القرآن منهاج حياة
مقدمة هامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) [الكهف/1-4]
والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا وقائدنا ومرشدنا محمد بن عبد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين .
وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد { نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان/1]
وقد قال عنه سبحانه وتعالى : (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) [الإسراء/8، 9]
* فهو يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
* ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .
* ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
* ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
* ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
وهذا الكتاب الذي بين يدينا (القرآن منهاج حياة ) إعداد غازي صبحي آق بيق
كتاب قيم جدا تضمن الأبواب التالية :
الباب الأوَّل = الله جل جلاله
الباب الثاني= دلائل الإعجاز في خلق الله
الباب الثالث= الهداية في منظور الإسلام
الباب الرابع = القرآن الكريم
الباب الخامس = أركان الإسلام
الباب السادس = التربية الروحيَّة في الإسلام
الباب السابع =التربية الأخلاقية في الإسلام
الباب الثامن = التربية الاجتماعية في الإسلام
الباب التاسع = صور من تنظيم بعض المعاملات المالية في الإسلام
الباب العاشر = الدعوة إلى دين الله
الباب الحادي عشر = الدفاع عن العقيدة والثبات في مواجهة أعدائها
الباب الثاني عشر = الدار الآخرة
الباب الثالث عشر = متفرِّقات من وحي القرآن الكريم
وتحت كل باب فصول عديدة ، فغدا كتاباً شاملاً عن الإسلام ، بأسلوب سهل وشيق ، وجل اعتماده على القرآن والسنة
ولما له من أهمية فقد قمت بتنسيقه وفهرسته على الورد وعلى الشاملة ليستفيد منه من شاء من طلبة العلم .
فجزى الله مؤلفه وناشره والدال عليه خير الجزاء
أخوكم
علي بن نايف الشحود
في 26 رجب 1429 هـ الموافق ل 29/7/2008م(1/1)
القرآن منهاج حياة
الإهداء (للإنسان والزمان والحلم)
مقدمة الكتاب
أسرة العاملين في تدقيق هذا الكتاب وإخراجه
التعريف بالجزء الأوَّل من الكتاب
مقدِّمة أ. محمَّد توفيق الصوَّاف
الباب الأوَّل
الله جلَّ جلاله
الباب الثاني
دلائل الإعجاز في خلق الله عزَّ وجل (مقدمة)
الفصل الأوَّل : خلق الكون.
آ ـ نشأة الكون
ب ـ خلق السموات
ج ـ خلق الأرض
الفصل الثاني : خلق الملائكة.
الفصل الثالث : خلق الجِن.
الفصل الرابع : خلق الإنسان.
آ ـ نشأة الإنسان.
ب ـ الغاية من خلق الإنسان.
ج ـ قصَّة الخلق.
الباب الثالث
الهداية في منظور الإسلام
الفصل الأوَّل: نور الهداية
الفصل الثاني : درب الهداية (الصراط المستقيم).
الفصل الثالث : عدوُّ الهداية (الشيطان).
الفصل الرابع : دعاة الهداية (الأنبياء).
البحث الأوَّل : مهمَّة الأنبياء وموقف الناس من دعوتهم.
البحث الثاني : سلسلة الأنبياء.
ـ نوح عليه السَّلام
ـ إبراهيم عليه السَّلام
ـ يوسف عليه السَّلام
ـ موسى عليه السَّلام
ـ داود عليه السَّلام
ـ يونس عليه السَّلام
ـ زكريَّا ويحيى عليهما السَّلام
ـ عيسى عليه السَّلام وأمه الصدِّيقة مريم
ـ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام
1- قصَّة الوحي الإلهي
2- بشرية النبي صلى الله عليه وسلم
3- مهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم
4- منزلة النبي صلى الله عليه وسلم
5- وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به
6- معجزة الإسراء والمعراج
الفصل الخامس: وحدة مصدر الشرائع السماويَّة
الباب الرابع
القرآن الكريم
الفصل الأوَّل : القرآن كتاب من عند الله
الفصل الثاني : نزول القرآن
الفصل الثالث : أوصاف القرآن
الفصل الرابع : الإعجاز العلمي في القرآن
الفصل الخامس : القرآن والعلم
الفصل السادس : القرآن والتصنيع
الفصل السابع : تلاوة القرآن
الفصل الثامن : الآيات المحكمات والمتشابهات
الفصل التاسع :الناسخ والمنسوخ
الفصل العاشر :أضواء على سورة الفاتحة
الباب الخامس
أركان الإسلام
مقدِّمة :
الفصل الأوَّل : الشهادتان (شهادة التَّوحيد)
الفصل الثاني : الصَّلاة
الفصل الثالث : الزكَّاة
الفصل الرابع : الصَّوم
الفصل الخامس : الحج
آ ـ الهدي
ب ـ قدسية البيت الحرام
الباب السادس
التربية الروحية في الإسلام
مقدِّمة :
الفصل الأوَّل : ذكر الله وحسن الصلة به
الفصل الثاني : التسبيح
الفصل الثالث : الاستقامة والوفاء بعهد الله
الفصل الرابع : التَّقوى
الفصل الخامس : التوبة وسعة المغفرة الإلهيَّة
الفصل السادس : الدعاء والاستجابة
الفصل السابع : إعمار بيوت الله
الفصل الثامن : الرضا بالقضاء والقدر
الباب السابع
التربية الأخلاقية في الإسلام
الفصل الأوَّل : تزكية النفس
الفصل الثاني : التَّواضع
الفصل الثالث : الأمانة
الفصل الرابع : الصَّبر
الفصل الخامس : القناعة
الفصل السادس : الصِّدق
التعريف بالجزء الثاني من الكتاب
الباب الثامن
التربية الاجتماعية في الإسلام
القسم الأوَّل : رعاية الإسلام للروابط الاجتماعية ٍ
الفصل الأوَّل : نظرة الإسلام إلى المجتمع الإنساني
الفصل الثاني : بر الوالدين
الفصل الثالث : مكانة المرأة في الإسلام
الفصل الرابع : بناء الأسرة في الإسلام
الفصل الخامس : الحجاب في الإسلام
القسم الثاني : أخلاق اجتماعية دعا إليها الإسلام
الفصل الأوَّل : وحدة الكلمة والاعتصام بحبل الله المتين
الفصل الثاني : الإيثار
الفصل الثالث : الإحسان
الفصل الرابع : نبذ السخرية
الفصل الخامس : نبذ سوء الظنِّ والغيبة والنميمة
الفصل السادس : نبذ البُهتان واتِّهام الأبرياء
الفصل السابع : العدل وأداء الشهادة
الفصل الثامن : التثبُّت من الحقائق
الفصل التاسع : العفو والمسامحة
الفصل العاشر : الكلمة الطيبة
الفصل الحادي عشر: إصلاح ذات البين
القسم الثالث : آداب اجتماعية إسلامية
الفصل الأوَّل : التحيَّة
الفصل الثاني : آداب الاستئذان
الفصل الثالث : لباقة الحديث وأدب النجوى(1/2)
الفصل الرابع : التجمُّل وحسن المظهر
القسم الرابع : بعض الأحكام والحدود في الإسلام
مقدِّمة :
الفصل الأوَّل : إباحة ما طاب من الأطعمة وتحريم ما خبث منها
الفصل الثاني : تحريم شرب الخمر وعقوبته
الفصل الثالث : تحريم القتل وعقوبته
الفصل الرابع : تحريم الزنا وعقوبته
الفصل الخامس : تحريم القذف وعقوبته
الفصل السادس : تحريم السرقة وعقوبتها
الفصل السابع : أحكام استثنائية رُخِّص بها لرفع الحرج
الباب التاسع:
صور من تنظيم بعض المعاملات المالية في الإسلام
الفصل الأوَّل : الإنفاق والقرض الحسن والصدقات
الفصل الثاني : الوصيَّة
الفصل الثالث : تحريم الربا
الفصل الرابع : تحريم أكل المال بالباطل
الفصل الخامس : تحريم التطفيف
الفصل السادس : الحَجْرُ على مال السفيه
الباب العاشر
الدعوة إلى دين الله
الفصل الأوَّل : المَحاورُ العامَّة التي تدور حولها مهمَّة الدعوة
ا ـ التوجُّه إلى حقيقة الإيمان وجوهر الإسلام
ب ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفصل الثاني : صفات الداعي إلى الله
1 ـ الاقتداء بالصالحين
2 ـ الحكمة
3 ـ الرفق واللين
4 ـ الثبات
الفصل الثالث : رعاية الدعوة للمستضعَفين من أتباعها
الفصل الرابع : صفات المؤمنين بالدعوة
الفصل الخامس : دعوة أهل الكتاب
الفصل السادس : صفات المعرضين عن الدعوة
الباب الحادي عشر
الدفاع عن العقيدة والثبات في مواجهة أعدائها
الفصل الأوَّل : دعوة الإسلام إلى السَّلام
الفصل الثاني : مفهوم الجهاد
الفصل الثالث : الحرب ضرورة دفاعية والاستعداد لها واجب
الفصل الرابع : مشروعية القتال دفاعاً عن النفس وفي سبيل الله
الفصل الخامس : مقومات النصر
الفصل السادس : ثمرات الجهاد
الفصل السابع : التخلف عن الجهاد
الفصل الثامن : الشهيد والشهادة
الفصل التاسع : الهجرة في سبيل الله
الباب الثاني عشر
الدار الآخرة
الفصل الأوَّل : الموت
الفصل الثاني : يوم القيامة(1/3)
الفصل الثالث : الحساب والجزاء
الفصل الرابع : وفاء الأجور على الأعمال
الفصل الخامس : دار الأبرار ودار الفُجَّار
الباب الثالث عشر
متفرقات من وحي القرآن الكريم
الفصل الأوَّل : دعوة إلى الاعتبار بدراسة التاريخ والآثار
الفصل الثاني : الاعتدال في التعلُّقات الدنيوية
الفصل الثالث : الأهِلَّة والمواقيت
الفصل الرابع : الاستشفاء بالعسل
الفصل الخامس : ليلة القدر
الفصل السادس : الاستعاذة بالله من الشرور وأهلها
الفصل السابع : المجادل في قدرة الله
الإهداء
إلى الإنسان والمكان والحلم
أمَّا الإنسان، فهو الَّذي زرع في ذرَّات وجودي وعقلي وقلبي محبَّة القرآن الكريم وعشقه، والرغبة في دراسته بعمق وجدِّية؛ واستخراج كنوز العلم والمعرفة من حناياه، بغية تعلُّمها والعمل بها وتعليمها، إنه سماحة الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية العربية السورية ـ رئيس مجلس الإفتاء الأعلى ـ حفظه الله وأطال في عمره، متمتعاً بالصحة والعافية.
وأمَّا المكان، فمسجد النُّور الكائن في مدينة لوميتا إحدى ضواحي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، في هذا المسجد المشرق بالنور شعرت بالحاجة الماسَّة لمثل هذا الكتاب، لكلِّ من يريد أن يتعرَّفَ الإسلام، بعيداً عن التعصُّب والمغالاة والأوهام.
وأمَّا الحلم، فأن يُخَصَّص لكلِّ طالب في المعاهد الشرعية، جهاز حاسوب [كمبيوتر]، مزوَّد بالبرامج الشرعية المتقدمة، بحيث نوفِّر عليه الجهد والوقت في دراساته الإسلامية والمعرفية، وخاصَّة إذا رُبطت هذه الأجهزة بشبكة المعلومات [إنترنيت]. وأن نهيئ له المزيد من شحنات التزكية والحكمة والعرفان، عسى أن نعيش جيل العلماء الحكماء، وقد أناروا العالم بالفكر الإسلامي الأصيل، من خلال قنوات فضائية تبثُّ الإيمان الشافي للعالم كلِّه وبلغاته المتعددة.
غازي صبحي آق بيق
مقدِّمة الكتاب(1/4)
بسم الله الواحد الأحد، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإني أحمد الله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده أن منحني الهمَّة والعزيمة والتصميم، لأضع بين يدي القارئ كتاباً يُعرِّف الإسلام من خلال القرآن الكريم كتاب الله الخالد، وآمل من الله سبحانه أن أكون قد وُفِّقت به لخدمة الدعوة والدعاة. وعلى الرغم من وجود آلاف الكتب المؤلَّفة حول الإسلام والقرآن والتشريع الإسلامي، فما زالت الحاجة ماسَّة إلى المزيد من الكتب، الَّتي تختصر الطريق أمام الراغبين بالتعرُّف على الإسلام، وفهم خطوطه العريضة، بيسر وسهولة، دون تعريضهم للضياع في متاهات المؤلفات، وفي صراعاتها وتصادم أفكارها.
إن هذا الجهد الَّذي نضعه بين يدي القارئ ليس من تأليفي، بل هو عصارة تفكير كثير من أئمَّة الفكر الإسلامي، حيث اقتصر عملنا على استخراج رحيق أفكارهم ومزجه، وأحياناً إعادة صياغته، والهدف من ذلك كلِّه، التعريف بإشعاعات القرآن الكريم بأسلوب ممتع مشوِّق، عسى أن نثير حماس القارئ، فتتفتَّح حنايا نفسه رغبة في مزيد من التعرُّف علىكنوز الإسلام وعظمته. وقد كان جُلُّ همِّنا مخاطبة القارئ الغربي قبل العربي، ونحن نقدِّم له هذا العمل بكلِّ ثقة وأمل كبير ليعرف حقيقة الإسلام وجوهره.
لقد قام بإنجاز هذا العمل مجموعة آمنت بأهميَّته، وعملت بدأب وإخلاص على تحقيقه، وكان هدف الجميع (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي)، فلهم كلُّ الشكر والامتنان والتقدير.
وقد تحاشينا ذكر المراجع وأصحابها، لنبقي للقارئ حياده، ولتبقى الفكرة هي الأصل مع احترامنا لصاحبها، ومع المزيد من الاعتذار لعدم ذكر الأسماء.
أمَّا عن تبويب الكتاب وتقسيمه، فهو مجرَّد اجتهاد قادَتْنا إليه طبيعة العمل، فإن فاتتنا مواضيع لم نتعرَّض لها فنحن نأمل أن يتابعها من يشعر بالحاجة إلى نشرها والتعريف بها.(1/5)
وأشير إلى أنني قد وهبتُ هذا الكتاب حسبة لوجه الله تعالى، فكلُّ من يرغب في الاقتباس منه، أو ترجمته لأي لغة كانت، فله مطلق الحقِّ في ذلك، دون الرجوع إلى مُعدِّه ومُنفِّذه، شريطة أن يكون ذلك لغايات الدعوة والإرشاد، وليس لأجل مصلحة تجارية، أو مكسب مادي؛ لعلِّي بهذا العمل أكون نموذجا، بل محذِّراً لتجار العواطف الدِّينية، لكي يخففوا من غلوائهم في تكديس الثروات الطائلة، مستغلِّين هذه العواطف السمحة الكريمة لدى المؤمنين، في سبيل جني الأرباح الوفيرة، وأن يكتفوا بالربح المعتدل.
وإني أتمنى على القائمين بعمل الدعوة وتخريج الدعاة، أن يتعاونوا جميعا على تثقيف قارئ المعاهد الشرعية، بأسلوب عصري متقدم؛ يعتمد الحاسوب، ولاسيَّما أنه تتوافر الآن معلومات شرعية مبرمجة قدَّمها علماء أجلاَّء متخصصون، لأجل الوصول إلى أي معلومة خلال دقائق قليلة، بل ثوانٍ، دون الحاجة إلى تقليب مئات الكتب للوصول إليها.
ومن الأمثلة على هذه البرامج المتوفرة: برنامج المحدِّث الَّذي يحتوي على نص القرآن الكريم مع عدد من تفاسيره المشهورة، بالإضافة إلى عدد من كتب الحديث الشريف، من أبرزها كنز العمال، والجامع الصغير، والدر المنثور وغيرها، وبرنامج الحديث الشريف الَّذي يحتوي على الأحاديث النبوية الشريفة المذكورة في تسعة كتب من الصحاح، وبرنامج القرآن الكريم مع تفاسيره وترجمته إلى اللغة الإنكليزية وغيرها. وطائفة أخرى من البرامج التعليمية والتثقيفية، منها: كنز المعلومات الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، ورحلة إلى مكة، وتعلَّم الصَّلاة، وعظمة الله في خلقه....
وفي الختام لابدَّ أن نشكر كلاً من الأخوة: مهند قصَّاب، ومحمَّد فادي مجاهد، ومحمَّد توفيق الصواف، لرعايتهم الفنية لهذا الجهد، وحرصهم على إخراج هذا العمل غايةً في الإتقان، بغية تحقيق الغاية المرجوَّة منه على أكمل وجه، والله ولي التوفيق والحمد لله ربِّ العالمين.
غازي صبحي آق بيق(1/6)
ص. ب 10015
دمشق ـ الجمهورية العربية السورية
أسرة بعض العاملين في تدقيق هذا الكتاب وإخراجه:
الاسم
رقم الهاتف
الشيخ محمَّد بشير المفشي
3719417
الأستاذة ملك الحافظ
7774473
السيِّدة وسام موَّات
واشنطن
الآنسة كوثر الأيوبي
دمشق
الأستاذ شريف الصواف
7770039
الأستاذ محمَّد توفيق الصواف
3124154
الفني مهند قصاب
4424846
الفني محمَّد فادي مجاهد
3123465
المعدّ غازي صبحي آق بيق
5312616 فاكس
أسرة بعض العاملين في تدقيق هذا الكتاب وإخراجه:
الاسم
رقم الهاتف
الشيخ محمَّد بشير المفشي
3719417
الأستاذة ملك الحافظ
7774473
السيِّدة وسام موَّات
واشنطن
الآنسة كوثر الأيوبي
دمشق
الأستاذ شريف الصواف
7770039
الأستاذ محمَّد توفيق الصواف
3124154
الفني مهند قصاب
4424846
الفني محمَّد فادي مجاهد
3123465
المعدّ غازي صبحي آق بيق
5312616 فاكس
فضيلة الشيخ / محمَّد بشير المفشي مدرس في كلِّيتي الدعوة الإسلامية وأصول الدِّين في مجمع أبي النور الإسلامي بدمشق
التعريف بالجزء الأوَّل من الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على من أرسله الله رحمة للعالمين سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إنه لمن دواعي سعادتي، أن كلَّفني أخي الأستاذ غازي آق بيق، بتدقيق هذا الكتاب، فكان لي شرف القيام بهذه المهمة والتعليق على بعض مواضيعه، وكان هدفنا المشترك خدمة الإنسان الباحث عن الحقيقة الخالدة من خلال هذا الجهد الكريم.
لقد حوى هذا الكتاب مواضيع مستوحاة من كتاب الله الخالد، وقد صُنِّفت ورُتِّبت بأسلوب سهل قريب المنال، حيث شَكَّلت باجتماعها نموذجاً فريداً ربَّما لا نجد له مثيلاً، فقد ضم بحثاً رائعاً عن أسماء الله الحسنى، ممَّا يعرِّف القارئ بربِّه سبحانه، لتكون هذه المعرفة عوناً لصاحبها على حبِّ الله والإيمان به وطاعة أوامره واجتناب محارمه، والخضوع التَّام والاستسلام المطلق لجلاله سبحانه.(1/7)
ثمَّ تناول دلائل الإعجاز الإلهي الكائنة في مخلوقات الله، فتكلَّم عن خلق الكون والملائكة والجن، وعن الإنسان الأوَّل والحرب المستمرة بينه وذريَّته من جهة وبين رأس الشر إبليس وأعوانه من جهة أخرى، فجاء بحثاً ممتعاً نافعاً في هذا المجال، يدل على عظمة الخالق وبديع صنعه وعظيم قدرته وحكمته.
ثمَّ تكلَّم عن الهداية في منظور الإسلام، مبرزاً دور الإيمان في هداية الخلق، ودعوتهم إلى أسباب السعادة الحقيقية، بوضعهم على الطريق المستقيم، الَّذي هو أقرب الطرق للوصول إلى الهداية، والَّتي فيها مرضاة الله، والَّتي تُعَدُّ بحقٍّ الفوز الأكبر في هذه الحياة.
ثمَّ شرع يتكلَّم عن دعاة الهداية، الأنبياء والرسل، أساتذة السماء الَّذين اصطفاهم الله لتبليغ رسالاته إلى عباده، هداةً مَهْدِيِّين، سعداء ومُسعِدين، فتكلَّم عن نوح وأتبَعَهُ بإبراهيم ويوسف وموسى وداود ويونُس وزكريا ويحيى وعيسى ومحمَّد عليهم الصَّلاة والسَّلام، مبرزاً أبرز ما امتاز به كلٌّ منهم بشكل موجز مفيد، يعطي صورة صادقة عن هذه الصفوة المختارة من أعلام البشر، الَّذين رفع الله تعالى مقامهم وأبقى ذكرهم وخلَّد مآثرهم. وخلُص من ذلك بالتأكيد على وحدة مصدر الشرائع السماوية وأنها تنبع من مشكاة واحدة وتستقي من مورد عذب واحد.
ثمَّ أفرد باباً كاملاً للحديث عن القرآن الكريم، وما يتعلَّق به من مباحث تُبيِّن قدسيَّة هذا الكتاب وما حواه من علوم الدنيا والآخرة، الَّتي تضمَّنت المنهج الأمثل للحياة الأكمل على هذه الأرض، ومن ورائها الحياة الأبديَّة في الدار الآخرة.
ثمَّ عَرَّج على أركان الإسلام ومنهجها في التعبير عن الخضوع لعظمة الخالق العظيم، ثمَّ أخذ يبيِّن المنهج الإسلامي في التربية الروحية وتزكية النفس وصقلها بحيث تصبح النفسَ المطمئنَّة الَّتي تعشق الفضائل وتكره النقائص؛ ثمَّ أَتْبَع ذلك ببرنامج الإسلام الفريد في التربية الأخلاقية والتربية الاجتماعية.(1/8)
إن هذا العمل الجليل الَّذي قام به الأخ غازي ـ حفظه الله ـ جدير بكلِّ إجلال وتقدير لاسيَّما وأنه كلَّه مستقى من كتاب الله الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فجزاه الله كلَّ خير، وتقبَّل من كلِّ من ساهم فيه بجهد، سَعْيَهُ في خدمة الإنسان والحضارة الإنسانية، إنه سميع مجيب والله وليُّ التوفيق والحمد لله ربِّ العالمين
مقدِّمة بقلم محمَّد توفيق الصوَّاف
القرآن، هذا الكتاب الإلهي العظيم الَّذي لم ينزِّله الله على عبده محمَّد صلى الله عليه وسلم من أجل أن يتخذه أتباعه من بعده تميمة للتبرك أو لدفع العين الحاسدة عنهم، ولم ينزِّله كتاب لغة لحفظ العربية من الزوال، كما صار بعضهم يُعرِّفونه في هذه الأيام، أو لغير ذلك من الغايات الدنيوية الثانوية الَّتي صاروا يتوهَّمون أنه نزل لتحقيقها، بل نزَّله ليكون منهج حياة للناس كافَّة، ودليل سلوك مستقيم ووحيد يوصلهم إلى ربِّهم، ويؤهلهم لنيل رضوانه وثوابه في الدنيا والآخرة.. فمن الثابت إسلاميا أن القرآن هو صراط الله المستقيم الَّذي على المسلم أن يلتزمه في حياته الدنيا، ليسهل عليه اجتياز صراط الآخرة، يوم الحساب، وصولا إلى جنَّة الله وتجنُّبا لناره وعذابه..
إذاً، فالقرآن هو نصُّ المنهج الإلهي الموجَّه للناس كافَّة، والَّذي ينبغي على الإنسان أياً كان عربيا أو غير عربي أن يتمسَّك به في سلوكه الحياتي اليومي، ليس من قبيل الامتثال لأمر الله فقط، بل ليحظى بالسعادة في دنياه وأخراه أيضا. ذلك أن بين سعادة الإنسان والتزامه النهج الإلهي، علاقة عضوية وثيقة، يمكن إضاءتها وتأكيدها من خلال الاطلاع الواعي على سير الصحابة والتابعين وكلِّ الَّذين التزموا هذا النهج في حياتهم، وفي مقدِّمة الجميع رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من أنبياء الله عليهم الصَّلاة والسَّلام.(1/9)
ولعلَّ من أبرز ما يتَّصف به الإسلام، ممثَّلا بقرآنه والصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه رسالة الله إلى عباده أجمعين، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم جاء بشيرا ونذيرا للناس كافَّة، في كلِّ الأزمان والأمكنة؛ وعمومية الرسالة الإسلامية هي الجانب العالمي من هويتها المميَّزة، الأمر الَّذي يفرض على أتباعها أن يقوموا بنشرها في مختلف أصقاع الأرض... فالإسلام دين الإنسان ـ أي إنسان ـ وليس دين العرب فقط..
لكن، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عربي، وكذلك لغة الكتاب الَّذي أنزل عليه، والمكان الَّذي نزل فيه هذا الكتاب، فقد كان من البدهي أن تكون لغة معظم المؤلفات الَّتي كُتبت عن هذا الدين ورسوله وقرآنه وشريعته باللغة العربية، وأن يكون المقصود الأول بخطابها هو الإنسان المتقن لهذه اللغة.. إلا أن هذا التوجُّه الَّذي هيمن على معظم المؤلفات الإسلامية، وخصوصا على كتب التفسير والحديث، حال دون تعميم فائدتها على غير الناطقين بالعربية، وخصوصا في عصرنا الراهن؛ كذلك فإن تطوُّر دلالة ألفاظ اللغة وتطوُّر أساليبها بين ما كانت عليه في الأزمان السابقة الَّتي تلت ظهور الإسلام، وبين ما آلت إليه في عصرنا الراهن، ساهم بدوره في حجب جزء آخر وهام من فائدة هذه المؤلفات القديمة والقيِّمة، حتَّى عن العرب المعاصرين من غير أهل الاختصاص في اللغة والدِّين، الأمر الَّذي استوجب صياغة شرح جديد لكتاب الله وسنَّة نبيِّه وما يتَّصل بهما وما ينبثق عنهما من أحكام شرعية بلغة معاصرة وأسلوب معاصر، وأمثلة معاصرة أيضا.. وهنا تكمن أهمية الكتاب الَّذي أقدِّم له، كما تكمن خصوصيته أيضا...(1/10)
وربَّما بسبب إقامة مؤلف هذا الكتاب لفترة طويلة خارج نطاق الوطن العربي، وبين مسلمين لا يتقنون العربية، شعر بضرورة صياغة شرح معاصر لبعض آيات هذا القرآن، وما يتَّصل بها من أحاديث نبويَّة شريفة، ومن أحكام شرعية، صياغة معاصرة، لا يخرج بها عن روح هذه الآيات وأحكامها الأصلية، كما يفعل بعض المبتدعين في كلِّ عصر، بل يقرِّبها من الذوق والفهم المعاصرين، بحيث تكون سهلة المأخذ على العربي وغير العربي في آن واحد.. وهي، ولاشك، محاولة جليلة وهامَّة إلى حد كبير..
إذن هذه هي رسالة الكتاب الأولى وهذا هو هدفه الرئيس، الأمر الَّذي يطرح سؤالا هاما: هل نجح المؤلف في تحقيق هذا الهدف وإيصال تلك الرسالة؟
يدفعني هذا التساؤل إلى الاعتراف بأنني حين طلب مني معدُّ هذا الكتاب الأستاذ غازي آق بيق، أن أكتب مقدمة لطبعته الثانية، تهيَّبت كثيرا، وتردَّدت، فبماذا أقدِّم لكتاب يقع في نحو ألف صفحة تقريبا، تزخر بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وبشروحات ضافية وإلماحات قيِّمة مبتكرة جمعها المؤلف من شتَّى كتب التفسير والفقه الَّتي وصلت إليها يده، ومن الكثير من الكتب العلمية ذات الصلة بموضوعات القرآن المختلفة؟
لقد ساعدني في وضع هذه المقدِّمة، أن شاء الله، إكراما منه وإنعاما، أن أشارك في الإخراج الفني لهذا الكتاب، الأمر الَّذي اضطرني إلى قراءة مضمونه أكثر من مرة، وكان أكثر ما استوقفني فيه، وجذب انتباهي واهتمامي، رغبة المؤلف في إيصال رسالة القرآن الكريم إلى أكبر عدد ممكن من الناس على مختلف انتماءاتهم أو معتقداتهم، وتعريفهم الإسلام على حقيقته البسيطة الناصعة الَّتي حاول أعداؤه ومايزالون تشويهها بشتَّى السبل والوسائل، حسدا وبغضا لشرع الله، ومحاولة منهم لإبعاد الناس عن نهجه القويم..(1/11)
ومن خلال قراءتي لمضمون هذا لكتاب، أستطيع أن أزعم بأنه قارب الغاية الَّتي ابتغاها مؤلفه.. بمعنى أنه جاء كتابا شموليا إلى حد كبير، دون أن تجنح به الشمولية إلى الاستطراد أو التبعثر بين الموضوعات الكثيرة الَّتي تطرَّق إليها وعالجها..
فقد نجح مؤلفه في ضبط موضوعاته وتبويبها تبويبا حسنا، يرتبط فيه اللاحق بالسابق ارتباطا موضوعيا، كما نجح في صياغته بلغة بسيطة تكاد تكون خالية من الألفاظ المعقَّدة والغريبة الَّتي يحتاج معها قارئ المؤلفات الإسلامية القديمة إلى فتح المعجم بين الفينة والفينة.. هذا بالإضافة إلى النجاح في توفير الحجَّة المقنعة كلَّما لزم الأمر، والمحاكمة العقلية الصحيحة للمشكل من الموضوعات، والأمثلة العلمية المعاصرة الَّتي تؤكِّد هذه الحجَّة أو تدعم تلك النتيجة الَّتي قادت إليها المحاكمة..(1/12)
وباختصار نجح الأستاذ غازي آقبيق في توسيع رقعة الاستفادة من القرآن لشرائح كثيرة من غير المختصين في تفسيره وعلومه، فقدَّم لهم بذلك خدمة جليلة وفوائد كثيرة.. كما أنه نجح في خطاب العقل الإنساني المعاصر بلغته وأمثلته وعلومه الَّتي يعرفها، مما ساعده في توسيع دائرة الحوار مع هذا العقل دون تحيُّز مسبق، ودون تعصُّب أعمى لدين الله.. إذ لم ينطلق في كتابه من إدراج حقائق القرآن الكريم ومبادئه وأساسيات منهجه كمُسلَّمات لا تقبل جدلا ولا رأيا مناقضا، بل عمد إلى بسطها كموضوعات يمكن طرحها على ساحة الحوار الحر، مع أيٍّ كان..، مترسِّما بذك منهج القرآن الكريم نفسه الَّذي اعتمد حرية الحوار حتَّى مع أعداء الله وخصوم الدِّين الإسلامي، من مشركين وكافرين وملاحدة وسواهم.. وبهذا ارتقت لغة الكتاب إلى مستوى الحوار الحر الَّذي نصَّ عليه القرآن بصريح العبارة في مثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرشْدُ مِنَ الغَي..} (2 البقرة آية 56)، وقوله: {فَذَكِّرْ إَنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرْ * لَسْتَ عَلَيهِم بِمُسَيْطِر} (88 الغاشية آية 21ـ22)، وفي آيات أخرى مشابهة، حضَّت الإنسان على إعمال عقله قبل أن يعتنق عقيدة ما، وأن لا يؤمن إيمان الَّذين وصفهم تعالى بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُم لا يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهْتَدُون} (2 البقرة آية 170).
نعم، لقد اعتمد القرآن أسلوب الحوار الحر في دعوته الَّتي لم يُكْرِه أحدا على الدخول فيها أو التزامها، وهو الأسلوب الَّذي يعدُّه حتَّى الوضعيون هو الأرقى والأمثل.. وهو ما حاول المؤلف التزامه في خطاب عقول قرَّاء كتابه من مسلمين وغير مسلمين عربا كانوا أو غير عرب..(1/13)
وفَّق الله المؤلف، وأوصله إلى قصده من كتابه هذا، ونفع به وبما كتب، فإنه على ما يشاء قدير، والحمد لله ربِّ العالمين..
الباب الأوَّل-الله جل جلاله
الله: هو اسم الذَّات العليَّة، خالق الأكوان والوجود، وهو ليس إله العرب أو المسلمين وحدهم، بل هو إله النَّاس والمخلوقات أجمعين
هو الله الَّذي لا إله غيره، الباقي، الحيُّ، الَّذي لا يموت، من له ملكوت كلِّ شيء في السموات والأرض؛ من بيده تصريف شؤون الخلق، يكلؤهم برعايته، دون أن يغفل أو ينام.
هو الله الَّذي له الأسماء الحسنى والَّتي ما كُنَّا لندركها لولا أن أَطْلَعَنا عليها في كتبه السماوية، لنعرفه بها معرفة تزيدنا منه قرباً وله حبّاً. وبعض هذه الأسماء يتعلَّق بصفات ذاته القدسية، بينما يعبِّر بعضها الآخر عن أفعاله، فإذا عرفنا مدلولات هذه الأسماء جميعاً اكتملت لنا الدائرة الَّتي يمكن أن نعيش فيها حياة إيمانية سعيدة برعاية الله الواحد الَّذي خلق كلَّ شيء فأحسن خلقه.
فالأسماء المتعلِّقة بصفاته عزَّ وجل هي الَّتي تهدي المؤمن إلى معرفة الذَّات الإلهية، من حيث الوحدانية، والحياة، والقِدم، والبقاء، والعلم، وغير ذلك من الصفات الَّتي توحي بعظمته وقوَّة سلطانه منذ الأزل.
أمَّا الأسماء الَّتي تتعلق بأفعاله عزَّ وجل فهي الَّتي يندرج تحتها كلُّ ما له علاقة بالخلق والإبداع، وما ينتج عنهما من إيجاد الأكوان والإنسان وسائر المخلوقات، والتعرُّف بالنُّظُم والأصول الَّتي أحكم الله تعالى بها هذا الخلق البديع بكلِّ جزئيَّاته، منذ بدء الخليقة وإلى ما شاء تعالى.(1/14)
والله ليس كمثله شيء في كماله، وصفاته، وحقيقته وأفعاله، ومهما حاول الإنسان أن يسعى لإدراك هذه الحقيقة، فإنه سوف يبقى عاجزاً عن ذلك، قال تعالى: {...ليسَ كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيُر} (42 الشورى آيه11). وقد سئل الإمام علي (كرَّم الله وجهه): بم عرفت ربَّك؟ فقال: (عرفته بما عرَّفني به نفسه، لا يُدرَكُ بالحواس ولايُقاس بالقياس، ولا يشبه النَّاس، قريب في بعده، بعيد في قربه، فوق كلِّ شيء ولايقال تحته شيء، وأمام كلِّ شيء ولايقال خلفه شيء).
وقد ورد في الأثر: [ تفكَّروا في الخلق، ولاتفكَّروا في الخالق، فإنَّكم لاتقدرون قدره].
وفيما يلي نلقي الضوء على بعض هذه الأسماء، مسترشدين بما جاء في القرآن الكريم من توضيح لمفهومها، وبيانٍ وتفصيل لمدلولاتها.
ـ الواحد، الأحد، الفرد، الصَّمد
قال تعالى: {قُلْ هو الله أحَدٌ* الله الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ ولمْ يُولَدْ * ولمْ يَكن لهُ كُفُواً أحَدٌ} (112 الإخلاص آية1ـ4).
أخرج الإمام أحمد عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أن الوثنيين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : يامحمَّد! انسب لنا ربَّك؛ فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص.
فكانت هذه السورة توجيهاً من الله لرسوله ليعلن للناس من خلالها أنَّ الإله الَّذي يعبده ويدعوهم لعبادته هو الله الواحد الأحد الَّذي لا شريك له، ولا شبيه ولا نظير، إنْ في ذاته أو صفاته أو أفعاله.
ولفظ (أحد) في الآية أدقُّ من لفظ (واحد) لأنَّه يضيف إلى معنى (الواحد) أنَّه لا شريك له، وأنَّه متفرِّد بالألوهية؛ ممَّا يُقرُّ في القلب يقيناً بأن التوجُّه بالعبوديَّة لا يكون إلا إليه وحده، وهذا يعني استغناءه عن كلِّ ما سواه. وبذلك تتكامل عقيدة الإنسان فيستعين بالله وحده، ويهتدي بنوره، فيمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه.(1/15)
وقد سُميِّت هذه السورة بسورة الإخلاص؛ لأنها مدرسة المؤمن، ينتسب إليها ليتعلَّم كيفية إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله عزَّ وجل، وحقيقة كلمة التوحيد الَّتي أمر الله تعالى رسوله الكريم بتبليغها للناس، فتلقَّفها الصحابة الكرام بإيمان وطمأنينة وثبات؛ فها هو بلالٌ الحبشي رضي الله عنه يُعذَّب ـ بسبب إسلامه ـ من قِبَلِ وثنيِّي قريش مع بدايات الدعوة في مكة، فلا يفتر لسانه عن ترديد كلمة الإخلاص، وينادي بقلب عاشق لله: (أحَد أحد، فرد صمد). أحد أحد... فلا شيء في القلب غير الله، وعظمته وخشيته، فهو المستجيب لكلِّ من يقصده، وهو المجير لكلِّ من يلوذ بحِمَاه. أحد أحد... المنفرد الخالق للأكوان، المنزَّه عن التقيُّد بالزمان أو الحاجة إلى المكان، لا شيء قبله ولا شيء بعده، ولا مثيل له ولا شريك.
فكانت هذه الكلمات تعبيراً عن العشق الَّذي ملأ قلب بلال رضي الله عنه ، فأطفأ لهيب الجمرات الَّتي وضعوها على ظهره، فما كان ألم العذاب ليصرفه عن لذَّة الوصال، وحلاوة الإيمان بالله الواحد الأحد.
فالواحد الأحد هو الخالق المتفرِّد بالخلق والإيجاد، وهو الموجود الَّذي لا ينجم عن وجوده موجود مثله، وكلُّ موجود آخر إنما يستمِدُّ وجوده منه، ويستلهم حقيقته من تلك الحقيقة القدسية الأزلية الأبدية.
فهذه هي وحدانية الله الَّتي اهتدى إليها أصحاب العقول والبصائر فآمنوا بها، وضلَّ عنها بعض السذَّج الَّذين قادتهم عظمة الكون إلى الشَّك في إمكانية إيجاده من قبل مُبْدِع واحد، فاعتقدوا وآمنوا بتعدُّد الآلهة، فأخطؤوا وما أصابوا؛ لأن العظمة الإلهيَّة أجَلُّ من أن تدانيها قوَّة أو طاقة، فكلُّ ما عداها مخلوق، ولا يمكن للمخلوق أن يتساوى مع الخالق.(1/16)
ولو كان معه ـ سبحانه ـ آلهة تدير هذا الكون، لسعى كلٌّ منهم لاتِّخاذ مراكز في السلطة الإلهية، ولأدَّى ذلك إلى نشوب خلافات بينهم على النفوذ من شأنها أن تفسد الكون. وقد بيَّن الله عزَّ وجل هذه الحقيقة في قوله: {قُل لوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كما يَقُولُونَ إذاً لابْتَغَوا إلى ذي العَرْشِ سَبيلاً * سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً} (17 الإسراء آية 42 ـ 43). وذِكْر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتَّسامي والسيطرة على جميع القوى الفاعلة في هذا الكون والَّتي ظنَّها ضعاف العقول آلهة، وما هي إلا خلق من مخلوقات الله، تتَّجه إليه بفطرتها الكونية، وتخضع لإرادته الَّتي تحكمها، وتصرِّف شؤونها بالشكل الَّذي يتناسب مع ما سُخِّرت لأجله.
ومن الأدلة القرآنية الَّتي تشهد بوحدانية الله تعالى دِقَّة النظام في السموات والأرض، والمبيَّن في قوله عزَّ وجل: {لوْ كانَ فيهما آلِهَةٌ إلاَّ الله لَفَسَدَتَا..} (21 الأنبياء آية 22)، وقوله: {ما اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وما كانَ معه مِنْ إلَهٍ إِذاً لذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} (23 المؤمنون آية 91).(1/17)
والله هو الصَّمد الَّذي لا يُقضى أمرٌ إلا بإذنه، فله السيادة المطلقة على هذا الكون الرحيب، الَّذي لا يعلم مداه ومحتواه إلا هو، ولا ينازعه في هذه السيادة أحد، فهو المقصود وحده بالدعوات، المجيب لأصحاب الحاجات. وصمديَّته هذه تعني استغناءه الذاتي عمَّا سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه؛ في وجودها وبقائها وسائر أحوالها. ومن تمام وحدانيته وصمديَّته أنه لم يتَّخِذ ولداً، لأن الولد لابدَّ أن يكون من جنس والده والله تعالى ليس كمثله شيء، والولد لا يكون إلا لمن له زوجة والله منزَّه عن اتِّخاذ الزوجة، والولد يكون لمن يخشى الموت والزوال فتكون الذرِّية استمراراً له وبقاءً لنوعه، أمَّا الله تعالى فهو باق لا يحول ولا يزول، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَواتِ والأَرضِ أنَّى يَكونُ لهُ وَلَدٌ ولمْ تَكُنْ لهُ صَاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ وهو بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} (6 الأنعام آية 101). وهو كذلك لم يولَد، لأن كلَّ مولود حادث والله قديم أزلي، لا والد له ولا سابق عليه، فهو الأوَّل والآخر الَّذي لا ابتداء لوجوده ولا نهاية؛ وفي هذا دحضٌ لما يفتريه المشركون، بأن لله أولاداً أو أنداداً، قال تعالى: {وقُلِ الحَمْدُ لله الَّذِي لمْ يَتَّخِذْ ولَداً ولمْ يَكُنْ لهُ شَريكٌ في المُلْكِ ولمْ يَكُنْ لهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (17 الإسراء آية 111).
فالحمد لله الَّذي لم يتَّخِذ ولداً فَيُمْسِك نِعَمَهُ له ثمَّ يورِّثه ملكه، لأن الولد غالباً ما يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله. والحمدلله الَّذي لا شريك له في الملك، إذ لو كان له ذلك لم يُعرف أيُّهما المستحقُّ للشكر والحمد. والحمد لله الَّذي ليس له وليٌّ من الذُّل يتولاه لحاجة إليه أو دفعاً لمذلَّة عن نفسه. والحمد لله دائماً وأبداً على كلِّ ما أولانا من نِعَمٍ مهَّدت لنا طريق عبادته الخالية من الشِّرك والشريك أو الحاجة لغيره عزَّ وجل.(1/18)
من هنا ينبثق المنهج الكامل للحياة المُثلى، القائم على حقيقة وحدانية الله وما تشيعه هذه الحقيقة في النفس من تصوُّرات ومشاعر وأحاسيس وأفكار واتجاهات. إنه منهج عبادة الله وحده، فلا توجُّه ولا ملاذ إلا إليه في حالتي الرغبة والرهبة، في السرَّاء والضرَّاء. إنه منهج العمل ابتغاء مرضاة الله والقرب منه، والتطلُّع للخلاص من الحواجز المعوِّقة والشوائب المضلِّلة عن طريقه، والسبيل الَّذي يربط بين قلب المؤمن وبين خلق الله برباط الحبِّ والأنس والتَّعاطف.
من أجل هذا كلِّه، ركَّزت الدعوة الإسلامية منذ بدايتها على إقرار حقيقة التوحيد عقيدةً في الجَنان، ومنهجاً للحياة، وتفسيراً للوجود عميق الارتباط بسائر فعاليَّات الإنسان.
ـ الحيُّ، القيُّوم:
قال تعالى: {الله لا إِلَهَ إِلاَّ هو الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ..} (2 البقرة آية 255).
أمَّا الحي: فهو اتِّصافه عزَّ وجل بالحياة الأزلية الخالدة، الَّتي لا بداية لها ولا نهاية؛ فهي مطلقة مجرَّدة عن معنى الزمان الملازم لحياة الخلائق، ومنزَّهة عن الخصائص الَّتي ألِفها الناس في حياتهم.(1/19)
وأمَّا القيُّوم: فيعني أن قيام كلِّ شيء في الوجود مرهون بإرادته عزَّوجل وتدبيره وقدرته، فهو وحده القائم بتصريف أمور عباده، يرعاهم ويحفظهم ويرزقهم، ويُوجد لهم أسباب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو المُحْكِمُ قبضته على هذا الوجود بكليَّاته وجزئيَّاته، قال تعالى: {إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأَرضَ أنْ تَزُولا وَلَئِن زالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كان حَلِيماً غَفُوراً} (35 فاطر آية 41). وحين يحاول الإنسان تصوُّر هذه الحقيقة، ويَسْبَحُ خياله متفكِّراً فيما لا يُحصى من الجزئيات المحيطة به ينتابه شعور الخشية والخشوع، عندما يكتشف أن أدقَّ ذرَّات هذا الكون مستمرة في حركة دؤوب متناهيةالدقَّة؛ ويستحيل استمرارها من غير دوام المراقبة والسيطرة الإلهيَّة عليها، وهذا ينطق بأنَّ الله عزَّ وجل لا تعتريه غفلة ولا يمكن أن تغلبه سِنة.
- الأوَّل،الآخر، الباقي:
قال تعالى: {هو الأوَّلُ والآخِرُ...} (57الحديد آية3).
وقال أيضاً: {...كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلا وَجْهَهُ...} (28القصص آية 88).
وقال أيضاً: {كُلُّ مَن عليها فانٍ * وَيَبْقَى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ والإِكْرام} (55الرحمن آيه26-27).
إن وجود الله تعالى لا بداية له، فهو موجود منذ الأزل، لا أوَّل لوجوده كما أن وجوده غير مسبوق بعدم. ووجود الله ذاتي غير تبعي، وما من موجود إلا ويستمد وجوده من الله عزَّ وجل ؛ ويتوقف وجوده على إرادته تعالى.
فالله موجود بدليل الشعور الفطري المستقر في نفس الإنسان، الَّذي يلجأ إلى الله إذا أصابه ضرٌّ ويسأله المعونة مهما كان إيمانه وقوَّة يقينه، قال تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ الضُّرُّ دعانا لجنبهِ أوقاعداً أو قائماً...} (10يونس آيه12).(1/20)
ومن أبسط الأدلَّة العقلية على وجود الله تعالى: قانون السببية، فلا بدَّ لكلِّ موجود من موجد، ولا يمكن أن ينتقل شيء من العدم إلى الوجود إلا بإيجادٍ وخالقٍ ومسببٍ للأسباب، قال تعالى: {وربُّكَ يخلُقُ مايشاء ويختار...} (28 القصص آيه 68).
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :« اللهمَّ أنت الأوَّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء». (رواه مسلم).
ـ العليم، المحيط:
قال تعالى: {..واتَّقُوا الله واعْلَمُوا أنَّ الله بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} (2 البقرة آية 231).
وقال أيضاً: {ولله ما في السَّمَواتِ وما في الأَرضِ وكان الله بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيطاً} (4 النساء آية 126).(1/21)
من أسمائه تعالى العليم المحيط: أي الَّذي يحيط علمه بجميع الكائنات والعوالم، فهو صانعها ومُنْشِؤُها ولم تكن شيئاً مذكوراً. وهو الله الَّذي يعجز أي مخلوق ـ كائناً من كان ـ عن أن يستوعب بعضاً من علومه إلا في حدود الأسباب والإمكانات الَّتي يهيِّؤُها عزَّ وجل له. فمهما تطوَّرت علوم الإنسان وتقدمت فهي تدور في فلك الاكتشافات دون الخلق، وكلُّ ما يفعله لا يعدو كونه استقراءً واستنتاجاً لقوانين الله في الخلق. فإذا كان علماء الأرض قاطبة ـ منذ اكتشافاتهم الأولى وإلى يومنا هذا ـ لم يدركوا من علوم هذا الكون إلا النَّزْرَ اليسير، فأنَّى لهم أن يحيطوا بعلوم الله الَّتي يفوق الإلمام بها كلَّ تصوُّر وتقدير، وحتَّى لو أنهم اتَّخذوا من كلِّ أشجار الأرض أقلاماً، ومن بحارها مِدَاداً لوصفها وبيان عظمتها لنَفِد ذلك كلُّه قبل أن يفرغوا من رصدها وتدوينها؛ قال تعالى: {قُلْ لو كان البَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولوْ جِئْنَا بِمثْلهِ مَدَداً} (18 الكهف آية 109) وقال أيضاً: {ولوْ أنَّ ما في الأَرضِ مِنْ شَجرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} (31 سورة لقمان آية27). فعلوم الله عزَّ وجل المتعلِّقة بما خلق من أكوان ومَجَرَّات وعوالم مختلفة، والتَّرابط القائم بين جميع المخلوقات، أوسع وأعقد من أن تحيط بهما عقول البشر فرادى ومجتمعين، وهم مدعوُّون بالتالي لدراستهما وتتبُّعهما والاستفادة منهما.(1/22)
والله عزَّ وجل عالم بالظَّاهر والباطن، وعلمه شامل للماضي والحاضر والمستقبل يحيط بجميع الكائنات في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويشمل ما نعلمه وما نجهله؛ وأقرب مثال على شموليَّة علمه يبدو واضحاً في الإنسان نفسه، الَّذي هو من خلق الله، والَّذي استطاع بواسطة عقله أن يصل إلى مستوى رفيع من العلم والخبرة أَهَّله لأن يطلق قمراً صناعياً يرصد ما يجري تحت مساره، ويصوِّره بدقَّة شديدة، ثمَّ يعيد إرسال الصور إلى المحطات الأرضية وهي في غاية الوضوح، دون أن يغيب عنه شيء من تفاصيل هذه العملية المعقَّدة. فإذا كان الأمر بالنسبة للإنسان المخلوق ـ على ضعفه ـ كذلك، فما بالك بالنسبة للخالق العظيم الَّذي خلق المجرَّات بأعدادها اللامتناهية؟! فهل يعقل أن يغيب عنه شيء ممَّا خلق؟.
وقد شاءت الحكمة الإلهية، حين أسندت الخلافة في الأرض إلى الإنسان، أن تجعله يكتشف بالتدريج، وحسب تطوُّر علمه وإمكاناته، بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية الَّتي تُعينُه على القيام بأعباء خلافته، وتركت الباب أمامه مفتوحاً ليتعلَّم ويدرك المزيد، ويستفيد من ذلك كلِّه في إعمار الأرض وبناء حضارتها الإنسانية العامة. إننا في كلِّ يوم نكتشف شيئاً جديداً؛ نشعر حياله بالفرح والسرور، ولو كُشف لنا علم كلِّ شيء منذ بدء الخليقة لما كان للحياة أيُّ معنى من معاني التطوُّر والتقدُّم. ومع ذلك فإن قدراتنا بوصفنا بشراً تنحصر في عالم المادة؛ فلا نستطيع أن نخترق حجب عالم الغيب أو نفقه كنهه، لأنه علم لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب.(1/23)
فالغيب عالَمٌ رحب يحيط بنا من كلِّ جانب؛ فالذَّات الإلهية غيب... وعالم الملائكة غيب... وعالم الآخرة غيب... ونحن نؤمن بهذا العالم، ونسلِّم بوجوده، وعلمنا به ينحصر فيما أُخبرنا عنه من طريق الوحي السماوي. ويبقى بالنسبة لنا غيباً ما دمنا في عالم المادة، فإذا ما انتقلنا إلى العالم الآخر فعندها يتحول الغيب إلى مشاهدة، والإخبار إلى يقين، ونستطيع أن ندركه إدراكاً تاماً وحقيقياً.
فالله عزَّ وجل هو العليم الَّذي يعلم الغيب والشهادة {وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاَّ هُوَ..} (6 الأنعام آية 59) إلا أنه أَطلع رسله ـ الَّذين اختارهم وأيَّدهم بالمعجزات ــ على بعض أسرار الغيب في الدنيا ليكونوا منارات علمٍ، وأعلام هداية للناس، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَداً * إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..} (72 الجن آية 26-27).
ومهما ارتقى البشر في علومهم ودرجاتهم؛ من رسل وأنبياء وعلماء وغيرهم؛ فلن تكون تلك العلوم إلا كمثقال ذرَّة من علوم الله، ولن يستطيع أحد منهم أن يعلم شيئاً ممَّا انفرد الله تعالى بعلمه كعلم الساعة، ووقت نزول المطر ومكانه ومقداره، وعلم كلِّ ما يكنُّ في الأرحام من أوصاف وطبائع وغير ذلك من خصوصيات كلِّ نفس، وعلم المستقبل، وعلم آجال الناس، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتِح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلا الله، ثمَّ تلا: {إنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرحامِ وما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وما تَدري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (31 لقمان آية 34)».(1/24)
أمَّا قوله تعالى: {..ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأرضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ في كِتَابٍ مُبِينٍ} (6 الأنعام آية 59)، ففيه دعوة لنا لنستكشف ما في البرِّ والبحر وندرك بعضاً من مظاهر عظمة الله تعالى من جهة، ونسبر أغوار الطبيعة من جهة أخرى. فورقة الشجر الَّتي لا قيمة لها في نظر الإنسان والَّتي جفَّت مياه الحياة من عروقها، وكذلك الحبَّة الَّتي دُفنت في عمق التراب واكتنَفَها الظلام، كلُّها إشارات إلى دورة الحياة الَّتي تبدأ من باطن الأرض وتعود إليها، وهذا كلُّه غيب مجهول بالنسبة للعقل الخامل النائم، وعلم للعقل المتفتِّح بنور المعرفة والإدراك. وهكذا فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم والكتب السماوية من قبله؛ ليتَّخذ الإنسان مساره الصحيح، ويتعرَّف على ما يدور حوله، ويعرف مكانه في هذا الكون البديع، فيصل بذلك إلى معرفة خالقه ومدى إحاطته بمخلوقاته، ويدرك مدى قصور عقله عن الإحاطة الشاملة بعلم الله وشهوده، ويتولَّد في سريرته الإيمان والإقرار بعظمة الخالق، فيشعر بجلاله، ويبقى حيَّ الضمير، فلا يجرؤُ على ارتكاب معصية في السرِّ أو العلن، حياءً من الله العليم الخبير، وإرضاءً لضميره الحي الَّذي وافق الفطرة وصَقَلَتْه تعاليم السماء.
ـ الخالق، البارئ، المصوِّر:
قال تعالى: {هوَ الله الخَالِقُ البَارِئ المُصَوِّرُ..} (59 الحشر آية 24).
الخالق: هو الموجد الَّذي يَدين له كلُّ ما في الكون بالوجود، وهو خالق الناس جميعاً من ذريَّة آدم عليه السلام الَّذي نفخ فيه من روحه، فكان من نسله كلُّ الناس الَّذين تفرَّقوا في الأرض أجناساً، وتشعَّبوا عروقاً وألواناً.
أمَّا البارئ: فهو اسم مرتبط باسم الخالق، لأن الخلق والبرء صفتان متصلتان والفارق بينهما يسير ودقيق. فإذا كان الخَلق هو التصميم والتقدير، فإن البرء هو التنفيذ والإخراج.(1/25)
أمَّا المصوِّر: فهو الَّذي يعطي الملامح المميَّزة، والسِّمات الخاصَّة بكلِّ شيء، وهذه صفة مرتبطة بالصفتين السابقتين.
وقد قدَّم تعالى ذكر الخالق على البارئ؛ لأنَّ تقرير الإرادة مقدَّم على تأثير القدرة. وقدَّم البارئ على المصوِّر؛ لأنَّ إيجاد الذَّوات مقدَّم على إيجاد الصفات.
- السميع البصير:
قال تعالى: { قَد سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتي تُجادِلكَ في زَوجِها وتَشْتكي إلى الله، والله يَسْمعُ تحاورَكما إن الله سميع بصير } ( 58 المجادلة آية 1).
وقال أيضاً: { قال لا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وأَرى} (20 طه آية 46).
السمع والبصر صفتان قائمتان في ذاته تعالى، يتأتى منهما كونه سميعاً، بصيراً. فهو الله عزَّ وجل مهيمن على سائر مخلوقاته، يرصد أقوالهم وأفعالهم، أحاسيسهم ومشاعرهم، نيّاتهم وأعمالهم، لا يشرد عنها ولا يغفل، قال تعالى: {ولكلٍّ درجاتٌ ممَّا عَمِلوا وما رَبُّكَ بِغافلٍ عمَّا يَعْمَلون} ( 6 الانعام آية 132). هذه الهيمنة لا حدود لها في قدرة الله تعالى وعظمته وهو القائل: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَميعاً قَبضَتُهُ يَومَ الِقيامةِ والسَّمواتُ مَطويَّاتٌ بِيمَينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (39 الزمر آية 67).
هذا الخالق الكريم أعطى الإنسان البصر والسمع حيث قال تعالى: { أَلمْ نَجعلْ لَّه عَينين * ولساناً وشفتيِن} (90 البلد آية 8 - 9 )، وقال أيضا: {قُلْ هُو الَّذي أَنشأَكمُ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصارَ والأفئِدةَ قليلاً ما تَشكُرون} (67 الملك آية 23).(1/26)
ولو عدنا إلى المراجع العلمية لدهشنا من مكونات العين وملايين المرايا العاكسة الَّتي تتكوَّن منها ليتهيَّأ لنا الإبصار، وملايين الأعصاب الَّتي تحرِّك سمع الأذن لتتمكَّن من السمع. وربط تعالى هذا الخلق المادي بوشائج نورانية تنبع من الفؤاد الروحي، الَّذي يتيح لنا سمعاً مادياً وروحياً، وإِبصاراً ممزوجاً ببصيرة، وفهماً عن الله في مراده، قال تعالى: {أفلَمْ يَسيروا في الأَرضِ فَتكونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُون بها أَو آذانٌ يَسْمعونَ بِها فإنَّها لا تَعْمَى الأبصارُ وَلَكن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصدورِ} ( 22 الحج آية 46). فإذا كانت صفة السمع والبصر عند الإنسان وعند غيره من المخلوقات بهذه الدِّقة، فما بالك بالسمع والبصر عند الخالق العظيم!! ولذلك فقد وصف الله تعالى نفسه بالسميع، البصير، بصيغة مُبالغة تأكيداً على أنَّ هذه الصفة عند الخالق هي أعظم منها بكثيرٍ عند غيره من المخلوقات.
ـ القدير، المحيي، المميت، الباعث:
قال تعالى: {..بِيَدكَ الخَيرُ إنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ..} (3 آل عمران آية 26ـ27).
وقال أيضاً: {أوَ لَيْسَ الَّذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ بقادِرٍ على أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (36 يس آية 81).
وقال أيضاً: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجمَعُكُم إلى يومِ القيامةِ لا ريبَ فيهِ ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعْلَمُون} (45 الجاثية آية 26).
وقال أيضاً: {ذلك بأنَّ الله هو الحقُّ وأنَّه يُحيي الموتى وأنَّه على كلِّ شيءٍ قدير * وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها وأنَّ الله يبعثُ مَنْ في القبور} (22 الحج آية 6ـ7).(1/27)
إن القلب المنوَّر يكاد يبصر قدرة الله تُحرِّك الأفلاك، وتُسيِّر الكرة المعتمة حول الكرة المضيئة، وتَقْلِبُ مواضع الظلمة ضياءً شيئاً فشيئاً، حتى يتحوَّل ظلام الليل إلى وضاءة النهار، ويتنفَّس الصبح متحرِّراً من السكون والخمود. إنها حركة لا يمكن لإنسان عاقل أن يدَّعي أنها تمضي مصادفة من غير أن تضبطها قدرة مهيمنة لامتناهية.
وإنَّ من خصائص الألوهيَّة المتَّصفة بهذه القدرة إيجاد الحياة من العدم؛ فالزرع يخرج من الحَبِّ، والحَبُّ يكمن في لبِّ الزرع، والطائر ينقف البيضة متلمِّساً الطريق يرى نور الحياة، والبيضة تنحدر من الطائر لتعيد دورة الحياة! وكذلك الموت والحياة؛ فعلى الرُّغم من أنهما قطبان متنافران فإن أحدهما يكمن في طيَّات الآخر، ففي كلِّ لحظة تمرُّ على الكائن الحي، يقترب منه الموت بمقدارٍ مساوٍ لتلك اللحظة الَّتي يعيشها، فالموت يأكل من عمره، والحياة ترسي في نسيجه خلايا جديدة، وهكذا.. خلايا تموت، وخلايا تتوالد في كيان كلِّ الأحياء، إلى أن يموت الكائن الحي، وتتحول خلاياه إلى ذرات ذوات تركيب آخر، فدورة الحياة والموت مستمرة بقدرة معجزة في كلِّ لحظة من لحظات الليل والنهار.
ولقد تضمَّنت الآيات الأخيرة عنصراً هاماً من عناصر العقيدة؛ هو الإيمان بقدرة الله تعالى وحده على الإحياء والإماتة، وإعادة خلق الناس للحساب والجزاء. فهو وحده المحيي والمميت؛ يُخرج الإنسان من بطن أمه عُرياناً، لا حول له ولا قوَّة، ثمَّ يزوِّده بأسباب الحياة، ثمَّ يميته، ثمَّ يبعثه يوم القيامة حيّاً، وليس لأحد غيره عزَّ وجل سلطة أو قدرة على الإحياء والإماتة.(1/28)
والآيات كذلك توجِّه الرسول صلى الله عليه وسلم وكلَّ مؤمن من بعده لدعوة الناس للإيمان بحقيقة جَليَّةٍ؛ هي أن الله عزَّ وجل هو واهب الحياة في الدنيا والمميت عند انقضاء الآجال، وأنه سيجمع الناس يوم القيامة جمعاً لا ريب فيه، لا كما يزعم بعضهم بأنهم يَحْيَوْن ويموتون بحكم الدَّهر. فإذا كان الله عزَّ وجل قد قَدِر على الخلق في المرة الأولى، فَمِنْ بابٍ أولى أنه يقدر على إعادته كرَّة أخرى، قال تعالى: {وهو الَّذي يَبْدَؤُ الخلْقَ ثمَّ يُعِيدُهُ وهو أَهْوَنُ عليه..} (30 الروم آية 27).
وهذه الحقائق تتوافق مع المنطق والعقل، فهل يُعقل أن تُوهَب الحياة لكلٍّ من الإنسان والحيوان والنبات ـ بمحض المصادفة ـ من غير واهب عظيم قادر على بثِّها وإيداعها في المخلوقات؟ تلك الحياة الَّتي هي قوَّةٌ خارقة، لا يزال العقل عاجزاً عن إدراك كنهها وأبعادها، وسيظلُّ كذلك إلى ما شاء الله. وهل يُعقل أن تُنفخ الرُّوح من قبل الفراغ، وتَؤول إلى الفراغ؟ ثمَّ هل من العدالة في شيء أن يعيش الناس على هذه الأرض، يكسِب بَرُّهم الخيرات، ويجترح آثِمُهم السيئات، ثمَّ ينتهون جميعاً إلى مصير واحد هو الفناء، دون حساب ودون ثواب أو عقاب؟؛ ويجيبنا الله تعالى بقوله: {الَّذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُم أحسنُ عملاً وهو العزيزُ الغفورُ} (67 سورة الملك آية2).
لاشكَّ أن من يعتقد بذلك يرتضي لمصيره أن يكون مساوياً لمصير الجمادات والحيوانات، خلافاً للمؤمن بالبعث والنُّشور، الَّذي يتناسب إيمانه مع الكرامة الإنسانية الَّتي ميَّزه تعالى بها في الحياة الدنيا ليكون أعظم كرامة في الآخرة.(1/29)
فكلُّ شيء في هذا الكون يدلُّ على وجود الله الَّذي أقام التَّوازن والعدالة، وأحكم النُّظُم، وجعل لكلِّ أمرٍ وسيلة وغاية؛ فالحياة وسيلة لها بداية ونهاية، والغاية منها هي العمل الجادُّ من أجل الوصول إلى الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية في الدنيا والآخرة، في كنف ربٍّ كريم قدير.
ـ الرَّحمن، الرَّحيم:
قال الله تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمين * الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} (1 الفاتحة آية 2-3).
الرَّحمن الرَّحيم صفتان لله مشتقَّتان من الرَّحمة. ولكلٍّ منهما معنى معيَّن؛ فالرحمن صيغة مبالغة بمعنى عظيم الرحمة، وهو اسم عامٌّ يشمل جميع أنواع الرحمة الَّتي تعمُّ المؤمن والكافر وسائر المخلوقات، فقد روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله عزَّ وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأَخَّر تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة».
أمَّا الرحيم: فيعني دائم الرحمة، وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى: {هو الَّذي يُصلِّي عليكم وملائِكَتُهُ ليُخرِجَكُم منَ الظُّلمَات إلى النُّور وكان بالمؤمنين رحيماً} (33 الأحزاب آية 43).
وهاتان الصفتان تقرَّان في النفس شعور السرور والأمل؛ فيتعادل الخوف والرَّجاء، والفزع والطمأنينة في سريرة المؤمن، فهو يدرك أن الله تعالى عظيم الرحمة دائم الإحسان، رؤوف بعباده؛ لا يترصَّد أخطاءهم وعثراتهم ليبطش بهم بل يراقبهم ويرعاهم، ولا يريد الشرَّ بهم بل يحبُّ لهم الخير، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الأهواء والجهالة بل يهديهم ويؤيِّدهم بفضله.(1/30)
وأمَّا الجمع بين وصفَيْ الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع، وهو أن (الرحمن) دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، و(الرحيم) دالٌّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنَّ الأوَّل الوصف والثاني الفعل، فالأوَّل دالٌّ على أن الرحمة صفةُ ذاتٍ له سبحانه، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته؛ أي أنه صفة فعل له سبحانه؛ فقد كثر في القرآن الكريم وصف الله تعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ولم يَرِد فيه بأن الله رحمن بالمؤمنين.
ـ المَلِكُ، القُدُّوس، السَّلام، المؤمن، المهيمن:
قال الله تعالى: {هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هوَ المَلِكُ القدُّوس السَّلام المؤمن المهيمن..} (59 الحشر آية 23).
الله تعالى هو الملك بل ملك الملوك، والمالك الواحد، وملكِيَّته شاملة مطلقة لا حدود لها، وليس لبشر ملكيَّة أصيلة مطلقة يتصرف فيها بمحض إرادته، وإنما ملكيَّة معارة على سبيل الأمانة، خاضعة لشروط المالك الأصلي وتعليماته، فإذا تصرَّف المُعار تصرُّفاً مخالفاً لشرط المالك عرَّض نفسه للعقوبة، وأُخذت منه العاريَّة، وأُسندت لمن يستحقُّها.
وهذا يعني أن الإنسان مُستخلَف في الأرض على ملك ربِّه، وإيمانُه بأنه لا يملك من الأمر شيئاً كفيلٌ بأن يزرع في نفسه القناعة والرضا بما يحصِّلُ من الرزق، ويضفي على قلبه سكينة وطمأنينة تحفظانه من التعلُّق المُفْرط بعاريَّة مسترَدَّة عمَّا قريب.
وهو تعالى المالك لكلِّ مصادر الطاقة والقوَّة في هذا الكون، يُودعها حسب إرادته وتقديره، ويحجبها وفقاً لهذا التقدير، قال تعالى: {قُلِ اللَّهمَّ مَالِك المُلْك تؤْتِي المُلْكَ مَن تشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ ممَّنْ تشاء..} (3 آل عمران آية 26).(1/31)
أمَّا القدُّوس: فهو الطاهر من كلِّ عيب، المنزَّه عن كلِّ نقص. فهو اسمٌ يُشِعُّ بالقداسة المطلقة، ويلقي في ضمير المؤمن إشعاعاً يطهِّر قلبه ليصبح صالحاً لتلقِّي فيوض الملك القدُّوس، والتسبيح له والتقديس لجلاله. وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: (سُبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والروح).
والسَّلام: صاحب السلامة من كلِّ نقص فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو واهب السلام لخلقه. فهذا الاسم يسكب السَّكينة والطُّمأنينة في قلب المؤمن ويغمر جنبات الوجود، وإذا ما تفكَّر القلب به فإنه يؤوب بالراحة النفسية بعد أن سكن إليه، وجنح إلى الموادعة والمسالمة مع الوجود كلِّه بما فيه من إنسان ونبات وحيوان؛ فالكلُّ آمن في جوار الله، سالم في كنفه.
والمؤمن: هو واهب الأمن والإيمان، وعندما يتَّصف القلب بهذه الصفة حقَّ الاتصاف يتَّصل بالله، ويرتفع ويسمو فوق الأهواء والرغبات.
أمَّا المهيمن: فهو الرقيب على أعمال عباده، والحافظ لكلِّ شيء في الكون. وهو الَّذي خلق السَّموات والأرض ثمَّ استوى على عرشه استواء الهيمنة والاستعلاء. وهذه الصفة تتعلق بذات الله فهي فاعلة في الكون موحية بالرقابة والسُّلطان.
ـ النور:
قال الله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمواتِ والأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيها مِصباحٌ المِصْباحُ في زُجَاجةٍ الزُّجاجةُ كأنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌ يُوقَدُ مِن شَجرةٍ مُباركةٍ زَيتُونةٍ لا شرقيَّةٍ ولا غربيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لم تمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ علَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ للنَّاسِ واللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْم} (24 النور آية 35).(1/32)
الله نور السموات والأرض؛ ولنوره حلاوة تتحسَّسها الأرواح، وتنشرح لها الصدور، ولا يمكن للعين أن تدركه، لأنه ذو طبيعة خاصَّة، لا تستشفُّها إلا عين القلب، لأن القلب مسكن حبِّ الرحمن ومعرفته!! ولا يمكن الاهتداء إلى هذا النور إلا بتزكية النفس وتطهير الروح، وصقل مرآة القلب لينعكس عليها جمال الأنوار الإلهية، كما ينعكس ضوء القمر على صفحة الغدير الساكن.
والآية الكريمة تثير الإحساس الروحي لكي يتطلَّع المؤمن إلى الأفق الواسع، ويستشرف الحقيقة في آفاق السَّموات والأرض، ويتهيَّأ لتلقِّي الفيض الإلهي في عالَمٍ ملؤه الإشراق والنور. وما يكاد اسم الله يتجلَّى من خلال كلمات هذه الآية حتى يفيض النور ويغمر الكون كلَّه، فيغرِقه في جلاله الباهر، ثمَّ ينسكب في الحنايا والجوانح، ويظهر على المشاعر والجوارح، فتعانقه العيون وتدركه البصائر، وتنزاح الحجب، وتشفُّ القلوب، وترفرف الأرواح، فإذا الكون كلُّه ـ بما فيه ومن فيه ـ نور طليق من القيود والحدود؛ تتَّصل فيه السموات بالأرض، والأحياء بالجمادات، والبعيد بالقريب، وتلتقي الطوايا والظواهر، والحنايا والقلوب المغمورة بالنور الَّذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها.(1/33)
وقد استطاع البشر مؤخَّراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الجليلة، عندما تحوَّل ما كان في أيديهم من المادَّة ـ بعد تحطيم الذرة ـ إلى إشعاعات منطلقة قوامها النور؛ فذرَّة المادَّة مؤلَّفة من كهارب وإلكترونات، تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع من النور. وقد أدركت قلوب الأنبياء والرسل هذه الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون، كما أدركها قلب الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم كاملة شاملة ففاض بها فؤاده وهو عائد من الطائف، نافضاً كفَّيه من الناس، لائذاً بربِّه، قائلاً: «أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقت به الظُّلمات وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة» (أخرجه الطبراني عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما).ونتيجة لإيمانه وحبِّه لله تعالى ـ مصدر النور وناشره في الوجود ـ كان دائم التوجُّه إليه، ليستمدَّ من ذلك النور ولينعكس عليه أكبر قسط منه، فيردِّد في مناجاته هذا الدُّعاء: «اللهمَّ اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأَعْظِمْ لي نورا» (رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما).(1/34)
إلا أن الكيان البشري ـ بطبيعة تركيبه ـ لا يقوى طويلاً على تلقِّي ذلك الفيض الغامر من النور، ولا يستشرف ذلك الأفق البعيد دون أن يَكِلَّ نظره ويرتدَّ طَرْفه حسيراً، لذلك نرى الآية القرآنية قد أوضحت هذا الأفق المترامي، ثمَّ عادت تقاربُ بين أبعاده، وتقرِّبه إلى الإدراك البشري المحدود في مَثَلٍ قريب محسوس؛ فتنتقل من آفاق السموات والأرض إلى المشكاة، وهي كوَّة صغيرة في الجدار غير نافذة من الخلف، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه وتوجِّهه باتِّجاه واحد، فيبدو قوياً باهراً. وهذا المصباح في زجاجة وهَّاجة تقيه العوامل الخارجية، وتصفِّي نوره، فيزداد تألُّقاً، وهي في ذاتها شفَّافة، رائعة، سنيَّة، منيرة. ثمَّ تربط الآية بين المثَل والحقيقة، بين النموذج والأصل، فترتقي من الزُّجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، كي لا ينحصر التأمُّل في النموذج الصغير، الَّذي ذُكر لتقريب صورة الأصل الكبير فحسب، ومن المصباح إلى زيته الَّذي منه يقتات؛ إنه زيت الزيتون الَّذي أثمرته الشجرة المباركة المعمِّرة النافعة، وهو أصفى الزيوت، ونوره أبهى الأنوار، لأنه يتمتع بشفافية ذاتيَّة وإشراق ذاتي، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق. وتلك الشجرة المباركة تنتصب في مكانٍ، لا شرقيٍ ولا غربيٍ، فالشمس ترسل إليها النور، والحرارة تأتيها من كلِّ اتجاه، ولا تنحجب عنها طوال ساعات النهار.
وبذلك يتجلَّى لنا ذلك النور العميق الطليق؛ إنه نور مترادف متضاعف، اجتمعت على إطلاقه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبقَ شيء ممَّا يُقَوِّي النور ويزيده إشراقاً ويمدُّه إضاءة إلا وقد أسهم في إذكائه وتأجُّجه.. وكذلك هي براهين الله واضحة، مترابطة، يؤيِّد بعضها بعضاً؛ كالدلائل المعجزة وتتابع الرسل وإنزال الكتب، حتى لا يبقى في القلب مكان للشَّك أو الريبة في حقيقتها.(1/35)
والله يهدي لنوره من يفتحون قلوبهم لتلقِّي هذا النور الفائض في السموات والأرض، والَّذي لا ينقطع ولا يحتبس ولا يخبو، فحيثما توجَّه إليه القلب رآه، وحيثما تطلَّع إليه الحائر هداه، وأنَّى اتَّصل به وجد ظلالاً من جلال الله تعالى وجماله. والمثل الَّذي ضربه الله لنوره ما هو إلا وسيلة لتقريبه إلى المدارك، فنور الله تعالى ينعكس ويتجلَّى في السموات والأرض والإنسان، وتظهر آثاره متميِّزة في الإنسان المؤمن أكثر ممَّا تظهر في السموات والأرض؛ وذلك لأن قلبه المنوَّر يصلُح لأن يكون موضع النظر الربَّاني، ويتشرَّف بأن يعمره ويسكنه الحبُّ الإلهي، وبهذه الميزة نال الكرامة عند الله دون سائر المخلوقات، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «لم يَسعْني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن اللّين الوادع». (رواه الإمام أحمد في الزهد، عن وهب بن منبِّه).
ـ الهادي:
قال تعالى: {..وكفى بربِّك هادياً ونصيراً} (25 الفرقان آية31).
وقال أيضاً: {ويزيد الله الَّذين اهتَدَوْا هدى..} (19 مريم آية 76).
الهادي: هو الَّذي أعطى كلَّ شيء خلْقه ثمَّ هدى، فمنح كلَّ شيء صورته وشكله الَّذي يليق به ويطابق المنفعة المنوطة به، فأعطى العين الهيئة الَّتي تطابق الإبصار، وأعطى الأذن الشكل الَّذي يوافق الاستماع، ثمَّ هدى المخلوقات إلى طرق الانتفاع بالأشياء الَّتي خلقها لهم؛ إمَّا اختياراً كالإنسان، وإمَّا غريزة وطبعاً كالحيوان وغيره.
فالله هو الَّذي هدى النحلة إلى الزهور، وهدى الرياح إلى السحاب، وهدى الطير إلى الهواء، وهدى السمك إلى الماء، وهدى الأنعام إلى مراعيها... أمَّا الإنسان فقد هداه إلى نوعين من الهداية؛ لكونه مخلوقاً عاقلاً ومفكِّراً، وخليفة لله في أرضه.(1/36)
فالهداية الأولى: هداية مباشرة، وهي هداية الإنسان إلى طرق الانتفاع بما أودع في مخلوقاته، وبموجب هذه الهداية استطاع الإنسان ـ عن طريق العلم والعقل ـ أن يستخرج الأدوية والعقاقير النافعة من النبات، وتمكَّن من استخراج المعادن واستخدامها في شتَّى ميادين التصنيع. ولولا هذه الهداية الَّتي منحها الله للإنسان لما تمكَّن من الوصول إلى ما وصل إليه من التقدُّم والمدنية في خدمة مصالح البشرية.
أمَّا الهداية الثانية: فهي هداية غير مباشرة، يمنحها الله للناس ـ عن طريق رسله والكتب المنزلة عليهم ــ للوصول إلى الحقائق الَّتي لا تصل إليها مداركهم مهما أُوتُوا من علوم ومعارف وإمكانات، كالحقائق الَّتي تتعلَّق بالذَّات الإلهيَّة، وبالعالم الآخر أو ما وراء الطبيعة، ويُضاف إلى هذه الحقائق النظم والتشريعات السماوية الَّتي يأتي بها كلُّ نبيٍّ لتكون صالحة للزمان والمكان الَّذي يعيش فيه الإنسان، حيث أتت متمِّمة لبعضها بعضاً، وأخذت استمراريتها في إطار خاتم الرسالات؛ رسالة الإسلام.
فإرسال الرسل، وإنزال الكتب من وسائل الهداية، لئلاَّ يكون للناس حجَّة على الله بتركهم دون هادٍ ودليل. فمن اهتدى بهذه الهداية وسلك طريقها زاده الله توفيقاً وهُدىً للخير، لأن الخير يهدي إلى الخير، ومن نأى وابتعد عن طريق الهداية سيطر عليه الهوى، وتحكَّمت به قوى الشَّر والفساد من شياطين الإنس والجن لتلْقي به في ظلمة الجهل والضَّلال، وتتركه نهباً للشَّقاء والعذاب في الدنيا قبل الآخرة.
ـ العليُّ، العظيم:
قال تعالى: {له ما في السَّمَوات وما في الأَرضِ وهوَ العليُّ العظيم} (42 الشورى آية 4).
أمَّا العليُّ: فهو البالغ في عُلُوِّ الرُّتبة والمكانة، والعليُّ فوق خلقه وإلى ما لا نهاية.(1/37)
وأمَّا العظيم: فهو البالغ أقصى مراتب العظمة قَدْراً وجلالاً، فلا يتصوَّره عقل، ولا تحيط بكنهه بصيرة. وهو الكامل في ذاته وصفاته، والمتفرِّد بالكبرياء والهيمنة.
فالمؤمن بحقيقة هذين الاسمين يستشعر عظمة الله، وعلوَّ مكانته في قلبه على الدَّوام؛ فلا يرى عظيماً في الكون إلا الله، فيدين له وحده بالولاء والإخلاص، وفي حال استحضاره حقيقة اسم الله العظيم، لا يجرؤ على اقتراف ذنب نهاه عنه، مهما كان صغيراً وحقيراً، لأنَّه لا ينظر إلى صغر المعصية بل ينظر إلى عظمة من عصاه.
وقد قُرن هذان الاسمان بالتَّسبيح لله تعالى في الصلاة، فيذكرهما المؤمن في اليوم عشرات المرات، وذلك في ركوعه وسجوده؛ للحديث الوارد فيما روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «لمَّا نزلت {فَسَبِّح باسمِ ربِّكَ العظيم} (56 الواقعة آية 74) قال النبي صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم، ولمَّا نزلت {سَبِّح اسمَ ربِّكَ الأعلى} (87 الأعلى آية 1) قال النبي صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في سجودكم».
ـ القريب، المجيب:
قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريبٌ أُجيب دعوة الدَّاعِ إذا دعانِ فَليَسْتَجِيبوا لي..} (2 البقرة آية 186).
وقال أيضاً: {..إنَّ ربِّي قريب مجيب} (11 هود آية 61).
إن الله عزَّ وجل قريب من خلقه، أي عالمٌ بأحوالهم، وسامعٌ لأقوالهم، ومطَّلِعٌ على أعمالهم ونواياهم، ومجيبٌ لدعائهم إذا استجابوا لتعاليمه التزاماً وتنفيذاً.(1/38)
فالمقصود بقرب الله، العلم والرَّقابة، وليس قرب المكان والجهة، فهو تعالى موجود في كلِّ مكان ولا يحدُّه مكان. وقربه تعالى من مخلوقاته لا يحجبه حجاب، ولا يحول دونه حائل، بل هو أقرب إليهم من حبل الوريد. وبموجب هذا القرب يجيب دعاء المضطرِّين، ويلبِّي شكوى المحزونين، ويقضي حوائج المحتاجين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى حَيِيٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين» (رواه أحمد وأبو داود عن سلمان رضي الله عنه ).
