأمرّ.
لكنَّ باب الله مفتوح أمام عباده، ورحمته منشورة الظلال فوق رؤوس الجميع على السواء، فهو جلَّ وعلا، وإن توعَّدهم بالعقاب، فإنه في الوقت نفسه نشر فوقهم مظلة الرحمة، ليحتمي تحتها من أراد النجاة، بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح. ويعِد التائبين العاملين المؤمنين أن يبدِّل سيئاتهم حسنات، وهو فيض من عطاء الله، ونفحة من نفحات الذات القدسية، لا مقابل لها من عمل العبد إلا كونه اهتدى ورجع عن الضلال، وتاب إلى الله، ولاذ بحِماه بعد الشرود والمتاهة، فما أقلَّ ما يقدِّمه العبد إلى مولاه، وما أنفس ما يقدِّمه الله إلى عبده! {وكان الله غفوراً رحيماً}، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَتْبِعِ السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (رواه الطبراني والترمذي مرفوعاً، وقال حسن صحيح).
ثم يضع الله تعالى قاعدة التوبة وشرطها: فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الَّذي يُثْبِتُ صدق التوبة، وينشئ التعويض الإيجابي في النفس. فالمعصية عمل وحركة، يجب مقاومتها بعمل مضادٍّ وحركة مغايرة، وإلا حنَّت النفس إلى الخطيئة، وهذه قفزة نوعية في منهج التربية القرآني تقوم على خبرة عميقة بالنفس الإنسانية، ومَن أَخْبَرُ من الخالق سبحانه وتعالى بما خلق؟.(3/8)
وعباد الرحمن لا يشهدون الزور، والزور قد يراد به المعنى القريب وهو شهادة الزور، لما في ذلك من تضييع للحقوق، وإعانة على الظلم، وقد يراد به المعنى البعيد وهو الفرار من الحضور في مجلس أو مجال يقع فيه قول الزور أو فعله بكلِّ صنوفه وأشكاله، ترفُّعاً منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أُنَبِّئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يارسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور». وهم لا يشهدون مجالس اللغو والهذر، فالعمر أمانة في أيديهم، وهم يربؤون بأنفسهم عن أن يضيِّعوا الأمانة الَّتي استودعها الله عندهم إلا بعمل جادٍّ وقول نافع، ولهم من عقيدتهم ومن دعوتهم وتكاليفها ما يجعلهم في شغل شاغل عن سماع ما لا خير فيه.
وعباد الرحمن يفتحون أعينهم وبصائرهم لأنوار الله، ويفتحون آذان أرواحهم لتسمع نداء الله، ويدركون بعمق ووعي أن الله يخاطبهم مباشرة ويعنيهم بشكل خاص بتعاليمه وأوامره. وفي التعبير تعريض بالمشركين الَّذين يَنْكبُّون على آلهتهم وعقائدهم كالصُّم والعميان، لا يسمعون ولا يبصرون، وإذا سمعوا فإنه السمع الَّذي يؤدي إلى الجدل العقيم. إن حركة الانكباب على الوجوه حركةٌ تُصوِّر الغفلة والتعصُّب الأعمى، أمَّا عباد الرحمن فهم يدركون ما في عقيدتهم من حقٍّ، وما في آيات الله من صدق، فيؤمنون إيماناً واعياً بصيراً، لا تعصُّباً أعمى، فإذا ما تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير.(3/9)
وعباد الرحمن هم الَّذين أدركوا أن الأسرة الصالحة هى الأسرة المترابطة فيما بينها، وليس ثمَّة رابطة تصهر أفراد الأسرة في بوتقة واحدة مثل رابطة الإيمان. فرابطة الدم أو المال أو التعايش أو تبادل المصالح لا يمكن أن تخلق مشاركة وجدانية أو تنشر جواً متجانساً بين أفراد الأسرة، لأنها رابطة هشَّة تتفكك وتنهار بمجرد زوال سبب وجودها، ولكنَّ رابطة الإيمان هي الَّتي تلمُّ شعث القلوب وتجعلها تدور حول محور واحد هو الإيمان بالله، وطالما أن المحور موجود فالعناصر موجودة ومشدودة إليه. وبعد أن أدركوا هذا السر العميق في شروط تكوين الأسرة الصالحة، توجَّهوا إلى ربِّهم بالدعاء لكي يجعل لهم من أزواجهم وذريَّاتهم من ينهج سبيلهم، ويتابع مسيرتهم في حياتهم وبعد موتهم، وليس أقرَّ للعين وأهنأ للقلب من أن يرى الإنسان فلذات كبده قرآناً حياً يتحرَّك أمامه، يقتبسون من نوره، ويظهر جمال تربيته وكمال منهجه من خلال أعمالهم وتصرفاتهم، ويعمُّ النور الأسرة والبيت، ويخترق الجدران ليعمَّ الحيَّ والشارع والمجتمع كلَّه. ولابدَّ من الصبر والمصابرة لنيل هذه الجواهر النفيسة والتحلِّي بها، ليتأهَّل صاحبها لدخول أشرف مكان وأطهره وأجمله؛ إلى جنان الخلد برحمة من ربِّ العالمين، خالداً فيها أبداً، فما أحسن هذا المقر، وما أطيب هذا المنزل لمن اتقى الله حقَّ تقاته.(3/10)
وتأتي خاتمة الآيات مناسبة لموضوع السورة كلِّها للتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وهم يعرفون صدقه، ولكنَّهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويُصرُّون، فَمَنْ هؤلاء القوم؟ ومَنْ هذه البشرية كلُّها في ملكوت الله؟ ولِمَ يعبأ الله تعالى بهم لولا القلَّة المؤمنة الَّتي تدعوه وتتضرع إليه؟؟ من هم؟ وما الأرض الَّتي تضم البشر جميعاً؟ إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل الفسيح، والبشرية كلُّها هي أحد أنواع الأحياء الكثيرة على وجه الأرض، والأمَّة الواحدة من أمم الأرض، والجيل الواحد إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟. إن الله جلَّ وعلا لا يبالي ولا يكترث بنا إن لم نعبده، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحِّدوه ويسبِّحوه بُكرة وأصيلاً ليكافئهم أحسن المكافأة. جاء في الأثر: يقول الله تعالى: [خلقت الخلق ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم].
وصفوة القول: إن عباد الرحمن هم الَّذين تمسَّكوا بأهداب الصبر في جميع مراحل حياتهم، فإن لاحت لهم معصية تجلَّدوا أمامها، فنجوا، وإن تمرَّدت نفوسهم على فعل الخير صبروا على فعله فغنموا، فهم جنود الصبر الَّذين تُرفع لهم الرايات، يتناصحون ويتباذلون ويمشون بنور الله في الناس رويدا في خفية، يسلمون من الناس ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذكر الله تطمئن ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون صغيرهم ويُجِلُّون كبيرهم ويتواسون بينهم، يعود غنيُّهم على فقيرهم بعطائه، يعودون مرضاهم ويشيِّعون جنائزهم، أولئك تُفتَّح لهم الأبواب، ليدخلوا رحاب الله الآمنة خالدين فيها أبداً.
سورة المؤمنون(23)(3/11)
قال الله تعالى: {قد أفْلَحَ المؤمنون(1) الَّذين هُم في صلاتِهِم خاشعون(2) والَّذين هُم عن اللَّغْوِ مُعرِضون(3) والَّذين هُم للزَّكاةِ فاعلون(4) والَّذين هُم لفروجِهِم حافظون(5) إلاَّ على أزواجِهِم أو ما مَلَكَتْ أَيمانُهُم فإنَّهم غيرُ ملومين(6) فمن ابتغى وراءَ ذلك فأولئك هُمُ العَادون(7) والَّذين هُم لأماناتِهِم وعهدِهِم راعون(8) والَّذين هُم على صلواتِهِم يحافِظون(9) أولئك هُمُ الوارثون(10) الَّذين يرثونَ الفِردوسَ هُم فيها خالدون(11)}
ومضات:
ـ إذا قمنا بدراسة نموذج لمجتمع إسلامي، فعلينا مراجعة مدى تطبيق أفراده لتعاليم الإسلام الناظمة للأخلاق والعبادات والمعاملات بشكل واضح لا لبس فيه، لِنَفْصِلَ بين جوهر الإسلام الحقيقي وبين ممارسات بعض المسلمين الخاطئة المخالفة له.
ـ إذا التزم المجتمع المؤمن بتأسيس القواعد الإسلامية أصبح مؤَهَّلاً لوراثة خيري الدنيا والآخرة.
في رحاب الآيات:
إن الوصول إلى حقيقة الإيمان، والتحلِّي بلباس التَّقوى، ليس أمراً صعباً، فكلُّ ما يلزمنا هو اتخاذ القرار الصادق للسير في طريق الأهداف السامية والمعاني الطيِّبة، والتمسُّك بالإرادة المتينة لتنفيذ التعليمات الإلهية المسعدة للإنسان الفرد والإنسان المجتمع.
والآيات الكريمة تقرر أنَّ الفَلاَح من نصيب المؤمنين الحقيقيين ـ الَّذين يقيمونها قولاً وعملاً ولا يكتفون بقراءتها وتجويدها ـ وتبيِّن صفاتهم، وقد روى الإمام أحمد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يُسمَعُ عند وجهه دويٌّ كدويِّ النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضَ عنا وأرضنا، ثمَّ قال: لقد أُنزِل عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنَّة ثمَّ قرأ: {قد أفْلَحَ المؤمنون...} حتَّى ختم العشر».(3/12)
إنه الوعد الصادق، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين، في الدنيا والآخرة، فرادى وجماعات، الفلاح الَّذي يُحسُّه المؤمن بقلبه ويجد مصداقيته في واقع حياته، والَّذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح وما لا يعرفونه ممَّا يدَّخره الله لعباده المؤمنين الَّذين تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصَّلاة بين يدي الله فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى أرواحهم جلال الله وهم في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه، وهم مستغرقون في الشعور بعظمته، مأخوذون بنجواه، يتوارى عن حسِّهم في تلك الحضرة القدسية الشعور بشيء من خاصَّتهم أو ممَّا حولهم، فلا يشهدون إلا أنوار الله، ولا يُحسُّون إلا إيَّاه، ولا يتذوَّقون إلا لذَّة الوصال معه، ويتطهَّر وجدانهم من كلِّ دنس، وينفضون عنهم كلَّ شائبة، عندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله جلَّ وعلا.(3/13)
والمؤمنون هم الَّذين يُعرضون عن اللغو، لغو القول ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور، فإن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللهو والهذر؛ من ذكر الله واستحضار جلاله، وتدبُّر آياته في الأنفس والآفاق، وله ما يشغله من تكاليف العقيدة؛ تكاليفها في تطهير القلب وتزكية النفس، وتنقية الضمير، وتكاليفها في السلوك ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الَّذي يتطلَّبه الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة المجتمع من الفساد والانحراف؛ وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. إن الطاقة البشرية محدودة وهي إمَّا أن تُنفق في هذا الَّذي يُصلح الحياة وينميها ويرقيها، وإمَّا أن تُنفق في الهذر واللهو واللغو؛ والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح، ولا يعني هذا أن لا يروِّح عن نفسه بما يُدخل عليها السرور والمرح دون إسفاف أو ابتذال.
والمؤمنون هم الَّذين يؤدُّون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، الزكاة الَّتي هي طهارة القلب والمال، وتأمين اجتماعي للأفراد جميعاً، وضمان اجتماعي للعاجزين، ووقاية للمجتمع كلِّه من التفكك والانحلال، قال تعالى: {خُذْ من أموالِهِم صدَقةً تُطهِّرُهُم وتُزَكِّيهم بها..} (9 التوبة آية 103) وليس المراد إعطاء المال والقلب متعلِّق به، وإنما المراد إزالة حبِّ الدنيا من القلب، ليصبح طاهراً زكياً منوَّراً بنور الإيمان ونور محبَّة الله الخالصة.(3/14)
وإذا كانت الزكاة طهارة للمال والنفس من أدران الشح، فإن هناك طهارة للنفس والأسرة والمجتمع وهي حفظ الفرُوج، وحفظ النفوس من التطلع إلى غير الحلال، وحفظ الأفراد من انطلاق الشهوات بينهم بغير حساب، وحماية للبيوت من الفساد وضياع الأنساب. ولا يخفى أن الأُمَّة الَّتي تنطلق فيها الشهوة بغير حدود، هي أُمَّة معرَّضة للهبوط عن مستوى الأمم الكريمة، وشيوع الخلل والفساد في حياتها، لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. فالبيت المصون هو الوحدة الأولى في بناء المجتمع الفاضل، إذ هو الحاضنة الَّتي تنشأ فيها الطفولة الصحيحة السعيدة، ولابدَّ له من الأمن والاستقرار والطهارة ليصلح لهذه الغاية، وليعيش فيه الوالدان مطمئنين وهما يرعيان ذلك العشَّ الدافئ. فالمقياس السليم للارتقاء البشري هو تحكُّم الإرادة الإنسانية وغلبتها، وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة الَّتي جاؤوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة مشروعة بشِرْعة خالق الكون، يَعرفُ فيها كلُّ طفل أباه وأقاربه وإخوته وأخواته وسائر أرحامه.(3/15)
والقرآن يحدِّد المواضع الطَّاهرة الصالحة الَّتي يحِلُّ للرجل أن يودعها بذور الحياة: {والَّذين هم لفروجهم حافظون إلاَّ على أزواجِهِم أو ما مَلَكَتْ أيمانُهُم فإنَّهم غيرُ ملومين}، ومسألة الزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلاً، فهي النظام المشروع المعروف. أمَّا مسألة مِلْكِ اليمين فقد تتطلب شيئاً من البيان، فقد جاء الإسلام حين كان الرِّق على أَشُدِّه بين الأمم، وكان استرقاق أسرى الحرب نظاماً دولياً، فلم يكن بالإمكان ـ والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين في طريقه بالقوَّة المادِّية ـ أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين أرقَّاء عند أعدائهم، بينما هو يحرِّر أسارى الأعداء، ولكنَّه جفَّف كلَّ منابع الرِّق ـ عدا أسرى الحرب ـ إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى. ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات، وتقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن، ومن مقتضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح، فأباح الإسلام الاستمتاع بهن لمن يملكهن خاصَّة، إلا أن يتحرَّرن لسبب من الأسباب الكثيرة الَّتي جعلها الإسلام سبلاً لتحرير الرقيق. ويلاحظ في هذا الاستمتاع تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى في المخالطة الجنسية، وذلك حتَّى يأذن الله تعالى فيرتفعن إلى مرتبة الحرِّية. والأَمَةُ تصل إلى مرتبة الحرَّة بوسائل كثيرة منها: إذا ولدت لسيِّدها ثمَّ مات عنها، فإنها تصبح حرَّة، أو إذا أعتقها تطوُّعاً أو بسبب كفَّارة وجبت عليه، أو إذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها، أو إذا ضربها على وجهها فكفَّارته عتقها. وعلى أيَّة حال كان الاسترقاق في الحرب ضرورة مؤقتة، ولم يكن جزءاً من النظام الاجتماعي في الإسلام. ومن ناحية أخرى نرى أن الإسلام جعل الرق مناسبة لإظهار جمال الإسلام وكمال تشريعه وإنسانية(3/16)
معاملته، وذلك عندما يدخل الرقيق بيت المسلم فيحسن معاملته، ويطعمه على مائدته ممَّا يأكل، ويلبسه ممَّا يلبس، وإلى غير ذلك من إبراز محاسن الإسلام، والَّتي تغري هذا الرقيق أن يدخل مدرسة الثقافة السماوية؛ الَّتي ترتقي بالإنسان إلى أعلى المستويات الإنسانية، ويؤكِّد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل ولْيُلبسه ممَّا يلبس ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه ). وهكذا نرى كيف عمل الإسلام على الحدِّ من الاسترقاق، ومن ثمَّ إلى التخفيف منه، حتَّى تهيأت الظروف الدولية للخلاص منه بشكل نهائي، حيث تمَّ إعلان إلغاء الرقِّ في العالم كلِّه. وهذا يعني إجماع الأُمَّة المسلمة على إلغاء الرقِّ، إضافة للعالم أجمع، ممَّا يجعل لهذا الإلغاء الصفة الشرعية المُلزمة، لذا لا يحقُّ لأي مسلم كان، أن يخترقه أو يتحايل عليه بأي صفة كانت؛ كما يحدث في بعض الدول العربية، حيث يُحضر بعض أفرادها الفتيات من بلاد شرقي آسية، ويعدُّونهن رقيقات، حيث يبيحون لأنفسهم الاستمتاع الجنسي بهن، وهذا حرامٌ محض، شاؤوا أم أبوا.
لذلك فكلُّ من ابتغى غير الدائرة المباحة، ووقع في المحرَّمات، واعتدى على الأعراض، فهو مُفسِدٌ للنفس، لشعورها أنها ترعى في كلأ غير مباح، ومُفْسِدٌ للبيت، لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان، ومُفسِدٌ للأُمَّة، لأن ذئابها تنطلق فتنهش هنا وهناك، وهذا هو الَّذي يخشاه الإسلام ويعمل على الوقاية منه.(3/17)
والمؤمنون هم الَّذين يرعون الأمانة ويحفظون العهد، أفراداً وجماعات. والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق المجتمع، وفي طليعتها أمانة الفطرة، الَّتي وضعها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الَّذي هو منه وإليه، شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها فتظل قائمة بأمانتها. ثمَّ تأتي الأمانات جميعها تبعاً لهذه الأمانة الكبرى، وقيل في ذلك: [والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما اؤتمن عليه العبد من قبل الله تعالى من قول وفعل واعتقاد، وما اؤتمن عليه من قبل الإنسان من الودائع والأمانات].
وبعد أن تلخِّص الآيات صفات المؤمنين، تعود مرة أخرى لتؤكِّد أنهم المصلُّون الحقيقيون، فهم يحافظون على صلواتهم فلا يُفَوِّتونها كسلاً، ولا يقصِّرون في إقامتها كما ينبغي أن تُقام، إنما يُؤَدُّونها في أوقاتها كاملة الفرائض مع السنن، مستوفية الأركان والآداب، حيث يستغرق فيها القلب، وينفعل معها الوجدان. وطالما أن الصَّلاة صلة بين المخلوق والخالق، فإنه لا يُنتظر ممن لا يحافظ عليها أن يحافظ على صلة طيِّبة فيما بينه وبين الناس، صلة محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصَّلاة وضرورة الخشوع فيها، وختمت بالصَّلاة وضرورة المحافظة عليها، للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله. ومَنْ تحقَّقت فيهم هذه الشروط جميعها هم الفائزون، وهم الوارثون لجنَّة الفردوس، وهم خالدون فيها لا يبغون عنها حِوَلا، مصداقاً لقوله تعالى: {تلكَ الجنَّة الَّتي نُورِثُ مِن عِبادنا من كان تقيّاً} (19 مريم آية 63).
سورة التوبة(9)(3/18)
قال الله تعالى: {والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهُم أَولياءُ بعضٍ يأمرونَ بالمعروفِ وَينْهَونَ عن المنكرِ ويُقيمونَ الصَّلاة ويُؤتونَ الزَّكاةَ ويُطيعونَ الله ورسولَهُ أولئك سيرحَمُهُم الله إنَّ الله عزيزٌ حكيم(71)}
ومضات:
ـ إن طبيعة الإيمان الخيِّرة تنعكس على الأمَّة لتزرع الوحدة والتكافل والتضامن بين أفرادها إلى أن تصبح صفاً واحداً.
ـ المؤمنون بعضهم أولياء بعض يتَّحدون بهذه الولاية، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بقوَّة وصلابة.
ـ الصَّلاة تربط المؤمنين بالله وتقوِّي الشعور بالاطمئنان بين المصلِّين، والزكاة علاقة تفاعل تشملهم جميعاً، ومن خلالهما تنعكس الصورة المادِّية والروحية للإيمان.
ـ منهج المؤمنين الواحد يحدِّد غاياتهم ويوحِّدها، فلا تتفرَّق بهم السبل عن الطريق القويم.
ـ رحمة الله تعالى وسعت كلَّ شيء، وهي تظهر في اطمئنان القلب بالله وفي توافر الراحة النفسية، وفي رعايته تعالى لصلاح المؤمنين وتعاونهم وتضامنهم.
ـ إن في امتثال أوامر الله إعزازاً للفئة الممتثلة، حيث يكون بعضهم أولياء بعض في النهوض بالتكاليف، وهو الحكيم في تقدير الأمور وتقييم نتائجها.
في رحاب الآيات:(3/19)
إنَّ من أهل الإيمان فريقاً بلغ بهم حبُّ الله تعالى إلى درجة العشق والفناء، تراهم دائبين عاكفين على تنقية نفوسهم وتهذيبها، بل السموِّ بها والارتقاء صُعُداً في درجات الكمال، متعاونين متكاتفين في بناء صرح المجتمع المتماسك المتين، التقت قلوبهم على حبِّ الخالق، وتشابكت أيديهم لتنهض بأعباء المجتمع. إنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى، نفوسهم راقية، وعقولهم منوَّرة، وقلوبهم مشرقة مضيئة ليس فيها غلٌّ لأحد، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأنهم يحبُّون الخير لجماله لا من أجل منفعة دنيوية، ويكرهون الشرَّ لقبحه، ولأنه مخالف لطبعهم النقي، وفطرتهم الصافية، ودينهم القويم. ذلك لأن الإسلام يحرص كثيراً على انتشار المعروف وشيوعه بين الناس، والأمرُ به يعني بالضرورة النهي عن المنكر، وكثيراً ما دعت الآيات الكريمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المعروف قرينٌ للخير، وأحد عناصر الفلاح والفوز، قال سبحانه وتعالى: {ولْتَكُنْ منكم أمَّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ وأولئك هم المفلحون} (3 آل عمران آية 104).(3/20)
والمعروف: هو كلُّ ما كان معروفاً حُسنهُ من قِبَلِ الناس، بالعقل الرشيد أو الشرع الحنيف، من المُثُل العليا ومكارم الأخلاق، في عاداتهم ومعاملاتهم، وهو يشمل كلَّ ما ندب الله إليه من البرِّ والخير والعمل الصالح، فطاعة الله معروف، وممارسة الفضائل معروف، وكذلك الإخلاص في العمل والنِّيَّة الطَّيِّبة، والإحسان إلى الناس، وبرُّ ذوي القربى، والقول الجميل، وكلُّ عمل ينهض بالفرد ويرقى بالجماعة فهو معروف، ولا ريب أن القلوب السليمة تهتدي إليه، وتشعر به، وقلَّما تحتاج إلى من يبصِّرها به، إذ أنه مرادف للخير، والخير هو الكمال الَّذي تنشده الإنسانية وتسعد به. عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «جئتَ تسأل عن البِرِّ؟ قلت نعم. فقال: استفت قلبك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتَوْك» (رواه الإمام أحمد والدارمي بإسناد حسن). وينبغي أن يكون الأمر بالمعروف سرّاً إن أمكن لتكون الفائدة منه أبلغ، وقد قيل: [من نصح أخاه سرّاً فقد زانه ومن نصحه جهراً فقد شانه]، لذلك يحتاج الآمر به إلى عدَّة مزايا لينجح في مهمته وعلى رأسها: العلم والتَّقوى، وأن يكون قصده وجه الله تعالى ورفعة شأن الدِّين، وعليه أن يكون ودوداً، لا فَظّاً ولا غليظاً، وأن يكون صبوراً حليماً، وعاملاً بما يأمر به لئلا يكون ممن خاطبهم الله تعالى بقوله: {أتأمرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتنسَوْنَ أنفسَكُم وأَنتم تَتْلُون الكِتابَ أفلا تَعقِلون} (2 البقرة آية 44).(3/21)
أمَّا أَضْرُبُ المعروف فكثيرة منها: الدلالة على الخير وإرشاد الإنسان غيره إلى الحقِّ، والحِلمُ والسماحة، والرحمة والرفق، والكلمة الطيبة، وخدمة الآخرين، وإعمار الأرض وزرعها، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان، ولا دابَّة، ولا شيء إلا كانت له صدقة» (رواه البخاري ومسلم). وكلُّ معروف يقدَّم إلى الناس يرضي الله، كَبُرَ المعروف أو صَغُر، حتَّى المصافحة وبشاشة الوجه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تحقرَنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ» (رواه مسلم)، فالخلق كلُّهم عيال الله وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
كما تُعَدُّ إماطة الأذى عن طريق الناس من المعروف الموجب للمغفرة، يقول صلى الله عليه وسلم : «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره فشكر الله له فغفر له» (رواه البخاري). وحريٌّ بنا هنا أن نقدِّر قيمة أولئك الَّذين يسعون إلى تفكيك الأسلحة الصاروخية وتدمير قوتها النووية، بغية إزالتها من طريق تقدُّم البشرية وازدهارها، وحفاظاً على أمنها واستقرارها، ناهيك عن الأسلحة الجرثومية والكيماوية؛ بل جميع أنواع الأسلحة الفتَّاكة.
وخير المعروف ما قام به المرء وهو في عافية من البدن، ووفرة من المال وإقبال من الدنيا، وأمل في الحياة، فإنَّ في ذلك دليلاً على إيثار ما عند الله، ومظهراً للوعي الدِّيني ويقظته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في المسارعة إلى البِرِّ والمعروف، فعن أبي سِرْوَعة رضي الله عنه قال: «صلَّيْتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلَّم، ثمَّ قام مسرعاً، فتخطَّى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته! فخرج إليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: ذكرتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا فكرهتُ أن يحبسني، فأمرت بقسمته» (رواه البخاري).(3/22)
والأمر بالمعروف يحتاج إلى إعداد وتعويد، حتَّى تألفه النفس، ويسهل عليها ممارسته، والتمرس به منذ نعومة الأظفار، وأخذ الناشئة به، ممَّا يرسي دعائمه ويثبِّت قوائمه. وقد أمر الإسلام أن نربِّي الأبناء على الفضائل، ونعوِّدهم على أداء الواجبات الدِّينية منذ الحداثة، حتَّى ينشَؤوا على حبِّ المعروف وينطبعوا به.
والمؤمنون صَلاتُهم وصال وذكرهم اتِّصال، أرواحهم تركع، وقلوبهم تسجد في ظلِّ حيٍّ باقٍ مهيمن على ما في الوجود، وأيديهم معطاء بيضاء تؤتي الزكاة لمستحقِّيها، فأموالهم أمانة استودعهم الله إيَّاها فلا يصرفونها إلا كما أمرهم، ويعطون لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ليسوا عبيد درهم ولا دينار، يعلمون أن المال مال الله وأن للفقراء حقاً فيه مفروضاً؛ فيؤدونه بنفس راضية، ذلك أن ضمائرهم تأبى أن يشبعوا وفي المجتمع جائع، هدفهم الحصول على رضى الله تعالى بالاقتداء برسوله، لأن في إرضائه نعيم الروح، ونشوة الحبِّ، وإشاعة السعادة بين الخلائق أجمعين. وهذا يعني الوصول بالبناء الإيماني إلى ذروته، حيث تنتشر الرحمة الإلهية في صفوف قاطنيه، وتتولَّد مشاعر العزَّة والكرامة في نفوسهم، فهم في كنف الله العزيز ورعايته، حكماء يعرفون ما يريدون ويحسنون الوصول إليه عبر الطريق الأسلم والأمثل.
سورة الأنعام(6)(3/23)
قال الله تعالى: {قلْ تعالَوا أَتلُ ما حرَّمَ ربُّكمْ عَلَيكُم ألاَّ تُشْركوا به شيئاً وبالوالدَين إحساناً ولا تقتُلُوا أولادَكُم من إملاقٍ نحن نرزُقُكُم وإيَّاهم ولا تقْرَبوا الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بطَنَ ولا تقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ذلكم وصَّاكم به لعلَّكم تعقلون(151) ولا تقرَبوا مالَ اليتيمِ إلاَّ بالَّتي هي أحسنُ حتَّى يبْلُغَ أشُدَّهُ وأوفوا الكَيلَ والميزانَ بالقِسطِ لا نُكلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها وإذا قلتُم فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى وبِعَهْدِ الله أَوفوا ذَلِكُم وصَّاكُم به لعلَّكُم تَذَكَّرون(152)}
سورة الإسراء(17)
وقال أيضاً: {ولا تقرَبوا مالَ اليتيمِ إلاَّ بالَّتي هي أَحسنُ حتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وأَوفوا بالعهدِ إِنَّ العهدَ كان مَسْؤولاً(34) وأَوفوا الكيلَ إذا كِلْتُم وزِنوا بالقسطاسِ المستقيمِ ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً(35)}
ومضات:
ـ جميع الوصايا الَّتي أتت بها الشرائع السماوية هي ركائز أساسية لإشادة البناء الاجتماعي بشكل متين متماسك، وجميعها تقوم على قاعدة التوحيد وعدم الإشراك به تعالى.
ـ هذه الوصايا الواردة في الآيات الكريمة تدعو إلى الرحمة والتراحم، والحبِّ والتحابب، من أجل سعادة الأسرة والمجتمع والإنسانية، وإنَّ رفض بعضها أو كلِّها يعني قطع حبال الودِّ والوصال، وهدم الأخلاق الكريمة، وموت الضمائر الحية، وتأجيج الغرائز بشكل همجي، وإطالة أظافر العداوة والبغضاء لتمزِّق الأُلفة بين الناس؛ فأي حياة يمكن أن نعيشها في مثل هذا الجو؟ إنها حياة أكثر قسوة وضراوة من حياة الوحوش.
في رحاب الآيات:(3/24)
يتكرر ذكر جانب من التعاليم الإلهية في مواضع مختلفة من القرآن الكريم تأكيداً على أهمِّيتها، وتذكيراً للمؤمنين بها، لتترسَّخ في أعماق قلوبهم وحنايا تفكيرهم، كيلا يحيدوا عنها أو ينسوها، لأن نفسية الإنسان مجبولة على النسيان، ولابدَّ لها من تحريك دائم لتتشرَّب التوجيهات الإلهية وتهضمها، ممَّا يمهِّد السبيل لتطبيقها والالتزام بها.
وتشدُّ الآيات الكريمة انتباه السامعين إليها بتصديرها بفعلين متتاليين من أفعال الأمر، الأوَّل منهما موجَّه من الله إلى رسوله: {قلْ}، والثاني موجَّه من الرسول إلى الناس كافَّة: {تَعَالَوا}، وفي هذا تسلسل منطقي يدلُّ على الرابطة الوثيقة بين المشرِّع الَّذي هو الله، وبين من نزل إليهم التشريع وهم بنو آدم، مروراً بالرسول الكريم الَّذي تنحصر مهمته بتبليغ ما أُمر بتبليغه إلى الناس كافَّة، وهو ما يُعْرَف بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وهذا يستدعي اليقظة الفكرية، والفهم الدقيق، والتنفيذ الصحيح لمضمون الرسالة. فما هي الوصايا الَّتي يوجِّهها الله تعالى لنا في هذه الآيات؟ إنها مجموعة من التعاليم والإرشادات، أوَّلها وأهمُّها تنزيه الله عن الشريك والنِدِّ، لأن الله غنيٌّ بذاته العليَّة عن الشريك من جهة، ولأنه لا يمكن لمخلوق أن يرقى ليصبح من جهة أخرى خالقاً. والفطرة السليمة النقية تعرف هذا، ولكنَّ بعض الناس خَفَتَ صوت فطرتهم حتَّى بات همساً تحت تأثير شهوات النفس، ونوازع الهوى، فجاءت الآيات تنبِّهُهم ليحوِّلوا مِقوَدَ قلوبهم من طريق الشرك إلى طريق الإيمان، لأنه أُسُّ العقيدة والعمل، وكلُّ عمل لا يرتكز على هذا الأساس فهو باطل، لأن الولاء لله يعني الانقياد له، فمن شُغِفَ بالله شُغِفَ بتنفيذ أوامره، ومن وحَّد الله لم تُطِقْ نفسه أن يكون عبداً لسواه، ولا يجد سعادته إلا في أن يعلن براءته ممَّا يتخبَّط فيه غيره ممن عبد غير الله أو جعل له شريكاً.(3/25)
إنَّ تنزيه الله تعالى عن المماثلة والتشبيه، والإقرار بالعبودية له، يستلزم طهارة القلب ونقاوة الضمير، فيفيض الحبُّ من القلب ليغمر صاحبه ثمَّ يتعدَّاه إلى من يلوذ به، ومَنْ أحقُّ بالحبِّ من الوالدين اللذَيْن كانا سبب وجود ولدهما، وهما يشكِّلان جذوره الممتدَّة في عمق الحياة.
والإحسان إلى الوالدين لا تحده حدود وأقل ما يقال فيه، إن الله قرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين فقال: {وقضى ربُّكَ ألاَّ تعبُدوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدَين إحساناً..} (17 الإسراء آية 23). هذان الوالدان اللذان أمضيا زهرة عمرهما، وثمرة سعيهما، وخلاصة وجودهما، ليصبَّاها في كيان وليدهما، حتَّى تثمر فيه علماً وأدباً وتقوىً وشباباً. وهكذا يفتح الإسلام مظلة الرعاية الاجتماعية، ليجمع تحت ظلِّها رؤوس أعضاء الأسرة الإنسانية، بادئاً بأجلِّهم وأكرمهم وهما الوالدان. وبعد توصية الأبناء بالبِرِّ بالوالدين تأتي الوصيَّة إلى الآباء لرعاية الأبناء وصيانة حقوقهم، حيث أن للأبناء أيضاً حقوقاً على والديهم، فلا يظننَّ الوالدان أنهما يملكان حقَّ التصرُّف بحياة أولادهما، فيعاملانهم على أنهم شيء من سَقَطِ المتاع، فهما وإن كانا الأصل في وجودهم إلا أن الموجد الحقيقي هو الله، وما هما إلا الوسيلة، والسبب الَّذي قدَّر الله وجودهم عن طريقه. فليرفع الآباء طَرْفَهم نحو السماء كلَّما ثارت في نفوسهم نوازع الأثرة والأنانية، وهبَّت عليهم رياح حبِّ التملُّك، وعصفت برؤوسهم المخاوف من أعباء الحياة، وضيق ذات اليد، فلا يفكرون بقتل أولادهم مخافة الإنفاق عليهم، فرزقهم محفوظ في خزائن الله، وأي اعتداء عليهم يحرمهم من حقِّ الحياة؛ إنما هو عدوان على الله واتِّهام له عزَّ وجل بأنه فقير وعاجز عن كفاية مخلوقاته جميعاً بالرزق الوفير.(3/26)
وهكذا نجد أن هذه الوصايا الثلاث؛ وحدانية الله، والبِرُّ بالوالدين، وحقُّ الحياة للأولاد، قد رسمت الإطار الإنساني العام الَّذي تنتظم فيه البشرية جمعاء، ثمَّ عرَّجت الآيات الكريمة على الإنسان، وغاصت في أعماقه، فتناولت سريرته لترتقي بها وتسمو فوق كلِّ ما يفسد إيمانها ويعكِّر عليها صفو العلاقة مع خالقها، وكذلك العلاقة مع الناس، ابتداءً من وساوسها وانتهاءً بشرورها وآثامها، فقالت له: إن أموره لن تستقيم إلا إذا ضبط نوازعه، وطهَّر قلبه من الرجس وحوَّله إلى جهاز شديد الحساسية، يلتقط أدقَّ التجلِّيات الَّتي يفيضها عليه خالقه، فيستشعر جلال عظمته ودوام مراقبته له، ويبتعد بنفسه عن كلِّ مكروه يكرهه الله، ويُقبل على كلِّ طاعة يحبُّها الله، فلا يُفْحِشُ في قول ولا عمل، ولا يسمح لنفسه بسماع كلمة نابية، أو رؤية منكر، فإذا تمَّ الصلح بينه وبين ذاته تصالح مع من حوله وتحوَّل إلى إنسان ملائكي، ينتظم في منظومة الكون العظيم، مبتعداً عن الخبث والخبائث ملتزماً بالطهر والطهارة.
وبعد تلك الجولة في مجاهل النفس تنتقل الآيات لتدخل في إطار المجتمع، وتقرر حُكْماً مبرماً لا هَوادة فيه؛ هو تحريم قتل النفس إلا بالحقِّ، فالإنسان أكرم مخلوق على الأرض كما قرر النص القرآني في قوله تعالى: {ولقد كَرَّمنا بَني آدم..} (17 الإسراء آية 70) وأوَّل مراتب التكريم صيانة حياته، فهي مُلكٌ لخالقها، وهو الَّذي بدأها ولا يجوز لأحد غيره أن ينهيها، ولا يحقُّ لأي إنسان ـ مهما عظم سلطانه أو ارتفع شأنه ـ أن يسلب إنساناً حياته إلا ضمن شروط حددها الشارع الحكيم، تجعل الإنسان يعيش في ربوع الإسلام آمناً مطمئناً، مادام بعيداً عن الأمور الَّتي ترفع عنه هذه الحصانة الإلهية.(3/27)
وما زالت الآيات تجول في إطار المجتمع، وما زالت الخطوط تُرسم على لوحة الوجود، تتعانق وتتفارق لتكمل رسم تلك اللوحة كأجمل ما يكون الرسم، وأبدع ما يكون التكوين! إنها يد الخلاَّق العظيم الَّذي خلق الكون وجعل العلاقات بين الأحياء قائمة على الحبِّ، ووضع له قوانينه الَّتي تصدح بحبِّه لمخلوقاته، وعلى أساس هذا الحبِّ نظَّم العلاقة بين مخلوقاته، ونبَّهنا للمظلومين والمعذَّبين لنردَّ لهم حقوقهم الضائعة. ومنهم اليتيم، ذاك المخلوق الضعيف الَّذي فقد السند البشري في مواجهة الحياة ومشاقِّها، فهو صغير لا يملك حرِّية التصرُّف بماله الموروث، فلا قدراته العقلية تسمح له بذلك، ولا طاقاته الجسدية تؤهله لاستثمار هذا المال. ويأتي دور الوصي ليكون مسؤولاً عن مال اليتيم، وكلُّنا يعرف بريق الذهب، وكيف يخطف الأبصار والقلوب فتخور العزيمة، ويغيب الرقيب من الضمير وتنطلق اليد في مال اليتيم، وهنا تنطلق صفارة الإنذار لتهزَّ الأعماق الغافلة، أَنِ انتبِه، فاليتيم في كنف الله، والمال مال الله، وأنت مؤتَمن عليه، فأدِّ الأمانة، واستثمر هذا المال لمصلحة ذلك اليتيم حتَّى يبلغ أَشُدَّه، وحينها تؤدِّي إليه ماله كاملاً، وكلُّ درهم صُرِفَ أو سيُصرف في غير موضعه، سيكون حجَّة عليك يوم تقف أمام محكمة قاضيها ربُّ العالمين. قالصلى الله عليه وسلم : «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة» (رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه ).(3/28)
وتعرِّج الآيات على عملية البيع والشراء، وهي من أكثر الأمور الَّتي تتعرض للأخذ والرد، فهي عملية يومية تتمُّ بين بائع يملك السلعة ومشترٍ يملك المال، فالأوَّل إذا كان معدوم الضمير فقد يبخس الوزن، وينقص المكيال، ويتلاعب بالميزان، أو يغش البضاعة، والشاري مضطر للقبول لأن الميزان ليس بيده، وهو غافل عن فنون التلاعب الَّتي قد يمارسها معه ذلك البائع، وهذا أبشع أنواع الاستغلال. لقد حذَّر الله تعالى من مغبَّة ذلك في العديد من آيات القرآن، حيث نبَّه أمَّة شعيب ـ عليه السَّلام ـ بألاَّ يبخسوا الميزان، فقال تعالى: {وياقومِ أوفوا المِكْيالَ والميزانَ بالقسطِ ولا تَبْخَسُوا النَّاس أشياءَهُم ولا تَعْثَوْا في الأرضِ مفسدين} (11 هود آية 85)، وليست أوامر الله فوق طاقة البشر فالله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وُسْعها، ولو اتبع الناس هذه الأوامر وعملوا بها؛ لاستقامت أمور حياتهم، وعظمت الثقة والأمانة بينهم.
وتتابع الآيات الارتقاء بالضمير البشري وقد ربطته بالله عزَّ وجل وأوثقت الرباط على هدي العقيدة، وهي تنبِّهه لئلا يقع في منزلق خطير من منزلقات الضعف البشري، والَّذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل، فيحذِّره من أن يكون ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، أو القضاء فيما بينهم وبين الناس، فالحقُّ أقوى من القرابة والله أحقُّ أن نخشاه، فلا نشهد إلا بالحقِّ الَّذي يرضيه سبحانه.
وأمَّا الوصيَّة الأخيرة فهي الوفاء بعهد الله ويشمل:
1 ـ ما عهده الله إلى الناس على أَلْسِنَةِ الرُّسل.
2 ـ حُسْنَ تصرفهم بما آتاهم من العقل والوجدان والفطرة السليمة.
3 ـ ما عاهدوا الله عليه: {وأوفوا بعهدِ الله إذا عاهَدتُم..} (16 النحل آية 91).
4 ـ ما عاهد الناسُ عليه بعضهم بعضاً: {..والموفونَ بعهدِهِم إذا عاهدوا..} (2 البقرة آية 177).(3/29)
وهنا لابُدَّ لنا من وقفة قصيرة، أمام موقف يتعرض له الكثير منا، وذلك عندما يُوْصَى أحدنا وصيَّةً ممن يحتلُّ منزلة رفيعة في قلبه، وعُرف بين الناس برجاحة عقله وحكمته، فإنه ولاشكَّ يلتزم بوصيَّته، ويباشر بتنفيذها ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها، وفاءً بعهد صاحبها والتزاماً بالواجب، فما بال المعرضين عن وصايا الله الَّتي أوصاهم بها؟ ولِمَ لا تقع في أنفسهم موقع وصيَّة الآخرين؟ أليست أحقَّ من غيرها بالتكريم والامتثال، والاحترام والالتزام؟. وإنَّ لَفظَ (الوصيَّة) ذو إيحاء، وفيه مشاركة وجدانية وتواصل بين المُوصِي والمُوصَى له، مبني على الثقة والأهلية وحسن الاستعداد للتنفيذ، وله وقع محبَّب في النفس والقلب.
وكلُّ ما جاء في الآية الكريمة من الأوامر والنواهي قد أوصانا الله بالتزامه، وأن نوصي بعضنا بعضاً بها، كما قال: {..وتَوَاصَوْا بالحقِّ وتَواصَوْا بالصَّبر} (103 العصر آية 3) لما في ذلك من مصالح ومنافع ورجاء أن يتَّعِظ بها من سمعها أو قرأها.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {الَّذين يقولونَ ربَّنا إنَّنا آمنَّا فاغفِر لنا ذُنوبَنا وقِنا عذابَ النَّار(16) الصَّابِرينَ والصَّادقينَ والقَانِتينَ والمُنفِقينَ والمستغفرينَ بالأسحارِ(17) شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ هو والملائكةُ وأُولوا العلم قائماً بالقِسطِ لا إلهَ إلاَّ هو العزيزُ الحكيمُ(18)}
ومضات:
ـ علينا أن نتوجه إلى ربِّ العالمين بكلِّ ذرَّات وجودنا، وأن نسلك مسلك العمل الإيماني البنَّاء، طالبين منه المغفرة عما بدر منا من أخطاء وهفوات بسبب ضعفنا البشري، راجين منه شفاء أرواحنا من آثار هذه الذنوب.(3/30)
ـ علينا الصبر على تزكية أنفسنا، وعلى بناء مجتمعنا حسب القواعد السليمة، عقلاً وخلقاً وتعاوناً، وتبنِّي رسالة السماء بصدق لا تشوبه شائبة، وأن تتشرَّبَ أرواحنا العطاء الإلهي فَتَلينَ قلوبنا لذكر الله وتخشع لعظمته تعالى. وأن نعلم أن ما نملك هو مُلْكٌ للمالك الأصلي وننفق ممَّا وُكِّلنا عليه من هذا المال في تحقيق مراده. وأن نجعل لذَّة العبادة أقوى من لذائذ النوم والدعة وسائر المتع الجسدية، حيث تخلو بربِّك وتسعد بحبِّه ويطمئن قلبك بذكره ويحلو الوصال؛ فإذا امتلكتَ هذه الصفات انجلت مرآة قلبك وانضممتَ إلى عائلة الأبرار.
ـ الملائكة الأطهار يدركون تماماً قدرة الله في تصريف ما خلق ويشهدون أنه لا يمكن أن ينازعه في عزَّته وحكمته منازع.
في رحاب الآيات:
يشير الله تعالى في هذه الآية إلى المؤمنين المتقين الَّذين تنعكس آثار إيمانهم من قلوبهم على أعمالهم، فتلهج ألسنتهم بالدعاء والابتهال: ربَّنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيماناً راسخاً في القلب، مُهيمناً على الجسم، مُنَوِّراً ومُوسعاً آفاق العقل، وعقدنا العزم على تنفيذ تعاليمك، فاغفر اللهم لنا تقصيرنا بعفوك وكرمك، وادفع عنا عذاب النَّار.
ومن هذا الدعاء نستنتج أن الإيمان العملي هو الغاية المطلوبة وليس الإيمان اللفظي، وأنَّ من شروط الإيمان العملي: الصبر الدائم والصدق المستمر والعبادة المخْلَصَةُ لله الخاشعة لجلاله، والإنفاق في سبيله، وقيام الليل، وهذه صفات سامية راقية، ترقى بالإنسان نحو حضرة الله، فيخجل من ذنوبه، ويستشعر عظمة خالقه، ويطلب منه الأمان والحماية من العذاب.(3/31)
فالمؤمنون المتَّقون جمعوا صفات كثيرة، ولكلٍّ منها درجة في الفضل، وشرف ورِفْعَةُ منزلةٍ في الكمال، وفي كلٍّ من هذه الصفات تتحقَّق قيمة من قيم الحياة الإنسانية أوَّلها الصبر: وهو السيطرة على ردود الفعل الَّتي تنشأ عن انفعال النفس بسبب الرغبة المُلِحَّة تجاه أمرٍ ما، أو الرهبة والانزعاج من تصرفات الآخرين، أو الألم والحزن والغضب في البلايا والمحن. وثانيها الصدق: وهو دعامة الفضائل، وعنوان الرقي، ودليل الكمال، وهو الَّذي يضمن صيانة الحقوق، ويوطِّد الثقة بين الأفراد والجماعات، وبه تطمئن النفوس الكريمة، بينما يُقلق الكذب القلوب إذا تفشى وانتشر، ويدعها مضطربة حائرة، ويُفسد المجتمع ويهد أركانه. وثالثها القنوت: وهو المداومة على طاعة الله تعالى والإخبات له مع الخشوع والخضوع، وهو لبُّ الطاعة والعبادة وروحها.
وهناك إنفاق المال في جميع سبل الخير الَّتي حث عليها الإسلام، سواء أكانت واجبة أم مستحبَّة، وفي ذلك إعلاءٌ لحقيقة الأخوة الإنسانية وتجاوز شهوة حبِّ الذَّات، وتكافلٌ بين الناس يزرع المحبَّة في نفوسهم.
وأمَّا الاستغفار بالأسحار فإنه يلقي ظلالاً وارفة ندية على القلب، لأنه يعني الصلة مع الخالق، والانصهار في روعة التجلِّي وعظمته؛ ففي تلك اللحظات تصفو النفس بالتوحيد، ويصدح الكون بالتسبيح، ويصعد الأنين المشحون بالشوق إلى لقاء الله، وقد تجرَّد صاحبه عن كلِّ هدف أو غاية دنيوية عارضة، فهو في لهفة واشتياق إلى الاستمداد من عطاء الله وأنواره، بعيداً عن لذائذ الجسد وشواغل النفس من حاجات الجسم الترابي الفاني، وإقبالاً على الحقائق الأبدية الخالدة الَّتي تبقى بعد أن تتلاشى أجزاء الجسد وتعود إلى التراب.(3/32)
والسَّحَر هو السويعات القليلة من الليل الَّتي تسبق الفجر، والَّتي يصفو فيها القلب ويخشع، ويَغرقُ الكونُ في صمت وهدوء، فتخمَدُ جميع الأصوات ليتعالى صوت الإيمان، ويتنامى شعور المرء بضعفه أمام الجلال الأعظم، فينطلق بعيداً عن كلِّ مشاغل الدنيا وهمومها، ليتَّصل بالعالم السماوي، ويبثَّ خواطره ولواعجه وخلجات نفسه الحبيسة، فإذا رافق ذلك صلاة واستغفار، تسامت روحه وارتقت في طلب الصفح والغفران، وتفتَّحت قريحته بالدعاء وأجهش بالبكاء الحار، حتَّى يغسل بدموعه ما ترسَّب في نفسه من الأدران والأمراض لتعود طاهرة نقية أقرب ما تكون إلى الفطرة السليمة؛ فيُحسُّ المرء بوجود الله مهيمناً عليه قريباً منه، ويشعر بعطائه يلامس شغاف قلبه ويملأ حناياه. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ينزل الله تبارك وتعالى في كلِّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
فمن كانت هذه صفاته فلابدَّ أن يوقن في أعماقه بوحدانية الله وأنه لا شريك له، وهذه الحقيقة قررها الله سبحانه بياناً لتفرُّده ووحدانيته، وتثبيتاً لقلوب هؤلاء المؤمنين بأنهم على حقٍّ، وبأنهم المقرَّبون إليه. أمَّا شهادة الملائكة وأولي العلم فتتمثَّل في طاعتهم لأوامر الله تعالى، والتلقي عنه وحده. وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بالوحدانية لله، يصاحبها شهادتهم بأنه تعالى عادلٌ في كلِّ أمر، منصفٌ في كلِّ حكم. وعلى مثل هذه الصفات يجب أن نبني سلوكنا مع أفراد المجتمع لنصبح من أولي العلم، ومن أصحاب مقام الشهود، وهذا إثبات لقيمة العالِمِ وتأكيد على أهمِّية العلم.(3/33)
وبما أن تدبير الله لهذا الكون، ولهذه الحياة قائم دائماً بالعدل وكذلك كلُّ سنن الخليقة، فإن العدل المطلق لا يتحقَّق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم إلا بتحكيم منهج الله الَّذي اختاره للناس وبيَّنهُ.
ويؤكِّد الله سبحانه وتعالى تفرُّده بالألوهية مرة أخرى في الآية نفسها، مصحوباً بصفة العزَّة والحكمة، وهما ملازمتان للقيام بالقسط، فالعزَّة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إيماء إلى كمال العلم، والقدرة لا تتمُّ إلا بالتفرُّد والاستقلال، والعدالة لا تكمل إلا بالاطِّلاع على المصالح والأحوال، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن العدل، ولا يفوت الخليقة شيء من حكمته البالغة.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {الم(1) ذلك الكتابُ لا ريْبَ فيه هُدىً للمُتَّقينَ(2) الَّذين يؤْمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصَّلاة وممَّا رزقْناهُم يُنفِقونَ(3) والَّذين يؤمنونَ بما أُنزلَ إليكَ وما أُنْزلَ من قبْلِكَ وبالآخرةِ هُم يوقِنونَ(4) أولئكَ على هُدىً من ربِّهم وأولئكَ هم المُفلحونَ(5)}
ومضات:
ـ كلمة {الم} تُقرأ: ألف، لام، ميم، وتسمَّى الأحرف النورانية، وقد افتُتِحَ بها وبمثيلاتها عدد من سور القرآن الكريم، ولم يَرِدْ أيُّ تفسير لها عن النبي عليه السَّلام، ولكنَّ كثيراً من العلماء يقولون بأن هذه الحروف ذُكرت في أوائل بعض السور لإثبات إعجاز القرآن الكريم وتحدِّياً للعرب، فهو مكتوب بلغتهم ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
ـ هذا الكتاب لا يتطرَّق إليه الشكُّ في كونه منزَّلاً من عند الله، وليس من تأليف محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولا هو من إيحاء أو تعليم الرهبان والكهان، وبأنه لم ينله تغييرٌ أو تحريف، فهو موثَّق محفوظ بحفظ الله وعنايته، قال تعالى: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكرَ وإنَّا له لحافِظون} (15 الحجر آية 9).(3/34)
ـ يحمل القرآن الكريم بين طيَّاته الهدي والإرشاد للمتقين، الَّذين سمت نفوسهم وصارت أهلاً لتلقِّي نور الحقِّ، فتراهم يسعون في مرضاة الله بقدر ما يبلغ إليه اجتهادهم.
ـ يمتاز المؤمنون بإيمان ثابت ويقين مطلق بالغيب ـ وهو كلُّ ما غاب عن حواسِّهم ممَّا جاء خبره في القرآن ـ مقترناً بخضوع نفوسهم واستسلامها للحقِّ، فإذا جاءهم الأمر بإقامة الصَّلاة استجابوا وأطاعوا، وإذا جاءهم الأمر بالإنفاق وجدوا المتعة في بذل أموالهم وممتلكاتهم تقرُّباً وزلفى إلى الله من أجل إسعاد مخلوقاته، فهم يتفاعلون إيجابياً مع كلِّ ما أخبر به القرآن.
ـ بالإضافة إلى ما تقدم فإن المؤمن الحقَّ يؤمن بأن القرآن من عند الله، ويؤمن كذلك بجميع الكتب السماوية الَّتي سبقته، كما يؤمن بأن الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال، والإيمان بها يقتضي العمل لها.
ـ الهُدى من نصيب المؤمنين الَّذين ترسَّخت عناصر العقيدة الصحيحة في قلوبهم، فكان الفلاح مكافأتهم في الدنيا والآخرة وقد رتَّب الله تعالى الفلاح على الهدى، لأن الهداية شجرة ثمرها الفوز والفلاح، ولابُدَّ للشجرة من أن تعطي إنتاجها.
في رحاب الآيات:
أشارت الآية الكريمة إلى الكتاب ـ وهو القرآن الكريم ـ بإشارة البعد {ذلك} تعظيماً لأمره وتفخيماً لشأنه، وإشعاراً للإنسان بعُلُوِّ مقامه، ثمَّ نفت عنه الرَّيْب ودلَّت على قوَّة حجَّته، ورجحان برهانه. والرَّيْب: هو شكٌّ يصحبه اتهام يتأتَّى من الجهل بالحقيقة أو الاستكبار عليها، أو التعنُّت والتقليد الأعمى واتِّباع الأهواء. وقد دفع الله تعالى الشكَّ عن القرآن الكريم لأنه يدعو إلى منهج جديد، والإنسان بطبعه يقف متهيِّباً متحيِّراً أمام الجديد، مرتاباً فيه إلى أن تثبت له مصداقيته.(3/35)
وليس القرآن مجرد عبارات تُتْلَى، وليس القصد منه إمتاع الآذان بالاستماع والترنُّم، ثمَّ نيل الإعجاب والثناء، وإنما هو كلام الله عزَّ وجل الَّذي ينبغي على من يقرؤه أن يلتزم بمنهجه، ويتَّبع تعاليمه، ويلقي إليه مقاليد أمره. فالقرآن وسيلة تغيير وتطوير وليس مجرد عنصر تأثير، كما أنه مقام اتِّباع والتزام وليس مجرد إعجاب واحترام، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً في ذهن قارئه لتزيد هذه القراءة خشوع قلبه، وانقياد جوارحه، وبالتالي قطف ثماره.
والإيمان بالقرآن على أنه كلام الله سبحانه وتعالى، يستلزم تعهُّد ما جاء به من التعاليم، والوقوف عند حدوده؛ منهجاً وسلوكاً واعتقاداً وتفكيراً، وهذا التعهد لا يقوى على إنفاذه إلا المتَّقون الَّذين لامس نفوسهم قبس من نور الهداية، فسمت به وصارت مستعدَّة لتقبُّل الحقِّ والإذعان له، والسعي في مرضاة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في فعل الخيرات.
وتتابع الآيات مبيِّنة أن وراء العالَمِ المادِّي المشهود عالم نوراني، ولا يمكن إدراكه بأدوات العلم المادِّية، ولكنَّ بالإيمان، ألا وهو عالم الغيب. فالعلم هو إدراك العالم المنظور واكتشاف قوانينه وسننه، وهو من عمل العقل والحواس، والإيمان هو إدراك عالم الغيب ومكانه في القلب، والمؤمنون الَّذين أثنى الله تعالى عليهم، هم الَّذين يؤمنون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسُّهم، وهو يشمل أهمَّ ما يؤمن به المسلم كالبعث والجنَّة والنَّار، والصِّراط والحساب، والملائكة والجن، وغير ذلك ممَّا أخبر به القرآن المجيد والرسول الكريم ولم تدركه حواسُّنا.(3/36)
وعالَمُ الغيب عالَمٌ رحب واسع لا يدرك عظمته إلا أولوا الألباب، أصحاب العقول النيِّرة، والقلوب الطاهرة الَّذين ينتقلون بإقامة الصَّلاة من الإيمان القلبي إلى التطبيق العملي، وهما مفهومان متلازمان في جميع آيات القرآن الكريم، فالإيمان نورٌ في القلب ينعكس ضياؤه على السلوك بالعمل الصالح. والإيمان الَّذي لا يصحبه عمل صالح إيمان ناقص، وإنما وُصِفَ المتَّقون بأنهم يقيمون الصَّلاة، ولم يوصفوا بأنهم يُصَلُّون فحسب، لأن الصَّلاة لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت قائمة في القلب مؤثِّرة في السلوك، وبذلك يكون مقيم الصَّلاة الحقيقية، بعيداً عن الفحشاء والمنكر والبغي، قريباً من الرحمة والتسامي والتآخي.(3/37)
وإذا كانت الصَّلاة هي الانعكاس الروحي للإيمان، فإن الزكاة هي دعمٌ مادِّي له، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصَّلاة عماد الدِّين والزكاة قنطرة الإسلام» (رواه الطبراني والديلمي عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ (مرفوعاً وأخرج المقطع الأوَّل منه البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه ) والمؤمن يجب أن يكون قدوة حسنة في مجتمعه، نافعاً في بيئته كشجرة طيِّبة وارفة الظلال مستمرَّة العطاء في كلِّ حين بإذن ربِّها، ينظر إلى المال نظرة المستَخلَف عليه، القائم على توجيه الانتفاع به واستثماره، لا المتمسِّك الضنين به، الواقع تحت سلطان إغرائه. فالمال قد يكون سبباً في طغيان أقوام، وقد يكون عوناً على التَّقوى لأقوام آخرين، فما كلُّ من اغتنى نبتَ الطمع في قلبه، ولا كلُّ من افتقر ترسَّخ الزهد في نفسه. ومناط الخير في الثراء، أن تكون الدنيا في أيدينا لا في ذات قلوبنا، نستعملها حسب أمر الله دون تعلُّقٍ بها، ومن هنا نفهم من قوله تعالى: {وممَّا رزقْناهُم ينفِقون}، السبب في وصف المؤمن بأنه في موقع المعطي لا في موقع الآخذ، وهذا ما عبَّر عنه الحديث الشريف: «اليد العليا خير من اليد السفلى» (رواه مسلم عن أبي أُمامة). وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف.. الحديث» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
وكما أن الصَّلاة ظلٌّ روحي للإيمان، والزكاة برهان مادِّي عليه، فإن الإيمان برسالات الرسل السابقين هو الظل الاعتقادي والتوجيهي للإيمان. فالإسلام لا يقبل المسلم في مدرسته حتَّى يستكمل الاعتقاد بكلِّ الرسالات السماوية السابقة، وحتَّى يؤمن بأن رسالات الرسل جميعاً متمِّمٌ بعضها بعضاً، وهذا ركن من أركان إيمانه.(3/38)
فنحن نؤمن بكلِّ ما جاء في القرآن الكريم، جملةً وتفصيلاً، وقد أَخبَرنا الله تعالى فيه أنَّه آتى إبراهيم صحفاً فيها الحنيفية السمحاء، وآتى داود زبوراً فيه حبٌّ ومناجاة، وأنزل التوراة فيها هدىً ونور، وآتى عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هداية ورحمة. وأمرنا سبحانه أن نرتِّل الآيات القرآنية المتعلِّقة بالرسل السابقين وما جاؤوا به، كما نرتِّل باقي آيات القرآن المتعلقة بالصَّلاة والزكاة والحج وسائر التعاليم الإلهية، ممَّا يؤكِّد أن الإسلام جامعٌ للشرائع السماوية ومُتَمِّمٌ لها، يقود الإنسانية نحو العالم الموحَّد في ظلال الإيمان. فهاهو ذا القرآن الكريم، بعد أن يستعرض قصص الأنبياء وأخبارهم وجهادهم وأخلاقهم في سورتهم سورة الأنبياء، يوجِّه الدعوة إلى أتباعهم جميعاً وإلى كلِّ الناس للتآخي والوحدة في قوله: {إنَّ هذه أمَّتُكُم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاعبدون} (21 الأنبياء آية 92).
ويبقى الإيمان بالآخرة والجزاء فيها على الخير خيراً، وعلى الشرِّ عذاباً، هو العصب المحرِّك للسلوك الإيماني المحبَّب إلى جميع النفوس، وذلك لأن وجود الحياة بلا آخرة عبثٌ تنزَّه الحكيم سبحانه وتعالى عنه. والعدل الإلهي الساري في الكون لا يمكن أن يُقِرَّ ظلم الظالم، ولا استكبار المجرم. ولا يعني بحال من الأحوال، هلاكَ الظَّالم بلا قصاص، ولا وفاةَ المظلوم بلا اقتصاص له، غفلةً من الله تعالى، فالله تعالى لا يغفل عن الظالمين، وإنما الأمر تأجيل وإنظار، وللحكيم أن يؤجِّل ويُنظِر ما شاء، غير أن سلطان العدل قائم باقٍ لا يغيِّره تقلُّب الليل والنهار، ولا توالي الأزمان، وتغاير الأحداث. وحين يؤمن الإنسان بالآخرة فإن سلوكه كلَّه ينصبُّ في الإعداد لها، فكيف يَظلم وهو موقن بأنه ـ لاشكَّ ـ واقف في محكمة قاضيها حاكم عادل؟ وكيف يَخدع وهو موقن بأن من يحاسبه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ وهكذا يستقيم على منهج الله في هذه الحياة.(3/39)
وتختم الآية تلك المقدِّمة القرآنية الشاملة؛ ببيان المهتدين الَّذين يتوجَّه إليهم نداء القرآن العظيم، فهم أولئك الَّذين أشرقوا روحياً بالصَّلاة، وانتظموا مادِّياً بالإنفاق، واستقاموا عقيدياً بالإيمان بالرسالات السماوية، والتزموا سلوكياً بهدي اليقين بالآخرة، وأولئك هم المهتدون المفلحون الَّذين ينتفعون بالقرآن العظيم. وكأني بهذه الآيات الأربع تحدِّد شروط الانتساب إلى جماعة المتقين الَّذين تعلموا القرآن وعملوا به، فكانوا من الناجحين الفائزين في الدنيا والآخرة، وكأني بها تَرُدُّ على المصلي الَّذي يتضرع إلى ربِّه في صلاته قائلاً: {اهدنا الصِّراط المستقيم * صِراط الَّذين أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضَّالِّين} (1 الفاتحة آية 6ـ7) فَتُبَيِّنُ له: إنْ كنتَ صادقاً في دعائك وتضرُّعك فهاك هو الصراط المستقيم، وهاهي الصفات الَّتي يجب أن تتحلى بها لتكون من المفلحين الفائزين بنيل ما طلبوا.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ليسَ البِرَّ أن تُولُّوا وُجوهَكُم قِبَلَ المشرقِ والمغربِ ولكنَّ البِرَّ من آمنَ بالله واليومِ الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنَّبييِّنَ وآتى المالَ على حُبِّهِ ذوي القُربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السَّبيل والسَّائلينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاة وآتى الزَّكاةَ والموفونَ بعهدهم إذا عاهدوا والصَّابرينَ في البأساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ البأسِ أولئكَ الَّذين صَدَقُوا وأولئكَ هم المُتَّقونَ(177)}
ومضات:
ـ البِرُّ الحقيقي يتعالى فوق الوجهة المكانية، لأنه تجسيد للإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل، والعمل بمقتضى هذا الإيمان عمل تعود ثماره بالمحبَّة والعدالة والعلم والقوَّة على الناس أجمعين.(3/40)
ـ المؤمن الحقيقي تفيض يمينه بالسخاء والإحسان على من يشاركونه حياته ويجعلون لها قيمة إنسانية، فهو فرد يدور في فلك المجتمع، لا يخرج عن مساره ولا يعاكس تياره، بل يبذل ويمنح ويعطي، لتتحول هذه الأرض إلى جنَّة تزخر بالازدهار والسعادة للجميع.
ـ من صفات المؤمن الحقِّ أيضاً أنه يؤدِّي واجباته تجاه الله تعالى من صلاة وزكاة، ويوفي بعهده مع الناس، ويتجلَّد في المحن ويصبر على الشدائد، ويثبت في الكفاح في سبيل قضيته الأساسية وهي إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
ـ من تحلَّى بهذه الصفات النبيلة فقد صدق في إيمانه وتقواه، وفاز برضوان الله؛ ومن ثمار هذا الرضوان أن يلقي الله في قلبه الاطمئنان، ويغمره بالفضل والإحسان.
في رحاب الآيات:(3/41)
البِرُّ: اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقرِّبة إلى الله سبحانه وتعالى، والَّتي تنضوي جميعاً تحت اسم الدِّين. والخير والطاعة لا يتحقَّقان بأن يستكثر المرء من الصَّلاة والعبادات فحسب، بل بأن يقرن ذلك كلَّه بامتثالٍ حقيقي لسائر التعاليم الدِّينية والإحسان إلى الآخرين. فالدِّين هو اتحاد بين الإيمان وحسن المعاملة؛ والإيمان هو ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وحسن المعاملة هي حفظ الحقوق والذمم وتقديم الخير للآخرين، قال صلى الله عليه وسلم : «الخلق كلُّهم عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله» (رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً) لذلك كلِّه فإن العبادات في الإسلام لم تكن أبداً حركات أجساد وصور، وإنما هي تعبيرٌ عما يجيش في الصدر من إيمان وخير؛ فكم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا القيام والسهر، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. فتوجُّهُ المؤمن في صلاته إلى القبلة إنما هو وسيلة وليس غاية، فالله موجود في كلِّ مكان، لا يحدُّه مشرق أو مغرب، ولكنَّها إرادة الله تعالى أن اختار الكعبة المشرَّفة رمزاً يتوجه إليه المسلمون في صلاتهم، وشكلاً لتنتظم صفوفهم وتتحد جهتهم، بينما قلوبهم متجهة إلى خالقها متصلة به في كلِّ مكان وزمان. وكذلك فإن توجُّهَ المرء إلى الإكثار من العبادات وسيلة، غايتها تهذيب النفس وتهيئتها لامتثال أوامر الله وإقامة شعائر دينه، فإذا كانت العبادات مجرَّدة عما يُصاحِبُها من المشاعر النبيلة في القلب، وما ينتج عنها في الحياة من السلوك الصالح، فإنها تبقى جوفاء لا خير يُرجى منها.(3/42)
والقلب لا يتفاعل مع البِرِّ ويحوِّله إلى سلوك إلا إذا كان هذا البِرُّ مستمداً من الإيمان المطلق الشامل، وهو أن تؤمن بوحدانية الله إيماناً ينأى بنفسك عن الخضوع والعبودية لغيره، وتعتقد باليوم الآخر الَّذي يذكِّرك أن حياةً أخرى أهمَّ وأبقى تنتظرك، فتقيم في نفسك رقيباً ذاتياً على عملك، ولا تكون الدنيا أكبر همِّك أو مبلغ علمك، بل هي مرحلة إعداد وتهيئة لتلك الحياة الخالدة الباقية أبد الآبدين.
وأن تؤمن بالملائكة، وهو أصل الإيمان بالوحي، لأن كلَّ ما نعلمه عن الغيبيات قد نزل عن طريق الأمين جبريل عليه السَّلام، وهو رئيس الملائكة، وهذا بدوره يمنحنا إحساساً بشمول قدرة المولى علينا وإحاطته بنا.
وأن تؤمن بالكتب السماوية المنزَّلة، لأنها شرائع الله وكلماته ألقاها على رسله لتبيِّن للإنسان المنهج القويم الَّذي ينبغي عليه أن يسلكه لإعمار الحياة بكلِّ صورها المادِّية والروحية، وهذا يقتضي الإيمان بالأنبياء جميعاً، مَنْ ذَكرَهُم القرآن ومن لم يَذْكُرهُم، من أوَّلهم إلى خاتمهم صلوات الله عليهم أجمعين، والاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم. ونشير أخيراً إلى أن أركان العقيدة الإسلامية لا تتمُّ إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، فما من شيء في هذا الكون إلا ويخضع لقضاء الله وقدره، فإذا ما استقرت هذه العقيدة في نفس الإنسان، أصبح إيجابي النظرة إلى الحياة بكلِّ ما فيها من مسرَّات ومكدِّرات.
وتتَّسع دائرة الإيمان لتشمل كلَّ ما من شأنه أن يرفع من قيمة المؤمن ويقرِّبه إلى خالقه، ويتمثَّل هذا في التخلُّص من الأنانية وحبِّ التملُّك، فلا يكتمل إيمان المرء إلا إذا أنفق المال في سبيل مرضاة الله تعالى، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصَّدقة أن تَصَدَّق وأنت صحيح، شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر».(3/43)
وأوَّل من يستحقُّ هذا المال هم الأقرباء، لتقوية الروابط الاجتماعية، وتحقيق العدالة والمساواة، وزرع أسباب المحبَّة في المجتمع. جاء في الحديث الشريف عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: على من تجب النفقة؟ قال: «أمُّك وأباك وأختك وأخاك ثمَّ أدناك فأدناك» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن معاوية بن حميدة وقال الترمذي حسن صحيح) ولا يتقيَّد الإنفاق على الأقارب بزمن ولا بامتلاك نصاب محدد من المال. ثمَّ يليهم في الأولوية اليتامى، الَّذين مات آباؤهم، وهم ضعاف صغار دون البلوغ، وقد أسبغ الله على نفس المؤمن عاطفة تجاه هؤلاء اليتامى تحلُّ محلَّ عاطفة الآباء الَّتي حُرموا منها. ثمَّ يليهم المساكين الَّذين لا يجدون ما يكفيهم في أمور معاشهم، وابن السبيل وهو المسافر المحتاج الَّذي نَفدَت نفقته، أيّاً كان دِينُه، ومهما قَرُبت أو بَعُدت بلاده، فيُعطى ما يوصله إلى بلده، ويدخل في هذا الإطار الضيف النازل، إذ يجب إكرامه وقضاء حاجته، وفي هذا دليل على سموِّ الإسلام فوق الحواجز الإقليمية والطائفية إلى الأفق الإنساني المطلق. وتجب النفقة أيضاً للسائل الَّذي تدفعه الحاجة للوقوف على أبواب الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «للسائل حقٌّ وإن جاء على فرس» (رواه أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعاً)، وأخيراً ينبغي الإنفاق على العبد الرقيق لمساعدته على التخلص من رِقِّه والتحرُّر من عبوديته.
فالإسلام يقوم بدور الرحم ليصل ذوي القربى، والكافل ليرعى اليتامى، والحامي ليحتضن المساكين، والمنقذ لعابري السبيل، والمسعف للسائلين، والمحرِّر للعبيد، وذلك كلُّه بهدف رفع مستوى هذا الإنسان الَّذي أحبَّه وكرَّمه وضمن حُرِّيته.(3/44)
ومن وجوه البرِّ أيضاً إقامة الصَّلاة على وجهها الصحيح، في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المُرضي. والصَّلاة تقترن بالزكاة لأنهما فرعان من أصل واحد، فالأولى تهذِّب النفس وتقوِّي الروح، وتدفع بالمؤمن لعمل الخيرات والامتناع عن المحرَّمات، ممَّا يترتب عليه إصلاح الفرد، والثانية تطهِّره من البخل والأنانية والأثرة، ليتحقَّق التكافل الاجتماعي بين سائر الطبقات فيصلح بذلك المجتمع كلُّه.
وفي ظلِّ هذه الأركان تترعرع الأخلاق السامية لدى المرء، وتقوى عزيمته على التقيُّد بها، كالوفاء بعهد الله في تأدية جميع ما أمر به، والوفاء بعهوده للناس في التعامل معهم، لخلق جوٍ من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد والجماعات والأمم بعضهم مع بعض، ومن ثمَّ بناء أسرة إنسانية متحابَّةٍ متضامنة على أسس قوية من السَّلام والاحترام المتبادل.
ومن البرِّ أيضاً أن يصبر المرء في الشدائد، كالصبر على المرض والفقر وفقد الأهل والمال، وعند ملاقاة الأعداء ومن ثمَّ فإنه يثاب على هذا الصَّبر، قال صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى: أيُّما عبدٍ من عبادي ابتليته ببلاءٍ في فراشه، فلم يَشْكُ إلى عُوَّاده، أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته عافيته وليس له ذنب، قيل: يارسول الله ما لحمٌ خيرٌ من لحمه؟ قال: لحم لم يذنب. قيل: فما دمٌ خيرٌ من دمه؟ قال: دمٌ لم يذنب» (رواه ابن مسعود رضي الله عنه وهو متفق عليه).(3/45)
إن هؤلاء الَّذين اتصفوا بهذه الصفات هم الصادقون لأنهم قرنوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، وإنما خصَّهم الله تعالى بصفة الصدق لأنه أجدر الصفات بالمؤمن، قالصلى الله عليه وسلم : «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدق حتَّى يُكتب عند الله صدِّيقاً» (رواه ابن مسعود رضي الله عنه ، وهو متفق عليه) ولهذا فقد استحقُّوا أن يوصفوا بالمتقين لأنهم أحبُّوا الله كما ينبغي لهم أن يحبُّوه، وخافوه بما ينبغي عليهم من الخوف والخشية، فامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وكان لهم عند ربِّهم الثواب العظيم.
سورة المجادلة(58)
قال الله تعالى: {لا تجدُ قَوماً يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخر يُوادُّونَ من حادَّ الله ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهُم أو أبناءَهُم أو إخوانَهُم أو عشيرَتَهُم أولئك كتبَ في قلوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُم بروحٍ منه ويُدْخِلُهُم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها رضيَ الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزبُ الله ألا إنَّ حزبَ الله همُ المفلحون(22)}
ومضات:
ـ لا يمكن أن تجتمع محبَّة الله تعالى مع مودَّة أعدائه وأعداء رسوله في قلب واحد، ولو كانوا من أقرب المقرَّبين.
ـ إن الَّذين طهَّروا قلوبهم من الأغيار، وفرَّغوها ممَّا سوى الله، يثبِّت الله الإيمان في حنايا قلوبهم، ويمنحهم عناية خاصَّة تحفظهم من كلِّ ما يسيء إليهم.
ـ نهاية المطاف بالمؤمنين الحقيقيين جنَّات الخلد، لأنهم ضَحَّوا بالغالي والنفيس حتَّى رضي الله عنهم، وبالمقابل فإن الله تعالى سيكافئهم على صدقهم وصالح عملهم بعطاياه الغالية على عملهم، حتَّى يبلغوا غاية الرضا بما آتاهم من لَدُنْه. وهل هناك أنفس من الإيمان الحقيقي، هبةً إلهية ومنحةً ربَّانية في هذه الدنيا، ليكون صاحبه أهلاً للتكريم الأعظم في الدار الآخرة؟!(3/46)
ـ إن مجموعة المؤمنين المتحلِّين بهذه الصفات الربَّانية؛ هم القوَّة الناصرة لدين الله، وهم وحدهم المشاعل الحقيقية الَّتي تنير ظلام المجتمع وتسعده.
في رحاب الآيات:
المودَّة بين الناس صلة وانسجام نفسي تثمر تعاوناً فيما بينهم وتبادلاً لشتَّى المنافع والمصالح، وهي على الغالب المصالح المادِّية والدنيوية. أمَّا مودَّة المؤمنين لبعضهم بعضاً فهي مبنيَّة على علائق فكرية وروابط إيمانية، تشدُّ القلوب، وتربط العقول لتكون قوَّة متراصَّةً في سبيل سعادة الإنسان، وإنقاذه من الدمار المعنوي أو المادِّي. والمؤمنون مجموعة مترابطة سائرة في درب الله ودرب أحبابه، لا مودَّة بينهم وبين أعداء الله ورسوله، وهؤلاء في الحقيقة هم أعداء أنفسهم، والإيمان والصفاء الروحي يَفْسُدان بمودَّتهم. أمَّا الصحبة والمعاشرة الَّتي تسعى لقضاء المصالح الاجتماعية وإقامة الحوار البنَّاء فليست محظورة، ولكنَّ المحظور هو أن تستقرَّ في القلب مودَّةٌ لأعداء الله، خشية تَشرُّب صفاتهم المعادية للعقيدة، فيكون هذا التأثُّر نقطة بداية للسير في طريق النفاق. ولا يخفى أن المؤمن لا يكره عدو الله بوصفه إنساناً بل بصفته فكراً منحرفاً، وعملاً ضالاً مدمِّراً، وقد جاء ذلك واضحاً على لسان سيِّدنا لوط حين خاطب قومه الكافرين المعادين، فقال تعالى: {قال إنِّي لِعَمَلكم من القالِين} (26 الشعراء آية 168) أي أُبغض عملكم ولا أبغض ذواتكم، فالإنسان لا يُكْرَه، وإن المنطق السليم والعرف العام ليقضيان، بأنَّ مَنْ أَحبَّ أحداً امتنع عن محبَّة عدوه، وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «يقول تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب..»، وأخرج الديلمي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجرٍ ولا لغاشٍ علي يداً ولا نعمة فَيَوَدُّه قلبي، فإني وجدتُ فيما أوحيَ إلي: {لا تجد(3/47)
قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون من حادَّ الله ورسوله}»، فلا ينبغي لمؤمن استنار قلبه بمحبَّة الله، أن يسمح لهواه بالميل أو الانجذاب نحو أي مغرضٍ معادٍ لله ورسوله، فلا مكان في قلبه لأي صلة تبعده عن طريق الله، مهما كان نوع هذه الصلة، ولو كانت مع الآباء والأبناء، والإخوان والعشيرة، فإن قضية الإيمان بالله لا محاباة فيها لأعداء الله، وتبقى الصلة بين المؤمن والكافر المسالم صلة الطبيب بالمريض لا صلة الحبيب بالمحبوب. أمَّا الَّذين حموا قلوبهم من التلوُّث والفساد، فقد أثبت الله الإيمان في قلوبهم، فلا زوال له ولا اندثار. ولا يمكن أن يعزموا هذا العزم إلا بمدد من الله، ولا يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بتلك الروح الَّتي تمدُّهم بالقوَّة والإشراق، وتصلهم بمصدر القوَّة والإشراق، وتعطيهم جواز المرور إلى الجنَّة جزاءَ ما تجرَّدوا عنه في الأرض من كلِّ رابطة وآصرة، ونفضوا عن قلوبهم كلَّ عَرَضٍ من أعراضها الفانية. فلهم فوق الجنَّة نعيم أسمى هو رضوان الله الَّذي يغمر به عباده المؤمنين، بسبب انقطاعهم عن كلِّ شيء سواه، فيقبلهم في كنفه، ويفسح لهم في جناته، ويشعرهم برضاه. وفي هذا سرٌ بديع، وهو أنهم عندما سخطوا على أعداء الله من أقاربهم وذويهم عَوَّضهم الله عنهم بالرضا، حيث يُرضيهم بما يعطيهم من النعيم المقيم، {أولئك حزبُ الله} فهم جماعته المتجمعة تحت لوائه، المتحرِّكة بقيادته، المهتدية بهديه، المحقِّقة لمنهجه، الفاعلة في الأرض ما قدَّره وقضاه، وهي الفائزة في الدنيا والآخرة.
سورة المعارج(70)(3/48)
قال الله تعالى: {إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إذا مسَّهُ الشَّرُّ جَزوعاً(20) وإذا مسَّه الخيرُ مَنوعاً(21) إلاَّ المصلِّين(22) الَّذين هم على صلاتِهِم دائمون(23) والَّذين في أموالِهِم حقٌّ مَعلوم(24) للسَّائل والمحروم(25) والَّذين يُصدِّقون بيومِ الدِّين(26) والَّذين هم من عذابِ ربِّهم مُشفِقون(27) إنَّ عذابَ ربِّهم غيرُ مأمون(28) والَّذين هم لفروجهم حافظون(29) إلاَّ على أزواجِهِم أو ما ملكتْ أيمانُهُم فإنَّهم غيرُ ملومين(30) فمنِ ابتغى وراءَ ذلك فأولئك همُ العادون(31) والَّذين هم لأماناتِهِم وعهدِهِم راعون(32) والَّذين هم بشهاداتِهِم قائمون(33) والَّذين هم على صلاتِهِم يُحافظون(34) أولئك في جنَّاتٍ مُكْرَمون(35)}
ومضات:
ـ يبيِّن لنا الله تعالى أن الإنسان سريع الضجر والجزع بطبعه، شديد الحرص على ماله، يَؤُوس إذا مسَّه الشرُّ؛ أمَّا إذا كثر المال والخير لديه فسرعان ما يتوهَّم في نفسه القوَّة، ويتشبَّث بالمال ويمسك عن الإنفاق في سبيل الله.
ـ إن صفة الهلع بعيدة كلَّ البعد عن المؤمنين الحقيقيين الَّذين تُحَدِّثُنا عنهم الآيات الكريمة، وهم المصلُّون المداومون على صلاتهم والَّذين يُخْرِجون من أموالهم حقَّ السائل والمحتاج، والَّذين آمنوا بيوم الحساب وطبَّقوا مقتضيات إيمانهم بشكل عملي، لذا فهم يخافون عذاب الله من أعماق قلوبهم، وهم أصحاب عفَّة وطُهْرٍ، يبتغون المتعة فيما أحلَّ الله لهم، وهم أصحاب حقٍّ وأمانة، فإذا عاهدوا أَوْفَوْا، وإذا شهدوا قالوا الحقَّ، ذلك أنهم على صلة دائمة بحضرة الله، ولذلك فقد وعدهم الله تعالى وعد الحقِّ بإكرامهم في جنَّات الخلد.
في رحاب الآيات:(3/49)
أي رائعة من الروائع القرآنية هذه الأسس الَّتي تحدد سلوك المؤمن بمبادئ جامعة مانعة، فإذا ما التزم بها وعاش ضمن إطارها، شعر بالاستقرار النفسي، فلا هلع ولا جزع، بل إيمان صلب قوي بأن الله تعالى هو المعطي وهو المانع، بيده تصريف الأمور، وهو على كلِّ شيء قدير. فلا المصائب تُفْزِعُه، ولا صروف الدهر تُيْئِسُه، ولا دنيا تأسره، ولا خسارة تقنِّطه، ولا انفتاح الدنيا عليه يطغيه، بل هو دائماً وأبداً وقورٌ، رابط الجأش، صابرٌ محتسب، شاكرٌ عالمٌ بأن ما به من نعمة إنما هو من الله، فهو يبذل كلَّ جهد ليكسب من المال الحلال، فيكون المال بين يديه لا في قلبه، ولينفقه في مرضاة الله قاضياً به حاجة نفسه وأهله ومجتمعه. فكيف يمكن أن نبني شخصية إيمانية كهذه، تنقذ نفسها من الهلاك، وتسعد من حولها بالخير والعطاء؟.(3/50)
بهذا الإيمان العميق بالله تعالى والثقة به نبني هذه الشخصية، فهو السلاح وهو العُدَّة في كلِّ حال، والَّذي يتحوَّل الإنسان دونه إلى ورقة في مهبِّ الريح، فإذا مسَّه الشرُّ تألَّم وجزع، وحَسِبَ أنَّ الشرَّ دائم لا كاشف له، وظنَّ أن اللحظة الحاضرة مضروبةٌ عليه سرمداً، وحبس نفسه بأوهامه في قمقم تلك اللحظة، وما فيها من الشرِّ الواقع به، فلا يتصوَّر أن هناك فرجاً ولا يتوقَّع من الله تغييراً، ومن ثمَّ يفسد حياته الهلع ويمزِّقه الجزع، ذلك لأنه لا يأوي إلى ركن شديد يشدُّ من عزمه، ويعلِّق عليه رجاءه وأمله. فإذا أصابه خير من غنى وصحة وسعة رزق ركبه الغرور وبالغ في المنع والإمساك، وإذا أصابه الفقر لم يصبر، فهو هلوعٌ في الحالتين، جزوع من الشرِّ، ومنوع في حالة الخير، وهي صورة الإنسان الَّذي يخلو قلبه من الإيمان؛ على نقيض الصورة المشرقة للمؤمنين الشاكرين الصابرين المحتسبين الأجر عند الله، فعن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: (يُكتب أنين المريض، فإن كان صابراً كان أنينه حسنات، وإن كان جزوعاً كُتب هلوعاً لا أجر له).(3/51)
فالمؤمنون مُصلُّون يحافظون على الصلوات في أوقاتها ولا يشغلهم عنها شيء من الشواغل، وهم دائمو الصلة بالله على مدار الساعة، صلة لا تتحقَّق إلا بتوجُّه القلب والفكر من خلال عبادات تعبِّر عن الاستسلام، والطاعة الكاملة للإرادة الإلهية. هذه الصلة الَّتي تُشعر المؤمن بأنه وكلَّ ما يملك وكلَّ ما حوله مُلك لله الواحد القهار، وبأن كلَّ العطاءات والكنوز الإلهية موضوعة تحت تصرُّفه، ويمكنه أخذ ما شاء منها بغير حساب إذا عرف كيف يكون المدخل إليها. إنه إيمان صادق، وحبٌّ كامل، وثقة لامتناهية بفضل الله، وبهذه الصلة الحقيقية يشعر بأنه من أهل الله، فرد من أفراد عائلة الأبرار المقرَّبين إليه تعالى، عندها وبكلِّ تأكيد سيقدِّم كلَّ ما يملك من مال في سبيل الخير والبرِّ وإسعاد الفقراء، فهو ينفق ما أعطاه الله في سبيل الله، وهو في النهاية أمين على المال وليس مالكاً له، وفي هذا تخلُّصٌ من الشُّح واستعلاء على الحرص، كما أن فيه شعوراً بواجب الموسر تجاه المعْسِر المحروم في هذه الأمَّة المتضامنة المتكافلة. فالسائل هو الَّذي يسأل المال فيُعطى، وأمَّا المحروم فهو الَّذي لا يسأل الناس تعفُّفاً ولا يعبِّر عن حاجته فيُحْرَم، وطالما أنه لا يسأل، فعلينا أن نفتش عنه ونعثر عليه لنؤدِّي إليه حقَّه الشرعي في أموالنا، وبذلك يتحقَّق تقارب أفراد المجتمع وتواصلهم ومعرفة أحوال بعضهم بعضاً.(3/52)
والشعور بأن للمحتاجين حقاً في الأموال هو شعور بفضل الله من جهة، وبآصرة الإنسانية من جهة أخرى، فوق ما فيه من تحرُّر شعوري من ربقة البخل، وهو ضمانة اجتماعية لتكافل الأُمَّة كلِّها. بهذه الصلة تنصقل مرآة القلب حتَّى يشعر المؤمن يقيناً بمشاهد الآخرة، بل كأنه يراها رؤيا العين، فيدرك حقيقة أهوال العذاب، ويرقص قلبه فرحاً لرائحة الجنان وشذاها الطيِّب، وينعكس ذلك على أعماله، عِفَّةً عن المحارم، وبُعداً عن الشهوات، فلا تجاوز لحدود الله، ولا اعتداء على محارمه، وبذلك يكون أهلاً لاكتساب ثقة الناس به، مراعياً لحقوقهم، حافظاً لأماناتهم، قائماً بالشهادة بالحقِّ والصدق، لا يخاف في الله لومة لائم، وهو في ذلك كلِّه مع الله، والله معه، ومادام الله معه فلا يبالي. ثمَّ يدخل الجنَّة الَّتي يرثها عبادُ الله المخلِصون، الخائفون الوجلون دائماً من ترك الواجبات والإقدام على المحظورات، ومن يَدُمْ به الخوف والإشفاق من تضييع ما كُلِّف به، يكن حَذِراً من التقصير، حريصاً على القيام بما كُلِّف به بإتقان. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أن الله قد اصطفاه ورعاه وغفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، كان صلى الله عليه وسلم دائم الحذر، دائم الخوف من عذاب الله، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنَّة إلا بفضل من الله ورحمة. إذاً لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله، وإن بالغ في الطاعة، والقلب الموصول بالله يحذر ويطمع، ويخاف ويرجو، وهو يأمل رحمة الله على كلِّ حال.(3/53)
ومن يتصفون بتلك الصفات من الكمال والمراقبة لله تعالى لا يرتكبون المحرَّمات ولا يتلوَّثون بالمآثم، فقد صانوا أنفسهم عن الزنا والفواحش، وحفظوا فروجهم في الأحوال كافَّة إلا عن زوجاتهم أو إمائهم المملوكات فإنهم غير مؤاخذين، لأن تفريغ الشهوة حيث أباح الله حلال يؤجر عليه الإنسان لما فيه من حفاظ على طهارة المجتمع. فالإسلام يريد مجتمعاً طاهراً نظيفاً نقياً صريحاً، مجتمعاً تؤدَّى فيه الوظائف الحيوية كلُّها، وتلبَّى فيه دوافع الفطرة، ولكن دون فوضى أو التواء، مجتمعاً يقوم على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوام، وعلى البيت الشريف الواضح المعالم، مجتمعاً يَعرِفُ فيه كلُّ طفل أباه ولا يخجل من مولده، لأن العلاقات الجنسية فيه قائمة على أساس نظيف مريح، طويل الأمد، واضح الهدف، لا لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية والشهوة الجنسية ـ فمن طلب لقضاء شهوته، غير ما أُحِلَّ له، فقد تعدَّى حدود الله وعَرَّض نفسه لعذابه ـ وبذلك يُغْلَقُ الباب في وجه كلِّ فاحشة جنسية، فلا يُرى في الوظيفة الطبيعية أي إساءة أو فاحشة في ذاتها، ولكنَّ الإساءة والفاحشة كامنة في الالتواء بها.
وعباد الرحمن هؤلاء صانوا الأمانة في أنفسهم وصانوها في مجتمعهم، فإذا اؤتُمِنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، بل هم يُؤَدُّون الأمانة لأهلها، إذ إن الخيانة ونكث العهد من صفات المنافقين. وقصارى القول: إنهم يؤدُّون ما اؤتُمنوا عليه من الله كالتكاليف الشرعية، أو من العباد كالأموال المودعة، والعقود الَّتي عاقدوا الناس عليها. وهم يشهدون بالحقِّ على القريب والبعيد، ولا يكتمون الشهادة ولا يغيِّرونها، بل يؤدُّونها على وجهها الكامل يصونون بها حقوق الناس ومصالحهم، وقد جعل الله الشهادة له ليربطها بطاعته فقال: {وأقيموا الشهادة لله} وجعلها سمة من سمات المؤمنين، وهي أمانة من الأمانات ولكنَّه أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهمِّيتها.(3/54)
وأمَّا ذكر الصَّلاة، في المبدأ والختام، فهو يوحي بالاحتفال بها والاهتمام بأمرها، وبها تُختم سمات المؤمنين الَّذين يحافظون على صلاتهم ويراعون شروطها ويكملون فرائضها، فيجتهدون قبل الدخول فيها في تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله، مع حضور القلب حين القراءة، وفهم ما يُتلى فيها من آي الذكر الحكيم، أولئك المتَّصفون بتلك الأوصاف الجليلة والمناقب الرفيعة مستقرُّون في جنَّات النعيم، الَّتي يكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات، مع الإنعام عليهم بأنواع الملذات والمشتهيات.
سورة الفتح(48)
قال الله تعالى: {محمَّد رسولُ الله والَّذين معَهُ أشِدَّاءُ على الكفَّارِ رُحماءُ بينهم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبْتغونَ فضْلاً من الله ورضْواناً سيماهُم في وجوهِهِم من أثرِ السُّجودِ ذلك مَثَلُهُم في التَّوراةِ ومَثَلُهُم في الإنجيلِ كزرعٍ أخرجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ فاستَغْلَظَ فاستوى على سُوقِهِ يُعجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكفَّارَ وَعَدَ الله الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ منهم مغفرةً وأجراً عظيماً(29)}
ومضات:
ـ لقد جمع محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام طرفي الحياة الإنسانية الكريمة، فقد كانوا في وجه أعدائهم يداً قوية واحدة، وهم في الوقت نفسه رحماء فيما بينهم متعاطفون متعاضدون، فهم متَّحدون في الخير ضد الشر.
ـ لقد دأب الصحابة الكرام على تزويد قناديل قلوبهم بزيت المحبَّة وذكر الله تعالى، لتضيء وتنعكس أنوارها على وجوههم الَّتي بدت عليها آثار التعبُّد والسجود لله تعالى.(3/55)
ـ ورد وصف الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحابته في كلٍّ من التوراة والإنجيل، وهي ترشد بمجملها إلى أن مثَلهم في تماسكهم وتعاضدهم كمثل موسى عليه السَّلام وقومه المقرَّبين المخلصين، وهم كذلك كمثل عيسى عليه السَّلام وحوارييه، ذلك أن أنبياء الله ورسله جميعاً يحملون جذور الحياة الإيمانية نفسها، والَّتي كانت تُقابَل بمحاولات اجتثاثها والقضاء عليها من قِبَلِ الكافرين، الَّذين يتميَّزون غيظاً وكراهية، ولكنَّ أتباعهم المخلصين كانوا يتكاتفون ويقفون كالجدار المنيع في وجه أعداء الحقِّ والعدل، ليحموا العقيدة والشريعة ويردُّوا كيد أعدائهم إلى نحورهم، فاستحقُّوا بذلك البُشرى من الله تعالى بالمغفرة والأجر الكريم.
في رحاب الآيات:
تبدأ الآية الكريمة بإثبات صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله، تلك الصفة الَّتي أنكرها المشركون، ثمَّ تزداد معالم هذه الصورة الوضيئة وضوحاً بذلك الأسلوب البديع؛ فهو ومن معه مجموعة متماسكة متحابَّة متعاونة متباذلة متناصحة، وكأنها على قلب رجل واحد، هكذا هي رحمتهم لبعضهم بعضاً، ورعايتُهم وحُنوُّهم، ورقَّةُ مشاعرهم، وحُسن تعاطفهم، قال صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم،كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» (متفق عليه من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنه ) هذه هي صورتهم من الداخل، أمَّا إذا انبرى لهم عدو حاقد، أو كافر مارد، فإنهم أُسودٌ لهم صولة وجولة، يمثِّلون القوَّة والتصدِّي، والعزم وشدَّة البأس، كما وصفهم صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً» (رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).(3/56)
هذا هو المؤمن الوديع الودود لإخوانه وأحبابه ومَنْ سالَمَهُ، الشديد القوَّة على من عاداه وحاربه، والَّذي يقيم عواطفه ومشاعره كما يقيم سلوكه وروابطه المادِّية على أساس عقيدته وحدها، يشتدُّ على من عادوه فيها، ويلين لإخوته فيها، قد تجرَّد من الأنانية والهوى، ومن الانفعال لغير الله. والله تعالى يكرِّم الصحابة الكرام ويختار من هيئاتهم وحالاتهم هيئة الركوع والسجود؛ ليوحي بأن هذه الهيئة هي هيئتهم الغالبة الَّتي يراهم الرائي عليها في أغلب أوقاتهم، ذلك لأن هيئة الركوع والسجود تدلُّ على حسن عبادتهم، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم، فعبَّر عنها تعبيراً يُثْبِتُها حتَّى لكأنهم يقضون زمانهم كلَّه رُكَّعاً سُجَّداً!! ليعلم المطَّلع على أحوالهم بأن صفاتهم السامية تلك، إنما اكتسبوها بحسن الصلة بالله والتزامهم بعبادته وبشغلهم الدائم وبالسعي الدؤوب للحصول على رضاه، حتَّى إنه لتبدو آثار العبادة واضحة في مُحيَّاهم لكلِّ من ينظر إليهم، فكلَّما رآهم المرء ذكر اسم الله، لأنه يرى آثار العبادة الحقيقية واضحة في وجوههم الَّتي تتلألأ وضاءةً وإشراقاً، منبعثة من قلوب تحاكي الماء الزلال صفاءً وشفافية، وقد انعكست من داخلهم على ظاهرهم سلوكاً واستقامة وحسن خُلق. قال عثمان رضي الله عنه : (ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه). وهكذا نجد أن صفة الرُّكَّع السجود لا يمكن قصرها على حركات الجسد، بل لابدَّ مع ذلك من الاستعداد التام والدائم للخضوع لأمر الله، بفعل فرائضه، والمسارعة إلى مرضاته، واجتناب محرَّماته، فكم من واضع جبهته على الأرض وقلبه غافل متمرِّد على الله تعالى!.(3/57)
هذه الصورة الإيمانية، لمحمَّد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ليست غريبة على أهل الكتاب، فقد بُشِّرَ بهم في التوراة والإنجيل، ووردت صفاتهم على أنهم كزرع نامٍ قوي أخرج ثماره، الَّتي تتفرع على جانبيه كما يُشاهَدُ في الحنطة والشعير وغيرهما، ثمَّ يَقوى ويتحول من الدِّقة إلى الغلظة، ويستقيم على أصوله فيُعْجَبُ به الزُرَّاع لقوَّته وكثافته وغلظته وحسن منظره.
وخلاصة القول: إن هذا الهدي مثلٌ ضربه الله لبدء الإسلام وترقِّيه في الزيادة، إلى أن قويَ واستحكم وأَعْجَبَ الناس، وأن الله نمَّى المؤمنين وزاد عددهم ليغيظ بهم الكفار، وقد أدركوا أن الله مُتِّمٌ لنوره ولو أبَوا. والله جلَّ وعلا وعد الَّذين آمنوا أن يغفر لهم ذنوبهم، ويجزل لهم أجرهم بإدخالهم جنات النعيم، وما من شكٍّ بأن وَعْدَ الله حقٌّ وصدق، لا يُخْلَفُ ولا يبدَّلُ.