وبناء على هذا فكلَّما كان الدَّاعي ملتزماً بآداب الدُّعاء، كلَّما كانت الإجابة أقرب وأسرع لقوله صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلبٍ غافل لاهٍ» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
ومن آداب الدُّعاء أن يكون بصوت معتدل كالمناجاة، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن معاوية رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريبٌ ربُّنا، فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟ فنزلت الآية الكريمة: {وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب..}.
وقد رُوي أن سبب نزول الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله بصوت مرتفع في غزوة خيبر، فقال لهم: «أيُّها الناس، أَرْبِعُوا على أنفسكم (أي ارفقوا وهوِّنوا)، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً قريباً، وهو معكم»(رواه مسلم).
ـ الوليُّ:
قال تعالى: {أمِ اتَّخذُوا مِن دونِهِ أولياءَ فالله هو الوليُّ وهو يُحْيي الموتى وهو على كلِّ شيءٍ قدير} (42 الشورى آية 9).
وقال أيضاً: {وهو الَّذي يُنزِّلُ الغيث مِن بعد ما قَنَطُوا وينْشرُ رحمَتَه وهو الوليُّ الحميد} (42 الشورى آية 28).(1/39)
الوليُّ: هو المحبُّ النَّاصر، المتولِّي أمر مخلوقاته بالإحسان إليهم في كلِّ شؤونهم، فيتولاهم برعايته عندما يكونون أجنَّة في أرحام أمهاتهم، ويتعهَّدهم بالغذاء والنُّمُو؛ سواء من حيث نُمُوُّ الخلايا والأجهزة والأعصاب، أو من حيث نموُّ المواهب والقدرات المعرفيَّة والعقلية. ثمَّ يتولاهم بعد مجيئهم إلى الدُّنيا، فيُهَيءُ لهم أسباب رزقهم بدءاً من نزول الغيث، ومروراً بإنبات الزرع، وانتهاءً بجني الثِّمار.
فالله عزَّ وجل هو المتولِّي أمور عباده وشؤون حياتهم، وهذا من النَّاحية المعيشية، أمَّا من النَّاحية المعنويَّة والنفسية فالناس في ذلك فريقان: فريق مؤمن، وفريق ظالم لنفسه ولغيره. وقد قال تعالى في حق الفريقين: {الله وليُّ الَّذين آمنوا يُخرجُهُم من الظُّلماتِ إلى النُّور والَّذين كفروا أولياؤُهُمُ الطَّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النُّور إلى الظُّلمات..} (2 البقرة آية 257).
فالمؤمنون ينعمون بنعمة ولاية الله لهم في الدنيا والآخرة، ويشعرون بالسَّعادة والاستقرار النفسي والاجتماعي، لأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لا خوف عليهم في المستقبل لأنَّهم استقاموا في حاضرهم وماضيهم، ومن صحَّت بدايته صحَّت نهايته، ولا هم يحزنون على ما فاتهم وما أصابهم لأنَّهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويحتسبون الأجر عند الله عزَّ وجل.
أمَّا الظَّالمون فيُحْرَمون من ولايته تعالى في الدنيا، لأنهم اتَّخذوا الشَّيطان وليَّهم والهوى سلطانهم، فأسرفوا في الفساد والإساءة لأنفسهم، ممَّا جعلهم يشعرون بالتِّيه والضَّياع، وصار شبح القلق والخوف من المستقبل المرير يطاردهم، وهذا حالهم في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فشأنهم كما قال تعالى: {..والظَّالمون ما لهم منْ وليٍّ ولا نصير} (42 الشورى آية 8) فما من أحد يستطيع أن يخلِّصهم أو أن يرفع عنهم جزءاً من العذاب الَّذي يذوقونه جزاءً على ظلمهم.
ـ الوكيل:(1/40)
قال تعالى: {الله خالقُ كُلِّ شيءٍ وهو على كُلِّ شيءٍ وكيل} (39 الزمر آية 62).
وقال أيضاً: {ربُّ المشرقِ والمغربِ لا إله إلاَّ هوَ فاتَّخِذْه وكيلاً} (73 المزمل آية 9).
وقال أيضاً: {..وتوكَّل على الله وكفى بالله وكيلاً} (4 النساء آية 81).
الوكيل: القائم بأمور خلقه وتسخير ما يحتاجون إليه، والموكول إليه تدبير الخلائق.
فهو (خالق كلِّ شيء) مبدع الأشياء كلِّها، وخالقها جميعها، ما وُجِدَ منها في الدنيا أو في الآخرة، وما كان منها تحت إدراكنا وحواسِّنا وما كان فوق ذلك، فهو ربُّها ومالكها، والمتصرِّف فيها والقائم بحفظها وتدبيرها.
وهو الوكيل الَّذي يكفي كلَّ من يقصده ويعتمد عليه، ويفوِّض أموره إليه، ويفرده بالتوكُّل كما أفرده بالعبادة، فعليه يتوكَّل المتوكِّلون وبه يثق الواثقون، لعلمهم بأن الكلَّ من عنده فتكون نتيجة توكُّلهم عليه هي الأمان من كلِّ أذى، والضَّمان من كلِّ سوء، ومنحهم ما يرغبون، ودفع ما يكرهون، لأنَّ من يتوكَّل على الله فهو حسبه ونعم الوكيل.
وحقيقة معنى التوكُّل بذل الأسباب، والسعي الجادُّ وراء الوسائل الَّتي تحقِّق الغايات، مع التفويض المطلق لخالق الأسباب والمسبَّبات، من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن ناقته: أَعْقِلُها وأَتَوكَّل؟ أو أطلقها وأتوكَّل؟ فقال له: «أعقلها ثمَّ توكَّل» (أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه ).
وكذلك ما جاء فيما أخرجه البخاري من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو توكَّلتم على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً» (تغدو خماصاً: أي تغادر أعشاشها صباحاً وهي جائعة، تروح بطاناً: أي ترجع مساءً وهي مليئة البطون شبعى)، فدَلَّ على أن التوكُّل الحقيقي هو الثِّقة التامَّة بالله والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه في كلِّ شأن، والتسليم بأن قضاءه نافذ لا محالة، مع الاجتهاد في تلمُّس أسباب المعيشة والرزق.(1/41)
ـ الرزَّاق، الوهَّاب، الكريم:
قال تعالى: {إنَّ الله هو الرزَّاقُ ذو القوَّةِ المتين} (51 الذاريات آية 58).
وقال أيضاً: {أمْ عندهم خزائنُ رحمةِ ربِّك العزيز الوهَّاب} (38 ص آية 9).
وقال أيضاً: {ياأيُّها الإنْسانُ ما غرَّك بربِّك الكريم} (82 الانفطار آية 6).
الله عزَّ وجل هو الرزَّاق، خلق الأرزاق وأسبابها ثمَّ أفاضها على خلقه. وهو الوهَّاب دائم العطاء والهبات الَّتي لا حدَّ لها ولا عدَّ، يهبها للناس دون مقابل، غير أنَّها لا تتنزَّل عليهم جزافاً، فلكلِّ كائن نصيب مقدَّر منها في علمه تعالى، لا يمكن أن يزيد أو ينقص إلا بمشيئته.
وهو عزَّ وجل أعلم بعباده وبما يُصلح حالهم، لذلك يرزق من يشاء رزقاً واسعاً بغير حساب، ويقتِّر الرزق على من يشاء لحكمة يعلمها. وما على العبد المؤمن، المطمئن القلب بعدالة السلطة الإلهيَّة، إلا أن يبذل ما في وسعه من أسباب في تحصيل الرزق، ومن ثَمَّ يسلِّم أموره جميعها إلى الله الرزَّاق الوهَّاب الكريم، الَّذي يَمُنُّ على خلقه بالنِّعم والهبات، في جودٍ لا يعادله جود، وعطاءٍ لا يضاهيه عطاء.
ـ الغنيُّ، المغني، الحميد:
قال تعالى: {لله ما في السَّمواتِ والأَرضِ إنَّ الله هو الغنيُّ الحميد} (31 لقمان آية 26).
وقال أيضاً: {..وإن خِفْتُم عَيْلَةً فسوف يُغْنيكُم الله من فضله إن شاء..} (9 التوبة آية 28).
وقال أيضاً: {..إن يكونوا فقراءَ يُغْنِهِم الله من فضله والله واسعٌ عليم * وليَسْتَعْفِفِ الَّذين لا يجدون نِكاحاً حتى يُغنيَهُمُ الله من فضله..} (24 النور آية 32ـ33).(1/42)
الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عَمَّا سواه غنىً مطلقاً، وكلُّ شيء مفتقر إليه افتقاراً كلِّيّاً. فله جميع ما في السَّموات والأرض خلْقاً وملكاً، وجميعها منقادة خاضعة لأمره، يتصرَّف فيها كيف يشاء. فالخلْق عموماً في حاجة مطلقة إليه لمنحهم إمكانيَّة الحياة والبقاء، والقدرة على الحركات والسَّكنات، والناس خاصَّة يحتاجون إليه ــ إضافة لما سبق ـ في جميع أمور دينهم ودنياهم.
وهو المحمود على كلِّ حال، الغنيُّ عن حمد الحامدين لأنَّه كاملٌ بذاته، والكامل بذاته غنيٌّ عن كلِّ ما عداه. وحمد الله سبحانه يعني شكره؛ وهو نوع من الاعتراف بالجميل، وأداء الحق لمستحقِّه؛ لأنَّه عزَّ وجل هو المفيض بجلائل النِّعم، وشكره عليها استدامة لها واستزادة منها، وفي ذلك قال تعالى: {..لَئِنْ شَكرتم لأزيدنَّكم..} (14 إبراهيم آية 7). وشكر الشاكرين لا يزيد في ملك الله شيئاً، كما أن جحود الجاحدين لا ينقص من ملكه شيئاً. ويؤيِّد ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: «ياعبادي لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ياعبادي لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ياعبادي إنَّما هي أعمالكم أُحصيها عليكم ثمَّ أُوَفِّيكم إيَّاها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه».
ففائدة الشكر والعرفان تعود على الإنسان الشَّاكر، قال تعالى: {..ومن يشكرْ فإنَّما يشكرُ لنفسه ومن كفرَ فإنَّ الله غنيٌّ حميد} (31 لقمان آية 12). فالحمد والشُّكر يطهِّران نفس الشاكر، ويوجِّهانه إلى بذل النعم وإنفاقها في الوجوه النافعة، بما يعود بالفائدة على الأفراد والجماعات.(1/43)
وهو المغني: أي أنه وحده سبحانه وتعالى الَّذي يغني من يشاء من الخلائق، بوسائل شتَّى من عطائه، وييسِّر لهم موارد الأرزاق والمكاسب، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة لهم.
وفي الآيتين اللتين تقدَّم ذكرهما من سورة النُّور، يَعِد الله تعالى المؤمنين بالغنى، ويدعوهم لئلا يَخْشَوْا الفقر، وليتوكَّلوا عليه في سائر أمورهم وأحوالهم؛ فالله غنيٌّ ذو سعة، لا تنفد خزائنه، وفي فضله ما يغنيهم. وفيهما إشارة أيضاً إلى أنَّه ينبغي على المؤمنين أن يجتهدوا في التَّقوى والطَّاعات حتى يوسِّع الله عليهم، فإن المرء إذا اتّقى الله جعل له عزَّ وجل من أمره فرجاً ومخرجاً، قال تعالى: {..ومن يتَّقِ الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيثُ لا يحتسب..} (65 الطلاق آية 2ـ3).
ـ المعطي، المانع:
قال تعالى: {وَلَسوف يُعطيك ربُّك فترضى} (93 الضحى آية 5).
وقال أيضاً: {ما يفتحِ الله للنَّاس من رحمةٍ فلا مُمسكَ لها وما يُمسِكْ فلا مُرسِلَ له من بعده وهو العزيز الحكيم} (35 فاطر آية 2).
إن ما يعطي الله من النِّعم الحسِّية أو المعنويَّة، كالرزق والمطر، والصحَّة والسعادة، والأمن والأمان، والعلم والحكمة.. وغير ذلك فلا مانع لها، وكذلك ما يمنع منها؛ فلا يملك أحد أن يرسله بعد إمساكه، قال تعالى: {وإن يَمْسَسْك الله بِضُرٍّ فلا كاشف له إلاَّ هوَ وإن يَمسَسْك بخيرٍ فهو على كلِّ شيءٍ قدير} (6 الأنعام آية 17). فالخير كلُّه بيده، قادر على نشره على العباد في كلِّ آن؛ لا ينضب معينه، ولا ينقص عطاؤه. وهذا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعبِّر عنه في مناجاته لله عزَّ وجل، فقد روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الصلاة قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت..».(1/44)
ـ العزيز، الجبَّار، المتكبِّر:
قال تعالى: {..العزيزُ الجبَّارُ المُتكبِّرُ سبحان الله عمَّا يُشركون} (59 الحشر آية 23).
العزيز: هو القوي الغالب الَّذي لا يُقهر.
الجبَّار: هو المتعالي عن أن يناله كيد كائد، والمتسلِّط على الجبارين بالانتقام والقصاص.
المتكبِّر: المترفِّع عن كلِّ نقص، والمستعلي على كلِّ ما عداه بحقّ.
إن العزَّة الحقيقيَّة لله وحده، يمنحها لمن يشاء كالرسل والصالحين من خلقه دون غيرهم، قال تعالى: {..ولله العِزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين..} (63 المنافقون آية 8). فمن كان يريد الوصول إلى شرف العزِّ والسُّمُو فليسلك طريق العزَّة بطاعة الله، وليطلب العزَّة منه لأنه هو مصدرها وواهبها، خلافاً لمن يتوهَّم أنها وليدة كثرة المال والأتباع؛ فكم من معدم لا حول له ولا قوَّة ولا عشيرة، أعزَّه الله بطاعته، وجعله ملكاً عزيزاً، وكم من أشدَّاء أولي قوَّة ومنعة ومال أذلَّهم الله بمعاصيهم، فلم تُغنِ عنهم كثرتهم من الله شيئاً، وفي هذا يقول تعالى: {مَنْ كان يُريدُ العِزَّةَ فلله العِزَّةُ جميعاً..} (35 فاطر آية 10).
والعزَّة تختلف عن الكِبْرِ، فالعزَّة: هي الشُّعور بالسُّمُو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه، والكِبْرُ: هو غرور الإنسان بنفسه وغمط الناس حقوقهم.(1/45)
وهكذا فكلُّ من أحبَّ الله وتذلَّل له ـ تذلُّل المحبِّ للحبيب ـ أعزَّه الله ورفعه، وكلُّ من تعزَّز عليه وتذلَّل لغيره أذلَّه الله. ولمَّا كان حبُّ الله يستلزم محبَّة أحبابه، وبغض أعدائه؛ فإن من يعادي أحبابه ويوالي أعداءه، يكون قد سلك بنفسه مسلك الذُّل والهوان، وقد قال الله في حق أمثال هؤلاء: {إنَّ الَّذين يُحادُّون الله ورسولَهُ أولئك في الأَذَلِّين} (58 المجادلة آية 20)، وقال أيضاً: {لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليومِ الآخِرِ يوادُّون من حادَّ الله ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهُم أو أبناءَهُم أو إخوانَهُم أو عشيرتَهُم..} (58 المجادلة آية 22). وقد أقسم تعالى بعزَّته في الحديث القدسي فقال: «وعزَّتي لا ينال رحمتي من لم يوالِ أوليائي، ويعادِ أعدائي» (أخرجه الترمذي والحاكم والطبراني مرفوعاً).
هذه قبسات من معاني اسم الله العزيز، أمَّا عن جبروته وكبريائه؛ فهو صاحب العظمة والجلال والسُّلطان في أرجاء السموات والأرض بلا شريك ولا منازع، قال تعالى: {وله الكبرياء في السَّموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (45 الجاثية آية 37). وقد ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري» (أخرجه مسلم).
فكلُّ مَنْ يتكبَّر مِنْ خلقه عن اتِّباع الحقِّ، ويتجبَّر على الضعفاء من الناس بالإذلال والتسخير والإهانة بغير حقٍّ، فإن قانون الله فيه أن يطبع ويختم على قلبه بالضَّلال، قال تعالى: {..كذلك يَطْبَعُ الله على كلِّ قلْبِ مُتكبِّرٍ جبَّار} (40 غافر آية 35)، ثمَّ ينالُ جزاءه عدلاً واستحقاقاً، لأنه في تكبُّره يعادي الله، وفي تجبُّره يقسو على خلق الله، قال تعالى: {..وأمَّا الَّذين اسْتَنكفوا واستكبروا فيُعذِّبُهُم عذاباً أليماً..} (4 النساء آية 173).(1/46)
فلا عزيز في الكون إلا الله، ولا جبَّار إلا الله، ولا مُتكبِّر إلا الله؛ ولذلك فإن الشعور بالكبرياء المطلق يجب أن ينحصر في الله وحده دون سواه، قال تعالى: {وربَّكَ فكبِّر} (74 المدثر آية 3) أي عظِّمِ الله وصِفْهُ بالكبرياء في سائر أحوالك، فهو أكبر من أن يكون له نِدٌّ أو شريكٌ كما يقول عَبَدَةُ الأوثان. وليكن الله في قلبك أكبر وأعظم من كلِّ عظيم وكبير، فلا تخشَ سواه، ولا تشرك معه مخلوقاً فيما تفضَّل به عليك فتنسب الفضل للمخلوق وتنسى الخالق، وإذا كان الله في قلبك أكبر من كلِّ شيء؛ فما من شيء يستحق أن يشغلك عنه وأنت ماثل بين يديه، وما من شيء مهما تعاظم شأنه ـ من همٍّ أو حزنٍ أو وهمٍ ـ له القدرة على الاستيلاء والسيطرة عليك فالله أكبر من كلِّ ذلك، وإذا ما هيمنت على المؤمن عظمة الشعور بكبريائه تعالى، تلاشت كلُّ الأشياء أمام تلك العظمة، فلا يبقى لها أدنى تأثير أو سلطان عليه.
ـ المُعِزُّ، المُذِلُّ:
قال تعالى: {..وَتُعِزُّ مَن تشاءُ وَتُذِلُّ مَن تشاءُ..} (3 آل عمران آية 26).
من أراد العزَّة فلله العزَّة جميعاً، يمنحها لمن يشاء من عباده؛ فتراه نافذ الكلمة، مالكاً للقلوب، كثير الأعوان، وينزعها ممَّنْ يشاء؛ فتجده ذليلاً، مهاناً، مهيض الجناح.(1/47)
والعزُّ وليد الكرامة والجاه، وهذا كلُّه بيد الله تعالى، يتصرَّف فيه حسب مشيئته وعلمه. وهو من محبوبات الإنسان، تتوق النفس إليه، وتنهض الهمم عند ذكره. أمَّا الباب إليه فهو التَّواضع بين يدي الله، والشُّعور الدَّائم بالضَّعف أمامه والافتقار إليه، فمن تواضع لله رفعه الله. والتَّواضع بين يدي الله يستلزم التَّواضع مع مخلوقاته، وكلَّما ازداد الإنسان تواضعاً ازداد عزّاً وكرامة. أمَّا من ينشد العزَّة بالصُّور والأوهام والمخلوقات الضعيفة العاجزة؛ فهو لا يأوي إلى ركن شديد، وسُرْعان ما يتهاوى في وديان الذلِّ والمهانة، حتى ولو مرَّ عليه حين من الزمن تراءت له فيه أشعَّة المجد والعزَّة، فسيكتشف أن ذلك لم يكن إلا سراباً. فالعزُّ الحقيقي هو عزُّ الدارين الَّذي يمنحه الله المُعِزُّ لمن يمشي في طريقه، ويحجبه عمَّن ضلَّ وجحد، فلا يُذَّل من أحبَّه ووالاه، ولا يُعَزُّ من أبغضه وعاداه.
ـ العَفُوُّ، الغفور، الحليم، الرَّؤوف:
قال تعالى: {..إنَّ الله لَعفوٌّ غفور} (22 الحج آية 60).
وقال أيضاً: {..والله غفورٌ حليم} (2 البقرة آية 225).
وقال أيضاً: {وإذا جاءك الَّذين يؤمنون بآياتنا فقُلْ سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسه الرَّحمةَ أنَّه من عمل منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تاب من بعده وأصلحَ فأنَّه غفور رحيم} (6 الأنعام آية54).
وقال أيضاً: {..إنَّ الله بالنَّاس لرؤوف رحيم} (2 البقرة آية 143).
العَفُوُّ: هو الَّذي يمحو السيِّئات لمن تاب إليه. والغفور: كثير الغفران والسَّتر على المذنبين، فالعَفُوُّ أبلغ من الغفور لأن الغَفْر مجرَّد السَّتْر، أمَّا العَفْوُ فهو المحو والإزالة.
أمَّا الحليم: فهو الَّذي لا يستفزُّه غضب، ولا يحمله ذلك الغضب على استعجال العقوبة.
والرَّؤوف: شديد الرأفة والرحمة بخلقه.(1/48)
فالله تعالى حليم رؤوف بعباده يوسع لهم في المغفرة حتى تشمل كلَّ تائب ومنيب، وهو يغفر الذنوب جميعاً إلا أنْ يُشرَكَ به، ومن شأن هذه السعة في المغفرة أن تشرح الصُّدور، وترغِّب القلوب بالتَّوبة من كلِّ ذنب والتَّجافي عن كلِّ خطيئة، وتحرِّر الإنسان من سلطة الشيطان الَّتي يسعى إلى إحكامها عليه بإلقائه في براثن اليأس والقنوط والشعور المدمِّر بالذنب. فمن طبيعة البشر أنَّهم يخطئون ومن حلم الله ورأفته بخلقه أنه يعفو ويغفر، لمن تاب بصدق، وأصلح كلَّ ضرر نجم عن ذنب ارتكبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله: يا بن آدم! إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا بن آدم! لو بَلَغَتْ ذنوبك عَنان السَّماء ثمَّ استغفرتني، غفرتُ لك ولا أبالي. يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثمَّ لقيتني لا تُشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة» (أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ).
وهكذا فتح الله تعالى باب المغفرة والعفو على سعته أمام الإنسان، فما عليه إلا أن يطرقه كلَّما شعر بالعزم على النَّدم والتَّوبة، داعياً وسائلاً ربَّه القبول بقوله: «اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عني» (رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها)، كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول، مقرنين القول بالتطهر والإصلاح.
ـ مالك الملك، ذو الجلال والإكرام:
قال تعالى: {قُلِ اللَّهم مالكَ المُلْكِ تُؤْتي المُلْكَ من تشاءُ وتَنْزِع المُلْكَ ممَّن تشاء..} (3 آل عمران آية 26).
وقال أيضاً: {كُلُّ مَن عليها فان * ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجَّلال والإكرام} (55 الرحمن آية 26ـ27).
مالك الملك: الَّذي يتصرَّف في ملكه كما يشاء، ويسيِّر الأمور فيه كما يريد؛ وفق قوانين ثابتة تلتزم بها مخلوقاته وتسير عليها وله أن يخرقها متى شاء، لا مردَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه.(1/49)
ذو الجلال والإكرام: أي المتَّصف بصفات التنزيه والكمال، وصاحب العظمة والجاه والمتفضِّل على عباده بالإحسان والعطاء.
ويُستحبُّ للمؤمن أن يكثر ـ أثناء دعائه ـ من تكرار هذه الصفة لله تعالى (يا ذا الجلال والإكرام) لتكون ثناءً على الله، واعترافاً وإقراراً بعظمته. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه : «أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموا ذلك في الدعاء وأَلِحُّوا بذكره. ومرَّ النبي صلى الله عليه وسلم برجل، وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال: «قد استُجيب لك» ( رواه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه ).
فتبارك الله ذو الجلال والإكرام؛ إليه يرجع الفضل في الإنعام على عباده؛ فهو الجدير بالإجلال فلا يُعصى، والتكريم فلا يُجحد، والشُّكر فلا يُكفر، والذِّكر فلا يُنسى.
وقد كرر تعالى ذكر هذه الصفة في سورة الرحمن مرتين: أولاهما عندما ختم الحديث عن نعم الدنيا بقوله: {ويبقى وجهُ ربِّك ذو الجَّلال والإكرام} (55 الرحمن آية 27) مثبتاً بذلك البقاء والديمومة لذاته العليَّة بعد فناء العالم. وثانيهما عندما ختم ذكر نِعَمِ الآخرة بقوله: {تَباركَ اسمُ ربِّك ذي الجَّلال والإكرام} (55 الرحمن آية 78) فناسب ذكرُها شُكْرَه وحمده عقب امتنانه على المؤمنين بما آتاهم من الخير والفضل في دار كرامته، فهو المنعم المتفضِّل، الَّذي يستحق الثَّناء بما هو أهله.
ولا يسعنا في ختام هذا الباب إلا أن نثني على الله عزَّ وجل فنقول:(1/50)
يا ذا الجلال والإكرام... تَبارَكَتْ أسماؤك الحسنى جميعها، ما ذكرناه منها وما لم نذكره، وما أدركناه من مدلولاتها وما لم ندركه، فلا يعلم بحقيقتها إلا أنت... وسبحانك اللهم نحمدك ونشكرك، لا إله إلا أنت لك الأسماء الحُسنى في ذاتها من قبل استحسان الخلق لها. كانت ولا تزال توحي بالحسن والجمال، وتفيض به على كلِّ الكائنات... تُسقى بمائها القلوب، فتحيا وتُبعث من جديد، ويغمرها الإيمان بالله الخالق المجيد، ويسبِّح بها كلُّ موجود في الوجود، فإذا بالكون يغدو مشهداً ترتيلياً رائعاً، يردد بأعذب الألحان آيات التنزيه للربِّ المعبود، يتشارك في ذلك الجمادات والأحياء، ويتلاقى فيه المَطْلَعُ والختام في تناسق والتئام.(1/51)
أمَّا عن مسك الختام في هذا المقام فهو ما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعاً وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنَّة: هو الله الَّذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدُّوس، السَّلام، المُؤمِن، المهيمن، العزيز، الجبَّار، المتكبِّر، الخالق، البارِئ، المصوِّر، الغفَّار، القهَّار، الوهَّاب، الرزَّاق، الفتَّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرَّافع، المُعِزُّ، المُذِلُّ، السميع، البصير، الحكَم، العدْل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشَّكور، العليُّ، الكبير، الحفيظ، المُقِيْتُ، الحسيب، الجليل، الكريم، الرَّقيب، المجيب، الواسع، المحيط، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحَقُّ، الوكيل، القويُّ، المتين، الوليُّ، الحميد، المُحصي، المُبْدِيءُ، المُعيد، المحيي، المميت، الحيُّ، القيوُّم، الواجد، الماجد، الواحد، الصَّمد، القادر، المقتدر، المقدِّم، المؤخِّر، الأوَّل، الآخر، الظَّاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرُّ، التوَّاب، المنتقم، العفُّو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارُّ، النَّافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصَّبور».
وفي كثرة الأسماء هذه إشارة ودلالة على عظمة المسمَّى، وللمؤمن مطلق الخيار في التوجُّه إلى الله تعالى بأيٍّ منها، لأنها ـ وإن تعدَّدت ـ فكلُّها أسماءٌ له وحده عزَّ وجل، قال تعالى: {قُلِ ادعوا الله أوِ ادعوا الرَّحمنَ أيّاً ما تدعوا فله الأسماءُ الحسنى..} (17 الإسراء آية 110). وليس القصد هو مجرَّد الوقوف على مدلولات هذه الأسماء، أو تخصيص اسم دون آخر، وإنما يتعيَّن الوصول من خلالها إلى معرفة الصِّفات الحقيقية لله عزَّ وجل والسعي عن طريقها إلى تعميق الصِّلة به.(1/52)
هذا مظهر من مظاهر عظمة الله تعالى وجلاله، الَّذي يؤمن به المسلمون إلهاً وربّاً للعالمين، ربَّ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد وغيرهم من الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) الَّذين أرسلهم رحمة للناس أجمعين، يهدونهم إلى معرفة إلههم الحقِّ الَّذي خلقهم فأحسن خلقهم وإليه وحده يرجعون، وبيده وحده مصائرهم وأقدارهم، فسبحان الله عما يشركون.
--------------------
الباب الثاني- دلائل الإعجاز في خلق الله
دلائل الإعجاز في خلق الله
مقدِّمة
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ والأَرضِ واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولي الألبابِ(190) الَّذين يَذكرونَ الله قِياماً وقُعُوداً وعلى جُنُوبِهم ويَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأَرضِ ربَّنا ما خَلَقتَ هذا باطلاً سبحانكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ(191)}
/ ومضات:
ـ إن إبداع هذا الكون وتناسقه قد أوجدته يدٌ حكيمة، أحكمت صُنعه بحيث يجري وفق نظام مبرمج ودقيق للغاية، فشكَّلت من ذلك الإحكام لوحات رائعة تحمل في طياتها أجمل صور الإبداع وألوانه، ممَّا يهدي المتأمِّل فيها إلى قدرة الله، فتتفجَّر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلبه على لسانه.
ـ لقد كرَّم الله تعالى الإنسان بالعقل، وهيّأ له السُّبل كي يبحث في هذا الكون بالنظر والتأمُّل والتفكُّر.
ـ كلُّ ما في هذا الكون يجذب النفوس للإيمان، حتَّى إذا جاءها نداء الأنبياء، محرِّكاً كوامن عقولها وقلوبها، استجابت لما يُحييها ويُسعِدها، قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا استَجيبُوا لله وللرَّسول إذا دعاكم لما يُحْيِيكُمْ..} (8 الأنفال آية 24).
/ في رحاب الآيات:(1/53)
لا يمكن لمن يسعى إلى معرفة الله عزَّ وجل وتَبَيُّنِ صفاته العليَّة أن يبلغ غايته؛ ما لم يتفكَّر في مخلوقات الله ابتداءً بأقربها وانتهاءً بأبعدها، لينتقل من دائرة التفكير بها إلى كمال اليقين بأنها أدلَّة ناطقة بعظمة الخالق، وروعة صنعته، وبديع إتقانه. وفي القرآن الكريم إشارات جمَّة إلى تلك الدلالات، وحضٌّ على التفكُّر والتأمُّل فيما أبدع الخالق، من سماء وأرض وجبال وبحر.. وملائكة وجنٍّ وإنس.. وغيرهم من العوالم والمخلوقات.
ويهدف القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته إلى لفت أنظار الناس لمعرفة الإله الحق، وإنارة قلوبهم بأدلَّة التوحيد، وذلك بدعوتهم وحثِّهم على التفكير في ملكوت السموات والأرض ليخلُصَ الإنسان إلى الاعتراف بوحدانية الله وقدرته الباهرة، بعد أن تأمَّل في خلقه المنظور، وتدبَّر معاني كتابه المسطور؛ فعرف خالقه وأحبَّه، وحاذر أن يعصيه. وفي ذلك قال أحد الحكماء: [لو تفكَّر الناس في عظمة الله تعالى لما عَصَوْه]، وقال آخر: [من نظر إلى الدُّنيا بغير عين العبرة والموعظة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة].(1/54)
وللنظر في هذا الكون وظيفة أخرى هي تتبُّع الإبداع الإلهي ودقَّته، وتصوُّر قدرة الله الَّتي تحرِّك نواميسه وتحكم موازينه، لنلمس بذلك جمال الطبيعة، وسحرها وغموضها، إلى جانب عظمتها الَّتي تنبئ عن عظمة مُبدِعها، فيكون لنا فيها الراحة والسرور من جهة، واليقين والإيمان من جهة أخرى. فالدعوة إلى النظر في الكون دعوة للإنسان ليهتدي إلى مبدعه وخالقه، وليعرف حقائق الأشياء وخصائصها؛ كي يتسنَّى له الانتفاع بما أودع الله فيها من قُوى. وكان من نتاج الاستجابة لهذه الدعوة الَّتي دعا إليها القرآن، أن أخذت العقول حريَّتها في النظر والتأمُّل، ونهض كلُّ إمام من أئمَّة العلم يبحث ويدرس ويجتهد في سائر العلوم والفنون، دون أن يجد في ظل الإسلام ما يعوِّق نشاطه الفكري واستقلاله العقلي، وكانت حصيلة ذلك كلِّه، ظهور الحضارة العربية الإسلامية الرائعة، الَّتي كانت أساساً للنهضة الأوربية، وذلك بشهادة أحد المنصفين منهم عندما قال: [لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخَّرت نهضة أوربا الحديثة عدَّة قرون].(1/55)
وممَّا تجدر الإشارة إليه في رحاب الآيات القرآنية السابقة؛ أنها قَرنَتِ التفكُّر في خلق السموات والأرض بالتوجُّه القلبي لذكر الله وعبادته حق العبادة، ليُعلم من هذا بأن الفكر والذكر جناحان لا استغناء عنهما ولا عن أحدهما لمن يريد أن يحلِّق للوصول إلى معرفة الله. فالمؤمنون الَّذين يذكرون الله على اختلاف حالاتهم، قائمين وقاعدين ومضطجعين، ويتفكَّرون في خلق السموات والأرض تتفتَّح بصائرهم على الحقائق الكبرى، ويُغمرون بالعشق الإلهي. فلحظات الذكر عندهم تمثِّل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتُّح الإدراك واستعداده لتلقِّي بركات السماء، كما تمثِّل التأثُّر والاستجابة، فهي لحظات العبادة، والوصال والتلقِّي، وبالتالي فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر، وأن يكون التفكُّر مُلْهِماً للحقيقة الكامنة فيها؛ وهي أن هذا الكون لم يُخلق عبثاً ولا باطلاً، فلا يملك المرء بعد كلِّ هذا إلا أن يتوجَّه إلى الله متضرِّعاً معلناً قناعته بحكمته تعالى في خلق المخلوقات قائلاً: {ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً}. وهذا من أدب المؤمن مع الله؛ فهو حين يهتدي إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه في بديع خلقه، ويستشعر عظمته، ينطلق من الإقرار إلى الدعاء طالباً من مولاه أن يجنِّبه عذاب النار وأن يوفِّقهُ إلى صالح الأعمال، لتكون وقاية تحول دون سخطه، ووسيلة تقرِّب إلى رضاه.
فمن أوائل الدلائل على عظمة الله عملية الخَلْق، وقد تحدَّى الله من يدَّعون الألوهية وينسبونها لغيره؛ عن طريق مَثَلٍ ضربهُ لهم بواحدة من أحقر مخلوقاته شأناً، ألا وهي الذبابة، ليقيم عليهم الحُجَّة والبرهان؛ فيتوصلوا إلى الإقرار بعظمته والاعتراف بالعجز عن تقديره حقَّ قدره.
سورة الحج(22)(1/56)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له إنَّ الَّذين تدعون من دون الله لن يَخلُقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له وإن يَسلُبْهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه منه ضَعُفَ الطَّالبُ والمطْلوبُ(73) ما قَدَرُوا الله حقَّ قَدرِهِ إنَّ الله لقويٌّ عزيز(74)}
/ ومضات:
ـ عندما ظهرت رسالة الإسلام كان الوثنيون يعبدون الأصنام من دون الله، فتحدَّاهم تعالى في هذه الآيات بدليل منطقي واقعي يدحض شِرْكَهم واعتقادهم بألوهيَّة الأصنام؛ وهو ثبوت العجز في حقها من ناحيتين: إنها عاجزة عن استرداد ما يُسلب منها ولو كان المسلوب ذرَّةً، ولو كان السَّالب ذبابة، وهي أشدُّ عجزاً عن القدرة على خلق شيء، ولو كان ذبابة أيضاً.
ـ هذه الآيات قد تضمَّنت مثلاً ضربه الله بمخلوق من أضعف مخلوقاته لإثبات قدرته تعالى على الخلق، وعجز المخلوقات عن هذه القدرة مهما أوتوا من علوم وإمكانيات.
/ في رحاب الآيات:
لو عمدنا إلى إحصاء ما خلقه الله تعالى من نجوم وكواكب ومجرَّات وعوالم لما استطعنا إليه سبيلا، ولو أردنا تركيز أبحاثنا عن هذا الكون لمعرفة ما يحتويه من الكائنات؛ لاستغرق ذلك آلاف السِّنين وملأ ملايين المجلَّدات دون أن نبلغ غايتنا. ولذلك يُنَحِّي تعالى في هذه الآية الكريمة كلَّ عظيم من مخلوقاته جانباً، ويختار الذُّبابة الضئيلة الحجم والمكانة، ويطرح علينا سؤالاً منطقياً مُعجزاً: هل يستطيع من ألَّهناهم وقدَّسناهم من دون الله ـ مجتمعين متكاتفين ـ أن يخلقوا واحدة مثلها؟ والجواب: إنهم أضعف وأقلُّ شأناً من أن يخلقوا ذبابة واحدة وهم الأحياء العقلاء! فكيف بالأصنام الحجريَّة الصمَّاء الَّتي كان الوثنيون يعبدونها؟.(1/57)
لقد أراد الله بهذا المثل أن يثبت عجز تلك الأرباب المُدَّعاة، والَّتي كان الناس يتَّخذونها آلهة من دون الله، في صورة مثال معروض للأسماع والأبصار. فخلْقُ الذباب من قِبل أيٍّ من المخلوقات مستحيل، مثله مثل خلق الجمل والفيل، ولكنَّ أسلوب التحدِّي القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الضئيل الشأن ويبيِّن العجز عن خلقه؛ ليلقي في النفس مشاعر الضعف أكثر ممَّا يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل، وبهذا يضعنا تعالى في مواجهة عجزنا أمام قدرته العظيمة، دون أن يُخلَّ بالمعنى، وهذا من بديع إعجاز القرآن الكريم.
وتستمر العظمة الإلهية في تحدِّي المشركين والكشف عن حال أصنامهم ومعبوداتهم الَّتي لا حول لها ولا قوَّة، فيسألنا تعالى: لو أن ذبابة حطَّت على طعام أو متاع ثمَّ طارت بعد أن علقت بأرجلها ذرَّات قليلة ممَّا حطت عليه، فهل تستطيع هذه الأصنام مجتمعة أن تستردَّ منها ما علق بها؟.
ولا يخفى أننا نتحسَّس في الآية الكريمة موقعاً آخر من البلاغة الرفيعة نتذوَّقها في الأسلوب القرآني، فلو أنه قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها، لأوحى ذلك بأن المانع هو أن قوَّة تلك الأصنام لا تضاهي قوَّة السباع، ولكنه ذكر الذباب كي لا يخطر في البال أي لون من ألوان القدرة الَّتي يمكن أن تُنسب إلى تلك الأحجار الجامدة.
فما أضعف هذا العابد الَّذي يطلب الخير من غير الله، وما أضعف هذا المعبود العاجز عن إنجاز ما يُطلب منه. وما أشقى هؤلاء الَّذين سلكوا طريق الوثنيَّة والشِّرك بالله لأنهم لم يقدِّروا الله حق قدره، فأَشركوا معه في العبادة ما لا يستطيع خلق ذبابة حقيرة، في حين أنهم يرون آثار قدرته، وبديع خلقه، وعظيم سلطانه. والقرآن الكريم يوجِّه أنظار الناس إلى التأمُّل في عجائب صنع الله في الكون، وهي مبثوثة في كلِّ الوجود، فكيف لا يؤمنون، وكلُّ ما حولهم يقود إلى الإيمان بالخالق المدبِّر الحكيم؟.
سورة الشورى(42)(1/58)
قال الله تعالى: {ومن آياته خَلْقُ السَّمواتِ والأَرضِ وما بثَّ فيهِما من دابَّةٍ وهو على جمعِهِم إذا يشاءُ قدير(29)}
/ ومضات:
ـ من الدلائل على عظمة الله وقدرته عزَّ وجل خلْق السموات والأرض، وما أوجد فيهما من مخلوقات تسعى، لا نعرف إلا بعضاً منها ولا ندري عما تفرَّق منها في ملكوت الله الواسع إلا الشيء القليل.
ـ أشارت الدراسات والأبحاث العلمية إلى وجود كائنات تحيا وتعيش في الكواكب الأخرى. وقد قال بعض العلماء في هذا الشأن: [إن من يعتقد بأنه لا توجد حياة ومخلوقات على غير كوكبنا الأرضي كمن يعتقد بأن قطَّته تَلِد دون سائر قطط العالم]. والحقيقة أن القرآن الكريم له السبْق في هذا المجال وذلك بصريح قوله تعالى: {وما بثَّ فيهِما من دابَّة} أي في الأرض وفي السماء.
ـ كلُّ هذه المخلوقات تحت أنظار الله وفي قبضته، فهو القادر على جمعها متى يشاء وأين يشاء وكيف يشاء قال تعالى: {وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرضُ جميعاً قَبضَتُه يوم القيامة والسَّمواتُ مَطويَّاتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (39 الزمر آية 67).
/ في رحاب الآيات:
آيات الإعجاز في خلق الله لا حصر لها ولا عدَّ، وهي مبثوثة في كلِّ ناحية من نواحي هذا الكون الفسيح؛ فالإنسان ذاته آية، والسماء وما أظلَّت آية، والأرض وما أقلَّت آية.. وغيرها كثير، وما على الإنسان إلا أن يفتح عينيه متأمِّلاً ليرى، ويصغي بأذنيه متعقِّلاً ليسمع، فيتفتَّح قلبه، وتتنوَّر بصيرته، ويحدث التَّماسُّ بينه وبين الإيمان بخالق هذه الآيات العظام.(1/59)
إن هذه الآية الَّتي ذَكرتْ خلق السموات والأرض ماثلة للعيان، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء به الوحي، وهي لا تحتمل جدلاً أو ريبة، لأنها قاطعة في دلالتها، تخاطب الفطرة الَّتي تشهد بأن الَّذي أنشأ هذه الآيات ودبَّرها لا يمكن أن يكون الإنسان ولا أي مخلوق غيره، مِن خلق الله أجمعين، لأن ضخامتها الهائلة، وتناسقها الدقيق، ونظامها المضطرد، ووحدة نواميسها الثابتة، كلُّ ذلك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس الإيمان بوجود إله أنشأها ويدبِّرها. والفطرة السليمة تتلقَّى هذا المنطق عن الكون تلقِّياً مباشراً، وتدركه وتطمئنُّ إليه قبل أن تسمع عنه كلمة واحدة.
وتنطوي آية خلق السموات والأرض على آية أخرى في ثناياها يُجملها عزَّ وجل بقوله: {..وما بثَّ فيهما من دابَّة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} فهذه الأحياء المبثوثة في كلِّ مكان، فوق سطح الأرض، وفي أعماق البحر، وفي أجواء الفضاء وفي الكواكب الأخرى، والَّتي لا يعلم الإنسان عنها إلا النَّزْرَ اليسير، يجمعها الله حين يشاء للمحاسبة، ومعها خلائق أخرى أربى عدداً وأخفى مكاناً، وليس بين بثِّها في السموات والأرض وبين جمعها إلا كلمة (كُنْ) يأمر بها الله عزَّ وجل فإذا هي منصاعة لأمر ربِّها، فتبارك الله العظيم القدير.
ومن ذلك كلِّه ندرك أن الله تعالى يبيِّن الدلائل والبراهين لعباده ليؤمنوا به ويُقبلوا عليه، فيفوزوا برضاه، ويكونوا من سعداء الدارين.(1/60)
وجملة القول إن الآيات الكونية تحثُّ كلَّ من يحجب عقله عن البحث في علوم الله المودعة في هذا الكون العظيم، على شقِّ الحجاب والانطلاق إلى العلم والمعرفة. فمن يتفهَّم ما جاء في القرآن الكريم تتَّضح له المعاني العلمية الَّتي تضمَّنها، وكلَّما ازداد الرَّكْب الحضاري تقدُّماً، والعلوم ازدهاراً، كلَّما تبيَّن تَطابُق ذلك التقدُّم والازدهار مع ما لفت القرآن الكريم الأنظار إليه. وهذا ما سنلاحظه في محتويات هذا الباب، من خلال دراستنا لنصوص قرآنية تتعلَّق بخلق الكون وما أوجد الله تعالى فيه من مخلوقات وعوالم. وهو يتضمَّن فصولاً أربعة، نعرضها فيما يلي:
الفصل الأوَّل : خلق الكون
الفصل الثاني : خلق الملائكة
الفصل الثالث : خلق الجن
الفصل الرابع : خلق الإنسان
الفصل الأوَّل -خلق الكون
آ ـ نشأة الكون
قال الله تعالى: {وهوَ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ وكان عَرْشُهُ على الماءِ ليَبْلُوَكُمْ أيُّكم أحسنُ عملاً..} 11 هود آية 7
وقال أيضاً: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذين كفروا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ كانتا رَتْقاً ففتَقْنَاهُما وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ أفلا يؤمنون} (21 الأنبياء آية 30).
ومضات
ـ من الدلائل الكونية على عظمة الله تعالى وكمال قدرته خلق السموات والأرض.
ـ العرش والماء سابقان في الوجود للسموات والأرض.
ـ محصِّلة حقائق العلوم الكونيَّة لا تتناقض مع المعتقدات الَّتي جاء بها الدِّين الإسلامي بل تتطابق.
ـ كانت السموات والأرض كتلة واحدة، ثمَّ شاء الله تعالى انفصالها؛ لتصبح أجراماً منفصلة عن بعضها بعضاً، كلُّ جرم منها قائم بذاته، متميِّز بخصائصه، ومنفرد بدوره في تكامل الكون وإعماره وإمداد الحياة بأسباب بقائها إلى ما شاء الله.
ـ الماء هو الأصل الَّذي اختاره تعالى للحياة، وجعله عنصراً فاعلاً فيها.
في رحاب الآيات(1/61)
لا يزال العلماء حتَّى يومنا هذا يبذلون الجهود المتواصلة لمعرفة أصل الكون، ويبحثون ويستقصون محاولين الردَّ على أسئلة مازالت تطرح نفسها حول سرِّ تكوينه وبداية الخليقة.
وهذه الآيات الكريمة تطوف بالعقل البشري في رحاب الكون الفسيح، الَّذي تديره يد القدرة الإلهية بحكمة بالغة، وتوقظ الغافلين عنها وعمَّا فيها من عجائب يحار بها لبُّ كلِّ ذي قلب سليم، وحسٍّ يَقِظ، وبصيرة نافذة منوَّرة. فتبدأ بالإشارة إلى أن التركيب الأساسي للفضاء وما فيه من مجموعات النجوم والمجرَّات الَّتي لا تحصى واحد، بما في ذلك المجموعة الشمسية المؤلَّفة من الشمس وتوابعها، فجميعها كانت كتلة واحدة ملتهبة ـ رتقاً ـ ثمَّ فُتقت، فانفصلت وابتعدت عن بعضها مشكِّلة بذلك النجوم والكواكب. وما أرضنا إلا واحدة منها قد غمرتها المياه فانطفأ سطحها وبرد، ثمَّ اهتزَّت فتصدَّعت وانحسر الماء عن بعضها فأصبحت صالحة للحياة.(1/62)
ولابأس من الإشارة في هذا السِّياق إلى أن النظريات العلمية الصحيحة القائمة اليوم لا تتعارض مع المفهوم الإجمالي لما جاء في القرآن الكريم، ومن ذلك بيانه بأن الله تعالى قد جعل الماء أصلاً لخلق جميع الأحياء. وبناءً على هذه الحقيقة فإن العلماء يستقصون في أبحاثهم إمكانيَّة وجود الماء على الكواكب الأخرى، ليقينهم أنه حيثما يكون الماء تكون الحياة. وهذا العنصر الأساسي يحتلُّ القسم الأكبر من مساحة كوكبنا الأرضي، فإن كانت اليابسة تشكِّل حوالى الخُمْس فهو يشكِّل الباقي، ومع ذلك فهو لا يؤلِّف في الطبيعة الجماديَّة إلا جزءاً يسيراً منها، بينما يحتلُّ الجزء الأكبر في تركيب الكائنات الحيَّة، لأن جميع التفاعلات الكيماوية الَّتي ترافق الأحداث الحيوية لا تتمُّ إلا في وسطه. ويُقسم الماء الموجود في الكائن الحي إلى قطاعين كبيرين: الأوَّل هو الماء داخل الخليَّة ويضمُّ حوالى 50% من وزن الجسم كلِّه، والثاني هو الماء خارج الخلية الَّذي يشمل 20% من وزن الجسم كلِّه؛ موزَّعة 5% في الدَّم و15% في الخلال الَّتي بين النسج الحيَّة، وصدق الله تعالى حين قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حيٍّ}.
وقد أجاب القرآن الكريم بإشارات عامَّة عن بدايات الخلق والتَّكوين، فأخبرنا بأن الله عزَّ وجل قد خلق السموات والأرض في ستَّة أيَّام حسبما اقتضت حكمته. ولكنَّ تلك الأيَّام لا تقاس بوحدتنا الزمنية المتعارف عليها، لأنها غير أيَّام الأرض، بدليل قوله تعالى: {..وإنَّ يوماً عند ربِّك كألف سنة ممَّا تعُدُّون} (22 الحج آية 47) وهذا ليس بمستبعد إذا علمنا أن علماء الفلك قد أثبتوا أن أيَّام الكواكب التَّابعة لنظام شمسنا تختلف عن أيام الأرض في طولها بحسب أجرامها وأبعادها وسرعة دورانها.(1/63)
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم التسلسل الزمني في نشأة الكون فيما أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي أن أهل اليمن قالوا: «يارسول الله! أخبرنا عن أوَّل هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كلِّ شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كلِّ شيء، وخلق السموات والأرض».
ب ـ خلق السموات
سورة الذَّاريات(51)
قال الله تعالى: {والسَّماءَ بَنَيْناها بأَيْدٍ وإنَّا لَمُوسِعُون}
وقال أيضاً: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحفوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرضُون}
ومضات
ـ تمتدُّ يد القدرة الإلهية إلى أبعد بكثير من أن تحصيها طاقة البشر وإمكاناتهم، وكلَّما اكتشف العلماء جديداً في عالم السماء، وجدوا بأن هناك المزيد والمزيد ممَّا لم يدركوا كنهه بعد.
ـ حفظ سبحانه وتعالى الأرض من المؤثِّرات الكونية بما فيها من إشعاعات وشُهُب ونيازك بغطاء غير منظور، حفظاً لسلامتها وسلامة الجنس البشري وغيره عليها.
في رحاب الآيات(1/64)
تشير كلمة موسعون في الآية الكريمة إلى استمراريَّة عمليَّة البناء إلى ما لا نهاية. أمَّا الأيدي: فتشير إلى القوَّة، والقوَّة أوضح ما يُنبئ عنه بناء السماء المتماسك المتناسق، بأي معنى من معاني كلمة السماء، سواء أكانت تعني مدارات النجوم والكواكب، أم مجموعة من المجموعات النجمية الَّتي يطلَق عليها اسم المَجَرَّة وتحوي مئات الملايين من النجوم، وسواء أشار مدلولها إلى طبقة من طبقات الفضاء الَّذي تتناثر فيه النجوم والكواكب، أم غير ذلك من مدلولات كلمة السماء. أمَّا السَّعة فهي ظاهرة، فسائر النجوم الهائلة حجماً، اللامتناهية (وفق علومنا) عدداً، لا تعدو كونها ذرَّات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب. وهذا ما توصَّل إليه العلماء مؤخَّراً، فكلُّ الأفلاك تسبح في كونٍ فسيح ذي أطراف مترامية، وأبعاد لامتناهية، تحكم مسيرتها جميعاً قوَّة الجاذبية الَّتي نُدرك وجودها ولكن لانراها، وكأن الله سبحانه وتعالى عناها بقوله: {الله الَّذي رَفَعَ السمواتِ بِغيرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها..} (13 الرعد آية 2).(1/65)
ونلمح في قوله تعالى: {وجعلنا السَّماء سَقْفاً محفوظاً} دعوة إلى تتبُّع علوم الفلك بشكل عام، وربَّما إلى دراسة طبقات الغلاف الجوي، ومنها طبقة الأوزون الَّتي تشكِّل سقفاً لحماية الأرض خاصَّةً. وتشير الآية إلى الغلاف الجوِّي للأرض للأهمِّية البالغة الَّتي أثبتها له العلم، فالإشعاعات الكهرومغناطيسية الَّتي تُصدرها الشمس، وأهمها الأشعَّة فوق البنفسجية الفتَّاكة، تفقد طاقتها عند اختراقها له، فيعكسها ولا يبقي منها إلا جزءاً يسيراً يصل إلى الأرض لننتفع به، كما يمنع وصول أصوات الانفجارات الفضائيَّة لبعض الكواكب، الَّتي يمكنها أن تودي بحياة الإنسان لعظمها، كما يشكِّل حزاماً حول الأرض كالسقف ليحفظها من الشُّهُب والنيازك، فتحترق به وتتفتَّت قبل أن تصل إليها. ومن أجل هذه المهامِّ الجليلة حفظ تعالى هذا السقف وجعله ـ جلَّت قدرته ـ حافظاً ومحفوظاً.
وإذا ما تفكَّرنا وتأمَّلنا بهذا كلِّه، وبمن ضبط وأحكم وقدَّر هذا السقف المحفوظ حول الأرض، نجد أن القرآن الكريم قد دعا إلى البحث العلمي، في شتى مجالاته، بما في ذلك العلوم الفلكية. والأمر المدهش والثَّابت اليوم هو أنه كلَّما تقدمت العلوم الفلكية وابتكر العلماء مراصدَ ذات قدرات خارقة لكشف عالم المَجَرَّات والأكوان الهائلة؛ كلَّما أُصيبوا بالذُّهول أمام اكتشافهم لعوالم جديدة لم يكونوا يعرفون عنها شيئاً.
ج ـ خلق الأرض
سورة الملك(67)
قال الله تعالى: {هوَ الَّذي جعلَ لكم الأَرضَ ذَلُولاً فامشوا في مناكِبِها وكُلُوا من رِزْقِهِ وإليه النُّشور(15)}
سورة النحل(16)
وقال أيضاً: {وألْقَى في الأَرضِ رَواسِيَ أن تَمِيدَ بكم وأَنهاراً وسُبُلاً لعلَّكم تهتدون(15)}.
ومضات:
ـ جعل الله تعالى الأرض مذلَّلة بين يدي الإنسان ليعيش عليها ويقتات من خيراتها، ويذكر أنها مجرَّد مَعْبَرٍ له للوصول إلى يوم البعث والقيامة.(1/66)
ـ تتجلَّى الحكمة الإلهية في خلق الجبال في أهميتها العظيمة لحفظ توازن الأرض ومن عليها.
في رحاب الآيات
إن الناس لطول إلفتهم الحياة على هذه الأرض، ولسهولة استقرارهم عليها، وسيرهم فيها، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها، ينسَوْن مدى الإبداع والإعجاز فيها، ويتغافلون عن نعمة الخالق في تذليلها لهم وتسخيرها لمنفعتهم. والقرآن الكريم يذكِّرهم بهذه النعمة العظيمة، ويبصِّرهم بها، في هذا التعبير الَّذي يدرك حقيقته كلُّ جيل بقدر ما ينكشف له من علم عن هذه الأرض الذَّلول. ولكي نفهم معنى كلمة (ذَلول) وكيف أن الله تعالى ذلَّل الأرض وسخَّرها للإنسان لتوفير المنافع الدنيوية له، علينا أن نجري دراسة عن حجم الأرض وتكوينها الجيولوجي، وأهمِّية دورانها حول نفسها وحول الشمس بالنسبة لاختلاف الليل والنهار، وتغيُّر الفصول على مدار العام، وكذلك ما تحتويه من خيرات وأرزاق، وما يحكمها من القوانين والأسباب لقيام الحياة على وجهها. فما إِنْ نتفهَّم أهمِّية ذلك كلِّه حتَّى ندرك عظمة الخالق المنشئ، في تذليل تلك الكتلة الجبَّارة للإنسان؛ يسرح فيها ويمرح كيفما شاء، ويزرع ويحصد، ويبني ويشيِّد، وهي بين يديه ليِّنة العريكة كالطفل المستكين الوديع. ومع ذلك فهي تبقى مملوكة أبداً لخالقها ومبدعها، يبقيها ما شاء لها البقاء، ويفنيها حين يشاء لها الفناء، ويزلزل بعضاً منها لتبتلع مدناً بكاملها، أو يأمر جوفها بالانفجار، فتثور البراكين الَّتي تدمِّر ما فوقها وما حولها، وهكذا إلى أن يحين أجلها، فتفنى وتزول إيذاناً بالبعث والقيامة. وأمام تصريف الله لملكه يبقى الإنسان صغيراً بنفسه، كبيراً بصلته الوثيقة بالله القدير المتعالي.(1/67)
والنصُّ القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليَعِيَها كلُّ فرد وكلُّ جيل بالقدر الكافي، ليشعر بيد الله وهي تتولاه وتتولى كلَّ شيء حوله، والَّتي لو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختلَّ هذا الكون، وبمقدار ما يعي الإنسان هذه الحقيقة يلبِّي دعوة الرحمن بالمشي في مناكبها والأكل من رزقه فيها. والرزق هنا أوسع مدلولاً ممَّا يتبادر إلى أذهان الناس؛ إذ أنه لا يقتصر على كسب المال، وإنما يتعدَّاه ليشمل استثمار كلِّ ما أودعه الله في جوف هذه الأرض من الأرزاق المخبوءة، من معادن صلبة وسائلة وغيرها. على أنَّ الرزق مقدَّر من قبل الله بزمن محدَّد في علمه وتدبيره، فإذا انقضى هذا الزمن كان الموت، وكان النشور والرجوع، فإلى أين المصير إن لم يكن إليه؟ وكيف يكون لغيره والمُلك بيديه، ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو على كلِّ شيء قدير؟.(1/68)
وتمضي الآيات الكريمة في عرض بعض دلائل الإعجاز في الكون؛ فتقرِّر أن الجبال الرَّواسي تحفظ توازن الأرض، فلا تميد ولا تضطرب. وحفظ التَّوازن يتحقَّق في صور شتَّى، فقد يكون توازناً بين الضَّغط الخارجي على سطح الأرض والضَّغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى أخرى. أو يكون بروز الجبال في موضع ما معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر. وقد ثبت علمياً أن للجبال جذوراً في أعماق الأرض وظيفتها حماية طبقاتها من التحرُّك، وحفظ توازنها، حيث أن الطبقة الصُّلبة من القشرة الأرضية ترقد على طبقة ليِّنة زَلِقَة ولو كان السَّطح السُّفلي للطبقة الصُّلبة مستوياً وكذا السَّطح العلوي للطبقة الليِّنة لانزلقت الأرض من تحت أقدامنا وبيوتنا ولَمَادَت ولما استقرَّ لنا قرار ولما صلحت الأرض للعيش عليها. وقد أثبت العلم أن الجبال مغروسة في باطن الأرض لتقوم بمهمة التثبيت كما هو شأن الوتد بالنسبة للخيمة، وما يظهر منها إلا الثُّلُث، والثُّلُثان في باطنها، وقد عبَّر القرآن الكريم عن تلك الجذور بالأوتاد في قوله تعالى: {أَلَم نجعلِ الأَرضَ مِهاداً * والجِبال أوْتَاداً} (78 النبأ آية 6ـ7).
وفي ذكر السُّبُل في الآية الكريمة وهي الطُّرُق النافذة السالكة في الجبال الَّتي تفصل بين كتلها الضَّخمة العالية؛ دلالةٌ على حكمة الصَّانع الَّذي لم يترك الجبال كتلاً هائلة من الصُّخُور والأحجار، تحجز البلدان والأمصار وتعزل البشر، بل شقَّها وجعل فيها مسالك يستطيع الإنسان السَّير عليها والانتقال عبرها من مكان إلى آخر، لينتفع في تجارته وشؤون حياته، وليتمكَّن الإنسان من إنشاء العلاقات الطيِّبة مع أخيه الإنسان في المجتمعات الأخرى، ولولا ذلك لما انتشر الناس في أرجاء الأرض، ولما استفادوا من كلِّ خيراتها.(1/69)
وقد ورد ذكر الأنهار في الآية مع الجبال لتوجيه الأنظار إلى العلاقة الوطيدة بينهما لأن الجبال غالباً ما تكون بطونها مخازن للماء ومنها تتفجَّر الأنهار، لكونها مساقط الثلوج والأمطار.
وظواهر الأرض عموماً تشير بوضوح إلى أنها قد صُمِّمت لتكون صالحة ليحيا الإنسان مستريحاً على ظهرها، مستمتعاً بخيراتها، بدليل قوله تعالى: {والأَرضَ فرشْناها فنِعْمَ الماهِدُون} (51 الذاريات آية 48) والفراش هو المكان المعدُّ لاستلقاء الإنسان وراحته.
وفي ضوء هذه النُّصوص المعجزة، وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة، الهائلة المدى، في أجواء السماء، وفي آماد الأرض، وفي أعماق الخلائق، يهتف القرآن بالبشر ليتَّجهوا إلى خالق السماء والأرض، متجرِّدين من كلِّ ما يثقل أرواحهم ويقيِّدها، متحرِّرين من الأغلال الَّتي تشدُّ النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها وتأسرها عن الانطلاق في رحاب التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد.
ج ـ خلق الأرض
سورة الملك(67)
قال الله تعالى: {هوَ الَّذي جعلَ لكم الأَرضَ ذَلُولاً فامشوا في مناكِبِها وكُلُوا من رِزْقِهِ وإليه النشور}
سورة النحل(16)
وقال أيضاً: {وألْقَى في الأَرضِ رَواسِيَ أن تَمِيدَ بكم وأَنهاراً وسُبُلاً لعلَّكم تهتدون}
ومضات:
ـ جعل الله تعالى الأرض مذلَّلة بين يدي الإنسان ليعيش عليها ويقتات من خيراتها، ويذكر أنها مجرَّد مَعْبَرٍ له للوصول إلى يوم البعث والقيامة.
ـ تتجلَّى الحكمة الإلهية في خلق الجبال في أهميتها العظيمة لحفظ توازن الأرض ومن عليها.
في رحاب الآيات(1/70)
إن الناس لطول إلفتهم الحياة على هذه الأرض، ولسهولة استقرارهم عليها، وسيرهم فيها، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها، ينسَوْن مدى الإبداع والإعجاز فيها، ويتغافلون عن نعمة الخالق في تذليلها لهم وتسخيرها لمنفعتهم. والقرآن الكريم يذكِّرهم بهذه النعمة العظيمة، ويبصِّرهم بها، في هذا التعبير الَّذي يدرك حقيقته كلُّ جيل بقدر ما ينكشف له من علم عن هذه الأرض الذَّلول. ولكي نفهم معنى كلمة (ذَلول) وكيف أن الله تعالى ذلَّل الأرض وسخَّرها للإنسان لتوفير المنافع الدنيوية له، علينا أن نجري دراسة عن حجم الأرض وتكوينها الجيولوجي، وأهمِّية دورانها حول نفسها وحول الشمس بالنسبة لاختلاف الليل والنهار، وتغيُّر الفصول على مدار العام، وكذلك ما تحتويه من خيرات وأرزاق، وما يحكمها من القوانين والأسباب لقيام الحياة على وجهها. فما إِنْ نتفهَّم أهمِّية ذلك كلِّه حتَّى ندرك عظمة الخالق المنشئ، في تذليل تلك الكتلة الجبَّارة للإنسان؛ يسرح فيها ويمرح كيفما شاء، ويزرع ويحصد، ويبني ويشيِّد، وهي بين يديه ليِّنة العريكة كالطفل المستكين الوديع. ومع ذلك فهي تبقى مملوكة أبداً لخالقها ومبدعها، يبقيها ما شاء لها البقاء، ويفنيها حين يشاء لها الفناء، ويزلزل بعضاً منها لتبتلع مدناً بكاملها، أو يأمر جوفها بالانفجار، فتثور البراكين الَّتي تدمِّر ما فوقها وما حولها، وهكذا إلى أن يحين أجلها، فتفنى وتزول إيذاناً بالبعث والقيامة. وأمام تصريف الله لملكه يبقى الإنسان صغيراً بنفسه، كبيراً بصلته الوثيقة بالله القدير المتعالي.(1/71)
والنصُّ القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليَعِيَها كلُّ فرد وكلُّ جيل بالقدر الكافي، ليشعر بيد الله وهي تتولاه وتتولى كلَّ شيء حوله، والَّتي لو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختلَّ هذا الكون، وبمقدار ما يعي الإنسان هذه الحقيقة يلبِّي دعوة الرحمن بالمشي في مناكبها والأكل من رزقه فيها. والرزق هنا أوسع مدلولاً ممَّا يتبادر إلى أذهان الناس؛ إذ أنه لا يقتصر على كسب المال، وإنما يتعدَّاه ليشمل استثمار كلِّ ما أودعه الله في جوف هذه الأرض من الأرزاق المخبوءة، من معادن صلبة وسائلة وغيرها. على أنَّ الرزق مقدَّر من قبل الله بزمن محدَّد في علمه وتدبيره، فإذا انقضى هذا الزمن كان الموت، وكان النشور والرجوع، فإلى أين المصير إن لم يكن إليه؟ وكيف يكون لغيره والمُلك بيديه، ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو على كلِّ شيء قدير؟.(1/72)
وتمضي الآيات الكريمة في عرض بعض دلائل الإعجاز في الكون؛ فتقرِّر أن الجبال الرَّواسي تحفظ توازن الأرض، فلا تميد ولا تضطرب. وحفظ التَّوازن يتحقَّق في صور شتَّى، فقد يكون توازناً بين الضَّغط الخارجي على سطح الأرض والضَّغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى أخرى. أو يكون بروز الجبال في موضع ما معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر. وقد ثبت علمياً أن للجبال جذوراً في أعماق الأرض وظيفتها حماية طبقاتها من التحرُّك، وحفظ توازنها، حيث أن الطبقة الصُّلبة من القشرة الأرضية ترقد على طبقة ليِّنة زَلِقَة ولو كان السَّطح السُّفلي للطبقة الصُّلبة مستوياً وكذا السَّطح العلوي للطبقة الليِّنة لانزلقت الأرض من تحت أقدامنا وبيوتنا ولَمَادَت ولما استقرَّ لنا قرار ولما صلحت الأرض للعيش عليها. وقد أثبت العلم أن الجبال مغروسة في باطن الأرض لتقوم بمهمة التثبيت كما هو شأن الوتد بالنسبة للخيمة، وما يظهر منها إلا الثُّلُث، والثُّلُثان في باطنها، وقد عبَّر القرآن الكريم عن تلك الجذور بالأوتاد في قوله تعالى: {أَلَم نجعلِ الأَرضَ مِهاداً * والجِبال أوْتَاداً} (78 النبأ آية 6ـ7).
وفي ذكر السُّبُل في الآية الكريمة وهي الطُّرُق النافذة السالكة في الجبال الَّتي تفصل بين كتلها الضَّخمة العالية؛ دلالةٌ على حكمة الصَّانع الَّذي لم يترك الجبال كتلاً هائلة من الصُّخُور والأحجار، تحجز البلدان والأمصار وتعزل البشر، بل شقَّها وجعل فيها مسالك يستطيع الإنسان السَّير عليها والانتقال عبرها من مكان إلى آخر، لينتفع في تجارته وشؤون حياته، وليتمكَّن الإنسان من إنشاء العلاقات الطيِّبة مع أخيه الإنسان في المجتمعات الأخرى، ولولا ذلك لما انتشر الناس في أرجاء الأرض، ولما استفادوا من كلِّ خيراتها.(1/73)
وقد ورد ذكر الأنهار في الآية مع الجبال لتوجيه الأنظار إلى العلاقة الوطيدة بينهما لأن الجبال غالباً ما تكون بطونها مخازن للماء ومنها تتفجَّر الأنهار، لكونها مساقط الثلوج والأمطار.
وظواهر الأرض عموماً تشير بوضوح إلى أنها قد صُمِّمت لتكون صالحة ليحيا الإنسان مستريحاً على ظهرها، مستمتعاً بخيراتها، بدليل قوله تعالى: {والأَرضَ فرشْناها فنِعْمَ الماهِدُون} (51 الذاريات آية 48) والفراش هو المكان المعدُّ لاستلقاء الإنسان وراحته.
وفي ضوء هذه النُّصوص المعجزة، وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة، الهائلة المدى، في أجواء السماء، وفي آماد الأرض، وفي أعماق الخلائق، يهتف القرآن بالبشر ليتَّجهوا إلى خالق السماء والأرض، متجرِّدين من كلِّ ما يثقل أرواحهم ويقيِّدها، متحرِّرين من الأغلال الَّتي تشدُّ النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها وتأسرها عن الانطلاق في رحاب التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد.
الفصل الثاني:
خلق الملائكة
سورة الأنبياء(21)
قال الله تعالى: {وقالوا اتَّخذ الرَّحمنُ وَلَداً سُبحانَهُ بل عِبادٌ مُكْرَمون(26)لا يسبِقُونَهُ بالقَوْلِ وهم بأَمْرِهِ يَعملون(27) يَعْلَمُ ما بين أيْدِيِهم وما خَلْفَهُم ولا يَشفعون إلاَّ لِمنِ ارتضى وهم من خشيته مُشْفِقُون(28) ومن يَقُلْ منهم إنِّي إلهٌ من دُونِه فذلك نَجْزِيهِ جهنَّم كذلك نَجزي الظَّالمين(29)}
ومضات:
ـ زعم بعض جاهليِّي العرب أن الملائكة هم بنات الله، وردَّ تعالى عليهم بقوله بأنهم عباد مخلوقون، مقرَّبون لديه، كرَّمهم بعبادته الدائمة المتَّصلة، الَّتي لا يشوبها زيغ أو ضلالة.
ـ الملائكة مخلوقات كسائر المخلوقات، لا تنفِّذ أمراً ولا تنجز عملاً إلا بإذن الله تعالى وإرادته.
ـ الله تعالى محيط بالملائكة، كما يحيط بسائر خلقه، فلا يغيب عنه شأن من شؤونهم.(1/74)
ـ الملائكة على درجات في المقامات عند الله، وبعضهم تؤهِّله منزلته للشَّفاعة المرهونة بإذن الله عزَّ وجل ومشيئته.
ـ لا يمكن للملائكة أن يتجاوزوا حدود ما خُلقوا له، كادِّعاء الألوهية؛ لأنَّ جلال الله وعظيم هيبته يغمر كيانهم بالخشية والرَّهبة، فلا يجد الضلال والغيُّ إليهم سبيلا.
في رحاب الآيات:
لم تنحصر آيات الله في الخلق ضمن إطار المخلوقات الَّتي تدركها الحواسُّ فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى عوالم جمَّة، علمنا القليل منها وما خفي علينا أعظم {..وما أُوتِيتُم منَ العلمِ إلاَّ قليلاً} (17 الإسراء آية 85). وقد أطْلَعَنا الله عزَّ وجل ـ بواسطة القرآن ـ على بعضٍ من خلقه، فعرَّفنا على عوالم وكائنات ما كنَّا لنعرفها من دونه؛ ومنها الملائكة الَّتي استطعنا أن نكوِّن فكرة مجملة عنها من خلال الآيات القرآنية الكريمة، الَّتي تعبِّر إلى حدٍّ ما عن ماهيَّتهم وصفاتهم ومهامِّهم.
وتجدر الإشارة إلى أن الإنسان قد عرف الملائكة منذ خلق آدم، فهم سابقون عليه بالوجود، يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {وإذ قال ربُّكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأَرضِ خليفةً..} (2 البقرة آية30). فهو بيان على أنه عزَّ وجل قد أخبر الملائكة أنه سيخلق الإنسان ويستخلفه في الأرض، ولمَّا خلقه أمَرَهُم بالسُّجود له سجود تحيَّة وتكريم لا سجود عبادة وتعظيم، قال تعالى: {وإذْ قُلنا للملائكة اسجدوا لآدمَ فسجدوا..} (2 البقرة آية 34).(1/75)
إلا أن هذه المعرفة ما لبثت أن انحرفت وتشوَّهت مع تعاقب الأجيال والعصور، وضاعت حقيقتها مع تقادم الزَّمان، ولم يبقَ في أذهان الناس عن الملائكة سوى شتات من الحقيقة، ولقد ادَّعى بعضهم أن الملائكة بنات الله، فردَّ الله عليهم ادعاءهم وعرَّفهم بحقيقتهم في الآيات المذكورة، فأثبت لهم وصف المخلوقات المكرَّمة، العابدة لله، والعاملة بأمره دون تردُّد أو اعتراض، والوَجِلة منه الخاشعة له. ودلَّ على أنها لا تملك من الأمر شيئاً، ولا تستطيع القيام بأي عمل إلا بإذنه تعالى ورضاه؛ فهي مجبولة على الطاعة، تعمل وفق اتِّجاه الخير؛ فلا تضلُّ ولا تطغى، بل تبقى على حالٍ من العبادة لا يتبدَّل، تسجد لله وتمجِّده، ولا تعصيه طرفة عين ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، قال تعالى: {ولله يسجد ما في السَّموات وما في الأَرضِ من دابَّةٍ والملائِكَةُ وهم لا يَسْتكبِرون * يخافون ربَّهم من فوقِهم ويفعلون ما يُؤْمَرون} (16 النحل آية 49ـ50).(1/76)
والملائكة مخلوقات مطهَّرة، قوامهم النُّور؛ فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم ممَّا وُصف لكم». وقد خصَّهم الله تعالى بمنزلة رفيعة، ووصفهم بالكرام البررة فقال: {بأيدي سَفَرة * كِرامٍ بَرَرَة} (80 عبس آية 15ـ16). وجعل الإيمان بهم جزءاً لا يتجزأ من الإيمان الشَّامل فقال: {آمن الرسولُ بما أُنْزِل إليه من ربِّه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه..} (2 البقرة آية 285). كما جعل الكفر بهم جزءاً من الكفر المطلق فقال: {..ومن يكفرْ بالله وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليوم الآخرِ فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً} (4 النساء آية 136). لذلك يتعيَّن على المسلم أن يقرن إيمانه بالله تعالى بإيمانه بوجود الملائكة كبعضٍ من خلق الله. فحقيقة وجودهم حقيقة غيبيَّة لا سبيل للإدراك البشري أن يلمسها بذاته، وبوسائله الحسيَّة والعقلية الخاصَّة به، لذلك فهو لا يملك إلا التسليم بها دون البحث فيها. وقد جاء القرآن الكريم على ذكر هذه المخلوقات اللطيفة كي يأنس قلب المؤمن بها ويعلم أنها تحفُّ به، وتشاركه إيمانه بربِّه، وتستغفر له، وتعينه على الخير. أمَّا عن أوصافهم الشكلية فنستشفُّ ذلك من آيات قرآنية وأحاديث كثيرة صحيحة دلَّت على أن الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثُلاثَ ورُبَاع، قال تعالى: {الحمدُ لله فاطرِ السَّمواتِ والأَرضِ جاعِلِ الملائكةِ رُسلاً أُولِي أجنحةٍ مَثنى وثُلاثَ ورُباعَ يزيدُ في الخلق ما يشاءُ إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير} (35 فاطر آية 1). ومع كون الملائكة مخلوقات نورانيَّة غير مرئية للعيان، فإن الله عزَّ وجل قد منحهم القدرة على التشكُّل، والظُّهور بمظهر الأجسام الكثيفة المختلفة، قال تعالى: {فاتَّخذتْ من دونِهِمْ حجاباً فأَرْسلنا إليها رُوحَنا فَتَمثَّل لها بشراً(1/77)
سَوِيّاً} (19 مريم آية 17)، وكلمة روحنا تشير إلى الملَك الكريم.
وللملائكة مهامٌّ جليلة أوكلها الله إليهم، وكلَّفهم القيام بها، منها:
ـ النزول بالوحي على الأنبياء، قال تعالى: {نَزَلَ به الرُّوحُ الأمينُ * على قلبك لتكون من المنذرِين} (26 الشعراء آية 193-194). وقد ثبت أن الموكَّل بهذه الوظيفة هو جبريل عليه السلام سفير الله إلى أنبيائه بقوله تعالى: {قُلْ من كَان عَدُوّاً لجبريلَ فإنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلبكَ بإذن الله مُصَدِّقاً لما بَينَ يديه..} (2 البقرة آية 97).
ـ التسبيح لله وطلب الاستغفار للخلق ومشاركتهم الثَّناء على الله، قال تعالى: {..والملائكةُ يُسبِّحون بحمد ربِّهم ويستغْفِرون لمن في الأَرضِ..} (42 الشورى آية 5)، وأخرج ابن أبي شيبة عن مُصْعَب بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد: سبحان الله، قالت الملائكة: وبحمده. وإذا قال: سبحان الله وبحمده، صلُّوا عليه»، وصلاة الملائكة على المؤمن دعاءٌ له واستغفار.
ـ الدعاء والتشريف للرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله وعلوِّ مقامه، قال تعالى: {إنَّ الله وملائكَتَهُ يصلُّون على النَّبي ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليما} (33 الأحزاب آية 56).
ـ التعاقب في الناس بالليل والنهار، مع عدم التَّقصير في حفظ شؤونهم وأعمالهم. وقد سمَّى الله تعالى الملائكة الَّذين أوكل إليهم هذا الأمر بالمعقِّبات والحفظة، فقال: {له مُعَقِّباتٌ من بين يديه ومن خَلْفِه يحفظونه من أمر الله..} (13 الرعد آية 11)، وقال: {وهو القاهرُ فوق عبادهِ ويُرسِلُ عليكم حَفَظةً..} (6 الأنعام آية 61)، وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).(1/78)
ـ تسجيل أعمال المكلَّفين وتصرُّفاتهم، ونسخها وإحصاؤها في كتاب مبين، وقد أوكل الله تعالى بكلِّ إنسان ملكين كريمين يحصيان عليه جميع أعماله خيرها وشرِّها، وكلٌّ منهما رقيب عتيد أي مراقب مهيَّأ للكتابة، أحدهما يكون عن يمينه يحصي له ما يكسبه من حسنات، والثاني عن شماله يحصي عليه ما يكتسبه من سيِّئات، قال تعالى: {إذ يتلقَّى المُتلقِّيان عن اليمين وعن الشِّمال قَعِيدٌ * ما يلفظُ من قولٍ إلاَّ لديه رقيبٌ عتيد} (50 ق آية 17ـ18).
ـ قبض الأرواح عند انتهاء الآجال، قال تعالى: {قلْ يَتَوَفَّاكم مَلَكُ الموتِ الَّذي وُكِّلَ بكم ثمَّ إلى ربِّكم تُرجَعون} (32 السجدة آية 11). ولملَك الموت أعوان من الملائكة وردت تسميتهم في القرآن بالرسل، قال تعالى: {..حتَّى إذا جاء أَحَدَكُم الموتُ تَوفَّته رُسُلنا وهم لا يُفَرِّطون} (6 الأنعام آية 61). وقال ابن عباس رضي الله عنه وغيره: (لملك الموت أعوانٌ من الملائكة يُخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم).
ـ رعاية أهل الجنَّة، وقد أطلق القرآن الكريم على الملائكة الَّذين يقومون بهذه الوظيفة اسم (الخزَنة)، قال تعالى: {وسيقَ الَّذين اتَّقَوا ربَّهم إلى الجنَّة زُمَراً حتَّى إذا جاؤُوها وفُتِحت أبوابها وقال لهم خَزَنتها سلام عليكم طِبْتم فادخلوها خالدين} (39 الزمر آية 73).(1/79)
ـ القيام بشؤون النار وأهلها، وقد أطلق القرآن الكريم على الملائكة الَّذين أقامهم الله تعالى على هذا الأمر اسم (الزَّبانية)، قال تعالى: {فليَدْعُ ناديَه * سَنَدْعُ الزَّبانية} (96 العلق آية 17ـ18). ولهؤلاء الملائكة طبيعة خاصَّة تؤهِّلهم لهذه المهمة، ففي قلوبهم قسوة وغلظة، تمكِّنهم من تنفيذ أوامر الله تعالى بتعذيب العاصين المستهترين من غير أن تأخذهم بهم رأفة أو شفقة، قال تعالى: {..عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعصُوْن الله ما أَمَرَهُم ويَفْعَلون ما يُؤْمَرون} (66 التحريم آية 6).
ـ حَمْلُ العرش، ولعل هذه المهمَّة بعد مهمَّة أمانة الوحي وسفارة السماء إلى الرسل والأنبياء تكون من أجلِّ المهامِّ الموكَّلة إلى بعض الملائكة، ولذلك فقد خُصَّ هؤلاء الحملة بمنزلة قدسِيَّة رفيعة، سنعرض لها بالشَّرح والتفصيل من خلال إلقاء الضوء على النص القرآني التالي:
سورة غافر(40)
قال الله تعالى: {الَّذين يَحمِلونَ العرشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسبِّحون بحمدِ ربِّهم ويُؤْمِنون به ويَستَغفِرون للَّذين آمنوا ربَّنا وسِعْتَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلْماً فاغفر للَّذين تابوا واتَّبعوا سبيلك وقِهِمْ عَذابَ الجَحيم(7) ربَّنا وأَدْخِلهُم جنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي وعدتَّهم ومن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذُرِّيَّاتهم إنَّك أنت العزيز الحكيم(8) وقِهِمُ السَّيِّئاتِ ومن تَقِ السَّيِّئاتِ يَومئذٍ فقد رَحِمْتَه وذلك هو الفوز العظيم(9)}
ومضات:(1/80)
ـ إن من أقدس المخلوقات النورانية وأكثرهم خشية لله تعالى الملائكة الأطهار الَّذين يحملون العرش ويطوفون حوله، وهم يسبِّحون الله ويمجِّدونه ويرتشفون من أنوار قدسه، غارقين في لذَّة الصلة وحلاوة الطاعة، يتذكَّرون عباد الله المؤمنين، وقد علموا بما علَّمهم الله؛ بطبيعة البشر من عدم عصمتهم من الخطأ، فيسألونه تعالى المغفرة لذنوبهم مستشفعين لهم بصالح أعمالهم الَّتي تدلُّ على أنهم قد اهتدوا، وغيَّروا منهج حياتهم بما يرضي الله، علَّهم ينالون بذلك المغفرة ويظفرون بالنعيم المقيم، جنباً إلى جنب مع أقاربهم وذريَّاتهم الَّذين صلحت أعمالهم، ليلتئم شمل الجميع، في رحاب النعيم الأبدي، الَّذي وعد الله به المؤمنين الموحِّدين.
ـ الدعاء للمؤمنين وطلب المغفرة لهم هو أحد المهامِّ الَّتي أناطها تعالى بالملائكة، وهذا من عظيم فضله وسعة جوده.
في رحاب الآيات:
إن حملة العرش ومن حوله هم من أكرم الملائكة، ممَّن لا يحصي عددهم إلا الله، وهم في عبادة دائمة له، يسبِّحونه وينزِّهونه عن أي نقص، ويثنون عليه بصفات الكمال، ويوحِّدونه ويقرُّون بأنه لا إله سواه، متذللين غير مستكبرين. وفي غمرة عبادتهم واستغراقهم في تسبيح الله وتمجيده، لا ينسون المؤمنين الصادقين، بحكم رابطة الإيمان بينهم، فيطلبون لهم المغفرة قائلين: {ربَّنا وسِعتَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً} أي ياربَّنا لقد وسعت رحمتك وعلمك كلَّ شيء فاشمل بفضلك ورحمتك أولئك المؤمنين.(1/81)
وقد أقرَّ الملائكةُ لله عزَّ وجل في دعائهم هذا بثلاث صفات: الرُبوبيَّة، والرَّحمة، والعلم. وفي هذا الإقرار قبل الدعاء تعليم لنا وتوجيه لنعرف أدب السؤال، فهم يبدؤون دعاءهم بالثَّناء، ويستمطرون إحسانه وفضله وإنعامه، ويسألونه الصَّفح عن المؤمنين المذنبين، التائبين عن المعاصي، المتَّبعين سبيل الحق الَّذي جاء به أنبياؤه ورسله، ويرجونه أن يحفظهم من عذاب جهنَّم وأن يصرفه عنهم، ثمَّ يرتقون في الدعاء إلى سؤال الجنَّة، واستنجاز وعد الله لعباده الصالحين، فيدعون الله تعالى أن يُتمَّ سرور هؤلاء المؤمنين بجمعهم مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذريَّاتهم في الجنَّة، وإن تفاوتت درجاتهم. وفي هذا إشارة إلى عظيم فضل الله وإحسانه، حيث جعل بركة الرجل الصالح تعمُّ لتشمل أهله؛ فيلحَق الأبناء بالآباء في المنزلة وإن كانت أعمالهم لا تؤهِّلهم لبلوغ تلك المنزلة. روى الطبراني في هذا عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل الرجل الجنَّة، سأل عن أبويه وزوجته وولده؛ فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: ياربُّ قد عملتُ لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به». ويؤيِّد هذا قول الله تعالى: {والَّذين آمنوا واتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتهم بِإيمانٍ أَلْحقنا بهم ذُرِّيَّتهم وما أَلَتْناهُم من عملهم من شيءٍ كلُّ امرِئ بما كَسب رهينٌ} (52 الطور آية 21).(1/82)
ثمَّ تدعو الملائكة قائلة: ياربَّنا إنك أنت العزيز الَّذي لا يُغلب، والقوي الَّذي لا يمتنع عليه شيء، والحكيم الَّذي لا يفعل إلا ما فيه المصلحة لعباده المؤمنين، فاصرف عنهم عاقبة سيِّئاتهم الَّتي كانوا قد أتوها قبل توبتهم، ولا تؤاخذهم فتعذِّبهم بها، فمن تَصْرِف عنه سوء عاقبة ما اجترح من الآثام، يوم القيامة، فقد رحمته ونجَّيته من عذابك. ذلك هو الفوز العظيم الَّذي لا مطمع وراءه للطامعين، فقد وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع، وحازوا بأفعال قليلة مُلكاً لا ينفد، عطاءً من ربٍّ كريم لا تبلغ العقول كنه جلاله وجماله، فسبحان الله عمَّا يشركون!.
الفصل الثالث:
خلق الجن
سورة الرحمن(55)
قال الله تعالى: {وخَلقَ الجانَّ من مارجٍ من نار(15)}.
تدلُّ هذه الآية الكريمة دلالة قطعيَّة على وجود الجنِّ كمخلوقات حية ذات منشأ يختلف عن منشأ الإنسان، فإذا كان الإنسان قد خُلق من تراب فإن الجانَّ ـ ببيان الله تعالى ــ قد خُلقوا من مارج من نار. والمارج: هو الشعلة الصاعدة ذات اللهب الصافي الَّذي لا دخان فيه، المختلط الألوان. والمصدر الموثوق الوحيد لبيان خلق الجان هو ما جاء به الوحي من خبر الله الصادق، لأن حقيقة خلقهم خارجة عن حدود العلوم البشرية.
وللجانِّ قدرة على الحياة في هذه الأرض بالمشاركة مع الإنس، ولكننا لا ندري عن نمط معيشتهم شيئاً، وهم مخاطَبون ومعنيُّون بهذا القرآن، الَّذي ورد ذكرهم فيه وفي أكثر من موضع، موضِّحاً جوانبَ من حقيقتهم وبعضاً من صفاتهم، وأهمُّها:(1/83)
ـ قابليَّتهم للعلم والمعرفة، وحريَّتهم في الاختيار؛ فهم مكلَّفون بالإيمان والعبادة، مَنهِيُّون عن الكفر والعصيان، كالإنس، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسْلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُوْنَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا...} (6 الأنعام آية 130)، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (51 الذاريات آية 56)؛ فمن آمن من الجنِّ وأسلم فلا خوف عليه وقد تحرَّى رشداً، قال تعالى: {وَأنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِه فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً * وَأَنَّا مِنَّا المُسْلِمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرُّوا رَشَداً} (72 الجن آية 13 ـ 14)، ومن كفر منهم وعدل عن طريق الحقِّ، كان مآله إلى جهنَّم، قال تعالى: {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (72 الجن آية 15).
ـ التَّناسل والتَّوالد، بدليل قوله تعالى: {..أفتتَّخِذونه وذرِّيَّته أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بِئْس للظَّالمين بَدَلاً} (18 الكهف آية 50) والذريَّة تقتضي التناسل، كما أخبر القرآن الكريم أنَّ فيهم رجالاً، ومتى كان فيهم الرجال ففيهم أيضاً النساء، وهذا يقتضي التناسل أيضاً، قال تعالى: {وأنَّه كان رِجالٌ منَ الإنس يعوذون برِجالٍ منَ الجنِّ فزادوهم رَهَقاً} (72 الجن آية 6).
ـ رؤيتهم لنا من حيث لا نراهم، وليس هذا بعجيب، فمن كان بيده منظار رأى الشخص البعيد دون أن يراه ذلك الشخص، وكذلك جهاز التلفاز الَّذي نرى المتحدِّث فيه ولا يرانا، قال تعالى: {..إنَّه يراكُم هوَ وقَبيلُه من حيث لا تَرَونهم إنَّا جعلنا الشَّياطين أولياءَ للَّذين لا يُؤمنون} (7 الأعراف آية 27). ولا شكَّ أن مردَّ ذلك إلى اختلاف في طبيعة التكوين حيث أن أبصارنا عاجزة عن رؤية ما عدا المخلوقات الكثيفة.(1/84)
ـ قدرتهم على القيام بالأعمال الخارقة، والصناعات البديعة، والأشغال الَّتي يعجز البشر عن القيام بمثلها، كما أن لهم القدرة على التشكُّل بالأشكال الجسمانية الَّتي يمكن أن يراها البشر. فقد أخبر القرآن الكريم أن الله قد طوَّع الجنَّ لنبيِّه سليمان عليه السلام، وسخَّرهم له فشيَّدوا له الأبنية الضخمة، وعملوا له الصناعات الفنية، وجلبوا إليه الأحمال الثقيلة من مسافات بعيدة وبوقت قليل، وغير ذلك من الأعمال الَّتي يعجز البشر عن القيام بها، قال تعالى ممتنّاً على نبيِّه سليمان: {فسخَّرْنا له الرِّيحَ تجري بأمره رُخَاءً حيث أصاب * والشَّياطين كلَّ بنَّاءٍ وغوَّاصٍ} (38 ص آية 36ـ37). وقال أيضاً: {يعملون له ما يشاءُ من محارِيبَ وتماثيل وجِفانٍ كالجَوَابِ وقُدُورٍ راسياتٍ...} (34 سبأ آية 13).
وفي قصَّة جلب عرش بلقيس دليل على قدرتهم على القيام بالأعمال الخارقة، وفي هذا يقول تعالى: {قال عفريتٌ منَ الجنِّ أنا آتيك به قبل أن تقومَ من مَقامك وإنِّي عليه لَقويٌّ أمين} (27 النمل آية 39).
وفي القرآن الكريم سورة كاملة تسمى سورة (الجن)، تُعرض فيها قصَّة نفر من الجن استمعوا إلى تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من آيات كتاب الله، فآمنوا به وهُرِعُوا إلى قومهم مبشِّرين ومنذرين، قال تعالى: {قلْ أُوحِيَ إليَّ أنَّه اسْتَمع نفرٌ منَ الجنِّ فقالوا إنَّا سَمِعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرُّشدِ فآمنَّا به ولن نُشرِك بربِّنا أحداً} (72 الجن الآية 1ـ2). وفي هؤلاء النَّفر نزل أيضاً قوله تعالى:
سورة الأحقاف(46)(1/85)
{وإذ صَرَفنا إليك نفراً منَ الجنِّ يَسْتمِعون القرآن فلمَّا حَضَرُوه قالوا أَنصِتوا فلمَّا قُضيَ وَلَّوا إلى قومهم منذرين(29) قالوا يا قومنا إنَّا سَمِعنا كتاباً أُنزِل من بعد موسى مُصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيمٍ(30) يا قومنا أَجِيبُوا داعيَ الله وآمنوا به يَغفرْ لكم من ذُنوبكم ويُجِرْكُم من عذابٍ أليم(31) ومن لا يُجبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأَرضِ وليس له من دونهِ أولياءَ أُولئك في ضلالٍ مبينٍ(32)}
/ ومضات:
ـ شاء الله تعالى أن يستمع وفد من الجنِّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو آيات من كتاب الله، فجلسوا منصتين بتفكُّر واعتبار؛ حتَّى أدركوا أهمِّية ما سمعوا، وبدا عليهم التأثُّر الشديد به، فأسرعوا إلى قومهم يخبرونهم بهذا الحدث العظيم، وقصُّوا عليهم أنهم سمعوا قرآنا يوافق ويصدِّق ما أُنزل على موسى، يُشِعُّ بنور الهداية، وتحمل تعاليمه البُنَى الأساسية للطريق الموصل إلى الحق والسعادة.
ـ دعوة هؤلاء النَّفر أقوامهم وترغيبهم بالاستجابة لهذه الدعوة المباركة تعتبر دليلاً عملياً على شدة تأثرهم. لقد آثروا الإيمان بها تصديقاً وعملاً، لينالوا المغفرة، ويُثابوا بالأمن من عذاب الله. كما أنذروا أقوامهم بأنَّ من يُعرِض أو يتخلَّف عن الاستجابة لنداء الله، فإنه لن يجد قوَّة تحميه وتنجيه منه، وليس له من وليٍّ ولا نصير، وهو في متاهات الضياع مشرَّد محزون.
/ في رحاب الآيات:(1/86)
يؤمن المسلمون بوجود مخلوقات غير مرئيَّة تعيش في الكوكب الأرضي يُسَمَّوْن بالجنِّ، وهم يعيشون من حولنا دون أن يملكوا القدرة على التصرُّف أو التدخُّل في أمورنا. وبعض هؤلاء الجن يؤمنون بالله وبالرِّسالات السماوية، أمَّا بعضهم الآخر فكافرون قد جنَّدوا أنفسهم أعواناً لإبليس. وقد قدِّر لجماعة من الجن أن يستمعوا القرآن يُتلى من فم الرسول عليه السلام، فكان هذا تدبيراً من الله تعالى وليس مصادفة عابرة، ليعلموا بنبأ تلك الرِّسالة فيؤمنوا بها وينجوا بذلك من النار المعدَّة لشياطين الجنِّ والإنس.
والنصُّ القرآني السابق ينقل لنا صورة هؤلاء النَّفر وهم يستمعون القرآن، ويبيِّن ما وقع في رَوْعهم من التأثُّر والرَّهبة والخشوع بعد سماعه، فعندما حضروه قالوا: {أنصتوا}، ومن البدهي أنه لا يمكن لأحد أن يعي ما يستمع إليه، ما لم ينصت بإمعان وتدبُّر ورويَّة، فكيف بكتاب الله؟ وحالما أنصتوا إليه آمنوا، وبمجرَّد إيمانهم هُرِعُوا إلى قومهم منذرين ومعلِّمين ناصحين، وهذا حال المؤمن الصادق في سرعة التبليغ. وفي هذا تعزية للرسول عليه السلام على ما لقيه في ذلك الحين من صدود أهل الطائف وإعراضهم عن دعوته وإيذائهم له، وإعلام له بأن الله لا يخذل رسله، فإن أعرض المعرضون عن كتابه وعن نبيِّه استكباراً وحسداً، أو بغياً وجهلاً، فإن السُّعداء الموفَّقين يستجيبون حُبّاً وتصديقاً، وإيماناً ومعرفة.
ولعل هذا ما يفسِّر استجابة الكثير من الغربيين وغيرهم للإسلام في عصرنا الحالي. فما كان إقبالهم على هذا الدِّين وإيمانهم به إلا نتيجة قراءتهم للقرآن الكريم قراءة التَّمعن والتبصُّر، والدراسة الكلِّية الجادة؛ فكانت سبباً في اختراق النور الإلهي إلى أعماق قلوبهم، فاهتدوا بهدي الله وآمنوا برسالة نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم .(1/87)
ثمَّ وَلَّى الجنُّ إلى قومهم مسرعين بعد أن أدركوا الصِّلة بين التَّوراة والقرآن بمجرَّد سماعهم لبعض آياتٍ منه، ربَّما لم يكن فيها ذكر لموسى عليه السلام أو لكتابه، إلا أنَّ طبيعتها توحي بأنها تصدر من النَّبع ذاته الَّذي فاض منه كتاب موسى. وشهادة هؤلاء الجن ذات دلالة واضحة على صدق إيمانهم، فقد قالوا لقومهم: ياقومنا! إنا سمعنا كتاباً أنزله الله بعد توراة موسى، يصدِّق ما قبله من كتب الله الَّتي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحق السوي، وإلى رضا الله تعالى.
لقد عرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يُتَوَّجان بغفران الذَّنْب والنَّجاة من العذاب، فاستبشروا وبَشَّروا بالَّذي عرفوه، بعد أن أيقنوا أن نزول هذا الكتاب إلى الأرض إنما هو دعوة من الله لكلِّ من بلغهُ من إنس وجن، وأدركوا أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم داعٍ إلى الله؛ فنادَوْا قومهم: {ياقومنا أجيبوا داعيَ الله وآمنوا به} ليقينهم أنَّ من لا يُجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما دعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته، فليس بمنجاة من عذاب الله حين يشاء عقابه، ولن يجد له من ينصره ويدفع عنه العذاب، بعد أن بلغ الغاية في الضلال والبعد عن الصِّراط السَّوي. فطريق الحقِّ واضح، والوصول إليه ميسور لمن يقصده، وقد أثِمَ مَنْ جانَبَهُ وأعرض عنه، وكذلك يأثم من عرفه وقصَّر في الدلالة عليه.
الفصل الرابع:
خَلْقُ الإنسان
آ ـ نشأة الإنسان:
سورة الحج(22)(1/88)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ إن كنتم في ريبٍ منَ البعثِ فإنَّا خَلقْناكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ من عَلَقةٍ ثمَّ من مُضغةٍ مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخلَّقةٍ لِنُبيِّن لكم ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاءُ إلى أجلٍ مسمَّى ثمَّ نُخْرِجُكُم طِفلاً ثمَّ لِتَبلغوا أشُدَّكم ومنكم من يُتَوفَّى ومنكم مَن يُرَدُّ إلى أَرْذلِ العُمُرِ لكيلا يَعْلَمَ من بعد عِلْمٍ شيئاً وترى الأَرضَ هَامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت ورَبَت وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج(5)}
سورة المؤمنون(23)
وقال أيضاً: {ولقد خَلَقْنا الإنسان من سُلالةٍ من طين(12) ثمَّ جعلناه نُطفةً في قرارٍ مَكِين(13) ثمَّ خَلَقْنا النُطفةَ عَلقةً فخَلَقْنا العَلَقةَ مُضغةً فخَلَقْنا المُضغةَ عِظاماً فكسونا العِظام لحماً ثمَّ أنشأناه خَلْقاً آخرَ فتباركَ الله أَحْسَنُ الخَالقين(14) ثمَّ إنَّكم بعدَ ذلك لميِّتون(15) ثمَّ إنَّكم يومَ القيامة تُبعثون(16)}
/ ومضات:
ـ نتبيَّن من الآيات الكريمة أن الله تعالى خلق آدم من موادَّ متوافرة في التراب، ثمَّ توالت عملية الخلق لهذا النموذج الإنساني بعد أبي البشرية آدم ـ عليه السلام ـ بواسطة الحيوان المنوي، الَّذي يحمل في مركَّباته كلاً من الصفات والمورِّثات الإنسانية، الَّتي تنتقل من الآباء إلى الأبناء ـ وعلى مرِّ الأجيال ـ لحفظ النوع الإنساني وتكاثره.
ـ تمرُّ النطفة في رحم الأمِّ بمراحل تكوينية بالغة في الإعجاز إلى أن يأخذ الجنين صورته الإنسانية الكاملة، وقد صوَّر القرآن الكريم تلك المراحل بدقَّة، استطاعت اكتشافات العلم المعاصر أن تتوصل إليها مؤخَّراً، متخلِّفة عما أثبته القرآن الكريم قروناً متطاولة.(1/89)
ـ كما يمرُّ الجنين في رحم أمِّه بمراحل مختلفة إلى أن يصبح وليداً، فإنه يعيش حياته الثانية كذلك، ويمرُّ فيها بأطوارٍ تتراوح ما بين طفولة بريئة.. وشباب متوقِّد.. وشيخوخة متردِّية عند بعضهم.. وهكذا إلى أن تنتهي دورة الحياة هذه.
ـ يُبعث الإنسان يوم القيامة حيّاً بعد موته، كما تحيا البذور بالماء بعد زرعها، وهذا من إعجاز الله تعالى وقدرته على الإحياء بعد الإماتة، وهو الخالق القدير.
/ في رحاب الآيات:
الإنسان ابن هذه الأرض، من ترابها نشأ، وفوقه عاش ومنه تغذَّى، وكلُّ عنصر في جسمه له نظيره في عناصر أمِّه (الأرض) {والله أنْبَتَكم من الأَرضِ نباتاً} (71 نوح آية 17)، اللهم إلا ذلك السرَّ اللطيف الَّذي أودعه الله ونفخه فيه وهو الروح، قال تعالى: {..وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوْحِي...} (15 الحجر آية 30).. وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي ما تحتويه الأرض من عناصر؛ فهو يتكوَّن من الكربون، والأوكسجين، والهيدروجين، والفوسفور، والكبريت، والآزوت، والكالسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكلور، والمغنزيوم، والحديد، والمنغنيز، والنحاس، واليود، والفلورين، والكوبالت، والزنك، والسلكون، والألمنيوم، وكلُّ هذه العناصر هي العناصر نفسها المكوِّنة للتراب أيضاً، وإن اختلفت نسبها بين الإنسان والتُّراب، ومن إنسان لآخر. كذلك فإن نسبة الماء من جسم الإنسان، تعادل نسبة البحار إلى اليابسة في الكرة الأرضية، وهذا مايؤكد خلق آدم من تراب الأرض. وهكذا فإن التُّراب هو الطَّوْر الأوَّل والإنسان هو الطَّوْر الأخير، وهذه الحقيقة نعرفها من القرآن، ولا نطلب مصداقاً لها من النظريَّات العلمية الَّتي تبحث في نشأة الإنسان، أو نشأة الأحياء.(1/90)
والقرآن يقرِّر هذه الحقيقة ليجعلها محلاً للتدبُّر في صنع الله والتأمُّل في النُّقلة البعيدة بين التراب والإنسان المنحدر في نشأته من ذلك التراب، وبعض النظريَّات العلمية تحاول إثبات سلَّم معيَّن للنُّشوء والارتقاء لوصل حلقات السلسلة بين الحيوان والإنسان، وفي هذا حطٌّ من قدر الإنسان، ولكنَّ القرآن يكرِّم الإنسان ويقرِّر أن فيه نفخة من روح الله هي الَّتي جعلت من سُلالة الطِّين إنساناً، ومنحته خصائص ميَّزته عن غيره من المخلوقات.
لقد جرت سنَّة الله أن يتم تناسل الإنسان وتكاثر أفراده، عن طريق دفقة مائيَّة تخرج من صلب الرَّجُل وتشقُّ طريقها لتثبت في الرَّحم، الغائرة بين عظام الحوض؛ الَّتي تحميها من التأثُّر باهتزازات الجسم، ومن كثيرٍ ممَّا يصيب ظهر الأم وبطنها من كدمات واهتزازات.
أمَّا المسافة الَّتي تعبِّر عن درجة التطوُّر والارتقاء الَّتي تفصل بين عناصر التراب الأولية وبين النُّطفة المؤلَّفة من الخلايا المَنَويَّة الحيَّة، فهي مسافة هائلة تنطوي على السرِّ الأعظم؛ سرِّ الحياة الَّذي لم يعرف البشر عنه حتَّى الآن شيئاً يُذكر، والَّذي لا سبيل لهم إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله، دون الوصول إلى معرفة سرِّه وكنهه.(1/91)
والتعبير القرآني يجعل النُّطفة طَوْراً من أطوار النشأة الإنسانية، وهي حقيقة رائعة تدعو إلى التأمُّل، فالإنسان يُخْتَصَر ويُخْتَزَل بكلِّ عناصره وخصائصه في الحيوان المنوي، ذلك الكائن المتناهي في الصِّغر الَّذي لا يُرى بالعين المجرَّدة، ويشكِّل واحداً من مئات ملايين الحيوانات المنويَّة الموجودة في النطفة. هذا الكائن الَّذي يلتقي بالبويضة فيتحوَّل معها إلى نقطة صغيرة عالقة بجدار الرَّحم تتغذَّى من دم الأم، وتختزن جميع خصائص الإنسان المقبل: سواء في ذلك صفاتُهُ الجسديَّة وسماته الخَلْقيَّة؛ من طول وقصر، وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصِحَّة، أو صفاته النفسية والخُلقية، من ميول ونزعات، وطباع واتجاهات، ومواهب واستعدادات. فما أعظم هذا الإعجاز! وما أعظم أن يكون ذلك كلُّه كامناً في تلك النقطة الضئيلة الَّتي سماها القرآن الكريم (علقة)! تلك النقطة الصغيرة في الحجم، الهائلة في القدرة، عليها يرتكز تكوين هذا الإنسان المعقَّد تركيباً... والمعجز بناءً وتكويناً... الواحد أصلاً ونشأة... والمختلف ألسنة وألواناً، وخصائِصَ وطباعاً، فلا يمكن أن يتطابق شخصان من السُّلالة البشرية على وجه هذه الأرض تطابقاً تامّاً وعلى امتداد العصور والأجيال.(1/92)
وهكذا تستمرُّ الآية الكريمة في التَّعريف بحلقات السِّلسلة التكوينية لخلق الإنسان. فمن التُّراب إلى النُّطفة ومن النُّطفة إلى العَلَقة ومن العَلَقة إلى المُضْغَة، حيث تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحوَّل إلى قطعة من دم غليظ مختلط على هيئة مضغة لا تحمل سمة ولا شكلاً. ثمَّ تتابع المضغة طريقها فتمضي في خط ثابت من النُّمُوِّ لا ينحرف ولا تتوقف حركته المنتظمة حتَّى تجيء مرحلة العظام، فمرحلة كسوة العظام باللحم. وهنا يقف الإنسان مشدوهاً أمام ما كشفه القرآن عن مراحل تكوين الجنين، والَّذي لم يُعرف على وجه الدِّقة إلا مؤخَّراً بعد تقدُّم علم الأجنَّة التشريحي: فخلايا العظام هي غير خلايا اللحم، وقد ثبت أن خلايا العظام تتكون أوَّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض هذه المراحل الَّتي يمُرُّ بها كلُّ جنين، فقد جاء في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمِّه أربعين يوماً نُطفةً، ثمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثمَّ يُرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤْمَر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أو سعيد..»؛ وهذه الكتابة ليست كتابة إجبار وقهر، ولكنَّها كتابة علم بما سيكون عليه هذا المخلوق في المستقبل، فالإنسان مخيَّر في أقواله وأفعاله ومعتقداته وليس مسيَّراً ولا مجبراً. فهذا الإنسان ذو الخصائص المتميزة، والَّذي يشبه جنينه جنين الحيوان في أطواره الجسدية، ومع ذلك فإنه ينشأ خلقاً آخر، ويتحوَّل إلى مخلوق مستعدٍّ للارتقاء (المعرفي والرُّوحي)، بينما يبقى جنين الحيوان في المراتب الدُّنيا، مجرَّداً من خصائص الارتقاء والكمال الَّتي يمتاز بها الإنسان.(1/93)
والآيات الَّتي تحدَّثت عن الخلق توحي بعظمة الخالق وقدرته وكأنه تعالى يقول فيها: لقد خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبيِّن لكم جميل نظامنا، وعظيم حكمتنا، ونبين لكم بهذا التدرُّج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أوَّلاً، ثمَّ من نطفة ثانياً ـ ولا تناسب بين التراب والماء ـ قادر على أن يجعل النطفة علقة ـ وبينهما تباين ظاهر ـ ثمَّ يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاماً، وقادر أيضاً على إعادة ما بدأه، بل هذا أَدْخَلُ في القدرة، وأهون في القياس. وهو الَّذي يُثَبِّت الحمل في أرحام الأمَّهات، ويقرُّ ما يشاء من هذا الحمل حتَّى يتكامل خلقه إلى زمن معين هو وقت الوضع، ثمَّ يخرج هذا الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسِّه، ثمَّ يكتسب القوَّة بإذن الله شيئاً فشيئاً حتَّى يبلغ كمال قوته وعقله. فكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان، تتم بيد القدرة المبدعة الَّتي أودعت الطفلَ الوليد كلَّ خصائص الإنسان، وكلَّ الاستعدادات الكامنة الَّتي تتبدَّى فيه وتتكشَّف في أوانها، كما أودعتِ النقطةَ العالقة بالرَّحم كلَّ خصائص الطفل، وهي من ماء مهين.(1/94)
ثمَّ يخبرنا تعالى عن عظيم حكمته، فقد جعل أعمار الناس متباينة كتباين صفاتهم وسماتهم؛ فمن الناس من يُتوفَّى شابّاً، ومنهم من يطول به العمر؛ فيصبح صفحة مفتوحة للتدبُّر، فبعد العلم والرُّشْد وبعد الوعي والاكتمال، إذا به يرتدُّ عند شيخوخته طفلاً في عواطفه وانفعالاته، وكذلك في ذاكرته الَّتي قد تعينه حيناً وتخونه أحياناً، وقد يرهق ذهنه ويثقل فينفلت من عقال، بعد أن كان يختال بهذا العلم في شبابه ويتطاول، ويظن أن الشباب والقوَّة دائمان، قال تعالى: {الله الَّذي خَلَقَكُم من ضَعْفٍ ثمَّ جعلَ من بعدِ ضَعْفٍ قوَّةً ثمَّ جعلَ من بعد قوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً..} (30 الروم آية 54) لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك أن أُردَّ إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» (رواه النسائي عن سعد رضي الله عنه ).
ب ـ الغاية من خلق الإنسان:
سورة الذَّاريات(51)
قال الله تعالى: {وما خَلَقتُ الجنَّ والإنس إلاَّ لِيَعبُدون(56) ما أُريدُ منهم من رِزقٍ وما أُريدُ أنْ يُطْعِمُون(57) إنَّ الله هو الرَّزَّاقُ ذو القُوَّة المتين(58)}
سورة الإنسان (76)
وقال أيضاً: {هل أتى على الإنسان حِيْنٌ منَ الدَّهر لم يَكن شيئاً مذكوراً(1) إنَّا خَلَقنا الإنسان من نُطفةٍ أمْشَاجٍ نَبتلِيهِ فجعلناه سميعاً بصيراً(2)}
/ ومضات:
ـ لقد شاءت الإرادة الإلهيَّة خَلْقَ الإنسان وإيجاده من العدم، لغاية تتجلَّى في ناحيتين:
1 ـ معرفة الله وعبادته.
2 ـ اختبار الإنسان وامتحانه على وجه الأرض من حيث مدى أهليَّته بِصِفَتِه خليفةً لله عليها.
ـ منح الله عزَّ وجل الإنسان نعمة الإمداد إلى جانب نعمة الإيجاد. فأمدَّه بمفاتيح المعرفة والهداية والعلم كالسمع والبصر، وبكلِّ ما يضمن له الاستمرارية في الحياة إلى ماشاء الله.
/ في رحاب الآيات:(1/95)
لم تكن الغاية من خلق الله تعالى للثَّقَلين (إنساً وجنّاً) لحاجة به إليهم، فهو الغني عنهم جميعاً وهم المحتاجون إليه أبداً. ولمَّا كان الله تعالى لا يخلق شيئاً عبثاً ولا يتركه سدىً، فقد أوضح لنا في كتابه الكريم الغاية من خلق الإنسان فقال: {وما خَلَقتُ الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدونِ} (أي ليعرفوني)؛ ولهذا قال بعضهم: [العبادة هي معرفة الله والإخلاص له في ذلك].
ولتأكيد سموِّ الغاية من هذا الخلق جاء قوله تعالى موضِّحاً: {ما أُريدُ منهم من رزق وما أُريدُ أن يُطعمون} أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضُرٍّ عنِّي. فالله هو الغنيُّ المطلق، والرزَّاق المعطي الَّذي يرزق جميع مخلوقاته ولا ينسى منهم أحداً، ويقوم بما يصلحهم، وهو صاحب القدرة والقوَّة، بل هو شديد القوَّة فكيف يحتاج إليهم وهو المتفضِّل عليهم بقضاء حوائجهم.
ولما كان الأمر كذلك؛ توجَّب على العباد إفراده بالعبادة والقيام بتكاليفها. وقد ورد في الأثر أن الله تعالى يقول: [ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفَّلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيء، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيء، وأنا أَحَبُّ إليك من كلِّ شيء]. وفي هذا تلميح للمؤمن أن يجعل من نيَّته وقصده في جميع أعماله ونشاطاته، وفي سائر شؤون حياته، رضاء الله والتقرُّب إليه.(1/96)
أمَّا قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حِيْنٌ من الدَّهر لم يَكن شيئاً مذكوراً * إنا خَلَقنا الإنسان من نُطفةٍ أمْشَاجٍ نَبْتلِيهِ فجعلناه سميعاً بصيراً}، ففيه تقرير بمرور مرحلة سابقة على وجود الإنسان لم يكن فيها شيئاً يُذكر، ولم يكن آدم وبنوه يتمتَّعون بوجود أو حياة أو استقرار على وجه الأرض. وقد تأكَّدت هذه الحقيقة من قِبَلِ علماء طبقات الأرض الَّذين قالوا: لم يوجَد الإنسان على الأرض إلا بعد خلقها بأحقابٍ طوال. ولو أن الإنسان وُجد بعامل التطور الطبيعي، كما يدعي بعضهم، لاحتاج ذلك ملايين السنين زيادة عن عمر الأرض... لذلك لا يُعقل أن يكون الإنسان وما حوله من كائنات قد تطوروا في فراغ، ثمَّ هبطوا على الأرض بعد اكتمال نموها الجيولوجي.
ثمَّ تأتي الآية ببيان عن خلق الإنسان وتكاثر نوعه ـ بعد خلق آدم ـ بواسطة مادَّة واحدة مختلطة ممتزجة بين ماءيِّ الرجل والمرأة، لتحقِّق الإرادة والغاية من هذا الخلق؛ وهي ابتلاء الإنسان واختباره بالخير والشَّر، بعد أن أمدَّه الله وزوَّده بطاقات الفهم والوعي والإدراك والتخاطب، بواسطة السمع والبصر واللسان، ليتمكَّن من حمل أمانة التكليف الَّتي شرَّفه الله بها، وليستطيع اجتياز الامتحان بالفوز والفلاح. وعلى هذا تكون الدنيا دار الابتلاء، والآخرة دار الجزاء قال تعالى: {..ليَجْزِي الَّذين أساؤوا بما عملوا ويَجْزِي الَّذين أحسنوا بالحُسنى} (53 النجم آية 31).(1/97)
فالإنسان العاقل الموفَّق، هو من يسلك سبيل الهدى بعد أن بيَّنه الله له ورغَّبه فيه، ويجتنب سبيل الضلال الَّذي وضَّحه له وحذَّره منه، ومنحه أوَّلاً وآخراً حرية الاختيار لأيٍّ من السبيلين شاء، قال تعالى: {إنَّا هَدَيْناه السَّبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} (76 الإنسان آية 3). وقد أخرج أبو داود وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {..لِيَبلُوَكم أيُّكُم أحسنُ عملاً..} (67 الملك آية 2) فقلت ما معنى ذلك يارسول الله؟ قال: ليبلوكم أيُّكم أحسن عقلاً. ثمَّ قال: وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله، وأعلمكم بطاعة الله».
فمن خلال هذه الآيات وما سبقها يتبيَّن لنا أن الله تعالى قد خلق الناس وأوجدهم ليمتحنهم ويختبرهم أيُّهم أخلص عبوديَّة له، وأحسن عملاً لنفسه، مع علمه الأزلي بما هو كائن وبما سيكون منهم.
وهنا قد نجد من يقول: لماذا الاختبار، ولماذا الثواب والعقاب والنتيجة معروفة لله تعالى مسبقاً؟ والجواب: أن الاختبار مرتبط بعلم الله الأزلي بما هو كائن وبما سيكون، وإن عقل الإنسان وسلوكه هما نواة الاختبار ومادته، فلا عمل دون قرار وإرادة من الإنسان، ولذلك فلا حساب على من فَقَدَ عقله. ولولا وجود ذلك الاختبار، وظهور نتيجته، لساء العبدَ أن يُحكَم سلفاً دون أن يُبتلى ويُختَبَر.
ولكن حكمة الله تعالى قضت بالامتحان والابتلاء سدّاً لهذه الذَّريعة على العصاة والكافرين، إنه هو العليم الحكيم سبحانه وتعالى عن الظلم علوَّاً كبيراً.(1/98)
وتجدر الإشارة في خاتمة هذا البحث إلى أن العلاقة الَّتي تربط بين الغاية من خلق الإنسان والغاية من خلق غيره، هي علاقة تستوجب التأمُّل والتفكير. فالله عزَّ وجل أنعم على الإنسان بنعمة الإيجاد أوَّلاً، وبتوالي الإمداد ثانياً، فسخَّر له ما في الكون جميعاً منه، وعند نعمة التسخير هذه سنقف وقفة قصيرة لنتعرَّف عظمتها من خلال الآيات التالية:
سورة لقمان(31)
قال الله تعالى: {ألم تَرَوا أنَّ الله سخَّر لكم ما في السَّموات وما في الأَرضِ وأسبغَ عليكم نِعَمهُ ظاهرةً وباطنةً ومن النَّاس من يُجادلُ في الله بغير علمٍ ولا هُدىً ولا كتابٍ مُنير(20)}
/ ومضات:
ـ تتراءى وحدانية الله تعالى وقدرته في آيات خلقه البديع، وتسخير جميع ما في السموات والأرض للإنسان، للاستفادة من ذلك التسخير في تيسير أموره الدنيويَّة ورقيِّها نحو الأفضل.
ـ كثرة النعم الَّتي تحفُّ بالكائنات دليل على وجود المنعم، سواء ما كان منها تحت المشاهدة والعَيَان كالصحَّة والمال، والجاه والجمال... أو ما كان منها من المعقولات والمجرَّدات كالمعرفة والعقل، والعلم والدِّين والإيمان.
ـ آيات الله ودلائل قدرته تهدي إلى الإيمان. وعلى الرغم من وضوحها وكثرتها فلا يزال فريق من الناس يجادلون في توحيد الألوهيَّة، دون برهان عقلي، أو سند نقلي، مستسلمين لما يلقيه الشيطان في رَوْعهم من عناد واستكبار.. قال تعالى: {..وإنَّ الشَّياطين لَيُوحونَ إلى أوليائِهم ليجادِلُوكم..} (6 الأنعام آية 121).
/ في رحاب الآيات:(1/99)
تبدأ الآية الكريمة بعبارة {ألم تَرَوْا} والرؤية هنا بمعنى العلم والاستفهام، أي ألم تعلموا؟ استفهام إنكاريٌّ يتكرَّر استعماله كثيراً في القرآن الكريم، إلا أنَّ تكراره يعطيه مضموناً جديداً، وبما أنه استفهام عن ظواهر الكون فإنه لا يزال يتجدَّد في الحسِّ والنَّفس كلَّما تفكَّر الإنسان فيه، وتدبَّر أسراره الَّتي لا تنفد، وهي تبدو في كلِّ نظرة بلون جديد وإيقاع جديد. والسِّياق يعرضها هنا من زاوية التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون، ممَّا يقطع بأن هذا التَّناسق لا يمكن أن يكون مصادفة، وأنه لا مفرَّ من التسليم بالقدرة الواحدة المدبِّرة الَّتي تنسِّق بين تركيب هذا الكون الهائل، وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير، الَّذي يُسمى بالأرض، والَّذي لا يساوي ذرَّة صغيرة من حجم الكون، والإنسان في هذه الذرَّة الكونية مخلوق صغير، هزيل ضعيف بالقياس إلى حجمها، وإلى ما فيها من قوى وخلائق حيَّة وغير حيَّة. فهو لا يُعدُّ من ناحية حجمه ووزنه وقدراته الماديَّة شيئاً بالمقارنة بها، لكنَّ فضل الله على هذا الإنسان، وتكريمه له على كثير من خلقه عظيمٌ وكبير؛ فقد جعل منه مخلوقاً ذا وزن في نظام الكون وحسابه، وزوَّده بالقدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه، ومن ذخائره وخيراته، وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية في معرض التَّذكير بنعم الله الظَّاهرة والباطنة.
فوجود الإنسان ـ ابتداءً ـ نعمة من الله وفضل، وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه منحة وهِبة، وإرسال الله للرسل وتنزيل كتبه أكبر فضل وأجلُّ نعمة، ووصله بروح الله منَّة وكرم، وكلُّ نفَس يتنفسه، وكلُّ خفقة يخفقها قلبه، وكلُّ منظر يسترعي انتباهه ونظره، وكلُّ صوت تترنم به أذنه، وكلُّ خاطر يهجس في ضميره، وكلُّ فكرة يتدبَّرها عقله، إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله عليه.(1/100)
ونِعَمُ الله على الإنسان منها ما هو ظاهر للعيان يمكن إدراكه مباشرة بعين البصر، كالمال والجاه والجمال، ومنها ما هو خفي يدركه الإنسان إدراكاً غير مباشر وبعين البصيرة كالعلم بالله، وحسن اليقين به، وما يُدفع عنه من الآفات والنّقم. ومن النِّعَم ما يكون في باطن الأرض، وفي أعماق البحار، وعلينا أن نتحرَّى البحث عنها ونعرف خصائصها لننتفع بها. وفي مقابل هذه النِّعَم كافَّة يتوجب على الإنسان أن يؤدِّي دوره في هذه الحياة بالشَّكل المعبِّر عن إنسانيَّته، فيساهم في بناء المجتمع المتعاون المعتصم بحبل الله بكلِّ إخلاص وحبٍّ وتجرُّد.
ومع ذلك، فإن فريقاً من الناس لا يتدبَّرون ما حولهم من الآيات، ولا يؤمنون بالمنعم المتفضِّل؛ فهم يجادلون في الله بغير علم، مجادلة عقيمة على الرغم من البراهين الكونيَّة الواضحة، وهم يتنعَّمون بنعم الله السَّابغة. ويبدو هذا الفريق الَّذي يجادل في حقيقة الله منحرفاً عن الفطرة، لا يستجيب لآيات الكون من حوله، جاحداً النِّعَم، لا يستحيي أن يشكِّك في وجود المنعم، متهرِّباً من تحمُّل المسؤولية الأخلاقية والعلمية، منهمكاً في جدال لا يستند إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يعتمد على أساس، وإنَّما تُسَوِّلُ له نفسه وشيطانه من الضَّلال والتَّخاذل، ما يهوي به ويُهوي معه غيره من ضعاف النُّفوس في الكفر وظلمات الجهل والفقر والهوان.
ج ـ قصَّة الخلق:
سورة البقرة(2)(1/101)
قال الله تعالى: {وإذ قال رَبُّكَ للملائِكَةِ إنِّي جاعلٌ في الأَرضِ خَلِيفَةً قالوا أتَجْعَلُ فيها مَن يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونحن نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لك قال إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ(30) وعَلَّم آدَمَ الأسمَاءَ كُلَّهَا ثمَّ عَرَضَهُم على الملائِكَةِ فقال أنبِئُونِي بأسماءِ هؤلاءِ إن كُنتُم صَادِقِينَ(31) قالوا سُبحَانَكَ لا عِلمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمتَنَا إنَّكَ أنت العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قال ياآدَمُ أنبِئْهُم بأسمائِهِم فلمَّا أنبَأَهُم بأسمائِهِم قال ألم أقُل لكم إنّي أعلَمُ غَيبَ السَّمواتِ والأَرضِ وأعلَمُ ما تُبدُونَ وما كنتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وإذ قُلْنَا للملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبليسَ أَبَى واسْتَكْبَرَ وكان من الكَافِرينَ(34) وقُلْنَا ياآدَمُ اسكُنْ أنتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا منها رَغَداً حيثُ شِئْتُمَا ولا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظَّالِمينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عنها فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فيه وَقُلْنَا اهبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولكم في الأَرضِ مُستَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلى حِينٍ(36) فَتَلقَّى آدَمُ من ربِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إنَّهُ هو التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)}
سورة الأعراف(7)(1/102)
وقال أيضاً: {ولقد خَلَقنَاكُم ثمَّ صَوَّرنَاكُم ثمَّ قُلنَا للملائِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبليسَ لم يكن منَ السَّاجِدِينَ(11) قال ما مَنَعَكَ ألاَّ تَسجُدَ إذ أمَرتُكَ قال أنا خَيرٌ منهُ خَلَقتَنِي مِن نارٍ وخَلَقتَهُ مِن طِينٍ(12) قال فاهبِط منها فما يكون لك أن تَتَكَبَّرَ فيها فاخرج إنَّكَ منَ الصَّاغِرِينَ(13) قال أَنْظِرني إلى يوم يُبعثون(14) قال إنَّك من المُنْظَرين(15) قال فَبِمَا أغوَيتَنِي لأَقعُدَنَّ لهم صِراطكَ المُستَقِيمَ(16) ثمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيدِيِهم ومن خَلفِهِم وعن أيمَانِهِم وعن شَمَائِلِهِم ولا تَجِدُ أكثَرَهُم شَاكِرِينَ(17) قال اخرجْ منها مَذؤُوماً مدحُوراً لَمَن تَبِعَكَ منهم لأملأَنَّ جَهَنَّمَ منكم أجمَعِينَ (18) وياآدَمُ اسكُنْ أنتَ وزَوجُكَ الجَنَّةَ فَكُلاَ من حيثُ شِئتُمَا ولا تَقرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظَّالِمِينَ(19) فَوَسوَسَ لهما الشَّيطَانُ لِيُبدِيَ لهما ما وُورِيَ عنهما من سوْءَاتِهِمَا وقال ما نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عن هذه الشَّجرةِ إلاَّ أن تَكُونَا مَلَكَينِ أو تَكُونَا من الخَالدينَ(20) وقَاسَمَهُمَا إنِّي لكما لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فلمَّا ذَاقَا الشَّجرةَ بَدَت لهما سَوءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخصِفَانِ عليهِمَا من وَرَقِ الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَم أَنهَكُمَا عن تِلكُمَا الشَّجرةِ وأقُل لكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لكما عَدُوٌّ مبِينٌ(22) قالا رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وإِن لم تَغفِر لنا وتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ من الخَاسِرِينَ(23) قال اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ ولكم في الأَرضِ مُستَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلى حينٍ(24) قال فيها تَحيَونَ وفيها تَمُوتُونَ ومنها تُخرَجُونَ(25)}
سورة الحجر(15)(1/103)
وقال أيضاً: {ولقد خَلَقْنا الإنسان من صَلصال مِن حَمَأٍ مَسْنُون(26) والجَانَّ خَلَقْناه من قبلُ من نارِ السَّموم(27) وإذ قال ربُّك للملائِكَةِ إنِّي خَالقٌ بشراً من صَلصالٍ من حَمأٍ مَسنون(28) فإذا سوَّيتُه ونَفختُ فيه من روحي فَقعوا له ساجدين(29) فَسَجَد الملائِكةُ كُلُّهُم أجمعون(30) إلاَّ إبليس أَبَى أن يكون مع السَّاجدين(31) قال ياإبليس ما لك ألاَّ تكون مع السَّاجدين(32) قال لم أكن لأسجدَ لبشرٍ خَلَقْتَهُ من صَلصالٍ من حَمأٍ مَسنون(33) قال فاخرج منها فإنَّك رجيم(34) وإنَّ عليك اللَّعنةَ إلى يومِ الدِّين(35) قال ربِّ فَأَنظِرني إلى يومِ يُبعثون(36) قال فإنَّك من المُنْظَرين(37) إلى يومِ الوَقتِ المَعلوم(38) قال ربِّ بما أغْويتَني لأُزيِّننَّ لهم في الأَرض ولأُغْوينَّهم أجمعين(39) إلاَّ عِبادكَ مِنهم المُخْلَصين(40) قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم(41) إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلاَّ منِ اتَّبعك من الغَاوين(42) وإنَّ جهنَّمَ لَموعِدُهُم أجمعين(43) لها سبْعةُ أبوابٍ لكلِّ بابٍ منهم جُزءٌ مَقسوم(44)}
/ ومضات:
ـ الله تعالى هو الخالق المبدع، وهو الواسع العليم، الحكيم الفعَّال لما يريد. خلق الأرض ثمَّ خلق آدم، ووضع لكلٍّ منهما نواميس وموازين تتواءم وتتلاءم لتصلح حياة آدم على الأرض، ولتصلح الأرض بحياة آدم؛ فيتجلى بذلك إعجاز الله تعالى في خلقه ودقَّة صنعه.
ـ إن في تعليم الله لآدم أسماء الأشياء كلِّها {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} إشارة دقيقة إلى قدرة الإنسان على الوصول إلى درجات عليا من المعرفة والكمال، وإلى أهميَّة العلم وضرورته للحياة الإنسانية حسب المنهج الإلهي.
ـ أعطى الله آدم القدرة على الكلام منذ خلقه وعلَّمه {قال ياآدم أنبِئْهُم}.(1/104)
ـ كرَّم الله الإنسان المؤمن بالله، الممتثل لأمره؛ على سائر مخلوقاته بما فيهم الملائكة والجن، ولذلك أمرهم الله بالسجود لأبي البشريَّة آدم عليه السلام سجود تكريم وتقدير؛ للروح الإلهية المودعة فيه، وللعلم الَّذي أكرمه الله به، فسجدوا إلا إبليس أبى.
ـ دأْبُ الملائكةِ وشغلُهم الشاغل التسبيح لله، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق بذاته القدسيَّة.
ـ عرض الله تعالى علينا في الآيات السابقة صورتين متشابهتين في البداية متعارضتين في النِّهاية، هما صورتا آدم المذنب، وإبليس المتمرِّد. فاشتركت الصورتان في أنَّهما تمثِّلان مخالفة لأمر الله تعالى، إلا أنَّ الأولى انتهت باعتراف آدم بذنبه وطلبه الصَّفح والغفران من الله تعالى، بينما انتهت الثانية بإصرار إبليس على ذنبه وتماديه في غيِّه، ولذا فقد نال آدم العفو والمغفرة من الله الغفور الرحيم، واستحقَّ إبليس الوعيد والعقاب من الله الشديد العقاب، وهكذا فالبشر جميعاً لهم مطلق الاختيار لأحد النموذجين في سلوكهم في هذه الحياة ولاشكَّ أنه سينال الجزاء الَّذي يتناسب مع اختياره.
ـ من تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر عليه وضعه.
ـ إن الله عزَّ وجل يقبل التَّوبة من عباده المنيبين إليه، ويحفُّهم برحمته إن كانوا صادقين في الرجوع إلى بابه، ملتزمين بآداب التوبة بين يديه.
/ في رحاب الآيات:(1/105)
خلق الله تعالى الأرض وأودع فيها ما شاء من أسباب الحياة والنعيم، فأبدع خلقها وأحسنه، وكانت الملائكة ـ بتسبيحها وتقديسها لله تعالى ـ ترى لنفسها مكانة خاصَّة عنده، فلما خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، أخبر الملائكة أنه سيجعل من هذا المخلوق خليفة له في الأرض، فتعجَّبوا من أمر استخلافه عليها بعد أن أدركوا ـ بعلم الله ــ ما سيكون عليه حال ذريَّة آدم من فساد في الأرض وسفك للدِّماء، وعلى الرُّغم من معرفتهم وإدراكهم لطبيعة البشر فقد تعذَّر عليهم إدراك الحكمة من خلقهم؛ وهي أن الله تعالى أراد أن يودع الأرض لدى هذا المخلوق الفريد ويملِّكه زمامها، ويطلق يده فيها، ليَكِل إليه من وراء ذلك مهمَّة إظهار إعجازه تعالى في الخلق والإبداع، وكشف ما اختزنته هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كلِّه ـ بإذن من الله ـ في المهمَّة الجليلة الَّتي أولاها الله له، وهي بناء هذه الأرض وعمارتها، وتحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها، قال تعالى: {وإلى ثمودَ أخاهُم صالحاً قال ياقومِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرُهُ هو أنشأكُم من الأرضِ واستعمركُم فيها فاستغفروهُ ثمَّ توبوا إليه إنَّ ربِّي قريبٌ مُجيب} (11 هود آية 61) (استعمركم فيها: أي كلَّفكم بإعمارها)، و لهذا فقد جاءهم القول الفصل من الله تعالى: {إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون} ليضع حداً لتساؤلاتهم واستفساراتهم.
ويُستشفُّ من سياق هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى خلق الجنَّ من نار ثمَّ خلق آدم من طين، ووهبه من العلوم ما لم يهبه لغيره من خلقه، فعلَّمه أسماء الأشياء والأجناس وغيرها ممَّا شاء، وبذلك شرَّفه ورفعه إلى مكانة سامية. وفي هذا تشريفٌ للعلم والعلماء، ورفعٌ لمكانة العابد العالم على العابد الجاهل.(1/106)
والملائكة ما خُلقوا إلا ليعبدوه ـ عزَّ وجل ـ ويسبِّحوه وينفِّذوا ما يُوْكَلُ إليهم من مهمَّات محدَّدة، بينما خُلق آدم وبنوه ليسلكوا سُبُل العلم الموصلة إلى معرفة الخالق، وعبادته حقَّ العبادة.
وتعرض الآيات صورة الاختبار الَّذي أقام فيه تعالى الحجَّة البيِّنة على ملائكته بسعة علمه، وتفرُّده في تصريف شؤون خلقه، وذلك قبل أن يأمرهم بالسجود لآدم، وفي هذا درس تعليميٌّ لطيف في آداب المناظرة وتصريف الأمور، فالله تعالى مع استغنائه عن إقامة الحُجَّة والدليل لمخلوقاته على شمولية علمه، لم يمنعهما عن ملائكته تكريماً لهم، وتعليماً للناس كي يحسنوا محاكمة الأمور من جهة، ولكي يحلم قويُّهم على ضعيفهم، ويتواضع كبيرهم لصغيرهم ويأخذه بالرِّفق والحكمة من جهة أخرى. فقد عرض الله تعالى على الملائكة أشياء ثمَّ أمرهم أن يخبروه بأسمائها فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، واعترفوا بعجزهم وبأنه لا علم لهم إلا ما علمهم إيِّاه، وعند ذلك أمر عزَّ وجل آدم أن يخبرهم بالأسماء الَّتي يجهلونها، فلما أخبرهم أدركوا السِّر في خلافة آدم وذريَّته.(1/107)
لقد كان ذلك السرُّ يكمن في صلاحيَّة البشر للاشتغال بالماديَّات الَّتي لا تقوم الدنيا إلا بها، وذلك لأن المادَّة جزء من أجزاء تركيبهم الخَلْقي، فقد خُلق آدم عليه السلام من تراب، فاختلف بهذه النشأة هو وذريَّته عن الملائكة، وعلى أساس هذا الاختلاف اختلفت الحكمة في خلق كلٍّ منهما. فبعد أن أقيمت الحُجَّة على الملائكة بسعة علم الله، وعظيم حكمته في وضع علمه حيث يشاء، قال تعالى لهم: {أَلَم أقل لكم إنِّي أَعلمُ غيبَ السَّمواتِ والأَرضِ وأَعلمُ ما تُبْدونَ وما كُنتم تَكْتُمون}، ثمَّ أمرهم وإبليس أن يسجدوا لآدم، سجود تحيَّة وتكريم، واحترام وتقدير، للقدرة الإلهية المودَعَة فيه، لا سجود عبادة وتقديس وتعظيم، فامتثلوا للأمر جميعاً، عدا إبليس ـ وهذا الاسم معناه الآيس البعيد من رحمة الله ــ الَّذي عصى أمره تعالى بالسجود لآدم حسداً واستكباراً، واعتدَّ بأصل تكوينه وهو النار، فقال لربِّه متبجحاً ومُغْتَرّاً: {أنا خيرٌ منه خَلَقْتني من نارٍ وخَلَقته من طين} فباء بغضب من الله لارتكابه خطيئتين من أكبر الخطايا، أولاهما: عصيان أمر الله تعالى والإصرار على هذا الذنب، والثانية: التكبُّر والاعتداد بمادة خلقه مقارنة بمادة خلق آدم، جاهلاً بأن مكوِّنات التراب أفضل من تكوين النار، وأنَّ عناصر التراب لا ينجم عنها إلا الخير، وأنَّ في النار قوى مهلكة ومدمِّرة. وأصبح بعصيانه وإصراره مخلوقاً لا يستطيع العمل إلا وفق اتِّجاه واحد وهو الشرُّ المطلق.(1/108)
وبهاتين الخطيئتين استحقَّ إبليس العقوبة العادلة من الله تعالى، وهي الهبوط من الجنة الَّتي كان فيها، وخروجه من دائرة الرحمة الإلهيَّة. وعند ذلك طلب من ربِّه أن يمهله إلى يوم القيامة ليثأر من آدم وذريَّته بإغوائهم، فأجابه تعالى إلى طلبه: {قال فإنَّك من المُنظرين * إلى يومِ الوقتِ المعلوم} فلما أخذ الوعد من الله بذلك، واستوثق من الإمهال أخذ يتمادى في العناد والتمرُّد على خالقه، وأقسم بعزَّة الله ليفسدنَّ في الأرض عن طريق إضلال ذريَّة آدم وتزيين المعصية لهم، وتلبيس الحقِّ عليهم بالباطل، حتَّى يصبح أكثرهم عصاة كافرين. فأعلمه الله بأنه لا سلطان له على عباده المخلَصين المصطَفَين، من رفعوا شعار التَّوحيد، وأخلصوا الإيمان والعمل لله، فهم يستظلُّون في ظلاله، يعصمهم ويكلؤهم برعايته في الدنيا، ويدخلهم جنته في الآخرة. أمَّا من يتَّبع الشيطان من عباده فقد أقسم الله ليعذِّبنَّه وإيَّاهم فقال تعالى: {لأَمْلأنَّ جهنَّمَ منك وممَّن تَبعك منهم أجمعين} (38 ص آية 85) وذلك عقاباً لهم لأنهم أعمَوْا بصائرهم عن الحقيقة بعد أن تبدَّت لهم واضحة جليَّة، فضَلُّوا وأضلُّوا.(1/109)
ويُطوى هذا المشهد وإبليس يتحرَّق غيظاً من آدم، متمنِّياً غوايته وسلبه النِّعَم الَّتي منحه الله إيَّاها، ليُعْرَض مشهد آخر هو مشهد آدم وقد خلق الله تعالى له زوجة تسكن إليها نفسه، وتطيب بها حياته، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة...} (30 الروم آية 21)، ويأمرهما بالدخول إلى الجنة حيث النعيم الخالد، ويبيح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة ومن خيراتها ما شاءا، إلا شجرة واحدة حرَّمها عليهما لغاية يعلمها الله عزَّ وجل. وهذا أوَّل تكليف إلهي لآدم وزوجه، فيه أمر بعدم الاقتراب من شجرة معيَّنة، سبقه توضيح مدى حقد إبليس عليهما، وعداوته لهما.. وفيه إنذار لآدم بأن التجاوب مع إبليس لن ينجم عنه إلا الشقاء، قال تعالى: {فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عدوٌّ لكَ ولِزَوْجِكَ فلا يُخْرِجَنَّكُما منَ الجنَّة فتشْقَى} (20 طه آية 117) وبطبيعة الحال، فقد اغتاظ إبليس وهو يرى آدم يرفل في نعيم الجنة المقيم، وراحت نيران العهد الَّذي قطعه على نفسه بإغواء آدم وذريَّته تتأجَّج في صدره، ما دامت الحياة قائمة.(1/110)
ويأكل آدم وزوجه من الشجرة المحظورة مدفوْعَيْن بوسوسة الشيطان، ومُنْخَدِعَين بمسوح التديُّن الَّذي ظهر به أمامهما ــ وهذه أخطر نقطة ضعف يمكن أن يُستغلَّ بها الأناس الطيبون ـ حيث صار يقسم لهما الأيمان على صدقه، وإرادة الخير لهما، {وقاسمهما إني لكما من الناصحين}، وانساب إليهما من نقطة ضعفهما، بعد أن عرف هذه النقطة، وهي الانقياد لغريزتي حبِّ التملُّك والبقاء، وهما من أقوى النَّزَعات الَّتي تتملَّك الإنسان وأهمِّها، فقال له: {..ياآدمُ هل أَدُلُّك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلى} (20 طه آية 120) فاستجاب آدم وزوجه لإغوائه وأكلا من الشجرة ناسيين، وما كادا يفعلان، حتَّى انكشف ما خفي عليهما من سوء عاقبة مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، وأدركا فداحة خطئهما، عندها تدخَّلت الذَّات الإلهيَّة معاتبة مؤنِّبة؛ بأَنْ كنتُ قد نهيتكما عن الأكل من هذه الشجرة، وبيَّنت لكما أن الشيطان عدوٌّ لكما، فلِمَ المعصية؟.
على أن سرعة الانزلاق نحو المعصية عند آدم، قابلتها سرعة الرُّجوع والإنابة إلى الله، وهذا هو الفرق بين آدم وإبليس، فالأوَّل أحاط بخطيئته ورجع عنها، والثاني أحاطت به خطيئته بإصراره عليها. وهكذا ندم آدم على مخالفته، وأعلن وزوجَه التَّوبة والإنابة كما علَّمهما سبحانه فقالا: {ربَّنا ظَلمْنَا أنفُسَنا وإن لم تغفر لنا وتَرحَمنا لَنَكوننَّ من الخاسرين} فقبل تعالى توبتهما واجتباهما. أمَّا إبليس فقد أصرَّ على ذنبه، وركبه الغرور، فأمهله تعالى إلى يوم الدِّين، ومكَّنه من أن يرى بني آدم من حيث لا يرونه، وأن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ولكنَّه حصَّنهم في مواجهته بالهداية والإيمان، وأعدَّ لإبليس في الآخرة جحيماً دائماً وعذاباً مقيماً.(1/111)
وأمَّا ما كان من أمر آدم عليه السلام فإن الله بعد أن تاب عليه، أمره هو وزوجه وإبليس أن يهبطوا إلى الأرض، وحذَّر آدم من مهادنة إبليس أو الرُّكون إليه، وبيَّن له أن الأرض هي مسكنه في الدُّنيا إلى أن ينقضي أجله فيها. وبذلك أَذِنَ تعالى ببدء المعركة بين الخير والشرِّ إلى آخر الزمان، ثمَّ يكون يوم الحساب وتكون العاقبة الحسنى للمتَّقين الأخيار.
وختاماً لهذا الفصل أرى أن نأخذ العبرة من هذه الآيات الكريمة، دونما حاجةٍ إلى الدخول في جدلٍ عقيمٍ حول حقيقة الجنَّة الَّتي عناها الله تعالى ومكانها؛ أفي الأرض هي أم في السماء، وعلينا أن نبتعد عن المخاصمة الفلسفية لئلا نهبط في متاهات تُفَرِّق القلوب وتُشتت العقول؛ والأهم من ذلك كلِّه أن نَصْدُقَ في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه؛ متجملين بأدب الحوار الإيجابي المثمر، وأن ندرك أن كلَّ فرد منَّا مسؤول شخصياً عن إدارة الخلافة الربَّانية على هذه الأرض، وأن واجبه الأهم أن يتعلَّم {..وعَلَّمَ آدمَ الأسْمَاءَ كُلَّها..} وأن يقوم بالتالي بمهمة تعليم الآخرين {قالَ يا آدمُ أَنْبِئْهُم بأَسمَائِهم ..}، وأن يكون النموذج الصادق في تطبيق ما تعلَّم، وأن يكون النموذج الأصدق في حسن تعليمه للآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة.
ومن الإشارات اللطيفة التي يحسن ذكرها في ختام هذا البحث؛ أن الله تعالى عندما حذَّر آدم من التجاوب مع إبليس ذكر له أن نتيجة ذلك سوف تكون خروجه مع زوجه من الجنَّة، وشقاؤه بذلك؛ قال تعالى: {... فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنَّةِ فَتَشَقَى} ولم يقل تعالى: (فتشقيا)، وهذا يعني أن الرجل سيصبح هو المكلَّف في هذه الدنيا بالتعب والمشقَّة، تلبية لحاجات المرأة، وصوناً لها وتأميناً لرفاهيتها.
-------------------(1/112)
الباب الثالث -الهداية في منظور الإسلام
الفصل الأوَّل:
نور الهداية
إن الله تعالى هو الهادي الَّذي يهدي من اتَّبع تعاليمه سُبل النُّور والسلام، ويتعهَّد المؤمنين بولايته وحبِّه، ويخرجهم من ظلمات الجهل والتخلُّف إلى ضياء العلم والتقدُّم.
فالجهل ظلام يغشى العقل، ويلقي به فريسة سهلة بين براثن الأفكار والمفاهيم الفاسدة المغلَّفة بالمظاهر البرَّاقة، ممَّا يجعل المرء يغرق أكثر فأكثر في مستنقع الأوهام والخرافات الضالَّة والمُضِلَّة، ويركن إلى ما ورثه عن آبائه وأجداده من الجهالات البالية دون أن يختبر حقيقتها ويتأكَّد من مدى صحَّتها ومصداقيَّتها. وقد شُبِّهت هذه الجهالات في القرآن الكريم بالظُّلمات، قال تعالى: {الله ولِيُّ الَّذين آمَنُوا يُخرِجُهُم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والَّذين كَفَرُوا أولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم منَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أولَئِك أصحَابُ النَّارِ هم فيها خَالِدُونَ} (2 البقرة آية 257) فالنُّور الحقيقي هو ما يعتمل في قلب الإنسان وعقله وضميره، ويتجلَّى بالقيم والأخلاق الَّتي تُرضي الله عزَّ وجل، فإن غاب عنه هذا النور الجليل فهو في حكم الميت. والقلب العاجز عن تلقِّي النور الإلهي والتَّفاعل معه هو قلب فاقد للحياة الربَّانية؛ لأن ذروة سعيه هي المتع الحسيَّة، وأقصى طموحه هو النِّعَم المادية، وبذلك يقصِّر عن التطلُّع إلى نعيم الحضرة الإلهيَّة. وكذلك العقل الجامد، هو ميِّت لأن أُفُقَهُ محدود مقيَّد بالمادِّيات الَّتي تدركها حواسُّه في هذه الأرض، ولا مُرتقى له إلى عالم الغيب ورحاب الإيمان. أمَّا الضمير فيصبح ميِّتاً عندما يكون ولاء صاحبه موزَّعاً بين متعلَّقات شتَّى شغلته عن الإله الحقيقي، فيبقى منجذباً إليها لإشباع نزواته الطائشة وغرائزه الرَّخيصة. ولاشكَّ في أن أيَّ حضارة يقوم ببنائها إنسان بهذه المواصفات، ويتحرك ضمن هذا الإطار، لهي حضارة عقيمة، ميتة، لا حُبَّ فيها ولا عطاء، إنها حضارة زخارف وجدران لا حضارة مضمون(1/113)
ووجدان، إنها تبهر الناظر، ولكنَّها عاجزة عن منح النور للعقل، والحياة للقلب، والسعادة للمجتمع.
وبهذا تظهر ميزة الحضارة الإيمانية الشاملة، لانطلاقها من معرفة الإنسان لخالقه، وتطبيقه لتعاليمه بجدٍّ وثبات. وبهذه الحضارة يلتقي العقل والعلم والإيمان لتحقيق خير الإنسانيَّة ورفاهيَّتها وتقدُّمها في كلِّ أصقاع الأرض وأقطابها. عندها يستظلُّ الجميع برحمة الله ونوره، ذلك النور الَّذي ذكرته الآية الكريمة والمتمثِّل في هدي الله عزَّ وجل، وشرعه الَّذي جاءت به الرسل ليجعل من الإنسان أخاً للإنسان يحبُّ له ما يحبُّ لنفسه وليكون ذلك الشرع عوناً له على كلِّ ما يكفل له الخير والسعادة.
أمَّا الطَّاغوت الَّذي ورد ذكره في الآية الكريمة فهو الطُّغيان وهو كلُّ ما يُطغي الإنسان ويُضلُّه عن طريق الحقِّ والهدى؛ فيجعله في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، كظلمة الهوى والشَّهوة، والرِّياء والنِّفاق وغير ذلك ممَّا تكتسبه النفس الأمَّارة بالسُّوء ببعدها عن طريق الله. وهذه الظلمات تؤدِّي بأصحابها إلى المهالك وتفقدهم السلطة على أنفسهم، وتدفعهم إلى تولية زمامها لتلك المعبودات الباطلة الَّتي كانت مقبرةً لعقولهم، ليكونوا من أصحاب النار خالدين فيها أبداً.(1/114)
والإنسان مخلوق ضعيف محدود المدارك والإمكانات، لذلك فهو عاجز عن أن يعرف الله تعالى بمفرده وبمعزل عن توجيهه ـ سبحانه ـ وإرشاده له، فهو يوقن بالفطرة أن للكون إلهاً وخالقاً ولكنَّه لا يعرف صفات هذا الإله. ولذلك فقد توجَّه تارة إلى عبادة النجوم، وتارة أخرى إلى عبادة القمر، ثمَّ الشمس، ثمَّ اتَّبَع كلَّ ما هو غامض يوحي بالقوَّة، ولا يستطيع أن يحلَّ رموزه وأسراره فجعله إلهاً؛ فعبد النار والطبيعة وأشياء أخرى. ولكنَّه في فترة من الزَّمن تقزَّم بفعله وانحدر بفكره فاتَّخذ من الحجارة أصناماً وراح يعبدها، جاهلاً أو متجاهلاً كلَّ الدلائل والإشارات الَّتي تهتزُّ بعنف من حوله وبداخله، وتدلُّ بقوَّة على وجود الخالق البارئ المصوِّر. فكيف حدثت تلك الحقبة التاريخية، الَّتي تكرر فيها سقوط الإنسان؛ من عالم الحضرة الإلهيَّة القدسي إلى بؤرة الضلال ومستنقع الجهل؟ وهل يمكن أن يحدث هذا التحوُّل في لحظة فينام المرء وهو على عبادة الله الواحد الأحد، ثمَّ يستيقظ وهو على أعتاب صنم، لاهثاً عند قدميه، طالباً منه العون والمدد؟.
لقد تهاوى كثير من الناس عبر الأزمان على أقدام أصنام شهواتهم وتعلُّقاتهم البهيميَّة، فانفلتوا من عقال وانحدروا في وبال، وانحرفوا عن الحقيقة الَّتي نزلت إلى الأرض مع نزول آدم عليه السلام، فكانت الرَّحمة الإلهيَّة تتدخَّل بين حين وآخر، وترسل إليهم الأنبياء والرسل لتذكِّرهم بوحدانيَّة الله، ليعودوا إلى وعيهم واتِّزانهم، فيحفظوا لأنفسهم كرامتها، ولقلوبهم صفاءها وهدايتها.
من أجل هذا كلِّه أَوْلى القرآن الكريم موضوع الهداية والسُّبُل المؤدِّية إليها اهتماماً كبيراً، يمكننا أن نقف على جزء منه من خلال تدبُّرنا للنُّصوص القرآنيَّة الآتية:
سورة الأنفال(8)(1/115)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا استَجيبوا لله وللرَّسول إذا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المَرءِ وقلبِه وأنَّه إليه تُحشرون(24)}
ومضات:
ـ لقد جعل الله تعالى في شريعته أماناً للإنسان، وفي تعاليمه نظاماً ومنهاجاً؛ وما عليه إلا أن يبادر بالخطوة الأولى في طريق الهداية بأن يستجيب لما هيَّأه الله تعالى له، وينفِّذ تعاليم رسله بدقَّة وعناية ليحيا حياة طيِّبة هنيئة في هذه الدُّنيا العاجله ومن بعدها الآخرة الآجلة، قال تعالى: {..للَّذين أَحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ ولَدار الآخرة خيرٌ ولَنِعم دارُ المتَّقين} (16النحل آية30).
ـ مخالفة هذه التعاليم والبُنى السليمة، تحيد بالقلب عن مساره الإيماني، وتدخله في متاهات الشُّكوك والمعاناة، ممَّا يحجبه عن الشعور بالتجلِّيات والأنوار الإلهيَّة، ثمَّ يأفل نجمه ويتردَّى في مسارب الشيطان ويندرج في أتباعه؛ وبذا يصبح الجسد حيّاً دون حياة حقيقية بالله.
في رحاب الآيات:(1/116)
ليس الإسلام عقيدة تعبُّديَّة فحسب بالمفهوم الضيِّق للعبادة، بل هو هداية إلى منهج واقعي، ينظِّم الجانب الروحي كما ينظِّم الجانب المادِّي، لأن الإنسان مكوَّن من جسد وروح، فلا يدع أحدهما ينمو ويترعرع على حساب الآخر. فهو دعوة إلى الحياة الحرَّة الكريمة، بكلِّ صورها وأشكالها، ضمن إطار من الحقِّ والخير. وهو دعوة إلى تعاليم تُحْيِي القلوب والعقول، وتنقذها من أوهام الجهل والخرافة، وتحرِّرها من سطوة العبوديَّة لغير الله. إنَّه دعوة للمؤمنين للاعتزاز بعقيدتهم والثِّقة بربِّهم، والانطلاق في الأرض لتحرير الإنسان كلِّ الإنسان وإخراجه من عبودية الذَّات واللَّذات، إلى عبوديَّة الله وحده. وهو دعوة إلى منهج فكري وعلمي، يطلقهم من كلِّ قيد سوى ضوابط الشرع، الَّتي وضعها الخالق العليم بما خلق؛ من أجل صيانة الطَّاقة الفاعلة من التَّبديد وتوجيهها إلى النَّشاط الإيجابي البنَّاء. وإن الباحث يجد أن شرع الله هو الأمثل لتهيئة الغد الأفضل، إذ أن في أحكامه حوافزَ دافعة إلى كلِّ مُسْعِد؛ وضوابط مانعة من التردِّي في أسباب التعاسة والشقاء.
وهذه الدَّعوة مفتوحة وموجَّهة إلى كلِّ الَّذين يؤمنون بأنَّ لهذا الكون خالقاً، لكي يَحْيَوْا الحياة الَّتي ارتضاها لهم، بمحض إرادتهم واختيارهم، تاركاً لهم الحريَّة لينالوا الأجر، وليرتفعوا إلى مستوى الأمانة الَّتي أناطها بهم. فهو الخالق لهم، والمالك لأرواحهم وقلوبهم، بل إنه يملك أن يَحُولَ بين المرء وقلبه، ويحجبه عن هدايته إذا مال بهذا القلب إلى غيره، وتوجَّه إلى سواه.(1/117)
فالقلب في قبضة خالقه، والمرء لا يملك من أمر قلبه الَّذي بين جنبيه شيئاً. وهذا الأمر يستوجب الصِّلة الدائمة بالله سبحانه واليقظة المستمرَّة لخلجات القلب وخفقاته، والحذر من كلِّ هاجس أو ميل يعترضه، أو رغبة تتعدَّى الحلال إلى الحرام؛ مخافة أن يكون انزلاقاً في مهاوي الهلاك الأبدي. عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يامقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلنا: يارسول الله آمنَّا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء» (رواه مسلم والترمذي).
فكيف بالإنسان الضَّعيف غير المعصوم؟! فالقلوب بين يدي الرحمن ونحن إليه محشورون، ولا مفرَّ لنا منه ـ لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ إلا إليه، ومع ذلك فإنه تعالى يدعونا لأن نسعى إلى نور هدايته، استجابة الحرِّ المأجور، لا استجابة العبد المأمور.
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {يريدون أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم ويَأبى الله إلاَّ أن يُتِمَّ نورَهُ ولو كره الكافرون(32) هو الَّذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون(33)}
ومضات:
ـ نور الله باقٍ ما بقيت الحياة، يشعُّ منيراً قلوب المؤمنين، وهادياً إلى سواء السبيل، ولن تنجح محاولات المغرضين في إخماده.
ـ لقد تتابع الرُّسل والأنبياء من أجل نشر نور الهداية والعلم والمعرفة، وحفظ الله تعالى هذا النُّور بحفظ القرآن الكريم بعيداً عن التَّحريف والتَّشويه، وبه حفظ سائر الرِّسالات الَّتي سبقته، فصانها بين طيَّاته صحيحة مكرَّمة، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقاً لِمَا بين يديه من الكتابِ ومُهَيْمناً عليه..} (5 المائدة آية 48).
في رحاب الآيات:
هل يمكن لإنسان أن يحجب نور الشمس بكفَّيْه؟! أو لكثيب من الرمال أن يُطْفِئ لهيب الشمس وضياءها؟!.(1/118)
كم هو مؤسف أن يتطاول الصغير على الكبير، والضعيف على القوي، وأن يُدْبِرَ الإنسان العاجز؛ عن أمر ربِّه القاهر مشيحاً عنه، معرضاً عن دعوته، فالله تعالى يناديه وهو يضع أصابعه في أذنيه مستعلياً، ويكشف له الحقيقة فيتعامى مستكبراً، يخاطب أشرف ما فيه، عقله وقلبه ووجدانه، فيُوصِد الأبواب ليخمد صوت الحقِّ الَّذي ينبعث من أعماقه!.
أيُّ عقوق وجحود؛ هذا الَّذي ينزلق الإنسان إليه تجاه خالقه؟! أوَ يظنُّ أنه خُلق عبثاً، ووجِد في الحياة ليلهو ويمرح فحسب؟ أم يظنُّ أن ضوابط الله هي قيود تجرح اعتزازه بالحرية والاستقلاليَّة؟ أيحسب أن كوابح الغريزة والهوى، الَّتي صاغتها الحكمة الإلهية، سلاسل تشدُّه إلى الأرض وتمنعه من الانطلاق كما يحلو له؟.
إن الضوابط الإلهية، والقوانين السماوية تنظيم لحياة الإنسان وتنسيق لمشاعره، وتهذيب لسلوكه، وتحريك للسرِّ الإلهي المُوْدَع بين جنبيه ليعلو فوق النَّوازع والشهوات، فتسمو الروح لتهيمن على كيانه، فتصبح مصدر انطلاقه نحو مرضاة ربِّه، والعروج درجات في معالي الكمال.
وبشيء من الرويَّة والصبر والتأمُّل، وبشيء من ومضات الصدق النفسي، يتوصَّل الإنسان إلى هذه الحقيقة، الَّتي قد يقضي عمره باحثاً عنها، وهي منه قاب قوسين أو أدنى! وإذا ما شاء أن يدركها فما عليه إلا أن يشرع بفتح أبواب عقله وقلبه لاستقبال تعاليم الله، والانقياد لها كما هي؛ لأنها من لَدُن مشرِّع حكيم يعلم مصلحته ويعلم سرَّ سعادته.
وبشيء من التواضع لعظمة الله، والرضا بما شرعه، سيُفتح أمامه باب واسع من المعرفة الَّتي تتولَّد عنها السَّكينةُ والطمأنينة، فمن تواضع لله رفعه، ومن رضي بما أمر به ألبسه ثوب الرضا الَّذي تكمن السعادة المنشودة بين طيَّاته.(1/119)
والسؤال الَّذي يطرح نفسه: لو أن غابات الأرض كلَّها شبَّ فيها الحريق، وعلا اللهيب، واشتدَّ السعير، فهل يتمكَّن أهل الأرض جميعاً أن يطفئوا هذا الأَتُّون بماءٍ؛ ملؤوا به أفواههم، ثمَّ أخذوا يرشُّونَهُ على هذه النار؟ إذا كان الجواب لا، فهل بوسع المغرضين الجاحدين أن يطفئوا نوراً أراد الله له أن يسطع، ويشعَّ على الثقلين، هدايةً ورشداً، إنه نور الله تعالى، إنه كتابه الخالد، القرآن الكريم، الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد؛ الَّذي ارتضاه الله لعباده وتولَّى حفظه بوعده: {إنَّا نحن نَزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لَحَافظون} (15 الحجر آية 9). وإذا كان الأمر كذلك فأنَّى لهؤلاء ـ ولو كانت معهم قوى المخلوقات كلِّها ـ أن يمنعوا أمراً أذِنَ الله بانتشاره وبقائه؟ لقد حاولوا ذلك في كلِّ مناسبة، ويأبى الله إلا إتمام نوره وإفشال محاولاتهم وإحباط مؤامراتهم. ومع ذلك فإنهم لم يلقوا أسلحتهم ويستسلموا، بل راحوا يشهرون سلاحاً تلو الآخر، كالفتنة والدَّسِّ والوقيعة لمحاولة إطفاء هذا النور الإلهي ومنع انتشاره والَّذي تكمن فيه سعادة الإنسان وأمنه. إن هؤلاء: إمَّا ملحدون يريدون اقتلاع الإيمان من جذوره، أو مشركون يريدون السَطْوَ على قلوب المؤمنين ليشوِّهوا نور الإيمان فيها، ويزرعوا بدلاً عنه ما ابتدعوا من خرافات وأوهام، أو انتهازيون يدافعون عن مصالحهم، فهم لا يتوانون عن بذل الغالي والنفيس، في سبيل كسب قلوب الناس، وخطب ودِّهم بباطل يلبس لَبُوس الحقِّ، من أجل الحفاظ على مكاسبهم. وقد اتَّخذت محاولاتهم مظاهر كثيرة عبر مسيرة التاريخ، واتخذت طابعاً دمويّاً في كثير من الأحيان، فرافقها اضطهاد المؤمنين وتعذيبهم لكنَّ الغلبة في نهاية المطاف هي دائماً للحقِّ وأنصاره.(1/120)
وما كانت وسوسة إبليس لآدم لإخراجه من الجنَّة، إلا ليحرمه من النعمة الكبرى، وهي الهداية لنور الله، وما أكثر ما يتكَرَّر سقوط الإنسان فيُحجب عنه النور الإلهي الساطع أبداً، إمَّا لجهله أو لتعنُّته، وفي كلتا الحالتين فإن القلوب هي الَّتي تعمى فلا تدرك ذاك النور القدسي، وليس النور هو الَّذي يتراجع أو يندحر. فما يكون للنور الإلهي أن تنطفئ شعلته، أو تخمد جذوته، لأنه نور الله الأبدي السرمدي الباقي على الدَّوام، وأمَّا المبطِلُون فإلى زوال، يندثرون وتُطوى أباطيلهم ويغيب فِسْقُهم، ويبقى الله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وما أُرْسِلَتِ الرسل جميعاً إلا لتُوقِد شعلة الإيمان في القلوب، ولتأخذ بيد الإنسان بحنان، لتهديه إلى النور الإلهي، الَّذي لا يتسرَّب إلى قلبٍ إلا ويفارقه الشقاء إلى الأبد، ولتجسِّد دستور الله في الأرض بمعناه الواسع الشامل وهو الاستسلام لحضرة الله، ذلك الدستور الَّذي دعا إليه جميع الرسل، بدءاً من آدم وإبراهيم، ومروراً بموسى وعيسى، وانتهاءً بمحمَّد صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّينِ ما وصَّى به نوحاً والَّذي أَوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيمَ وموسى وعيسى أن أَقِيموا الدِّينَ ولا تتفرَّقوا فيه..} (42 الشورى آية 13). إنه دستور يقوم على الصدق والعدل، والهداية والإنابة في أصل كلِّ رسالة سماوية، وبِغَضِّ النظر عما طرأ على ذلك الأصل من تحريف وتبديل. ولهذا كان من مهامِّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد للرسالات السابقة ضياءها ونقاءها، وأن يزيل عنها الدخائل الَّتي شوَّهتها وحرَّفتها عن المسار الَّذي اختاره الله لعباده، ويتمِّم التشريعات الَّتي تكفل سعادة الإنسان وأمنه واستقراره، وعُلُوَّ شأنه في دنياه وآخرته.