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {وإن يُريدوا أن يَخدعوكَ فإنَّ حَسبَكَ الله هو الَّذي أيَّدَكَ بِنَصرهِ وبالمؤمنين(62) وألَّفَ بين قلوبِهِم لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبِهِم ولكنَّ الله ألَّفَ بينهم إنَّهُ عزيزٌ حكيم(63)}
ومضات:
ـ ينسج المنافقون من خيوط الخداع أردية وستائر يخفون وراءها غاياتهم الحقيقية ونواياهم الخبيثة، ليعملوا في صفوف الدعوة إفساداً وتخريباً. ولكنَّ الله تعالى كفيل بردعهم وردِّ كيدهم إلى نحورهم، وإحلال السكينة في قلوب المؤمنين وتأليفها، لتصبح حصناً منيعاً يتعذَّر على الأعداء اقتحامه.(3/58)
ـ لقد استطاع الإسلام تأليف قلوب من كانوا أَلَدَّ أعدائه وأشدَّ خصومه في زمن قياسي، وهذا سرٌّ من أسرار عظمته، في الوقت الَّذي يحاول فيه كثير من أصحاب الدعوات والشعارات، الخيِّرة منها أو الشريرة، تحقيق مثل هذا التآلف في مجتمعاتهم بعيداً عن الروح الدِّينية، وينفقون في سبيل ذلك أموالاً طائلة ولكن بدون جدوى، بل إن أموالهم هذه غالباً ما تتحول لتصبح سبباً للمزيد من الأحقاد والضغائن.
في رحاب الآيات:
قد يتبادر إلى ذهن المؤمن ـ الَّذي صفت سريرته وهو في غمرة سعيه الصادق من أجل سعادة الناس وخيرهم ـ أن منابت الشرِّ قد أمحلت وجفَّ معينها فذبلت وتلاشت، وهذا ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يحسنون النيَّة تجاه كلِّ من أظهر الودَّ والأُلْفَةَ لهم. وفي هذه الآية الكريمة، يلفت الله تعالى نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن هناك من يُضمر للمؤمنين شراً ويسعى إلى خداعهم والمكر بهم، ليكونوا على أَتَمِّ الأُهبة والاستعداد لمواجهة هذا المكر وإبطال كيده، ثمَّ يطمئنه بأنه يأوي إلى ركن شديد وأنه بمأمن من كيدهم، فهو في كنف الله عزَّ وجل ورعايته. فالله وحده الَّذي نصره، وجعل قلوب المؤمنين تلتفُّ حوله وتأوي إليه، وتنتظم خلف قيادته صفاً واحداً كأنها بنيان مرصوص. وهذا لعمري إعجاز بالغ وبيان وافٍ عن قدرة الله العظيمة وعزته الكريمة، فهؤلاء الرجال الَّذين اتحدت قلوبهم وأهدافهم وتوجهت نحو غاية واحدة هي نصرة دين الله، كانوا ولسنين قليلة خلت، من أَلَدِّ الأعداء؛ فقد استحكمت الخصومة والضغائن في قلوبهم ردحاً طويلاً من الزمن، وشتَّتت شملهم، وفرَّقت كيانهم إلى قبائل مشرذمة، ولم تفلح المحاولات المتكررة والمستميتة في جمعهم ونزع العداوة من صدورهم. ثمَّ انبثق فجر الإسلام فجأة، فجلب بضيائه هذه القلوب المتناحرة المتنافرة، ومازال يجذبها إليه ويقرِّب المسافات بينها إلى أن التقت جميعها على مائدته. ويلتفت المتحاربون(3/59)
إلى خصوماتهم فلا يجدونها، ويبحث المتنازعون عن أسباب فرقتهم فلا يرون منها إلا سُحُباً من الغبار تتلاشى وتغيب عن الأبصار، ولا يزال هذا الضياء قادراً على أن يجذب قلوب الخلق جميعاً حتَّى يوحِّدها، ويجعل منها أمَّة واحدة، هدفها إسعاد الإنسان كلّ الإنسان في الدارين.
فما هو هذا العامل الخلاَّق الَّذي أوجد كلَّ هذا الحبِّ وقضى على هذا الكمِّ من الكراهية؟ إنه نور الله الَّذي يسري في القلوب فيغسلها من الأحقاد والأمراض ويُحِلُّ مكانها المحبَّة والمودَّة والألفة. فأين هذا الأثر العظيم من الآثار الَّتي خلَّفتها الدعوات الفكرية أو الفلسفية المجردة عن الدِّين، المنقطعة الصلة بالله، والَّتي دأب الإنسان على ابتكارها وطرح إنتاجها منذ مئات السنين وحتَّى اليوم، وصرف في سبيل نشرها أموالاً طائلة بغرض توحيد الناس وجمعهم لتحقيق هدف أو آخر، فلم يُجْدِ ذلك كلُّه نفعاً، وكان كمن يروي بذاراً فاسداً، فإنه لن ينبت ولن يزهر أو يثمر. وفي كلِّ يوم نطالع خبر مصرع هذه الدعوات الواحدة تلو الأخرى، وأحياناً على أيدي مبتكريها أنفسهم، ذلك لأن روح الحياة مُستمَدَّة من الله عزَّ وجل، وكلُّ ما انقطع عن الله وفقد الاتصال به، فهو ميِّت لا روح فيه ولا حياة، ولذلك قال بعضهم: [ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انبَتَّ وانفصل].(3/60)
ومن أدرك هذه الحياة الروحية وتمسَّك بأهدابها ولج دار السعادة الحقيقية، فهو يحبُّ الله ويحبُّ مخلوقات الله، ويعيش لهذا الحبِّ السرمدي الخالد، ويفيض الحبُّ حوله من كلِّ جانب فيظلِّله بالطمأنينة والأمان. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من عباد الله لأناساً ما هم بالأنبياء ولا الشهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانتهم من الله عزَّ وجل. قالوا: يارسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابُّوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» (أخرجه أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ). وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جذوة هذا الحبِّ وأشعلها في قلوب أصحابه فأحبُّوا الله أكثر من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم وتحابُّوا فيه، ورَضُوا أن يبذلوا نفوسهم ومهجهم وهم فرحون مستبشرون.(3/61)
هذا هو الحبُّ الَّذي صهر النفوس في بوتقة واحدة وجعل الأرواح متجانسة متآلفة، حتَّى صارت الأُلْفة معيار الخير والإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وأخرجه البيهقي والقضاعي والعسكري عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً). لم لا؟ وأوَّل ثمار هذه المحبَّة أن الله يلقي محبَّة الصالحين في قلوب عباده؛ قيل: «يارسول الله إنا نعمل العمل لله ويحبُّنا الناس فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن» (أخرجه مسلم وأبو دواد وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه). وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحبُّ فلاناً فأَحِبَّه، فيحبُّه جبريل، ثمَّ ينادي في السماء فيقول: إن الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثمَّ يوضع له القبول في الأرض» (رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وهذا ما أكَّدته الآية الكريمة في قوله تعالى: {إنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ سَيجْعل لهمُ الرَّحمن وُدّاً} (19 مريم آية 96).
والآن، وبعد أن رسمنا ملامح صفات المؤمنين، هل يحقُّ لنا أن ننظِّم جدولاً بهذه الصفات، لمطابقتها مع أعمال المؤمنين وتصرُّفاتهم، وخاصَّة الدعاة منهم؟.
إن قناعة الناس، وإيمانهم بمصداقية العالم العامل، الوارث الحقيقي لسلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عامل أساسي في تدعيم بناء الدعوة، وشدِّ كيان العقيدة في نفوس أولئك الناس. وإنَّ التحلِّي بهذه الصفات لا يتعدى حدود الطاقة البشرية.. ولو كانت تتعدى هذه الطاقة لما فرض الله علينا التحلِّي بها؛ مصداق قوله تعالى: {.. لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلا وُسْعَهَا..} (2 البقرة آية 286)، وكما علَّمنا تعالى أن ندعو في محكم تنزيله: {.. ربَّنا ولا تُحَمِّلْنا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه..} (2 البقرة آية 286).(3/62)
إنَّ التحلِّي بصفات الإيمان، واجب على كلِّ مسلم ومسلمة، وإن الالتزام بها قولاً وعملاً وقدوةً، من أهمِّ واجبات المتفرِّغين للدَّعوة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وواجب الجميع أن يتعاونوا بحبٍّ وصدق وإيجابيِّة، بحيث تسود الفضائل بينهم وتتكامل، دون ترصُّد الأخطاء والهفوات والعثرات لبعضهم بعضاً، بل الأَوْلَى سترها ومعالجتها بمزيد من التناصح والتعاون.
إنَّ هيمنة الأمن والأمان، والسلم والسَّلام، في رياض المؤمنين وتجمُّعاتهم، واجبٌ على الجميع بل هو فرضٌ، ليشعر الإنسان بالطمأنينة في رحاب الإيمان، حيث لا تفرقة ولا تناحر، لا طائفية ولا تعصُّب؛ وبهذا تنصهر القلوب جميعا، لتصبح قوَّة جذبٍ ذات فعالية عالية جدا، لتشدَّ قلوب الناس إلى دولة التوحيد، ودوحة الإيمان بالله الواحد الأحد.
الفصل الخامس:
دعوة أهل الكتاب
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ فمن يكفُرْ بالطَّاغوتِ ويؤمن بالله فقدِ اسْتَمسكَ بالعُروةِ الوثقى لا انفصامَ لها والله سميعٌ عليمٌ(256)}
ومضات:
ـ الإنسان تَوَّاق بطبعه إلى الشعور بالأمان، ولا يتحقَّق له هذا الشعور إلا بالانتماء إلى دين قادر على السموِّ به، وإشباع حاجاته الروحية والمادِّية.
ـ يملك الإنسان من وجهة نظر الإسلام، الحرِّية المطلقة في اختيار معتقده الدِّيني الَّذي يجد فيه أمنه وسعادته، ثمَّ يقطف ثمار اختياره في الدنيا والآخرة، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر.
ـ من استمسك بحبال الإيمان بالله المتينة، باختياره الذاتي وإرادته الحرة، فقد اهتدى إلى الركن المكين والسند المتين الَّذي يأوي إليه في رحلة الحياة، ليكون راشد النُّهَى، مُسَدَّدَ الخطى على طريق الله، الَّذي بيَّنه من خلال شرعه القويم وسنن أنبيائه الكرام.
في رحاب الآيات:(3/63)
يبحث الإنسان المعاصر عن مُعتَقَد موثَّق الأصول، قادر على السُمُوِّ به إلى الكمال المادِّي والروحي في آن واحد. والإسلام هو ضالَّتُهُ المنشودة، ومبتغاه الَّذي يبحث عنه، لأنه دين موثَّق؛ وضحت معالمه، وثبتت مصادره، وحُفظت من التغيير والتحريف، وانطوت تحت لوائه جميع الرسالات السماوية الَّتي سبقته معزَّزةً مكرَّمة، وهو كفيل بأن يحقِّق للعالم ما ينشده من ارتقاء فكري وعلمي، وما يرجوه من تآخٍ إنساني في ظلِّ هذه الرسالات.
والدعوة إلى الإسلام دعوة حرة، مطلقة عن قيود الإكراه، ولا حاجة بها أصلاً إلى اللُّجوء إلى القسر أو الإلزام، فدلائل صحة الإسلام واضحة بيِّنة، وسبل الاقتناع به هي المنطق والحجَّة والبرهان، وكلُّ ذلك يحتاج إلى مناقشة حرَّة من قِبَلِ الفكر الحرّ. ومن أوضح الأدلَّة على ذلك الآية القرآنية الَّتي تُقرِّرُ حرِّية العقيدة: {لا إكراهَ في الدِّين..}، وتتجلَّى فيها مصداقية الإسلام في احترامه للإرادة الذاتية؛ فهو يُكَرِّم الإنسان ويحترم حرِّية فكره ومشاعره، فيترك له القرار في اختيار المعتَقَد الَّذي يريده، لكنَّه لا يدعه يسيء الاختيار، بل يوجهه إلى المنهج السديد، بواسطة الكتب السماوية الَّتي حملها إليه المصطَفَون الأخيار من البشر، فإنْ هو اهتدى به فقد فاز، وإن جرى وراء نوازع الهوى ونزغات الشيطان فقد ضلَّ وغوى. وهذا من أهمِّ خصائص التحرر الإنساني الَّتي تشملها الدعوة الإسلامية، لأن حرِّية الاعتقاد هي أُولى حقوق الإنسان الَّتي يثبت له بها وصف إنسان، فمن يسلب إنساناً حرِّية الاختيار فإنما يسلبه إنسانيته.(3/64)
والإسلام يقدِّم تصوُّراً راقياً للوجود والحياة، ومنهجاً قويماً للمجتمع الإنساني؛ لذلك فهو ينادي: {لا إكراه في الدِّين}، لأن تبنِّي العقيدة لا يتمُّ إلا بالاقتناع، بعد الاستيعاب والإدراك، وكذلك يخاطب الإدراك البشري بكلِّ قواه وجوانبه وطاقاته؛ فهو يخاطب العقل المفكِّر، والوجدان المنفعل والفطرة السليمة، ويبيِّن الحقَّ والصواب بشكل جَليٍّ، ثمَّ يترك للمرء الحرِّية في اتِّباعه أو العزوف عنه.
ويُعَدُّ المنهج الإسلامي في الدعوة مفخرة تاريخية له، إذ لم يثبت أن أحداً قد أُجبر على اعتناق الإسلام، في ظرف من الظروف، خلال عهود سيادة الحكم الإسلامي كلِّها، بل إن الأمم الَّتي دخلت في الإسلام، كانت قد اختارته ديناً لها، بمحض إرادتها، بعد أن وصل إليها وعرفته، ورأت من سماحته ويسره ما حملها على الاقتناع به، ووجدت فيه عقيدة صحيحة خالية من الشوائب وعبث العابثين، فدخلت فيه أفواجاً.
وغنيٌّ عن القول أنه حين يسطع نور الله في القلوب، فينير العقول، ويختار الإنسان السير في طريق الله، فلابُدَّ له عند ذلك من أن يخلع كلَّ ما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله أو الشرك به. وأن يتشبَّث بالإيمان ويستمسك به، لأنه العروة الوثقى المشدودة إلى حبل الله المتين؛ فهي محكمة في نفسها قوية في ربطها، لا تنقطع، ولا يَضِلُّ المتمسك بها طريقه إلى النجاة والفلاح.
سورة العنكبوت(29)
قال الله تعالى: {ولا تُجادِلوا أهلَ الكتابِ إلاَّ بالَّتي هي أحسنُ إلاَّ الَّذين ظَلَموا منهم وقولوا آمنَّا بالَّذي أُنزِلَ إلينا وأُنزِلَ إليكم وإِلهُنا وإلهُكُمْ واحدٌ ونحن له مسلمون(46)}
ومضات:
ـ لعلَّ أرقى حجَّة يقدِّمها المسلم، على صحَّة الإسلام وسلامته، هي عمله المستقيم وخلقه القويم، وعقله المتفتِّح، وحكمته البيِّنة، ومرونته واعتداله، وجدِّيته في بناء مجتمعه علمياً وأخلاقياً وحضارياً.(3/65)
ـ تظهر أخلاق المسلم العملية في حواره مع الإيجابيين من أهل الكتاب، الراغبين في إقامة جسور التفاهم، لذا يجب أن نغمرهم بالإحسان، ونشدَّهم معنا إلى الاستسلام للخالق الواحد الأحد.
في رحاب الآيات:
إن دعوة الله تعالى الَّتي حملها نوح عليه السَّلام والرسل من بعده، حتَّى وصلت إلى خاتم النبيين محمَّد صلى الله عليه وسلم هي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو ردُّ من ضلَّ من البشر إلى ربِّهم، وهدايتهم إلى طريقه وتربيتهم وفق منهاجه. وإن المؤمنين برسالة سماوية هم إخوة للمؤمنين بسائر الرسالات، لأنهم يعبدون إلهاً واحداً. والبشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله، وصنف الكافرين بالله وهم حزب الشيطان، بغضِّ النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكلُّ جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.(3/66)
هذه هي خلاصة الحقيقة الرفيعة الَّتي يقوم عليها الإسلام، والَّتي تقررها هذه الآية من القرآن الكريم. وهذه الحقيقة تسمو بالعلاقات البشرية من مُجرَّد كونها علاقة دم أو نسب أو جنس أو وطن أو تجارة، إلى جعلها علاقة قوامها الصلة بالله، في ظلِّ عقيدة واحدة، تنصهر فيها الأجناس والألوان، ويتلاشى فيها اعتبار الزمان والمكان، ولا تبقى إلا العروة الوثقى الَّتي تشدُّ الإنسان إلى منهج الخالق الديَّان. ومن ثمَّ فالآية الكريمة تنهى المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى، لبيان حكمة نزول الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات الَّتي قبلها من صلة، والدعوة إلى تبادل الحوار حول ضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله الموافِقة لما قبلها من الدعوات والمكمِّلة لها، والَّتي جاءت من عند الله الحكيم، العليم بحاجة البشر، فيكون ذلك الحوار مرحلة أوليَّة لبناء مجتمع إيماني لَبِنَتُهُ التوحيد، يُظِلُّ قوى الإيمان ويحميها من المشركين والملحدين والمنافقين على السواء. هذا الحوار الَّذي يرفضه ـ جملة وتفصيلا ـ بعض المتعصَّبين المتشدِّدين؛ أصحاب العقول المتحجِّرة، والقلوب الصلدة القاسية، علَّمه الله لرسوله؛ آيات تتلى إلى يوم الدِّين، وبأسلوب بناَّء حكيم، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمواتِ والأَرضِ قُلِ الله وإنَّا وإِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدَى أَو في ضَلالٍ مُبين * قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ولا نُسئَلُ عَمَّا تَعْمَلُون * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا ثمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالحَقِّ وَهْوَ الفَتَّاحُ العَلِيم} (34 سبأ آية 24 ـ 27). إنه حوارٌ بعيد عن التعالي والصلف، غايته كسب ودِّ القلوب الحائرة؛ عساها تلين وتخشع لذكر الله وما نزل من الحقِّ، بدل أن تزداد غربة وهروبا.(3/67)
وقد يوافق بعضهم على هذا التوادد والتقارب الروحي، وقد يرفضه آخرون دون أن يضمروا لنا الشرَّ والأذى، وتبقى بين هؤلاء وهؤلاء فئة ظالمة معادية، تَشُنُّ الحرب والعدوان على المسلمين بغياً وظلماً، بغية إطفاء هذا النور الَّذي أيقظ البشرية من الغفلة والجمود والتعصب، وفتح مغاليق العقول والقلوب، وهداها إلى العلم والذكر والحكمة والتربية. فأمثال هؤلاء الظَّالمين يجب أن نقف منهم موقف الدفاع والترصُّد، ورد الكيد بالكيد، حتَّى يأتي الله بأمره، والعاقبة للمتَّقين المستسلمين للواحد القهار.
سورة الممتحنة(60)
قال الله تعالى: {لا ينهاكُمُ الله عنِ الَّذين لم يُقاتِلُوكم في الدِّينِ ولم يُخرجوكُم من دياركُم أن تَبَرُّوهُم وتُقْسِطوا إليهم إنَّ الله يُحبُّ المُقسطين(8) إنَّما ينهاكُمُ الله عن الَّذين قاتلوكُم في الدِّين وأخرجوكُم من دياركُم وظَاهَروا على إخراجِكُم أن تَوَلَّوهم ومن يَتَوَلَّهم فأولئك همُ الظَّالمون(9)}
ومضات:
ـ إنها تعاليم إلهية حازمة للمسلمين للتعامل بالعدل والإحسان مع كلِّ من يمدُّ يد المسالمة إليهم من غير المسلمين.
ـ ينهى الله تعالى المسلمين عن تبادل المصالح والمنافع مع من يعاديهم ويقاتلهم في عقيدتهم وإسلامهم، ويخرجهم من ديارهم وأوطانهم الآمنة، أو يساعد بشكل غير مباشر على إخراجهم، فهؤلاء جميعهم لا سلام ولا تعاون معهم حتَّى يثوبوا إلى رشدهم، لأنهم ظلموا وحادوا عن طريق العدل والله لا يحبُّ الظالمين. وهكذا فقد نزع الإسلام فكرة العدوان من أذهان أتباعه، وأمرهم أن يُحسنوا إلى من يسالمهم ولا يعادوا إلا من يقاتلهم.
في رحاب الآيات:(3/68)
لم يكن الدِّين الإسلامي أو أي شريعة سماوية، بجوهرها وحقيقتها، سبباً لاقتتال الناس بعضهم مع بعض، بل إن نظام العلاقات فيما بينهم مبني على الإيمان بالله تعالى وعبادته. فكيف لبِحار الحبِّ الإلهي الَّتي تلفُّ الأكوان كلَّها، وتملأ شغاف القلوب المؤمنة، أن تحمل بين طيَّاتها حقداً أو بغضاً أو كراهية للإنسان، إنما ذاك هو عمل المبلسين جنود الشيطان، الَّذين يصدُّون عن دين الله ويعارضون معتنقيه؛ دفاعاً عمَّا يتوهَّمون أنه مصالحهم الشخصية أو زعاماتهم، أو موارد مادِّية يخشون أن تضيع من أيديهم، فيعلنون حربهم باسم الدفاع عن معتقداتهم الموروثة عن آبائهم وأجدادهم، بقلوب سوداء مغلَّفة بمظاهر العقيدة، فينساق العوامُّ إليهم دون محاولة الرجوع إلى جوهر دينهم، والتأكُّد فيما إذا كان يحقُّ لهم أن يقاتلوا من جاء بكلمة التَّوحيد والحبِّ والإخاء.
هؤلاء المغرضون أصحاب الأهواء المستترة، حُقَّ لنا أن ندافع عن أنفسنا تجاههم، وأن نقاتلهم إذا تعرَّضوا لنا بالعدوان والمقاتلة، وأخرجونا من ديارنا، بغية القضاء على جذور عقيدتنا، ويحقُّ لنا أن نقاتل كلَّ من يساندهم، أو يدعمهم في حربهم ضدَّنا، لأننا ندافع عن الحقِّ الَّذي يجب أن يسود لينتفع منه عبادُ الله أجمعون.(3/69)
أمَّا إخواننا في الإنسانية الَّذين يعيشون بين ظهرانينا أو حولنا، في سَلْمٍ وسلام، فلهم منَّا السَّلام والتحية، والعدل والوفاء، ولهم منَّا المحبَّة والخير. لأن هذه هي القاعدة الَّتي وضعها الله تعالى لمعاملة غير المسلمين، وهي أعدل القواعد الَّتي تتَّفق مع طبيعة هذا الدِّين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل إن نظرته الكلِّية لهذا الوجود الَّذي خلقه الإله الواحد، هي أساس شريعته العالمية الَّتي تجعل حالة السِّلم بين الناس جميعاً، هي الأصل، ولا يغيِّرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رَدِّه، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وفيما عدا ذلك فهو السلم والمودَّة والعدل، وحسن التعامل والمعاشرة مع الناس أجمعين. ثمَّ هي القاعدة الَّتي تتَّفق مع التصوُّر الإسلامي الَّذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه، إلا حرِّية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله. وهذا التوجيه يتفق مع الاتجاه القرآني في إبراز قيمة العقيدة الصحيحة، وجعلها الراية الوحيدة الَّتي يقف تحتها المسلمون، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوُّهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصدَّ الناس عنها، ولم يَحُل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين عنها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البِرِّ به والإحسان إليه. فالمسلم يعيش على هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله، فلا خصومة على مصلحة، ولا نزاع في عصبية، أية عصبية كانت، من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب، إنما العمل لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون العقيدة الَّتي ارتضاها لعباده هي المنهج المطبَّق في الحياة. إن مجتمعاً كهذا يسعى الإسلام لإرساء قواعده في ربوع الأرض، لجديرٌ بأن تتوحَّد من أجل تحقيقه وإقراره كلُّ قوى الخير والحبِّ في هذا العالم،(3/70)
لاسيَّما وأنه وقف في السنوات الماضية، ويقف الآن بتأثير الأطماع وحبِّ السيطرة، على شفير حرب لا تبقي ولا تذر.
فإذا ظهر ممن ينتسبون إلى الإسلام ـ في أي عصر من العصور ـ خلاف هذه التعاليم، فإن الإسلام بوصفه ديناً ليس مسؤولاً عن تلك المخالفات، وهي محصورة في المخالفين، ولسنا الآن والأخطار محدقةٌ بالحقِّ، لسنا في مجال محاكمة بعض المخالفين فحسابهم على ربِّهم، وإنما نحن في صدد تجميع القوى الخيِّرة، لتقف صفاً واحداً تجاه قوى الشر، الَّتي تصول وتجول وتهدد أمن الإنسان واستقراره في كلِّ لحظة.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {ولا تَسُبُّوا الَّذين يَدْعونَ من دون الله فَيَسُبُّوا الله عَدْواً بغير عِلمٍ كذلك زيَّنَّا لكلِّ أمَّة عملَهُم ثمَّ إلى ربِّهم مَرْجِعُهُم فينبِّئُهُم بما كانوا يعملون(108)}
ومضات:
ـ من احترم حريَّات الآخرين في معتقداتهم احترمه الناس في معتقده، ومن أساء لمعتقدات الآخرين بالشتيمة والتجريح، تعرَّضوا لمُعتَقَدِه بالإيذاء والإهانة.
ـ الشرُّ يؤدِّي إلى الشرِّ، والشتائم تهدم جسور العلاقات الاجتماعية، وبالمقابل فإن الحوار البنَّاء يزرع الألفة والمودَّة بين الناس.
ـ جُبلت النفس البشرية على استحسان العمل الَّذي تقوم به، وهذا يعني اقتناعها به ودفاعها عنه، وكأنه الحقُّ الَّذي يعلو ولا يُعلى عليه؛ ما لم يأتها من يبيِّن لها خطأها باللطف واللين والكلمة الطيَّبة.
في رحاب الآيات:(3/71)
الفرق بين العلَّة الجسدية والعلَّة النفسية كبير، فالأولى أعراضها ظاهرة وعلاجها يسير، والثانية أعراضها مستترة وعلاجها عسير. والعلل النفسية قد تُشعر صاحبها بالسعادة والرضا بدلاً من الألم والضنى، فقد يُصاب المرء في عقله، ومع هذا تراه يضحك لأنه لا يدري بمصيبته، وقد يعبد المشرك أصناماً وأوثاناً ويعادي الإله الحقَّ وهو لا يدري فداحة ذنبه لأنه يجهله، ومن جهل شيئاً عاداه ولو كان سويّاً، لذلك قالوا: [الإنسان عدو ما يجهل]. وهذا هو الفرق بين من آمن بالله ومن أشرك به، فالأوَّل أدرك أنه مريض فلجأ إلى الطبيب حتَّى شُفي من مرضه، وعادت إليه دفقة الحياة، والثاني لم يدرك أنه مريض على الرغم من تحذير الأطباء له، فسدَّ نوافذ قلبه، ومنع شلاَّل النور من الدخول إلى حجرات هذا القلب، فبقي مظلماً تراكمت فيه ظلمات الشرك والكفر. إن هذا الإنسان مريض بالوهم، ويستحقُّ الرثاء لحاله، وهو بأمَسِّ الحاجة إلى طبيب مُواسٍ، يساعده ولا يعنِّفه؛ فهل رأيتَ يوماً طبيباً يهاجم مريضاً ويكيل له الشتائم بسبب مرضه؟. إن المؤمن بالنسبة للمشرك هو كالطبيب بالنسبة للمريض، والعلاقة بينهما هي علاقة إنسانية للهداية إلى الحقِّ، لا علاقة تأنيب وتوبيخ. ومع ذلك فإننا نجد فئة من المتعصِّبين، على اختلاف عقائدهم وأديانهم، يكيلون الشتائم لأصحاب المعتقدات الأخرى، ويستهزئون بهم وبها، ممَّا يدفع هؤلاء إلى ردِّ الشتيمة لهم بأسوأ منها، فتنشأ مشاعر عدائية تجاههم، تحول دون إمكانية التواصل معهم، والإطلاع على معتقداتهم بشكل موضوعي.(3/72)
إن هدف الشرائع السماوية هو معالجة الإنسان وشفاؤه الروحي، عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالَّتي هي أحسن. وإن الحوار المفتوح بين جميع الفئات بعيداً عن التعصب والتناحر، يحقِّق هذا الهدف، لأنه يُحِلُّ المودَّة والألفة بينهم، ويساعدهم على تبيُّن الصواب بهدوء، وذلك لأن كلَّ طرف من الأطراف يفترض في عقيدته الصواب وإلا لما اعتنقها. ومِثلُ هذا الحوار يتيح الفرصة أمامهم ليَعرضوا بتجرُّد مقوِّمات معتقداتهم، ويأخذوها بالدراسة العلمية الموضوعية البنَّاءة، ليتبيَّنوا الصالح الأصيل منها، وهو واحد في جميع أديان السماء، وينبذوا منها الدخيل. وبذلك ينقلب المرضى سالمين معافين، ويتحولون إلى أطباء ينشرون الصحة والعافية، بدلاً من أن يكونوا معوَّقين أو معوِّقين.
ولا يخفى ما تحرص عليه الآية الكريمة من العمل على تنمية أسباب التقارب والتفاهم بين الناس، ونبذ أسباب الإثارة والعداء، فإذا ما كان المؤمنون إيجابيين مع الآخرين فإنهم ولاشكَّ هم الرابحون في نهاية المطاف لأن العاقبة للتقوى.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {الَّذين يتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يجدونَهُ مكتوباً عندَهم في التَّوراةِ والإنجيلِ يأمُرُهُم بالمعروفِ وينهاهُمْ عن المنكرِ ويُحلُّ لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عليهمُ الخبائثَ ويضعُ عنهم إصْرَهُمْ والأغلالَ الَّتي كانت عليهم فالَّذين آمنوا به وعزَّروهُ ونصروهُ واتَّبعوا النُّورَ الَّذي أُنزلَ معه أولئك همُ المفْلِحون(157)}
ومضات:(3/73)
ـ إن الَّذين اتَّبعوا التعاليم الَّتي جاء بها النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، لم يتحولوا إلى عالم مغاير لعالمهم أو بعيد عن أخلاقياتهم، فالجذور واحدة، والقاعدة الَّتي بُنيت عليها الشرائع السماوية والفضائل واحدة، ولكنَّها صَحَّحت لهم بعض الانحرافات المفتعلة، وأوضحت لهم الحلال والحرام في المأكل والمشرب، وخفَّفت عنهم بعض التكاليف الشاقة في التوراة، ووضعت عنهم أثقالاً ما حمَّلهم الله تعالى إيَّاها.
ـ هؤلاء الَّذين انتقلوا هذه النُّقْلة الإيمانية، فآمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم والتفُّوا حوله مؤيِّدين له بالقول والعمل، والدعم المادِّي والمعنوي، وتشرَّبت أرواحهم بالنور الإلهي والعلوم الربَّانية الَّتي أُنزلت عليه، حالفهم النجاح والفلاح والتوفيق، وتمام الرضا من ربِّ العالمين.
في رحاب الآيات:
من أشقِّ الأمور على النفس البشرية أن تترك ما اعتادت عليه، فللعادة سلطانها الَّذي يأسر العقل في كثير من الأحيان، ويقيِّد الإرادة، ويجعل من صاحبها ضيِّق الأفق، عاجزاً عن القدرة على التكيُّف مع المستجدات والمتغيِّرات، الَّتي تحمل في طياتها الأصلح والأقوم، فالتغيير لا يمكن أن يتمَّ بدافع عاطفي، خاصَّة إذا كان تبنِّي الإنسان لهذه الأفكار مرتكزاً على أسس عقلانية. والشارع الحكيم يدعو أهل الكتاب أن يحتكموا إلى العقل الرشيد والمنطق السليم، ويدرسوا التعاليم الَّتي أتى بها النبي الكريم، ثمَّ يقارنوها مع ما هم عليه، ولابُدَّ أنهم سيجدونها تتغذى من تربة واحدة، وتُسقى من ماء واحد.(3/74)
لقد اختار الله تعالى محمَّداً صلى الله عليه وسلم لحمل رسالة الإسلام، وهو النبي الأُمِّي ليكون ذلك دليلاً على صدق نبوَّته، فهو مع أمِّيته، قد جاء برسالة ذات سمات روحية وفكرية متميزة عن سائر الفلسفات والمثل الَّتي كانت سائدة آنذاك، فأصلحت ما فسد من عقائد العرب وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم، وأثَّرت في حياة الأمم والشعوب من حولهم. وقد بشَّرت التوراة والإنجيل بمقدمه صلى الله عليه وسلم ، فجاء في 332 من سفر التثنية: (جاء الربُّ من سيناء، وأشرق لنا من سعير، وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم)، ومعنى قوله جاء الربُّ من سيناء: إعطاؤه التوراة لموسى عليه السَّلام، وإشراقه من سعير: إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السَّلام، واستعلاؤه من جبال فاران: إنزاله القرآن لأن فاران من جبال مكَّة.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم الجارود بن عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال: (والَّذي بعثك بالحقِّ لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشَّر بك ابن البتول)، فأهل الكتاب كانوا يتناقلون خبر بعثته عليه السَّلام فيما بينهم، ويذكرون البشارات من كتبهم، أمَّا الَّذين استكبروا منهم فكانوا يكتمون هذه البشارات.(3/75)
وقد كانت مهمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم متابعة ما بدأه الرسل قبله، وهي الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى طيِّب الطعام وحِلِّه، وإلى تحريم الخبائث، وإلى تحرير الناس من المعتقدات الخرافية والأوهام، وإلى فكِّ قيودهم النفسية والروحية والجسدية. ومن المعلوم أن بني إسرائيل قد أُخِذُوا بالشدَّة في أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات، فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالاً، وهو موثَّق بالسلاسل والأغلال، وقد خففت رسالة السيِّد المسيح عليه السَّلام عنهم بعض التخفيف في الأمور المادِّية لصالح الجوانب الروحية، إلى أن جاءت الشريعة السمحة الَّتي بُعث بها خاتم الرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم فوضعت عنهم ما كُلِّفوا به من التكاليف الشاقَّة.
وفي يومنا هذا، كما كانوا سابقاً، يمدُّ المسلمون أيديهم ليتعاونوا مع سائر معتنقي الشرائع السماوية، للوقوف في وجه تيار المادِّية والإلحاد، فهل ينضمُّ الجميع إلى ركب الإيمان، وينهلون من هذا الينبوع المتفجِّر بالنور والخير، ويؤيدونه لتنال البشرية الفلاح والنجاح في جميع أمورها؟.
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أشدَّ النَّاسِ عداوةً لِلَّذين آمنوا اليهودَ والَّذين أَشْركوا ولتجدَنَّ أقربَهم مَوَدَّةً للَّذين آمنوا الَّذين قالوا إنَّا نصارى ذلك بأنَّ منهم قسِّيسينَ ورُهباناً وأنَّهم لا يستكبرون(82) وإذا سمعوا ما أُنزلَ إلى الرَّسولِ ترى أعيُنَهُم تفيضُ من الدَّمعِ ممَّا عَرَفوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا آمنَّا فاكتبنا مع الشَّاهدين(83)}
ومضات:(3/76)
ـ الدِّين هو المعاملة، ومن تعلَّم أصول الدِّين وتأصَّلت جذوره في أعماق نفسه، تهذَّبت أخلاقه وتدرَّبت على المكرُمات والفضائل، وبهذا المستوى من التربية العالية، تقبَّل الرهبان والقسيسون ومن والاهم رسالة الإسلام، فأحبُّوها وأحبُّوا المسلمين، وتعانقوا معهم روحاً وأخلاقاً بكلِّ تواضع وإخاء. ولعدم وجود مثل هذه العاطفة لدى كثير من اليهود والمشركين بسبب أنانيتهم المفرطة، وبسبب الدوافع الكامنة في قلوبهم لأسباب اقتصادية وسياسية، فقد تفجَّرت براكين المعارضة في صدور هاتين الفئتين، واشتركتا في مناصبة العقيدة الإسلامية العداء.
في رحاب الآيات:
اخترق القرآن الكريم حُجُبَ الزمان الثلاثة المتعلقة بتاريخ اليهود، في الماضي والحاضر والمستقبل، فأخبر عن عداوتهم للسيِّد المسيح ورسالته قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بما يقارب الستمئة عام، وصوَّر الأحداث الَّتي وقعت منهم في زمنه صلى الله عليه وسلم ، والَّتي تُظهر عداوتهم للإسلام، وأخذها بالدراسة والتحليل، وأنبأ عن أحداث ستقع في المستقبل، وهي عداوتهم لسائر الشرائع السماوية ولمعتنقيها، والَّتي لا نزال نراها حتَّى يومنا الحاضر. وهذا ما يتبيَّنه المُقلِّب لصفحات التاريخ والمحلِّل للوقائع اليومية، فإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدلُّ على إعجاز القرآن الكريم، وعلى أنه كتاب الله الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(3/77)
فإذا ما استعرضنا تاريخ هذه الجماعة، خلال عصر النبوَّة، وجدنا أنهم ناصبوا الدعوة الإسلامية العداء، ولم يدَّخروا وسيلة في الكيد للمسلمين منذ اليوم الأوَّل لولادة الأمة المسلمة في المدينة إلا واستعملوها. وقد تولَّى القرآن الكريم تسجيل هذا الموقف الَّذي أكَّدته الحرب الضروس الَّتي شنَّها اليهود، سراً وعلانية، ضد الرسول الكريم ودعوته، والَّتي لم تخبُ نارها خلال أربعة عشر قرناً، وماتزال تستعر في أرجاء الأرض حتَّى اليوم. ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً في هذا الصدد، لوجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عقد أوَّل مَقْدِمِهِ إلى المدينة معاهدة تعايُش سلمي وأمني مع اليهود، ودعاهم إلى السَّلام، فعاهدوا عليه ثمَّ نقضوا هذا العهد، واستخدموا ـ ولازالوا يستخدمون ـ كلَّ الوسائل الَّتي تَفَتَّق عنها مكرهم لمحاربة الإسلام والمسلمين، مع أن الإسلام قد وسعهم، بعد ما ضاقت بهم شعوب كثيرة على مدار التاريخ، لكثرة العداوات والخلافات الَّتي كانوا يثيرونها، حيثما وجدوا بين الناس، بغية الحصول على مكاسب مادِّية معيَّنة، حتَّى أصبح اليهودي منبوذاً، لاسيَّما ذلك الَّذي يُقرض المال بالفوائد والربا الفاحش، ويتشدَّد في تحصيل ديونه ممن اقترض منه وعجز عن السداد.(3/78)
وهكذا أُخِذَ أخيار اليهود بجريرة أشرارهم، حيث أنهم لم يضربوا على أيديهم، ولم ينهوهم عن إشاعة الفساد والهلاك في الأرض، ولم تنهض منهم طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فغلب شرُّهم على خيرهم، وبات الناس ينظرون إليهم بعين الحيطة والحذر وربَّما العداء. وعلى الرغم من ذلك كلِّه فلم تخلُ صفوفهم من وجود عناصر خيِّرة من أحبارهم وعلمائهم في عهد النبوَّة، وإن كانت قليلة، فكان لها دور إيجابي في كشف النقاب عن الظلم الَّذي ارتكبه زعماؤهم في حقِّ أتباعهم، حين ابتعد أولئك الزعماء عن الحقِّ وخلطوه بالباطل. وللأسف فإن غراس هذا الظلم لازالت تطرح ثماراً سامَّة، كلَّما صادفت مياهاً آسنة ترويها، لتقتل بها كلَّ محاولة من شأنها أن تقيم علاقات سويَّة بين اليهود وغيرهم من الشعوب على اختلاف مللهم، تحت عنوان الإخاء في الإنسانية والتعاون على الإعمار والبناء وإحلال السَّلام.
ولم يكن عداؤهم للدين الإسلامي أو المسيحي منذ نشأتهما وحتَّى اليوم وليد عوامل معقولة أو أسباب منطقية، وليس له ما يبرره سوى الأنانية المفرطة الَّتي تعتمل في صدور زعمائهم، ومعاداتهم لكلِّ ما يمكنه أن يمسَّ بمصالحهم الشخصية المبنيَّة على الاستغلال، ولهذا ناصبوهما العداء إلى جانب المشركين الوثنيين، وكان الأجدر بهم أن يقفوا صفّاً واحداً مع المسلمين والمسيحيين، لأنهم أتباع رسالات سماوية مثلهم، وأن يجابهوا الوثنيين والملحدين بقلب مؤمن واحد. ولا سبيل لليهود اليوم لكي يخرجوا من عزلتهم الَّتي زجُّوا أنفسهم فيها، إلا بأن يخلعوا عنهم ثوب التعالي والتعصُّب، ويمدُّوا أيديهم إلى غيرهم من أتباع الشرائع السماوية، ويبدؤوا معهم حواراً عقلانياً وأخوياً، مبنيّاً على أسس متينة من حسن النيَّة والاحترام المتبادلين.(3/79)
وفي الجهة المقابلة يذكر القرآن الكريم بعض النصارى الَّذين سمعوا ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن، فاهتزَّت مشاعرهم، ولانت قلوبهم، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيراً عن التأثُّر العميق بالحقِّ الَّذي سمعوه، ولم يقفوا موقفاً سلبياً يقف عند حدِّ التأثُّر، بل جسَّدوا إحساسهم الداخلي بعمل مثمر بنَّاء وهو قبول الحقيقة والإيمان بها، والتضرُّعُ إلى الله تعالى بأن يجعلهم من الشاهدين المقرِّين بصدقها. ولو أننا أنعمنا النظر في سلوك هؤلاء، لوجدنا أنهم بعملهم هذا لم يخرجوا من النصرانية، بل أصبحوا نصارى بحق، حيث أن ما جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم لا يخرج عما جاء به عيسى عليه السَّلام قيد أنملة.(3/80)
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بعده مودَّة وأخوة بالغتين من النصارى، الَّذين تهيَّأت لهم فُرصة الاطِّلاع على الإسلام بموضوعية. وذلك أن منهم قسيسين يتولَّون تعليمهم الدِّين، ويهذبون أخلاقهم ويربُّون فيهم الآداب والفضائل، ورهباناً يعوِّدونهم الزهد والتقشف، ويزرعون في نفوسهم حبَّ الله تعالى والخوف منه، والانقطاع لعبادته، وجعلوا من صفاتهم التواضع والتذلُّل والخضوع له عزَّ وجل. وهم يلمسون كلَّ هذه الفضائل بين حنايا القرآن وسطوره، لذلك تهتزُّ قلوبهم خشوعاً كلَّما سمعوا آياته، وتفيض من أعينهم دموع البِشر والسرور لاتساع دائرة الحقِّ، ولمجيء من ينصر عيسى عليه السَّلام ورسالته، ويبني جسوراً معه، ويتمِّم مسيرة الإيمان بمؤازرته. وتصديقاً لما بشَّرَ به القرآن الكريم، فإننا نجد في يومنا الحاضر موجة عارمة من الانفتاح على الإسلام لدى بعض الطوائف المسيحية، وهم يدعون إلى التقاء أبناء الشريعتين من سائر أنحاء العالم، بغية الحوار الإيجابي الهادف البنَّاء. ومن المؤكد أن أهمَّ هذه اللقاءات هو اللقاء والتعاون الإسلامي المسيحي، لمناهضة الإلحاد والانحراف الأخلاقي، وإرساء قواعد الأخلاق الكريمة الفاضلة في سائر أرجاء المعمورة.
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {ياأَهلَ الكتابِ قد جاءَكُم رسولُنا يُبيِّنُ لكم كثيراً ممَّا كنتم تُخفونَ من الكتابِ ويَعْفُو عن كثيرٍ قد جاءَكُم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ(15) يهدي به الله منِ اتَّبعَ رضوانَهُ سُبُلَ السَّلام ويخرجُهُم من الظُّلماتِ إلى النُّورِ بإذنِهِ ويهديْهِمْ إلى صراطٍ مستقيمٍ(16)}
سورة المائدة(5)(3/81)
وقال أيضاً: {ولو أنَّ أهلَ الكتابِ آمنوا واتَّقَوا لكَفَّرْنا عنهُم سيِّئاتِهِم ولأدخلناهُم جنَّاتِ النَّعيم(65) ولو أنَّهُم أقاموا التَّوراةَ والإنجيلَ وما أُنْزِلَ إليهم من ربِّهم لأكلوا من فوقِهِم ومن تحتِ أرجلِهِم منهُم أمَّة مقتَصِدَةٌ وكثيرٌ منهم ساءَ ما يعملون(66)}
ومضات:
ـ ينشئ الإسلام جسور المناقشة والحوار الفكري البنَّاء مع أهل الكتب السماوية، ويبيِّن للمؤمنين بها أنه دين متمِّم لها، يدعو إلى ما يعتقدون به من وحدانية الله، وإلى تحقيق السَّلام والأمن والعدل والمساواة في أنحاء الأرض كافَّة.
ـ الإيمان الصادق والتَّقوى الحقيقية هما سبب تنزُّل العطاء الربَّاني والأرزاق الوفيرة والعيش برغد وسرور، لأن قوانين الكون مترابطة ومنسجمة، فإن أقمناها بالشكل الصحيح أدَّت إلى هذه النتائج الخيِّرة، وإن أخللنا بها أي خلل، نجم عن ذلك الفساد والإفساد. وقد أدرك بعض أهل الكتاب هذه الحقيقة بعقولهم النيِّرة وعملوا بها فأفلحوا، وتجاهلها بعضهم فأساؤوا لأنفسهم ولمجتمعاتهم.
في رحاب الآيات:(3/82)
نداء إلهي كريم موجَّه من الله ـ جلَّ وعلا ـ إلى أهل الكتاب، يلفت أنظارهم فيه إلى حدث عظيم؛ هو مجيء رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم . وقد أضاف الله سبحانه لفظ الرسول إلى ذاته الشريفة فقال: {رسولنا} تعظيماً له، ودفعاً لأي تقوُّل أو تكذيب قد يفتعله بعض المعاندين. ولقد أرسل الله رسوله إلى الناس كافَّة ولكنَّه خصَّ أهل الكتاب بالنداء، ليبيِّن لهم أنه إنما بعث هذا الرسول رحمة بهم، وليهديهم سبل السَّلام، ومسالك النجاة، وليسلِّط الأضواء الكاشفة على ما خفي عنهم من تعاليم كتبهم، وما استتر من أعمال مفسديهم الَّذين حرَّفوا الكلم عن مواضعه، فَيُخرج ما أخفوه، ويُظهر ما ستروه، ليكون لهم سعادة ورغداً، وأمناً ورشداً، ويعفو عنهم رحمة بهم، وتألُّفاً لقلوبهم، لعلَّهم حين يلمسون جوانب هذه الرحمة أن تلين قلوبهم، وتتفتح عقولهم لتلقِّي فيض الله وحكمته في جميع شرائعه وكتبه.(3/83)
فالشرع الإسلامي جاء مؤيِّداً لما سبقه من الشرائع الإلهية، والقرآن جاء مصدِّقاً لما قبله من الكتب السماوية، ولو أن أهل الكتاب آمنوا به، واستسلموا الاستسلام المطلق لشريعة الله، لكفَّرَ الله عنهم ما فعلته أيديهم من تحريفٍ لكتبه، ولأفاض عليهم من نعيمه ونعمائه ما لا يحيط به حدٌّ، ولا يحصيه العدّ. والقرآن يحاور أهل الكتاب حواراً هادئاً ترغيبياً ليصل بهم إلى شاطئ الأمان، وكأنه يقول لهم: إذا شقَّ عليكم اتِّباع ما جاء به رسول الإسلام، فاتَّبِعوا ما جاء به أنبياؤكم من الحقِّ، ولكن على صورته الأولى الَّتي كان عليها قبل أن تمتد إليه يد التحريف والتشويه، فإن فعلتم هذا، سَهُل عليكم تفهُّم رسالة الإسلام، فما الإسلام إلا صفحة في كتاب الوجود الَّذي صاغته يد الخالق منذ الأزل وإلى الأبد، ولن تجدوا فيه أي تناقض مع جوهر الرسالات الَّتي سبقته، بل هو تكميل لها، وتصحيح لما أدخله عليها المغرضون من العبث والفساد وتجديد لشبابها. إنها معاملة من نوع فريد، والنفع فيها عائد في الحالتين على المخلوق لا على الخالق، فهو الغني عن عباده، وهو الكامل الَّذي لا يرتضي لهم إلا التدرُّج والرقي في معارج الكمال.
ثم يذكِّر الله تعالى أهل الكتاب بما فعلوا، وكيف فرَّطوا في تنفيذ أوامره، ولم يتَّبِعوا النور الَّذي أنزله عليهم عن طريق أنبيائه وكتبه، وكلمة تنزيل تعبِّر عن قداسة المُنزَّل وضرورة التقيد به، وإحلاله المكانة الَّتي يستحقُّها، ولو أنهم فعلوا ذلك لفاض عليهم الخير من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولفتح الله عليهم أبواب السعادة، ولوهبهم جنَّتين: جنَّة الأرض، وهي السَّلام والأمن والحياة الرغيدة ـ وهذا منتهى ما يطلبه الإنسان في هذه الدنيا العاجلة ـ وجنَّة الآخرة، وهي رضوان من الله ورحمة، ولكنَّهم زهدوا في ذلك كلِّه وأَلْهتهم الدنيا عن طلب الآخرة.(3/84)
ولكنَّ أهل الكتاب ليسوا سواءً في هذا، فمنهم طائفة عادلة متَّزنة تتَّبع الحقَّ، وتفتح عقلها وقلبها لاستقباله، وتُنْزِلَه من نفسها أعلى منزلة، قال تعالى: {ومن قومِ موسى أمَّة يَهْدونَ بالحقِّ وبه يَعْدِلُون} (7 الأعراف آية 159) فهي تسعى بذلك إلى شد الروابط الإنسانية ووحدة البشرية، وإعمار الأرض بالعلم ومكارم الأخلاق، وهؤلاء لهم رضوان من الله ورحمة. ومنهم فئة أعرضت عن إعمال عقلها، أو توجيه فكرها نحو حقيقة الوجود البشري وسبل هدايته إلى حضرة الله، فأساءت بعملها إلى أجيال بكاملها، وقد بعدوا عن طريق الهداية، إلى نُظُمٍ وعقائدَ أثبت الواقع زيفها وعقمها.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وإنَّ من أهلِ الكتابِ لَمَن يُؤمنُ بالله وما أُنزِلَ إليكُم وما أُنزِلَ إليهم خاشعين لله لا يشترونَ بآياتِ الله ثمناً قليلاً أولئكَ لهم أَجْرُهُم عند ربِّهم إنَّ الله سريعُ الحسابِ(199)}
ومضات:
ـ نعثرُ بين صفوف الكتابيين (اليهود والنصارى) على من يؤمن بوحدانية الله، ويقرُّ بصدق جميع الرسالات والكتب السماوية بما فيها الإسلام، فلا يبخسها قيمتها وقدرها، ويخشى الله تعالى ولا يحيد عن تعاليمه، وسيجزل الله تعالى لهذا وأمثاله الفضل والعطاء.
في رحاب الآيات:
نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه الَّذين آمنوا بالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به، فعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس رضي الله عنهم أنه لمَّا مات النجاشي نعاه جبريل عليه السَّلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: «قوموا فصلُّوا على أخيكم النجاشي» (أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي) فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلِّي على عِلجٍ من عُلوجِ الحبشة، فأنزل الله تعالى الآية.(3/85)
إن هذه الطائفة من أهل الكتاب تؤمن بالله حقَّ الإيمان، وتؤمن بما نزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم مع إيمانها بالكتب المتقدمة، وأفرادها خاشعون لله، مطيعون له، متذللون بين يديه، لا يكتمون ما بين أيديهم من البشارة بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وذكر صفاته ومبعثه، وصفات أمته. وهؤلاء وأمثالهم هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هوداً أو نصارى، ولهم أجرهم عند ربِّهم لما يتَّصفون به من حميد الصفات وجليل الأعمال، بعد أن هداهم الله تعالى إلى الحقِّ وإلى الصراط المستقيم. والله عالمٌ بما يستحقُّه كلُّ إنسان من الثواب والعقاب، ولكنَّ المشكلة تبقى في جهل الإنسان نفسه وأنانيته، فالكثير من أبناء الشرائع السماوية المختلفة يعتقدون أنهم وحدهم الجديرون بدخول الجنَّة دون غيرهم من أتباع الشرائع السماوية الأخرى. وهذا التحجير لرحمة الله الواسعة مرض يؤدِّي إلى تجزئة الأسرة الإيمانية العالمية وشرذَمتِها، وتهديم جسور اللقاء بين طوائفها؛ لذلك فلابدَّ من قيام رجال الدِّين الأحرار، ممن تشرَّبت قلوبهم عقيدة التوحيد، بجمع صفوف الأسرة الإنسانية على كلمة التوحيد لله الواحد الأحد، وعلى تزكية النفوس وتطهيرها، والالتزام بالمبادئ الأخلاقية الفاضلة، لعلَّ في ذلك ما يجمع العالم ويوحِّده، ويحافظ على مقوِّماته الصحِّية والطبيعية والبيئية، وينشر العلم في أرجائه، ويقضي على كلِّ أنواع الجهل والضعف، فتتحقَّق الجنَّة الصغرى على الأرض، ويكتسب الناس محبَّة الله تعالى ورضاه، فيكونون أهلاً للجنَّة الكبرى، الَّتي وعد الله عباده المتَّقين.
سورة آل عمران(3)(3/86)
قال الله تعالى: {ليسوا سوَاءً من أهلِ الكتابِ أمَّة قائمةٌ يَتلونَ آياتِ الله آناءَ اللَّيلِ وهم يَسجُدونَ(113) يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَونَ عنِ المنكرِ ويُسارعونَ في الخيراتِ وأولئكَ من الصَّالحينَ(114) وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفَرُوهُ والله عليمٌ بالمُتَّقينَ(115)}
ومضات:
ـ تؤكِّد الآيات الكريمة على عدم تساوي أهل الكتاب في مراتب الجودة والفلاح، ومدى تفهُّمهم للإيمان الحقيقي، وينابيعه الصافية، وجوهره النقي. فعلى الرغم من انحراف أكثرهم فإن طائفة منهم قد سطع في قلوبهم نور الحقيقة، فهم يقومون لله فيتلُون آياته ويُصَلُّون بخشوع وإيمان، ساجدين له مقرِّين بفضله ناشدين قربه، قد آمنوا بالله الواحد الأحد، وأن يوم الحساب آتٍ لا ريب فيه، واستعدَّوا بأعمالهم لمثل هذا اليوم، وصاروا منارات للهدى، فدلُّوا الخلائق إلى سبل الخير والعلم والفلاح، وأنقذوهم من براثن الفسق والانحلال والجهل، وقد نشطوا في إتمام البناء الأخلاقي بهمة وثبات، وكأنهم يسابقون الزمن، فاستحقُّوا أن يكونوا هداة مهديين، صالحين ومصلحين.
ـ إن الله لا يبخس الناس أعمالهم وخصوصاً المتقين، فهو الحَكَمُ العَدْلُ ربُّ العرش العظيم.
في رحاب الآيات:(3/87)
نزلت هذه الآيات في حقِّ أهل الكتاب الَّذين التزموا بجوهر دينهم الحقيقي؛ لتؤكِّد على وجود عناصر مؤمنة وخيِّرة من أهل الكتاب، آمنت بوحدانية الله، وعملت الصالحات وسعت في طريق الخير والصلاح، إنهم عناصر طيِّبة تميَّزت بارتقائها وتطهُّرها عن خبث غيرها ممن اعْوَجُّوا عن الشريعة الأصلية، وانساقوا وراء أهوائهم وأطماعهم. وهذا حافز لنا لكي نسعى جاهدين لنتعرَّف بهم، ونتَّصل بهم، من أجل التركيز على قيام عمل مشترك بيننا وبينهم في سبيل تقرير وحدة أصل الشرائع السماوية ، والعودة بها إلى جوهرها الأصيل، وتنقية الفكر الإيماني من الدخائل الَّتي تسرَّبت إليه. وقد وصف الله تعالى أهل الكتاب بأنهم ليسوا كلُّهم سواءً في مصداقيتهم، إذ أنَّ بين صفوفهم المؤمنين الصَّادقين، الَّذين ادَّخر الله لهم ثواب الصالحين المؤمنين إيماناً صادقاً وكاملاً باعتقادهم وأعمالهم، وقاموا على حراسة هذا الدِّين، فلم يهملوا رعايته ولم يتركوه كما تركه الآخرون وضيَّعوه، كما أن بينهم المتخاذلين المتعامين عن نور الحقِّ والعقل الرشيد.(3/88)
إن هذه الآيات حجَّة وبرهان على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه راضياً وعمل به مخلصاً، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو من الصالحين. ولا يخفى أن أهل الكتاب الموصوفين في هذه الآية، هم من ارتبطت قلوبهم بحضرة الله تعالى، فَسمت إلى الأفق المضيء، ووصلت إلى مرتبة العشق الإلهي، فهم يقومون بالليل مناجين ربَّهم، متضرِّعين له، لأنَّهم يحبُّونه ويخشونه، ويخافون يوماً سيجمعهم فيه للحساب. أمَّا منهجهم في الحياة فهو الاستقامة على صراط الخير وإرشاد غيرهم ممن ضلُّوا الطريق إليه؛ بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والمسارعة إلى الأعمال الخيِّرة. وقد عبَّرت الآية عن سعيهم في عمل الخيرات بلفظ المسارعة، بياناً لمدى لهفتهم وشوقهم إلى ذلك. ومتى كان الكتابي على هذه الصورة الَّتي وصفها الله تعالى، فإنه يكون قد قام بتعاليم دينه كما أُنزلت، ولابدَّ أن هذا العمل سيُقبَلُ منه، ولن يضيع عند الله، لأنه عالم بأحوال القلوب وخفاياها، ودرجة إيمانها وتقواها، والمخلوقات جميعاً مخلوقاته وهو القاضي والحَكمُ العدل بينهم أجمعين.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {ومن أهلِ الكتابِ مَنْ إن تَأمَنْهُ بقنطارٍ يُؤَدِّهِ إليكَ ومنهم مَنْ إن تَأمَنْهُ بدينارٍ لا يُؤَدِّهِ إليك إلاَّ مَادُمتَ عليهِ قائماً ذلك بأنَّهم قالوا ليس علينا في الأُمِّيِّينَ سبيلٌ ويقولونَ على الله الكذبَ وهم يعلمونَ(75) بلى من أوفى بعهدهِ واتَّقى فإنَّ الله يحبُّ المُتَّقينَ(76)}
ومضات:(3/89)
ـ لن تخلو المجتمعات البشرية من الأمناء والشرفاء الَّذين يُوثَقُ بهم لإيداع الغالي والنفيس لديهم، كما أنها لا تخلو من المفسدين أصحاب الضمائر الميتة والأهواء المستحكمة، ممن لا يتورَّعون عن تحليل الحرام، باجتهادات كثيرة، وأخطرها تلك الَّتي تتخذ الطابع الدِّيني، فيستبيحون حُرُمات وممتلكات من ليسوا على عقيدتهم ومِلَّتهم، غير آبهين بكرامة الإنسان ولا بحقوقه الَّتي رعاها الله تعالى وحفظها لعامَّة الناس؛ مهما كانت اتجاهاتهم العقائدية.
ـ إن أداء الأمانة إلى أهلها، هي مسألة تعامل بين الناس مبنيَّة على تقوى الله، وليس على أساس المصلحة أو الأهواء الشخصية، والمؤمن يفي بعهده ويؤدِّي الأمانة إلى من ائتمنه عليها بغضِّ النظر عن انتمائه الدِّيني، لأن شرع الله الحنيف صان الحقوق الشخصية للإنسان صيانة لا نظير لها.
في رحاب الآيات:
تشير الآية الكريمة إلى أن أهل الكتاب طائفتان: طائفة تؤدِّي الأمانة إلى أهلها قلَّت أم كثرت، وطائفة أخرى تخون الأمانة، ولو قلَّت وحقرت، فلو استودعتها القليل، جحدته ولم تؤدِّه إليك، إلا إذا لاحَقْتَها لاسترداد حقِّك، مُلِحّاً في المطالبة أو ملتجئاً إلى التقاضي والمحاكمة. والفرق كبير جداً بين أمين وخائن، فالأمين موضع احترام الناس ومحل ثقتهم، والخائن موضع احتقارهم وهدف سخطهم.(3/90)
إن الدافع على الخيانة عند تلك الطائفة من أهل الكتاب، هو حبُّ التعالي على غيرها من أتباع الديانات الأخرى، فقد ادَّعى بعض اليهود بأنه ليس عليهم في الشريعة اليهودية من حرج في أكل أموال الناس من غير اليهود، بحجَّة أن الله قد أحلَّها لهم، زاعمين أن شريعتهم تأمرهم بهذا، وهم يعلمون أن هذا كذب وافتراء، لأن الله تعالى قد تنزَّه عن أن يأمر بالفحشاء، ويبيح لجماعة من الناس أن تأكل أموال جماعة أخرى بهتاناً وظلماً، وأن تخفر ذمة أو تنقض عهداً، بل إن شريعة الله تقضي بأنه لا يحقُّ لإنسان أن يتعرَّض لمال أخيه الإنسان لأي سبب، وخاصَّة بسبب اختلاف الشرائع السماوية . لذلك ترشد الآية بشكل عام إلى وجوب حفظ الأمانة وتأديتها لأصحابها، فمن أقرضك مالاً إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجَّل، أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحقِّ في حينه دون إلجاء المُؤْتَمِن إلى الإلحاح في الطلب أو إلى التقاضي. وصفة الوفاء هذه مرتبطة أشد الارتباط بالتَّقوى الَّتي هي جماع الخير، وهي المُوَجِّهة للسلوك الإنساني، فينبغي على الإنسان ألا يتأثَّر في هذه المسألة من حيث تعامله مع صديق أو عدو، لأنها ليست مسألة تحقيق مصالح، وإنما هي تعامل مع الله بصرف النظر عن الفريق الَّذي يتعامل معه. ولعلَّ أنصع دليل على تقديس الإسلام لحرمة الأمانة هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» (أخرجه أبو يعلى والبيهقي وأحمد والبزار عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه ).
سورة آل عمران(3)(3/91)
قال الله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلامُ وما اختلَفَ الَّذين أوتُوا الكتابَ إلاَّ من بعد ما جاءَهُمُ العِلمُ بَغيَا بينَهم ومَنْ يكفُر بآياتِ الله فإنَّ الله سريعُ الحسابِ(19) فإن حاجُّوكَ فقل أسلَمتُ وجهيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ وقل للَّذين أُوتُوا الكتابَ والأمِّيِّينَ ءَأَسلَمتم فإن أسلَموا فقد اهْتَدَوا وإن تَولَّوا فإنَّما عليك البلاغُ والله بصيرٌ بِالعِبَادِ(20)}
ومضات:
ـ جميع شرائع الله بحقيقتها وجوهرها، إسلامٌ واستسلامٌ لله عزَّ وجل {.. مِلَةَّ أبيكُمْ إبراهيم هو سَمَّاكُمُ المسلمين مِنْ قبلُ..} (22 الحج آية 78).
ـ الإسلام هو خلاصة الرسالات السماوية السابقة، لا يحيدُ عن نهجها القويم وشرعها المستقيم، والأحكام الأصلية الاعتقادية واحدة في جميع الشرائع السماوية ، فمن يؤمن بالله ربّاً معبوداً، لن يجد في صدره حرجاً من الإقرار بالإسلام، وقبوله ديناً سماوياً، أراده الله ليكمل به شرعه الحنيف، ويختتم به كتبه ورسالاته إلى أهل الأرض.
ـ إن من يُشَكِّك بالإسلام وقد علم ما جاء به من الحقِّ، لم يفعل ذلك لأن الإسلام قاصر عن تلبية الحاجات العقلية والروحية لبني الإنسان، بل بدافع من الحرص على مصالحه، خشية ضياعها وزوالها إذا ما انتشر الإسلام وساد.
ـ ليس من الحكمة مجادلة من أصرَّ على الكفر وعاند فيه بعد أن دعي إلى الحقِّ وأقيمت الحجَّة عليه، بل إن الإشاحة عنه والإعراض عن جداله هو الأسلوب الأسلم والأصح للتعامل معه.
ـ الإسلام يحمل الهداية للجميع إذا فتحوا عقولهم وقلوبهم له، وكلُّ من اتبعه من أهل الشرائع السماوية الأخرى، سيجد فيه تجديداً لمعتَقَده السماوي الَّذي كان يتبعه، وإعادة لنضارته وشبابه.
ـ ليس على الرسول أن يُدخل الهدى عنوة إلى صدور الناس، ولن يحاسَب عن ضلالهم، وإنما مهمَّته تبليغ الرسالة الَّتي أمره الله تعالى بأن يوصلها إليهم.(3/92)
ـ إن الله تعالى لا يغفل عن أحد طرفة عين ولا يهمل الحساب.
في رحاب الآيات:
قاربان للنجاة لا ثالث لهما، ونوران يضيئان للإنسان طريق السعادة والخير ليصل إليهما، ودليلان متعاونان متحالفان، لا تناقض بينهما ولا اختلاف، إذا حظي الإنسان بأحدهما؛ أمسك بيده ودلَّه على الآخر، فإذا اجتمعا له فقد كملت النعمة وتمت المِنَّة؛ ألا وهما العقل المدرك والدِّين القيِّم، هبة الله للإنسان وهديته إليه. فالعقل المفكر المدرك يعمل ويبحث حتَّى يجد ضالَّته في الدِّين النقي من أخلاط الجهالة والتعصب، والَّذي بدوره يحثُّ العقل على اليقظة والتفكير، والفهم والتدبير. فالدِّين أمر حيوي ضروري للروح والحياة، كضرورة الضوء للعينين، والهواء للرئتين، والروح للجسد، لأنه يمثِّل أكرم صلة بين الخالق والمخلوق، وينظِّم أوثق علاقة بين عالمي السماء والأرض، وإنَّ أشرف ما في الأرض هو الإنسان، وأشرف ما في الإنسان قلبه، وأشرف ما في القلب الإيمان بالله؛ خالق الوجود، وواهب الحياة.(3/93)
وعلى هذا، فالدِّين طاقات دافعة، وقيم خُلُقية موجِّهة، لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها لما لديه من غرائز طبيعية، واستعدادات نفسية فطرية تعتمل بداخله، وتؤثر على مجرى سلوكه، فإذا تُركت بلا حدٍّ ولا قيد، نزعت إلى الشرِّ وجنحت بصاحبها إلى الضلالة والخطأ. والدِّين وحده، بعقائده وشرائعه وآدابه، هو الَّذي يطهِّر النفوس من النقائص، ويهذِّب الغرائز ويوجهها لما فيه خيرها وبرُّها، وهو الَّذي يطرد وساوس الشيطان، ويقود إلى محبَّة الخير وكراهية الشرِّ، وهو الَّذي يفجِّر في النفس مشاعر الرحمة والعطف والتواضع، فيهيمن على المؤمن سلطان رقابة الله عزَّ وجل، الَّتي تقوم بدورها في إيقاظ الضمير وتوجيهه. فالضمير هو الشعور النفسي الَّذي يقف من المرء موقف الرقيب يحثُّه على أداء الواجب، وينهاه عن التقصير فيه، ويحاسبه بعد أداء العمل، فيكون بمثابة الميزان الَّذي يزِنْ به أعماله بعد أدائها، فإنْ عَمِلَ حسنة سرَّته، وإن اقترف سيئة ساءته.
إن هذه الفضائل مجتمعة هي الَّتي تكفلت بإيجاد فرد مهذَّب، وأسرة سعيدة، ومجتمع فاضل، وحضارة راقية تمتد جذورها في عُمق الزمان، وهي غاية جميع الشرائع السماوية اَّلتي جاء بها الأنبياء، وجوهرها عقيدة التوحيد، والانقياد والخضوع لإرادة المولى عزَّ وجل، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال.
وإذا كان بعض أهل الكتاب قد خالفوا دينهم الحقَّ فما مردُّ ذلك إلا إلى الطمع في نيل الحظوظ، والرغبة في التسلط والظلم والاعتداء؛ لأنَّ اختلافهم لم يكن عن جهل بحقيقة الأمر، فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله، وتفرُّده بالألوهية، وعلمه بالطبيعة البشرية، وأحقيَّته بالعبودية، لذلك سمَّى الله تعالى خروجهم عن حقيقة التوحيد كفراً.(3/94)
والإسلام هو جوهر الشرائع السماوية ، والمسلم الحقيقي بنظر الإسلام هو من كان قلبه خالصاً من شوائب الشرك بالله، مخلصاً له في أعماله مع الإيمان بكلِّ رسل الله والاعتقاد بيوم الحساب، من أيِّ أمَّة كان وفي أي زمان وُجد. ولا يخفى أن اختلاف معظم الكافرين في أمر الإسلام، ونبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم كان عن استكبار وعناد لا عن شبهة وخفاء، وخاصَّة بعد أن علموا بالحجج النيِّرة والآيات البيِّنات بأنه رسول ربِّه حقاً وصدقاً، جاء ليكمل ما بدأه الرسل السابقون؛ من إرساء قواعد الحقِّ وإزهاق الباطل. وإنَّ إنكارهم هذا؛ هو كفر بآيات الله، وإنَّ تفسيرها وتأويلها بحسب ما تهوى نفوسهم، أوقع الكثير من الناس في الزيغ والفساد.
ولقد أرشد الله رسوله الكريم إلى طبيعة الموقف الَّذي يجب أن يتخذه أمام مجادلة بعض اليهود والنصارى ومشركي العرب في شأن التوحيد فوجَّهه ليقول لهم؛ أنا عبد الله، وحده لا شريك له، قد استسلمت له بكلِّيَّتي، وأخلصت له عبادتي، وإني ومن اتَّبعني منقادون لأمره، وأنتم ومن والاكم مدعوُّون إلى التسليم له، والإقرار بوحدانيته، فهل أنتم مؤمنون، أم باقون على تعصبكم بعد أن أتاكم من البيِّنات ما يشرح صدوركم للإسلام والإيمان به؟. وبعد هذه الدعوة الخيِّرة وهذا الشرح المستفيض يدعهم وشأنهم، فإن أقرُّوا فقد فازوا ونجَوْا من مهاوي الضلال، وكانوا ممن استنارت قلوبهم وسَعَوْا لطلب الحقِّ، وإن أعرضوا فلن يضرُّوه شيئاً إذ أن الله لم يكلِّفه بتحقيق استجابتهم، وإنما بتبليغهم البلاغ الواضح المبين وهذه حدود مهمته. فهو يهدي للطريق القويم، ويقوم بأداء رسالته حسبما هو مطلوب منه، ثمَّ تأتي الهداية بمشيئة الله وحسن تقديره لمن أرادها وبحث عنها، وهو عليم بمن يرغب بالهداية ويسعى إليها، وسيكافئه، وهو خبير بمن يرغب عنها ويسعى في الضلال، وسيعاقبه.(3/95)
وهذا الإسلام الَّذي يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،بتعاليمه ومُثُلِهِ يبعث الحياة في العواطف الجامدة، ويبثُّ اليقظة في القلوب الهامدة، ويحرِّك مكامن الخير في الإنسان لتتَّسع نفسه للعلاقات الحسنة، والمعاشرة بالمعروف، وإلى جانب ذلك فهو يحارب الظلم والبغي حتَّى لا تُهدر كرامة أحد، ولا تنتهك حرمة إنسان، ولا يُهان ضعيف، ولا تضيع حقوق فقير، ولا يؤخذ مال بغير حقٍّ، وهكذا فإنه يحمل جميع قيم الخير، فمن آمن بالله الواحد وتقيَّد بهذه القيم وأحسن تطبيقها، فقد أسلم قلبه وكيانه لله عزَّ وجل، ومن أسلم فقد اهتدى.(3/96)
وهذا الإسلام يريد أن يقيم أطهر حياة وأَمْثَلَها على هذه الأرض؛ وقد استهدف تهذيبَ الفرد، وتعاونَ الجماعة، وإيجاد حُكْمٍ عادل أساسه الشورى، وغايته التمسك بتعاليم الدِّين، والخضوع لسلطة الإله الواحد، المعبود دون المخلوقات؛ لتوثيق روابط الأخوة الإنسانية، ممَّا يعجِّلُ بسلام عام يعيش الناس في ظلِّه آمنين. وليس هذا بغريب، فقد انعقدت معظم الآراء المنصفة، على وجوب المناداة بالعودة إلى الدِّين، لأن التطور المادِّي الَّذي لا يصحبه سند من الروح والخُلُق، خطر ينتج عنه السقوط، كمثل الطائر الَّذي يطول أحد جناحيه، بينما يقصر جناحه الآخر، فماله من الصعود والرقي حظٌ ولا نصيب. فالنفوس الَّتي أفسدها الطمع والجشع والأنانية، أحوج ما تكون إلى الإصلاح والعلاج، ليسود المجتمعَ المودَّةُ والرحمة والتكافل والإيثار، وهذه الفضائل لا حارس لها ولا كفيل لاستمرارها إلا الدِّين والإيمان، فهو الَّذي يستطيع أن يفجِّرها في النفس البشرية، ويبقيها يقِظة متأجِّجة تعمِّر وتبني، وتنشر الحبَّ والسَّلام في جميع أرجاء الأرض. والدِّين الَّذي يملك هذه القدرات الخلاَّقة، هو الدِّين الإلهي الصافي الَّذي لم تلوِّثه يد التحريف، ولم تعبث به الأهواء والأطماع والغايات الشخصية، بل بقي نقياً حيّاً يعمل عمله في النفوس فيهديها للتي هي أقوم كما قال تعالى: {إنَّ هذا القرآنَ يَهدي للَّتي هي أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ المؤمنين الَّذين يعملونَ الصَّالحات أنَّ لهم أجراً كبيراً * وأنَّ الَّذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً} (17 الإسراء آية 9ـ10).
سورة البقرة(2)(3/97)
قال الله تعالى: {يابَنِي إسرائيلَ اذكُروا نعمتيَ الَّتي أنعمتُ عليكم وأَوْفُوا بعهدي أُوفِ بعهدِكم وإيَّايَ فارهَبون(40) وآمنوا بما أنزَلتُ مُصَدِّقاً لما معكم ولا تكونوا أَوَّلَ كافرٍ به ولا تَشتَروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيَّايَ فاتَّقونِ(41) ولا تَلبِسُوا الحقَّ بالباطلِ وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمونَ(42) وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة واركَعوا مع الرَّاكعين(43) أتأمُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتنسَوْنَ أنفُسَكُم وأنتُم تَتلونَ الكتابَ أفلا تَعقِلونَ(44) واستعينوا بالصَّبرِ والصَّلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشعينَ(45) الَّذين يَظُنُّونَ أنَّهم ملاقُوا ربِّهم وأنَّهم إليه راجعونَ(46) يَابَني إِسرائِيل اذكُرُوا نِعمتيَ الَّتي أنْعَمتُ عليكُم وأَنِّي فضَّلتُكم على العَالمِينَ(47) واتَّقوا يوماً لاتَجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولايُقبلُ منها شفاعةٌ ولايُؤخذُ منها عدلٌ ولاهُمْ يُنصَرونَ(48)}.
ومضات:
ـ يأمر الله تعالى بني إسرائيل أن يتذكَّروا النِعَم الَّتي منَّ بها عليهم، ليحفظوها ويقدِّروها حقَّ قدرها، وأن يكونوا أُمناء على عهدهم له بالطاعة والانقياد وحسن العبادة، وهو يعدهم بحسن الثواب.
ـ يهيب الله تعالى بهم أن يخشوه حقَّ خشيته، كما ينبغي لجلاله وعظيم هيبته، حتَّى ينالوا وعده ويتجنَّبوا وعيده، فإنَّ مقاليد الأمور كلِّها بيده.
ـ يدعوهم الله تعالى للإيمان بالقرآن الكريم لأنه نزل مصدِّقاً لما جاء في التوراة الَّتي يؤمنون بها، ويأمرهم بألا يسارعوا إلى الكفر به، لأنه يحمل بين طياته الهدى والإرشاد، ويحذِّرهم من تحريف ما جاءهم من البشرى بهذا النبي في التوراة، بهدف الحفاظ على مراكزهم ونفوذهم الدنيوي، ويدعوهم لأن يتَّقوه ولا يكفروه.(3/98)
ـ يحذِّرهم الله تعالى من أن يخلطوا الحقَّ المنزَّل من عنده، بالباطل الَّذي يخترعونه ويكتبونه بأيديهم وفق أهوائهم، وينهاهم عن أن يكتموا الحقَّ الَّذي يعرفونه في التوراة، والَّذي يوافق ما جاء في القرآن الكريم، ويدلُّ على أنه كتاب الله أُنزل على رسوله وللناس كافَّة.
ـ يأمرهم الله تعالى بإقامة الصَّلاة لتطهر بها نفوسهم، وبإيتاء الزَّكاة لتتزكَّى بها أموالهم، وأن ينضمُّوا إلى جماعة المؤمنين ويركعوا مع الراكعين، يصلُّون معهم ويتواضعون لله وللمؤمنين، لتتوحَّد القلوب، وتنتشر الألفة بين الناس.
ـ يأمر الله تعالى حَمَلَة الكتاب، وكلَّ من يدعون إلى الإصلاح والإرشاد، أن يتقيَّدوا بما يدعون إليه من تعاليم الله ويعملوا بها، حتَّى لا تنقلب دعوتهم إلى الخير حجَّة عليهم، ويُؤَنِّب تعالى من يدعو إلى الخير ولا يعمل به، لأنه لم يستعمل عقله ليرفعه عن هذا السَّفَهِ، فالعاقل لا يدلُّ الناس على طريق النجاة ويرمي بنفسه إلى التهلكة.
ـ الصبر والصَّلاة هما مطيتا المؤمن ليصل إلى رضوان الله تعالى، فهما مدرستان لتهذيب النفس وتدريبها على فعل الخيرات؛ ولا يُحسِن الالتزام بهما والاستفادة منهما إلا من خشع لله تعالى قلبه وتواضع لعظمته.
ـ المؤمنون الصالحون لا يغفلون عن حقيقة الموت والحساب، ويُعِدُّون العدَّة للوقوف بين يدي الله تعالى في يوم الدِّين.
في رحاب الآيات:(3/99)
يبدأ النص القرآني بأسلوب رائع، وخطاب جميل من الله عزَّ وجل إلى اليهود من أهل الكتاب، ويُستهلُّ بنداءٍ ودِّي محبَّب، وهو قوله تعالى: {يابني إسرائيل}، أي ياأبناء الأنبياء، لأن إسرائيل هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السَّلام أجمعين، وفي هذا تأليف لقلوبهم، وتكريم لنسبهم، واستثارة لما في نفوسهم من مكامن الخير، وتذكير لهم بسلوك آبائهم وتجارب أسلافهم. وهو توجيه للدعاة إلى الله كي يخاطبوا الناس بأشرف أسمائهم، وينادوهم بأكرم ألقابهم، تحبُّباً إليهم واستقطاباً لمودَّتهم.
والَّذي يمعن النظر في القرآن العظيم يجد أنه جاء على ذكر بني إسرائيل كثيراً، وعرض سلوكهم وعقائدهم وتفكيرهم، وأخذ ذلك كلَّه بالدراسة والتحليل، لأن اليهود وإن كانوا قلة فإن للأنبياء تجارب كثيرة معهم في أغلب فصول التاريخ الدِّينية القديمة، والقرآن الكريم يرصد هذه التجارب ويتحدَّث عنها في مناسبات كثيرة ليستفيد المؤمنون منها ويتجنَّبوا أخطاءهم.
فمن الأخطاء الَّتي ارتكبها بنو إسرائيل، نختصر ما يلي:
أوَّلاً ـ مقابلةُ الأنبياء بالجحود والنكران، وخاصَّةً موسى عليه السَّلام، الَّذي سعى إليهم ـ بتوجيهٍ من ربِّ العالمين ـ لإنقاذهم من جبروتِ فرعون وبطشه، بعد أن كثرت معاناتُهم، فأراد الله أن يكرمهم، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ ِبمَا صَبَرُوا...} (7 الأعراف آية 137). وبالفعل فقد تمَّ إنقاذُهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْناَكُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُم سُوْءَ العَذَابِ يُقَتِّلُونَ َأبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُوْنَ نِسَاءَكُم وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظِيْم} (7 الأعراف آية 141). وبالرغم من كلِّ ذلك فقد ظهرت منهم تصرُّفات ورغبات شريرة، تنمُّ عن فساد عقيدتهم وإيمانهم بالله تعالى. ومن الدلائل على سوء أغراضهم ما يلي:(3/100)
1 ـ طلبوا من موسى عليه السَّلام أن يحعل آلهةً لهم من الحجارة، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ، فَأَتَوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوْسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهَمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} (7 الأعراف آية 138).
2 ـ تخاذلُهم ورفضُهم إِطَاعَةَ أمر الله في دخول الأرض المقدسة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوْسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أِنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِيْن * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِيْن * قَالُوا يَا مُوْسَى إِنَّ فِيْهَا قَوْماً جَبَّارِيْن وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون} (5 المائدة آية 20 ـ 22).
3 ـ تأفُّفهم وتذمُّرهم من نوع الطعام الَّذي أكرمهم الله به، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوْسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ...} (2 البقرة آية 61).
ثانياً ـ قتلُهم الأنبياءَ بغيِر حقٍّ، طغياناً وكفراً، وخاصَّة زكريا ويحيى عليهما السَّلام، قال تعالى: {... أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيْقاً كَذَّبْتُم وَفَرِيقاً تَقْتُلُون} (2 البقرة آية 87).
ثالثاً ـ اتخذوا العجل إلهاً وعبدوه ضلالاً وكانوا ظالمين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُم غَضَبٌ مِنَ رَبِّهِم وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِيْن} (7 الأعراف آية 152).(3/101)
رابعاً ـ لم يتورَّعوا أن ينسبوا إلى الله تعالى صفاتِ النقص، والضعف والعجز، قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذِيْنَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيْق} (3 آل عمران آية 181). وقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُّ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...} (5 المائدة آية 64).
خامساً ـ تماديهم في التَّعالي والغطرسة، وكأن الله تعالى مُجَنَّدٌ لخدمة مصالحهم، قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوْسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيْهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُوْن} (5 المائدة آية 24).
سادساً ـ زعموا أنهم شعب الله المختار الَّذي اصطفاه، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُه قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم...} (5 المائدة آية 18). وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذَينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُم أَنَّكُم أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَاسِ فَتَمَنَّوا المَوْتَ إِنْ كُنْتُم صَادِقِين} (62 الجمعة آية 6ـ7).(3/102)
وعلى الرغم من أن ظاهر الخطاب يخصُّ بني إسرائيل وحدهم، ويدعوهم لتَذكُّر نِعَم الله الجليلة عليهم، إلا أنَّ مدلول الآية يتَّسع ليشمل بني آدم كلَّهم في كلِّ زمان ومكان، حيث يريد الله تعالى من الناس جميعاً أن يذكروا آلاءه ونعماءه عليهم، والَّتي لا تُعدُّ ولا تُحصى، سواء ما كان منها نعماً مادِّية كالغذاء واللباس، أم غير مادِّية كالقوَّة والموهبة والقدرة على التأثير في الآخرين والتفاهم معهم، أو كان نعماً روحية كالبصيرة والقدرة على التمييز بين الحقِّ والباطل، وعليهم أن يوظِّفوها بحكمة واعتدال من أجل سعادتهم في الحياة الدنيا والآخرة.
وحيث أن الله عزَّ وجل لا يُخْلِفُ وعده للمؤمنين، ولا يُضيع أجر من أحسن عملاً، بيده مقاليد الأمور كلِّها، وهو المتصرِّف بكلِّ شيء، إن أراد بعبد خيراً فلن يستطيع أهل الأرض قاطبة أن يمنعوه، وإن أراد به ابتلاءً أو امتحاناً فما هم بقادرين على أن يصرفوه؛ فإنَّ هذا كلَّه يوجب على الإنسان أن يفي بعهده له فيعبده ولا يشرك به أحداً، ويخلص له الطاعة، ويؤمن بكتبه السماوية كلِّها، لأنها سلسلة واحدة متَّصلة لا تنقطع. فالقرآن جاء مصدِّقاً ومؤيِّداً وداعياً لعموم ما جاء في التوراة والإنجيل والكتب السماوية المنزَّلة على الرسل الكرام؛ كالدعوة إلى توحيد الخالق جلَّ جلاله، وترك الشرك ومظاهره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبعد عن الفواحش، قال تعالى: {قلْ إنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفواحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ والإثمَ والبغيَ بغير الحقِّ وأن تُشرِكوا بالله ما لم يُنَزِّلْ به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (7 الأعراف آية 33) وكذلك الدعوة للأخلاق والفضائل، وعرض سِيَرِ الأنبياء والحثِّ على الاقتداء بهم، قال تعالى: {أولئك الَّذين هَدى الله فبهُداهُمُ اقتَدِه..} (6 الأنعام آية 90).(3/103)
وينبغي على من يؤمن بالله تعالى وكتبه ورسله أن لا ينافق ولا يخلط الحقَّ بالباطل، طمعاً في اكتساب غنائم دنيوية آنية زائلة، لأنه لن يحصِّل إلا ما قدَّر الله له. فما لهؤلاء القوم أعمتهم بعض المكاسب والملذَّات الدنيوية يستبدلونها بهداية الله، ويحرِّفون كلامه، ويُضِلُّون به الكثير من الناس، لا ورع يثنيهم ولا تقوى تردعهم. بل إن منهم من يرتدي مسوح الصالحين ليشوِّه الحقائق ويفسد في الأرض، متناسياً قدرة الله عليه، فيكتم الحقَّ طمعاً في تحقيق مأرب، أو خوفاً من فوات مصلحة.
وتتعاقب الآيات الكريمة لتدعو اليهود خاصَّة، والناس عامَّة، للسير مع موكب الإيمان، بالتوجه الصادق إلى الله تعالى من خلال أداء العبادات، وعلى رأسها الصَّلاة والزَّكاة، لأن الصَّلاة ترقى بهم لتصل أرواحهم بالله تعالى؛ فتتهذَّب نفوسهم وتتطهَّر من أمراضها ورذائلها. وهذا يتطلَّب حضور القلب، والشعور المهيمن بعظمة الله وجلاله، لأن الصَّلاة هي صلة العبد بخالقه، ومناجاة الإنسان الضعيف العاجز، لله القوي القادر، فهي تقصِّر المسافات وتَرفع الحُجُب، وتُشعر العبد بقربه من الله فيستمدُّ الطمأنينة والعزيمة، ويمضي في الطاعة دون تردد ولا وهن. والصَّلاة الحقيقية، الَّتي تجمع بين حركات الجسد وحضور القلب والإحساس بجلال الله، تنتشل النفس ممَّا غرقت فيه من السَّعي وراء مادِّيات الحياة ومشاغلها دون الانقطاع عنها، وتسمو بها إلى الملكوت الأعلى حيث تخضع وتتواضع لحضرة الله وعظمته، ممَّا يضفي عليها السكينة والرضا، ويجعلها في حالة مستقرة من السعادة والتسليم.(3/104)
وأمَّا الزَّكاة فإنها تحمي الترابط الاجتماعي من التفكُّك، وتزكِّي نفوس مؤدِّيها من التعلُّق بالمادَّة، وتجعل المال وسيلة للبناء والتعاون والتآزر بين الناس، لا غاية تملك على الإنسان قلبه ولُبَّه، حتَّى يصبح أسيراً لها، فإنَّ حُبَّها إذا طغى هدم القِيَم والعلاقات الإنسانية، وأحلَّ الاستعلاء والاستكبار في الصدور مكان التوادد والتعاطف. فالزَّكاة تدريب للنفس على البذل والعطاء، لأن النفس بطبيعتها تهتزُّ للكرم، وتفرح بالجود، وتجد الراحة والاطمئنان في مواساة الآخرين وإدخال السرور عليهم. والزَّكاة وسيلة لتحريك مشاعر السعادة في نفوس الأغنياء والفقراء على السواء، وبهذا تتولَّد روابط اجتماعية متينة تسمو بها النفوس عن حبِّ التملُّك والأثرة، وتصبح توَّاقة إلى الإيثار، ورعاية عباد الله، والاهتمام بشؤونهم، ممَّا يكفل إزالة الحواجز النفسية الَّتي تولِّدها الفروق المادِّية بين الإنسان وأخيه الإنسان، ومحو الأضغان والأحقاد من صفحات النفوس، وإشاعة التآخي والتعاون مكانها. وبعد التطهُّر من أرجاس النفس والمادَّة يستطيع الإنسان الانضواء تحت لواء المؤمنين، ليسير في ركابهم، ويضم يده إلى أيديهم ليعبدوا الله تعالى معاً رُكَّعاً وسجَّداً، كأنهم روح واحدة وجسد واحد، يتواضعون لله ويخضعون لأوامره ويجتنبون نواهيه.(3/105)
وبعد أن تُبيِّنَ الآيات الكريمة الطريق إلى الإيمان الحقيقي، تسلِّط الضوء على مرض فئة من الناس اتخذت من الدعوة إلى دين الله حرفةً ووسيلة لها، كي توصلها إلى النفوذ والشهرة، وتحقِّق لها مآرب وغايات دنيوية؛ تلك الفئة الَّتي أتقنت دورها فراحت تمارس التمثيل المقنع، وتوجِّه النُّصح للآخرين، لتبدو بمظهر المصلح النبيل، في الوقت الَّذي لا تلتزم شخصياً بما تأمر به، فكانت أفعالها تناقض الفكر الَّذي تدعو إليه وتقوِّض أركانه. وإذا تفشَّى هذا المرض في أوساط الدعوة إلى الدِّين، فإنه يصبح بالغ الخطورة لأن الدعوة إليه قولاً ومخالفتَهُ سلوكاً من قِبَلِ الداعين إليه، لا تقود الناس إلى الشَّكِّ بالدعاة وحدهم فحسب، بل إلى الشكِّ بما يدعون إليه أيضاً، فيتزعزع إيمانهم وتتشتت أفكارهم، لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً،?فيفقدون الثقة برجال الدعوة كافَّة، الصادقين منهم والمدَّعين، والمخلصين منهم والمنافقين، وربَّما تولَّدت الريبة في قلوبهم تجاه الدِّين ذاته ومدى مصداقيته وصلاحه.
ولذلك كلِّه فقد أعدَّ الله لهؤلاء المسيئين عقاباً شديداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قومٍ تُقرض شفاههم بمقارض من نار. قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أُمَّتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبرِّ وينسَوْن أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟» (رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). وأخرج ابن أبي الدنيا عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به، لم يزل في سخط الله حتَّى يَكُفَّ أو يعمَلَ ما قال ودعا إليه».(3/106)
وقد استحقَّ هؤلاء وأمثالهم ذلك الوعيد، لأن كثيراً من أصحاب القلوب الصافية ينجذبون إلى النور الَّذي تحمله الرسالات السماوية، ولكنَّهم يصطدمون بالسلوك الخاطئ لهؤلاء الدعاة المنحرفين، وتختلط في عقولهم المفاهيم فيتوهَّمون وجود الخلل والقصور في الرسالة ذاتها، فيتراجعون ويتقاعسون حتَّى تنطفئ جذوة الحماس في صدورهم، ويفقدون الرغبة بالتمسُّك بمبادئها، ويتَّخذون لأنفسهم مساراً جديداً بعيداً عنها، ولرُبَّما انقلبوا أعداءً عليها، وكان حريٌّ بهم أن يُعملوا فكرهم، ويفرِّقوا بين الرسالة ومضمونها من جهة، وبين المنتسبين إليها من جهة أخرى، ومدى جدارتهم بتمثيلها والدعوة إليها. وهكذا فإن هذه الآيات الكريمة تثبِّت أهمَّ الركائز الأساسية لمدرسة الدعاة إلى دين الله، تلك المدرسة الَّتي تُخرِّج دعاة حقيقيين، يحسنون تمثيل الأفكار والفضائل الَّتي ينشرونها بين الناس. ثمَّ تستمر الآيات في توجيهاتها القيِّمة، فترشد المخاطبين إلى الاستعانة بالصبر والصَّلاة في مواجهة العقبات والعوائق الَّتي تحول دون الرُّقيِّ في درجات الحبِّ الإلهي، والتعاون الإنساني.
فالصَّبر هو الزَّاد الَّذي لابدَّ منه لمواجهة كلِّ مشقَّة؛ وأهمُّ المشقَّات: الخضوع للحقيقة ومجاهدة النفس والهوى، وترك العادات الجاهلية المناقضة للدِّين، ونبذ الأطماع والمكاسب المتولِّدة عنها، والالتجاء إلى الله تعالى ووصاياه واتِّباع الدِّين الحق.(3/107)
والصَّلاة طاقة يستمد منها الإنسان الثبات على الحقِّ والقدرة على التمسُّك به، بها يتحوَّل شكُّه يقيناً وضعفه قوَّة. وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها كبيرة، أي أنَّ فيها مشقَّةً وثقلاً، إلا على الخاشعين المتواضعين لِعِظَمِ شأنها، فلا يُطِيقُ الالتزام بقواعدها ولا يحسن إقامتها، إلا الخاشعون الَّذين ترقى صلواتهم بهم من مقام الإلزام إلى مقام الالتزام، ومن مقام التكليف إلى مقام الكَلَفِ بها، فالصَّلاة فريضة محكمة وكتاب موقوت، بَيْدَ أنها في قلوب الخاشعين شوق والتزام ووصال دائم.
وباب هذه المدرسة مفتوح، لا يَلِجُهُ إلا أولئك الَّذين أضيئت قلوبهم بحبِّ الله والخوف منه، الَّذين يتَّقون الله حقَّ تقاته، فيحفظون القلب واليد واللسان وسائر الجوارح من كلِّ إثم وشر. وهم موقنون بلقاء الله وحسابه، أعمالهم متناسقة مع هذا اليقين، فهم لا يكفرون النعمة ولا ينقضون العهد، ولا يَخْشَوْنَ أحداً إلا الله، صادقين مصدِّقين بالقرآن الكريم، يعبدون الله حقَّ عبادته، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسابقون إلى الخيرات، ويتجمَّلون بالصبر ويستعينون بصلتهم الدائمة بالله تعالى، فمصيرهم جميعاً إليه ليجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهودُ ولا النَّصارى حتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إنَّ هُدى الله هو الهُدى ولئنِ اتَّبَعتَ أهواءهُم بعد الَّذي جاءكَ من العلم مالكَ من الله من وليٍّ ولا نصيرٍ(120) الَّذين آتيناهُمُ الكتابَ يتلونهُ حقَّ تلاوتِهِ أولئكَ يؤمنونَ به ومن يَكفُر به فأولئكَ هم الخاسرونَ(121)}
ومضات:(3/108)
ـ إن بعض أرباب المصالح والمتنفِّذين من النصارى واليهود، الَّذين عاصروا نزول القرآن الكريم،لم يؤمنوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم رسولاً من عند الله، بل اشترطوا عليه في سبيل ذلك أن يجعل من مضمون رسالته ودينه دعامة تؤيِّد ما عملوه من تحريف في الكتب الَّتي جاءتهم من عند الله تعالى.
ـ إن الإسلام الحنيف هو الدِّين الحقُّ، ويجب ألا يداخلَ المسلمَ أدنى شكٍّ أو ريبة حول حقيقته وصدقه، بل عليه أن يتمسك به بكلِّ ثبات وعزيمة، لاسيَّما وقد تكفَّل الله بحفظ ركنه الأساسي ألا وهو القرآن الكريم.
ـ إن من يساوم على ما عنده من الحقِّ واليقين، يضيِّع جدارته بهذا الحقِّ، ويفقد مصداقيته، ثمَّ لا يكون له من الله تعالى إلا الخذلان والعقاب.
ـ من اليهود والنصارى من هو متمسك بكتاب الله القويم، ويستنكر ما طرأ عليه من التحريف والتغيير، ويؤمن بالقرآن الكريم كتاباً من عند الله، وبمحمَّد رسولاً، وبالإسلام ديناً. وينبغي على المسلمين أن يقيموا معهم جسور الحوار والتفاهم، من أجل إعمار الأرض ونشر السَّلام في ربوعها.
ـ من نأى بنفسه عن التبصُّر بما جاء في القرآن الكريم من الحقِّ والهدى والعلم والحكمة، فقد حجبها عن مكاسب روحية وفكرية حضارية لا تُقدَّر بثمن، وهذا هو الخسران الحقيقي؛ فالخسارة العظمى والطامَّة الكبرى في أن يخسر الإنسان أمراً لا يُعوَّض.
في رحاب الآيات:(3/109)
تنبئ هذه الآيات الكريمة بأن الكثير من اليهود والنصارى، بصفتهم ينتمون إلى كيانين قائمين، دينياً وسياسياً، ما كانوا لينخرطوا في أي رسالة أو فكر خارجين عن كيانهم، بل إنهم سيحاولون جذب وتطويع أي رسالة جديدة، للانتفاع بها في خدمة كيانهم ومصالحهم الخاصَّة. لذا يجب الانتباه إلى طبيعة الأهواء المستقرَّة في نفوس كثير منهم، والمستحكمة في سلوكهم، والَّتي تحجبهم عن رؤية انفتاح الإسلام ودعوته العالمية للأخُوَّة والمحبَّة بين الجميع، وكذلك الحذر من رغبتهم الشديدة في السيطرة والتحكم.
والآية بعد هذا وذاك، تتحدَّث عن وجود فئة من أهل الكتاب يتلون كتابهم حقَّ تلاوته، ويؤمنون بصدق ما أُنْزِلَ فيه، فترسي بذلك قواعد الحوار العقلاني السليم معهم، حوارٌ قائمٌ على أساس إقرار الحقِّ لا على أساس التنازل عنه أو المساومة عليه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمل أن يبادر أهل الكتاب قبل غيرهم إلى الإيمان برسالته، الَّتي جاءت مصدِّقة لما بين أيديهم من الكتب السماوية، إلا أنَّ كثيراً منهم أعرضوا عنه، فشقَّ ذلك عليه، لأن إعراضهم لم ينجم عن نقص في حجَّة رسالته أو ضعف فيها، ولكنَّها الأهواء، فهي الَّتي جعلتهم يقفون منه هذا الموقف المعادي. وفي اللحظة الحاسمة، يتوجَّه الخطاب من الله لرسوله بصيغة الأمر الحازم، ولهجة التوجيه الهادف مبيِّنة له الطريق الَّذي عليه أن يسلكه، فيقول: {قلْ إنَّ هُدى الله هو الهُدى}، أي دع ـ يا محمَّد ـ التفكير فيما يرضيهم وأقبل على تبليغ رسالة الله لأنها الحقُّ الَّذي بعثك به.(3/110)
وفي هذا تحذير للرسول من اتِّباع ما أضافه أهل الكتاب إلى دينهم من بدع، وجعلوها أصلاً من أصول شريعتهم، بعد ما حصل له من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي، الَّذي علم منه، أنهم يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعه، وأنهم نَسُوا حظاً ممَّا ذُكِّروا به، ويحذِّره الله تعالى بأنه سيتخلى عن نصرته إذا فعل ذلك، لأن اتِّباع الهوى لا يكون طريقاً للهدى، وإذا لم ينصره الله ولم يتولَّ شؤونه فمن ذا الَّذي ينصره؟.