سورة الأنعام(6)(1/121)
قال الله تعالى: {أَوَ مَنْ كان مَيْتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ ليس بخارجٍ منها كذلك زُيِّنَ للكافرين ما كانوا يَعْمَلُون(122)}
ومضات:
ـ إن إنكار وجود الله والبعد عنه، هو انفصال عن القوَّة الفاعلة المؤثِّرة في الوجود كلِّه، وهو حجابٌ للروح، وختمٌ على الجوارح والمشاعر، وهذا هو الموت الحقيقي وفق المفهوم البعيد عن ظاهرة موت الجسد؛ أمَّا الإيمانُ بالله، فهو على النقيض من ذلك، إنَّه تفتُّح ورؤية، ويقظة وحياة، ونور وهدى.
ـ الكفر هو طفرة ضالَّة لا وشائج لها ولا ركائز توصلها إلى الحقِّ والإيمان، لذا فهو موت الإحساس بالله. ولا يخفى أن الكافر هو مرتع الكفر، أمَّا المؤمن ـ وهو المتصل بالله المعتصم بحبله المتين ــ فإنه يحيا بالله، ويفيض بالحبِّ والخير على قلوب الخلائق فيحييها معه؛ لذلك فهو دوحة الإيمان.
ـ لكلٍّ من الهداية والضلال، علامات فيزيولوجية، تتمثَّل في انشراح الصدر للهداية، وانقباضه للضلال. وهي مؤشرات ربَّانية زُوِّدَ الإنسان بها، ليدرك ردود الفعل الَّتي تدور في أعماقه، وليفسِّرها على ضوء تعاليم الله وإرشاداته.
في رحاب الآيات:
الموت نوعان: موت ظاهري وآخر حقيقي. أمَّا الموت الظاهري: فهو الموت الَّذي يعرفه عامَّة الناس، وهو انطفاء شعلة الحياة في الجسد، وتحوُّله إلى كتلة هامدة آيلة إلى التفسُّخ والاندثار. وأمَّا الموت الحقيقي: فهو انقطاع المدد النوراني الإلهي، وانحطاط أخلاقي في الإنسان، مع استمراريَّة حياة الجسد، وهذا هو الموت بمفهوم الشرائع السماوية، ذلك لأنه تبلُّد للإحساس والمشاعر الإيمانية، وانقطاع للصلة القدسية بين العبد والخالق المعبود، ينتج عنه قيام حجاب بينه وبين الوجود الروحي، يؤدِّي إلى جفاف قلبه، ونضوب ماء الحياة الحقيقية في أعماقه.(1/122)
وهنا تشتدُّ الحاجة إلى مهمَّة الأنبياء والمرشدين، والَّتي تتمثَّل في إيقاد شعلة الحياة في القلوب، ليستيقظ حسُّها الإنساني وشعورها بالله، وبالتالي لتقود النفس ـ بجملة أهوائها ورغباتها ـ في طريق متوازنة معتدلة وفق تعاليم الشريعة المطهَّرة. وسبيلهم إلى ذلك هو تلقيح أرواح المؤمنين بنور الإيمان الحقيقي المثمر، القادر على الإنتاج والعطاء.
فالإيمان هو الَّذي أحيا نفوس المؤمنين الأوائل، وطهَّرها من الحسد والحقد، والكِبْر والعُجْب، وزكَّاها من الفسق والظلم، والقسوة والأنانية. وهو الَّذي حفز هممهم، فطلبوا معالي الأمور، ووطَّنوا أنفسهم على العمل الدؤوب لهداية الأمم وتحريرها من الخرافات، وتطهير الأرض من الكفر والفساد. وهو الَّذي مكَّن المسلمين الأوَّلين من الظفر بالعلم والعمل والابتكار والإبداع، وإقامة الحضارة الَّتي شعَّ نورها في الآفاق، وعمَّ خيرها مشارق الأرض ومغاربها، في مدَّة زمنيَّة قياسية لم تتجاوز القرن. قال أحد المؤرخين الأوربيين: [إن مَلَكة الإبداع لا يتمُّ تكوينها لأمَّة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال، أوَّلها: جيل التقليد، وثانيها: جيل الخضرمة، وثالثها: جيل الاستقلال والاختصاص، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الإبداع في الجيل الأوَّل الَّذي بدؤوا فيه بمزاولتها].(1/123)
وإذا كان للإيمان هذه الثمار الطيِّبة في حياة الإنسان وسلوكه، فإن الكفر على النَّقيض من ذلك، إذ هو موت الروح والمشاعر، والضياع المدمِّر لشخصية الإنسان، والمبطل للصالح والخيِّر من أعماله، والقاضي على خصائصه بصفته خليفةً لله في أرضه. إذ أن الكافر بالقيم السماوية، غالباً ما يكون كافراً بالقيم الأخلاقية والمُثُل الرفيعة، لذلك فهو لا يقصد من وراء عمله رسالة كريمة، ولا غاية نبيلة؛ لأنه يكفر بما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من تعاليم، أُثبتت مصداقيَّتها في التَّطبيق العملي، ويُشيح بوجهه عن صوت الحقِّ ونداء العقل، فلا يفكِّر ولا يتأمَّل، فيهوي بنفسه إلى مستويات أسوأ من مستوى الحيوان؛ وذلك بتعطيل ما كرَّمه الله به، وهو العقل والتفكير، فتُغلَق منافذ الإدراك لديه، وتتلاشى مواهبه ويتعطَّل سمعه وبصره عن فهم الحقيقة الكاملة للمُوْجِد والوجود، ويصبح قلبه موصداً تجاه ومضات الإيمان الباهرة ممَّا يجعله يتخبَّط في الظلام على غير هدى، فيتولَّد في داخله جدل عقيم، غير معتمد على دليل أو حُجَّة، وإنما بدافع الكِبْر والاستعلاء. فإذا انقطع دليلهوبطلت حُجته حقد على الشرائع وتبرَّم منها وامتلأ صدره غيظاً من حمَلتها وحقداً عليهم. ومن الطبيعي أنه بعد ذلك ينفر من الرسل والرسالات ومن الدعوة والدعاة، فلا يصغي إليهم بفؤاده ولا يستمع إليهم بأذنيه، ولا يلتفت إلى الحقِّ، مهما ظهرت أدِلَّته، ووضحت معالمه وحجَّته. ومتى وصل إلى هذه الدرجة، أُغلق قلبه، وحيل بينه وبين النور الإلهي، فاعترته الحيرة، وساورته الشكوك ولزمه الضلال والضيق، فيشعر بروحه حبيسة داخل جسده، عاجزة عن الارتقاء أو الانطلاق، تقيِّدها شروره وتثنيها آثامه؛ ذلك لأنه أضاع عمره جرياً وراء سراب، وعاش حياته بين جدران ضيِّقة، هي جدران العالم المادي فقط. فهو لا يؤمن إلا بما يمكن لعينه أن تراه، ولا يعتقد بوجود السعادة إلا مع اللذَّات وإرواء الشهوات(1/124)
الحسيَّة فحسب، ولا يُقْدِم على عمل صالح إلا إذا أيقن أنه سيحصل على نظير مادي مقابله. فإذا جاءه الداعية إلى الإيمان، وعرض عليه أن يستبدل بتجارته الخاسرة تلك، تجارة رابحة مضمونة، تحقِّق له سعادة الدَّارين، لوى عُنُقَه، وضاقت أنفاسه، وتسارعت نبضات قلبه، كأنَّما يحلِّق في طبقات الجوِّ العليا. ونظراً لشدة تراكم هذه الظلمات بعضها فوق بعض، يصبح القلب خاوياً خَرِباً لحرمانه من نعيم الصلة بالله عزَّ وجل والإيمان الراسخ به، ثمَّ لا يلبث أن يتحوَّل إلى تربة خصبة لنُمُوِّ طفيليات المعاصي، وآفات الأمراض النفسية الَّتي تحوِّل حياته جحيماً في الأرض قبل جحيم السماء.
وجملة القول: إنه متى اطمأنَّ القلب بالإيمان، أشرقت عليه شمس المعارف وتعمَّقت صلته بمبدع الكون، وقوي شعور صاحبه بالانتماء إلى خالق عظيم يحميه ويكلؤه، فيحصل الأُنْس بوصاله، والسعادة الحقيقية بنواله، وتتفجَّر ينابيع الحكمة من قلبه وتجري على لسانه، ويجد الراحة في حاله ومآله، والوضوح في خواطره ومشاعره، والرفق واليسر في ذاته وعلاقاته، والرضى والتسليم بقضاء الله وقدره، فهو السعيد الحقيقي ولو قلَّت ذات يده. ومن أعرض عن الإيمان بقي يتخبَّط في ظلمات الجهل والهوى، فيمشي وحيداً بغير دليل، في طريق مقفرة على غير هدى، فلا يبلغ الصراط المستقيم، ولا يحصِّل السعادة الدنيوية منها ولا الأبدية، فهو الشقيُّ الحقيقي ولو سكن القصور، وتَقَلَّب في رَغَد الدنيا وشذا العطور. ولكن ما هو الصراط المستقيم، وكيف يجتازه المؤمن بسلام؟.
هذا ما سنتعرَّفه من خلال الفصل التالي بإذن الله.
الفصل الثاني:
درب الهداية (الصراط المستقيم)
سورة الأنعام(6)(1/125)
قال الله تعالى: {قُل إنَّني هدانِي ربِّي إلى صراطٍ مستقيم دِيْناً قِيَماً مِلَّةَ إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين(161) قل إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين(162) لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أوَّلُ المسلمين(163)}
/ ومضات:
ـ الصراط المستقيم هو درب الدِّين الحنيف، والطريق الَّذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، وهو الَّذي يصل بسالكيه إلى المدارس الإيمانية، الَّتي شيَّدها أصحاب الرسالات السماوية، فإن كانوا التلامذةَ النجباء، فقد حازوا أهليَّة السكن الدائم في قصور النعيم الخالدة، الَّتي أعدَّها لهم خالق الأكوان.
ـ ديناً قِيَماً: هو الدِّين الثابت المقوِّم لأمور المؤمنين التعبديَّة منها أو المعاشيَّة.
ـ الإيمان بالله هو التجرُّد الكامل عمَّا سواه، وإفراده بالتوجُّه إليه مع الاستسلام التَّام لأوامره، والتفاني في طاعته، والمراقبة الدَّائبة لخواطر القلب وتقلُّباته، ولحركات الجوارح وسكناتها، وإخلاص في النيَّة له تعالى قبل القيام بأيِّ أمر من أمور الحياة.
/ في رحاب الآيات:
تبدأ الآية الكريمة بهديَّة نديَّة شجيَّة، إنها هداية تسطع نوراً متلألئاً في النفس بإيقاع محبَّب، تتحرَّك معه كلُّ خلجة في القلب، وكلُّ إشراق في الشعور، إنَّها تسبيحة الاتصال بالهداية الإلهيَّة المطلقة مقرونة بالعبوديَّة الكاملة لربِّ العالمين، نلمح من خلالها آثار التربية الإلهيَّة للصفوة المختارة من خلقه، فهم لا يتلقَّوْن علومهم من الأرض، بل تتنزَّل عليهم من السماء، بعد أن طهَّروا قلوبهم، ونقَّوْا تربتها من الأدران، فغدت صالحة لغرس بذور المعرفة بالله، ومهيَّأة لتلقِّي الإمدادات والفيوضات منه جلَّ وعلا.(1/126)
ويأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ليجهر بما أولاه الله من جليل نعمائه، إنَّها نعمة الإيمان والهدى إلى الطريق المستقيم، الَّذي يوصل إلى رضا ومغفرة الرحمن الرحيم، وهو طريق الَّذين أنعم الله عليهم، فأسكن قلوبهم جنَّة معرفته، وأدخلهم في حمايته، حيث لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوْهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (23 المؤمنون آية 73)، وقال أيضا: {.. وإِنَّك لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُستقيمٍ * صِرَاطِ الله الَّذي لَهُ ما في السَّمَوَاتِ ومَا في الأرضِ أَلا إلى الله تَصيرُ الأُمور} (42 الشورى آية 52-53).
ثمَّ تُبيِّن الآية الكريمة ماهيَّة هذا الدِّين دفعاً للالتباس، ورفعاً للشبهات ممَّا قد يُلحقه به المتقوِّلون والأعداء الكافرون؛ فهو امتداد لدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وثمرة من ثمرات عقيدة التوحيد الحنيفة؛ ولاشكَّ في أن وحدة الأصل لفروع شجرة الأنبياء، لها مدلول كبير على وحدة مصدر الشرائع السماوية، الداعية إلى عبادة الله خالق الأكوان.(1/127)
وفي الآيات الكريمة توجيه متكرِّر للرسول صلى الله عليه وسلم ليجهر بتوجُّهه إلى الله، والتجرُّد الكامل له، بكلِّ خفقات قلبه، وبكلِّ حركات جوارحه، في الصلاة والاعتكاف، وفي إقامة الشعائر التعبُّدية، وسَيْرِ الحياة اليومية، وفي سائر شؤون حياته ولحين مماته. روى مسلم في صحيحه عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: «وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أوَّل المسلمين». والمراد أنه قد وجَّه وجهه وعقد نيَّته وعزمه على تكريس حياته لطاعة الله ومرضاته، وبذلها في سبيله عزَّ وجل، فيموت على ما عاش عليه، وهو يتمنَّى أن يكون من أوائل المسلمين المنقادين إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وقد التقت جميع رسالات الأنبياء في دعوة الإنسان لأن يوجِّه قلبه وروحانيَّته، وعواطفه وفكره إلى الربِّ العظيم الواحد الأحد، لكي تتجمَّع القلوب البشرية عند أعتاب الحضرة الإلهية فتنال منه البهجة والسعادة ودوام النعيم في كنف الربِّ الكريم.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وهذا صراطُ ربِّكَ مُستقيماً قد فصَّلنا الآيات لِقومٍ يَذَّكرون(126) لهم دارُ السَّلامِ عند ربِّهم وهو وليُّهُم بما كانوا يعملون(127)}
/ ومضات:
ـ الرحمات الإلهية الَّتي تحفُّ بالمخلوقات كثيرة وجليلة، ومن عظيم رحمة الله بخلقه أنه ارتضى لهم منهجاً واضحاً، وصراطاً مستقيماً يكفل سعادتهم في الدَّارين، قال تعالى: {..إِنَ ربِّي على صراطٍ مُستقيم} (11 هود أية 56).
ـ سرُّ سعادة المؤمنين وكنز نعيمهم مخبوء في ولاية الله لهم في الدنيا والآخرة، وتلك الولاية رعاية من الله بموجب إيمانهم، وجزاءٌ منه على جليل أعمالهم.
/ في رحاب الآيات:(1/128)
القاعدة الهندسيَّة تقول: (الخط المستقيم هو أقصر بُعدٍ يصل بين نقطتين) والآية تبيِّن أن صراط ربِّ العالمين مستقيم، وبهذا يكون أقصر طريق يوصل الإنسان إلى معرفة خالقه! وقد وضَّح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بمثال حسِّي ملموس، فقد روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخطَّ خطَّاً هكذا أمامه (يعني في الرمل) فقال: هذا سبيل الله، وخطَّين عن يمينه، وخطَّين عن شماله (مائلين)، وقال: هذه سبيل الشيطان. ثمَّ وضع يده في الخط الأوسط ثمَّ تلا هذه الآية: {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعُوه ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لَعلَّكم تتَّقُون} (6 الأنعام آية 153) ». فإذا التزم الإنسان بهذه الطريق كانت مسيرته مستقيمة سليمة، لا عوجَ فيها ولا خللاً، ولا اعتداء على حقٍّ، ولا انغماساً في حرام، من مأكل أو مشرب أو ملبس. إنها مسيرة إيمانيَّة يدفعها الحبُّ لله، ويوجِّهها الخوف منه، ويتوِّجها الفوز برضاه. ولا تنحصر ثمار الاستقامة على الصراط والمنهج الربَّاني بصاحبها فحسب، بل تتعدَّاه إلى غيره؛ لأن الإنسان فرد في مجتمع، ولَبِنَةٌ في بناء الصَّرح الإنساني الكبير، فإذا صَلُحَتْ أجزاء البناء صلح البناء كلُّه، وتأسَّس المجتمع الإيماني على قواعد أخلاقيَّة فاضلة مبنيَّة على العقل والعلم، وكلُّ ذلك من خلال تنشئة الفرد على الإيمان بالله، وحبِّ الخير، والتفاني في طاعة الله وخدمة عباده.(1/129)
وفي قوله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا رَبُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهمُ الملائِكَةُ ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنَّةِ الَّتي كنتم تُوعَدون * نحن أوليَاؤكُم في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسُكُم ولكم فيها ما تدَّعون} (41 فصلت آية 30ـ31) تتجلَّى ثمرة الاستقامة على صراط الله وهدْيه، بأروع صورة وأكمل وجه؛ فحين يتواضع الإنسان لخالقه ويَسلُكُ نفسه في عِداد خَدَمهِ، ويوقِّع عقد الالتزام بذلك، تُفتح عليه بركات من السماء والأرض، فيتكفَّل الله بقضاء مصالحه الدنيويَّة بما فيها الحفظ والحراسة، والمعونة والنُّصرة، وإيصال الخيرات ودفع البليَّات، أمَّا في الآخرة فيبشِّره بالجنَّة دار السلام، الَّتي يأمن مَنْ دخلها من العذاب، وهكذا يكون الله وليَّه في الدنيا والآخرة. ولفظ (الولي) يوحي بالقرب والرابطة الوثيقة بين الله عزَّ وجل ـ الوكيل ـ وبين مَن تولاه مِن خلقه وتوكَّل عليه. وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، ولكن بالشَّرَف والعلوِّ والرتبة، ولسنا نرى درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، ولا تشريفاً أعظم من هذا التشريف! فإذا واظب الإنسان على أعمال البرِّ والطاعة، ظهرت آثارها في جوهر النفس، لذلك كان لابُدَّ للمؤمن من القيام بالعمل المثمر البنَّاء، لأنه لا أجر ولا ثواب مع التواكل والكسل. كما أنه لابُدَّ من الحذر إلى جانب العمل، من كلِّ عقبة تعترض طريق المؤمن، في الوصول إلى مرضاة الله، ولاسيَّما الحذر من أشدِّ أعداء المؤمن خصومة، وهو الشيطان، الَّذي يقف على جانبي طريق الهداية، مترصِّداً بكلِّ سالكيه، لمحاولة الإيقاع بهم وصرفهم عن الطريق بعد سلوكه. ولهذا ستكون لنا وقفة مع هذا العدو المبين في الفصل التالي، لندرك مدى عداوته لنا، ونتعرَّف الطرق الَّتي ننتصر بها عليه، فلا يكون له سلطان علينا بإذن الله.
الفصل الثالث:
عدوُّ الهداية (الشيطان الرَّجيم)
سورة البقرة(2)(1/130)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ كُلوا مِمَّا في الأَرضِ حَلالاً طيِّباً ولا تتَّبعوا خُطواتِ الشَّيطانِ إنَّه لكم عَدوٌ مبين(168) إنَّمَا يَأمُرُكُم بالسُّوءِ والفَحشَاءِ وأن تَقُولُوا على الله ما لاتعلمون(169)}
ومضات:
ـ الشيطان عدوُّ الإنسان، دأبَ على أن يوسوس له، بما يفسد عليه دينه ودنياه، من المعاصي والمنكرات.
ـ لا يفتأ الشيطان يغوي الإنسان، ويشجِّعه على افتراء الكذب على الله، ليُحرِّم ما أحلَّه له، ويحلِّل ما حرَّمه عليه؛ وذلك لتقويض النظام الَّذي وضعه الله تعالى من أجل إعمار الأرض، والإخلال بالغاية الَّتي خُلق الإنسان من أجلها.
في رحاب الآيات:(1/131)
الشيطان عدوٌّ للإنسان منذ نشأته الأولى، وقد آلى على نفسه أن يُضلَّ بني آدم ويصرفهم عن الحقِّ، ويوردهم موارد التَّهلُكة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لذلك فهو دائم السَّعْي ليثنيهم عن كلِّ ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وللشيطان مسالكه ومساربه، وله مداخله ومخارجه، ليتغلغل في نفس الإنسان وينفث سمومه فيها؛ فإذا ما وقع في شراكه أحد من الناس، شرع بخطَّةٍ ماكرةٍ لإضلاله، فيجمِّلُ له القبيح، ويزيِّن الرَّذيلة في عينيه فيُلْبسها رداء الفضيلة؛ فينطلي مَكره هذا على ضعاف العقول، الَّذين عطَّلوا ملكة التفكير الَّتي زوَّدهم الله تعالى بها، وأهملوا تنميتها والاستفادة من طاقاتها الهائلة، فسُرعان ما يقعون تحت تأثيره، وينقادون لأوامره، دون أن يدركوا فداحة خطئهم. ولذلك فإن الله جلَّ وعلا ـ عطفاً على أمثال هؤلاء ورحمة بهم ـ حذَّر جميع عباده، مراراً وتكراراً، من خداع هذا العدوِّ الماكر؛ ليكونوا بمنأى عن شروره وآثامه، والوقوع في شَرَكِهِ وإضلاله. والناس إزاء هذا التحذير على صنفين: صنف تثمر النصيحة فيه، وتؤتي أُكُلها فيتَّعظ، ويحتاط من شرِّ الشيطان ووساوسه، وصنف يُصِمُّ أذنيه ويغلق عقله، فتراه سادراً في غيِّه يأمره الشيطان فيأتمر، وينهاه فينتهي، ولو أوقعه ذلك في الهلاك.. وقد تصل الجرأة به حدّاً يُحِلُّ فيه ما حرَّمه الله، ويحرِّم ما أحلَّه له من خيرات الأرض وأرزاقها، وفي هذا تضييع للثَّروة الطبيعيَّة وهدر للنعم الإلهية، وتعطيل وتجميد لها، ممَّا يعود على المجتمع بأسوأ النتائج الاقتصادية والاجتماعية... ولا تنحصر الإساءة بالمجتمع وحده، بل تتعدَّاه إلى الاعتداء على شريعة الله وتحريف رسالته الحنيفة وإفسادها؛ لأن هؤلاء ينسبون إلى الله ما لم يشرِّعه لهم، ويتقوَّلون عليه ما لم يتنزَّل من لَدُنْه في شأن التحليل والتحريم، ممَّا يوقع بعض الناس في أباطيل هذه الشرائع، المشوَّهة المفتراة، والَّتي(1/132)
يظنُّون أنها من عند الله، إلا أن علاَّم الغيوب سبحانه عرَّفنا غواية الشيطان من خلال الحديث القدسي: «إنِّي خلقت عبادي حُنَفَاءَ فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (صرفتهم) عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم» (رواه مسلم).
فشرُّ عدوٍّ للإنسان هو الشيطان، فمتى استرسل مع هذا العدوِّ، أنكر نِعَم الله وبدَّدها، أو وضعها في غير مواضعها. فإن لم يرجع إلى الله ويَزِنِ الأمور بميزان الشرع والعقل والحكمة، تتحوَّل النعمة إلى نقمة، والمنحة إلى محنة، والنعيم إلى جحيم دائم في الدنيا والآخرة.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوّاً شَياطينَ الإنسِ والجنِّ يُوحي بعضُهُم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُروراً ولو شاءَ ربُّكَ ما فعلُوهُ فَذَرهُم وما يَفترون(112)}
ومضات:
ـ لابُدَّ لكلِّ حديقة ـ ذات وَرْدٍ فَوَّاح ـ من أشواك وأعشاب غريبة تظهر وتتطاول بين رياحينها. ولابُدَّ لكلِّ صاحب رسالة سماويَّة من أن يواجه قوى مخرِّبة تربض حوله، لتنشر الفساد والإفساد، وهذا ما وظَّف له مفسدو الإنس والجنِّ أنفسهم؛ إذ يطمحون إلى إيجاد مظاهر مقنعة من الكلام المعسول، ولا يهدأ بالُهم حتَّى تتحقَّق أهدافهم بانتشار الجهل والتأخُّر في سائر أنحاء المعمورة.
ـ إن الإيمان لَيَزْدَاد تألُّقاً كلَّما حاول أحد إطفاء نوره، وهذه إرادة الله في تمييز الصالحين من المُدَّعين الدجَّالين، وفي إحقاق الحقِّ وقطع دابر المفسدين.
في رحاب الآيات:(1/133)
إن الصراع بين الخير والشرِّ قائم منذ بدء الخليقة وحتَّى قيام الساعة، وهو صراع بين النفس المطمئنة الَّتي يقودها العقل الإيماني الرشيد، والنفس الدنيئة الأمَّارة بالسوء، وما عقل الإنسان إلا منارة تهديه سواء السبيل، وتعصمه من الزلل، ولكنَّ النفس الخبيثة كثيراً ما تسيطر على العقل، وتسيِّره وفق أهوائها فتَضِلُّ وتُضِلُّ صاحبها معها. ولهذا كانت الرسالات السماوية تتوالى تباعاً في كلِّ عصر وجيل؛ لتقوم بدورها في هداية البشرية إلى الحقِّ، وللعمل على تحريك العقول، وشحذ الهمم، وتطهير النفوس، وإنقاذ الناس من المضلِّلين الغاوين الَّذين يقفون في وجه دعوة الأنبياء والمصلحين، ويعملون على إثارة الفتن بين صفوف المؤمنين، وهم الأعداء الألِدَّاء من شياطين الإنس والجنِّ أجمعين. فقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ياأبا ذر تعوَّذْ بالله من شرِّ شياطين الجنِّ والإنس، قال: يانبي الله وهل للإنس شياطين قال: نعم». وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، قيل: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» (رواه مسلم) فهؤلاء الشياطين من الجنِّ والإنس الَّذين كانوا ومازالوا أعداءً لكلِّ نبي، ولكلِّ مصلح، هم الَّذين يحاولون خداع المؤمنين بالقول المزخرف ويدُسُّون السُّم في الدَّسم. وقد يكون شياطين الإنس أشدَّ وطأة وخطراً على المرء من شياطين الجن، كما يقول أحد الصالحين: [إني إذا تعوَّذت بالله ذهب عني شيطان الجنِّ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرُّني إلى المعاصي عياناً]، وإن الشيطان من الجنِّ، إذا أعياه المؤمن، ذهب إلى متمرِّد من الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه.(1/134)
إذن فالمعركة مستمرَّة، والمتآمرون كُثُر، والمؤمن في مواجهة خصوم شرسين، ولكنَّ أرباب القلوب لا يُصغون إلى وساوس هذه العصابة، بل كلَّما اشتدت عليهم عداوة الأعداء، تمتَّنت جذور الإيمان في أعماقهم. وعلى الرُّغم من ضراوة هذه المعركة ومساوئها، فإن لها ميزة بالغة الأهمية، وهي أنها تفرز العناصر المؤمنة المسؤولة الواعية، الَّتي سلكت طريق الإيمان، بحسٍّ روحي وعقل متفتِّح، لتقف في مواجهة قوى الشرِّ، وتكون لها الرِّيادة في المجتمع للسير به نحو السعادة المثلى، وتصبح فئة ذات هيبة تُرْهِبُ الشياطين فضلاً عن الأعداء والأشرار الإنسيين، وهذا ما أكَّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : «والله إن الشيطان لَيَفِرُّ منك ياعمر» (رواه مسلم).
فلكلِّ فئة من المؤمنين معادون ومعاندون، كما كان للأنبياء والرسل من قبلهم؛ وذلك لأنَّهم سلكوا نهجهم. إلا أن الله عزَّ وجل قد أوصى نبيَّه، وكلَّ من يتَّبعه، بأن يستمروا في إشادة صرح الإيمان، واثقين مطمئنين بوعد الله لهم بالنصرة والتأييد والسعادة، والخزي والخذلان والشقاء للمكذِّبين المخادعين، فالمكر السَّيء لا يحيق إلا بأهله، والعاقبة للتَّقوى، قال تعالى: {ولقد سَبَقَتْ كَلِمتنا لِعبَادِنا المُرسَلِين* إنَّهم لَهُمُ المنْصُورون * وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبون} (37 الصافات آية 171ـ173) فالمؤمن في جهاد مستمر ومعركة قائمة، بين الشيطان وما والاه من القوى الشرِّيرة، وبين الإيمان وما يصاحبه من الصفات الخيِّرة إلى أن يلقى الله، فيظفر بالجنان ولذَّة النظر إلى الرحمن.
ويبيِّن عزَّ وجل أنه لو لم يشأ لهم أن يفعلوا هذا التغرير ما فعلوه، كما أنه سبحانه لم يجبرهم على الهداية، وإنما جعل الناس مخيَّرين بين طريقي الخير والشرِّ حين قال: {ونفسٍ وما سوَّاها * فأَلهمها فُجُورها وتقواها * قد أَفلَح من زكَّاها * وقد خَاب من دسَّاها} (91 الشمس آية 7ـ10).(1/135)
سورة الناس(114)
قال الله تعالى: {قل أعوذ بربِّ النَّاس(1) مَلِكِ النَّاس(2) إله النَّاس(3) من شرِّ الوَسواسِ الخنَّاس(4) الَّذي يوسوسُ في صدورِ النَّاس(5) من الجِنَّةِ والنَّاس(6)}
ومضات:
ـ في هذه الآيات الكريمة ربطٌ وجدانيٌّ للمؤمن بخالق الأسرة الإنسانيَّة؛ ليستمدَّ منه القوَّة واليقظة الروحية والفكرية، فهو ربُّ العالمين الَّذي يكلؤه من أذى شياطين الإنس والجن.
في رحاب الآيات:
إن لفظة الملِك ونسبتها إلى الله عزَّ وجل في هذه الآية تختلف في مدلولها عن نسبتها إلى أحد من مخلوقاته، فمُلك الله عزَّ وجل ليس مجرَّد الإشراف على الخلائق، والقيام بتدبير أمورهم، وتولِّي حفظهم وحمايتهم كما هو شأن ملوك الدنيا، بل هو ملكٌ مطلق، قائم على القدرة التامَّة على التصرُّف المطلق في المخلوقات، إحياءً وإماتةً، وإيجاداً وأخذاً، وعطاءً ومنعاً. ولاشكَّ أن من كانت هذه صفاته، هو وحده القادر على حماية رسله وعباده إذا ما التجؤوا إليه، وهو وحده القادر على حفظهم من أضرار الشرور وشديد أخطارها، وخاصَّة من شرِّ الشيطان الَّذي يكمن قابعاً يترصَّد القلب البشري في لحظات غفلته عن حضرة الله لينفث سمومه، وليبذر فيه بذور الفتنة والشرِّ. فإن لم يتنبَّه المؤمن ويلوذ بمولاه، ويستدرك ملتجئاً إلى منقذه، منيباً إليه، فإنه يصبح مطيَّة له ينفِّذ به ومن خلاله رغباته الشرِّيرة، الَّتي تُغضب الله وتُثمر الخسارة الَّتي لا تعوَّض، لأنه إذا ما تمَكَّن خُبْث الشيطان ونفثه في القلب ضلَّ صاحبه وغوى، وربما لا تتهيَّأ له القدرة على مغالبة الشيطان والانفلات من أسره.(1/136)
وإنَّما سمِّيَ الشيطان بالوسواس الخنَّاس، لأنه يختفي ويخنس إذا ذكر العبد ربَّه، فإذا غفل عن الله عاد فوسوس له، وفي الحديث الشريف: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس» (رواه الحافظ الموصلي). ووسوسة شياطين الجنِّ لا ندري كيف تتمُّ، ولكننا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة، ومع كونها لا تُرى بِالعين، فإنها تقع في القلب وتنعكس على الجوارح والأعمال.
فالمعركة بين أبناء آدم عليه السلام وإبليس، قائمة إلى أجلها وهو يوم البعث والنشور، قديمة في إعلانها، قد أعلنها الشيطان حرباً، ومُنِحَ بها من الله إذناً، فأَذِنَ فيها سبحانه لحكمة أرادها، ولكنَّه لم يترك الإنسان فيها مجرَّداً من العدَّة، بل سبق الوعد منه والعهد بإغاثة المستجيرين به، وحماية اللاجئين إليه، فيمنحهم الأمن والاطمئنان ماداموا في كنفه وتحت رعايته. ومع أنَّنا لا ندري جميع الحِكَم الإلهية في إذنه تعالى بهذه الحرب، فإنَّ القرآن الكريم أكَّد على أنَّ كيد الشيطان يقتصر على أوليائه، أمَّا المؤمنون الصادقون فلا سلطان له عليهم، وكلَّ سلاح يستعمله ضدَّهم مفلول فاشل، قال تعالى: {فإذا قرأتَ القرآن فاستعِذْ بالله من الشَّيطان الرَّجيم * إنَّه ليس له سُلطانٌ على الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون * إنَّما سُلطانُه على الَّذين يَتَوَلَّوْنَه والَّذين هم به مشركون} (16 النحل آية 98ـ100).(1/137)
ولدخول الوسواس إلى قلب الإنسان طريقان، طريق خفيٌّ: وهو الَّذي تسلكه شياطين الجنِّ، وطريق ظاهر: وهو الَّذي يسلكه شياطين الإنس، فيأتون إلى الإنسان بصور وأشكال شتَّى؛ فيأتي أحدهم بصورة الصديق المحبِّ الناصح، فيبثُّ في جليسه الشرَّ والأذى من حيث لا يحتسب، أو يأخذ وظيفة النمَّام الواشي الَّذي يزيِّن الكلام، ويزخرف القول حتَّى يبدو وكأنَّه الحقُّ الصريح الَّذي لا مراء فيه، بغية زرع العداوة والبغضاء، أو يمتهن عمل بائع الشهوات، الَّذي يتسلَّل إلى منافذ الغريزة في إغراءات لا تدفعها إلا يقظة القلب ورعاية الله وحفظه. ويلعب دوره الكبير في التأثير بحاشية السوء الَّتي توسوس لكلِّ ذي سلطان، حتَّى تتركه طاغية جبَّاراً، مفسداً في الأرض مهلكاً للحرث والنسل. ولعل الوسواس الَّذي يأتي للإنسان من طريق أبناء جنسه، أعظم شرّاً وأشدُّ خطراً من الوسواس الَّذي يأتيه من شيطان الجنِّ؛ لأن هذا الأخير يخنس ويَضْعُفُ أثره بمجرَّد ذكر الله والاستعاذة به، أمَّا شيطان الإنس فلا يردعه ذكر ولا تطرده استعاذة، ويبقى قائماً على صاحبه متسلِّطاً عليه حتَّى يهلكه. وفي كلتا الحالتين لا ملجأ للإنسان إلا الله، فإن أراد حماية نفسه من شرور الوساوس أيّاً كان مصدرها فعليه أن يحتمي بالركن المتين، بربِّه، إلهه وإله الناس أجمعين؛ عندها ينصره الله ويجعله من الغالبين.(1/138)
ومجمل القول: إن الله تعالى عندما أذن لإبليس بالحرب أخذ بناصيته، ولم يسلِّطه إلا على الَّذين يغفلون عن ربِّهم مَلِكِهِمْ وإلههم، أمَّا من يذكرونه فهم في نجاة من الشرِّ ودواعيه الخفيَّة. فالخير إذن يستند إلى القوَّة الَّتي لا قوَّة سواها، والشرُّ يستند إلى وسواس خنَّاس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء، وينهزم أمام الاستعاذة بالله. وهذا أكمل تصوُّر للحقيقة القائمة على الخير، كما أنه أفضل تصوُّر يحمي القلب من الهزيمة، ويملؤه بالقوَّة والثِّقة والطمأنينة، قال تعالى: {أَلا إنَّ أوليَاءَ الله لا خَوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون} (10 يونس آية 62).
الفصل الرابع:
دعاة الهداية (الأنبياء)
البحث الأوَّل ـ مهمَّة الأنبياء وموقف الناس من دعوتهم:
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {كان النَّاسُ أُمَّةً واحدةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ وأنزلَ معهم الكتابَ بالحَقِّ لِيَحكُمَ بين النَّاسِ فيما اختَلَفُوا فيه وما اختَلَفَ فيه إلاَّ الَّذين أُوتُوهُ مِن بعد ما جَاءَتهُمُ البيِّنَاتُ بَغياً بينهم فَهَدَى الله الَّذين آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ بإِذنِهِ والله يَهِدي مَن يشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ(213)}
ومضات:
ـ لقد خلق الله تعالى الناس جميعاً كعائلة واحدة، إلا أنهم بمرور الوقت كثروا وتفرَّقوا، وتشعَّبت أفكارهم ومعتقداتهم، فاختلفوا فيما بينهم وابتعدوا عن الفطرة السليمة.
ـ الأنبياء هم حملة مشاعل النور، بعثهم الله للناس عندما قضت حكمته بذلك، كي ينيروا للخلق الطريق، ويدلُّوهم على ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، إنهم يحملون معهم البُشرى بجنَّات النعيم للمؤمنين، والإنذار بعذاب الجحيم للكافرين.(1/139)
ـ بما أن الأنبياء يقومون بمهمَّة اجتماعيَّة بالغة الأهميَّة، إلى جانب مهمَّتهم الروحيَّة السامية، فقد زوَّدهم الله تعالى بكتب وشرائع يقرُّونها في الأرض، وينظِّمون حياة الناس على أُسُسِها.
ـ إن كتاب الله يحمل الهدى للناس جميعاً، وينتشلهم من نزاعاتهم وخلافاتهم إذا ما فقهوه وأدركوا معانيه، إلا أن بعض الرؤساء والزعماء الدِّينيين استغلُّوا معرفتهم للكتاب وثقة الناس بهم، فأخذوا يفسِّرونه وفقاً لأهوائهم ومصالحهم، فضلُّوا بذلك وأضلُّوا الكثيرين، وبثُّوا الفساد والتفرقة بين الناس.
ـ هؤلاء المُضِلُّون يحملون وزراً عظيماً، لأنهم اختلفوا وتنازعوا بعد أن علموا الحقَّ وتبيَّنوه، وجاءتهم الحُجج الواضحة والدلائل القاطعة على صدق الكتب السماوية؛ فخلافهم جاء عن بيِّنة وعلم، لا عن غفلة وجهل.
ـ الهداية بيد الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يسلك طريقها، وهو يعصم المؤمنين الصادقين من الزلل والوقوع في الضلال.
في رحاب الآيات:(1/140)
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لذلك خلق الله تعالى حوَّاء من ضلع آدم ليأنس بها ويسكن إليها في الجنَّة، ثمَّ ليكوِّنا على الأرض أسرة، يقومان برعايتها معاً. فالناس جميعاً ينتمون في الأصل إلى عائلة واحدة ذات فطرة واحدة، قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْناكُم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شُعوباً وقبائِلَ لِتَعَارَفوا إنَّ أكرَمَكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (49 الحجرات آية 13) ومع توالي الأجيال جيلاً بعد جيل، كثرت العائلات وتوالدت وتشعَّبت العلاقات بين أفرادها، ودفعت الظروف الحياتيَّة بهم لأن يضربوا في الأرض بحثاً عن الرزق. وهكذا فقد تعددت مفاهيمهم، واختلفت مصالحهم وانقسموا إلى تكتُّلات وجماعات شتَّى. ولكنَّ طبيعة الأمور تفرض نفسها على العلاقات بينهم، فليست هناك فئة من الناس تستطيع أن تعيش بمعزل عن غيرها. بل إن الجماعات تتلاقى وتتعاون بسبب تداخل مصالحها، على الرغم من الخلافات القائمة في مفاهيمها، والتضادِّ في أهوائها وميولها، ممَّا يولِّد الصراع والشقاق والخلافات بين أفرادها للاستئثار بالمصالح والمكاسب. وأوَّل خلاف وقع على الأرض هو الخلاف بين ولدي آدم، قابيل وهابيل، فقد أوغر الشيطان صدر قابيل بدافع الحسد والتهالك على الدنيا، وأغراه بقتل أخيه هابيل، قال تعالى: {واتلُ عليهم نَبَأ ابْنَي آدمَ بالحقِّ إذ قرَّبا قُرْبَاناً فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخرِ قال لأقتلنَّك قال إنَّما يَتَقبَّلُ الله من المتَّقين} (5 المائدة آية 27) إلى أن يقول سبحانه: {فَطوَّعَت له نفسُهُ قتلَ أخيه فقتلهُ فأصبح من الخاسرين} (5 المائدة آية 30). ومنذ ذلك الحين والصراعات قائمة بين بني البشر، تُفرِّق شملهم وتمزِّقهم شرَّ مُمزَّق، لذلك أرسل الله إليهم الأنبياء تباعاً، فكانوا من المجتمع بمنزلة الرأس من الجسد، يبلِّغون الناس وحي السماء، ويسيرون بهم على سكَّة الهدى، فيقيمون بذلك(1/141)
الموازين العادلة الَّتي يفيء إليها المختلفون، ويطلقون الكلمة الفصل الَّتي تحسم الجدال والخصام.
وإذا فَهِمَ بعضهم من ظاهر الآية (موضوع البحث) أن اختلاف الناس كان بسبب تعدُّد الشرائع السماوية، فإن الحقيقة هي خلاف ذلك. لأن الدِّين واحد بما يعنيه، وبما يدعو إليه من العلم والعقل والروح والتزكية، فهو يؤلِّف ولا يُفرِّق، ويوحِّد ولا يمزِّق، ولاسيَّما حين يكون متمكِّناً في الصدور، نظيفاً في السطور، لم يطرأ عليه تحريف أو تشويه. ولكنَّ النفوس حين تنحرف وتنزلق في مهاوي الضلال والغواية، فإنها لا تتورَّع أبداً عن استخدام كلِّ الوسائل الممكنة لخدمة أهوائها، بما في ذلك إساءة فهم الدِّين، ولو أنها لم تجد في الدِّين مَرْكَباً لركبت غيره من الوسائل والسُّبُل.
والدليل على أنَّ الاختلاف لم يكن يوماً بسبب تعدُّد الرسالات السماوية، هو أنَّ التاريخ قد سجَّل لنا خلافات دامية قد وقعت بين أتباع الديانة الواحدة، فتمزَّقوا شيعاً وأحزاباً، كلُّ فريق يعادي الفِرَقَ الأخرى، ويتحيَّن الفرص للإيقاع بها، وهو يعتقد ـ بدافع من التعصُّب والجهل ـ بأنه وحده على بيِّنة وصواب؛ فلا يدرك الأبعاد الحقيقية لآراء العلماء المخلصين واجتهاداتهم، ويذهب إلى تفضيل بعضهم على بعض، مدفوعاً بأحد أمرين: إمَّا بِنِيَّةٍ حسنة وتحت تأثير اختلاف تفسيرهم وتأويلهم لمفاهيم الدِّين، وإمَّا بنيَّة سيئة، انقياداً لأهوائه وميوله.(1/142)
أمَّا المؤمنون الحقيقيُّون فهم الَّذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحقِّ، ويصلون بتوفيق الله إلى ما يرضيه، فالله تعالى لا يترك عباده المؤمنين تائهين في شعاب الأرض يتخبَّطون في متاهات الجهل، بل يهديهم إلى صراطه المستقيم؛ عن طريق تعاليمه وتوجيهاته، الَّتي لم يحصرها في فئة دون أخرى، ولم يجعلها حكراً لأتباع شريعة معيَّنة دون غيرها، ولم تكن وقفاً على منفعة قوم دون سواهم، بل هي دواء وشفاء للبشريَّة كلِّها، لأن واضعها ربُّ الناس أجمعين. فهم في أمنه لا يضِلُّون ولا يزلُّون، وكيف لا ينعمون بأمنه وهدايته وعندهم نور الله يستضيئون به ويجعلونه أمامهم، فإذا ما حاول الشيطان أن يُضِلَّهم عن الطريق المستقيم؛ هداهم ذلك النور الإلهي في مسيرتهم فتمكَّنوا من النجاة.
البحث الثاني ـ سلسلة الأنبياء:
شجرة النُبُوَّة واحدة، ترجع في أصل نشأتها إلى بداية بزوغ فجر البشرية، ثمَّ أخذت تتفرَّع أغصانها جيلاً بعد جيل، وتؤتي أُكُلها كلَّ عصر وحين، وقد تأصَّلت جذورها في عهد نوح وإبراهيم عليهما السَّلام، ثمَّ انبثق من ذريَّتهما الأنبياء الَّذين نعرفهم منذ ذلك التاريخ. أمَّا بقية أبنائهما الَّذين عاصروا عهد النُبُوَّات فلم يكونوا على شاكلة إخوتهم الأنبياء، فمنهم من هو مهتد إلى الحقِّ بصير، وكثيرٌ منهم خارجون عن طاعة الله، لم ينفعهم نسبهم للأنبياء، قال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيمَ وجعلنا في ذرِّيَّتِهِما النُّبوَّةَ والكتابَ فمنهم مُهْتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون} (57 الحديد آية 26) وهكذا توالى الأنبياء، كلُّ نبي يُتمِّم رسالة النبي الَّذي سبقه، ويزيل رواسب الجمود والتحجُّر من تلك الرسالة الَّتي نسبها الجاهلون والجاحدون لتعاليمها، فيجدِّد للأمة روحانيَّتها، ويرقى بعلومها، فيضيف بذلك إلى بناء التعاليم السماوية لَبِنَةً جديدة.(1/143)
وهكذا، بقي باب الهداية مفتوحاً على مرِّ الأيام والعصور، يرعاه الرسل والأنبياء والصالحون. فرسل الله هم القدوة ومصدر الهدى والنور الَّذي يستضيء به جميع الناس، وقد امتاز بعضهم على بعض، بخصائص تَفَضَّلَ الله بها عليهم، وعلى شرائعهم، وأممهم، قال تعالى: {تِلك الرُّسُلُ فَضَّلنا بَعضَهُم على بَعضٍ منهم مَن كَلَّمَ الله ورَفَعَ بَعضَهُم درجاتٍ وآتَينَا عيسى ابنَ مريمَ البَيِّنَاتِ وأيَّدنَاهُ بروحِ القُدُسِ ولو شاءَ الله ما اقتَتَلَ الَّذين مِن بَعدِهِمِ من بَعدِ ما جاءتهُمُ البيِّنَاتُ ولكنِ اختَلَفُوا فمنهم من آمَنَ ومنهم مَن كَفَرَ ولو شاءَ الله ما اقتَتَلُوا ولكنَّ الله يَفعَلُ ما يُرِيدُ} (2 البقرة آية 253).
فالمفاضلة بين الرسل لا تقوم على الأفضليَّة وإنما تتعلَّق بظرفي الزمان والمكان، وبالمحيط المقدَّر للرسول أن يتحرَّك فيه، والَّذي يشمل دعوته ونشاطه؛ كأن يكون رسول قبيلة، أو رسول أمَّة، أو عصر، أو رسول الأمم كافَّة ولجميع الأجيال، وكذلك يتعلَّق التفضيل بالمزايا والمعجزات الَّتي يهبها الله لشخص هذا النبي أو لأُمَّته، كما يتعلَّق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شموليَّتها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية.
فمن الرسل من كلَّمه الله تعالى كموسى عليه السَّلام، ومنهم من اختصَّه تعالى بمعجزات عظيمة، كدلائل على صدق نبوَّته حين أنكر الناس ذلك، كعيسى عليه السَّلام، وآخرهم محمَّد عليه الصلاة والسَّلام حيث أيَّده الله بجبريل الأمين، أسوة بغيره من الأنبياء والرسل، فكان ينقل له الأمر الإلهي ويثبِّته على المضيِّ في الطريق الشَّاق، وقد ورد تأكيد ذلك في مواضع كثيرة في القرآن الكريم.(1/144)
وبذلك تتابع الرسل يحملون الرسالات السماوية لتأخذ بِيَدِ البشرية، وتمضي بها صُعُداً في طريق العلم والعمل البنَّاء. وقد أراد الله سبحانه أن تكون الرسالة الأخيرة، وما ينبثق عنها من منهج شامل للحياة، هي خير ما يكفل النُمُوَّ والتجدُّد والانطلاق للحياة على الأرض، لاسيَّما وأن العقل البشري وصل لمرحلة من النُّضج الفكري تؤهِّلُه لاستيعاب قيم الحياة الحضارية وتطويرها؛ فكان الإسلام دين الله الخالد الأبدي وللناس كافَّة، الَّذي يحمل في طيَّاته جوهر جميع الشرائع السماوية الَّتي سبقته صافية نقية بعيدة عن التشويه والتحريف.
ولو شاء الله لجعل عباده طائعين له قسراً، ومستجيبين للرسل الَّذين جاؤوا بالحقِّ من عنده قهراً، إلا أن في هذا إلغاءً لإرادتهم، فترك لهم الخيار فاختلفوا تبعاً لاختيارهم، فمنهم من آمن إيماناً صحيحاً، وأخذ الدِّين على وجهه السليم، وفهمه حقَّ فهمه، ومنهم من حكَّم هواه في تأويله، مفسِّراً تعاليمه حسب مصالحه، فنشأ التَّخاصم وقام النزاع بينه وبين أنداده من المتديِّنين.(1/145)
فلا يكفي أن يدَّعي قوم أنهم أتباع أحد الأنبياء، ليكونوا قدوة صالحة للناس، بأفكارهم ومعتقداتهم، نظراً لأن بعض الاختلاف في التطبيق العملي للدِّين، يباعدُ بينهم وبين أقرانهم مباعدةً عظيمة، تصل إلى حدِّ تكفير بعضهم بعضا، أو تشويه الدِّين الَّذي ينتمون إليه، وهذه هي الحالة الَّتي كانت سائدة في شبه جزيرة العرب، إذ كان الحنفاء في مكَّة يرون أنهم على مِلَّة إبراهيم، واليهود في المدينة يرون أنهم على دين موسى عليه السَّلام، والنصارى يرون أنهم على دين عيسى عليه السَّلام، ولكنَّ كلَّ فريق من هؤلاء كان قد ابتعد ابتعاداً كبيراً عن الآخر، ولو اقترب منه لوجد أن أصل الرسالات السماوية واحد، وأن جميع الرسل إخوة، ولكان هذا أدعى للتَّقارب والائتلاف بينهم بدلاً من التَّباغض والتَّناحر. فليست العبرة بانتساب الأفراد إلى أنبيائهم، وإنما العبرة في حقيقة ما يعتقدون، وحقيقة ما يعملون. ولو شاء الله لألَّف بينهم، ولكنَّه أراد أن يدفع الكفر بالإيمان، ليقرَّ في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة، الَّتي جاء بها الرسل جميعاً، وليجزي كُلاً بعمله. لذلك قدَّر الله أن يكون الناس مختلفين في ميولهم، مُوكَلين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم، كما قدَّر الصراع بين الهدى والضلال، وأن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار الحقيقة الواضحة المستقيمة، وهي شريعة الله الَّتي انحرف عنها المنحرفون، وكان أمره مفعولاً.(1/146)
وإذا أراد إنسان هذا العصر أن يتمتَّع ويسعد بما حقَّقه من العلم والتطوُّر، وأن يطمَئِنَّ إلى سلام متين عميق الجذور، فلابُدَّ له من عودة إلى الإيمان السليم بالله تعالى، المكتسب من الشرائع السماوية بعد أن يتوصَّل إلى معرفة جوهرها النقي، الخالي من الشوائب الَّتي تراكمت فوقه نتيجة لما أدخله عليه الفكر الإنساني القاصر، والمصالح الآنيَّة المحدودة عبر التاريخ، ممَّا شوَّه لتلك الشرائع جمالها وأودى بثمارها أدراج الرياح، فحُرمت الأسرة الإنسانية العالمية من الانتفاع بها. فإذا ما أعيدت إلى ما كانت عليه من نقاء وصفاء حصل الانتفاع، وتمكَّنت البشرية من جَنْيِ ثمار الإيمان، الَّتي لا تنحصر في منحها السَّلام فحسب، بل تتعدَّاه إلى الإخاء والحب والتَّراحم العالمي، وهذا أسمى ما يمكن أن يصبو إليه إنسان اليوم. وما نبذله من جهد متواضع في هذا المجال، إنما هو لإعطاء القارئ الكريم فكرة موجزة عن الجوانب الَّتي أشار إليها القرآن الكريم في هذا الموضوع، حيث نورد مقتطفات عن سِيَرِ هؤلاء الرسل والأنبياء ودعواتهم، علَّنا نبيِّن نقاط الالتقاء الكثيرة بينهم جميعاً، بما لا يدع مجالاً للشكِّ في أنهم قاموا تباعاً بإشادة بناء الإيمان الواحد، والَّذي ينبغي على البشرية أن تتعهَّده بالحفظ والرعاية.
وممَّا يُستحسن الآن قبل التعرُّف بحلقات سلسلة الأنبياء، التفريق بين النبي والرسول والنبوَّة والرسالة.
فالرسول: هو كلُّ من بعثه الله بشريعة مجدِّدة يدعو الناس إليها كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد عليهم الصلاة والسَّلام. أمَّا النبي: فهو من بعثه الله لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الَّذين كانوا بين موسى وعيسىكزكريَّا ويحيى عليهم السَّلام.(1/147)
والنبوَّة مأخوذة من النبأ بمعنى الخبر ذي الشأن العظيم، ومعناها: وصول خبر من الله بطريق الوحي إلى من اختاره من عباده لتلقِّي ذلك. أمَّا الرسالة فهي خبر من الله ولكنَّه موثَّق بموجب كتب سماوية، كالتَّوراة والإنجيل والقرآن.
وعلى هذا يكون الرسول من الأنبياء من جَمَعَ إلى النبوَّة الكتاب المُنزل عليه. أمَّا النبي الَّذي ليس برسول، فهو من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أُمر أن يدعو الناس إلى شريعةِ مَنْ قَبْلَهُ.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه أسماء خمسة وعشرين نبياً يجب على المسلم الإيمان بنبوَّتهم؛ وهم: آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، أيُّوب، ذو الكفل، موسى، هارون، سليمان، داود، الياس، اليسع، يونس، زكريَّا، يحيى، عيسى، ومحمَّد عليهم الصلاة والسَّلام أجمعين. وهناك أنبياء آخرون لم يتعرَّض القرآن لذكرهم تفصيلاً، ولم يقصَّ علينا شيئاً من أخبارهم، فعلى المسلم أن يؤمن بهم أيضاً؛ أي أن يوقن بأن الله عزَّ وجل أرسل رسلاً وأنبياء كثيرين إلى كلِّ أمَّة وجماعة، وفي مختلف الأمكنة والعصور، قال تعالى: {ورُسُلاً قد قصصناهُم عليك من قَبْلُ ورُسُلاً لم نقصصُهُم عليك وكَلَّمَ الله موسى تَكلِيما} (4 النساء آية 164) ومن هذا يتَّضح أن النبوَّة الَّتي كرَّم الله بها الأنبياء، حقيقة واحدة لا تتفاوت ولا تختلف ما بين نبي وآخر، فلا يجوز التفريق بين نبوَّة نبي وآخر من هذه الناحية.
وسنورد فيما يلي بعضاً ممَّا جاء في القرآن الكريم عن الأنبياء والرسل الكرام، علَّنا بذلك نتوصَّل مع القارئ الكريم، إلى النظرة القرآنية الشاملة الجامعة، لسائر الرسالات السماوية، ونبدأ أوَّلاً بنوح عليه السَّلام.
نوح عليه السَّلام
سورة المؤمنون(23)(1/148)
قال الله تعالى: {ولقد أرسَلنا نُوحاً إلى قومه فقال ياقومِ اعبدوا الله ما لَكم مِن إلهٍ غيرُهُ أفلا تتَّقون(23) فقال المَلَؤ الَّذين كفروا من قومه ما هذا إلاَّ بشرٌ مِثلُكُم يريدُ أن يتفضَّلَ عليكم ولو شاءَ الله لأنزلَ ملائِكةً ما سمعنا بهذا في آبائِنَا الأوَّلين(24) إنْ هوَ إلاَّ رجلٌ به جِنَّةٌ فتربَّصوا به حتَّى حين(25) قال ربِّ انصرني بما كذَّبون(26) فأوحينا إليه أنِ اصنعِ الفُلْكَ بأعيُنِنَا ووحْينَا فإذا جاء أمرنا وفَارَ التَّنُّورُ فاسْلُكْ فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلَكَ إلاَّ من سبقَ عليه القولُ منهم ولا تخاطبني في الَّذين ظَلَموا إنَّهم مُغرَقُون(27) فإذا استَوَيْتَ أنتَ ومنْ مَعَك على الفُلْكِ فقل الحمدُ لله الَّذي نجَّانا من القومِ الظَّالمين(28) وقل ربِّ أنزلني مُنْزَلاً مُبارَكاً وأنتَ خيرُ المُنزِلين(29)}
سورة القمر(54)
وقال أيضاً: {كَذَّبت قَبلَهُم قومُ نوحٍ فكذَّبوا عبدَنَا وقالوا مجنونٌ وازْدُجِر(9) فَدَعَا ربَّهُ أنِّي مَغلوبٌ فانتَصِر(10) ففتحنا أبواب السَّماء بماء مُنهمِر(11) وفجَّرنا الأَرضَ عُيُوناً فالتقى الماءُ على أمرٍ قد قُدِر(12) وحملناهُ على ذاتِ ألواحٍ ودُسُرٍ(13) تجري بأعيننا جزاءً لِمَنْ كان كُفِر(14) ولقد تَركناها آيةً فهل من مُدَّكر(15)}
ومضات:
ـ دأْبُ الأنبياء (عليهم الصلاة والسَّلام) الدعوة إلى الله، والصبر في طريق الحقِّ. وشأن الظالمين الإعراض والتكذيب، وسنَّة الله في الفريقين لا تتبدَّل، فلا يذلُّ من والاه، ولا يعزُّ من عاداه.
ـ معاداة نوح عليه السَّلام، وإلصاق الصفات المغلوطة فيه، من قبل زعماء قومه وأصحاب المصالح والنفوذ، أمر يتكرر مع جميع الأنبياء والمصلحين، وإلى قيام الساعة.
ـ إرادة الله باقية في نصر المؤمنين، وإن اختلفت أساليب النصر بين نبي وآخر.
في رحاب الآيات:(1/149)
ما أرسل الله تعالى من نبي أو رسول إلا ليصلح من أمر قومه، فيزيل الخرافات من العقول، وينشر العلم والفضيلة، ويربط قلوب الخلائق بخالقها، فيعمُّ التَّآلف والتَّراحم والتَّعاون فيما بينها؛ على الرغم من الصراع المستمر بين الخير والشرِّ، والقائمِ بين المصلحين وأهل الفساد والإفساد، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهكذا تتكرَّر الصورة مع كلِّ نبي، ويختلف العقاب الإلهي من قوم لآخرين. والقرآن الكريم، غني بِسِيَرِ الأنبياء والرسل، الَّذين قاموا بمهمَّة الدعوة إلى الله، وقد تكرَّرت فيه الآيات الَّتي تنقل لنا صوراً من حياتهم، وتحمل في طيَّاتها دروساً عظيمةً وعبراً بالغة في التربية والتوجيه.
وإن رسول الله نوحاً عليه السَّلام هو أحد الأنبياء الَّذين جاء ذكرهم في القرآن، وقد وردت قصَّته مع قومه في أكثر من موضع، لتهزَّ المشاعر روعة ورهبة، وتعطي المؤمنين أملاً في إغاثة الله لعباده الصالحين، بقلع جذور الكفر والشرك، لتكون السِّيادة للإيمان وحده، فيوفِّر للناس الحياة الفاضلة، ويكون سبباً في رقيِّهم الروحي وتفوُّقهم المادِّي.(1/150)
فإذا ما تتبَّعنا الآيات الكريمة المتعلِّقة بحياة نوح عليه السَّلام، وطالعنا أحداثها بعقل واعٍ وقلب متفتِّح؛ فإننا نجد فيها الكثير من الإرشادات والتوجيهات، ونستطيع أن نستخلص العديد من الدُّروس والعِبَر والحِكم. ففيها عزاء وتثبيت للمؤمنين عامَّة، ودعوة للتأسِّي به في ميدان الصبر والتحمُّل، وليُعْلَمَ أن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه. فالقصَّة تبدأ بحوار عقلاني بين نوح وقومه، فهو يدعوهم إلى عبادة الإله الواحد الَّذي لا شريك له، ويلقي على مسامعهم كلمة الحقِّ الَّتي لا تتبدَّل، والَّتي يقوم عليها الوجود، ويشهد لها كلُّ موجود؛ فيخاطبهم بلهجة التحبُّب والنصح قائلاً: ياقوم اعبدوا الله وحده وأطيعوه، ولا تشركوا معه إلهاً آخر، فلا ربَّ لكم غيره، ولا معبود يستحقُّ العبادة سواه. ثمَّ ينتقل في أسلوب وَعْظِهِ، من لغة النصح والترغيب، إلى لغة التنبيه والتحذير، فيقول لهم: {أفلا تتَّقون}، أي ألا تخافون عاقبة الإنكار للحقيقة البيِّنة الَّتي تقوم عليها كلُّ الحقائق؟.(1/151)
فيأتي الردُّ من هؤلاء القوم الجفاة، بعد أن أقيمت عليهم حجَّة نبيِّهم: {ما هذا إلاَّ بَشرٌ مِثلكم يريدُ أن يَتفضَّلَ عليكم}، ومن هذه الزاوية الضيقة نظروا إلى تلك الدعوة الكبرى، فما كانوا ليدركوا طبيعتها، ولا لِيَرَوْا حقيقتها، وحُجبوا بذواتهم الصغيرة الضئيلة عن جوهرها، فإذا القضيَّة في نظرهم قضية رجل منهم، لا يختلف عنهم في شيء، يريد أن يتَّخذ لنفسه موقع الريادة، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم ويترأسهم! فقادهم ذلك الموقف إلى مغالطة كبيرة مع أنفسهم، فقد سوَّغوا لها أن تثبت الألوهيَّة لحجر، وأنكروا عليها الإيمان بنبوَّة بشر! ولم يقفوا عند هذا الحدِّ في عدائهم للحقيقة، واستنادهم إلى المغالطة والأوهام الباطلة، بل تمادَوْا في ذلك بإغلاقهم السَّمْع والبصر والفؤاد، دون دعوة الحقِّ الَّتي جاءتهم من عند الله، وحملها لهم رسول من أشرف خلق الله. وقد ذكر تعالى شكاية نوح حيث قال: {وإنِّي كُلَّما دعوتُهُم لِتَغفرَ لهم جعلوا أصابعَهُم في آذانِهِم واستَغشَوا ثيابَهَم وأصرُّوا واستكبروا استكبارا} (71 نوح آية 7)، لقد أوغلوا بهذا الموقف المتعنِّت والقصور المفرط؛ في البعد عن إدراك النفحة العلويَّة الَّتي تصل البشر بالملأ الأعلى، وتجعل الأخيار منهم يتلقَّوْن ذلك الفيض الإلهي، ويحملونه إلى إخوانهم فيهدونهم إلى مصدره الوضيء. إنهم بدل الأَوبَةِ إلى الحقِّ، انغمسوا في الباطل فقالوا: {وَلَو شَاءَ الله لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبَائِنَا الأوَّلين} ومثل هذا التفكير والحكم في كلِّ زمان ومكان إنما يصدر عندما يهيمن التقليد الأعمى فيطمس نور العقل، ويُكبِّل حريَّة المعتقَد؛ فلم يتدبَّر أتباع التقليد ما بين أيديهم من القضايا، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها، بل راحوا يبحثون في ركام الماضي عن سابقة يستندون إليها، فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها جانباً؛ واستمرُّوا(1/152)
في تكذيبهم وسخريتهم. وهكذا كان شأن نوح مع قومه الَّذين بلغ بهم الطغيان ذروته عندما قالوا: ما نوح إلا رجل أصابه مسٌّ في عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا ممَّن لا يفقه ما يقول، فيُسَفِّه دين آبائه، فحريٌّ أن لا يُلتَفَتَ إليه ولا إلى ما يدَّعيه، ولا طائل من مجادلته. فانتظِروا، علَّه يضيق ذرعاً بما هو فيه، فيتراجع عن دعوته، ويدعكم وما تعبدون من الآلهة الَّتي تؤمنون بها، وما هذا إلا مكابرة وفرط عناد منهم، لأنهم يعلمون أن نوحاً أرجحهم عقلاً، وأوزنهم قولاً.
ونتيجة لإصرارهم لم يجد نوح عليه السَّلام منفذاً إلى قلوبهم الجامدة المتحجِّرة، ولا موئلاً من السُّخرية والأذى إلا أن يتوجَّه إلى ربِّه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب، ويطلب منه النصر والتَّأييد. فالبشريَّة في عهده قد بدأت تهمُّ بالتحرُّك نحو الأمام في طريق الكمال المرسوم، فإذا كان الجمود يحيط بالأحياء من حوله على هذا النحو المتخلِّف، فإنهم سيشكِّلون عقبة في ذلك الطريق... وعندها لابد من أحد أمرين: إمَّا أن تتحطَّم هذه المتحجِّرات، وإمَّا أن تتجاوزها مسيرة الحياة، وتدعها في مكانها وتمضي. والأمر الأوَّل هو الَّذي حدث لقوم نوح، فشاءت إرادة الله أن تُنزل بهم الجزاء العادل وهو الطوفان؛ فأوحى الله لنوح عليه السَّلام أن يصنع الفُلْكَ (السفينة) بيده، لأنه لابُدَّ للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ليصل إلى النتائج، وبَذْلِ أقصى ما في وسعه ليستحقَّ المدد من ربِّه، فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المتقاعسين، الَّذين ينتظرون ولا يزيدون شيئاً على الانتظار.(1/153)
أمَّا كلمة (بأعيننا) فتعني بحفظنا ورعايتنا، فنحفظك من أن تخطئ في صنعتك، أو أن يفسد عليك مُفْسِد؛ فإذا جاء أمرنا بإنزال العذاب، ورأيت علامته وهي فوران الماء في التنُّور (المكان الَّذي يُخبز فيه الخبز)، فأدْخِل في السفينة من كلِّ صنف من الحيوان زوجين (ذكر وأنثى) حفظاً للنوع. واحمل عليها أهلك إلا من سبق عليه القول بالهلاك (وهم الَّذين لم يؤمنوا به كابنه وزوجته)، ولا تسألني الشفاعة بالظالمين عند تحقُّق هلاكهم، فقد قضيت أنهم مغرقون وهالكون لا محالة، وإن كانوا من أقرب الأقربين، فسنَّة الله لا تحابي أحداً، ولا تحيد عن طريقها المستقيم المرسوم، من أجل مكانة وَلِيٍّ أو مقرَّب، فكلُّ نفسٍ تنال جزاء ما قدَّمت، قال تعالى: {وإن كَادُوا لَيَستفِزُّونَك منَ الأَرضِ ليُخرجوكَ منها وإذاً لا يَلْبَثُون خِلافَكَ إلاَّ قليلاً * سُنَّةَ من قد أرسلنا قبْلَك من رُسُلنا ولا تجدُ لسُنَتِنا تحويلاً} (17 الإسراء آية 76ـ77).(1/154)
ثمَّ يعلِّم الله نبيَّه دوام ذكره، وشكر نعمه فيقول له: إذا صَعِدْتَ السفينة أنت ومن معك من المؤمنين، فاحمدوا الله الَّذي نجَّاكم من الظَّالمين، وباعد بينكم وبينهم، وجعل لكم الخلافة في الأرض من بعدهم. فامتثل نوح عليه السَّلام لأمر ربِّه حُبّاً وعرفاناً، وردَّد ما أوحى إليه من ثناء فقال: {الحمدُ لله الَّذي نجَّانا من القومِ الظَّالمين}. فلما أوشكت السفينة أن تستوي قريباً من الجبل، دعا ربَّه قائلاً: ربِّ أنزلني مُنْزَلاً مباركاً، يحفظني ومن معي، من كلِّ سوء وشرٍّ، فأنت خير المنزلين لأوليائك، وخير الحافظين لعبادك. فعلى هذه الصورة يكون الحمد والشكر، وهكذا يوصف سبحانه بصفاته، ويُعْتَرَفُ له بآياته، وهكذا يتأدَّب العباد مع حضرته وفي طليعتهم النبيُّون، ليكونوا أسوة للآخرين في أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم. وفي تفسير هذه الآيات قال قتادة: علَّمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: {..باسْمِ الله مَجراها ومُرسَاها..} (11 هود آية 41) وحين ركوب الدابَّة: {..سبحانَ الَّذي سخَّرَ لنا هذا وما كُنَّا له مُقْرِنِيْن} (43 الزخرف آية 13) وحين النزول: {وقلْ ربِّ أَنْزِلني مُنْزَلاً مُباركاً وأنتَ خيرُ المُنزِلين} (23 المؤمنون آية 29).
فهذه مقتطفات من قصة حياة نبي الله نوح... وهي قصة حُفظت في ذاكرة التاريخ، ونُقلت لسائر البشريَّة وعلى مرِّ العصور، وحظيت باهتمام الكثيرين من الأدباء وعلماء الآثار ووسائل الإعلام. كما تركت انطباعاتها في الأجيال قديماً وحديثاً، إلا أن خير انطباع لها، وأعظم أثر ينبغي أن تخلِّفه وتطبعه فينا، إنَّما هو الإيمان بقدرة الله تعالى على كلِّ شيء، وأنه بالمرصاد لكلِّ ظالم معاند، فإذا ما أمهل قوماً فلا يعني أنه أهملهم، بل لكلِّ أمَّة أجل ولكلِّ أجل كتاب، والوعد منه بنصرة المؤمنين قائم ومتحقِّق ولا يُخلِف الله الميعاد.
إبراهيم عليه السَّلام
سورة الأنعام(6)(1/155)
قال الله تعالى: {وكذلك نُري إبراهيمَ مَلكُوتَ السَّمواتِ والأَرضِ وَلِيكونَ من المُوقنين(75) فلمَّا جَنَّ عليه اللَّيلُ رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لا أُحبُّ الآفِلِين(76) فلمَّا رأى القمرَ بازِغاً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لَئِن لَمْ يَهدِنِي ربِّي لأَكوننَّ من القومِ الضَّالِّين(77) فلمَّا رأى الشَّمس بازِغةً قال هذا ربِّي هذا أكبرُ فلمَّا أَفَلَت قال ياقومِ إنِّي بريءٌ مِمَّا تُشركون(78) إنِّي وجَّهت وجهيَ للَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حنيفاً وما أنا من المشركين(79)}
ومضات:
ـ في أعماق الإنسان نوازع فطريَّة تجعله يحنُّ إلى خالقه، ويبحث عن موجده، ولا يهدأ روعه ولا يسكن فؤاده حتَّى تتلقَّح روحه بطائف نوراني إلهي يركن إليه، ويعطيه المعرفة والثقة والأمان بالله الفرد الصمد.
ـ كان كثير من الناس ـ وخاصَّة في عهد إبراهيم عليه السَّلام ـ يتوهَّمون أن مطلق السيطرة والغلبة، لمخلوقات عظيمة لها فاعليَّتها في الكون، كالشمس والقمر والكواكب، تكفي ليتَّخذوا منها آلهة، بينما اتَّخذ الآخرون من الأصنام آلهة لهم لتقرِّبهم إلى ربِّهم، مغلقين بذلك عقولهم، ومُصِمِّين أسماعهم عن دعوات الرسل، الَّتي جاءت لتعرِّفهم بالإله الحقيقي المتصرِّف في هذا الكون.
ـ حلَّق إبراهيم عليه السَّلام جهد تفكيره في الكون المادي {ملكوت السموات والأرض}، وأوصله إخلاصه وتحرَّقه القلبي إلى الَّذي {فطر السموات والأرض}.
ـ خاف إبراهيم عليه السَّلام على نفسه أن يعيش بين القوم الضَّالِّين المشركين العابدين للأوثان {وما أنا من المُشركين}.
ـ أفول الكواكب أمر عادي يشاهده إبراهيم عليه السَّلام كلَّ يوم.. ولكن حين نظر إليها كقوَّة مدهشة يمكن تعبُّدها..، شعر بنقصانها وعدم اكتمالها؛ وهذا هو المعنى الحقيقي للأُفول.
في رحاب الآيات:(1/156)
تستقر في أعماق كلٍّ منَّا فطرة التوحيد الَّتي فطرنا الله عليها منذ اللحظة الأولى الَّتي أَوْجَدَنا فيها. ومع بداية تفتُّح المدارك لدى الإنسان، تشرع كلٌّ من الروح والنفس بالدوران حول نواة الإيمان، وكلَّما اقتربتا من جوهره حصل الاستقرار والسَّكِينة والطُّمأنينة، وكلَّما ابتعدتا عنه حصل الاضطراب والحَيْرة والشَّتات. ولقد أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجود هذه الفطرة في الناس عامَّة فقال: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة» (رواه الستة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).(1/157)
وهذه الفطرة، هي الَّتي تجذب الإنسان نحو خالقه الَّذي خلقه وخلق الأكوان وما فيها، وهي الَّتي تدفعه إلى الإيمان به، وإلى اليقين بأن حياته في هذا الكون، ما هي إلا مقدِّمة لحياة أبديَّة خالدة في عالم آخر، تُردُّ فيه المخلوقات إلى ربِّها؛ فتجد عنده ما ضاع منها في حياتها الأولى. ومثل هذه الحقيقة يتمكَّن من إدراكها والإيمان بها كلُّ من أوتي فكراً سليماً، ونظراً صائباً. فهي كامنة في أصل الفطرة الَّتي فطر الله الإنسان عليها، ليعرفه ويجتهد في البحث عنه والوصول إليه، ولينعم بالسَّعادة الَّتي لا يجدها إلا في التَّعاليم الإلهيَّة الملائمة للفطرة، وعلى رأس هذه التعاليم توحيد الله وإفراده بالعبوديَّة والتمجيد. فالتوحيد أسمى غايات المعرفة؛ على أساسه تقوم التكاليف، وحول محوره تدور رحى الرسالات السماوية، ومنه انطلق الأنبياء في دعوتهم للبشرية، وفي مقدِّمتهم إبراهيم عليه السَّلام الَّذي وردت قصته في القرآن الكريم بإسهاب وتفصيل، شمل جوانب عديدة من حياته، فكان نموذجاً مثاليّاً للبشريَّة؛ في إيمانه بالله وتوحيده له، ذلك الإيمان الَّذي ارتقى به إلى أعلى المقامات والرُّتب، حتَّى صار (خليل الله) فكُشف له عن ملكوت السموات والأرض، فرآهما عياناً، فازداد بالله يقيناً، ولقدرته وعظمته إكباراً {..وكذلك نُري إبراهيمَ مَلكوتَ السَّمواتِ والأَرضِ وَلِيكون من المُوقِنين}.
والآيات الكريمة الَّتي نتناولها في بحثنا هذا، تعطينا صورة من بدايات حياة إبراهيم عليه السَّلام الَّتي كانت تأمُّلاً عميقاً للحياة والأحياء من حوله، ورؤية ثاقبة لما كان القوم عليه من حال تستدعي الدَّهشة والعجب؛ إنهم يعبدون آلهة شتَّى؛ اعتقدوا فيها القوَّة والسيطرة، وزعموا بأنها قادرة على جلب النفع لهم، ودفع الضرِّ عنهم، والأعجب من هذا، أن بعضاً منها صُنع بأيديهم، فكيف ارتضوها آلهة وعبدوها؟!.(1/158)
وكثيراً ما كان هذا الواقع يدفع إبراهيم للخلوة بنفسه مراراً، فتمرُّ عليه لحظات هي من أثمن اللحظات وأصدقها؛ لما في الخلوة من رؤية حقيقيَّة للذَّات، بعيداً عن رقابة الآخرين، الَّتي قد تدفع بعض الناس إلى المراءاة والمخادعة أو المداراة، وقد تمرُّ هذه اللحظات في عمر الإنسان مرَّة فتُقَدَّرُ قيمتها بالعمر كلِّه، وقد لا تحدث أبداً فتكون الخسارة الكبرى. ونتيجة لخلوة إبراهيم عليه السَّلام، فقد كانت فطرته تثور عليه، وتدفعه إلى البحث والتأمُّل في ملكوت السموات والأرض، ليهتدي إلى الإيمان بالإله الحقِّ، الجدير بالألوهيَّة، والمستحقِّ للعبوديَّة. فعندما تفكَّر فيما يعبد قومه من آلهة حجريَّة صنعوها بأيديهم، أنكرها ورفضها، ولما تأمَّل آلهتهم الأخرى، وهي الكواكب تريَّث عندها قليلاً، وقلَّب ناظريه في السماء، وأجال الطَّرْف في أرجائها، فإذا الليل قد أقبل ليكتسح النهار، وإذا بالظلام يلفُّ الضِّياء ويطرده، إنه ليل من نوع فريد، ليل يخُصُّ إبراهيم وحده، ويستره عن عيون الخلائق. وفي جوف الليل يحلو التأمُّل، وتحلو الخلوة مع النفس، ويشعر الإنسان بعذوبة النَّجوى، حيث لا تَسمع نَأْمَةً ولا حركة سوى دقَّات قلبٍ تبحث عمَّن نفخ فيه الحياة. فلما رأى إبراهيم في تلك الليلة كوكباً منيراً يُطِلُّ من عليائه، قال هذا ربِّي، ثمَّ أخذ يتابع الكوكب حتَّى غاب وزالت معالمه، عندها تساءل كيف أعبد كوكباً يطلع ويغيب، ويظهر ثمَّ يختفي؟ ومن سيرعى أمرنا، ويدبِّر شؤوننا إن هو غاب؟! ولما بدا له القمر مشرقاً متلألئاً، وكأنَّه يرمق الكون بنظراته الصَّافية، فيُضفي عليه جمالاً أخَّاذاً فقال: هذا ربِّي، فلما سحب القمر خيوطه الفضيَّة ومضى وغاب، كما غاب الكوكب قبله، قال: ما هذا بإله! ولئن لم يهدني ربِّي، ويوفِّقني إلى إصابة الحقِّ في توحيده، لأكوننَّ من الضالِّين الضَّائعين في عبادتي لغيره.(1/159)
ومع بُزوغ فجر اليوم التالي، حيث أخذت الشمس تتوقَّد وترسل أشِعَّتها الذهبيَّة على الكائنات، وقع بصر إبراهيم عليها ونظر متأمِّلاً؛ إنها من أعظم النجوم المرئيَّة، وأكثرها نفعاً للمخلوقات، وأشدِّها نوراً وإشراقاً فقال: هذا ربِّي، ولكن الشمس سُرعان ما توارت وراء الأفق، وغابت كما غاب غيرها... عندها شعر ببراءته من عبوديَّة هذه الأجرام، فالطبيعة بكلِّ أجزائها مخلوقة مسلوبة الإرادة، عاجزة عن التعبير، لا يمكنها التفلُّت من الوظائف الَّتي أناطها خالقها بها، أو تغيير وظائف مَنْ حولها، ولا تملك القدرة على الخلق والإيجاد..، لذا أعلن إبراهيم عليه السَّلام هذه البراءة من عبادة القوى والظواهر الَّتي تحيط به، واتجه إلى عبادة الله البارئ المصوِّر لكلِّ هذا الوجود وما فيه من موجودات، وذهب يعرِّف قومه بالإله الحقيقي الَّذي لا يغيب ولا يغفَل ولا ينام، وأخذ لسانه يعبِّر عن مكنونات أحاسيسه الفطريَّة، فقال لهم: إني بريء ممَّا تعبدون، ثمَّ توجَّه إلى الله بكلِّ كيانه ومشاعره مخلصاً له الحبَّ، ومعترفاً له بالربوبيَّة، ومتبرِّئاً من الشرك والوثنية فقال: {إنِّي وَجَّهتُ وجهيَ للَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حنيفاً وما أنا من المشركين} إنه النَّهْج الَّذي سار عليه جميع الأنبياء، والعهد الَّذي وثَّقوه، والوعد الَّذي وفَّوا به، لتكتمل بذلك قصَّة الإيمان.
فينبغي على المؤمن في كلِّ زمان ومكان أن يقرأ قصَّة الإيمان هذه مستخلصاً عِبَرَها ليدحض بها مزاعم الملحدين وافتراءات المكذِّبين، لأنه يتبيَّن من خلالها أن العقل السليم لا ينافي الفطرة السليمة بل يوافقها ويؤازرها؛ لأن مؤدَّاها الإذعان الفطري، بالألوهيَّة، لخالق الكون، وهذا الإذعان مستقرٌّ في دخيلة كلِّ نفس بريئة من شوائب العقائد الضالَّة، الَّتي قد يتأثَّر بها مَن يعيش في مجتمع ضال.
سورة البقرة(2)(1/160)
قال الله تعالى: {وإذ قال إبراهيمُ ربِّ أَرِنِي كيف تُحْيي الموتى قال أَوَ لَم تُؤمِن قال بلى ولكن لِيَطمَئِنَّ قلبي قال فَخُذ أربَعَةً منَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إليكَ ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهُنَّ جُزءاً ثمَّ ادعُهُنَّ يَأتِينَكَ سَعياً واعلَم أنَّ الله عَزيزٌ حَكِيمٌ(260)}.
ومضات:
ـ تكوَّن لدى إبراهيم الخليل عليه السَّلام شعورٌ مُلِحٌّ غزا قلبه وفكره في بداية معرفته لله وإيمانه به، فكان يتطلَّع بشغف إلى أن يرى بعينه صورةً من صور القدرة الإلهية.
ـ لم يكن سؤال إبراهيم عليه السَّلام ناشئاً عن شكٍّ أو ريب في قدرة الله على الإحياء، بل كان الدَّافع الَّذي حمله على ذلك، هو رغبته في مشاهدة صورة من صور الإعجاز الإلهي ليصل إلى كمال اليقين. فأجابه الله لطلبه، وأراه عياناً ما سأل، فسكن فؤاده بعد هذه الرؤية وازداد بالله يقيناً واطمئناناً.
في رحاب الآيات:
تتحدَّث هذه الآيات عن إبراهيم، الإنسان المفكِّر، ذي العقل الناضج، الَّذي تأمَّل ظواهر الكون، بُغْيَةَ الوصول إلى معرفة خالقه، وأدرك بقوَّة بصيرته، استحالة نسبة الألوهيَّة لكوكب ما أو شمس أو قمر، فما هذه المخلوقات إلا دلائل على وجود الخالق وعظمته.(1/161)
ولمَّا أُكْرِمَ هذا الإنسان بالنبوَّة، بقي عقله في حالة توقُّد فكري، فكان يسعى لشهود واقعة إعجازيَّة تروي ظمأه، وتجيب عن تساؤلات كثيرة كانت تدور في خَلَدِه، فكان بينه وبين الله عزَّ وجل ذلك الحوار العذب، الَّذي بدأه إبراهيم عليه السَّلام أوَّلاً بالتقرُّب والتحبُّب إلى مولاه بقوله: {ربِّ} فاختار هذه الكلمة وناجى بها ربَّه، لأنها تعبِّر عن صدق الشعور بالولاء المطلق لله وإنعامه التَّام على مخلوقاته. ثمَّ رفع إليه حاجته بقوله: {أَرِنِي كيف تُحيي الموتى}، فهو يتوق إلى مشاهدة كيفيَّة الإحياء، ليتوِّج بها إيمانه الجازم بالقدرة الربانيَّة، ويريد أن يدرك بالعيان ما أدركه بالجَنان. ولذلك سأله المولى ـ عزَّ وجل ـ وهو أعلم بحاله: {أَوَ لم تؤمن؟} أي ألست تصدِّق بقدرتي على الإحياء؟ فيجيب إبراهيم بكلِّ ما أوتي من اليقين، أَنْ بلى قد صدَّقت، ولكن قلبي الَّذي تتنازعه نيران الشوق إلى معرفة المزيد والمزيد عن قدرتك، يتوق لشهود صنعتك، لِتَنْصَبَّ فيه برودة اليقين والتسليم، فيهدأ ويستكين حيث يبلغ الإيمان ذروته.(1/162)
وفي جواب الله تعالى لإبراهيم عليه السَّلام {أَوَ لم تؤمن؟} تنبيهٌ إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، ولا يتعدَّاه إلى ما ليس من شأنه، بالإضافة إلى أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان بالغيبيات الَّتي لا سبيل للعقل إلى إدراكها بوسائله الحسيَّة، ولهذا فإن الإيمان بقدرة الله على إحياء الموتى، شأنه شأن الإيمان بسائر الغيبيات،?وهو غاية ما يُطلب من البشر، كلٌ في حدود زمانه، إلا أن هذا لا يعني إغلاق باب العقل والتفكير. وبما أن إبراهيم عليه السَّلام هو خليل الله وصفيُّه، فها هو سبحانه يجيبه إلى طلبه، ويأمره بأن يأخذ أربعة طيور يضمُّهنَّ إليه ثمَّ يقطِّعهُنَّ ويخلط بعضهنَّ ببعض ليصبحن مجموعة واحدة، ثمَّ يفرِّق أجزاءهن على رؤوس الجبال، فينفِّذ الخليل أمر الله، ثمَّ يناديهن فيأتين إليه فوراً. وهكذا رأى إبراهيم عليه السَّلام السرَّ الإلهي يتحقَّق بين يديه، وتحت سمعه وبصره؛ فكان درساً بليغاً مؤثِّراً في إبراهيم وفي كلِّ مَنْ بَلَّغَ بعْدَه، أثمر اليقين بتفرُّدِ الله المطلق في إحياء الموتى، وأنه سبحانه على كلِّ شيء قدير.(1/163)
وفي حلقة أخرى من حلقات حياة إبراهيم عليه السَّلام، يقصُّ الله علينا صورة من صور الصراع الَّذي فرضه عليه قومه، ممَّا أدَّى إلى هجرته في سبيل الله، تاركاً موطنه بعد أن يئس من إيمانهم، كما أنه يعرض قصَّة الأمر بذبح ولده إسماعيل، الَّتي نستشفُّ منها مدى صدقه وتصديقه؛ فيقول تعالى: {وقال إنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيَهدين * ربِّ هَبْ لي من الصَّالحين * فبشَّرناه بغلامٍ حليم * فلمَّا بَلَغَ معهُ السَّعيَ قال يابُنَيَّ إنِّي أرى في المنامِ أنِّي أذبحُكَ فانْظرْ ماذا ترى قال ياأبتِ افْعل ما تُؤْمر ستجدني إن شاءَ الله من الصَّابرين * فلمَّا أَسْلَما وتَلَّه للجبين * وناديناه أَنْ ياإبراهيمُ * قد صدَّقتَ الرؤيا إنَّا كذلك نَجزي المحسنين * إنَّ هذا لَهُوَ البلاءُ المبين * وفديناه بذِبحٍ عظيم * وتركنا عليه في الآخِرِين * سلامٌ على إبراهيم * كذلك نَجزي المحسنين * إنَّه من عبادنا المؤمنين} (37 الصافات آية 99ـ111).
ومضات:
ـ بعد صراع إبراهيم عليه السَّلام المرير مع قومه من أجل هدايتهم إلى عقيدة التوحيد، وبعد أن يئس من إيمانهم، قرَّر الهجرة من ديار الجهل والظلم إلى ديار الحريَّة والأمن.
ـ رغب إبراهيم عليه السَّلام في أن تظلَّ بركة النبوَّة سارية في ذريَّته، فدعا الله عزَّ وجل أن يرزقه غلاماً صالحاً يتابع مسيرة الإيمان والدعوة من بعده، فاستجاب تعالى له، وحقَّق له مراده؛ ووهبه على الكِبَرِ إسماعيل.
ـ لمَّا كبر الغلام وقوي ساعده ليشُدَّ أزر والده في عمل البناء والدعوة، والسعي إلى ترسيخ عقيدة التوحيد، تراءى له أن يذبح ولده إسماعيل ويقدِّمه قرباناً لربِّ العالمين؛ وامتثل كلاهما للأمر، بتسليم كامل، ورغبة صادقة؛ عندها نالا عليهما السَّلام الشهادة الإلهيَّة بالصدق، والمسارعة إلى التنفيذ، وعندها فدى الله تعالى إسماعيل بذِبح عظيم ليُذبح بدلاً عنه.(1/164)
ـ بهذا الإخلاص الرائع استحقَّ إبراهيم عليه السَّلام، الذكرى الخالدة العطرة، في سائر الرسالات السماويَّة، وعلى مرِّ الأجيال والعصور، تقديراً وتكريماً له من ربِّ العالمين، لأن إيمانه كان يعدل إيمان أمَّة مؤمنة قولاً وعملاً، قال تعالى: {إنَّ إبراهيمَ كان أُمَّةً قَانِتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين * شاكراً لأَنْعُمِهِ اجتباهُ وهداهُ إلى صراطٍ مُستقيم * وآتيناهُ في الدُّنيا حسنةً وإنَّه في الآخرةِ لَمِن الصَّالحين} (16 النحل آية 120ـ122).
في رحاب الآيات:
لقد تعرَّض إبراهيم عليه السَّلام لألوان من الاضطهاد أنزلها به قومه، وبلغ ذلك الاضطهاد ذروته عندما عزموا على إحراقه بالنار: {قالوا ابْنُوا له بُنْيَاناً فَأَلقوهُ في الجحيم} (37 الصافات آية 97) فلما مكروا به، مكر الله بهم وأنقذه من النار الَّتي أضرموها، ففقدت خاصيَّتها في الإحراق بمجرَّد خطاب الله لها: {قُلنا يانارُ كُوني بَرْداً وسلاماً على إبراهيم} (21 الأنبياء آية 69) وبذلك تجلَّت قدرة الله على خرق العوائد، وعظيم رحمته وتأييده لخليله ولكلِّ من والاه، فلم يتخلَّ عنه ولم يجعل للنار عليه أدنى تأثير أو أذى.
ثمَّ قرَّر إبراهيم عليه السَّلام ـ بعد أن لاقى ما لاقى ـ الابتعاد عن قومه الظَّالمين له ولأنفسهم، فهاجر إلى ديار السَّلام والأمن، وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، هجرة يترك فيها كلَّ شيء: أباه، قومه، أهله، بيته، ووطنه، ويدع كلَّ عائق وكلَّ شاغل، فيهاجر إلى ربِّه متجرِّداً من كلِّ شيء، مُسلِّماً أمره إليه، وهو موقن أنه سيهديه، ويسدِّد خطاه، ويثبِّتها على الطريق المستقيم. إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن أواصر شتَّى إلى آصرة واحدة، لايزحمها في النفس شيء، إنه التعبير عن التجرُّد عمَّا سوى الله، والاستسلام لأمره، واليقين بتأييده ونصره.(1/165)
وكان إبراهيم عليه السَّلام حتَّى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له، وهو يترك وراءه الأهل والأصحاب، فاتَّجه إلى ربِّه وسأله أن يهبه غلاماً صالحاً، يستعين به من أجل تبليغ الدعوة، وحمل لواء الرسالة من بعده، فاستجاب الله دعاء عبده الصالح، المهاجر إليه بقلب سليم، وأكرمه بغلام عاقل حليم، فربَّاه أحسن ما يُرَبِّي به نبيٌّ ولده، من حسن الطاعة والأخلاق الفاضلة.
ولنا أن نتصوَّر فرحة إبراهيم عليه السَّلام، الوحيد المهاجر المقطوع عن أهله وقرابته، عندما رُزق ـ على الرُّغْم من كِبَرِ سنِّه وشيخوخته ـ بغلام طالما تطلَّع إليه وتمنَّاه، وكان غلاماً متميِّزاً، ويشهد له ربُّه بأنه حليم. ولَكِنْ ما كاد يأنس به ويرى صباه يتفتَّح، ويرافقه في الحياة، ويشاركه في السعي، حتَّى رأى في منامه أنه يذبحه. ويدرك إبراهيم عليه السَّلام أنها إشارة من ربِّه للتضحية، لأنَّ رؤيا الأنبياء حقٌّ وصدق، فماذا كان من أمر هذا الأب؟ إنه لم يتردَّد، ولم يخالجه إلا شعور الطاعة، ولم يخطر له إلا خاطر التسليم لإرادة الله بمجرَّد الإشارة، لا الوحي أو الأمر المباشر، فهذا يكفيه كي يقدِّم لله أنفس ما عنده، ويجد بذلك أنه لم يقدِّم شيئاً، لأن ما قدَّمه إنْ هو إلا مُلْكٌ لله تعالى. ثمَّ يعرض الرؤيا على ولده إسماعيل في كلمات العاقل الحكيم، المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الَّذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدِّي واجبه، فيقول: {يا بنيَّ إنِّي أرى في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ فانظر ماذا ترى} فهو يعرض عليه الرؤيا، ولم يقلْ له بأنه أُمِرَ بذلك ليعلم مدى تقبُّله لمضمون الرؤيا، وليعلم مدى صبره على التنفيذ، وليأخذ الطلب طاعة واستسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة ولذَّتها، ويتذوَّق حلاوة التسليم. إنه يحبُّ لابنه أن يفوز بالخير الَّذي يراه أبقى من الحياة؛ فماذا كان من أمر الغلام الَّذي يُعرض عليه الذبح تصديقاً لرؤيا والده؟؟ إنه امتحان(1/166)
إلهي ليمحِّص إيمان الوالد وولده، الوالد يرى الرؤيا فيسرع لإخبار ابنه بها دون تردُّد، والولد يلبِّي طائعاً آخذاً الرؤيا كأمر إلهي، ويسلِّم للذَّبح ويقول: يا أبتِ امضِ لما أمرك الله به، فستجدني إن شاء الله صابراً. إنه جواب من أوتي الإيمان اليقيني والحلم والصبر والرضا بقضاء الله وقدره، والقدرة على امتثال الأمر، فلمَّا صدق فيما وعد، أثنى الله عليه قائلاً: {واذكر في الكتابِ إسماعيلَ إنَّه كان صادقَ الوعد..} (19 مريم آية 54) وفي قوله: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} نلاحظ أدبه مع الله والاستعانة به على ضعفه، والتبرُّء من حوله وقوَّته والاستمداد من حول الله وقوَّته، وإرجاع الفضل كلِّه لله إن هو أعانه على ما يطلب منه، وصبَّره على ما يُرَاد به.(1/167)
ويخطو المشهد بنا خطوة أخرى تلي الحوار والكلام، ليصل إلى الفعل والتنفيذ... ومرة أخرى يرتفع نُبْلُ الطاعة، وتعلو قوَّة الإيمان، وطمأنينة الرِّضا فوق كلِّ ما تعارف عليه بنو الإنسان. إن الأب العطوف الرحيم يمضي فيكبُّ ابنه على جبينه استعداداً، وإنَّ الغلام يستسلم فلا يتحرَّك امتناعاً، وقد كاد الأمر أن يصبح حقيقةً وعياناً؛ لقد أسلما، أي استسلما، وانقادا لأمر الله، وفوَّضا إليه الأمر سبحانه، وهذا هو الإسلام والاستسلام في حقيقته، ثقة وطاعة، ورضا وتسليم، وتنفيذ واطمئنان، وكلٌّ منهما ــ الأب والابن ـ لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر، الَّتي لا يمكن أن يصنعها غير الإيمان العظيم. والحكمة من ذلك كلِّه، أن الله اتَّخذ إبراهيم خليلاً، فلما سأل ربَّه الولد ووهبه له، تعلَّقَتْ شُعبة من قلبه بمحبَّة ولده، فأُرِيَ ذبح هذا المحبوب ليظهر صفاء الخُلَّة، فامتثل أمر ربِّه وبذلك قدَّم محبَّة الله على محبَّة ولده. وفي أدقِّ لحظات الامتحان يأتي النداء من قِبَلِ الله تعالى لإبراهيم، أن قد صدَّقتَ الرُّؤيا، وحصل المقصود منها بإضجاعك ولدك للذبح، فقد تحقَّق امتثالك للأمر وطاعتك، و(أن) هنا تحمل العتاب وتوقيف الفعل. ثمَّ قال تعالى: {إنَّا كذلك نَجزي المحسنين} نجزيهم على مسارعتهم إلى الإذعان لمثل هذا الابتلاء، وتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء، وتصبيرهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الثواب والعطاء.(1/168)
ولا يخفى أن الله تعالى لا يريد الذَّبح حقيقة، لأنه سبحانه حرَّم القتل، وتوعَّد عليه بأشدِّ العذاب، فالله لا يأمُرُ بالفحشاء ولا بالمنكر، وإنما أراد سبحانه تطهير قلب إبراهيم خليله، من محبَّة ما سواه، فلما باشر إبراهيم عليه السَّلام ما يُنتج ذلك، وتحقَّقت الغاية من الرؤيا، تدخَّلت العناية الإلهية في اللحظة المناسبة، لتنهي هذا الامتحان الرَّهيب، معلنة نجاح التلميذين النجيبين (الأب والابن) بامتياز منقطع النَّظير؛ فيفتدي الله تعالى إسماعيل بذِبْحٍ عظيم القدر، وإنما عَظُم قدره لأنه فداء لإسماعيل من الذبح. ومضت بذلك سُنَّة النَّحر في عيد الأضحى، إحياءً لذكرى هذا الحادث العظيم، الَّذي يرتفع منارةً لحقيقة الإيمان، وجمال الطَّاعة، وعظمة التسليم، والَّذي ترجع إليه الأمَّة المسلمة لتعرف منزلة أبيها إبراهيم عليه السَّلام، ولتعرف أن ربَّها لا يريد أن يعذِّبها بالابتلاء، إنما يريدها أن تأتيه طائعة، ملبِّية، فإذا أكَّدت صدق القول بمباشرة أسباب الفعل ومقدِّماته أعفاها من التَّضحيات والآلام، وأكرمها كما أكرم أباها من قبل. وهذا هو الابتلاء والاختبار الشَّاق الَّذي يتميَّز فيه المخلص عن المنافق.(1/169)
وقد شكر الله لإبراهيم صدقه، فرفع ذكره بين الناس على اختلاف مللهم ومذاهبهم؛ فاليهود يُجِلُّونه، والنصارى يعظِّمونه، والمسلمون يبجِّلونه، وذلك مكافأة على صدقه، واستجابة لدعوته حين قال: {واجعل لي لسانَ صِدْقٍ في الآخِرِين} (26 الشعراء آية 84). ثمَّ ذكر تعالى أنه مَنَّ عليه مِنَّة ثانية فقال: {سلامٌ على إبراهيم} سلامٌ من ربِّه يُسَّجل في كتابه الباقي، ويُرْقَم في حنايا الوجود، لأنه كان من الراسخين في الإيمان مع اليقين والاطمئنان. وقد أتمَّ الله عليه فضله ومنَّته، عندما أكرمه بأعلى المقامات وأشرفها، فمنحه رتبة (خليل الله) الَّتي ورد وصفه بها بقوله تعالى: {ومَنْ أحسنُ ديناً مِمَّن أسلمَ وجههُ لله وهو محسنٌ واتَّبع مِلَّةَ إبراهيم حنيفاً واتَّخذ الله إبراهيمَ خليلاً} (4 النساء آية 125) أي لا أحد أحسن ديناً ممَّن أسلم قلبه لله مخلصاً له الدِّين وحده، فلا يتَّجه بدعاء أو رجاء إلا إليه. وقد عبَّر القرآن عن توجُّه القلب بإسلام الوجه، لأنَّ الوجه مرآة القلب، على صفحته تنعكس طهارة الروح، ونقاوة الضمير، وصفاء السريرة. وهو مع هذا التوجُّه والإخلاص القلبي، عامل للحسنات، تارك للسيِّئات، متَّصف بفضائل الأخلاق، ومتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام في حنيفيته، بالبعد عن الشِّرك، وعبادة الله وحده. فالآية تربط الشرائع كلَّها بسلسلة محكمة الحلقات، فليس هناك تناقض أو تنافر أو حتَّى تفاضل بين واحدة وأخرى، بدءاً ممَّا جاء على لسان إبراهيم الخليل، وانتهاءً بما نزل على محمَّد عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وهذا دليل على وحدة مصدرها وأصولها وجذورها. كما أنها تقرن الإيمان والإحسان باتِّباع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام، لتربط الأنبياء ممَّن جاء بعد إبراهيم؛ بأب روحي واحد هو إبراهيم الخليل، وتزرع أواصر القربى بينهم، ليتعايش أتباعهم على الأرض في جوٍّ من الإخاء والمودَّة، ولهذا دُعي إبراهيم عليه السَّلام ـ أبو(1/170)
الأنبياء ـ فما أُنْزِلَ كتاب من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم، إلا وكان من ذرِّيته وشيعته، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأبوَّة فقال تعالى في حقِّه: {وتلك حُجَّتُنا آتيناها إبراهيمَ على قومهِ نرفعُ درجاتٍ من نشاءُ إنَّ ربَّك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كُلاًّ هَديْنَا ونوحاً هَديْنَا من قَبلُ ومن ذُرِّيَّتِهِ داود وسليمان وأيُّوبَ ويوسف وموسى وهارون وكذلك نَجزي المحسنين * وزكريَّا ويَحيى وعيسى وإلياسَ كلٌّ من الصَّالحين * وإسماعيل واليَسَعَ ويونُس ولوطاً وكُلاًّ فَضَّلنا على العالمين} (6 الأنعام آية 83ـ86). وقد رزق الله تعالى إبراهيم عليه السَّلام بولدين اصطفاهما بالنبوَّة وهما إسماعيل وإسحاق عليهما السَّلام.
أمَّا إسماعيل فهو جدُّ النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وقد خاطب الله المؤمنين مشيراً إلى النَّسب الإبراهيمي بقوله: {..وما جعلَ عليكم في الدِّين من حرجٍ مِلَّةَ أبيكُم إبراهيمَ هو سَمَّاكم المسلمين من قبل..} (22 الحج آية 78).(1/171)
وأمَّا إسحاق فرزق بولد اسمه يعقوب، ويلقَّب بإسرائيل، وإليه ينتسب سائر أسباط بني إسرائيل، الَّذين كان من نسلهم كثير من الأنبياء الَّذين خُتِموا بعيسى بن مريم عليه السَّلام الَّذي قال لأتباعه كما جاء في إنجيل يوحنَّا [857] : (أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح). فمن هذه النصوص جميعاً يتبيَّن أن إبراهيم هو جدُّ اليهود والنصارى والمسلمين، وأن أتباع هذه الشرائع الثلاثة يلتقون في النسب عنده، فهم من أرومة واحدة، ويسعون إلى غاية واحدة، وهي العمل بوصايا الله الَّتي أنزلها عليهم، والَّتي تدعو إلى عبادة الله وحده؛ ليكونوا سعداء في هذه الدنيا وغداً في الدار الآخرة. وكلُّ ما يبدو بينها من اختلاف أو تنافر فليس من أصلها، إنما هو من إساءة الفهم لحقائقها، وكلُّ ما في الأمر أن كلَّ شريعة لاحقة جاءت متوافقة مع الشريعة السابقة ومعيدة لها شبابها وحيويتها، ومضيفة إليها ما يناسب أهل زمانها، مختومة بشريعة الإسلام الَّتي أتت لتتوافق مع كلِّ زمان ومكان، ومحقِّقة للتوازن بين جميع الشرائع في رحاب القرآن الكريم.
وقد سُمِّي إبراهيم خليلاً لأن محبَّة الله تعالى تخلَّلت في كيانه، ولأنه يتمتَّع بصفات عظيمة، ورد ذكرها في القرآن الكريم، ونوجز أهمَّها بما يلي:
أوَّلاً ـ كثرة القنوت، والإيمان المطلق بوحدانيَّة الله عزَّ وجل، فهو يملك قلباً صافياً معافى من محبَّة الأغيار، قال تعالى: {إنَّ إبراهيمَ كان أُمَّةً قانِتَاً لله حنيفاً ولم يَكُ من المشركين} (16 النحل آية 120) وقال أيضاً: {وإنَّ من شيعَتِه لإبراهيم * إذ جاءَ ربَّه بقلبٍ سليم} (37 الصافات آية 83 ـ84). وقد رأينا فيما مضى أنه لما غزت قلبه محبَّة ولده الَّتي كادت تسيطر على قلبه أدركته العناية الإلهية بالدَّواء، الَّذي عقَّم قلبه من حبِّ ما سوى الله، حيث أُمِرَ بذبح إسماعيل، وقد فعل ما كانت ثمرته الصَّفاء التامَّ والإخلاص المطلق لله عزَّ وجل.(1/172)
ثانياً ـ كان شكوراً كثير الحمد والدعاء لله عزَّ وجل، قال تعالى: {شاكراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وهداهُ إلى صراطٍ مستقيم} (16النحل آية 121)، وقد أخبرنا الله عزَّ وجل بما كان يدعو به حيث كان يقول عليه السَّلام: {الحمدُ لله الَّذي وهَبَ لي على الكِبَرِ إسماعيل وإسحاق إنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعاء * ربِّ اجعلني مُقيمَ الصَّلاة ومن ذُرِّيَّتي ربَّنا وتَقَبَّل دُعاءِ} (14 إبراهيم آية 39ـ40).
ثالثاً ـ كان صدِّيقاً ونبياً ظهر صدقه وتفانيه في كلِّ مراحل حياته ودعوته لله عزَّ وجل، قال تعالى: {واذْكر في الكتابِ إبراهيمَ إنَّه كان صدِّيقاً نَّبيّاً} (19 مريم آية 41).
رابعاً ـ يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والرِّفق واللين، ومثال ذلك دعوته لأبيه: {إذ قال لأبيه ياأبتِ لِمَ تَعبدُ ما لا يَسمعُ ولا يُبصرُ ولا يُغني عنك شيئاً * ياأبتِ إنِّي قد جاءَنِي من العلمِ ما لم يَأْتِكَ فاتَّبعني أَهدِكَ صِراطاً سَويّاً * ياأبتِ لا تعبدِ الشَّيطان إنَّ الشَّيطان كان للرَّحمن عَصِيّاً * ياأبتِ إنِّي أَخافُ أن يَمسَّك عذابٌ مِن الرَّحمنِ فتكون للشَّيطان ولِيّاً} (19 مريم 42ـ45) ويأتي جواب الأب بأشدَّ ما يكون من القسوة والصلابة: {قال أراغبٌ أنت عن آلهتي ياإبراهيم لَئِن لَمْ تَنتَهِ لأرجُمنَّك واهجرني مليّاً} (آية 46).
خامساً ـ كان رحيماً بأهله وقومه، فهو يخاطب أباه بعد أن جادله في كفره: {قال سلامٌ عليكَ سأستغفرُ لك ربِّي إنَّه كان بي حَفِيّاً} (19 مريم آية 47) ويجادل الملائكة في قوم لوط، لعلَّه يصرف عنهم العذاب، ويتضرَّع إلى الله تعالى أن يتفضَّل عليهم بالتوبة، {فلمَّا ذَهبَ عن إبراهيمَ الرَّوعُ وجاءتهُ البُشرَى يُجادلُنا في قومِ لوطٍ} (11 هود آية 74).
سادساً ـ كان رشيداً، قال تعالى: {ولقد آتينا إبراهيمَ رُشدَهُ من قَبْلُ وكنَّا به عالمين} (21 الأنبياء آية 51).(1/173)
سابعاً ـ كان متوجِّهاً توجُّهاً كاملاً لله تعالى، ومسلِّماً له بكلِّ جوارحه، وفيّاً بعهده، قال تعالى: {وتَركْنا عليه في الآخِرِين * سلامٌ على إبراهيم * كذلك نَجزي المحسنين * إنَّه من عِبَادِنا المؤمنين} (37 الصافات آية 108ـ111)، وقال أيضاً: {إذ قال له ربُّه أَسْلم قال أسلمتُ لِربِّ العالمين} (2 البقرة آية 131)، وقال أيضاً: {وإبراهيمَ الَّذي وفَّى} (53 النجم آية 37).
ثامناً ـ كان ذا حُجَّة قويَّة ومنطق سليم، يعكسان إيمانه العقلاني بالله عزَّ وجل: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذي حَاجَّ إبراهيمَ في ربِّه أن آتاهُ الله المُلْكَ إذ قال إبراهيمُ ربِّي الَّذي يُحيي ويُميتُ قال أنا أُحيي وأُميت قال إبراهيمُ فإنَّ الله يأتي بالشَّمسِ من المشرِقِ فأْتِ بها من المغربِ فبُهتَ الَّذي كَفَر والله لا يهدي القوم الظَّالمين} (2 البقرة آية 258).
تاسعاً ـ إنه من أولي العزم والبصيرة ومن صفوة الرسل الَّذين تحمّلوا المشاقَّ، وواجهوا الصِّعاب في سبيل الدعوة إلى دين الله، قال تعالى: {واذْكر عِبادَنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ أُولِي الأيدي والأبصار} (38 ص آية 45).
عاشراً ـ كان أوَّاهاً من كثرة الإنابة الصادقة إلى الله عزَّ وجل، حليماً، قال تعالى: {..إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ حليمٌ} (9 التوبة آية 114)، وقال أيضاً: {إنَّ إبراهيم لحليمٌ أوَّاهٌ منيبٌ} (11 هود آية 75).(1/174)
وقد حاز إبراهيم الخليل عليه السَّلام، هذه المكانة العالية والمنصب الرفيع، بتوفيق الله أوَّلاً وبما حمل من صفات كريمة فاضلة، وبما عمل من عمل التزم فيه المنهج الإلهي، بصدق وإخلاص منقطع النظير، وفي هذا تنبيه إلى أن من يعمل بمثل هذا الصدق، لابُدَّ أن يفوز بأعلى المنازل بدليل قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمَّهُنَّ قال إنِّي جاعِلُكَ للنَّاس إماماً..} (2 البقرة آية 124) ومن أراد أن يَتَّبِعَ ملة إبراهيم حنيفاً فلابُدَّ من أن يكون جوهر روحه مضيئاً مشرقاً علْويّاً، قليل التعلُّق باللذات الجسمانية، ثمَّ يضيف إلى هذا الجوهر المقدَّس أعمالاً صالحة تزيده صقلاً، وأفكاراً بنَّاءة تزيده استنارة بالمعارف القدسية، كي يتوغَّل في عالم القدس والطهارة، ثمَّ لا يزال يزداد من هذه الأحوال الشريفة، إلى أن يصير مؤمناً لا يرى إلا بالله، ولا يسمع إلا بالله، فهو مع الله في كلِّ حركاته وسكناته. أي أن هذه التصرفات تكون محكومة بشرع الله، وتغذي جوارحها طاقة نورانيَّة مستمدَّة من فضل الله، وبذا تظهر فضيلة التديُّن الحقِّ، وامتياز الإيمان عن الجهل والجاهلية.
وقد قدَّس الله ـ الحنيفيَّة ـ ملَّة إبراهيم عليه السَّلام ودعا إليها، لأنها اللبنة الأولى للشرائع السماوية وشجرتها الأم، ولأنها تعني الوصول إلى الله عبر العقل والحواس، ولأنها تجمع قلوب الخلائق على وحدانيَّة الله تعالى، وتزرع في ضمائرهم الصدق والإخلاص، وعلى هذه الحنيفية بُنيت رسالة الإسلام، لذلك قال تعالى: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بإبراهيمَ لَلَّذين اتَّبعُوه وهذا النَّبيُّ والَّذين آمنوا والله وليُّ المؤمنين} (3 آل عمران آية 68)؛ صلَّى الله عليك يا إبراهيم ـ خليل الله ـ وجزاك عن البشرية كلَّ خير.(1/175)
وبالإضافة إلى المآثر الكبرى الَّتي كانت لإبراهيم عليه السَّلام، فإن الله سبحانه اختاره وولده إسماعيل لبناء أوَّل بيت وضع لعبادة الله في هذه الأرض، ألا وهو الكعبة المشرَّفة، حيث قال الله تعالى: {إنَّ أوَّلَ بيتٍ وضِعَ للنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مباركاً
وهدىً للعالمين * فيه آيات بيِّناتٌ مقامُ إبراهيمَ ومن دَخَلهُ كان آمناً..} (3 آل عمران آية 96ـ97).
ويشير كتاب الله إلى هذه المأثرة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام فيقول: {وإذ يَرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تَقبَّلْ منَّا إنَّكَ أنت السَّميعُ العليم * ربَّنا واجعلنا مُسلمَيْن لك ومن ذُرِّيَّتنا أُمَّةً مسلمةً لك..} (2 البقرة آية 127ـ128) ومن أجل الإعداد لذلك أمر الله إبراهيم بأن يضع زوجته هاجر وولده (منها) إسماعيل الرضيع، بوادٍ غير ذي زرع، عند المكان الَّذي ستشاد عليه الكعبة المقدَّسة، ليكونا نواة المجتمع المكِّي المقبل. ويرقُّ قلب إبراهيم الرحيم لزوجته وولده، وما أن توارى عن أنظارهما راجعاً إلى فلسطين، حتَّى أشرف على وادي مكَّة ودعا ربَّه قائلاً: {..ربِّ اجعل هذا البلدَ آمناً واجنُبني وبنيَّ أن نعبُدَ الأصنام} (14 إبراهيم آية 35) ويتابع متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجل ويقول: {ربَّنا إنِّي أسكَنتُ من ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتِكَ المحرَّم ربَّنا ليُقيموا الصَّلاة فاجعل أفئدةً من النَّاسِ تهوي إليهم وارزقهم من الثَّمراتِ لعلَّهم يشكرون} (14 إبراهيم آية 37). وهكذا جُلِبَتِ الحياة إلى وادي مكَّة، وأنعم الله على هاجر الصابرة المحتسبة وعلى ولدها، بالماء حيث لا ماء ولا أثر للحياة فكان بئر زمزم، وحامت الطُّيور فوق الماء ممَّا لفت انتباه إحدى القوافل المارَّة من هناك، وكان ذلك أمراً عجباً، حيث لم يعهدوا وجود الماء في هذا المكان من قبل، وشاهدوا الرضيع وأمَّه، فأقاموا هناك وكانت نقطة البداية.(1/176)
فلما عاد إبراهيم عليه السَّلام بعد مدة للاطمئنان عليهما، سُرَّ لما رأى من عناية الله ورعايته لأهله، وبدأ بتنفيذ الأمر الإلهي ببناء الكعبة بمساعدة ابنه وقد غدا يافعاً قويّاً.
وبعد أن أتمَّ البناء أمره الله سبحانه أن يدعو عباده للحجِّ إلى بيت الله العتيق، فقال تعالى: {وأذِّن في النَّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كُلِّ ضامرٍ يأتينَ من كُلِّ فجٍّ عميق} (22 الحج آية 27). وبذلك كان أوَّل من جاء بالحجِّ، وإكراماً له ولصدقه في تنفيذ أمر الله، وطاعة ولده واستسلامه لمشيئة الله، شُرِعَتِ الأضحية، فقد مثَّل الأب وابنه أعظم مشهد في التضحية، والامتثال المطلق لأمر الله سبحانه وتعالى، فاستحقَّ أن يكون خليل الله سبحانه وتعالى.
يوسف عليه السَّلام
سورة يوسف(12)
قال الله تعالى: {وقال المَلِكُ ائْتُونِي به أستَخلِصْهُ لِنفسي فلمَّا كلَّمه قال إنَّك اليومَ لَدَينا مَكِين أمين(54) قال اجْعَلني على خَزائنِ الأَرضِ إنِّي حفيظٌ عليم(55) وكذلك مكَّنَّا لِيوسفَ في الأَرضِ يتبوَّأُ منها حيث يشاءُ نُصِيبُ بِرحمَتنا من نَشاءُ ولا نُضِيعُ أجرَ المحسنين(56) وَلأَجْرُ الآخرةِ خيرٌ للَّذين آمنوا وكانوا يتَّقون(57)}
ومضات:
ـ اقتطفنا هذه الآيات من قصَّة يوسف عليه السَّلام المليئة بالتشويق والإثارة، لنبيِّن الثمار الَّتي جناها بعد المعاناة الرهيبة والطويلة الَّتي مرَّ بها، وهو صابر وَرِع تقي، لم يمتدَّ طرفه إلى حرام ولا يده إلى إثم، فصار أميناً على خزائن مصر، واستطاع بعد وصوله إلى هذا المنصب الرفيع، أن ينقذ قومه من غائلة الجوع، بسبب القحط الشديد الَّذي ألمَّ بهم.
ـ تُبيِّن لنا قصَّة يوسف عليه السَّلام أن حسد إخوته له لم يغنِ عنهم شيئاً، بل ارتدَّ كيدهم إلى نحرهم، وقد أَتَوْا إليه أذِلاَّء صاغرين، وهو في عزٍّ ومقام مكين؛ فظهر بشكل جليٍّ أن عاقبة المعصية ذلٌّ وخسارة، وأن العاقبة الطيِّبة للتَّقوى.(1/177)
ـ يجدر التنويه إلى أنَّ يوسف عليه السَّلام كان سبباً لدخول بني إسرائيل (أولاد يعقوب وذريَّاتهم) إلى مصر، وموسى عليه السَّلام هو مَن أخرجهم منها، وأن يوسف عليه السَّلام أُلْقيَ في الجُبِّ من قِبَل إخوته وهو صغير بغية قتله، وموسى وُضع في التابوت وأُلقيَ في اليمِّ لإنقاذه من القتل. وأن يوسف وموسى عليهما السَّلام قد عاشا وترعرعا في كنف أكبر زعيمين غير مؤمنين من زعماء مصر، كلٌّ في حينه، حيث أن عزيز مصر ضمَّ يوسف إليه آملاً أن يتَّخذه ولداً، وكذلك فعل فرعون مع موسى، وهكذا ترعى الأشواك الأزهار لتبقى مزهرة يانعة، فوَّاحة عطرة. ونتبيَّن من خلال هذه النقاط المشتركة بين سيرة يوسف وموسى عليهما السَّلام، ملامح الارتباط الوثيق في عمل الأنبياء، والَّذي يكمِّل بعضه بعضاً.
ـ لقد أتى القرآن الكريم على ذكر جوانب كثيرة من قصَّتي يوسف وموسى عليهما السَّلام. فمن شاء الاستزادة من تلك القصص، أو الاطلاع الوافي عليها فليرجع إلى هذا المنهل الغزير العذب الَّذي يجد فيه الباحث بغيته، وينال عن طريقه غايته، حيث يجد فيها جميعاً، دعوة الأنبياء، وجهاد الأنبياء، وصبر الأنبياء، وهداية الأنبياء، فيكون له فيهم الأسوة الحسنة.
في رحاب الآيات:(1/178)
الحرب سجال بين الحقِّ والباطل، ولئن ربح الباطل جولة، فإن الحقَّ هو المنتصر في النهاية. وهذا هو قانون الله في الأرض، {..فأمَّا الزَّبدُ فيذهبُ جُفاءً وأمَّا ما ينفعُ النَّاسَ فيمكُثُ في الأَرضِ..} (13 الرعد آية 17). ومن منطق نصرة الحقِّ وقوَّته وديمومته، تبلورت الأمور وظهرت للعيان براءة يوسف عليه السَّلام من التهمة الَّتي أُلصقت به كيداً وظلماً، كما ثبتت حصافة رأيه، ورجاحة عقله؛ بعد أن فسَّر رؤيا الملك الَّتي كانت تحمل في طيَّاتها إشارات إلى مجيء قحط يكتسح البلاد، فلم يكتف عليه السَّلام بتأويل هذه الرؤيا، بل وصف للملك الحلول الناجعة للخروج من تلك الأزمات الَّتي ستعانيها مصر. فطلب الملك إحضاره من السجن، ولما جاءه وسمع كلامه، أدرك من فحوى حديثه عظيم حكمته وحسن تصرُّفه، ورأى في سيرته الحسنة في السجن، وعلمه وفهمه في تأويله للرؤيا، خير دليلٍ على أنه أهلٌ لأن يُرفع إلى أعلى المراتب، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريباً أو فقيراً أو مملوكاً. لقد دار حوار بين الملك ويوسف عليه السَّلام ـ والحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه وآدابه ـ ومنه تبيَّن للملك أهليَّة يوسف عليه السَّلام وكونه جديراً بأن يصبح موضع ثقته، وصاحب مشورته، فجعله من خاصَّته واستخلصه لنفسه بعد أن قال له: إنك لدينا ذو مكانة سامية ومنزلة عالية.(1/179)
لكنَّ النفوس النبيلة لا تنحصر أحلامها في ذواتها وتحقيق رغباتها فحسب، بل إنها تنظر إلى بعيد، نظرة شموليَّة تسع الكون والأحياء جميعاً، وهذا ما حدا بيوسف عليه السَّلام إلى أن يطلب من الملك إدارة الأمور المالية؛ لأن سياسة المُلك بالحكمة، وتنمية العمران، وإقامة العدل، تتوقَّف على مثل هذه النفوس، وقد زكَّى نفسه وامتدحها أمام الملك تعريفاً لا ثناءً ليثق به، ويركن إليه في تَوَلِّيه هذه المهام؛ فقال: إني حفيظ عليم، خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما أتولاه. فطلب يوسف عليه السَّلام ما يعتقد أنه قادر على النهوض به من الأعباء في الأزمة القادمة الَّتي تبيَّنها من تأويله رؤيا الملك، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت، وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من هجمة الجوع، فكان بذلك حكيماً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفاءته وأمانته، مع الاحتفاظ بكرامته وإبائه، فهو لم يكن يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه، إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة الَّتي يستجاب له فيها، لينهض بالواجب الثقيل، في أشدِّ أوقات الأزمة، متحمِّلاً للمسؤولية الضخمة في إطعام شعب كامل، وشعوب تجاوره طوال سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع.
لقد بدَّل الله تعالى حال يوسف عليه السَّلام، فوسَّع عليه بعد ضيق، ويسَّر عليه بعد عسر، وجعل الأرض مُلْكاً له، مفتوحةً أبوابها، ميسَّرةً سُبُلها، يتبوَّأ منها المنزل الَّذي يريد، والمكان الَّذي يهوى، والمكانة الَّتي يختار بعد أن مرَّ بتجربة الجُبِّ وما فيه من خطر وضيق، والسجن وما فيه من قيود. والله يصيب برحمته من يشاء فيجعل من العسر يسراً، ومن الضيق فرجاً، ومن الخوف أمناً، ومن القيد حريَّة، ومن الهوان عزّاً ومقاماً عالياً. وكانت ليوسف عليه السَّلام تلك المكانة الرفيعة في الأرض، وله أيضاً البشارة في الآخرة جزاءً وفاقاً على الإيمان والصبر والإحسان.(1/180)
والتَّقوى لابُدَّ منها لكلٍّ من أهل النعمة والمحنة، أمَّا أهل النعمة فتقواهم بالشكر لأنه وقاية من الكفر، وأمَّا أهل المحنة فتقواهم بالصبر لأنه جُنَّة من الجزع والاضطراب. وقد كان يوسف عليه السَّلام تقياً في الحالتين؛ فعندما امتحنه الله بكيد إخوته الَّذين رَمَوْه في الجُبِّ، وكذلك بكيد امرأة العزيز الَّتي ألقته في السجن، كان صابراً وراضياً، مترقِّباً رحمة الله، ومؤمناً بعدله ونصرته، وداعياً إلى عبادته فلم تزحزحه هذه المِحَن عن إيمانه وثقته بالله. وعندما أنعم الله عليه بالقرب من الملك والسلطان والغنى، لم تفسد هذه النعم عليه فطرته السليمة، بل بقيت نقيَّة طاهرة لم تعكِّرها الشِّدة ولم تفسدها النعمة، وعندما قيل له: ما بالك لا تشبع وبيدك خزائن الأرض؟ قال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائعين.
وفي الختام لابدَّ أن نشير إلى أن ملوك الرعاة كانوا يحكمون مصر حين وصول يوسف عليه السَّلام إليها وليس الفراعنة، وهذا من الإعجاز القرآني المدهش، حيث لم يكن أحد يدري عن هذه الحقبة التاريخية شيئاً زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وقال المَلِكُ ائْتونِي به..}.
موسى عليه السَّلام
سورة طه(20)(1/181)
قال الله تعالى: {وهل أتاكَ حديثُ موسى(9) إذ رأى ناراً فقال لأهلهِ امكُثوا إنِّي آنستُ ناراً لعلِّي آتيكم منها بِقَبَسٍ أو أجدُ على النَّار هُدىً(10) فلمَّا أتاها نُوديَ ياموسى(11) إنِّي أنا ربُّك فاخلعْ نَعليك إنِّك بالوادِ المقدَّسِ طُوىً(12) وأنا اخترتُكَ فاستمع لما يُوحى(13) إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبُدْني وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري(14) إنَّ السَّاعة آتيةٌ أكادُ أُخْفيها لِتُجزى كُلُّ نفسٍ بما تسعى(15) فلا يَصُدَّنَّك عنها من لا يُؤمنُ بها واتَّبعَ هواهُ فَتَرْدَى(16) وما تِلكَ بيمينك ياموسى(17) قال هيَ عصايَ أَتَوكَّؤ عليها وأَهُشُّ بها على غنمي وَلِيَ فيها مآربُ أُخرى(18) قال ألقِها ياموسى(19) فألقاها فإذا هيَ حيَّةٌ تسعى(20) قال خُذها ولا تخف سَنُعِيدُها سِيرتَها الأولى(21) واضْمُمْ يَدَك إلى جنَاحِكَ تَخرجْ بيضاءَ من غيرِ سوءٍ آيةً أُخرى(22) لُنرِيَك من آياتنا الكبرى(23) اذهب إلى فرعون إنَّه طَغى(24) قال ربِّ اشرحْ لي صدري(25) ويسِّر لي أمري(26) واحلل عُقدةً من لساني(27) يَفقهوا قولي(28) واجعل لي وزيراً من أهلي(29) هَارونَ أخي(30) اشْدُدْ به أزري(31) وأَشْرِكْهُ في أمري(32) كي نُسبِّحَكَ كثيراً(33) ونَذْكُرَكَ كثيراً(34) إنَّك كُنت بنا بصيراً(35) قال قد أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى(36) ولقد مَننَّا عليكَ مرَّةً أُخرى(37) إذ أوحينا إلى أمِّك ما يُوحى(38) أن اقذفيه في التَّابوتِ فاقذفيه في اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بالسَّاحِلِ يَأخُذْهُ عدوٌّ لِي وعدوٌّ له وأَلقيتُ عليك محبَّةً منِّي ولِتُصنعَ على عيني(39) إذ تمشي أُخْتُكَ فتقولُ هل أدُلُّكُم على من يَكْفُلُهُ فَرَجَعناك إلى أُمِّك كي تقرَّ عَينُها ولا تحزن وقَتلتَ نفساً فنجَّيناك من الغمِّ وفتنَّاك فُتُوناً فلبِثت سنين في أهل مَدْيَن ثمَّ جئتَ على قَدَرٍ ياموسى(40) واصطنعتُكَ لنفسي(41) اذهب أنتَ وأخوكَ(1/182)
بآياتي ولا تَنِيَا في ذكري(42) اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى(43) فقولا له قولاً ليِّناً لعلَّهُ يَتَذكَّر أو يخشى(44)}
ومضات:
ـ من كان يدري أن لقيطاً من الماء (في نظر الناس) تحتضنه زوجة فرعون، ملك الملوك في مصر، لتُرَبِّيه هي وزوجها ويتعهَّدانه، ليكبر ويشتدَّ ساعده وهو في كنفهما. ثمَّ يغادرهما خائفاً طريداً، ليعود إليهما نبيَّاً رسولاً وكليماً لله تعالى، محاوراً ومنذراً لفرعون من طغيانه وادِّعائه الألوهيَّة لنفسه؟.
ـ كان لابدَّ من تزويد موسى عليه السَّلام، بمعجزاتٍ بيِّناتٍ باهرة، نظراً لتسلُّط فرعون وتجبُّره، وادِّعائه الألوهيَّة، معتمداً بذلك على أمهر السحرة في زمانه، ليخدع الناس بسحرهم، ويؤثِّر على عقولهم ليؤمنوا به، فجاءت معجزة موسى عليه السَّلام عندما تَحوَّلت عصاه ـ بإذن الله ـ إلى حيَّة تسعى، لتبطل سحر السحرة، فكانت آية في القوَّة، وبإذنٍ من الله الَّذي بيده مقاليد كلِّ شيء، فلا يمكن لأمر ما؛ أن تقوم له قائمة، ما لم يأذن به الله سبحانه ويشاء.
ـ عندما جاء الأمر لموسى عليه السَّلام بدعوة فرعون وملئه إلى عبادة الله، أدرك صعوبة هذه المهمَّة، وشعر بالحاجة إلى مساعد له لأداء ما أُمر به، فطلب من ربِّه أن يشدَّ أزره بأخيه هارون؛ وفي هذا إشارة إلى أنه لابُدَّ لكلِّ داعية من أخ في الله يعينه ويؤيِّده ويسانده.
ـ ذكر الله وتسبيحه هما الطاقة الفاعلة، والقوَّة المحرِّكة لعمل الدعوة إلى دين الله، ومهما أوتي الداعي من علم وفصاحة وحُجَّة؛ فلا غنى له عنهما؛ لأن العلم المجرَّد من نور الله وذكره، يجعل من صاحبه قالباً جامداً، لا روح فيه ولا حياة، وبالتالي يكون علمه ميتاً لا روح فيه ولا حياة، فلا نفع له؛ لأن العلم النافع هو العلم الَّذي يثمر العمل في صاحبه، ويحرِّك دوافع التطبيق والامتثال في سامعه.
في رحاب الآيات:(1/183)
لابُدَّ لكلِّ نبي أثناء مسيرته وجهاده في الدعوة إلى الله، من صعوبات ومشاقّ تعترض طريقه. وقد يعتريه في بعض الأحيان شيءٌ من الضعف والتعب، فهو في حاجة مستمرَّة إلى التثبيت وتقوية العزيمة، ولم يكن الله ليخذل أنبياءه أو يُخْلِفَهم موعده. فهو الَّذي أمرهم بالتبليغ ووعدهم بالنُّصرة؛ ولهذا كانت معونته تؤازرهم، وكان نصره وتأييده يحالفهم. وقد قصَّ الله تعالى على نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات قصَّة نبي كريم ورسول عظيم لتكون تثبيتاً له وتأييداً، وليجد فيها بعض العزاء والسلوى، قال تعالى: {وكُلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادكَ وجاءك في هذه الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين} (11 هود آية 120).
وتبدأ الآيات الكريمة بالاستفهام التقريري، ومن سنن اللغة العربية أنه إذا أُريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب في نفس المخاطب أن يُلقى إليه بطريق الاستفهام، فالاستفهام غرضه التشويق لما سيأتي بعده، والمعنى: هل بلغك يامحمَّد خبر موسى وقصَّته العجيبة؟ إنه بعد خروجه من مَدْيَنَ صحب أهله وتوجَّه إلى سيناء، فلما بلغها لاحت له نار من بعيد، فترك أهله وتوجَّه نحوها كأيِّ عابر للصحراء، لعلَّه يأخذ من النَّار قَبَساً يشعل به ناره، أو يجد عند النار من يهديه إلى الطريق الصحيح حتَّى لا يضِلَّ في متاهات الصحراء. فلما اقترب منها، رأى شجرة خضراء تشتعل فيها نار بيضاء، فوقف متعجِّباً من شدَّة ضيائها وخضرتها، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نوراً عظيماً بين السماء والأرض له شعاع تكلُّ عنه الأبصار. وإذا بالنِّداء يأتيه من قِبَل هذا النور مهدِّئاً ومطمئناً: {إنِّي أنا ربُّك فاخلعْ نَعليك} والمقصود بخلع النعلين هو تعظيم ذلك الموضع في الوادي المقدَّس، ولأن خلعهما أبلغ في التواضع، وحسن التأدُّب.(1/184)
ثمَّ يخبر الله موسى عليه السَّلام في ذلك المقام عن قربه منه، وعن الأمانة الَّتي سيوكل إليه حملها، فقد اختاره ليكون رسولاً يبلِّغ رسالته، وأمر سبحانه موسى عليه السَّلام بالإصغاء التامِّ لما سيُلقى إليه؛ فكان أوَّل بند من بنود الرسالة هو تقرير وحدانيَّة الله تعالى، ذلك لأنها الدِّعامة الأولى الَّتي لا يمكن لأي بناء إيماني أن يبنى إلا عليها. ونلاحظ في هذه الجملة القصيرة: {إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا} استعمال ضمير المتكلم بشكل متتالٍ للتوكيد على ألوهيَّة الله، وأنه الفرد الصمد الَّذي ليس كمثله شيء. ثمَّ يأتي الأمر الحازم بالعبادة (فاعبدني)، أي أفردني وحدي بالعبوديَّة منزِّهاً إيايَّ عن الأغيار، وعن جميع علائق الدنيا، وأدِّ الصلاة على وجهها الحقيقي لتكون صلةً بيني وبينك، وسنداً وعوناً لك على أداء رسالتي. واعلم أن يوم الحساب آتٍ لتعود الخلائق كلُّها إليَّ فأجزي كلَّ إنسان بما يستحقُّ، فلا تتَّبِع أهواء المنحرفين وأصحاب الدنيا وتنسى الآخرة، لأن ذلك يودي بك إلى الخسران المبين.(1/185)
وبعد وضع حجر الأساس في بناء صرح الإيمان، يتصل الحوار بين الله ورسوله، فيسأله تعالى سؤال العالم الخبير عن تلك العصا الَّتي يحملها، وعن فائدتها؟. والغرض من السؤال هو أن يبيِّن له أنه سيجعل لتلك الخشبة ـ الَّتي ليس لها خطر كبير ولا منفعة عظيمة ـ جليل المزايا والفوائد الَّتي لا تخطر على بال، كانقلابها إلى حيَّة تسعى، وضرب البحر بها حتَّى ينفلق، وضرب الحجر لتتفجَّر منه اثنتا عشرة عيناً من الماء العذب كما حدث في مشاهد أخرى، ولينبِّهه إلى أن من كمال قدرته وبالغ عظمته، أنه يجعل من مثل هذه العصا، معجزات وأعاجيب فوق كلِّ تصوُّر وعلم بشري. فأجابه موسى عليه السَّلام الجواب المستفيض معدِّداً ما لها من فوائد ومزايا: {قال هي عصايَ أتوكَّؤ عليها} أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت، أو وقفت على رأس القطيع من الغنم، {وأَهُشُّ بها على غَنمي} أي أضرب ورق الشجر بها ليسقط على غنمي فتأكله، ولي فيها مصالح ومنافع أخرى غير ذلك كحمل الزاد، وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت ألقيتها على عاتقي، فعلَّقت بها قوسي وكنانتي وثوبي، وإذا أردت ماءً قصَّر عنه رشائي وصلته بها. فلما انتهى موسى عليه السَّلام من إجابته، جاءه الأمر الإلهيُّ، الَّذي سيكشف الله به لنبيِّه عن آية الإعجاز في تلك العصا، فقال له: {ألقِها ياموسى} فألقاها فدبَّت فيها قوَّة الحياة، وإذا هي حيَّة تسعى، وكم من ملايين الذرَّات الميتة تتحول في كلِّ لحظة إلى خليَّة حيَّة، لكنَّها لا تبهر الإنسان كما يبهره أن تتحوَّل عصا موسى عليه السَّلام حيَّة تسعى! ذلك لأن الإنسان أسير حواسِّه، وأسير تجاربه، فلا يخرج في تصوُّراته بعيداً عمَّا تدركه حواسُّه. وانقلاب العصا حيَّة تسعى، ظاهرة حسيَّة، تصدم حسَّه فينتبه لها بشدَّة، أمَّا الظواهر الأولى لمعجزة الحياة، الَّتي تدبُّ في كلِّ لحظة، فهي خفيَّة قلَّما يُلْتَفت إليها، وخاصَّة أن الألفة تُفقدها جدَّتها، فيمرُّ(1/186)
عليها غافلاً أو ناسياً. لذلك فقد أوجس موسى عليه السَّلام خيفة من العصا الَّتي انقلبت حيَّة تسعى، فقال له تعالى: {خُذها ولا تَخف} فإنها ستعود كما كانت، وتتسرَّب منها الحياة كما سرت فيها من قبل. ولا يخفى أن السرَّ في ذلك ليس مختصّاً في عصا معينة، بل لو أن موسى عليه السَّلام أو غيره، حمل أيَّة عصا أخرى غيرها، وجاء الإذن الإلهي بإظهار الإعجاز فيها، لما تخلَّف لحظة واحدة، فالقدرة الحقيقيَّة لله تعالى وليست لموسى عليه السَّلام ولا لغيره.(1/187)
ويؤيِّد الله موسى عليه السَّلام بمعجزة ثانية؛ وهي خروج يده بيضاء لامعة، والآية الَّتي تتحدث عن ذلك قوله تعالى لرسوله: {واضْمُمْ يَدك إلى جَناحِك...} أي أَدخل يدك تحت إبطك ثمَّ أخرجها، تخرج نيِّرة مضيئة كضوء الشمس، من غير عيب ولا بَرَصٍ. وهاتان آيتان من آياتي الكبرى، فاذهب بهما دليلين على نبوَّتك إلى فرعون وملئه، فقد تجاوز حدوده في الكفر والطغيان، حتَّى ادَّعى أنه الإله. فتهيَّب موسى عليه السَّلام الأمر؛ كيف يذهب إلى فرعون الطاغية، ورأس الكفر في زمانه؟ يضاف إلى ذلك أنه فرَّ من مصر بسبب قتله للمصري خطأً، وهل سيصَدِّقه فرعون؟ وهل سينجو من عقابه إذا كذَّبه؟ أسئلة متلاحقة تزاحمت في ذهن موسى عليه السَّلام، وتجسَّدت في هذا النداء (ربِّ) لقد ضاق صدري، فالمهمَّة عظيمة، والأمر جَلَلٌ فاشرح لي صدري، ونوِّره بنور الإيمان، واكشف همِّي، ويسِّر أمري، وفكَّ عقدة من لساني؛ وكان في لسان موسى عليه السَّلام حَبْسة (أو لثغة) تمنعه من كثير من الكلام، وكان حادَّ الطبع، سريع الانفعال، لذا طلب من الله أن يؤيده بأخيه هارون، ليكون عوناً له يحمل معه أعباء الرسالة، ويكون ظهيراً له عند الشدائد، ولِما له من فصاحة اللسان، وثبات الجنان وهدوء الأعصاب. وفي هذا إشارة إلى أن صحبة الأخيار للأنبياء ومؤازرتهم مرغوب فيها، فضلاً عن غيرهم، وأنه لا ينبغي أن يكون المرء مستبِّداً برأيه، حتَّى وإن كان نبياً. ثمَّ بيَّن موسى عليه السَّلام أن مؤازرة أخيه هارون له ستجعل أمامهما متَّسعاً من الوقت ليعبدا الله حقَّ عبادته، فلا تشغلهما مهامُّ الرسالة عن العبادة؛ بل يتفرغان بعض الوقت للتسبيح والتقديس ويستغرقان في ذكر الله، الذكر المتَّصل؛ الَّذي يقوِّيهما ويمدُّهما بالعون والثقة بالنفس على مواجهة عدو الله، مستمدِّين العون من الله المراقب لهما، والعالم بأمورهما، والمطَّلع على أحوالهما الَّتي لا يخفى عليه شيءٌ منها. وفي هذا(1/188)
إشارة إلى أهمية الأخوَّة في الله، وضرورة توثيق الصلة الروحية بين المتآخين، للتعاون والعمل الجادِّ على نشر الدعوة إلى الله، بقلوب ذاكرة وعاشقة له تعالى.
لقد أطال موسى عليه السَّلام سؤاله فسأل الله حاجته، وأعرب له عن ضعفه، وطلب منه العون والتيسير والاتصال الدائم، وربُّه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، يناديه ويناجيه، فإذا بالكريم المنَّان لا يُسفِّه راجيه ولا يردُّ سائله، ولا يبطئ عليه بالإجابة ويبشِّره بها فيقول له: {قد أوتيت سؤلك ياموسى} هكذا مرة واحدة، وبكلمة واحدة، فيها إجمال يغني عن التفصيل، وفيها تنجيز مطلق عن قيود التعليق أو التأجيل، وفيها تكريم وإيناس له بندائه باسمه: ياموسى! وأيُّ تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من عباده؟ لقد أُجيب السؤال، وقُضيت الحاجة، ولكنَّ فضل الله لا رادَّ له، ورحمته لا ممسك لها، فهو يغمر عبده بمزيد من فضله، وفيض من رضاه.(1/189)
وبعد الاستجابة والبشارة، يأتي التكليف ضمن شروط محدَّدة، تبيِّن مهمَّة الداعي إلى الله، وكيف يكون استعداده قبل مواجهة أعداء الله، وكيف تكون دعوته بلين ورفق، فربما تحرَّك شيء من الإيمان في قلب العصاة وحصل المراد. فذكرت الآيات المعاني التالية: اذهب أنت وأخوك بالمعجزات الَّتي أيَّدْتُك بها إلى فرعون، فأكثرا من ذكري، ولا تفترا ولا تقصِّرا في عبادتي، فأنتما وما تملكان من فصل الخطاب، وذكاء العقل، وتفتُّح الجنان، لن تستطيعا تحريك أيَّ قلب إن لم ترتبطا بي، وتستمدَّا القوَّة مني، فإيَّاكما والانشغال عن ذكري. وبعد الذكر وتطهير القلب وشحذ العزيمة، اذهبا إلى فرعون الَّذي تمادى وتجاوز كلَّ حدٍّ، حين جعل نفسه إلهاً، وصرف الناس عن عبادتي {فقولا له قولا ليِّناً}. وعلى الرغم من بشاعة الذنب الَّذي ارتكبه فرعون، فقد علَّم الله نبيَّه الأسلوب الأمثل في دعوته وهدايته؛ إنه حوار عقلاني يدفع الحُجَّة بالحُجَّة، ليِّن هيِّن من شأنه أن يستجيش عاطفة الإيمان برفق، وينبِّه مكامن الحسِّ بيُسر، لأن الطغاة إذا دُعوا بعنف وشدَّة، استيقظت نوازع البطش والبغي في نفوسهم، وأخذتهم العزَّة بالإثم، لذلك ينبغي التعامل معهم بحذر، فلعلَّ قلوبهم المتصلِّبة أن تلين، ويشرق فيها قبس وضَّاء من الهداية يومض فجأة فيغمرها بالنور. ولفظ (لعلَّ) الَّذي ورد في الآية يحمل معنى الرجاء والأمل بإيمان هذا الطاغية، وعلى الرَّغم من علم الله الأزلي بأن فرعون لن يؤمن، فإنه لم يطلع نبيَّه على هذا العلم، وتركه يحاول ويتخذ الأسباب، تعليماً للدعاة من بعده أن يتَّبعوا هذا الأسلوب في الدعوة، ولا يعلم ما في الغيوب إلا علاَّمُها سبحانه وتعالى، فإذا لم تتحقَّق النتيجة، كان فرعون هو المسؤول عن عناده بعد الإنذار والتحذير، ويستحقُّ عليه غضب الله تعالى.(1/190)
ثمَّ يذكِّرنا الله تعالى بماضي موسى عليه السَّلام وطفولته، تنويهاً بالمنزلة الكريمة الَّتي له عند ربِّه، وتذكيراً لنا بالنعم الكثيرة الَّتي أنعم بها عليه، وأن الله يسعف أنبياءه وأولياءه عند الشدائد، فقد أنجاه من الهلاك الأكيد مرَّات عديدة، إذ ولدته أمُّه في العام الَّذي كان فرعون يقتل فيه المواليد الذكور من بني إسرائيل، فأوحى لأمِّه أن تضعه في صندوق ثمَّ تطرحه في نهر النيل ففعلت، وكان للنيل فرعٌ يمرُّ في قصر فرعون، فبينما هو جالس مع امرأته آسية إذا بتابوت يحمله الماء، فلما رآه فرعون أمر بإخراجه، فأخرجوه وفتحوه، وإذا بصبيٍّ من أصبح الناس وجهاً، فلما رآه فرعون أحبَّه وسمَّاه موسى و(مو) هو الماء بالهيروغليفية، و(سا) هو الشجر.
لقد ألقى الله على موسى عليه السَّلام محبَّة خالصة منه، زرعها في قلوب من رأوه، ومنهم فرعون وزوجته الَّتي قالت له: {..قرَّةُ عَينٍ لِي ولكَ لا تقتلوهُ عسى أن يَنفَعَنا أو نَتَّخِذَهُ ولداً..} (28 القصص آية 9) وبهذا القَدَرِ الَّذي قُدِّر لموسى عليه السَّلام، نجد أن العناية الإلهيَّة الَّتي أحاطت به قد بلغت ذروتها، فقد أنجاه الله من الذبح الَّذي فرضه فرعون بحقِّ المواليد الجُدد من بني إسرائيل، ثمَّ أدخله بعد النجاة من الهلاك، قصر صاحب هذه الجريمة النكراء، ليتربَّى عنده معزَّزاً مكرَّماً تصديقاً لقوله تعالى: {ولِتُصنَعَ على عيني} أي لكي تُربَّى محفوفاً برعايتي، ومحاطاً بعنايتي الَّتي يتمتع كلُّ من يحظى بها بمنتهى الأمان، وإن كانت الظروف المحيطة موحشة ومخيفة.(1/191)
ثمَّ تعظُم المنَّة الربَّانية على موسى عليه السَّلام، حيث ألهمه تعالى أن يمتنع من الرضاع من أي امرأة غريبة، تهيئة لأسباب إعادته إلى حجر أمِّه وحنانها. فتأتي أخته تستطلع خبره وهي تمشي على ساحل النيل قريباً من الصندوق، وحين سمعتهم يطلبون مرضعة له، أشارت عليهم بمرضعة هي أمُّه، وبذلك أنجز الله وعده لأمِّ موسى عليه السَّلام بردِّه إليها بعد إلقائه في اليمِّ، كي تسعد بقربه وتنسى حزنها وخوفها عليه. وهكذا امتنَّ الله على موسى عليه السَّلام بنجاته من الذبح عند ولادته، ومن الغرق بعدها، فتجاوز مرحلة الطفولة بسلام وأمان. فلما بلغ مرحلة الشباب إذا به يقع في مأزق، كان من شأنه أن يورده موارد الهلاك، لولا أن تداركته العناية الإلهيَّة، وللمرَّة الثالثة، حين قَتل بطريق الخطأ، رجلاً مصرياً، دفاعاً عن رجل من بني إسرائيل استنجد به، فنجَّاه الله من عقاب فرعون، ونجَّاه من الهمِّ الَّذي ألمَّ به بعد ارتكابه هذا الذنب عن غير قصد حين قال: {..ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغفِر لي..} (28 القصص آية 16) ووفَّقه للهجرة إلى مدْيَن.
لقد ابتلى الله تعالى موسى عليه السَّلام بأنواع المحن، لكنَّه خلَّصه منها جميعها، وقد جاء في الحديث الشريف: «إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» (رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والترمذي وقال حسن صحيح). فالعبد الَّذي يريد الله اصطفاءه يجعله في بوتقة البلاء أوَّلاً، ثمَّ يخلِّص جوهره من كلِّ الشوائب. وهذا ما جرى مع موسى عليه السَّلام؛ فبعد أن اجتاز مرحلة الابتلاء والامتحان جيء به من أرض مدْيَن، لإقامة حُجَّة الله وتبليغ رسالته، وهداية الناس إلى التوحيد والشرع القويم.
داود عليه السَّلام
سورة سبأ(34)(1/192)
قال الله تعالى: {ولقد آتينا داوودَ مِنَّا فضلاً ياجبالُ أَوِّبِي معهُ والطَّيرَ وَأَلَنَّا له الحديدَ(10) أنِ اعملْ سابغاتٍ وقَدِّرْ في السَّردِ واعملوا صالحاً إنِّي بما تعملون بصير(11)}
ومضات:
ـ إن لله تعالى أعطيات خاصَّة يمنحها لعباده المصطَفَيْن، وداود عليه السَّلام كان واحداً من هؤلاء العباد؛ فقد وهبه الله تعالى من عذوبة الصوت، ودموع العاشق المتفجِّرة، وأنين المحبِّ الملوَّع، ما أثَّر في الجبال والطير فجعلها ترجِّع وتردِّد تسبيحه لله وتمجيده.
ـ لقد أُعْطِيَ داود عليه السَّلام ـ إلى جانب ما سبق ـ علماً متقدِّماً في الصناعة الحربية المتطوِّرة.
في رحاب الآيات:
تُجْمِع الروايات على أن داود عليه السَّلام قد أوتي صوتاً جميلاً عذباً، كان يرتِّل به مزاميره؛ وهي تسابيح دينية، ورد منها في كتاب العهد القديم ما الله أعلم بنسبته. وفي الصحيح «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ في الليل فوقف واستمع لقراءته ثمَّ قال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير داود».
والآية تصوِّر فضل الله تعالى على داود عليه السَّلام، إذ أنه بلغ من الشفافية والتجرُّد في تسابيحه درجة انزاحت معها الحجب بينه وبين كثير من الكائنات، فاتَّصل دعاؤه وتضرُّعه مع دعائها وتضرُّعها، ورجَّعت معه الجبال والطير، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز، فاتصلت جميعها بالله صلة واحدة، وعادت عن طريق ذكره إلى حقيقتها اللدُنِّية فإذا بها تتجاوب في تسبيحها للخالق، وتتلاقى في نغمة واحدة، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرُّد لا يبلغها أحد إلا بفضل الله تعالى. وحين انطلق صوت داود عليه السَّلام يرتِّل مزاميره ويمجِّد خالقه، تجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد، المتجه إلى بارئه الواحد... وإنها للحظات عجيبة لا يعرف قدرها إلا من عايشها، وذاق حلاوتها ولو لحظة في حياته.(1/193)
وممَّا أفاض الله تعالى على نبيِّه داود من النعم؛ أَنْ أَلانَ له الحديد وعرَّفه كيفيَّة استعماله. وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لتشير إلى مادة الصناعة الأوليَّة وهي الحديد لدراستها والاستفادة من تطبيقاتها في الحياة العملية، وليس كما فعل كثير من المسلمين حيث اكتفَوْا بالتبرُّك بهذه الآيات وحُسْنِ تجويدها والطرب لقارئها. إنها تعطينا درساً في حسن استخدام ما أودعه الله لنا في الطبيعة من الطاقات والقوى والمعادن لنكون في مقدِّمة الأمم حضارةً ومدنيَّة، لأن الدِّين لا ينافي علوم الحياة بل يأمر بها ويسيران معاً خطوة بخطوة ويداً بيد ليحقِّقا سعادة البشرية جمعاء. وهذا ما فعله سلفنا الصالح حيث أخذوا ما عند الأمم المتحضِّرة من مدنية وعلوم وزادوا عليها، انطلاقاً من الفهم السديد لآيات القرآن الكريم الكثيرة، الَّتي تلفت الأنظار للسير في هذا المضمار، ومنها ما نحن بصدد بيانه من آيات بيِّنات.
وفي ظلِّ هذا السياق يبدو أن داود عليه السَّلام هو أوَّل من اكتشف خواصَّ جديدة للحديد بفضل الله وإلهامه له، وأنه يمكن تليينه وتسخيره للصناعات المدنية والحربية. فصنَّع منه الدروع وآلات الحرب على أتمِّ النظم وأحكم الأوضاع. وروي أن الدروع قبله كانت تُصنَّع مصفَّحة، فكانت تُصلِّب الجسم وتثقِّله، فألهم الله داود أن يصنِّعها رقائق، أو حلقات متداخلة متموِّجة ليِّنة، يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم، وأمره بتضييق هذه الرقائق والحلقات لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح والسهام، وكان الأمر كلُّه إلهاماً وتعليماً من الله عزَّ وجل.(1/194)
ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة، الروح المسالمة القويَّة الَّتي يوجِّه إليها القرآن الكريم، فقد ذكر صناعة الدروع وهي سلاح دفاعي ولم يذكر صناعة الرماح وما شاكل من الأسلحة الهجومية، إشارة إلى أن المؤمن لا ينبغي له أن يبدأ غيره من عباد الله بالاعتداء والهجوم، بل عليه أن يسالم من يسالمه، فإذا اختار الطرف الآخر العداء والحرب، فلا يواجه ضعفاً، بل يجد قوَّة تردعه وتردُّه إلى الصواب.
سورة ص(38)
قال الله تعالى: {ياداوودُ إنَّا جعلناكَ خليفةً في الأَرضِ فاحكم بين النَّاسِ بالحقِّ ولا تتَّبع الهوى فيُضِلَّك عن سبيل الله إنَّ الَّذين يَضِلُّون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسُوا يومَ الحساب(26)}
ومضات:
ـ تتضمَّن هذه الآية توجيهاً إلهيّاً للنبي داود عليه السَّلام ـ حين كان يمثِّل رأس السلطة الروحية والسياسية في دولته ـ بأن يحسن تمثيل خلافته لله تعالى في أرضه وفي تصريف قضايا الرعية بالحقِّ والعدل، كما تحمل هذه الآية تحذيراً له من أن يجرفه الهوى فيميل إلى خصم دون آخر، ويُصدر أحكاماً غير موضوعية أو مجحفة بين الناس.
ـ إن من يجور في حكمه بين الناس، بعيد عن طريق الله عزَّ وجل، وله العذاب الشديد لتناسيه يوم المحاكمة الإلهية.
في رحاب الآيات:
إن وجود الإنسان في موقع المسؤولية تجاه الآخرين أمر بالغ الخطورة والأهميَّة، لاسيَّما إذا كانت مصائر الناس مرتبطة بسلوكه وطريقة إدارته للأمور. وقد أَوْلى الإسلام موضوع الحكم والحاكم الكثير من الاهتمام، لما له من دور في تحريك شؤون الناس، سواء في أمنهم وحسن استقرارهم، أو في أرزاقهم ومعاملاتهم.(1/195)
فالحاكم خليفة الله في الأرض، وعليه أن يراقبه في شؤونه الخاصَّة والعامة؛ لأن مراقبة الله تعالى تبقيه في دائرة الحقِّ، فلا يحكم إلا بالعدل، سواء على نفسه أو على الآخرين، كما أنها تثبِّته على الصراط المستقيم، فلا هوى يبعده عن الله، ولا حاشية سوء تخرجه عن منهجه، فتتلاشى المؤثِّرات الخارجية وتبقى التوجيهات الإلهية لتكون المنارة لكلِّ من تولَّى مسؤولية أو تحمَّل أمانة. وداود عليه السَّلام واحد من الَّذين استخلفهم الله في الأرض، وأناط بهم هذه المهمَّة الشاقَّة، لذلك نراه يرسم له خطَّة العمل الَّتي إن سار عليها هو ومن بعده من الحكَّام فلن يضلُّوا، وتتلخص باتِّباع الحقِّ في الحكم بين الناس، وعدم الميل مع هوى النفس، لأن اتِّباع الهوى يصرف الحاكم عن تصريف أمور الرعية بالحقِّ، فيتفشى الظلم والاستغلال والرشوة، والفساد والإفساد بين أفراد المجتمع.
والله تعالى يكشف الحجاب عن الخاتمة التعيسة لمثل هذا الحاكم، والعذاب الإلهي المتربِّص به، ليراها الناس جميعاً، كلٌّ في موقعه، فيلتزموا جانب الحذر والحيطة، ويرتفعوا بأنفسهم عن مواطن الشُّبُهات، ويلتزموا طريق الله الَّذي يوصل إلى السعادة والأمن، ويبتعدوا عن الطريق المتعرِّج، المليء بالحُفَر والمزالق، الَّتي تهوي بمن سار عليها قبل أن يصل إلى نهاية الدرب.
حقاً لقد منَّ الله على الإنسان في هذه الأرض بشرعه الحنيف من أجل أن يسعده السعادة الحقيقية في الدارين، وقد أَمَرَنا أن ندعوه، قولاً وعملاً، ليحقِّق لنا هذه الغاية بقوله: {..ربَّنا آتِنَا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّار} (2 البقرة آية 201).
يونس عليه السَّلام
سورة الصافات(37)(1/196)
قال الله تعالى: {وإنَّ يونُسَ لَمِن المُرسلين(139) إذ أَبَقَ إلى الفُلْكِ المَشحون(140) فساهَم فكان من المُدْحَضين(141) فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُليم(142) فلولا أنَّه كان من المُسبِّحين(143) لَلَبِثَ في بطنهِ إلى يوم يُبعثون(144)}
سورة القلم(68)
وقال أيضاً: {فاصبر لِحكم ربِّك ولا تكن كصاحبِ الحوتِ إذ نادى وهو مَكْظُوم(48) لولا أن تَدَارَكَهُ نِعمةٌ مِن ربِّه لنُبِذَ بالعراءِ وهوَ مَذْمُوم(49) فاجتَباهُ ربُّهُ فجعلهُ من الصَّالحين(50)}
سورة الأنبياء(21)
وقال أيضاً: {وذا النُّونِ إذ ذهبَ مُغاضِباً فَظنَّ أن لن نقدرَ عليه فنادى في الظُّلمَاتِ أن لا إله إلاَّ أنتَ سبحانك إنِّي كنت من الظَّالمين(87) فاستجبْنا له ونجَّيناهُ من الغَمِّ وكذلك نُنْجي المؤمنين(88)}
ومضات:
ـ إن من أهم مفاتيح النجاح في الدعوة إلى الله الصبر والثبات، فليس من الممكن إزاحة ركام الباطل والضلال بسهولة، أو تغيير العادات والتقاليد بوقت قصير، أو بجهد يسير، وهذا ما افتقر إليه يونس عليه السَّلام في بداية دعوته.
ـ الداعية الناجح هو من لا ييأس من صلاح النفوس واستجابة القلوب، فإنْ أخفق مرة فلابدَّ أن يفلح مرات، وإذا صبر فلابدَّ أن تفتَّح له أبواب القلوب الموصدة.
ـ لقد شعر يونس عليه السَّلام بثقل عبء المسؤولية في الدعوة إلى الله، وحاول الفرار من مواجهتها، فكان عقاب الله له صارماً، ولكنَّ صدق توجُّهه واستغفاره، أتاحا له نعمة المغفرة والعفو ليعود إلى جادَّة الصواب.
في رحاب الآيات:(1/197)
بعث الله تعالى يونس عليه السَّلام إلى أهل نينوى (وهي بلدة قبالة الموصل بالعراق) فلما دعاهم إلى الله أبَوا وتمادَوا في كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مُغاضِباً، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاثة أيَّام. فلما تحقَّقوا من وعيده، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وتضرَّعوا إلى الله عزَّ وجل وجأروا إليه بالدعاء؛ فرفع عنهم العذاب، قال تعالى: {فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعَهَا إيمَانُها إلاَّ قومَ يونُسَ لمَّا آمنوا كشفنا عنهم عذابَ الخِزي في الحياةِ الدُّنيا ومتَّعناهم إلى حين} (10 يونس آية 98).(1/198)
إلا أن يونس عليه السَّلام قبل أن يعلم بتوبة قومه، ذهب فركب مع جماعة في سفينة، فهاج البحر، وأخذت الأمواج تتقاذفها من كلِّ جانب، فعلم أصحابها أن فيهم مذنباً، وتشاوروا بالأمر فيما بينهم، فاستقرَّ رأيهم على الأخذ بالقرعة، ومن وقعت عليه أَلْقَوه من السفينة خشية نزول غضب الله بهم وعذابه، فوقعت القرعة على نبي الله يونس، لكنَّهم أَبَوْا أن يلقوه لما اشتُهِر عنه من الصلاح والتَّقوى، ثمَّ أعادوا القرعة ثلاث مرات فوقعت عليه، فألقى يونس بنفسه في البحر، فأرسل الله حوتاً يشقُّ البحر فالتقمه، لكنَّ الله أوحى إليه أن لا يأكل منه لحماً ولا يهشِّم له عظماً. فأطبقت على يونس ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، فنادى: ربِّ لا إله إلا أنت، تنزَّهْتَ عن النقص والظلم، وقد ظلمتُ نفسي وأنا الآن نادم على ذنبي تائب إليك، فاكشف عني هذه المحنة. فاستجاب الله دعاءه، ونجَّاه من الغمِّ الَّذي هو فيه، ولفظه الحوت على الساحل، وكان ذلك درساً وعبرة لكلِّ من يتهاون في حمل الرسالة وأداء الأمانة. والمثير في هذه الأمثولة أن قوم يونس شعروا بالندم والألم على تفريطهم في حقِّ نبيِّهم، وكان هذا الشعور مدعاة لإنابتهم وصدق توبتهم، لذا فوجئ يونس عندما عاد إلى قومه فوجدهم قد اهتدوا إلى الصراط المستقيم، واتَّبعوا ما كان يدعوهم إليه من عبادة الله تعالى.