على أنَّ هذا التحذير وإن كان موجَّهاً للنبي صلى الله عليه وسلم ـ الَّذي عصمه الله من الزيغ والزلل، وأيَّده بالكرامة والثبات ـ فهو في جوهره إنذار للناس كافَّة لمحاذرة المحاباة في دين الله والمساومة على أصول الشريعة وأحكامها. وقد جرى الكلام على هذا النمط ليُرْشِدَ المؤمنين كي يصدعوا بالحقِّ وينتصروا له، ولا يبالوا بمن خالفه مهما قويت شوكته، واشتدَّ أمره. فمن عرف الحقَّ واطمأنَّ إلى أن الله وليُّ أمره، لا يخاف لوم اللائمين ولا إنكار المنكرين، كما أن ذلك يزيده حرصاً على إبقاء باب الحوار مفتوحاً بينه وبين سائر المفكرين الأحرار، الَّذين ينشدون الحقيقة بعقل منفتح وروح صافية، حواراً قائماً على الحكمة والرغبة الصادقة، في نزع فتيل النزاعات الَّتي افتعلها الشيطان لتفجير كلِّ تقارب بين بني البشر أو محبَّةٍ أو تآخٍ. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بتوحيد جهود المؤمنين العقلاء من الشرائع السماوية كافَّة، ممن ثاروا على الجهل والتعصب، وارتكزوا على العقل الناضج والإيمان الربَّاني العميق.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله وآمنوا برسولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ من رحمتِه ويجعل لكم نوراً تمشونَ به ويغفرْ لكم والله غفورٌ رحيم(28) لئَلاَّ يعلَمَ أهلُ الكتابِ ألاَّ يقْدرونَ على شيءٍ من فضْلِ الله وأنَّ الفضْلَ بيدِ الله يُؤْتيهِ من يشاءُ والله ذو الفضْلِ العظيم(29)}
ومضات:(3/111)
ـ نداء إلى المؤمنين من أهل الكتاب لكي يستشعروا خوف الله ومحبَّته في قلوبهم، وليؤمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم ليكون جزاؤهم جزاءً مضاعفاً موفوراً، فتتنزل عليهم الرحمات الإلهية، ويغمرهم نور إلهي خاص يُشِعُّ في أعماق قلوبهم وحنايا جوارحهم، فيسيروا به بين الناس بالحقِّ والعدل، وينالوا المغفرة والفضل الإلهي العظيم.
ـ لا يستطيع أتباع أي شريعة تخصيص رحمة الله وفضله بهم، دون غيرهم من الناس، فالعطاء كلُّه من الله تعالى والفضل بيده يعطيه من يصدق في طلبه، والله جلَّ وعلا هو صاحب الخير العميم والفضل العظيم.
في رحاب الآيات:(3/112)
النداء مُوجَّه إلى المؤمنين حصراً، لأن القلب الفارغ من الإيمان لا جدوى من مناداته، فهو أَصَمُّ لا يسمع، وأعمى لا يُبصر، من أجل ذلك نرى الله عزَّ وجل ينادي عباده بهذا النداء المحبَّب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} لأن فيه لمسة قدسية لقلوبهم، واستثارة للصلة الَّتي تربطهم به، وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقواه. فعندما يتَّقي المرء ربَّه ويحاذر كلَّ ما يبعده عنه يزداد قرباً منه، وهو قُرب معنوي ليس بالمادِّي. واقتراب العبد من ربِّه يعني تحلِّيه بالصفات القويمة الَّتي يحبُّها الله، واقتراب الله من العبد يعني إنزال رحمته وبركته على قلبه، وجعله مهبطاً للنور الإلهي. هذا النور الَّذي يحرِّك عقل المؤمن ليميز الصواب من الخطأ، ويحرِّك قلبه ليصبح منارة تنأى به عن طريق الشر، وتدلُّه على طريق الهدى، وتهديه سواء السبيل. وتقترن الدعوة إلى تقوى الله بالدعوة إلى الإيمان برسله جميعاً، وهي دعوة موجهة إلى أهل التوراة والإنجيل، لأن يتَّقوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه، وأن يؤمنوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان، وما ينبثق عن ذلك من آثار إيجابية، ليعطيهم الله نصيبين من رحمته، وهو تعبير بديع، فرحمة الله لا تتجزأ، وبمجرَّدِ مَنْحِها لإنسان يلمس حقيقتها. ولكنَّ هذا التعبير فيه زيادة امتداد وشمول للرحمة، وزيادة فيض من رحمة الله لإيمانهم بالأنبياء قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ إيمانهم بمحمَّد بعد أن بُعث نبياً، وزيادة في العطاء بأن يجعل الله لهم هدى يستبصرون به من العمى والجهالة، وهي هبة يودعها الله القلوب الَّتي تستشعر تقواه، وتؤمن برسله حقَّ الإيمان، هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وتظهر لهم الحقيقة من وراء الحجب والحواجز فلا تلتوي بهم الطريق.(3/113)
ولكنَّ الإنسان مهما وُهب من النور.. إنسان يقصِّر حتَّى ولو عرف الطريق.. إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله، والله واسع المغفرة يغفر لمن يشاء، رحيم بعباده متى أنابوا إليه. روى الشعبي عن أبي بُردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة يؤتَوْن أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه فله أجران، ورجل أدَّب أَمَتهُ فأحسن تأديبها ثمَّ أعتقها وتزوَّجها فله أجران» (رواه البخاري ومسلم).
وقد كان بنو إسرائيل يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحبَّاؤه، وكان أهل الكتاب يقولون: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وقالوا: لن يدخل الجنَّة إلا من كان هوداً أو نصارى. لكنَّ الله تعالى يُبشِّر الَّذين آمنوا باستحقاق رحمته وجنته ومغفرته، حتَّى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شيء من فضله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وهو غير مقصور على قوم ولا محجوز لطائفة، بل هو منساب بغير حدود، والله ذو الفضل الكبير، وفي هذا حض واستثارة على التسابق إلى الجنَّة وإلى رحمة الله ورضوانه.
يستفاد ممَّا سبق: أن الإيمان وحدة متكاملة وأنه يشمل الإيمان بالله ورسله جميعاً ـ وهذا شرط قبوله ـ وأن رحمة الله لا ممسك لها، وليست لقوم دون قوم وإنما هي مشاعة لكلِّ من آمن بالله تعالى واتَّقى، كائناً من كان.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قفَّينا على آثارِهم برُسُلِنا وقفَّينا بعيسى ابنِ مريمَ وآتيناهُ الإنجيلَ وجعلنا في قلوبِ الَّذين اتَّبعوهُ رأفَةً ورحمةً ورهبانيَّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهِم إلاَّ ابتغاءَ رضوانِ الله فما رَعَوْها حقَّ رعايتِها فآتينا الَّذين آمنوا منهم أجرَهم وكثيرٌ منهم فاسقون(27)}
ومضات:(3/114)
ـ توالت الرسل والرسالات حتَّى ظهر المسيح عليه السَّلام حاملاً الإنجيل المقدَّس، فانجذبت إليه أفئدة الحواريين ومن اتَّبَعَهم بالرحمة والحنان. ثمَّ انقطع بعض أتباع السيِّد المسيح إلى العزلة والخلوة والعبادة والتَبَتُّل بشكل مُفْرط ومُبْتَدَعٍ من عند أنفسهم، رغبةً منهم في جلاء قلوبهم والاستزادة من رضا الله بهذه الطريقة، ولكنَّهم أتعبوا أنفسهم بهذا الالتزام، وأتعبوا مَنْ وراءهم، ولم يتمكن إلا القليل منهم من متابعة المسيرة بصدق وعزيمة، فمن ثبت منهم نال أجره، ومن تخاذل وتهاون فقد بَعُدَ عن طريق الله في حقيقته ولو كان مظهره ينمُّ عن غير ذلك.
في رحاب الآيات:
لقد جاء السيِّد المسيح عليه السَّلام في زمن انغماس الناس في المادِّيات بشكل مفرط، فكان لابدَّ من عطاء روحي سماوي متميز، لينشئ في قلوب الناس من جديد، التوازن بين المادَّة والروح، بين القلب والقالَب. وهكذا كان، حيث أفاض الله سبحانه وتعالى على قلوب أتباع السيِّد المسيح، الرقة والحنان، والرأفة والرحمة، فاكتسبوا روحانية شفافة عذبة، أنستهم عالم المادِّيات، وشَدَّتْهم إلى عالم السماء والتجلِّيات الإلهية، فعزفوا عن متع الحياة المباحة، وعزلوا أنفسهم في صوامع وأديرة، وقلوبهم مفعمة بالطرب والسرور، مُشعَّة بالنور والصفاء.(3/115)
هذه هي الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح عليه السَّلام وروحها السمحة، وتطهُّرها الروحي، فالرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في سلوك المؤمنين حقيقةً برسالته مِمَّن أحسنوا اتِّباعه. لكنَّ بعضهم ابتدع الرهبانية ابتغاء رضوان الله، وابتعاداً عن أوضار الحياة وأوساخها، وتبتُّلاً إلى الله، وإخباتاً له، لم يفرضها الله عليهم ابتداءً، ولكنَّهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم، صاروا ملزمين أمام الله بأن يراعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهُّرٍ وترفُّع وقناعة وعفَّة، وذكر وعبادة، ممَّا يحقِّق في أنفسهم حقيقة التجرُّد لله الَّتي قصدوها بهذه الرهبانية. إلا أن أغلبهم فيما بعد لم يستطيعوا الحفاظ على هذه القِيَم الروحية، بل ابتعدوا عنها إلى متاهات المصالح الشخصية، وإلى سراديب الدنيا ومتاعها، وانتهت إلى أن أصبحت طقوساً وشعائر خالية من الروح، وقد اتخذها كثير منهم مظهراً عارياً عن الحقيقة، فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل. أخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشَدَّدَ عليكم، فإن قوماً شدَّدوا على أنفسهم فَشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات».
وهكذا آتى الله تعالى الَّذين صدقوا منهم إيماناً صحيحاً طُبعت آثاره في أعمالهم، فزكَّوا نفوسهم، وأخبتوا لربِّهم، وأدَّوا فرائضه، وسيؤتيهم أجورهم كاملة. وأمَّا الَّذين فسقوا عن أمر الله، واجترحوا الآثام، وظهر فسادُهم فقد باؤوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم. فالله جلَّ وعلا لا يأخذ الناس بالمظاهر، ولا بالطقوس، وإنما يأخذهم بالعمل والنيَّة، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك، وهو الَّذي يعلم خبايا القلوب، وخفايا الصدور.
الفصل السادس:
صفات المعرضين عن الدعوة
سورة البقرة(2)(3/116)
قال الله تعالى: {ومنَ النَّاسِ مَن يقولُ آمنَّا بالله وباليومِ الآخِرِ وما هُم بِمُؤمنين(8) يُخادِعونَ الله والَّذين آمنوا وما يَخدَعون إلاَّ أنفُسَهُم وما يَشعُرون(9) في قلوبهم مَرضٌ فزادَهُمُ الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يَكْذِبون(10) وإذا قيلَ لهم لا تُفسدوا في الأرضِ قالوا إنَّما نحن مُصلِحون(11) ألا إنَّهم همُ المفسدونَ ولكن لا يشعُرون(12)}
سورة التوبة(9)
وقال أيضاً: {المنافقونَ والمنافقاتُ بعضُهُم مِن بعضٍ يأمرونَ بالمنكرِ وينْهَوْنَ عن المعروفِ ويقبِضونَ أيْدِيَهُم نَسُوْا الله فَنَسِيَهُم إنَّ المنافقين همُ الفاسقون(67)}
ومضات:
ـ هناك نفر من الناس يدَّعون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وضمائرهم، يخشَوْن الناس ولا يخشون الله، يَرْتَدُون ثوب الإيمان، ليخفوا به ضلالهم وغيَّهم، بينما قلوبهم جوفاء خالية من محبَّة الله وخشيته؛ هُمُ المنافقون بلا جدال.
ـ يظن المنافقون أنهم يخدعون الله والمؤمنين، وهم في الواقع يخدعون أنفسهم، ويسيئون إليها، لأنهم واقعون تحت سيطرة الضلال والهوى، اللذَيْن يقودانهم إلى الانزلاق في مهاوي التردِّي والهلاك.
ـ يفتقر المنافقون إلى يقظة الشعور، فقد تعطَّلت في نفوسهم كلُّ الأحاسيس الَّتي تُميِّز الصواب من الخطأ، ولولا ذلك لأَنصفوا أنفسهم وحاسبوها، وراقبوا أفعالهم بدلاً من أن ينجرفوا في ريائهم وخداعهم.
ـ يتسلَّط المرض على قلوب المنافقين، فيُضْعِفُ إدراكهم وتعقُّلَهم في فهم الدِّين ومعرفة حقائقه وحِكَمِهِ، ممَّا يؤدِّي إلى استفحال الشكِّ والريبة والنفاق في أنفسهم بشكل عميق، حتَّى إنهم لا يحاولون الاستماع إلى من يرشدهم إلى الطريق المستقيم، ويفتح بصائرهم أمام نور الحقيقة، وعلى النقيض من ذلك فإنهم يشيحون بوجوههم عنه، ويبرِّرون ضلالهم بمبرِّرات واهية، ويجعلون له وجهاً مغايراً لحقيقته بادِّعائهم الصلاح والإصلاح.(3/117)
ـ الإفساد صفة أقام عليها المنافقون، وقد تمكَّنَت منهم وتغلغلت في أعماقهم، وبدت على صفحات أعمالهم، ولكنَّهم لا يشعرون بها، لأن حسَّهم الإيماني قد تعطل عن أداء وظيفته بسبب ما غشيه من ظلام الكفر والنفاق. ومهما اجتهدوا في إخفاء معتقداتهم الباطلة المزيَّفة بتغليفها بأجمل القشور، فإن حقيقتها ستنكشف قريباً وسيعلم الناس جميعاً بأن هؤلاء هم المفسدون.
ـ القاسم المشترك الَّذي يجمع بين المنافقين والمنافقات هو دفعهم للخير وحبُّهم للأذى، وكثرة الشرِّ، وشدَّة البخل، وهم يجتمعون على ذلك لتحقيق نواياهم الفاسدة الَّتي أبعدتهم عن طريق الله تعالى وأنستهم ذكره، فتخلَّى عنهم وأوكلهم لشرور أنفسهم وأعمالهم.
في رحاب الآيات:
عندما أصبح للدعوة الإسلامية كيانها المستقل، وبدأت نواة الدولة الإسلامية تظهر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، التفَّ حوله عليه السَّلام الكثير من الناس، منهم المخلصون الَّذين أتوا رسول الله بقلب سليم، ومنهم المخادعون الَّذين كانوا يُظهرون الإيمان، ويُبطنون الكفر، لتحقيق غايات في نفوسهم، كالوصول إلى مكاسب معينة، أو الحفاظ على مراكزهم الاجتماعية، أو الإبقاء على مناطق نفوذهم ومنافعهم الخاصَّة. وقد شكَّلوا بذلك خطراً على المؤمنين، إذ أتوهم من مأمنهم، فصلَّوْا معهم، وعبدوا الله على مرأى منهم.. ولكنَّهم عندما يخلون بأنفسهم أو بأمثالهم كانوا يُظهرون كفرهم على حقيقته، ويخططون لإفساد بنية المجتمع الإسلامي الطاهر النظيف، القائم على المحبَّة وعلى مظاهر العطف والتسامح، بل وأكثر من ذلك فإنهم كانوا يطَّلعون على أسرار المؤمنين ويذيعونها لأعدائهم، بغية تقويض دعائم هذه الدولة الفتية.(3/118)
وتأتي الآيات الكريمة لتكشف حقيقة أمرهم، ولتظهر زيف إيمانهم، ولتقرر بأنهم غير مؤمنين، بل هم قوم مخادعون لله وللدعوة وللمؤمنين كافة، وأنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم، وهم لا يشعرون بأن الله تعالى عليمٌ بخداعهم، وأَنْ لا سبيل لهم على المؤمنين فهم في رعايته وحفظه.
إن هذه الفئة من الناس قد استفحل في قلوب أفرادها المرض، واستقرَّت فيها علل خبيثة؛ فالقلب هو ملتقى المدارك والإرادات في الذات الإنسانية، ومرضه هو التشتُّت في حقل الأهواء، وانقياد الجوارح لسلطة الغرائز، ممَّا يَخْرُجُ بالإنسان عن حدِّ الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، ويحيد به عن الطريق المستقيم، ثمَّ يودي به إلى الهلاك الروحي، ممَّا يجعله محلاً لمقت الله، مستحقاً لما يتفاقم فيه من العلل والآفات.
ومن كمال حكمة الله جلَّ جلاله أنه يُعبِّر عن جرائم المنافقين بصفة المرض، فكأنه يريد أن يجعل من المسلم الداعية طبيباً يعالج أمراض الناس، وليس قاضياً يحاكمهم ويدينهم. فالبحث عن العلَّة والشروع بالعلاج أمرٌ لا بدَّ منه، لأن المرض يبدأ هيِّناً ثمَّ يستفحل ويصبح مستعصياً. وقد بيَّن الله تعالى أن سبب عذاب هؤلاء المنافقين هو كذبهم الَّذي لا مبرِّر له، للتحذير من الكذب وإظهار آفاته؛ لأنه ما فشا في أُمَّة إلا كثرت فيها المفاسد، وشاعت فيها الجرائم، فهو مصدر كلِّ رذيلة ومنشأ كلِّ كبيرة.. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرَّى الكذب حتَّى يكتب عند الله كذَّاباً» (أخرجه الستة).(3/119)
وحين كشفت العناية الإلهية أمر هؤلاء المخادعين، أخذهم المؤمنون بالنصح والإرشاد، وحاوروهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيَّنوا لهم أن في خداعهم إفساداً ونشراً للفتن وزرعاً للأحقاد، لكنَّهم أعرضوا. وكذلك لم يقفوا عند حدِّ تجاهل تلك النصائح وصرف آذانهم عن سماعها فحسب، بل تمادوا في غيِّهم وادَّعَوا بأنهم مصلحون، وتجاوزوا دائرة الكذب والخداع، إلى السفه والتزوير والادِّعاء بأنهم إنما يعملون من أجل صالح المجتمع ومنفعته. وهم يقولون ذلك لأن الموازين مختلَّة في عقولهم، ولأنهم لا يخلصون سريرتهم لله، فيتعسَّر عليهم أن يشعروا بفساد أعمالهم، لاسيَّما وأن ميزان الخير والشرِّ، أو الصلاح والفساد، يتأرجح في نفوسهم، حيث يميل مع الأهواء الذاتية والمصالح الآنية، ألا ساء ما يحكمون.(3/120)
لقد كان ما تقدَّم عرضاً لصور جرت في المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنَّنا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان، نجدها نموذجاً متكرِّراً في أجيال البشرية جميعاً. إننا نجد هذا النوع من المخادعين يلتفُّون حول كلِّ دعوة أو قضية، تحمل صراعاً بين الخير والشَّرِّ، في أي مكان من العالم؛ أعمالهم الظاهرة تخالف بواطنهم، وإفسادهم متواصل باستمرار، تؤجِّجه نار الحقد والحسد اللذَيْن يوغران صدورهم ضد المصلحين الحقيقيين، معتقدين أنهم بذلك قد يطفئون نور العدل والخير في الأرض، والله مُتِمُّ نورِهِ ولو كره الكافرون، ولهم في الآخرة عذابٌ ذو وجهين مثل عملهم. جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة إلى الجنَّة حتَّى إذا دَنَوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعدَّ الله تعالى لأهلها، نُودوا: أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع بمثلها الأوَّلون والآخرون، فيقولون يا ربَّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك، فيقول الله تعالى: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم فإذا لقيتم الناس لقيتوهم مخبتين تراؤون الناس وتظهرون خلاف ما تنطوي قلوبكم عليه، هِبْتُم الدنيا ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلُّوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي» (رواه الطبراني والبيهقي مرفوعاً).
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {بَشِّرِ المُنَافِقينَ بِأنَّ لَهُم عذاباً أليماً(138) الّذين يَتَّخِذونَ الكافِرينَ أولياءَ من دونِ المؤمنين أَيبْتَغونَ عندَهُم العزَّة فَإنَّ العزَّة لله جميعاً(139)}
سورة النساء(4)(3/121)
وقال أيضاً:{إنَّ المنافقين يُخادِعون الله وهو خادِعُهُم وإذا قاموا إلى الصَّلاة قاموا كُسالى يُراؤونَ النَّاس ولا يذْكُرونَ الله إلاَّ قليلاً(142) مُذَبذبينَ بين ذلك لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ ومن يُضللِ الله فلن تَجدَ لهُ سبيلاً(143) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّخذوا الكافرينَ أولياءَ من دونِ المؤمنينَ أتريدونَ أن تجعلوا لله عليكم سُلطاناً مُبيناً(144) إنَّ المنافقينَ في الدَّرْكِ الأسفلِ من النَّارِ ولن تَجدَ لهم نصيراً(145) إلاَّ الَّذين تابوا وأصْلَحوا واعتصموا بالله وأخْلَصُوا دينَهُم لله فأولئكَ مع المؤمنينَ وسوفَ يؤْتِ الله المؤمنينَ أجراً عظيماً(146)}.
ومضات:
ـ يستكمل الشارع الحكيم في هذه الآيات إشادة القاعدة العريضة والأساسية للمجتمع الإسلامي، حيث يبيِّن أشدَّ خطرٍ يمكن أن يتعرض له هذا المجتمع، ألا وهو سوء تصرُّف المتظاهرين بالإسلام من أجل غايات خبيثة، قد تؤدِّي إلى زعزعة الإيمان في قلوب معتنقيه، وترسم صفاتهم بدقَّة لكشفهم والتحذير منهم. وأهمُّ هذه الصفات ممالأتهم لأعداء الإسلام والتذلّل لهم؛ طمعاً في مكاسب دنيوية وعزٍّ زائل.
ـ تعلن الآيات أن من علامات المنافقين التكاسل عن الصَّلاة، والرياء، والإعراض عن ذكر الله تعالى، وعدم الالتزام بمبدأ أو عقيدة، لأنهم يمالئون كلَّ فكرة ونقيضها، لعلَّهم يجدون مصلحتهم في هذه أو تلك، ويتسقَّطون المنافع الدنيوية العاجلة غير مبالين بالآجلة.
ـ الوليُّ الحقيقي للمؤمن هو أخوه المؤمن، فهو يَصْدُقُه ويشدُّ من أزره ويحرص على مصلحته، أمَّا غير المؤمن فهو أسير هذه الجهة أو تلك، وهو عند حاجته ومصلحته.
ـ يزداد العذاب الإلهي للمؤذي والمخرِّب كلَّما ازداد ضرره واشتدَّ خطره على مخلوقات الله.(3/122)
ـ باب الرجاء والتوبة مفتوح دائماً، ولا أمل للإنسان في النجاة من العذاب إلا بالإخلاص لله عزَّ وجل، وإصلاح الفساد والاعتصام بالإيمان الَّذي هو حبل الله المتين.
في رحاب الآيات:
النفاق نوعان: نفاق اعتقادي، وآخر سلوكي. فالأوَّل يتعلَّق بجوهر مُعتقَد الفرد، حيث يضمر صاحبه الكفر الصريح، وهو يُظهر الإيمان في قوله وظاهر أمره. أمَّا الثاني فهو مرتبط بالسلوك والتصرُّفات البعيدة عن القيم الإسلامية عند التعامل مع الآخرين.
وتتنزل الآيات الكريمة لتكشف النوع الأوَّل من المنافقين الَّذين يُؤدُّون دورهم بإتقان، ظناً منهم أنهم يخادعون الله تعالى، وأن تصرُّفاتهم تنطلي عليه عزَّ وجل، ولكنَّه في الحقيقة هو خادعهم حيث يكشف أمرهم ويفضح سرائرهم، وينزِّل فيهم وحياً يُتلى إلى قيام الساعة، لأن أمثال هؤلاء نراهم في كلِّ مجتمع وفي كلِّ زمان ومكان.
ويذكر الله تعالى لنا مواصفات هؤلاء المنافقين بإسهاب لكي لا نقع في حبائلهم، ولا نتأثَّر بآرائهم وأفكارهم، فهم يقومون إلى الصَّلاة بكسل وخمول ظاهرين، لا أثر في وجوههم للشوق إلى التعبُّد، بل همُّهم أن يراهم الناس يؤدون ظاهر العبادات، أمَّا قلوبهم فملتوية عن طريق الإيمان الخاشع، وألسنتهم تردد القليل من كلمات الذكر بما يكفي لتأدية دورهم وتمثيلهم له.(3/123)
وقد كان همُّ هؤلاء المنافقين منحصراً في الحفاظ على المكاسب الدنيوية، لذلك كانوا يحاولون كسب وُدِّ المسلمين أملاً في مستقبل يحقِّق لهم النصر ويصون مصالحهم ومكاسبهم، ولكنَّهم كانوا في الوقت نفسه يمالئون أعداء الله، ويواصلونهم سراً ويُطلعونهم على أسرار المؤمنين، حفاظاً على خط الرجعة، ولتبقى مصالحهم أيضاً مصونة في حال انتصار الكفَّار على المسلمين، حسبما يوهمهم الشيطان ويزيِّن لهم. ومن هنا نستطيع أن نتصوَّر تذبذبهم وتأرجحهم بين الفريقين، وقد أعماهم حبُّ ذواتهم عن إدراك الحقِّ والبقاء إلى جانبه، فإذا كسب الكفار جولة انتسبوا إليهم، وإذا انتصر المسلمون انحازوا ظاهراً إليهم. وبذلك اختاروا لأنفسهم طريق الغواية والضلال، فكان مصيرهم الخسران والوبال، وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم، فاختلطت عليهم الأمور وفقدوا القدرة على التمييز.
وتتابع الآيات الكريمة تحذيرنا من محاباة الكفار، وإلقاء الود إليهم، والتعامل معهم على أنهم ولاة لنا من دون المؤمنين، وكأنها تصوِّر حال المجتمع الإسلامي المعاصر، فهو منقاد اقتصادياً وسياسياً وفكرياً وعسكرياً وأخلاقياً للمجتمع غير المسلم، الَّذي يجهد نفسه لإبقاء مجتمعنا مجتمعاً ممزقاً متخلِّفاً فقيراً، يستنزف ثرواته وطاقاته ليحوِّلها إلى أسلحة فتاكة تُغمد في صدور أبنائنا؛ حيث يشهرونها في وجوه بعضهم بعضاً، وكأن بصائرهم قد عميت، على الرغم من أن كتاب الله بين أيديهم يُحذِّرهم.(3/124)
وتعود الآية الكريمة مرة أخرى إلى ذكر النفاق والمنافقين، لنَحْذرهم أكثر من الكفَّار، لأنهم أشدُّ ضرراً وأذى، فالكفَّار لم يُخفوا كفرهم وعداوتهم، ولم يدلسوا على الآخرين، بينما المنافقون استهانوا بأوامر الله، واستهزؤوا بدينه، وخدعوا القائمين على أمر الأمَّة، وعاشوا بوجهين، فهم أشدُّ مقدرة على إيصال الأذى إلى شرايين المجتمع الإسلامي لأنهم يعيشون ضمنه، ويتصرَّفون وكأنهم منه، لذا كان عذابهم أشدَّ وأمضى، وهم في الدرك الأسفل من النار حيث منتهى التعذيب الإلهي.
أما النوع الثاني وهو النفاق السلوكي فهو ما حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كشف النقاب عنه تَبْصِرَةً للناس فقال: «ثلاث من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (أخرجه البخاري وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنه وأخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) فالكذب جبن، وإخلاف الوعد مراوغة، والخيانة غدر ونذالة، ولا يمكن أن تجتمع مثل هذه الصفات في قلب مؤمن بالله عاشق له ومنتسب إلى حضرته. وما تفشَّت هذه الأخلاق في مجتمع متماسك، إلا مزَّقته وقوَّضت أركانه وفرَّقت شمله، فيصبح لقمة سائغة بأيدي الطامعين المخرِّبين.
وفي الختام يبيِّن الله سبحانه وتعالى لنا أن أبواب المغفرة مازالت مفتوحة، وطلبات القبول الصادقة مقبولة؛ فليبادر من أسرف على نفسه إلى الدخول في رحاب الله، وليصلح ظاهره وباطنه، فيجعل قلبه ولسانه سواءً، ويُنقِّي يقينه من الشرك، وعبادته من الشوائب، فإذا تمَّ له ذلك أُدرج اسمه في قائمة المؤمنين الأبرار، الَّذين سيعطيهم الله من الأجر والثواب ما يتفق مع سعة كرمه وعظيم سلطانه.
سورة التوبة(9)(3/125)
قال الله تعالى: {والَّذين اتَّخَذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً وتفْريقاً بينَ المؤمنينَ وإرْصاداً لِمَنْ حاربَ الله ورسولَهُ من قبْلُ وليَحلِفُنَّ إنْ أردْنا إلاَّ الحسنى والله يشهدُ إنَّهم لكاذبون(107) لا تَقُمْ فيهِ أبداً لَمسجدٌ أُسِّسَ على التَّقوى من أوَّلِ يومٍ أحقُّ أن تقومَ فيهِ فيهِ رجالٌ يحبُّونَ أن يَتَطهَّروا والله يحبُّ المُطَّهِّرين(108) أَفَمَن أَسَّسَ بُنيانَهُ على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أم مَن أَسَّسَ بُنيانَهُ على شفا جُرُفٍ هارٍ فانهارَ به في نارِ جهنَّمَ والله لا يهدي القومَ الظَّالمين(109)}
ومضات:
ـ إن أكبر خطر كان وما يزال يهدِّد بنية المجتمع هو ظهور من يتظاهر بحمل راية الدِّين ورفع شعاراته، في سبيل تجميع المؤمنين البسطاء والمتحمِّسين حوله، بغية استخدامهم كمعاول تخريب وهدم لسائر نشاطات المجتمع الآمن المسالم. وقد نجحت هذه الفئة الباغية المضللة في تنفير الناس منهم، بعد أن أظهروا الدِّين على هيئة أداة للتعصب والتنكيل والتفريق.
ـ بيت الله، هو البيت الَّذي حوى المؤمن الحقيقي، طاهر القلب صافي النوايا، والَّذي تكون حياته سلام، وعمله سلام وإنتاجه سلام، وهو التقي النقي الوَرِع، الَّذي يربط القلوب ويوحِّدها بكلامه وتصرُّفاته، ممَّا يعطي ما يبنيه صفة الديمومة والأفضلية.
ـ من ينتهك حرمة بيت الله ويتخذ منه مجلساً للنفاق وإثارة الخوف وبثِّ الذعر في صفوف المؤمنين فإنه يقوم بعمل متصدِّع الأركان، سُرْعان ما ينهار أمام قوَّة الحقِّ والإيمان، ومصيره الخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الدار الآخرة، وهذا هو مصير الظالمين.
في رحاب الآيات:(3/126)
إن الإسلام دين يعارض التفرقة والتشرذم، ويدعو إلى الوحدة والانسجام، لتكون الأيادي متشابكة معتصمة بحبل الله المتين. ومنذ أهَلَّ على العالم، وقامت دولته تحت إشراف متعهِّدها وبانيها محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، نجد أناساً يحاولون تفريق المسلمين وهم يدَّعون حمل راية الإسلام، إمَّا عن طريق المزايدة على المسلمين، بالتعصب والتشدُّد والقسوة على أنفسهم عند تطبيقهم مبادئ الإسلام، مدَّعين أن ذلك أقرب للتقوى، وإما بإقامة تَجَمُّعات منعزلة بعيدة عن قلب الدعوة ومركزها، بغية تحقيق مآرب عدوانية، وهم يتستَّرون وراء أقدس حرم للمسلمين ألا وهو المسجد.(3/127)
وقد وُجد أشباه هؤلاء المنحرفين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وبَنَوْا لأنفسهم مسجداً تحت سمعه وبصره، وقد اشتُهِرَ باسم مسجد الضِّرار، لأنهم جعلوا منه وِكْراً ومركزاً يجتمع فيه معارضو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيدبِّرون المكائد الشرِّيرة والضرر ضد الإسلام والمسلمين، بغية تفريق المؤمنين وتمزيق وحدتهم، وتقوية الكفر وتسهيل أعماله، والتَّشاور فيما بينهم للكيد لرسول الله والطعن به وبصحابته، واستقطاب كلِّ من حارب الله ورسوله حيث يجد في ذلك المسجد مقرّاً له، وقوماً مستعدِّين للتحالف معه. والهدف من ذلك كلِّه هو تفريق المسلمين والحيلولة دون اجتماعهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد واحد، كي لا يتمَّ لهم حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، فيكون نواةً لتحقيق مقاصد الإسلام الاجتماعية. إن هذه الحركة النفاقية الخبيثة لم تصرِّح عن هدفها جهاراً، بل راحت تستر غاياتها الهدَّامة بمظهر إسلامي كي تموِّه باطلها بقناع محبَّب جميل. ولكنَّ الله الَّذي لا تخفى عليه خافية، والَّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم وحيداً في هذه المعركة، بل أيَّده بروح القدس جبريل، ويهبط الوحي الأمين فيعرِّيهم، ويكشف بُرْقُعَ ادعائهم للإسلام، ويفضح حقيقة الكفر الكامن في أعماقهم، لذلك يَأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهدم مسجدهم، ولو فعلها غيره لقامت الدنيا ولم تقعد، ولكن فعلها الَّذي يحرص كلَّ الحرص على سلامة البناء الداخلي للمسلمين، ويعلم بوحي الله تعالى أين تكمن مصلحتهم، ولو كانت في هدم بناء يَتَّخِذ اسم المسجد. فوجود المنافقين شريحةً في المجتمع الإسلامي أمر طبيعي، لأن الإسلام على الرغم من عظمته ونصاعته ووضوحه،لم تتقبله جميع القلوب بمستوى فعَّال واحد، فبعضها دخل الإسلام إليها ونجح في قلب تربتها، واقتلَعَ أشواكها وزرع مكانها ورداً وريحاناً، وبعضها الآخر كان صلداً(3/128)
استعصى على التغيير، فبقيت أرضها قاحلة لا تنبت إلا الأشواك الَّتي تدمي يد من يحاول لمسها.
وهذه سُنَّةُ الله في خلقه حيث ترك كلَّ إناء ينضح بما فيه، وبذلك يظهر فضل الطائعين على العاصين، وامتياز الأخيار عن الأشرار. لكنَّ عناية الله تعالى اكتنفت الفئة الصالحة، فلم يُمكِّن أصحاب النفوس الخبيثة والقلوب المغلَّفة بالنفاق من تفريق جموع المسلمين، لذلك حاربهم النبي الكريم بأمر منه سبحانه وتعالى على الرغم من ادعائهم الإيمان، وأنهم يجمعون ولا يفرِّقون، ويُسَهِّلون ولا يشدِّدون، ومهما كان طابَعُ عملهم إسلامياً، وفي ظاهره خدمة لدين الله وأتباعه، فإنه في حقيقته تفريق للمسلمين وتمزيق لوحدتهم، وسعي لهدم المبادئ الَّتي جاء بها الدِّين الجديد.(3/129)
ولا تزال هذه الصورة تتكرَّر، ويبنى مثل هذا المسجد حتَّى يومنا هذا، على أشكال تلائم تقدُّم الوسائل الخبيثة الَّتي يتَّخذها أعداء هذا الدِّين، وكلُّها تظهر في صورة نشاط بريء ظاهره مصلحة المسلمين وخدمتهم، وباطنه أبعد ما يكون عن ذلك. فمسجد الإسلام هو مسجد الفئات المتحابَّة المتراصَّة المتراحمة، الَّتي تعانقت قلوبها على حبِّ الله وطاعته، إنه مسجد اللُحْمَةِ المتماسكة والوحدة بأكمل صورهما، ويبقى هذا المسجد شامخاً بنيانه، متيناً أساسه إلى قيام الساعة، لأنه شُيِّدَ على أسس قوية ودعائمَ راسخةٍ من حبِّ الله وإقامة شعائره، وتأليف قلوب المسلمين، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. ورواد هذا المسجد رجال مؤمنون عابدون، طهَّروا أنفسهم بدموع الخشية من الله، وزكَّوها بنور الذكر والقربى إلى الله، وتجاوزوا شهواتهم في سبيل الوصول إلى خالقهم، فهؤلاء يحبُّون الله ويحبُّهم الله، وإنَّ هذا التفاعل يُتَرْجَم في أخلاقهم وسلوكهم وأعمالهم وأقوالهم ومعاملاتهم مع الجميع. أمَّا مسجد التفرقة والنفاق فهو ركام شُيِّد فوق ركام، ينهار تحت أوَّل ضربة معول تُوَجَّهُ إليه ليصبح هباءً منثوراً، وكأنما بُنيَ على طرف مكان شاهق أرضه رملية غير متماسكة، فلا يكاد يرتفع حتَّى يتداعى وينهار، فهو محكوم عليه بالسقوط قبل بنائه، وهذا السقوط مادي ومعنوي، فالأوَّل هو انهيار بنائه، والثاني دخول أفراده جهنم، ليَصْلَوا نارها، هم ومن وراءهم، من المنافقين والمغرضين، أعداء الحقِّ الَّذين سلكوا طريق الغواية، وابتعدوا عن طريق الهداية.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {وقد نزَّلَ عليكُم في الكِتابِ أنْ إذا سمعتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بها ويُسْتَهْزَأُ بها فلا تَقْعُدوا معهُم حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيرِهِ إنَّكم إذاً مثْلُهُم إنَّ الله جامِعُ المنافقينَ والكافرينَ في جَهنَّمَ جميعاً(140)}
سورة الأنعام(6)(3/130)
وقال أيضاً: {وإذا رأيتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتنا فأعْرِضْ عنهُم حتَّى يخوضُوا في حديثٍ غيرِهِ وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيطانُ فلا تقعدْ بعد الذِّكرى مع القومِ الظَّالمينَ(68)}
ومضات:
ـ إنَّ المؤمن يعافُ حضور مجلسٍ تُتَّخذ فيه آيات الله تعالى سخرية وهزواً، فهو غيور عليها لأنها تمثل صلب عقيدته، والإطار الروحي الَّذي يَحْكُمُ جميع تصرُّفاته.
ـ إن كلَّ من يتجرَّأ على آيات الله تعالى بالاستهزاء، هو منافق أو كافر، وإن أقام على ذلك كان مصيره إلى جهنم جزاءً وفاقاً.
ـ لا يجوز للمؤمن أن يتغاضى عن انتهاك المنافقين والكافرين لحرمة آيات الله في حضوره، فهو أمام أحد خيارين: إمَّا أن يغيِّر مجرى حديثهم إذا كان يملك القدرة على ذلك، وإما أن يترك مجلسهم حتَّى لا يكون شريكاً معهم في الإثم.
ـ إن قول الله تعالى: {حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيره} يدلُّ على أنه لا مانع من أن يتحادث المؤمن مع الكافر، بوصفه إنساناً مثله، شريطة ألا يمسَّ ذلك عقيدته، ولعلَّ ذلك لإبقاء جسور الحوار قائمة معه بدلاً من نبذه والتجافي عنه، بما يبعده أكثر فأكثر عن الإيمان والمؤمنين.
في رحاب الآيات:(3/131)
المؤمن في انسجام كامل بين ظاهره وباطنه، بين قلبه ولسانه، بين فطرته وسلوكه، وبالتالي بين قوله وفعله، وهذا الانسجام يجعله ملتزماً بأحكام الدِّين بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين، فلا ازدواجية، ولا تناقض لديه، ولا ضعف يدفع به إلى مجالسة الخائضين والمستهزئين بشريعة الله، فكما أنه لا يبيح لنفسه أن يجترئ على حدود الله، فهو كذلك لا يسمح لغيره أن يُقْدِمَ على ذلك بحضوره، فإذا وُجِد في مجلس تُنتهك فيه حرمات الله، ويُستهزأ بالعقيدة ويُغَضُّ من قدر الدعاة إلى الله، وتُنهش أعراض غيره، فلا يجوز له أن يبقى فيه، لأنه يُعدُّ شريكاً لأصحابه في الإثم والمعصية، ويَطالُه عقاب الله كما يطالهم. والأَوْلى لمن يغار على دينه أن ينسحب من المجلس مُشعراً القوم أنه غير راضٍ عما يفعلون، ولا يحقُّ له أن يسايرهم أو يسامرهم، أو يشاركهم في المأكل والمشرب مدَّعياً المهادنة، والمسايرة، ولين الجانب، وسعة الصدر، فليس هذا موضع تلك الأخلاق. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشدَّ الناس حلماً وعفواً إلا أن تنتهك حرمات الله، فكان من أشدِّ الناس غضباً لله. والحكمة من النهي ظاهرة جليَّة، فالجلوس مع أمثال هؤلاء يغريهم بالتمادي فيما هم فيه، ويوحي بالرضا به والمشاركة فيه. فإذا خاض القوم في حديث آخر لا مساس له بالعقيدة، فلابأس بالجلوس معهم ومحادثتهم، في محاولة للبحث عن النقاط الإيجابية البنَّاءة لتعزيزها وتنميتها والاستفادة منها، بغية الوصول إلى نقاط إيجابية أخرى تضيِّق الشُّقَّة بين المؤمن الحقيقي وغيره بوصفها خطوة نحو الأمام على طريق هدايته.(3/132)
والخطاب في هذه الآيات موجَّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو موجَّه من بعده إلى المسلمين كافَّة في كلِّ عصر، فإذا حدث وجلس أحدنا مع قوم يخوضون في آيات الله ويسيؤون إليها، ثمَّ تذكَّر نهي الله بعد نسيانه؛ فليقم، ولا يضمَّه مجلس واحد معهم، لأنهم ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات ربِّهم، والاستهزاء بها بدلاً من الإيمان بها والاهتداء بهديها. ومسألة النسيان أمر طبيعي يقع فيه كلُّ إنسان حتَّى الأنبياء، قال تعالى مخاطباً الرسول محمَّداً صلى الله عليه وسلم : {..واذكُرْ ربَّكَ إذا نسيت..} (18 الكهف آية 24) وقد ثبت في الصحيحين والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه )، ولكنَّ الله عصم الأنبياء من نسيان شيء ممَّا أمرهم بتبليغه، أو بالإخلال بأمر من أمور الدِّين كإضاعة فريضة، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام. ولقد أعدَّ الله للكافرين والمنافقين أشدَّ أنواع العذاب، ولعلَّ عذاب المنافقين أشدُّ لأنَّ عداوتهم للمؤمنين مستترة، وخطرهم عليهم أعظم، ولذلك قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إنَّ المنافقينَ في الدَّرْكِ الأسفلِ من النَّارِ ولن تجِدَ لهم نصيراً} (4 النساء آية 145).
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {ومنهم من عاهدَ الله لَئِنْ آتانا من فضْلِهِ لنصَّدَّقنَّ ولنكوننَّ من الصَّالحين(75) فلمَّا آتاهُم مِن فضْلِهِ بَخِلُوا به وتَوَلَّوا وهم مُعْرِضون(76) فأعقبَهم نفاقاً في قلوبِهِم إلى يومِ يلْقَونَه بما أَخلَفوا الله ما وَعَدُوهُ وبما كانوا يكذبون(77)}
ومضات:(3/133)
ـ عندما يزداد يقين الإنسان رسوخاً بأن الله عزَّ وجل هو المعطي الحقيقي؛ فإنه لا يقصِّر في اللجوء إلى حضرته طالباً منه العطاء والعون والمدد، مقدِّماً له العهود والمواثيق بالالتزام بالإنفاق المجدي في أوجه الخير والإصلاح الاجتماعي.
ـ على المرء أن يؤهِّل نفسه بالصلاح والتَّقوى، لئلا تصيبه آفة نسيان المُنعِم عندما تُغْدَق عليه النِّعَم، فيتخلَّى عن التزاماته ووعوده لربِّ العالمين.
ـ نَقْضُ العهود والمواثيق مع الناس في نظر الإسلام نفاق، فكيف بهذه العهود إذا كانت مع ربِّ العالمين ثمَّ أُخلفت؟ إنه النفاق الكامل الَّذي يغلِّف القلب، فلا يمكن أن تفلح معه سوى أساليب الترهيب والعقاب، بعد أن فشلت معه أساليب الترغيب والثواب.
في رحاب الآيات:
النفس البشرية أشبهُ بسفينة تجري في عباب البحر، فتارة تسير في هدوء وسكينة، وتارة أخرى تحدق بها الأمواج الغاضبة والريح العاتية، فتضطرب مترنِّحة يميناً شمالاً، وقد تصطدم بالصخور فتتحطم، أو يعلوها الموج فتغرق، أو تدركها رحمة الله تعالى فتنجو وتسلم.
وإذا عرفنا ما انطوت عليه هذه النفس، أدركنا كم من الشهوات تعصف بها، وكم من رياح طيِّبة تهب عليها، وكم من أحاسيس متناقضة تستيقظ فيها، فتتدافع وتتصارع، ثمَّ لا تلبث أن تنحسر فاسحة الطريق أمام أقدرها على الثبات والصمود. وكما أن الربَّان الماهر هو من يحسن توجيه سفينته، فيُسْلِمُها للرياح الطيِّبة المواتية، ويجنبها العواصف العاتية، فكذلك المؤمن الراشد هو من يحسن كبح جماح نفسه، فيخضعها لإرادة خالقها ويوجِّهها نحو نوره، ويجنِّبها ما فيه ظلمتها وشقاؤها.(3/134)
وأفضل الأوقات الَّتي يمكن للمرء أن يكتشف فيها حقيقة نفسه، ويدرك مواطن ضعفها، أوقات الفقر أو المرض أو المعاناة. حيث يتبيَّن مقدار عجزها وضعفها وعظيم حاجتها إلى الله القوي القادر، فيضرع إليه بالدعاء والرجاء، ليكشف عنه الكرب، ويعجِّل له بالفرج والرزق، مُطْلِقاً العنان للسانه بالوعود السخيَّة والعهود الوثيقة، على الطاعة والتسليم، والقيام بكلِّ أعمال البرِّ والصلاح. فإذا استجاب الله تعالى له وأمدَّه بالعون وأوسع عليه من رزقه، وكان من أصحاب الإيمان واليقين، زكت نفسه وازدادت جمالاً وصفاءً، فبرَّ بوعوده معترفاً لله بفضله وجميل صنعه فأحسن العمل، ووضع المال حيث أمره الله تعالى أن يضعه، وهو موقن بأن هذا المال وديعة في يده وأمانة في عهدته. أمَّا إذا كان من أهل الزيغ والنفاق، فإن المال يضلُّه ويعمي بصيرته عن حقيقة نفسه، فينسى ضعفه، وتَلُفُّ به دوَّامات الوهم وتيَّارات الغرور والاستعلاء، حتَّى يظن في ذاته القدرة على الاستغناء؛ فيتنكَّر لفضل الله تعالى، وتتنامى في داخله مشاعر الجحود والإعراض، وتنمو بذور النفاق، وتطرح ثماراً سامَّةً فتَّاكة تودي بحياة صاحبها الروحية والمعنوية. ولا تزال تلك النبتات المتنامية تعمل فتكاً وتخريباً، حتَّى تأتي على البقية الباقية منه، وهو في غفلة عنها؛ فيتناسى وهو في أحضان النعيم، لحظات ضعفه وتضرُّعه إلى الله تعالى، وجملة الوعود الَّتي أطلقها في حينها، ويتجاهل أن الله هو المعطي، وأن ما حصل عليه من رزق، لم يكسبه بذكائه أو علمه أو تعبه فحسب، بل إن وراء ذلك كلِّه قوَّة إلهية هيَّأت له الأسباب والمسببات، فالعقل منحة من الله، والقوة هبة من هباته، والصبر بعض آلائه. فيدفعه ذلك النفاق إلى البخل بما أعطاه الله، فيمنع الفقراء حقوقهم، ويسيطر عليه القلق والخوف من الفقر، فيقبض يده عن الإنفاق ويستأثر بالمال لنفسه، ويُخَيِّلُ إليه غروره أنه يستطيع أن يهرب من قبضة الله،(3/135)
فيتشاغل عن أداء واجباته، ويخمد صوت ضميره، ويُشيح بوجهه متناسياً أن الله محيط به، وأنه مطَّلع على عمله. ولما كان الله تعالى قد أخذ على نفسه أن يترك العباد في هذه الدنيا أحراراً يختارون أحد طريقين، لذلك فقد يمهله ولا يخرجه ممَّا هو فيه بالقهر، ويتركه يتخبَّط في ظلمات قلبه، الَّذي تتنامى فيه غراس النفاق، وتثمر ظلماً وكذباً وخداعاً، فيعيش بوجهين مختلفين، وفي خصام دائم مع ذاته ومحيطه، تبدو سيماء القسوة والاضطراب على أعماله، إلى أن يلقى الله سبحانه وتعالى حيث القصاص المؤلم الَّذي يتناسب مع سوء عمله وإعراضه.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يَشتَرونَ بِعَهدِ الله وأيمانِهِم ثَمَناً قليلاً أولَئكَ لا خَلاقَ لَهُم في الآخِرةِ ولا يُكلِّمُهُمُ الله ولا يَنظرُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهِم ولَهُم عذابٌ أليمٌ(77)}
سورة النحل(16)
وقال أيضاً: {ولا تَشتَروا بعهدِ الله ثمناً قليلاً إنَّما عندَ الله هوَ خيرٌ لكم إن كنتم تعلمونَ(95) ما عندَكُم يَنفَدُ وما عند الله باقٍ ولَنَجزِيَنَّ الَّذينَ صبروا أَجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يَعملونَ(96)}
ومضات:
ـ كثيرمن أصحاب النفوس المريضة يتعاملون مع الآخرين من منطلق المصالح المادِّية البحتة، متسترين وراء أقنعة دينية، بغية الغش وخداع أصحاب النوايا السليمة الَّذين يَنْشَدُّون بالعاطفة الدِّينية. وكلُّ من اتخذ هذه المسوح المزيَّفة يكون الله تعالى خصماً له يوم القيامة، ومصيره جهنم، وليس أمامه أي فرصة من خير أو رحمة أو ثناء؛ إن هو استمر على ذلك.
ـ عندما يلتزم المرء بعقيدة السماء، فعليه أن يتخلَّى عن نهمه المادي، ويجعل جُلَّ همِّه في العمل من أجل مالك الخزائن الَّذي لا تنفد عطاياه، وهذا التخلِّي يَلزمه صبرٌ ومخالفة للنفس وجهاد للهوى، حتَّى ينصهر هواه في بوتقة الإيمان الحقيقي مصدر الربح الدائم.
في رحاب الآيات:(3/136)
تهدف الشرائع السماوية إلى بناء مجتمع تسوده الثقة المتبادلة بين الناس، في كلِّ الشؤون المادِّية منها والمعنوية، وعلى جميع المستويات، وبين مختلف الفئات والأجناس، فكلُّ من خان الأمانة، أو تراجع عن التزاماته ووعوده بغية الوصول إلى منافع خاصَّة، أو استغلَّ العواطف الدِّينية من أجل تحقيق غايات رخيصة، فهو منبوذ من ملكوت الله، ممقوت من حضرته. فالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، آية الدِّين البيِّنة، ودليل التَّقوى، والخُلُق الحسن، والمحور الَّذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس بعهودهم، زالت ثقة بعضهم في بعض، وفسدت روح المعاملات وانهار النظام العام. لذا فلا يمكن أن يجتمع إيمان بالله مع الخيانة والغدر، لأن الخيانة والغدر هما من ثمرات النفاق، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلَّة منهنَّ كانت فيه خلَّة من نفاق حتَّى يدعها، إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» (رواه الأربعة) والإسلام يشدِّد على الوفاء بالعهد، لاسيَّما ذلك العهد الموثَّق بالقسم، فإذا وعد أحدٌ وعداً وأخلفه دون عذر فهو آثم ومتصف بصفة من صفات النفاق.
أما إذا صمَّم الإنسان على الوفاء بوعده ثمَّ طرأ له من الموانع ما حال بينه وبين ذلك فلا إثم عليه. وإنَّ كُلَّ مَنْ راعى هذه القاعدة وفاءً بعهد الله تعالى والتزاماً بتقواه، أحبَّه الله وأكرمه، وكلَّ من اشترى بعهد الله وأَيْمَانه ثمناً قليلاً من عَرَض الدنيا فلا نصيب له في الآخرة، ولا رعاية له ولا قبول، ولا زكاة ولا طهارة.(3/137)
هذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية، التعامل فيها أوَّلاً وأخيراً تعامل مع الله، يراعي فيه العبد رضا ربه، ويتجنَّب سخطه، وبذلك يضمن الإسلام تطلُّعَ البشرية الدائم إلى الأفق الأعلى، لتستمدَّ منه القيم العليا والمبادئ المُسعدة، ومن ثمَّ يشير إلى أن الَّذين يخونون الأمانة وينقضون العهد، إنما يقطعون الصلة بينهم وبين الله، قبل أن يقطعوها بينهم وبين الناس، ولو أنهم حكَّموا عقولهم، لوجدوا أنفسهم قد استبدلوا بخزائن الله الواسعة والمُلك الَّذي لا يبلى؛ متاعاً من الدنيا قليل. لذا فلا نصيب لهم في الآخرة من عفو ولا مغفرة، جزاء استهانتهم بعهد الله تعالى، واستخفافهم في تعاملهم مع عباده، دون أن يلحظوا غيرة الله على عباده، وحرصه أن لا يُستَغَلَّ اسمه جلَّ وعلا في خداع هؤلاء البسطاء والمستضعفين.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ومن النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قولهُ في الحياةِ الدُّنيا ويُشهِدُ الله على ما في قلبهِ وهوَ ألَدُّ الخِصامِ(204) وإذا تَولَّى سَعى في الأرضِ ليُفسِدَ فيها ويُهلِكَ الحَرثَ والنَّسلَ والله لا يُحبُّ الفَسادَ(205) وإذا قيلَ لهُ اتَّقِ الله أخَذَتْهُ العِزَّةُ بالإثمِ فَحَسبُهُ جهنَّمُ ولَبِئسَ المِهاد(206)}
ومضات:
ـ هناك صنف من الناس يتمتَّع بفصاحة وبلاغة ولسانٍ طيِّعٍ يدهش من يستمع إليه، لكنَّه يستعمل هذه النِّعَم للخداع ببراعة ومكر، فيُظْهِرُ الصداقة والمودَّة للمؤمنين، بينما يُكِنُّ لهم عداوةً وحقداً بالغَيْنِ، ويتجرَّأ على الله بالقسم بعزَّته؛ من أجل عرض من الدنيا قليل، ولا يخطر بباله أن الله تعالى عالم به، ناظر إليه، قادر على أن يفضحه.
ـ هذا الصنف من أكثر الناس سوءاً وفساداً، لأنه يسخِّر ذكاءه وقدراته من أجل بَثِّ الفتن والفساد، ونشر الضغائن بين الناس. لذلك فهو محروم من محبَّة الله، لأنه جعل نفسه في قائمة المفسدين، والله يحبُّ الإعمار والبناء، ويكره التخريب والإفساد.(3/138)
ـ إن من علامات المنافق الَّتي تدلُّ على تماديه في ضلاله وطغيانه، أنه لا يستمع إلى نصيحة، ولا يرتدع بِوازعٍ، بل يدفعه غروره وتكبُّره، للغضب إذا ما اتُّهِمَ بالفساد، أو دُعِيَ إلى التَّقوى والعودة عما هو فيه من الضلال، متناسياً ربَّه غافلاً عن عذابه؛ ولكنَّ الله يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم بذنبه لا يُفْلِتُهُ.
في رحاب الآيات:
القرآن الكريم رسالة إصلاح للنفس الإنسانية، وعلاج للقلوب المريضة، وبما أنه لابُدَّ للطبيب من أن يتعرَّف حالة مريضه قبل الشروع بعلاجه، ليشخِّص الداء ويصف الدواء، لذلك كان لابُدَّ للمصلح من معرفة أحوال الناس، ودخائل نفوسهم، وكشف أساليب الضلال والفساد الَّتي يتسلَّل الشيطان إليهم بواسطتها. وقد أوضح القرآن الكريم السبيل للمصلحين وسهَّل مهمتهم، فسلَّط الضوء على صورة الإنسان من داخله، ووجَّه الدعاة إلى التبصُّر في النفوس، ودراسة طبائعها وأوضاعها، وسبر أغوارها، فالمصلحون للناس، كالأطباء للمرضى، لا يعالجون أمراضهم إلا بعد تشخيصها واختيار العلاج المناسب دون سواه.
ومن أهمِّ الأمراض النفسية والاجتماعية الَّتي أشار إليها القرآن الكريم مرض النفاق والمراءاة، حيث أنَّ من الناس من يظهر نفسه على أنه خلاصة من الخير والإخلاص والتجرُّد، ولكنَّ ظاهره يتناقض مع باطنه، فهو يخفي الكذب ويظهر الصدق، ويضمر الحقد ويدَّعي المودة، حتَّى إذا حان وقت الجد ظهر المخبوء، وانكشف المستور، ونضح إناؤه بما فيه من البغي والكذب والفساد. إن هذا الفريق يتوصل إلى خداع الناس عن طريق أمور عدَّةمنها:
1 ـ تزيين القول وتجميله بحيث يعجب السامع ويملك عليه لبَّه، فلا يُتَّهم في صدقه.(3/139)
2 ـ إشهاد الله تعالى على دعواه، كنوع من القسم، للتأكيد على صدقه وحسن نواياه، مع ما في ذلك من جرأة على الله، فإذا كان يفترض انطلاء كذبه على الناس، فكيف يفترض ذلك على الله، ويتجاوز ذلك إلى إشهاده أيضاً؟! وهنا ذروة الطغيان والفسق والخداع.
3 ـ كثرة الجدل واستخدام الحجج الواهية تأييداً لكلامه ودعواه.
إن مثل هذا الفريق نجده في كلِّ أُمَّة وفي كلِّ عصر، وإن تعدَّدت أشكاله باختلاف العصور، وهو ـ بما اتصف به من تزييف وتناقض مع نفسه ـ يدَّعي الصلاح والإصلاح، لكنَّه يسعى في الأرض بالفساد والبغي والعدوان على الناس وعلى أرزاقهم، وموارد عيشهم الَّتي هيَّأها الله لهم، لينعموا بحياتهم على الأرض، وقد يرتكب الفواحش الَّتي ينتج عنها الفساد الأخلاقي أو فساد البيئة، دون أدنى شعور بالمسؤولية. فمن عجبٍ أن يحسب المفسد أنه يحسن صنعاً، وقد يدَّعي ذلك أمام الناس، فلا يقبل نصحاً ولا إرشاداً، فما جدوى مثل هذا الإنسان الَّذي فقد القدرة على التمييز بين الخير والشر؟ وما الَّذي ينفعه إذا ربح الدنيا وخسر نفسه؟.
لقد عاقب الإنسانُ المفسدُ نفسَهُ بنفسِهِ، فكانت تلك الحروب الظالمة الَّتي صنعها بصلفه وغروره، والَّتي هدَّدت البشريَّة بإنهاء الحياة على هذه الأرض، فكانت لوناً من ألوان الجحيم الَّذي أحرق الإنسان به نفسه، قال تعالى: {يَستعجلونَكَ بالعذابِ وإنَّ جهنَّمَ لمحيطةٌ بالكافرين} (29 العنكبوت آية 54)، والكافر هو كلُّ من عطَّل قوانين الله تعالى فيما خُلِقَ من أجله، ووجَّه المنافع والنعم الإلهية إلى غير وجهتها، ليعيش في قلق واضطراب مصداق قوله تعالى: {ومن أعرَض عن ذِكري فإنَّ له مَعيشةً ضَنْكاً ونحشُرهُ يومَ القيامةِ أعمى * قال ربِّ لِمَ حَشرْتَني أعمى وقد كنتُ بصيراً * قال كذلك أتَتْكَ آياتُنا فنسِيْتَهَا وكذلك اليومَ تُنسى} (20 طه آية 124ـ126).(3/140)
إن النار هي الوعيد الَّذي ينتظر هذا النوع المريض والمخرِّب من البشر غداً في الدار الآخرة، وهي في حميمها وغسَّاقها جزاءً وفاقاً، لتطهير نفسه الظالمة المظلمة، الَّتي خبا فيها نور الحق! فعشَّشَ فيها الشيطان وفرَّخ.
سورة الرعد(13)
قال الله تعالى: {أَنْزلَ من السَّماء ماءً فسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها فاحْتَمَلَ السَّيلُ زَبَداً رابياً وممَّا يوقِدُون عليه في النَّارِ ابتغاءَ حِلْيَةٍ أو متاعٍ زَبَدٌ مثلُهُ كذلك يضْرِبُ الله الحقَّ والباطِلَ فأمَّا الزَّبَدُ فيذهبُ جُفَاءً وأمَّا ما ينفعُ النَّاسَ فيمْكُثُ في الأرضِ كذلك يضْرِبُ الله الأمثالَ(17)}
ومضات:
ـ الزبد في هذه الآية الكريمة كناية عن العمل الفاشل الَّذي لا يجدي، وهو عبارة عن الوهم الَّذي يعتري المرء حول أعمال ضارَّة مؤذية يفعلها وهو يظن بها الخير والفلاح غباءً وغروراً.
ـ العمل الجادُّ المخلص البنَّاء يُعدُّ الأساس المكين الراسخ لبناء مستقبل الأمَّة الزاهر ونجاحها الباهر.
في رحاب الآيات:
إن الكثير من أوقات الناس ونشاطاتهم تذهب أدراج الرياح، دون أن يستفيدوا منها في معاشهم أو معادهم، وبالتالي تُحْرَمُ مجتمعاتهم من الإفادة منها. فالهدر في وقت الإنسان يعني الهدر في عمله المُجْدي وإنتاجه، ممَّا يجعل حصيلة العمل الَّذي يجنيه في عمره، كمثل الماء الَّذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يجمع في طريقه الشوائب والأوساخ، فتطفو على وجهه في صورة زبد كثيف، حتَّى إن هذا الزَّبد ليحجب الماء في بعض الأحيان، ولكنَّه غثاء لا فائدة فيه، والماء من تحته ساكن هادئ يحمل الخير والحياة. أو كمثل المعادن الَّتي تُذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضَّة، أو كآلة نافعة للصناعة كالحديد أو الرصاص؛ صحيح أن الخبث يطفو على وجهها، وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنَّه سرعان ما يذهب ويندثر، ويبقى المعدن في نقائه وجوهره الأصيل.(3/141)
إن نقاء الماء والمعدن الثمين لشبيه بنقاء المؤمن ذي العقل الناضج، والفكر الثاقب والقلب المستنير، الَّذي يترك في كلِّ عمل يقوم به أثراً ينفع نفسه ومجتمعه ويستمرُّ حتَّى بعد وفاته، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) والصَّدقة الجارية تشمل كلَّ عمل خَيِّرٍ يمكن أن يستفيد منه المجتمع على مرِّ الأيام، كبناء مسجد، أو مدرسة، أو مصنع يعمل فيه الفقراء فيغنيهم عن السؤال. وأمَّا العلم فيشمل جميع مجالات الحياة الدِّينية والدنيوية بما ينفع الفرد والناس كافة. وأما الذريَّة الصالحة، فهي استمرار للعطاء الصالح، وهي مسؤولية الآباء ليقدِّمُوا لمستقبل بلادهم المزيد من الازدهار، من خلال تنشئة أولادهم على أسس متينة من الإيمان والعلم والأخلاق الفاضلة.(3/142)
ذلك هو مثل الحقِّ والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويستكبر ولكنَّه زبد لا يلبث أن يذهب جُفاءً مطروحاً لا ثبات له ولا تماسك فيه، والحقُّ يظلُّ هادئاً ساكناً، وربَّما يحسب بعضهم أنه قد انزوى أو ضاع، ولكنَّه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي، والمعدن الصافي الَّذي ينفع الناس. فقد تطرب الآذان وتتطاول الأعناق نحو شعارات أو دعوات تحمل مظهراً حضارياً مغرياً يخطف ببريقه الأبصار، ولكن إذا ما عايَنْتَ حقيقتها، وكَشَفْتَ القناع البَرَّاق عنها، فسُرعان ما ينكشف لك زيفها واشتمالها على ما يفقد الإنسان إنسانيته، فتنبذها وتلقي بها بعيداً، وتبحث عمَّا يحقِّق لك السعادة الحقيقية. ومثال ذلك الدعوات المسعورة الَّتي تدعو إلى التهتُّك والإباحية، والَّتي تنطلق من هنا وهناك، والَّتي يتوهَّم المرء أنها تحمل له الحرِّية والسعادة، فيفاجأ بأنها تنطوي على الانحلال الخلقي، والتفلُّت من كلِّ فضيلة، ناهيك عن الأمراض المهلكة الَّتي تقدمها له كهدية مفجعة. في الوقت الَّذي يتوهَّم فيه أن للفضيلة والعفَّة قيوداً تأسره وتحُدُّ من متعته وحريته، فإذا هي في حقيقتها نظام يحمل له السَّلامة والأمان، وإن الالتزام بها والانقياد لها، كالتزام القطار سكَّة الحديد، ففي ذلك ضمان وصوله إلى غايته سالماً محقِّقاً الغاية من وجوده، ولو حاول الانعتاق من قيدها لكان في ذلك هلاكه وهلاك من فيه. إن المفكر الحرَّ والعاقل الرشيد عندما تنكشف له هذه الحقيقة، يشيح بوجهه عما كان يرغو ويزبد ثمَّ يتلاشى ويزول، ويتجه ليمسك بيده المعدن الأصيل الثمين.(3/143)
وهكذا نلمس بأيدينا كيف يضرب الله الأمثال للناس ليوضح لهم ما أشكل عليهم من أمور دينهم، ويُظهِرُ الفوارق بين الحقِّ والباطل والإيمان والكفر، ليتبيَّن الناسُ طريق الهداية فيسلكوها، وطريق الغواية فيجتنبوها. جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورَعَوْا وسقَوْا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعَلِم وعلَّم، ومَثَلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الَّذي أُرسلتُ به» (متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).
سورة الجاثية(45)
قال الله تعالى: {أَفرأَيْتَ منِ اتَّخَذَ إلههُ هواهُ وأَضلَّهُ الله على عِلْمٍ وختَمَ على سمْعِهِ وقلبِهِ وجعلَ على بصرِهِ غِشاوةً فمن يهديه من بعدِ الله أفلا تَذَكَّرون(23)}
ومضات:
ـ إذا سيطرت تعلُّقات الإنسان الجسدية على أعماقه، ولم يعد باستطاعته البعد عنها أو الخلاص منها، أصبح عبداً منقاداً لها، فتنغلق حواسُّه الروحية دون الأنوار الإلهية والنفحات الربَّانية، فلا بصيرة تريه سواء السبيل، ولا قبس من هداية يخترق حجبه لينتشله من مهاوي الضلال.
ـ ينبغي على المرء أن يستفيد من تجارب الآخرين، وأن يدرسها برويَّة ويحللها بوعي، لكي يتَّسع أفقه وتزداد قدرته على فهم الأسباب والمسببات وتمييز الخطأ من الصواب.
في رحاب الآيات:(3/144)
إن في النفس البشرية مجموعة قوى تمثل مجمل النوازع والميول والاتجاهات الَّتي تتصارع في داخلها. وهي من حيث الأصل متشابهة لدى جميع بني البشر حيث إنها مخلوقة على الفطرة، قبل أن تمتدَّ إليها المؤثِّرات الخارجية، لتتبلور ضمن صفات معينة، ولتسير في اتجاهات مختلفة، تختلف من إنسان إلى آخر ومن بيئة لأخرى. والشرائع السماويةلم تأتِ لمحاربة الميول النفسية، بل لتهذبها وتسير بها نحو الأفضل. وقد ينجرف الإنسان وراء بعض الميول المنحرفة بشكل قوي، ويتعلق بها حتَّى تصبح همَّه الأوَّل وشغله الشاغل، وتأخذ بكلِّ أحاسيسه فيتحوَّل إلى عبد لها، فلا يسمع إلا من خلالها ولا يرى إلا بها، ولا يعشق غيرها، ومن ثمَّ فإنها تقوده إلى أودية الهلاك بملء إرادته واختياره، فهو يدرك أنه سائر في طريق منحرفة، لكنَّه مشلول الإرادة، منهزم العزيمة أمامها، لا يلتزم حلالاً، ولا يجتنب حراماً. والتعبير القرآني المبدع يرسم صورة دقيقة لنموذج من النفس البشرية الَّتي تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلِّب، وتتعبد في محراب الهوى، وتجعله مصدر تصوُّراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتنصِّبه إلهاً قاهراً لها، مستولياً عليها، تتلقى إشاراته المتقلِّبة بالطاعة والتسليم والقبول.(3/145)
إن القرآن الكريم يرسم تلك الصورة، ويعجب من أصحابها في استنكار شديد: {أفرأيت من اتَّخذ إلهه هواه}؟ إنه كائن عجيب يستحقُّ التعجُّب من أمره، ويستحقُّ من الله الطرد والإبعاد، فلا يتداركه برحمة الهدى، لأنه ملأ قلبه بصنوف الهوى فلم يعد في قلبه مكان لسواها، وعكف يعبد هواه المريض، ونزواته الشوهاء، وهو يحسب أنه قد أحسن صُنعاً! قال أبو أمامة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عُبِدَ تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» (أخرجه القرطبي). ذلك لأن الهوى إذا استبدَّ بالإنسان انطمست فيه منابع النور من سمع وبصر وقلب وعقل، وتعطَّلت المدارك الَّتي ينفذ الهدى من خلالها، فينحط المرء إلى ما دون البهائم، ويصبح أداة تخريب بدلاً من أن يكون أداة إصلاح وتعمير، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات شُحٌّ مطاع، وهوى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب» (أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنه ) فاتباع الهوى من المهلكات لأنه الشرك الخفي بعينه، وهو الشرك الَّذي لا يمكننا الخلاص منه إلا بعون الله وقوة من لدنه، لنحطِّم أصنام تعلُّقاتنا، ولِنَحُدَّ من شهواتنا، ولنجعل قبلة قلوبنا ربَّ العالمين إلهاً معبوداً واحداً لا شريك له. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتَّى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطيب عن ابن عمر رضي الله عنه ) فما جاء به هو الحقُّ من الله، الَّذي يحمل الراحة للقلوب والنجاة للأرواح.
سورة الزخرف(43)(3/146)
قال الله تعالى: {وكذلك ما أَرسلنا من قَبلِكَ في قريةٍ مِن نذَيرٍ إلاَّ قال مُتْرَفوها إنَّا وَجدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهم مُقتَدون(23) قال أَوَلَوْ جِئْتُكم بأهدى مِمَّا وَجدتُّم عليه آباءَكم قالوا إنَّا بما أُرْسِلْتم به كافرون(24) فانتقمنا منهم فانظرْ كيف كان عاقبةُ المُكذِّبين(25)}
ومضات:
ـ غالباً ما تقترن ملكية المترفين للثروات والأموال باستحواذهم على النفوذ والسلطان، ممَّا يجعلهم يسيطرون على مقدرات البلاد، ويوجِّهون الأمور العامَّة حسب مصالحهم الخاصَّة، لذلك كانوا دائماً أوَّل المعارضين لدعوات الرسل والأنبياء الإصلاحية التجديدية، وكانوا يدعون إلى محاربتها متذرِّعين بالتمسُّك بالقديم الخاطئ البالي والموروث عن ضلال السابقين، وذلك لئلا تدب الحياة من جديد في عقول الناس، فيدركوا استغلالهم لهم، ويُعَرِّضوا مصالحهم الموروثة للخطر.
ـ لم يترك رسلُ الله سبيلاً يصل بينهم وبين عقول المعرضين وقلوبهم إلا وسلكوه، وقد أقاموا عليهم الحجَّة والبرهان ولكن دون جدوى، فهم يصرُّون على ستر الحقائق، ويتمادون في الإعراض عنها. وعندما يتحقَّق الانتقام الإلهي؛ يترك بلادهم خراباً، ومنازلهم ركاماً، شاهدة على القدرة الإلهية في إنزال العقاب بالمكذِّبين، ليكونوا عبرة لمن يريد أن يعتبر.
في رحاب الآيات:(3/147)
يولد الطفل وهو يحمل كثيراً من الاستعدادات الفطرية الطيِّبة والغرائز المزروعة في نفسه، وعندما ينمو ويترعرع تبدأ مرحلة اكتساب العادات من البيئة والمحيط، حيث تتكوَّن شخصيته متأثِّرة بالأب والأم بالدرجة الأولى، ثمَّ ببقية أفراد العائلة، وبعدها بالأساتذة والمربِّين، والأصحاب والأصدقاء، إلى غير ذلك من المؤثِّرات والنظم الاجتماعية المحيطة به. تلك النظم الَّتي قد تَتَّخِذُ مع مرور الوقت اتجاهاً خاطئاً، بعيداً عن جادَّة الصواب، بحيث يعتدي فيها القويُّ على الضعيف، ويبغي الظالم على المظلوم، ويعبث العابثون، ويفسق المترفون، فيبدأ المجتمع بالتفكُّك والانهيار.
ويرسل الله تعالى الرسل والأنبياء والمصلحين رحمة من لَدُنْه، ليعيدوا الخلائق إلى طريق الإيمان والخير والحبِّ والتعاون، ولكنَّ أكثر الناس كانوا يقابلون دعوات الرسل، بالاستغراب والاستنكار، لأنها كانت تبدو غريبة عما أَلِفُوه، وما اعتادوه من قِيَمٍ وعادات، وهنا يبدأ الصراع بين العقل والهوى، بين الإيمان والعادات. وأوَّل من كان يقوم بالمعارضة هم الأغنياء المترفون الَّذين أبطرتهم النعمة، وأعمتهم الشهوات والملاهي عن تحمُّل المشاقِّ في طلب الحقِّ، ويكون جوابهم التقليدي: إنا وجدنا أسلافنا على مِلَّةٍ ودينٍ، ونحن مقتدون بهم، هكذا دون تدبُّر أو تفكُّر في موضوع الدِّين الجديد، ولو كان أهدى ممَّا هم عليه وأجدى. وفي عرض هذه الصور في القرآن الكريم على هذا النحو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، ودلالة على أن هذا التقليد ضلال قديم، ومحاربة الدِّين الجديد أمر قد واجهه الرسل من قبله، وخصَّت الآية المترفين بالذكر للإيحاء بأن التَّرف غالباً ما يورث البطر، ويصرف عن النظر والتفكير المنطقي السليم، إلى المحاكاة والتقليد والإبقاء على الخطأ!.(3/148)
ثم حكى القرآن الكريم ما قاله كلُّ رسول لأمته: أتبتغون ذلك وتسيرون على نهجه، مع أني جئتكم من عند ربِّكم بدين أهدى إلى طريق الحقِّ، وأدَلَّ على سبيل الرشاد ممَّا وجدتم عليه آباءكم من دين وملة؟ ثمَّ أورد إجابتهم المتكرِّرة والَّتي تُيْئِسُهُ من اتِّباعهم له: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفكُّ عنه، ولو جئتنا بما هو أهدى منه. فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جاءهم به ما انقادوا له، لسوء قصدهم ومكابرتهم تجاه الحقِّ وأهله. وبعد سطوع البرهان ووضوح الدليل لم يبق لهم عذر ولا حجَّة، فجاءهم الانتقام الإلهي بعد أن كذَّبوا الرسل، وجحدوا نِعَم الله عليهم.
فانظر أيها الرسول الكريم وكذلك أنت أيها الكافر الجاحد، كيف كانت عاقبة أمرهم حين كذَّبوا بآياتنا؟ ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم؟ فليزدد المحسن إحساناً، وليرتدع المكذِّب عما هو فيه، ولْيَؤُبْ إلى ربِّه قبل أن يحلَّ به ما حلَّ بالمكذبين قبله.
سورة العنكبوت(29)
قال الله تعالى: {مثلُ الَّذين اتَّخَذوا من دونِ الله أولياءَ كمثلِ العنكبوتِ اتَّخذتْ بيتاً وإنَّ أوْهَنَ البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون(41) إنَّ الله يعلمُ ما يدعونَ من دونِهِ من شيءٍ وهو العزيزُ الحكيم(42) وتلك الأمثالُ نضْرِبُها للنَّاس وما يعقِلُها إلاَّ العالِمون(43)}
ومضات:
ـ إن المُعرض عن دعوة الله، المتَّخذ من دونه أولياء انجذب إليهم تحت تأثير إيحاء خادع أومظهر براق، مثله كمن اتخذ من بيت العنكبوت حصناً، لأنه وقع ضحية وهمٍ زائف سُرْعان ما ينكشف ويدرك أنه يستند إلى فراغ. فإن رجع عن تعصُّبه لجاهليته فهو الحكيم العاقل، والمهتدي الراشد، وإن استمر في غيِّه وازداد تعلقاً به، فإنه يثبت لنفسه السفه والحمق وعدم الإدراك.(3/149)
ـ إن دِقَّة صنع بيت العنكبوت وإتقان مظهره يلفتان النظر، حتَّى ليكاد الناظر إليه للوهلة الأولى أن ينخدع به، فيظنُّ به المتانة والمنعة، ولكنَّه سرعان ما يكتشف أنه لا يتعدَّى كونه مصيدة لذبابة أو بعوضة يقتات بها العنكبوت، وأن نسمة عليلة قد تمزِّقه وتذهب به أدراج الرياح، فما أدراك بعواصف الغضب الإلهي.
ـ تبارك الله في علمه وحلمه وتعليمه، وبورك قومٌ عقلوا وتعلموا عن الله، فصاروا من أوليائه المقرَّبين المخبتين.
في رحاب الآيات:
إنه لتصوير عجيب وعميق، لحقيقة قوى المخلوقات في هذا الوجود، تلك القوى الواهية كمثل بيت العنكبوت بالمقارنة مع قدرة الله تعالى، ومع هذا فقد ينخدع بها كثيرون ويتخذونها دعائم لهم وسنداً من دون الله، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصوُّرهم لجميع الارتباطات، وتختلُّ في أيديهم جميع الموازين ولا يعرفون إلى أين يتوجَّهون، وماذا يأخذون وما الَّذي يدعون. فقد تخدعهم قوَّة الحكم والسلطان، فيحسبونها القوة القادرة الفاعلة في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفُّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حِمَاها. وقد تخدعهم قوَّة المال فيحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدمون إليها في رغبٍ وفي رهبٍ، ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها، ويتسلطوا على الرقاب كما يشتهون. وقد تخدعهم قوَّة العلم فيحسبونها أصل القوة، وأصل المال، وأصل سائر القوى الَّتي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عُبَّاد في المحاريب. تخدعهم هذه القوى الظاهرة في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات، وفي أيدي الدول، فيدورون حولها ويتهافتون عليها، كما يتهافت الفراش على النار ليموت فيه! وينسون القوة القادرة الوحيدة الَّتي تخلق سائر القوى الأخرى، وتملكها وتمنحها وتوجِّهها وتسخِّرها كما تريد وحيثما تريد.(3/150)
ويغيب عن أذهانهم أن الالتجاء إلى تلك القوى أيّاً كانت كالتجاء العنكبوت إلى بيته، فهو بحد ذاته حشرة ضعيفة، رخوة واهنة، لا حماية لها ولا وقاية لها في بيتها الواهن، وليس هنالك إلا حماية الله وحِمَاه، وإلا رُكْنُهُ القوي المتين، هذه الحقيقة الجليلة هي الَّتي عُنِيَ القرآن الكريم بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى الَّتي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة المتسلِّطين في الأرض، ودكَّت بها المعاقل والحصون. هذه الحقيقة استقرَّت في كلِّ نفس مؤمنة، وعمرت كلَّ قلب ذاكر، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق ولم تعد كلمة تُقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل بل هي بديهة مستقرِّة في النفس لا يجول غيرها في حسٍّ ولا خيال. فقوَّة الله وحدها هي القوَّة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبَّر وطغى، ومهما مَلكَ من وسائل البطش والطغيان والتنكيل؛ فما هي إلا بيت العنكبوت. وإنَّ أصحاب الدعوات الخيِّرة الَّذين يتعرضون للفتنة والأذى والإغراء لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الناصعة، ولا ينسَوْها لحظة وهم يواجهون القوى المختلفة تضربهم، وتحاول أن تسحقهم، وأخرى تستهويهم وتحاول أن تشتريهم، وكلُّها كبيت العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة، حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى، وتحسن التقويم والتقدير.
والله يعلم حقيقة الَّذين يستعينون من دون الله بأولياء من الأوثان والأصنام والجن والإنس، ويعلم حقيقة ما يوالون، وإنها في عجزها عن مساعدتهم ونصرتهم كمثل بيت العنكبوت في عجزه عن حماية صاحبه، والله عزيز في انتقامه ممَّن كفر به أو أشرك في عبادته، وهو الحكيم في تدبير خلقه، مهلكٌ من قضت حكمته تعجيل إهلاكه، وممهل من قضت حكمته إمهاله، تمكيناً له من التوبة والإنابة.(3/151)
إن هذا المَثَلَ ونظائره من الأمثال الَّتي اشتمل عليها كتاب الله، يضربها الله سبحانه للناس، تقريباً لما بَعُد عن أفهامهم، وإيضاحاً لما أشكل عليهم أمره، أو استعصى عليهم فهمه، ولا يفهم مغزاها ومدى تأثيرها، واستتباعها لكثير من الفوائد إلا الراسخون في العلم، المتدبِّرون عواقب الأمور، ولا يفهم هذه الأسرار إلا الَّذين آمنوا بالله، وصدَّقوا رسوله، لأنهم هم الَّذين يستدلُّون بالآثار على مُؤثِّرها ويعلمون حقائق الأمور ولا ينشغلون بالمظاهر.
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {ومن أظْلَمُ ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ ربِّهِ فأعرَضَ عنها ونَسِيَ ما قدَّمَتْ يداهُ إنَّا جعلنا على قلوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يفقَهوه وفي آذانِهِم وَقْراً وإن تَدْعُهُم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً(57) وربُّكَ الغفورُ ذو الرَّحمَةِ لو يؤاخِذُهُم بما كَسَبوا لعجَّلَ لهمُ العذابَ بلْ لهم مَوْعِدٌ لن يجدوا من دونِهِ مَوْئِلاً(58)}
ومضات:
ـ في كلِّ خَلْقٍ من خَلْقِ الله آية ومعجزة، من الذَّرة إلى المَجرَّة، ومن البعوضة إلى الفيل، في نفس الإنسان وذاته، في مئات الملايين من الأعصاب الَّتي تدير جسده وحواسه. وعلى الرغم من ذلك كلِّه فقد أعرض بعض الناس متناسين أصلهم المنوي، وأيام حملهم في أرحام أمهاتهم، ومدة رضاعهم وطفولتهم ثمَّ ربيع عمرهم في شبابهم وقوتهم، فأغلقوا بأيديهم أبواب الرحمة الإلهية أمام وجوههم.
ـ لابُدَّ للإنسان كي يستوعب طريق الهداية، من قلب نابض بالحياة الروحية، مبتعد عما يُغَلِّفُهُ من التعلُّقات بغير الله تعالى، ولابُدَّ له من آذان واعية متفتحة مرتبطة بهذا القلب، لكي يعمره بنور ذكر الله.
ـ في كلِّ مناسبة يذكِّرنا الله عزَّ وجل بعظيم رحمته، ليشدَّ قلوبنا إليه في لحظة يصحو فيها ضميرنا، ويتحرك فؤادنا لهفة للمحبوب وتوبة صادقة إليه، فإن لم نغتنم هذه الفرص، فليس أمامنا مَفَرٌّ من مواجهة نتائج أعمالنا في اليوم الموعود.(3/152)
في رحاب الآيات:
إن للظلم درجات، ولعلَّ أشدَّ أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه وهو يعلم، وأن يقودها في دروب التعاسة والشقاء مدَّعياً أنه يُحْسِنُ صنعاً، وإذا حدثَ ونبَّهه أحد إلى هذا، أشاح بوجهه وأعرض عنه، وإذا قُدِّمت له البراهين والدلائل سخر وتشاغل. والله تعالى ينعى على هذا الإنسان المقصِّر الَّذي أعلن الحرب ضد نفسه، ويصفه بأنه أظلم من في الأرض، وذلك لأن من يحارب نفسه فلا يعقل أبداً أن ينصف أحداً ممن حوله، فقد فسدت فطرته وتعفَّن قلبه، فأَنَّى للخير أن ينبثق وسط هذا العَفن، وأَنَّى للنور أن يومض وسط هذه الظلمة؟.(3/153)
ولكن كيف يظلم الإنسان نفسه، وما مظاهر هذا الظلم؟ إنها تبدو في إعراضه، وفي قسمات وجهه، وتقطيب جبينه؛ كلَّما دُعي إلى الله، أو سمع آياته تتلى، فهو يتجافى عنها وكأنها لا تعنيه، فلا يستوعبها ولا يستفيد منها، مع أنها قوى فاعلة لإنقاذه وتأمين السعادة له. فهو يظنُّ أنه في مستوى رفيع يحول بينه وبين التواضع لسماع كلمة الحقِّ، وتأخذه العزَّة بالإثم، فلا يهتزُّ قلبه حين يسمع بيان السماء يُلقَى في ضمير الكون، فإذا الجبال والأشجار والبهائم والحجارة كلُّها تصغي، وكلُّها تُسَبِّحُ بحمد الله، وتقدِّس له، وهو وحده الغريب عن نشيد الوجود، قد تقوقع في دائرة صغيرة جداً هي دائرة الذات، ورأى الوجود على انفساحه من خلال بؤرة ذاته الضيِّقة، فما راق له وتناسب مع أفكاره، فهو الجليل والعظيم، وما تعارض مع ميوله ورغباته، فهو المستنكَر المستقبح. لقد انغمست نفسه في مستنقع الأنانية فتناثر الرذاذ على قلبه، وأُحيط بطبقة كتيمة تحول بينه وبين نور الله، فانحبس ماء الحياة فلم يترشح شيء من جدرانه، ووصل بعض من هذا الرذاذ إلى أذنيه فأصيب بالصمم المعنوي، فهو لا يسمع ولا يعقل، وإن سمع فلا يحاول أن يفهم. لقد سدَّ أذنيه برتاج التكبُّر والغطرسة، إمَّا بسبب إقباله على الدنيا، أو بسبب غنى يورثه غروراً واستكباراً، وربَّما دون سبب ما يجعله يُعْرِضُ عن نداء الله. والله جلَّ وعلا لا يترك عباده ـ حتَّى العصاة منهم ـ دون دليل، فهو يرسل الأنبياء للتذكير ومن بعدهم المصلحين والمعلِّمين والدعاة، الَّذين يدأبون على محاولة تصحيح مسيرة المنحرفين، ولكنَّهم قد لا يفلحون في ذلك؛ لأن القلوب إذا صَدِئَت فسدت، والأرواح إذا تلوثت بالدنايا احتجبت، والنفوس إذا طغت تمردت على أصحابها.(3/154)
إن تصرُّفات الإنسان الَّتي تخالف شرع الله وتؤذي صاحبها، وتُلحِق الضرر به، أو الَّتي تؤذي الآخرين مادِّياً، أو معنوياً، تُعْرَضُ جميعها على محكمةِ ربِّ العالمين، ولو شاء الله لحاسب فاعلها على الفور، ولكنَّه يمهله رحمةً به إلا أنه لا يهمله، وذلك من أجل أن يتوب ويصلح ما أفسده بذنوبه وأخطائه. فالله جلَّ وعلا أرْأفُ بالإنسان من أمه وأبيه ومن نفسه على نفسه، فهو خالقه وموجده من العدم، لقد اختاره عند الحمل من بين ملايين الحيوانات المنوية من أمثاله، ليكون إنساناً سويّاً، ونفخ فيه من روحه، وكرَّمه بالعقل، وأسجد لأبيه ملائكته، فهل يعقل أن يُنْزِلَ به عقابَه لأقلِّ هفوة؟ إنه يؤخره ليثوب إلى رشده، وتعود الحياة إلى ضميره، والله سبحانه يهيئ له الفرصة من أجل أن ينتفض قلبه ويطرح ما علق به من أوزار، فيندم ويستغفر وتجري دموعه سخية بين يدي مولاه، فإذا لم يحدث منه هذا وأَصَرَّ على مخالفته، فإن الإرادة العليا قد تعطي الإذن بإنزال العقوبة بهذا المخالف، في الدنيا بالابتلاء بالمرض أو الفقر أو غيره، وقد تؤجِّله إلى يوم القيامة، حيث لا يجد العاصي ملجأً من الله إلا إليه، وينزل به العقاب جزاء ما اقترف في حقِّ نفسه، وحقِّ ربِّه، وحقِّ إخوانه في الإنسانية، إحقاقاً للحقِّ الَّذي رفعه الله فوق كلِّ القِيَم، وجعله ميزانه في الأرض وفي السماء على السواء.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {وضَرَبَ الله مثلاً رجُلَيْنِ أَحَدُهُما أبْكَمُ لا يقدِرُ على شيءٍ وهو كَلٌّ على مولاهُ أينما يُوَجِّههُ لا يأتِ بخيرٍ هل يستوي هو ومن يأمرُ بالعدلِ وهو على صراطٍ مستقيم(76)}
ومضات:(3/155)
ـ إن إنتاج الإنسان وعطاءه ينبعان من القوى الفاعلة لديه، فإذا أعيقت هذه القوى أو شُلَّت، تلاشى وجوده الإنساني ليتحوَّل إلى وجود ناقص غير مسؤول، وليصبح حِملاً ثقيلاً على مجتمعه. ولكنَّ هذه القوى إن تحرَّكت وفاضت ينابيعها، كان وجوده نافعاً يحقِّق الخير للجميع.
ـ العطاء الحقيقي الَّذي يمكن للإنسان أن يقدمه لمجتمعه، هو أن يشيع العدل والاستقامة بين صفوف الناس، ويدعو إليهما، لأنهما قوام كلِّ خير.
في رحاب الآيات:
إن طبيعة الحياة تقوم على وجود المفارقات في كلِّ مجال، ومن هذه المفارقات ما نلاحظه من تمايز بين فرد وآخر، فهذا ذكي وذاك غبي، وهذا حليم وذاك أحمق، وهذا شيطاني وذاك ملائكي، ومن تجمُّع هذه العناصر المتباينة يتشكَّل هذا العالم الَّذي ينبض بالحيوية، ويتواصل على الرغم من كثرة الاختلافات والتناقضات بين أفراده، لتستمر دورة الحياة وتدوم.
وقد عرض القرآن الكريم بالتمثيل الهادف، وَجْهَي الحياة المتضادَّين مجسَّدين في رجلين: أحدهما عاقل عامل، نشيط دؤوب على خدمة نفسه وخدمة من حوله، لا يدرك وجوده إلا في إطار العمل المنتج البنَّاء، ولا يستطيب طعم الحياة إلا إذا كانت مفعمة بالحركة والسعي المثمر، قد سخَّر قواه الجسدية والفكرية للبحث والإنتاج والإعمار، وهو أبعد ما يكون عن الأنانية، يسوؤه ما يسوء مجتمعه، ويؤذيه ما يؤذي إخوانه وبني جنسه، لذلك رفع شعار العدل والاستقامة ودافع عنه، وأرسى قواعده في سلوكه ومعاملاته، بإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.(3/156)
والآخر: عاجز عن القيام بأي عمل، قد انتقص من سلامة حواسِّه، على الرغم من توافر كلِّ مقوِّمات العمل لديه، من صحَّة جسدية وصحَّة فكرية ونفسية، فهو عالة على غيره، يعيش في الحياة دون هدف، وهو دائم التذمُّر والشكوى، يستهلك ولا ينتج، يداه مغلولتان وقواه معطَّلة وحواسُّه مجمَّدة. إن نظر فنظرته محدودة لا تتجاوز حدود أنفه، وإن حلم فلا يحلم إلا بالراحة والدعة على حساب غيره، فهو كالنبات المتطفل الَّذي يتسلق على النبات المثمر فيمتص غذاءه لينمو دون أن يثمر شيئاً.
فالتعامل معه في الحقيقة هدر للوقت ومضْيَعة، وهو حِملٌ ثقيل على من يعوله ومن يلوذ به. فمن يعطِّل طاقاته الجسدية أو الفكرية ولا يسخِّرها لخدمة المجتمع، فهو إنسان أبكم كما صوَّرته الآية الكريمة، وهو عديم الإنتاج لا جدوى منه، وإنَّ كثرة أمثال هذا الإنسان العقيم في المجتمع، يجعل المجتمع مشلولاً ومنهاراً. وعلى النقيض من ذلك فإنَّ وجود كثير من أمثال الرجل المنتج يعني البناء والازدهار، والفرق بيِّن شاسع بين الرجلين كالفرق بين النور والظلام.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ومنهم من يُؤمنُ به ومنهم من لا يُؤمنُ به وربُّكَ أعلَمُ بالمفسدين(40) وإن كذَّبوكَ فقل لي عَمَلي ولكم عَمَلُكُم أنتم بريؤون ممَّا أعملُ وأنا بريءٌ ممَّا تعمَلون(41) ومنهم من يَستمعونَ إليك أفأنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولو كانوا لا يعقلون(42) ومنهم من يَنُظرُ إليك أفأنتَ تَهدي العُمْيَ ولو كانوا لا يُبْصِرون(43) إنَّ الله لا يَظلمُ النَّاسَ شيئاً ولكنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يظْلِمون(44)}
ومضات:
ـ يؤمن بالقرآن الكريم من يملك العقل المفكر، والقلب الندي، والذوق السليم، والحس المتميِّز، ويكفر به من تحجر تفكيره، وفترت عواطفه فقسا قلبه وتصلبت أحاسيسه.
ـ يجب أن يبقى العمل الإيماني طاهراً نقياً لا تشوبه شائبة من شوائب الكفر وأهله.(3/157)
ـ الكافر برسالة الإيمان أشبه بصنم متحرك، أو إنسان آلي أفقده كفره القدرة على التفكير؛ فأعمى بصيرته، وأصمَّ أذنيه، وسلبه حسَّ الإدراك والتدبير.
في رحاب الآيات:
خلق الله تعالى للإنسان عقلاً يفكر به، وقلباً يستهدي بهديه، وتركه حراً يبحث عن أسباب سعادته بموجب ما أعطاه من إمكانات وقدرات على البحث والاستكشاف. فأقبل بعض الناس على الله حباً له وإيماناً به، واعترافاً بقدرته، وتولَّى بعضهم وأدبر مفسداً في الأرض غير مصلح. فكانت ثمرة المقبلين على الله مجتمعاً سليماً، ونشراً للعلوم والثقافة، وصحة نفسية وجسدية، وكانت حصائد المفسدين حُجُباً على الأبصار، منعتهم من رؤية الحقِّ والنور الإلهي، وصَمَماً في الآذان أبعدهم عن سماع جوهر الإرشاد والموعظة.
وقد شبَّه الله تعالى المكذِّبين المصرِّين على التكذيب بالصُّمِّ العُمْي، من حيث أن شدَّة إعراضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتهم من إدراك محاسن كلامه، ومشاهدة دلائل نبوته، كما يمنع الصمم من إدراك محاسن الكلام، والعمى عن مشاهدة روائع المشاهد والصور. فهم ينظرون إليه ولكنَّهم عُمْيُ البصائر، ويستمعون إليه ولكنَّهم لا يتدبَّرون قوله ولا يفقهون المراد منه، وجلُّ همِّهم أن يختبروا القوافي في نظم القرآن، وجرس صوته، كمن يستمع إلى الطائر يغرِّد على غصن ليتلذذ بصوته دون أن يفهم مُراده، وقد وصف الله حال هؤلاء بقوله: {ما يأتِيهِم من ذِكْرٍ من ربِّهم مُحْدَثٍ إلاَّ استمَعوهُ وهم يلعبون} (21 الأنبياء آية 2).(3/158)
إن هداية الدِّين، كهداية الحسِّ، لا تتمُّ إلا بهداية العقل، وهداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحَّة القصد، وهؤلاء انصرفوا عن استعمال عقولهم استعمالاً نافعاً في الدلائل البصرية والسمعية، فأساؤوا إلى أنفسهم لأنهم أفسدوا استعدادهم الفطري لقبول الإيمان، وأساؤوا إلى الناس حين أفسدوا أخلاقهم وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم، بما نشروه من أفكار باطلة، وما أشاعوه من ضلال. فمن فسدت فطرته لا يتورَّع عن رفض النور والهدى الَّذي يأتيه من قِبَل الله تعالى، ولن يتورَّع عن تكذيب الرسول، لكنَّه تعالى يواسي نبيَّه ويشدُّ عضده فيقول: أيُّها الرسول إن كذَّبوك فقل: لي عملي؛ وهو البلاغ المبين، والإنذار والتبشير، والدعوة إلى التوحيد، وجزاء ذلك الجنَّة والوصال من الله، ولكم عملكم؛ وهو الإفساد، وصرف القلب عن قبول الفيض الإلهي، وجزاؤه الخزي بين الأمم، والذُّل والتخلف بين الشعوب؛ في الحياة الدنيا، والنار والقطيعة في الآخرة، وهذا ما جنته أيديهم وما الله بظلاَّم للعبيد.
سورة النجم(53)
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيتَ الَّذي تَولَّى(33) وأعطى قليلاً وأكْدَى(34) أعندهُ عِلْمُ الغيبِ فهو يَرى(35) أم لم يُنَبَّأ بما في صُحفِ موسى(36) وإبراهيمَ الَّذي وفَّى(37) ألاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى(38) وأنْ ليسَ للإنسانِ إلاَّ ما سعى(39) وأنَّ سعْيَهُ سوفَ يُرى(40) ثمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الأوفى(41) وأنَّ إلى ربِّكَ المُنتهى(42)}
ومضات:
ـ ترسم الآيات صورة اجتماعية لمن أعرض، ويضع الشروط تِلْوَ الشروط لإنفاقه، أو يَمنُّ على من ينفق عليه، أو يعتقد بعدم أهليته للصدقات وفقاً لمزاجه، وكأنه مطَّلع على الغيب أو ناظر إليه.(3/159)
ـ لقد جاء في الشرائع السماوية جميعها أنَّ كلَّ إنسان مسؤول عن عمله، فلا يتحمَّل إنسان وزر إنسانٍ آخر أو مسؤوليته، فليس للإنسان إلا ما أنتج وقدَّم، وسيُعْرَضُ ما قدَّمه على المحكمة الإلهية، ومن ثمَّ يُحاسب عليه وينال ما يستحقُّه من جزاء.
ـ إن مصير الخلائق والأكوان كلِّها إلى خالقها ربِّ العالمين، وهو العليم الخبير بما انطوت عليه صحائف أعمالهم ودخائل نفوسهم.
في رحاب الآيات:
يعرض القرآن صوراً اجتماعية متلاحقة للذي أدار ظهره للشريعة السمحاء، وامتنع عن الجود بماله أو كاد، بسبب بخله وتعلُّقه به وحبِّه لكنز الثروات، وكان يجدر به أن ينفق بسماحة نفس وسخاء، لأن الإنفاق هو دعوة الشرائع السماوية كلِّها.
والله جلَّ وعلا يخاطب عباده بلهجة المتعجِّب من أمر عبده، الَّذي يبدأ بدافع الإيمان، ببذل جزء من ماله أو من جهده في سبيل الله، ثمَّ يَضْعُفُ عن المواصلة ويَكُفُّ عن العطاء، وكان حريٌّ به أن يواصل عمله وإنفاقه، وأن يعيش موفِّياً حقَّ السائل والمحروم طوال حياته، وألا يبذل ثمَّ ينقطع، فلا ضمان له في الغيب المجهول إلا عمله ووفاؤه، ورجاؤه من هذا كلِّه مغفرة الله وقبوله. ويتخذ القرآن الكريم من حال هذا الإنسان مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها، فهل اطَّلع هذا الإنسان على الغيب فعلم أنه لا فائدة ترجى من إنفاقه؟ وهل علم بما جاء في شرائع الله عن دور الإنفاق وعظيم أجره، إنه لو تَتَبَّع ذلك لوجد أن الدِّين واحد، ثابتة أصوله وقواعده، متصلة عُرى أوائله بأواخره، يصدِّق بعضه بعضاً على توالي الرسالات والرسل عليهم السَّلام، وتباعد المكان والزمان بينهم، فهو في صحف موسى، وفي مِلَّة إبراهيم الَّذي وفَّى بكلِّ ما أمره به الله تعالى وفاءً استحقَّ به هذا الوصف.(3/160)
إن جميع الشرائع السماوية مُجْمعةٌ على مبدأ المسؤولية الفردية، فلا مشاركة في ثواب أو عقاب، فكلُّ نفس بما كسبت رهينة، وهذا ما أشار إليه الله تعالى بقوله: {ألاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا تحمل نفس حمل أخرى، لا تخفيفاً عن نفس ولا تثقيلاً على أخرى، ولا تُؤاخَذُ نفس بجريرة غيرها، ولا تملك نفس أن تخفف من وزرها ولا أن تتطوع فتحمل عن نفس غيرها شيئاً. كذلك، فما يُحسب للإنسان إلا سعيه وعمله، وهذه الحياة الدنيا هي الفرصة المعطاة له ليعمل ويسعى، ولن يضيع من هذا السعي شيء، ولن يغيب عن علم الله وميزانه الدقيق مثقال ذرَّة، وسينال كلُّ فردٍ جزاء سعيه وافياً كاملاً، لا نقصَ فيه ولا ظلم. وبذلك يتحدَّد مبدأ فردية التبعة، إلى جانب عدالة الجزاء، فتتحقَّق للإنسان قيمته الإنسانية، القائمة على اعتباره مخلوقاً راشداً مسؤولاً ومؤتمناً على نفسه، وتتحقَّق له كذلك الطمأنينة إلى عدالة الجزاء، عدالة مطلقة لا يميل بها الهوى، ولا يقعد بها القصور، ولا يُنقص منها الجهل بحقائق الأمور.
وختاماً يؤكِّد القرآن الكريم على أن المنتهى والمصير إلى الله تعالى، فلا طريق إلا الطريق الموصل إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا مأوى إلا داره في نعيم أو جحيم، ولهذه الحقيقة أثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوُّره، فحين يُحِسُّ أنَّ إلى الله منتهى كلِّ شيء وكلِّ أمر، فإنه يستشعر من أوَّل الطريق نهايته الَّتي لا مفرَّ منها ولا محيص عنها، ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة، ويظلُّ قلبه وعمله مرتبطين بتلك النهاية منذ أوَّل الطريق وحتَّى آخره.
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ من يعبدُ الله على حَرْفٍ فإن أصابَهُ خيرٌ اطمَأنَّ به وإن أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلبَ على وجههِ خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ ذلك هو الخُسرانُ المُبين(11)}
ومضات:(3/161)
ـ في هذه الآية نموذج لأناس نقابلهم كلَّ يوم، وهم في كلِّ عصر، يقيِّمون العقيدة بميزان المال من الربح والخسارة، لأنها بنظرهم بمثابة صفقة تجارية، فإن هم أصابوا مكسباً من ورائها شكروا، وإن أصابهم بلاءٌ بسببها كفروا، وأضاعوا فرص الحياة الإيمانية وثواب الدار الآخرة.
ـ العقيدة الراسخة تنبع من الإيمان الصادق والقلب المؤمن، وتمتد جذورها إلى الأعماق، لا يزعزعها شيء لأنها تغلغلت في الصميم، وهي السياج المانع من السقوط في دوَّامة الحيرة والضياع.
في رحاب الآيات:
إذا أردنا أن نعقد مقارنة بين ما نقدِّمه لحضرة الله تعالى من العبادات وبين ما نكسبه منه سبحانه، لكانت سجدة واحدة نسجدها له مدى الحياة قاصرةً عن أداء واجب الشكر له. فعطاءات الله أكثر من أن تحصى أو يدركها عقل بشري، وكلُّها مُسخَّرة لخدمة الإنسان وسعادته إذا أحسن استعمالها. ولكنَّ اعتياد الناس على النعم الإلهية ينسيهم أحياناً فضل المنعم، ويشغلهم عن أداء واجب الشكر له، فبعض الناس يشعرون بالرضا منه تعالى، طالما أن تيار النِّعَم يسير في الاتجاه الَّذي يرغبون، ومع ذلك فهم يتغافلون عن أداء حقِّه، أو تقديم الشكر العملي له كالإحسان إلى الآخرين، وكأن منحهم النعم هو واجب على الله، وقد يزيدهم هذا العطاء استكباراً وغفلة وبُعداً عن خدمة عباد الله ورعاية شؤونهم. إن أمثال هؤلاء الناس يَظْهَرُ زيفُ إيمانهم وزيغ نواياهم بمجرد أن ينقلب عنهم تيار النعمة، فيُقلعون عن عبادة الله ويبتعدون عن صالح الأعمال، فيخسرون بذلك ما فقدوه من نعم الدنيا، إضافة إلى خسرانهم الآخرة وهذا هو الأهمُّ والأعظم.(3/162)
لذلك فإن حياة المؤمن لا تستقيم إلا على أسا س راسخ من العقيدة، فالعقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت، وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث بالإيمان الَّذي لا يتزعزع، وتتهاوى من حوله الأسناد، فيستند إلى قوَّة الله الَّتي لا تحول ولا تزول. هذه هي قيمة العقيدة في حياة المؤمن، لذلك فهو يتشبث بها، مطمئناً إليها، واثقاً بها، لا ينتظر عليها مكافأة ولا ثواباً، فهي في ذاتها ثواب على تفتُّح القلب للنور وطلبه للهدى. والمؤمن يدرك قيمة هذا الثواب حين يرى الحيارى الشاردين من حوله، تتجاذبهم الرياح، ويستبدُّ بهم القلق، بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله مطمئن بهذا الاتصال. أمَّا ذلك الصنف من الناس الَّذي يتحدث عنه السياق، فإنه يقيِّم العقيدة بمنظار التجارة، فإن أصابه خير مادِّي اطمأنَّ به، ووجد أن الإيمان خير يجلب النفع، وإن أصابه بلاء لم يصبر عليه، ولم يتماسك تجاهه، ولم يرجع إلى الله فيه، فخسر الدنيا، وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الَّذي كان مُيسَّراً له. وإذا كان حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة بحطام الدنيا، فإنه لا يصلح للعقيدة، فالعقيدة حقٌّ يُعتَنَقُ لذاته، وهي تَحْمِلُ مردودها في ذاتها، ولا تكتسبه من مصدر خارج عنها. فالصواب أن يشعر العبد دائماً وأبداً أنه ـ وما يملك ـ ملك لمولاه وخالقه، فإن أُعطي شكر، وإن أُخذ منه صبر، وهذا منتهى معنى العبودية لله، وفي هذا قمة الاتِّصال الوجداني المبني على الحبِّ والإيمان.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {من كفَرَ بالله من بعدِ إيمانِهِ إلاَّ من أُكرِهَ وقلبُهُ مطمئنٌّ بالإيمانِ ولكنَّ من شرَحَ بالكُفْرِ صَدْراً فعليهِمْ غضبٌ من الله ولهم عذابٌ عظيم(106)}
ومضات:(3/163)
ـ ليس الانتساب إلى مدرسة الإيمان مجرد عمل شكلي أو لفظي، وإنما هو الانتظام والانضباط في مجتمع تحدِّد معالمه وترسمها المشيئة الإلهية، حيث لا مجال للتردد أو التذبذب أو التراجع. لذا يجب أن يكون قرار الإيمان نابعاً من صميم القلب، منبعثاً من إرادة حرَّة متوَّجاً بالعقل المفكر النزيه.
ـ يباح للمؤمن حين يشتد به الأذى ممَّن حوله من الناس، بسبب عقيدته، أن يتحاشى ذلك الأذى، بالحكمة والتصرُّف المناسب، الَّذي يضمن السَّلامة لعقيدته والنجاة لجسده، وإن اضطر في سبيل ذلك لأن يتَّخذ تصرُّفات تخالف بظاهرها حقيقة إيمانه.
ـ المرتد عن الإيمان إلى الكفر، بعد أن أكرمه الله بالمعرفة واليقين، هو إنسان عابث مستهتر، لا يحسن تقدير الأمور ولا يكرم جوارها، بل هو مُضَيِّعٌ أثمن جوهرة ساقتها إليه العناية الإلهية، ولهذا كان هدفاً لوعيد الله وتهديده له بعذاب أليم.
في رحاب الآيات:(3/164)
نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه ، فقد روى ابن جرير عن أبي عبيدة محمَّد بن عمار بن ياسر قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتَّى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عادوا فعد». فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لمن يتعرض لمثل هذه الحال. فمن أُكره على الكفر، فتكلَّم بلسانه ما يخالف قلبه، لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يؤاخذ العباد بما انعقدت عليه قلوبهم، وقد جاء في الحديث الشريف: «وُضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه» (رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنه ). والحكمة تقتضي أن يتجنب المؤمن أذى الأعداء في التستُّر على عقيدته عندما يسبِّب له الإعلان ضرراً فادحاً، فالمجاهرة أحياناً يكون لها ردود فعل خطيرة قد تودي بالدعوة نفسها. ويضرب القرآن الكريم مثلاً على هذا التكتُّم في سورة غافر، حيث يروي ما حدث بين فرعون وموسى عليه السَّلام، فقد أراد فرعون أن يقتل موسى خوفاً على نفوذه وسلطانه الَّذي يهدده الدِّين الجديد: {وقال فرعونُ ذَروني أَقْتُلْ موسى..} (آية 26)، فالتجأ موسى لربِّه ليحميه من أذى فرعون فقال: {..إنِّي عُذتُ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبِّرٍ لا يؤمنُ بيومِ الحساب} (آية 27)، فبرز رجل مؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه خوفاً على نفسه ودينه، حتَّى إذا حانت اللحظة المناسبة لكي يقوم بواجبه، بالحكمة والدراية والموعظة الحسنة، راح يدافع عن موسى فأحسن الدفاع، لاسيَّما وأن القوم كانوا يعتقدون أنه من الكافرين: {وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ أتقتُلونَ رجُلاً أن يقولَ ربِّيَ الله وقد جاءَكُم بالبيِّناتِ من ربِّكم وإنْ يَكُ كاذباً فعليه كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صادقاً يُصبْكُم بعضُ(3/165)
الَّذي يَعدُكم إنَّ الله لا يهدي من هوَ مسرفٌ كذَّاب} (آية 28).
ويُستفادُ من ذلك أن الإيمان الحقيقي هو الثقة الكاملة بالله، والاستسلام الروحي والعقلي له، وأنه يجوز التستر على العقيدة إذا خاف الإنسان على روحه، بشرط أن يكون القلب ثابتاً على الإيمان، مطمئناً به، أمَّا من كفر حقيقة بإرادته واختياره من بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وله عذاب عظيم.
ولا يجوز أن تكون العقيدة موضع مساومة، ولا وضعها في ميزان الأرباح والخسائر، لأنها ليست صفقة قابلة للأخذ والرد فهي فوق هذا وأعز، وهي في حياة المؤمن أمر ثابت لا محاباة فيه ولا ترخيص، وهي أمانة ولا يُحْسِنُ رعايتها إلا من وعاها وأدرك حقيقتها. فلا يمكن لإنسان ذاق حلاوة الإيمان أن يرتدَّ عن دين الله، بينما الارتداد الَّذي حصل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فإنه يعود إلى عوامل يمكن اختصارها في الأسباب التالية:
1 ـ دخول أولئك المرتدِّين في حظيرة الإيمان بدافع عاطفي، وبمعزل عن التفكر والتدبُّر العقلاني لهذه العقيدة، أو بسبب دخولهم في الدِّين من أجل مصالح اجتماعية أو مادِّية أو سياسية.
2 ـ تعرُّضهم لإغراءات خارجية، لم تستطع نفوسهم مقاومتها والوقوف بوجهها، نتيجة لضعف إيمانهم، فانجرفوا وراءها وارتدُّوا عن الدِّين القويم.
3 ـ الخلافات والنزاعات الَّتي نشأت بين هؤلاء المرتدِّين وبين أقرانهم، والَّتي لعبت دورها في إثارة حميَّة الجاهلية الأولى، ممَّا أدَّى إلى انحرافهم عن جادة الإسلام.(3/166)
وهكذا فإن المرتدَّ عن دين الله، بعد أن عرفه وخَبِره واتخذه عقيدة له، إن استمرَّ على كفره حتَّى مات، كان أشدَّ ظلماً وأذى من الكافر الَّذي لم يعاين الدِّين على حقيقته ولم ينتسب إليه، ولهذا استحقَّ المرتدُّ هذا العذاب العظيم كما قال تعالى: {..ومن يرتَدِدْ منكم عن دينِهِ فيَمُتْ وهو كافرٌ فأولئك حَبِطَتْ أعمالُهُم في الدنيا والآخرةِ وأولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها خالدون} (2 البقرة آية 217).
وهكذا نستخلص أن عقاب المرتدِّ حقٌ منوط بحضرة الله، فلا يحقُّ لأحد أن يدَّعيه لنفسه، وأن يأخذ زمام المبادرة لمعاقبته. وإذا نجم عن المرتدِّ أذىً، أصاب غيره من المسلمين، أو صدر عنه تجريح لجوهر العقيدة، فإن السلطة القضائية هي وحدها صاحبة الحقِّ في محاكمته، وإصدار العقوبة بحقِّه؛ بمقدار حجم الضرر الَّذي تسبب به، سواء كان مادياً أم معنوياً.
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا من يرْتَدَّ منكم عن دينِهِ فسوفَ يأتي الله بقومٍ يحبُّهُمْ ويحبُّونَهُ أذِلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرينَ يجاهدون في سبيلِ الله ولا يخافونَ لومَةَ لائِمٍ ذلك فضْلُ الله يؤتيهِ من يشاءُ والله واسعٌ عليم(54) إنَّما وليُّكُمُ الله ورسولُهُ والَّذين آمنوا الَّذين يُقيمونَ الصَّلاة ويؤتونَ الزَّكاة وهم راكعون(55) ومن يتَوَلَّ الله ورسولَهُ والَّذين آمنوا فإنَّ حِزبَ الله همُ الغالِبون(56)}
ومضات:
ـ لن تتعطَّل مسيرة تبليغ الرسالات السماوية بتقاعس بعض الأشخاص عن دعمها، أو تجاهلهم لها، وإن من يتهاون في شرف خدمة عقيدة التوحيد هو الخاسر وهو المنبوذ، والبديل عنه موجود دائماً في قوافل المؤمنين، وتبقى العقيدة هي الرابحة والمنتصرة على مدار الأيام.(3/167)
ـ إن المتطوِّعين المخلصين لحمل مشاعل الهداية الربَّانية، هم بالتأكيد أفضل ممن سبقوهم من المتخلِّفين، وأكثر حماساً منهم، وأكثر استفادة من أخطائهم، وقد ثبتت بذور المحبَّة الإلهية في حنايا قلوبهم فأحبَّهم الله وأحبُّوه، وتخلَّقوا بالأخلاق الإسلامية بما فيها من رحمة ومودَّة للمؤمنين، وعزَّة وكبرياء على الكافرين، وما فيها من جهاد مستمر لنشر العلوم والأخلاق والفضائل، ضمائرهم حرَّة، وأيديهم نزيهة لا تمتدُّ إلى حرام، لذا فهم لا يخشون في الله لومة لائم.
ـ تتجلَّى عظمة الدِّين الإسلامي في عناية الله تعالى ورسوله بالمؤمنين، وفي التزام المسلمين بأمور دينهم الَّتي يؤدونها ولو في أحرج الظروف.
ـ حزب الله كناية عن جموع المؤمنين المحبِّين لله، المتراصِّين في العمل لأجل سعادة الإنسان، وهم المتعاطفون والمتراحمون، وهم صفوة المجتمع المؤمن النقي الخيِّر، وهم بالنهاية المتفوقون الظاهرون بعلومهم وآدابهم وصفاتهم النبيلة.
في رحاب الآيات:
من آيات عظمة القرآن الكريم وإعجازه، شدَّة تعايشه مع واقع البشر وتقلُّباتهم، وتصويره الحي لها، فهو يخترق الحواجز الظاهرية للنفس البشرية، ويستحضر ما وراءها من نوازع ودوافع، ويعرضها أمامنا واضحة جلية، مع كلِّ ما فيها من غيبية وانحجاب، فإذا هي أمام حواسِّنا حية نابضة أمامنا، نشاهدها كما حدثت، وكما ستحدث، ويتكرَّر حدوثها إلى قيام الساعة. ومن هذه المشاهدات إخبار القرآن الكريم عن احتمال ارتداد فئة من المسلمين عن إسلامهم، أو تهاونهم في خدمة الإسلام، وتقاعسهم عن المشاركة في الرقي بالمجتمع الإسلامي، أو انغلاقهم على أنفسهم والتقوقع ضمن دائرة الذات. إن هذه الردَّة في أي رداء ظهرت لن تضرَّ الله شيئاً، لأن الله يأبى إلا أن يُتمَّ نوره، وهو دائماً يُلهم الصفوة من عباده متابعة العمل دون ملل أو كلل، في سبيل خدمة الصالح العام.(3/168)
من هنا نرى أن المتهاونين والمتقاعسين هم المتضررون أوَّلاً وأخيراً، لأنهم انسلخوا عن المؤمنين الصادقين، فنفاهم الله إلى ظلمات أنفسهم، وسراديب غفلتهم يتخبَّطون ولا يهتدون. وهكذا الحال مع كلِّ فئة تتهاون في أداء واجبها فإن الله تعالى يستبدلها بفئة أنشأت بينها وبينه جسوراً من المحبَّة والقرب، وشيَّدت قواعد إيمانها على دعائم من الصبر ومخالفة الهوى، وتنمية نوازع الخير المغروسة في نفوس أفرادها. وقد نمت محبَّة الله في قلوبهم كما تنمو البذرة الطيِّبة في الأرض الخيِّرة، فهي تؤتي ثمارها كلَّ حين بإذن ربِّها، وأيَّةُ ثمارٍ تلك الثمار؟ إنها الإحساس العميق بالرضا والاطمئنان في النفس والضمير، والانسجام التَّام مع الفطرة البكر، الَّتي لم تفسدها النظريات المشوَّهة ولا الجدل العقيم. هذا الإنسان المؤمن الَّذي باع نفسه لله ولن يبخسه الله حقَّه، بل سيفيض عليه من آلائه ما لا يدركه إلا عاشق واصل مجرِّب، فتراه وهو في أسوأ حالاته المادِّية والجسدية الظاهرة، تغمره سعادة روحية قلبية خفية، لو علم الملوك بها لقاتلوه عليها بالسيوف!.(3/169)
وقد يعتقد بعض الناس بأن حُسن صلتهم بالخالق تعني إهمال صلتهم بالمخلوقين، ولكنَّ حقيقة الأمر على خلاف ما يعتقدون؛ فمن حَسُنَت صلته بربِّه فلابُدَّ أن تَحسُنَ صلته بعباده، لأن الخلق كلَّهم عيال الله، وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله. فترى هذه الصفوة تتودد للمؤمنين، يساعدون ويواسون، يتواضعون ويُؤثرون، تدفعهم الأخوَّة في الله الَّتي ترفع الحواجز، وتزيل التكلُّف، وتؤلِّف القلوب. وبالمقابل فإنهم تجاه الكفار أعزَّة، لا اعتزازاً بالذات، ولا اعتداداً بالنفس وإنما هي العزَّة بالعقيدة، والثقة بأن ما معهم هو الخير، واليقين بغلبة دين الله على الهوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية. وحزب الله هم الَّذين آمنوا أن الحياة عقيدة وعمل دؤوب لإقرار منهج الله في الأرض، وإعلان سلطانه على البشر، وتحكيم شريعته في الحياة، لا يثنيهم عن ذلك تحالف قوى الشر، فالله هو الأقوى والأبقى. إنهم لا يخافون لومة لائم، إنما يخشى اللوم من يستمدُّ مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس، أمَّا من يستمد قوَّته وعزَّته من الله، فلا يبالي بما يقول الناس وما يفعلون، لأنه تربَّى على الخُلُق الكريم، وتزكَّت نفسه وروحه بنور الله تعالى وهدايته.(3/170)
إن هذا الاختيار من قِبَلِ الله تعالى، وهذا الحبُّ المتبادل بينه وبين الصفوة المختارة من عباده، وتلك الصفات الَّتي يصفُهم بها، كلُّ ذلك من فضل الله الَّذي يعطي لمن يشاء عن سعة وعن علم. فإذا أراد الإنسان أن ينتسب إلى حضرة الله فيجب أن يفرِّغ قلبه من كلِّ ما سواه، وأن يواليه ولاءً حقيقياً في المعتَقد والمنهج والسلوك، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا يؤمن أحدكم حتَّى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (رواه الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بإسناد صحيح) وكذلك أن يوالي رسوله بالسير على هداه، والاقتباس من نوره، والتمشِّي مع ما جاء به قولاً وعملاً وسلوكاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتَّى أكون أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» (رواه الشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه). إن حبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء ناجع للتخلُّص من جميع النقائص، الَّتي تقبع في نفس المؤمن وسلوكه، إذ أن الحبَّ دافع قوي إلى التأسِّي، ومن تأسى بالكمال المتمثل في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كمُل، وأصبح النهج المستقيم ديدنه في هذه الحياة، وهذا هو سرُّ أمر الله تعالى لنا بأن نحبَّ الله ورسوله أكثر من حبِّ ما سواهما، ومن ثمار هذا الحبِّ أيضاً موالاة المؤمنين الَّذين يسلكون السبيل نفسه. ويجب أن لا يغيب عن الذهن أن مفهوم موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً يتضمن التآخي، والتعايش السلمي معهم، وتأدية ما لهم من حقوق، والتجاوز عن أخطائهم، قال تعالى: {إنَّما المؤمنون إخْوَةٌ..} (49 الحجرات آية 10). هذه الموالاة مشروطة بشروط إيمانية بحتة لا تشوبها شائبة من شوائب الدنيا، فتخرجها عن مسارها الطبيعي المرسوم. وأوَّل هذه الشروط أن يكون من تُواليه مؤمناً إيماناً صادقاً، وأن يكون مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة، فهما فرعان من شجرة الإيمان، فالأوَّل تواصلٌ وتوادد مع الله،(3/171)
والثاني تواصلٌ وتوادد مع مخلوقاته.
وتضيف الآية سمةً أخرى من سمات أولياء الله، وهي أنهم يُؤدُّون ما عليهم من حقوق الله وهم راكعون متواضعون وقلوبهم وَجِلة، فهل ستُقبل أعمالهم أم ستُردُّ عليهم؟ وهل سيُسجَّلون عند الله من الأبرار أم لا؟ فالركوع: يعني الخضوع والتواضع، والتأدب مع الله، وتقديم فروض الطاعة له، والاستشعار بعظمته والوفاء بحقِّه، ونفي الكِبْر والعُجْب من النفس، وتذكير المؤمن بعبوديته الدائمة لربِّه، فلا يركب متن الغرور، ولا يتعالى على مخلوقات الله. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: تصدَّق عليٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بخاتمه وهو راكع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل: مَن أعطاك هذا الخاتم؟ قال: ذاك الراكع، فأنزل الله تعالى: {ويؤتون الزَّكاة وهم راكِعون..}.
إنها قلوب مُفعمة بالصدق مع الله يحملها هؤلاء الخاشعون في صدورهم، فهم إن صلَّوا فليتَّصِلوا، وإن زكَّوْا فليتزكُّوا، وهكذا فإن شعرة دقيقة جداً تفصل بين فريقين متناقضين تمام التناقض، فكلاهما يتعب وكلاهما ينصب، ولكنَّ الأوَّل عمل لله فسكن جلال الله في قلبه، فملأه من حبِّه وحكمته، والثاني عمل إرضاءً للهوى، فعشَّش الشيطان في قلبه! فالفريق الأوَّل شكَّل حزباً إيمانياً، لا حزباً سياسياً، حزباً عاملاً كخلية النحل، فالواحد للكلِّ، والكلُّ للواحد، وقد قدَّر الله لإيمانهم الفوز على الكفر، ولخيرهم الانتصار على الشر.
----------------
الباب الحادي عشر -الدفاع عن العقيدة والثبات في مواجهة أعدائها
الفصل الأوَّل:
دعوة الإسلام إلى السَّلام
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذينَ آمنوا ادخُلوا في السِّلْمِ كافَّةً ولا تَتَّبعوا خُطواتِ الشَّيطانِ إنَّه لكم عَدوٌّ مبينٌ(208)}
سورة الأنفال(8)
وقال أيضاً: {وإن جَنَحوا للسَّلْمِ فاجْنَحْ لها وتوكَّلْ على الله إنَّه هو السَّميعُ العليم(61)}
ومضات:(3/172)
ـ كلَّما تمسَّكنا بجميع تعاليم الإسلام قَوِيَ بنيانه وازداد صموده أمام أعدائه، إلى أن يجذبهم بقوَّته إلى التعايش السلمي مع أفراده، وهذا هو الهدف الحقيقي الَّذي ترمي إليه شريعة السماء، من وراء سعيها لإيجاد هذا التعايش بالمحبَّة والإخاء.
ـ لا سبيل إلى السَّلام الحقيقي الدائم إلا بالإيمان العقلاني الحرِّ الَّذي يوصل إلى الإخاء الإنساني العالمي، ويسدُّ على المخرِّبين أتباع الشيطان، كلَّ ثغرة يمكن لهم أن ينفذوا من خلالها، للإساءة إلى المحبَّة العالمية.
في رحاب الآيات:
السَّلام غصن متفرِّع من شجرة الإسلام الوارفة الظلال، لأنه دين يقدِّس الحياة الحرَّة الكريمة، ويرغِّب الناس فيها، ويعينهم على المضي لتحقيق غاياتهم المثلى، والرقي والتقدُّم، في ظلال الأمن والعدالة والمساواة، وكلُّ ذلك من المقوِّمات الأساسية لإحلال السَّلام.
ولفظة الإسلام ـ الَّتي هي اسم هذا الدِّين ـ مأخوذة من كلمة السَّلام، والسَّلام والإسلام يلتقيان في توفير الطمأنينة والأمن والسكينة للإنسانية جمعاء. فالسَّلام هو أحد أسماء الله الحسنى، لأنه عزَّ وجل يمنح الأمن للناس بما شرَّع من مبادئ قويمة، وبما رسم من خطط ومناهج حكيمة، من شأنها أن تحقِّق الاستقرار والأمان. وهو تحيَّة المسلمين فيما بينهم، قال تعالى: {وإذا جاءك الَّذين يُؤمِنون بآياتِنا فقُلْ سلامٌ عليكُم...} (6 الأنعام آية 54)، وتحيَّة أهل الجنَّة، قال عزَّ وجل: {دعواهُمْ فيها سبْحانَكَ اللَّهُمَّ وتحيَّتُهُم فيها سلامٌ..} (10 يونس آية 10) وفي هذا كلِّه دلالة واضحة على أن دين الإسلام هو دين السَّلام.. وبأن المسلمين هم أهل السِّلم والسَّلْم.(3/173)
وعلى هذا، فالسَّلام مبدأ من المبادئ الَّتي عمَّق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين، وقد دعاهم إليه ونهاهم عن اتِّباع خطوات الشيطان بالتفرُّق والتفريق؛ لأن سعادةَ الناس جميعاً مرهونة بنشر السَّلام، وشقاءَهم محتَّم بتفشِّي الخلاف والشقاق بين صفوفهم، فإذا تفرَّقت بهم الأهواء وزلَّت القدم، واتَّبع كلُّ امرئ هواه؛ جاءهم العذاب من حيث يرجون النعيم، وحلَّ بهم الشرُّ من حيث يرجون الخير، وهذا هو الناموس العام الَّذي حكم الله به الكون والكائنات.
فالمسلم ملتزم دائماً بالسَّلام القوي، السَّلام المصان بالقوَّة، وهو مكلَّف بالتيقُّظ والانتباه والاستعداد التام. فإذا لم يبادر العدو إلى التعدِّي، وأظهر الرغبة في السَّلام والمهادنة، فباب الحوار مفتوح معه، وإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم لِنَفْعٍ يرتجونه أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يأخذوا به ـ متوكلين على الله ـ بعد قيامهم بالأسباب الَّتي تحقِّق عزَّتهم وكرامتهم. والحوار مطلوب ــ بل ومُلِحٌّ ـ اليوم بين المسلمين وغيرهم، لأن وسائل الاتصال والتواصل قرَّبت المسافات بين سائر الشعوب، ومزجت بين الثقافات والحضارات، وضيَّقت الدائرة العالمية حتَّى جعلت من الإنسانية كلِّها أسرة واحدة، يطَّلع أفرادها على أحوال بعضهم بعضاً، ويتبادلون التأثير الإيجابي فيما بينهم بشكل أو بآخر.
الفصل الثاني:
مفهوم الجهاد
سورة العنكبوت(29)
قال الله تعالى: {والَّذين جاهَدوا فينا لنَهديَنَّهُمْ سُبُلَنا وإنَّ الله لَمَع المحسنين(69)}
سورة الحج(22)
وقال أيضاً: {وجاهِدوا في الله حقَّ جهادِهِ هو اجتبَاكم وما جَعلَ عليكم في الدِّينِ من حرج.. (78)}
سورة الفرقان(25)
وقال أيضاً: {فلا تُطِعِ الكافرينَ وجاهِدْهُم به جهاداً كبيراً(52)}
ومضات:(3/174)
ـ جهاد النفس والهوى يزرع الخشية في القلوب والتَّقوى في النفوس، ويحرِّك الفكر لما هو أرقى؛ فيوصل إلى سبل السعادة والنجاح، والصَّادق الملتزم بهذه المسيرة محسن يحظى بعطاء الله وقُربهِ عزَّ وجل.
ـ الجهاد الحقيقي هو مجاهدة المؤمن نفسه وأهواءه، فإن تمكَّن من الانتصار عليها، كان ذلك النصر أساساً ومقدِّمة لانتصاره على الطغيان والطغاة المعتدين عند المواجهة معهم.
ـ بعد تهذيب النفس، وجَعْلِهَا مطمئنة بالله عزَّ وجل، يبدأ الجهاد بالقرآن؛ في تعلُّمه وسبر أغواره، واستخلاص تعاليمه الربَّانية المسعدة للبشرية، ومن ثمَّ عرضها على الغافلين عنه، أو الجاحدين به، ليأخذوا بها، وتكون الدواء الشافي لأمراضهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
في رحاب الآيات:
لا يكاد الناس يسمعون كلمة الجهاد حتَّى تتبادر إلى أذهانهم صور القتال والحرب واستعمال العنف، حتَّى إن الرأي العام العالمي لا يدري عن الجهاد في الإسلام إلا أشباه هذه المعاني، الَّتي تُدخل الرُّعب والفزع إلى القلوب، دون إدراك لمعناه الحقيقي الشامل.(3/175)
إن الجهاد في الإسلام هو بذل الجهد الممكن والطاقة في سبيل أمر من الأمور؛ وهو بهذا المعنى يشمل ثلاثة أنواع من الجهاد: مجاهدة المعتدي، ويكون بالنفس والمال وبكلِّ ما يملك المسلم من طاقة، وهو فرض كفاية، إذا قام به المُؤَهَّلون له، أجزأ عن الآخرين وعن أهل الأعذار الَّذين لا يستطيعون أن يجاهدوا. وهناك جهاد آخر هو جهاد النفس والهوى وهو الأعظم، وهذا الجهاد فرض عَيْن على كلِّ مسلم، وقد عُدَّ جهاداً أعظم، لأنه جهاد مستمرٌّ دائم مادامت الحياة، أخرج البيهقي وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: «قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه». والنوع الثالث والأهم، هو الجهاد بالقرآن الكريم، وهو الجهاد الكبير {..وجاهدْهُم به جهاداً كبيراً}، إنه جهاد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومقارعة الجهلاء بالحجج والبراهين المستنبطة من حنايا القرآن، في سبيل إنارة عقولهم، وفتح مغاليق قلوبهم، عسى أن يهديهم ربُّهم صراطاً مستقيماً، فيؤمنوا بالله ربّاً وبالقرآن إماماً، وبجميع الأنبياء والمرسلين هداة وأدلاَّء.(3/176)
وعلى هذا فشتَّى أنواع سعي المؤمن في سبيل الوصول إلى المستوى الأفضل يكون جهاداً إذا قصد به وجه الله، وسواء أكان في تهذيب نفسه وسلوكه، أم في حياته المعاشية، أم في علاقاته مع مجتمعه، ومن ثمَّ مع الأسرة الدولية. والجهاد يبدأ من مقارعة النفس والهوى وفق الأساليب التربوية الربَّانية، وتتوسَّع دائرته لتشمل الدعوة في سبيل الله، الَّتي تتحقَّق بها سعادة العالم بأسره، كثمرة من ثمار الجهد المشترك، الَّذي بذله ويبذله المؤمنون في سبيل توحيد القلوب، وتشابك الأيدي وتعاونها، وتنوير العقول وتلاقحها، والرقي بالمجتمع نحو الخير والنجاح، وإنقاذ الإنسان من الفقر والجهل والمرض والتخلُّف، وكذلك لتخليصه مما عشَّشَ في ذهنه من خرافات فاسدة، وأباطيل ضالَّة انحرفت به عن جادَّة الصواب.
لقد كانت الحروب الَّتي خاضتها الأمم عبر أعصر التاريخ، وسيلة يفتعلها المستكبرون لاستعمار الشعوب، واستنزاف خيراتها وامتصاص دمائها، ودفعها للتخلُّف والجهل. وإذا كان المسلمون قد خاضوا الحروب، فقد خاضوها مجاهدين في سبيل الله، ولم يخوضوها ليستعمروا الشعوب ولا ليقهروها ويستنزفوا خيراتها، وإنما يشهد التاريخ على أنهم حرَّروها من قبضة المستبدِّين، ومن ربقة الفقر والجهل، حتَّى تخرَّج منها أعظم علماء الأرض في زمانهم، وازدهرت الحضارة لدى تلك الشعوب حتَّى أصبحوا قادة الدنيا ومعلِّميها. وعندما جاهدوا ضد الغزاة، فإنما جاهدوا انتصاراً للحقِّ على الباطل، وللعلم ضد الجهل، وللحرِّية ضد الاستعباد، وللكرامة ضد الذلِّ، وللعدل ضد الظلم، وفي سبيل نشر جميع القيم العليا والدفاع عنها، والَّتي ما كانت لتتحقَّق إلا بتحرير الناس من كلِّ أنواع العبودية المذلَّة، ليدخلوا في عزِّ عبادة الله الواحد القهَّار.(3/177)
وكلُّ نشاط للمؤمن، يعدل أجرَ الجهاد، متى توجَّه القلب به إلى الله، حتَّى الحاجات اليومية من نوم وطعام وشراب، تتحوَّل إلى عبادات متى ذَكَرَ الله ونَوى أن يتقوَّى بها على طاعته وعبادته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» (أخرجه أحمد والطبراني والقضاعي عن فضالة بن عبيد مرفوعاً)، وروي عن الحسن رضي الله عنه أنه قرأ الآية ثم قال: (إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف).
وبعد كلِّ هذا نستطيع الخروج بنتيجة مُفادُها أن الجهاد في الإسلام ليس مجرد لقاء بين عدوَّين يريد كلٌّ منهما الغدر بالآخر والوقيعة به لكسب المعركة لصالحه؛ بل هو صراع بين الخير والشرِّ، بين الفضيلة والرذيلة، بين الهداية والضلالة، بين العلم والجاهلية.
لقد أتى رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدنيا بهذه الهدية الربَّانية، فمن قَبِلها طائعاً مختاراً عن قناعة فيها ورضاً بمحتواها فقد رشد، ومن رفضها استكباراً واعتزازاً بالإثم والجاهلية، ومنع إيصال هديَّة الله إلى عباده الَّذين يريدونها، فقد وجب على أمناء هذه الهديَّة، إزاحة هذا المنع، الَّذي يحول دون وصول الهديَّة المقدَّسة إلى عباد الله.
إن هذا الكلام كان حقيقة ماثلة للعيان عبر تاريخ الإسلام الحافل بمآثر الرقي والتهذيب، الَّذي حمله المسلمون لإخوتهم في الإنسانية، والتاريخ خير شاهد على أن المسلمين ما قاتلوا يوماً من الأيام لانتزاع لقمة العيش من أفواه غيرهم، كما فعل المستعمرون المستكبرون في شعوب الأرض، إنما خرجوا محرِّرين لإخوانهم من الظلم الَّذي كانوا يرزحون تحت وطأته، وهادين إيَّاهم إلى موارد الخير الَّتي وردوها، فسعدوا بعد شقاء، واغتنوا بعد فقر، وتعلَّموا بعد جهل، واهتدوا بعد ضلال، وتوحَّدوا بعد فرقة، وتآخوا بعد عداوة، إنه الإسلام دين الحياة الآمنة المطمئنَّة على هذه الأرض، ومن ورائها حياة أبدية في نعيم يجلُّ عن الوصف.(3/178)
ولابدَّ أن نُشير في ختام هذا الفصل، بأن مهمَّة الجهاد الأصغر ـ جهاد المعتدي ومقارعته ـ يجب أن تكون منوطة بالدول الإسلامية وحكوماتها وجيوشها النظامية، ولايحقُّ لأيِّ فرد القيام باختراقات ضدَّ العدو، دون الحصول على التفويض بذلك من أصحاب السلطة الشرعيين، تجنُّباً لحدوث ردود فعلٍ غير محسوبة، لايستطيع هؤلاء الأفراد صدَّها أو مقاومتها، ويكون ضحيَّتها بالتالي عموم الناس.
الفصل الثالث:
الحرب ضرورة دفاعية والاستعداد لها واجب
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {...ولولا دَفْعُ الله النَّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لفسَدَتِ الأرضُ ولكنَّ الله ذو فضلٍ على العالمين(251)}
سورة الحج(22)
وقال أيضاً: {...ولولا دَفْعُ الله النَّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لهُدِّمتْ صوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومساجِدُ يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيراً ولينْصُرَنَّ الله من ينصُرُهُ إنَّ الله لقويٌ عزيز(40)}
سورة الأنفال(8)
وقال أيضاً: {وأعِدُّوا لهم ما استطعْتُم من قُوَّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرْهِبونَ به عدوَّ الله وعدوَّكم وآخرينَ من دونِهم لا تعلمونَهُمُ الله يعلَمُهُمْ وما تنفِقوا من شيءٍ في سبيلِ الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظْلَمون(60)}
/ ومضات:
ـ إن الشعائر والعبادات تحتاج إلى قوَّة مُهابة تحميها من الاعتداء، وتضمن لمقيميها حرِّية العقيدة والعبادة وحرمة المعابد، ليتمكَّنوا من تطبيق منهاج الحياة المرتكز على العقيدة، والكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة.
ـ لابدَّ للحقِّ من قوَّة تحميه من العابثين والطامعين والمغرضين.
ـ تعاون المجتمع في البذل والإنفاق لحماية مقدَّساته، يعزِّز روابط المحبَّة بين أفراده، ويُدَعِّم جبهتهم الداخلية، ويجعلهم مستحقِّين لرضا الله وكرمه.
/ في رحاب الآيات:(3/179)
كثيراً ما لجأت الجماعات البشرية وعلى مرِّ العصور إلى الحرب؛ وذلك عندما وجدت فيها حلاً لبعض المشاكل الَّتي تستعصي على الحلول السلمية. فكان القتال ضرورة مُلِّحة لتحقيق بعض المآرب الَّتي ترمي إليها من وراء تلك الحروب، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية. بينما أُقِرَّ القتال في الإسلام لمنع الشرِّ والفساد، ولأجل سيادة الخير والصلاح، وجاء بيان القرآن فيه: أنه لولا أن يدفع الله شرَّ الأشرار بجهاد الأخيار لفسدت الحياة؛ وذلك لأن الحياة الإنسانية خضمٌّ من التناقضات والمتضادات، ففيها الحقُّ وفيها الباطل، وفيها الضعف وفيها القوَّة، وفيها العاقل الحكيم وفيها صاحب الهوى والشهوة، وهذه الطبيعة الازدواجية للحياة تجعل منها مسرحاً للتصارع بين القوى المتضادة المتشابكة. وقد فرض الله على المؤمنين الاستعداد والإعداد، لكي لا تتمكَّن قوى الشرِّ من إلحاق الأذى بهم، فإن كان للباطل جولة فللحقِّ جولات، وسنَّةُ الله أن يقذفَ بالحقِّ المقرون بالقوَّة على الباطل فيدمَغَه فإذا هو زاهق.
ولولا ما شرَّعه سبحانه من الجهاد وقتال المعتدين، في سبيل الحقِّ والعدل، والخير والإيمان؛ لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر، ولم يبقَ لليهود معابد، ولم يبقَ للنصارى بِيَع، ولا لرهبانهم صوامع، ولا للمسلمين مساجد، ولكن الله دَفع شرَّهم بإقرار القتال، وفي الوقت ذاته أمر بأن لا يخرج به المقاتلون عن إنسانيتهم، فحرَّم العدوان فيه، قال تعالى: {..ولا تعتدوا إنَّ الله لا يُحبُّ المعتدين} (2 البقرة آية 190) كما أمر بالجنوح إلى السلم إن جنح الأعداء إليه {وإِن جنحوا للسَّلمِ فاجْنَحْ لها...} (8 الأنفال آية 61)، وأمر باحترام العهود حيث قال: {وأوفوا بعهدِ الله إذا عاهدتُمْ..} (16 النحل آية 91).(3/180)
ولما كانت الحرب بهذا المعنى ضرورة دفاعية، حيث يضطر المؤمنون إلى شنِّها على أعدائهم، عندما يعتدون عليهم أو يخونون عهدهم، فقد أمرهم الله بأن يكونوا على أهبة الاستعداد الكامل لها، وبكل ما يملكون من وسائل القوَّة المادِّية والمعنوية، وذلك بقوله تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة}. فالاستعداد وأخذ الحيطة والحذر أمر لابُدَّ منه، وذلك لتكون الجبهتان متكافئتين عند المواجهة، وليكون المؤمنون دائماً في مقام التَّفوُّق، لئلا يستهين بهم أعداؤهم، فلا تسوِّل لهم نفوسهم الضعيفة الغدر بالمسلمين، أو زرع التفرقة فيما بينهم، ونشر الأفكار الهدَّامة الَّتي تشوِّه معتقداتهم، وتبذر بذور الشكِّ في نفوسهم، وتلقي بهم بين أنياب العداوة والحروب، وعلى النقيض من ذلك فإن القوَّة تردعهم، فيكفُّون عن محاولة التغلغل في صفوف الناس الآمنين.(3/181)
إن الاستعداد يتمُّ بتنمية القدرات الدفاعية بشتَّى الوسائل، والانضمام إلى ركب العلم والتطوُّر، وتهذيب النفوس وتدريبها على مواجهة الصعاب وتَحَمُّلِ المشقَّات، واستغلال الوقت بكلِّ ما هو مفيد وبنَّاء في مضمار الإعداد والاستعداد، فلابأس في أن تتحوَّل ساعات اللهو والمرح إلى ساعات مفيدة، فيلجأ الفارس إلى ممارسة هواية ركوب الخيل مثلاً، أو ممارسة الرياضات البدنية، الَّتي تفيد جسمه وتزيد من جاهزيته، قال صلى الله عليه وسلم : «أَحَبُّ اللهو إلى الله إجراء الخيل، والرمي بالنبل، ولَعِبُكم مع أزواجكم» (أخرجه ابن عدي عن ابن عمر رضي الله عنه )، كما روى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستُفتَح عليكم أَرَضُون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه». وهذا يعكس خشية الرسول صلى الله عليه وسلم على أمَّته من أن تطمئنَّ إلى النصر الَّذي حقَّقته، وتخلد إلى الراحة تاركة أسباب القوَّة والاستعداد، مما يغري بها أعداءها، فتكون لقمة سائغة لهم. ولهذا فقد أمر الله تعالى بإعداد رباط الخيل في الآية، ورغَّبت الأحاديث النبوية في التدريب على ركوبها، والتدريب على الرمي، لأن الرمي كان وسيلة من الوسائل القتالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والخيل كانت هي المركوب الحربي عندهم. أما وقد تطوَّرت هذه الوسائل فصار المركب الحربي اليوم سفينة وطائرة وسيَّارة مصفَّحة، فقد وجب على المسلمين أن يصنِّعوا ذلك، وأن يؤسِّسوا المعاهد والكلِّيات الَّتي تدرِّب أولادهم على إتقان الفنون الحربية، فهذا واجب الأمَّة تجاه أبنائها، وواجب الآباء تجاه أولادهم، كما قال صلى الله عليه وسلم : «حقُّ الولد على الوالد أنْ يعلِّمه الكتابة والسباحة والرمي» (أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي رافع رضي الله عنه ). فالاستعداد مطلوب دائماً لأن فيه حصانة وحرزاً ضد الأعداء الَّذين يعملون على تدمير مراكز الفكر(3/182)
الإيماني، وتعطيل إشعاعاتها. وإنَّ مواجهتَهم تحتاج إلى وعي وتفتُّح، وترقُّب وتبصُّر، واحتياط وحذر، والمطلوب إزاء ذلك صحوة إيمانية، تقاوم لؤم المخرِّبين والمعكِّرين لصفاء الحياة الإنسانية العقلانية الرائدة.
ولما كان الاستعداد يتطلَّب بذل أموال كثيرة، فقد أُلقي على عاتق أفراد الأمَّة المؤمنة مسؤولية القيام بهذا الواجب لإعداد القوى العسكرية؛ فأمرهم الله بأن ينفقوا مما في أيديهم، ومما جعله الله أمانة عندهم، وهم على ثقة تامَّة ويقين مطلق، بأن هذه الأموال مودعة في خزائن الله، وسيحصلون في مقابلها على رزق واسع حَلالٍ وثواب عظيم.
الفصل الرابع:
مشروعيَّة القتال دفاعاً عن النفس
وفي سبيل الله
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {أُذِنَ للَّذين يُقاتَلونَ بأنَّهم ظُلِموا وإنَّ الله على نَصرِهِم لَقديرٌ(39) الَّذين أُخْرِجوا من ديارِهِم بغيرِ حقٍّ إلاَّ أن يقولوا ربُّنا الله.. (40)}
سورة البقرة(2)
{وقاتِلوا في سبيلِ الله الَّذين يُقاتِلونَكُم ولا تَعتَدوا إنَّ الله لا يُحبُّ المُعتَدينَ(190)}
/ ومضات:
ـ الإسلام دين الرقيِّ الأخلاقي، كما أنه دين الإعمار والازدهار المادِّي، وليس دين الهدم والتخريب والإفساد، ومن هذا المنطلق كان يدعو دائماً إلى الدفاع عن الأمَّة، والمحافظة على عقيدتها وأخلاقها وثرواتها، من المعتدين والمغرضين، مؤكِّداً أن الاعتداء عمل غير أخلاقي، يكرهه الله تعالى، وتأباه النفس المؤمنة.
/ في رحاب الآيات:(3/183)
[الإسلام دين السيف] إنها عبارة ظالمة مغرضة، طالما ردَّدها المستشرقون المغرضون طعناً في الإسلام وتشويهاً لحقيقته. ونحن بدورنا نسأل هؤلاء المستشرقين: هل أسلم الصحابة الأوائل بالسيف؟ هل أسلم أبو بكر وعلي وعثمان وعمر ومئات مثلهم بالسيف؟ وهل شُرِّع حَمْلُ السيف في الإسلام للهجوم، وحَمْلِ الناس على الدخول فيه بالقوَّة، أم للدفاع عنه وحماية بنيانه في حال تعرُّضه للاعتداء والخطر؟. إن الإسلام شأنه شأن كلِّ دعوة في الأرض، فكرية كانت أم علمية، روحية أم مادِّية، لابُدَّ لها من أن تلقى معارضة من ذوي النفوذ وأرباب السلطان؛ الَّذين يقوم نفوذهم وسلطانهم على أسس فكرية ودينية مغايرة لها، فهم يرون أنَّ أيَّ دعوة جديدة تحمل الحياة للعقل، سوف تهدِّد مصالحهم الانتهازية، وسيسعون جاهدين إلى محاربتها والقضاء عليها. لذلك كان لابُدَّ لكلِّ رسالة أو دعوة فاضلة من قوَّة تحميها وتصونها، وليس الإسلام بدْعاً بين الرسالات، بل يجري عليه ما يجري عليها كلها، ولهذا يتعيَّن على كلِّ مسلم أن يقوم بدوره في حماية رسالة الإسلام، وأن يبذل كلَّ ما يملك من مال وجهد ووقت في سبيل نشر أهدافه وتعميمها، وهي تحقيق السَّلام والسَّعادة في أرجاء الأرض؛ فالسَّلام هو غاية الإسلام، ولكنه السَّلام الَّذي لا يسكت عن الاعتداء والظلم.(3/184)
وقد شُرِّع القتال في الإسلام لرفع الظلم، وليس تحريضاً عليه؛ فعندما يقع البغي والعدوان على أيِّ حقٍّ من حقوق الإنسان المعروفة، في أية صورة من الصور، سواء وقع من قِبَلِ فردٍ على فرد، أو من قبل فرد على جماعة، أو من قبل جماعة على فرد أو على جماعة، أو من قبل دولة على دولة، فالإسلام لا يرضى حينئذ بسلام يقوم على أساس هذا العدوان، فليس السَّلام في الإسلام مهادنة ولا استسلاماً، وإنما هو تحقيق الخير والعدل على النهج الَّذي رسمه الله للعباد. والقانون الإلهي في هذه الآية يُقرر، أنه من اعتُدي عليه وأُخرِج من دياره فقد ظُلم، ومِنْ حقِّ المظلوم ألاَّ يسكت على ضيم أو ظلم.
ولو أردنا أن نتعرَّف المرحلة الَّتي أُذن للمؤمنين فيها بالقتال، وألقينا نظرة موضوعية حول سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه قد لبث في مكَّة مدة ثلاثة عشر عاماً، يدعو إلى الله باللين والرفق والموعظة الحسنة، على الرغم من كلِّ ما لقيه من مناوأة شديدة من قِبَلِ دعاة الوثنية، الَّذين رأوا في دعوته خطراً على كيانهم المادِّي والاجتماعي، والله تعالى يأمره ـ أثناءها ـ بأن يقابل المعاداة بالصبر والحكمة والصفح الجميل، وأن يجادل بالقرآن والحجَّة والبرهان، ولم يأذن له بأن يقابل السيِّئة بالسيِّئة، حتَّى استنفد صلى الله عليه وسلم جميع الفرص المتاحة له في عرض أُخوَّة الإسلام وأهدافه، من أجل بناء الإنسان الواعي، المتحرِّر من الجهل والتخلف والتقليد الأعمى.(3/185)
ولمَّا تجاوز موقف المشركين مرحلة التنفير والإيذاء، إلى مرحلة التصفية الجسدية للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أَذِنَ الله لِحَمَلةِ السَّلام والإخاء بالهجرة، فكانت الهجرة المؤقَّتة الأولى والثانية إلى الحبشة، ومن ثمَّ كانت الدائمة إلى المدينة حيث هاجر النبي عليه السَّلام ولحق بأصحابه الَّذين سبقوه إليها، بعد أن لاقَوا صنوفاً من الإيذاء قبلها وأثناءها، حيث لم يَسلموا من شرور المشركين، فصودرت معظم أموالهم وممتلكاتهم. وبعد هذه الهجرة استقرَّ المسلمون، وصار لهم معقلٌ يحتمون به ويتمكَّنون فيه من استمرارية مهمَّتهم في الدعوة إلى دين الله، وحينها فقط أُذن لهم بِرَدِّ كلِّ اعتداء يوجَّه ضدَّهم، وشُرِّع لهم حقُّ الدفاع عن النفس، وقتال من يقاتلهم. وجاء هذا التشريع في الوقت المناسب، لأن المسلمين كانوا في مكَّة قلَّة أمام المشركين، ولو أُمروا فيها بقتالهم لشقَّ ذلك عليهم، ولهذا لمَّا بايع أهل يثرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بيعة العقبة الثانية وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتان قالوا: «يارسول الله! ألا نميل على أهل الوادي ـ يعنون أهل منى ـ فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أُؤمَر بهذا».
ولقد كانت الآية الكريمة: {أُذِنَ للَّذين يُقاتَلونَ بأنَّهم ظُلِموا وإنَّ الله على نصْرِهم لقدير} أوَّل ما نزل في مشروعية الجهاد، وبعد نزولها وغيرها من الآيات، ازداد يقين النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بأنهم على حقٍّ، وأنهم أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ظلماً وبغياً بغير حقٍّ، إلا أن يقولوا ربُّنا الله، فمن حقِّ المظلوم أن ينتصر، ولهذا كانت أوَّل بادرة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم لاسترجاع تلك الحقوق؛ أن عزم على اعتراض قوافل قريش ـ حصراً ـ التجارية الَّتي تمرُّ بيثرب أثناء طريقها إلى مكَّة.(3/186)
ولما علم صلى الله عليه وسلم بقدوم قافلة على رأسها أبو سفيان، ندب أصحابه للخروج معه للاستيلاء عليها، ومصادرة ممتلكاتها، مقابل أموال الصحابة الَّتي صودرت أثناء هجرتهم. فخرج معه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وذهبوا إلى المكان الَّذي تمرُّ به القافلة عادةً وهو بدر. فلما علم أبو سفيان بالخبر أرسل إلى قريش يُعْلِمُها، لترسل له نجدة تمكِّنه من النجاة، ثم سلك طريقاً غير الطريق المرصود. وسارعت قريش إلى إعداد جيش كبير بلغ عدده تسعمائة وخمسين مقاتلاً ومعهم سلاحهم وزادهم. ولكن أبا سفيان عندما نجا بقافلته أرسل إليهم يطلب منهم الرجوع، فرفضوا وأصرُّوا على الحرب وانتهزوا الفرصة للخلاص من المسلمين، وَوضعِ حَدٍّ لانتشار دعوتهم. فلما بلغ المسلمين الخبرُ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في المواجهة والقتال، ليرى مدى استعدادهم المعنوي لذلك، وأخبرهم أن الله وَعَدَهُ بالنصر عليهم، فتردَّد بعضهم لأنهم لم يخرجوا معه للقتال وإنما لمصادرة الأموال فقط، فنزلت الآية وفيها عتاب لهم {وإذ يَعِدُكُمُ الله إحدى الطَّائفتَيْنِ أنَّها لكم وتوَدُّون أنَّ غيرَ ذاتِ الشَّوكةِ تكونُ لكم..} (8 الأنفال آية 7). فرجع المتردِّدون عن تردُّدهم، وعزموا جميعاً على ملاقاة جيش قريش للدفاع عن أنفسهم وردِّ العدوان بالقوَّة. وهكذا كانت معركة بدر، الَّتي هي أوَّل معركة جرت بين المسلمين والمشركين، وسُجِّل فيها النصر للمسلمين فُرقاناً بين الحقِّ والباطل.(3/187)
وهكذا أَذِنَ الله للمسلمين بالقتال، للدفاع عن أنفسهم كلَّما اعتُدي عليهم، وكلَّما أحدق بهم خطر يهدِّد الدعوة الإسلامية ويهدِّد استمراريتها، وإن أيَّ موقف منهم لردِّ العدوان سيكون موقفاً سليماً من الناحية الشرعية والأدبية، ولا غبار عليه. فهم مظلومون غير معتدين ولا مستكبرين، ولهم الحقُّ في أن يَطمئنُّوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم، ولديهم ما يبرِّر خوضهم المعركة، فهم منتدبون لمهمَّة إنسانية كبيرة لا يقتصر خيرها عليهم وحدهم، بل إنه يعود على الجماعة المؤمنة كلِّها كمرحلة أولى، وعلى البشرية كافَّة كمرحلة تالية، وهذه المهمَّة هي ضمان حرِّية العقيدة وحرِّية العبادة. فقد أُخْرِج المؤمنون من ديارهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: {ربُّنا الله} وهي أصدق وأحقُّ كلمة تقال، ومن أجلها وحدها كان إخراجهم، فهو البغي المطلق الَّذي لا يستند إلى أي حقٍّ من ناحية المعتدين، وهو التجرُّد من كلِّ هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم، فمن أجل العقيدة وحدها يُخْرَجُون، لا من أجل عَرَض من أعراض الدنيا الَّتي تشتجر فيها الأطماع، وتتعارض فيها المصالح، وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع.(3/188)
إن الله يعطي الإذن للمسلمين بالقتال، وقد ضمن لهم النصر والدفاع عنهم، ومن كان الله مدافعاً عنه فهو ممنوع حتماً من عدوٍّ ظاهر عليه، ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم يَكتب عليهم الجهاد؟ وفيم يُقاتلون فيصيبهم القتل والجراح، والجهد والمشقَّة، والتضحية والآلام، والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق النصر لهم بلا جهد ولا مشقَّة، ولا تضحية ولا ألم، ولا قتل ولا قتال؟ والجواب: أنه تعالى لم يشأ أن يكون حملة دعوته وحُماتها من الكسالى، الَّذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزَّل عليهم نصر الله سهلاً هيِّناً دون عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصَّلاة ويرتِّلون القرآن، ويتوجَّهون إلى الله بالدعاء كلَّما مسَّهم أذى، أو وقع عليهم اعتداء. نعم، يجب أن يقيموا الصَّلاة، وأن يرتِّلوا القرآن، وأن يتوجَّهوا إلى الله بالدعاء في السرَّاء والضرَّاء، إلا أن هذه العبادة وحدها لا تؤهِّلهم لحمل دعوة الله وحِمايتها، إنما هي الزَّاد الَّذي يتزوَّدون به للمعركة، والسلاح الَّذي يطمئنُّون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل أسلحته، ويزيدون عليها بسلاح التَّقوى والإيمان والاتصال بالله تعالى. لقد شاء الله تعالى أن يتحقَّق دفاعه عن الَّذين آمنوا بواسطتهم هم أنفسهم، كي يتمَّ نُضجهم أثناء المعركة، فالطاقات المكنونة في البنية الإنسانية تتفجَّر وتتيقَّظ وهي تواجه الخطر، عندئذ تتحفَّز كلُّ خلية بكلِّ ما أُودِعَ فيها من استعداد لتؤدِّي دورها، وتتساند مع الخلايا الأخرى لتبذل آخر ما تقدر عليه، ولتصل إلى أكمل ما في قدرتها وما هي مهيَّأة له من الكمال. ولا يخفى أن النصر السريع الَّذي لا يكلِّفُ عناءً، يعطِّل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يولِّدها، يضاف إلى ذلك أن النصر السريع الهيِّن الليِّن يَسهُل التخلِّي عنه وضياعه، لأنه أوَّلاً رخيص الثمن لم تُبذل فيه تضحيات، وثانياً لأن الَّذين نالوه لم تُدرَّب قواهم على الاحتفاظ به، فهي لا(3/189)
تتحفَّز ولا تحتشد للدفاع عنه.
ثم إن هناك التربية الوجدانية والتدريب العملي والمشاعر المصاحبة لهما، والَّتي ينشأ عنها النصر أو الهزيمة، وسواء في ذلك الأمل أم الألم، وكلُّها ضرورية للأمَّة الَّتي تحمل الدعوة. من أجل هذا كلِّه، ومن أجل غيره ممَّا يعلمه الله، جعل الله دفاعه عن الَّذين آمنوا يتمُّ بواسطتهم هم أنفسهم، ولم يجعله منحة تهبط عليهم من السماء بلا عناء. على أن النصر قد يبطئ على الَّذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: {ربُّنا الله} وهذا الإبطاء يكون لحكمة يريدها الله تعالى؛ وهي أن بنية الأُمَّة المؤمنة لم تنضج بعد، فلو نالت النصر حينئذ لما استطاعت أن تحافظ عليه؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. وقد يبطئ النصر حتَّى تجرِّب الأمَّة كلَّ قواها، وتدرك أن هذه القوى وحدها، دون سند من الله، لا تكفل لها النصر، فتبذل ما في وسعها ثمَّ تَكِلُ الأمر إلى الله. وقد يبطئ أيضاً لتزيد صلتها بالله، أو لأنها لم تُخلص النية في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحقِّقه، أو حَمِيَّة لذاتها، أوشجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً ممَّا يمكن أن يداخله من العُجْب والاستعلاء: «سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حَمِيَّةً، والرجل يقاتل شجاعةً، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فأيُّها في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). وقد يبطئ النصر لأن في الأمر الَّذي تكافحه الأُمَّة المؤمنة بقيَّةً من خير، ويريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها، لِيذهب وحدَهُ هالكاً، ويبقى الخير. أو لأن الشرَّ الَّذي تكافحه لم ينكشف زَيفه للناس بَعدُ، فلو غلبه المؤمنون حينئذ لوجد له أنصاراً من المخدوعين به، والَّذين لم يقتنعوا بعدُ بفساده وضرورة زواله، فتظلُّ له جذور في نفوس الأبرياء(3/190)
والسُّذَّج، فيشاء الله تعالى أن يبقى الباطلُ حتَّى ينكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لم تصلح بعدُ لاستقبال الحقِّ والخير والعدل الَّذي تمثِّله العقيدة الإيمانية المؤمنة، فيظلُّ الصراع قائماً حتَّى تتهيَّأ الظروف لاستقبال الحقِّ الظافر. وقد يبطئ النصر بسبب بقايا خَفِيَّةٍ مازالت عالقة من آثار الماضي في نفوس بعضهم، فقد يُبْتَلون بهزيمة لينكشف لهم هذا المرض، فيعملون على مداواته كما حدث في غزوة أحد، وهذا ما صرَّحت به آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولِيُمَحِّصَ الله الَّذين آمنوا ويَمْحَقَ الكافرين} (3 آل عمران آية 141) وقوله تعالى: {ولقد صدَقَكُم الله وعدَهُ إذ تَحُسُّونَهُم بإذنه حتى إذا فَشِلْتُم وتنازعتم في الأمرِ وعصَيْتم من بعدِ ما أراكم ما تُحبُّون منكم من يريدُ الدُّنيا ومنكم من يريدُ الآخرةَ ثمَّ صَرَفكُم عنهم ليبتَلِيَكم..} (3 آل عمران آية 152) من أجل أحد هذه الأسباب وغيرها ممَّا يعلمه الله تعالى، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات والآلام، ويدافع الله عن الَّذين آمنوا ويتحقَّق النصر لهم في النهاية.(3/191)
وللنصر تكاليفه وأعباؤه، وقد تعهَّد الله بمنحه لمن ينصره من المؤمنين الَّذين إن تحقَّق لهم النصر، وثبت لهم الأمر، أقاموا الصَّلاة فعبدوا الله ووثَّقوا صلتهم به، واتجهوا إليه خاضعين مستسلمين، وأدَّوا حقَّ المال، وانتصروا على شُحِّ النفس، وتطهَّروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وكانوا عَوناً لأممهم بإعانة فقرائهم، وذوي الحاجات منهم، وتعاونوا مع غيرهم فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم، ومنعوا المفاسد الَّتي تعوق الوصول إلى الرقي الخُلقي والأدب السامي، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، ليصلوا إلى قلوب الخلائق أملاً في هدايتها، وإلى عقولهم أملاً في إنارتها، وكانوا بذلك مثل الجسد الواحد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى» (متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ).
من خلال هذا المنظور يمكن للمتتبِّع أن يتفهَّم حروب النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه طيلة العهد المدني من عُمْرِ الرسالة، ففي بدر لجأ إلى القتال، ولم يكن ذلك في خطَّته.. وفي معركة أحد بادر المشركون إلى الاعتداء، ووصلوا إلى ضواحي المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأَخْذ ثأرهم لهزيمتهم في معركة بدر. وفي غزوة الخندق تحصَّن المسلمون في المدينة خلف خندقهم، وأُمروا بالاستتار ليأمنوا شرَّ أعدائهم دون إراقة الدماء. ولم يغزُ عليه السلام قوماً قط لم يَهمُّوا بغزوه أو يستعدُّوا لقتاله.(3/192)
ولا تكاد كلمة القتال أو الجهاد تذكر في القرآن الكريم حتَّى تُقرن بعبارة: {في سبيلِ الله}، وهذا التعبير واسع شامل تنضوي تحت لوائه جميع القيم الأخلاقية، والمُثُل العليا الَّتي اتخذها الإسلام شعاراً له، فهي تشمل نشر العلم ومكافحة الجهل، والحضَّ على استعمال العقل ومحاربة الخرافات والوهم، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والارتقاء بالمشاعر الإنسانية لتتَّصل القلوب بخالقها، فلا ترضى معشوقاً سواه، بدل تَمَرُّغِها في مستنقعات المادَّة وأودية الأهواء، وتهيِّئ الفرصة للإنسان لكي يحيا الحياة الكريمة وهو عبد لخالقه لا لأحدٍ من مخلوقاته، ولتتَّضح بذلك الغاية من القتال في الإسلام وهي إعلاء كلمة الله، لا حُبّاً في السيطرة أو المغنم أو الاستكبار.
وقد حضَّ الإسلام على الجهاد، ورغَّب بالخروج في سبيل الله دفاعاً عن النفس والعقيدة والوطن، بإطلاق الوعد للمؤمن بأن ينال إحدى الحُسنيين: إمَّا النصر والعزَّة في الدنيا، وإمَّا الشهادة حيث يُحفَظُ عمله، ويخلَّد في روضات الجنان مع الأنبياء والمرسلين.(3/193)
وفي الوقت الَّذي يدعو فيه الإسلام إلى الجهاد، ويحضُّ على القتال في سبيل الله، ويبيح الحرب كضرورة، نجده شرَّع آداباً للقتال فيأمر بالإحسان إلى الأسرى، وبمعاملتهم معاملة إنسانية رحيمة، ويدعو إلى إكرامهم ويُثني على الَّذين يَبُرُّونَهم ثناءً جميلاً، قال الله تعالى: {ويُطعِمونَ الطَّعامَ على حُبِّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنَّما نُطْعِمُكم لوجهِ الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً} (76 الإنسان آية 8ـ9)، كذلك يُحَرِّم التمثيل بالقتلى، والإجهاز على الجرحى، وينهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ، الَّذين لا قدرة لهم على القتال، وينهى عن تحريق الأشجار أو قتل الحيوان لغير مأكلة، لذلك فقد قرن الله تعالى الأمر بالقتال بالنهي عن الاعتداء فقال: {ولا تعتدوا} والعدوان يكون بتجاوز المحاربين إلى غيرهم من الآمنين المسالمين، كما يكون بتجاوز جميع آداب القتال الَّتي شرَّعها الإسلام.
إنه الجهاد الَّذي يؤدِّي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة، من انتصار الحقِّ والعدل والحرِّية المتجهة إلى الخير والصلاح، فإذا تحقَّق، توارت في ظلِّه الأشخاص والأنانيات، والمطامع والشهوات. وهو جهاد يقابله نصر له سببه وله ثمنه، وله تكاليفه وشروطه، فلا يُعطى لأحد جزافاً أو محاباةً، ولا يستقرُّ لأحد لا يحقِّق غايته ومقتضاه.
الفصل الخامس:
مقوِّمات النصر
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {إن يَنصُرْكُمُ الله فلا غالِبَ لكم وإن يَخذُلْكُمْ فمن ذا الَّذي يَنصُرُكُمْ من بعدهِ وعلى الله فَليتوكَّلِ المؤمنونَ(160)}
ومضات:
ـ النصر والخذلان من قوانين الله تعالى. فالنصر حليف من لاذ بالله والتجأ إلى حماه، والتزم بقوانينه، والخذلان نصيب من خذل قوانين الله، وعمل بعكس تعاليمه عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:(3/194)
قضت سنَّة الله في هذا العالَمِ بتوقُّف النتائج على المقدِّمات، وارتباط المسبَّبات بالأسباب، فبقدر ما يفي الإنسان بالتزاماته، بقدر ما يحقِّق الله له من النتائج الإيجابية المثمرة. وهكذا فإن المقدِّمات ترتبط بمشيئة الإنسان وقراره الشخصي في إطار مشيئة الله، وتظلُّ النتائج والعواقب متعلِّقة بمشيئة الله وحدها أوَّلاً، وبمقدار الجهد المبذول والإتقان للعمل المنفَّذ ثانياً. وباعتبار أن قضية النصر والخذلان في أيِّ معركة حياتية يخوضها الإنسان تخضع لعوامل كثيرة، فإن الآية الكريمة تردُّ الناس إلى قدر الله ومشيئته، وتعلُّقهم بإرادته وقوانينه، لذلك فالنصر لا يكون إلا لمن سار على هذه القوانين. وهذه الحقيقة تُلْزِمُ المسلمين باتباع المنهج والتقيُّد بالتوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذل الجهد والتوكُّل بعد هذا كلِّه على الله تعالى: {..وعلى الله فليتوَكَّلِ المؤمنون} (9 التوبة آية 51) وبذلك يخلص تصوُّر المسلم من التماس شيء من عند غير الله، ويتَّصل قلبه مباشرة بالقوَّة الفاعلة في هذا الوجود.
إن ظاهر الآية يوحي أن النصر والخذلان كليهما من الله تعالى، وأن الإنسان ما هو إلا أداة مسيَّرة، والواقع أن المعنى الحقيقي الَّذي يجب أن نفهمه هو أن من يسير ضمن قوانين الله وتعاليمه ينصره الله، فنصر الله يكلِّل طاعتنا وتنفيذنا لهذه التعاليم، فإن تجاوزناها فإن الله يخذلنا بتقصيرنا وتفريطنا بمقتضيات قانونه التكويني العام، والأدلَّة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطَعْتُم من قوَّة..} (8 الأنفال آية 60) وقوله في آية أخرى: {إنَّ الله يُحِبُّ الَّذين يُقاتِلون في سبيلِهِ صفّاً كأنَّهم بُنيانٌ مرصوص} (61 الصف آية 4) فإعداد القوَّة الحسيَّة والمعنوية، إلى جانب الوحدة وتجميع القوى، يشكِّلان أساساً من أسس النصر، أمَّا إهمالهما فيكون عاملاً من عوامل الفشل والهزيمة.
سورة محمَّد(47)(3/195)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصُروا الله ينصُرْكم ويُثبِّت أقدامكم(7) والَّذين كفروا فتَعْساً لهم وأضلَّ أعمالَهُم(8) ذلك بأنَّهم كَرِهوا ما أنزلَ الله فأحبَطَ أعمالَهُم(9)}
ومضات:
ـ نصرة المؤمنين لله تعالى تعبير، رمزي مجازي، يُعبِّر عن مدى التزامهم العملي بتطبيق شريعته، بحماس وقوَّة إرادة، مع التحلِّي بالأخلاق الفاضلة، والاستزادة من الحكمة والعلوم بأنواعها.
ـ نصرة الله تعالى للمؤمنين تعني إمدادهم بالعطاء الروحي والنور الإلهي، وتيسير سُبُل العطاء المادِّي ممَّا يحقِّق لهم السعادة والسكينة والاستقرار، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، ويجعل لهم من عُسرهم يُسراً، ومن ضيقهم مخرجاً وفرجاً، مما يثبِّت لهم مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، ليشكِّلوا قاعدة يقوم عليها السَّلام والرخاء.
ـ الَّذين يرفضون الإيمان بالله، وينأون بجانبهم عن محبَّة الله وعبادته، هم غارقون في متاهات الفراغ والملل، ويسلكون سبل الضياع، تتقاذفهم أمواج الخوف والقلق. ذلك أنهم أقاموا آمالهم على قواعد ركيكة من الوهم والخيال، كارهين الحقَّ وأهله لعدم تجانسه مع نفوسهم المريضة، فانهارت آمالهم، وحبطت أعمالهم وصارت هشيماً تذروه الرياح.
في رحاب الآيات:(3/196)
قد يُفهَم من ظاهر الآية أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى دعم مادِّي، أو قوَّة عسكرية تدافع عنه وتحميه! والحقيقة أنه تعالى هو الغني عنَّا، ونحن الفقراء إليه، ونحن المحتاجون إلى دعمه ومدده ونصرته. والأمر المنوط بنا أن نقدِّم أنفسنا وأموالنا في سبيل نصرة دين الله، ورفع راية العمل لتحقيق تعاليمه المفيدة في سائر نواحي الحياة. وفي سبيل تحقيق ذلك، علينا أن نجرِّد نفوسنا لله، وألا نشرك به شيئاً، لا شِرْكاً ظاهراً ولا خفياً، وأن يكون الله أَحَبَّ إلينا من ذواتنا ومن كلِّ ما نحبُّ ونهوى، وأن نراقبه في رَغَبِنا ورَهَبِنا وحركاتنا وسكناتنا، وسرِّنا وعلانيتنا، ونشاطنا كلِّه وخلجات أفئدتنا عامَّة، وهذا نصر الله في ذات نفوسنا.
إن لله شريعة واضحة ومنهاجاً محدَّداً للحياة، يقومان على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للحياة وللوجود كلِّه، وإن نصر الله يتحقَّق بنصرة منهاجه وشريعته، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلِّها دون استثناء، وهذا نصر الله في واقع الحياة، بشرط أن يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه على ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وعلى أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم. هذا شرط الله على الَّذين آمنوا، أمَّا وعده لهم في مقابل ذلك فهو النصر وتثبيت الأقدام، وقوَّة الإيمان ليتَقوَّوا بها على أنفسهم وأهوائهم، وعلى كلِّ من يحاول تخريب هذه المسيرة الطاهرة المباركة. والنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان، وبين الهداية والضلال، فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة، وذلك في عدم الزهُوِّ به، وعدم التراخي بعده والبعد عن التهاون في المحافظة عليه.(3/197)
هذا هو الوجه الحسن الَّذي يصوِّر المؤمنين مع الله، ولو أننا نظرنا إلى الوجه الآخر لرأينا النقيض، إننا نرى التعاسة والخيبة والخذلان تلقي بظلالها على من كفر بالله وآياته، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه، وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة الَّتي تكره بطبعها ذاك النهج السليم القويم، وتتصادم معه من داخلها، بحكم مغايرة باطلها لحقيقته، وغاياتها لغاياته. إن أصحاب هذه النفوس موجودون في كلِّ زمان وفي كلِّ مكان، يحملون في قلوبهم الحقد والكراهية للدِّين ولكلِّ ما يتَّصل به، لأنهم يَرَوْنَ فيه حدّاً من سيطرتهم، وكفّاً لتجاوزاتهم وطغيانهم؛ ولقد كان جزاء الله لهم أن أحبط أعمالهم، فانتهوا إلى الهلاك والضياع.
وصفوة القول: نحن بحاجة إلى الله حين ننصره لأن في ذلك نصراً لنا بوصفنا من أتباع دينه وأنصاره، ونحن بحاجة إلى الله حين ينصرنا لأن في ذلك تزكية لنفوسنا وأرواحنا، وبالتالي سُمُوّاً وعُلُوّاً لنا؛ ونحن الرابحون في كلتا الحالتين. ورد في الأثر: [يقول سبحانه وتعالى: خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم].
سورة النصر(110)
قال الله تعالى: {إذا جاء نصرُ الله والفتحُ(1) ورأيتَ النَّاسَ يَدْخُلونَ في دينِ الله أفواجاً(2) فسبِّحْ بحمدِ ربِّكَ واستغفِرْهُ إنَّه كان توَّاباً(3)}
ومضات:
ـ ترصد هذه الآيات الكريمة لحظات النصر الكبير وقد جاء الناس مقبلين على دين الله في جموع وافرة، وتُنبِّه إلى أن ما ينبغي على المؤمن أن يبادر إليه لدى رؤيته هذا المشهد الرائع والزاخر بالمحبَّة والمجد، هو الإقبال على أعتاب الحضرة الإلهية مسبِّحاً بحمد الله، شاكراً لنعمائه، طالباً منه التوبة والمغفرة.
في رحاب الآيات:(3/198)
نَصْرُ الله تعالى مهيَّأ في كلِّ ساعة؛ لكلِّ من يعمل بصدق وإخلاص في خدمة شريعته عزَّ وجل. فلا صعاب مع تأييد الله، ولا عناء مع عونه؛ فالآلام تذوب في تجلِّيات محبَّته، وتستحيل لذةً وسعادة وسروراً. ولا يخفى أن للنصر نشوته وفرحته والَّتي قد تُفقد المنتصر صوابه، ثمَّ ما تلبث أن تحلِّق به في أجواء الفخر والاعتزاز، مما يُخرج صاحبه عن المنهج القويم الَّذي أوصله إلى النصر، ولذلك فإن العناية الإلهية تتدخَّل كما في كلِّ مرَّة لتعيد للمنتصر اتِّزانه وصوابه، ليُقِرَّ بأن النصر من عند الله، وإنما كان واسطة لهذا النصر لا مسبِّباً له، ويدرك بذلك حجمه الحقيقي فلا ينجرف وراء منزلقات الكِبْر والغرور، ولا يجرف أتباعه وراءه إلى المهالك. ذلك أن من أكبر الفتن والامتحانات الَّتي قد يتعرَّض لها قادة الأمم تعلُّق الشعوب بهم، وكثرة التفافهم حولهم، فحينها قد يفقد المنتصر صوابه وينسى خالقه فيبالغ في قراراته الَّتي يتَّخذها، وقد تجرفه المطامع، فيجرُّ شعبه بنزواته إلى الهلاك والدمار، بعد أن كان بالنسبة إليهم محطَّ الآمال في الإعمار والازدهار. والشواهد على ذلك كثيرة منذ فجر التاريخ وحتَّى الحرب العالمية الثانية.
وقد نزلت هذه السورة تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، واتِّخاذهم إياه قائداً وإماماً، وتُوَجِّهُه إلى مقابلة ذلك بالتسبيح والتحميد والاستغفار. وقد وردت روايات عدَّة عن سبب نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه، وقال: إن ربي أخبرني أني سأرى علامة في أمَّتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبِّح بحمده وأستغفره إنه كان توَّابا، وقد رأيتها».(3/199)
وفي مطلع الآية إيحاءٌ خاصٌّ يتمثَّل في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله} فهو نصر الله، يجيء به الله، في الوقت الَّذي يقدِّره، وللغاية الَّتي يرسمها، وليس للنبي ولا لأصحابه يد في هذا النصر سوى اتِّخاذ الأسباب إليه. فقد ربَّى الرسول عليه السَّلام صحابة أجلاَّء، وقادةً عقلاء، وقد أهَّلهم ذلك ليكون لهم شرف الكفاح، وتحقيق النصر بإذن الله تعالى وإرادته، وحسبهم فخراً أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حرَّاساً، ويجعلهم عليه أمناء. إن مِنَّة الله على الرسول والمؤمنين عظيمة، فقد أجرى النصر على أيديهم، ولهذا فإن عليهم أن يسبِّحوه ويحمدوه شكراً وعرفاناً على ما أولاهم من منَّة، وعلى ما أَوْلى البشرية كلَّها من رحمة، بنصره لدينه، وفتحه على رسوله، ودخول الناس أفواجاً في هذا الخير العميم، بعد العمى والضلال. وأن يستغفروه مما قد يساور القلب في مدَّة الكفاح الطويل والعناء القاسي، من ضيق أو استبطاء لوعد الله بالنصر، وأن يستغفروه على تقصيرهم في حمده وشكره، فمهما بلغ جهد الإنسان فإنه يبقى ضعيفاً محدوداً، وآلاء الله دائمة الفيض والانتشار. وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار؛ ففيه إيحاءٌ للنفس، وإشعار لها في لحظة الزهُوِّ والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز، فأَوْلى بها أن تخفِّف من كبريائها وتطلب العفو من ربِّها، وهذا مما ينفي الشعور بالزهوِّ والغرور، ويضمن عدم طغيان المنتصرين على المقهورين، ويراقب الله فيهم، فهو الَّذي سلَّطه عليهم لأمر يريده هو، والنصر نصره والفتح فتحه، وإلى الله تصير الأمور. وكم كان الرسول الكريم وأتباعه الفضلاء ملتزمين بهذه الأخلاق، ومتحلِّين بهذه السجايا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مَنَّ الله عليه بالفتح الأكبر، يقف أمام الكعبة وجموع الناس تنظر إليه، وقد بلغت القلوب الحناجر، وهي تنتظر قراره فيها، يقف ليقول: «يامعشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم قالوا:(3/200)
خيراً أخ كريم، وابن أخٍ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (أخرجه البيهقي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
هذا هو الأدب الَّذي اتَّسمت به النبوَّة دائماً، وهكذا كان محمَّد صلى الله عليه وسلم في حياته كلِّها، وفي موقف النصر والفتح الَّذي جعله ربُّه علامة له، انحنى شاكراً على ظهر دابَّته، ودخل مكَّة على هذه الصورة، مكَّة الَّتي آذاه أهلها، وأخرجوه، وحاربوه، ووقفوا في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة، فلما جاءه نصر الله نسي فرحة النصر، وانحنى انحناءة الشكر، وسبَّح وحمد واستغفر، كما لقَّنه ربُّه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار. وفي تلك اللحظات النادرة في التاريخ، وقد هُرِع الناس إليه من كلِّ حدب وصوب، مؤمنين مبايعين، باذلين أرواحهم في سبيل الدعوة، تراه عليه السَّلام يخاطب امرأة جاءته في مسألة، وهي ترتجف رُعباً من هيبته، فيقول لها بكلِّ حبٍّ وصفاء وتواضع: «هوِّني عليك! ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكَّة» (أخرجه ابن ماجه والحاكم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ). صلَّى الله عليك ياسيِّدي يارسول الله!! هكذا كان كلامه وخطابه وأخلاقه، مع شدَّة تواضعه وعظيم تذلُّله لله ربِّ العرش العظيم؛ فلنذكر الله تعالى ونسبِّحه ونستغفره، ونتواضع لعظمته، وطوبى للمستغفرين المتواضعين.
الفصل السادس:
ثمرات الجهاد
سورة الصف(61)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا هل أدُلُّكم على تجارةٍ تُنْجيكُم من عذابٍ أَليمٍ(10) تُؤمنونَ بالله ورسولِه وتُجاهدونَ في سبيلِ الله بأموالِكُم وأنفُسِكُم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمونَ(11) يغفرْ لكم ذُنوبَكُم ويُدخِلْكُمْ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ ومساكِنَ طيِّبةً في جنَّاتِ عَدْنٍ ذلك الفوزُ العظيم(12) وأخرى تحبُّونَها نصْرٌ من الله وفَتْحٌ قريبٌ وبشِّرِ المؤمنين(13)}
ومضات:(3/201)
ـ يُرشد الله تعالى المؤمنين إلى تجارة رابحة، منجية من عذابه الأليم؛ بضاعتها الإيمان بالله والمجاهدة في سبيله بالأموال والأنفس، وثمرتها الخير الوفير الَّذي يشتمل على المغفرة الإلهية للذنوب، والبشارة من الله بالنصر المؤزَّر، والرزق الواسع، والأمن والاستقرار الدائمين، والإقامة الدائمة في مساكن طيِّبة في جنَّات عدن.
في رحاب الآيات:
جُبِلَتْ نفس الإنسان على حبِّ الكسب والربح الَّذي يحقِّقه بالتجارة، ولكنَّه في زحمة انشغاله ينسى تجارة أساسية، لها امتداد إلى عالم الدار الآخرة، ولها جسور توصله إلى شاطئ الأمان الإلهي. تجارةٌ، التَّعامُل فيها مع الله عزَّ وجل، فإن كنت بائعاً نفسك وأهلك ومالك فهو عزَّ وجلَّ المشتري، وإن كنت مشترياً الآخرة ونعيمها فهو سبحانه البائع، وفي بيعك وشرائك أنت الرابح الربح الأكيد. والآية الكريمة تعبِّر عن هذه المعاني السامية بأسلوب الاستفهام لجذب الانتباه، وإثارة عنصر التشويق في النفس البشرية، {هل أدلُّكُم على تجارةٍ تُنْجيكُمْ من عذابٍ أليم}، ثمَّ تبيِّن أن تلك التجارة هي الإيمان بالله ورسوله، إيماناً صادقاً لا يشوبه شكٌّ ولا نفاق، وإخلاص لله في القول والعمل، وجهاد بالأنفس والأموال في سبيل الله، لنشر دينه وإعلاء كلمته.(3/202)
والجهاد ضروب شتَّى: جهاد بالقرآن في تعريف الناس ـ عموم الناس ـ بعلومه وتعاليمه، وجهاد العدو في ميدان القتال لصدِّه وردِّ اعتدائه، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها من الانقياد لشهواتها الَّتي تُرديها، وجهاد بين النفس والخَلْقِ، بترك الطمع في أموالهم والإقبال على الرحمة بهم، وجهاد فيما بين المرء والدنيا، بعدم التهالك على جمع حُطامها وإنفاق المال فيما حرَّم الله. هذا الإيمان، وهذا الجهاد، خيرٌ للمرء من كلِّ ما في الدنيا من نفس ونفيس ومال وولد، لأن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها. فإنْ فَعَلَ ذلك فآمنَ وجاهدَ غفر الله ذنوبه، وهذه وحدها تكفي، ولكنَّ فضل الله ليس له حدود، فقد منَّ على المؤمنين بإدخالهم فراديس جنانه، وإسكانهم مساكن طيِّبة في دار الخُلد الأبدي، ترتاح إليها النفوس، وتقرُّ بها العيون، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الَّذي لا فوز بعده. إنه لربح ضخم هائل، أن يُعطي المؤمن ممَّا في هذه الدنيا الفانية، ويأخذ ممَّا في الآخرة الباقية، فالَّذي يتَّجِرُ بالدرهم فيكسب به عشرة، يغبطه كلُّ من في السوق، فكيف بمن يتَّجر في أيام قليلة معدودة على أرض متاعها محدود، فيكسب به خلوداً ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع. وتبلغ الصفقة ذروة الربح الَّذي لا يعطيه إلا الله، الله الَّذي لا تنفد خزائنه، والَّذي لا مُمْسِكَ لرحمته، فهي المغفرة والجنَّات، والمساكن الطيِّبة، والنعيم المقيم في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يدعو يوم القيامة الجنَّة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الَّذين قاتلوا في سبيلي وقُتِلُوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنَّة، فيدخلوها بغير عذاب ولا حساب» (أخرجه أحمد بن حنبل والطبراني والحاكم والبيهقي وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ).وفوق ذلك كله ربح سريع قريب، إنه النصر على المعتدين، ونشر السَّلام وإفشاء المحبَّة والإخاء(3/203)
في مشارق الأرض ومغاربها، فهل هناك تجارة أكثر ربحاً؟ وأي عاقل يدلُّه الله على هذه التجارة ثمَّ يتقاعس عنها أو يحيد؟.
وما تزال الدعوة إلى الإسلام حتَّى يومنا هذا، تلاقي ما لاقاه المسلمون الأوائل، من الأذى والمحاربة من أعداء الحرِّية والخير والسَّلام. والمؤمن الحقيقي يتتبَّع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في نشر الدعوة، ويدرس مراحلها بعناية ليحسن التأسِّي بها؛ فلا قتال ولا عنف بل صبر وهجرة، ولا استئثار في عمل الدعوة لرجل دون امرأة، فالكلُّ مكلَّف والكلُّ مسؤول، قال تعالى: {فاستَجابَ لهم ربُّهم أنِّي لا أُضيعُ عملَ عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ فالَّذينَ هاجروا وأُخرجوا من ديارهِم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتِلوا لأُكَفِّرَنَّ عنهم سيِّئاتهِم ولأُدخِلَنَّهُم جنَّاتٍ تَجري من تحتها الأنهارُ ثواباً من عند الله والله عندهُ حسنُ الثَّواب}(3 آل عمران آية 195).
الفصل السابع:
التَّخلُّف عن الجهاد
سورة التوبة(9)
{يا أيُّها الَّذين آمَنوا مالكم إذا قيل لكُم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتُم إلى الأرضِ أَرَضِيتم بالحياة الدُّنيا من الآخرة فما متاعُ الحياةِ الدُّنيا في الآخرة إلا قَليلٌ (38) إلا تنفِروا يُعذِّبكم عذاباً أَليماً وَيَستبدِلْ قوماً غيركُم ولا تضرُّوه شيئاً والله على كِلِّ شيءٍ قديرٌ (39)}
سورة التوبة (9)
{فَرحَ المُخلَّفون ِبمقْعدهِمْ خِلاف رسولِ الله وكَرِهوا أَن يُجاهِدوا بأموالهِم وأَنفُسِهمْ في سبيلِ الله وقالوا لا تَنفِروا في الحرِّ قُلْ نارُ جهنَّمَ أَشدُّ حرّاً لو كانوا يَفْقَهونَ(81)}
سورة التوبة (9)(3/204)
{ما كانَ لأَهلِ المدينة ومن حَولَهُم من الأَعْرابِ أن يَتخلَّفوا عن رسولِ الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بِأنَّهم لا يُصِيبُهُم ظمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمصةٌ في سبيلِ الله ولا يَطَؤُون مَوطئاً يَغيظُ الكُفَّارَ ولا ينَالُون من عَدُوٍّ نيلاً إلا كُتبَ لَهُم به عملٌ صالحٌ إنَّ الله لا يُضيعُ أَجْرَ المُحسِنين (120)}
سورة التوبة(9)
{لقد تَابَ الله على النبيِّ والمهاجِرِينَ والأَنصارِ الَّذين اتَّبَعوهُ في ساعةِ العُسرَةِ مِن بعدِ ما كادَ يَزيغُ قلوبُ فريقٍ منهمْ ثمَّ تابَ عليهِم إنَّه بِهِم رؤوفٌ رَّحِيمٌ (117)وعلى الثَّلاثة الَّذين خُلِّفوا حتَّى إذا ضاقَتْ عليهِمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ وضاقَتْ عليهِمْ أَنْفُسُهُمْ وظنُّوا أن لا مَلْجأَ مِنَ الله إلا إليه ثمَّ تاب عليهِم لِيتُوبوا إن الله هو التَّوَّابُ الرحيمُ(118)}
سورة التوبة(9)
{وَما كانَ المؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فلولا نفرَ من كلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائفةٌ ليتفقَّهوا في الدِّين وَلِيُنذِروا قومَهُمْ إذا رَجَعوا إِليهم لعلَّهم يَحْذَرون (122)}
سورة التوبة (9)
{إِنَّما السَّبيلُ على الَّذين يَسْتَئذنِونَكَ وهمْ أغنياءُ رَضُوا بِأَن يكونُوا مع الخَوالِفِ وَطَبَعَ الله على قُلوبِهِمْ فَهمْ لا يَعْلمُونَ(93)}
ومضات:
ـ ما كان للذين آمنوا أن يتخلَّفوا عن المساهمة في الجهاد الكبير، والجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر؛ في سبيل تحويل مجتمعهم من مجتمع الذلِّ والجهل والتخلُّف، إلى مجتمع القوَّة والكرامة والعلم والتقدُّم، وأن تكون لهم الريادة على سائر أمم الأرض، في نشر الأخلاق الفاضلة، واستنفاد طاقاتهم العقلية كافَّة في تقصِّي جميع العلوم الكونية، للاستفادة ممَّا خلقه الله لنا في إعمار القلب والعقل والجسد، بشكل متوازن سليم، وهذا هو سبيل الله.(3/205)
ـ إن مغريات الجسد من التراخي والكسل، والاستمتاع باللذائذ وترف العيش، عوامل مثبِّطة للهمم، تثقل المؤمن عن الانطلاق البنَّاء، وتحجبه عن المتع الروحية وعن منابع السعادة الحقيقية، الَّتي هي زاده الوفير في الرحلة المتكاملة في الحياة الدنيا ومنها إلى الدار الآخرة.
ـ عذاب الله وفق نواميسه هو ذلٌّ وهوان، وسيطرة العدو على عقولنا وتخديرها، وتسلُّطه على منابع ثرواتنا، وما كانت لأمَّة متخاذلة أن يكون لها الخلافة الربَّانية على هذه الأرض، وما كان بمعجز لله أن يستبدلها بأمَّة بنَّاءة متطوِّرة مضحِّية، فهمت عن الله مراده وسعت في تحقيق هذا المراد.
ـ إن في الجهاد إحساناً للمؤمنين أنفسهم حيث يصونون مجتمعهم مهاباً عزيزاً، وإحسان لأعداء الإسلام بحيث تتاح فرصة عرض مبادئ هذا الدِّين عليهم في محاولة لنقلهم من أخلاق الجهل المدمِّر إلى آفاق العلم المثمر، ومن فقر الروح إلى غنى النفس، ومن الضعف البهيمي إلى قوَّة الإيمان، ومن التشتت العاطفي إلى التماسك العائلي والاجتماعي. أمَّا في حال إِعراضهم وتعدِّيهم فإنَّ علينا أن نشتِّت شملهم ونأخذ منهم كلَّ مأخذ، حتَّى يرتدعوا ويؤوبوا إلى جادَّة الحقِّ والصواب.
ـ ما كان للمؤمنين أن يتخلُّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع المهام الَّتي يباشرها بنفسه، ولا أن يحبُّوا أنفسهم أكثر من حبِّهم لرسول الله. وإن لهم في أنواع الآلام الَّتي يعانونها نتيجة العطش والتعب والجوع وفي اقتحامهم لأوكار العدو، والنيل من هيبته والإغاظة له في أسره أو قتله، لهم في كلِّ ذلك رفيع المقام، والعزَّة والكرامة، والثواب من الربِّ الكريم، حيث تصان لهم أعمالهم مجداً في هذه الحياة، ومقاماً محموداً في الدار الآخرة.(3/206)
ـ كانت عقوبة الصحابة الثلاثة الَّذين تخلَّفوا عن رسول الله ـ دون عذر أو نفاق ـ مقاطعة المجتمع لهم، فلا كلام معهم ولا تعامل، ومُنعت نساؤهم عنهم، وحبسوا في دائرة أنفسهم، وهذا هو العزل المدني والاجتماعي الَّذي طُبِّق عليهم بطريقة احترقت بها قلوبهم لوعة وأسى على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابتعاد المؤمنين عنهم، حتَّى أَرمدت عيونهم من كثرة البكاء وهول المصاب النفسي الَّذي ألمَّ بهم.
ـ النفير المستمرُّ لطوائف من المسلمين في طلب العلم بمختلف صنوفه، وتعليمهم لباقي أفراد الأمَّة واجب حتمي، وعلى الأغنياء بشكل خاص أن يدعموا هذا السبيل تحت طائلة تغليف قلوبهم بالقسوة والنفاق، وإغراقهم في مستنقعات الجهل والتخلُّف.
في رحاب الآيات:
نزلت هذه الآيات الكريمة بمناسبة غزوة تبوك، حين تجمَّعت قوى الروم متحالفة مع بعض القبائل من العرب المتنصرة، بغية الهجوم على المدينة المنوَّرة لاستئصال جذور الإسلام والقضاء عليه. وحين بلغ الخبر رسول اللهصلى الله عليه وسلم لم يتوانَ لحظة واحدة عن الدعوة للنفير العام، قال تعالى: {انفِروا خِفافاً وثِقالاً وجاهِدوا بِأَموالِكُم وأَنفُسِكم في سبيل الله ذلِكُم خيٌر لكُم إن كُنتُم تَعلَمون} (9 سورة التوبة آية 41).
كان الوقت حينها وحرارة الصيف اللاهبة تلفح الوجوه، والناس تستعدُّ لقطف ثمار النخيل، وقد حان أوانها وطاب مذاقها. وكان تقبُّل المسلمين لهذا النفير متفاوتاً حسب درجة إيمانهم:
1ـ فمنهم من بذل الغالي والرخيص فقال تعالى في حقِّهم: {لكنِ الرسولُ والَّذينَ آمنوا معهُ جاهَدوا بأموالِهِم وأَنفُسِهم وأولئِكَ لَهُمُ الخيراتُ وأوُلئِكَ هُمُ المُفلِحونَ } (9التوبة آية 88).(3/207)
2ـ ومنهم من أقعدهم المرض والعجز وقلَّة ذات اليد، فجاؤوا يعتذرون لرسول اللهصلى الله عليه وسلم ، فقبل الله اعتذارهم بقوله: {ليسَ على الضُّعفاءِ ولا على المرضى ولا على الَّذين لا يَجِدُون ما يُنفِقون حَرَجٌ إذا نَصَحوا لله ورسولهِ ما على المحُسنينَ من سبيلٍ والله غفورٌ رحيمٌ} (9 التوبة آية 91).
3ـ ومنهم من لم يجدوا ما يبذلونه من المال وتقدَّموا مستجيبين للنداء مع استطاعتهم لبذل الجهد العضلي، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذر عن عدم قبول تطوُّعهم لعدم وجود وسائط النقل الكافية لحملهم، قال تعالى: {ولا على الَّذين إذا ما أتوكَ لِتحمِلهمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحمِلُكُم عليهِ تَولَّوا وأعيُنُهم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَناً ألاَّ يَجِدوا ما يُنفِقون} (9 التوبة آية 92).
4ـ ومنهم أغنياء، غلَّف حبُّ الدنيا شغاف قلوبهم، فآثروا الانغلاق ضمن أصداف المادَّة والمتع البهيمية وجاءوا يعتذرون، فقال تعالى بحقِّهم: {وإذا أُنزِلَتْ سُورةٌ أَن آمنوا بالله وجاهِدوا معَ رسولِهِ استئَذنَكَ أُولُوا الطَّولِ مِنْهم وقالوا ذَرْنا نكُن مع القاعدين رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِفِ وطُبِعَ على قُلوبِهم فهمْ لايَفقهونَ} (9 التوبة آية 86 ـ87).