إن في هذه القصَّة لفتات تستدعي الوقوف عندها؛ ذلك أن يونس عليه السَّلام لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق ذرعاً بالقوم، وألقى عن نفسه عبء الدعوة، وذهب مغاضباً، ضَيِّق الصدر حَرِج النفس، فأوقعه الله في الضيق الَّذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذِّبين. ولولا أن ثاب إلى رشده وأناب إلى ربِّه واعترف بظلمه لنفسه، وتخلِّيه عن واجبه لَمَا فرَّج الله عنه، ونجَّاه من الغمِّ الَّذي وقع فيه.(1/199)
ومن هنا ندرك أنه ينبغي على أصحاب الرسالات أن يتحمَّلوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. ولمَّا كان تكذيبُ الصادقِ الثقةِ، مريراً على النفس حقاً، كان لابدَّ لمن يكلَّفون بحمل الدعوة من الصبر والمصابرة والثبات، ولابدَّ من متابعة مسيرة الدعوة؛ أسوةً بالأنبياء والمرسلين.
إن طريق الدعوة محفوف بالصعوبات والمكاره، وإن استجابة النفوس إليها تعترضها بعض العقبات؛ فقلوب الكثيرين قد جثم عليها ركام ثقيل أسهمت في تشكيله مجموعة من المعتقدات الباطلة، والتقاليد الموروثة، والأهواء المتَّبعة. وهنا تكمن أهمِّية دور الداعي في إزالة هذا الرُّكام، والعمل على غرس بذور محبَّة الله، والشعور بمراقبته في القلوب، لتُبْعَث وتحيا حياة جديدة. وسبيله إلى ذلك لَمْسُ جميع المراكز الحسَّاسة في النفوس، ومحاولة العثور على العصب المحرِّك، لإثارة اليقظة الروحية الإيمانية فيه، وبمزيد من المثابرة والصبر والرجاء يتمكَّن الداعي ـ بتوفيق الله ـ من بلوغ الغاية المرجُوَّة، وتكون اللمسة الحكيمة منه ـ والَّتي تصيب موضعها ـ نقطة تحوُّلٍ جذري في حياة الكائن الَّذي وُجِّهت إليه الدعوة.(1/200)
فأصبح من الواضح ـ بناءً على ما سبق ـ عظمة المسؤولية الملقاة على عاتق الدعاة، وضرورة تسلُّح الداعي بسلاح الصبر والتأنِّي من البداية وإلى نهاية المطاف. فمن السهل جداً أن يستسلم للغضب إذا ما أعرض الناس عن دعوته ولم يستجيبوا لها، وقد يحمله هذا الغضب على هجرهم وعدم العودة إليهم، إلا أنه ليس من السهل تحمُّل مسؤولية هذا القرار وتبعاته الَّتي تلحق بالدعوة والمدعوين؛ نتيجةً لتخاذل القائمين عليها. والسرُّ في هذا أن جوهر الدعوة يكمن في أصلها لا في الدعاة إليها، وقد كفل الله لها الديمومة والبقاء، فخيرٌ للداعية أن يصبر ولا يضيق صدراً بما يجد من صدٍّ وجفاء، لأنه متى أدبر وتولَّى قيَّض الله للدعوة من هو خير منه، ليحمل لواءها من بعده، فتبقى خالدة قائمة بينما يطوي عالم النسيان المتخاذلين، وتذهب أعمالهم أدراج الرياح.
وصفوة القول: إن إحياء القلوب فنٌّ تلزمه وسائل متعدِّدة وأساليب مختلفة، ويجب ألاَّ يقف الداعي عند المحاولة الأولى، لأنه الوسيلة أو الأداة الَّتي سخَّرها الله لهداية البشر ـ والله خير راعٍ لدعوته وحافظ ـ ومع هذا فيجب عليه أن يؤدِّي واجبه على أتمِّ وجه وفي ضوء كلِّ الظروف، ولا يتراجع ويتولَّى عن خدمة دين الله. ويبقى الحوت بعد تلك الحادثة رمزاً للعقاب لكلِّ من يتقاعس؛ فأمام كلِّ داعية حوت بشكل من الأشكال يتربَّص به، والعبرة ألا ينهار أو ييأس أمام العقبات الَّتي تعترضه في طريق الدعوة، وأن يترك فضل الهداية لربِّ العالمين، فهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
زكريَّا ويحيى عليهما السَّلام
سورة آل عمران(3)(1/201)
قال الله تعالى: {هُنالكَ دَعا زكريَّا ربَّهُ قال ربِّ هَب لي من لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّك سمِيعُ الدُّعَاء(38) فنادتهُ الملائِكَةُ وهو قائمٌ يُصَلِّي في المحرابِ أنَّ الله يُبَشِّرُكَ بيَحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ من الله وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيّاً من الصَّالِحينَ(39)}
سورة مريم(19)
وقال أيضاً: {كهيعص(1) ذِكْرُ رحمةِ ربِّك عبدَهُ زكريَّا(2) إذ نادى ربَّهُ نِداءً خَفيّاً(3) قال ربِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ منِّي واشتعلَ الرأسُ شيباً ولم أَكُنْ بِدُعائِكَ ربِّ شقيّاً(4) وإنِّي خِفْتُ المواليَ من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لَدُنك وليّاً(5) يرثُني ويرثُ من آل يعقوبَ واجعله ربِّ رضيّاً(6) يازكريَّا إنَّا نُبشِّرك بغلامٍ اسمهُ يَحيى لم نجعل له من قبلُ سَميّاً(7) قال ربِّ أنَّى يكونُ لي غلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكِبَرِ عِتِيّاً(8) قال كذلكَ قال ربُّك هو عليَّ هيِّنٌ وقد خَلَقْتُكَ من قَبلُ ولم تَكُ شيئاً(9) قال ربِّ اجعل لي آيةً قال آيتُكَ ألاَّ تُكلِّمَ النَّاسَ ثلاثَ ليالٍ سَوِيّاً(10) فخرجَ على قومهِ من المحرابِ فأوحى إليهم أن سَبِّحوا بُكْرَةً وعَشيّاً(11) يايحيى خُذِ الكتابَ بقوَّةٍ وآتيناهُ الحُكْمَ صبيّاً(12) وحناناً من لَدُنَّا وزكاةً وكان تقيّاً(13) وبرّاً بوالديهِ ولم يَكن جبَّاراً عَصيّاً(14) وسلامٌ عليه يومَ ولِدَ ويومَ يَموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً(15)}
ومضات:
ـ الرغبة في الحصول على الولد رغبة فطريَّة عفويَّة، فطر الله عليها الناس جميعاً لاستمرار الحياة وبقاء النوع الإنساني. إلا أن الصالحين من عباد الله يبتغون الذريَّة الصالحة الطيِّبة، لتكون متعة وعوناً لهم في الحياة، وخلفاً لهم في الصلاح والإصلاح بعد الممات، لتستمرَّ مسيرة الحياة بالإنسان ولتبقى نفحات الهداية بالمهتدين.(1/202)
ـ إن تربية الأطفال في أحضان الصلاح والتَّقوى، تضمن لهم مستقبلاً زاهراً، وتؤهِّلهم لمكانة عالية، ومقام رفيع عند الله وعند الناس.
ـ أحرُّ الدعاء هو ذلك الَّذي ينبعث من القلب، ممتزجاً بالرجاء حين تتقطَّع بالإنسان الأسباب، فينقطع الأمل والرجاء ممَّا سوى الله، ولا يبقى أمامه إلا عامل الثقة بفضل الله وقدرته، فيمدُّه بالأمل بعد اليأس، ويبشِّره بالفرج بعد الشدَّة، وهذا ما كان من أمر زكريَّا عليه السَّلام، حين طلب من حضرة الله الذريَّة الصالحة على الرُّغم من انعدام الأسباب، فهو كهل كبير، وامرأته عاقر عقيم. وتراه تمنَّى أن يكون له ولد عندما رأى نجابة سيِّدتنا مريم وصلاحها، واستقامتها وعناية الله بها، ولا يخفى أنَّ ذكر هذه الواقعة في القرآن الكريم تنبيه لنا إلى الغاية الَّتي يجب أن تكون مقصدنا من الزواج.
ـ أمتع ساعات المؤمن وأشدُّها قرباً من الله هي تلك الَّتي يكون فيها معتكفاً في محراب العبادة والخلوة. وفي مثل هذه الساعات تأتي البشائر وتتنزَّل المِنَح الإلهية، وفي سبيل الحصول عليها والاستزادة منها يتنافس المتنافسون. وما أروع الساعة الَّتي تنزَّلت فيها ملائكة السماء على نبي الله (زكريَّا) تزفُّ إليه البشرى بمولودٍ نبيٍّ، وسيِّدٍ عفيف تقي.
ـ الذكر والتسبيح هما غذاء الروح الَّذي لا غنى للإنسان عنه صباح مساء.
في رحاب الآيات:(1/203)
زكريَّا عليه السَّلام نبي من أنبياء الله، أفنى حياته في الدعوة إلى الله وخدمة الهيكل المقدَّس في مدينة القدس، وقد كان يتمنَّى أن يرزقه الله ولداً يواصل دعوته من بعده، خوفاً على قومه من الضلال بعد أن بدأت بوادره تظهر فيهم. ولكنَّ تقدُّمه في السن، وعقم زوجته، أضعفا لديه الأمل في الإنجاب. لكنه حين رأى الكرامة الَّتي منحها الله تعالى للصِدِّيقة مريم، والعناية الإلهية الَّتي أحاطت بها أثناء كفالته لها، تحرَّكت في أعماقه الرغبة الفطريَّة من جديد، فاتَّجه إلى ربه بالدعاء، خاشعاً له معترفاً بفضله، مصرِّحاً بضعفه وعجزه أمام قدرته وسلطانه، ملتمساً تلبية ندائه وتحقيق أمنيَّته بأن يهبه مولوداً صالحاً، فهو السميع المجيب، وهو وحده القادر على كلِّ شيء. فأثابه الله على عظيم ثقته به، وصدق يقينه بإجابته، فحقَّق مراده؛ فبينما كان زكريَّا عليه السَّلام واقفاً في المحراب (مكان عبادته) يصلِّي، أتته الملائكة تحمل إليه البشرى بمولود ذكر اسمه (يحيى)، ولم تقتصر البشارة على المولود، بل حدَّدت ملامح شخصيَّته، تثبيتاً وطمأنة للوالد الصالح الَّذي سلَّم كلَّ أمره لله، فالمولود سيكون نبيَّاً مصدِّقاً برسالة عيسى عليه السَّلام الَّذي أوجده الله بكلمة منه، وهو سيِّد في العلم والعبادة والصلاح والتَّقوى، يحبس نفسه عن الشهوات، ويصونها عفَّة وزهداً، فالبشارة الثانية بنبوَّة يحيى كانت أغلى وأسمى من البشارة الأولى وهي المولود المنتظر. وفي ذروة فرحه وسروره بهذه البشارة، يرجع إلى نفسه ويتفكَّر في واقعه، ممَّا يدفعه إلى التساؤل والعجب، إذ كيف سيكون له ولد بعد أن أحاط الكبر به وبزوجته، وأدركتهما الشيخوخة؟! فكان عمره آنذاك مائة وعشرين سنة، وزوجته عقيم وعمرها ثمان وتسعون سنة، وأيٌّ من السببين عادةً مانع من الولد، ولكنَّ يقينه بأن الله لا يعجزه أمر مهما بلغت صعوبته أبقى فؤاده هادئاً في ظلال اليقين، فمتى شاء الله أمراً(1/204)
هيَّأ له أسبابه أو خلقه من غير أسباب، فلا يحول دون مشيئته شيء!.
وبعد أن تيقَّن زكريا عليه السَّلام من قبول دعائه، واستجابة الله له، سأله عن علامة تدلُّه على وقوع الحمل، وكان سؤاله بدافع السرور، أو ليطمئن قلبه بحصوله، أو ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، فوجَّهه الله إلى طريق الاطمئنان الحقيقي بقوله: آيتك ألا تتكلَّم مع الناس إلا بالإشارة، ثلاثة أيام بلياليها مع أنك سويٌّ صحيح. والقصد أن يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام، ولكنَّه لا يمنعه من الذكر والتسبيح لذات الله العليَّة، بل إن الله سبحانه وتعالى قد أمره أن يستزيد من التسبيح والشكر، وأن ينزِّهه عن صفات النقص بقوله: (سبحان الله) في أوَّل النهار وآخره وعلى مدار الساعة وطيلة الأوقات، وكان هذا التسبيح شكراً حقيقيّاً للنعمة الَّتي أفاءها الله عليه بقدوم المولود الَّذي بُشِّر به. فقد استجيبت الدعوة وتحقَّقت الأمنية، ثمَّ بدأت آيات البشارة تظهر على الغلام شيئاً فشيئاً؛ حتَّى إذا بلغ مبلغاً يُخاطَب به، أتاه الخطاب من الله تعالى: {يايحيى خُذِ الكتابَ بقوَّةٍ} أي خذ التوراة الَّتي هي نعمة الله على بني إسرائيل، بجدٍّ ومثابرة وعزيمة، وحرصٍ على العمل بها، والدعوة إليها، والحكم بما فيها.(1/205)
وهكذا آتاه الله النبوة وهو صغير دون السابعة، وقد بعثه مع عيسى في وقت واحد وهما صبيَّان، إلا أن عيسى عليه السَّلام لم يجهر بدعوته إلا بعد مقتل يحيى. فكان يحيى يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب ويعمِّدهم (أي يغسلهم في نهر الأردن) للتوبة من الخطايا. وقد أخذ النصارى عنه طريقته هذه، ولهذا السبب سمِّي يوحنَّا المعمدان. وقد ذكر الله تعالى في الآيات الكريمة أبرز الصفات الَّتي تحلَّى بها يحيى عليه السَّلام، بعد أن ذكر أشرف صفاته وهي النبوَّة. فقد وهبه تعالى إضافة إلى ما ذكر رحمةً وشفقة على خلق الله، وكان مطهَّراً من أدران الذُّنوب والمعاصي، مطيعاً لله فيما يأمره أو ينهاه، كما كان كثير البرِّ ودائم الطاعة لوالديه، حَذِراً من عقوقهما أو عصيانهما. ولم يكن متكبِّراً على أحد من الناس، ولم يكن يعصي ربَّه ولا يخالفه في شيء. روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريَّا».
وما أجمل الخاتمة الَّتي نختم بها صفات هذا النبي الكريم؛ إنها التحيَّة من الله الَّذي يُقْرئُه السَّلام والأمان في أحوال ثلاث: سلام عليه يوم ولادته، وسلام عليه عند وفاته وانتقاله، وسلام عليه عندما يبعث حيّاً يوم البعث والنشور.
عيسى عليه السَّلام
وأمُّه الصدِّيقة مريم
ا ـ نشأة السيِّدة مريم الروحية:
سورة آل عمران(3)(1/206)
قال الله تعالى: {إنَّ الله اصطَفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالمين(33) ذُرِّيَّةً بعضُهَا من بعضٍ والله سميعٌ عليمٌ(34) إذ قالتِ امرأةُ عِمرانَ ربِّ إنِّي نَذَرتُ لكَ ما في بطني مُحرَّراً فَتَقَبَّل منِّي إنَّك أنتَ السَّميعُ العليمُ(35) فلمَّا وَضَعَتهَا قالت ربِّ إنِّي وَضعْتُها أُنثى والله أَعلَمُ بما وَضَعَتْ وليس الذَّكَرُ كالأُنثى وإنِّي سَمَّيتُهَا مريم وإنِّي أُعِيذُهَا بك وذُرِّيَّتَها من الشَّيطانِ الرَّجيم(36) فَتَقَبَّلَهَا ربُّها بِقَبُولٍ حسنٍ وأنبَتَهَا نَبَاتاً حسناً وكَفَّلَها زكريَّا كلَّما دخل عليها زكريَّا المِحرَابَ وَجَدَ عندها رزقاً قال يامريمُ أنَّى لك هذا قالت هو من عندِ الله إنَّ الله يَرزُقُ من يشاءُ بغيرِ حسابٍ(37)}
ب ـ منزلة السيِّدة مريم وبشارة الملائكة لها بعيسى عليه السَّلام:
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وإذ قالت الملائِكَةُ يامريمُ إنَّ الله اصطَفَاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفَاكِ على نساءِ العالمين(42) يامريمُ اقنُتِي لربِّكِ واسجُدِي واركَعِي مع الرَّاكعين(43) ذلك من أنبَاءِ الغيبِ نُوحِيهِ إليكَ وما كُنتَ لَدَيهِم إذ يُلقُونَ أقلامَهُم أيُّهُم يَكفُلُ مريمَ وما كُنتَ لَدَيِهم إذ يَختَصمُون(44) إذ قالت الملائِكَةُ يامريمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ منهُ اسمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابنُ مريمَ وَجِيهاً في الدُّنيا والآخرةِ ومن المُقرَّبِين(45) ويُكَلِّمُ النَّاسَ في المَهدِ وكَهلاً ومن الصَّالِحين(46) قالت ربِّ أنَّى يكونُ لي ولَدٌ ولم يَمسَسنِي بَشَرٌ قال كذلِكِ الله يَخلُقُ ما يشاءُ إذا قَضَى أمراً فإنَّما يقولُ له كُن فَيَكُونُ(47)}
ج ـ معجزة حمل السيِّدة مريم بعيسى وقصَّة ولادته:
سورة مريم(19)(1/207)
قال الله تعالى: {واذكُر في الكتَابِ مريمَ إذ انتَبَذَت من أهلها مكاناً شَرقيّاً(16) فاتَّخَذَت من دونِهِم حِجَاباً فأرسلنا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لها بَشَراً سَويّاً(17) قالت إنِّي أعُوذُ بالرَّحمَنِ منك إن كُنتَ تَقِيّاً(18) قال إنَّما أنا رَسُولُ ربِّكِ لأَهَبَ لك غُلاماً زكيّاً(19) قالت أنَّى يكُونُ لي غُلامٌ ولم يَمسَسنِي بَشَرٌ ولم أَكُ بَغِيّاً(20) قال كذلِكِ قال ربُّكِ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ ولنَجعَلَهُ آيةً للنَّاسِ ورحمَةً منَّا وكان أمراً مقضيّاً(21) فحمَلَتهُ فانتَبَذَت به مَكَاناً قَصِيّاً(22) فَأجاءَهَا المَخَاضُ إلى جِذعِ النَّخلَةِ قالت ياليتني مِتُّ قَبلَ هذا وكُنتُ نَسياً منسِيّاً(23) فناداها من تَحتِهَا ألاَّ تحزَني قد جَعَلَ ربُّكِ تَحتَكِ سَرِيّاً(24) وهُزِّي إليكِ بجذعِ النَّخلَةِ تُسَاقِط عليكِ رُطَباً جَنِيّاً(25) فَكُلِي واشرَبِي وقَرِّي عيناً فإمَّا تَرَيِنَّ من البَشَرِ أحداً فَقُولِي إنِّي نَذَرتُ للرَّحمَن صَوماً فلن أُكَلِّمَ اليومَ إنسِيّاً(26) فَأَتَت به قَومَهَا تَحمِلُهُ قالوا يامريمُ لقد جئتِ شيئاً فَرِيّاً(27) يا أُختَ هارُونَ ما كان أبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانت أُمُّكِ بَغِيّاً(28) فأشَارَت إليه قالوا كيفَ نُكَلِّمُ من كان في المَهدِ صَبِيّاً(29) قال إنِّي عَبدُ الله آتَانِيَ الكتَابَ وجَعَلَني نَبِيّاً(30) وجَعَلَنِي مُبَارَكاً أين ما كُنتُ وأوصَانِي بالصَّلاةِ والزَّكَاةِ مادُمتُ حَيّاً(31) وبَرّاً بوالدتي ولم يَجعَلنِي جَبَّاراً شَقِيّاً(32) والسَّلام عَلَيَّ يومَ ولِدتُ ويومَ أمُوتُ ويومَ أُبعَثُ حَيّاً(33) ذلكَ عيسى ابنُ مريمَ قولَ الحَقِّ الَّذي فيه يَمتَرُون(34) ما كان لله أن يَتَّخِذَ من وَلَدٍ سُبحَانَهُ إذا قَضَى أمراً فإنَّما يقولُ له كُن فَيَكُونُ(35)}
د ـ نبوة عيسى عليه السَّلام ومعجزاته:
سورة المائدة(5)(1/208)
قال الله تعالى: {ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلاَّ رسولٌ قد خَلَت من قَبلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأكُلانِ الطَّعامَ انظُر كيف نُبَيِّنُ لهم الآياتِ ثمَّ انظُر أنَّى يُؤفَكُونَ(75) قُل أتَعبُدُونَ من دُونِ الله ما لا يَملِكُ لكم ضَرّاً ولا نَفعاً والله هو السَّمِيعُ العليمُ(76)}
سورة آل عمران(3)
وقال أيضاً: {ويُعَلِّمُهُ الكتابَ والحِكمةَ والتَّوراةَ والإنجِيلَ(48) ورسُولاً إلى بَنِي إسرائِيلَ أنِّي قد جِئتُكُم بآيةٍ من ربِّكُم أنِّي أخلُقُ لكم من الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فأنفُخُ فيه فيكونُ طَيراً بإذنِ الله وأُبرِئ الأكمَهَ والأبرَصَ وأُحيي الموتَى بإذنِ الله وأُنَبِّئُكُم بما تَأكُلونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُم إنَّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتُمْ مؤمِنِينَ(49) ومُصَدِّقاً لما بين يَدَيَّ من التَّوراةِ ولأُحِلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّمَ عليكم وجِئتُكُم بآيةٍ من ربِّكُم فاتَّقُوا الله وأطِيعُونِ(50)}
سورة المائدة(5)
وقال أيضاً: {إذ قال الحَواريُّونَ ياعيسى ابنَ مريمَ هل يستطيعُ ربُّكَ أن يُنَزِّلَ علينا مائدةً من السَّماء قال اتَّقُوا الله إن كنتُم مؤمنين(112) قالوا نُريدُ أن نأكُلَ منها وتَطمَئِنَّ قُلُوبُنَا ونَعلَمَ أن قد صَدَقْتَنَا ونكونَ عليها من الشَّاهدينَ(113) قال عيسى ابنُ مريمَ اللَّهُمَّ ربَّنا أنزِل علينا مائِدةً من السَّماءِ تكونُ لنا عيداً لأوَّلِنَا وآخِرِنَا وآيةً منكَ وارزُقنا وأنتَ خيرُ الرَّازِقين(114) قال الله إنِّي مُنَزِّلُهَا عليكم فمن يَكفُر بعدُ منكم فإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أحداً من العالمين(115)}
هـ ـ أنصار عيسى عليه السَّلام:
سورة آل عمران(3)(1/209)
قال الله تعالى: {فلمَّا أحسَّ عيسى منهمُ الكُفرَ قال مَنْ أنصَارِي إلى الله قال الحَوَاريُّونَ نحنُ أنصارُ الله آمنَّا بِالله واشهَد بأنَّا مُسلِمُونَ(52) ربَّنَا آمنَّا بما أَنزلتَ واتَّبَعنَا الرَّسُولَ فاكتُبنَا مع الشَّاهِدين(53)}
سورة الصف(61)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا كونوا أنصارَ الله كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحَوارييِّنَ مَن أنصَاري إلى الله قال الحَواريُّونَ نحنُ أنصَارُ الله فآمَنَت طَائِفَةٌ من بَني إسرائيلَ وكَفَرَت طائِفَةٌ فأيَّدنَا الَّذين آمَنُوا على عَدوِّهِم فأصبَحوا ظاهرينَ(14)}
و ـ مكر اليهود بعيسى ورفعه إلى السماء:
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {ومَكَرُوا ومَكَرَ الله والله خيرُ المَاكِرينَ(54) إذ قال الله ياعيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إليَّ ومُطَهِّرُكَ من الَّذين كَفَرُوا وجاعِلُ الَّذين اتَّبَعُوكَ فوق الَّذين كَفَرُوا إلى يومِ القيامةِ ثمَّ إليَّ مرجعُكُم فأحكُمُ بينكُم فيما كنتُم فيه تَختَلِفُونَ(55) فأمَّا الَّذين كَفَرُوا فأُعَذِّبُهُمْ عذاباً شديداً في الدُّنيا والآخِرةِ وما لهُم من ناصِرين(56) وأمَّا الَّذين آمنوا وعملُوا الصَّالحاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم والله لا يُحبُّ الظَّالمين(57) ذلك نَتلُوهُ عليك من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ(58) إنَّ مَثَلَ عيسى عند الله كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ من تُرابٍ ثمَّ قال له كُن فَيَكُونُ(59)}
ز ـ نفي قتل عيسى عليه السَّلام وصلبه:
سورة النساء(4)(1/210)
قال الله تعالى: {وقَولِهِم إنَّا قَتَلنَا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لهم وإنَّ الَّذين اختَلَفُوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من عِلمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وما قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بل رفَعَهُ الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً(158) وإنْ من أهلِ الكتابِ إلاَّ لَيُؤمِنَنَّ به قبل مَوتِهِ ويومَ القيامةِ يكون عليهم شهيداً(159)}
ح ـ الدعوة إلى التوحيد كانت جوهر رسالة عيسى عليه السَّلام:
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {إنَّ الله ربِّي وربُّكُم فاعبُدوهُ هذا صراطٌ مُستقيمٌ(51)}
سورة التوبة(9)
وقال أيضاً: {وقالتِ اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله وقالتِ النَّصارى المسيحُ ابنُ الله ذلك قَولُهُم بأفواهِهِم يُضَاهِئُونَ قولَ الَّذين كَفَرُوا من قبلُ قاتلَهُمُ الله أنَّى يُؤفَكُونَ(30) اتَّخَذُوا أحبارَهُم ورُهبَانَهُم أرباباً من دونِ الله والمسيحَ ابنَ مريمَ وما أُمِروا إلاَّ لِيَعبُدُوا إلَهاً واحداً لا إلهَ إلاَّ هوَ سُبحانَهُ عمَّا يُشرِكُونَ(31)}
سورة المائدة(5)
وقال أيضاً: {وإذ قال الله ياعيسى ابنَ مريمَ ءأَنتَ قُلتَ للنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَينِ من دونِ الله قال سُبحانكَ ما يكونُ لي أن أقولَ ما ليس لي بِحَقٍّ إن كُنتُ قُلتُهُ فقد عَلِمتَهُ تَعلَمُ ما في نفسي ولا أعلَمُ ما في نَفسِكَ إنَّكَ أنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ(116) ما قُلتُ لهم إلاَّ ما أمَرتَنِي به أن اعبُدُوا الله ربِّي وربَّكُم وكُنتُ عليهم شهيداً مادُمتُ فيهم فلمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقيبَ عليهم وأنتَ على كُلِّ شَيءٍ شهيدٌ(117) إن تُعَذِّبهُم فإنَّهُم عبادُكَ وإن تَغفِر لهم فإنَّكَ أنتَ العزيزُ الحكيمُ(118)}
سورة النساء(4)(1/211)
وقال أيضاً: {ياأهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تَقُولُوا على الله إلاَّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ الله وكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منهُ فآمِنُوا بالله ورُسُلِهِ?ولا تَقُولُوا ثلاثةٌ انتَهُوا خَيراً لكم إنَّما الله إلهٌ واحِدٌ سُبحانهُ أن يكونَ له وَلَدٌ لهُ ما في السَّمواتِ وما في الأَرضِ وكَفَى بالله وكيلاً(171) لن يَستَنكِفَ المسيحُ أن يكونَ عبداً لله ولا الملائِكَةُ المُقَرَّبُونَ ومن يَستَنكِفْ عن عِبادَتِهِ ويَستَكبِر فَسَيَحشُرُهُم إليه جميعاً(172) فأمَّا الَّذين آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم ويَزيدُهُم من فَضلِهِ وأمَّا الَّذين استَنكَفُوا واستَكبَروا فَيُعَذِّبُهُم عذاباً أليماً ولا يَجِدونَ لهم من دونِ الله وليّاً ولا نصيراً(173)}
في رحاب الآيات:
هذه الروائع القرآنية تتحدَّث عن نفسها بنفسها، ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى قبسات ورشحات عن المسيحية الأصيلة، كما جاءت في القرآن الكريم، نوجزها فيما يلي:
ـ ترجع بداية بزوغ فجر المسيحية إلى مشيئة إلهية، نفذت في حياة الأسرة العمرانية الكريمة، بعد أن التجأت امرأة عمران إلى ربِّها ـ وكانت عاقراً ـ وتوسلت إليه بأن يرزقها الولد، فاستجاب الله دعاءها، ولمَّا تحقَّقت الحمل نذرت جنينها ـ وهو أعزُّ ما تملك ـ لخدمة بيت المَقْدِس. فكانت في عملها هذا نموذجاً مثاليّاً لمن بعدها في التضحية، بالغالي والنفيس، من أجل نصرة دين الله والدعوة إليه.
ـ الناس في عبادة الله وخدمة دينه سواء، وكذلك شأنهم في تحصيل مقامات القرب لديه، فلا فرق في ذلك بين ذكرهم أو أنثاهم، فمن جدَّ وجد ومن سار على درب التَّقوى وصل. ويتقبَّل الله تعالى كلَّ عمل يُرفع إليه مقروناً بالإخلاص والصدق، قلَّ أم كثر، صَغُر أم عَظُم، فالأعمال بالنيَّات ولكلِّ امرئ ما نوى، والله يتولَّى نماء ذلك العمل المخلص ومضاعفة أجره.(1/212)
ـ يتبارى الصالحون منذ القِدم في خدمة مَن أولاهم الله تعالى رعايته وفضله، فكان أهل الفضل وخواصُّ القوم، توَّاقين لرعاية مريم الطاهرة ونيل شرف خدمتها، فتنازعوا بشأن كفالتها، وما كان تنازعهم هذا إلا لأنهم رأوا في ذلك واجباً دينيّاً، لاسيَّما وأنَّ أمَّها قد نذرتها للعبادة، ولخدمة بيت المَقْدِس، فاقترعوا بينهم فكانت الكفالة لزكريَّا ـ زوج خالتها ــ وكان معروفاً بالعلم والخُلق والتَّقوى، فتعهَّدها بالرعاية الحسنة والهداية التَّامة، حتَّى شبَّت وترعرعت على الفضيلة والإيمان، والاستقامة على طاعة الله، والسعي لتحقيق مرضاته.
ـ عندما دخلت السيِّدة مريم العذراء في مرحلة النُّضْج الروحي والجسدي، نالت وسام الاصطفاء من حضرة الله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فقد أُمِرت بمتابعة الإعداد الروحي، والمداومة على العبادة، فكانت من خير العابدات، وكبرى العاشقات لله تعالى، المتذلِّلات بين يديه سبحانه، وواحدة من أفضل سيِّدات نساء العالمين.
ـ من الكرامات الَّتي منحها الله تعالى للسيِّدة العذراء، والَّتي كانت ثمرة من الثمرات الَّتي جنتها من تعبُّدها وقُنُوتها لربِّها وهي في ريعان الصِّبا؛ أن أغدق الله عليها في محرابها رزقاً طيِّباً مباركاً، لا وجود لمثله عند الناس في ذلك الوقت. وفي هذا إيحاء للفتية والفتيات بأن يبدؤوا رحلة حياتهم بالتربية الروحية، والصفاء القلبي وحسن الصلة بالله، لتتحوَّل نفوسهم إلى تربة صالحة لزرع الطيِّبات.
ـ عندما أتى الملاك جبريل ـ بصورة رجل ـ إلى البتول مريم استعاذت منه بحضرة الله لهول المفاجأة، وذلك دليلٌ على عفَّتها وطهارتها. ويُستشفُّ من قولها له: {إن كُنْتَ تَقيّاً} بأن من يعرف الله ويتَّقيه يُخَوَّفُ بالله ويُحذَّر منه، وأن من لا يخشى الله لا يُخوَّفُ به بل يُهدَّد بالسلطة أو بالقضاء. فالاستعاذة بالله هي حال المؤمنين الأطهار عند كلِّ نازلة أو خطب يحطُّ بهم.(1/213)
ـ عندما حصلت معجزة حمل العذراء بعيسى عليه السَّلام ـ بعد أن نفخ الملاك الكريم فيها من روح الله ـ ما كان منها إلا أن استسلمت لقضاء ربِّها، وذهبت بجنينها إلى مكانٍ بعيدٍ عن الناس، وقد عزمت على الاعتزال خشية إلحاق التُّهمة بها، والريبة في أمرها من قِبَل قومها. ولما حان أوان وضعها بدأت تعاني آلام الولادة فالتجأت إلى جذع نخلة لتتكئ عليه، وفي خضم هذه المحنة القاسية وتحت وطأة الشعور بثقل العبء الَّذي تحمَّلته، تمنَّت لو أن المنيَّة عاجلتها قبل وصولها لهذه المرحلة، أو أنها لم تكن ذات شأن في يوم من الأيام، بحيث لا تخطر ببال أحد، وكان الدافع الَّذي حملها على هذه الأمنية خوفها من إساءة الظنِّ بها، والتشكيك بورعها من جهة، وخوفها على قومها من نزول العقاب والهلاك بهم من جهة أخرى؛ جزاءً على البهتان الَّذي سيرمونها به.
ـ من عظيم رعاية الله بالصدِّيقة مريم، أن هيَّأ لها مكاناً لولادتها قرب نخلةٍ اتَّخذت من جذعها سنداً تتعلَّق به لتسهيل الولادة، ومن رطبها غذاءً يمدُّها بالقوَّة والحيوية. وقد أكَّدت الدراسات العلمية أن القيمة الغذائية العالية المتركزة في ثمرة الرطب، لا نظير لها ـ للناس عامَّةً وللنفساء خاصَّة ـ فهي تحوي نسبة عالية من أسيد الليمونيك، الَّتي تساعد على إنقاص نسبة الأسيد في البول والدم عندما تحترق في الجسم، كما يحوي التمر على نسبة عالية من السكر الطبيعي، الَّذي يمتصُّه الجسم بسرعة كبيرة، فيمدُّه بالنشاط والحيوية.(1/214)
ـ عندما حانت اللحظات الحرجة، وظهرت السيِّدة البتول مع ابنها أمام أعين الناس، انهالت عليها التُّهم بلا رحمة أو شفقة، وهي الَّتي ما عُرف عنها إلا الصلاح، وأنها ابنة الصالحين أباً عن جد؛ حينها تدخَّلت العناية الإلهية، لتواسيها وتأمرها بألا تنبس ببنت شفة، وذلك لئلا ترهق نفسها، وتبذل مجهوداً بالحوار في مسألة ردِّ التُّهمة عنها. وقد تكفَّل الله بالدِّفاع عنها، فأوحى إليها بأن تشير إلى ولدها الرضيع في مهده، ليكلِّموه ويسألوه، فتعجَّب القوم من ذلك، إلا أن الطفل الرضيع نطق بقدرة الله ومشيئته، معلناً للملأ براءة أمِّه القدِّيسة، مبيِّناً أنه عبدٌ لله، وصاحب رسالة، وأمين على كتاب الله. وبهذا فإن الله تعالى قد جعل دليل براءة مريم من جنس دليل اتِّهامها، فكان كلٌّ من الأمرين معجز، وكان تأييد الله للصدِّيقة مريم وولدها بالكرامات والمعجزات، كفيلاً للدعوة المسيحية بالظهور والانتشار. وقد استندت هذه الدعوة في قيامها واستمراريتها على أسسٍ أهمها:
1 ـ التَّوحيد: فقد كانت النقطة الأولى الَّتي انطلقت منها دعوة عيسى عليه السَّلام، هي إقراره بالإله الواحد الَّذي لا شريك له، ولا صاحبة، ولا ولد؛ والدعوة إلى عبادته تعالى: {وإنَّ الله ربِّي وربُّكُم فاعبُدوه هذا صراطٌ مستقيم} (19 مريم آية 36) وبيانه الواضح بأنه عبدٌ من عباد الله اصطفاه بالنبوة، وأنه بشرٌ يولد ويموت ثمَّ يبعث حيّاً، لتبقى هذه الحقيقة ماثلة ظاهرة للعيان: {قال إنِّي عبدُ الله آتاني الكتابَ وجعلني نبيّاً * وجعلني مُباركاً أين ما كُنتُ وأوصاني بالصَّلاةِ والزَّكاة ما دمتُ حيّاً * وبَرّاً بوالِدَتي ولم يجعلني جبَّاراً شقيّاً * والسَّلام عليَّ يومَ وُلِدتُّ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيّاً} (19 مريم آية 30ـ33).(1/215)
2 ـ مصدر الشرائع واحد: فقد جاء السيِّد المسيح متمِّماً لرسالة موسى عليهما السَّلام، ومصحِّحاً لها ممَّا اعتراها من دخائل وتشويه من بعض رجال الدِّين القائمين على أمر التوراة، وليخفِّف عن بني إسرائيل بعضاً ممَّا كانوا قد حملوه، لقاء ذنوب اقترفوها في السابق، قال تعالى: {ومُصَدِّقاً لِمَا بين يَديَّ من التَّوراةِ ولأُحِلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّمَ عليكم..} (3 آل عمران آية 50).
3 ـ التبشير بمجيء محمَّد صلى الله عليه وسلم : كان عيسى عليه السَّلام يعبِّر عن المبشَّر به بلفظ (النبي) وبلفظ (مسيا) وبلفظ (فارقليط). والفارقليط: تعريب للَّفظ اليوناني (بيريكلتوس) الموجود في الإنجيل بالترجمة اليونانية، ومعنى هذه الكلمة محمَّد وأحمد. فالتبشير بنبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم ومجيئه كان من ضمن ما دعا إليه السيد المسيح، قال الله تعالى حكاية على لسان عيسى عليه السَّلام: {وإذ قال عيسى ابنُ مريمَ يابَنِي إسرائيل إنِّي رسولُ الله إليكم مُصَدِّقاً لِما بينَ يديَّ من التَّوراةِ ومُبَشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسْمُهُ أحمد..} (61 الصف آية 6).
4 ـ المعجزات الَّتي كان الناس يشهدون وقوعها من قِبَل السيد المسيح ما هي إلا تأييد من الله تعالى له، أجراها على يديه ليبيِّن صدق نبوته ورسالته: {ورسولاً إلى بني إسرائيلَ أنِّي قد جِئتُكُم بآيةٍ من ربِّكُم أنِّي أخلقُ لكم من الطِّينِ كهيئةِ الطَّير فأنفُخُ فيه فيكونُ طيراً بإذنِ الله وأُبْرِئ الأَكْمَهَ والأبرصَ وأُحْيي الموتى بإذنِ الله وأُنبِّئُكُم بما تأكلون وما تدَّخرونَ في بُيوتكم إنَّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنينَ} (3 آل عمران آية 49).(1/216)
5 ـ إن المسيح عليه السَّلام لم يُقتل ولم يُصلب ولكن الله رفعه إليه: {بلْ رَفعهُ الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً} (4 النساء آية 158) ويصرِّح إنجيل برنابا بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي ظنّاً منهم بأنه المسيح، (فصل 216 آية 9)، وروايات المسلمين متَّفقة على أن عيسى نجا من أعدائه، وأنهم قتلوا رجلاً غيره ظنّاً منهم أنه المسيح، بدليل قوله تعالى: {..وما قَتَلوهُ وما صَلبوهُ ولكن شُبِّه لهم..} (4 النساء آية 157).
6 ـ عندما نجَّى الله تعالى عيسى من الصلب ورفعه إليه، بشَّره بأن كلَّ من آمن برسالته سيظلُّ متفوِّقاً، ولا سلطان للَّذين كفروا بالله عليه إلى يوم القيامة: {إذ قال الله ياعيسى إنِّي مُتَوفِّيكَ ورافِعُكَ إليَّ ومطهِّرُكَ من الَّذينَ كفروا وجاعِلُ الَّذين اتَّبعوكَ فوق الَّذين كفروا إلى يوم القيامةِ..} (3 آل عمران آية 55).
وعلى هامش الآيات الكريمة الَّتي روت لنا قصَّة السيد المسيح نستخلص ما يلي:(1/217)
أ ـ لم يدعُ السيد المسيح عليه السَّلام أحداً إلى عبادته، بل إلى عبادة الله وحده، ربِّه وربِّ الناس جميعاً، وما دعوى ألوهيَّته إلا تقوُّلات وافتراءات، ابتدعها المفسدون والمستفيدون من تخريب العقيدة الصحيحة، لتحقيق أغراض فاسدة زالت مع زوالهم، ولكنَّها ـ وللأسف ـ قد تركت بعض الآثار قائمة، تشوِّه العقيدة السويَّة الَّتي يسعى وراءها الإنسان العاقل، وتشوبها بأفكار مستقاة من الوثنية اليونانية والرومانية القديمة، والتوراة والإنجيل منها براء. فقد ثبت بالأدلَّة التاريخيَّة القاطعة وجود عقيدة التثليث في العالم القديم، وقبل مجيء السيِّد المسيح بقرون عديدة، وهذا ما أعلمنا الله تعالى به في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: {وقالتِ اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله وقالتِ النَّصارى المسيحُ ابنُ الله ذلكَ قولُهُم بأفواههِم يُضَاهِئُونَ قولَ الَّذين كفروا من قَبلُ..} (9 التوبة آية 30)، أي يشابهون في قولهم هذا قول الَّذين كفروا من قبلهم.(1/218)
فالمسيحية مبنيَّة على أساس التوحيد الخالص لله، لكنَّ بعض الكهنة حوَّلوها إلى ديانة وثنية، تُثْبِتُ عقيدة التثليث الَّتي أُخِذَتْ عن قدماء الرومانيين واليونانيين، وهؤلاء بدورهم اقتبسوها عن المصريين والبراهمة اقتباساً مشوَّهاً، فنسخوا بذلك شريعة سماوية، واستبدلوا بها بدعاً وتقاليد غريبة عنها، نُسبت زوراً إلى السيِّد المسيح، وهناك نصوص من كلام الإنجيل على لسان السيِّد المسيح عليه السَّلام تدلُّ على التوحيد؛ يقول مَرْقُسُ في الفصل الثاني عشر (الفقرة 30) من إنجيله: [إن أحد الكتَبَة سأل يسوع عن أوَّل الوصايا فأجابه: اسمع يا إسرائيل، (الربُّ إلهنا ربٌّ واحدٌ...الخ) فقال له الكاتب: جيِّداً يامعلِّم! بالحقِّ قلتَ لأنه الله واحد وليس آخر سواه، فلما رآهُ يسوع أنه أجاب بعقل قال له: لستَ بعيداً عن ملكوت السموات]. وجاء في إنجيل يوحنا173: [وهذه هي الحياة الأبديَّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الَّذي أرسلته]، وهذا كلام يدلُّ بوضوح على التوحيد في الإنجيل، وأن المسيح عليه السَّلام رسول من رسل الله.
ب ـ بما أن العقل المؤمن يستطيع أن يُسلِّم بقدرة الله تعالى على خلق آدم من حفنة تراب، من غير أمٍّ ولا أب، فإن من السهل عليه أن يُسلِّم بأنه تعالى خلق عيسى من أمٍّ بلا أب، وما ذلك عليه بعسير. وهذا بدوره يقتضي أن يكون عيسى بشراً مثل آدم أبي البشرية، قال تعالى: {إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ الله كمَثلِ آدمَ خلقهُ من ترابٍ ثمَّ قال له كُنْ فيكون} (3 آل عمران آية 59).(1/219)
ج ـ الغلوُّ في الدِّين يعادل التفريط فيه، والفضيلة هي الوسط بينهما وأخذ الأمور بميزان الاعتدال والقسط، فلا مبالغة تتجاوز الحدود العقلية وتحيد بصاحبها عن الطريق القويم، ولا تقصير يجعله عاجزاً عن المضيِّ فيه. والمقصود بالغلوِّ في الدِّين هو التطرُّف في التفسير والتأويل، وتحميل الدِّين معانيَ ومفاهيم ليست فيه، قال تعالى: {ياأهلَ الكتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُم ولا تقولوا على الله إلاَّ الحقَّ..} (4 النساء آية 171).
د ـ تذكر الآيات الكريمة قصَّة العشاء الربَّاني بكلِّ إكرام، بعيداً عن الإسفاف، وتلقِّب مريم بالصدِّيقة، وهذا هو شأن القرآن الكريم والإسلام؛ الَّذي يحفظ كرامة الأنبياء والصدِّيقين من الدنس والفُحْش الَّذي أُلصق بهم افتراءً وبهتاناً؛ من قِبَلِ مفسدي العقائد والمجتمعات.
هـ ـ تحدَّث القرآن الكريم عن المعجزات الَّتي أيَّد الله بها نبوَّة السيِّد المسيح وأوردها كاملة، وتعرَّض لأحداث لم يَرِدْ ذكرها في الأناجيل أو في الكتب الَّتي أرَّخت حياته.
و ـ عندما صدَّق الحواريُّون وآمنوا بالله ربّاً واحداً، وبالسيِّد المسيح رسولاً من لَدُنْه، تحوَّلوا من صيَّادين بسطاء إلى فلاسفة حكماء عظماء، لأنهم استطاعوا أن يفهموا الإيمان منهجاً حقيقياً، فتجلَّى فيهم عقلاً حكيماً، وروحاً صافية، وأخلاقاً ملائكية، فاستحقُّوا وبجدارة لقب الحواريِّين، أي المخلصين سراً وعلانية، وقلبوا بذلك خريطة العالم الروحي.
ز ـ تقرِّر الآيات الكريمة بأن الله لم يمكِّن أعداء عيسى عليه السَّلام من قتله، بل نجَّاه من مكيدتهم ورفعه إليه، ووعده بأن يجعل الَّذين اتَّبعوه وآمنوا به فوق الَّذين كفروا، عزَّةً ومَنَعَةً وحجَّةً إلى يوم القيامة. وهذه الرفعة دينية روحانية، وهي تميزهم عن غيرهم بحسن الأخلاق وكمال الآداب، والقرب من الحقِّ، أمَّا التفوُّق المادي فَمَحَلُّ نظر لأنه ليس معيار الفضيلة والسمو.(1/220)
ح ـ جاء في كثير من الأحاديث الصحيحة الإخبار بنزول السيد المسيح إلى الأرض في آخر الزمان، ويكون نزوله إحدى العلامات الكبرى لقيام السَّاعة، فيوضِّح ما التبس في عقول الناس بسبب التحريف الَّذي أدخله أعداؤه على رسالته. ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والَّذي نفسي بيده ليُوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب، ويفيض المال حتَّى لا يقبله أحد، حتَّى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها»، ثمَّ يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {وإنْ من أهلِ الكتابِ إلاَّ لَيُؤمِنَنَّ به قبلَ موتهِ ويومَ القيامةِ يكونُ عليهم شهيداً} (4 النساء آية 159). هذا وقد ارتأى بعض العلماء في العصر الحديث أن أحد مضامين عودة السيِّد المسيح هو عودة المسيحية الأصيلة، المصفَّاة من الشوائب، لتلتقي مع الشريعة الإسلامية المصفَّاة من دخائل التعصب والتطرف، ولتتلاقى بذلك قلوب الناس وتتآخى بالحبِّ والتعاون الكريمين.
ط ـ إن المسيح ابن مريم والملائكة والنبيين والمقرَّبين لن يترفَّعوا عن عبادة الله خالقهم، لأنهم يؤمنون بربوبيَّته، أمَّا الَّذين يستكبرون عن العبوديَّة لله فإنهم يذلُّون لعبوديَّات أخرى لا تنتهي، منها عبوديَّة الهوى والأنا، والشهرة والمال، وعبوديَّتهم لأمثالهم من البشر.
ي ـ تنزَّه الله تعالى عن أن يتَّخذ الولد، لأن الولد إنما يُرغب فيه ليكون معيلاً لأبيه في شيخوخته، حافظاً لذكره بعد موته، وهذا شأن الإنسان الَّذي يولد ويموت. أمَّا الحيُّ الباقي الَّذي لا بداية له ولا نهاية والقادر الَّذي يقول للشيء كن فيكون، فلا يحتاج إلى اتِّخاذ الولد، تبارك الله وتعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.(1/221)
ك ـ إن حادثة خلق عيسى عليه السَّلام من غير أب، دليل قاطع على حُريِّة الإرادة الإلهيَّة الَّتي لا تتقيَّد بقانون السببيَّة الَّذي وضعه تعالى مع غيره من القوانين، ليحكم الظواهر الكونيَّة، لأنه تعالى هو خالق الأسباب والمسبِّبات ومبدعها، وله أن يخرق أيَّ قانون هو واضعه أو يستبدله بغيره متى شاء.
ل ـ الجواب الَّذي يتكرر دائماً وتردِّده أَلسِنَةُ الَّذين اعتمدوا التقليد الأعمى أسلوباً لمعتقداتهم وحياتهم، يواجهون به كلَّ نبي أو رسول يبعثه الله تعالى لإصلاح ما فسد من أمورهم هو قولهم: {..إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ مُبين} (5 المائدة آية 110) وهو الجواب نفسه الَّذي تلقَّاه السيِّد المسيح ممَّن كفر برسالته.
م ـ الفوز الحقيقي الَّذي يناله المؤمن هو أن يصل إلى حالة الرضى التام بكلِّ ما قدَّره له الله تعالى، والتسليم المطلق له دون اعتراض. ولا يصل إلى هذه المرتبة الفاضلة إلا من أنعم الله عليه برضاه: {قال الله هذا يومُ يَنفَعُ الصَّادقين صِدْقُهُم لهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضيَ الله عنهم ورَضُوا عنه ذلك الفوزُ العظيم} (5 المائدة آية 119).(1/222)
وفي الختام فإن الآيات القرآنية الكريمة الَّتي تتحدَّث عن السيِّدة مريم وأمِّها (امرأة عمران) وابنها السيِّد المسيح، يمكن إدراجها جميعاً تحت عنوان تكريم المسيحية في الإسلام. هذه الروائع المسيحية المقدَّسة نتلوها في صلاتنا، ونتذاكرها في مساجدنا، محبَّةً وتبرُّكاً وتقديساً. في حين أن ما نعرفه من الإنجيل، لم يدافع عن السيِّد المسيح ولا عن السيدة مريم العذراء؛ كما فعل القرآن الكريم، الَّذي دافع عنهما بقوَّة وزاد في تكريمهما عندما سمَّى كبريات سوره بأسمائهم مثل: سورة "آل عمران" وهي عائلة السيِّدة مريم، وسورة "المائدة" والَّتي تتحدَّث عن معجزة المائدة الربَّانية المُنزَّلة على عيسى عليه السَّلام وحواريِّيه، وسورة "مريم" وهي السيِّدة البتول العابدة الطاهرة والدة عيسى عليه السَّلام. لذا وجب على البشريَّة أن تعود بالإيمان إلى منابعه الأولى، بعيداً عن التقليد والتشويه، لأن الإنسان المقلِّد قد رحل مع انتهاء العصور الغابرة، أمَّا إنسان العصر الحديث فهو يسعى وراء الحقيقة، والحقيقة تكمن في الإيمان الصافي والخالي من الشوائب والدخائل الَّتي أضافتها يد المغرضين والمعاندين.(1/223)
وأخيراً فإن المسلمين من خلال تعاليم دينهم وقرآنهم يمدُّون أيديهم لسائر أتباع الشرائع الإلهية الأخرى بكلِّ احترام وإجلال، فهل تمتدُّ الأيدي من هؤلاء الأتباع، ليردُّوا لهم التحيَّة بمثلها ويتَّحد العالم في ظلِّ شجرة الأنبياء، ويتعاون جميع أبناء الأسرة العالميَّة على خير الإنسانية، بينما يقف روَّادها الشجعان بوجه الإلحاد الَّذي بدأ يستشري في العالم؛ فيَحُولون دون مدِّه، ويرفعون راية السَّلام خفَّاقةً عالية في أنحاء المعمورة؟. إن التاريخ سوف يسجِّل لهؤلاء الروَّاد الشجعان موقفهم ونضالهم، كرسل للسلام وبناة لصرح التآخي الإنساني، وفي ظلال هدي السماء، الَّذي يَعُدُّ الناس جميعاً إخوة، فلا عداوة ولا بغضاء ولا حروب ولا كفر ولا وثنيَّة، بل تآخٍ وتعاون، وإيمان بالخالق الواحد لهذا الكون، والمدبِّر لأمر مخلوقاته كلِّها.
محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام
1ـ قصَّة الوحي الإلهي
كان محمَّد صلي الله عليه وسلم من أوسط قريش نسباً، وكان أبواه عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب ينتسبان لأشرف بيوت قريش. وإذا ما تتبَّعنا نسبه صلي الله عليه وسلم فإنه ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السَّلام، وفي هذا قال رسول الله عن نفسه: «ولدتُ من خِيار من خِيار من خِيار» (أخرجه البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه ).
أمَّا عن تسميته بـ (محمَّد) فقد روت كتب السيرة أن أمَّه عندما وضعته، أرسلت إلى جدِّه عبد المطلب تبشِّره بالمولود، فأقبل مسروراً وسمَّاه محمَّداً. ولم يكن هذا الاسم شائعاً من قبل عند العرب، وإن تسمَّى به أحد فأفراد قلائل، وقد سئل جدُّه لِمَ رغب عن أسماء آبائه؟ فقال: إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلُّهم.(1/224)
وقد شاءت إرادة الله أن يعيش هذا المولود يتيماً؛ فقد توفي والده عبد الله قبل ولادته، ثمَّ ما لبثت أمُّه أن توفيت وله من العمر ستُّ سنوات، فتكفَّل به جدُّه عبد المطلب، ومن بعده عمُّه أبو طالب الَّذي ضمَّه إلى أسرته، وأشرف على تربيته كابنٍ من أبنائه، وكان يُكِنُّ له حباً كبيراً جعله شديد الحرص عليه في طفولته، وكثير الاهتمام بمسألة الدفاع عنه بعد نبوَّته. وقد حدث مرَّة أن أراد أبو طالب السفر بتجارة إلى بلاد الشام، فصعُب على محمَّد فراق عمِّه، فاستأذنه بالرحيل معه، فرقَّ له وأخذه، وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة. ولما وصلت القافلة إلى ضاحية مدينة بصرى، أشرف بحيرا الراهب عليها ورأى فيمن رأى محمَّداً، ورأى فيه أمارات النبوَّة الَّتي قرأها في كتب النصرانية، فأوصى عمَّه أن يكون حذِراً عليه من اليهود، فعمل أبو طالب بما نبَّهه إليه بحيرا، دون أن يكون له أي تأثير في فكر محمَّد صلى الله عليه وسلم ، كما يدَّعي بعض المستشرقين.(1/225)
وبعد هذه الرحلة شرع محمَّد يعمل بالتجارة، وهي العمل الَّذي كان يمارسه أجداده وقومه، لكون مكَّة وادياً غير ذي زرع. ولما بلغ من العمر خمساً وعشرين سنة، سافر إلى بلاد الشام للمرَّة الثانية، في تجارةٍ تخصُّ خديجة بنت خويلد، وهي سيِّدة كانت توكل إلى الرجال أمر تجارتها، وقد رغبت في إسناد هذه المهمَّة إلى محمَّد، الَّذي عُرف بين القوم بحسن الخلق، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، حتَّى اشتُهِر عنه لقب (الصادق الأمين)، وصار موضع ثقة الناس واحترامهم. وقد أرسلت معه خادمها ميسرة، فذهبا واتَّجرا بمالها وربحا ربحاً وافراً، ولما رجَعَا إلى مكَّة أخبر ميسرة سيِّدته بما رأى من غرائبَ شَهِدَها بصحبته محمَّداً في تلك الرحلة؛ فقد كان من شأنه أنه كلَّما اشتدَّ الحرُّ، رأى ملَكين يظلِّلانه من حرارة الشمس وقيظها، فأُعجِبت خديجة بما سمعت، وأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت في الأربعين من عمرها، فقبل محمَّد وأرسل عمَّه يطلب يدها من أهلها ثمَّ تزوجها.
وهكذا استقرَّت أوضاع محمَّد الاجتماعية والمادية، حتَّى إذا تجاوز الثلاثين، بدأت حياته تأخذ منعطفاً جديداً، فحُبِّب إليه العزوف عن الناس في أغلب أوقاته، إلا فيما كان فيه حقٌّ للمجتمع كمساعدة الضعيف، ونُصْرة المظلوم، وإكرام الضيف، وصلة الرحم. وصار شديد الميل إلى العزلة والخلوة الَّتي كانت بمثابة مرحلة إعداد روحي للنبوَّة، واتَّخذ من غار حراء مكاناً لخلوته هذه، بعيداً عن الناس، حتَّى أتاه الوحي وأُمِرَ بالتَّبليغ.(1/226)
إنَّ الوحي السَّماوي هو السِّمة البارزة، والعلامة المميَّزة الَّتي تفرِّق بين الحقيقة والادِّعاء، وهو السِفارة الإلهيَّة بين الأرض والسماء، ينزِّله الله على من اصطفى من الرسل والأنبياء. وهو الفيصل الوحيد بين الإنسان الَّذي يفكِّر ويشرِّع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الَّذي يبلِّغ عن ربِّه دون أن يغيِّر أو يزيد أو ينقص، فينقل بواسطة هذا الوحي كافَّة الإخبارات الغيبية، وشؤون العقيدة وأحكام التشريع.
إن تصديق المسلمين وإيمانهم بظاهرة الوحي وخبر السماء، هو تصديق لما جاء به محمَّد صلي الله عليه وسلم من عند الله، وإن أدنى تشكيك بحقيقته يورث تشكيكاً بكلِّ ما قد يتفرَّع عنه من عقائد وأحكام. وكلمة الوحي تحمل مدلولات كثيرة، ولكنَّها إذا أُسنِدت إلى النَّبي محمَّد صلي الله عليه وسلم فهي تدلُّ على خبر السماء الَّذي كان ينزل به جبريل الأمين، ليبلِّغه إلى الناس أجمعين. أمَّا قصَّة بدء الوحي المَروِيَّة، فقد رواها مسلم وغيره بالنصِّ التالي: «عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أوَّل ما بُدئ به رسول الله صلي الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (في الوضوح لأنها من وحي الله تعالى)، ثمَّ حُبِّب إليه الخلاء (أي حبَّب الله إليه أن يختلي بعيداً عن الناس)، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث (أي يتعبَّد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثمَّ يرجع إلى زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فيتزوَّد لمثلها حتَّى جاءه الحقُّ (أي جبريل عليه السَّلام) وهو في غار حراء فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطَّني (أي ضمَّني بشدَّة إلى صدره) حتَّى بلغ مني الجهد ثمَّ أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطَّني الثانية حتَّى بلغ مني الجهد ثمَّ أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطَّني الثالثة ثمَّ أرسلني فقال: {اقرأ باسم(1/227)
ربِّك الَّذي خَلَق * خَلَقَ الإنسانَ من عَلق * اقرأ وربُّك الأكرم * الَّذي علَّمَ بالقلم} (96 العلق آية 1ـ4) فرجع بها النبي صلي الله عليه وسلم يرجُفُ فؤاده فدخل على خديجة فقال: زمِّلوني زمِّلوني (أي غطوني بالثياب ودثِّروني) فزمَّلوه حتَّى ذهب عنه
الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت خديجة:
كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكْسِب المعدوم، وتُقْري الضيف، وتعين على نوائب الحقِّ، وانطلقت به حتَّى أتت ورقة بن نوفل ابن عمِّها، وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهليَّة، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانيَّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عَمِيَ فقالت له خديجة: يابن عمِّ اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلي الله عليه وسلم بخبر ما رأى فقال له ورقة: هذا النَّاموس (أي صاحب السِّر الإلهيِّ الَّذي كان يتنزَّل على الأنبياء) الَّذي نزَّلَ الله على موسى، ياليتني فيها جَذَعاً، ليتني كنت حيّاً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أَوَ مُخرجيَّ هم؟ قال: نعم. لم يأتِ رجل قطُّ بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومُك أنصرك نصراً مؤزَّراً. ثمَّ لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي».(1/228)
لقد كانت حِكَمٌ إلهية كثيرة تكمن وراء العديد من الأحداث المتعلِّقة بنزول الوحي، وهي تتناول بدء نزوله لأوَّل مرَّة، ورؤية الرسول صلي الله عليه وسلم لجبريل عليه السَّلام عياناً ودون حجاب، وما رافق هذه الحادثة من مشاعر الهيبة والرهبة والحَيْرة الَّتي انتابت قلبه عليه الصَّلاة والسَّلام، ثمَّ ما تلا ذلك من انقطاع الوحي عنه بعد ذلك مدَّة طويلة، وجَزَعِ النبي صلي الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعاً شديداً. فالحكمة الَّتي كانت تنطوي عليها تلك المراحل والأحداث تحمل دلالات واضحة على أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرَّد، وإنما هي استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجيَّة لا علاقة لها بالنفس وحَدْس الذَّات، فقد فوجِئ محمَّد صلي الله عليه وسلم ، وهو في غار حراء، بجبريل أمامه يراه بعينه وهو يقول له: اقرأ. ويُعَدُّ ضمُّ المَلَك جبريل إيَّاه ثمَّ إرساله له ثلاث مرات، قائلاً في كلِّ مرَّة: اقرأ، تأكيداً لهذا التلقِّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يُتَصَوَّر من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليا فقط. وأمَّا الخوف والفزع الَّذي انتابه لِمَا سمع ورأى في الغار، حتَّى جعله يقطع خلوته، ويسرع إلى البيت مرتعش الفؤاد، فإنه يوضح أن ظاهرة الوحي هذه لم تأت متمِّمة لشيء ممَّا كان النبي صلي الله عليه وسلم يتصوَّره أو يخطر في باله، وإنما فوجئ بها وبالرسالة دون أي توقُّع سابق. ولاشكَّ أن هذا الحال ليس من شأن من يتدرَّج في التأمُّل والتفكير، إلى أن تتكوَّن في نفسه عقيدة يؤمن بالدعوة إليها.(1/229)
وممَّا يدل على شِدَّة فزعه صلي الله عليه وسلم من رؤية الوحي قوله للسيِّدة خديجة: «لقد خشيت على نفسي» أي من أن يكون ما أخبرتك به طائفاً من الجنِّ، إلا أنها طمأنت قلبه المروَّع بأنه لا سلطان للشياطين والجانِّ على أمثاله ممَّن يتمتَّعون بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة. وقد كان الله عزَّ وجل قادراً على أن يثبِّت قلب رسوله، ويطمئن نفسه بأن هذا الَّذي كلَّمه ليس إلا جبريل ـ ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس ـ ولكنَّ الحكمة الإلهية اقتضت إظهار الانفصال التَّام بين شخصية محمَّد صلي الله عليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعدها. ثمَّ إن في قرار السيِّدة خديجة الذهاب به صلي الله عليه وسلم إلى ورقة ابن نوفل وعرض الأمر عليه ـ وهو الشيخ الهرم العليم بشؤون النصرانية واليهودية ـ تأكيداً من جانب آخر بأن هذا الَّذي فوجئ به صلي الله عليه وسلم ، إنما هو الوحي الإلهي، الَّذي كان قد أُنزل على الأنبياء من قبله. ولو أننا أنعمنا النظر في تصرُّف السيِّدة خديجة، وموافقة الرسول صلي الله عليه وسلم على الذهاب إلى ورقة بن نوفل، لوجدنا أنه من أكبر الأدلَّة على البراءة وخُلُوِّ نفس الرسول صلي الله عليه وسلم من أيِّ تفكير ذاتي سابق فيما حصل له من أمر الوحي، ولو كان كما يدَّعي المغرضون إشراقاً نفسياً بعد طول تأمُّل، ونبعاً ذاتيّاً؛ لما كان له هذا الوَقْعُ الشديد في نفسه، وكيف يستغرب الإنسان أمراً طالما سعى لتحقيقه، ولو كان الأمر كذلك، لأنِفَ الذَّهاب إلى ورقة ولاعتزَّ بنفسه وترفَّع عن أن يطلب إلى من هو دونه بكثير ليفسِّر له ما حصل له، ومن هو ورقة بن نوفل لولم يقترن اسمه بهذه الحادثة الخالدة؛ فلولاها لا نذكر اسمه ولما ذكره ذاكر. فالحقُّ أنه وحي إلهي حقيقي قصد تشريف محمَّد بن عبد الله عليه الصَّلاة والسَّلام بهذه الرسالة الخالدة الَّتي حملها إلى الناس كافَّة.(1/230)
أمَّا انقطاع الوحي بعد ذلك فينطوي على دليل آخر وحكمة إلهية بالغة، فيها أبلغ الردِّ على التعليل الَّذي أدلى به محترفو الغزو الفكريِّ الهدَّام، حول ظاهرة الوحي السماوي، وتفسيره بالإشراق النفسي المنبعث نتيجة تأمُّل حثيث، وتفكير طويل، وأنه أمر داخلي منبعث من أعماق ذاته. فلقد شاء الله عزَّ وجل أن يحتجب عنه جبريل عليه السَّلام بعد أن رآه للمرَّة الأولى في غار حراء مُدَّة طويلة، وأن يستبدَّ به القلق والخوف من أن يكون الله عزَّ وجل قد قلاه بعد أن أراد تشريفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، فضاقت عليه الدنيا، وانقطع عنه الزاد، واستوحش قلبه من الحبيب، وبقي للهاجرة وحده، بلا زاد وبلا عزاء، وهذا أمر صعب الاحتمال من كافَّة الوجوه. ذلك أنَّ الفراق صعب، لا سيَّما فراق الأحباب وخُلَّص الأصحاب، فكيف إذا داخل روعنا الشكُّ بأن ربَّ العالمين، قد تخلَّى عنا، وتركنا نهيم في وديان الوحشة والهجران. فأيُّ لوعة أصابت النبي صلي الله عليه وسلم عندما فتر عنه الوحي حتَّى صار حديث الناس: إن ربَّه قد قلاه. وينزل عليه الوحي بعد ذلك ـ وقد ذبلت حشاشة القلب ـ بمؤانسة لطيفة، وتسرية وتسلية، وترويح وطمأنينة، يحمل إليه أنساماً من الرحمة وندىً من الودِّ، وهدهدة للروح الحائرة، والقلب الموجوع، وهذا ما تضمَّنه قوله تعالى: {والضُّحى * والليل إذا سجى * ما ودَّعك ربُّك وما قلى * ولَلآخرة خيرٌ لك من الأولى * ولَسوفَ يُعطيكَ ربُّك فترضى * ألم يَجِدكَ يتيماً فآوى * ووجدكَ ضالاًّ فهدى * ووجدك عائلاً فأغنى * فأمَّا اليتيم فلا تقهر * وأمَّا السَّائل فلا تنهر * وأمَّا بنعمة ربِّك فحدِّث} (93 الضحى آية 1ـ11).(1/231)
وقد ابتدأ الله تعالى السورة بقَسَمٍ كريم، يؤكِّد من خلاله عهداً لن يتغير، وهو ميراث لكلِّ مؤمن صادق بأن الله تعالى دائماً وأبداً يكلأ عباده المخلصين بعنايته ورعايته، وأن عطاءه الكريم قائم في الحياة الدنيا، وهو أفضل وأكرم في الدار الآخرة. وإن القَسَم بهذين الوقتين الرائعين الموحيين، الضُّحى وما فيه من الحياة والحيوية، والليل وما فيه من السكينة والهدوء، يربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس، ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعريَّة المتجاوبة مع هذا الوجود، المتعاطفة مع كلِّ حيٍّ، فيعيش ذلك القلب في أُنْسٍ من هذا الوجود.
وربَّما أقسم عزَّ وجل بالضحى والليل لكونهما الوقتين اللَّذَيْن كان يخلو فيهما رسول الله بربِّه، حيث تحلو المناجاة مع الله والتودُّد إليه، أو رمزاً لانبلاج النور الإلهي بعد هيمنة ظلام الكفر، أو لحلول ضحى الفَرَج على الرسول وانزياح ليل الشدَّة والعُسْر. وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر: {ما ودَّعك ربُّك وما قلى* وللآخرة خيرٌ لكَ مِنَ الأولىَ} أي ما تركك ربُّك ولا جفاك، فهو ربُّك وأنت عبده المنسوب إليه، وهو راعيك وكافلك، وما غاض معين فضله، وفيض عطائه، وأن آخرة الأمر في الدنيا خير من أوَّله، وأنه سيتبع هذا العناء والشدَّة، النصر وإقامة قواعد الشريعة المتجلِّية في إرساء الصدق والعدالة الاجتماعية، والبناء الأخلاقي المتكامل في الأرض. أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : «عُرض عليَّ ما هو مفتوح لأُمَّتي بعدي فسرَّني، فأنزل الله وللآخرة خير لك من الأولى»..(1/232)
ثمَّ توالى نزول الوحي على رسول الله صلي الله عليه وسلم على مراحل بعد هذه المُدَّة من الانقطاع، وظهر جبريل الأمين بعدها وقد ملأت ذاته ما بين السماء والأرض يقول: يامحمَّد إنك رسول الله إلى الناس؛ فعاد مرَّة أخرى وقد استبدَّ به الخوف والرعب إلى البيت، حيث نزل عليه قوله تعالى: {ياأيُّها المُدَّثر * قُم فأنذر}، قال جابر رضي الله عنه في حديثه عن النبي صلي الله عليه وسلم : «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الَّذي جاءني بحراء جالس على كرسيٍّ بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زمِّلوني زمِّلوني فأنزل الله تعالى: {ياأيُّها المُدَّثر * قُم فأنذر * وربَّك فكبِّر * وثيابكَ فطهِّر * والرُّجْزَ فاهجر} (74 المدثر آية 1ـ5) فحمي الوحي وتتابع» (رواه الشيخان والترمذي).
ولكِنْ لِمَ اقتصرت رؤية الوحي على النبي صلي الله عليه وسلم دون الصحابة، على الرغم من وجودهم حوله لحظة نزوله في كثير من الأحيان؟! ذلك لأنه ليس من شرط وجود الموجودات أن تُرى بالأبصار، إذ أن وسيلة الإبصار فينا محدَّدة بحدٍّ معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوماً إذا ابتعد عن البصر بعداً يمنع من رؤيته. على أنه من اليسير على الله جلَّ وعلا ـ وهو الخالق لهذه العيون المبصرة ـ أن يزيد في قوَّة ما شاء منها فترى ما لا تراه العيون الأخرى.(1/233)
ثمَّ إن في استمرار الوحي بعد ذلك دلالة على حقيقته وعلى أن جبريل عليه السَّلام مَلَكٌ مُرسَل من الله عزَّ وجل؛ وأن الإيمان بالوحي يقتضي الإيمان بأن محمَّداً صلي الله عليه وسلم قد أوحي إليه، وبالتالي أن نوقن بأن القرآن الكريم كلام الله عزَّ وجل أوحى به إلى رسوله صلي الله عليه وسلم ليهتدي به الناس، خاصَّةً وأن مهمَّة الرسل هي دلالة الناس وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. ولكِنْ لابدَّ للناس من عطاء إلهي، ومن نور يُقذف في أعماق أرواحهم لينيرها به وتتوهَّج، فيصبحوا قادرين على سلوك هذا الصراط السوي، ولابدَّ من حافز روحي يدفع صاحبه بعزم وقوَّة تجاه تنفيذ الأوامر الإلهية، إذ القناعة الفكريَّة وحدها لا تكفي. وعندها يصبح العقل قادراً على إدراك حقيقة الوحي ومعرفة مدلولاته والتَّفاعل معه، وهذه وظيفته في الهداية والانضباط الصحيح الَّذي لا يأتيه الباطل. أمَّا حين يستقلُّ العقل البشري بذاته بعيداً عمَّا جاء به الوحي، فإنه يتعرض للضلال والانحراف وسوء الرؤية والتقدير والتدبير، بسبب طبيعة تركيبه في رؤية الوجود أجزاءً لا كُلاً واحداً متصلاً، وبسبب ما رُكِّبَ في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات لابدَّ لها من ضابط ووازع إيماني. وهكذا فإن العقل نفسه يحتاج إلى ضابط يضبطه عن الميل وهو نور البصيرة، والله تعالى جعل حجَّته على الناس، الوحي والرسالة، ولم يجعلها عقلهم البشري ولا حتَّى فطرتهم، لأن الله يعلم أن العقل وحده يضلُّ، والفطرة وحدها لا تتَّضح معالمها بغير العقل، وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا إذا كان الوحي هو الرائد الهادي وهو النور والبصيرة.
سورة الشورى(42)(1/234)
قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليكَ رُوحاً من أمرنا ما كُنتَ تَدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناهُ نُوراً نَهدي به من نَشاءُ من عبادِنا وإنَّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم(52) صراط الله الَّذي له ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ أَلاَ إلى الله تَصِيرُ الأمور(53)}
ومضات:
ـ سمَّى الله تعالى القرآن المُوحَى به روحاً، لأن به حياة العقل وتحريره من الجهل، وتنقية النفس من الهوى، وتخليص القلب من الغفلة؛ فهو يبعث فيها جميعاً أسباب الحياة ويحييها بعد موتها.
ـ تكرَّم سبحانه وتعالى على رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم بعطاء روحي خاصٍّ، ليتذوَّق حقيقة الإيمان، ويدرك آفاق كتابه المبين، هذا العطاء هو نور إلهي تنشده الأرواح العاشقة لتهتدي به للوصول إلى الحضرة الإلهيَّة.
ـ لا تُثبِت الرُّؤى والأحلام معنى النبُوَّة أو الوحي الإلهي، أمَّا إن تحقَّقت النبوَّة فإن رؤى الأنبياء بعد ذلك من الوحي؛ ما لم يأتِ وحي في اليقظة يعارضها أو يردُّها.
ـ إن وظيفة الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم هي دلالة الناس إلى طريق الإيمان، وبيان ما خفي عليهم من العلم الإلهي الَّذي ارتضاه لهم، وتوضيح التزاماتهم ممَّا ينبغي فعله أو ما يجب تركه؛ ليتمكَّنوا من الوصول إليه، فهو طريق مستقيم لا لَبْسَ فيه ولا عِوَج، واضح المعالم، رَسَمَهُ ووضع أسسه ربُّ العالمين خالق السموات والأرض والمهيمن عليها وإليه المصير.
في رحاب الآيات:(1/235)
يؤكِّد الله عزَّ وجل في هذا النصِّ القرآني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يدرك خلال الأربعين سنة الَّتي عاشها قبل نزول الوحي شيئاً عن القرآن الكريم، أو عن كُنْهِ الرسالة، وأن روح الوحي قد لامست قلبه، فأوقدت شعلة الإيمان فيه، فاستضاء بنور الله، ثمَّ انتشر ذلك النور فأضاء على من حوله، وصار يهدي إلى الصراط المستقيم، دين الله القويم، وهذا هو المعنى المقصود من كلمة الوحي هنا؛ إنه أمر إلهي يلقيه الله تعالى في قلوب الرسل عليهم السَّلام وأسماعهم، فيصبح لديهم استعداد للاتصال بحضرة الله، وبملائكته، وتلقِّي رسالته، فتتحوَّل قلوبهم إلى ينابيع تتفجَّر بالحكمة، وعقولهم إلى خزائن تُسْتَودَع العلومُ الإلهيَّة بها. وطبيعة هذا الوحي نور إلهي تخالط بشاشته القلوب الَّتي يشاء الله لها أن تهتدي به، بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.
ويجدر بنا ههنا التأكيد على تقَيُّد هذه المسألة، مسألة الهدى، بمشيئة الله سبحانه وحده، فهو الَّذي يقدِّرها لمن يشاء بعلمه الخاص، الَّذي لا يعرفه أحد سواه، وما الرسول صلي الله عليه وسلم في هذه الحالة إلا دليل لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشئ الهدى في القلوب، بل يبلِّغ الرسالة فتنفذ مشيئة الله. فمهمَّة الرسول إذن هي الهداية إلى طريق الله الَّذي تلتقي عنده المسالك، والله هو مالك السموات والأرض، فالَّذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السموات والأرض، وإلى أن أمر الخلائق جميعها ينتهي إليه تعالى، ويلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره، وهو أحكم الحاكمين.
2- بشريَّة النبي صلى الله عليه وسلم
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {قلْ إنَّما أنا بشرٌ مِثلُكُم يُوحى إليَّ أنَّما إلهُكُم إلهٌ واحدٌ.. (110)}.
سورة الأنعام(6)(1/236)
وقال أيضاً: {قلْ لا أقولُ لكم عندي خزائِنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ لكم إنِّي مَلَكٌ إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يُوحى إليَّ قُل هل يَستوي الأعمى والبصيرُ أفلا تتفكَّرون(50)}
سورة الأعراف(7)
وقال أيضاً: {قلْ لا أملكُ لنفسي نَفعاً ولا ضرَّاً إلاَّ ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسَّنيَ السُّوءُ إن أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون(188)}
سورة الأنبياء(21)
وقال أيضاً: {وما جعلنا لبشرٍ من قَبْلِكَ الخُلدَ أفإِن مِتَّ فَهمُ الخالدون(34)}.
سورة الزمر(39)
وقال أيضاً: {إنَّك ميِّتٌ وإنَّهم ميِّتون(30)}.
ومضات:
ـ لقد كان محمَّد صلى الله عليه وسلم بشراً كسائر البشر، وهذا ما صرَّح به وأعلنه مراراً على قومه، ونفى عن نفسه ادِّعاء أيِّ صفة من الصفات الَّتي تخرجه عن طور البشرية إلى غيرها؛ فما هو بملَك وليس بإله ولكنَّه بشر رسول.
ـ كان من المعهود عند غالبيَّة الناس ـ منذ بداية نزول الرسالات السماوية ـ إصرارهم على محاولة الاستفادة من الأنبياء والرسل في النواحي المادية، وذلك بسؤالهم عن الغيب وكأنهم شركاء لله عزَّ وجل في معرفته، وفي القدرة على كشف الضُّر وجلب الخير؛ متناسين أن الأنبياء والرسل بشر لا تتعدَّى إمكاناتهم الذاتيَّة حدود بشريَّتهم إلا بإذن الله، ولو كان في مقدورهم أن يطَّلعوا على الغيب لكانوا أوَّل المستفيدين منه والمستغلِّين له؛ ولكن المخلوق مهما كان، وكائنا مَنْ كان لا يملك أن يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله تعالى.
ـ وصل تفكير المشركين حدّاً من العقم؛ جعلهم يشترطون على الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم أموراً فوق حدود بشريَّته، وخارجة عن نطاق مهمَّته؛ فتارةً يطالبونه بالمعجزات والأعطيات، وتارةً يريدون منه أن يُعْلِمَهُم بما يخبِّئه الغيب لهم، ليستفيدوا من الفرص المتاحة لهم، ويتجنَّبوا المخاطر الَّتي قد تحيط بهم، ويحظَوْا بالنعم دون تعب أو عناء أو ابتلاء.(1/237)
ـ إن صاحب البصر والبصيرة يدرك بأن المعطي والواهب والمقدِّر هو ربُّ العالمين وحده، وأن لا سبيل لبشر ـ مهما علا قدره ـ أن يتحكَّم بأقدار الناس أو يتلاعب فيها.
ـ رسلُ الله بشر يطرأ عليهم ما يطرأ على البشر من يسر وعسر، وصحَّة ومرض، ونوم ويقظة، فإذا ما استوفَوْا آجالهم أمر الله ملك الموت بقبض أرواحهم، فيموتون كما يموت البشر. ومحمَّد صلى الله عليه وسلم كان واحداً من هؤلاء الرسل، أدَّى الأمانة وبلَّغ الرسالة، ونصح عباد الله، ثمَّ انتقل إلى جوار ربِّه.