إن التثاقل تغلغل في أنفس مريضة أدمنت المطامع والمصالح، وتراخت بداعي الدعة والراحة والاستقرار، وانشدَّت إلى ترابية الأرض الفانية، متخاذلة عن جهاد عدو يخافونه ويرهبون بطشه وقد بعدت مسافته.
ولو عمرت قلوبهم بمحبَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لانطلقت من قيد أسر الغرائز والشهوات، وارتفعت عن تثاقل اللحم والدم، فتغلَّب عنصر الشوق المشبوب بالإيمان على عنصر القيود المادِّية الَّتي تثقل الأنفس المتخومة. ولو أنهم أنفقوا وجاهدوا لتمكَّنوا من حماية الثروة القومية من اندثار يعادل مئات الأضعاف من قيمة ما كان يمكن أن ينفقوه في سبيل التعبئة العامَّة.(3/208)
5ـ ومنهم منافقين من الأعراب ومن أهل المدينة، كذبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واختلقوا الأعذار الواهية، مردوا على النفاق وحاولوا تثبيط عزائم الآخرين، فقال تعالى عنهم: {إنَّما يَسْتأذِنُكَ الَّذين لا يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وَارتابتْ قُلوبُهمْ فهُمْ في رَيبهِم يتردَّدون} (9 التوبة آية 45).
هؤلاء المنافقين جهدوا في تفكيك البنية التحتية للمجتمع الإسلامي، وفي تفريقهم للصفوف المؤمنة، ومحاولة الإساءة لشخصيَّة النبيِّ الكريم محمَّد صلى الله عليه وسلم ، لتبهيت صورته المشرقة فقال تعالى عنهم: {وَمنهُمُ الَّذين يُؤْذون النَّبِيَّ ويقولُونَ هوَ أُذنٌ قُلْ أُذُنُ خَيرٍ لكُم يُؤْمِنُ بالله وَيؤْمِنُ للمُؤمنيَن وَرَحمةٌ لِلَّذين آمنوا والَّذين يُؤذُونَ رسولَ الله لهم عذابٌ أليمٌ} (9 التوبة آية 61).
نعم هذا الرسول الكريم أذن خير يستمع إلى الوحي ثمَّ يبلِّغُه لكم وفيه خيركم وصلاحكم وأذن خير يستمع إليكم في أدب فلا يجابهكم بنفاقكم ولا يرميكم بخداعكم، ويؤمن للمؤمنين فيطمئن إليهم ويثق بهم لأنه يعلم صدق الإيمان الَّذي يعصمهم من الكذب والرياء، ورحمة للذين آمنوا يأخذ بيدهم إلى الخير والفلاح بينما يستغرق المنافقون في الكذب كما وصفهم تعالى بقوله: {يَحلِفون بالله لِيُرضوكُمْ والله ورسولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضُوهُ إن كانوا مُؤمِنينَ} (9 التوبة آية 62).(3/209)
وهكذا تخلَّف المنافقون وفرحوا، سروراً وشماتة، فلا إنفاق ولا تعب ولا قتال، تهرَّبوا من كلِّ ذلك فجاءت عدالة السماء لتنزل حكمها العادل فيهم بقوله تعالى: {فَليَضْحَكوا قليلاً وَليَبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون * فإن رجَعَكَ الله إلى طائِفةٍ مِنهم فاستئذَنُوك للخُروجِ فَقُل لن تَخرُجوا معي أبداً ولن تقاُتلوا معيَ عَدوّاً إنَّكم رَضيتمُ بالقعودِ أَوَّل مَرَّةٍ فاقُعُدوا مع الخالِفين * ولا تُصَلِّ على أَحد منهم ماتَ أبداً ولا تَقُمْ على قَبرِه إنَّهُم كَفَروا بالله ورسولهِ وماتوا وهم فاسقون * ولاتُعجِبْكَ أَموالُهُم وأَولادُهُم إنما يُرِيدُ الله أَنْ يُعَذِّبَهُم بها في الدنيا وتَزهَقَ أَنفُسهُم وهُم كافِرونَ } (9 التوبة آية 82ـ85).
حكمٌ إلهي بمنتهى الشدَّة، إنه حرمان من شرف الخدمة العسكرية، فلا تكريم لهم في حياتهم أو عند مماتهم، وتحويل للنعمة الزائلة الَّتي انخدعوا بها إلى جحيم دنيوي، فالأولاد ينقلبون إلى أعداء يذيقون آباءهم مرَّ الغضب والعقوق، والمال يذوب ويندثر، والموت الكريب يحيق بهم، وقد زهقت أنفسهم من وبال الأمراض والهموم، فلا استغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبورهم ولا دعاء لهم والملائكة تسائلهم.
روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل وفي الآخرة لهم ما هو أدهى وأمر»، قال تعالى: {بل السَّاعةُ مَوعدُهُم والسَّاعةُ أدهى وأَمرُّ * أن المُجرِمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ * وهمَ يُسحَبونَ في النَّارِ على وُجُوهِهِم ذُوقوا مَسَّ سَقَرَ } (54 القمر آية 46ـ48)(3/210)
6ـ ومنهم ثلاثة من المؤمنين: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، لم يكن لهم أي عذر في تخلُّفهم سوى الكسل والاسترواح في ظلال المدينة، كما قال كعب: (والله ماكان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : «أمَّا هذا فقد صدق فقم حتَّى يقضي الله فيك»). (أخرجه البخاري ومسلم).
وقضى الله تعالى فيهم أمره، وأصدر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم، فنهى الناس عن كلامهم، أو التعامل معهم، أو ردَّ السَّلام عليهم، وأصدر عليه الصَّلاة والسَّلام أمراً بعد أربعين ليلة من الحكم الأوَّل إلى زوجاتهم بأن يعتزلن أزواجهن، والاكتفاء بخدمتهم دون مقاربتهم.
وكان سجناً انفرادياً لكلٍّ منهم داخل قفص جسده، وكانت زنزانة غير منظورة لكلٍّ منهم، وكانت عقوبتهم حكماً فريداً من نوعه، اشترك الشعب كلُّه في تنفيذه. إنها سابقة لم يكن لها مثيل في تاريخ البشرية على الاطلاق، امتثل فيها المحكومون للحكم الإلهي بملء إرادتهم، وقابلوه بالاستغفار والتوبة، والإنابة بصدق وخشوع، وبالتضرُّع والدعاء الممزوجين بدموع مدرارة سخية ملتهبة، تنبعث من قلوب احترقت من خشية الله، وتنهمل من عيون التهبت بنار إلهية غسلت الركام الناشئ عن تخلُّفهم، حتَّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنُّوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، نزلت بشائر التوبة الإلهية واستبشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وبشَّر صحابته الكرام، وكان احتفالاً غريباً من نوعه، قام فيه منفِّذو الحكم بتهنئة المحكومين، مهلِّلين مكبِّرين، فرحين مستبشرين.(3/211)
إنها توبة إلهية شملت الثلاثة الَّذين تَخَلَّفوا، كما شملت قبلهم جميع من شاركوا في غزوة تبوك، وخاصَّة من راودتهم أنفسهم بعض الظنون والشكوك والهموم، وقد هدَّهم تعب المسير، حتَّى تورَّمت أقدامهم وتقيَّحت، حيث كان العشرة منهم يتناوبون الركب على دابَّة واحدة، وأضناهم قلَّة الزاد والماء، حتَّى أن الرجلين كانا يشقَّان التمرة بينهما، وحتَّى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده.
وهكذا بهذه الرسالة السماوية الكريمة، وبأمثال هؤلاء الصحابة العظام، وبالرعاية الكريمة الصادقة المخلصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ظهرت خير أمَّة أُخرجت للناس، سبقت أعمالُها أقوالَها، وشعَّ صدق إيمانها نوراً ربَّانيّاً أضاء ظلمات القلوب العاثِرة، فاهتدت وهدت إلى صراط ربِّ العالمين.
الفصل الثامن:
الشهيد والشهادة
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {ولا تَحسَبَنَّ الَّذين قُتِلوا في سَبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عِند ربِّهم يُرزَقونَ(169) فَرِحينَ بما آتاهُمُ الله من فَضلِهِ ويَستَبشِرونَ بالَّذين لم يَلحَقوا بهم من خَلفِهِم ألاَّ خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحزنونَ(170) يَستَبشِرونَ بِنِعمةٍ من الله وفضلٍ وأنَّ الله لا يُضيعُ أجرَ المؤمِنينَ(171)}
سورة البقرة(2)
وقال أيضاً: {ولا تَقولوا لِمَنْ يُقتلُ في سبيلِ الله أمواتٌ بل أَحياءٌ ولكن لا تَشعُرونَ(154)}
ومضات:
ـ الحياة الحقيقية هي اتحاد الروح والجسد في سبيل تحقيق هدف واحد، هو إعلاء كلمة الله في الأرض، بتمثُّل الإيمان في النفس، ونشره في ربوع الأرض بين الناس، وإقامة البناء الأخلاقي والإعمار. وقد يتعرَّض الجسد من أجل ذلك كلِّه للموت، إلا أن الموت هنا، في حدِّ ذاته، بداية لحياة مِلؤُها السعادة والحبور في ظلِّ عرش الله ورعايته.
ـ الفرح الحقيقي هو الَّذي لا حزن بعده، وهو الغاية المنشودة الَّتي يطلبها المؤمن من ربٍّ كريم.(3/212)
ـ قافلة الشهداء تتابع مسيرتها حين يقدِّم المؤمنون أرواحهم رخيصة في سبيل الله، بكلِّ ثبات واطمئنان دون وجل ولا تردُّد، وتكون البشرى الحقيقية عندما يُغْمِضُ الشهيد عينيه، وقلبُهُ مغمور باليقين؛ بأنه سينال ما وعده الله تعالى من حسن الجزاء لقاء صدقه واستشهاده، فيجد ذلك كلَّه حقيقةً ماثلةً للعيان، جِنانٌ وربٌ كريم.
في رحاب الآيات:
يا له من موكبٍ جميل تتنزَّل فيه كوكبةٌ من ملائكة الرحمن لتحمل روح الشهيد وتَزفَّها إلى أعالي جنان الخلد، ورائحة دمائه الزكية تفوح بالمسك الأذفر! ولا عجب في أن يُستقْبَل بهذه الحفاوة والتكريم، وهو الَّذي قدَّم أغلى ما يملك لأعزِّ مالك، ألا وهو ربُّ العرش العظيم.
لقد نزلت هذه الآيات الكريمة على المؤمنين؛ لتخبرهم عن منزلة شهدائهم عند الله، فيزدادوا في الجهاد حباً، وإلى لقاء ربِّهم شوقاً، وبمصداقية حياتهم بعد موتهم يقيناً. وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لمَّا أصيب إخوانكم بأُحُد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضْر، تَرِد أنهار الجنَّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظلِّ العرش، فلمَّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مَقِيلهم قالوا: ياليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله، أنا أبلغهم عنكم، فأنزل هذه الآية: {ولا تحسَبَنَّ الَّذين قُتِلوا في سبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزَقون}».(3/213)
فإن كان الشهداء في هذه المنزلة العظيمة؛ حيث يتبوَّؤُون مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويُرزَقون مثلما يُرزق الأحياء، ويتنعمون بألوان النعيم والسرور، فإن ذلك يؤكد أن الشهادة ليست بخاتمة المطاف، وليست حاجزاً بين ما قبلها وما بعدها، بل هي استمرار للحياة الأولى، وانتقال مرحلي منها للارتقاء في معارج النعيم في الجنان الَّتي أعدَّها الله للشهداء الأبرار، الَّذين يتجاوزون عالم البرزخ، وتنطلق أرواحهم لتحيا حياة جديدة يصبح فيها الغيب مُشاهَداً مرئياً؛ فيرون ألواناً من النعيم الَّذي لا يُوصف، ويُرزقون كما يُرزق الأحياء، فكأنهم لم يموتوا. إلا أن هذه الدرجة لا يُلَقَّاها إلا المخلصون من الشهداء، والمبتغون في تضحيتهم وجه الله، وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).
وهكذا نجد أنَّ الإسلام قد أعطى ظاهرتَيْ، الموت والحياة، مفهوماً عميقاً وجميلاً ذاخراً بالمعاني السامية، الَّتي تُفْرِحُ قلب المؤمن وتجعل من حياته وموته رحلة متكاملة، طالما أنهما في سبيل الله، تحقيقاً لإرادته في نشر السَّلام والاطمئنان في ربوع العالم كلِّه.
إنها النظرة الجديدة للموت، وهي ذات آثار جليلة على مشاعر المؤمنين، حيث حثَّتهم على زيادة الطاعة والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وترك التمسُّك بالحياة الدنيوية الزائلة، للفوز بحياة أبدية لا يكدِّرها خوف من مكروه، ولا حزن ولا هموم، وهذا ما يسلِّط الأضواء على أحد شهداء الصحابة، عندما تَلقَّى بصدره طعنةً برمحٍ نفذ إلى ظهره فقال: فُزْتُ وَرَبِّ الكعبة.(3/214)
فهذه النُّقلة من الحياة الدنيا إلى الآخرة أدعى إلى الغبطة، لأنها رحلة إلى جوار الله تعالى، وتعديل لمفهوم الموت وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وتوسيع لأفق الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق العاجلة ومظاهرها الزائلة، وتستقرُّ في مجال فسيح لا تعترضه الحواجز، الَّتي تقوم في أذهاننا، عن هذه النقلة من حياة إلى حياة. وقد أثمر هذا المفهوم الجديد الَّذي غرسته هذه الآية ومثيلاتها في قلوب المسلمين؛ فتسارعت خطاهم في التسابق على طلب الشهادة في سبيل الله، دفاعاً عن الحقِّ، وردّاً لكيد المعتدين، ونصرةً للمظلومين.
الفصل التاسع:
الهجرة في سبيل الله
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين تَوفَّاهُمُ الملائكَةُ ظالِمي أَنْفسِهِم قالوا فيمَ كنتم قالوا كُنَّا مُستضعَفينَ في الأرضِ قالوا ألم تَكُن أرضُ الله واسعةً فتُهاجِروا فيها فأولئِكَ مأواهمْ جهنَّمُ وساءَتْ مصيراً(97) إلاَّ المُستضْعَفينَ من الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلْدانِ لا يستطيعونَ حِيلَةً ولا يهتدونَ سبيلاً(98) فأولئِكَ عسى الله أن يعفوَ عنهم وكان الله عَفُوّاً غفوراً(99) ومن يُهاجرْ في سبيلِ الله يَجدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وَسَعَةً ومن يخرُجْ من بيتهِ مهاجراً إلى الله ورسولِهِ ثمَّ يُدرِكْهُ الموتُ فقد وقعَ أجرُهُ على الله وكان الله غفوراً رحيماً(100)}
سورة الأنفال(8)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالِهِم وأنفُسِهِم في سبيلِ الله والَّذينَ آوَوْا ونَصَرُوا أولئكَ بعضُهُم أولياءُ بعض والَّذين آمنوا ولم يُهاجروا ما لَكُم من وَلايَتِهِم من شيءٍ حتَّى يهاجروا وإن استَنْصَروكُم في الدِّين فَعَلَيكُمُ النَّصرُ إلاَّ على قومٍ بينكُم وبينَهم ميثاقٌ والله بما تعملون بصيرٌ(72)}
ومضات:(3/215)
ـ لا عذر لمن يتقاعس عن الالتزام بشريعة الله تعالى، بحجَّة أن الظروف الَّتي تحيط به صعبة لا تسمح له بذلك، طالما أنه يملك القدرة على تغيير هذه الظروف، أو التخلُّص منها بالهجرة إلى بيئة أفضل.
ـ إنَّ مُلْكَ الله واسع الأطراف يتَّسع للجميع، ولابُدَّ من أن يجد المؤمن في رحابه بقعة يعبد الله فيها ويعمل بشريعته في جوٍّ من الحرِّية والاطمئنان.
ـ لا يكلِّف الله نفساً إلا وُسْعها، فأولئك الَّذين عجزوا بحقٍّ عن الهجرة لسبب قاهر، اقتصادياً كان السبب أو اجتماعياً أو غير ذلك، فالله تعالى قد يتجاوز عن تقصيرهم، وخاصَّة إذا كانوا ممن لا يملكون حيلة، رجالاً ونساءً وأطفالاً.
ـ الهجرة في سبيل الله تحقِّق للإنسان فتحاً روحياً وإيمانياً وأخلاقياً، إلى جانب الرزق الإلهي الوفير.
ـ الأعمال بالنيَّات، وإذا عزم المؤمن على الهجرة، ثم حال الموت دون تحقيق هدفه، أثابه الله تعالى وكان له غفوراً رحيماً.
ـ عندما ينخرط المسلم عملياً في صفوف المسلمين، فإن له ما لهم من الحقوق، وعليه ما عليهم من الواجبات، وإذا اختار البقاء بعيداً عنهم فهم في حلٍّ من الواجبات تجاهه، عدا ما يتعلَّق منها بحماية عقيدته.
ـ السِّمَةُ الأساسية للشريعة الإسلامية هي المحافظة على العهود والمواثيق حتَّى مع أعداء المسلمين، وبهذا امتازت عن كلِّ الشرائع الوضعية.
في رحاب الآيات:(3/216)
تعرض الآية الكريمة مشهداً حياً من مشاهد الدار الآخرة؛ حيث يقف العبد وحده بين يدي الملائكة في عالم البرزخ، وقد تَجرَّد من مظاهر الدنيا وزينتها، فيسألونه عن سبب تفريطه في أمر دينه، وتهاونه في شأن عقيدته، وقبوله بأن يبقى في دار الكفر، حيث كان يُمنع من إقامة شعائر دين الله، كما يسألونه عن السبب في عدم هجرته إلى دار الإيمان. ويحاول أن يجد جواباً يُخْليه من المسؤولية فيلتمس عذراً واهياً يتشبَّث به، مدَّعياً أن ضعفه حال بينه وبين الهجرة، ومنعه الخوف من تحمُّل متاعب السفر، ومفاجآت الرحلة، ومغادرة الوطن.
ولكنَّ العُذر غير حقيقي، والله عالم بحقيقة الأمر، لقد كره الهجرة وتثاقل وآثر البقاء في داره حرصاً على ماله ومصالحه الدنيوية، وعلاقاته الاجتماعية، ورضي بالذُّل والاستضعاف والفتنة في إيمانه لقاء عَرَض زائل. فقد حبس نفسه في صدفة ضيقة اسمها النفس الأمَّارة بالسوء، ودائرة صغيرة اسمها المكان، ولم يحاول أن يخرج من ضيق نفسه إلى رحاب عالم الروح، ولا من دائرة المكان إلى انفساح عالم الأرض. لقد اختار ما يرضيه في دنيا المادَّة ومسالك الهوى، وعزل نفسه عن الجسد الإسلامي، حين اختار الإسلام عقيدة نظرية، وتقاعس عن تطبيق تعاليمها ومبادئها عملياً، تحت لواء المجتمع المسلم.(3/217)
لذلك فقد نزل حكم الله تعالى فيه وفي أمثاله، بحجب الولاية عنهم، وحرمانهم من كلِّ ما يترتب عليها من العلاقات والالتزامات، فلا يؤخذ برأيهم ولا يحقُّ لهم المشاركة في الأُطُر القيادية، لأنهم لا يدورون في فلك المجتمع المسلم ولا يُسْلِمون قيادتهم إليه، ولهذا فلم تعد تربطهم به سوى رابطة الاشتراك الشكلي في العقيدة، وهذه وحدها لا تُلزم المجتمع المسلم بواجبات تجاههم، إلا في حالة واحدة، وهي أن يُعتَدى عليهم في دينهم، وحينها يتوجَّب على المسلمين أن ينصروهم؛ إذا طلبوا منهم الإغاثة والنصرة، شريطة ألا يتعارض ذلك مع العهود، الَّتي أخذتها الدولة المسلمة على نفسها، مع أي جهة من الجهات، حتَّى ولو كانت كافرة ومعتدية. وذلك لأن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم، ولها الأولوية في كلِّ التعاملات والعقود، والمحافظة على العهود والمواثيق هي السِّمة الأساسية للشريعة الإسلامية. وكان الأجدر بهذه الفئة أن تلتحق بالمجتمع الإسلامي لتقوم بدورها فيه، وتعيش في كنفه وحمايته، بدلاً من أن تجعل من نفسها ريشة في مهبِّ الريح، تتقاذفها أيدي الأعداء والمشركين، وتجعل من أمر حفظ حقوقها وكرامتها واجباً ثقيل الوطأة على المجموعة الإسلامية.
إن الَّذين ثبت تقاعسهم عن الهجرة بدافع الحفاظ على المصالح الدنيوية، لا سيَّما في الأوقات الَّتي تستلزم فيها مصلحة المسلمين تماسكهم وتآزرهم، والتقاءهم جميعاً في مكان واحد، للقيام بأمر دينهم وتقويته، كما كانت عليه الحال في زمن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فإن مصيراً آخر ينتظرهم في الآخرة، وهو الحبس والتضييق عليهم في جهنَّم، وما هذه إلا النهاية الحتمية الَّتي ارتضوها لأنفسهم، حين آثروا البقاء حيث هم، على اللحاق بالمسلمين والانضمام إليهم في مجتمعهم الجديد.(3/218)
ولكنَّ الآية الكريمة تستثني منهم طائفة من المؤمنين منعتهم ظروف قاهرة حقيقية من الهجرة، وهم الشيوخ الضعاف والنساء والأطفال، فاضْطُرُّوا للبقاء في دار الكفر، لأنهم لم يجدوا سبيلاً للهجرة إلى حيث يأمنون على دينهم وعقيدتهم من العبث والاضطهاد، فهؤلاء يمدُّ الله لهم حبل الرجاء ليتمسَّكوا به، فهو إن شاء غفر لهم وإن شاء عذَّبهم؛ على الرغم من أعذارهم. فالأمر متعلِّق بمشيئة الله، كي لا يتهاون أي امرئٍ في تفضيل التراخي والراحة، على تحمُّل المشاقِّ والتضحية في سبيل الله، إلا أن الله تعالى قد كتب على نفسه الرحمة، ورحمته قد سبقت غضبه بل ووسعت كلَّ شيء.
والله ـ جلَّ وعلا ـ عالم بطبيعة النفس البشرية وما يعتريها من خوف أو ضعف أو جُبن بشأن الهجرة، فقد تشقُّ على بعض الناس، بسبب خوفهم من مشقَّات الطريق أو تَرصُّد الأعداء لهم، فيطمئنهم الله سبحانه بوعده لهم بأن من يهاجر في سبيله، لا من أجل مصلحة خاصَّة أو غرض دنيوي، فإنه سيفتح أمامه سُبل السَّلام والأمان، وسيهيِّئ له أرضاً واسعة تغنيه عن ضيق أرضه، ورزقاً وافراً يعوِّضه عما تركه في دياره، وإذا خرج مهاجراً وأدركه الموت، فإن أجره على الله، وسيقبل هجرته ويرفعه إلى مقام المهاجرين الحقيقيين.
وليست الهجرة أمراً خاصّاً بالمسلمين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي عامَّة تسري قواعدها إلى آخر الزمان. فالهجرة من الديار الَّتي مُنعت فيها حرِّية العبادة فرضٌ في كلِّ زمان ومكان، فلا يحقُّ للمؤمن أن يتراخى في داره بحجَّة أنه ممنوع من ممارسة عباداته، وهو إنْ هاجر فإنَّ أمامه فتحاً روحياً وإيمانياً وأخلاقياً، وعطاءً إلهيّاً في دينه ودنياه.(3/219)
ولا يقتصر معنى الهجرة على أن يهاجر الإنسان من بلد إلى بلد فحسب، فالهجرة تعني هجر كلِّ ما نهى الله عنه من سيِّء الأقوال والأفعال، وهجر أهل السوء وأماكن الفساد، وأن يهاجر المرء إلى الله ورسوله متحرِّراً من ربقة الهوى واستعباد المادَّة، متطلِّعاً إلى عالم الروح حيث الاتساع والانفساح، والسمو والارتقاء، وحيث ينخلع القلب من حبِّ الدنيا ويعمره حبٌّ واحد، هو حبُّ الله وحبُّ أحبابه، والبقاء في دائرتهم والهجرة إلى مجالسهم، حيث تتآلف القلوب وتتشابك الأيدي على العمل الصالح. وهكذا فإن على المؤمن أن يبقى دائماً في حالة مراقبة لإيمانه، ومتابعة لمؤشِّره الروحي، ليكون في زيادة لا في نقصان.
وفي حال شعوره بالتراجع عن العبادات والطاعات، فعليه أن يتحرَّى أسباب ذلك ليُجري عملية تغييرٍ فوريةٍ سواء في محلِّ إقامته أم في عاداته، وأن يحيط نفسه بأجواء نقيَّة طاهرة، تزيده عزماً وصلابةً في عقيدته، وحباً للخير المطلق.
إن الهجرة فُرِضَتْ على المسلمين لترك دار الجاهلية والضلال، إلى دار المعرفة والهداية، فإذا لاحظنا هذا المعنى، وجدنا أنَّ كلَّ مَنْ كانت حالتُه مثلَ حالتهم، وجبت عليه الهجرة، وهي واجبة الآن على كلِّ مسلم ليس له معلِّمٌ يعلِّمه، ولا مرشد له يهديه سواء السبيل. إنَّ على المسلم الآن أن يبحث عن مرشدٍ عارفٍ بالله يأوي إليه، ليجد عنده متطلَّبات الإيمان الضرورية، وهي علم الكتاب والسنَّة، وتزكية النفس وتنوير العقل بالحكمة؛ وهي الأمور الثلاثة الَّتي تشكِّلُ العلم الَّذي أورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر.(3/220)
وفي الختام لابدَّ من أن نشير بأن اكتفاء المسلم من الإسلام بعادات ورثها عن أبويه، أو بصفحات قرأها من كتاب، لا يخرجه من أعرابيَّته، فالأعرابي في مصطلح الإسلام: من رضي بالجهل، واقتنع بما لديه من عادات، بعيداً عن المستوى السامي الَّذي ندبه إليه الإسلام. ولقد ورد عن سلفنا الصالح أن من الكبائر التعرُّب بعد الهجرة، فإذا ما هاجر المسلم إلى مورد العلم والتزكية والحكمة، فقد حظي بأغلى كنز في هذه الحياة، وعليه أن يزداد تمسُّكاً به، وحفاظاً عليه، وقرباً منه يوماً بعد يوم، حتَّى يلقى ربَّه وهو أوثق ما يكون ارتباطاً به، والتزاماً بمنهجه القرآني النبوي، قال تعالى: {هو الَّذي بَعَثَ في الأمِّيِّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويُزكِّيهم ويُعلِّمهمُ الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قَبْلُ لفي ضلالٍ مُبين} (62 الجمعة آية2).
------------------
الباب الثاني عشر -الدار الآخرة
الفصل الأوَّل: الموت
سورة ق (50)
قال الله تعالى: {ولقد خلَقْنا الإنسانَ ونعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُهُ ونحن أَقْرَبُ إليه من حَبلِ الوريدِ(16) إذ يتلقَّى المُتلَقِّيانِ عن اليمينِ وعن الشِّمالِ قعيدٌ(17) ما يَلْفِظُ من قولٍ إلاَّ لديهِ رقيبٌ عتيدٌ(18) وجاءتْ سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ ذلك ما كُنتَ منه تَحيدُ(19) ونُفِخَ في الصُّورِ ذلك يومُ الوَعيدِ(20) وجاءتْ كلُّ نفْسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ(21) لقد كُنتَ في غَفْلةٍ مِن هذا فَكَشَفْنا عنكَ غِطاءَكَ فبصَرُكَ اليومَ حديدٌ(22)}
/ ومضات:
ـ ليس هناك من حواجز ولا عوائق تحول دون مراقبة الله لعبده؛ لأنه أينما حلَّ وارتحل فهو في دائرة ملكوت الله، وتحت سمعه وبصره سبحانه، يعلم منه ما أَسَرَّ وما أخفى، ويكلؤه بألطاف رعايته وعنايته، لأنه قريب منه ومحيط به.(3/221)
ـ أوكل الله تعالى بكل إنسان ملَكَيْن كريمَيْن عن يمينه وشماله، يرصدان حركاته وسكناته وكلماته، ويراقبانه دون كلل ولا ملل، لا لحاجته سبحانه إلى من يخبره عن أحوال عبده ـ فهو غنيٌ عن ذلك ـ بل ليكون ما يسجِّلانه أحد الأدلَّة الَّتي تشهد له أو عليه يوم العرض الأكبر.
ـ عند حلول سكرات الموت تتكشَّف للمُحْتَضر حقائق العالم الآخر، ويقف وجهاً لوجه أمام ما كان يتحاشاه ويتجنبه طيلة حياته، فيواجه الحقيقة الكبرى بانتقاله إلى الدار الآخرة، والَّتي يتبعها بدء الحساب.
ـ عندما يجيء يوم القيامة وتحين ساعة الجزاء، يبعث الله الحياة في الخلائق من جديد، وتسوقهم الملائكة إلى المحكمة الإلهية.
ـ يُمضي الإنسان عمره وهو مشغول عما خُلق من أجله، وهو الاستعداد ليوم الفصل فإذا ما مات انزاحت الغشاوة عن عينيه، وتلاشت خيوط الوهم الَّتي كان يتعلَّق بها في الدنيا، لتنكشف له حقائق الأمور الَّتي كان رسل الله يسعون إلى توضيحها وترسيخها في الأذهان.
/ في رحاب الآيات:(3/222)
يقع الكون بما فيه من مخلوقات، في قبضة الله تعالى، ولا يغيب عن علمه وسيطرته شيء، ومن ذلك شعور الإنسان وتفكيره ونواياه، فهي واقعة تحت سمع الله وبصره، فلا شيء مغلق أمام عظمة الله وقدرته، فهو عالم بجميع ما خلق، حتَّى إنه يعلم ما توسوس به نفس الكائن البشري من الخير أو الشر. وهو سبحانه وتعالى أقرب إلى عبده من حبل الوريد الَّذي يجري فيه دمه، وهو تعبير يمثِّل ويصوِّر القبضة المالكة والرقابة المباشرة. وحين يتصوَّر الإنسان هذه الحقيقة فإنه يرتعش ويحاسب نفسه، ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها، لما تجرأ على التفوُّه بكلمة لا يرضى الله عنها، بل ما تجرأ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول عنده، وإنها وحدها كافية لأن يعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة، ويقظة مستمرَّة، بحيث لا يغفل لحظة عن محاسبة نفسه، فهو يخشى أن يعصي الله، ويحاذر أن يلفظ بلسانه منكراً، أو أن يسيء لأحد من مخلوقات الله.(3/223)
إن هذا القرب الإلهي، وهذه المعيَّة الربَّانية هي في مصلحة الإنسان، فهو بهذا الشعور يطمئِنُّ لحماية الله وعنايته، فيقطع رحلة الحياة وهو مطمئن، واثق بأن العناية الإلهية ترعاه في كلِّ حركة وفي كلِّ سكنة. أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل الله من ابن آدم أربع منازل: هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كلِّ دابة، وهو معهم أينما كانوا». ثمَّ ذكر سبحانه أنه مع علمه بابن آدم، وَكَّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاماً للحُجَّة، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله يتلقَّيان منه كلَّ كلمة وكلَّ حركة ويسجلانها، مع أن الله سبحانه غني عن استحفاظ الملكين لشدَّة قربه من عباده. فلا يلفظ الإنسان كلمة من فمه إلا والملكان حاضران لكتابة ثوابها أو عقابها، فقد روى محمَّد بن عمر وابن علقمة الليثي عن بلال بن الحارث المُزَني رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» (رواه مالك في الموطأ والترمذي)، وأخرج ابن أبي شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عند لسان كلِّ قائل فلْيتَّق الله عبدٌ ولينظر ما يقول» (أخرجه أبو نعيم في الحلية عن عمر رضي الله عنه )، وأخرج ابن أبي الدنيا عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: (لسان الإنسان قلم المَلك وريقه مداده)، ومع ذلك فقد روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل العبد حسنة كتبها ملك اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال ملك اليمين لملك الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبِّح أو(3/224)
يستغفر» (أخرجه البغوي وأخرجه ابن حجر في تغليف التعليق)، والحكمة في هذا أن الله لم يخلق الناس لتعذيبهم، بل خلقهم لتربيتهم وتهذيبهم، وإمهالهم للتوبة قبل محاسبتهم.
ثمَّ تحين ساعة الرحيل بالموت، الَّذي هو أشدُّ ما يحاول المخلوق البشري أن يتناساه، ولكن أنَّى له ذلك والموت طالب لا يملُّ الطلب ولا يخلف الميعاد؟: {وجاءَتْ سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ}. وهذا التعبير يوحي بأن النفس البشرية ترى الحقَّ كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك ما كانت تجهل منه وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان. إنها حقيقة واقعة مهما حاول الإنسان أن يتعامى عنها أو يتجاهلها، فإنه لابُدَّ أن يأتيه يوم، ينكشف فيه غطاء بشريته، ليرى لحظة خروج روحه من جسده، وأن كلَّ ما حادَ عنه جهلاً وعُتُوّاً، أصبح اليوم أمراً واقعاً وحقيقة ماثلة فيندم، ولاتَ ساعة مندم.
وبعدها تنقلنا الآيات نُقْلة سريعة إلى يوم الحساب والجزاء، وما يسبقه من النفخ في الصور إيذاناً بحلول هذا اليوم العصيب، الَّذي توعَّد الله الكفار أن يعذِّبهم فيه أشدَّ العذاب، ووعد المؤمنين المتَّقين أن يثيبهم فيه خير الثواب.
ففي هذا اليوم تأتي كلُّ نفس ربَّها عزَّ وجل، ومعها سائق من الملائكة يسوقها إليه، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر، وهو مَشهدٌ أشبه بالسَّوق إلى المحاكمة، ولكن في محكمة قاضيها خالق الكون. وهناك يقال للإنسان: لقد كنت في غفلة عن عالم الآخرة، فجلَّينا لك ذلك، وأظهرناه لعينيك حتَّى رأيته وعاينته فزالت عنك هذه الغفلة، فأبصرت ما لم تكن تبصره من الحق.
والخلاصة: إنَّ الله سبحانه مُطَّلع على السرائر، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقال ذرَّة، وإن الإنسان مراقَب في أعماله كلِّها لتُقام عليه الحُجَّة، وأن الموت حقٌّ والبعث حقٌّ والحساب حقٌّ، وأن لحظة الموت هي اللحظة الَّتي تتجلَّى فيها الحقيقة للإنسان دون لَبْسٍ ولاشك.
آل عمران(3)(3/225)
قال الله تعالى: {وما كان لنفسٍ أن تَموتَ إلاَّ بإذنِ الله كِتاباً مؤَجَّلاً ومن يُرِدْ ثَوابَ الدُّنيا نؤتِهِ منها ومن يُرِدْ ثَوابَ الآخرةِ نؤتِهِ منها وسَنَجزي الشَّاكرينَ(145)}
سورة المؤمنون(23)
وقال أيضاً: {حتَّى إذا جاءَ أحدَهُمُ الموتُ قال ربِّ ارجعونِِ(99) لعلِّي أَعملُ صالحاً فيما تركْتُ كلاَّ إنَّها كلمةٌ هو قائِلُها ومِن ورائِهِم برزخٌ إلى يومِ يُبْعَثون(100)}
سورة المنافقون(63)
وقال أيضاً: {وأنفِقُوا ممَّا رزقْناكُم من قبلِ أن يأتيَ أحدَكُم الموتُ فيقولَ ربِّ لولا أخَّرْتني إلى أَجَلٍ قريبٍ فأصَّدَّقَ وأكن من الصَّالحين(10) ولن يُؤخِّرَ الله نفْساً إذا جاء أَجَلُها والله خبيرٌ بما تعملون(11)}
/ ومضات:
ـ الحياة الأرضية معبر إلى حياة الخلود، وكلُّ مَنْ على هذه الأرض فان، والمهمُّ هو الاستفادة من رحلة العمر هذه، في تهيئة أرواحنا للحياة الأبدية، حيث حصاد زرعنا ونتاج أعمالنا، دون الالتفات إلى بريق الدنيا الكاذب وزخارفها الخدَّاعة.
ـ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، ومن يكفر به وبآلائه فإنه لا يضرُّه ولا ينقص من ملكه شيئاً، وأمَّا من آمن به حقَّ الإيمان وشكره على أنعمه فإنه سيُجزل عطاءه ويُحسن مثواه.
ـ الوقت سلاح ذو حدين، إن أحسنَّا استعماله ذلَّلنا الصعاب ووصلنا إلى الغاية المرجوَّة، وإذا أسأنا استعماله خسرنا وندمنا، وإن عجلة الزمن لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وما كان لندم ـ مهما اشتدَّ على ما فوَّتنا أو ضيَّعنا من عمرنا ـ أن يعيد دورة الزمن لنأخذ فرصتنا من جديد.(3/226)
ـ إن التجارب اليومية كثيرة وهي تمرُّ بنا وبسوانا، وعند كلِّ تقصير أو إهمال نبديه، تفوتنا فرص عديدة في الحياة قد نعجز عن استدراكها، وهكذا هو قانون الله تعالى، حيث أعطى الإنسان كلَّ الفرص للاستفادة منها في إعمار قلبه وعقله ومحيطه المسؤول عنه، فمن ضيَّعها فقد فاتته هذه الفرص، وليس أمامه سوى الندم والويل والثبور وفظائع الأمور.
/ في رحاب الآيات:
الموتُ هو النهاية الَّتي ينتهي إليها كلُّ حيٍّ على هذه الأرض، فلكلِّ نفس موعد مؤجَّل إلى وقت لا يعلمه إلا الله تعالى، ولن تموت نفس حتَّى تستوفي أجلها، وبذلك تستقرُّ حقيقة الأجل في النفس، فلا تنشغل بالتفكير فيه عن أداء واجباتها، والوفاء بالتزاماتها، وتكاليفها الإيمانية. فليس المهم إذاً موعد الموت، بل أن نكون جاهزين في كلِّ لحظة لهذا الرحيل، وذلك بأن نكون مستغفرين من ذنوبنا، تائبين منيبين إلى الله، مؤدِّين ما علينا من حقوق لعباده، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحَّتك لمرضك ومن حياتك لموتك» (رواه البخاري). فالإنسان الموفَّق هو الَّذي يصحو من سُبات الجهل، ويبتعد عن طريق الشرور والآثام في الوقت المناسب، وقبل أن يمضي قطار العمر، بحيث يبادر وما زال أمامه متَّسع من الوقت لترميم ما أفسد، ولتعويض ما فاته من الطاعات والعمل الصالح. فما الفائدة من أن يصحو المرء من سكرة ذنوبه ومعاصيه، ليقع في سكرة الموت، ويجد نفسه وقد أضاع ماله وشبابه وصحَّته وعمره.(3/227)
إن المرء ليتمنَّى عندما تنتابه صحوة الموت، وينكشف له الغطاء عن عالم الآخرة، أن يُعطى ولو ساعة من حياة، ليَهَبَ كلَّ ما يملك من مال في سبيل الله، أو أن يعيد كلَّ ما اغتصبه من حقوق لأهلها، ولكنَّه موعد مع القدر الإلهي لا يستقدم لحظة ولا يستأخر: {وَلِكُلِّ أُمَّةٌ أَجَلٌ فإذا جاءَ أَجَلُهُم لا يَسْتأخِرونَ ساعةً ولا يَسْتَقْدِمون} (7 الأعراف آية 34). وماذا بوسع المُحْتَضر أن يفعل فيما إذا طلب تأخير موته عن موعده المحدد ولو لساعات أو لأيام؛ بعد أن بدأت ظواهر عالم الغيب تتكشَّف له؟ وهل يكفيه أن يسجد طيلة مدة التمديد، صائماً مسبِّحاً لله ومستغفراً؟ وهل يكفيه إذا أُعطي مهلة تأخير التنفيذ، أن ينفق جميع ما يمكنه أن ينفقه في سبيل الله، كفَّارةً لذنوبه واستدراكاً لما تأخر عن إنفاقه؟. ذلك المال الَّذي ضيَّع عمره بحثاً عنه، وتهالُكاً على جمعه، هل هو مستعدٌّ الآن أن ينفقه في لحظة واحدة في سبيل إرضاء الله؛ بعد أن تحقَّق من وجود الحساب واليوم الآخر؟ وهل هو مستعدٌّ أن يعيد كلَّ مال حرام اغتصبه إلى أصحابه؟؟. أما وإن الروح لن تعود إلى الجسد في الحياة الدنيا بعد أن حان أجلها، وأنَّ الموت حقٌّ، والحساب حقٌّ، واليوم الآخر حقٌّ، فلماذا لا ننفق ما فرضه علينا الشارع الحكيم، أثناء حياتنا وبهدوء ورويَّة، وعلى أفضل وجه يرضاه الله، من أجل مصلحة المجتمع وتحقيق توازنه وسلامة بنيته الأخلاقية؟. إن من أهمِّ المعوِّقات عن مثل هذا الإنفاق هو تعلُّقنا بالمزيد من الكسب وتجميع الثروات، ورغبتنا بإشباع شهواتنا بالمزيد من المتع الحسيَّة، مما يغلِّف قلوبنا بأستار كثيفة تبعدنا عن حضرة الله، وعن تذكُّر تعاليمه الَّتي ما فُرضت علينا إلا لأجل سعادتنا في الدارين.(3/228)
لذلك فإن الله جلَّ وعلا يردُّ على هذا السائل المتمني الرجوع إلى الدنيا كي يعمل صالحاً بقوله: كلا، وهو حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى طلبه ولا نقبل منه، فسؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو قول لا عمل معه، ولو رُدَّ لما عمل صالحاً، ولكان كاذباً في مقالته كما قال تعالى: {..ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنَّهم لكاذبون} (6 الأنعام آية 28).
فعودة الناس إلى الحياة الدنيا بعد الموت أمر مستحيل، فَمِنْ أمامهم حاجز يحول بينهم وبين هذه العودة وهو عالم البرزخ، قال مجاهد: (البرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة) وقال محمد بن كعب: (البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يُجازون بأعمالهم). وقد حذَّر الله تعالى عباده من هذه اللحظة العصيبة، لحظة الموت، وما وراءها من حياة البرزخ، وما بعدها من الحساب والعقاب، وجاء هذا التحذير على ألسنة الأنبياء وفي الكتب السماوية المقدَّسة، وحضَّ عباده على أن يلهجوا بذكره آناء الليل وأطراف النهار، وأن يؤدُّوا ما فُرِضَ عليهم من العبادات، فلا يشغلهم عن ذلك زخرف الحياة الدنيا من مال ونسب وولد وجاه وسلطان، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. وكذلك أمرهم أن ينفقوا أموالهم في أعمال البرِّ ووجوه الخير، وألا يؤخِّروا ذلك حتَّى يفجأهم الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، ويتمنَّوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوِّضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنَّى لهم ذلك، ولكلِّ نفس أجل محدود لا تتعدَّاه، والله خبير بأعمالهم، وهو مجزيهم عليها، إن خيراً فخير وإن شراً فشر؟. فمن جعل الدنيا همَّه فقد يصيبه حظٌ منها ويخسر نصيبه في الآخرة، لأن حيازة الإنسان على الدنيا ليس بموضع غبطة لأنها مبذولة للبَرِّ والفاجر على السواء، أمَّا من أراد الآخرة وجعلها همَّه فإنه يُوفَّى أجره كاملاً، ولا يُنْقصه ما قد يحصل عليه في الدنيا، وسيجزي الله الشاكرين الَّذين يدركون نعم(3/229)
الله ويؤدُّون حقَّها من الشكر.
هذه هي ميزات الإسلام الحنيف، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا مادِّيين يتكالبون على جمع حطام الدنيا، ولا أن يكونوا روحانيين يجرِّدون أنفسهم من لذَّات الحياة، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {قلْ من حرَّمَ زينَةَ الله الَّتي أخرَجَ لعبادِهِ والطَّيِّباتِ من الرِّزق..} (7 الأعراف آية 32). ومِنْ أكثر ما يقرِّب العبد من ربِّه، ويجعله يفوز برضوانه، رحمته بالبائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه الَّتي فيها سعادة الأمَّة، وإعلاء شأنها، ونشر الدعوة. جاء في الحديث الشريف: «لأن يتصدَّق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدَّق بمائة عند موته» (أخرجه أبو داود وابن حبان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رجل يارسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال صلى الله عليه وسلم : أن تتصدَّق وأنت شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمْهِل حتَّى إذا بلغت الحلقوم قلتَ: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» (رواه البخاري). ومن أَلْهَتْهُ الدنيا وشغلته عن حقوق الله والعباد، فقد باء بغضب من ربِّه، وخسرت تجارته، إذ باع خالداً باقياً، واشترى به فانياً زائلاً، فكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وهو الَّذي يَتَوفَّاكُم باللَّيلِ ويعلَمُ ما جَرَحْتُم بالنَّهار ثمَّ يَبعَثُكُم فيه ليُقْضى أجلٌ مسمَّىً ثمَّ إليه مرجِعُكُم ثمَّ ينبِّئُكم بما كنتم تعملون(60) وهو القاهِرُ فوقَ عبادِهِ ويرسِلُ عليكم حَفَظةً حتَّى إذا جاء أَحَدَكُمُ الموتُ توفَّتهُ رسلُنا وهم لا يُفرِّطون(61) ثمَّ رُدُّوا إلى الله مولاهُمُ الحقّ ألا له الحكم وهو أسرَعُ الحاسبين(62)}
سورة الزمر(39)(3/230)
وقال أيضاً: {الله يَتَوفَّى الأنفُسَ حين مَوْتِها والَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فيُمْسِكُ الَّتي قضى عليها الموتَ ويُرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مسمَّى إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون(42)}
/ ومضات:
ـ إن في حالتي النوم والاستيقاظ اللتين يمارسهما الإنسان بشكل اعتيادي، خفايا كامنة، وسرّاً من أسرار عظمة القدرة الإلهية قد لا يدركها الإنسان العادي. علاوة على ما يتبدَّى له من الفوائد والراحة الجسدية والنفسية الَّتي يجنيها من وراء ذلك، حيث تتجدَّد قواه، وتنتعش طاقاته وكأنه يُبعَثُ من جديد بعد كلِّ نوم ليكمل رسالته في هذه الحياة.
ـ إن القوَّة الإلهية الَّتي تأخذ الروح وتردُّها ما بين النوم والاستيقاظ، لها من الهيمنة والقدرة ما يمكِّنها من أن تراقب كلَّ عمل يقوم به صاحب هذه الروح وتسجِّله عليه. حتَّى إذا ما أزفت ساعة الرحيل الَّتي لا مردَّ لها ولا عودة بعدها إلى هذه الحياة، وآن أوان اليقظة الَّتي تتبع سكرة الموت، وما كان وراءها من سُبات طويل، وانكشف الحجاب المادِّي، وتجلَّى عالم الملأ الأعلى، رُدَّ المرء إلى ربِّه لينال حسابه بأسرع وأدق من أي حاسوب عرفه البشر، إنها قدرة الله الواحد القهَّار، والمهيمن الجبَّار.
/ في رحاب الآيات:(3/231)
تتجلَّى عظمة الخالق في خلقه أمام أعيننا، بدءاً من الذرَّة وانتهاءً بالمجرَّة، في كلِّ ما يقع تحت حواسِّنا كشريط مرئي ومسموع، ينبِّه الإحساس، ويوقظ العقل والسمع والبصر. ومن آيات الله ودلائل عظمته، الموت المؤقت، الَّذي هو النوم؛ فهو صورة من صور الموت لما يعتري الحواس من غفلة، والإحساس من سهوة، والعقل من سكون، والوعي من سُبات. إنه الغيب في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان، هذا الغيب الَّذي يجعل البشر مجرَّدين من كلِّ حول وقوَّة حتَّى من الوعي، لأنهم في سُبات وانقطاع عن الحياة، إنهم في قبضة الله كما هُمْ دائماً، لا يردُّهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله. روي عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ في تحليله لعملية النوم أنه قال: (يخرج الروح عند النوم، ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة).
والآية الكريمة من سورة الزمر تشير إلى أن آليَّة الموت والنوم واحدة، وهي خروج الروح عن نطاق الجسد، غير أن الروح تعود إلى الجسد حين انتهاء مدة النوم، بينما تبقى في عالم الأرواح دون عودة إليه حين الوفاة. ولعل ماهيَّة النوم من أقوى البراهين الدالَّة على وجود سرٍّ عظيم للروح، يتجسَّد بأحاسيسها ومشاعرها وحركتها، وكذلك الرؤى الَّتي يراها النائم في حلمه، حيث يقابل أناساً آخرين، والَّتي يتحقَّق بعضها على أرض الواقع.(3/232)
والمقصود من الآية أن الله يتوفَّى النفوس على وجهين: أحدهما وفاة كاملة دائمة هي الموت، والآخر وفاة مؤقَّتة هي النوم، لأن النائم كالميِّت في كونه لا يسمع ولا يبصر، ومنه قوله تعالى: {وهو الَّذي يَتَوفَّاكُم باللَّيلِ}. ويطلب الله منَّا أن نُمعن التفكير في واقعتي النوم والموت، لأن فيهما دلالات على قدرة ربِّ العالمين العظيمة الكامنة في استمرارية الحياة بعد الموت، ودليلاً على أن النوم والموت يختصَّان بالجسد دون الروح. وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهيَّة، وأنه يُحيي ويُميت، ويفعل ما يشاء، لا يقدر على ذلك سواه، ولهذا قال تعالى: {إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَتَفكَّرون} أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة على كمال قدرة الله وعلمه، لقوم يجيلون أفكارهم فيها ويعتبرون. وفي ذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل: باسمك ربِّي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكتَ روحي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».
ومن آيات عظمة الله أنه محيط بالإنسان، عالم بجميع تقلُّباته وتصرُّفاته، وحركاته وسكناته في الليل وفي النهار، في الظاهر والباطن، كما قال تعالى: {سواءٌ منكم من أَسرَّ القولَ ومَن جَهَرَ به ومَن هو مسْتَخفٍ باللَّيلِ وسارِبٌ بالنَّهار} (13 الرعد آية 10). وأعمال ابن آدم مسجَّلة في سجلات لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، فإذا رُدَّ إلى ربِّه بعد الموت الحقيقي وجد صحيفة أعماله بانتظاره، ليحاسَب على ما فعل من خير أو شر.(3/233)
ولئن كان الإنسان وهو المخلوق الضعيف قد استطاع صنع آلات تسجيل صوتية فقط، أو مسموعة ومرئية معاً، تستطيع أن تستوعب الكثير من المعلومات، وضمن أفلام صغيرة للغاية (ميكروفيلم) يمكن أن تحفظ وثائق هامة يُرجع إليها وقت الحاجة، فكيف بقدرة الله في تسجيل أعمال الإنسان ما ظهر منها وما بطن؟ وحتَّى نوايا الإنسان فإنها لا تغيب عن علم الله تعالى؛ فله القوَّة والجبروت والتفوُّق على سائر مخلوقاته.
ومن تمام عدل الله تعالى أنه يرسل ملائكة تحفظ أعمال العباد ليحاسَبُوا عليها بدقَّة، وهي تحفظهم مما غاب عنهم من العالم غير المنظور، قال تعالى: {وإنَّ عَليكُم لحافِظين* كراماً كاتبين * يَعلَمُون ما تَفعلون} (82 الانفطار آية 10ـ12)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فيكم فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون» (رواه البخاري ومسلم) وهكذا نتحسَّس هيمنة الألوهية الحقيقية الَّتي تتجلَّى بالقوَّة القاهرة فوق العباد، والرقابة الدائمة الَّتي لا تغفل عنهم، وتقرِّر مصيرهم المحتوم الَّذي لا مفرَّ منه ولا مهرب، والحساب الأخير الَّذي لاشكَّ فيه.
والحكمة من كتابة الأعمال وحفظها أن المكلَّف إذا علم أن أعماله تُحفظ في السجلات، وتُعرض على الأشهاد، كان ذلك العلم دافعاً ومحرِّضاً له على عمل الصالحات، والابتعاد عن الفواحش والمنكرات. وهذا من شأنه أن يلقي ظلاًّ من الرقابة المباشرة على كلِّ نفس، ظلاًّ من الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة، بل إنَّ هناك رقيباً يُحصي كلَّ حركة ويحفظ ما يصدر عنها، وهذا التصوُّر كفيل بأن تستيقظ به جوارح الإنسان وتنجلي به بصيرته.(3/234)
إن لكلِّ إنسان دوره على مسرح الحياة، فإذا انتهى من أدائه، انتقل إلى عالم آخر بمساعدة ملائكةٍ أَوْكَلَهم الله به، وهم لا يقصِّرون فيما يؤمَرُون، والحقيقة أن القابض لأرواح جميع الخلائق هو الله، وأن مَلَكَ الموت وأعوانه هم وسائط فحسب. ولاشكَّ أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، إنما هو انقطاع تعلُّق الروح بالبدن ومفارقته، وأخطر منه الغفلة عنه. وبعد الموت يأتي الحساب، والله وحده هو الَّذي يحاسب، لا يبطئ في الحساب ولا يهمل في الجزاء، ولا يُحاسب الناس على ما عملوا في الدنيا إلا بعد أن يُنزِّل عليهم شريعة منه، تبيِّن لهم ما يحلُّ وما يحرم، قال تعالى: {..وما كنَّا مُعذِّبين حتَّى نَبعثَ رسولاً} (17 الإسراء آية 15) فإذا لم ينظِّموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم، ويؤدُّوا شعائرهم وعباداتهم وفق هذه الشريعة، فإن هذا أوَّل ما سيحاسبهم عليه. وهو يحاسب الخلائق في أسرع زمن وأقصره، لا يشغله حساب عن حساب، ومعنى المحاسبة تعريف كلِّ واحد ما يستحقُّه من مثوبة أو عقوبة، لذلك كان على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن يناقَشَ الحساب لأن من نوقِشَ الحساب فقد هلك.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {أينما تكونوا يُدْرِككُّمُ المَوتُ ولو كُنتم في بُروجٍ مُشَيَّدَةٍ وإن تُصبْهُم حسنةٌ يَقولوا هذه من عِندِ الله وإن تُصبْهُم سيِّئَةٌ يقولوا هذه من عِندِكَ قُل كلٌّ من عِندِ الله فمَالِ هؤلاءِ القومِ لا يكادونَ يفقَهونَ حديثاً(78) ما أصابكَ من حسنةٍ فَمِنَ الله وما أَصابكَ من سيِّئةٍ فمن نفسِكَ وأرسلناكَ لِلنَّاسِ رسولاً وكفى بالله شهيداً(79)}
سورة آل عمران(3)
وقال أيضاً: {كلُّ نفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وإنَّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يومَ القيامةِ فَمَنْ زُحزِحَ عن النَّارِ وأُدْخِلَ الجنَّةَ فقد فازَ وما الحياةُ الدُّنيا إلاَّ متاعُ الغُرورِ(185)}
/ ومضات:(3/235)
ـ الإنسان المؤمن يعرف أين تصل تطلُّعاته، ولا يغفل عن ذكر الموت لحظة واحدة، لذا فهو في استعداد مستمرٍّ لمرحلة ما بعد الموت، ممَّا يبعده عن عذاب الجحيم، ويدخله في رحمة الربِّ الكريم.
ـ تطيَّر بعض المنافقين برسول الله صلى الله عليه وسلم واتَّهموه بأنه سبب للشرِّ الَّذي يصيبهم، مع اعترافهم بأن الله تعالى هو مصدر الخير لهم. ويدفع الله عزَّ وجل هذه التهمة عن رسوله فيجيبهم بأنه هو خالق الأقدار كلِّها، خيرها وشرِّها، ولكن اختيار الإنسان هو الَّذي يؤهِّله للقدر الَّذي يصيبه، فمن اتجه نحو الخير قادته خطواته إلى الخير، وكان الله هو الموفِّق والهادي، ومن اتجه إلى الشرِّ، فقد سلَّم القيادة إلى نفسه وأهوائه الَّتي ترمي به إلى الهلاك، فيكون ضحيَّة نفسه الأمَّارة بالسوء لأنه ابتعد عن نور الله وهدايته.
ـ هيَّأ الله تعالى فُرَصَ الخير لعموم الناس، إلا أنَّ إعراض الإنسان عنها يؤدِّي به إلى الإساءة لنفسه.
/ في رحاب الآيات:(3/236)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكثروا ذكر هادم اللذات» (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ) كلام مختصر جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة. فالموت حقٌّ ولكنَّنا نتغافل عن وجوده منساقين وراء الهوى، ومنشغلين بحبِّ الدنيا الَّذي هو رأس كلِّ خطيئة، والأَوْلى أن تستقرَّ هذه الحقيقة في نفوسنا، حقيقة أن الحياة على الأرض موقوتة، محدودة الأجل، وأن الكلَّ ميت لا محالة، لا فارق بين نفس وأخرى في تذوُّق هذه الجرعة، الَّتي سيطوف بها الساقي علينا جميعاً، إنما الفارق في المصير الَّذي يجب أن يُحسبَ له ألف حساب. والموت ينزل بالإنسان حيثما كان، ولا علاقة له بحصانة المكان الَّذي يحتمي به أو قلَّة حصانته، فقد يقتحم المرء غمار الحرب ولا يُصاب بأذى، وقد يموت المعتصم في البروج المشيَّدة. والبروج كلمة ذات مدلول واسع، فقد تدلُّ على القلاع المنيعة، وقد يُقصد بها الأقنعة النفسية الَّتي يختبئ وراءها كثير من الناس، كاعتقاد القوَّة والصحَّة في الذات، أو سعة الغنى أو غير ذلك من الأمور الَّتي يغترُّ بها الإنسان، ولكنَّ هذا كلَّه لا يجدي أمام الموت، ومهما كانت الدلالة فالنتيجة واحدة، وهي أن الموت حقٌّ ولا مفرَّ منه. ويعني ذلك أن يأخذ الإنسان حذره وحيطته، وكلَّ ما يدخل في طوقه من استعداد ووقاية لحماية نفسه، الَّتي هو مؤتمن عليها، فالإنسان مُلزمٌ بالعناية بنفسه وصحَّته وعليه ألا يوردها موارد التهلُكة، لكن إذا جاء الأجل فلا يحول دون الموت حائل.
أما بعد الموت فلابدَّ من الحساب، حيث تُوفَّى كلُّ نفس أجرها كاملاً يوم القيامة، فمن نُحِّيَ عن النار وأُبعد عنها، وأُدخل الجنَّة فقد فاز بالسعادة السرمدية والنعيم الخالد، ولفظ (زُحزح) ذو إيحاء، فكأن للنَّار جاذبية تشدُّ إليها من يقترب منها، فهو بحاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً، ليخلِّصه من براثنها وحبائلها، ويدخله الجنَّة وعندئذ يكون قد فاز.(3/237)
إن مباهج الدنيا ليست إلا متاعاً من شأنه أن يخدع الإنسان، ويشغله عن تهذيب ذاته بالمعارف والأخلاق الَّتي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة. فعلى العاقل أن يحذر من الإسراف في هذه المباهج، وأن يُعرِضَ عن إنفاق المال فيما لا يفيد، والأجدر به أن يسعى لكسب عِلْمٍ يرتقي به عقله، أو عمل صالح ينتفع منه وينفع به غيره مع إصلاح السريرة وخلوص النيَّة، قال بعض الصالحين: [عليك نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر].
وقد أوحت النفس الأمَّارة بالسوء للمنافقين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسبوا إليه كلَّ ضرر يصيبهم، فكانوا إذا أصابتهم حسنة من نصر أو غنيمة، قالوا هذه من جهة الله ومن تقديره، ولِما عَلِمَ فينا من الخير، وإن أصابتهم سيئة من مرض أو جوع، قالوا هذه بسبب اتِّباعنا محمَّداً ودخولنا في دينه. وقد أرادوا بذلك تجريح قيادة الرسول عليه السَّلام في محاولة للخلاص من التكاليف الَّتي يأمرهم بها، ونتيجة لسوء تصوُّرهم وقصور فهمهم لحقيقة ما يجري في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله، وطبيعة أوامر الرسول لهم، وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى.
فنسبة الحسنة أو السيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر، نسبة غير حقيقية، تدلُّ على عدم فهمهم مثل هذه الأمور، ولو فهموا لعلموا بأن الكلَّ من عند الله. أما المؤمن الحقيقي فهو يجد الله محيطاً به في دائرة حياته كلِّها، لذلك يتقيَّد بقوانينه ويقطف ثمراتها، فإن أجاد التقيُّد والالتزام، أصابته الحسنات والخيرات، وإن قصَّر أو أخطأ في التنفيذ، ناله سوء تقصيره.(3/238)
فيا أيُّها الإنسان! ما أصابك من خير، فإنه تفضُّل من الله سبحانه، وكلُّ ما تفعله من الطاعة، لا يكافئ نعمة واحدة من نِعَمِ الله عليك، وما أصابك من بليَّة، فسببه انقيادك لأهواء نفسك، لأن النفس الأمَّارة بالسوء هي الَّتي تجلب المصائب على الإنسان بما تأمره به من المعاصي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» (أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ) وقال عمر رضي الله عنه : (إنْ أحسنْتَ فَمِنَ الله، وإن أخطأت فمن الشيطان). وينبغي للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها، لأنها تصيبه لجهله بالسنن الَّتي وضعها الله، لالتماس المنافع من أسبابها، واتِّقاء المضارِّ بالبعد عنها.
ويبيِّن الله تعالى حدود وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها التبليغ والهداية، ولا علاقة له بإحداث خير أو إبعاد شرٍّ عن الناس، فهذا من أمر الله وحده، ويبيِّن كذلك أنه أرسله للناس جميعاً لا للعرب فحسب، ليبلِّغ كلامه، ويهدي الناس إلى صراط مستقيم، وكفى بالله شاهداً لأحبَّائه وأوليائه.
سورة الفجر(89)
قال الله تعالى: {ياأيَّتها النَّفسُ المطمئنَّة(27) ارجعي إلى ربِّكِ راضيَةً مرضيَّة(28) فادْخُلي في عبادي(29) وادْخُلي جنَّتي(30)}
/ ومضات:
ـ عندما يُنجز الإنسان عملاً مميَّزاً فإن نفسه تطرب لسماع كلمات الثناء، وهاهو ذا المؤمن يتلقَّى التكريم والثناء من الله عزَّ وجل، بعد أن تنتهي الملائكة من تسجيل أعماله الَّتي عملها في الحياة الدنيا، ويبدأ رحلة الخروج من الجسد، حيث يخاطِبُ الله تعالى روحه الطاهرة بالقول: {ياأيَّتها النَّفس المطمئنَّة} فيزرع فيها الاطمئنان والأمن والأمان، لتعود مكلَّلة بالرضا إلى ديار الخُلد مع عباد الرحمن المكرمين.
/ في رحاب الآيات:(3/239)
كيف يمكن للنفس البشرية أن تصل إلى مرحلة الاطمئنان بالله، وإلى مرحلة الرضا الكامل عن الله وبالله عزَّ وجل؟. إن الأنبياء والأولياء الصالحين يمضون حياتهم في عبادة مستمرَّة، وفي اتصال مستمرٍّ بحضرة الله، وعلى الرغم من ذلك كلِّه نجد لسان حالهم يقول: (اللهمَّ يامقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك وأوصلني إلى شاطئ الأمان بأمان). فالوصول إلى درجة الطمأنينة والاستقرار، هو أرفع وسام يمنحه ربُّ العالمين لعباده المؤمنين الأخيار الأطهار؛ عندما يُعْلمهم بأن لهم مقعد صدق عند مليك مقتدر، فيشعرون بالرعاية الكاملة من قبل حضرة الله، وأنهم مقرَّبون ومُصْطَفَوْن، وأنهم بأعين الله وعنايته يسيرون، ومع ذلك فإن الشكر يدفعهم لطلب المزيد من الوصال، والخوف يمنعهم من أن تغفل قلوبهم لحظة عن الاتصال، أو أن يوقعهم الشيطان في أوهام أو ظلمات. هذه النفس وهي تغادر قفصها البشري، تنطلق مغرِّدة فرحة، مستبشرة في رحاب الله وأمنه، وهي تُنادَى من الملأ الأعلى: {ياأيَّتها النَّفس المطمئنَّة} في روحانية وتكريم؛ لقد استيقنتِ الحقَّ، فلم يخالجك شكٌّ، ووقفت عند حدود الشرع، فلم تزعزعك الشهوات، ولم تضطرب بك الرغبات، لذلك لن يلحق بك اليوم خوف ولا فزع، فارجعي إلى دار الخلود بعد غربة الأرض، ارجعي إلى ربِّك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة، راضية عما عملت في الدنيا، مرضيّاً عنك، إذ لم تكوني ساخطة، لا في الغنى ولا في الفقر، ولم تتجاوزي حدود الشرع فيما لك من حقٍّ، وما عليك من واجب، فادخلي في زمرة عبادي المكرمين.(3/240)
والنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة يشرق بعضها على بعض، وكأنها تُربَّى في هذه الدنيا بالابتلاءات، وتُزيَّنُ بالمعارف والعلوم، حتَّى إذا فارقت الأبدان جُعلت في أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودَّة، وحسن صلة ومحبَّة. والنفس المطمئنَّة تهتزُّ طرباً وهي تدخل في مجموعة المقرَّبين، حيث أُعدَّت لهم جنان الخلد والسرور، وحَسُنَ مثوى العاملين. أخرج الترمذي عن أبي عامر رضي الله عنه قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: «قُرِئت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ياأيَّتها النَّفس المطمئنَّة ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضية} فقلت: ما أحسن هذا يارسول الله! فقال: ياأبا بكر أما إنَّ المَلَكَ سيقولها لك عند الموت». [اللهمَّ ونحن كذلك بفضلك وإحسانك].
الفصل الثاني:
يوم القيامة
سورة سبأ(34)
قال الله تعالى: {وقال الَّذين كَفَروا لا تأتِينا السَّاعةُ قُلْ بلى وربَّي لتأتِيَنَّكُم عالِمِ الغَيبِ لا يَعْزُبُ عنه مِثقالُ ذرَّة في السَّمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرُ مِنْ ذلك ولا أكبرُ إلاَّ في كتابٍ مُبين(3)}
ومضات:
ـ تضمُّ هذه الآية الكريمة كلمات قليلة، وشواهد علمية كثيرة لم تكن معروفة من قريب ولا بعيد وقت نزول القرآن الكريم وهي:
أ ـ حتمية اندثار الحياة عن وجه الأرض، وهذا أمر مؤكد يتنبَّأ به العلم الحديث ويُقِرُّه.
ب ـ وجود الذرَّة وانشطارها وانتشارها في السموات والأرض، وهذا حدث علمي هائل اكتُشِفَ منذ عدة عقود من الزمن فقط، بينما ظهرت فكرته جليَّة في هذه الآية.
ج ـ تطوُّر أجهزة التصوير الحديثة، واحتفاظ الكمبيوتر بالمعلومات الضخمة، يعطينا تصوُّراً أوضح للكتاب المبين، الَّذي يحصي ويحفظ المعلومات مهما صغر شأنها ودقَّ حجمها.
في رحاب الآيات:(3/241)
الساعة هي ميقات دمار الأرض حين تختلُّ أنظمتها وقوانينها الكونية، والإنسان بسوء إدراكه وخاطئ تصرُّفه يسيء استعمال هذه الأنظمة والقوانين، فيساهم في تعريض الأرض للفناء ويعمل على دمارها، لا سيَّما بعد اكتشافه للذرَّة وانشطارها، ذلك الاكتشاف الَّذي قد يكون سبباً لقيام حرب نووية، تحمل معها النذير بنهاية الحياة على هذه الأرض. ومن الغريب أن يُنكر الإنسان قيام الساعة بعد أن عرف الذرَّة وأسرارها وانشطارها، واخترع القنابل الذرِّية والهيدروجينية، الَّتي يكفي بعضها لتدمير الأرض وقلب موازينها، فإذا كان الإنسان الضعيف قد استطاع اختراع ذلك، فهل الله عاجز عن تغيير موازين الكون وهو الَّذي خلقه؟.(3/242)
إن إنكار الَّذين كفروا لحياة الآخرة ناشئ عن ضعف إدراكهم لحكمة الله وتقديره، فحكمة الله لا تترك النَّاس سُدى، يُحسن منهم من يُحسن، ويُسيء منهم من يسيء، ثمَّ لا يَلقى المحسن ثواب إحسانه، ولا يَلقى المسيء جزاء إساءته؛ فالله عزَّ وجل هو الحَكَم العدل، حرَّم على نفسه الظلم وجعله بين عباده محرَّماً. فكيف يعتقد أولئك الجاهلون أنهم لن يُبعثوا ولن يُسألوا عما فعلوا، وكيف يزعم آخرون منهم أنهم سيدخلون الجنَّة ويكونون في درجة سواءٍ مع المؤمنين المحسنين؟. إن القرآن الكريم يدحض زعمهم، ويوقظ عقولهم لتستوعب الحقائق وتدرك الأمور بالميزان العادل، والمنطق السليم، فيقول الله تعالى عنهم: {أم حَسِبَ الَّذين اجْتَرَحوا السَّيِّئات أن نجعلَهُم كالَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ سواءً مَحياهُمْ ومماتُهُم ساءَ ما يحْكُمون} (45 الجاثية آية 21). وقد أخبر الله على لسان رسوله، أنه يؤخِّر الجزاء كلَّه أو بعضه للآخرة، فكلُّ من يدرك حكمة الله في خلقه، يدرك أن الآخرة ضروريَّة لتحقيق وعد الله وعدله، ولكنَّ الَّذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة، ومن ثمَّ يقولون قولتهم هذه: {لا تأتينا السَّاعة} فيردُّ عليهم القرآن الكريم مؤكِّداً جازماً: {قل بلى وربِّي لتأتِيَنَّكم} ثمَّ يأتيهم بالأدلَّة، ويقيم عليهم الحجج الَّتي تدحض شكوكهم وتكذيبهم، وذلك في كثير من الآيات الَّتي كان منها قول الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس إن كُنتم في رَيْبٍ من البعْثِ فإنَّا خلقناكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ من علَقَةٍ ثمَّ من مُضغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغيرِ مُخَلَّقَةٍ لنُبَيِّنَ لكم ونُقرُّ في الأرحامِ ما نشاءُ إلى أجلٍ مسمَّى ثمَّ نُخْرِجُكم طِفْلاً ثمَّ لتبْلُغوا أَشُدَّكُم ومنكم من يُتَوَفَّى ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذلِ العُمُرِ لكيلا يعْلَمَ من بعدِ عِلمٍ شيئاً وترى الأرضَ هامِدةً فإذا أَنْزلنا عليها الماءَ اهتزَّتْ ورَبَتْ وأنبَتتْ من كلِّ(3/243)
زوجٍ بهيج} (22 الحج آية 5). وقوله أيضاً: {وهو الَّذي يَبْدَؤُ الخلقَ ثمَّ يُعِيدُهُ وهو أهوَنُ عليه..} (30 الروم آية 27).
وهكذا نجد أن القرآن الكريم يحاجج منكري البعث بالحكمة والمنطق قائلاً: أيُّها النَّاس إن كنتم تشكُّون في إعادة الحياة بعد الموت فتدبَّروا كيف تنشأ الحياة، وانظروا في أنفسكم، وفي الأرض من حولكم، حيث تنطق لكم الدلائل بأن الأمر ميسور، ولكنَّكم تمرُّون عليها في أنفسكم وفي الأرض غافلين. فالبعث هو إعادة لحياة كانت، فهو في تقدير البشر أيسر من إنشاء الحياة أوَّل مرة، فلماذا ينكره المنكرون وقدرة الله تعالى الَّتي أنشأت أوَّل مرة، قادرة على أن تعيد النشأة، وهو القادر على كلِّ شيء، {إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ له كُن فيكون} (36 يس آية 82). ولكنَّ القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم، ومنطقهم وإدراكهم، فيوجِّه قلوبهم إلى تدبُّر ما يستطيعون شهوده، مما يقع أمامهم في كلِّ لحظة، ويمرُّ بهم في كلِّ يوم، وهو من الخوارق فلو تدبَّروه بالعين البصيرة، والقلب الواعي، والحسِّ المدرك، لأدركوا قدرة الله، ولكنَّهم يمرُّون به أو يمرُّ بهم دون وعي ولا انتباه.
وتأتي الحجَّة الثانية على إمكان البعث، وهي الأرض، حيث ترونها أيُّها الجاحدون يابسة ميتة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها الماء تحرَّكت بالنبات وأعطت، وبُعِثَتْ من بعد موتها، وأخرجت من كلِّ صنف عجيب ما يسرُّ الناظر ببهائه ورونقه. فالآية عبَّرت عن الأرض اليابسة بأنها هامدة، والهمود كالسُّبات، درجة بين الحياة والموت.(3/244)
هكذا تكون الأرض قبل الماء، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء، فإذا نزل عليها تحرَّكت حركة عجيبة، سجَّلها القرآن قبل أن تسجِّلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام، فالتربة الجافَّة تتحرَّك حركة اهتزازية وهي تتشرَّب الماء وتنتفخ، فتربو ثمَّ تنفرج بالحياة عن النبات من كلِّ زوج بهيج، وكذلك هو إحياء الإنسان بعد الموت يوم القيامة.
فالنَّاس لا يعلمون الغيب ومع ذلك يفترون على الله، ويجزمون بما لا علم لهم به، والله الَّذي يؤكِّد مجيء الساعة هو {عالِمِ الغيب} فقوله الحقُّ عن علم بما سيحدث وعن يقين. والله سبحانه وتعالى يصف نفسه ويصف علمه بما يعلم من الأوصاف الَّتي لا تخطر للبشر، وبذلك يُوجِّه تصوُّر المسلمين فيعرفونه بصفاته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة. ومن صفات الله تعالى، أنه كامل العلم، عظيم الإحاطة بالموجودات، وهذا يؤكِّد إمكان البعث، ويدلُّ على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه سوى علاَّم الغيوب، الَّذي لا يغيب عن علمه شيء في السموات ولا في الأرض من ذرَّة فما دونها أو فوقها.(3/245)
ويستوقفنا هنا قوله تعالى: {مثقال ذرَّة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك} فقد كانت الذرَّة تُعرف بأنها أصغر الأجسام، ولكن بعد تحطيمها عرف البشر أن هناك ما هو أصغر من الذرَّة، وهي جزئياتها الَّتي لم تكن في حسبان أحد، فتبارك الله الَّذي يعلِّم عباده ما يشاء من أسرار صنعته، ومن أسرار خلقه عندما يشاء!! فهو يعلم من أين جاءت الذرَّة وأين ذهبت، فكلُّ ذلك محفوظ في كتاب مبين. فالعظام وإن تلاشت، واللحوم وإن تمزَّقت وتَلِفَت، فهو العالِمُ أين ذهبت، وكيف تفرَّقت، فيعيدها كما بدأها أوَّل مرَّة، وهو بكلِّ شيء عليم. قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يرَ الإنسانُ أنَّا خلقناهُ مِن نُطفةٍ فإذا هو خَصيمٌ مُبينٌ * وضربَ لنا مثلاً ونَسيَ خَلْقَهُ قال مَن يحيي العظام وهي رَميمٌ * قل يُحييها الَّذي أنشأها أولَ مرَّةٍ وهو بكلِّ خلقٍ عليمٌ * الَّذي جعل لكم من الشَّجرِ الأخضرِ ناراً فإذا أنتم منه تُوقِدونَ * أو ليس الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ بقادرٍ على أن يَخلُقَ مِثلَهم بلى وهو الخلاَّقُ العليمُ * إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لهُ كن فيكونُ * فَسُبحانَ الَّذي بيدهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ وإليهِ تُرجَعونَ} (36 يس آية 77ـ83). وسنشرح المزيد عن هذه الآيات في آخر فصل من هذا الكتاب بإذن الله.
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس اتَّقوا ربَّكم إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعةِ شيءٌ عظيم(1) يومَ ترونَها تَذْهَلُ كلُّ مُرْضِعَةٍ عمَّا أرضعتْ وتضعُ كلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وترى النَّاس سُكارى وما هُم بسُكارى ولكنَّ عذابَ الله شديد(2)}
ومضات:(3/246)
ـ إنذارٌ رهيب يوجِّهه الله تبارك وتعالى للناس جميعاً، لكي يحاذروا وينتبهوا في تصرفاتهم وأعمالهم فيتَّقوا الله فيها، لأنهم سيواجهون يوم الزلزلة، حيث ترجف الأرض بمن عليها، فتنخلع القلوب فزعاً ورعباً، فينفصل الرُّضَّع عن صدور المرضعات الذاهلات ولم يأنِ بعدُ أوان الفطام، وتخرج الأجِنَّة من بطون الأمهات ولم يبلغ الحمل التمام، ويفقد النَّاس صوابهم ولا يملكون شيئاً من أمر أنفسهم، وكأنهم سكارى قد دارت الخمرة برؤوسهم، فشغلت ساحة وعيهم وتفكيرهم، فلكلِّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن الالتفات لغيره. إنه هول المشهد، ورهبة الموقف الَّذي ستنهال فيه سياط العذاب الإلهي، على من استهتروا بلقاء ذلك اليوم ولم يستعدُّوا له بالتَّقوى والعمل الصالح.
في رحاب الآيات:
أمام الكثير من النكبات نرى النَّاس يصابون بالهذيان، ويكلِّمون أنفسهم من هول الصدمة، وكأنهم سكارى؛ فما بالك بمواقف القيامة وهي أشدُّ هولاً ورعباً؟.(3/247)
مَطْلَعٌ عنيف رهيب، ومشهد ترتجف لهوله القلوب، يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعاً، ثمَّ يأخذ بالتفصيل، فإذا هو أشدُّ رهبة من التهويل. مشهد حافل بمرضعة ذاهلة عمَّن أرضعت، تنظر ولا ترى، وتتحرَّك ولا تعي، وحامل تُسقط حملها للرعب الَّذي ينتابها، فأي موقف هذا الَّذي يسلب الأم عاطفتها نحو رضيعها فتذهل عنه، وأي خوف هذا الَّذي يجعل الحامل تسقط حملها؟. إنها صورة منتقاة بدقَّة، تمثِّل العطف والحنان وهو يذوب ويتلاشى أمام هول يوم القيامة، حيث تنهار أقدس العواطف البشرية وأقواها أمام أمواج الذعر والهلع، وينخلع الإنسان عن عقله وتفكيره مذهولاً مخبولاً. إنه حساب الله قد حانت ساعته، فالنَّاس سكارى وما هم بسكارى، يتبدَّى السُّكْر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنِّحة، دون أن يشربوا الخمر. إنه مشهد مزدحم بذاك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة، بينما الخيال يتملاَّه، ولا يكاد يبلغ أقصاه، وهو هَوْلٌ لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية، في المرضعات الذاهلات، والحوامل المُلْقيات، وبالنَّاس السكارى لأن عذاب الله شديد.(3/248)
فأين يكمن الرعب؟ هل هو في اشتعال البحار، أم في زوال الجبال، أم في تفجُّر الكواكب وتناثرها؟ كلُّ هذا يُشعر بالرعب والهلع، ولكنَّ الرعب الأكبر يتجلَّى في زلزلة الأرض، الَّتي تحدث حين قيام الساعة، فهو أمر هائل، وخطر عظيم، لا يقدِّره حقَّ قدره إلا موجده كما قال تعالى: {وحُملَتِ الأرضُ والجبالُ فدُكَّتا دَكَّةً واحدة * فيومئذٍ وقعتِ الواقعة} (69 الحاقة آية 14ـ15) فإذا كانت الزلزلة وحدها لا تُحتمل، فما بالك بما يحدث في ذلك اليوم، من الحشر والجزاء والحساب على الأعمال، لدى من لا يغيب عنه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء؟. ولكن هذا كلَّه لا يرعب المؤمن المطمئنَّ بالإيمان، لأن الله يلقي في قلبه السكينة، ولا يدعه يحزن أو يخاف، قال تعالى: {بلى من أسْلَمَ وجههُ لله وهو محسِنٌ فلهُ أجرُهُ عند ربِّه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} (2 البقرة آية 112). وإنما يهلع ويخاف من جاء بجعبَةٍ فارغة من العمل الصالح، وقلب خاوٍ صدئ غافل عن الله، فنبَّهته أحداث تلك الساعة، فإذا هو كريشة في مهب الريح، يعصف بقلبه الخوف مما جنته يداه.
سورة الزلزلة(99)
قال الله تعالى: {إذا زُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزالَها(1) وأَخرجتِ الأرضُ أثقالها(2) وقال الإنسانُ مالها(3) يومئذٍ تُحدِّثُ أخبارَها(4) بأنَّ ربَّك أوحى لها(5) يومئذٍ يَصْدُرُ النَّاس أشتاتاً ليُرَوْا أعمالَهم(6) فمن يعملْ مثقالَ ذرَّة خيراً يَرَهُ(7) ومن يعمل مثقالَ ذرَّة شرّاً يَرَهُ(8)}
ومضات:
ـ في اللحظة المقدَّرة لانتهاء الحياة الدنيوية، يأذن الله تعالى للأرض أن تُزَلزل، حتَّى يتفجَّر ما في باطنها ويتبعثر، إيذاناً ببدء حياة جديدة في العالم الأخروي، ليست الأرض مَحلاً لها، بل هي الجنَّة أو النَّار، وحسبُ الإنسان هولاً وفزَعاً، أن يرى ذلك المشهد، ليذهل عن كلِّ ما سواه في ذلك الموقف العصيب.(3/249)
ـ في ذلك اليوم يُحاسَب كلُّ امرئ على عمله، فمن عمل ولو بمقدار مثقال ذرَّة من خير يثاب عليه، ومن عمل بقدر مثقال ذرَّة من شرٍّ يُحاسَب عليه.
في رحاب الآيات:
يفيد العلماء المتخصِّصون بدراسة شؤون الأرض بأن لهذا الكوكب عمراً جيولوجياً لابُدَّ أن ينقضي، فإذا آن أوانه تلاشى واندثر، وهذا ما يؤيِّده كتاب الله الخالد القرآن الكريم حيث يقول تعالى: {كلاَّ إذا دُكَّتِ الأرضُ دكّاً دكّاً} (89 الفجر آية 21) أي فُتِّتت تفتيتاً متتابعاً حتَّى تصير هباءً منثوراً، ويسبق ذلك زلازل شديدة لم يسبق لها مثيل، قال تعالى: {إذا زُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزَالَها} وقال تعالى: {ويسألونَكَ عن الجبالِ فقلْ يَنسِفُها ربِّي نسفاً * فيذرُها قاعاً صَفْصَفاً * لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمْتا} (20 طه آية 105ـ107) أي تصبح الجبال والوديان أرضاً مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، يرافق ذلك اشتعال البحار وتحوُّلها إلى كتلة رهيبة من اللهب، قال تعالى: {وإذا البحارُ سُجِّرَت} (81 التكوير آية 6) أي أوقدت حتَّى صارت ناراً مضطرمة، ولا يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل إن المجموعة الشمسية كلَّها سينتهي دورها، فالشمس ستخمد نارها ويخبو أوارها، والنجوم ستنفجر وتتناثر، قال تعالى: {إذا الشَّمسُ كُوِّرت * وإذا النُّجومُ انكدرت * وإذا الجبالُ سُيِّرت} (81 التكوير آية 1ـ3). ويتابع كتاب الله راسماً صورةً لانتهاء الحياة على هذا الكوكب، فيقول تعالى: {إذا السَّماءُ انشَقَّت * وأذِنَت لربِّها وحُقَّت * وإذا الأرضُ مُدَّت * وألْقَت ما فيها وتَخلَّت} (84 الانشقاق آية 1ـ4) ففي يوم القيامة تنشقُّ السماء مطيعة أمر ربِّها بالانشقاق، وتُبْسَطُ الأرض بحيث لا يبقى على وجهها ارتفاع ولا انخفاض، وتلقي ما في بطنها من الأموات وتتخلَّى عنهم؛ وقد ضمَّتهم بين حناياها من التاريخ السحيق عبر السنين ما عرف الإنسان وما لم يعرف، وقد كان أصحابها شيئاً ما في يوم من(3/250)
الأيام. إنه مشهد يهزُّ الأرض تحت أقدام الغافلين، حتَّى ليُخيَّل إليهم أنهم يترنَّحون ويتأرجحون والأرض من تحتهم تهتزُّ وتمور. وفي غمرة هذا الانفجار الهائل لعالَمِنا الَّذي نعيش فيه وما حوله، يقف الإنسان مذهولاً، وكأنه قد شارك بنفسه في التعجيل بذلك اليوم؛ فلا هو احترم قوانين الله في هذا العالم وتوازنها، ولا هو تحلَّى بمكارم الأخلاق ولطائفها، فيسأل سؤال المشدوه المبهوت، الَّذي يرى مالم يُعهد، ويواجه ما يعجز عقل الجاهل عن إدراكه، ويشهد ما لا يملك الثبات أمامه فيتساءل بذهول: مالها؟ ما الَّذي يزلزلها ويرجُّها رجّاً، وكلُّ ما فيها يمور موراً شديداً؟. ويأتيه الجواب من خالق هذا الكون مبيِّناً القدرة الَّتي تقف وراء ما حدث، إنها قدرة الله المتمثِّلة بالنفخ في الصور حيث قال تعالى: {وما قَدَروا الله حقَّ قَدْرِهِ والأرضُ جميعاً قَبضَتُهُ يومَ القيامةِ والسَّمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينهِ سبحانه وتعالى عمَّا يُشرِكون * ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ من في السَّمواتِ ومن في الأرضِ إلاَّ من شاءَ الله ثمَّ نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قِيامٌ يَنظرون} (39 الزمر آية 67ـ68).(3/251)
والإنسان قد شهد الزلازل من قبل، وكان يُصاب بالهلع، ولكنَّه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد تشابهاً بينه وبين ما كان يقع من الزلازل في الحياة الدُّنيا، فهذا أمر جديد لا عهد له به، أمر لا يعرف له سراً ولا يذكر له نظيراً، أمر هائل يقع للمرَّة الأولى. ويوم يقع هذا الزلزال، تتحدَّث الأرض، وتُخبر بما عُمل عليها من خير أو شرٍّ، وتشهد على كلِّ إنسان بما صنع على ظهرها، وأنها فعلت ما فعلت بأمر ربِّها ووحيه، وقد أطاعت أمره. أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها} وقال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كلِّ عبد وأَمَةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها». وأخرج عبد بن حميد عن الحكم رضي الله عنه قال: (رأيت أبا أُميَّة صلَّى في المسجد الحرام الصَّلاة المكتوبة، ثمَّ تقدَّم فجعل يصلِّي هَهُنا وهَهُنا، فلما فرغ قلت له: ما هذا الَّذي رأيتك تصنع؟ قال: قرأت هذه الآية {يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها} فأردت أن تشهد لي يوم القيامة).(3/252)
ثم يتبع الزلزال قيام النَّاس من القبور: {يومئذٍ يَصْدُرُ النَّاس أشتاتاً} فنرى مشهدهم أنواعاً وأصنافاً وفرقاً منبعثة من أرجاء الأرض: {خُشَّعاً أَبصارُهُم يخرجون مِن الأجداثِ كأنَّهم جرَادٌ منتشر} (54 القمر آية 7) وهو مشهد لا عهد للإنسان به من قبل، مشهد الخلائق في أجيالها جميعاً تنبعث من هنا وهناك، ممدودة رقابهم، شاخصة أبصارهم، إنه مشهد لا تعبِّر عن صفته لغة البشر. فهاهم أولاء ذاهبون إلى حيث تُعرض عليهم أعمالهم، ليواجهوها ويواجهوا جزاءها، يسيرون إلى ساحة العدل الإلهي، فبعضهم يستخفُّهم السرور فيتسارعون إلى لقاء ربِّهم بسبب أعمالهم الخيِّرة، وبعضهم يتثاقلون إلى الأرض يحملون عبء أوزارهم وذنوبهم الَّتي تكاد أن تسحقهم، ويجرُّون أذيال الخيبة والندم في الطريق إلى المحاكمة الربانيَّة، حيث لا يغرب عن ربِّك مثقال ذرَّة مما عملوا. ونتوقَّف قليلاً عند لفظة {ذرَّة} حيث كان المفسِّرون القدامى يقولون إنها الهباءة، الَّتي تُرى في ضوء الشمس، فقد كان هذا أصغر ما يتصوَّرون من لفظ الذرَّة، ونحن الآن نعلم أن الذرَّة شيء محدَّد يحمل هذا الاسم، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة الَّتي ترى بالعين المجردة، فهذه أو ما يشبهها من المثاقيل من خير أو شرٍّ، تُحضر ويراها صاحبها، ويجد جزاءها. فلا يحقرنَّ الإنسان شيئاً من عمله، خيراً كان أو شراً، ولا يقولنَّ هذه صغيرة لا حساب عليها ولا وزن لها، إنما يرتعش وجدانه، أمام كلِّ عمل من أعماله، ارتعاشة ذلك الميزان الدقيق الَّذي ترجح به الذرَّة نحو كفَّة الحسنات أو السيئات.(3/253)
أخرج ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدِّيق إذ نزلت عليه هذه الآية: {فمن يعمل مثقال ذرَّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرَّة شراً يره} فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عن الطعام ثمَّ قال: من عمل منكم خيراً فجزاؤه في الآخرة، ومن عمل منكم شراً يراه في الدُّنيا مصيبات وأمراضاً، ومن يكن فيه مثقال ذرَّة من خير دخل الجنَّة». وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة» ثمَّ قرأت {فمن يعمل مثقال ذرَّة خيراً يره}. فميزان الله ليس له نظير في الأرض، إلا في القلب المؤمن الَّذي يرتعش لمثقال ذرَّة من خير أو شر، وفي الأرض قلوب لا تتحرَّك للجبل من الذنوب والمعاصي، ولا تتأثَّر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال، إنها قلوب عُتُلَّة في الأرض، مسحوقة تحت أثقالها في يوم الحساب. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما أنزلت هذه الآية {فمن يعمَلْ مثقالَ ذرَّة خيراً يَرَهُ * ومن يعملْ مثقالَ ذرَّة شرّاً يَرَهُ} قلت: يارسول الله إني لراء عملي؟ قال: نعم، قلت تلك الكبار الكبار، قال: نعم، قلت الصغار الصغار، قال: نعم، قلت وا ثُكْلَ أمي! قال: أبشر ياأبا سعيد فإن الحسنة بعشرة أمثالها يعني إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والسيئة بمثلها أو يعفو الله، ولن ينجو أحد بعمله، قلت: ولا أنت يانبي الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بالرحمة».
سورة طه(20)(3/254)
قال الله تعالى: {يومئذ يتَّبِعونَ الدَّاعيَ لا عِوَجَ له وخشَعَتِ الأصواتُ للرَّحمنِ فلا تَسْمعُ إلاَّ هَمْساً(108) يومئذٍ لا تنفَعُ الشَّفاعةُ إلاَّ من أَذِنَ له الرَّحمنُ ورَضِيَ له قولاً(109) يعلمُ ما بين أيديهِمْ وما خلْفَهُم ولا يُحيطونَ به عِلماً(110) وعنَتِ الوجوهُ للحيِّ القيُّومِ وقد خابَ من حَمَلَ ظُلماً(111) ومن يَعْملْ من الصَّالحاتِ وهو مؤمنٌ فلا يخافُ ظُلْماً ولا هضْماً(112)}
ومضات:
ـ عندما يُبعث النَّاس من قبورهم، يناديهم الداعي إلى مكان التجمُّع والحساب، وينفِّذ الجميع الأمر دون إبطاء، ثمَّ تقف جميع الخلائق خاشعة بين يدي ربِّ العالمين، وتخفت الأصوات فلا يُسمع إلا همس الكلام.
ـ في ذلك الموقف الرهيب، يأذن الله تعالى للخواصِّ من أنبيائه وأوليائه بالشفاعة لبعض المؤمنين الَّذين يستحقُّونها.
ـ في ذلك الموقف تكون أمور الخلائق مكشوفة أمام ربِّ العالمين، فهو مُطَّلع على ما خفي منها وبالتفصيل، دون أن يتمكَّنوا هم من إدراك حقيقة عظمة الله تعالى وكُنه قوَّته.
ـ يتَّجه النَّاس بكلِّيتهم إلى حضرة الله، مشرئِبَّةً أعناقهم، وقد ظهرت علائم الخيبة والخذلان على وجه من ظلم وعاث في الأرض فساداً، بينما يظهر البِشْرُ والاطمئنان على وجوه المؤمنين العاملين المتَّقين، فهم واثقون من عدالة ربِّ العالمين ومكافأته لهم.
في رحاب الآيات:(3/255)
تشدُّنا هذه الآيات إلى المستقبل غير المنظور، وكأنَّنا نشاهد عَرْضاً وثائقياً يرصد لنا أحداث المستقبل، ولنعيش أجواء القيامة وكأنها تحدث الآن. فإذا أزِفت الساعة، أو إذا صحَّ التعبير: عندما تحين ساعة الصفر؛ ساعة الموعد الإلهي، يجتمع النَّاس منذ وجدت الخليقة وإلى قيام الساعة، ليحاسب كلُّ امرئ بما كسبت يداه، قال الله تعالى: {يومَ ترجُفُ الرَّاجفة * تَتْبَعُها الرَّادِفة * قلوبٌ يومئذٍ واجفة * أبصارُها خاشعة * يقولونَ أإنَّا لمردودونَ في الحافرة * أإذا كنَّا عِظاماً نَخِرة * قالوا تلكَ إذاً كَرَّةٌ خاسرة * فإنَّما هي زجرَةٌ واحدة * فإذا هم بالسَّاهرة} (79 النازعات آية 6ـ14). أجل يُحشر النَّاس يوم القيامة إلى عالم جديد هو عالم الساهرة، الَّذي هو أرض المحشر الشاسعة، في ذلك اليوم العصيب يتَّبِعُ النَّاس داعي الله، فيأتونه سِراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون، وفي هذه اللحظات الحاسمة، وعندما يدرك الإنسان أن ما كان ينكر وقوعه قد أصبح حقيقة ماثلة أمامه، وأن ما تهرَّب منه أصبح واقعاً به لا محالة، عندها يسكت لسانه ولا يسمع إلا صوت نبضات قلبه تدقُّ بشكل عنيف. ولا يسمع إلا صوت حركة الأقدام، وهمس الشفاه تعلوها تساؤلات واستفهامات، وترتسم عليها علامات الدهشة، مَنْ بعثنا مِنْ مرقدنا، وإلى أين المصير؟ هذا ما وعد الرحمن، وصدق المرسلون، لقد خفتت الأصوات وسكنت، هيبةً من الرحمن جلَّ وعلا، وحقَّ لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه، ويخفت صوته.(3/256)
في مثل هذا الموقف الَّذي يقف النَّاس فيه بين يدي الله يوم الدينونة الكبرى، يبحث الإنسان عن يد تنقذه أو شفيع يشفع له. فلا يجرؤ أحد أن يشفع لأحد إلا بإذن من الله، ولمن ارتضى من الشفعاء، الَّذين يُشرَّفون بالشفاعة في ذلك الموقف العظيم، الَّذي يهيمن فيه الجلال الإلهي؛ فيشفعون على اختلاف درجاتهم، من الرسل والصدِّيقين والشهداء والصالحين، الَّذين اصطفاهم الله من كلِّ عصر وجيل، منذ أن خلق آدم عليه السَّلام وإلى قيام الساعة. فتكون تلك الشفاعة من أعظم المنح الَّتي يهبها الله للمؤمنين، لكنَّها مرهونة بأمره كما قال في مُحْكَم تنزيله: {يعلمُ ما بين أيديهِم وما خلْفَهم ولا يشفعونَ إلاَّ لمنِ ارتضى وهم من خَشْيَتِهِ مشفِقُون} (21 الأنبياء آية 28).
فعندما يعلم المؤمن أن الشفاعة غالية، ولا يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم شافعاً كان أو مشفوعاً له يمتلئ قلبه من خشية الله، فتعتريه مشاعر الخوف والرجاء، والحبِّ والتعظيم. فتارة ينتابه شعور الخوف من التقصير، لأن أعماله مهما بلغت فإنها لا تعادل المكافأة العظيمة الَّتي أعدَّها الله له وهي الجنَّة، ما لم تُدْرِكْهُ رحمة الله، وما لم يشمله بفضله وإحسانه. وتارةً أخرى يزداد أمله بالنجاة، لاعتقاده بأن الله يقبل في ذلك اليوم شفاعة الأنبياء، لكلِّ من أحبَّهم، وسار في الحياة الدُّنيا على خطاهم.
وهكذا يتبيَّن مما سبق أن الشفاعة لا تنفع المشفوعَ له إلا بشرطين:
1 ـ أن يكون الشافع ممن له كرامة عند الله عزَّ وجل بما قدمه من صالح العمل في الدار الدُّنيا.
2 ـ أن يكون المشفوع له مؤمناً بالله موقناً بتقصيره، متَّكلاً على فضل الله وسعة رحمته، وطامعاً بمغفرته طالباً لها بلسانه وقلبه.(3/257)
أما شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها محقَّقَة وثابتة، وقد ورد في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «آتي تحت العرش وأخِرُّ لله ساجداً، ويُفْتَحُ علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني ثمَّ يقول: يامحمَّد! ارفع رأسك وقل تُسمع، واشفع تُشفَّع، قال: فيحدُّ لي حداً فأدخلهم الجنَّة ثمَّ أعود» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
إن النَّاس بأعمالهم الَّتي قدموا بها، وبِحَيْرتهم وشدَّة قلقهم لا يخفون عن بصر الله، فهو يعلم أحوالهم، ولا تخفى عليه خافية من أمورهم، دون أن يعلموا عن ذات الله شيئاً. قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى {وعنَتِ الوجوهُ للحيِّ القيُّوم}: (في هذا اليوم ترى الخلائق قد ذلَّت وخضعت واستسلمت لربِّها الحيِّ الَّذي لا يموت، القائم على خلقه بتدبير شؤونهم، وتصريف أمورهم، وخصَّ الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، ولأن آثار الذلِّ أو الغبطة والسرور تظهر عليها بشكل خاص). في ذلك اليوم يُحرم من الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، تارك لأوامره، منغمس في معاصيه، فتراه ينتظر بلهفةٍ أيَّ شافع لينقذه، وما كان ليُنْقَذَ {وقد خاب من حمل ظلماً}. أما من عمل صالح الأعمال على قدر طاقته، وهو مؤمن بربِّه ومصدِّق لرسله وما أَنزل عليهم من كتبه، فلا يخاف من الله ظلماً بأن يحمل سيئات غيره، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها.