في رحاب الآيات:
عندما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى، وبأنه رسول من عند الله إليهم، انقلبوا عليه أعداءً ألِدَّاء، وخصوماً أشدَّاء، وما كانت حجَّة أكثرهم في إعراضهم إلا أن قالوا: ما كان لنا أن نتَّبع بشراً مثلنا، وأخذوا يتمادَوْن في غيِّهم وتكذيبهم، ويسرفون في مطالبته بما هو فوق حدود بشريَّته ليؤمنوا به ويصدِّقوه. فجاء توجيه الله لرسوله بأن يبيِّن لهم أنه بشر وما هو بإله، ويسوق لهم الأدلَّة على بشريَّته؛ فهو الَّذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا بإذن الله. إنه إنسان لا يُميَّز عن غيره إلا بما اختصَّه به خالقه من النبوَّة وتبليغ الرسالة، وهو يريد من الناس أن يؤمنوا بنبوَّته ضمن هذه الأطر البسيطة المعقولة، وبالتالي أن يتقبلوا تعاليم الشريعة، بوصفها وسيلةً لإسعادهم في حياتهم الحاضرة، وآخرتهم الَّتي سيصيرون إليها عما قريب.(1/238)
وانطلاقاً من هذه الحقيقة يوجِّه الله رسوله خاصَّة والناس عامَّة إلى وجوب معرفة حدود إمكانياتهم وطاقاتهم، والعمل ضمنها دون تبجح أو ادِّعاء. فما محمَّد إلا رسول الله، وبشر يسري عليه ما يسري على البشر، فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ولا يملك خزائن الله فيغدق منها على أتباعه، فما هو بملَك وما هو بإله، ولكنه رسول ينطبق عليه ما ينطبق على غيره بهذا الخصوص؛ فهو لا يعلم الغيب، ولا يعرف مكامن الخير فيه حتَّى يستكثر منه لنفسه أو لغيره، ولم يخرق حجب المستقبل إلا بالقدر الَّذي ينبِّئه الله تعالى به ويطلعه عليه. ولو تمَّ له ذلك بشكل مطلق لكان أعظم المستفيدين من هذه القدرة في استقطاب جماهير الناس من حوله، وفي محاولة تألُّفِ قلوبهم وتيسير شؤونهم من جهة، وفي تسخير هذه القدرة لمصلحته الشخصية من جهة أخرى، بحيث يتَّقي بها السوء والأذى إن كان مقدَّراً عليه، كما يستزيد عن طريقها من أبواب الخير والمنفعة.(1/239)
فعند عَتبةِ باب الغيب تقف الإمكانيات البشرية، ولا يفتح ذلك الباب لأحد من الناس فيطَّلع على ما وراءه إلا بإذن من الله؛ ولا يكون ذلك إلا للصفوة المختارة منهم، الَّذين لا يطلعهم الله تعالى إلا على القَدْر اليسير منه متى شاء ودون قيد أو شرط من أتباعهم. وهكذا كان شأن رسل الله جميعاً في ذلك، وهكذا كان شأن خاتمهم محمَّد صلى الله عليه وسلم الَّذي اقتفى آثار أولئك الرسل، وتابع إشادة صرح بنائهم في الدعوة إلى الدِّين القيِّم، حتَّى إذا أتمَّه وأكمله، انتقل إلى جوار ربِّه كما انتقلوا، ونَفَذَ فيه قانون الله كما في سائر مخلوقاته: {كلُّ من عليها فَان * ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلالِ والإكرام} (55 الرحمن آية 26ـ27). وتأكيداً لهذه الحقيقة وقف خليله الصدِّيق يوم وفاته موقفاً ثابتاً أمام من أنكروا موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيُّها الناس من كان يعبد محمَّداً فإن محمَّداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت)، وهنا تتجلَّى روعة الإسلام الَّذي رقى بأتباعه من التعلُّق بشخص الرسول إلى التعلُّق بالمرسِل ومصدر الرسالة، فكانت صلتهم بالله تعالى صلة وثيقة يتطلَّعون إليها، وعروة وثقى عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وبين خالقهم فتمسَّكوا بها.
فموت الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني موت الإسلام، وإذا كان مصير الخليقة إلى فناء، فإن مصير العقيدة هو البقاء، ومنهج الله في الأرض مستقلٌّ بذاته عن الرسل والدعاة الَّذين يحملونه ويبلِّغونه إلى الناس، مهما علا شأنهم وجلَّ قدرهم، وشعلة الهداية متوقِّدة متأجِّجة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
3 ـ مهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {لقد مَنَّ الله على المُؤمنينَ إذ بَعَثَ فيهم رسُولاً من أنفُسِهِم يَتلُوا عليهم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكمَةَ وإن كانوا مِن قَبلُ لفي ضَلالٍ مُبينٍ(164)}(1/240)
/ ومضات:
ـ قامت دعوة الأنبياء ضمن مجتمعاتهم الَّتي ولدوا فيها وانتموا إليها، ولم يكونوا دخلاء عليها، لذلك جاءت هذه الدعوة ملائمة لحاجاتهم البشرية ومنظِّمة لها. أمَّا دعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم فكانت دعوة شاملة تلبِّي حاجات بني آدم كلِّهم، وتنظِّم حياة الإنسان أيَّ إنسان على هذه الأرض، أمَّا غيرها فكانت دعوة إقليمية خاصَّةً بفئة، أو أمَّة معيَّنة دون سواها.
ـ كانت مهمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس تستند إلى مقوِّمات أساسية أهمُّها:
ا ـ تلاوة آيات الله عليهم وجعلهم يتدبَّرون كلماتها بتفهُّم وتعقُّل.
ب ـ تزكيتهم بتطهير قلوبهم ونفوسهم من خبائث الصفات وقبائح الأعمال.
ج ـ تعليمهم كافَّة المعارف الَّتي تضمَّنها القرآن الكريم.
د ـ إرشادهم إلى سبل الحكمة؛ وهي التأمُّل والتحليل لوقائع الحياة واستخلاص العبر منها، فهي قوام كلِّ عمل ناجح، وهي الَّتي تصل به إلى غايته بأقصر السُّبل وأيسرها.
/ في رحاب الآيات:(1/241)
في خضمِّ المتاهات الفكرية، والصراعات القبلية، وفي ظلِّ العبودية والرِّق وحكم الأقوياء وتسلُّطهم، وفرضهم لمعتقداتهم الَّتي يتستَّرون وراءها، بُعث النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية، وأُعطيت له رسالةٌ واضحة الأهداف، راقية بأخلاقياتها وسُمُوِّها الروحي؛ لإنقاذ الجنس البشري وتنظيم مسيرته لما فيه خيره وسعادته. وقد بعثه الله تعالى عربياً من جنس قومه وبلسانهم؛ ليكون أسوتهم وليتمكَّنوا من الاقتداء به. فلم يكن غريباً عنهم بل إنه وُلد فيهم، وترعرع بينهم، وعاش بين ظهرانيهم أربعة عقود كاملة قبل بعثته. وقد علموا فضله في كلِّ ناحية من نواحي حياته، واختبروا أخلاقه وعاداته منذ صباه ونعومة أظفاره إلى أن بلغ أَشُدَّه واستوى، وخرج إلى الناس يدعوهم إلى الإسلام، ويبلِّغهم كلام الله تعالى بالشكل الَّذي نزل عليه، ويبيِّن لهم الأهداف الَّتي يرمي إليها، ويعلِّمهم أمور الحلال والحرام، والخطأ والصواب وينير لهم سبل العلم والمعرفة، ويزرع في عقولهم الحكمة ليزدادوا رقيّاً وكمالاً. وفي هذه الآيات الكريمة يُذكِّر الله المؤمنين بما امْتَنَّ به عليهم وتفضَّل من بعثة النبي فيهم، فكانت فاتحة تاريخ مشرق ومستقبل ناجح متألِّق، كما يحدد تعالى المهامَّ الَّتي بُعث الرسول بها، وهي تعليمهم القرآن والحكمة وتزكية نفوسهم.(1/242)
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو على أصحابه كتاب الله شارحاً لمعانيه، موضحاً لأهدافه، ليتَّخذوه دستوراً لحياتهم، وليطبِّقوا برنامجه الربَّاني الكامل؛ فيَسعدوا في أنفسهم ويُسعِدوا غيرهم، ويرتقوا بتعاليمه إلى قِمم النجاح في مستقبلهم الدنيوي والأخروي. وقد آتت هذه التلاوة ثمارها يانعة منذ عصر النبوَّة؛ فتحقَّق بها إنقاذ الأمَّة من ظلماتٍ بعضها فوق بعض إلى نور العلم والحضارة والرقي، وتبوَّأت مكان الصدارة في قيادة العالم، وصارت خير أمَّة أخرجت للناس. تلك بعض الثمرات على المستوى الجماعي، أمَّا على الصعيد الفردي فكان لتلاوة آيات الله جاذبية تسري في النفوس، فتحيل المستمع من جاهل إلى عالم، ومن عدو إلى حبيب، وكثيراً ما كانت هي الدافع الَّذي حمل الكثيرين على الدخول في الإسلام.
ومن أَجَلِّ المهامِّ الَّتي أُرسل النبيصلى الله عليه وسلم لتحقيقها مهمَّة التزكية؛ وهي تطهير قلوب المؤمنين وعقولهم ومجتمعهم، من الشرك والوثنية والخرافة، وما تنفثه هذه المعتقدات في أصحابها من مشاعر وإيحاءات، قد تهبط بالإنسان إلى ما دون مستوى الحيوان. فقد كان عليه السَّلام يقتلع من أعماق صحابته جذور الوثنية ورواسبها فكرياً ونفسياً، ويدفع عنهم العقائد الباطلة، الَّتي تجعل صاحبها أسير الجهل والخرافات، والتخلف وانحراف الفطرة.(1/243)
ولم تقتصر مهمَّته صلى الله عليه وسلم في التزكية على تطهير العقول من المعتقدات الباطلة؛ بل إنها اهتمَّت إلى جانب ذلك بتطهير النفس من الصفات الناقصَّة، والعادات الذميمة. وقد تمكَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلوغ هذه الغاية فأسَّس المجتمع الفاضل وأوجده على أرض الواقع والحقيقة، وكان المزكِّي الأعظم الَّذي زكَّى نفوس أصحابه بأقواله وأحواله وأعماله، وبذل في سبيل هذه المهمَّة جميع الوسائل الموصلة إليها، والَّتي كان من أهمِّها الدعوة إلى مجاهدة النفس، والعمل على تخليصها من رذائل الصفات وتحليتها بفضائل الأخلاق ومكارمها. وحقيقة المجاهدة هي السُّمُو بصفات النفس البشرية، وتصعيدها من السيء إلى الحسن بل إلى الأحسن؛ لأنها مفطورة على الخير ولديها القابلية للشر. وجوهر عملية التزكية يكمن في العمل على الارتقاء بالنفس، درجة درجة، إلى أن تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فهي تحيلها من كونها أمَّارة بالسوء إلى نفس لوَّامة، تلوم صاحبها كلَّما قصَّر وأساء، فإذا ما تاب واستقام على الخير سكنت، وارتقت في معارج الصفاء، فصارت نفساً مطمئنَّة، راضيةً عن ذاتها، مَرْضِيَّة عند مولاها.
والجدير بالذكر هنا أن الآيات الكريمة عندما حدَّدت مهامَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جعلت مهمَّة التزكية سابقة، ومهمَّة التعليم لاحقة؛ إشارة إلى أهمية مرحلة تطهير النفس في بناء شخصية المسلم، وإلى دورها الأساسي في ضمان نجاح عملية التعليم وجني ثمارها. فالعلم المجرد عن التزكية علم قد يدمِّر صاحبه، ويدفعه في طريق حبِّ التعالي والسيطرة والابتزاز، ممَّا يعود عليه وعلى البشرية بالخسارة والهلاك، وهذا هو العلم الَّذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع». (رواه ابن حبَّان عن أنس بن مالك).(1/244)
وهكذا نجد أن المدرسة الإسلامية اهتمَّت بتزكية النفوس كمرحلة إعداد أوَّلية، وعندما أصبحت قلوب تلامذتها أوعية طاهرة تصلح لإلقاء نور العلم فيها، بدأت المرحلة الثانية وهي التعليم الشامل لعلوم القرآن الَّتي تضع علوم الحياة في إحدى كفَّتي الميزان، بينما تضع علوم الدِّين في الكفَّة الأخرى ليكونا مطلبين متعادلين يحقِّقان سعادة المؤمنين ونجاحهم في الدارين. وإلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {..ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة..} (2 البقرة 201). وممَّا يؤيِّد هذه الحقيقة ويدعمها أن أوَّل ما نزل من وحي الله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {اقرأ باسم ربِّك الَّذي خَلَق * خَلَقَ الإنسانَ من عَلَق * اقرأ وربُّكَ الأكرم * الَّذي عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يعلم} (96 العلق آية 1ـ5) فكان الأمر بالقراءة الَّتي تعتبر من أبجديات العلم والتعليم يرمز في هذا الخطاب إلى نوعين من العلوم: علوم القلب الَّتي تؤخذ عن طريق إدمان ذكر الله وترديد اسمه، وعلوم الحياة الَّتي تؤخذ عن طريق القلم وتنتقل من جيل إلى جيل بواسطته.(1/245)
وانطلاقاً من هذا الخطاب والعمل بمقتضاه؛ تحوَّل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جامعة تُعلِّم كلَّ العلوم، وأصبح طلب العلم فيها والانتساب إليها فرضاً على كلِّ مسلم. فدخلها المسلمون أميين غارقين في عزلتهم عن العالم حضارياً وفكرياً، وتخرَّجوا منها بفضل معلِّمهم ونبيِّهم علماء فقهاء أدباء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، وحملوا شهاداتٍ عاليةً، ومِنَحاً قيِّمةً، منها ما رواه سعيد بن المسيِّب عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم» (أخرجه البيهقي والديلمي)، وهذا ما أكَّده تعالى بقوله: {هو الَّذي بَعثَ في الأُمِّيينَ رسولاً منهم يتلو عليهِم آياتِهِ ويُزكِّيهِم ويُعلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكمةَ وإن كانوا من قَبْلُ لفي ضلالٍ مبين} (62 الجمعة آية 2).
وما أجمل المَثَلَ الَّذي ضربه لنا الرسول المعلِّم الأوَّل عليه الصَّلاة والسَّلام في بيان مهمَّته الجليلة في التعليم ومدى تأثُّر الناس بها عندما قال: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيِّبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقَوْا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مَثَلُ من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من العلم فَعَلِم وعلَّم، ومَثَلُ من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الَّذي أُرسِلتُ به» (متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه ). ولما كان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم شاملاً لجميع أبواب الخير، فقد ركَّز على تعليم الحكمة الَّتي تُعَدُّ من أعظم هذه الأبواب وأجلِّها بدليل قوله تعالى: {..ومن يُؤتَ الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً..} (2 البقرة آية 269).(1/246)
والحكمة في الإسلام تمثِّل الجانب العقلاني في التربية الإيمانية؛ لأنها دراسة للأشياء بحقائقها ظاهراً وباطناً، ومعرفةٌ تتناول ارتباط الأسباب بمسبَّباتها قَدَراً وشرعاً، وخَلْقاً وأمراً. وهذه الدراسة والمعرفة هي الحكمة العلمية، أمَّا الانتقال من مرحلة الدراسة إلى مرحلة التنفيذ والتطبيق فهي الحكمة العملية. وإذا كانت الحكمة هبة الله للمرسلين، فإنها الضالَّة المنشودة لبقيَّة المؤمنين وبغيتهم، فحيثما وجدوا الحقيقة الَّتي أُمروا أن يبحثوا عنها أخذوها، وهذا الوصف هو الَّذي أطلقه معلِّم الحكمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على كلِّ مؤمن فقال: «الكلمة الحكمة، ضالَّة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقُّ بها» (أخرجه الترمذي).
ونظراً لاستناد الحكمة إلى العقل وقيامها على أسسه؛ جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بالتمهُّل والتفكُّر قبل الإقدام على أي خطوة يخطوها المؤمن، لتكون صائبة سديدة. وقد ورد في الأثر: [إذا هممت بأمر فتدبَّر عاقبته، فإن كان رشداً فأمضه، وإن كان غياً فانته عنه]، فكلُّ مرحلة من مراحل حياة المؤمن يجب أن ترافقها الحكمة الرائدة، الَّتي يحتاج إليها في حياته عندما يشرف على خوض غمار الدعوة إلى الله، وعندها يصبح مأموراً بها وليس مختاراً، لقول الله تعالى: {ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة..} (16 النحل آية 125). ولهذا جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنَّته فيدعوته، وسلاحه الَّذي انتصر به على عداوة أعدائه، وكانت تتجلَّى حكمته بأروع صورها عندما كان يستخدم في دعوته أساليب متنوِّعة ومختلفة، تختلف باختلاف كفاءات المدعوِّين واستعداداتهم. وعلى ضوء هذه الحكمة النبويَّة تحوَّل أعداء الأمس أحباباً، والأخصام المناوئون صحابة، وبقوَّتها الجاذبة كان يدخل المشرك مسجد النبي يريد اغتياله، ويخرج مسلماً يدعو إلى الله، وينتقل من زعيم في الكفر إلى زعيم في الإيمان.(1/247)
فهذا هو الإسلام دين التزكية والعلم والحكمة، وكتابه قرآن حكيم مليء بكنوز الحكمة وغني بمادَّتها، وخير دليل على اهتمامه بها ودعوته إليها أن سُمِّيت سورة من سوره باسم لقمان؛ الرجل الَّذي كان عبداً أسود اللون، فلم يضرَّه ذلك شيئاً، لأنه أوتي عطاءً عظيماً من الله وهو الحكمة، الَّتي رفعت مقامه من عبد مملوك فسلكته في مدارج الملوك، وخُلِّد ذكره في الأرض وفي السماء، قال تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة..} (31 لقمان آية 12).
أمَّا عن الحكمة القوليَّة، فخير ما يُذكر عنها ما قاله معلِّم الحكمة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام في حقِّها: «نِعْمَ العطيَّة ونِعْمَ الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوي عليها ثمَّ تحملها إلى أخ لك مسلم تعلِّمه إيَّاها تعدل عبادة سنة» (أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنه ). ومن درر وجواهر الكَلِمِ النبوي في تطبيق الحكمة بشكل عملي، اخترنا طائفة منها كقوله صلى الله عليه وسلم : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالسِّر والكتمان» (أخرجه الطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً)، وقوله: «أُمرنا أن ننزِّل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم» (أخرجه مسلم تعليقاً في مقدمة صحيحه وأبو داود عن السيِّدة عائشة رضي الله عنها)، وقوله: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً وأخرجه أبو داود عن الشعبي مرسلاً)، وقوله: «كلِّموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله» (رواه البخاري) ». وقال عيسى عليه السَّلام: (لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الدَّاء).
ومن الأقوال الَّتي رويت في الحكمة وقيمتها:(1/248)
الحكمة نور الأبصار، ولسان الإيمان، وميزان العدل، وأمن الخائف، ومُتَّجر الرابح، وحظُّ الدنيا والآخرة، وسلامة العاجل والآجل، وهي السفير بين العقل والقلب، لا تندرس آثارها ولا يهلك امرؤ بعد عمله بها.
وعرَّفها آخرون بقولهم: الحكمة هي فعل ما ينبغي، في الوقت الَّذي ينبغي، وفي المكان الَّذي ينبغي، وعلى الشكل الَّذي ينبغي.
وهكذا بنور النبوة، وتكاتُفِ القلوب المؤمنة مع الداعية، المعلِّم المزكِّي الحكيم، ينقلب ضلال أبناء الأمَّة إلى هدى، وجهلهم إلى علم وثقافة، وتخلُّفهم إلى تقدُّم وازدهار، ويُفتح الطريق أمام الإنسانية جمعاء، لتصل إلى الحضارة الحقيقية الَّتي تجمع بين طياتها سعادة الدَّارين.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً(45) وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً مُنيراً(46) وبشِّر المؤمنين بأنَّ لهم مِن الله فضلاً كبيراً(47)}
سورة الأعراف(7)
وقال أيضاً: {..إِنْ أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون(188)}
سورة الأنعام(6)
وقال أيضاً: {وأَنْذرْ به الَّذين يخافون أن يُحشروا إلى ربِّهم ليس لهم من دونِه وليٌّ ولا شفيعٌ لَعلَّهم يتَّقون(51)}
/ ومضات:
ـ زَفَّ النبي صلى الله عليه وسلم لقومه البشرى برفع مستوى حياتهم، مادياً وروحياً ونفسياً واجتماعياً، وحمل التهديدَ والوعيدَ من ربِّ العالمين لمن يُعرض عن نداء الحقِّ والعدالة، فيسيء بذلك إلى نفسه وغيره.
ـ الدعوة إلى الله مهمَّة قدسية وجليلة، لا تُوكل لأحد من الأنبياء أو ورثتهم إلا بإذن من الله سبحانه.
ـ لقد تفضَّل الله تعالى على أنبيائه ورسله بعلامة تدلُّ على صدق نبوَّتهم واصطفائهم، وهي نورٌ إلهيٌ فيَّاض، يُشِعُّ من حنايا قلوبهم، ليغمر قلوب أتباعهم ومحبِّيهم.(1/249)
ـ الخوف من الله عامل أساسي في تكوين النفس المؤمنة، ولابدَّ لتوفُّره من معرفة عظمة الخالق فيما خلق، وإدراك أن ما خلقه لم يكن مصادفة أو عبثاً، وإنما هو نظام له خطَّة وهدف، من أدركه والتزم به نال الشفاعة والقربى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن أعرض عنه هلك وغوى.
/ في رحاب الآيات:
تحدِّد هذه الآيات الكريمة وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو شاهدٌ على التحوُّل الجذري الَّذي أحدثه القرآن في الناس، بولادة الأمَّة المسلمة الجديدة، وهو مبشِّرٌ بالخير والعطاء الإلهي لمن يتَّقي الله، ومنذرٌ للمعرضين عن نور المعرفة والهداية. قال ابن عباس رضي الله عنه : لمَّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً ومعاذاً فبعثهما إلى اليمن، وقال: «اذهبا فبشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا، فإنه قد أُنزل عليَّ: {ياأيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسلناكَ شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً}» (أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه الطبراني بإسناد مثله). وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «اجتمع عتبة وشيبة وأبو جهل وغيرهم فقالوا: أَسْقِطِ السماء علينا كِسَفاً، أو ائتنا بعذاب، أو أمطر علينا حجارة من السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذاك لي، إنما بعثت إليكم داعياً ومبشِّراً ونذيراً». فمهمَّة الرسول هي دعوة الناس لعبادة الله، ومكافحة الشرك والكفر، فهو السراج الَّذي يهديهم ويخرجهم من ظلام الشرك والكفر إلى نور الإيمان، وهذا لا يكون إلا بأمر من الله وبإذن منه جلَّ وعلا.
إن استناد مهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة على قاعدتي التبشير والإنذار، قد ترك أثراً عميقاً في نفوس المدعوين؛ لأن التبشير كان يمثِّل العامل التربوي الترغيبي، الَّذي يدفعهم باتِّجاه ما ينفعهم ويسعدهم، بينما كان الإنذار يمثِّل العامل التربوي الترهيبي، الَّذي يحجبهم عن كلِّ ما يضرُّهم ويؤذيهم.(1/250)
إلا أن الناس غير متساوين في فهمهم لما يُلقى إليهم، فمنهم من لا يتجاوز الكلام أسماعهم، ومنهم من تدخل الموعظة أذن أحدهم وتخرج من الأخرى، دون أن تترك وراءها أي أثر، والقلَّة القليلة منهم من تتَّحد الكلمة مع نفوسهم، وتولِّد شحنات من الحبِّ والتوجُّه إلى الله، كما تتَّحد ذرَّة الأوكسجين مع ذرَّتين من الهيدروجين، فتشكِّل ماءً يمدُّ الأحياء بأسباب الحياة ويروي العطاش. وهؤلاء يمثِّلون فئة المؤمنين الَّذين يخشون الله ويخافون أهوال يوم الحشر وشدَّة الحساب، وهم مَنْ يُرجى الخير من إيمانهم وتقواهم.
ولمثل هؤلاء المؤمنين يزفُّ الله البشارة على لسان رسوله الأمين، بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، وبأن آثار هذا العطاء الإلهي ستظهر في ذواتهم وأُسَرِهم ومجتمعاتهم، حيث ينقلب الظلم عدلاً، والخوف أمناً، والفقر غنىً، والجهل علماً. أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن البصري أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {ليغْفِرَ لك الله ما تَقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخَّر..} (48 الفتح آية 2) قالوا: يارسول الله! قد علمنا ما يُفعل بك فماذا يُفعل بنا؟ فأنزل الله: {وبشِّرِ المؤمنين بأنَّ لهم من الله فضْلاً كبيراً}.
والخلاصة: أن الداعية المأذون من حضرة الله، مشاهد لأنوار ربِّه بصفاء مرآة قلبه، وهو شاهد على مجتمعه، بصير بأمراضه، يحمل البشرى بالشفاء والعلاج لمن يعملون بإرشاداته ووصاياه، أمَّا من أعرض عنها فله الإنذار بسوء العاقبة وشرِّ المصير. وإن أعطيات الله تعالى تنال البشر كافة، ولكن بشائره تُزَفُّ للمؤمنين خاصَّة، وهي فضل كبير، وعطاء متميِّز يخصُّهم به سبحانه وتعالى بالسعادة الروحية في الدنيا والآخرة في ظلِّ عنايته ورعايته.
4 ـ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {إنَّ الله وملائكَتَه يُصلُّون على النَّبي ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّمُوا تسليماً(56)}
ومضات:(1/251)
ـ يبدو مقام النبي الكريم عليه أفضل الصَّلاة وأتمُّ التسليم في هذه الآية أشدَّ ما يكون تألُّقاً وزهوّاً، وهو يحظى بالمواصلة والرحمة من ربِّ العالمين، والدعاء والتشريف من قِبَلِ جميع الملائكة الأبرار.
ـ أمر الله تعالى المؤمنين بالصَّلاة على النبي الكريم زيادة في تكريمه وتشريفه، ولينالوا بها بركة النبي وشفاعته، ولكي ينهلوا بها من معين روحانيته الربَّانية الَّذي لا ينضب، وليتحلَّوا بأخلاقه المحمَّدية السامية.
في رحاب الآيات:
تشير الآية الكريمة إلى كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند الله تعالى؛ فهو محلُّ الهبات الإلهية، ومستودع العطاء الربَّاني، فالله تعالى يُوْدِعُ أنواره القدسية في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ووجدانه وعقله، ولا يزال يظلله بالرحمة إلى يوم الدِّين، ويجعل الملائكة تدعو له بالرحمة والبركات. وحقٌّ على المؤمنين تجاهه أن يملؤوا قلوبهم بمحبَّة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يدركوا كُنْهَ العطاء السماوي الَّذي حمله إليهم من خلال رسالة الإسلام، فهو صلة الوصل النورانية الروحية بين العباد وخالقهم. وبمقدار انفتاح القلب على النبي بالسَّلام والمحبَّة، بمقدار ما يرشف من رحيق الحبِّ الإلهي رشفاً، من شلالات فيضه النبوي، الَّذي أسبغه الله تعالى عليه.(1/252)
وتأكيداً لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، كان الله سبحانه أوَّل من صلَّى عليه صلاة الرحمة، ثمَّ ثنَّى بصلاة الملائكة؛ وهي الاستغفار، ثمَّ أمرنا أن نصلِّي عليه بقوله: {ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليما}، أي الدعاء له بالمغفرة والتعظيم لشأنه صلى الله عليه وسلم ، والالتزام بحسن اتِّباعه والانقياد لأوامره. وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفهم بذلك، حيث اقتدوا بالله عزَّ وجلَّ في الصَّلاة على الرسول وتعظيمه، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن رسالة الإسلام جامعة للخيرات شاملة للعطايا الَّتي تغمر الإنسانية كلَّها، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة الَّتي تمَّ تبليغ الإسلام من خلالها إلى البشر. ولما كان الخلق عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم فهم يطلبون من الملك القادر أن يكافئه، وهذا هو السرُّ في قولهم: «اللهمَّ صلِّ على محمَّد». وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أكثروا من الصَّلاة عليَّ في كلِّ يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تُعرض عليَّ في كلِّ يوم جمعة فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة» (رواه أبو داود بإسناد صحيح)؛ وهذا مقام المقتدي بأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق وثبات. وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه قال: «لما نزلت الآية: {إن الله وملائكَتَه يصلُّون على النَّبي ياأيُّها الَّذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليما} قلنا يارسول الله! قد علمنا السَّلام عليك، فكيف الصَّلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد». فالرسول محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم محمود في الأرض،(1/253)
محمود في السماء، فمن أراد الارتقاء إلى أفقٍ طهور فليصلِّ عليه كما صلَّى عليه ربُّ العزَّة وملائكته الأطهار.
وقد يقول قائل: إن تكريم الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجة، فيه نوع من الشرك الخفي، يتنزَّه عنه الإسلام، الَّذي يدعو إلى توحيد الله، عقيدة وأساساً لكلِّ تعاليمه، فكيف يمكن الجمع بين هذا الحبِّ والتشريف لمقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين التوحيد المطلق لله عزَّ وجل؟ والجواب: إن شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قد تشرَّف بشرف الرسالة الَّتي أولاه الله تعالى حملها وتبليغها. فما كان صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة إلا رجلاً بشراً من عموم الناس، ولكنه بحمل الرسالة نال شرف النبوَّة، وشرف الصلة بالله عزَّ وجل دون سائر البشر. وقد اصطفى الله تعالى لهذا الشرف رسوله من بين البشر؛ ليمرَّ بظروفهم ويشعر بشعورهم، ويسري عليه ما يسري عليهم من شؤون الدنيا، وما ذلك إلا لأن الإسلام هو رسالة العقل والمنطق الَّتي تستند إلى أرضيَّة الواقع، والَّتي ستستمر في تنظيم حياة الناس وشؤونهم مادامت الأرض. وليس في تشريفه إخلال بوحدانية الله، أو إبهام لحقيقة دوره صلى الله عليه وسلم ، فهو مبلِّغ للرسالة وليس موجداً لها، وهو ناقل للعلم وليس مبتكراً له، وهو معرِّف بشريعة الله وليس واضعاً لها، وبهذا يكون تكريمه ثمرة لأمانته وصبره على حمل أعباء الرسالة، وامتثالاً لتكريم الله له واصطفائه على سائر بني البشر.
سورة القلم(68)
قال الله تعالى: {ن والقلمِ وما يَسْطُرون(1) ما أنت بِنِعْمة ربِّك بمجنون(2) وإنَّ لك لأجراً غيرَ مَمنون(3) وإنَّك لعلى خُلُقٍ عَظيم(4)}
ومضات:
ـ يُقسم تعالى بالقلم تكريماً للعلم وبياناً لأهميَّته.
ـ يدفع تعالى عن نبيِّه الكريم تهمة الجنون الَّتي وصمه بها أعداء العقيدة، ويشهد بخُلُق رسوله الكريم الفاضل وشمائله الرفيعة الَّتي أهَّلته لحمل الرسالة وتبليغها.
في رحاب الآيات:(1/254)
أقسم الله تعالى بالقلم تأكيداً على صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم وبراءته ممَّا نسبه إليه المجرمون من السَّفه والجنون، ولا يخفى أن قَسَمَ الله تعالى بشيء إمَّا دليلٌ على قدسيَّته، أو لَفْتٌ للأنظار إلى عظيم مكانته، أو لأهميَّته، أو لبديع خلقه. والقلم هو الَّذي نكتب به العلوم والمعارف، وهو أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده.
وفي هذا القَسَم إشارة إلى فضل العلم وأهميَّته، فقد خصَّ الله الإنسان من بين سائر المخلوقات بمعرفة الكتابة، ليفصح عمَّا في ضميره. وحسبك دليلاً على شرف القلم، أن الله جلَّ وعلا أقسم به تمجيداً لشأن الكاتبين، ورفعاً من قدر أهل العلم، في وقت كان فيه معظم العرب أمِّيين لا يجيدون القراءة والكتابة. أخرج ابن أبي شيبة عن عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد».
وينفي الله تعالى في الآية اجتماع صفتين متناقضتين في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وهما النبوَّة والجنون، فالنبوَّة صفة جليلة قائمة على العلم والحكمة والمعرفة، ولا يمنحها الله إلا لأصفيائه من خلقه ممَّن تميَّزوا بنقاء الفطرة، وصفاء السريرة، ونفاذ البصيرة مع العناية الإلهية به والفضل الربَّاني عليه، فأين الجنون في كلِّ ذلك؟.(1/255)
وإن العجب ليستبدُّ بالإنسان حين يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه، ثمَّ يعلم اتِّهامهم له بالجنون، وهم الَّذين علموا منه رجاحة العقل وحكَّموه في بعض خلافاتهم قبل النبوَّة، وخصوصاً اختلافهم حول من يحوز شرف وضع الحجر الأسود مكانه في بناء الكعبة المشرَّفة عندما جدَّدوا بناءها، وهم الَّذين لقَّبوه بالأمين، وظلُّوا يستودعونه أماناتهم حتَّى يوم هجرته على الرغم من عدائهم الشديد له. وإن الإنسان لتأخذه الدهشة أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحدِّ الَّذي دفع مشركي قريش إلى أن يُلْقُوا تلك الاتِّهامات جزافاً، فيَصِمُوه بالجنون وهو المشهور برجاحة العقل، والخلق القويم والسلوك الأمثل.(1/256)
وتأتي البُشرى للرسول صلى الله عليه وسلم بأن له عند ربِّه أجراً دائماً موصولاً لا ينقطع، وهو الَّذي أنعم عليه بالنبوَّة ومقامها الكريم، وفي هذا الأجر إيناس وتسلية، وتعويض غامر عن كلِّ حرمان عاناه، وعن كلِّ جفوة لقيها، وعن كلِّ بهتان يرميه به المشركون، وقد قُرنت هذه البشرى ورُبطت بمدح خُلُقه صلى الله عليه وسلم في الآية الَّتي تلتها {وإنَّك لعلى خُلُقٍ عظيم} فكان الارتباط القائم بين الآيتين عبارة عن تَرتُّبِ النتائج على المقدِّمات؛ فأجر النبي لا ينقطع ولا ينفد، لأنه ذو خلق عظيم تسامى إلى درجة لا ينقطع معها أجر ولا يقلُّ ثواب، فمَعِيْنُ خلقه فيَّاض لا ينضب، ونبع حسناته متفجِّر لا يغيض، وهذا شرف عظيم لم يدرك شأوَه بشر، فربُّ العزَّة هو الَّذي يصف محمَّداً بهذا الوصف الجليل. وقد كان من خُلُقه صلى الله عليه وسلم : حبُّ العلم، والحلم، وشدَّة الحياء، وكثرة العبادة، والسخاء، والصبر، والشكر، والتواضع، والزهد، والرحمة، والشفقة، وحسن المعاشرة، والأدب، إلى غير ذلك من الخلال العليَّة والأخلاق الرضيَّة. قالت السيِّدة عائشة رضي الله عنها في وصفه عليه السَّلام: (لم يكن يعيب أحداً، ولا يجزي على السوء بسوء، بل كان يعفو ويصفح، وكان بعيداً عن السيئات، إنه لم ينتقم من أحد لنفسه، ولم يضرب غلاماً ولا أَمَةً ولا خادماً قط، بل لم يضرب حيواناً، ولم يَرُدَّ سائلاً إلا إذا لم يكن عنده شيء). وعنها رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللهصلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله عزَّ وجل» (رواه البخاري ومسلم). وما أجمل ثناء الله عليه حين قال: {لَقَد جاءَكُم رسُولٌ من أنفسِكُم عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّم حريصٌ عليكُم بالمؤمنينَ رؤوف رحيمٌ * فإن تَوَلَّوا فقُل حسبيَ(1/257)
الله لا إلهَ هُو عليه توكَّلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم} (9 التوبة 128ـ129).
إن محمَّداً صلى الله عليه وسلم وحده هو الَّذي رقى إلى هذا الأفق من العظمة، وبلغ قمَّة الكمال الإنساني، وهو وحده الَّذي يكافئ ويعادل مضمون الرسالة الإلهية الكونية العالمية من الأخلاق والفضائل، حتَّى إنها لتتمثَّل في شخصه فضيلةً تمشي على الأرض في إهاب إنسان، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما كان أحد أحسن خلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله تعالى: وإنَّك لعلى خُلُق عظيم». وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن هشام رضي الله عنه قال: «أتيت عائشة فقلت: ياأم المؤمنين! أخبريني عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن». فآيات القرآن وسُوَره، حروف وكلمات، وإنَّ عَمَلَ الرسول وخلقه تجسيد لمعانيها وتفسير لأهدافها، ولهذا جعله الله أهلاً لهذا المقام، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
سورة الضحى(93)
قال الله تعالى: {وَلَسَوف يُعطيك ربُّك فترضى(5) أَلَمْ يجدْك يتيماً فآوى(6) ووجدَك ضالاًّ فهدى(7) ووجدَك عائِلاً فأغنى(8) فأمَّا اليتيمَ فلا تقهر(9) وأمَّا السَّائل فلا تنهر(10) وأمَّا بِنِعمة ربِّك فحدث(11)}
سورة الانشراح(94)
وقال أيضاً: {ألم نَشرحْ لك صدرك(1) ووضعنا عنك وِزْرك(2) الَّذي أنْقَضَ ظهرك(3) ورفعنا لك ذكرك(4) فإنَّ مع العُسْرِ يُسرا(5) إنَّ مع العُسْرِ يُسرا(6) فإذا فرغت فانْصَبْ(7) وإلى ربِّك فارغب(8)}
ومضات:
ـ إن من دلائل رفعة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عزَّ وجل قد أسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة، ووعده بفيض العطاء الَّذي لا ينقطع، فهو مستمر ومتجدِّد في الحياة وبعد الممات.
ـ إن التربية الإيمانية تُنمِّي في النفس فضيلة الشكر، وتمنحها مزيَّة الاعتراف بالفضل والجميل.(1/258)
ـ توالي العطاء يلزمه التحلِّي بالصبر والمصابرة، والمزيد من التعبُّد والتعلُّق بحضرة الله.
في رحاب الآيات:
عندما يصفو الحبُّ والودُّ بين العبد وخالقه، وترتفع منزلة المحبِّ عند الحبيب، يتنزَّل عليه صيِّب العطايا بلا حدٍّ ولا عدٍّ، فيسقي شجرة الحبِّ لتؤتي ثمار الرضا يانعة طيِّبة.
وهذا ما تفضَّل به الله على نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم بعد أن اصطفاه واجتباه، فقد أغدق عليه من ألوان العطاء وعظيم الهبات ما شمل خيري الدنيا والآخرة؛ كالنصر والفتح وظهور الدِّين ـ الَّذي جاء به ـ على الدِّين كلِّه، وجعل أمَّته خير أمَّة أخرجت للناس. كما تفضَّل عليه بالثواب العظيم، والمكانة الرفيعة، حتَّى ينال الكرامة العظمى، والمقام المحمود يوم القيامة؛ بالشفاعة العامة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمَّته فقال: «اللهم أُمَّتي أُمَّتي وبكى، فقال الله: ياجبريل اذهب إلى محمَّد واسأله ما يبكيك ـ وهو أعلم ـ فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره رسول الله بما قال، فقال الله: ياجبريل اذهب إلى محمَّد، وقل: إنا سنرضيك في أمَّتك ولا نَسُوؤُك» (أخرجه مسلم)؛ ولايخفى أن أُمَّة رسول اللهصلى الله عليه وسلم هي الَّتي سارت على نهج القرآن خلقاً وعلماً وعملاً.(1/259)
ثمَّ يمضي سياق الآيات من سورة الضحى، مذكِّراً الرسول صلى الله عليه وسلم ليستحضر في خاطره جميل صنع ربِّه به، وفيضه عليه، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والودِّ والإيناس الإلهي، فيقول: انظر في واقع حالك، وماضي حياتك، هل ودَّعك ربُّك وهل قلاك، حتَّى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تكن يتيماً لا أب لك، فما زال يحميك ويتعهَّدك برعايته حتَّى ارتقيت إلى ذروة الكمال الإنساني؟ ألم يجدك حائراً مضطرباً في أمرك، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة، فعبادتهم باطلة، ومعتقداتهم فاسدة، فهداك إلى رحاب حضرته، وزرع في قلبك برد اليقين؟ ألم تكن فقيراً فأغناك بما أجراه لك من الربح في التجارة، والسعة بعد الضيق؟.(1/260)
وبعد أن عدَّد تعالى هذه النعم الثلاث، وصَّاه بثلاث وصايا تقابلها فقال: فأمَّا اليتيم فلا تقهر، أي لا تحتقره ولا تغلبه على ماله، وجَمِّلْهُ بالأدب وهذِّبه بمكارم الأخلاق، ليكون عضواً نافعاً في مجتمعك؛ لأن من ذاق مرارة الضيق في نفسه، فهو جدير بأن يستشعرها في غيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتيماً، فباعد الله عنه ذلَّ اليتم وآواه، فَمَنْ أَوْلى منه بأن يُكرِّم اليتيم شكراً لله على نعمته. وأمَّا السائل المستجدي، فلا تزجره ولا تُغلِظ له القول، بل تفضَّل عليه بشيء أو ردَّه ردّاً جميلاً، وقد يكون المراد من السائل طالب الحقيقة والعلم، وهو أيضاً ممَّا ينبغي الرفق به، وبيان ما أشكل عليه من الأمر. وعليك أيُّها الرسول أن توسِّع على الفقراء ببذل مالك، وأن تفيض عليهم من النعم الأخرى، روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وأمَّا بِنِعْمة ربِّك فحدث} قال: (بالقرآن، وعنه قال: بالنبوَّة، أي بلِّغ ما أرسلت به). وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (إذا أصبت خيراً، أو عملت خيراً، فحدِّث به الثقة من إخوانك). وروى الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدُّث بالنعم شكر، وتركه كفر (أي كفر بها) والجماعة رحمة والفرقة كفر» (أخرجه ابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف وعبد الله ابن أحمد بإسناد لابأس به). وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله جميل يحبُّ الجمال، ويحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده» (أخرجه البيهقي ـ أمَّا المقطع الأوَّل منه فأخرجه مسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه ).(1/261)
وتتَّصل الآيات من سورة الانشراح بسورة الضحى، فتتابع ذكر النعم الَّتي أتمَّها الله على نبيِّه تكريماً لمنزلته، ورفعة لشأنه، وتأييداً لموقفه، فيأتي بها الخطاب الإلهي مبيِّناً وموضِّحاً لصور متفاوتة في الفضل والامتنان الَّذي امتنَّ الله به عليه صلى الله عليه وسلم ؛ كشرح الصدر، والطهارة من الذنوب والأوزار، ورفيع المنزلة والقدر في الدنيا والآخرة.
فما أحوج الداعية المؤمن في غمرة معاناته إلى صفة سعة الصدر وانشراحه؛ ليتمكَّن من المتابعة، ومن التغلُّب على التيَّارات النفسية الَّتي تتجاذبه، وتولِّد لديه شعوراً بالإرهاق الفكري والجسدي، إلى جانب سيطرة الشعور باليأس والإحباط، وبشدَّة الضيق الَّذي يكاد يخنق صدره، وكأنَّه يحمل جبال الأرض هموماً وأتراحاً. ذلك أن التعامل مع الناس عموماً في الأمور الحياتية يولِّد العناء والمشقَّة، فما بالك بدعوتهم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وحثِّهم على تغيير معتقداتهم الخاطئة الَّتي توارثوها منذ مئات السنين. هل من عناء أشدُّ من هذا العناء تجاه مقاومتهم وصدِّهم وإعراضهم بل إيذائهم له وقتالهم إياه؟ وهل من مشقَّة تفوق هذه المشقَّة؟. ولكنَّ المؤمن الَّذي اتَّصل قلبه بالحضرة الإلهية، وأحاطت به العناية الربانية، يتلقَّى منها المدد والسند عبر نفحات نورانية تثلج صدره، وتنعش فؤاده، وتحطُّ عنه أوزاره وعناءه، فيشعر بشفافية في روحه، ورقَّة في مشاعره، وهدوء في أعصابه، نتيجة المعالجة الربَّانية الَّتي تزيل ركام الهموم والمشقَّات عن جسده وروحه، وطريق مسيرته، لأجل نصرة دين الله وإيصال هديَّة الله الغالية النفيسة إلى عباده الأخيار.(1/262)
هذه التجربة المريرة، مرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج منها سليماً معافى، بفضل الله وكرمه، فقد شرح الله صدره بالهدى والإيمان ونور القرآن، للقيام بأعباء الدعوة، فيسَّر له أمرها، وجعلها حبيبة إلى قلبه، وأنار له الطريق حتَّى وجد الرَّوح والانشراح والإشراق والنور، ووجد في حسِّه مذاق هذا العطاء، والمتعة مع كلِّ مشقَّة، والراحة مع كلِّ تعب، واليسر مع كلِّ عسر، والرِّضا مع كلِّ حرمان. وقد حطَّ الله تعالى عن الرسول الكريم ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة، وذلَّل له الصعاب في طريق التبليغ، وجعل نفسه مطمئنة به راضية، كما يرضى الأب بتحمُّل مشقَّة العمل من أجل إسعاد أبنائه؛ فيتحمَّل الشدائد وهو راضٍ بما يقاسي في سبيل رعايتهم، وتنشئتهم وتأمين مستلزماتهم.
أمَّا قوله تعالى: {ووضعنا عنك وِزْرَك} فمعناه: غفرنا لك ذنبك، كقوله تعالى في آية أخرى: {لِيَغْفِرَ لك الله ما تقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخَّر..} (48 الفتح آية 2). وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام، فإن الرسل معصومون من مقارفة الآثام، ولكنَّها أخطاء الاجتهاد فيما لم يأته بشأنه وحي؛ كإذنه صلى الله عليه وسلم للمنافقين في التخلُّف عن الجهاد حين اعتذروا، وعبوسه في وجه الأعمى، وقبوله الفداء من أسرى بدر.
ولا تخفى الحكمة الإلهية من ذلك، فقد تَرَكَ الله الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ، ليصحِّح له هذا الخطأ ويعاتبه عليه، وفي هذا العتاب ما فيه من الدلالة على أن القرآن ليس من عنده، وإنما هو قول ربِّ العالمين سبحانه.(1/263)
وهكذا بعد أن تفضَّل الله على رسوله بشرح صدره للقيام بمهمَّة الدعوة، الَّتي أصبحت مشرق النور الإلهي ومستقرَّه ومستودعه، وبعد وصله الفناء بالبقاء، والعدم بالوجود، كافأه سبحانه بدرجة عظيمة مقابل قيامه بتكاليفها وأدائها على أحسن وجه، فوضع عنه ما أثقل ظهره، ورفع ذكره وقرن اسمه الكريم باسمه عزَّ وجل، ممَّا جعل قلوب الناس المؤمنة تلهج بالثناء عليه منذ أربعة عشر قرناً وإلى ما شاء الله؛ فصلَّى الله وسلَّم وبارك عليه.
لقد بلغ صلى الله عليه وسلم أسمى الرتب، ونال أرفع الدرجات والمنازل، وأيُّ منزلة أرفع من النبوَّة؟ وأيُّ ذكر أوسع وأعلى من أن يكون له في كلِّ طرف من أطراف المعمورة، أتباع يمتثلون أوامر الشريعة ويجتنبون نواهيها، ويرون محبَّته مغنماً، والحرمان منها مغرماً؟ وهل من فخار أكبر من جعل اسمه مقروناً باسم الله كلَّما تحرَّكت به الشفاه؟ (لا إله إلا الله محمَّد رسول الله) وهو المقام الَّذي تفرَّد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين. أخرج أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربَّك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم، قال: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي».(1/264)
لقد وعد الله رسوله بالنصر والتوفيق والسداد، فما عليه إلا أن يشحن روحه بمزيد من المدد الإلهي، والإكثار من الذكر والتسبيح والعبادات، ليبقى الاتِّصال مستمراً، والعناية محيطة به على مدار الساعة بإذنه تعالى، وعندها يأتي الفرج بعد الضيق، ويكون الرخاء بعد الشِّدة. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعاني في مكَّة من الضيق والشدة، هو وأصحابه، ما الله به عليم، بسبب أذى المشركين، فوعده الله باليسر، كما عدَّد نعمه عليه في أوَّل السورة تسلية له، ومؤانسة لنفسه وتقوية لرجائه، وكأنَّ الله تعالى يقول: إن الَّذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدِّل لك هذا العسر بيسر قريب، ولذلك كرَّره مبالغة فقال: {فإنَّ مع العسرِ يسراً * إنَّ مع العسر يسرا} فلا تحزن ولا تضجر؛ فالعسر مشفوع بِيُسْرَيْنِ كتفريج الهمِّ مع ثواب الله تعالى، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لن يغلب عُسر يُسرين» أي لن يغلب عسر الدنيا يسر الدنيا ويسر الآخرة. أخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: {إن مع العسر يسرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين» (أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب عن الحسن مرسلاً، ورواه الطبراني عن معمر). وتفسير ذلك أن الآية الكريمة جعلت العسر معرَّفاً بالألف واللام ومهما كُرِّر فيها فهو واحد، لكنها نَكَّرت اليسر (يسراً) ولَمَّا كرَّرته تعدَّد فصار في الآية عسر واحد يقابل يسرين، ولن يغلب عسر يسرين كما صرَّح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/265)
بعد ذلك يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الزَّاد في الطريق الشاقِّ الطويل: {فإذا فرغتَ فانْصَب} أي إذا فرغت من شغلك مع الناس وانتهيت من شواغل الحياة، فتوجَّه بقلبك كلِّه، عبادةً، وتجرُّداً، وتطلُّعاً إلى زيادة القرب من الله سبحانه وتعالى. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} (أي إذا فرغت من صلاتك وتشهَّدت فانصب إلى ربِّك، واسأله حاجتك. ولا ترغب في ثواب أعمالك وتثميرها إلا إلى ربِّك وحده، فإنه هو الحقيق بالتوجُّه إليه والضراعة له، توجَّه إليه خالياً من كلِّ شيء، حتَّى من أمر الناس الَّذين تشتغل بدعوتهم، فإنه لابدَّ من الزاد للطريق، وهذا هو الزاد، ولابدَّ من العدَّة للجهاد، وتلك هي العدَّة، وهنا ستجد يسرا مع كلِّ عسر، وفرجاً من كلِّ ضيق).(1/266)
وتنتهي السورة وقد تركت في النفس شعورين متمازجين، الشعور بعظمة الودِّ الجميل الَّذي يفيضه الله على رسوله الكريم، والشعور بالتَّعاطف مع شخصه، ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في تلك الآونة الَّتي اقتضت هذا الودَّ الجميل. فما أروعها من ثمرات نجمت عن المعاناة الطويلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجهاده الشاقِّ في تركيز قواعد الشريعة الإسلامية، حيث أنقذت أمماً كثيرة من رقِّ الأوهام، وفساد الأحلام، ورجعت بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل والإرادة، والإصابة في معرفة الحقِّ، ومعرفة المقصود بالعبادة، فاتَّحدت كلمتهم على الاعتقاد بإله واحد لاشريك له بعد أن كانوا متفرقين طرائق قِدداً، عُبَّاد أصنام وأوثان، وشموس وأقمار، لا يجدون إلى الهدى سبيلاً، ولا للوصول إلى الحقِّ طريقاً، فأزاحت عنهم تلك الغُمَّة، وأنارت لهم طريق الهدى والرشاد. وما أجملها من آيات يقرؤها العبد في صلاته، وهو يشعر بأنه المخاطب بها مباشرة من قبل ربِّ العالمين، ليشعر بحضور الله عزَّ وجل المستمر معه. وما أجدر المرء أن تكون له التفاتات متكرِّرة إلى بدايات حياته، ليتذكر توالي فضل الله عليه، واستمراره منذ ولدته أمُّه ولغاية يومه، ويدرك أنه تعالى ما تخلَّى عنه، وما بخل عليه في يوم من الأيام بل إنه في كنف ربٍّ كريم، عظيم، رحيم. وما أحراه أن يُقدِّم شكراً عملياً لربِّ العالمين، من خلال أداء واجبه تجاه المقهورين والمحرومين، والسائلين والأيتام؛ أيتام الأبوين أو أيتام العلم، وذلك برعايتهم في شؤون دينهم ودنياهم، وتبليغهم تعاليم القرآن، وتوضيح نِعم الله بروح مؤمنة خاشعة؛ لتستمر رابطة الألفة بين العباد وخالقهم، وبين العباد بعضهم مع بعض، فيصبح المجتمع مجتمع العلم والإخاء والمحبَّة.
5 ـ وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به
سورة آل عمران(3)(1/267)
قال الله تعالى: {قُل إن كنتُم تُحبُّونَ الله فاتَّبِعُوني يُحبِبكُمُ الله ويَغفِر لكم ذُنُوبَكُم والله غَفُورٌ رحيمٌ(31) قُل أطِيعُوا الله والرَّسُولَ فإن تَوَلَّوا فإنَّ الله لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ(32)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسولَ وأُولي الأمرِ منكُم فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى الله والرَّسولِ إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخِرِ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً(59)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {وما أرسَلنا من رسولٍ إلاَّ ليُطاعَ بإِذنِ الله ولو أنَّهُم إذ ظلموا أنفُسَهُم جاءُوكَ فاستغفَروا الله واستغفرَ لهم الرَّسولُ لَوَجدوا الله توَّاباً رحيماً(64) فلا ورَبِّكَ لا يؤمِنونَ حتَّى يُحكِّموكَ فيما شَجَرَ بينهم ثمَّ لا يَجدوا في أنفُسهِم حرَجاً ممَّا قضَيتَ ويُسلِّموا تَسليماً(65)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {ومن يُطع الله والرَّسولَ فأولَئِكَ معَ الَّذين أنعَمَ الله عليهِم من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالِحينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رفيقاً(69) ذلك الفضلُ من الله وكفى بالله عليماً(70)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {من يُطعِ الرَّسولَ فقد أطاعَ الله ومن تَولَّى فما أرسلناكَ علَيهِم حفيظاً(80)}
سورة الأنفال (8)
وقال أيضاً: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَابِرِين (46)}
سورة النور(24)
وقال أيضاً: {إنَّما كان قولَ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى الله ورسولِهِ لِيَحْكُمَ بينهم أن يقولوا سَمِعنا وأطَعنا وأولئِكَ هم المفلِحونَ(51) ومن يُطع الله ورسولَهُ ويَخشَ الله ويتَّقْهِ فأولئِكَ هم الفائِزونَ (52)}
سورة النور(24)(1/268)
وقال أيضاً: {إنَّما المؤمنونَ الَّذينَ آمنوا بالله ورسولهِ وإذا كانوا معَهُ على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتَّى يستَئذِنوهُ إنَّ الَّذينَ يستئذنونَكَ أولئِكَ الَّذينَ يؤمنونَ بالله ورسولهِ فإذا استئذنوكَ لبعضِ شأنِهم فَأْذَن لِمن شِئتَ منهم واستغفرْ لهم الله إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ(62)}
سورة الأحزاب(33)
وقال أيضاً: {لقد كان لكم في رسولِ الله أُسوَةٌ حسنةٌ لِمَن كان يَرجو الله واليومَ الآخر وذَكرَ الله كثيراً(21)}
سورة الأحزاب(33)
وقال أيضاً: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسُولُهُ أمراً أن يكونَ لهمُ الخِيَرَةُ من أمرهِم ومن يَعصِ الله ورسولَهُ فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً(36)}
سورة الفتح(48)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين يُبايعونك إنَّما يُبايعونَ الله يدُ الله فوق أيديهم فمن نكث فإنَّما ينكثُ على نفسه ومن أوفى بما عاهدَ عليهُ الله فسَيُؤتِيه أجراً عظيماً(10)}
ومضات:
ـ كثير من الناس يدَّعون محبَّة الله ورسوله؛ فلئن كانت الطاعة هي البيِّنة الَّتي تشهد بصدق دعوى المحبّة وأصالتها، فإن المعصية تشهد بنقيض ذلك، وعلى الإنسان أن يضع نفسه على هذا المِحَكِّ ليعرف إلى أيِّ الزمرتين ينتمي.
ـ تؤكِّد هذه الآيات حتمية إطاعة المؤمنين لله عزَّ وجل ولرسوله الكريم ولأولي الأمر منهم، وفَرْضِيَّة ردِّ الخلافات الَّتي تنشأ بينهم إلى الله ورسوله، لحلِّها في ضوء القواعد الإيمانية.
ـ طاعة الرسول الكريم واجبة، واستغفاره للمؤمنين المذنبين التائبين مقبول لدى ربِّ العالمين، وإذا اتبعوه بصدق أحبَّهم الله وأنعم عليهم بالمغفرة.
ـ من دلائل الإيمان السليم، أن يُحَكِّم المسلمُ الشرعَ الإسلامي القويم فيما يعرض له من أمور، ثمَّ يقبل بحكمه ولا يجد في نفسه حرجاً أو ضيقاً من الالتزام به.(1/269)
ـ إن المطيع لله ورسوله، يتبوَّأ منزلته في علِّيِّين، مع الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين، في ظلال عرش الرحمن، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
ـ طاعة الرسول هي طاعة لله عزَّ وجل ومعصيته معصية لله، لأن أوامره ما هي إلا وحي من الله وعمل بكتابه الكريم، فقد أرسل تعالى الرسل وأيَّدهم بوحيه لتكتمل مقوِّمات وجوب طاعتهم على الناس، فإذا قضى الرسول قضاءً بإذن الله فلا مناص من تنفيذه والإذعان له لأنه من أمر الله.
ـ في طاعة الله ورسوله وحدة وقوَّة للمؤمنين، ولا تتحقَّق تربية النفس على الطاعة إلا بالصبر.
ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة النموذجية المثالية، لكلِّ من آمن بالله وذكره ذكراً كثيراً.
ـ على المؤمنين أن يبقَوْا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الملمَّات والطوارئ، وألا يفارقوه دون استئذان، فالمؤمن الَّذي يشعر بارتباطه الكامل مع المجموعة المؤمنة لا يتخلَّى عنها، إلا إذا عرض له أمر قاهر؛ ومع ذلك فهو لا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم دون استئذان، تأدُّباً معه واحتراماً لمجلسه.
ـ عدَّ الله تعالى مبايعة الناس لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وتقديم عهد الولاء والطاعة له، والاستجابة لأوامره، مبايعة مباشرة لحضرة الله، وبيَّن أنه يؤيِّد الأيدي المتشابكة الَّتي تصافح يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه تعالى راضٍ عن هذه البيعة، ممَّا يؤكِّد قدسيتها، فمن نكث فقد نكث مع الله، ومن أوفى بعهده فقد وفَّى مع الله وله الأجر والثواب الجزيل.
في رحاب الآيات:(1/270)
يتجلَّى حُبُّ المؤمن لربِّه ولنبيِّه بصور مختلفة وعلامات شتَّى، وإنَّ من أوضح هذه العلامات وأظهرها، أن يكون المؤمن مؤْثِراً لأوامر الله تعالى على سائر محبوباته، ظاهراً وباطناً، فيلزم الطاعة، ويجتنب التردُّد والتَّهاون واتِّباع الهوى، ويكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا المعنى قال أحد المحبِّين الصادقين:
وأَتْركُ ما أهوى لما قد هَويْتَه فأرضى بما ترضى وإن سَخِطَتْ نفسي
بينما أنكر محبٌّ آخر ادِّعاء محبَّة الله مع ارتكاب معصيته فقال:
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه هذا لَعَمْري في القياس بديع
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيع
فاتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال والأخلاق، يعني الدخول في دائرة طاعة الله، الَّتي تعني امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه، واتِّباع سنن رسوله ممَّا ورد عنه من قول أو فعل أو تقرير، قال صلى الله عليه وسلم : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (أخرجه مسلم).
وقد يخطئ العقل البشري، ويتأثر بشتَّى التيارات الفكرية، لذلك كان لابدَّ من وجود ميزان ثابت ترجع إليه العقول عند اختلافها، فتعرف من خلاله مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوُّراتها، والله تعالى يضع هذا الميزان لسائر القيم والأحكام، وفي كلِّ حقل من حقول الحياة، وهو كتاب الله وسنَّة رسوله. فإن تنازعنا في أمر فعلينا أن نخضعه لهذا الميزان، فإن لم نجد له حكماً صريحاً في القرآن أو السنَّة لجأنا إلى القياس، وهو: ردُّ الحكم في القضايا الطارئة الَّتي لا نصَّ يبيِّن حكمها، إلى الأحكام الَّتي نصَّ عليها الشرع للتَّشابُه بينهما، والمماثلة في علَّة تشريع الحكم.(1/271)
وممَّا تجدر الإشارة إليه أن آيات القرآن الكريم قد ربطت بين طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، دفعاً لتخرُّصات المفسدين وتأويلات المنافقين، الَّذين دعَوْا إلى الاكتفاء بما جاء في القرآن الكريم، وترك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل. وممَّا يؤكد وجوب الالتزام بالسنَّة إلى جانب الالتزام بكتاب الله، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علاوة على قيامه بتبليغ الرسالة فقد قام بتطبيقها، بل إنه القدوة المثلى لهذا التطبيق. ولقد أخذ المسلمون عنه عليه الصَّلاة والسَّلام تعاليم هذا الدِّين ومناسكه، وراحوا يبنون صرح هذه العقيدة على أسسها. فالرسول صلى الله عليه وسلم مبلِّغ ومبيِّن عن الله مراده، وقد جاءت سنته شارحة للقرآن تبيِّن مجمله وتقيِّد مطلقه وغير ذلك من أوجه البيان.(1/272)
وبهذا يمكن فهم مقام السنَّة بالنسبة للكتاب، فالتشريع الدِّيني المحض ـ كأحكام العبادات ــ لم يكن يصدر إلا عن وحي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من كتاب أو سنَّة، أو بما يُقِرُّه عليه من اجتهاد. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك معصوماً، لأنه لو أخطأ لما أمر تعالى بطاعته في قوله: {من يُطعِ الرَّسول فقد أطاع الله ومن تولَّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} (4 النساء آية 80)، ومادامت المسائل الدِّينية قد بُنيت على هذا النحو، ومادام الأصل الَّذي يُرجَعُ إليه عند التحاكم معلوماً، فلا معنى للاختلاف حول منزلة النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة الإسلامية، فلا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو قائد مسيرة الإيمان، والدليل الروحي والمرشد الحكيم، وهو الَّذي يتكلَّم بوحي الله: {وما يَنْطقُ عن الهوى * إن هوَ إلاَّ وحيٌ يُوحى * علَّمهُ شديدُ القُوى} (53 النجم آية 3ـ5) وعلى هذا فإن أقواله وأعماله هي من وحي الله عزَّ وجل، فصَحَّ بذلك أن تكون مصدراً ثانياً للتشريع بعد القرآن الكريم، وإن ترك هذا المصدر هَدْمٌ لركن من أركان التشريع، فمن أعرض عن السنَّة فقد حرم نفسه من ثمرات التطبيق النبوي، فَتاهَ وضلَّ عن سواء السبيل.
وسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم الَّتي علينا الاقتداء بها، تبدأ منذ بدء تكليفه بالرسالة، بل إن بعضهم قال هي منذ اعتكافه صلى الله عليه وسلم في غار حراء، حيث أمضى الأيام الطويلة متعبدا، متحنِّفا، متأملا في ملكوت السموات والأرض، حتَّى صفت نفسه ورقَّت مشاعره، ممَّا أهَّله لتلقِّي الفيوضات الإلهية، وفتح مغاليق قلبه ليكون مستودعا للأنوار الربَّانية..(1/273)
وأوَّل سنَّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تبليغ الدعوة بدءا من زوجته وتثنية بابن عمه، ثمَّ خادمه، دعوة مباشرة لعبادة الله، الواحد الأحد، هكذا دون شكليَّات ولا مراسم.. وهذا ما غفل عنه الكثير، ممن اهتموا بالشكل دون المضمون، فكان همُّهم طول اللحية، وطول الثوب الَّذي نرتديه، وإلى غير ذلك من السنن السهلة.. ناسين أن الإسلام قام بالجهد والتعب والتضحية، وبالصبر والمصابرة على أذى الناس وتعنُّتهم، وبالحكمة واللين والموعظة الحسنة، بدءاً من تزكية القلوب، وإدخالها غارَ البعد عن الفواحش والمعاصي، ومن ثمَّ التعلُّم والتعليم، والدعوة والإرشاد...
والرسول مكلَّف بتأدية الرسالة، وليس مكلَّفاً بتثبيت الإيمان في قلوب المعرضين المتولِّين، ولا أن يحفظهم من الإعراض بعد البلاغ والبيان، ولكنه ـ على الرغم من ذلك ــ لا يتخلَّى عنهم في اللحظات الحرجة، فهو ينصح المخطئ ويرشده إلى طريق الصواب، ويستغفر الله له، وهنا يقترن استغفار الرسول المشحون بالقوَّة والنورانية، مع استغفار العبد التائب، المقرون بالتوبة والندم، ليعلو النداءان في جنبات السماء، فيجدا أبواب القبول الإلهي مفتَّحة بإذن الله. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يملك الشفاعة لا المغفرة، لنفسه أو لأتباعه، والغفَّار هو ربُّ العالمين، ولا يستطيع أحد أن ينتحل هذه الصفة فهي من خصائص الرحمن وحده.(1/274)
وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورية حتَّى في أصغر الأمور وأدقِّها، وهذا تعليم للأمة المؤمنة كيفية التعامل مع قائدها وولي أمرها. والأمكنة الَّتي تتوجَّب فيها طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد عدَّدت الآيات القرآنية بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، وخاصَّة فيما يتعلق بعمل المؤمنين بوصفهم مجموعةً، فهم ملزمون بالبقاء إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كلِّ أمر جامع هام، فيه مصلحة الأمة، وهذا تأكيد على دور الفرد وأهميَّته في الأمور المصيرية، فلا يحقُّ لأحد أن يتخلَّى عن تأدية هذا الدور، لأن الفرد المسلم مُلك لأمَّته، وهو عضو من أعضاء جسدها الواحد، وعليه أن يشاركها المعاناة والتضحية، والبناء وترسيخ القواعد الإيمانية، بكلِّ جديَّة ووعي وتقدير للمسؤولية.
والدرجة الثانية في الأهميَّة من هذه الطاعة، هي إطاعة من يولِّيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإدارة بعض المهمَّات بالنيابة عنه، وكذلك إطاعة أولي الأمر من بعده، طالما أنهم مستقيمون على أوامر الله، لأنهم يتابعون قيادة هذه الأمَّة وولاية أمورها، وخير الأمَّة يكمن في اجتماع كلمة أبنائها، قال الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ: (حقَّ على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدِّي الأمانة فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه). وهذا مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني» (أخرجه البخاري ومسلم وابن جرير).(1/275)
ومن تمام الطاعة بل ومن أهم مقوِّماتها، قبول تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي شريعة الله عزَّ وجل، لحلِّ كلِّ ما يمكن أن يطرأ من خلافات بين المؤمن وأخيه. وقد نفى الله سبحانه صفة الإيمان عن الَّذين رغبوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما نشب بينهم من خلاف، وأقسم سبحانه بربوبيَّته إنَّ هؤلاء لا يؤمنون إيماناً صحيحاً مستحقّاً للفوز بالثواب، والنجاة من العقاب، ذلك لأن في تحكيمه تحكيماً للحقِّ، ورجوعاً إليه، والتزاماً بجادَّة الصواب، وهذا منجاة للمؤمنين من الانزلاق وراء الأهواء والدوافع الشخصية في حلِّ نزاعاتهم، ومدعاة لحفظ الحقوق بينهم، وإن الرغبة عن تحكيمه هي عدول عن الحقِّ، وتحكيم للأنا والشهوات.(1/276)
وقد رتَّب الله تعالى على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مثوبات كبيرة، إذ جعل المطيعين في جنَّات النعيم، مع الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وجعل من يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة، في منزلة من يبايعون الله على ذلك، سواء في بيعة العقبة الَّتي تمَّت بين المؤمنين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم في غيرها من البيعات الَّتي كان يشعر فيها الفرد المسلم عندما يضع يده في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، برقابة الله تهيمن عليه، وكأنَّ يده سبحانه فوق أيديهم، وهو على يقين بأن الله حاضر البيعة شاهد عليها، وهو الَّذي أخذها على المبايعين، وبالتالي فإن قدرته القاهرة مهيمنة على المتبايعين. ولا شكَّ أن هذه الصورة تستأصل من النفس أي خاطر للنكث بهذه البيعة، ولو غاب شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله حاضر لا يغيب، وهو عليهم رقيب. فمن نقض البيعة فهو الخاسر، لأنه رجع عن تلك الصفقة الَّتي عقدها مع ربِّه تعالى، وما من بيعة بين الله وعبد من عباده، إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله، والله هو الغنيُّ عن العالمين، وهو يحبُّ الوفاء ويحبُّ الأوفياء. وأمَّا مضمون هذه البيعة فقد أخرج أحمد وابن مردويه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه ممَّا نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنَّة، فمن وفَّى وفَّى الله له، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه). ويبشِّر الله الموفين بالعهد بأن لهم أجراً عظيماً، فلم يفصِّله ولم يحدِّده، ولكنه اكتفى بوصفه؛ أنه عظيم، عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الَّذي لا يرتقي إلى تصوُّره أهل الأرض.(1/277)
وكما أن للطاعة ثمراتها، فإن للمعصية عواقبها الوخيمة على الفرد أوَّلاً وعلى الأمة ثانياً، فإذا ما انسلخ الإنسان عن أوامر ربِّه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم خرج عن مساره المستقيم، ودخل في متاهات الشكوك والمعاناة، وفقد المدد الإلهي، وأضحى نجماً آفلاً يتردَّى في مسارب الشيطان ومسالكه. أمَّا عزوف الأمَّة عن شريعة الله فإنه يؤدِّي إلى تفشِّي الخلافات بين صفوفها وتفرُّقها، وبالتالي إلى انهيارها وسيطرة أعداء الحقِّ والحقيقة على أفكارها ومعتقداتها. وهذا الخلل لا يمكن حدوثه ما دمنا بحضرة الله لائذين، وبشريعته متمسِّكين، وبسنَّة رسوله مهتدين، مُتحلِّين بالصبر والأناة، مع العزم والمجاهدة، لنَبْلُغَ الدرجة المرجوَّة من التسليم لحكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم .
وختاماً من الضروري القول بأن افتراض وجود بعض الأحاديث المكذوبة أو الضعيفة في كتب السيرة والسنن، لايعني بالضرورة إلغاء دور السنَّة الشريفة، بل علينا تمحيصها ولفت النظر إليها، بروح علمية متسامية يكون هدفها لَمُّ الشمل لازرع العداوة والأحقاد.
6 ـ معجزة الإسراء والمعراج
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {سبحان الَّذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الَّذي باركْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ من آياتنا إنَّه هو السَّميع البصير(1)}
سورة النجم(53)(1/278)
وقال أيضاً: {والنَّجمِ إذا هوى(1) ما ضلَّ صاحبُكم وما غَوى(2) وما يَنْطِقُ عن الهوى(3) إن هو إلاَّ وحيٌ يوحى(4) علَّمَهُ شَديدُ القُوى(5) ذو مرَّة فاستوى(6) وهو بالأُفق الأعلى(7) ثمَّ دنا فتدلَّى(8) فكان قابَ قوسين أو أدنى(9) فأوحى إلى عبده ما أوحى(10) ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رأى(11) أَفَتُمارونَهُ على ما يرى(12) ولقد رَآهُ نَزْلَةً أخرى(13) عند سِدْرَةِ المُنتهى(14) عندها جنَّةُ المأوى(15) إذ يغشى السِّدْرَةَ ما يغشى(16) ما زاغَ البصرُ وما طغى(17) لقد رأى من آياتِ ربِّه الكبرى(18)}
ومضات:
ـ أعظم معجزة جاء بها محمَّد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم؛ المعجزة الخالدة الَّتي لا يفنى أثرها، ولا ينقضي إعجازها، المعجزة الأم الَّتي كانت المعجزات الأخرى تابعة لها، ومنطوية تحت جناحها، وقد حوت معجزة القرآن فيما حوت بين ثناياها معجزة الإسراء والمعراج.
ـ لقد أكرم الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم برحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، وقد كانت انطلاقتها من المسجد الحرام في مكَّة المكرمة، وأوَّل محطَّة لها في المسجد الأقصى ببيت المقدس، بينما كانت آخر محطَّاتها سدرة المنتهى فوق السموات السبع وتحت العرش.
ـ عُرج بالنبي عليه السَّلام إلى عوالم السماء حيث شاهد ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا عن طريق العون الإلهي.
ـ منح الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة عطاءً روحياً عظيماً، تثبيتاً لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس، وإنقاذ المجتمع من أوهام الخرافة والضلال.
ـ إن القدرة الإلهيَّة الَّتي خلقت هذا الكون الكبير، لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء، وإعادته إلى الأرض، في رحلة ربَّانية معجزة لايدري كيفيَّتها بشر.
في رحاب الآيات:(1/279)
الإسراء آية من آيات الله تعالى الَّتي لا تعدُّ ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر، ولهذا فقد أثير حوله جدل طويل وتساؤلات كثيرة، فيما إذا كان قد تمَّ بالروح والجسد، أم بالروح فقط؟. والمتفق عليه لدى جمهور العلماء أنه تمَّ بالروح والجسد معاً، لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافاً، إذ أننا نسري بأرواحنا كلَّ ليلة عند نومنا. ومع ذلك فإن الَّذين يدركون شيئاً من طبيعة القدرة الإلهيَّة، لا يستغربون واقعة كهذه، لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقاً من قدراته وطاقاته المحدودة. ولو كان الأمر موافقاً لهذه القدرات، لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به، فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدق أبو بكر رضي الله عنه وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: (إني لأصدِّقه بأبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء). وقد جزم جمهور علماء المسلمين على أن الإسراء كان بالروح والجسد يقظة لا مناماً، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها:
1 ـ إن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سبحان الَّذي أسرى بعبده} إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك مناماً لذكره الله تعالى (كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة) ولمَا كان له كبير شأن، ولما كان دليلاً على نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولا حجَّة له على صدقه في رسالته.
2 ـ إن قوله تعالى: {بعبده} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.(1/280)
3 ـ إن عملية الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السَّلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسليمانَ الرِّيحَ عاصفةً تجري بأمره إلى الأرضِ الَّتي باركْنَا فيها وَكُنَّا بكلِّ شيء عالمين} (21 الأنبياء آية 81).
والسؤال الَّذي يطرح نفسه: لماذا كان الإسراء إلى المسجد الأقصى بالذات؟، ولماذا رُفع السيِّد المسيح من المسجد الأقصى بالذات؟، هل يمكن أن تكون هناك قاعدة فضاء سماوية مهيَّأة لرفع الأنبياء جسداً وروحاً في بيت المقدس؟؛ ويأتينا الجواب من قِبَل ربِّ العالمين في قوله سبحانه: {المسجدِ الأقصى الَّذي باركنا حوله} أي أحطناه ببركات الدِّين والدنيا لأنه مهبط الوحي والملائكة، ومحراب الأنبياء ومكان عروجهم إلى عالم السماء.(1/281)
أمَّا المعراج فهو الارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، وقد حدثت هاتان الرحلتان، الرحلة الأرضية (الإسراء) والرحلة السماوية (المعراج) في ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة، ليمحِّص الله المؤمنين، وليميِّز من كان صادق الإيمان فيكون خليقاً بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديراً بما يحتمله من أعباء وتكاليف. وقد أطْلَعَ الله سبحانه وتعالى رسوله في هذه الليلة على آيات كونيَّة تنطق بما في الكون من العظمة والجلال، ليكون ذلك درساً عملياً يتعلَّم فيه الرسول بالمشاهدة والنظر، لأنه أجدى أنواع التعليم وأشدُّها رسوخاً، ولقد كفل له ربُّه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهد تلك العوالم الَّتي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيُّل، فأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنَّا الكثير من العلم، وما أوتينا منه إلا قليلاً، قال تعالى: {ويَسئَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُل الرُّوحُ من أمرِ ربِّي وما أُوتيْتُم من العلمِ إلاَّ قليلاً} (17 الإسراء آية 85). ولا يخفى أن هذا ليس بخلاً من الله عزَّ وجل، فهو سبحانه لا يبخل على عباده، بل أعطى كلَّ نوع من مخلوقاته علوماً تتوافق مع استعداده وفطرته ومهمَّته في هذا الكون. إن روحانية الأنبياء تتغلَّب على كثافة أجسامهم، فما يخيَّل إلينا أنه مانع من الوصول إلى عالم الملأ الأعلى، لتخلخل الهواء ثمَّ انعدامه، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء، ما هو إلا بالنظر إلى الأجرام والأجسام المشاهدة في عالم الحسِّ والقوانين الَّتي تحكمها، أمَّا الأنبياء والملائكة فإن لروحانيتهم أحكاماً أخرى لم يصل العقل البشري إلى تحديدها وإبداء الرأي فيها. ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة آمن بالله عزَّ وجل أنَّ الله تعالى واضع نظام هذا الكون وقوانينه، وأن من وضع قوانين التنفُّس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة وغير ذلك، قادر على استبدالها بغيرها عندما(1/282)
يريد ذلك، وإن الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم ثمَّ العروج به إلى السموات العلى لا يخرج عن هذه الحقيقة.