وهكذا يخيِّم الجلال على الموقف كلِّه، ويسوده الصمت والرهبة والخشوع؛ فالكلام همس، والسؤال تخافت، والخشوع مهيمن، والوجوه عانية، وجلال الحيِّ القيوم يغمر النفوس بالجلال الرزين، ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله قوله، والعلم كله لله، وهم لا يحيطون به علماً. والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة، والَّذين آمنوا مطمئنون، لا يخشون ظلماً في الحساب ولا هضماً لما عملوا من الصالحات.
سورة لقمان(31)(3/258)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس اتَّقوا ربَّكم واخشَوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولدِهِ ولا موْلودٌ هو جازٍ عن والدهِ شيئاً إنَّ وعدَ الله حقٌّ فلا تغرَّنَّكم الحياةُ الدُّنيا ولا يغرَّنَّكم بالله الغَرور(33) إنَّ الله عندَهُ علْمُ السَّاعةِ ويُنزِّلُ الغيثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ إنَّ الله عليمٌ خبير(34)}
ومضات:
ـ تُشعر هذه الآيات الكريمة الإنسان بضآلة موقعه في هذا الكون، وضحالة علمه مهما تقدَّم، وتُبيِّن أن التَّقوى هي الفرصة الوحيدة للإنسان ليرتقي عقلاً وروحاً، فينطلق في توازن مدهش بين العلوم المادِّية والينابيع الروحية، متحلِّياً بأخلاق العلماء العاملين ومُقِرّاً بعظمة الله سبحانه وتعالى فيما خلق، وبما أعطى الإنسان من غير حدود.
في رحاب الآيات:
إن علاقة الوالد بولده، على أهميَّتها في الحياة الدُّنيا، عديمة المفعول في الحياة الآخرة، فلا يستطيع أب أن يُهْرَع لإنقاذ ابنه، ولا أن يسارع ابن لإنقاذ أبيه من نار العذاب، على الرغم من عميق العاطفة الَّتي تربط بينهما، فكلٌ منشغل عن غيره بنفسه ومصيره.(3/259)
وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإن القرآن الكريم يوجِّه نداءه إلى الجنس البشري ليتَّقي الله، ويُعِدَّ العُدَّة ليوم رهيب عصيب، كما وصفه الله تعالى بقوله: {فكيف تتَّقونَ إن كَفَرتُمْ يوماً يَجْعَلُ الوِلدانَ شيْباً * السَّماءُ مُنْفَطِرٌ به كان وعدُهُ مفعولاً} (73 المزمل آية 17ـ18). إن الأمور كلَّها بيد من لا يُغالب، ولا تجدي عنده إلا وسيلة واحدة هي الإيمان والعمل الصالح، ويؤكِّد أن مجيء هذا اليوم حقٌّ، لأن الله قد وعد به ولا خُلف لوعده. ثمَّ يحذِّرنا الله تعالى من أن ننخدع بزخرف الحياة الدُّنيا، وزينتها ولذائذها، فنميل إليها بكلِّيتنا، وتصبح طِلْبَتَنا وغايتنا الَّتي نسعى إليها، ونصبح مطيَّة لها، فتضطرب عندنا المعايير الأخلاقية، وننجرف في غرور الوهم وإغراء المعاصي، نعيش مخدوعين بأوهام الأماني الكاذبة، فلا نتَّخذ للآخرة زاداً ولا نرجو معاداً، متوهِّمين القوَّة في مال زائل أو علم باطل أو سلطان خادع، والحقيقة أن هذه الأمور وأشباهها عملة محليَّة، فإذا صرنا إلى العالم الآخر غدت باطلة لا رواج لها ولا قيمة.
ويلفت القرآن الكريم الأنظار إلى علم الله الشامل وقصور علم الإنسان، فيذكر مفاتح الغيب الَّتي اختصَّ الله تعالى بعلمها وهي:
1 ـ علم الساعة وهو يوم القيامة، الَّذي جعله الله تعالى غيباً لا يعلمه سواه، ليبقى النَّاس في عملية بناء دائمة، وإنتاج متواصل، وهم لا يعلمون متى تأتي، ولو علموا ميقاتها لتعطَّلت حركتهم وفترت همَّتهم والتزموا المساجد والمعابد في زهد وتقشُّف وجمود. لذا كان في إخفائها مزيد من دفع حماسهم للاستفادة من فرص الحياة، وللإكثار من التعبُّد والتقرُّب بشوق دائم إلى الوصال واللقاء.(3/260)
2 ـ نزول الغيث وفق حكمته، بالقدر الَّذي يريده، وفي المكان والزمان الَّذي يريده، وقد يعرف النَّاس بالتجارب والمقاييس قُرب نزوله، ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب الَّتي تنشِئُه. والنصُّ يقرِّر أن الله هو الَّذي ينزِّل الغيث، لأنه سبحانه هو المنشئ للأسباب الكونية الَّتي تكوِّنه وتنظِّمه، فيرسله بقدر معلوم حيث يريد، ويمسكه عمَّن يريد.
3 ـ علم ما في الأرحام، فهو وحده الَّذي يعلم ما في الأرحام علم اليقين، حتَّى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم، ويعلم مواصفات هذا الحمل، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئاً في اللحظة الأولى لاتحاد النطفة والبويضة، قال تعالى: {هو الَّذي يُصَوِّركُمْ في الأرحام كيف يشاءُ لاإله إلا هو العَزيز الحكيمُ}(3آل عمران آية 6)، فهو تعالى يعلم ملامح الجنين وخواصَّه، وحالته، واستعداداته، وطبائعه، وصفاته الموروثة، وبصماته الَّتي صوَّرها له وغير ذلك من خواصِّ كلِّ فرد. وإنَّ كلَّ ما وصل إليه إنسان القرن العشرين من المداخلات مع الحيوانات المنوية، وكذلك البويضات، هو تعامل مع ما خلقه تعالى دون أن يكون له أي دورٍ في الإيجاد من العدم؛ فالله تعالى هو الموجد له من العدم، ويبقى الإنسان مشاهداً ومنفِّذاً، دون أن يكون له القدرة على المشاركة في عملية الإيجاد هذه. إنَّ علم الإنسان محدود مهما بلغ، مصداق قوله تعالى: {..وما أوتيتُم من العلم إلاَّ قليلاً} (17 الإسراء آية 85) ويقابله علم الله المحيط بكلِّ ما في هذا الكون الشامل لكلِّ جزئيَّة من جزئيَّاته، فتبارك الله وتباركت صفاته العليَّة.(3/261)
4 ـ العلم بالأرزاق والمكاسب، فما تدري نفس ماذا تكسب غداً من خير أو شرٍّ، ومن نفع أو ضُرٍّ، ومن يسر أو عسر، ومن صحَّة أو مرض، ومن طاعة أو معصية، فالكسب أعمُّ من الربح المادِّي، وهو كلُّ ما تصيبه النفس في الغد، وهو غيب مُسدَلة عليه الأستار. والنفس الإنسانية تقف وراء حجب الغيب، لا تملك أن ترى شيئاً مما خلف الستار، ولا يعني ذلك عدم التخطيط واتخاذ الأسباب، فعدم المعرفة يجب أن يولِّد لدينا الدافع للعمل الواعي النشيط، لا للتواكل المبني على الكسل والخمول.
5 ـ العلم بمكان الموت وزمانه، فكثير من النَّاس يغادرون أوطانهم إلى بلاد أخرى قبل وفاتهم بأيام، حيث يكون قدرهم أن يُدفنوا في تلك البلاد. وقد روي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السَّلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، يديم النظر إليه، فقال الرجل لسليمان: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني؛ وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثمَّ قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجُّباً منه؛ لأني أُمِرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
ومثل هذه الواقعة تتكرَّر في كلِّ زمان ومكان، وقد حدث في إحدى السنوات القليلة الماضية أن امرأة مُسنَّة قرَّرت السفر لزيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج، وبعد أن أعدَّت للسفر عُدَّته، فاجأها ظرف طارئ قبل سفرها بيومين، فشكَّل عائقاً بينها وبين ما عزمت عليه. فتقدَّمت لصديقة لها في سنِّها باقتراح الذهاب للحجِّ بدلاً عنها، وبأوراقها الثبوتيَّة ذاتها، فوافقت على ذلك وذهبت إلى الحجِّ ذلك العام، فكانت المنيَّة في انتظارها هناك، وقُدِّر لها أن تموت بتلك الديار، ويصلِّي عليها مئات الألوف من الحجيج، وتُدْفَن في تلك البقعة المباركة. فمن كان يدري ويعلم بشيء عن هذا القدر وذلك التدبير الإلهي العجيب؟. [هذه الحاجَّة المتوفاة هي عَمَّة مُعِدِّ هذا الكتاب ومُنَفِّذِه].(3/262)
وهكذا نرى أنَّ على الإنسان أن يعيش بالعمل ويحدوه الأمل، تتفجَّر طاقاته الكامنة يوماً وراء يوم، وشعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» (رواه أبو داود مرفوعاً).
سورة المعارج(70)
قال الله تعالى: {يومَ تكونُ السماءُ كالمُهْل(8) وتكونُ الجبالُ كالعِهْن(9) ولا يَسأَلُ حميمٌ حميماً(10) يُبَصَّرونَهُم يَوَدُّ المجرمُ لو يَفتدي من عذابِ يومئذٍ ببنيه(11) وصاحبَتِه وأخيه(12) وفصيلَتِه الَّتي تُؤْويه(13) ومن في الأرضِ جميعاً ثمَّ يُنْجِيه(14)}
ومضات:
ـ أمام أهوال يوم القيامة تنقطع جميع وشائج القربى والصداقة الَّتي كانت قائمة في الحياة الدُّنيا.
ـ في يوم الحساب تنكشف جهنَّم للمجرمين فتنخلع قلوبهم من الخوف والوجل، ويتمنَّى الواحد منهم لو أنه يستطيع أن يفتدي نفسه من العذاب بأحبِّ النَّاس إليه، من هول الرعب وشدَّة الفزع، ولكن دون جدوى.
في رحاب الآيات:(3/263)
لقد قيل الشيء الكثير عن الصداقة والصحبة، وشُبِّهتا بالكنز الَّذي يسعف الإنسان في حال الحاجة والشدَّة والأزمات، وأن الصاحب الحقيقي لا يتخلَّى أبداً عن صاحبه، فيلبِّيه كلَّما دعاه، ويُؤنسه في لحظات الوحشة، ولكنَّ هذه القيم الدنيوية تنهار يوم القيامة، فلا يفكر غير المؤمن إلا بنجاة نفسه، وإنقاذها من عذاب رهيب. إن النَّاس يوم القيامة في همٍّ شاغل، لا يدع لأحدهم مجالاً أن يتلفَّت حوله، ولا يجد فُسحة في شعوره لغيره، فلقد قطع الهول المروِّع جميع الوشائج، وحبس النفوس على همٍّ لا تتعدَّاه. ولكن أن يأخذ الرعب من المجرم كلَّ مأخذ، حتَّى يتمنَّى لو يُعذَّبُ أولادُه وفلذات أكباده بدلاً عنه، فهذا شيء يفوق الخيال، لا بل إنه يتمنَّى أن تعذَّب زوجته وشريكة حياته، الَّتي أفنت حياتها لإسعاده، أو أخوه وأقرب النَّاس إليه، أو رفيق عمره في المنشط والمكره. وإذ لا يجدي كلُّ ذلك نفعاً، يتمنَّى لو يعذَّب بنو قومه بدلاً عنه، ويفتدونه من هذا العذاب، بمن فيهم أبواه وأهله وعشيرته، فلا مانع لديه أن يقاسوا العذاب المؤلم بدلاً عنه، لا بل حتَّى أهل الأرض جميعاً، ليدخلوا جهنَّم داخرين مقابل أن ينجو هو، ولعمري إن هذا لعجب عُجاب؛ فهو لم يكتف بما أساء إلى النَّاس في الحياة الدُّنيا، وعاث فيهم فساداً، متعدِّياً على حقوقهم، وهو يزيد اليوم بأن يتمنَّى لهم جميعاً العذاب ليكونوا فداءً له، إنها أخلاق المجرم تلازمه في حلِّه وترحاله، وفي دنياه وآخرته.(3/264)
كلا، إنه لن يُقبل منه فداءٌ ولو افتدى نفسه بالنَّاس جميعاً، وبأعزِّ ما لديه من مال ولو بملء الأرض ذهباً. إنها صورة للَّهفة الطاغية، والفزع المذهل والرغبة الجامحة في الإفلات من العذاب، صورة مبطَّنة بالهول، مغمورة بالكرب، موشَّاة بالفزع، تنجلي من خلال التعبير القرآني الموحي. لقد أفقده الهول صوابه، وأعمى فؤاده، فأصبح وكأنه سكران يهذي، مصداقاً لقوله تعالى: {..وترى النَّاس سُكارى وما هم بسُكارى ولكنَّ عذابَ الله شديد} (22 الحج آية 2).
سورة الفرقان(25)
قال الله تعالى: {ويومَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بالغمامِ ونُزِّلَ الملائكَةُ تنزيلاً(25) المُلْكُ يومئذٍ الحقُّ للرَّحمنِ وكان يوماً على الكافرينَ عسيراً(26) ويومَ يعضُّ الظَّالمُ على يديْهِ يقولُ ياليتني اتَّخذتُ مع الرَّسول سبيلاً(27) ياويلتى ليتني لم أتَّخذ فلاناً خليلاً(28) لقد أضلَّني عن الذِّكرِ بعد إذ جاءَني وكان الشَّيطانُ للإنسانِ خذولاً(29) وقال الرَّسولُ ياربِّ إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآنَ مهجوراً(30)}
ومضات:
ـ إن حسرة العُصاة الفسقة مردُّها إلى عدم اتخاذهم، رسل الله والعلماء الصالحين العاملين، قدوة لهم ونبراساً، يهتدون بهديهم ويقتدون بصالح أعمالهم. وهي ثمرة التخلِّي عن صحبة الأصدقاء الأتقياء الورعين، الَّذين يصلون بهم إلى شاطئ الأمن الإلهي، ويساعدونهم على التحلِّي بالصفات الفاضلة، ويشدُّون أزرهم لأداء الطاعات والعبادات.
ـ إن هذه الخسارة العظمى الَّتي لحقت بهم كانت بسبب الانقطاع عن ذكر الله وإهمالهم أوامره، وعدم تدبُّرهم للقرآن الكريم، وإعراضهم عن سبل السعادة الَّتي شرعها الله تعالى لهم في أنفسهم وأسرهم ومجتمعاتهم.
في رحاب الآيات:(3/265)
هذه الآيات، وكثير غيرها في القرآن الكريم، تقرِّر أن أحداثاً فلكية ضخمة ستحدث في ذلك اليوم، يوم القيامة، وكلُّها تشير إلى اختلال كامل في النظام الَّذي يربط أجزاء هذا الكون المنظور، وأفلاكه ونجومه وكواكبه، وإلى انقلاب في أوضاعه وأشكاله وارتباطاته، فتكون تلك الأحداث مؤشِّرات لنهاية هذا العالم المنظور، بعد أن أدَّى الدور الَّذي أوجد من أجله، ولا يقتصر ذلك الانقلاب على الأرض، إنما يشمل النجوم والكواكب والأفلاك. ولابأس من استعراض مظاهر هذا الانقلاب كما جاءت في سور متعدِّدة، قال الله تعالى: {إذا الشَّمسُ كُوِّرت * وإذا النُّجومُ انكَدَرَت * وإذا الجبالُ سُيِّرت * وإذا العِشارُ عُطِّلت * وإذا الوحوشُ حُشِرت * وإذا البحارُ سُجِّرتْ} (81 التكوير آية 1ـ6) وقال تعالى: {فإذا انشقَّتِ السَّماءُ فكانت وردَةً كالدِّهان} (55 الرحمن آية 37) وقال تعالى: {فارتقبْ يومَ تأتي السَّماءُ بدُخان مُبين* يغشى النَّاس هذا عذابٌ أليم} (44 الدخان آية 10ـ11) هذه الآيات جميعها تنبئ بأن معالم هذا العالم ستنمحي تماماً، لتحلَّ مكانها معالم العالم الأخروي، في يوم رهيب، تُفَتَّحُ السماء فيه فتكون أبواباً، وتنفطر عن الغمام الَّذي يَسود الجوَّ ويُظلمه، فتغتمُّ القلوب لمرآه وشدَّة ظلمته، وتأتي الملائكة الحفظة بأعمال الخلائق محيطةً بهم، فيُقْذَفُ الرعب في قلوب الكافرين، ولا تملك نفس لنفس شيئاً؛ بل الأمر والمُلك يومئذ لله الواحد القهَّار، الَّذي تخضع له الملوك، وتعنو له الوجوه، وتذلُّ له الجبابرة، ولا مالك سواه.(3/266)
إنه يوم شديد الهول على الكافرين عسير، لأنه يومُ عدلٍ وفصلٍ، وإحقاقٍ للحقِّ، وردٍّ للمظالم، وهو على المؤمنين يسير لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى، قال صلى الله عليه وسلم : «يُدنى المؤمن من ربِّه حتَّى يضع عليه كنفه فيقرِّره بذنوبه، تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أعرف ربِّ، أعرف ـ مرتين ـ فيقول: سترتها عليك في الدُّنيا، وأغفرها لك اليوم، ثمَّ تطوى صحيفة حسناته، وأمَّا الآخرون، أو الكفار، أو المنافقون، فينادى بهم على رؤوس الخلائق، هؤلاء الَّذين كذبوا على ربِّهم ألا لعنة الله على الظالمين» (أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه ).(3/267)
أمَّا الظالم فإنه يستأنف بذلك اليوم رحلة عذاب نفسية كانت لحظة نزوله إلى القبر، نقطة بدايتها، لقوله صلى الله عليه وسلم : «القبر أول منزلة من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه» (أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعاً)، ولقوله أيضاً: «القبر روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النَّار» (أخرجه الترمذي والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ). فمن كان صالحاً انسابت إلى قبره بشائر النعيم، ويرى مقعده من الجنَّة فينشرح صدره ويطمئنُّ قلبه، ومن كان ظالماً مسيئاً اقتحمه نذر الجحيم، ويرى مقعده من النَّار فتضيق نفسه، ويطارده الخوف المفزع من عاقبة أمره، فإذا ما بُعِثَ من رقاده يوم القيامة، أدرك حقيقة مصيره المظلم، فصار يردِّد قوله تعالى: {..ياويلنا من بَعَثَنا من مرقَدِنا هذا ما وعدَ الرَّحمنُ وصدق المرسلون} (36 يس آية 52) وأخذ يعضُّ على يديه أسفاً وندماً على ما فرَّط في جنب الله عزَّ وجل، ولا تكفيه يد واحدة يعضُّ عليها، إنما هو يداول بين هذه وتلك، لشدَّة ما يعانيه من الندم اللاذع، وهي حركة معهودة ترمز إلى حالة نفسيَّة صعبة، تجسِّمها الآية تجسيماً معبِّراً. وفي تحرُّقِ الظالم ولوعته، يدرك أنه قد بدأ مسيرته مع الخطأ، حين أعرض عمَّن يدلُّه على الله تعالى، واستبدله بقرين السوء، ويتمنَّى لو أنه سلك طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه، ولم يضلَّ عنه، بعد أن كان منكراً لرسالته في الدُّنيا، ومكذِّباً لنبوَّته. وينعى على نفسه كيف اتخذ فلاناً من النَّاس صاحباً وصديقاً، وجعله قدوة له، وتستعمل الآية كلمة {فلاناً} بهذا التنكير والتعميم لتشمل كلَّ صاحب سوء يصدُّ عن سبيل الرسول، ويُضِلُّ عن ذكر الله تعالى، وكان شيطاناً أو عوناً للشيطان. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله(3/268)
عنه : «يُحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه أبو داود والترمذي)، وهنا ندرك أهميَّة انتقاء الصاحب ونوعيته، فقُرب الإنسان من الشخص القريب إلى الله يقرِّبه منه، وحبُّه لأحباب الله يجعل هواه في هواهم، فيصبح محبّاً بل عاشقاً لله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمَّا أن يُحْذِيَكَ وإمَّا أن تبتاع منه وإمَّا أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك وإمَّا أن تجد منه ريحاً منتنة» (رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). وكذلك هُمُ المفسدون في الأرض، فإنهم يُحوِّلون من يلوذ بهم من الغاوين إلى أداة للإفساد والتخريب، ويحجبونه عن الله بحُجب الشهوات والمتع البهيمية، ليصبح في النهاية مطيَّة للشيطان يقوده إلى ما فيه خراب عقله، ودمار قلبه، مُظهراً له الحقَّ باطلاً، والباطل حقاً، ثمَّ يخذله يوم القيامة مدلِّلاً على أنه استغلَّ استعداده للفساد، وأنه لو احتمى بالقرآن الكريم وتعاليمه، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لما استطاع أن يُضلَّه عن سواء السبيل.
وهكذا راح القرآن يهزُّ القلوب بتلك المشاعر المزلزلة، الَّتي تجسِّم للمنحرفين مصيرهم المخيف، وتريهم إيَّاه واقعاً مشهوداً، وهم بَعْدُ في هذه الأرض، يكذِّبون بلقاء الله، ويتطاولون على مقامه دون وازع، ويقترحون الاقتراحات المستهترة بكلِّ القيم، والهول الَّذي يقطع نياط القلوب ينتظرهم هناك، والندم الفاجع يملك عليهم حتَّى خفقات قلوبهم، ولكنَّ ذلك يحصل لهم بعد فوات الأوان، وانتهاء أمد التوبة والاستدراك، وفي هذا عبرة لمن أراد أن يعتبر، ويسلك سبيل الرشاد الَّذي به النجاة من الكرب العظيم.(3/269)
وبعد هذه الجولة في اليوم العسير، يعود القرآن بهم إلى الأرض، ليستعرض موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم لما جاء به؛ لقد هجروا القرآن الَّذي أنزله الله على عبده ورسوله لينذرهم به، ويبصِّرهم بما ستؤول إليه حالهم إن هم استمرُّوا على موقفهم منه، فهجروه ولم يفتحوا له أسماعهم، إذ كانوا يفرُّون منه خشية أن يجتذبهم، فلا يملكون لقلوبهم عنه رداً، هجروه فلم يتدبَّروه ليدركوا الحقَّ من خلاله، ويجدوا الهدى بنوره، هجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد أُنْزِلَ ليكون منهاجاً يقود حياتهم إلى أقوم طريق.
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {الأخِلاَّءُ يَومَئِذٍ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ عدوٌّ إلاَّ المتَّقين(67)}
ومضات:
ـ لابُدَّ للإنسان في هذه الدُّنيا من أن يكون حوله أصدقاء، يحيطونه بالمحبَّة والمودَّة والصحبة والأنس، ولكن إذا كانت هذه الصداقات مبنيَّة على أسس من الباطل والضلالة، فإنها سُرعان ما تنهار، وتنقلب يوم القيامة إلى عداوة وضغائن، حيث يُدِيْنُ النَّاس بعضهم بعضاً، على الرُّغم مما كان بينهم من أواصر الصداقة والمودَّة في الدُّنيا. ولا ينجو من هذه المشاحنات والمهاترات، إلا مَنْ كانت علاقاتهم مع النَّاس قائمة على أسس متينة من التَّقوى والحبِّ والإخلاص لله، فيستوجبون بأعمالهم مرضاة الله وقبوله يوم الحساب.
في رحاب الآيات:(3/270)
يالَلعجب العُجاب!! كيف ينقلب الصديق إلى عدوٍّ في الدار الآخرة؛ بعد أن كان يسعى في حياته إلى هذه الصداقة بكلِّ قوَّته، ويقوم بتدعيمها بشتَّى الوسائل، طلباً للمنفعة والمتعة الَّتي كان يجنيها من خلالها؟ والجواب يكمن في معرفة الأسس الَّتي كانت تقوم عليها هذه الصداقة، وأوجه الانتفاع بها. فإذا كانت أرضية هذه الصحبة تقوم على اللهو وتحقيق الشهوات، وانغماس في الملذَّات المحرَّمة والأمور الدنيوية، فإنها تورث الغفلة عن الله وعن رسالة السماء، والضياع في بحار الجهل والمعاصي، فتنقلب على أهلها شراً وخُسراناً يوم القيامة؛ فإذا أُوقفوا ليحاسبوا على ما اقترفته أيديهم، وعُرضت عليهم أعمالهم، شعر واحدهم بالندم الحقيقي لاستجابته لقرناء السوء. مثلهم في ذلك كمثل المجرمين الَّذين دعا بعضهم بعضاً إلى ارتكاب جريمة قتل، وعمل كلٌّ منهم ما في وسعه تنكيلاً بتلك الضحية، فإذا ما وقفوا أمام القاضي وقد أحضر لكلٍّ منهم دليل إدانته، رمى بعضهم بعضاً، وشتم بعضهم بعضاً، فتقطَّعت كلُّ وشائج المودَّة والصحبة الَّتي كانت تربط بينهم عندما كانوا طلقاء. في تلك اللحظة يستميت المجرم في محاولته تبرئة ساحته أمام محكمة ربِّ العالمين متَّهِماً أصحاب السوء بالتأثير عليه، ولكن دون جدوى، ويردُّ الآخرون دعواه بنفي التهمة عنهم، بل ويحاولون إلصاق التهمة به، وتتفجَّر العداوات، ويستعر الغيظ بينهم، ولكن عدل الله تعالى قائم، لينال كلُّ امرئ ما يستحقُّه من العقاب أو الثواب، قال تعالى: {قال لا تختصموا لديَّ وقد قدَّمتُ إليكم بِالوَعيد * ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ وما أنا بِظلاَّمٍ للعبيد * يوم نقول لجهنَّم هل امتلأتِ وتقول هل من مزيد} (50 ق آية 28ـ30).(3/271)
وهكذا فإن عداوة الأصحاب يوم القيامة تنبع من معين ودادهم، لقد اجتمعوا في الدُّنيا على الشرِّ، لكنَّهم اليوم يتلاومون ويتلاحَوْن فيما كانوا يتوادُّون عليه، بعد أن كانوا أخلاَّء يتناجون. وأمَّا إذا كانت قاعدة الصداقة قائمة على أسس من التَّقوى والنُّصح والتناصح، والبذل والتباذل، والإيثار والمحبَّة في الله، فإنها تستمرُّ إلى الحياة الآخرة، حيث تؤتي أُكُلَها طيِّباً حلو المذاق، وتعطي نتائج بنَّاءةً لما فيه خير الصاحبَيْنِ، بل خير الأصحاب جميعهم، فمودَّة المتَّقين باقية لأن اجتماعهم كان على الهدى، وتناصُحهم على الخير، وعاقبتهم إلى النجاة.
الفصل الثالث:
الحساب والجزاء
سورة النجم(53)
قال الله تعالى: {ولله ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ ليجزيَ الَّذين أساؤوا بما عملوا ويجزيَ الَّذين أحسنوا بالحسنى(31) الَّذين يجتنِبونَ كبائِرَ الإثمِ والفواحشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ ربَّكَ واسعُ المغفِرةِ هو أعلمُ بكم إذ أنشأكُم من الأرضِ وإذ أنتم أجنَّة في بطونِ أمهاتِكم فلا تُزَكُّوا أنفسَكُم هو أعلَمُ بمن اتَّقى(32)}
ومضات:
ـ إن الله عزَّ وجل هو مالك السموات والأرض وما فيهن، ومالك يوم الدِّين والحساب الَّذي يُجازي به كلَّ إنسان؛ فمن كان محسناً فله ثواب ما أحسن، ومن كان مسيئاً فعليه عقاب ما أساء.
ـ عرَّف الله تعالى المحسنين بأنهم أولئك الَّذين يبتعدون عن الذنوب الكبيرة، وما قَبُح من الأعمال، متجاوزاً بذلك عن صغائر الذنوب الَّتي كثيراً ما يقع فيها الإنسان بسبب ضعفه البشري، شاملاً مرتكبيها بمغفرته الواسعة.
ـ إن الله تعالى عليم بنا، منذ أن استخرجنا من عناصر الأرض، وعندما نكون أجنَّة في بطون أمهاتنا، وفي كلِّ مرحلة من مراحل حياتنا على هذه الأرض.(3/272)
ـ نهانا الله تعالى عن تزكية أنفسنا ومدحها والإعجاب بها، والتباهي بأعمالنا أمام الآخرين، فليس المهمُّ أن يُعْجَبَ الآخرون بعملنا، بل أن يتقبَّله الله تعالى، حين يكون ممزوجاً بالتَّقوى وخشية الله عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:
تبدأ الآية الكريمة بتقرير ملكية الله وحده، لكلِّ ما في السموات والأرض، خلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً، وهذا التقرير يمنح قضية الآخرة قوَّة وتأثيراً، فالَّذي قدَّر الآخرة هو الَّذي يملك ما في السموات وما في الأرض وحده، فهو القادر على الجزاء، المختصُّ به، المالك لأسبابه. ومن شأن هذه الملكية أن تحقِّق الجزاء الكامل العادل، ليجازى المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه. ثمَّ ذكرت الآية الكريمة صفات المحسنين المتَّقين فقالت: {الَّذين يجتنِبون كبائِرَ الإثمِ والفواحشَ} أي أن الَّذين يبتعدون عما عَظم شأنه من كبائر المعاصي، كالشرك بالله، وقتل النفس الَّتي حرَّم الله بغير حقٍّ، والزِّنا وغير ذلك من الموبقات. ورد في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يارسول الله وما هُنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس الَّتي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وينبغي أن لا نفهم من نصِّ الحديث أن الكبائر محصورة العدد في سبع، فقد وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قال له: (الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار).(3/273)
والآية تستثني صغائر الذنوب رحمة وتفضُّلاً من الله جلَّ وعلا فتقول: {إلاَّ اللَّمم} وهو ما قلَّ وصغُر من الذنوب. أخرج ابن مردويه عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما اللَّمم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو الَّذي يُلمُّ بالخطرة من الزنا ثمَّ لا يعود، ويلمُّ بالخطرة من شرب الخمر ثمَّ لا يعود، ويلمُّ بالسرقة ثمَّ لا يعود»، وقيل فيه: [والصغائر الَّتي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله: كالغمزة والنظرة]، وقيل أيضاً: [إلا اللَّمم الَّذي يُلمُّ بالذنب ثمَّ يدعه]. كما قيل: [اللَّمم ما يعمله الإنسان المرَّة بعد المرَّة ولا يتعمَّق فيه ولا يقيم عليه]، وهذا القول أكثر تناسباً مع قوله تعالى اللاحق: {إنَّ ربَّكَ واسعُ المغفرة} فذِكْرُ سعة المغفرة، يناسب أن يكون اللَّمم هو الإتيان بتلك الذنوب ثمَّ التوبة عنها.
والَّذين أحسنوا هم من يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا أن يقعوا في شيء منها، وعندها يعودون سريعاً ولا يُصِرُّون عليها، كما قال الله جلَّ وعلا: {والَّذين إذا فعَلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسَهُم ذكروا الله فاستغفَروا لذنوبِهِم ومن يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربِّهم وجنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونِعمَ أجرُ العاملين} (3 آل عمران آية 135ـ136).
ومن هنا نلاحظ تدرُّج الأحكام القرآنية للوصول إلى الحكم النهائي المبرم حسب قوَّة عقيدة المؤمنين، واستعدادهم لتحمُّل المزيد من مجاهدة النفس وتزكيتها.(3/274)
ففي حين تقرِّر هذه الآيات الكريمة التساهل في صغائر الذنوب، حيث إنه تعالى أدرى بما خلق، وبقدرة مخلوقاته على حُسن التنفيذ، نجده تعالى يشدِّد في آيات لاحقة على وجوب اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن. إن حكمة التدرُّج في تطبيق الأحكام لازالت قائمة، وهي تسري على كلِّ من دخل حديثاً في الإسلام، ولم يكتمل بناؤه الإيماني بعد، ويسري أيضاً على ضعاف النفوس، الَّذين غلبتهم أهواؤهم تحت وطأة ظروفهم المحيطة بهم، ولا يجدون أعواناً على فعل الخير واجتناب المنكر. وفي الأحوال جميعها، لا ينبغي لأحد أن يعتقد بأنه وصل إلى مرحلة راقية من الطهر والصلاح، ولا يحقُّ لأحد أن يكون حكَماً على نفسه أو على الآخرين، لأن الله تعالى هو الحكم العدل، وهو الَّذي يميِّز التقيَّ من الشقي، والصالح من الطالح، لأنها أعمال ممزوجة بالنوايا، وقلوب محفوفة بالتقلُّب، ومن دعاء الرسول الكريم عليه السَّلام: «اللهمَّ يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» (أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد عن أنس رضي الله عنه )، والله تعالى بصير بأحوالنا، عليم بأقوالنا وأفعالنا، حين ابتدأ خلقنا من التراب، وحين صوَّرنا في الأرحام على أطوار مختلفة وصور شتَّى، فعلمه العلم السابق، علم بالحقيقة قبل الظاهر، وعلم بالفطرة الَّتي فَطَرَ المخلوق عليها قبل العمل الَّذي يصدر عنه.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ليس بأمانيِّكُم ولا أمانيِّ أهلِ الكتابِ من يعملْ سُوءاً يُجزَ بهِ ولا يجدْ لهُ من دونِ الله وليّاً ولا نصيراً(123) ومن يعملْ من الصَّالحاتِ من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئِكَ يدْخلُونَ الجنَّة ولا يُظلَمونَ نقيراً(124)}
ومضات:(3/275)
ـ إن استحقاق الثواب أو العقاب ليس موكولاً إلى الأماني، بل يرجع إلى أصل ثابت، وسنَّة لا تتبدَّل، وقانون لا يحابي، قانون يستوي أمامه جميع النَّاس من جميع الشرائع، فصاحب السوء مجزي بالسوء، وصاحب الحسنة مكافأ بالحسنة، وصاحب القرار في ذلك هو ربُّ العالمين وحده ولا أحد سواه.
ـ الإيمان الحقيقي المقرون بالعمل الصالح ـ المثمر علماً وأخلاقاً ـ هو معيار النجاح والتوفيق في سائر الشرائع السماوية، وهو يسري على الأجناس البشرية كافَّة، في الأزمنة والأمكنة كافَّة، دون تفريق بين ذكر وأنثى.
في رحاب الآيات:(3/276)
قال النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلِّي، ولكنَّ الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل» (رواه ابن النجار والديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه ). فالعقيدة والعمل هما ركنا الإيمان، عقيدة التَّوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى، والعمل بمقتضى شريعة الله. ولكنَّ بعض النَّاس ممَّن التبست عليهم الأمور، اغترُّوا بمغفرة الله وحلمه وسعة رحمته، وحصروها في أنفسهم، وادَّعَوا انغلاق باب الرجاء والرحمة عن غيرهم من أتباع الرسالات السماوية. وإنَّ هذا الوهم ليس وقفاً على فردٍ دون آخر، ولا على أصحاب ملَّة دون أخرى، إذ ربما وقع فيه المسلمون غروراً بانتمائهم إلى الإسلام، وبأن هذا الانتماء سوف ينجيهم من عذاب الله، وكذلك أهل الكتاب من الَّذين غرَّتهم الأماني فقالوا: {وقالوا لن تَمَسَّنا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً معدودةً قُلْ أتَّخذتُم عند الله عهداً فلن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أمْ تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسبَ سيِّئةً وأحاطتْ به خطيئَتُهُ فأولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها خالدون * والَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ أولئك أصحابُ الجنَّة هم فيها خالدون} (2 البقرة آية 80ـ82). والأديان أصلاً لم تشرَّع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل الفائدة بالانتساب إليها دون العمل بمضمونها، وليس هناك شريعة تعلو على شريعة في نظر الله، لأن الشرائع نزلت من مشرِّع واحد، وليس هناك أتباع شريعة يتجاوزون القوانين الإلهية دون أن تطالهم عدالة السماء، فلن يُعذر مسلمٌ سَرَق، ولن يُستثنى مسيحيٌ أو يهوديٌ قتل، فالكلُّ أمام الله مسيء وسيحاسَبُ على قدر إساءته بغضِّ النظر عن انتمائه الديني.(3/277)
ولقد شقَّ على المسلمين قول الله لهم: {من يعملْ سُوءاً يُجزَ به} لأنهم كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية، ويعرفون أنها لابُدَّ أن تعمل سوءاً، مهما صلحت ومهما عملت من حسنات، فلم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها، وارتعشت قلوبهم كالَّذي يواجه العاقبة فعلاً ويلامسها، ولبثوا حين نزلت لاينفعهم طعام ولا شراب حتَّى أنزل الله قوله: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفْسهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يجدِ الله غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 110). روي أنه لمَّا نزل قوله تعالى: {من يعملْ سُوءاً يُجز به} راع ذلك أبا بكر رضي الله عنه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم من ينجو مع هذا يارسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أما تحزن، أما تمرض، أما يصيبك البلاء؟ قال بلى يارسول الله، قال: هو ذاك» (رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي بكر رضي الله عنه ).
ونطالع الوجه المقابل لهذا الوعيد فنراه وعداً مبشِّراً، مسفراً، يومض بريق الأمل في صدورٍ آمنت بربِّها وأسلمت قلبها له، واتجهت بأبصارها وبصائرها نحوه، فتغلغل نوره في حناياها، وطهَّرها وزكَّاها، فلم يلتبس عليها الحقُّ بالباطل، وترفَّعت عن تلبية شهوات الجسد، الَّتي تلقي بصاحبها في دوَّامة من الجوع الروحي لا شبع له، ومتاهة من الظمأ لا ريَّ يطفئها، أولئك الَّذين أحرقوا شهواتهم في أتون الإرادة الصلبة، والاستقامة الصادقة فلن تمسَّهم النَّار، بل إن مصيرهم إن شاء الله إلى الجنَّة والرضا من الله عزَّ وجل.(3/278)
وتراعي الآية الدقَّة في تقرير الحُكْمِ، وفي ترتيب الثواب والعقاب، فالذكر والأنثى في نظر الشريعة سواء، وهما أمام محكمة الله سواء، ولا يُنقص الله من ثواب أحدهما شيئاً. وتُوَجِّهُ الآية الكريمة الأنظار والقلوب إلى الله، وإلى لزوم تفويض الأمر إليه، والتوكُّل عليه، مع العمل الصالح الَّذي أمر بهالله ورسوله. وقد عبَّرت الآية عن توجُّه القلب بإسلام الوجه، لأن الوجه مرآة القلب، على صفحته تنعكس طهارة الروح، ونقاوة الضمير، وصفاء السريرة.
سورة الجاثية(45)
قال الله تعالى: {قل للَّذين آمنوا يغفِروا للَّذين لا يرْجونَ أيَّامَ الله ليجزيَ قوماً بما كانوا يكْسِبون(14) من عملَ صالحاً فلنفْسهِ ومن أساءَ فعليْها ثمَّ إلى ربِّكُم تُرجَعون(15)}
ومضات:
ـ أمرٌ إلهي للمؤمنين كي يعفوا ويصفحوا عن غير المؤمنين، فلا يتعاملوا معهم بحقد ولا ضغينة، وليتركوا أمرهم لربِّ العالمين.
ـ العمل الصالح ينعكس على صاحبه قبل غيره، ومردود العمل السيء ينعكس أيضاً على مرتكبه، والحَكَمُ الأخير هو الله عزَّ وجل القاضي الفرد، ولا قضاء ولا حكم يومئذٍ لغيره.
في رحاب الآيات:(3/279)
يوجِّه الله تعالى عباده المؤمنين ليتسامحوا مع المشركين والكفار، الَّذين لا يؤمنون بلقاء الله، إذا نالهم منهم أذى أو مكروه، وأن يصبروا على أذاهم، ويكظموا غيظهم، ويَعِدُهُم مقابل ذلك بالثواب العظيم في جنَّات النعيم. والواقع أن الَّذين لا يرجون لقاء الله تائهون تستدعي حالتهم الإشفاق عليهم، لحرمانهم أنفسهم من ذلك النبع الفياض، نبع الإيمان بالله الَّذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوَّة والثراء، والله وحده هو الَّذي ينبغي الطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، واللجوء إليه في ساعات الكرب والضيق. والَّذين لا يرجون أيام الله، لم يَحرموا أنفسهم هذا الخير العميم فحسب، بل إنهم حجبوها أيضاً عن المعرفة الحقيقية المتَّصلة بنواميس الكون، وما وراءها من القوى والثروات... لذلك يجدر بالمؤمنين الَّذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتَّعون برحمته وفيضه، أن يتجاوزوا عما يبدر من أولئك المحرومين، من نزوات وحماقات، وأن يتركوا الأمر كلَّه لله، فهو يتولَّى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ويسجِّل لهم هذه المغفرة والعفو عن الإساءة إليهم في سجل الحسنات، وذلك فيما لا يُشيع الفساد في الأرض، أو يُعتَدى به على حدود الله وحرماته.
ويعقِّب على هذا بفرديَّةِ التبعة، وعدالة الجزاء، وتوكيد الرجوع إلى الله وحده في نهاية المطاف، فيقرِّر أن من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، وبذلك يتَّسع صدر المؤمن، ويغلب حلمه غضبه، فيحتمل الإساءات الفردية والنزوات الحمقاء من المحجوبين مرضى النفوس والعقول، في غير ضعف، وفي غير ضيق، فهو أكبر وأقوى، وهو حامل مشعل الهدى للمحرومين من النور، والأمر كلُّه لله في البداية والنهاية. ويهدف الإسلام من الحثِّ على الصبر، وترك الأمر لله أولاً وآخراً إلى نبذ المنازعات والخصومات حتَّى يتماسك بناء المجتمع الإسلامي، ويعلو صرحه.
سورة الإسراء(17)(3/280)
قال الله تعالى: {يومَ ندعوا كلَّ أُناسٍ بِإِمامِهمْ فمن أُوتيَ كتابَهُ بيمينِهِ فأولئك يَقرؤونَ كتابَهم ولا يُظْلَمون فتيلاً(71) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرةِ أعمى وأضلُّ سبيلاً(72)}
ومضات:
ـ من الأهمِّية بمكان أن يفتِّش المؤمن لنفسه عن الأئمة الصالحين، والعلماء العاملين، الأتقياء الورعين، أصحاب العقول المتفتِّحة والبصائر النيِّرة، كي يستوعب منهم الإسلام النقي المصفَّى، ويرشف من قلوبهم كؤوس المحبَّة الإلهية، ويكونوا له شفعاء يوم القيامة بإذن الله.
ـ ما أحلى لحظة الحصاد وقطاف الثمار، وخاصَّة في مزرعة ربِّ العالمين، حيث دأب العبد في الحياة الدُّنيا، على الزرع فيها والغرس في رياضها، فإذا ما انتهى موسم الزرع وحان موعد الحصاد، عمَّت البشائر قلب كلِّ مؤمن حين يأخذ كتابه بيمينه، دليلاً على نجاحه وجنيِه لمحصول أعماله كاملاً غير منقوص، قال تعالى: {فأمَّا مَن أُوتيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ * فسوفَ يُحاسَبُ حِسَاباً يسيراً *ويَنْقَلِبُ إلى أَهلِهِ مسروراً}(84 الإنشقاق آية 7-9).
ـ حين تعمى البصيرة وينغلق القلب في الحياة الدُّنيا، ويُعْرِض المرء عن الأنوار القدسية، فإن روحه تبقى مظلمة عمياء في الدار الآخرة.
في رحاب الآيات:(3/281)
إن الإمام هو القدوة الصالحة وهو الَّذي تتبع نهجه في حياتك، وتأخذ عنه طرائق تفكيرك وسلوكك، وإن هذا السلوك هو عمل الإنسان الَّذي يسير أمامه يوم الدينونة الكبرى ليُحاسَبَ عليه. وفي كلِّ الأحوال ينبغي أن يتَّخذ المؤمن من شرع الله وتعاليمه إماماً له، وألا يعمى أو يتعامى عنها، وإلا فإنه سَيُسلب بصره يوم القيامة ليصبح أشدَّ ضلالة وأكثر عمى. والآيات الكريمة هنا تجسِّد مشهد الخلائق وقد حُشرت يوم القيامة، حيث تُنَادَى كلُّ جماعة بقدوتها وباسم المنهج الَّذي اتَّبعته، أو الرسول الَّذي أطاعته، أو الإمام الَّذي ائتمَّت به في الحياة الدُّنيا؛ تنادى ليُسَلَّم لها كتاب عملها وحصاد زرعها، فمن أوتي كتابه بيمينه، فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاَّه، ويوفَّى أجره لا يُنقَص منه شيءٌ، ولا يُظلَم مقدار ذرَّة ممَّا عمل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويُمَدُّ له في جسمه ستين ذراعاً، ويبيض وجهه، ويُجعَل على رأسه تاج من نور يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهمَّ ائتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، حتَّى يأتيهم فيقول: أبشروا... لكلِّ رجل منكم مثل هذا» (أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم وأبو يعلى الموصلي وذكره المنذري في الترغيب والترهيب وإسناده حسن). أما من كان في الدُّنيا لا يبصر سُبل الرشد، ولا يتأمَّل حجج الله وبيِّناته الَّتي وضعها في صحيفة الكون، ولا يمعن النظر فيها، فهو كالأعمى في الدُّنيا وهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً، لأن الروح الباقية بعد الموت هي الروح الَّتي كانت في الحياة الدُّنيا، حيث خرجت من قفص الجسد بجميع صفاتها وأخلاقها وأعمالها، فهي تتخبَّط في الظلمات في الدُّنيا والآخرة، ثمَّ تنال عقوبة تهاونها جزاءً وفاقاً.
سورة الحاقة(69)(3/282)
قال الله تعالى: {يومئذٍ تُعْرَضونَ لا تخفى منكم خافيَة(18) فأمَّا من أُوتيَ كتابَهُ بيمينِهِ فيقولُ هاؤمُ اقرَؤوا كتابيَهْ(19) إنِّي ظننتُ أنِّي مُلاق حسابِيَهْ(20) فهو في عيشةٍ راضيَة(21) في جنَّة عاليَة(22) قُطوفُها دانيَةٌ(23) كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفْتُم في الأيَّامِ الخاليَة(24) وأمَّا من أوتيَ كتابَهُ بِشمالِهِ فيقولُ ياليتني لم أُوتَ كتابِيَهْ(25) ولم أدْر ما حسابِيَهْ(26) ياليتها كانتِ القاضيَة(27) ما أغنى عنِّي مالِيَهْ(28) هلَكَ عنِّي سُلطانِيَهْ(29) خذوهُ فغلُّوه(30) ثمَّ الجحيمَ صلُّوه(31) ثمَّ في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعونَ ذِراعاً فاسلُكوه(32) إنَّه كان لا يؤمنُ بالله العظيم(33) ولا يحضُّ على طعامِ المسكين(34) فليس له اليومَ هاهنا حميم(35) ولا طعامٌ إلاَّ من غِسْلين(36) لا يأكلُهُ إلاَّ الخاطئون(37)}
ومضات:(3/283)
ـ بعد أن صوَّر القرآن الكريم مشاهد خراب هذا العالم المنظور، بدأ يعرض مشاهد متلاحقة عن حقائق يوم القيامة والحساب، فهناك مشهد حساب المؤمن وقد يُسِّرَتْ أموره في ذلك اليوم الرهيب، وامتلأ قلبه سروراً وحبوراً لأنه تلَّقى كتاب أعماله بيمينه نقياً مطهَّراً، وغفر الله تعالى له وتجاوز عن أخطائه الَّتي كان يتخوَّف من محاسبته عليها، ثمَّ يُدخَل جنَّة الرضوان؛ حيث النعيم المقيم مكافأة جزيلة له. وهناك مشهد حساب العاصي، وقد استلم صحيفته بشماله، كناية عن سوء ما فيها من العمل، وإيذاناً بمصير الخذلان والخسارة الَّذي سيلاقيه. وقد بدا على وجهه الهلع والذُّعر من عِظَم هول الحساب، ويتمنَّى لو أنه لم يُبعث أبداً، ثمَّ يأخذ بالتحسُّر والندم على ما قد ضيَّع، وقد بحث عن المال والجاه الَّذي كان له في الدُّنيا سلطاناً، فلم يجد منه شيئاً ينفعه في ذلك اليوم العصيب، وأصبح بمواجهة جهنَّم وبئس المصير، يُساق إليها بالذلِّ والخنوع، تقيِّده سلاسل من نار، عقاباً له على ما أسلف من الكفر والفسق والبخل، يطلب النجدة فلا يجد، ويجوع فلا يُمنح من الطعام إلا ما يزيد آلامه ويثير اشمئزازه.
في رحاب الآيات:(3/284)
من المشاهد المألوفة في حياتنا العامَّة، مرأى جموع الطلبة حين تُعلَن نتائج امتحاناتهم، فهذا مسرور يرقص طرباً، وذاك مكفهرُّ الوجه عابس، وآخر مجهشٌ بالبكاء، إنها اللحظات الَّتي يأخذ فيها كل ذي حقٍّ حقَّه حسب جِدِّه واجتهاده، فالناجح قد ربح سنة من سني حياته، والراسب قد خسر سنة من سني عمره، وفي النهاية فهي سنة، ولا تعدُّ خسارة فادحة في عمر الزمان. والمشهد ذاته يتكرَّر في ساحة العدل الإلهي، استعراض للأعمال، وأحكام تصدر، ولكنَّها تقرِّر مصير حياة أبديَّة فإمَّا نعيم خالد، وإمَّا عذاب أبدي، لذلك فإن شدَّة الفرح تختلف كثيراً هنا، كما أن شدَّة الألم تتعاظم وتتفاقم. في ذلك اليوم، الكلُّ مكشوف أمام الله، مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، وتسقط جميع الأستار الَّتي كانت تحجب الأسرار، وما أقسى الفضيحة على الملأ، وما أخزاها على عيون الجموع، أمَّا عين الله فكلُّ خافية مكشوفة لها في كلِّ آن. إن الإنسان ليصنع أشدَّ ممَّا تصنعه القوقعة الهلامية، حين تتعرَّض لوخزة إبرة فتنطوي سريعاً، وتنكمش وتنغلق على نفسها تماماً، فكيف بهذا المخلوق وهو عريان، عريان حقاً من كلِّ ساتر، كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟!(3/285)
بعدئذ يُعرَضُ مشهد الناجين ومشهد الهالكين، فكأنه ماثل للعيان؛ فهاهو ذا الفائز يوم القيامة، يقفز مهلِّلاً بين أقرانه، وهو ينادي بأعلى صوته وقد أخذته النشوة بالسرور الغامر حتَّى الثُّمالة، اقرؤوا نتائج أعمالي، لقد فزتُ، لقد نجوت، ويكاد يطير طيراناً إلى فراديس الخلد حيث النعيم والهناء، ولذائذ المسرَّات من مأكل ومشرب وحور عين، ثواباً وعطاءً من ربِّ العالمين، وتقديراً لما بذله من جهد وعناء وتضحية في سبيله في الحياة الدُّنيا. لقد أيقن بأنه سيلقى حسابه وجزاءه يوم القيامة، فأعدَّ له العدَّة من الإيمان والعمل الصالح، وقد حاسبه الله تعالى حساباً يسيراً، فالله عند ظنِّ العبد به، فهو في عيشة هنيئة مُرضيةٍ ـ يَرضى بها ـ خلود فلا موت، وصحَّة فلا مرض، ونعيم فلا بؤس. كلُّ ذلك في جنَّة رفيعة القدر، ذات ثمار دانية القطوف، يأخذ منها كما يريد، إن أحبَّ أن يقطفها بيده انقادت له، وهو قائم أو جالس أو مضطجع، وإن أحبَّ أن تدنو إلى فيه دنت. ثمَّ يقول له ربُّه جلَّ وعلا كُلْ واشرب بهناء وسلام وعافية من كلِّ أذىً ومكروه، ثواباً على ما أسلفت من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية.(3/286)
وأمَّا من أوتي كتابه بشماله، وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن إلى العذاب مصيره، فيقف في هذا اليوم الحافل الحاسر، وقفة المتحسِّر الكسير الكئيب، منظره يدمي القلوب، ويفجِّر الأسى من شدَّة لوعته وألمه، فهاهو ذا يندب اللحظات الَّتي وقف فيها للحساب متمنِّياً لو أنها لم تكن، ويندب أمواله الَّتي لم ينفقها في مرضاة الله، وسلطانه الَّذي لم يستعمله لإحقاق الحقِّ وإسعاد الخلق؛ ويقول: ياليت المِيْتَةَ الأولى الَّتي متُّها في الدُّنيا، كانت القاضية والقاطعة لحياتي، فلم أُبعث بعدها ولم أُعذَّب. وما هي إلا لحظات حتَّى يُكبَّل بالسلاسل والأغلال، ويُساق إلى سوء المصير، فقد كان يكفر بمثل هذا اليوم، وما قَدَرَ الله حقَّ قدرهِ، بل عاث في الأرض فساداً، فلا صديق اليوم يؤنسه، ولا طعام يقيم أوده، بل هو الموت الزُّؤام يصيبه في كلِّ لحظة، وفي كلِّ حين، وهذا العذاب لقاء ما جنته يداه، والله خير العادلين. وتجسيداً للموقف الرهيب، وإدخالاً للرعب في قلب هذا الطاغية، تذكر الآية أن طول السلسلة الَّتي يُقيَّد بها سبعون ذراعاً؛ وذراع واحدة من سلاسل النَّار تكفيه، ولكنَّ إيحاءً بالتطويل والتهويل يلوح من وراء لفظ السبعين، ولعلَّ هذا الإيحاء هو المقصود.(3/287)
لقد خلا قلبه من الإيمان بالله والرحمة بالعباد، فلم يعد هذا القلب يصلح إلا بهذه النَّار وهذا العذاب؛ خلا قلبه من الإيمان فهو أسوأ من الجماد، فحتَّى الجماد مؤمن يسبِّح بحمد ربِّه بطريقةٍ الله أعلمُ بها، موصول بمصدر وجوده، أمَّا هو فمقطوع عن الله، مقطوع عن الوجود المؤمن بالله، قد أورثه هذا الانقطاع قساوة القلب، فلم يكن يستشعر الرحمة بالمسكين، فلم يطعمه ولم يَحُضَّ على إطعامه، وهذا يوحي بأن هناك واجباً اجتماعياً ينبغي على المؤمنين أن يتحاضُّوا عليه، وهو تأمين احتياجات الفقراء والمعوزين، وهذا الواجب وثيق الصلة بالإيمان، ويليه في الميزان. ففي ذلك اليوم لا يجد الظالم له صديقاً يدفع عنه العذاب، ولا طعاماً إلا من صديد أهل النَّار الَّذي يسيل من جراحاتهم، لا يأكله إلا الآثمون المجرمون المرتكبون للخطايا والآثام.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {وكلَّ إنسان ألزمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشوراً(13) اقرأ كِتابَكَ كفى بِنفسِكَ اليومَ عليك حسيباً(14) من اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسْهِ ومن ضلَّ فإنَّما يضِلُّ عليها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وما كنَّا معذِّبينَ حتَّى نبعثَ رسولاً(15)}
ومضات:
ـ لكلِّ إنسان سجلُّ أعمال خاصٍّ به يُنشر له يوم الحساب، وقد دُوِّنت فيه سائر الأعمال الَّتي كسبها واكتسبها في الدُّنيا.
ـ نتائج الأعمال ملزمة للقائمين بها، ومسؤوليتها تقع على عواتقهم، فمن استقام على طريق الحقِّ فقد نفع نفسه، ومن حاد عنه بإرادته فقد أضرَّها وجعلها مستحقَّة لغضب الله تعالى وعذابه الأليم.
ـ لا تحمل نفس وزر نفس غيرها، بل كلٌّ يُسألُ عما جنته يداه فقط.
ـ لقد قضت سنَّة الله تعالى في خلقه، رحمةً منه وعدلاً، أن لا يعذِّب أُمَّة من الأمم حتَّى يبعث فيها رسولاً يدلُّها على طريق الله وشرعه القويم.
في رحاب الآيات:(3/288)
إذا كانت التقنيات الحديثة اليوم قد توصلت إلى اختزان معلومات واسعة، ضمن أقراص صغيرة جداً تسمى (ديسكات)، بحيث يمكن استخراج هذه المعلومات منها على جهاز الحاسوب خلال ثوان قليلة، فليس من المستغرب أن يكون الله تعالى ـ ربُّ العزَّة وخالق الأكوان ـ قد أوجد للإنسان مَخزناً وقُرْصاً، يحتفظ فيه بجميع أعماله وخواطره وعلاقاته مع الآخرين، وربَّما كان العقل البشري نموذجاً مُصغَّراً لهذه السجلات الربَّانية. ثمَّ تعمل الأجهزة الإلهية على نشر هذه المعلومات، صوتاً وصورة، يوم القيامة، ليشاهد الإنسان نفسه بنفسه، حيث لا مفرَّ من الحقائق المسجَّلة عليه. والغاية من تذكير العبد بقدرة الله عليه هي أن يراقب تصرَّفاته، ويحسِّن سلوكه نحو الأفضل والأقوم، فالمحاسبة الإلهية دقيقة للغاية بحيث لا تتداخل السيئات والحسنات، بل تُفرز الأعمال ثمَّ يثاب المرء على أعماله الصالحة أو يعاقب على تقصيره وإساءته، دون مواربة أو محاباة. أخرج ابن جرير عن الحسن رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: يابن آدم بسطنا لك صحيفة، ووُكِّل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك، فأمَّا الَّذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمَّا الَّذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلِل أو أكثِر، حتَّى إذا مِتَّ طُويتْ صحيفتك، فجُعلتْ في عنقك معك في قبرك حتَّى تخرجَ يوم القيامة، كتاباً تلقاه منشوراً، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً».
فكلُّ إنسان يحاسَبُ عن نفسه، وعمَّا اقترفت يداه، فمن اهتدى فثواب هدايته له، ومن ضلَّ فعقاب ضلاله عليه. ولا يُحاسب إنسان عن إنسان، ولا يحمل إنسان وزر إنسان، كما قال تعالى: {..ولا تزرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى..} (39 الزمر آية 7).(3/289)
والله تعالى لا يُهلك أبناء أُمَّة إلا بعد إنزال الرسالة إليهم وإنذارهم، وقد شاء برحمته الواسعة ألا يأخذ الإنسان بما جهله أو غاب عن إدراكه، إنما يرسل إليه الرسل معلِّمين ومنذرين ومذكِّرين، وهذا عدلٌ من الله أن يُنذر العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب، قال تعالى: {إنَّا أرسلنا نوحاً إلى قومِهِ أن أنذِرْ قومَكَ من قبلِ أن يأتِيَهُمْ عذابٌ أليم} (71 نوح آية 1)، وقال أيضاً مخاطباً الرسول محمَّداً صلى الله عليه وسلم : {وما أرسلناك إلاَّ كافَّةً للنَّاسِ بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون} (34 سبأ آية 28)، ويتبيَّن لنا من ذلك أن أعمال الإنسان مسجَّلة عليه، وسيحاسب عليها بدقَّة، وأنَّ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وأنَّ الله تعالى لا يحاسب النَّاس إلا بقدر ما يعطيهم من فرص العلم والمعرفة والتبليغ، فلا عقوبة على من لم يبلغه شرع الله وأوامره، ولا على من بلغتهم رسالة الإسلام بشكل مشوَّه وغير جلي. وهنا تكمن مسؤولية المسلم في الدعوة إلى الإسلام الكامل، بالقول الفاضل والعمل الأفضل، والَّتي عليه أن يتحمَّلها بكلِّ جدارة. إن أبناء البشرية اليوم إمَّا ضالٌّ أو مهتدٍ أو باحث عن الحقيقة، وتقع على عاتق هذا المهتدي مسؤولية دلالة أخيه على موارد الخير والسعادة الَّتي اهتدى إليها، فإذا فعل استحقَّ أجر عمله ومثل أجر عمل من هداه.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحاتِ يَهْديهِمْ ربُّهُم بإيمانِهِم تجري من تحتِهِمُ الأنهارُ في جنَّاتِ النَّعيم(9) دعواهُمْ فيها سبحانَكَ اللَّهمَّ وتحيَّتُهُم فيها سلامٌ وآخِرُ دعواهُمْ أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين(10)}
ومضات:(3/290)
ـ في ظلمات الحياة، يتعثَّر الإنسان بين الصخور والأشواك، ولابُدَّ له من نور يهديه سواء السبيل، ويجنِّبه العثرات والكبوات، وهذا النور لا يتولَّد إلا من اجتماع الإيمان الصادق العميق بالله، مع العمل المخلص والحكيم بتعاليمه الغرَّاء.
ـ المؤمن يعيش أبداً في رحاب السعادة، ورياض الطمأنينة، حياته تسبيح وعمله عبادة، وتوجُّهاته سلام، وسيلقى من ربِّه ما يعجز لسانه عن شكره وحمده عليه.
في رحاب الآيات:
خطَّان متوازيان ينتظمان مسيرة الإنسان في الأرض، فيمنعانه من الزلل، ويكوِّنان السياج الحصين الَّذي يأخذ بيده إذا تعثَّر، ويُنهضه إذا كبا، وينتشله إذا هوى في هُوَّة عميقة؛ إنهما الإيمان بالله والعمل الصالح، وجهان لعملة واحدة، فالأوَّل نور ويستقرُّ في القلب، والثاني عمل وأدواته الجوارح، ولا يُشيَّد الثاني إلا على قواعد الأوَّل. فمتى صلح القلب وانقدحت فيه شرارة الإيمان بدأ التوهُّج، وامتدَّت الشعلة لتحرق كلَّ الأهواء المتَّبعة من دون الله، فالقلب لا يستضيء إلا إذا احترق شوقاً وحُبّاً لحضرة الله، والحبُّ يثمر الامتثال لأوامر المحبوب، والالتزام بشريعته، وتنفيذ ما جاء به مهما جلَّ وعظم، ومهما دقَّ وصغر، فإذا تمَّ ذلك استقامت أعمال الإنسان لأنه مراقِبٌ لله، فلا تطيعه يده بإثم، ولا لسانه بفُحْش، ولا قلبه بخاطر سوء، ولا نفسه بوسواس رخيص، استوى ظاهره وباطنه واتجها معاً إلى خالق الوجود، طالبين منه التأييد والعصمة وصالح القول والعمل.(3/291)
إن هؤلاء الصفوة الأخيار لم يصلوا إلى تلك المكانة الرفيعة بمحض المصادفة، فالكثير من عوامِّ القلوب يظنُّون الهداية عشوائية، وكأنها ضربة حظٍّ تصيب من تصادفه في طريقها. لكنَّ الحقيقة غير ذلك، والآيات تؤكِّد أن الهداية تقتضي الإرادة والتصميم من جهة طالبها، والعمل الدؤوب، والجهاد الشاقَّ للهوى والشهوات. إنها قرار يتَّخذه، وبرنامج ينفِّذه، ودموع يسكبها، وإنابة يلتزمها، وخشوع وتضرُّع، وبذا تُفتَّح أبواب السماء أمامه نوراً وإرشاداً، وهي جنَّات في الحياة وبعد الممات، حيث يوفَّى المؤمنون أجورهم سريعاً، وتتنزَّل عليهم بركات من السماء، فيبارك الله لهم في أعمارهم وأرزاقهم وأهلهم، ويفجِّر ينابيع الحكمة من قلوبهم على ألسنتهم، فتراهم شمساً متوهِّجة تضيء ولا تحرق، ولهم في معادهم جنَّات النعيم مفتَّحة أبوابها، مضاءة قناديلها، تنتظرهم بشوق، فهي لم تخلق إلا لتكون لهم وطناً دائماً أبدياً خالداً. هؤلاء المؤمنون الشاكرون الصابرون في الحياة الدُّنيا، لن يفوتهم الثواب في الحياة الأخرى، فهم يتنعَّمون في جنَّات الخلد، ويحمدون الله على نعمه المتجدِّدة الَّتي لا تنفد. لقد توحَّدت همومهم واهتماماتهم وصبَّت في مجرى واحد، هو الرضا عن الله والشكر له في كلِّ حالاتهم، يسبِّحون الله تعالى ويقدِّسونه على جميل ثوابه وعظيم إحسانه، واللغة الَّتي تدور على ألسنتهم هي لغة ربَّانية تُشِعُّ بالسَّلام، فالله يُحيِّيهم عند لقائهم له: {تحيَّتُهُم يومَ يَلْقَوْنَهُ سلامٌ وأَعَدَّ لهمْ أجراً كريماً} (33 الأحزاب آية 44) والملائكة عند دخولهم الجنَّة يقولون لهم: {..سلامٌ عليكم طِبْتُم فادخلوها خالدين} (39 الزمر آية 73) وحوارهم بين بعضهم بعضاً ليس فيه لغو ولا كذب ولا تأثيم: {لا يسمعونَ فيها لغواً إلاَّ سلاماً ولهم رزقُهُم فيها بُكْرَةً وعَشيّاً} (19 مريم آية 62). فَأَكْرِمْ بها من جنان كلُّها تسبيح وتمجيد! كلُّها أُنس وسلام،(3/292)
محفوفة بأوراق الحمد مظلَّلة بعرش ربِّ العالمين! فقد كانوا في الدُّنيا يحمدون الله على آلائه ويَقبل منهم اليسير من الحمد، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله ليَرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها» (رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه ).
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {من جاءَ بالحسنةِ فلهُ عَشْرُ أمثالها ومن جاءَ بالسَّيِّئةِ فلا يُجزى إلاَّ مِثْلَها وهُم لا يُظْلَمون(160)}
ومضات:
ـ إن الله عزَّ وجل قد كتب على نفسه الرحمة، فتفضَّل على المحسنين من عباده بمحض الجود والكرم، وأنصف المسيئين منهم غاية الإنصاف والعدل ولم يظلمهم؛ فجعل جزاء السيئة سيئة مثلها، وأثاب على الحسنة أضعافاً مضاعفة.
في رحاب الآيات:
جُبلت النفس الإنسانية على حبِّ من أحسن إليها، والمزيد من الإحسان يزيل العداوة، بل يقلبها إلى محبَّة وتسامح، لذلك قال تعالى: {..ادفعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينَكَ وبينَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34) وما أمر الله عباده بالإحسان إلا لأنه صفة من صفاته، ولأنه يحبُّ من اتَّصف به: {..والله يحبُّ المحسنين} (3 آل عمران آية 134).
والإحسان الإلهي لا حدود له، ولا تقيِّده قيود، لكنَّه عزَّ وجل تكرَّم بتحديد الحدِّ الأدنى للحسنة فجعلهُ عشرة أمثالها، ليولِّدَ الحافز القويَّ في نفس الإنسان، ليتَّجه في طريق الخير والإنتاج. والسبب أن الحسنة بذرة تُزرع في تربة القلب الخصبة فتثمر وتعطي من حولها، ويستشعر صاحبها لذَّة العطاء، فتسعد روحه، ويفرح قلبه، يضاف إلى ذلك استشعاره رضا الله وحسن ثوابه، أمَّا السيِّئة فهي بذرة تُزرع في تربة النفس الأمَّارة بالسوء، وتستقرُّ داخلها مُحدِثةً، نكتة سوداء، كافية وحدها لتعذيب صاحبها وندمه.(3/293)
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلتُ: «يارسول الله، عَلِّمني عملاً يقرِّبني من الجنَّة ويباعدني من النَّار، قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها. قلت يارسول الله! لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات» (أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه)، وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزَّ وجل: من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأَزِيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أَغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثمَّ لقيني لا يشرك بي شيئاً، جعلت له مثلها مغفرة» (أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيِّئة فلا تكتبوها عليه حتَّى يعملها فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف» (رواه مسلم).(3/294)
ويمكن كسب الحسنات باليسير من العمل قال صلى الله عليه وسلم : «من عاد مريضاً أو أماط أذىً عن طريق، فحسنة بعشر أمثالها» (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه )، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن بكل تسبيحَةِ صدقة، وكلُّ تكبيرة صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» (رواه مسلم عن أبي ذررضي الله عنه ) والله تعالى أبعد ما يكون عن الظلم، فهو الرحمن الرحيم، فلا يمكن أن ينقص شيئاً من حقوق عباده. جاء في الحديث الشريف عن أبي ذر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: «ياعبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً، فلا تظالموا» (رواه مسلم). وهذا التظالم لا يمكن أن يُمحى بالاستغفار، إذا لم تُؤدَّ حقوق المظلومين المنتهكة، أو تُردَّ كرامتهم المهدورة..
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {وماذا عليهِمْ لو آمنوا بالله واليومِ الآخرِ وأنفقوا ممَّا رزقَهُم الله وكان الله بهم عليماً(39) إنَّ الله لا يظْلمُ مثقالَ ذرَّة وإن تَكُ حسنةً يُضاعِفْها ويُؤتِ من لدُنْهُ أجراً عظِيماً(40) فكيف إذا جئنا من كلِّ أمَّةٍ بشهِيدٍ وجئنا بكَ على هؤلاء شهيداً(41) يومئذٍ يَودُّ الَّذينَ كَفَروا وعَصَوا الرَّسولَ لو تُسوَّى بهمُ الأرضُ ولا يَكْتُمونَ الله حَدِيثاً(42)}
ومضات:
ـ لو آمن النَّاس بالله إيماناً صحيحاً، وأعدُّوا العُدَّة ليوم الحساب، وقدَّمُوا الغالي والنفيس في سبيله تعالى، لما فاتتهم منفعة الدُّنيا ولفازوا بسعادة الآخرة.
ـ حَسْبُ المؤمن شرفاً أن الله يطَّلع على إنفاقه في سبيله، ثمَّ يجزيه عليه أفضل الجزاء، علم النَّاس بذلك أم لم يعلموا.
ـ الجزاء من جنس العمل، ولا يُنقص الله تعالى أجرَ أحدٍ، ولو كان مثقال ذرَّة، ويزيد ويضاعف من فضله لمن يشاء بغير حساب.(3/295)
ـ يقوم الأنبياء والمرسلون والصالحون يوم القيامة بالشهادة على أقوامهم، فمن تَبِعَهم في الحياة الدُّنيا، كان معهم في الدار الآخرة، ومن عصاهم فله الخزي والندامة. يومها تتكشَّف الأمور وتتَّضح الحقائق ويتبيَّن للجميع أن الله حقٌّ، وأن ما وعد به صدق، ويتمنَّى الكافر لو كان ترابا، هرباً من مواجهة أعماله وتلقِّي نتائجها.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين المنطق السليم، لأن تعاليمه تتوافق مع العقل الناضج والَّذي يجد فيها إجابة عن كلِّ سؤال. والآية هنا تتوجَّه إلى الإنسان الواعي وتطرح عليه سؤالاً يحمل معنى الإنكار؛ فتسأله: ماذا يضيره؟ أو ما الضرر الَّذي سيلحق به لو أنه آمن بالله حقَّ الإيمان، وأنفق ممَّا رُزق في وجوه الإحسان؟! ولا شكَّ بأن الإجابة الضمنية سيُقرُّها بنفسه، وتكون نفياً قاطعاً لإصابته بأدنى ضرر إذا ما آمن واتَّقى، بل إنه سيكون الرابح السعيد، والمسعد للقريب والبعيد.
فمن عرف هذه الحقيقة وأدركها بقلبه فعليه أن يعيد حساباته، ويستقيم في حياته ليستدرك ما فات، وينجو من مناقشة الحساب فيما هو آت؛ لأن من نُوقش الحساب عُذِّب.(3/296)
وكم من عصاة أسرفوا على أنفسهم فأحاط بهم سيِّئات ما عملوا، فندموا أشدَّ الندم على ما فرَّطوا، ولات ساعة مندم. فلأمثال هؤلاء يُوجَّه الخطاب من الله تعالى: وماذا عليكم لو اتَّقيتم وأصلحتم أحوالكم قبل الندم؟ وهل من خزي أشدُّ وأنكى من الإقرار بالحقِّ لدى معاينة لحظات النزع الأخير؟. ولعلَّ أهم سبب في تقاعس المرء، عن سلوك طريق الإيمان، هو فقدانه للشعور بأن الله تعالى عليم به، ومطَّلع على أعماله، ولا يغيب عنه مثقال ذرَّة ممَّا ينفقه ويقدِّمه. ولو أن مثل هذا الشعور تحقَّق بشكل راسخ، لراقب تصرَّفاته وسلوكه، ولأدرك أهمية كلِّ عمل يقوم به لتغليب كفَّة الحسنات على كفَّة السيئات، وكفَّة البناء على كفَّة الهدم. شوهدت السيِّدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تتصدَّق مرَّة بحبَّة عنب، فاستقلَّها القوم وتساءلوا: حبَّة عنب؟ فأجابتهم: أو تدرون كم ذرَّة في حبَّة العنب هذه؟.
ومع أن الله تعالى لا يُنقص أجر أحد من عباده، ولو مثقال ذرَّة، فإنه يضاعف للمحسن حسناته، قال تعالى: {من ذا الَّذي يُقرِضُ الله قرضاً حسناً فيضاعِفَهُ له أضعافاً كثيرة..} (2 البقرة آية 245).(3/297)
والحساب والجزاء شيئان متلازمان يوم القيامة، ويجريان على مشهد من الرسل الَّذين جعلهم الله حجَّة على الخلق. فالرسول يشهد على أمَّته بأنه قد بلَّغها أوامر الله، ثمَّ تُعرض أعمال الأمم على أنبيائها وعلمائها وحكمائها، وتقارن مع تعاليمهم وتوجيهاتهم لكي تتضح المخالفات، وتُقرَّر العقوبات، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الأنبياء والرسل والمصلحين شاهداً أميناً لهذه المحاكمة الإلهية العادلة. وفي مثل هذه اللحظات الحرجة، حيث يشعر الإنسان المقصِّر بالخزي أمام الله عزَّ وجل، ويدرك أنه قد أساء حقاً إلى نفسه بإساءته إلى مخلوقات الله، يتمنَّى لو أن الأرض تميد به فيختفي من على ظهرها، أو أن ينحلَّ في تربتها ولا يبقى له أثر ولا ذكر، ولكن هيهات! فلا مفرَّ حينئذ من عذاب الله، ولابُدَّ من العقاب أو الثواب، وهذا قضاء ربِّ العالمين.
سورة النازعات(79)
قال الله تعالى: {فأمَّا من طغى(37) وآثرَ الحياةَ الدُّنيا(38) فإنَّ الجحيمَ هي المأوى(39) وأمَّا من خافَ مقامَ ربِّه ونهى النَّفسَ عن الهوى(40) فإنَّ الجنَّة هي المأوى(41)}
ومضات:
ـ يُشقُّ الطريق إلى جهنَّم بالطغيان الَّذي هو تجاوز الحدود والتعدِّي على الآخرين، وإيثار الحياة الدُّنيا على الآخرة، والاستسلام لشهوات المعاصي ولذَّاتها، والإعراض عن طاعة الله تعالى ومحبَّته.
ـ طريق الوصول إلى الجنَّة الخوف المبني على المحبَّة الحقيقية لله، وكبح جماح شهوات النفس والاستجابة لأوامر الله.
في رحاب الآيات:(3/298)
الطغيان هو تجاوز الحدود الشرعية والمعايير الأخلاقية الَّتي رسمتها الشرائع السماوية، أو فرضتها طبيعة التعامل بين النَّاس بعضهم مع بعض. والطاغية إنسان مستبدٌّ متسلِّط؛ لا يخشى الله في تصرَّفاته، ولا يراعي حقوق النَّاس وكراماتهم، همُّه الاستزادة من المتع والمال، قد آثر الحياة الدُّنيا على الآخرة، فعمل لها وحدها، ولم يحسب للآخرة حساباً. ومن كان هذا شأنه اختلَّت الموازين في يده، واختلَّت قواعد الشعور والسلوك في حياته، وغدا طاغياً باغياً متجاوزاً للحدود، تراكمت غيوم ذنوبه السوداء في ساحة قلبه، وغلَّفته بأُطُرٍ صلدة من القسوة والجبروت، فلا يجدي معه إلا المعالجة الموجعة لإزالة هذه التراكمات من أعماق نفسه، وإعادته إلى رحاب الفطرة النقية، ليصبح أهلاً للسجود على أعتاب الحضرة الإلهية، ونيل مغفرة الله ومحبَّته.
ولابُدَّ للمرء لكي ينضبط سلوكه وتتَّزن تصرَّفاته، من خوف من الله ينغرس في أعماقه، ويلجمه عن تجاوز الحدود أو الإساءة للآخرين، كما هو شأن الأنظمة الدنيوية مع الأفراد، فكلَّما ازداد خوفهم من هيبتها وقوَّتها، كلمَّا التزموا بها، وحرصوا على تطبيق قوانينها. وهذا الخوف لا يمكن أن يتحقَّق إذا لم نعرف ممَّن يجب أن نخاف، ونعرف مدى عظمته وقدرته على صيانة قوانينه، ومعاقبته على الإخلال بها، وهكذا فإننا كلمَّا ازددنا معرفة بالله تعالى ومحبَّة له، كلمَّا ازداد خوفنا منه، وأحجمنا عن مخالفة أوامره أو معصيته. فالَّذي يخاف مقام ربِّه لا يُقدم على معصية، فإذا أقدم عليها، بحكم ضعفه البشري، قاده خوفه من هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، وعاد إلى دائرة الطاعة.(3/299)
ونَهْيُ النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القويُّ لكلِّ طغيان، وهو أساس البلوى وينبوع الشرِّ، وقلَّ أن يجنح الإنسان إلا بدافع الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكنَّ الهوى بعد العلم هو آفة النفس، الَّتي تحتاج إلى جهد شاقٍّ طويل الأمد لعلاجها.
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام تيارات الهوى العنيفة، الَّتي لا يثبت أمامها غير هذا الحاجز. على أن الله تعالى لم يكلِّف الإنسان أن يعصم نفسه من الهوى، فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته، ولكن كلَّفه أن ينهاها، ويكبحها ويمسك بزمامها، إن هي انساقت مع الهوى، وأن يستعين على هذا بالخوف من مقام ربِّه الجليل، العظيم، المهيب، الَّذي يكتب له بهذا الجهاد الشَّاق ثواباً عظيماً هو الجنَّة. ويحقُّ لهذا العبد المحبِّ الخائف، أن ينال الحظوة والقربى من الله تعالى، ويدخل فراديس الله، وتكون له عقبى الدار.
إذن بقدر معرفة عظمة الخالق وقدرته، بقدر ما نهابه ونخشاه عزَّ وجل، ونلتزم حدود الأدب والإخلاص، والمكافأة عظيمة في الدُّنيا والآخرة بإذن الله، ولذلك قال تعالى: {وأمَّا من خافَ مقامَ ربِّه ونهى النَّفْسَ عن الهوى * فإنَّ الجنَّة هي المأوى} فالخطوة الأولى لنهي النفس عن الهوى هي التعرُّف إلى الله عزَّ وجل، بالعلم والتفقُّه والدراسة المستفيضة لكتابه الكريم، أمَّا الخطوة الثانية فهي الاستعانة بهذه المعرفة على مكابدة النفس ووضعها على المسار الصحيح.
سورة الليل(92)
قال الله تعالى: {واللَّيلِ إذا يَغْشى(1) والنَّهارِ إذا تجلَّى(2) وما خلَقَ الذَّكر والأُنثى(3) إنَّ سَعْيَكُم لشتَّى(4) فأمَّا من أعطى واتَّقى(5) وصدَّقَ بالحُسنى(6) فسنيسِّرُهُ لليُسرى(7) وأمَّا من بَخِلَ واستغْنى(8) وكذَّبَ بالحُسنى(9) فسنيسِّرُهُ للعُسرى(10) وما يُغني عنه مالُهُ إذا تَرَدَّى(11) إنَّ علينا لَلْهُدى(12) وإنَّ لنا للآخرةَ والأُولى(13)}
ومضات:(3/300)
ـ آيات كريمة جزلة كمثيلاتها من السور المكِّية، تزرع جذور العقيدة في أعماق نفس المسلم.
ـ يقسم الله تعالى بتوالي الليل والنهار، وبخلقه للذكر والأنثى، وبما يوحيه هذا الخَلْق من معجزة استمرار الحياة وفق الموازين الدقيقة، ليؤكِّد بهذا القسم الجليل أن سعي الإنسان مختلف في كسب الثواب والعقاب.
ـ إن كلَّ من تصدَّق واتَّقى، وصدَّق بما آتاه الله من رسالات السماء، فطريقه ميسَّرة آمنة، ومن بخل بماله، وأعرض عن خدمة مجتمعه، وكذَّب برسالات السماء، فطريقه مسدودة معسَّرة وشاقَّة، ولن ينجيه ماله من التردِّي في هاوية الخذلان.
ـ من يُقبل على الله تعالى يهديه الله، وكما خلقه أول مرَّة فإنه سيبعثه مرَّة أخرى، وإليه النشور.
في رحاب الآيات:
يقسم الله سبحانه بهاتين الآيتين من آياته الجليلة الليل والنهار، مع صفة كلٍّ منهما، الليل حين يغشى البسيطة ويغمرها ويخفيها، والنهار حين يتجلَّى ويظهر، فيظهر في تجلِّيه كلُّ شيء ويُسفر، وهما أوانان متقابلان في دورة الفلك، ومتقابلان في الخصائص والآثار.(3/301)
كذلك يقسم الله تعالى بخلقه الأنواع جنسين متقابلين: الذكر والأنثى من ماء واحد، وفي هذا دليل على أنه عليم كلَّ العلم بدقائق المادَّة وما فيها، إذ لا يعقل أن يكون هذا الاختلاف بين الذكر والأنثى، بمحض الاتفاق، من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، لأن الأجزاء الأصلية في المادَّة متساوية النسبة فيهما، وحدوث هذا التخالف في الأجنَّة دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع. وما بين تقلُّب الليل والنهار، تبقى حركة الحياة نشيطة مستمرَّة على مدار الزمن، ويبقى الإنسان هو العمود الفقري لهذه الحركة، قائماً بخلافته على الأرض، حاملاً للأمانة الَّتي أوكلت إليه. والله تعالى يقسم بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون والنَّاس، على أن سعي النَّاس مختلف، وطرقهم شتَّى، ومن ثمَّ فجزاؤهم مختلف كذلك، فليس الخير كالشرِّ، وليس الهدى كالضلال، وليس من صدَّق وآمن كمن كذَّب وتولَّى، وأن لكلٍّ طريقاً، ولكلٍّ مصيراً، ولكلٍّ جزاءً وفاقاً.(3/302)
فمن رعى الأمانة، وسعى لها سعيها بهمَّة وإيمان، فبذل الغالي والنفيس، وقدَّم لمجتمعه كلَّ جهده وطاقاته واتَّقى الله في محارمه، وكبح جماح نفسه عن شهواتها، فإن سُبُلَه ممهَّدة، وعسيرَه ميسَّر، وهو في كنف الله تعالى ورضاه، وفي أمنه وحماه. وأمَّا من تسلَّط عليه حبُّ الذَّات، واستولى على قلبه حبُّ الدُّنيا، فأعمى بصره وبصيرته، فهو في تردٍّ وسقوط، وما ينفعه في مثل هذه اللحظات مال ولا جاه ولا بنون. وأيُّ شيء يغني عنه ماله الَّذي بخل به على النَّاس، ولم ينفقه في المصالح العامَّة، وفيما يعود نفعه على المجتمع، ولم يصطحب منه شيئاً إلى آخرته؟ وماذا ينفعه المال إذا هلك وهوى في نار جهنَّم؟. لقد خلق الله تعالى الإنسان وألهمه التمييز بين الحقِّ والباطل، وبين الخير والشرِّ، ثمَّ بعث له الأنبياء، وشرَّع لهم الأحكام، ثمَّ هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين، فالسعيد يختار سبيل الخير والفلاح فينجو، والشقيُّ يختار السبيل المُعْوجَّ فيتردَّى في الهاوية. وإنما الله هو المالك لكلِّ ما في الدُّنيا وكلِّ ما في الآخرة، فيهب ما يشاء لمن يريد، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها، ومن طلب الدُّنيا والآخرة من غير الله فقد أخطأ الطريق. أخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل النَّار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الَّذي لا يعمل لله بطاعة، ولا يترك لله معصية».
الفصل الرابع:
وفاء الأجور على الأعمال
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ألا إنَّ أولياءَ الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون(62) الَّذين آمنوا وكانوا يتَّقون(63) لهم البُشرى في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ لا تبْديلَ لكلماتِ الله ذلك هو الفوزُ العظيم(64)}
ومضات:
ـ كلَّما ازداد المؤمن رُقيّاً في سلوكه وقُرْبِهِ من حضرة الله، زاده الله شمولاً بعنايته ورعايته وحسن توفيقه.(3/303)
ـ البشائر الإلهية والمِنح الربانيَّة تتنزَّل على أولياء الله، في الدُّنيا قبل الآخرة، وفي الحياة قبل الممات، فإن شعر المؤمن بنقص عطاء الله، فليفتِّش في دخائل نفسه وليحاسب ذاته، فإن المستقيم على طريق الله يكون في زيادة من فضل الله من غير نقصان، وهذا قانون الله ولا مبدِّل لقوانينه.
في رحاب الآيات:
أولياء الله هم الَّذين تولَّوا تنفيذ تعاليمه بدقَّة وأمانة واندفاع في أنفسهم، وفيمن تولَّوا رعايتهم، يتقرَّبون إليه تعالى بالطاعة والتفكُّر، وهم يرون عياناً دلائل قدرته تملأ الكون، فلا يسمعون إلا كلامه، ولا يتحرَّكون إلا في خدمته، ولا يَجهَدون إلا في طاعته. روى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: «مَنْ أولياء الله؟ فقال: الَّذين يُذكر الله برؤيتهم» (أخرجه أحمد ابن حنبل وأبو نعيم في الحلية)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي، اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من عباد الله ناساً يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم يارسول الله؟ قال: قوم تحابُّوا في الله من غير أموال ولا أنساب، لا يفزعون إذا فزع النَّاس، ولا يحزنون إذا حزنوا، ثمَّ تلا صلى الله عليه وسلم : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}» (أخرجه أبو داود وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه ).(3/304)
وهؤلاء لا يخافون من غوائل الدهر، لأن عناية الرحمن تحفُّ بهم، وأنظاره الخفية تحرسهم ليل نهار، فقد آمنوا الإيمان الصادق واتَّقَوا كلَّ مفسدة، فترى البشائر السماوية تتنزَّل عليهم في الدُّنيا، ويتجلَّى ذلك في وجوههم المشرقة المستبشرة الَّتي تطفح بالرضا والسعادة، كما يتجلَّى في الثناء الحسن، والذكر الجميل، ومحبَّة النَّاس لهم، قال صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى: حقَّت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وحقَّت للمتزاورين فيَّ، وحقَّت للمتجالسين فيَّ، الَّذين يعمرون مساجدي بذكري ويعلِّمون النَّاس الخير ويدعونهم إلى طاعتي، أولئك أوليائي الَّذين أُظلُّهم في ظلِّ عرشي، وأسكنهم في جواري، وآمَنُهُم من عذابي، وأُدخلهم الجنَّة قبل النَّاس بخمسمائة عام، يتنعَّمون فيها وهم خالدون» (أخرجه أحمد وابن حبان وأبو نعيم في الحلية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت). وإن لهم البشرى في الآخرة، حيث تتلقَّاهم الملائكة مبشِّرين لهم بالفوز والكرامة والجنَّة كما ورد في الآية الكريمة: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنَزَّلُ عليهِمُ الملائكةُ ألاَّ تخافوا ولا تحزَنوا وأَبْشروا بالجنَّة الَّتي كنتم تُوعَدون * نحن أولياؤكُم في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتَهي أنفسُكُم ولكم فيها ما تدَّعون * نُزُلاً من غفورٍ رحيم} (41 فصلت آية 30ـ32) وهذا عهد من الله لعباده المؤمنين، ولن يُخلف الله وعده، فمن يفعل الخير لا يعدم ثوابه وذلك هو الفوز العظيم.
سورة الشورى(42)
قال الله تعالى: {ذلك الَّذي يُبَشِّرُ الله عبادَهُ الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ قلْ لا أسئلُكُم عليه أجراً إلاَّ المَوَدَّةَ في القُربى ومن يقتَرفْ حسنةً نزِدْ له فيها حُسْناً إنَّ الله غفورٌ شكور(23)}
ومضات:(3/305)
ـ يبشِّر الله تعالى عباده المؤمنين، الَّذين جُبلت أرواحهم على محبَّته واتِّباع تعاليمه، بجنَّات الخلد والنعيم المقيم.
ـ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر لقاء تبليغه رسالة السماء، أن يكافئه النَّاس، أو أن يحقِّق لنفسه ربحاً أو مكسباً شخصياً، إنما كان همَّه بثُّ الوُدِّ في الأنفس وزرع المحبَّة في القلوب، وتقارب النَّاس بالإيمان وروابطه.
ـ يضاعف الله تعالى الثواب للمحسنين تشجيعاً لهم لزيادة إحسانهم، وشدّاً لعزائمهم، ويغفر ويتجاوز عما لا يقدرون عليه، ويشكر لهم ما يقومون به من عمل الخير والتعاون الإنساني.
في رحاب الآيات:
ترسم الآية الكريمة المسار الصحيح لكلِّ من يقوم بالدعوة والإرشاد، كي تجعل غايته الوحيدة من تبليغ هذا الدِّين القويم هي مرضاة الله، والعمل على ربط القلوب بمحبَّة الله تعالى، وتواددها لنشر العلم والأخلاق بين النَّاس أجمعين، أمَّا ما عدا ذلك من زخارف الدُّنيا وحُطامها فلا وجود لها في نيَّة الداعي إلى الله تعالى. وفي هذه الآية تتجلَّى لنا مهمة الداعي إلى الله بشكلها الصحيح، في توجيه الله جلَّ وعلا لرسوله الكريم، حين يأمره أن يبيِّن لقومه أنه يعمل لله ولا يريد منهم شيئاً من الأجر والمال، لقاء تبليغ الرسالة، وكلُّ ما يطلبه منهم بادئ الأمر أن يحفظوا حقَّ ذوي القربى، وأن يوادُّوا الله بتقرُّبهم إليه بالطاعة والعمل الصالح. أخرج الترمذي وحسَّنه والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَحِبُّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبُّوني لحبِّ الله إياي، وأحبُّوا أهل بيتي لحبِّي».(3/306)
ومنذ بزوغ فجر الإسلام وحتَّى اليوم، ظهر الكثير من العلماء الأفاضل ممن أدلَوا بدلوهم في دراسة الإسلام وفهمه، ومن ثمَّ تدريسه وتعريف عامَّة النَّاس به. ومن هؤلاء العلماء من جمع بين العلم والتجارة، فاشتُهِر بعلمه وثروته، ومنهم من أنفق كلَّ ما كسبت يداه في تشجيع طلب العلم والتعلُّم، ومنهم من عاش وَرِعاً بعيداً عن الدُّنيا، مقتنعاً بالقليل، على الرُّغم من حاجته وقلَّة ذات يده. وقد اختلف النَّاس في تقييم العلماء حسب غناهم وفقرهم، فبعضهم يغالي ويبالغ رافضاً مجرَّد السماع لعلم العالم، إذا كان غنياً، بغضِّ النظر عن ثراء فكره وغنى معلوماته. ومنهم من تحرَّر من هذه النظرة الساذجة فراح يتلمَّس العلم والحكمة والتُقى، فحيث وجد ذلك حطَّ رحاله، لأن الحكمة ضالَّة المؤمن وحيثما وجدها أخذ بها.
فالعلاقة بين الداعي إلى الله وبين من يدعوهم، هي علاقة روحية قبل كلِّ شيء، ومهمَّته أن يقرِّب المسافة بينهم وبين شرع خالقهم، لينالوا الخير والنعيم، والرضا والقرب، من ربِّهم العظيم. ولكنَّ هذا لا يمنع أن يقبل الداعية هدايا النَّاس وأعطياتهم تقديراً لعلمه وجهوده الخيِّرة، ولو كان ذا سعة ويسار، فله أن يقبل ما يهدى إليه، وأن يتصرَّف فيه بما يُرضي الله عنه. ويستحسن للعالم المتخصِّص بالمواضيع الإرثية وخلافها، أن يتقاضى أجراً على حلِّ المشاكل الَّتي تُطرح عليه، لأجل تصفية التركات، أو الأوقاف الذريَّة لما في ذلك من مشقَّة وجُهد، عليه أن يبذله لإيصال الحقوق لأصحابها.(3/307)
ومع ذلك فإننا نجد في عصرنا الحاضر ـ عصر التخصُّص في العلوم ـ أنَّ المحامي يتقاضى رسوماً عن استشارته، وكذلك الطبيب والمهندس وغيرهم من أصحاب المهن والحرف، بينما نجد النَّاس يطرقون أبواب العلماء، الَّذين يصرفون كلَّ وقتهم وجهدهم في طلب العلم ـ ومنهم من يكون محتاجاً ـ ويسألونهم ويستفتونهم، ويُمضون معهم الساعات لأخذ أجوبتهم، ثمَّ لا يقدِّمون لهم سوى كلمات المجاملة والشكر، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين كلَّ خير؛ دون النظر في أحوال معيشتهم، أو دراسة احتياجاتهم الدنيوية. لذا كان لابُدَّ من إنصاف هؤلاء العلماء من قبل هؤلاء العوامِّ من النَّاس ـ عوامِّ العقل وأشحَّاء الأيدي ـ وأقلُّ الإنصاف هو تقويم الوقت الَّذي يهبونه إليهم، فلا يهدرونه ولا يصرفونه سدى دون قيمة. فمن لم يشكر النَّاس لم يشكر الله، والله شكور لا يجحد عمل عباده المحسنين، بل يعطيهم أجرهم كاملاً، ويضاعفه لهم، بأن يغفر لهم سيئاتهم، ويزيد لهم في حسناتهم، ويشكر لهم إحسانهم فهو الغفور الشكور. والحياة الدُّنيا لها متطلَّباتها وحوائجها ونفقاتها، وليس من عادة الله أن ينزل المال اللازم مطراً من السماء، بل العباد يرزق بعضهم بعضاً بإذن الله، ولو بقي المجتمع كما هو الآن متنكِّراً لحقِّ هؤلاء في الدخل المجزي والعيش الكريم، لأوشك أن يأتي على النَّاس يوم لا يجدون فيه من يفتيهم في شيء، ولو عومل الأطباء أو المهندسون أو المحامون أو غيرهم من أصحاب الاختصاص هذه المعاملة، لبطلت تلك الحرف وتعطَّلت تلك المصالح.
سورة النور(24)(3/308)
قال الله تعالى: {والَّذين كفروا أعمالُهُم كسرابٍ بِقِيعَةٍ يحسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَهُ لم يجدْهُ شيئاً ووجدَ الله عندَهُ فوفَّاهُ حسابَهُ والله سريعُ الحساب(39) أو كظلُماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقِهِ موجٌ من فوقِهِ سحابٌ ظلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ إذا أخرجَ يدَهُ لم يكدْ يراها ومن لم يجعلِ الله له نوراً فما له من نور(40)}
ومضات:
ـ إن الله تعالى عادل لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فالمؤمن بالله المتمسِّك بتعاليمه، المواسي للفقراء بماله وجهده، امتثالاً لأمر الله، سينال الأجر العظيم أضعافاً مضاعفة في الدار الآخرة. أمَّا غير المؤمن والَّذي لا يرجو ثواب الآخرة لأنه ليس مؤمناً بها، فإن حدث أن أسدى إلى أحد معروفاً أو قدَّم لفقير مساعدة، فإن الله عزَّ وجل لا يضيع له ذلك الخير، بل يكافئه عليه في دار الدُّنيا، وليس له في الآخرة من نصيب.
ـ الغاية من التعاليم السماوية هي جمع النَّاس على عبادة الله الواحد الأحد، في سبيل تكوين مجتمع موَّحِد متراحم مترابط، لا انحراف فيه ولا خلل. ولما كان عمل الكافر خالياً عن هذه الضوابط، ويأتي بتصرُّف عشوائي، إذ لا تعاليم شرعية تلزمه، ولا عواطف روحية نورانية تحرِّكه، فيكون كالموجة الَّتي تسير دون هدف، لذلك وجب تهذيبه وضبط دوافعه ضمن دائرة الإيمان بالله، حتَّى لا يتخبَّط في ظلام الهوى والرغبات فتضيع ثمرات عمله.
في رحاب الآيات:(3/309)
ما أصعب أن يقطع المسافر أشواطاً طويلة من رحلته، ليكتشف فجأة أنه قد أخطأ الطريق، وأنَّ عليه أن يعود إلى نقطة البداية ويعاود السير في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك فإن وضعه أيسر وأسهل ممن يخطئ الطريق في رحلة الحياة، إذ أن هذه الرحلة إذا بلغت نهايتها، فلا رجوع فيها ولا عودة للوراء، وحين يكتشف المرء أنه قد ضلَّ الطريق، يكون قد دخل في دائرة الحساب الإلهي، وانحبس في إسارها. وهنا تبرز أهميَّة دور الأنبياء والرسل والمصلحين والهُداة، فهم رحمة إلهية مهداة للناس الَّذين يقفون على مفارق طرق الحياة، فيرشدونهم إلى الاتجاه الصحيح. فمن وعى كلامهم وعمل بإرشاداتهم فقد سعد وأسعد، ومن أعرض ونأى بجانبه، يجد أن ما جرى وراءه طوال حياته، ما هو إلا سراب لا يروي ظمأً، ولا يشفي غليلاً!.
والمؤمن يتمتَّع بوضوح الرؤية في مسيرة الحياة، ويعرف الهدف الَّذي يصبو إليه، بل هو قادر على تعريف الآخرين وتبصيرهم بحقائق العلوم الإلهية، الَّتي جاء بها رسل الله عليهم السَّلام، وإرشادهم إلى دائرة المعارف الربَّانية. بينما الجاحد لطريق الإيمان العقلاني يتخبَّط في متاهات الحياة، وكأنَّ به مسّاً من الجنون، أو كأنَّه غريق تتقاذفه أمواج الضلال وظلماته، لا منارة تهديه سواء السبيل، ولا بصيص أمل ينقذه من الضياع والإحباط الَّذي هو واقع فيه.(3/310)
إن التعبير القرآني في هذه الآيات المباركة يمثِّل حال الكافرين في هذه الدُّنيا، ومآلهم في الدار الآخرة، بمشهدين حافلين بالحركة والحياة. ففي المشهد الأول يصوِّر أعمالهم في الدعوة إلى كفرهم كسراب في فلاة يلمع لمعاناً كاذباً، يراه الظمآن فيحسبه مورد ماء، فيُسرع الخُطى نحوه، وكلُّه ثقة أنه عثر على ضالَّته المنشودة، الماء الَّذي يروي ظمأه الشديد، وما أن يبلغ ذلك المكان، حتَّى تنكشف له الحقيقة، ويعلم أنه كان واقعاً في خداع النظر، فهو أمام سراب كاذب وليس أمام مورد ماء نمير يطفئ عطشه، وما أيسرها من نتيجة، نتيجة ذلك المخدوع بالسراب، إذا ما قيست بنتيجة المخدوع بزخارف هذه الحياة الدُّنيا وزينتها، فأعماه ذلك عن حقائق الدار الآخرة، وعندما يأتيه الموت يجد نفسه وجهاً لوجه أمام حساب الله وعذابه، وهو مستحقٌّ ذلك، لأنه كفر بالله تعالى وجحد وجوده وخاصمه، وتنكَّر لرسله الَّذين حملوا له رسالة الهداية والإنقاذ، لكنَّه أعرض عنهم ووقف في طريقهم، وآثر الفانية الخدَّاعة على الباقية الَّتي يستحقُّها بالإيمان والعمل الصالح.
إن هذا المخدوع سيؤول إلى موقف يدعو إلى الشفقة، لو أنه فوجئ بعد الموت، بعدوٍّ بشريٍّ لم يستعدَّ لملاقاته، فكيف يكون حاله والواقع أنه سيفاجأ بلقاء الله، المنتقم الجبَّار، وهو في أشدِّ الغضب عليه، إنه الهلاك الحقيقي والخسارة الكبرى الَّتي لا تُعوَّض. فما أحوج الإنسان إلى أن يُعرِض عن هذا السراب الكاذب، ويتتبَّع الحقائق، ويتلمَّس سبل النجاة الحقيقية، باتِّباع الهداة المهديين، والإعراض عن كلِّ ما يشغله عن ذلك أو يصرفه عن الصراط المستقيم، قبل أن يفوت الوقت، ويصل المخطئ إلى مرحلة اللاعودة، فيندم حين لا ينفع الندم قال تعالى: {وقدِمْنا إلى ما عمِلوا من عملٍ فجعلناهُ هَباءً منثوراً} (25 الفرقان آية 23).(3/311)
إن هذا المثال مثالٌ لذوي الجهل المُرَّكب من الكفرة، أمَّا أصحاب الجهل البسيط، وهم الحمقى المقلِّدون لأئمَّة الكفر، فمثلهم كما قال تعالى: {أو كظُلُماتٍ في بحرٍ لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقِهِ موجٌ من فوقِهِ سحابٌ ظُلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ إذا أخرَجَ يدهُ لم يكد يراها ومن لم يجعلِ الله له نوراً فما له من نور}.
فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلِّد، الَّذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، إنه يعيش في ظلمات الكفر والجهل والتبعية العمياء، وحاله كحال من كان في بحر محيط متلاطم الأمواج، موج في الظاهر وموج في باطن الماء، وفوق كلِّ ذلك سحاب قاتم أسود يحجب ضوء الشمس أو القمر والنجوم، فأنَّى لهذا أن يبصر؟ وكذلك أنَّى لذلك الجاهل أن يهتدي؟. والهداية الحقيقية من الله تعالى، فمن سلك سبيل الهُداة هداه الله، ومن سلك سبيل الغُواة أغواه الله، ومردُّ الأمر كلِّه إلى الله العلي العزيز، فمن كان أهلاً لأن ينير الله طريقه أناره أمامه، ومن لم يكن أهلاً لذلك، فلا يزال غارقاً في الظلام، حتَّى يوافيه الأجل، ليكون من الخاسرين الخسران المبين.
إن قلب الكافر الغارق في الظلام، بعيد عن نور الله المنتشر في هذا الكون الفسيح، وإن سلوكه ضلال واضح لا يرى فيه القلب أدنى علامات الهدى، وإن البعيد عن الله يعيش في ظلمات ثلاث، ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وقال ابن عباس رضي الله عنه : (هي ظلمة قلبه وبصره وسمعه).
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {قلْ هل نُنَبِّئُكم بالأخسَرينَ أعمالاً(103) الَّذين ضلَّ سعْيُهم في الحياةِ الدُّنيا وهم يحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعاً(104)}
ومضات:(3/312)
ـ إذا قاد الربَّان سفينته في عُباب البحر دون بوصلة، تحدِّد له خطَّ سيره الَّذي يريده، واعتمد في ذلك على ذكائه واعتقاده فقط، فإنه على الأغلب سيضلُّ الطريق، ثمَّ يكتشف خطأه بعد فوات الأوان، عندها سيصاب بخيبة الأمل والندم والخسران. وكذلك هي رحلة الحياة، فإذا خضنا غمارها دون دليل ربَّاني فسوف نتيه، أو تعصف بنا ريحها أو نصطدم بصخورها. وإذا كان لنا في رحلة السفينة عودةٌ واستدراكٌ، فإننا لا نملك بعد انقضاء رحلة العمر، عودة عن الخطأ والتقصير، بعد أن فارقت الروح الجسد، وهنا تكمن الخسارة الحقيقية.
في رحاب الآيات:(3/313)
كثيراً ما نصادف في الحياة نماذج من النَّاس يدَّعون الصلاح والتُّقى، وقد رَكِبَهم الغرور فأخذوا يطلقون الأحكام جُزافاً، فترى أحدهم يدَّعي الإيمان والاستقامة، وكأنه قد استوثق من تقبُّل الله لعمله، وحجز مكانه في الجنَّة. ولو دقَّقت في سلوكه لرأيت العجب العُجاب، فقد يكون محسناً من ناحية، مسيئاً من نواح عديدة، ومع ذلك فإنه يرفع شعار التمسُّك والتشدُّد، وربَّما التطرُّف، ويحصر الإيمان في دوائر ضيقة للغاية، بينما للإيمان الحقيقي باب واسع عريض، يستطيع دخوله من أراد، بشرط أن يكون ممن فقهوا تعاليم الدين الحقيقي، وألزموا أنفسهم بتطبيقها. فالإيمان كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه )، إن هذا الحديث وأمثاله يؤكد على أن الإيمان سلسلة ذات حلقات كثيرة، كلُّ حلقة منها تمثِّل جانباً هامّاً من تعاليم هذا الدين الحنيف، وتبدأ هذه السلسلة بالحلقة الأولى والأهم، وهي الإقرار والإذعان بأنه لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وآخرها إزالة الأذى والعقبات من طريق النَّاس. إنهما طرفا سلسلة، الأوَّل يحدِّد علاقة المخلوق بالخالق، ويحصرها في كلمة التَّوحيد وما يتبعها من التزامات تجاه الخالق عزَّ وجل، والآخر يحدِّد علاقة المخلوق بالمخلوق، ويحصرها في تقديم النفع وإبعاد الضرر عن النَّاس مهما كان خفيفاً، ولو تمثَّل بإزالة عقبة من عقبات الطريق، وبين هذين القطبين تندرج شُعب الإيمان البضع والسبعون. فاسأل نفسك أيها الإنسان هل تخلَّقت ولو بشُعبة واحدة من شعب الإيمان؟ وهل يعقل أن يتقبَّل الله عمل إنسان ألغى من تصوُّره وحدانية الله، وعبد من دونه أو معه ما عبد من المعبودات، وأشرك معه ما أشرك من الآلهة؟. وهل يعقل أن يتقبَّل الله عمل إنسان يؤذي(3/314)
جيرانه وأهله، أو يسيء صُحبة أبويه، أو يُهمل حقوق زوجته وأولاده، أو يحصل على أمواله من مصادر الحرام، ثمَّ تراه بين النَّاس صوَّاماً قوَّاماً؟! إن شرط الإيمان أن يُحسن الإنسان لأخيه الإنسان قَرُب منه أم بَعُد، فهل المخالِفُ ممَّن يحسنون صنعاً؟!.
إن المخطئ الَّذي يظنُّ نفسه أنه على صواب لا يستطيع تقويم عمله، بل لا يمكنه ذلك وهو يقلِّل من أهميَّة الخطأ ويتمادى فيه. ولعل المعيار أو الميزان الَّذي يحدِّد، قبول عمل الإنسان من قِبل خالقه، يكمن فيما يلي:
1 ـ أن يعتقد جازماً أنه بشر، وأنه عُرضة للخطأ والصواب.
2 ـ أن يتمسَّك بالمشاورة والتشاور قبل العمل.
3 ـ أن يطلب من أناس خبراء مخلصين تقويم عمله بشكل دوري، وأن يسمع آراءهم بقبول وتفهُّم.
4 ـ أن يلتزم بتطبيق تعاليم الإسلام بدقَّة، كما وردت في القرآن والسنَّة بنيَّة صادقة صافية ومخلصة.
5 ـ أن يشعر بأن عبوديته لله تعني انتماءه لمخلوقاته، وخدمتهم ضمن أُطُر متوازنة ومعتدلة.
6 ـ أن يتمسَّك بالتذلُّل والافتقار لحضرة الله، والرجاء بأن يتقبَّل منه أعماله القبول الحسن، لأنه مهما فعل فهو مقصِّر، ولو وُزنت أعماله كلُّها فلن تساوي نعمة واحدة من نعم الله الكثيرة عليه.
إن الإنسان الواعي الَّذي أدرك هذه الحقائق وغيرها من شؤون الإسلام والإيمان، هو شخص ناجٍ غداً، يوم يبدو كلُّ مخلوق على حقيقته: {يومَ تُبْلى السَّرائر * فما لَهُ من قوَّةٍ ولا ناصر} (86 الطارق آية 9ـ10).
ولابُدَّ مع العمل الشامل بكلِّ تعاليم الإسلام، من إخلاص النيَّة لله تعالى، فقد يعمل الأعمال الَّتي ظاهرها الصلاح، إلا أن غايته الحقيقية ليست لوجه الله، بل لأمر دنيوي رخيص، فمثل هذا الشخص من حيث النتيجة، كمثل عامل عمل لدى شخص وخدمه، ثمَّ راح يطالب غيره بالأجرة، إن هذا الأخير يمكنه طرده بكلِّ بساطة قائلاً: اذهب إلى من عملت من أجله، فاستوف أجرك منه، وليس لك عندي شيء.(3/315)
حقاً إنه جواب قاس ومؤسف أن يردَّ الله تعالى على من عمل في الدُّنيا من أجل غاية دنيوية رخيصة، وظنَّ أن النوايا تخفى على الله، والله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد أكَّد الحديث القدسي هذه الحقائق، فقد روى مسلم والنسائي والترمذي وابن حِبَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوَّل النَّاس يُقْضى يوم القيامة عليه، رجل استُشهد فأُتيَ به، فعرَّفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتَّى استُشْهدت، قال: كذبت، ولكنَّك قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار. ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنَّك تعلَّمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار. ورجلٌ وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنَّك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار».
فإذا كان هذا هو مصير العاملين الَّذين عملوا لكنَّهم ضلُّوا الغاية والهدف، فضلَّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، فما هو مصير من لم يرفع بهذا الأمر رأساً، إنها الخسارة الكبرى والخزي الأعظم، فلينظر الإنسان إلى أين يسير، فإن الغاية قريبة والمصير أبدي، فإمَّا سعادة أبديَّة يُلقَّاها المؤمن الحقيقي، وإمَّا شقاء سرمدي يُلقَّاه الكافر والفاسق المنافق.
الفصل الخامس:
دار الأبرار ودار الفُجَّار
سورة الزمر(39)(3/316)
قال الله تعالى: {ونُفِخَ في الصُّورِ فصَعِقَ من في السَّمواتِ ومن في الأرضِ إلاَّ من شاءَ الله ثمَّ نُفِخَ فيه أُخرى فإذا هم قيامٌ يَنظُرون(68) وأشرقتِ الأرضُ بنورِ ربِّها ووُضِعَ الكتابُ وجيءَ بالنَّبيِّينَ والشُّهداءِ وقُضيَ بينهم بالحقِّ وهم لا يُظْلَمون(69) ووفِّيَّتْ كلُّ نفْس ما عملتْ وهو أعلمُ بما يفعلون(70) وسيقَ الَّذين كفروا إلى جهنَّم زُمَراً حتَّى إذا جاؤوها فُتِحتْ أبوابُها وقال لهم خزنتُها ألم يأتِكم رسلٌ منكم يتلونَ عليكم آياتِ ربِّكم ويُنذِرونَكم لقاءَ يومِكم هذا قالوا بلى ولكن حقَّتْ كلمةُ العذابِ على الكافرين(71) قيل ادخلوا أبوابَ جهنَّم خالدين فيها فبئسَ مثوى المتكبِّرين(72) وسيقَ الَّذين اتَّقوا ربَّهم إلى الجنَّة زُمَراً حتَّى إذا جاؤوها وفُتِحتْ أبوابُها وقال لهم خزنَتُها سلامٌ عليكم طِبْتم فادخلوها خالدين(73) وقالوا الحمدُ لله الَّذي صَدَقَنا وعْدَهُ وأورثنا الأرضَ نَتَبَوَّأُ من الجنَّة حيث نشاءُ فَنِعْمَ أجرُ العاملين(74) وترى الملائِكةَ حافِّينَ من حولِ العرشِ يسبِّحونَ بحمدِ ربِّهم وقُضِيَ بينهم بالحقِّ وقيل الحمدُ لله ربِّ العالمين(75)}
ومضات:
ـ يعرض الله تعالى مشاهد من يوم القيامة بصورة تنبض بالحياة، حتَّى لكأنها تجري أمام ناظرَي القارئ أو السامع للقرآن الكريم، لعلَّه يدرسها ويأخذ العبر منها.
ـ يبدأ العرض الإلهي بتصوير مشهد من مشاهد فناء الأكوان كلِّها، بحيث لا يبقى بعد النفخة الأولى غير الله الواحد القهَّار، ومن شاء له تعالى أن يبقى. ومن ثمَّ يأذن الله تعالى فيُنْفَخُ في الصور النفخة الثانية، فتعود الحياة من جديد إلى جميع الخلائق، ولكنَّها لا ترى سوى نورٍ وحيدٍ شاملٍ وغامرٍ مصدره ربُّ العالمين.
ـ تقام المحاكمة الإلهية للنَّاس بحضور الأنبياء والشهداء، حيث لا يُظلم أحد شيئاً، ويُوفَّى كلٌّ منهم نتائج عمله.(3/317)
ـ تُصوِّر الآيات مشاهد الرحيل الجماعي، حيث تساق جماعات الفجَّار إلى جهنَّم مذمومة مدحورة، وتُشرَّف جماعات الأبرار بدخول الجنَّة معزَّزة مكرَّمة.
ـ يجري في أحد مشاهد يوم القيامة حوار بين ملائكة العذاب وبين الكفرة، حيث تُؤنِّبُ الملائكةُ الكفرةَ فيسألونهم سؤالاً استنكارياً: {ألم يَأْتِكم رسلٌ منكم} ويجيبون مع كلِّ الخزي والخُسران: بلى.. ولكن ما الفائدة؟ لقد جاء الإقرار بعد فوات الأوان.
ـ عند أبواب الجنان تستقبل الملائكة وفود المؤمنين، وترحِّب بهم وتشرف على محافل تكريمهم: {سلامٌ عليكم طِبْتُم فادخلوها خالدين}.
ـ لا يملك المؤمنون عند رؤية ما أعدَّ الله لهم من حسن الثواب، إلا المبادرة إلى حمده تعالى وشكره على تحقيق وعده، وإنزالهم حيث يشاؤون، متنعِّمين في جنان ورياحين.
ـ تُكْشَفُ الحجب بالنسبة لأهل الجنَّة بعد دخولها، فيرون عرش ربِّهم تعالت قدرته وعَظُمت هيبته، والملائكة تطوف من حوله مسبِّحة ممجِّدة مُقِرَّةً بوصول كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، ويردِّدُ الجميع هتاف الشكر والثناء ويقولون: الحمد لله ربِّ العالمين.
في رحاب الآيات:
مشهد حيٌّ حافل بالصور الحيوية والأفعال والظلال، يطوي في تضاعيفه قصَّة البعث والنشور، تتسارع الأحداث فيه وتتعاقب، ولكن حين تتملاَّها العين، ويعيَها القلب، تنبعث القشعريرة في أعماقه، وكلَّما كان وعي الإنسان أكبر، وتفتُّحه أعظم، كلَّما كانت الهزة الَّتي تعتريه أقوى وأعمق. ولو أن الإنسان آمن بمضمون هذه الآيات ساعة من نهار لانقلبت موازين حياته، ولحرَّم على نفسه الظلم والاعتداء، والشرور والآثام، ولآثر الباقي على الفاني، ولغدا نظيفاً طاهراً مؤهَّلاً لدخول مملكة الله: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا بنون * إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم} (26 الشعراء آية 88ـ89).(3/318)
والآيات تبدأ بفعلين متتاليين: (نُفِخَ، صَعِقَ) أمَّا النافخ فهو إسرافيل عليه السَّلام بأمر ربِّه، وأمَّا المصعوق فهو كلُّ من خلقه الله في السموات والأرض حيث يخرُّ ميتاً إلا من شاء الله بقاءه. ثمَّ ينفخ في الصور نفخة أخرى، وهي نفخة الإحياء، فإذا جميع الخلائق يقومون من القبور ينظرون ماذا يُؤمرون في هذا اليوم، يوم الحساب، حيث لا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا كواكب، فكلها اندثرت وزالت، ولكنَّ نور الله باق وهو الَّذي يضيء أرض المحشر، حين يتجلَّى الباري جلَّ وعلا لفصل القضاء بين العباد. ووُضع الكتاب الحافظ لأعمال العباد، وجيء بالنبيِّين ليشهدوا على أممهم، وأُحضر الشهداء وهم الحفظة من الملائكة، الَّذين يسجِّلون أعمال العباد خيرها وشرِّها. في هذا اليوم يُجازى كلُّ إنسان بما عمل من خير أو شرٍّ، والله تعالى عالم بعمل الجميع ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحُجَّة على عباده.(3/319)
ويُطوى مشهد الحساب ليُنشر مشهد آخر، هو فرز النَّاس إلى فريقين: أهل النَّار وأهل الجنَّة. أمَّا أهل النَّار فيُساقون أفواجاً أفواجاً إلى جهنَّم، سوق المجرمين إلى القصاص، لا يملكون سبيلاً للاعتراض ولا يستطيعون التلكُّؤ أو الفرار، وهم يساقون كما يُساق الأشقياء إلى السجون مع الإهانة والتحقير على ضروبٍ شتَّى. وما إن يصل هؤلاء إلى أبواب جهنَّم حتَّى تُفتح لهم سريعاً ليدخلوها، فإذا دخلوها أُغلقت عليهم، ودار حوار بين خزنتها من الملائكة، وبين المجرمين الَّذين كفروا بالله وأشركوا به، وطغَوا واستعلَوا في الأرض، إنه حوار ينطوي على التأنيب والتقريع: أَلَمْ يأتكم رسل من البشر يتلون عليكم الكتب المنزَّلة من السماء..؟ ويخوِّفونكم من شرِّ هذا اليوم العصيب؟ فيقولون: بلى، قد جاؤونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج وقدَّموا البراهين، ولكنَّنا كذَّبناهم وخالفناهم، فحقَّ علينا عذاب ربِّنا، فتقول لهم الملائكة: ادخلوا جهنَّم لتَصْلَوْا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال، فبئس المقام والمأوى للمتكبِّرين عن الإيمان بالله وتصديق رسله.
وأمَّا الَّذين اتَّقَوا ربَّهم فيساقون إلى الجنَّة جماعات جماعات، وهم الشهداء والعلماء والأتقياء وغيرهم ممن عمل بطاعة الله تعالى. والآية الكريمة عبَّرت عن دخول الفريقين إلى الجنَّة أو النَّار بلفظ واحد مشترك وهو قوله تعالى: {وَسِيْقَ}، إلا أن كيفية السَّوْق لكلِّ فريق تختلف عن الأخرى، وتتناسب مع حالهم وأعمالهم الَّتي قَدِموا بها على ربِّهم، فسوق أهل النَّار هو طردهم وَدَعُّهم إليها بالخزي والهوان دعّاً، وسَوْقُ أهل الجنَّة هو سَوْقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنهم يَذهبون إليها راكبين كما يُفعل بمن يُشرَّف ويُكرَّم من الوافدين، فالفرق بين السَّوقين كالفرق بين المصيرين.(3/320)
فإذا وصل المؤمنون الجنَّة وجدوا أبوابها مفتَّحةً لهم مستعدَّة لاستقبالهم، وهذا لعظيم كرامتهم عند الله تعالى، وهم يساقون إلى الجنَّة بحسب مراتبهم، المقرَّبون فالأبرار ثمَّ الَّذين يلونهم، كلُّ طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصدِّيقون مع الصدِّيقين، والشهداء مع أمثالهم، والعلماء مع أقرانهم وهكذا. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {يومَ نحشُرُ المتقينَ إلى الرحمنِ وَفْداً} (19 مريم آية 85) وقوله تعالى: {ونَسوقُ المجْرِمين إلى جهنَّم وِرْداً} (19 مريم آية 86).
ومما يجدر ذكره أن للجنَّة أبواباً ثمانية، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيُسبِغ الوضوء، ثمَّ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنَّة الثمانية يدخل من أيِّها شاء» (رواه مسلم وغيره)، وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنَّة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون». فإذا وصل أهل الجنَّة إلى جنانهم استقبلتهم الملائكة استقبالاً طيِّباً بالسَّلام والتحيَّة، والثناء المستحبِّ، مع بيان السبب، لقد طبتم وتطهرتم بطاعة الله والعمل الصالح، وجئتم طيِّبين، فما يكون في الجنَّة إلا الطيِّب، وما يدخلها إلا الطيِّبون، ولكم الخلود في هذا النعيم.(3/321)
هنا تتعالى أصوات أصحاب الجنَّة بالتسبيح والتحميد، لأن الله صَدَقَهم وعده الَّذي وعدهم به على ألسنة رسله الكرام فيقولون: الحمد لله الَّذي أَنْزَلَنا هذه الدار، نتصرَّف في أرض الجنَّة تصرُّف الوارث فيما يرث، فنتَّخذ منها مسكناً حيث شئنا، فنِعْمَ الأجر أجرنا على عملنا، ونِعْمَ الثواب الَّذي أعطيتنا!! وترى الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يُطلب منهم، يسبِّحون الله ويمجِّدونه تلذُّذاً وتعبُّداً، ثمَّ يُختم المشهد وألسنة الخلق تلهج بالشكر والحمد لله ربِّ العالمين، الَّذي قضى بين عباده بالحقِّ والعدل، وهو أحكم الحاكمين.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {سابِقوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنَّة عَرضُها كعرضِ السَّماءِ والأرضِ أُعِدَّتْ للَّذين آمنوا بالله ورُسُلِهِ ذلك فضلُ الله يؤْتيهِ من يشاءُ والله ذو الفضْلِ العظيم(21)}
ومضات:
ـ إن أَهمَّ سباق ينبغي للمرء أن يخوض غِماره في هذه الحياة الدُّنيا، هو السباق إلى كسب المغفرة الإلهية، لأن نتيجة هذا السباق ستنعكس على حياته في الدار الآخرة، دار الخلود، وكلُّ ما دون ذلك فهو زائل.
ـ الجنَّة الَّتي أعدَّها الله تعالى مكافأة للفائزين في هذا السباق، بلغت منتهى الجمال والكمال والسعة، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
في رحاب الآيات:(3/322)
إن غريزة حبِّ التسابق والتنافس مزروعة في حنايا النفس البشرية منذ بدء الخليقة، فالإنسان توَّاق دائماً للوصول إلى الأفضل والأحسن، وقد أشبع غريزته هذه في ميادين المصارعة والفروسية والصيد ومواجهة الحيوانات الضارية، وكذلك في الحروب والغزوات، وكلِّ ما فيه متَّسع لإبراز الكفاءات والقوى الفردية. وتأتي الآية الكريمة لتوجِّه هذه الغريزة، وتضعها في أفضل مسار دون الإقلال من شأن المسارات الأخرى، هذا المسار هو مجال كسب المغفرة الإلهية. والسباق هنا ليس مبنيّاً على القوَّة العضلية أو العقلية، بل على الإرادة والعزيمة للتوجُّه الروحي والنفسي والفكري، إلى العمل والبذل وكسب رضا الله تعالى، إنه سباقٌ خطوط نهاياته متعدِّدة متباينة، وهي تمثِّل درجات الجنان، آخرها وأرقاها علِّيون، وعلِّيون لأولي الألباب والبصائر الَّذين تفتَّحت قلوبهم بنور الله، وعملوا وبذلوا قُصارى جهدهم لكسب رضا الله عزَّ وجل، والَّذي لا يُلقَّاه إلا الراغبون المُجِدُّون، قال تعالى: {خِتامُهُ مِسْكٌ وفي ذلك فليتنافسِ المتنافِسون} (83 المطففين آية 26). وإن من أبرز علامات هؤلاء المتنافسين أنهم يملكون قلوباً يقظة منوَّرة، ما إن تتلقَّى الأمر حتَّى تستجيب، وما إن تُلمس حتَّى يتَّقد فيها الإدراك والشعور، وأوَّل ما تنتبه إليه هو تقصيرها وتفريطها، فتتَّجه إلى ربِّها وهو المَلاذ، لتطلب المغفرة وتكفير السيئات والانضمام إلى سلك الأبرار. ومع الشعور بالرهبة تتوثَّب في صدورهم الرغبة والطمع برحمة الله، فهم يلتمسون من الله النجاة من العذاب، ويستدرُّون عطفه ورحمته بأن يعطيهم ما وعدهم من حسن الجزاء في الدُّنيا والآخرة، إنجازاً لوعده الَّذي بَلَّغتهم إيَّاه رسل الله، وهو سيادة الدُّنيا في قوله تعالى: {وَعَدَ الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصَّالحاتِ ليَستَخلِفنَّهُم في الأرض كما استخلفَ الَّذين من قبلهم وليُمكِّنَنَّ لهم دينهُمُ الَّذي ارتضى(3/323)
لهم ولَيُبدِّلَنَّهُم من بعدِ خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً..} (24 النور آية 55) وسيادة الآخرة في قوله تعالى: {وعَدَ الله المؤمنينَ والمؤمناتِ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدينَ فيهَا ومَسَاكِنَ طيِّبةً في جَنَاتِ عدنٍ ورضوانٌ منَ اللهِ أكبرُ ذلكَ هو الفوزُ العظيِمْ} (9 التوبة آية 72) والله لا يخلف الميعاد.
فما أعظم أن يتحقَّق الأمل، ويُستجاب الدعاء الَّذي كانوا يدعون الله به كما علَّمهم إياه: {ربَّنا إنَّك من تُدخِلِ النَّار فقد أخزَيتَهُ وما للظَّالمينَ من أنصارٍ * ربَّنا إنَّنا سَمِعنَا مُنادياً يُنادي للإيمانِ أن آمِنوا بربِّكُم فآمَنَّا ربَّنا فاغفِر لنا ذنوبَنا وكَفِّر عنَّا سيِّئاتِنا وتوفَّنا مع الأبرار * ربَّنا وآتنا ما وعَدتنا على رُسُلِكَ ولا تُخزِنا يومَ القيامة إنَّك لا تُخلِفُ الميعاد} (3 آل عمران آية 192ـ194).(3/324)
ولابُدَّ لصاحب العقيدة الَّذي ينوي أن يدخل في هذا السباق من أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير، ولا يحصر نفسه ونظره واهتمامه في عالم الأرض الضيِّق الصغير، لابُدَّ له من هذا ليؤدِّي دوره اللائق به، هذا الدور الشاقُّ الَّذي يصطدم بأطماع النَّاس كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس، ويعاني من مقاومة الباطل وتشبُّثه بموضعه من الأرض، ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة، غير عابئ ولا هيَّاب من الفَناء الَّذي سينال جسده. ومن ثمَّ يبقى صاحب العقيدة في أُفق الحقيقة الكبيرة مستعلياً على واقع الأرض الصغير، مهما تضخَّم هذا الواقع وامتدَّ واستطال، ويتعامل مع الوجود الكبير الَّذي يتمثَّله من خلال ما جاءت به رسالة السماء، ويتمثَّله في مُلك الآخرة الواسع العريض، وفي القيم الإيمانية الثابتة، الَّتي لا تهتزُّ لخلل يقع في موازين الحياة الدُّنيا الصغيرة الخادعة. وتلك هي وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها، والخضوع لمقتضياتها، جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه : «أن فقراء المهاجرين أتَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العُلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يُصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويُعْتِقون ولا نُعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا أعلِّمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: تسبِّحون وتَحْمَدون وتكبِّرون، دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (متفق عليه). على أنه يمكن للفقراء(3/325)
أن ينالوا ما لا يناله الأغنياء من الثواب على صبرهم على الفقر وشكرهم لله في العُسر واليُسر. والله ذو الفضل العظيم، فهو واسع العطاء، عظيم الفضل، يعطي من يشاء ما شاء كرماً منه وتفضُّلاً، ثمَّ يجزيه في الآخرة ما أعدَّه له من جنَّة عرضها كعرض السموات والأرض.
سورة الذاريات(51)
قال الله تعالى: {إنَّ المتَّقينَ في جنَّاتٍ وعُيون(15) آخذينَ ما آتاهُم ربُّهم إنَّهم كانوا قبلَ ذلك مُحسِنين(16) كانوا قليلاً من اللَّيلِ ما يهْجَعون(17) وبالأسحارِ هُمْ يستَغْفرون(18) وفي أموالِهم حقٌّ للسَّائل والمحروم(19)}
ومضات:
ـ إن الَّذين صانوا أنفسهم عن كلِّ ما يسخط الله تعالى، واجتهدوا في كسب رضائه، لهم النعيم المقيم، والشراب السائغ، يتقلَّبون في الرفاهية الَّتي منحهم الله تعالى إياها من فضله وكرمه، قد حقَّ لهم هذا التكريم، لأنهم أمضوا حياتهم في الإحسان إلى الخلائق والاعتناء بأمورهم الحياتية والروحية، بعد أن امتزجت أرواحهم بمحبَّة الله، والقرب منه في قيام الليل والنَّاس نيام، فهم في صلاة واستغفار وتسبيح، وفي إنفاق وبذل للمحتاجين والمعوزين.
في رحاب الآيات:(3/326)
إن أحلى ما يمتِّع النفس البشرية ويُشعرها بالراحة والأمان، الماء والخضرة، فكم يتوق المرء إذا ما داهمه التعب وأرهقه العمل، إلى أن يأوي إلى بستان ظليل وماء نمير، يُريح أعصابه فيه، ويلتقط أنفاسه ليتابع مسيرة الحياة بجدٍّ وحيوية؛ فكيف بمن جاهد نفسه وهواه، وذاب كيانه حباً في الله، وحرصاً على طاعته؟ ليله أُنس بالله، وتذلُّلٍ له، وقُرب منه، لا ينام إلا القليل، ويقطع الليل بالصَّلاة، ويتبعها بالاستغفار عن تقصيره، وهو يرى نفسه مقصِّراً بحقِّ ربِّه على الدوام، أمَّا نهاره فهو بذل وسخاء للسائل المحتاج، وللمتعفِّف الَّذي لا يسأل النَّاس لتعفُّفه وحيائه؛ أفلا يستحقُّ مثل هذا المؤمن نعيماً أبديّاً في بساتينَ وجنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها فاكهة ممَّا يتخيَّر، ولحم طيرٍ مما يشتهي، وحورٌ عين، وله ما يرضيه ويغنيه ويفوق ما كان يأمله؟ فكلُّ تجارة دنيوية تتعرَّض للربح والخسارة، ويصاحبها القلق والخوف إلا التجارة مع الله، تدفع له القليل فيعطيك الكثير، وتستشعر الخوف فيمدُّ لك حبل الأمان.
سورة ق(50)
قال الله تعالى: {وأُزْلِفَتِ الجنَّة للمُتَّقينَ غيرَ بعيد(31) هذا ما توعَدونَ لكلِّ أوَّابٍ حفيظ(32) من خَشيَ الرَّحمنَ بالغيبِ وجاء بقلبٍ مُنيب(33) ادخلوها بسلامٍ ذلك يومُ الخلود(34) لهم ما يَشَاؤون فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيْد(35)}
ومضات:
ـ الجنَّة غير بعيدة عن متناول المتَّقين، بل هي أقرب إليهم ممَّا يتصوَّرون، مكافأة لهم على كثرة استغفارهم لحضرة الله، وحفظهم لحدوده، وحماية أنفسهم من الوقوع في الخطايا، قد امتلأت قلوبهم من خشية الله، سواء أمام النَّاس أم بعيداً عنهم، ولهذا فهي طاهرة من العيوب والذنوب، مليئة بحبِّ الله، مضيئة بأنواره، أهلٌ لتجلياته ونفحاته.(3/327)
ـ تبدأ حياة النعيم للمؤمنين لحظة مفارقة أرواحهم لأجسادهم، فإذا كان يوم الدِّين أُدخلوا جنَّات النعيم، حيث ينالون ما يرغبون، ولهم فيها فوق ما يتصوَّرون أو يحلمون وهم فيها خالدون.
في رحاب الآيات:
قد يظنُّ بعض النَّاس أن طريق الجنَّة طويل وصعب، مجهد وشاقٌّ، فيشعر بالإحباط والفتور لعدم استطاعته اجتياز هذا الطريق. ولكنَّ الله تعالى يؤكِّد أن الجنَّة قريبة، والوصول إليها بمتناول اليد؛ وهي وعدٌ من حضرة الله ليس لمن لا يخطئ، بل هي لمن هو كثير الخطأ لكنَّه سريع التوبة والاستغفار. فالإحباط يحصل بسبب اليأس، والإسلام حرب على اليأس والقنوط والتخاذل، ودفعٌ إلى العمل على حفظ حدود الله، وصيانة النفس من العيب والخطأ، لاسيَّما حينما نكون مستورين عن أعين النَّاس أو مراقبتهم لنا، لأن المهمَّ هو مراقبة الله لنا وليس مراقبة النَّاس.
وهناك المزيد من عذاب الله لمن يتقاعس أو يعرض وينأى بجانبه، وهناك المزيد المزيد من جود الله وكرمه للذين يرجون فضل الله، ويطرقون أبواب رضاه تواضعاً وافتقاراً إليه.
والآيات الَّتي نحن بصددها تعرض مشهداً حيّاً للنعيم الَّذي ينتظر أهل الصلاح والتوبة، فالجنَّة قُرِّبت وأدنيت منهم بحيث تكون بمرأىً منهم مبالغة في إكرامهم، ويقال لهم: هذا النعيم هو ما وعد الله به كل عبدٍ أوَّابٍ، أي رجَّاع إلى الله، حافظ لعهده وأمره، مطيع للرحمن دون أن يراه، لقوَّة يقينه وشدَّة إيمانه به. وتتلقَّاهم الملائكة بالسَّلام، والبُشْرى لهم بالنجاة من العذاب والهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الَّذي لا نهاية له أبداً. ولهم في الجنَّة ما تشتهيه أنفسهم، وتلذُّ به أعينهم، وعند الله زيادة على ذلك في الإنعام والإكرام، وهو التفضل عليهم بإتاحة النظر إلى وجهه الكريم.(3/328)
فما أجمل هذا النداء وأكرمه عندما ينادى المؤمنون بهذا النداء، ادخلوا الجنَّة بسلام، ذلك اليوم هو يوم الخلود في النعيم الأبدي المقيم، إنهم سالمون من الهموم والأحزان، سالمون من العذاب الَّذي يعانيه الكافرون الَّذين ينادَون بقوله تعالى: {قيلَ ادخلوا أبوابَ جهنَّم خالدينَ فيها فبئْسَ مثوى المتكبِّرين} (39 الزمر آية 72) إنهم يتخاصمون ويتنازعون فيأتيهم النداء الإلهي بقوله تعالى: {قال لا تختصِموا لديَّ وقد قدَّمْتُ إليكم بالوعيد * ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ وما أنا بظلاَّمٍ للعبيد} (50 ق آية 28ـ29) فعندما يعاني المجرمون ويلات الفزع الأكبر، ويتجرَّعون غُصص العذاب الجهنَّمي المقيم، تكون الجنَّة قد أُعِدَّت وزُيِّنَت وقُرِّبَت للمؤمنين فهم منها غير بعيد.
إن هذا التقابل في عرض مشاهد المصير الَّذي سيؤول إليه أبناء آدم عمَّا قريب، يحملهم على الإيمان بالله الإيمان الصادق، والسعي في سبيل مرضاته للفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
سورة الصافات(37)
قال الله تعالى: {إنَّكُم لذائِقوا العذَابَ الأَليم (38) وما تُجْزَونَ إلاَّ ماكنتم تَعملون(39) إلاَّ عبادَ الله المُخْلَصين(40) أولئك لهم رِزْقٌ مَعلوم(41) فَواكِهُ وهم مُكْرَمون(42) في جنَّاتِ النَّعيم(43) على سُرُرٍ مُتقابلين(44) يُطافُ عليهم بكأسٍ من مَعين(45) بيضاءَ لَذَّةٍ للشَّاربين(46) لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون(47) وعندهم قاصِراتُ الطَّرفِ عِين(48) كأنَّهنَّ بَيْضٌ مَكْنون(49)}
ومضات:
ـ تتضمَّن هذه الآيات ومضات سريعة عن نعيم الجنَّة، الَّتي أعدَّها الله تعالى لعباده المُخلصين المؤهَّلين لدخولها، والتنعُّم بخيراتها وحسانها، بعد أن وقاهم من العذاب الرهيب.
في رحاب الآيات:(3/329)
مكافأة الله لعباده الصالحين أكبر وأعظم بكثير مما قدَّموه من أعمال صالحة، وكثيراً ما تتحدَّث الآيات القرآنية عن هذه المكافأة الممثَّلة بجنَّات الخلد، وما فيها من متع ومباهج تَسُرُّ الأنفس، وتُطْرِب القلوب. وقبل الحديث عن الثواب، تتحدَّث الآيات عن العقاب الَّذي سينال العُصاة، وما ينالهم العذاب إلا بسبب ما قدَّمت أيديهم من معصية وشرك بالله الخالق العظيم. ثمَّ يستثني الله سبحانه عباده المُخْلَصين من التعرُّض للعذاب الأليم، وهم الَّذين آمنوا بالله وأخلصوا له العمل وأنابوا إليه، أولئك لهم جنَّات يتمتَّعون فيها بكلِّ ما لذَّ وطاب، من الفاكهة ذات الطعم اللذيذ والرائحة الزكية، وتأتيهم وهم مُكرَّمون كما كانت تُقدَّم للملوك وأصحاب الجاه في الحياة الدُّنيا.
وفي ذلك إيماءٌ إلى أن ما يأكلونه في الجنَّة إنما هو للتفكُّه والتلذُّذ لا للقوت، لأنهم في غنى عنه لعدم تحلُّل شيء من أجسامهم بالحرارة الغريزية حتَّى يحتاجوا إلى بديل عنه. أمَّا مكان إقامتهم فهو الجنَّة؛ جنَّة النعيم والخُلد، ينعمون فيها على أَسِرَّة مرصَّعة بالدُّرِ والياقوت، تدور بهم كيف شاؤوا متقابلين تواصلاً وتحابباً، وهم يتمتَّعون بطيب الحديث، وفي ذلك لذَّة روحية لا يدركها إلا من ذاق طعمها.
ويطوف عليهم خدم الجنَّة بكأس من الخمر من نهر جار من إحدى عيون الجنَّة، وهذه الخمر صافية بيضاء ذات لذَّة للشاربين، وليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها، ولا يقعون في العربدة الَّتي تذهب بهيبة شاربها واتِّزانه، كما هي حال خمر الدُّنيا.
ويثير بعض النَّاس الشكوك حول قضية تحريم شرب الخمرة في الحياة الدُّنيا، بينما هي مباحة في الدار الآخرة، لذا أتت الآية الكريمة لتوضح بأن خمرة الجنَّة ليس فيها غَول، أي إنها خمرة خالية من المادَّة المُسكرة الَّتي تأخذ بالعقول، وتسلبها التفكير السليم.(3/330)
وعند أهل الجنَّة الحور العين، العفيفات اللواتي قَصَرن أعينهنَّ على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعِفَّةً، واسعات العيون في جمال أخَّاذ، كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه، مع رقَّة ولطف ونعومة؛ كما ذكر الله تعالى: {وحُورٌ عِيْنٌ* كأمْثالِ اللُّؤلؤ المَكْنون} (56 الواقعة آية 22ـ23).
وهكذا فإن أهل الجنَّة ينعمون بكلِّ ما تشتهيه النفس من طيِّب الطعام، ولذيذ الشراب، والحور العين، ولهم فضل أكبر من ذلك هو رضوان الله، وذلك هو الفوز العظيم. وعلى الرغم من المغريات الَّتي أعدَّها الله تعالى لعباده في جنانه، كي يتحمَّسوا للحصول عليها، فإن أهل العلم واليقين، يعبدون الله تعالى لأنه يستحقُّ العبادة، فلا طمع لديهم بجنَّته، ولا خوف عندهم من ناره، بل حافزهم هو الحبُّ الحقيقي لله ولا شيء غيره.
سورة ق(50)
قال الله تعالى: {يومَ نقولُ لجهنَّم هل امتلأتِ وتقولُ هل مِن مَزيد(30)}
ومضات:
ـ قد يعتقد بعض النَّاس أنه يمكن لجهنَّم أن تمتلئ بالأقوام الَّذين سبقوهم، فينجون منها لأنه لم يبق لهم فيها مكان، وحقيقة الأمر أنها يمكن أن تستوعب جميع الكفرة والمذنبين، منذ بدء الخليقة إلى آخر يوم من أيام الدُّنيا، بل إنها لتسع منهم المزيد والمزيد.
في رحاب الآيات:(3/331)
ظلَّ كثير من أبناء الأجيال السابقة يؤمنون ببعض إعجازات القرآن الكريم إيماناً غيبياً، فيه من التسليم بصدقه أكثر من القناعة العقلية به، تسليماً تكلِّله برودة اليقين، وقد جاءت الأدلَّة العلمية اليوم لتؤكِّد تلك القناعات وتزيدها عمقاً ورسوخاً، فمن يقرأ هذه الآية {يومَ نقولُ لجهنَّم هل امتلأْتِ وتقولُ هل من مزيد} قد يتساءل: هل يعقل وجود مكان لا يمتلئ مهما وضعت فيه من مخلوقات؟ وكيف يعقل أن توضع الأعداد الهائلة من الخلائق في جهنَّم دون أن تضيق بهم؟ بل إنها على النقيض من ذلك تسأل هل من مزيد؟. وقد أسفرت الدراسات الكونية المتقدِّمة جدّاً، عن وجود بقع سوداء في أرجاء الكون الفسيح، تلتهم كلَّ ما يقترب منها من كواكب بأحجامها الضخمة، والَّتي يعادل حجم الواحد منها كوكب الأرض بآلاف المرات. هذا الكوكب تلتهمه البقعة وكأنه كرة صغيرة لا تكاد تظهر، حتَّى إن علماء الفلك أصابهم الذهول من هول ما رأوا وما رصدوا، وكأنَّ هذه البقعة كلَّما التهمت كوكباً نظرت بسخرية إلى ما حولها وقالت: هل من مزيد؟؟ أفلا يمكن لخالق هذه الظواهر الكونية، أن يخلق جهنَّم لا تمتلئ ولا تزال تطلب المزيد؟.
----------------
الباب الثالث عشر -متفرِّقات من وحي القرآن الكريم
الفصل الأوَّل: دعوة إلى الاعتبار بدراسة التاريخ والآثار
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {قد خَلَت من قبلكُم سُنَنٌ فَسِيروا في الأرضِ فانظُروا كيف كان عاقبةُ المُكَذِّبينَ(137) هذا بَيانٌ للنَّاسِ وهُدىً وموعظةٌ للمُتَّقينَ(138) ولا تَهِنُوا ولا تحزنوا وأنتُمُ الأعلَوْنَ إن كنتم مؤمنينَ(139) إن يَمسَسكُم قَرحٌ فقد مَسَّ القومَ قَرحٌ مِثلُهُ وتلكَ الأيَّامُ نُداولُها بين النَّاس وليعلمَ الله الَّذين آمنوا ويتَّخذَ منكم شهداءَ والله لا يُحبُّ الظَّالمينَ(140)}
ومضات:(3/332)
ـ إنها دعوة وبيان للنَّاس جميعاً، لسبر أغوار التاريخ، والاستفادة من تجارب من سبق من الأمم والحضارات بدراستها وفهمها، وتحذيرٌ لهم من الاكتفاء بالتاريخ، كسجلٍّ للقصص والروايات، لتحصيل التسلية والمتعة فقط، فما كان التاريخ لدى العقلاء الحكماء مجرد قصص تروى ولا حكايات تحكى، إنما هو مورد ثَرٌّ للعلم والمعرفة والاعتبار.
ـ لا تبديل لكلمات الله تعالى على مرِّ العصور، وقد سعد من أخذ بها وشقي من أعرض عنها.
ـ المؤمن عزيز بالله، سعيدٌ بتأييده، وقد وعد الله المؤمنين بالتفوُّق، الأخلاقي والعلمي والحضاري، على كلِّ الأمم البعيدة عن طريق الإيمان العملي.
ـ لقد حدَّد الله تعالى لجميع الأمم طريقاً تسلكه لتصل إلى النجاح والفلاح، وأوَّل خطوات هذا الطريق هو الصبر على المشقَّة، الَّتي يكابدها المؤمن، في سبيل تطبيق قوانين الله تعالى على الأرض، وتحمُّل ما يلاقيه في سبيل ذلك من إيذاء النَّاس، وهذا الطريق واحد لا يتبدَّل بتبدُّل الأزمان والأجيال.
ـ لابُدَّ للنَّاس من مواجهة الاختبار الإلهي على اختلاف أصنافهم وألوانهم، وعلى المستوى الفردي والجماعي، حتَّى يميز الخبيث من الطيِّب وتظهر فضائل الأخيار، فيتحدَّد وجود فئة مختارة من الَّذين بذلوا المال، واسترخصوا كلَّ شيء حتَّى أرواحهم في سبيل الله، فكان منهم الشهداء الأبرار في ساحات القتال، وكان منهم الشهود على رقي أممهم وعلوِّ منازلها بتطبيق تعاليم الله بالشكل الأمثل.
في رحاب الآيات:(3/333)
إن مشيئة الله في خلقه تسير وفق سنن رشيدة حكيمة، وكلُّ من سار عليها ظفر، ومن حاد عنها خاب وخسر، وفي هذه الآية الكريمة مراجعة تاريخية، ووقفات دراسة وتأمُّل لحضارات انهارت، وأمم اندثرت، وشعوب تفرَّقت وتمزَّقت بعدما أخذ بها الغرور كلَّ مأخذ، فخرجت عن الطريق السَّوي، لذلك جاء في الآية الكريمة تحذير وإنذار بسوء العاقبة، لكلِّ من ينحرف عن سنَّة الله تعالى، ويتجاوز حدود إنسانيته وعقلانيته.
وتلفت الآية نظرنا إلى من سبقنا من الأمم، لأخذ العبرة والموعظة ممَّا حلَّ بهم بسبب إعراضهم عمَّا جاءهم من الحقِّ، وقياس ما لدينا على ما كان لدى غيرنا. فالقرآن الكريم يربط ماضي البشرية بحاضرها، ليلفت أنظارها إلى مستقبلها، وهو يدعو النَّاس عامَّة إلى السير في الأرض، لأن الأرض مسرح الحياة البشرية، والحياة فيها كتاب مفتوح تُكْتَبُ فيه الأحداث، وتتأمَّله الأبصار، وتجول فيه الأفكار، فترى فيه من الآثار والحضارات القديمة، ما نقف أمامه بإجلال وإكبار، مأخوذين بروعة الفنِّ وبراعة الصنعة، على ما نحن عليه من التقدُّم العلمي والتقني. والقصد من النظر ليس الإعجاب بتلك الآثار، وإنَّما التفكر بقوَّة الباني وجبروته، وكيف كان مصيره ومصير حضارته، لقد طواه الزمن وتجاوزته الأيام وكأنَّه لم يكن، فلم ينفعه من ذلك شيء، وأصبح عبرة لمن أراد أن يعتبر.
وقد أورد القرآن الكريم كثيراً من هذه السير والآثار في مواضع متفرِّقة منه، حدَّد مكان بعضها وزمانه وأشخاصه، واكتفى بالإشارة إلى بعضها الآخر دون تحديد أو تفصيل. وفي هذه الآيات يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة عامَّة، وهي أن ما جرى للمكذِّبين بالأمس يمكن أن يجري مثله للمكذِّبين اليوم وغداً.(3/334)
والقرآن الكريم فيه بيان شافٍ للناس، وهداية لطريق الرشاد، وما كان النَّاس ليهتدوا لولا هذا البيان الهادي، ولكنَّ طائفة معيَّنة هي الَّتي تجد فيه الهدى والموعظة وتنتفع به، وهي طائفة المتَّقين الَّذين انشرح صدرهم للإيمان، وترجموا الإيمان إلى عمل. والمؤمن التَّقي حقَّ التَّقوى هو في المقام الأعلى دائماً، فإن حدث ما يخالف ذلك فعليه أن يراجع صحَّة إيمانه، ولكي يتبوَّأ تلك المكانة العالية، عليه ألا يتهاون بالعمل الجادِّ الدؤوب، وألا يحزن على ما أصابه لئلا يصيبه الوهن والحزن. وقد قضى قانون الله أن يجعل العاقبة للمتَّقين الَّذين لا يحيدون عن شريعته وتعاليمه، وإنما نهى عن الحزن على ما فات، لأنه يُفقد الإنسان شيئاً من عزيمته. والأجدر أن يعالج المرء مشاكله وآلامه بالعمل، مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكُّل على الله، حتَّى يظفر بما يطلب، ويستعيض عمَّا قد يخسر. ومن الثابت أن تقلُّب النَّاس بين الرَّخاء والشِّدَّة يكشف عن معادن نفوسهم، وطبائع قلوبهم، ودرجة صفائهم، ومدى صبرهم، ومستوى ثقتهم بالله واستسلامهم لقدرته. فالله تعالى يعلم ما تنطوي عليه الصدور، ولكنَّ الأحداث وتداول الأيام تكشف المخبوء في نفوس النَّاس، وتجعله واقعاً ملموساً في حياتهم، وتحوِّل الإيمان إلى عمل ظاهر، فهي محَكٌّ لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والنفس المؤمنة هي الَّتي تصبر على السرَّاء والضرَّاء، وتتَّجه إلى الله في الحالتين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشرِّ هو تقديرٌ من الله تعالى. وكما أن الفرد مُبتلى، فكذلك هي الأمم، فكلُّ ولادة تسبقها آلام المخاض، ولا يمكن لأمَّة أن تُبنى دون تجارب مريرة، تجعل منها أمَّة قويَّة متماسكة، وبمقدار تماسكها تواصل مسيرتها بالشكل السليم، وإلا فلا يستبعد أن يُسحب المجد منها ويُعطى لغيرها، وهذا قانون الله في كلِّ متهاون مستهتر، قال تعالى: {ولقد كتبنا في الزَّبورِ من بعدِ الذِّكرِ أنَّ الأرضَ(3/335)
يَرثها عباديَ الصَّالحون} (21 الأنبياء آية 105).
والمؤمن مطالب أثناء مسيرته بالجهاد، وهو بذل الجهد للتحصيل والبناء العلمي والحضاري، ومجاهدة أهواء النفس، والتضحية وربما الاستشهاد في سبيل المبدأ، وقد ميَّز الله الشهداء واصطفاهم وكرَّمهم وخصَّهم بقربه ورحمته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» (رواه البخاري)، وهذه المرتبة لمن يجاهد بكلِّ ما يملك ليرسي قوانين الله، كما بلَّغها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليكون المنهج الإلهي هو المنهج السائد، وهو الَّذي يحكم سلوك النَّاس جميعاً، فإذا اقتضى الأمر أن يموت في سبيله فهو شهيد. والشهيد هو المشهود له بالجنَّة، والشهداء عامَّة، هم من أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه.
وهم الَّذين يشهدون بصحَّة الدِّين قلباً وقالباً، قولاً ومنهجاً، ظاهراً وباطناً، وكما أن الله تعالى اصطفاهم، فقد أبعد من كنفه الظالمين، الَّذين تعدَّوا قوانينه أو حوَّلوها لمنافعهم الشخصية.
ولا يخفى أن الآيات جاءت بمناسبة خسارة المسلمين إحدى المعارك الحربية، ضد المشركين وهي غزوة أُحد، حيث أنزلها الله تعالى تعزية للمسلمين، وتطييباً لخاطرهم من جهة، كما جاءت من جهة أخرى درساً وعظة؛ بأن قانون الله ثابت في أن من خالف أمره أذاقه وبال مخالفته. وبعد حصول الهدف من هذا الدرس القاسي، يعدهم بالنصر والتأييد إن هم أصلحوا الفساد، واستقاموا على جادَّة الحقِّ الَّذي ارتضاه لهم. وتتابع الآيات في المواساة وتطييب الخاطر، حيث تذكِّرهم بأنهم إن مسَّهم ضُرٌّ من هذه الموقعة، فقد مسَّ أعداءهم ضرٌّ مثله، والله تعالى يقدِّر مثل هذه الأقدار، ليظهر فضل المؤمنين الصادقين ويتَّخذ منهم شهداء مكرَّمين.
سورة الأنعام(6)(3/336)
قال الله تعالى: {ألم يَرَوْا كم أَهْلَكنا من قَبلِهم من قَرْنٍ مكَّنَّاهُم في الأرضِ ما لم نُمكِّن لكم وأرسلْنا السَّماءَ عليهم مِدْراراً وجعلنا الأنهارَ تجري من تحتِهِمْ فأهلكناهُم بذُنوبِهمْ وأنشأنا من بعدِهِم قرْناً آخرين(6)}
ومضات:
ـ لا يمكن للمشاهَدَةِ أن تعطي ثمارها، إلا إذا اقترنت بالتروِّي والتبصُّر والاستيعاب، وإن استيعاب الدروس التاريخية يعني دراسة الوقائع والأحداث بتمعُّن وتفكُّر. وها هو القرآن الكريم يوجِّه لنا دعوة للدراسة العلمية الجادَّة، المبنيَّة على تحليل الأمور لاستخراج النتائج المقرونة بالأسباب والمسببات، للحصول على المواعظ والعبر من هذه الدراسة.
ـ تلفت الآية الكريمة الأنظار إلى مصرع الأجيال الغابرة، الَّتي مكَّنها الله في الأرض، وأعطاها من أسباب القوَّة والسلطان، وأغدق عليها من الرزق الوفير، ثم خرجت عن قوانين الله وتعاليمه المسعدة، والمؤدِّية إلى نجاحها الأخلاقي وازدهارها الحضاري، فأخذها الله عزَّ وجل بتقصيرها أو بجبروتها، وأنشأ من بعدها جيلاً آخر ليتابع بناء الأرض وإصلاحها، وهكذا هي دورة الحياة.
في رحاب الآيات:
الحياة دار ابتلاء للمؤمن وغير المؤمن، والكيِّس من دانَ نفسه، وعمل لما بعد الموت، والتزم بشروط الخلافة الَّتي خُلق من أجلها، والَّتي تعني إقرار شريعة الله، والعمل بمقتضى أوامره ونواهيه. وأي خروج عن هذه المسيرة، يعرِّض صاحبه للخطر والوقوع في مزالق يتعذَّر عليه تخطِّيها، إلا إذا تداركته رحمة الله. لذلك نرى القرآن الكريم يكشف النقاب عن تاريخ بعض الشعوب، الَّذين عاشوا الماضي في أحقاب متتالية، فأساؤوا حفظ الأمانة، ولم ينهضوا بأعباء الرسالة السماوية فحاق بهم عذابه الشديد.(3/337)
إن تاريخ الأمم مدرسة يجب أن يلتحق بها كلُّ إنسان مؤهَّل لقيادة شعب، أو يعتقد في نفسه أنه سيتحمَّل مسؤولية تاريخية، أيّاً كان نوع هذه المسؤولية. وأن تكون دراسته لهذا التاريخ دراسة علمية دقيقة وعميقة، ليعتبر بعبرها ويتَّعظ بمواعظها، وذلك من خلال تعرُّفِ أسبابِ ازدهار الأمم وأسباب انهيارها. وقد ذكر القرآن الكريم وقائع تاريخية ثابتة، شارحاً أسباب تداعي دول كانت قوية أشدَّ القوَّة، ومنيعة أشدَّ المنعة، وعلى حالة رفيعة من الازدهار والرَّخاء، فانجرفت في تيار الرفاهية والتراخي عن حمل الأمانة العلمية والأخلاقية والروحية، فتداعت واندثرت في غياهب الماضي.
إن المسؤولية في ازدهار دولة أو انهيارها تقع في الدرجة الأولى على عاتق راعيها، لأنه الموجِّه لها والمنظِّم لقواها. وإن مهمَّة الباني الحكيم أن يستفيد من قوى الشعب العاملة، وأن يوجهها نحو الإنتاج والبناء من أجل أن يعُمَّ الخير الجميع. وأن يحصِّن نفسه من الفتن الَّتي يمكن أن تؤثِّر على شخصيته، وتجعله فريسة للشهوات والأهواء، ومنها فتنة المال والنساء، وفتنة القصور والخدم، ولذائذ الطعام والشراب. وتتحقَّق مسؤولية الحاكم الأخلاقية، بأن يبدأ بنفسه فيكبح جماح شهواتها، وينشر العدل والإخاء بين الجميع، محيطاً نفسه بالحاشية الصالحة، وأن ينشر العلم ويحارب الجهل والخرافات، وأن يعيش كما تعيش رعيَّته حتَّى يشعر بهم وبمشاكلهم، ويكون قدوة صالحة لهم.(3/338)
وصفوة القول: إن كلَّ خروج عن الأُطُر الَّتي رسمتها السماء يُعتبر ذنباً، وكلُّ ذنب نتمسَّك به، ونتركه يتشبَّث بنا، ويشوِّه فطرتنا البكر، ويفسد أخلاقنا، فإنه ذنب مهلك. وليس الله بعاجز عن إهلاك قوم راغبين عنه، واستبدالهم بآخرين يحبُّهم ويحبُّونه، والأمثلة في القرآن كثيرة، فمرَّة يأخذ الله الظالمين بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ومرَّة يأخذهم بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ومرَّة يُذيق بعضهم بأس بعض، فلا يأمن بعضهم بعضاً، وتضعف شوكتهم، ويسلِّط الله عليهم عباداً له ـ طائعين أو عصاة ـ يقتلعونهم مما مُكِّنوا فيه، ثمَّ يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكَّنهم فيه، وهكذا تمضي سُنَّة الحياة، والسعيد من أدركها، فعمل بعهد الله فيما استُخلف فيه.
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {أفلم يَسِيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعقِلونَ بها أو آذانٌ يَسمَعونَ بها فإنَّها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ الَّتي في الصُّدور(46)}
ومضات:
ـ إن تاريخ الغابرين يبقى شاخصاً وموحياً يتحدَّث بالعِبَر وينطق بالعظات. فإذا كانت القلوب مبصرة جاشت بالذكرى والعبرة، وجنحت إلى الإيمان لتتحاشى ما حصل لغيرها نتيجة الكفر والجحود.
ـ القلب مركز للطاقة، إذا أحسن المرء تغذيته بنور الله، تفتَّح ووعى، وعملت خطوطه لتأخذ الهداية عن الله وتمنحها لعباده، وصقلت عدساته فصارت ترى بنور الله، وتبصر حقائق الأشياء ومراد الله تعالى فيها فَتَتَّبِعه بصدق ويقين.
في رحاب الآيات:(3/339)
تؤكِّد هذه الآية الكريمة أن للإنسان بصراً لرؤية الأمور المادِّية، وبصيرة لرؤية الأمور الروحية، وأن من فقد البصر المادِّي، وظلَّت بصيرته متفتِّحة، فهو خير ممن فقد بصيرته ولو احتفظ ببصره المادِّي، لأن الثاني هو الأعمى الحقيقي. فإدراك الحسِّ بالله لا يمكن أن يحصل إلا من خلال القلب، فإذا تفتَّحت عيون القلب رأت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ممن لايملك هذه البصيرة. فصاحب البصيرة يرى نور الطاعة، وظلام المعصية، يرى جمال أنوار الله، بل يرى الأمور كلَّها من خلال شرع الله تعالى، فتسمو أحاسيسه، وتقوى همَّته لإنقاذ الخلائق من براثن الجهل والفقر والظلم. والآية الكريمة تفتح عيون المكذِّبين بآيات الله، الجاحدين بقدرته، لينظروا إلى ما حلَّ بأسلافهم ممن كذَّبوا رسل الله كعاد وثمود وقوم لوط، وقوم شعيب وغيرهم، ويروا ما حلَّ بأوطانهم ومساكنهم، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم، فيتفكَّروا ويتدبَّروا ويعتبروا بمصارع القوم، لعلَّهم يرجعون إلى ربِّهم، ويعقلون آياته المبثوثة في الآفاق. ولكن أنَّى لهم ذلك، وقد عميت بصائرهم، وسوَّروا قلوبهم بأسوار غليظة، تمنع نور الإيمان من التسرُّب إلى حُجُرات هذه القلوب وإزالة ظلامها، بانغماسهم في المعاصي، وتكذيبهم رسل الله، واستهزائهم بآياته ودلائله؟. قال أحد الصالحين: [لكلِّ إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضرَّه عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئاً].(3/340)
إن العاقل يجتهد في تصفية سريرته وجلاء قلبه، وكشف الغطاء عنه بكثرة ذكر الله تعالى، وقد روي أن عيسى عليه السَّلام قال: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، والقلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون)، وقيل: [من لم يأنس بحديث الله عن حديث المخلوقين، فقد قلَّ عمله، وعمي قلبه، وضاع عمره]. وقيل أيضاً: [دواء القلب خمسة أشياء: مجالسة الصالحين، وقراءة القرآن، وإخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرُّع عند الصبح]، وهذا كلُّه يفتِّح البصيرة ويزيدها قدرة على رؤية الحقيقة والبعد عن الخرافة والوهم.
سورة القصص(28)(3/341)
قال الله تعالى: {إنَّ قارونَ كان من قومِ موسى فبَغَى عليهِم وآتيناهُ من الكنوزِ ما إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُوْلِي القوَّة إذ قال له قومُهُ لا تفرحْ إنَّ الله لا يحبُّ الفرِحين(76) وابتغِ فيما آتاكَ الله الدَّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدُّنيا وأحسن كما أحسنَ الله إليك ولا تبْغِ الفسادَ في الأرضِ إنَّ الله لا يحبُّ المُفسدين(77) قال إنَّما أُوتيتُهُ على عِلْمٍ عندي أو لم يعلَمْ أنَّ الله قد أهلَكَ مِن قَبْلِهِ من القُرونِ من هو أشدُّ منهُ قوَّة وأكثرُ جَمْعاً ولا يُسئَلُ عن ذنوبِهِمُ المجرمون(78) فخرج على قومِهِ في زينَتِهِ قال الَّذين يُريدونَ الحياةَ الدُّنيا ياليتَ لنا مِثْلَ ما أوتيَ قارونُ إنَّهُ لذو حظٍّ عظيم(79) وقال الَّذين أوتوا العلمَ وَيْلَكُمْ ثوابُ الله خيرٌ لمن آمنَ وعمِلَ صالحاً ولا يُلقَّاها إلاَّ الصَّابرون(80) فخسفْنا به وبدارِهِ الأرضَ فما كان له من فئةٍ ينصرونَهُ من دونِ الله وما كانَ من المنتَصرين(81) وأصبحَ الَّذين تَمنَّوْا مكانَهُ بالأمسِ يقولونَ ويْكَأَنَّ الله يبْسُطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقْدِرُ لولا أنْ مَنَّ الله علينا لخسَفَ بنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافرون(82) تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للَّذين لا يريدونَ عُلُوّاً في الأرضِ ولا فساداً والعاقِبَةُ للمتَّقين(83)}
ومضات:
ـ يجب أن تزيد نسبة الإيمان دائماً على مقدار الغنى والثروة لدى الإنسان، لئلا يطغى حبُّ المال على نفسه فيفسدها ويهلكها. لذلك فكلَّما ازداد غناك، كلَّما وجب عليك أن تزيد من خشيتك لله تعالى وافتقارك إليه، والإكثار من الصدقات، لأنه في لحظة واحدة من التهاون والإهمال، تتصلَّب عواطفك فجأة وتتحجَّر، وتتحكَّم فيك الأنا والأنانية، ويبدأ بغيك وتسلُّطك على من حولك دون أن تدرك بشاعة ما صِرت إليه.(3/342)
ـ إن مثيلات قصَّة قارون تتكرَّر على مدى الأيام والعصور، ولعلَّ في محيط كلٍّ منا قارونَ، علا وبغى فقصمه الله تعالى. فليكن ذلك عبرة لنا وسبباً لاتِّخاذ الحيطة والحذر قبل أن نهلك بما سعينا لكنزه والإكثار منه.
ـ لم يحارب الإسلام تجميع الثروات، بل حارب إساءة استعمالها واستعلاء أصحابها، ولو أنهم أدَّوْا ما عليهم من الواجبات، لكسبوا الحسنة والرضا في الدُّنيا والآخرة معاً.
في رحاب الآيات:
أمثال قارون كُثر على مرِّ العصور والأيام، ولكنَّ نسبة الصفات القارونية فيهم تختلف من شخص لآخر، فبعضهم يصبح قارونَ بأقل الثروات، فتنقلب أخلاقه، وتتغيَّر مصداقيته، ويبغي على من حوله تعدِّياً وجوراً، وبعضهم الآخر يملك ما يداني ثروة قارون، فلا يزيده ذلك إلا تواضعاً وخشية لله. أمَّا قارون موضوع هذه الآيات فكان ابن عم موسى عليه السَّلام، وكان ممن آمن بالله تعالى، وكان أَقْرأَ بني إسرائيل للتوراة، وسُمِّي المُنوَّر لحسن صورته. ثم تغيَّر حاله بسبب الغنى، حيث ملكَ من الثروات الشيء الخيالي، حتَّى إن مفاتيح الخزائن الَّتي وضع فيها كنوزه، هي من الكثرة، بحيث تحتاج إلى العديد من الرجال الأقوياء لحملها، فما بالك بالكنوز ذاتها؟؟ ومع ذلك، فمن سياق الآيات نجد أنه كان هناك في سالف العصور من هو أشدُّ غنىً وثروة وقوَّة منه، فماذا كان مصير أولئك البُغاة الجبَّارين، وماذا نفعتهم أموالهم وذهبهم وفضَّتهم وحُلِيُّهم؟؟ وهل تقف هذه الثروات حائلاً بين أصحابها وبين عذاب الله وغضبه؛ إذا لم تُستثمر في وجوه الخير والإحسان؟. على أن المصلحين لم يتركوا قارون يغرق في النعيم وينسى حقوق ربِّه فقالوا له: {لا تفرح إنَّ الله لا يحبُّ الفَرِحِيْن}، وفي هذا القول خلاصة ما في المنهج الإلهي القويم من قِيَم وخصائص، تجعله متميِّزاً متفرِّداً بين سائر مناهج الحياة؛ لا تفرح فَرح الزهُوِّ المنبعث من الاعتزاز بالمال والاحتفال بالثراء، والتعلُّق(3/343)
بالكنوز، والابتهاج بالمُلك؛ لا تفرح فرح الَّذي يستخفُّه المال، فيُشغَل به قلبه، ويطير له لبُّه، ويتطاول به على العباد، {إنَّ الله لا يحبُّ الفرحين} فهم يردُّونه بذلك إلى الله الَّذي لا يحبُّ الفَرِحين المأخوذين بالمال، المتطاولين بسلطانه على النَّاس، كما أن الله لايحبُّ الفرِحين بنعمه المتناسين فضلَه وكرمه.
ويوجِّه الله عباده جميعاً الوجهة المعتدلة الصحيحة، الَّتي توازن بين الدُّنيا والآخرة، ليستعملوا ما وهبهم إياه من المال في طاعته، والتقرُّب إليه بأنواع القُربات الَّتي يحصلون بها على الثواب في الدُّنيا والآخرة. وألا يتركوا حظَّهم من لذَّات الدُّنيا الكامنة، في مآكلها ومشاربها وملابسها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لربِّك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً» (رواه البخاري والترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه) وفي هذا يتمثَّل اعتدال المنهج الإلهي الَّذي يعلِّق قلب صاحب المال بالآخرة، دون أن يحرمَهُ الأخذ بقسط من متاع الحياة الدُّنيا، بل يحضُّ على هذا، ويكلِّفه إياه تكليفاً كي لا يزهد الزُّهْد الَّذي يهمل الحياة ويضعفها. لقد خلق الله طيِّبات الحياة، ليستمتع النَّاس بها، وليعملوا في الأرض على توفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدَّد وتتحقَّق خلافة الإنسان على هذه الأرض، على أن تكون وجهتهم هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا ينشغلون بالمتاع عن تكاليفها، والمتاع في هذه الحالة، لون من ألوان العطاء الإلهي يستوجب الشكر للمُنْعِم، وتقبُّل عطاياه، والانتفاع بها، ففي ذلك طاعة من الطاعات يَجزي عليها الله بالحسنى.
إن الزُّهْد الحقيقي يكمن في الامتناع عن الاستئثار بالنعم وعن الرغبة في كنزها، وليس من الزُّهْد في شيء الامتناع عن الكسب الحلال، وتعطيل القوى ووأْدُ المواهب، بل هو البطالة والكسل والخمول وتضييع المنح الإلهية.(3/344)
وهكذا نجد أن هذا المنهج يحقِّق التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكِّنه من الارتقاء الروحي الدائم، من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، الَّتي لا حرمان فيها ولا إهدار لمقوِّمات الحياة الفطرية البسيطة. فالمال هبة من الله وإحسان، فليُقابَل بإحسان التقبُّل، وإحسان التصرُّف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكر عليها؛ فلا يستعمل للفساد في الأرض والظلم، ولا يُشْتَرى به العدوان فتمتلئ صدور النَّاس بالحقد والبغضاء، وليُنفق في وجهه الصحيح، وفي المصارف الَّتي أمر الله بها، فالله تعالى لا يحبُّ المفسدين في الأرض، كما أنَّه لا يحبُّ الفرحين المتكبِّرين.
ولما وُجِّهتِ النصيحة إلى قارون كان موقفه موقف غيره من المتسلِّطين، فادَّعى بأن ما أوتيه، كان بسبب علمه وجهده، ناسياً أو متناسياً بأن الله تعالى هو الَّذي منحه طاقات العلم والعمل، وأعطاه الصحَّة والقوَّة، وبها جميعاً تمكَّن من جمع هذا المال الوفير. إنها قولة المغرور الَّذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ويفتنه المال، وهو نموذج متكرِّر في البشرية، فكم من النَّاس من يظنُّ أن علمه وجهده هما وحدهما سبب غناه، ومن ثم يدَّعي أنه غير مسؤول عما يُنفق وعما يُمسك، وغير محاسب على ما يُفسد بالمال وما يصلح، غير مهتمٍّ بالله تعالى ولا مكترث بغضبه أو رضاه.(3/345)
والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدِّر الجُهد الفردي الَّذي يُبذل في تحصيلها من وجوه الحلال، ولا يهوِّن من شأنه ولا يلغيه، ولكن في الوقت ذاته يفرض منهجاً معيَّناً للتصرُّف فيها كما يفرض منهجاً لتحصيلها وتنميتها، وهو منهج متوازن لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتَّى الترف، ولا في إمساكه حتَّى التقتير، كما يفرض للجماعة حقوقها في هذا المال، وهو منهج واضح الملامح متميِّز السِّمات. ولكنَّ قارون لم يتَّبِع ذلك المنهج ولم يستمع لنداء المصلحين من قومه، ولم يشعر بنعمة ربِّه، وأعرض عن هذا كلِّه في استكبار لئيم، وبطر ذميم. ومن ثَمَّ جاءه التهديد الإلهي ردّاً على قولته الفاجرة المغرورة: فإن كان ذا مال وذا قوَّة فقد أهلك الله من قبله أجيالاً كانت أشدَّ منه قوَّة وأكثر مالاً، وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين، أهون على الله حتَّى من أن يسألهم عن ذنوبهم، فليسوا هم الحكم ولا هم الأشهاد.
وجاء يومٌ خرج فيه قارون على قومه في زينة عظيمة، وتجمُّلٍ باهرٍ من مراكب وخدم وحشم، مريداً بذلك التعالي على النَّاس، وإظهار العظمة، وهي صفات بغيضة تُقوِّض كيان المجتمع، وتُفسد نُظُمه، وتفرِّق شمل الأمَّة، وتقسمها إلى طبقات متناحرة، وفي ذلك تخاذُلها، وطمع العدو في امتلاك ناصيتها. وهذا ما يحمل تحذيراً لنا وأيَّما تحذير، فكثير ممن يُظهرون النِّعم إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم من مترفٍ يقيم الزينات ويصنع الولائم لعرس أو مأتم لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه، وسعة ماله بين عشيرته؛ فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته ضياع ما أوتيه من مال، ويُذهب الله ثراءه، ويجعله عبرة لمن يعتبر. فالكتاب الكريم ما قصَّ علينا هذه القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي يلحقان الوبال بصاحبهما في الدُّنيا قبل الآخرة.(3/346)
وقد انقسم النَّاس أمام غنى قارون إلى طائفتين: طائفة وقفت أمام فتنة الحياة الدُّنيا، وقفة المأخوذ المبهور المتهادي، وطائفة وقفت وقفة استعلاء على هذا كلِّه، اعتزازاً بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والرغبة في ثواب الله. وتقابلت قيمة المال وقيمة الإيمان في كفَّتي الميزان: الفريق الأوَّل افتُتِن بمال قارون، وسال لعابهم حسداً وطمعاً، وتمنَّوا لأنفسهم ما كان له، بينما قام المصلحون من الفريق الثاني بتوعية النَّاس، محاولين ردعهم عن مثل هذا التفكير وردَّهم إلى جادَّة الصواب، وبيَّنوا لهم أن الإيمان والعمل الصالح أَنْفَسُ من كلِّ نفائس الأرض وأن المال هو الزائل، وأنه لا يُعطى هذه المرتبة من القناعة والرضا إلا الصابرون على أمر الله، وعلى أداء الطاعات واجتناب المحرَّمات، والراضون بقضاء الله في كلِّ ما قسم من المنافع والمضار، والمنفقون أموالهم في كلِّ ما فيه سعادة لهم وللمجتمع؛ وبذلك يصبحون قدوة صالحة في حفظ مجد أُمَّتهم ورفع اسمها بين الأمم ببذل كلِّ ما فيه نفعها وقوَّتها وإعلاء شأنها، وبذا ينالون حُسن السيرة بين النَّاس، ويلقون المثوبة من ربِّهم.
وتتدخَّل القدرة الإلهية لتحسم الموقف، ولتخسف الأرض بقارون وماله، ليصبح عبرة للناس في لحظات قلائل، {فخَسفْنا به وبدارِهِ الأرضَ} هكذا في لمحة خاطفة هوى في بطن الأرض، الَّتي علا عليها واستطال فوقها جزاءً وفاقاً، وذهب ضعيفاً عاجزاً لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه ولا مال، وهوت معه الفتنة الطاغية الَّتي جرفت بعض النَّاس، ثم ردَّتهم إلى الله، وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال.(3/347)
وفي تلك اللحظة العصيبة استغاث قارون بموسى عليه السَّلام ليسأل الله أن يرحمه، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال: لما خُسِفَ بقارون، وكان موسى عليه السَّلام قريباً منه قال: ياموسى! ادعُ ربك يرحمني فلم يجبه موسى، فأوحى الله إليه: (استغاث بك فلم تُغِثْه، وعِزَّتي وجلالي لو قال: يارب لرحمته). فلما خسف الله بقارون الأرض، أصبح قومه يقولون: إن كثرة المال والتمتُّع بزخارف الدُّنيا، لا تدلُّ على رضا الله على من أوتيها، فالله يعطي ويمنع، ويوسِّع ويضيِّق، ويرفع ويخفض، وله الحكمة التامَّة والحجَّة البالغة، لا معقِّب لحكمه؛ وقالوا: لولا لُطف الله لخسف بنا، لأننا وددنا أن نكون مثله. لقد أيقن القوم أن الكافرين لا يفلحون، وقارون لم يجهر بكلمة الكفر، ولكنَّ اغتراره بالمال، واعتزازه بما عنده من العلم، جعل النَّاس يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في هلاكه أمارة على هلاك الكافرين.(3/348)
ويُسدل الستار على هذا المشهد، وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخُّل القدرة الإلهية العادلة، ورجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان، ويأتي التعقيب في وقته المناسب: تلك الدار الآخرة الَّتي تحدَّث عنها الَّذين أُوتوا العلم، فجعلها الله تعالى للذين لا يريدون عُلُوّاً في الأرض ولا فساداً، فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء على غيرهم، ولا يهجس في قلوبهم هاجس الاعتزاز بذواتهم، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله ومنهجه في الحياة. ورد في الأثر: [ابن آدم! كُفَّ عن محارم الله تكن عابداً، وارضَ بما قسم الله لك تكن غنيَّاً، وأحسن مجاورة من جاورك من النَّاس تكن مسلماً، وصاحب النَّاس بالَّذي تحبُّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً، وإيَّاك وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلوب، إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً ويبنون شديداً، ويأملون بعيداً، فأين هم؟ أصبح جمعهم بوراً، وأصبح علمهم غروراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً! والعاقبة للمتَّقين الَّذين يخشون الله ويراقبونه، ويتحرَّجون من غضبه، ويبتغون رضاه. وفي الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه؛ الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها، والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيراً عليهم].
والخلاصة: أن قصَّة قارون هي نموذج يتكرَّر كلَّ يوم، وفي كلِّ يوم نسمع عن كثير ممَّن انهارت ثرواتهم بين عشيَّةٍ وضُحاها، والله تعالى يعاقب المفسدين بأشكال مختلفة، فإذا لم يأخذ المال منهم، أخذهم إليه، وترك مالهم لغيرهم يتصرَّفون به حسب مشيئتهم، وفي ذلك موعظة حسنة وذكرى لأولي الألباب.
الفصل الثاني:
الاعتدال في التعلُّقات الدنيوية
سورة آل عمران(3)(3/349)
قال الله تعالى: {زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ من النِّساءِ والبَنينَ والقناطيرِ المُقَنطَرَةِ من الذَّهبِ والفِضَّةِ والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ ذلك مَتاعُ الحياةِ الدُّنيا والله عندهُ حُسنُ المآبِ(14) قُل أؤنَبِّئُكُم بخيرٍ من ذلكُم للَّذين اتَّقَوا عند ربِّهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالِدينَ فيها وأزواجٌ مُطَهَّرةٌ ورضوانٌ من الله والله بَصيرُ بالعباد(15)}
ومضات:
ـ إن المَيل إلى الملذَّات والرغبات هو من مقوِّمات الطبيعة البشرية، وما خلق الله تعالى النِّعَم والمُتَع، إلا لنُسرَّ بها ونشكر واهبها، لا لنتعلَّق بها وننسى خالقها.
ـ الإسلام لا يتعارض مع الطبائع البشرية، فهو يسعى إلى تلبية دوافعها وغرائزها، بتنظيمها وتعديل ميولها ونوازعها، ولا يسعى أبداً إلى كبحها ووأدها.
ـ يجدر بالمؤمن أن يحدَّ من جماح متعه وشهواته، لقاء ما ينتظره من نعيم الجنان ورضوان الله، وخشية أن يقع في الغفلة والمعصية دون أن يدري.
ـ الله تعالى بصيرٌ بالعباد، عالمٌ بالفطرة الَّتي طبعهم عليها، ومشرِّعٌ لما يصلح لها من التوجيهات والتعاليم والآداب.
في رحاب الآيات:
أوجد الله تعالى في نفس كلٍّ من الرجال والنساء، حباً وميلاً نحو الطرف الآخر، وكذلك حَبَّب إليهم النسل والمال والملك، وزيَّن ذلك لهم لكي تقوم حياتهم الدنيوية عليها، وأوجب عليهم أن يحسنوا التعامل معها، بالحدود الَّتي تكفل صلاح أمرهم، وتحقيق أهداف الشرع، كي يتميَّز من يُحسن العمل ممن يُسيئه.(3/350)
وقد بدأت الآية الكريمة بذكر النساء، لأن الفتنة بهن من أعظم الفتن إذا ما استقرَّ حبُّهن في القلب، وتملَّكَ الجوارح، حتَّى يخرج بصاحبه عن حدود الاعتدال والاتزان، فيصرفه عما خلقه الله من أجله، وهو الإيمان والعبادة وإعمار الكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تركتُ بعدي فتنة أضرُّ على الرجال من النساء» (متفق عليه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ). فالنساء هُنَّ موضع الرغبة بالنسبة للرجال، وإليهن تسكن النفوس كما قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خلَقَ لكم من أنفُسِكم أزواجاً لتسْكُنوا إليها وجعلَ بينَكُم مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآيات لقومٍ يتفكَّرون} (30 الروم آية 21). وإذا انفردت الآية الأولى بذكر مشاعر الرجال تجاه النساء، فهذا لا يعني أبداً أن القرآن يهمل مشاعر النساء تجاه الرجال، ففي هذه الآية دليل على أن المشاعر بين الرجل والمرأة مشتركة، وأمر أن تكون هذه المشاعر بين الزوجين قائمة على المودَّة والتراحم بينهما، لا على مبدأ المشاركة فحسب.
ثم ذكرت الآية البنين لأن النفس الإنسانية توَّاقة إليهم شديدة الشغف بهم، فهم ريحانة القلوب، وفلذات الأكباد وقرَّة العيون، بهم يرتفع الذِّكر وينتشر الصيت، وهم أصحاب الإرث عن الآباء بكلِّ أنواعه، سواء كان إرثاً مادِّياً أم فكرياً أم تربوياً. وقد قَرَن معهما حبَّ كثرة المال، لأنه مطيَّة لجلب الرغائب، وسبيل لنيل الملذَّات والشهوات. ولا يخفى أن رغبات الإنسان لا حدود لها، وملذَّاته لا حصر لها، وكلَّما حصل على لذَّة طلب المزيد، وكلَّما وصل إلى غاية تاقت نفسه إلى بلوغ ما بعدها، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الدُّنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدينار واتَّقوا النساء» (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).(3/351)
وحبُّ الممتلكات يدخل ضمن حبِّ المال، كالحرص على اقتناء الخيول الأصيلة الكثيرة العدد، فهي ما تزال حتَّى في عصر الآلة المادِّي، زينة محبَّبة مشتهاة، فيها جمال وقوَّة ورياضة، وانطلاق وأُلْفة ومودَّة، والمزادات العالمية تشهد تنافسات حادَّة بين كبار الأثرياء لاقتنائها بأسعار تكاد تكون خيالية.
وكذلك زُيِّن للناس امتلاك الأنعام والحرث؛ أمَّا الأنعام أي المواشي فهي الثروة الَّتي كانوا يتفاخرون بتكاثرها، وتقوم عليها حياة أهل البادية بشكل خاص وسائر النَّاس بشكل عام. أمَّا الحرث أي الزرع والنبات فهو قوام حياة الإنسان والحاجة إليه ماسَّة، وهذا كلُّه يشكِّل زهرة الحياة الدُّنيا وزينتها الفانية.
إن استمتاع الإنسان بهذه الأُعطيات الإلهية شيء طبيعي ومباح، ولكن أن يبالغ في حبِّها ويتعلَّق قلبه بها فهنا مكمن الخطر، وهذا هو الشرك الخفي الَّذي إن وقع به الإنسان أبعده عن دوره الإنساني، ونزل به إلى الدرك البهيمي. فالاستغراق في شهوات الدُّنيا ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية دون قيد، هو الَّذي يشغل القلب عن التبصُّر والاعتبار، ولمَّا كانت هذه الرغبات والدوافع أساسية في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يقضي بكبتها أو إنكارها، ولكن يدعو إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدَّتها المفرطة واندفاعها الشديد، فيكون الإنسان مالكاً لها متحكِّماً فيها، لا أن تكون مالكة له، متحكِّمة فيه.(3/352)
لقد تضمَّن التركيب الفطري للإنسان ميلاً نحو هذه الشهوات، وهذا جزء أصيل في تكوينه، لا يجوز إهماله ولا تجاهله، لأنه ضروري للحياة البشرية كي تنمو وتتأصَّل، ولكن الواقع يشهد بأن في الفطرة جانباً آخر يوازي ذلك الميل، ويحمي الإنسان من الاستغراق في ذلك الجانب وحده، وهو الاستعداد لضبط النفس والوقوف بها عند الحدِّ السليم من مزاولة هذه الشهوات؛ الحدِّ الباني للفضائل والحافظ للنفس والحياة. وهذا الاستعداد يُهذِّب ذلك الميل وينقِّيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة، الَّتي لا يطغى فيها جانب اللذَّة الحسيَّة ونزعاتها على الروح الإنسانية. وبذلك ضَمِنَ الإسلام سلامة الكائن البشري من الصراع بين شطري النفس البشرية، وهما نوازع الشهوة واللذَّة وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقَّق لهذه وتلك نشاطها المستمرَّ في حدود التوسُّط والاعتدال. فعلى المؤمن أن يكون كيِّساً حكيماً، يمنع نفسه من السقوط في مهاوي الشهوات، كي لا تشغله عن تهذيب روحه وإنارة عقله، وأن يوازن بين دنياه وآخرته كما قال تعالى: {ومنهم من يقولُ ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسَنَةً وفي الآخرةِ حسَنَةً وقِنا عذابَ النَّار} (2 البقرة آية 201). والعاقل من استبدل الَّذي هو أدنى بالَّذي هو أعلى، وأحلَّ رضا الله وتقواه محلَّ القيادة لهذه الشهوات والملذَّات الآنيَّة، الَّتي قد يراها الإنسان من أجَلِّ النِّعم الدنيوية، ولكنَّ المؤمن الحقَّ الَّذي ارتبط قلبه بالذَّات الإلهية، يرى عالم الروح خيراً وأبقى، وهذه الرؤيا لا ينالها إلا الَّذين اتَّقوا ربَّهم وخافوه وذكروه. والشعور بالتَّقوى مهذِّبٌ للروح، مُرهِف للحسِّ، ضابط للنفس يكبح جماحها كيلا تنساق وراء الوهم والسراب، وفيه ربطٌ لمتاع الدُّنيا بمتاع الآخرة حيث الجنَّات ونعيمها، والخيرات واستمرارها، والأزواج المبرَّأة من كلِّ عيب، وكمال ذلك هو الحصول على رضوان الله وهو أعظمُ اللذَّات عند المتَّقين.(3/353)
فإذا تمكَّن الإيمان من القلب، وتعمَّقت جذوره، أثمر حالة من الحالات المفجِّرة لطاقات الخير الكامنة الَّتي وهبها الله للإنسان. وهذه المنزلة لا ينالها إلا من ارتضى لنفسه ترك الشهوات، وجاهدها في ذات الله حتَّى تَذَوَّقَ حلاوة الإيمان وَبرْدَ اليقين، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتَّى يدع ما لابأس به حذراً لما به بأس» (رواه الترمذي عن عطية ابن عروة السعدي).
وهكذا نرى أن القرآن الكريم يبدأ بالنفس البشرية من موضعها على الأرض، وشيئاً فشيئاً يرتقي بها آفاقاً مضيئة، حتَّى يصل بها إلى الملأ الأعلى في رفق ورحمة، وفي مراعاة كاملة لفطرتها ونوازعها وضعفها، دون كبت أو قسر أو إكراه.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {اعلَموا أنَّما الحياةُ الدُّنيا لَعِبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينَكُم وتكاثُرٌ في الأموالِ والأولادِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نباتُهُ ثمَّ يَهِيْجُ فتراهُ مُصْفَرّاً ثمَّ يكون حُطاماً وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ وما الحياةُ الدُّنيا إلاَّ متاعُ الغُرور(20)}
ومضات:
ـ إذا أراد الإنسان أن يجعل من الحياة لهواً وتسلية وبَذْخاً في المظاهر، وحقلاً للمفاخرة بالأموال والأولاد، أصبحت بذوره عقيمة، ونتاجه هشيماً، وجزاؤه الجحيم.
ـ من عقل الأمور وعرف مراد الله فيما خلقه له وسخَّره من أجله، فقد وضع قدمه على الطريق الموصل إلى المغفرة والرضوان من ربِّ العالمين.
ـ الحياة الدُّنيا أحقر من أن نعطيها اهتماماً كبيراً؛ يحجبنا عن العمل الإيماني العقلاني المنتج وإلا أوردتنا موارد التهلُكة والغرور.
ـ في يوم الحساب ينقسم النَّاس إلى فئات ثلاثة، حسب أعمالهم، فهم إمَّا مسيئون يستحقُّون عذاب الله الشديد، وإمَّا مقصِّرون تائبون يستحقُّون المغفرة، وإما سبَّاقون إلى الخيرات والصالحات يستحقُّون رضوان الله تعالى وحسن ثوابه.(3/354)
في رحاب الآيات:
خلق الله تعالى آدم، وجعل فيه من الصفات والقدرات ما يؤهِّله ليكون مصنعاً لإنتاج الأبطال، وجامعة لتخريج قادة العلم والأخلاق والحكمة. ولمَّا غاب عن الأجيال المتلاحقة، فَهْمُ هذه الحقيقة، الَّتي يجب أن يعيش الإنسان لأجلها، انقلب الأبطال إلى دُمىً، والجِدُّ إلى هزل، والعمل المنتج إلى فراغ ولغو، لا فائدة منه ولا ثمرة، وتحوَّل مسرح الحياة الجادِّ المعطاء إلى مسرح للعرائس، لا واقع يحكمه ولا قيم ترفده، ولا مبادئ تسنده. وهكذا، وبسوء فهمنا لقيم الحياة، أصبحت حياتنا لعباً ولهواً، وزينة وتفاخراً وتكاثراً، وهذه هي الحقيقة الَّتي تختفي وراء كلِّ ما يبدو في حياتنا من جِدٍّ حافل، واهتمام شاغل.
وبهذا الأسلوب الجمالي المحبَّب تهزُّنا هذه الآية لندرك خطر الواقع الَّذي انجرفنا إليه، فلا تبنى الأمم والأمجاد باللعب، ولا بترديد العبارات الرنانة يُطعم الجائع، أو يُرحم المصاب. وإنَّ علينا أن ندرك أن أولاد اليوم هم رجال المستقبل، فإذا أحسنَّا تعليمهم وتثقيفهم وتخليقهم بالأخلاق الكريمة، ضمِنَّا لأمتنا مستقبلاً مشرقاً يُشعُّ بالنور والخير والمحبَّة.
إن من يجمع المال للمباهاة والمفاخرة، كمن يجمع نباتاً سرعان ما يذبل ويصفَرُّ ومن ثَمَّ يجفُّ، فتذروه الرياح دون أن يستفيد منه في مأكل أو صنعة أو دواء. فالمرء يُمنح المال ليحسن التصرُّف فيه، ويستثمره في الحقول المنتجة المفيدة، وإلا فسوف تذروه رياح الفناء، فإمَّا أن يذوب بين يديه ويتلاشى في غير منفعة، وإمَّا أن يموت عنه فلا ينفعه في شيء، وينتهي بالنسبة له شريط الحياة كلِّها، بهذه الصورة المتحرِّكة، المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة.(3/355)
أمَّا الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحقُّ أن يُحسب حسابه، ويُنْظَرَ إليه، ويُسْتَعَدَّ له. فالآخرة لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدُّنيا، وهي لا تنتهي إلى حطام كما هو شأن النبات البالغ أجله، إنها حساب وجزاء، وخلود يستحقُّ الاهتمام! وما هذه الحياة الدُّنيا إلا متاع فانٍ زائل، خادع، لمن استكان لها، واغترَّ بها، حتَّى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها. وليس المقصود من الآية الحضُّ على اعتزال حياة الأرض، ولا إهمال عمارتها وخلافتها الَّتي أناطها الله تعالى بهذا الكائن البشري، إنما المقصود بها تصحيح المقاييس الشعورية، والقيم النفسية، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل، وجاذبيته المقيَّدة بالأرض، هذا الفهم الَّذي يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليحقِّق عقيدته، ولو اقتضى تحقيقها أن يضحِّي بهذه الحياة الدُّنيا جميعها!.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وهو الَّذي أنشأَ جنَّاتٍ مَعْروشاتٍ وغيرَ مَعْروشاتٍ والنَّخْلَ والزَّرعَ مُخْتلفاً أُكُلُهُ والزَّيتونَ والرُّمَّانَ متشابهاً وغيرَ متشابهٍ كلوا من ثَمَرِهِ إذا أثمرَ وآتوا حقَّهُ يومَ حصادِهِ ولا تُسرفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين(141)}
ومضات:
ـ من بديع صنع الله تعالى أنه خلق هذا التنوع الهائل من الخيرات والثمرات، وأودع في كلٍّ منها المتعة والفائدة للإنسان، على اختلاف أجناسها وأشكالها، ووضعها بين يديه يتصرَّف بها كيف يشاء، شريطة عدم الإسراف الَّذي يؤدِّي به إلى الأمراض وتعطيل فرص الإنتاج، وشريطة عدم التفريط بحقوق الفقراء منها، كي يتشارك المجتمع بهذه السعادة وهذا العطاء الإلهي في جوٍّ تسوده المحبَّة والتعاون.
في رحاب الآيات:(3/356)
خلق الله تعالى الأرض بجنَّاتها وحدائقها، بخيراتها وآلائها، من أجل سعادة الإنسان ونعيمه، وقد أبدع في خلقها، فجعلها متعدِّدة الأشكال، متنوِّعة الألوان، ليمتِّع الإنسان عينيه بجمالها، ويجد في كنفها راحة النفس، وانشراح الصدر. وجعل في هذه الجنَّات أشجاراً باسقة متعانقة وارفة الظلال، تتشكَّل على هيئة مظلَّة واقية تحمي الإنسان من حرِّ الشمس، وتُعَدُّ الرئة الَّتي تتنفَّس بها الخلائق، والمصدر الأهمُّ للأوكسجين الَّذي هو قوام حياة الإنسان والحيوان والنبات، كما أنها أحد أسباب هطول المطر وتلطيف الجو. ومن أهم الأشجار شجرة النخيل، تلك الشجرة المباركة الَّتي تَردَّدَ ذكرها في القرآن الكريم، والَّتي كانت الصديقة والمؤنسة للسيِّدة العذراء مريم، حين وضعت نبي الله عيسى عليه السَّلام، حيث قال الله تعالى: {وهُزِّي إليكِ بِجِذْعِ النَّخلَةِ تُساقِطْ عليك رُطَباً جَنيّاً * فَكُلِي واشرَبي وقَرِّي عَيْنا..} (19 مريم آية 25ـ26) وهناك أيضاً شجرتا التين والزيتون، اللتان تحتلاَّن المكانة نفسها في القرآن الكريم، حيث أقسم الله تعالى بهما في قوله: {والتينِ والزَّيتون} (95 التين آية 1) يضاف إلى ذلك أنواع أخرى من الأشجار المثمرة كالرمَّان وغيره. ومنها الأعشاب والنباتات الَّتي تغطي سطح الأرض فتفرشها ببساط سندسي يملأ القلب بهجة، وتحمي التربة من الانجراف، وتُعَدُّ مصدر غذاء للإنسان والحيوان على السواء. هذه النعم الَّتي أفاضها الله على عباده، جعلها خالصة لهم وأباح التنعُّم بها، ضمن حدود تحفظ استمرارية عطائها، وتمنع هدرها أو إتلافها.(3/357)
وإذا كانت أحلى لحظات عمر الإنسان عندما يقطف ثمار جهده وتعبه، كالزارع يحصد محصول ما زرع فيغمره الفرح والسرور، فإن رحمة الله تأبى عليه أن يتفرَّد بهذا السرور والحبور، وتهيب به أن يتذكَّر الفقراء والمعوزين، المعذَّبين في الأرض والمحتاجين، فيقسم لهم حقوقهم الَّتي خصَّهم الله بها، ويعطيهم ممَّا أعطاه الله ووفَّقه إليه. وكثيراً ما يفقد الإنسان توازنه في مثل هذه الأوقات السعيدة، فيأكل وينفق بغير اعتدال، دون أن يحسب حساباً لأيام قد يُجْدِبُ فيها الخير وينقص، لذا أمره الله تعالى بالاتِّزان وعدم الإسراف.
إن قاعدة الاعتدال يجب أن تضبط حياة الإنسان في كلِّ تصرُّفاته؛ فالإسراف في الطعام يؤدِّي إلى زيادة الوزن وكثرة الأمراض وقلَّة الفاعلية والنشاط، والإسراف في استعمال المياه يؤدِّي إلى نقصانها وعدم كفايتها على مدار الأيام. وقد نهى الفقهاء عن الإسراف في ماء الوضوء، ولو كان المرء يتوضَّأ من ماء البحر، تعليماً للإنسان نظام الاقتصاد وعدم الهدر. كذلك فإن الإسراف في العمل وعدم مراعاة القواعد الصحِّية ينجم عنه أمراض جسدية، وتعب وإرهاق قد يؤدِّي إلى إصابة الأعصاب بالانهيار. ويبقى الإنفاق المادِّي ممَّا يجب مراقبته، حيث أن رزق الشهر قد يأتي في يوم، ورزق السنة في شهر، ورزق العمر في سنة، لذا فإن وضع كوابح للإنفاق، والاعتدال في أمور حياتنا فرض وركن من أركان الشريعة الإسلامية.
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {واعلَموا أنَّما أَموالُكُم وأَولادُكُم فِتْنةٌ وأنَّ الله عندَهُ أجرٌ عظيم(28) ياأيُّها الَّذين آمنوا إن تتَّقوا الله يجعل لكم فُرْقاناً ويُكَفِّر عنكم سيِّئاتِكم ويغْفِر لكم والله ذو الفَضْلِ العظيم(29)}
سورة التغابن(64)(3/358)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّ من أزواجِكم وأَولادِكم عَدُوّاً لَكُم فاحذَروهُم وإن تَعْفوا وتصفَحوا وتغفِروا فإنَّ الله غفورٌ رحيم(14) إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنةٌ والله عندَهُ أجرٌ عظيم(15)}
ومضات:
ـ الأولاد والأموال من أكثر الأمور الَّتي يتعلَّق قلب الإنسان بها، بينما يتعامل المؤمن معها على أنها عاريَةٌ لديه لا ملك له فيها.
ـ صاحب القلب المعتصم بحبل الله يتهيَّأ له من النور الإلهي، ما يمكِّنه من التمييز بين ما يدمِّر إيمانه وما يمتِّنه ويقوِّيه، وهو كريم الأخلاق، عَفُوٌّ مسامح، فهو في أمان الله وكنفه ورعايته.
في رحاب الآيات:
ما أعجب الإنسان! كيف يطاوعه عقله وقلبه أن يهدم العلاقة الفريدة المتميِّزة بينه وبين خالقه؟! وهل له مرفأ سلام يُهْرَعُ إليه غير مرفأ العناية الإلهية، يحميه من متاهات الحياة وصعابها وتلاطم أمواجها. وكيف يسمح لضباب البعد والغفلة أن يُغَشِّيَ عينيه، فيُضِلَّه عن منارة رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّتي يستنير بها، ليصل إلى مرفأ الهداية الإلهية. وكيف يمكنه أن يكرر مأساة خروجه من جنَّات السعادة مرَّات ومرَّات؛ بإعراضه عن المنهج الإلهي، واتِّباعه ما يخالف تعاليم السماء؟!.
إن كلَّ نعمة إلهية هي سبب من أسباب استمرار حياة الإنسان فوق الأرض، وهي أمانة بين يديه، وعليه ألا يسيء استعمالها، وإن من أكرم هذه النعم المال والأولاد، فالأموال يترتَّب عليها مدار معيشته، وتحصيل رغباته ودفع الكثير من المكاره عنه، ومن أجل ذلك يتكلَّف في كسبها المشاقَّ، ويركب الصعاب، ويتحمَّل في حفظها وتنميتها العناء، وتتنازعه في إنفاقها الأهواء، ويكلِّفه الشرع في تحصيلها وإنفاقها بالتزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغِّبه في الاقتصاد فيها ويفرض عليه حقوقاً تتعلَّق بها: كالزَّكاة، والصَّدقة وغيرها.(3/359)
أمَّا الأولاد فحبُّهم مودَعٌ في سويداء القلب، فهم عبير الأفئدة، وفلذات الأكباد، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصحَّحه، عن بريدة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فحملهما واحداً من ذا الشِّق، وواحداً من ذا الشِّق ثم صعد المنبر فقال: صدق الله {إنَّما أموالكم وأولادكم فتنة} إني لَمَّا نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما».(3/360)
وهكذا فإن حبَّ المال والولد من نقاط الضعف في الطبيعة البشرية، وربَّما أفسد الإنسان مصيره إن هو أساء التصرُّف فيهما، ومن أجل هذا فإن القرآن ينبِّهنا إلى حقيقة هاتين النعمتين، فهما من زينة الحياة الدُّنيا الَّتي تكون موضع امتحان وابتلاء، ليرى الله صنيع العبد فيهما، أيشكر ويؤدِّي حقَّ النعمة، أم ينشغل بالنعمة عن المنعم؟ فالفتنة كما تكون بالشِّدَّةِ والحرمان، تكون أيضاً بالرخاء والعطاء. وأي افتتان أو تعلُّق بهما، يميل بقلوبنا إليهما، عن حضرة الله، هو إساءة وينطوي على الخطر، حيث ننشغل بالخلق عن الخالق. فقد نتجاوز قيمنا الأخلاقية لأجل إسعاد من تعلَّقنا بهم، ولو كان في ذلك مخالفة لتعاليم الله الَّتي تُعَدُّ أساس الحياة السليمة، وإذا تنبَّه القلب إلى حقيقة الامتحان والاختبار الَّذي يكمن فيهما، كان ذلك عوناً له على اتِّخاذ جانب الحذر واليقظة والحيطة. فيجب ألا تكون أموالنا محطَّ تعلُّق قلوبنا، وألاَّ نُفْتَنَ بها ونبتعد عن أهدافنا السامية، وكذا الأولاد يجب أن نتعامل معهم من منطلق التربية والتعليم والتأديب، لا من منطلق الهوى والشغف بهم، فنترك لهم الحبل على الغارب ليفعلوا ما يشاؤون. إذ ربَّما وَضَعَنا التعلُّق بهم في مواجهة صدمات نفسية شديدة إذا أصابهم مكروه، وقد يدفعنا الخوف عليهم إلى زرع الجبن في نفوسهم، فلا ندرِّبهم على أعمال البطولة والفروسية، وتجاوز الصعاب؛ وفي ذلك كلِّه بلاء وامتحان، لا ينجينا منه، إلا العودة لتعاليم الشرع في هذا المجال والتمسُّك بها.(3/361)
والحديث عن الفرع يجرُّنا للحديث عن الأصل، فالأولاد ثمرة علاقة شرعية بين الزوج والزوجة، وهنا لابُدَّ من وقفة قصيرة أمام نقطة البداية، لحظة اختيار الزوج لزوجته. فمن الخطأ أن يتسرَّع المرء في اختيار شريكة حياته مُنقاداً لعواطفه، معتمداً على أمور ظاهرية قد لا تعطي صورة حقيقية عن طريقة تفكيرها، ولا عن مقدار تمسُّكها بالقيم التربوية الفاضلة، مما يؤدِّي إلى تقويض أركان الأسرة وانهيارها في المستقبل، لأن أخلاق الأمِّ وسلوكها هما القدوة للأبناء. وقد تنشأ الخصومات بين الزوجين حين تنساق الزوجة وراء سطحية الحياة والمظاهر المزيَّفة، من ثياب أو تبرُّج بزينة تاركة ما هو أهمُّ، من رعايةٍ لأبنائها وتزويدهم بالخلق الفاضل، وتدريبهم على مواجهة الحياة بصبر وحكمة. إن زوجة كهذه قد تزرع الحقد والكراهية في صدور أبنائها تجاه أبيهم لتستر عيوبها ونقائصها، لذا كان لابُدَّ للمؤمن الجادِّ في بناء أسرة إسلامية ملتزمة، من انتقاء الزوجة الملتزمة بمبادئ الإسلام قولاً وعملاً، وعندها تتقارب الأفكار وتسهل عملية البناء والتواصل، فيتمكَّن الزوجان من تهذيب أولادهما وفق معايير الإسلام القويمة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «الدُّنيا كلُّها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة» (رواه النسائي ومسلم وأحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله، خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (أخرجه ابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ).(3/362)
وكذلك حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على أهمِّية تربية الأبناء تربية صالحة، وعدَّ الولد الصالح من الخير الباقي والمخلِّد لذكر أبيه في الدُّنيا فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه الخمسة إلا البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
وإذا كانت الآيات تحذِّر المرء من أن زوجه أو ولده أو كليهما، قد يكونان عدوَّين له، فهذا لا يعني أنها تدعوه إلى تركهما والإعراض عن معاشرتهما ومصاحبتهما إن هما أساءا، بل تدعوه إلى ضرورة تجنُّب الأسباب الَّتي تنشئ العداوة، بالمداراة والصفح والمغفرة، وبذلك يدفعنا الإسلام إلى قمَّة الفضيلة والتسامح في تعاملنا مع النسوة والأبناء، لعلَّنا نصل إلى شغاف قلوبهم بالإحسان والعفو، وننزع من نفوسهم بذور الجهل، ونعيدهم إلى الطريق الأخلاقي القويم. والله تعالى لا يدع الإنسان بلا عون منه ولا عِوَضٍ إن هو آثر حقَّ الله ورضاه، وإنما يُلَوِّحُ له بما هو خير وأبقى ليستعين به على الفتنة ويتقوَّى على الطاعة، فهو سبحانه الَّذي وهب الأموال والأولاد وقد هيأ أجراً عظيماً لمن يستعلي على فتنتهما، ولا يقعد عن تكاليف الأمانة، وجهاد النفس.
والتَّقوى هي زاد الطريق، وهي المَلَكة الَّتي نفرِّق بها بين الحقِّ والباطل، وهي القوَّة الدافعة للمؤمن الواعي لكي يتحمَّل مسؤوليته في كلِّ ما تقدَّم، وهي الَّتي تحيي القلوب وتوقظ أجهزة الحذر والوقاية، وهي النور الهادي الَّذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه الوعرة، ويزيل عنه الشبهات الَّتي تحجب الرؤية الصحيحة.
سورة التوبة(9)(3/363)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّخِذوا آباءَكم وإخوانَكُم أولياءَ إن استَحَبُّوا الكُفْرَ على الإيمان ومن يتَوَلَّهم منكم فأولئك هم الظَّالمون(23) قلْ إن كان آباؤُكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرَتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَوْنَ كسادَها ومساكِنُ ترضَوْنَها أحبَّ إليكم من الله ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فترَبَّصوا حتَّى يأتيَ الله بأمرِهِ والله لا يهدي القومَ الفاسقين(24)}
ومضات:
ـ الأبُوَّة والأخُوَّة وجميع الروابط العائلية المقدَّسة، تفقد قدسيَّتها وتنحلُّ عُراها، إذا حدث خلاف في العقيدة بين أطرافها، والقرابة الحقيقية يوجدها الدِّين، وإذا لم يواكب قريب الجسد مسيرة الإيمان، انفصمت أواصر القربى بينه وبين المؤمنين، لأن الإيمان هو اللُّحْمَةُ الحقيقية لهذه الأواصر.
ـ يجب ألاَّ يكون في قلب المؤمن إلا الله، وأن تكون الدُّنيا وما فيها أداةً يستعملها في مرضاة الله تعالى، وتحقيق الخير للإنسانية.
في رحاب الآيات:
على الإنسان المؤمن أن يتحرَّك ضمن الدائرة المرسومة له من قبل حضرة الله، لأن الله تعالى أدرى بمصلحته وكلِّ شؤونه، فإذا قال له: افعلْ وجب التنفيذ لأن ذلك ضمانٌ لمصلحته، وإذا قال: لا تفعل وجب الامتثال حفظاً لسلامته في دينه ودنياه. وليس هذا إلغاءً لحرِّية الإنسان بل ضبطاً لها، فالحرِّية مسؤولية وليست فوضى، وارتقاء بالعقل لا مصادرة له.(3/364)
وإذا سلَّم الإنسان بهذه البديهية، تسرَّب بَرْدُ الطمأنينة إلى قلبه، وانضبطت أموره وفق قواعد دقيقة، وقوالب محكمة، تحميه من الزَّلل، وتعصمه من الخلل. وعقيدة التَّوحيد لا تقبل شريكاً لها في قلب العبد المؤمن، لأنها تريد وحدها أن تأسر قلبه وتملك عليه مشاعره، وأن تنشر من نورها على جنبات هذا القلب، فإذا فاض النور ترشَّح من القلب إلى جدران النفس فارتقت، وتحوَّلَتْ من نفسٍ أمَّارة بالسوء، إلى نفس مطمئنَّة تُسلم قيادها لله تعالى، وتقرُّ بالعبودية له، فتصبح نظيفة مستقيمة، وفق شريعته عزَّ وجل.
والمؤمن مطالَبٌ بأن يضع العقيدة ومقتضياتها في كفَّة، ثم يضع كلَّ ما يتعلَّق بأمور الدُّنيا من أبناء وآباء وزوجات، وأموال وعشيرة، وقصور وتجارة ومساكن، في الكفَّة الثانية، وعليه أن يرجِّح كفة العقيدة بالإيمان الصادق المخلص، لأن كلَّ ما يتعلَّق بالدُّنيا أمر آنيٌّ لا دوام له، فإذا ما تعلَّق قلب الإنسان بشيء ما، ثم طرأ عليه طارئ ففقده، كانت فاجعته شديدة، قد تودي بحياته، أو تذهب بعقله، أو تزعزع إيمانه. ولكن هل ينبذ الإنسان كلَّ شيء ويعيش وحيداً، فريداً، هائماً على وجهه؟ الجواب: لا، فالإسلام طلب منا أن نعدِّل ميزان حرارة قلوبنا، فكلَّما انخفضت درجة حرارة الإيمان، رفعناها بالذكر والصلة بالله، والعبادات بأنواعها، والصدقات بمختلف أشكالها، وكلَّما ارتفعت درجة حبِّ الدُّنيا، خفضناها بتذكُّرنا أَنَّ ما عند الله هو خير وأبقى.(3/365)
إن مهمَّة الإنسان في الوجود أن يكون رقيباً على نفسه، حكيماً يضع الأمور في نصابها، فلا تطغى أمور الدُّنيا على أمور الآخرة، ولا متطلَّبات الجسد على سمُوِّ الروح، لأن الروح هي قبس إلهي في الإنسان، فيجب أن نصونها عن كلِّ ما يَمَسُّ نقاءها وإشراقها، والجسد صدفة فانية فلا نأسى عليه. وبناءً على هذا فقد غلَّبت العقيدة رابطة الإيمان على رابطة النَّسب، لأن الإيمان تيار يسري في القلوب المُحِبَّة، وهو تيار مُصفَّى مُنقَّى، إذا لامس الأنفس أحرق شهوانيتها، وحقَّق إنسانيتها، فتتوحَّد مشاعرها وتترابط في الله ومن أجل الله. أمَّا روابط الدم والنسب، فهي مُعَرَّضة للتذبذب والفتور كلَّما تصادمت المصالح، فكم من ابن عقَّ والديه من أجل المال، وكم من أخ أنكر أُخُوَّته بسبب مصلحة شخصية أو مغنم دنيوي. أمَّا المال فلا أمان له، فهو معرَّض للسرقة أو الخسارة أو الفناء لسبب أو لآخر، وكذلك المساكن والقصور والأثاث والرياش، فهي تملأ العين، ولكنَّها لا تملأ القلب المؤمن أبداً. فإذا لم يستجب المرء لما يحيي موات قلبه وينقذ وجدانه، فإن عقاب الله سينزل به، والله تعالى حين يعاقب لا يعاقب انتقاماً لذاته المقدَّسة، فهو أعظم وأجلُّ وأرفع، بل يعاقب من أساء إلى ميزان الحقِّ الَّذي جعله صمَّام الأمان، لسعادة الإنسان ونقاء ضميره.
فما هو هذا العقاب؟ هل هو عذاب يوم القيامة؟ أم هو زلازل وبراكين وكوارث غالبة؟ لا، إنه قبل ذلك كله الذلُّ والهوان والمسكنة، إنه تسلُّط الأمم الجبَّارة على الأمم الضعيفة، الَّتي ما ضعُفت إلا لأنها خالفت أوامر الله، وتقاعست عن مواصلة السير في طريقه الَّذي هو كَسْرُ كلِّ تعلُّق مادِّي ونفسي، ورَبْطُ القلوب به، وتوجيهُ الأعمال خالصة لوجهه، وبذلك تنال الأُمَّة القوَّة والعزَّة على سائر الأمم، بعلومها المتقدِّمة، وإنسانيتها الخلاقة، وأخلاقها الرفيعة.(3/366)
إن تعلُّقنا القلبي بحلال ما نملك مرفوض، وهو شِركٌ وبُعدٌ عن الله، فكيف إذا تعلَّقت قلوبنا بما هو حرام وبما نهى الشرع عنه؟ أليس هذا هدراً لإنسانيتنا، وإلغاءً لصوت فطرتنا، وهدماً لأسس مجتمعنا الراقي الفاضل؟.
سورة هود(11)
قال الله تعالى: {ونادى نوحٌ ربَّهُ فقال ربِّ إنَّ ابني مِن أهلي وإنَّ وعْدَكَ الحقُّ وأنت أحْكَمُ الحاكمين(45) قال يانوحُ إنَّه ليس من أهلِكَ إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ فلا تسْأَلْنِ ما ليس لك به علْمٌ إنِّي أعِظُكَ أن تكون من الجاهلين(46)}
ومضات:
ـ إن سبب إلحاح نوح عليه السَّلام على إنقاذ ابنه، رغم شططه وعدم إيمانه بنبوَّته، هو الدافع الغريزي عند كل أب رؤوف، ينغِّصه ويعصر فؤاده، أن يرى ولده مشرفاً على الهلاك والموت.
ـ لا محاباة في شرع الله، فإن صلح عمل الإنسان أعطاه صلة القرب مع الأنبياء والأولياء والمصلحين، وإن فسد عمله انقطعت تلك الصلة، فكم من مقرَّب من الله، عقَّه أولاده وسَخِروا من ولايته وزهدوا به، بسبب قربهم المادِّي منه، ونظرتهم إليه بعين المصلحة والحاجة، دون أن يدركوا منزلته عند الله، فما أفادهم القرب الجسدي شيئاً ولاقَوا المصير الَّذي لاقاه غيرهم من المفسدين.
في رحاب الآيات:(3/367)
رفضت الشرائع السماوية على الدوام إعطاء القرابة الجسدية أية ميزة أو أفضلية، ما لم تكن مقرونة بقرابة روحية، مبنية على الفهم التامِّ لتعاليم الله وتطبيقها. وهذا ابن نبي؛ خرج على شريعة السماء، وأنكر نبوَّة أبيه، فلفظته القدرة الإلهية، وتركته لأمواج الطوفان تبتلعه، لأنه بسوء عمله أصبح غير مؤهَّل لينال رحمة السماء. وعلى الرغم من محاولة والده النبي، الشفاعة له عند الله، بدافع عاطفة الأبوَّة، حيث نادى ربَّه بأن ابنه من أهله، وقد وعده الله بنجاتهم وحملهم في السفينة، وإن وعد الله حقٌّ لا خُلف فيه، إلا أن الله يجيبه: يانوح إن ابنك ليس من أهلك الَّذين أمرتك أن تحملهم في الفُلك، لأنه سيِّء العمل، فقد انحلَّ الرباط بينك وبينه، ولذلك فإني لا أرضى لك أن تطلب مني أن أتجاوز عنه، وقد تساوى بعمله مع الظَّالمين الكافرين، الَّذين حقَّ عليهم العذاب؛ فلا تسأَلْنِي ما ليس من حقِّك، وأُحذِّرك أن تَضْعُفَ أمام عاطفة فيها مخالفة لأمري. ومثل ذلك أيضاً ما كان بين إبراهيم وذريَّته حيث خاطبه الله قائلاً: {..قال إنِّي جاعِلُكَ للنَّاسِ إماماً قال ومِن ذُرِّيَّتي قال لا ينالُ عهدي الظَّالمين} (2 البقرة آية 124) وكذلك ما كان بين نوح وزوجته ولوط وزوجته، قال تعالى: {ضَرَبَ الله مثَلاً للَّذين كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبْدَيْن من عبادِنا صالحَيْن فخانَتاهُما فلم يُغْنِياعنهما من الله شيئاً وقيلَ ادْخُلا النَّارَ مع الدَّاخلين} (66 التحريم آية 10). ولابُدَّ من التنبيه هنا على أن هذه الخيانة، ليست خيانة في العرض والشرف، فهذه مستحيلة في حقِّ الرسل عليهم الصَّلاة والسَّلام، وإنما كانت خيانة هاتين الزوجتين في هجر الرسالة الَّتي جاء بها رسل الله وعدم الإيمان بها. وعلى النَّقيض من ذلك فقد كانت زوجة فرعون، مؤمنة، وزوجها طاغية لم يعرف الإيمان إلى قلبه سبيلاً، قال تعالى: {وضَرَبَ الله مثَلاً للَّذين(3/368)
آمنوا امرأةَ فرعونَ إذ قالت ربِّ ابْنِ لي عندَك بيتاً في الجنَّةِ ونجِّني من فرعونَ وعمَلِهِ ونجِّني من القومِ الظَّالمين} (66 التحريم آية 11). ولا يفوتنا في هذا المجال قول الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم : «يافاطمة بنت محمَّد اشتري نفسك من الله، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً» (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وأخرجه أحمد بن حنبل عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما).
وقد حذَّر الله عباده من الانسياق وراء العواطف، وتغليب رابطة الدم على رابطة الإيمان، وذلك من أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة الموهوبة له من الله تعالى. فالإسلام يجعل العقيدة هي الركيزة الَّتي يقوم عليها التجمُّع الإنساني، والَّتي يتقرَّر على أساسها مصير كلِّ فرد، وهي الَّتي من شأنها أن تنشئ مجتمعاً إنسانياً عالمياً انفتاحياً، ينضمُّ إليه الأفراد من شتَّى الأجناس والألوان، بكامل حرِّيتهم واختيارهم الذاتي.
الفصل الثالث:
الأهلَّة والمواقيت
سورة الرحمن(55)
قال الله تعالى: {الرَّحمنُ(1) علَّمَ القرآنَ(2) خلَقَ الإنسانَ(3) علَّمهُ البيان(4) الشَّمسُ والقمرُ بِحُسْبان(5) والنَّجمُ والشَّجرُ يَسْجُدَان(6) والسَّماءَ رفعَها ووضعَ المِيزان(7) ألاَّ تطغَوْا في المِيزان(8) وأقيموا الوزنَ بالقِسْطِ ولا تُخسِروا المِيزان(9)}
ومضات:
ـ يسَّر الله تعالى للإنسان سبل تعلُّم علوم القرآن، والرشف من أنواره الربَّانية؛ بعد أن زوَّده بنعمتي، العقل والنطق، كوسيلتين يتمكَّن بهما من التخاطب والتفاهم مع من حوله.
ـ إن في خلقه تعالى للشمس والقمر حِكَماً بالغة، منها حساب الأيام والأشهر والسنين، ذلك أنهما يَسْبَحان في الفضاء بدقَّةٍ متناهية، كفيلة بإيجاد حسابات شمسية وقمرية متناهية الدقَّة.
ـ الزروع بأنواعها المختلفة، والأشجار المعطاء، تقرُّ جميعها بفضل وجودها لخالقها عزَّ وجل.(3/369)
ـ رفع الله تعالى السماء ضمن موازين معينة، وجعل لكلِّ أمر في هذا الكون ميزاناً، كي تصلح الأمور ويسود الانضباط والتوازن في جميع ما خلق، ولكي تتعايش البشرية ضمن الميزان الإلهي الحق. ولهذا فهو سبحانه يأمر النَّاس باستعمال ميزان الأشياء، بدقَّة واستقامة، لضمان استمرار مسيرة الحياة، بحفظ الحقوق، وأداء الواجبات.
في رحاب الآيات:
عن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: لقد قرأتها على الجنِّ ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم؛ كنت كلَّما أتيت على قوله: {فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذِّب فلك الحمد» (رواه الترمذي والحاكم)، وعن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لكلِّ شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن» (أخرجه البيهقي في الشعب) ففي هذه السورة تعريفٌ بالله الرحمن الرحيم، الَّذي خلق الإنسان، وأهَّله لتعلُّم القرآن، وأعطاه الاستعداد للاستزادة من العلوم، والحكمة والآداب، ومعرفة قانون الأسباب والمسبِّبات. ثم إن الله عزَّ وجل عدَّد نِعمهُ على عباده، فقدَّم أعظمها نعمةً، وأعلاها رتبةً، وهو القرآن الكريم، لأنه الترجمة الصادقة الكاملة لقوانين هذا الخلق، ومنهج السماء للأرض الَّذي يصل أهلها بناموس الوجود، ويقيم عقيدتهم وتصوُّراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الَّذي يقوم عليه الكون، فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع هذا النظام المتكامل البديع.
فمن آلاء الله أنه خلق الإنسان، وعلَّمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور في خلده، وهذه مِنَّةٌ كبرى لا تعدلها مِنَّة أخرى، ولكنَّ الإنسان ينسى بطول الأُلفة عظمة هذه الهبة، فيردُّنا القرآن إليها، ويوقظ عقولنا لنتدبَّرها، ونشكر المنعم عليها.(3/370)
ومن إعجازه تعالى أنه خلق الشمس والقمر، يجريان بدقَّة متناهية، لنضبط أمورنا ضمن مواقيت محدَّدة، فنحسب الأشهر والساعات، ونلزم أنفسنا بالمحافظة على المواعيد، ونحسب مطلع القمر بدقَّة ليكون عندنا تقويم قمري متكامل لا خلل فيه. ومع العلم بأن الشمس ليست أكبر ما في السماء من أجرام، فهنالك في هذا الفضاء، الَّذي لا يعرف له البشر حدوداً، ملايين الملايين من النجوم، ولكنَّها أهمُّ نجم بالنسبة لكوكب الأرض، الَّذي يعيش هو وسكانه جميعاً على ضوئها وحرارتها وجاذبيتها. وكذلك القمر، وهو تابع صغير للأرض، ولكنَّه شديد التأثير عليها، وهو العامل الأهمُّ في حركة المدِّ والجزر في البحار. إن حجم الشمس، ودرجة حرارتها، وبُعدها عنا، وسيرها في فلكها، وكذلك حجم القمر وبُعده ودورته، كلَّها محسوبة حساباً كامل الدقَّة، بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض، وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى. فالشمس تبعد عن الأرض اثنين وتسعين مليوناً ونصف المليون من الأميال، ولو كانت أقرب إليها من هذا لاحترقت أو انصهرت أو استحالت بخاراً يتصاعد في الفضاء، ولو كانت أبعدُّ ممَّا هي عليه لأصاب التجمُّد والموت جميع ما على الأرض، وانعدمت عليها الحياة، علماً بأن الَّذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءاً من مليوني جزء من حرارتها، وهذا القدر الضئيل هو الَّذي يلائم حياة الإنسان.(3/371)
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض، فلو كان أكبر أو أقرب مما هو عليه، لكان المدُّ الَّذي يُحدثه في بحار الأرض ومحيطاتها، كافياً لغمرها بطوفان يعمُّ كلَّ ما عليها. فالوجود كلُّه متناسق ومتوازن مع بعضه بعضاً، وهو مرتبط ارتباط العبودية بمصدره الأوَّل، وخالقه المبدع؛ والنجم والشجر فيه يدلان على هذا التناسق والتوازن، فهما يخضعان لله وينقادان، كما ينقاد الوجود بأسره للرحمن فيما يريده، (النجم هو النبات الَّذي لا ساق له، كالعشب والبقل)، ويتمثَّل هذا الانقياد بإنتاج الخضار والثمار والفواكه؛ وما اختلاف الثمر في الشكل والهيئة، واللون والمقدار، والطعم والرائحة والعناصر المكوِّنة لها من أملاح ومعادن بشكل موزون ومتوازن مع مقدار حاجة الإنسان والحيوان من هذا النبات، إلا انقياداً للقدرة الَّتي أرادت ذلك قال تعالى: {والأرضَ مَدَدْناها وألقينا فيها رواسيَ وأَنْبتنا فيها من كلِّ شيء موزون)} (15 الحجر آية 19). وتشير الآية إلى السماء لتنبيه القلب الغافل، وإنقاذه من بلادة الأُلفة، وإيقاظه لرؤية عظمة هذا الكون وتناسقه وجماله، وإلى قدرة اليد الَّتي أبدعته وجلالها. فمن عظمة رفع السماء الهائلة المترامية الأطراف، إلى إقامة ميزان الحقِّ، الَّذي وضعه الله تعالى ثابتاً راسخاً مستقرّاً، لتقدير القيم، قيم الأشخاص والأحداث كي لا يختلَّ تقويمها.(3/372)
إن هذا الكون بعظمته، ابتداءً من نجومه العملاقة، وانتهاءً بشجره ونباته الصغير، كلَّه مسخَّر لأمر الله، وطوع قدرته وإرادته، وما بين السماء والأرض نجد الأمور متوازنة منتظمة، فكلٌّ في فلك يسبحون، وكلٌّ له مساره ومداره، وكما النظام في السماء وعوالمها، فكذا عالم الأرض، يجب أن يسوده التوازن؛ فلا يطغى قويٌّ على ضعيف، ولا غنيٌّ على فقير، ولا عالم على جاهل، ولا روح على مادَّة، ولا مادَّة على روح، ولا عقل على عاطفة، ولا عاطفة على عقل، بل توازن بين الأمور كلِّها، لتستقيم الحياة ونشعر بمتعها المسخَّرة لنا.
والخلاصة: إن كلَّ ما في الوجود خاضع لسلطان الله، قائم على النظام والعدل، فيجب على الإنسان أن يحرص عليهما، في جميع معاملاته، حتَّى لا يختلَّ التوازن في علاقاته مع النَّاس، وبالتالي حتَّى لا تختلَّ حياته.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {يَسئلونَكَ عن الأهِلَّةِ قُلْ هي مَواقيتُ للنَّاسِ والحَجِّ وليسَ البِرُّ بأن تأتوا البُيوتَ من ظُهورها ولكنَّ البِرَّ من اتَّقى وأْتُوا البُيوتَ من أبوابها واتَّقوا الله لعلَّكُم تُفلحونَ(189)}
ومضات:
ـ الأهلَّة جمع هلال وهو شكل من أشكال القمر، يظهر للنَّاس في بداية الشهر القمري، كان النَّاس يترقَّبونه ليعرفوا به مواقيتهم، وأهمُّها مواقيت عباداتهم الَّتي جعل لها الله تعالى، ميقاتاً ونظاماً، كالصَّوم والحج، وهذا بيان على الأهمِّية العظيمة الَّتي أولاها سبحانه لتنظيم الوقت في حياة الإنسان.
ـ يكمن البرُّ في العمل الصالح، الَّذي يقرِّب المؤمن من الله، ويمكِّنه من اجتناب محارمه.
ـ كما ينبغي على المرء أن يدخل البيوت من أبوابها، فكذلك ينبغي على المؤمنين أن يلتمسوا الحكمة في أعمالهم، وأن يتناولوا الأمور من مداخلها الصحيحة، وأن يقصدوا من وراء التعبُّد غاية نبيلة، هي التزكية وزيادة القرب إلى الله.(3/373)
ـ الالتزام بالسلوك العقلاني، بعيداً عن الأوهام والخرافات، يقود المؤمن إلى السعادة الحقيقية الكامنة في العبادة الحقَّة لله عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:
الإسلام رسالة إنسانية شاملة، تحمل آداباً اجتماعية سامية، وتعليماً للأُمَّة كيف يتمسَّك أفرادها بالأخلاق الفاضلة. وأوَّل مصادر الشريعة في الإسلام وأهمُّها هو القرآن الكريم، ومحور اهتمام القرآن هو الإنسان، تصوُّرُه، اعتقاده، مشاعره، مفاهيمه، عقله وطاقاته الفكرية، سلوكه، أعماله وعلاقاته، يدلُّه كيف يحافظ على فطرته سليمة دون انحراف أو فساد، ويضع له النظام الَّذي يؤهِّله لتوظيف طاقاته ومواهبه، واستثمارها بالشكل المنتج السليم، والبعيد عن الخرافات الأوهام، في وقت كان أغلب النَّاس مستغرقين في خِضَمِّ الجهل والأُميَّة، لا يعرفون سوى القليل من أسباب وجود الظواهر الطبيعية، فهي مبهمة بالنسبة لهم ويصعب عليهم إدراك حقيقتها.
ومن الأمثلة على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سُئِل مرة عن القمر: لِمَ يبدو هلالاً ثم يتكامل حتَّى يصبح بدراً ثم يعود هلالاً؟ كان سؤالُ النَّاس عن ذلك، سؤال الحائر أمام هذه الظاهرة الكونية، الراغب في معرفة أسرارها والغاية منها، وجاء الجواب بواسطة الوحي الإلهي، جواب الحكيم الخبير، الَّذي يحرص على توجيه عباده وإنارة عقولهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وليبيِّن الحكمة الَّتي تكمن وراء تلك الظاهرة، فوجَّههم إلى ما هو أبعد من النظرة السطحية الَّتي تتعلَّق بظواهر الأمور، وهي نظرة المتعمِّق المتأمِّل الَّتي تبحث عن بواطنها، وكأنَّه يقول لهم: كان الأَولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهلَّة، لا أن تكتفوا بالسؤال عن سبب تزايد حجمها في منتصف الشهر وتناقصه في أول الشهر وآخره.(3/374)
وبذلك يتَّجه الجواب من تحديد وظيفة الأهلَّة إلى واقع الحياة العملي، لا إلى مجرد العلم النظري المتعلِّق بالدورة الفلكية للقمر فحسب، حيث توحي الآية الكريمة بقول الله عزَّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : قل ـ يامحمد ـ إن الأهلَّة مواقيت للناس لمعرفة شهورهم وسنيِّهم وأيامهم وعدَّة نسائهم، وأوقات حجِّهم ونسكهم، وآجال عقودهم في المعاملات، وكذلك هي معايير زمنية لبعض العبادات كالصِّيام والحج، حيث أن أداءها مرهون بالوقت، ولو استقرَّ الهلال على حالة واحدة، لما تيسَّرت معرفة الوقت به، ولمرَّ الزمن من غير ضابط. وفي ذلك إشارة إلى قيام الكون على نظام دقيق منضبط، وإلى وجوب العناية بالوقت، في نشاط المسلم الحقِّ، تجاه نفسه وتجاه الآخرين، فلا نجاح بلا نظام، ولا إتقان بلا انضباط، قال تعالى: {هو الَّذي جعلَ الشَّمس ضياءً والقمرَ نوراً وقدَّرَهُ منازِلَ لتعلَموا عددَ السِّنينَ والحساب ما خَلقَ الله ذلكَ إلا بِالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يَعلمونَ} (10 يونس آية 5).
وقد كان العرب الأوائل من السبَّاقين إلى العناية بالمواقيت، وضبط الزمن من خلال ملاحظاتهم الفلكية، ذلك لما تَيَسَّر لهم من صفاء الذهن، وتوقُّدِ الخاطر، الَّذي صقلته لهم الطبيعة الصحراوية، الَّتي كانوا يعيشون في أحضانها. ثم أتى بعدهم العلماء في الحضارتين الإسلامية والأوربية ليستعملوا المراصد الفلكية، وليتوسَّعوا في دراسة علم الفلك، حيث تبيَّن لهم أن نظام الكواكب يجري في دقَّة متناهية، وتمكَّنوا من رصده بدقَّة شديدة، وعناية فائقة.(3/375)
والواجب اليوم يقتضي من علماءِ وفقهاءِ المسلمين أن يتابعوا جهود أولئك العلماء، ويواصلوا أبحاثهم، ويستفيدوا من دقَّة توقيت الأهلَّة، في إصدار توقيت قمري سنوي، يجري اعتماده بشكل رسمي من قبل سائر الدول الإسلامية، ويتمُّ من خلاله تحديد مسبق لبداية شهر رمضان وانتهائه، وموعد الوقوف في عرفة، وهذا كلُّه ممكن عندما نهجُر أمِّيَّتَنا، ونغدو متعلمين، ونواكب التقنيات الحديثة ونحسن الاستفادة منها. ولن يكون بعدها أي اختلاف في تعداد أيام شهر رمضان، أو أي اختلاف بين الدول الإسلامية في توقيت بداية صومهم ونهايته، وتحديد يوم الوقوف بعرفات، وأيام أعيادهم، مسبقاً ودون مفاجآت تتعلَّق بالغيوم والظواهر الطبيعية وغيرها. وإذا كان النبي الكريم قد طلب من الصحابة أن يصوموا لرؤية الهلال وأن يفطروا لرؤيته حين قال: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فأتمُّوا شعبان ثلاثين» (رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه )، فذلك لأن الوسيلة الوحيدة الَّتي كان يملكها العرب في ذلك الحين، لرصد الهلال، إنما هي الرؤية المجرَّدة، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُغلق الباب في وجه العلم والمعرفة، وقرر أميَّة قومه في حينها، وإمكانية تطوير وسائل المعرفة حين نلجأ للعلم، بقوله: «نحن أمَّة أميَّة لا نكتب ولا نحسب! الشهر هكذا وهكذا» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما).(3/376)
وتمضي الآية في توجيه هامٍّ إلى أدب من آداب السلوك الاجتماعي، حيث ينهى الله المسلمين عن إتيان البيوت من خلفها إذا أحرموا. إذ كان العرب في الجاهلية إذا أهلُّوا بالحجِّ أو العمرة، يلتزمون ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة، لا يدخل من باب الحجرة حتَّى لا يحول سقف البيت بينه وبين السماء، فيتسنَّم ظهر بيته على الجدران، ثم يأمر بحاجته فتُخرَج له من بيته. فكانوا يرون هذا من النُسك والبرِّ، فردَّ الله عليهم ببطلان ذلك، وبيَّن أن البرَّ الحقيقي يكمن في التحلِّي بتقوى الله؛ الَّتي تلزمهُ بالتخلِّي عن المعاصي، والتحلِّي بالفضائل، واتباع الحقِّ، وعمل الخير، وفي التعامل مع النَّاس على أساسٍ من الصدق والصراحة والتفاهم دون مراوغة، والاستقامة في القول والعمل، وأن يتطابق لسان المرء مع قلبه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا يستقيم إيمان عبد حتَّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتَّى يستقيم لسانه» (أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أنس رضي الله عنه ).
وتُعَدُّ هذه الآية دستوراً للمسلمين كي يصرِّفوا أمورهم بالحكمة، ويعالجوها من منطلق العقل والتفكير، ضمن قوانين الأسباب والمسبِّبات، لا من منطلق التقليد والاتباع الأعمى، أو من منطلق عاطفي أو سطحي. وهذا بدوره يقودنا إلى تتبُّع الأسباب في تفسير كلِّ ما يعرض لنا حتَّى نستطيع أن نتعايش معه ونستفيد منه، فإن لكلِّ مشكلة أو مسألة مفتاحاً، به نفتح الأبواب المغلقة وندخل. ولكي نضع أيدينا على التفسير أو الحل، يجب علينا أن لا نقصِّر في سبيل العثور على تلك المفاتيح، ليغنينا الحصول عليها عن اللجوء إلى أنصاف الحلول أو الحلول المؤقَّتة، أو أن نقتحم الأمور من غير المدخل الحقيقي لها، فنبتعد بذلك عن مضمونها وحلِّها أكثر فأكثر.
سورة العصر(103)(3/377)
قال الله تعالى: {والعصرِ(1) إنَّ الإنسانَ لفي خُسْرٍ(2) إلاَّ الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ وتواصَوْا بالحقِّ وتواصَوْا بالصَّبر(3)}
ومضات:
ـ يقسم الله تعالى بأهم عنصر يتعلَّق بالحياة عموماً، وبالإنسان خصوصاً، ألا وهو الزمن أو الوقت، ليؤكِّد الأهميَّة الحيوية للزَّمن الَّذي إن وَلَّى وانقضى فلا تعويض له.
ـ الاستفادة من عامل الوقت، تكون باستثماره كاملاً في الاستزادة من الإيمان بالله تعالى، وعمل الصالحات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحلم والصبر والأناة، وكذلك الاستفادة من جميع ما خلق الله تعالى لمصلحة الإنسان وضمان حقوقه ورفاهيته.
في رحاب الآيات:(3/378)
في هذه السورة ذات الآيات الثلاث يتمثَّل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام، إنها تختزل الدستور الإسلامي كلَّه في كلمات قصار، وتصف الأمَّة المسلمة، بحقيقتها ووظيفتها في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة، وهذا هو الإعجاز الَّذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وتبدأ الآية الأولى بالقسم، والمُقْسِمُ هو الله، وموضوع القسم هو العصر الَّذي هو الزمان، إشارة إلى أهمِّيته، وحثّاً للإنسان على ضرورة احترامه والمحافظة عليه، فلا يضيع عبثاً دون فائدة تُذكر. ذلك أن جميع نِعم الله تعالى يمكن أن يزيدها لنا من واسع فضله، إلا نعمة الوقت، فقد قدَّر أنها تنقص ولا تزيد. لذلك توجَّب على الإنسان أن يدرك أهمية الوقت في حياته، والَّذي يتناقص في عدٍّ تنازلي، إلى أن يصل إلى نقطة الصفر الخاصة به، حيث تغادر روحه إلى عالم البقاء والخلود. وكلُّ من لا يدرك قيمة الوقت فهو في خسران مبين، وهو محاسب على كلِّ دقيقة، تمضي من حياته، لا يقضيها فيما يرضي الله. وكلُّ من يدرك قيمة الوقت يحترم أوقات الآخرين ومواعيدهم، وهو في كلِّ دقيقة تمرُّ من حياته يكون في زيادة من الإيمان والعمل الصالح، وفي مزيد من النُّصح والهداية والإرشاد، واتِّباع سُبل الحقِّ، وتوضيحها للآخرين. ولعمري، إنها لمسؤولية كبرى وأمانة مقدَّسة يلزمها الصبر الكثير، والجهد الوفير، لكي تستمرَّ مسيرة الأُخوَّة والمحبَّة بكلِّ صفاء ونقاء. وقد اختصَّ ربُّنا جلَّ وعلا الدهر بالقسم؛ لما فيه من أحداثٍ وعِبَرٍ يُستدل بها على قدرته، وبالغ حكمته، وواسع علمه، وأراد من وراء ذلك كلِّه أن يقرِّر حقيقة هامَّة، وهي أنه ليس هناك إلا منهج واحد رابح، وكلُّ ما وراء ذلك ضياع وخسارة، إنه منهج الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر. فما الإيمان؟ إنه اتصال هذا الكائن الفاني الصغير المحدود، بالأصل المطلق الأزلي، ثم إن مقوِّمات الإيمان هي بذاتها(3/379)
مقوِّمات الإنسانية الرفيعة؛ العبودية لإله واحد، ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق، وتحديد مقام الألوهية ومقام العبودية. فالإيمان هو أصل الحياة الكبير؛ الَّذي ينبثق منه كلُّ فرع من فروع الخير، وتنتج عنه كلُّ ثمرة من ثماره، والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية الَّتي تبدأ في اللحظة الَّتي تستقرُّ فيها حقيقة الإيمان في القلب. فالإيمان حقيقة إيجابية عملاقة، ما إن تستقرُّ في الضمير، حتَّى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها، في الخارج، في صورة عمل صالح. هذا هو الإيمان، لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك، ومن هنا جاءت قيمته العظيمة، وهذا هو العمل الصالح الَّذي يشمل جميع نواحي الإعمار، والوصول إلى قِمم الحضارة الروحية والمادِّية، في توازن دقيق، لتبقى دولة الإيمان هي الأقوى، وهي محطُّ الرجاء لجميع المستضعفين في الأرض. وهذا ما حقَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره الَّذي يُعَدُّ أفضل العصور على مرِّ الزمن؛ وهذا ما دفع بعض المفسرين إلى القول بأن الله تعالى أقسم بعصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث تمَّ تصنيع أفضل تجمُّع بشري قائم على خير منهج ربَّاني، حيث رسخت دعائم دولة الإيمان، الَّتي أظلَّت جحافل المؤمنين وقوافل الموحِّدين إلى يوم الدِّين.
أمَّا التواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، فتبرز من خلالهما صورة الأمَّة المسلمة ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، الَّتي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها، والَّتي تعرف حقيقة ما هي مُقدمة عليه من العمل، الَّذي يشمل فيما يشمل، قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح، فتتواصى فيما بينها على النهوض بالأمانة الكبرى. هكذا يريد الإسلام أُمَّة الإسلام، أُمَّة خيِّرة قويَّة واعية قائمة على حراسة الحقِّ والخير، متواصية بالحقِّ والصبر في مودَّة وتعاون وتآخ.(3/380)
والتواصي بالحقِّ ـ بكلِّ ما لهذه الكلمة من معانٍ وقِيَم ـ ضرورة، فالنهوض بالحقِّ عسير، والمعوِّقات عن الحقِّ كثيرة؛ هوى النفس، ومنطق المصلحة، والتواصي تذكير وتشجيع، وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوَّة في العبء والأمانة، فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف، تتضاعف بإحساس كلِّ ملتزم بالحقِّ أنَّ معه غيره يوصيه ويشجِّعه، ويقف معه ويحبِّه ولا يخذله. والتَّواصي بالصبر كذلك ضرورة، فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحقِّ والعدل، عمل عسير يواجه الفرد والجماعة، ولابُدَّ لنجاحه من الصبر، الصبر على جهاد النفس، وجهاد المعتدين، والصبر على الأذى والمشقَّة، والصبر على تبجُّح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل. والتَّواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة الاتجاه، وتساند الجميع، ويزوِّدهم بالحبِّ والعزم والإصرار، إلى آخر ما يثيره من معاني التآخي الَّتي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوِّها، ولا تبرز إلا من خلالها، وإلا فهو الخسران والضياع.
لقد حكم الله تعالى بالخسران على جميع النَّاس إلا من أتى بهذه الأشياء الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتَّواصي بالحقِّ، والتَّواصي بالصبر؛ فإن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا صقل نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ووجَّه غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حقِّ الله وحقِّ العباد، وهذا هو السرُّ في تخصيص هذه الأمور الأربعة في هذه الآية الكريمة. أخرج البيهقيفي الشُّعب عن أبي حذيفة ـ وكانت له صحبة ـ قال: [كان الرَّجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرَّقا حتَّى يقرأ أحدهما على الآخر سورة {والعصر} ثمَّ يُسلِّم أحدهما على الآخر].
الفصل الرابع:
حشراتٌ... بل آيات
سورة الأنعام (6)(3/381)
قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون(38) }.
ومضات:
ـ الإنسان ليس الكائن الحضاري الوحيد في هذا الكون، بل إن كلَّ ما حوله ممَّا خلق الله تعالى يعيش حياة حضارية بشكل ما مختلف عن الآخر، وهذا الأمر ينطبق على كلِّ مخلوق يدبُّ في الأرض أو يطير في السماء.
ـ أثبتت الدراسات والتجارب الحديثة أن لكلِّ نوع من الحشرات والطيور والحيوانات أسلوبَ تفاهم خاصاً بها، وكأنه لغة تداول بينها، ويكون ذلك عن طريق الرقص، أو احتكاك القرون الشعرية، أو بالأمواج تحت الصوتية، أو بإفراز رائحة معينة. وهذا ما أثبته القرآن الكريم، وهذا ما علَّمه سبحانه وتعالى لسليمان وداود عليهما السَّلام.
ـ عالم الحشرات عالم مليء بالأسرار، ودلائل الإعجاز، فلكل منها قصة وسلوك مثير ومدهش. وقد اخترنا بعضاً منها ممَّا ورد ذكره في القرآن الكريم، لعلَّنا بما أوردناه نستثير همم من رضوا بالحياة الدُّنيا؛ متخاذلين أو متكاسلين، ونصحوَ من سبات عميق، فلا تكون الهوام أشدَّ عزيمة من العوام.
سورة النَّحل(16)
قال الله تعالى: {وأوحى ربُّكَ إلى النَّحل أن اتَّخذي من الجبالِ بُيوتاً ومن الشَّجرِ وممَّا يَعْرِشون(68) ثمَّ كُلِي من كلِّ الثَّمراتِ فاسْلُكي سُبُلَ ربِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ من بطونِها شرابٌ مختلِفٌ ألوانُهُ فيه شِفاءٌ للنَّاسِ إنَّ في ذلك لآيةً لِقومٍ يتفكَّرون(69)}
ومضات:
ـ ما أجمل أن نتَّخذ من حياة النَّحل وكفاحه وتعاونه، وإنتاجه الطيِّب الشهي، نموذجاً نقتدي به، ونتعلَّم منه الإخلاص والتضحية، والإيثار وفناء الأنا، في سبيل حياة المجموعة وسلامتها.(3/382)
ـ كلَّما تقدَّم علم الأغذية، نرى للعسل مكانة الصدارة من حيث قيمته الغذائية، وفعاليَّته المدهشة في معالجة كثير من الأمراض، وهذا مصداق قوله تعالى: {فيه شفاءٌ للنَّاس}.
في رحاب الآيات:
يعرض القرآن الكريم أمثلة قريبة من واقع حياتنا، لنتعرَّف من خلالها عظمة الخالق، ولنأخذ دروساً نستفيد منها في بناء مجتمعنا. ولعلَّ في حياة النَّحل ما يكفي عظة ودرساً للإنسان، فإذا دخلنا عالمه أدهشنا ما فيه من نظام، فمجموعة النَّحل تتحرَّك بإلهام من الغريزة الَّتي أودعها الخالق لديها، وهي تعمل بدقَّة عجيبة قد يعجز عن مثلها كثير من البشر، سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفَّى. وهي تتَّخذ بيوتها، بوحي من الله عزَّ وجل، في الجبال والشجر، وما ارتفع من الكروم وغيرها، وقد ذلَّل الله لها سبل الحياة، وجعل نتيجة جهدها، غذاءً شهياً ودواءً شافياً. وكلُّ هذه المهمَّات تقوم بها إناث النحل ـ العاملات ـ ولهذا خاطبهنَّ الله بقوله: {أَنِ اتَّخِذِي}، ولو عمل ذكر واحد في شؤون الخلية لكان الخطاب بصيغة المذكَّر؛ وهذا من إعجاز القرآن الكريم.
وقد تتبَّع العلماء أحوال النَّحل، وكتبوا فيها المؤلفات الكثيرة، وتوصَّلوا من ذلك إلى أمور عديدة منها:
1 ـ يعيش النَّحل ضمن مجموعات كبيرة، وتسكن كلُّ مجموعة منها في بيت خاصٍّ يسمى خليَّة.
2 ـ كلُّ خليَّة يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة، وعدد يتراوح بين أربعمائة نحلة وخمسمائة تسمَّى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفاً إلى خمسين ألف نحلة تسمَّى العاملات.(3/383)
3 ـ تعيش هذه الفصائل الثلاث ـ في كلِّ خلية ـ عيشة تعاونيَّة على أدقِّ ما تكون نظاماً، فعلى الذكر تلقيح الملكة، وعلى الملكة وضع البيض، ويتمُّ التلقيح دائما في الطبيعة وفي الهواء الطلق، حيث تطير الملكة محدثة لصوت تنجذب إليه الذكور، ومفرزة لمادَّة ذات رائحة خاصَّة؛ حيث يُلقِّحها أسرعها طيرانا، ولكنَّه سرعان ما يلقى حتفه من جرَّاء عملية التلقيح هذه. وعلى العاملات خدمة الخليَّة ومن فيها؛ فتنطلق في المزارع طول النهار لجمع الرحيق، ثمَّ تعود إلى الخلَّية فتفرز عسلاً يتغذَّى به سكَّان الخليِّة، وتفرز الشمع وتبني به بيوتاً تخزن في بعضها العسل، وتربِّي الصغار في بعضها الآخر، كما عليها أن تنظِّف الخلية، وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها الدفاع عن الملكة والمملكة وحراستها من الأعداء. وتهتمُّ العاملات بخزن العسل وغبار الطلع فيجعلنه في خلايا، ثمَّ يُحكمن إغلاقها، ويتولَّين صنع أقراص الشمع من المادَّة الشمعية، الَّتي تفرزها غدد أربع تقع بين قطع البطن، وتكون هذه المادَّة أوَّل الأمر سائلة، ثمَّ تتصلَّب بتعرُّضها للهواء، فتتحوَّل إلى قشور تلوكها العاملة بالأجزاء الساحقة من فكَّيها، ثمَّ تبني بها سلسلة من الخلايا السداسية الشكل، ذات القعر المحدَّب والمتَّصل بعضها ببعض، وهذا الشكل يعطي أكبر فراغ ممكن بأقل كمية من مواد البناء، وهو في الوقت نفسه من أشدِّ الأشكال متانة وقوَّة. ويتألَّف من مجموع هذه الخلايا القرص. ومن مهام العاملات أيضاً دعم جدران الخلية لتكون صامدة، وهن يستعنَّ على ذلك بالمواد الراتنجية، الَّتي يجمعنها من أشجار الصنوبر والتنوب وبراعم الحور.(3/384)
أمَّا كيفية صنع العسل، فالعاملات يلعقن رحيق الأزهار، حتَّى إذا وصل إلى حواصلهنَّ، امتزج بالأنزيمات اللعابية وتحوَّل إلى عسل، ثمَّ إنهنَّ يُسلِّمن هذا العسل إلى عاملات أصغر منهنَّ سنّاً، ليقمن بتكثيفه باستبعاد الماء عنه، وحين يصبح عسلا مركَّزاً يضعنه في خلايا الأقراص، ومن ثمَّ يُجففنه بأجنحتهن. وقد أثبت الطبُّ الحديث ما للعسل من فوائد، حيث تبيَّن أنه يتركب من: 20% ماء، 70% سكريات بسيطة غلوكوز وفركتوز، 5% سكريات مركَّبة وخاصَّة سكروز، 5% بروتينات وأملاح معدنية، وأنزيمات هاضمة، وأحماض عضوية، ومضاد حيوي، ومركَّبات عطرية، وصبغيات مختلفة، وحبوب طلع.
ويتوافر الغلوكوز في العسل بنسبة أكبر من وجوده في أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله مستمرٌّ بتقدُّم الطبِّ، فيُعْطى بصفته مقوياً ومغذياً، ومعالجاً دوائيا. والعسل يفيد بشكل عامٍّ في معالجة الحروق، ولسعات الحشرات، والجروح الملتهبة، والآفات الجلدية. كما أنه مضادٌّ للجراثيم والتعفُّنات، ويُستخدم في معالجة الالتهابات وخاصَّة الرئوية منها والكلوية والكبدية والقلبية والحصيَّات المرارية، وفي حالات الإرهاق والضعف العام، وهو مضادٌّ للغازات والتخمُّرات والتهاب القولون، وطارد للديدان. كما يُستخدم العسل في معالجة بعض أمراض العيون وخاصة التهاب القرنية، وفي بعض الالتهابات المزمنة في الأنف والبلعوم وجفاف الحنجرة.(3/385)
لقد عرفت خواص العسل وفوائده، في العصور التاريخية القديمة، سواء عند الفراعنة، أو الرومان أو الهنود أو العرب... ولاتزال هذه المعرفة تزيد وتتطوَّر، مع وضع دراسات لهذه المعرفة حسب أنواع العسل. والَّذي لا خلاف عليه أن العسل هو معالج وشافٍ لبعض الأمراض، والشيء الأهمُّ من ذلك أنه يقي من الأمراض ويقوِّي جهاز المناعة في الجسم، وكلتا الصفتين أشار إليهما رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم حيث قال: «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» (أخرجه ابن ماجه وابن مردويه والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه). وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : «من لعق العسل ثلاث غدوات كلَّ شهر لم يصبه عظيم من البلاء» (أخرجه ابن ماجه وابن السني والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وللعسل أنواع منها الأحمر والأبيض والأصفر، والجامد والسائل، وفيه دليل على أن القدرة الإلهية نوَّعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي، ونجد أن كلَّ نوع منه يفيد في حالة أو حالات معينة.
والآن، وبعد أن عرفنا الدقَّة اللامتناهية لحياة النَّحل، من حيث توزيع الصلاحيات والاختصاصات، وعلمنا أن الكلَّ مؤهَّل لما يقوم به من عمل، وينفِّذه بإخلاص وتفانٍ، فإذا اعتدى على جماعة النَّحل طارق غريب، قامت كلُّها يداً واحدة للدفاع، متماسكة متفانية مضحِّية بحياتها، مقابل سلامة مملكتها ومليكتها. فهل لنا أن نستخلص العبر والنتائج، حيث يرينا الله تعالى درساً عملياً نموذجياً في سلوك حشرة ضعيفة؟ فكيف بالإنسان العاقل، المدرك، المتكامل البنيان الروحي والفكري؟ فهل يصعب عليه أن يتَّخذ من هذا المخلوق البسيط، مثالاً له، في التعاون والتفاني في سبيل الأسرة الإنسانية؟.
سورة النَّمل (27)(3/386)
قال الله تعالى: {حتَّى إِذَا أَتَوا عَلَى وَادِ النَّمل قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمل ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُون (18)}
ومضات:
ـ كما في النَّحل، رصد العلماء، طرق معيشة النَّمل، وأدهشهم عملهم الجاد الدؤوب في تحصيل أرزاقهم، متعاونين مع بعضهم بعضاً، موزِّعين الوظائف والمهمَّات بينهم بكلِّ دقَّة وجدِّية.
ـ لم تفكِّر النَّملة في إنقاذ نفسها بشكل أناني، بل حذَّرت أصحابها من تحطيم سليمان وجنوده لهم، مما يدُّل على روح الجماعة والتعاون والتفاني المفطورين عليها.
في رحاب الآيات:
أثبت الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن للنَّمل لغة تخاطب وتفاهم فيما بينهم.. كما عرفنا منها أن للنَّمل نظاماً دقيقاً في معاشه، فهو له قائد يوجِّهه ويأمره، وله مساكن يعيش فيها. هذه المساكن مقسَّمة إلى غرف معيشة، ومستودعات لخزن المؤن، ولها دهاليز معقَّدة، عليها حراسة مشددَّة على مدار الساعة. ويجتمع من تلك المساكن قرى كاملة، وقد تبني عدَّة قرى، كأنها مستعمرات تصل بينها طرق ومسالك، بحيث تهتدي بها إلى أعلى الأرض. كذلك هناك نوع آخر من النَّمل يبني بيوته فوق الأرض، من أوراق الأشجار وأغصانها، ويكثر هذا تحت شجر الصنوبر، أو ينحت هذه البيوت في الأشجار العتيقة، كما يتَّخذ الإنسان من الجبال بيوتاً. ومع أن النَّمل لا يملك الآلات والعُدَد، فإنه يبني أبراجا في غاية الدقة والإحكام، مستعينا بمقصِّ فمه الحاد، حيث يمضغ ما يقصُّه حتَّى يصبح كالعجين، ولعلَّ ما بناه قدماء المصريين في مساكنهم وأهراماتهم كان تقليداً للنمل.(3/387)
وللنَّملة رأس ووسط وذنب أسطواني، ولها ستُّ أرجل تقدر بها على الجري السريع، ولبعضها أجنحة للوثوب، ولها خمس أعين؛ عينان مركَّبتان على جانبي الرأس مكوَّنتان من أعين بسيطة تعدُّ بالمئات، وهي ملتئمة الوضع والتركيب والترتيب بحيث ترى وكأن لها عينا واحدة، وثلاث العيون الباقية موضوعة على هيئة مثلث، يعلو العينين المركبتين، وهي أعين بسيطة لا تركيب فيها، غير أن عيون الذكر أكبر من عيون الأنثى، ومتقاربة من بعضها بسبب قوَّة المهام المنوطة به.. ولكلِّ نملة قرنان طويلان كالشعرتين، بهما تحسُّ الأشياء، ويقومان مقام اليدين والرجلين والأصابع في الحمل؛ ويسميان الحاسَّتين.
وتضع إناث النَّمل بيوضها في محال تقرب من مساكن الكبار، وتخصَّص لها مربيات يلاحظهن ليلا ونهارا، مع تأمين الحرارة المناسبة لها، حتَّى تتفتَّح البيوض وتخرج دودا صغيرا لا جناح له ولا أرجل، تلاحظه المربيات وتطعمه، حيث يأكل بشراهة لعدَّة أسابيع، ثمَّ يغزل بفمه، وينسج على نفسه كرة من الحرير وينام. فإذا مضت أيام، نهض من رقدته، وقطع خيوط الكرة، وقرض حريرها المحيط به، تساعده المربيات في ذلك، وتقوم بتنظيفه، حيث تظهر أرجله وأجنحته، والنَّمل بهذه المناسبة يحبُّ النظافة حبّاً مفرطاً.
يعمل النَّمل في قراه بموجب انضباط مدهش وصارم للغاية، وبإشراف النَّمل الَّذي كبرت رؤوسه وعظمت خراطيمه. والصبية الصغار تبقى في الديار تحفر الحجرات، وتشكِّل السراديب وتنمو وهي فيها، بالإضافة إلى وجود المربيات، وكذلك النَّمل المسؤول عن الحراسة أو التنظيف أو حفظ المؤن وتوضيبها الَّتي يحضرها النَّمل العامل. وهو يأبى كلَّ الإباء أن يطَّلع أحد على أسراره، أو يتطفَّل عليه لمعرفة نظامه العجيب في الحياة.(3/388)
وقد وجد العلماء أن النَّمل حين يغادر قريته، يرسل في كلِّ مسافة معيَّنة مادَّة كيميائية لها رائحة صغيرة حتَّى يستطيع التعرُّف إلى طريق عودته، وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادَّة لم يستطع النَّمل الاهتداء إلى طريق عودته.. فإذا رأت النَّملة شيئا مفيدا لا تقوى على حمله نشرت حوله بعض الرائحة، وأخذت منه قدرا يسيرا، وكرَّت راجعة إلى أخواتها، وكلَّما رأت واحدة منهن أعطتها شيئا ممَّا معها لتدلَّها على ذلك، حتَّى يجتمع على ذلك الشيء جماعات منها، يحملونه ويجرُّونه بجهد وعناء متعاونين في نقله؛ علماً بأن للنَّمل قوى عضلية بالنسبة إلى حجمه تزري بقوَّة أعظم المصارعين والرياضيين، بحيث تستطيع النَّملة الواحدة أن تحمل بين فكَّيها حملا أثقل من وزنها بثلاثة آلاف مرَّة من غير عناء. كما وجد العلماء أن النَّمل ينشر عند موته رائحة خاصَّة تُنبِّه بقيَّة الأفراد إلى الإسراع بدفنه قبل انجذاب الحشرات الغريبة إليه.. وعندما قام أحد العلماء بوضع نقطة من هذه المادَّة على جسم نملة حيَّة سارع باقي النَّمل إليها ودفنوها وهي حيَّة.(3/389)
والنَّمل من الحيوانات والحشرات القليلة الَّتي أودع الله فيها غريزة ادِّخار الغذاء. فهو يحتفظ بالحبوب في مسكنه الرطب الدافئ تحت الأرض دون أن يصيبها تلف.. ويتفنَّن النَّمل بطرق الادِّخار حسب أنواعه، فهو يقطع حبَّة القمح نصفين، ويقشِّر البقول، لئلا تنبت من جديد، أو يتركها عدَّة أسابيع في تهوية وحرارة معينة ويسمح لها بعدها بالإنبات، فتنمو ويظهر لها جذر وساق صغيران، حيث يقوم بقطعها وتجفيفها، لتصبح مادَّة جاهزة يتغذَّى عليها طوال مدَّة الشتاء، كما أنه يقوم بتسميد أوراق الأشجار المقطَّعة ببراز نوع معيَّن من الفراشات، وعندها ينمو عليها نوع من الفطريات يسمى (خبز الغراب)، يقوم النَّمل بالتغذِّي عليه. كما أن بعض أنواع النَّمل يجلب بيوض المنِّ إلى عشِّه، وعندما يفقس يحمله إلى الخارج ويضعه على النباتات الَّتي تفرز الندوة العسلية، ثمَّ يعيده إلى عشِّه في الليل ويحلب منه هذه الندوة العسلية، حيث تعطي كلُّ حشرة ما يقارب ثمانٍ وأربعين نقطة من هذه الندوة خلال أربع وعشرين ساعة، علما بأنه يبني لهذه الحشرات حجرات خاصَّة لتسكن فيها.
ويعرف النَّمل بعضه بغير علامة، والتوادد موجود بين أهل القرية الواحدة فقط، وماعدا ذلك فعداء مستحكم، حيث يمكن أن تنشب الحرب بين عدَّة قرى من النَّمل، فينتظم في صفوف قتالية وتحدث المعارك، ويقع القتلى والجرحى، ويتَّخذ النَّمل المنتصر الأسرى ليجعلهم خدماً في قراه، ويقوم بدفن موتاه في مقابر خاصَّة به، كما ينظِّف أرضه من جثث أعدائه، حتَّى قيل بأن النَّمل أقرب الحشرات إلى الإنسان في أفعاله. وقد يصبح النَّمل قوَّة مزعجة مهلكة، شديدة الخطر على الإنسان نفسه، حيث يمكن أن يقرض دعائم المساكن الخشبية؛ حتَّى تتداعى عروشها، أو يكوِّن مستعمرات في دور الكتب، حيث يقوم بإتلاف الورق أكلا وتمزيقا.(3/390)
ومن طريف ما ورد في السُنة عن سلوك النَّمل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا النَّملة فإن سليمان عليه السَّلام خرج ذات يوم يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنّا خلقٌ من خلقك لا غنى لنا عن فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين اسقنا مطراً تُنبت لنا به شجراً وتُطعمنا به ثمراً، فقال سليمان: ارجعوا فقد كُفيتم وسُقيتم بغيركم» (رواه الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) .
وروي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه خرج في نزهة إلى بستان، ثمَّ عاد إلى بيته فوجد نملة قد علقت على ثيابه، فقال: لقد أَبْعَدْنَا عليها المسير، ثمَّ حملها وعاد بها إلى البستان الَّذي كان فيه.
سورة الحج (22)
قال الله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذينَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلو اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإنْ يَسْلُبهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ (73)}.
سورة البقرة (2)
وقال أيضاً: {إِنَّ الله لا يَسْتَحْي أَنْ يَضرِبَ مَثلاً مَا بَعُوضةً فَمَا فَوْقَهَا..(26) }.
سورة الأعراف (7)
وقال أيضاً: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والجَّرَادَ..(133) }
سورة القمر (54)
وقال أيضاً: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأنَّهُمُ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) }.
ومضات:
ـ لقد أكثر الله تعالى من ضرب الأمثلة في القرآن الكريم، ومن ذكر بعض الحشرات من أمثال الذباب والبعوض والجراد، ممَّا أدَّى إلى استهزاء المشركين وتأنُّفهم، حتَّى قالوا: ما بال ربُّك يكثر من ذكر أمثال هذه الحشرات الدنيئة، وماذا يريد من ذلك؟! وما دروا أن الإنسان قد يكون أشدَّ دناءة من أمثال هذه الحشرات، ولو أدركوا سرَّ تكوينها وغرائب حياتها، رغم صغر حجمها، لأوصلهم هذا الإدراك إلى عظمة الله وقدرته فيما خلق.(3/391)
ـ لعلَّ العرب في جزيرتهم أكثر النَّاس تعايشاً مع الجراد ومشاكله.. وبسبب هذا التآلف فإنهم لا يلقون بالاً لآليَّة هذا النَّهِم المفرط في الشراهة.
ـ امتلأت الأرض بأرزاق الذباب والبعوض والجراد، وبما أنها لا تعيش للعام القادم، لذلك لم يضع الله في فطرتها غريزة الادخار، أو تشييد مساكن دائمة تأوي إليها.
في رحاب الآيات:
يُعَدُّ الذباب بالرغم من قذارته ودناءته آيةً من آيات إعجاز الله تعالى، ولولا ذلك لما ذكره في القرآن وتحدَّى به الكفار. ففي الذباب من الغرائب الشيء الكثير منها تعدُّد أنواعه الَّتي زادت عن ثمانين ألف نوع. كما أن لدى الذباب قدرات عالية في الطيران، فسرعته المدهشة تصل إلى ألف وثلاثمائة وعشرين كيلو متر في الساعة إضافة إلى أن لديه قدرة عالية على التوقُّف المفاجئ والانعطاف والانقضاض السريع. وللذبابة زوجان من الأجنحة أحدهما للمساعدة في الطيران والثاني للمحافظة على التوازن، إضافة إلى أن لها دوراً يُشبه دور المكابح. وقد وجد العلماء أن الذبابة عندما تريد لعق غذاء ما فإنها تضع فيه مادَّة كيميائية هاضمة تهضمه قبل أن تدخله إلى جوفها، وذلك تصديقاً لقوله تعالى: {وإن يَسْلِبهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ}، ولكلِّ ذبابة أربعة آلاف عين (سُطيح) بحيث لو نظرتَ إليها بالمكبر لرأيتها كهيئة ثقوب الغربال، كما أن لها خرطوما يرشف السوائل بمضخَّات رئوية، وفكِّين على شكل الخنجر تمزِّق بهما جلد فريستها، ولها ستُّ أرجل في نهاياتها زوائد لحمية تفرز غددا تستطيع الوقوف بها على السقف بالمقلوب ولو كان من الزجاج.(3/392)
هذه الحشرة، مع قوَّتها وعيونها وأجنحتها، يصطادها العنكبوت الَّذي لا أجنحة له، ويصطادها النبات الصيَّاد الَّذي لا حول ولا قوَّة له إلا بالعسل الَّذي أمدَّه الله به في داخله، وفتح فيه نوافذ أشبه بالمقصورات، وجعلها مسوَّاة ومصقولة تنزلق الأرجل عليها إذا لامستها، فإذا اقتربت الذبابة منها، وشمَّت روائحها الذكيَّة، تقدَّمت إليها، ودخلت في دهاليزها لتشرب عسلها، لكنَّها سرعان ما تنزلق أرجلها وتنغمس في هذا العسل، فيقتنصها النبات ويهشِّمها ويهضمها بالمادَّة الهاضمة الَّتي هي أشبه بالمادَّة الهاضمة في معدة الإنسان.
أمَّا البعوض، فهذه الحشرة الصغيرة الضعيفة، غنيَّة بأسرار علمية كبيرة، اكتشف الإنسان بعضها في العصر الحديث.. ومنها أنَّه عندما يُهاجم جسد الإنسان يبحث عن أضعف منطقة من جلده، وهي أماكن خروج العرق، ثمَّ ينفث فيها مادَّة تُشبه المخدِّر، ويغرس إبرته فيها..
والحقيقة أنه ليست هناك أدوات للجراحة أكثر دقَّة من أجزاء فم البعوضة، حيث ينتهي خرطومها الطويل بما يُشبه مشارط دقيقة، اثنان منها ذو أسنان، وثالث ـ وهو أكبرها ـ يتكوَّن من أنبوبة مجوَّفة تمتصُّ بها الدم، وتدفع البعوضة خلال جزء رابع مُجوَّف أيضاً لُعابَها في الجرح لتزيد من تدفُّق الدم، وهذا يزيد من نقلها للأمراض والعدوى. والبعوضة مثال حيٌّ للشراهة، حيث أنها تبقى تمتصُّ الدم حتَّى تَثْقُلَ ويصعب عليها الطيران وربَّما تموت.
أمَّا الجراد فَيُعَدُّ من أشدِّ أعداء المزروعات فتكاً بالمحاصيل الزراعية، وإن هجومه على أحد المناطق الزراعيَّة يسبِّب كارثة اقتصادية أكيدة. لأن الجراد يُهاجم عادة في أسراب كبيرة قد يصل عدد أفراد السرب الواحد إلى أكثر من ألف مليون جرادة تُغطي مساحة عشرين كيلو متراً مربعا.(3/393)
والجراد شرهٌ جداً في الأكل، فهو يأكل حتَّى تمتلئ معدته، ويتغوَّط مُخْرِجاً ما فيها وهو يتابع أكله دون توقُّف. ويصل ما تأكله الجرادة الواحدة يومياً إلى أكثر من وزنها، كما يقطع الجراد في أثناء رحلته مسافة قد تصل إلى مائة كيلو متر يومياً، وهو يشغل نهاره كلَّه بالطيران وليله كلَّه بالأكل.
سورة العنكبوت (29)
قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذين اتَخَذُوا مِنْ دُوْنِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثلِ العَنْكَبُوتِ اتْخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيوتِ لبَيتُ العَنْكَبُوتِ لَو كَانُوا يَعْلَمُون (41)}
ومضات:
ـ لا تنتمي العنكبوت إلى أسرة الحشرات، ولكنَّها كثيراً ما تذكر معها لتشابهها معها في كثير من الصفات الَّتي تحار لها القلوب والأبصار.
في رحاب الآيات:
العنكبوت مهندسة بارعة، حيث تقوم ببناء بيتها من خلال الخيوط الحريرية الَّتي تنسجها بشكل مُنظَّم ومُحكم، فما إن يخرج لعابها من فمها ويلاقي الهواء، حتَّى يتجمَّد ويتحوَّل إلى خيوط مرنة مؤلَّفة من شعيرات دقيقة جداً، هذه الشعيرات تنبع من جسم العنكبوت، وكأن هذا الجسم كتلة متراصَّة من الينابيع، حيث سرعان ما تنضمُّ هذه الشعيرات لبعضها وتتَّحد لتشكِّل أربع خيوط متناغمة، وتتَّصف هذه الخيوط باللزوجة، لكي تلتصق بها الحشرات الغريبة، وتصبح لقمة سائغة للعنكبوت. وتبدأ العنكبوت في نسج خيوطها بشكل مشابه لعمل النسَّاج، حيث تضع أولاً خطوطاً طولية ثمَّ خطوطاً عرضية، ويقع بعيداً عن بيتها الَّذي يوصلها به خيط دقيق، يعطيها العلم بأن حشرة ما قد علقت في شباكها. وإذا قُطعت بعض خيطان هذه الشبكة قبل الغروب لسبب ما، تراها أعادت نسجها قبل شروق شمس اليوم التالي.(3/394)
ويتألَّف جسم العنكبوت من قسمين في أحدهما الرأس، وفي الثاني البطن، وهما مفصولان عن بعضهما بعنيق صغير ممَّا يعطيها المرونة والسرعة في عملية الغزل، حيث يتوضَّع المغزال في البطن. ومن العناكب نوع يُعرف بعنكبوت الباب الأفقي، إشارة إلى شكل المخبأ الَّذي يأوي إليه هذا النوع. فالعنكبوت من هذا النوع تحفر بيتها في الأرض، وتستخدم من أجل ذلك فكَّيها اللذين تقطع بهما الطين، وتحمله بعيداً عن الحفرة، ثمَّ تكسوها من الداخل بغطاء من الحرير الناعم الَّذي تقوم بغزله، وإذا تداعى جانب من هذه الحفرة قوَّتْه بنسيج من الحرير ممزوج بمادَّة صمغيَّة تُساعد على تماسكه، ثمَّ تبني باباً متيناً لسدِّ الحفرة، وتجعل لهذا الباب مفصلاً لتتمكَّن من الدخول إلى بيتها.. وأحياناً تصنع لنفسها غرفتين ولهما عدَّة أبواب، حيث تتمكَّن من الاختباء بالداخل دون العثور عليها من الغرباء.. وقد تكون هذه الغرف سفليَّة وعلويَّة، حيث تقبع العنكبوت مختبئة في الغرفة العلويَّة، منتظرة فريستها حتَّى تدخل إلى الغرفة الأولى، حيث تصل فتحة مسكنها بأنبوبة حريرية طويلة، تُشعرِها بدخول الفريسة..
وهناك العنكبوت المائي الَّتي تصنع لنفسها عُشاً على شكل فقاعة، من خيوطها، ثمَّ تقوم بمهارة بإدخال عدد من فقاعات الهواء إليه، وتقوم برفعه وتعلِّقه بشيء ما تحت الماء، ثمَّ تلد صغارها فيه.. وتستطيع العنكبوت أن تجتاز هاوية أو نهراً بصنع جسر معلَّق من خيوطها، فتغزل خيطاً طويلاً تُعلِّق طرفه في طرف النهر، وتترك طرفه الآخر للرياح، حتَّى يستقرَّ على الطرف الآخر للنهر ثمَّ تنزلق عليه بسرعة كبيرة.. كما تستطيع أن تستعمل خيوطها في ربط أوراق الشجر لتحملها وما معها من مؤن على سطح الماء.(3/395)
وقد ذكر الله تعالى أن أنثى العنكبوت هي الَّتي تقوم بصنع البيت وليس الذكر، في قوله تعالى: {...كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً..}، وهذا ما أثبته علماء الطبيعة أخيراً... ثمَّ إن أنثى العنكبوت، وبعد أن تنتهي عملية التزاوج بينها وبين الذكر، لا تلبث أن تقتل الذكر بِسُمِّها الَّذي هو أشدُّ فتكاً من سمِّ بعض الأفاعي، إن لم يفر منها فوراً، وتستقرَّ لوحدها في بيتها الَّذي صنعته.
وفي ختام هذا الفصل، وقد أوجزنا القليل من المعلومات الَّتي تحتاج بحقٍّ إلى مجلَّدات، ليكتمل شرحها ـ بقصد إثارة فضول القارئ للاستزادة منها ـ يحقُّ لنا أن نشهد بقدرة الله سبحانه وتعالى، خاشعين بأبصارنا لعظمة هذا الوجود بكلِّ ما حوى، آملين أن تتفتَّح بصائرنا، وتتحرَّك عقولنا.. لعلَّنا نمتثل أوامر الله بجديَّة وحزم، وبإرادة وهمَّة تفوق همَّة هذه الحشرات ومثيلاتها، وأن نستفيد من روائع خلق الله تعالى في تنظيم برامج حياتنا بشكل علمي ومنتظم، لكي لا تضيع علينا حكمة الله فيما خلق ـ سبحانه وتعالى ـ وهو الخلاَّق العليم.
الفصل الخامس:
ليلة القدر
سورة القدر(97)
قال الله تعالى: {إنَّا أنزلناهُ في ليلةِ القدر(1) وما أدراكَ ما ليلةُ القدر(2) ليلةُ القدرِ خيرٌ مِن ألف شهْر(3) تَنَزَّلُ الملائِكةُ والرُّوحُ فيها بإذْنِ ربِّهم من كلِّ أمر(4) سلامٌ هي حتَّى مطلَعِ الفجر(5)}
ومضات:
ـ أنزل الله تعالى قرآنه الكريم بدءاً من ليلة القدر، الليلة المباركة الَّتي تزيد بركتها على بركة ألف شهر.
ـ تتنزَّل الملائكة في تلك الليلة حاملة عطاء الله تعالى بكلِّ ما فيه من الخير والبركة للعباد، يقودها الملاك جبريل عليه السَّلام، ويغمر سلامُها، وأمنُها، ونعيمُها؛ المؤمنين حتَّى طلوع الفجر.
في رحاب الآيات:(3/396)
ثَمَّة بركات ورحمات، تفضَّل بها الله تعالى على الإنسان، في أماكن معيَّنة وفي أزمان محدَّدة، ومن خلال أشخاص مختارين، يعطي الله بواسطتهم نفحات كريمة. ورمضان نفحة من نفحات الخالق للإنسان، فيه تنسكب العبرات، وتجوع الأجساد، وتتطهَّر القلوب، وتتنزَّل الرحمات والبركات، وفيه تُمنح جوائز الفلاح لمن انتصروا على شهواتهم وغرائزهم، وفيه يتجلَّى نور الله وبهاؤه على قلوب أصفيائه وأوليائه. وفي ليلة من لياليه شُرِّف الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم بحمل الرسالة، وتُوِّج بتاج ربَّاني، حيث بدأ نزول القرآن الكريم، بآيات كريمة مباركة، هي نور وشفاء، ورحمة وبيان، وإرشاد وإنقاذ لبني الإنسان، كي يرجعوا إلى بارئهم منيبين، في تلك الليلة الخالدة المُفعمة بالفرح العظيم، وهذا الحدث العظيم الَّذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشريَّة جميعاً. والقَدْر: قد يعني التقدير والتدبير، وقد يعني القيمة والمقام، وكلاهما يتَّفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم، حَدَثِ نزول القرآن والوحي والرسالة. إن هذه الليلة عظيمة، عَظُمَتْ بعظمة القرآن، بما تضمَّنه من عقيدة وتصوُّر، وشريعة وآداب، تشيع السَّلام في الأرض والضمير.(3/397)
ثمَّ ذكر الله فضلها من ثلاثة أوجه فهي: خير من ألف شهر في الشَّرف والفضل، لما اخْتُصَّت به من قيمة وأهمية، لذلك قالوا: [العمل الصالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر]. وقد روي أن رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح وجاهد في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من ذلك، وتمنَّى رسول الله لأُمَّته فقال: «يا رب جعلتَ أمَّتي أقصر الأمم أعماراً وأقلَّها أعمالاً» (أخرجه مالك في الموطأ عن ابن عباس رضي الله عنه)، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، الَّتي هي خير من ألف شهر جاهد فيها ذلك الرجل. والوجه الثاني: تتنزَّل الملائكة وجبريل عليه السَّلام، إلى الأرض في تلك الليلة، بأمر ربِّهم من أجل كلِّ أمر قدَّره الله وقضاه، من هبات وتجلِّيات تُحيي موات القلوب، وتُنعش الأرواح، وتُنير البصائر، لمن جاهد هواه في الشهر المبارك، وحقَّق القصد من الصَّوم، في عنايته بصحَّته الجسدية والنفسية، وفي رعايته للأرحام والمُعْوَزين. والوجه الثالث: سلامٌ هي حتَّى مطلع الفجر، هي سلام من أوَّل يومها إلى طلوع الفجر، تُسلِّم فيها الملائكة على المؤمنين، ويقدِّر الله فيها الخير والسَّلامة لبني الإنسان. أخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كوكبة من الملائكة يصلُّون ويسلِّمون على كلِّ عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى، فإذا كان يوم عيدهم باهى بهم الملائكة فقال: ياملائكتي ما جزاء أجير وفَّى عمله؟ قالوا: ربَّنا جزاؤه أن يؤتى أجره، قال: ياملائكتي! عبيدي وإمائي قَضَوْا فريضتي عليهم، ثم خرجوا يعُجُّون إليَّ بالدُّعاء، وعزَّتي وجلالي، وكرمي وعُلُوِّي، وارتفاع مكاني لأجيبنَّهم، فيقول: ارجعوا فقد غفرتُ لكم، وبدَّلت سيئاتكم حسنات، فيرجعون مغفوراً لهم». أمَّا عن تحديد تلك الليلة فقد أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله(3/398)
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا ليلة القدر أول ليلة من رمضان، وفي تسعة، وفي إحدى عشرة، وفي إحدى وعشرين، وفي آخر ليلة من رمضان». وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين»، وعلى كلِّ حال فهي ليلة من ليالي رمضان المبارك.
الفصل السادس:
الاستعاذة بالله من الشرور وأهلها
سورة الفلق(113)
قال الله تعالى: {قٌلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ(1) من شَرِّ ما خَلَقَ(2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذا وَقَبَ(3) ومن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ(4) ومن شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسَدَ(5)}
ومضات:
ـ إنها آيات اللُّجوء إلى حضرة الله، والاحتماء بكنفه، من كل شرٍّ يمكن أن يحيط بنا، أو يجرفنا عن مواقع الإيمان، أو يحوِّلنا عن الصِّراط المستقيم.
في رحاب الآيات:
هناك سؤال مُلحٌّ يراود المؤمن عند تلاوة هذه السورة الكريمة؛ وهو كيف يمكن الاحتماء بالله من شرٍّ هو خَلَقَه وأوجده، في ساحة الحياة؟.
والجواب ببساطة: إن شعور الأمِّ حين يعدو وليدها لائذاً بها، من خوفٍ ما يطارده، شعور لا يفوقه شعور في الرَّوعة، لأنه يبعث في صدرها كلَّ الحبِّ والحنان تجاهه، لتعمل على حمايته، وإشعاره بالأمن والطمأنينة، ولا يزال هذا الشُّعور يعتمل في داخلها مادام وليدها متعلِّقاً بها وفي حاجة إليها. وهكذا أوجد الله الشرور لنفرَّ منها، ملتجئين إليه تعالى ونلوذ بكنفه، فيمنحنا الشُّعور بالأمن والطمأنينة، لا لنتعايش معها، أو نتَّصف بها. والمؤمن في لجوء دائم إلى حضرة الله؛ لأنه غوث المستغيث حيث لا مغيث سواه، وكاشف الضُّرِ، وشافي الأمراض.(3/399)
وفي هذه الآيات الكريمة توجيه من الله سبحانه لنبيِّه الكريم ابتداءً، ولكلِّ المؤمنين من بعده للالتجاء إلى كنفه، والاعتصام بحماه من كلِّ ما يخيف، وكأنما يفتح الله سبحانه حماه ويقول لهم: تعالوا فأنا أعلم أنكم ضِعاف، وهنا الأمن والطمأنينة. فأنت حين تُذْنب تلجأ إليه لأنه غفَّارُ الذنوب، وعندما تكون فقيراً تلجأ إليه لأنه الغني، وكذا عندما تخشى حسد الحُسَّاد فأنت تلجأ إلى رَبِّ الفلق، الَّذي يَشُقُّ الظلمات عن القلوب بنوره، ويردُّ كيد الكائدين وعبث العابثين بقدرته. ويَذْكر الله سبحانه نفسه بصفته الَّتي يكون بها العياذ، فهو ربُّ الفلق، والفلق من معانيه انبلاج الصبح كما قال تعالى: {فالقُ الإصْباحِ..} (6 الأنعام آية 96) وسبب تخصيص الصبح باللجوء إلى الله، أنَّ انبثاق نور الصبح بعد شدَّة الظلمة، يشبه مجيء الفرج بعد الشدَّة. وقيل الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه، وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور، لأنها تتشقَّق من خشية الله عزَّ وجل، وقيل: هو كلُّ ما يفلقه الله؛ كالأرض عن النبات، {إنَّ الله فالِقُ الحبِّ والنَّوَى..} (6 الأنعام آية 95) والجبال عن العيون، والسَّحاب عن الأمطار، والأرحام عن الأولاد، والقلوب عن المعارف.
إن الاستعاذة بربِّ الفلق من شرِّ ما خلق، جملةً وتفصيلاً؛ تعني أنَّ للخلائق شروراً، كما أنَّ لها منافع وخيرات؛ وتتجلَّى تلك الاستعاذة بالالتجاء إلى الله مستمدِّين منه العون والقوَّة، بغية اتِّقاء تلك الشرور، والتعامل مع الآخرين وفق توجيهاته سبحانه، للاستفادة من الخير الكامن في نفوسهم.(3/400)
وحين نتعوَّذ بالله من شرِّ غاسق إذا وقب، فنحن نقصد غالباً الليل وما فيه؛ فالليل حين يزحف يغمر البسيطة، وهو مخيف بذاته، فضلاً عمَّا يثيره من توقُّعٍ للمجهول من كلِّ شيء، من وحش مفترس، أو لصٍّ فاتك، أو عدو متربِّص، أو من وساوس وهواجس، وهموم وأشجان، تتسرَّب في الليل وتخنق المشاعر والوجدان. وكذلك من شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء، ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام، ومن ظاهر أو خافٍ يدبُّ ويَثِبُ في الغاسق إذا وقب. أخرج الترمذي وحسَّنه البيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من عين الجان، ومن عين الإنس، فلما نزلت سورتا المعوَّذتين، أخذ بهما وترك ما سوى ذلك».(3/401)
ونعوذ بالله تعالى من شرِّ النفَّاثات في العقد: وهنَّ السواحر الساعيات بالأذى، عن طريق خداع الحواس، والإيحاء إلى النفوس والتأثير على المشاعر، وهُنَّ يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل، وينفثْنَ فيها كتقليد من تقاليد السِّحر والإيحاء. والسحر لا يغيِّر من طبيعة الأشياء، ولا ينشئ حقيقة جديدة لها، ولكنَّه يُخيِّل للحواسِّ والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوَّره القرآن الكريم في قصَّة موسى عليه السَّلام: {قالوا ياموسى إمَّا أن تُلْقيَ وإمَّا أن نكونَ أوَّلَ من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالُهُم وعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهِم أنَّها تسعى * فأوجَسَ في نفْسهِ خيفَةً موسى * قلنا لا تخفْ إنَّك أنتَ الأعلى * وألقِ ما في يمينِكِ تَلْقَفْ ما صنَعوا إنَّ ما صنَعوا كيدُ ساحِرٍ ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حيث أتى * فألقي السَحَرَةُ سُجَّداً قالوا آمنَّا بربِّ هارونَ وموسى} (20 طه آية 65ـ70) وهكذا لم تنقلب حبالهم حيَّات فعلاً، ولكن خُيِّل للنَّاس ولموسى معهم، أنها تسعى، إلى حدِّ أَنْ أوجس في نفسه خيفة، حتَّى جاءه التثبيت من الله، ثمَّ انكشفت الحقيقة، حين انقلبت عصا موسى بإذن الله حيَّة حقيقية، فلقفت الحبال والعِصِيَّ المزوَّرة المسحورة وابتلعتها، وهذه هي طبيعة السِّحر كما ينبغي لنا أن نسلِّم بها. وربَّما يراد بالنفَّاثات الَّذين ينفثون سموم الكراهية بين الناس بالنميمة والغيبة ويقطعون روابط المحبَّة، ويبدِّدون شمل المودَّة، وقد شُبِّه عملهم بالنفث، وشُبِّهت رابطة الوداد بالعقدة. فالنميمة تحوِّل ما بين الصديقين، من محبَّة إلى عداوة، بالوسائل الخفيَّة، الَّتي تشبه أن تكون ضرباً من السِّحر، ويصعب الاحتياط والتحفُّظ منها، فالنمَّام يأتي لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه.(3/402)
ونعوذ بالله من شرِّ حاسد إذا حسد، والحسد انفعال نفسي عدائي، إزاء نِعَمِ الله على بعض عباده، مع تمنِّي زوالها، وسواءٌ أَتْبَعَ الحاسد هذا الانفعال، بسعي منه لإزالة النعمة، تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حدِّ الانفعال النفسي، فإن شرّاً يكمن في هذا الانفعال، والله برحمته وفضله هو الَّذي يوجِّه رسوله وأمَّته من ورائه، إلى الاستعاذة به من هذه الشرور، ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به أعاذهم. روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كلَّ ليلة جمع كفَّيه ثمَّ نفث فيهما، وقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذ بربِّ الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات». وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه، ثم قرأ {والَّذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بُهْتاناً وإثماً مبيناً}(33 الأحزاب آية 58)» (رواه الطبراني عن عبد الله بن بسر، ورمز السيوطي لحسنه). وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صنعت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأصابه منه وجع شديد، فدخل عليه أصحابه فخرجوا من عنده وهم يرون أنه ألمَّ به، فأتاه جبريل بالمُعوَّذتين فعوَّذه بهما ثمَّ قال: بسم الله أرقيك، من كلِّ شيء يؤذيك، ومن كلِّ عين ونفس حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك».
وقد جاء في صحاح السنَّة رُقى أخرى يدفع بها المؤمن شرَّ الحسد وشرَّ السِّحر وشرَّ كلِّ مؤذ، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين فيقول: أُعيذكما بكلمات الله التامَّة من كلِّ شيطان وهامَّة ومن كلِّ عين لامَّة، ويقول إن أباكم (أي سيِّدنا إبراهيم) كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحق».(3/403)
والهامَّة: هي كلُّ ذات سُمٍّ يقتل، كالحيَّة وغيرها، وأمَّا اللامَّة: فهي العين الَّتي تؤذي بنظرها.
الفصل السابع:
المجادل في قدرة الله
سورة يس(36)
قال الله تعالى: {وضَرَبَ لنا مَثَلاً ونَسِيَ خلْقَهُ قال من يُحيي العظامَ وهي رميمٌ (78) قل يُحييها الَّذي أنشأها أوَّلَ مرَّةٍ وهو بكلِّ خَلْقٍ عليم(79) الَّذي جعلَ لكم من الشَّجرِ الأخضرِ ناراً فإذا أنتم مِنه تُوقِدُون(80) أَوَليس الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ بقادرٍ على أن يخْلُقَ مثلَهُم بلى وهو الخَلاَّقُ العليم(81) إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ له كن فيكون(82) فسبحانَ الَّذي بيدِهِ مَلَكوتُ كلِّ شيءٍ وإليه تُرْجَعون(83)}
ومضات:
ـ يسأل السائل متعجِّباً، كيف يمكن إعادة الحياة إلى العظام البالية، وقد أصبحت رماداً تذروه الرياح؟. ويجيبه الله تعالى الإجابة السهلة المقنعة فيقول: إن الَّذي خلقها من عَدَمٍ، قادر على إعادة خلقها، وهو الخلاَّق العليم.
ـ الآيات الكونية والعلمية والإبداعية، تحيط بالإنسان في كلِّ أموره الحياتية، ولكنَّ الله تعالى يبيِّن له منها بالمقدار الَّذي يمكن لعقله أن يستوعبه، وحسب الإمكانات المتاحة له، فيضرب للنَّاس مثلاً عن إعجازه، والَّذي منه تمكينهم من إيقاد نار من أعواد خُضْرٍ، ذلك المثل الَّذي يرونه يتكرَّر أمام أعينهم مرَّات ومرَّات.
ـ لو رفع المتشكِّكون رؤوسهم إلى السماء وفكَّروا في خلقها، ثم عرجوا بنظراتهم إلى أجواء الأرض الَّتي يعيشون عليها، لأخذوا العبرة ولجرى الجواب في قلوبهم وعلى ألسنتهم بأنْ: نَعَمْ ياالله، إنك لقادر على أن تخلق مثلهم، وهذا لا يعجزك، وقدراتك لا يمكن أن نستوعبها، ولكنَّك بمُجَرَّد المشيئة تخلق، وبمجرَّد الأمر تُكَوِّنُ الأشياء من عدمٍ، وفق نظام بديع متقن، فسبحانك ما قدَّرْناك حقَّ قدرك، بيدك الملك وإليك المصير.
في رحاب الآيات:(3/404)
يعجز العقل البشري عن تقييم حقيقة قدرة الخالق، ولكِنَّ حُسن متابعته لما خلق، لابُدَّ أن توصله إلى قناعة تامَّة، بوجوده عزَّ وجل وتمام قدرته. والسائل في هذه الآيات إنسان متسلِّط مغرور جاء متحدِّياً لا متحرِّياً، وسَحق بيده عَظْمَةً بالية فجعلها رماداً، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم : من يحيي العظام وهي رميم؟ سؤالَ من يظنُّ غروراً أنه أتى بالقول الفصل وبالحجَّة الدامغة، إذ كيف لِعَظْمٍ أصبح بالياً أن يعود حيّاً؟! وهو محقٌّ لو كان الَّذي سيعيده إنسان مخلوق، لكِنَّ الَّذي يحيي، هو الَّذي بدأ الخلق أوَّل مرَّة، فهو قادر على أن يعيد الخلق كما كان، لذلك جاء الردُّ المنطقي العقلي البسيط بقوله تعالى: {قل يُحييها الَّذي أنشأها أوَّلَ مرَّةٍ وهو بكلِّ خَلْقٍ عليم}. وهكذا يلقِّن الله عزَّ وجل رسوله الكريم، أن يقابل الحجَّة بالحجَّة، وأن يدفع الشُّبَه الَّتي يثيرها أعداء الحقِّ، بالمنطق والبرهان السليم.(3/405)
وهنا تظهر روعة الإسلام في فتح باب الحوار العقلاني، حتَّى مع أعدائه ومنتقديه، فلم تنزل الآيات لتكيل للسَّائل الشَّتائم، ولا انبرى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لإهانته والشِّجار معه؛ بل اتَّبع أسلوب الدعوة الحكيم، الَّذي يجب أن يتحلَّى به كلُّ مؤمن فاضل، يدعو الناس لما فيه سعادتهم، وإنقاذهم من الجهل والتخلُّف. فقد جاء الجواب غايةً في البساطة، وغاية في الدِّقة ووضوح الحجَّة، فالَّذي قَدَر على الخَلْقِ الأوَّل، قادر على الإعادة. وهل تزيد النطفة حيويَّة أو قدرة، أو قيمة على العظم الرميم المفتوت؟ أَوَ ليس من تلك النطفة المهينة خُلق الإنسان؟ أَوَ ليس الَّذي حوَّل تلك النطفة إنساناً، قادراً على أن يحوِّل العظم الرميم مخلوقاً حيّاً من جديد؟. إن الأمر أيسر وأوضح من أن يثار حوله شكٌّ أو ريبة، فلماذا يتكرَّر الجدل دون جدوى؟؟ إنه الله العليم الَّذي يخلق ويُبدع، فهل يصعب عليه بَعْثُ الأجساد بعد الفناء؟. ويضرب الله مثلاً لهذا الإنسان المغرور، الَّذي تنكَّر لخالقه، واغترَّ بقوَّته، واعتزَّ بسلطانه، هذا المثل موجود في كلِّ بيئة وفي كلِّ زمان، يمرُّ به الإنسان مروراً عابراً، دون طول تفكير، لأنه في حكم المسلَّمات، وهو الشجر الأخضر الريَّان بالماء يصير مُولِّداً للنار أو وقوداً لها، فمن ذا الَّذي أودع الشجرَ خصائصه هذه، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، غير الله؟. غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبَّرها بذلك الحسِّ الواعي، فلا تكشف لنا عن أسرارها العجيبة، ولا تدلُّنا على مبدع الوجود، ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها، ولعشنا معها في عبادة دائمة، وتسبيح مستمرٍّ، لحضرة الله جلَّت قدرته.(3/406)
ويستطرد القرآن الكريم في عرض دلائل القدرة، وتيسير فهم قضية الخلق وإعادة بعث البشر أجمعين، فالله قد خلق السموات والأرض، ذلك الخلق العجيب، الهائل الدقيق، وليست الأرض الَّتي نعيش عليها، ويشاركنا عليها ملايين الأجناس والأنواع، ثمَّ لا نبلغ نحن شيئاً من حجمها، ولا شيئاً من حقيقتها، ولا نعلم عنها حتَّى اليوم إلا القليل؛ هذه الأرض ليست إلا تابعاً صغيراً للشمس، وأين خَلْقُ الإنسان من ذلك الخَلْقِ العظيم؟ قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمواتِ والأرضِ أكبَرُ من خلْقِ النَّاس ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعْلَمْون} (40 غافر آية 57). إن الله جلَّ وعلا يخلق هذا وذاك، ويخلق غيرهما بلا كُلفة ولا جُهد، ولا يختلف بالنسبة إليه خلق الكبير وخلق الصغير!! فالخلائق كلُّها سواءٌ أمام كلمته كن فيكون، وإن توجُّهَ إرادته لخلق الشيء، كافٍ وحده لوجوده، كائناً ما يكون، وإنما يُقرِّب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود.
وعند هذا المقطع من السورة يجيء الإيقاع الأخير، الإيقاع المصوِّر لحقيقة العلاقة بين الوجود وخالق الوجود، إنها الملكيَّة المطلقة لله، وعبوديَّة الخلائق جميعها له، وقد استعملت الآية كلمة ـ ملكوت ـ لتضخِّم وتعظِّم حقيقة هذه العلاقة، علاقة الملكية القابضة على زمام كلِّ شيء في هذا الوجود.(3/407)
ولابُدَّ لنا من تعليق موجز: فالسؤال الإنكاري حول وجود الله وعظمته وقدرته يتكرَّر حتَّى يومنا هذا، ولاشكَّ أن الأجوبة عن هذا السؤال تتطوَّر بتطوُّر العلوم واكتشافاتها، وتقدُّم المعلومات المذهلة الَّتي وصل إليها إنسان هذا القرن، حول الجسم ووظائف الأعصاب وعددها، ومواصفات الدم وحركته، وتنقية الرئتين له من غاز الفحم، والجهاز الهضمي وحركته؛ بدءاً من الفم وانتهاءً بخروج الفضلات، وخلايا الجسد وتكاثرها وموتها، وخلايا الدماغ و...إلخ. ولا تكفينا مجلَّدات ومجلَّدات لشرح عظمة الله عزَّ وجل وقدرته، في الإنسان فقط، فكيف بالأكوان كلِّها؛ وهي تتواصل بإشعاعات تعمل بسرعات رهيبة جداً، وتناسق وتكامل فيما بينها مما يحار له العقل ويستسلم أمامه؟ فلا يملك القلب إلا أن يخفق بكلمة التَّوحيد: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت، بيده الخير، وهو على كلِّ شيء قدير.
ومسك الختام لهذا العمل:
قول الله تعالى:
{دَعْوَاهُم فيها سُبْحَانكَ اللَّهمَّ وتحيَّتُهُم فيها سلامٌ وآخِرُ دَعْوَاهُم أَن الحمدُ لله ربِّ العالمين} (10 يونس آية 10)
#بعونه تعالى#
«تمَّ الجزء الثاني من الكتاب»(3/408)