وقد أَطْلَعَ الله تعالى نبيَّه الكريم على أصناف من الناس يواجهون عواقب ما عملوا في الدنيا، ليكون في ذلك موعظة لمن يبلِّغهم الرسالة، فقد أخرج أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون في وجوههم وصدورهم، فقلت من هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء الَّذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (أي يغتابونهم). وأخرج ابن مردويه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسري بي مررت بناس تُقْرَض شفاههم بمقارض من نار، كلَّما قُرضت عادت كما كانت. فقلت من هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمَّتك الَّذين يقولون ما لا يفعلون». وأخرج ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسري بي رأيت رجلاً يَسْبَحُ في نهر يُلقَم الحجارة فسألت: من هذا؟ فقيل لي: هذا آكل الربا».(1/283)
والغاية من الإسراء والمعراج أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم آيات ربِّه، الَّتي ما شُرِّف برؤيتها أحد من الأولين أو الآخرين، حيث إنَّ المعراج لم يكن إلى مكان بعينه دون سواه، فإنه تعالى لا يحدُّه مكان ولا يقيِّده زمان. ونظراً لإنكار المنكرين لهذه الحادثة، فإن الله تعالى يؤكِّدها في سورة النجم، وبأسلوب مثير، يؤكِّد صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويدلُّ على أنها حقيقة واقعة قد تمَّت بالروح والجسد معاً، قطعاً لكلِّ شكٍّ، ووأداً لكلِّ فتنة. ويُقسم سبحانه بالنجم حين يهوي، ولو قُدِّر لنا أن نرى نجماً مضيئاً، يهوي من أعالي السماء بسرعة عجيبة رهيبة، ثمَّ يزول ويتلاشى، لتملَّكنا الرعب من هول المنظر، والدهشة من قدرة الواحد الأحد، ولأُلْجِمَتْ أفواهنا من هول ما نرى، وهذا ما يحدث في الكون فعلاً بقدرة الله تعالى، ولهذا يُقسم تعالى بهذه الظاهرة الحقيقية، بياناً لعظمة ما يأتي بعد القسم فيقول: {والنَّجمِ إذا هوى * ما ضلَّ صاحبُكم وما غوى * وما ينْطِق عن الهوى} أي أن ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج صحيح تماماً، لأنه كان على أفضل حال من الإدراك والوعي، عندما عُرج به إلى السماء العليا لمناجاة ربِّ العالمين، ولمشاهدة عوالم الآخرة من جحيم ونعيم. وفي هذا القَسَمِ إشارة إلى أن هناك عوالم وأجراماً علوية يجب علينا أن نتعرَّف أمرها لنستدل على عظيم قدرة مبدعها وروعة صنعه. وقد أثبت العلم الحديث ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام وسرعة سيرها وكبر حجمها، وأسباب اندثارها وتلاشيها. وجواب القسم فيه تبرئة للرسول صلى الله عليه وسلم ممَّا نُسب إليه من اتِّهامات باطلة، بأنه شاعر أو كاهن أو مجنون، وتأكيد لحقيقة أنه لا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى إليه من الله تعالى. وأَمْرُ الوحي أمر واضح مشهود، ورؤية محقَّقة، ويقين جازم، وعلى هذا اليقين تقوم دعوته الَّتي ينكرونها عليه ويكذِّبونه،(1/284)
ويشكُّون في صدق الوحي إليه، وهو صاحبهم الَّذي خبروه، وربُّه يصدِّقه ويقسم على صدقه، ويقصُّ عليهم كيف أوحى إليه، وفي أيِّ الظروف، وعلى يد مَن، وكيف لاقاه، وأين رآه! روى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: «كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهاني البعض فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله بشر يتكلَّم في الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فوالَّذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحقُّ».(1/285)
أمَّا مسألة إمكانية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربِّ العالمين، في هذا الصعود المعجز، فقد اختلف فيها المفسرون، وأكثرهم قال بأنه رأى جبريل، ونحن نرجِّح الرأي القائل بأنه رأى ربَّ العزَّة بعين الفؤاد القلبية، وهي عين روحانية ــ وليست جارحة من الجوارح ـ مهيَّئة لرؤية انعكاس الأنوار الإلهيَّة على صفحات القلب. والسبب في اعتقادنا هذا، هو سابقة الرؤيا والعلاقة بين النبي عليه السَّلام وجبريل، فقد رآه صلى الله عليه وسلم مسبقاً بعدَّة صور، منها بشرية ومنها ملائكية، وما كان لرؤيته في السماء أي مغزى أو معنى جديد حين عروجه عليه السَّلام، لذا نفضِّل الرأي القائل برؤية حضرة الله تعالى، رؤيا روحية تبصُّرية لظلال من أنوار الله تعالى {مَا كَذَبَ الفُؤُادُ مَا رَأَى}، ممَّا يعطي للمعراج زخماً روحياً وفيراً، وأُنْساً ربَّانيّاً لا يُضاهى. أخرج ابن المنذر وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: «يارسول الله! هل رأيت ربَّك؟ قال: لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين، ثمَّ تلا: {ثمَّ دنا فتدلَّى}». بينما رأى صلى الله عليه وسلم ملكوت السماء وسدرة المنتهى، والبيت المعمور والجنَّة والنار، وجبريل وغير ذلك رؤية حقيقية {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى}، وإنَّ دنوَّه صلى الله عليه وسلم من ربِّه ليس دنوَّ مكان ولا قرب مدى، إنما هو إظهار لعظيم منزلته، وتشريف لرتبته وإشراق لأنوار معرفته، ومشاهدة لأسرار غيبه وقدرته، وتفضُّل من الله عليه وإيناس له وإكرام.(1/286)
أمَّا عن أحداث تلك الليلة، فقد جاء في الحديث الشريف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى فيها إماماً بالأنبياء، وهذا يرشد إلى أنه جاء بشريعة ختمت الشرائع السالفة كلَّها، وأقرَّتها واستكملتها، وفي هذا مغزى جدير بالتأمُّل والتفكُّر، وهو أن جميع الأنبياء على وفاق ووئام، أتوا لتبليغ عباد الله الدِّين الحقَّ، وشريعة ربِّهم الَّذي أرسلهم، ممَّا يستوجب على متَّبعيهم أن يقتفوا سُنَّة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم سَلَماً بينهم، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة والقانون الَّذي جاءت به، الشريعة الَّتي يُقضى بها بين الناس، كما هو المتَّبع في القوانين الوضعية، فإن الَّذي يجب العمل به هو القانون الأحدث. وبهذا تكون الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة مختارة من اللطيف الخبير، لتربط بين شرائع التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام إلى محمَّد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وتربط بين الأماكن المقدَّسة برسالات التوحيد جميعاً، وهذا ما أكَّده كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّينِ ما وصَّى به نوحاً والَّذي أوحينا إليك وماَوصَّيْنَا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدِّينَ ولا تتفرقوا فيه...} (42 الشورى آية 13) وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في أحاديث كثيرة ومنها ما أخرجه الترمذي وحسَّنه، والطبراني وابن ماجه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يامحمَّد! أقرئ أمَّتك مني السَّلام، وأخبرهم أن الجنَّة طيِّبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوَّة إلا بالله»(قيعان: أي لاغراس فيها). وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن مردويه والبيهقي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء لقي أرواح الأنبياء عليهم(1/287)
السَّلام فأثنَوْا على ربِّهم فقال صلى الله عليه وسلم : كلُّكم أثنى على ربِّه، وإني مُثنٍ على ربِّي فقال: الحمد لله الَّذي أرسلني رحمة للعالمين، وللناس كافَّة بشيراً ونذيراً، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان لكلِّ شيء».
ولابد أن نشير في ختام هذا الفصل إلى ورود كثير من الروايات حول ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المثيرة، رواياتٌ الاختلاقُ فيها واضحٌ، والدسُّ والافتراء فيها أكثر وضوحاً، وكأن هذه الرحلة كانت فرصة لأصحاب النوايا السيئة لكي ينفثوا سمومهم وأوهامهم، لأغراض بثِّ الفتنة، والتلاعب بعواطف المسلمين، والشواهد على ما نقول كثيرة.
الفصل الخامس:
وحدة مصدر الشَّرائع السَّماويَّة
سورة المائدة(5)(1/288)
قال الله تعالى: {إنَّا أنزلنا التَّوراة فيها هُدىً ونورٌ يَحكُمُ بها النَّبيُّون الَّذين أَسلَموا للَّذين هادوا والرَّبَّانيُّونَ والأحبارُ بما اسْتُحْفِظُوا من كتابِ الله وكانوا عليه شُهَداءَ فلا تَخْشَوا النَّاس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فأولئك همُ الكافرون(44) وكَتَبنا عليهم فيها أنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ والعينَ بالعينِ والأنفَ بالأنفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجروحَ قصاصٌ فمن تَصدَّقَ به فهو كفَّارةٌ له ومن لم يحْكُم بما أنزَلَ الله فأولئك هم الظَّالمون(45) وَقَفَّينا على آثارِهِم بعيسى ابن مريم مُصَدِّقاً لِمَا بين يديه من التَّوراة وآتيناه الإنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومصدِّقاً لما بين يديه من التَّوراةِ وهدىً ومَوعِظَةً للمتَّقين(46) وَلْيَحْكُم أهلُ الإنجيل بما أَنزَل الله فيه ومن لم يحكم بما أَنزلَ الله فأولئك همُ الفاسقون(47) وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصَدِّقاً لما بين يَدَيه من الكتاب ومُهَيْمِناً عليه فاحكم بينهم بما أنزلَ الله ولا تتَّبِعْ أهواءَهُمْ عمَّا جاءكَ من الحقِّ لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومِنْهَاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمَّةً واحدةً ولكنْ لِيبلُوَكُم في ما آتاكُم فاستَبِقُوا الخيراتِ إلى الله مرجِعُكُم جميعاً فينبِّئُكُم بما كنتم فيه تختلفون(48)}
ومضات:
ـ إن جميع الأنبياء دعَوْا إلى دين واحد، لا تختلف أصوله، ولا تتعارض أغراضه، وذلك لأن وحدة المصدر تقتضي وحدة المنهج والهدف.
ـ علاقة القرآن بالشرائع السماوية في صورتها الأولى، علاقة تصديق وتأييد كلِّي، وعلاقته بها في وضعها الحالي علاقة تصديق لما بقي من أجزائها صحيحاً أصليّاً، وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والتحريف والإضافات الدخيلة، وتجديد وبعث لشبابها وفاعليتها.
في رحاب الآيات:(1/289)
لقد تتابعت رسل الله إلى البشرية تترى، وأُنزلت عليهم الرسالات السماوية واحدة تلو الأخرى لإقرار الشرائع الإلهية في الأرض، والَّتي من شأنها أن تربط قلوب الخلق بالخالق، وتنشر بينهم العدل والإخاء والسَّلام، وبذلك تستقيم لهم الحياة لأنهم تلقوا عقيدتهم وشريعتهم من إله واحد، عليم بخصائص النفس البشرية وميولها ونزعاتها، قاصد إسعاد هذا المخلوق في ظلال عبادته وطاعته، وله سبحانه، الرقابة على السرائر والضمائر كما له السلطان على الحركة والسلوك، فيجزي الناس وفق شريعته في الدنيا، ويجازيهم من منطلق عدله وفضله في الدار الآخرة.
وإن الدِّين الَّذي جاء به رسل الله، لا ينحصر في دائرة فهم العامَّة من الناس، الَّذين يقصرونه على الشعائر والعبادات والتجلِّيات؛ بل إنه يتجاوزها ويتعدَّاها، لأنه منهج كامل للحياة، يتسع ليشمل علاقة الفرد بخالقه، وعلاقته بالناس وبالكون من حوله. فالإنسان جزء من هذا الكون، وهو أبداً في حال تأثُّر به وتفاعل معه، وقد جاء الدِّين ليحفز كوامن القدرة والإبداع فيه، ليصبح قادراً على استنباط قوانين الكون ونواميسه، ثمَّ يسخِّرها لمنفعته.
والإنسان الفرد جزء من المجتمع، والناس بمجموعهم يسهمون في بنائه وتطويره، ودور الدِّين تجاههم تحديد الواجبات والحقوق المتبادلة فيما بينهم، وتنظيم علاقاتهم والمحافظة على روابطهم الاجتماعية والرُّقي بها، لئلا تنحدر إلى المستوى البهيمي فتعتريها الفوضى والتفسُّخ. وهكذا نجد أن الدِّين منظِّم للحياة البشرية بشقَّيها، قلباً وقالباً، ظاهراً وباطناً، اعتقاداً ومنهجاً وسلوكاً.(1/290)
وقد بيَّنت الآيات الكريمة في النص القرآني السابق وحدة مصدر الشرائع السماوية، وأبرزت الصلة الوطيدة بينها، وأكَّدت على وشائج القربى الَّتي ربطت بين شرائعها جميعاً، ففي التوراة الَّتي أنزلت على موسى عليه السَّلام هدىً للقلوب، ونور للبصائر، التزم بها من جاء بعده من أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أسلموا أنفسهم بكليَّتهم إلى الله عزَّ وجل، وكذلك كُلِّف علماء بني إسرائيل وعُبَّادُهم بتطبيقها، بصفتهم الأمناء على كتاب الله، الَّذين يشكِّلون الرقابة اليقظة، الَّتي لا تسمح لأيِّ يد أن تمتدَّ إليه، بالتحريف أو التبديل، أو الحذف أو الإضافة.
وبما أن تطبيق تعاليم الشريعة الإلهية لن يكون على درجة واحدة، لأن النفوس تتفاوت في درجة سموِّها وتقبُّلها لأحكامها، خاصَّة إذا تعارضت مع ميولها ونزعاتها، فتراها تعارض كلام الله أو تُؤوِّله أو تحرِّفه ليتماشى مع رغباتها، لذا يُحذِّر الله جميع الأنبياء والأوصياء على رسالاته من التهاون في مثل هذه المواقف، أو الميل مع أهل الهوى، فالحقُّ أولى أن يُتَّبع، وما كان الله ليشرع شريعة تتعارض مع سعادة الناس أو تضرُّ بمصالحهم، بل لتحيي قلوبهم وتوفِّر لهم الأمن والاطمئنان، والسعادة والسَّلام، ولكنَّ المعاندين تعمى أبصارهم عن نور الله، ويُغَلِّبون مصالحهم على مصالح غيرهم من الخلائق؛ أنانية وتسلُّطاً وجشعاً.
فالمجاهدة مستمرَّة على مرِّ الزمان، ولابدَّ للدعاة إلى الله من أن يصمدوا في وجه الأدعياء، ومن يضعف منهم أمام بعض الإغراءات (كالجاه، أو الرِّياسة، أو أي مطمع)، فلا مكان له ضمن دائرة رحمة الله، بل هو مطرود منبوذ منها، لأنه اشترى بآيات الله، ثمناً قليلاً من متاع الدنيا الزائل.(1/291)
وتقرِّر الأحكام الإلهية مبدأً إنسانياً عظيماً، يُعَدُّ الميثاق الحقيقي لإعلان حقوق الإنسان، والحفاظ على حياته وسلامته من أي عدوان؛ وهو أنه لا يحقُّ لإنسان أن يقتل إنساناً أو أن يؤذيه أو يمسَّه بأدنى سوء. وقد رتَّب الله تعالى عقوبات صارمة لحماية النفس الإنسانية، فالقاتل يُقتل، والاعتداء يُرَدُّ بمثله، والقصاص هو العقاب الرادع الَّذي يحمل كلَّ من ينوي قتل غيره، على أن يراجع نفسه مرَّات ومرَّات قبل أن يُقدم على ما عزم عليه، لأن العقاب له بالمرصاد، فالقصاص هو الحُكم الَّذي تقضي به الفطرة السليمة، وتستريح إليه النفوس الكريمة، والَّذي يذهب بحزازات النفوس وغيظها، وجراحات القلوب وآلامها، ويسكِّن فورات الثأر الجامحة. فقد جاء في التوراة، الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج (الفقرة 24ـ26): (وإن حصلت أذيَّة تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسنَّاً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيَّاً بكي وجرحاً بجرح ورضَّاً برضّ). وجاء في الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين (الفقرة18ـ20): (وإذا أمات أحد إنساناً فإنه يقتل، ومن أمات بهيمة يعوِّض عنها نفساً بنفس، وإذا أحدث إنسان في قريبه عيباً فكما فعل كذلك يفعل به كسر بكسر وعين بعين وسنٌّ بسن كما أحدث عيباً في الإنسان كذلك يحدث فيه). هذه الأحكام الَّتي نزلت في التوراة، بقيت كما هي في شريعة الإسلام، وأضيف إليها حكمٌ آخر هو قوله تعالى: {فمن تَصدَّق به فهو كفَّارةٌ له}. فبعد أن شرع الله تعالى القصاص دفعاً للأذى وإشباعاً لدوافع الفطرة، وضمانةً لما يريحها، راح يستثير في النفوس السماحة، والعفو والوجدان، علَّه يحرِّك تلك الَّتي لا يغنيها التعويض المالي، ولا يسلِّيها القصاص عمَّا فقدت، فتبقى فيها حرقة ولوعة، لا تطفئها ولا تهدِّئها إلا رحمة الله، الَّذي وعدها بالتعويض من قِبَلِه، وهو تعويض لا يُستهان به عند ذوي النفوس المطهَّرة والقلوب المنقَّاة. فالعفو عن الجاني(1/292)
ثوابه عند الله كفَّارة للمجني عليه، يُكفِّر الله بها ذنوبه، ويعفو عنه كما عفا عن أخيه، فقد روى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً».
وتواصل كوكبة الإيمان تقدُّمها تحدوها محبَّة الله، وتكلؤها عنايته ورعايته لنشر الهداية في الأرض، ولتحقيق العدالة بين الناس، فيرسل جلَّ شأنه عيسى عليه السَّلام ومعه الإنجيل الَّذي جاء مصدِّقاً للتوراة، ولم يتضمَّن الإنجيل في ذاته تشريعاً مستقلاً عن التوراة، عدا بعض التعديلات الطفيفة، فهو بين مصدِّقٍ لها، ومضيف عليها، ومصحِّح لما تحرَّف منها. ويلاحظ أن تكرار آية {ومُصدِّقاً لما بين يديه} تأكيد على أن المسيح يصدِّق موسى عليهما السَّلام، كما أن الإنجيل يصدِّق التوراة. إلا أن التوراة جاءت لأهلها، والإنجيل جاء لأهله، ولن يكون النصارى واليهود على هدى من ربِّهم، حتَّى يقيموا أحكام شريعتهم كما أُنزلت إليهم، لأنها شُرعت لهم من قِبَل خالقهم، والكلُّ أمامه مسؤول عنها. وتتكامل سلسلة الرسالات السماوية بالحلقة الأخيرة منها، فينزل القرآن على النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم ، الَّذي جاء ليدعو إلى الإسلام، في صورته التامَّة الكاملة، ليكون للبشرية دين إلهي واحد متكامل، وليس مجموعة أديان، وهذا ما أكَّده الله بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوْحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهيمَ وَموسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...} (42 الشورى آية 13). وهكذا تظهر لنا حقيقة التلاحم والتواصل القائمَين بين رسالة الإسلام، وما سبقها من الرسالات السماوية، بما يشير إلى أنها واحدة يتمِّم بعضها بعضاً بتناسق وانسجام، فلا تعارض ولا تناقض من حيث الجوهر والأصل. فالرسالات السماوية شجرة مثمرة معطاء، تفيَّأ في ظلالها وأكل من ثمارها، كلُّ(1/293)
من استسلم لأوامر الله تعالى؛ وبهذا يكون جميع الأتباع المخلصين للشرائع السماوية في الحقيقة مسلمين، لأن كلمة الإسلام أصلاً كلمة عامَّة شاملة، واحدة من حيث المعنى، إلا أنها ذات مدلولات عدَّة؛ فهي لا تنحصر في تسمية الشريعة الإسلامية وحدها، بل تتَّسع لتشمل كلَّ من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وسلَّم إرادته وجوارحه لهذا الإيمان واستسلم لأوامر الله وتعاليمه. ولهذا فإن كلمة المسلمين تُطلَق اليوم على أتباع الشريعة الإسلامية بوصفهم آمنوا باليهودية السليمة، وبالمسيحية القويمة، وبالإسلام الحنيف، وبجميع الرسل والكتب السماوية المتعلِّقة بهذه الرسالات.(1/294)
وفي مواضع كثيرة من القرآن الكريم نجد، بأن الله تعالى وصف إيمان الأنبياء عليهم السَّلام وإيمان أقوامهم به بأنه الإسلام، كما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام: {وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تَقبَّل منَّا إنَّك أنت السَّميع العليم * ربَّنا واجعلنا مُسْلِمَينِ لك ومن ذرِّيَّتنا أمَّةً مسلمةً لك وأرنا مَناسِكَنا وتُبْ علينا إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحيم} (2 البقرة آية 127ـ128)، وفي موضع آخر: {ووصَّى بها إبراهيمُ بنِيهِ ويعقوبُ يابَنِيَّ إنَّ الله اصطفى لكم الدِّينَ فلا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مُسلمون * أم كنتم شهداءَ إذ حَضَرَ يعقوبَ الموتُ إذ قال لبَنِيهِ ما تعبدون من بعدي قالوا نعبدُ إلهكَ وإله آبائِكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} (2 البقرة آية 132ـ133)، وكما جاء على لسان يوسف عليه السَّلام: {ربِّ قد آتيتني من المُلْكِ وعلَّمتني من تأويلِ الأحاديثِ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ أنت وليِّي في الدُّنيا والآخرة تَوَفَّني مُسلماً وألحقني بالصَّالحينَ} (12 يوسف آية 101)، وكما جاء على لسان موسى عليه السَّلام: {وقال موسى ياقومِ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكَّلوا إن كنتم مسلمين} (10 يونس آية 84)، وجاء على لسان يونس عليه السَّلام: {فإن تولَّيتُم فما سألتُكُم من أجرٍ إن أجري إلاَّ على الله وأُمِرتُ أن أكونَ من المسلمين} (10 يونس آية 72)، وفي سورة أخرى يقول تعالى عن حواريِّي المسيح عليه السَّلام: {وإذ أوحيتُ إلى الحَواريينَ أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنَّا واشهدْ بأنَّنا مسلمون} (5 المائدة آية 111)، ومن ثمَّ فقد أطلقها الله في كتابه، وجعلها نعتاً لكلِّ إنسان صالح ومصلح وشاكر لأنعم الله عليه: {ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حَمَلتهُ أمُّه كُرْهاً ووضعَتهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وفِصَالهُ ثلاثونَ شهراً حتَّى إذا بَلغَ أَشُدَّه(1/295)
وبَلغَ أربعينَ سنةً قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نِعمتَكَ الَّتي أَنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاهُ وأَصْلِحْ لي في ذرِّيَّتي إنِّي تُبْتُ إليك وإنِّي من المسلمين} (46 الأحقاف آية 15).
وقد أعلن صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن بِدْعاً من الرسل، بل إنه فرد من أفراد عائلتهم، وأخ من إخوتهم، وعبَّر عن هذه الرابطة الَّتي تربط بينهم بقوله: «الأنبياء إخوة أبناء عَلاَّت شرائعهم شتَّى ودينهم واحد» (رواه الشيخان وأبو داود) (أبناء علات: أولاد الرجل الواحد من زوجات شتى). كما أوضح دوره المكمِّل والمتمِّم لما جاء في رسالات أولئك الرسل، فضرب لذلك مثلاً جليّاً وبيِّناً فقال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هَلاَّ وُضعت هذه اللَّبِنَة؟! قال: فأنا اللَّبِنَة، وأنا خاتم النبيين» (أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
وقد جمع الإسلام بين ماديَّة اليهودية وروحانيَّة المسيحية، فكان واقعياً منطقياً، زاوج بين المادَّة والروح وأعطى كُلاً منهما حقَّه، ففي القرآن شريعة الإسلام وقانونه، الَّذي أنزله الله بالحقِّ، يتمثَّل ذلك في كلِّ ما يعرضه من شؤون العقيدة والعبادة، وفي كلِّ ما يقُصُّه من الأخبار، وما يحمله من التوجيهات، إضافة إلى أنه مصدِّق للكتب الَّتي جاءت من قبله، وفي هذا دحض لافتراءات المغرضين الَّذين كذَّبوا به، أو حاولوا أن ينسبوه إلى غير مصدره الأصلي.(1/296)
وهكذا فإن فيض السماء واحد في كلِّ زمان ومكان، وهو يترعرع وينمو حين يصادف قلوب المتَّقين الَّذين صُقلت نفوسهم، وهذِّبت نواياهم وشحذت هممهم للتسابق نحو الخير، فأثمرت المعرفة في قلوبهم، وتفجَّرت ينابيع الحكمة من حنايا عقولهم، فتقبَّلوا ما جاء به الأنبياء، وإن خالف أهواءهم، لأنهم في الأصل جعلوا أهواءهم تبعاً لما يحبُّ خالقهم، فلا تمرُّد ولا عصيان، بل قبول وإذعان. ولو شاء الله لجعل الناس أمَّة واحدة متجانسة تدين بشريعة واحدة، وتخضع لمنهج واحد، ولكنه جعل لكلٍّ طريقاً ومنهاجاً، وأخضعهم لابتلاء واختبار فيما آتاهم من الدِّين، وترك لهم حرية الاختيار تكريماً لهم. ونظراً لما زوَّدهم به من عقل مفكر وإرادة حرة، فهم أحرار فيما يختارون، لكنَّه حثَّهم على التسابق في أعمال الخير والبناء الأخلاقي والعلمي، ودعاهم إلى الألفة والوحدة فيما بينهم، باجتماعهم على كلمة سواء هي كلمة التَّوحيد، قال تعالى: {قُل ياأهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلى كلمَةٍ سَواءِ بيننا وبَينَكُم ألاَّ نَعبُدَ إلاَّ الله ولا نُشرِكَ به شَيئاً ولا يَتَّخِذَ بعضُنا بعضاً أربَاباً من دُونِ الله فإِن تَوَلَّوا فقولُوا اشهَدُوا بأنَّا مُسلِمُونَ} (3 آل عمران آية 64) وهي كلمة عادلة منصفة لا غلبة فيها لفريق على آخر، وتتضمَّن الإقرار بأن لا إله إلا الله، وبأنه المتفرِّد بالألوهية فليس له شريك، وتحثُّ الناس على ألا يتَّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وألا يُؤَلِّهوا أنبياءهم ورسلهم، فكلُّ الأنبياء عبيد الله، اصطفاهم للدعوة إلى عبادته لا لمشاركته في ألوهيَّته. فلا يستحقُّ العبادة أحد غيره سبحانه وتعالى، لأنها التسليم المطلق لأمره، والانقياد التامُّ لشرعه، فهي التعبير العملي عن حقيقة العقيدة، فكما أنه لا فائدة من شجرة لا تثمر، فكذلك لا فائدة من قولٍ لا يخترق حجب النفس ولا يؤثِّر فيها، فيجعلها تنقاد وتذعن لحضرة الله تعالى.(1/297)
فمن يرفض هذه الدعوة الَّتي اتفقت عليها الكتب والرسل، وهي دعوة التَّوحيد، ويأبى ذلك عناداً وإصراراً، فما على المؤمنين إلا أن يقولوا له ولأمثاله: [اشهدوا بأننا موحِّدون، مسلمون ومسالمون، مقرُّون لله بالوحدانية، مستسلمون لأوامره] وأن يَدْعُوا الله تعالى من أعماق قلوبهم، لكي تجمعَهُم باقة الإيمان بِوَردها وزهرها، وتضمَّهم إلى قافلة الموحِّدين لله، السائرين على نهجه القويم، ويعيشون إخوة في الإيمان بالله الواحد الأحد، الَّذي قال في محكم آياته: {وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى * وأنَّ سَعْيَهُ سوف يُرى * ثمَّ يُجْزاهُ الجزاءَ الأوفى * وأنَّ إلى ربِّك المُنتهى} (53 النجم آية 39ـ42).
وممَّا تقدَّم يمكننا أن نستنتج:
1 ـ أن الرسالات السماوية سلسلة واحدة يتمِّم بعضها بعضاً، وترتبط شرائعها بشكل حلقات متسلسلة. لذلك لا يغني السابق منها عن اللاحق، لأن اللاحق تضمَّن السابق وزاد عليه، بالإضافة إلى نفي الدخيل عليه والمحرَّف منه، ولهذا نجد القرآن الكريم، وهو آخر الكتب المنزلة، تضمَّن كلاً من التوراة والإنجيل، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصدِّقاً لما بين يديهِ من الكتابِ ومُهيمناً عليه..} (5 المائدة آية 48). وليس للإنسان إلا اختيار اللاحق لأنه جمع محاسن السابق كلَّها، وبذا يكون متَّبع اللاحق متَّبعاً للسابق المهذَّب، فدين الله واحد، مهما اختلفت الأسماء، لأن مصدره واحد.
2 ـ إن محور الشرائع السماوية كلِّها هو إخلاص العبوديَّة لله، والتَّوحيد هو العروة الوثقى الَّتي تربط بينها جميعاً، وتوحِّد سائر المؤمنين ضدَّ الجهل والكفر والإلحاد.(1/298)
3 ـ إن القرآن الكريم يوجِّه دعوةً للناس جميعاً إلى عقيدة واحدة، اتفق عليها كلُّ الرسل وجميع الأنبياء، وهي ألا يخضعوا إلا للإله الواحد الَّذي له وحده السلطة المطلقة في التشريع وبيان الحلال والحرام، وبالتالي إلى رفض الوساطة البشرية، الَّتي تلعب دور الربوبيَّة ابتغاء السيطرة والتسلُّط.
4 ـ اقتضت حكمته تعالى تعدُّد الشرائع والمناهج لهداية البشر، وذلك حسب تطوُّر العقل البشري، وما رافقه من تطوُّر المتطلبات والاحتياجات من جهة، ومن أجل ابتلاء الناس، وامتحان مدى صدقهم معه تعالى، والتزامهم بتطبيق شرائعه من جهة أخرى.
5 ـ إن التمسُّك بالشرائع السماوية والتقيُّد بأحكامها، هو الَّذي يعطي الفكر البشري الأهمِّية والمكانة الرفيعة، وليس لأحد أن يستبدل هذه النفائس بحطام من الدنيا.
6 ـ إن دور الأمناء على الرسالات السماوية، هو أن يتابعوا التبليغ بعد الأنبياء والرسل الكرام، بصدق وإخلاص، ودون محاباة في دين الله أو تحريف لتعاليمه.
7 ـ لم يطلب الإسلام من أي كتابي ـ يهودي أو مسيحي ـ أن ينسلخ عن دينه، بل دعاه إلى العودة لعقيدة دينه الأصليَّة، فهو إذاً قد دعاه إلى الالتزام بها، والتمسُّك بأحكامها بصدق وإخلاص.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {الم (1) الله لا إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ(2) نَزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لما بين يديهِ وأَنزَلَ التَّوراةَ والإنجيلَ(3) مِن قَبلُ هُدىً للنَّاسِ وأَنزَلَ الفُرقانَ إنَّ الَّذين كَفَرُوا بآياتِ الله لهم عَذَابٌ شَديدٌ والله عَزيزٌ ذُو انتِقَامٍ(4)}
ومضات:
ـ إن قوام الشرائع السماوية، عقيدة التَّوحيد، والتسليم المطلق بأنَّ الله تعالى هو الإله الواحد الأحد، فلا ربَّ سواه، ولا يستحقُّ العبادة غيره، وهو الأزليُّ الباقي الَّذي لا يموت، والقائم وحده على شؤون خلقه، به تقوم كلُّ حياة وبه يكون كلُّ وجود.(1/299)
ـ الإسلام يلتقي مع ما سبقه من الشرائع ويصادق عليها، ويتمسَّك بمبادئها القويمة وجوهرها الثمين، فكلُّها تحمل الهداية للناس وتفرِّق بين الحقِّ والباطل.
ـ إن مَن حُجب قلبه عن نور التَّوحيد، وفرَّق بين الرسالات السماوية، ودعوة أنبيائها؛ يستحقُّ الجزاء والعقاب على ضلاله وتعنُّته.
في رحاب الآيات:
كما هو شأن البذرة في الأرض، تنمو وتكبر بالرعاية والسقاية، إلى أن تصبح نبتة تورق وتزهر، ومن ثمَّ تثمر ثمرة يلذُّ طعمها للآكلين، فكذلك هو شأن بذرة الدِّين، بدأت في طورها الأوَّل بالفطرة الَّتي غرسها الله تعالى في قلب الإنسان عندما خلق آدم، ثمَّ راح يغذِّيها ويرويها شيئاً فشيئاً، بالتعاليم الواردة بالصحف والكتب، الَّتي أنزلها على أنبيائه ورسله، فراحت أمور الشريعة وما فيها من أوامر ونواهٍ، تتبلور وتتطوَّر من عصر إلى آخر، مع تطوُّر احتياجات الإنسان إليها، إلى أن أخذت شكلها النهائي في الإسلام، الَّذي هو خاتم الشرائع، والمنزَّل على خاتم الأنبياء.
وهذه الآيات، كغيرها من الآيات الأخرى، تقرِّر عقيدة التَّوحيد ووحدة الدِّين؛ الَّذي تضمَّنته الكتب السماوية والمنزلة من عند الله تعالى. وهي تتلخَّص بالتسليم بوحدانية الله، والتوجُّه الخالص له وحده بالعبودية، والاستعانة به، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ممَّا يقوِّم سلوك الإنسان، ويصحِّح مضمون عقيدته واتجاهه، فيدفع بذلك عن نفسه ما قد يعتريها من أوهام وتصوُّرات خاطئة تمسُّ عقيدته.(1/300)
فالله جلَّ وعلا واحد لا شريك له، حيٌّ خالد، أزليٌّ قديم، ليس له بداية وليس له نهاية، وجوده مطلق لا يحدُّه زمان ولا مكان، منزَّهٌ عن كلِّ ما لا يليق به، وليس كمثله شيء. وهو القيُّوم المهيمن على ما خلق في الوجود من عوالم وخلائق وموجودات، قائم بتدبير أمورها، وتصريف شؤونها على الوجه الَّذي ارتضاه لها. وهذه الحقيقة الناصعة الواضحة الَّتي أعلنها الإسلام؛ ومن قبله الشرائع السماوية كافَّة؛ كانت القول الفصل في مسألة صحَّة وحتميَّة الاعتقاد بتفرُّد الله سبحانه بالألوهيَّة، ونبذ ذلك الركام من التصوُّرات الجاهلية عن تعدُّد الآلهة أو تمثيلها بالأصنام.
ثم تشير الآيات إلى أنه تعالى هو الَّذي نزَّل الكتاب على محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، عليهما السَّلام. فالجهة الَّتي تتنزَّل منها الكتب على الرسل واحدة، وقد جاء القرآن الكريم مصدِّقاً لما سبقه من الكتب المنزَّلة على الأنبياء، تلك الكتب الَّتي تستهدف غاية واحدة هي هداية الناس إلى الحقِّ والخير. وقد سارت رسالة الإسلام على نمط الرسالات السابقة من الهداية والإرشاد، وبما أن القرآن قد نزل بالحقِّ على رسول من البشر، فلا مبرِّر لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة، وهي من جنس الرسالات السماوية الَّتي نزلت على رسل من البشر أيضاً، واشتركت جميعها بالتبشير بمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، وبيَّنت ضرورة تصديقه والإيمان برسالته.
ولم تقتصر مهمة القرآن على الهداية فحسب، بل فرَّق بين الهدى والضلال أيضاً، وبيَّن الروح الحقَّة الَّتي كانت تهيمن على ما سبقه من الكتب والَّتي تتَّفق وتنسجم مع آياته، وتوعَّد بالعذاب الشديد أولئك الَّذين وقعوا تحت تأثير الأهواء والتيارات الفكرية المشوَّهة، فراحوا يفسِّرون الكتب السماوية، ويعلِّمونها للناس وفقاً لمصالحهم ورغباتهم، ولذلك سُمِّي بالفرقان.(1/301)
والقرآن الكريم هو كتاب الله خالق الناس، الَّذي شرَّع لهم منهاج الحياة الفاضلة العملية والنظرية، لتلتقي معتقداتهم وشرائعهم وأخلاقهم على خطَّة سليمة ومنهج قويم. ولذلك تنطق الآية الأخيرة بالتهديد والوعيد لكلِّ من يُعرض عن آيات الله وشرائعه، ويَستَحِبُّ التفرقة على الوحدة، بأنَّ له عذاباً شديداً، فالله عزيز ذو انتقام.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين آمَنُوا والَّذين هادُوا والنَّصارى والصَّابِئِينَ من آمنَ بالله واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحاً فلهُم أجرُهُم عند ربِّهِم ولا خَوفٌ عليهم ولا هُم يَحزنونَ(62)}
سورة البقرة(2)
وقال أيضاً: {وقالوا لن يَدخُلَ الجنَّة إلاَّ من كان هُوداً أو نَصَارى تلكَ أمانيُّهُم قُل هاتُوا بُرهانَكُم إن كنتُم صادِقينَ(111) بلى مَن أَسلَمَ وجهَهُ لله وهُوَ مُحسِنٌ فله أجرُهُ عند ربِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يَحزنونَ(112)}
ومضات:
ـ القاسم المشترك بين الشرائع السماوية كلِّها، هو الدعوة إلى الإيمان الصادق بالله وباليوم الآخر وعمل الصالحات.
ـ يقرِّر الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أن كلَّ من التزم بالإيمان الصادق بالله وباليوم الآخر، وقرن إيمانه بالعمل الصالح الخيِّر وأحسن القول والعمل، فإن له الأجر والمكافأة، أماناً وطمأنينة وسعادة من ربِّ العالمين، وأنه ليس هناك ما يجعله يخاف أو يحزن، فهو في حصن الله الحصين.
ـ على الرُّغم من انفتاحيَّة الإسلام، وإلزامه المسلمين بالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية الَّتي سبقته دون استثناء، فقد تعصَّب بعض اليهود والنصارى بادِّعائهم حقَّ الدخول إلى الجنَّة دون غيرهم، والله تعالى يطالبهم في هذه الآيات بإقامة الدليل على صحَّة هذا الادِّعاء، مع علمه بعجزهم عن ذلك.
في رحاب الآيات:(1/302)
يُجْمِلُ الله تعالى في هذه الآيات صورة الصراع التاريخي بين أتباع العقائد، حيث أرسل سبحانه عبر العصور المتعاقبة، رسلاً وأنبياء يجدِّدون للناس أمور دينهم، بما يتناسب مع متطلبات زمانهم. وكانت فئة من المتعصِّبين تبرز دائماً في مواجهة النبي الجديد أو الرسول، لترفض مبدأ التجديد، وتصرَّ على التحجُّر والتمسُّك بمعتقداتها، ناسبة الخير لأفكارها، ومُدَّعية انغلاق باب العطاء الإلهي في وجه من سواها.
وقد كان تقرير المفاضلة بين الرسالات السماوية من قبل المتدينين أنفسهم، والاعتراف ببعضها وإنكار بعضها الآخر، يخلق صراعاً مريراً بين طوائفهم، وينسف جسور الاتصال بين أتباع الشرائع السماوية، ويغلق باب الحوار فيما بينهم، ويزرع العداوة والبغضاء، وهذا ما شهدناه حقّاً على مدار التاريخ، حيث ذهب كثير من الضحايا، وسفكت دماء بريئة باسم الدِّين. وقد كان يتوجَّب على أولئك المتدينين، أن يبذلوا قصارى جهدهم في تمثيل دينهم ومعتقدهم أحسن تمثيل، وأن يعرضوه بشكل يرضي العقل والمنطق بعيداً عن التعصُّب والانفعال، ليوحِّد الناس ويجمعهم بدلاً من أن يتولَّد النزاع والتناحر بينهم.
ويريد الله تعالى من خلال هذه الآيات الكريمة، تهدئة مشاعر العصبيَّة بين المتدينين، الناشئة عن تطرُّف بعضهم في التعصُّب لآرائهم ومعتقداتهم، ليلتفت الجميع إلى إشادة البناء السليم؛ الَّذي يمكن أن يسع أتباع الشرائع السماوية كلِّها، والَّذي يرتكز على الأركان الأساسية الَّتي تقوم عليها هذه الشرائع. وأوَّل هذه الأركان هو الإيمان بالله الواحد، إيماناً حقيقيّاً، تستسلم له ذرَّات وجودنا وخلايا تفكيرنا، فهو تعالى مقصودنا ورضاه مطلوبنا؛ فما من شيء يوحِّد بين قلوب الخلائق كالإيمان الربَّاني، الَّذي يسمو بها فوق الأهواء والتناحر والبغضاء.(1/303)
والركن الثاني الَّذي يمكن أن يحقِّق هذا الترابط الإيماني بين سائر المتدينين هو إيمانهم بالدار الآخرة، وأنهم مبعوثون للحساب والمقاضاة، فهم بذلك سيحسنون الاستعداد لذلك اليوم، الَّذي يوجب التزوُّد بالعمل الصالح، والإحسان إلى مخلوقات الله على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومللهم؛ فالخير غير محصور في فئة دون أخرى، ولا هو وَقْفٌ على جماعة دون جماعة، بل هو حقٌّ مشاع لكلِّ من دبَّ على الأرض، ويتَّسع ليشمل جميع الخلق، فللجميع حقُّ الحياة المقدَّس. وإذا أحببنا الله أحببنا مخلوقاته، وتركناهم ينعمون بحقِّهم في الحياة الكريمة، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الخلق كلُّهم عيال الله وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» (أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً). وبذلك يتكامل بناء الهرم الإيماني حتَّى إذا وصل إلى ذروته تُوِّج بالإيمان الكامل والتسليم المطلق بوحدانية الله عزَّ وجل، وقُدِّس بكلمة لا إله إلا الله، وعندها يتكامل الصرح السامق ليلامس السماء، ويمضي صُعُداً إلى الملكوت السماوي، حيث يجد العبد في ظلِّ الله الحُبَّ والرضا، والسعادة السرمدية الَّتي لا تنتهي ولا تزول.
والركن الثالث هو العمل الصالح الَّذي يعني القيام بكلِّ ما فيه خير للأمم، سواء في بناء الأخلاق، ونشر الرحمة والمساعدة والعطاء، ونشر العلم والفضيلة، والثقافة والتعليم، أم في البناء والإعمار، وإقامة السدود، والمحافظة على نظافة الأرض وبيئتها، والاستفادة من أجواء الفضاء ومن كلِّ ما سخَّره الله تعالى من أجل مصلحة الإنسان. ولا يمكن لهذه الأعمال أن تكون صالحة ومقبولة ومأجورة من قبل الله تعالى ما لم يكن التوجُّه بها خالصاً لمرضاته وإسعاد مخلوقاته، انطلاقاً من الإيمان الراسخ بالله عزَّ وجل.(1/304)
وبالنتيجة فإن على الإنسان أن يقدِّم عملاً مثمراً وخيِّراً وبنَّاءً يبتغي به وجه الله، ثمَّ يترك القرار في الحكم له أو عليه إلى الله عزَّ وجل، فهو الحكم العدل، الَّذي يقرِّر من له الحقُّ في أن يدخل فسيح جنانه ويستقرَّ في ملكوته الأعلى. عندها يسود الأمن والاطمئنان في المجتمع الإنساني كلِّه، فلا خوف ولا حزن ولا قلق، بل مجتمع متآزر متآخٍ، سعيد في الحياة الدنيا والآخرة، حيث ينال كلٌّ ثواب عمله ولا يُنتقص منه شيءٌ.
إن المانع الأساسي من التقاء أتباع الشرائع الَّتي أنزلها الله تعالى هو التعصُّب بالدرجة الأولى، ثمَّ التشويه الَّذي صنعه المغرضون في تلك الشرائع. لقد افترى الأفَّاكون أعداداً هائلة من الأحاديث المكذوبة، المفتراة على لسان رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم وهو منها براء، فانبرى العلماء العاملون لتلك الأحاديث الَّتي قصد مُشِيعُوها تشويه الإسلام، ففنَّدوها وعَرَّوا أصحابها، واستبعدوا كلَّ دخيل مكذوب، فبقيت تعاليم الإسلام على صفائها ونقائها بحفظ مَصْدرَيْها الأساسيين الكتاب والسنَّة، ولو أن الأمر ذاته حدث في الرسالات الأخرى والشرائع السابقة وزال التعصُّب، لالتقى أتباعها جميعاً مع شرع الله الخالد واجتمعوا على كلمة سواء.(1/305)
وفي ختام هذا الفصل لابد أن نلفت الانتباه إلى الآيات الكريمة الَّتي أقسم فيها الله تعالى برموز ثلاثة مرتبطة بالشرائع الإبراهيمية الثلاث، حيث يقول عزَّ وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيتُون * وَطُوْرِ سِينِين * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِين} (95 سورة التين آية 1ـ3). فبلاد التين والزيتون هي الأرض المباركة حيث مهد المسيح عليه السَّلام ومسيرة دعوته، وطور سينين حيث ناجى موسى عليه السَّلام ربَّه وتلقى الأمر الإلهي ببدء الجهاد السلمي ضد الكفر والتسلط، والبلد الأمين حيث أشرقت دعوة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام في مكَّة المكرمة؛ لتحضن شرائع السماء بإعزاز وتكريم، وتجمع قلوب المؤمنين بالله في سائر أنحاء العالم على المحبَّة والخير والسَّلام.
--------------------
الباب الرابع -القرآن الكريم
الفصل الأوَّل:
القرآن كتاب من عند الله
سورة العنكبوت(29)
قال الله تعالى: {وما كُنتَ تَتلوا من قَبلِه من كتابٍ ولا تَخُطُّه بيمينكَ إذاً لارتابَ المُبطِلُون(48) بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صدورِ الَّذين أوتوا العلمَ وما يَجحدُ بآياتنا إلاَّ الظَّالمون(49)}
ومضات:
ـ لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم أُميَّ القراءة والكتابة، فقد كان قارئاً لعلوم الله تعالى بالسلطان اللدُنِّي؛ الَّذي أمدَّه الله به، وربط به فؤاده.
ـ لقد تهيَّأ النبي صلى الله عليه وسلم نفسياً وروحياً بالإلهام الإلهي، حيث حُبِّب إليه الاختلاء وحده في مدرسة غار حراء، حتَّى أصبح مستعداً لتلقِّي العلوم الإلهية، وهذا يُثبت أن العلم الإلهي الَّذي يستقرُّ في الصدور المؤمنة، هو الركيزة الربَّانية الموصلة إلى حضرة الله، لاستيعاب تعاليمه عزَّ وجل واتِّباعها، مصداق قوله تعالى: {..وعَلَّمْناه من لَدُنَّا علما} (18 الكهف آية 65).
في رحاب الآيات:(1/306)
لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منطقة كانت شبه منعزلة حضاريّاً عمَّا يجاورها من إمبراطوريات. فقد وُلِدَ ونشأَ في الحجاز، البلد الَّذي كان منغمساً في الشرك والوثنية، والمتمسِّك بما يفرضه الولاء للحياة القبليَّة. أمَّا بالنسبة للقراءة والكتابة بوصفها علامات ودلالات على روح الحياة الثقافية، فقد كانت منعدمة نسبياً في تلك البيئة الَّتي غلب على أفرادها وصف الأمِّية. وكان شخص النبي صلى الله عليه وسلم يمثِّل الحالة الاعتيادية من هذه الناحية، فلم يكن قبل البعثة ولا بعدها يقرأ الكتب، ولم يكن يتلقَّى أي نوع من أنواع التعليم، بالمفهوم الَّذي يفهمه الناس من كلمة علم وتعليم.
وهذا النصُّ القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وحُجَّة دامغة حتَّى في حقِّ من لا يؤمن بأن القرآن من عند الله. فهو نصٌّ أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم على قومه وتحدَّث به إلى أعرف الناس بحياته، فلم يعترض أحد على ما قال؛ لأنه لم يؤْثَر عنه أيُّ مساهمة قبل بعثته بما كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة. وقد عاش فيهم أربعين سنة قبل البعثة، دون أن يشعر الناس من حوله بأي شيء يميِّزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف، ودون أن تبرز في حياته أيُّ بذور علمية، أو اتجاهات جادَّة نحو عملية التغيير الكبرى، الَّتي طلع بها على العالم فجأة، فجاءهم بأعظم كتاب عرفته البشرية؛ ربَّاني المصدر والتعاليم. وهذه هي صفته في الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل حيث ورد فيها: (إن آية نبوَّته أن يخرج حين يخرج لا يعلم كتاباً ولا يخطُّه بيمينه).(1/307)
إذن فلا وجه للشكِّ في أن هذا القرآن منزَّل من عند الله، فهو ليس مفتعلاً من صنع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يتعلَّمه من الكتب المأثورة عمَّن قبله. وحتَّى لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم كاتباً وقارئاً، فلا يجوز لهؤلاء المعارضين أن يرتابوا، فإعجاز القرآن يشهد بذاته أنه ليس من نظم بشر، مهما علا شأنه، وإن كان محمَّداً ذاته، فلو كان من عنده صلى الله عليه وسلم لنسب إلى نفسه صفاتٍ تتناسب مع حبِّ الإنسان للظهور، ولادَّعى من المواهب ما يوهم به أصحاب العقول الصغيرة والأنفس الضعيفة فيجد الحظوة لديهم. ولكنَّه محمَّد الصادق الأمين، قيادته بيد خالق الأكوان، المعطي والمانع، ولا حول ولا قوَّة له، لا هو ولا أتباعه، إلا بالله العليِّ العظيم. والقرآن الكريم أعظم من طاقات البشر، ومعرفتهم، وآفاقهم، والحقُّ الَّذي فيه، ذو طبيعة مطلقة كالحقِّ الَّذي في هذا الكون، وكلُّ وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأنَّ وراءه قوَّة، وفي عباراته سلطاناً لا يصدران عن بشر.
وليس القرآن كما يقول المبطلون من الجاهلين سحراً أو شعراً، ولكنَّه آيات ودلائل هَدَتْ إلى دين الله وأحكامه، ولقد أضاءت أنوارها في صدور الَّذين أوتوا العلم، فأصبحت مستودعاً للحكمة الإلهية، والأسرار الربَّانية. إن كلاً منا بوسعه أن يكون من أولي العلم إذا اكتشف أعماقه، والقوى الهائلة الكامنة فيها، ووصل طاقاته الدفينة بالطاقة الإلهية العظمى. وأولو العلم وحدهم، هم الَّذين يستطيعون أن يميِّزوا بين كلام الله وكلام البشر، وما يجحد بهذا القرآن إلا المتجاوزون للحدود بالمكابرة والعناد والشر.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {أفلا يَتَدبَّرونَ القُرآنَ ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيهِ اختِلافاً كثيراً(82)}
ومضات:(1/308)
ـ تتضمَّن الآية دعوة الناس إلى التأمُّل في معاني القرآن الكريم، والتفكُّر في أحكامه، وَفَهْمِ ما يرمي إليه بكلِّ أبعاده بشكل مدروس جاد، واكتشاف كنوزه العلمية والأخلاقية والتربوية.
ـ القرآن الكريم هو كتاب الله أنزله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلِّغه للناس. ولو كان من نظم البشر وتأليفهم لكان فيه الكثير من التناقضات، إذ لا يمكن للبشر أن يصوِّروا الحقائق الكونية أو العلمية أو التاريخية كما صوَّرها القرآن الكريم، يستوي في ذلك ما كان معلوماً منها عندهم أو مجهولاً.
في رحاب الآيات:
لم يُنَزَّل القرآن للتلاوة أو التجويد فقط، بل للدراسة والفهم ومن ثمَّ التطبيق. ففي كلِّ آية من آياته قانون، أو دستور، أو خطَّة للسير، أو انفتاح للعقل على علم أو حكمة أو منهج. والمطلوب من الإنسان أن يفتح قلبه لتلقِّي هذا البيان السماوي، ويفتح عقله لفهم معانيه السامية وألفاظه البليغة، ففي تدبُّره وفهمه يظهر برهانه، ويسطع نوره وبيانه، وتتجلَّى أبعاده العلمية والأخلاقية والسلوكية.
وقد دعا الله الناس إلى التدبُّر في أمر القرآن وإدراكه، لأنه كلَّما اتسع هذا الإدراك، ودقَّ هذا الفهم، تبيَّن لهم أن القرآن من عنده عزَّ وجل. فهل يمكن لعقل بشري إصدار مثل هذه الموسوعة العظيمة، لغةً وبياناً، وإعجازاً وإخباراً عن المغيَّبات من الماضي والمستقبل، وبحثاً في مختلف العلوم المجهولة، وفوق ذلك هذا النور الَّذي يُشِعُّ في القلب عند تلاوته؟. ولو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً لأسباب منها:(1/309)
1 ـ إن القرآن تحدَّث عن الماضي الَّذي لم يشاهده الرسول عليه السلام، وعن الحاضر المستتر، فأخبر عن خفايا النفوس ومكنونات الضمائر، كما تحدَّث عن الآتي الَّذي لم يحدث بَعْدُ منه شيء وقت النزول، فأخذ يتحقَّق بعد النزول شيئاً فشيئاً وإلى يومنا هذا. ولعل أهمَّ مثال على ذلك قوله تعالى: {وإِنَّه لَذِكْرٌ لكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسْأَلُون} (43 الزخرف آية 44)، أي أن القرآن سيكون فخرا وشرفا لمحمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقريش بل للعرب كلِّهم خصوصا، وللعالم الإسلامي عموما، عندما يتمسَّكون بأحكامه، وهكذا كان. والابتعاد عن جوهر القرآن وتعاليمه، يستلزم المساءلة والمحاسبة من قبل ربِّ العالمين، كما يسبِّب الهوان والذلَّ اللذين صرنا إليهما بهذا البعد والتجافي.
2 ـ القرآن الكريم هو الكتاب المعجز الَّذي لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثل ما جاء به، من فنون القول وألوان البيان العربي، وأنواع العِبر وأجناس المخلوقات، سواء في الأرض أم في السماء، فقد تكلَّم عن الخلق والتكوين، ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها، والرياح والبحار، والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات، وكان في ذلك كلِّه يؤيِّد بعضه بعضاً، لا تفاوت فيه ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى كما هو الحال في كلِّ ما يصنع الإنسان.
3 ـ التناسق المطلق الكامل بين آيات القرآن، هو السِّمة الَّتي يدركها من يتدبَّر هذا القرآن، كما أن كلَّ عقل وكلَّ جيل يجد فيه ما يحتاج إليه، حسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه. وتتجلَّى ظاهرة التناسق هذه أيضاً في منهج التربية، للنفس البشرية والمجتمعات الإنسانية، وفي منهج التقويم للإدراك البشري ذاته، فقد تناول شتَّى قواه وطاقاته وإعمالها معاً في عملية الإدراك، وفي منهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته وبين هذا الكون الَّذي يعيش فيه، ثمَّ بين دنياه وآخرته.(1/310)
4 ـ إذا كان الفارق بين الإبداع الإلهي والتأليفِ البشري واضحاً في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه لأوضح في جانب التفكير والتنظيم والتشريع، إذ يتَّسِم المنهج القرآني بأنه شامل متكامل، ثابت الأصول، يسمح بالحركة الدائمة مع ثباته. فهو مرن فيَّاض قادر على إمداد المستجدَّات بأحكام توافق مساره، وهو مع ذلك يجمع بين الوسطية والاعتدال، وبين المثالية والواقعية، وهذه أمور تفرَّد بها ولم يشاركه فيها منهج آخر.
ومتى استقرَّ في نفس الإنسان أن القرآن من عند الله؛ اهتدى بنوره وصحَّت مسيرته، وصلُح شأنه، وحقَّق السعادة لنفسه ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء، في دينها ودنياها وآخرتها.
الفصل الثاني:
نزول القرآن
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {وبالحقِّ أنزلناه وبالحقِّ نَزَلَ وما أرسلناكَ إلاَّ مُبشِّراً ونذيراً(105) وقرآناً فَرَقْناهُ لِتقرَأَهُ على النَّاس على مُكْثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً(106) قل آمِنُوا به أو لا تُؤمنوا إنَّ الَّذين أُوتوا العلمَ من قَبْلِهِ إذا يُتلى عليهِم يَخِرُّون للأذقان سُجَّداً(107) ويقولونَ سبحان ربِّنا إن كان وعدُ ربِّنا لمفعولاً(108) ويَخِرُّون للأذقانِ يَبكونَ ويزيدُهُم خشوعاً(109)}
ومضات:
ـ نزل القرآن متضمِّناً للحقِّ في بيان براهين تدلُّ على وجود الله ووحدانيته، وكاشفاً حقائق روحية ومادِّية للناس ليكون دستوراً لإسعادهم، ولنشر الأمن والإخاء في ربوع العالم، وليحمل البشرى لمن التزم به، وليوجِّه الإنذار لمن تغافل عنه وأعرض.
ـ يجب قراءة القرآن بهدوء وتمعُّن وتبصُّر، فهو مُنزَّل لحلِّ مشاكلنا، وفتح مغاليق قلوبنا.
ـ لقد كان الأتباع المنصفون لليهودية والمسيحية يعلمون بقرب مجيء نبي جديد، لذلك فقد عرفوا صدق القرآن يقينا، لمَّا رأوا فيه توافقاً مع شريعة الله الموجودة في كتبهم، فهزَّ ذلك وجدانهم وعواطفهم، فخرُّوا سجَّداً شاكرين الله تعالى على إنجازه وعده.(1/311)
ـ لقد كان أهل الكتب السماوية السابقة بأمسِّ الحاجة للقرآن ليروي عطشهم الروحي، ويطفئ غليل نفوسهم، لذا ذرفوا الدموع سخيَّة عندما لامست كلماته شغاف قلوبهم.
في رحاب الآيات:
أنزل الله تعالى القرآن الكريم قائماً على الحقِّ، مُقِرّاً له في الأرض، فالحقُّ مادَّته، والحقُّ غايته، ومن الحقِّ قوامه. وقد جاء ليربِّي أمَّة، ويقيم لها نظامها، فتحمله هذه الأمَّة إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتبلِّغه للبشرية وفق المنهج الكامل. ولهذا فقد نزل هذا القرآن بالتدريج وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمَّة، ووفق الوقائع والأحداث الَّتي صاحبت مدَّة التربية الأولى. فجاء ليكون منهجاً عملياً يطبَّق جزءاً جزءاً في مرحلة الإعداد، ولم يأتِ فقهاً نظرياً ولا أفكاراً تجريدية، تُعرَض للقراءة والاستماع الذهني فقط، وتلك بعضٌ من حكم نزوله مفرَّقاً، لا كتاباً كاملاً منذ اللحظة الأولى. ولقد تلقَّاه الجيل الأوَّل من المسلمين على هذا الأساس، فكان توجيهاً يُطبَّق في واقع الحياة كلَّما جاءهم بأمر أو نهي، وكلَّما تلقَّوْا منه أدباً أو فريضة. ويتجه الخطاب في هذه الآيات الكريمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُعْلِمَهُ بأن الله أرسله، مبشِّراً للمطيع بالثواب، ولأهل السعادة بسعادة الوصول والعرفان عند التمسك بالقرآن، ونذيراً لأهل الشقاوة بشقاوة البعد والحرمان عند الانفصام عن حبل القرآن وترك الاعتصام به. ويطلب تعالى من نبيِّه الكريم أن يخاطب الناس بقوله: آمِنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا به، فهو حقٌّ في نفسه أنزله الله، وكتاب خالد إلى أبد الدهر، فإيمانكم لن يزيد في خزائن الله شيئاً، كما أن كفركم لن يُنقص منها شيئاً، وإن تكفروا به فإن أولي العلم الَّذين عرفوا التوراة والإنجيل وعرفوا أن الله سيبعث نبيّاً، يخِرُّون ساجدين شاكرين لله هديَّةَ القرآن، تلك النفحة الربَّانية، الَّتي أنعشت أرواحهم بعد ظمأ طويل، وبعثت الحياة في قلوبهم، فراحوا(1/312)
ينزِّهون الله في سجودهم عن إخلاف الوعد، إنه لا يخلف الميعاد.
وهكذا فإن أهل العلم هم الَّذين يعرفون الله حقَّ المعرفة، ويُصدِّقون كلَّ ما جاء به رسل الله، لذلك تراهم إذا سمعوا القرآن يخرُّون للأذقان باكين، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعظ خشوعاً لأمر الله وطاعته، وهم الآمنون من النار في الآخرة. روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسُّهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» وأخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «.. وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله إلا حرَّم الله جسدها على النار وإن فاضت على خدِّه لم يَرهق وجهه قترٌ ولا ذِلَّةٌ».
وجملة القول:
1 ـ إن القرآن الكريم كتاب صدق وحقيقة، لم يستطع ولن يستطيع أحدٌ، النيل من آية من آياته، أو إثبات أنها مغلوطة أو خاطئة.
2 ـ يجب أن يبدأ الداعي بآيات التبشير، ويستنفد وسائل الإقناع قبل أن يلجأ إلى التلميح بالعقاب الإلهي.
3 ـ آيات القرآن الكريم منسَّقة بشكل يتلاءم مع حدود الفهم، لذلك نرى سهولة حفظ آياته من قِبَلِ الناس على اختلاف عقولهم وتباين أعمارهم.
4 ـ الإيمان الحقيقي هو الانقياد الدائم لحضرة الله وأوامره، والممزوج بالعواطف المتأججة شوقاً ومحبَّة له عزَّ وجل.
سورة طه(20)
قال الله تعالى: {طه(1) ما أنزلنا عليك القرآنَ لِتَشقى(2) إلاَّ تذكرةً لِمن يخشى(3) تنزيلاً مِمَّن خَلَقَ الأرضَ والسَّمواتِ العُلى(4)}
ومضات:
ـ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم تعاليم القرآن بمنتهى الحزم، ممَّا أرهق جسده وأتعبه، فأراد تعالى أن يخفِّف عنه، فبيَّن له أنه إنما أَنْزَلَ عليه القرآن سعادة له ولغيره، وما أراد به شقاءهم بل شفاءهم وإنقاذهم.
ـ إن في القرآن الكريم تذكرة لمن عنده استعداد لمحاسبة نفسه وفطامها عن ذنوبه والندم عليها.(1/313)
ـ الله تعالى منزِّل القرآن هو خالق السموات والأرض والأكوان كلِّها وما حَوَت.
في رحاب الآيات:
تبدأ الآية الكريمة بهذين الحرفين (ط ـ هـ) وهي حروف نورانيَّة، وفيها تنبيه لإعجاز القرآن الكريم، ذلك أنه على الرغم من أنه منسوج من الأحرف العربية الثمانية والعشرين، فقد تحدَّى الله به فصحاء العرب، وجهابذة الكلام على أن يأتوا بآية من مثل آياته، أو سورة من مثل سوره. وربَّما كان القصد من ابتداء السور بمثل هذه الأحرف، هو تنبيه المخاطب إلى أهمية ما يُلقى إليه بعدها، والله أعلم بمراده منها. أخرج ابن أبي حاتم عن الضحَّاك قال: (لما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، قام به وأصحابُهُ، فقال له كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمَّد إلا ليشقى به، فأنزل الله: {طه * ما أنزلنا عليك القرآنَ لتشقى}. فلا والله ما جعله الله شقياً، بل رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنَّة). وقيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى بالليل حتَّى تورَّمت قدماه فقال له جبريل: (أَبْقِ على نفسك فإن لها عليك حقاً).
فكيف لنبيٍّ عشق ربَّه أن يرهق جسده بقرآن فيه شفاء ورحمة؛ إلا إذا كانت معانيه قد استقرَّت في سويداء قلبه، ووعى كلماته حرفاً حرفاً، فتفجَّرت ينابيع الخوف والخشية من حضرة الله في أعماقه، فواصل ليله بنهاره تعبُّداً وتذلُّلاً، وخشوعاً وانكساراً، وحباً وإنابة للواحد القهار. فهل هذا شقاء؟ إنه عين النعيم، نعيم القرب، وعين اللذَّة الروحية، حين يتَّصل تيار الروح بالمولِّد الأصلي، ويحدث التَّماسُّ وتومض شعلة النور في ظلمات النفس المدلهمَّة فتزيل غشاوة البُعد عنها.(1/314)
ويأتي الجواب الحاسم بمخاطبته تعالى لرسوله: نحن لم ننزِّل القرآن عليك يامحمَّد لتشقى، ولكن أنزلناه تذكيراً لمن يخشى ويتأثَّر بالإنذار؛ لرقَّة قلبه وحسن استعداده. وقد خصَّ الله تعالى الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلِّهم، لأن الَّذي يخشى يتذكَّر حين يُذكَّر، ويتَّقي ربَّه فيستغفر، وعند هذا الحدِّ تقف مهمة الرسول، فلا يكلَّف بفتح مغاليق القلوب والسيطرة على الأفئدة والنفوس، وإنما ذلك موكول إلى الله عزَّ وجل. والَّذي أنزل القرآن هو خالق الأرض ومبدع الكون، ورافع السموات من غير عمد، وهذا إخبار عن عظمته تعالى، وجبروته وجلاله، ودليل على عظمة المنزَل.
والقرآن آية من آيات الله، كخلق السموات والأرض، أنزله ليكون مرجعاً ودستوراً لعباده، على اختلاف أنواعهم وأعراقهم وألسنتهم، هذا الخالق العظيم هو الَّذي وضع الشرائع السماوية، وأرسل الكتب الإلهية وآخرها القرآن ليكون شريعة ومنهاجاً، وقد حفظه في الأرض كما حفظه في السماء، وكلُّ شيء في قانون الله له غايته ورسالته، ولم يخلق شيئاً عبثاً أو لهواً، فتبارك الله أحسن الخالقين!.
الفصل الثالث:
أوصاف القرآن
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {إنَّ هذا القرآنَ يهدي للَّتي هي أقومُ ويُبشِّرُ المؤمنينَ الَّذين يعملون الصَّالحاتِ أنَّ لهم أجراً كبيراً(9)}
ومضات:
ـ إن في آيات القرآن الكريم ينابيع لإرواء العقل وتنمية الفكر، بالعلوم على مختلف أنواعها، وفيها تعاليم لإرشاد الخلائق، ليسلكوا السبل المؤدِّية إلى رقيِّهم الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي.
ـ في حنايا القرآن وبين سطوره نور إلهي ساطع، يغمر القلوب الصافية، ذات النوايا الطيِّبة، ويوقظها من سبات، ويحييها من موات، فيدفعها لتَتَّبِعَ سواء السبيل.
ـ القرآن الكريم هديَّة من الله تعالى لكلِّ ذي لبٍّ، ففيه الأمل والبشرى والمسرَّات، لكلِّ من آمن واهتدى وعمل صالحاً.
في رحاب الآيات:(1/315)
القرآن الكريم كلام الله المعجِز، المنزَّل على رسوله محمَّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المتعبَّد بتلاوته، الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنزله على عبده ورسوله محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بواسطة الأمين جبريل، وحفظه من أيدي العابثين حيث قال: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا لهُ لَحَافظون} (15 الحجر آية 9).
فالقرآن هو المعجزة الكبرى الَّتي أيَّد الله بها رسوله الكريم محمَّداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والَّتي تحدَّى بها العرب إذ جاءت من جنس ما برعوا فيه؛ وهو فصاحة اللغة وبلاغتها وقوَّة بيانها، فما استطاعوا أن يأتوا بآية من مثله، وقد سجل تحدِّيه لهم فقال عزَّ وجل: {قل لئن اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يَأتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلِهِ ولو كان بعضُهُم لبعضٍ ظهيراً} (17 الإسراء آية 88). ولم يكن إعجاز القرآن في اللفظ فحسب؛ وإلا لكان كتاباً أدبياً وكفى، ولكن الإعجاز كان في معانيه وبلاغته وأحكامه، وعلومه وهديه، وفي اقتحامه لحجب الزمان والمكان، فقد أخبر عن أحداث جرت في الماضي السحيق منذ آدم وحتَّى زمن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعن الأمم البائدة ممَّا لم يطرق خبرهم سمع العرب من قبل، كما أخبر عن أمور كانت قائمة زمن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو لا يدري بها لأنها خفيَّة مضمرة، فقد أعلمه الله بأحوال المنافقين وغيرهم ممَّن يُظهرون الإيمان ويضمرون الكفر ليحذِّره منهم، حيث قال: {إذا جاءَكَ المنافقونَ قالوا نشهدُ إنَّك لرسولُ الله والله يعلمُ إنَّك لرسولُهُ والله يَشْهَدُ إنَّ المنافقين لكاذبون} (63 المنافقون آية 1) وكذلك تحدَّث القرآن عن ظواهر كونية لم يتمَّ اكشافها إلا منذ زمن قريب؛ سنتحدث عنها فيما بعد بإذن الله.(1/316)
وهو كتاب مُرسل إلى الإنسانية جمعاء، في كلِّ العصور والأزمان، فالله عزَّ وجل يقول: {إنَّ هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقوم} هكذا على وجه الإطلاق، فيشمل الهدي أقواماً وأجيالاً، بلا حدود، ولا زمان أو مكان معيَّن، وهو يهدي لما هو أقوم فيما يتعلَّق بعالم النفس والشعور والضمير، بالعقيدة الواضحة البسيطة الَّتي لا تعقيد فيها ولا غموض، والَّتي تطلق الروح من قيود الوهم والخرافة، وتوجِّه الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء. كما يهدي لما هو أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وعقيدته وعمله. وكذلك في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشقُّ التكاليف على النفس، ولا تتجاوز القصد والاعتدال. ويهدي لما هو أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض، أفراداً وجماعات، شعوباً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة، الَّتي لا تتأثَّر بالرأي والهوى، والَّتي لا تزعزعها المصالح والأغراض، لأنها من عند العليم الخبير، فهو أعلم بما يصلح لهم في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان، فيهديهم للَّتي هي أقوم في نظام الحكم والمال، والاجتماع والتعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان. كما يهدي للَّتي هي أقوم في تبنِّي أصول الرسالات السماوية جميعها، والربط بينها كلِّها، وتعظيم مقدَّساتها، وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلُّها بجميع عقائدها السماوية الأصيلة في سلام ووئام، وفي ظلال دين واحد هو دين الله الَّذي ارتضاه لعباده.
والقرآن لا يهدي فحسب، بل يبشِّر المؤمنين الَّذين يعملون الصالحات بأن لهم أجراً كبيراً عند ربِّهم، وهذه هي القاعدة الأصيلة في العمل والجزاء، فلا إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، فبهما معاً تسير الحياة على الطريق الأقوم، وبهما تتحقَّق الهداية بهذا القرآن الكريم، ولا إيمان ولا عمل دون أجر وثواب.(1/317)
ويستفاد ممَّا تقدَّم: أن الأمَّة الَّتي تستند إلى علوم القرآن وإرشاداته، وتطبِّقها بحذافيرها هي الأمَّة المتقدمة أخلاقياً، وعلمياً، واجتماعياً، وهذا شرف أعطاه الله تعالى لأمَّة القرآن؛ لتكون لها الطليعة في جميع الحقول المنتجة، حين يتجلَّى في أقوالها وأفعالها منهج القرآن.
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {الحمدُ لله الَّذي أنزَلَ على عَبدهِ الكتابَ ولم يجعل له عِوَجا(1) قَيِّماً ليُنْذِرَ بأساً شديداً من لَدُنْهُ ويُبشِّر المؤمنين الَّذين يعملون الصَّالحاتِ أنَّ لهم أجراً حسناً(2) ماكِثِين فيه أبداً(3)}
ومضات:
ـ الحمد لله العليِّ العظيم، الَّذي أرسل لعباده رسالة مستقيمة، واضحة المعالم، راسخة البنيان، لا لَبْس فيها ولا غموض.
ـ إن شريعة الله تعالى لاتتهاون مع المصرِّين على الابتعاد عنها، المقطِّعين في أوصال المجتمع، بل إنها تنذرهم عقاباً شديداً. وبالمقابل فإنها تَعِد العباد العاملين، الصالحين المصلحين، بالمكافأة الجزيلة الوفيرة، وهي جنان الخلد حيث النعيم الأبدي.
في رحاب الآيات:(1/318)
قدَّم كثيرٌ من المفكرين أفكاراً ونظريات تهدف إلى تنظيم الحياة المادية للبشر، دون العناية بحياتهم الروحية، مفترضين فيها تحقيق سعادة الإنسان والمجتمع، وقد ثبت بمرور الأيام وبالتطبيق العملي، عدم كفاية هذه الأفكار لإشباع حاجات الناس، أو عدم ملاءمتها للطبائع. لذلك سرعان ما اندثرت وتلاشت وأثبتت فشلها، في الوقت الَّذي كانت فيه الرسالات السماوية، المتمِّمة لبعضها بعضاً، والمتوَّجة برسالة الإسلام، متوافقة مع حاجات البشر المادية والروحية، متكاملة في طرائقها، وفي تعاليمها، فلا نجد فيها عِوَجاً ولا خللاً، ففيها العلاج لكلِّ مشاكل الإنسان؛ لأنها لا تعتمد على بناء الفرد أخلاقياً وروحياً وتربوياً فحسب، بل تفتح عقله على آفاق الحياة العلمية والاقتصادية والصناعية أيضاً، وبذلك أوجدت له توازناً يوصله إلى سعادتي الروح والجسد، في الدنيا والآخرة.
هذه الحقيقة الناصعة، وهذا الدور الهام للرسالات السماوية تؤكده الآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها، والَّتي تُستَهَلُّ بالثناء الجميل على الله سبحانه، فهو المُنعم والمُتفضل على عباده، بأن أرسل لهم هذه الرسالات، وتوَّجها بالقرآن الكريم، ليرشدهم إلى طريق الهدى والنور، والسعادة الَّتي لا تزول. وحين يثني الله تعالى على ذاته القدسية، فهو يريد من وراء ذلك أن يعلِّمنا نحن عباده، كيف نثني عليه بما هو أهله، وكيف نشكر نعمه الَّتي لا يحصيها العدُّ، ولا يحيط بها حدّ، يعلِّمنا كيف يكون أدب المخلوق مع الخالق العظيم، الَّذي أرسل إلينا كتابه الكريم، لنتَّخذه دستوراً يغنينا عن دساتير الأرض، وتشريعاً يغنينا عن تشريع سائر المشرِّعين.(1/319)
وهو كتاب خالٍ من أي تناقض أو زيغ، بل هو منسجم متكامل متناسق، يضمُّ بين دفَّتيه أسس الدعوة إلى الله، القائمة على الترغيب والترهيب، وهذان هما المحوران اللذان تدور حولهما أساليب التربية لجميع أنماط الناس، فهم بين مطيع وعاص، ولكلٍّ منهم دواؤه وعلاجه، ومن ثمَّ مكافأته أو عقابه، فالمطيع له البشارة والنجاة، والمتمرِّد المتكبِّر له الوعيد والهلاك.
وترشد الآيةُ المؤمنَ إلى أن الإيمان بالقول وحده لا يكفي، إذ الإيمان ليس بالادِّعاء والعواطف فحسب، مهما سمت هذه العواطف، بل لا بدَّ لها من ترجمة عملية تصدِّقها وتؤيِّدها ألا وهي العمل، عمل الصالحات، لأن الإيمان الحقيقي يثمر عملاً منتجاً خيِّراً، وحبّاً وإخاءً للجميع على قدم المساواة. فالمؤمن يتَّسع قلبه لحبِّ الإنسان والحيوان والطبيعة، لأنهم من خلق الله الَّذي أحبَّه وآمن به، ومن يصل إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع فلابدَّ أن يغدق الله عليه من نعيمه، نعيم الدنيا حتَّى يصل إلى حقيقة السعادة، ونعيم الآخرة الَّذي يعجز الخيال عن تصوُّره ومعرفة كنهه، لأنه في علم الله الأزلي، وقد ادَّخره لعباده المؤمنين خالدين فيه أبداً.
فالنفس الإنسانية حقيقة واقعة لا تزول، ولكنها تنتقل من حال إلى حال، وتبقى تحت جناح رحمة الله تعبُّ من لذَّات الآخرة، بمقدار ما أفاضت على عباد الله من عطاءات في الحياة الدنيا، وما قدَّمت فيها من العمل الصالح.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ قد جاءَتْكُم مَوعِظَةٌ من ربِّكم وشِفَاءٌ لما في الصُّدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين(57) قل بِفَضلِ الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يَجمعون(58)}
ومضات:
ـ يعرض القرآن الكريم برنامجاً شاملاً وعملياً، فيه وقاية وحماية من الأمراض الاجتماعية المستشرية بين الناس.(1/320)
ـ تكمن سعادة الإنسان الحقيقية في حصوله على النعيم الدائم، فكلُّ نعمة زائلة هي نقمة وتعاسة لصاحبها؛ إن لم يحسن استعمالها بما يرضي الله عنه؛ فالنعيم الحقيقي الدائم والسعادة الأبدية، ثمارٌ تُقطف من شجرة طاعة الله عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:
إن تَرَفَ الإنسان في ظلِّ الحضارة المادية المجرَّدة، لم يُعْطِه السعادة على مرِّ العصور، فقد جرَّب كلَّ أنواع اللَّذة الحسية من شرب الخمر إلى الانغماس في ملذَّات الحياة ولكن دون جدوى، وما زادته المخدِّرات إلا وبالاً دون أن تشفي له غليلاً! فأين هي السعادة؟.
إنها في العلاقة الروحية مع الله، الَّتي تكمن في كلماته ووحيه، في النور الَّذي يتجلَّى به على عباده، فيكون لهم الشفاء من كلِّ داء، وهي مصدر السرور الحقيقي؛ لأنها ترتكز على القواعد السليمة الصالحة لبناء المجتمع السليم المعافى من الخلل والتناقض.(1/321)
فعندما فشلت الحضارة المادية في إسعاد الإنسان، أثبتت الحضارة الفكرية المستمَدَّة من شرع الله جدارتها في إيصاله إلى السعادة السرمدية، إذ أن الفكر هو ثمرة إعمال العقل الَّذي يقود إلى معرفة الله، بالارتكاز إلى الروحانية والإشراق. والإشراق لا ينبثق في النفس إلا بتلقِّي الفيض الإلهي، الَّذي يشفي النفوس ممَّا علق بها من أدران. وهل هناك فيض غامر وشافٍ أعظم من القرآن الكريم، الَّذي وصفه الله تعالى بقوله: {هذا بصائرُ للنَّاس وهدىً ورحمةٌ لِقوم يُوقِنون} (45 الجاثية آية 20) والله تعالى يصف القرآن الكريم بأنه بصائر للناس، لأنه يعمِّق معنى الهداية في النفس، فهو بذاته بصائر كاشفة، وهو بذاته هدى ورحمة وشفاء. ولكن هذا كلَّه يتوقف على اليقين، وعلى الثقة بحقيقته الَّتي لا يخامرها شكٌّ، ولا يخالطها قلق، ولا تتسرَّب إليها ريبة، وحين يستيقن المؤمن ممَّا حواه القرآن يعرف طريقه، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد، وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً، والأفق منيراً، والغاية محدَّدة، والنهج مستقيماً، وعندئذ يصبح القرآن له نوراً وهدىً ورحمةً وشفاءً، لما فيه من كنوزٍ جمَّة، وفضائل عظيمة منها:
1 ـ اعتماده الموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب، بذكر ما يرِقُّ له القلب، فيحمله على فعل ما يجب، وترك ما يحرم.
2 ـ معالجته لما في القلوب من الشرك والنفاق وسائر الأمراض الَّتي تبقي صاحبها في دائرة القلق والشكِّ والتعاسة.
3 ـ إرشاده إلى طريق الحقِّ واليقين، وتحذيره من الضلال في الاعتقاد والعمل.
4 ـ زرعه الرحمة في قلوب المؤمنين، وغمرها بأنوار الهداية.(1/322)
ونيل هذه العطايا الإلهية هو الَّذي يستدعي الفرح، لا المال ولا عرض الدنيا، فذلك هو الفرح العلوي الَّذي يطلق الإنسان من إسار المطامع الدنيوية، والممتلكات الزائلة، فيرتفع فوقها ليسخِّرها لخدمته لا أن يكون عبداً خاضعاً لها، ولا يكون خادماً لها بل هي خادمة محقِّقة له ما فيه السعادة الحقيقية الدائمة.
والإسلام لا يحقِّر شأن الدنيا لئلا يستهين الناس بها ويهجروها، وإنما يَزِنُها بالميزان الدقيق، ليتمتَّعوا بها وهم متحرِّرو الإرادة، شرفاء الغاية. وينبغي للمؤمن حين يفرح بفضل الله ألا ينسى المنعم فيكون ذلك سبباً لسلب النعمة، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ فعليه ألا يفارق العرفان لله والشكر له، فمتى كان الفرح مقترناً بالخوف والرجاء لم يضرَّ صاحبه، ومتى خلا من الحذر أضرَّ وأفسد. وقد عرض القرآن لوناً من الفرح المنحرف، الَّذي يُقسِّي القلوب ويعرِّضها لعقوبته عزَّ وجل فقال: {فلمَّا نَسُوْا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبوابَ كلِّ شيءٍ حتَّى إذا فَرِحوا بما أُوتوا أخذناهم بَغتَةً فإذا هم مُبْلِسون} (6 الأنعام آية 44).
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {ونُنزِّلُ من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنينَ ولا يزيدُ الظَّالمين إلاَّ خساراً(82)}
ومضات:
ـ في القرآن الكريم صيدلية للأدوية الإسلامية، ولكننا بحاجة إلى الطبيب المختص الَّذي يشخِّص العلَّة ويصف الدواء.
ـ في هذه الصيدلية جميع أنواع الأدوية الَّتي تعالج جميع الأمراض النفسية والاجتماعية، وفيها أيضاً الوسائل الوقائية الَّتي تحقِّق الحماية من الأمراض الجسدية؛ فمن لزمها تحقَّق له الشفاء بإذن الله، ومن هجرها فقد ظلم نفسه وأهله ومجتمعه.
في رحاب الآيات:(1/323)
كيف يمكن للقرآن أن يكون داءً ودواءً في الوقت نفسه؟ بل كيف يمكن للطعام أن يكون مصدر غذاء لبعض الناس، وسبباً لمرض بعضهم الآخر؟. السبب هو استعداد الإنسان الجسدي والروحي، فالجسم السليم يهضم الطعام الجيد ويحوِّله إلى طاقة وقوَّة، بينما يرفضه الجسم المريض وربَّما لا يقوى على تناوله. والنفس البشرية السليمة تتغذَّى بأنوار القرآن ومعانيه، وترقى به وتنجح، أمَّا النفس المريضة فهي عاجزة عن تلقِّي غذاء القرآن، لأنها لم تتوافق في ذاتها وأهدافها مع جوهره، ولم تحاول أن تتجانس معه وتسمو إلى قدسيَّته؛ بل آثرت الإبقاء على تخلُّفها وبعدها عن حقائقه متأثرة بماض خاطئ موروث.(1/324)
والله جلَّ وعلا يقرِّر أن القرآن شفاءٌ ورحمة، ولكن لمن خالطت قلوبَهم بشاشة الإيمان، فأشرقت وتفتَّحت لتلقِّي ما في القرآن من تعاليم وإرشادات. ففيه شفاءٌ من الوسوسة والقلق والحيرة، لأنه يصل القلب بالله فيستشعر حمايته فيسكن ويطمئن، مصداق قوله تعالى: {الَّذين آمنوا وتطمئنُّ قلُوبُهُم بذكر الله ألاَ بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب} (13 الرعد آية 28) وفيه شفاءٌ من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان، وهي من آفات القلب الَّتي تصيبه بالوهن والضعف، وتدفع به إلى اليأس والانهيار. وفيه شفاءٌ من الاتجاهات المخلَّة بالشعور والتفكير، فهو يعصم العقل من الشطط، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة، ويكفُّه عن هدر طاقته فيما لا يجدي، ويجعله يأخذ بمنهج سليم منتظم. وهو كذلك شفاءٌ للجسد، إذ يجعل الإنسان يوزِّع طاقاته باعتدال، بلا إفراط ولا تفريط، ويدَّخرها للإنتاج المثمر؛ وذلك بدعوته إلى عدم الإفراط في الطعام، وإلى الامتناع عن الزنا والشذوذ، لوقايته من الأمراض الجنسية المهلكة، وكذلك هو حماية من أضرار الخمر وكلِّ المسكرات والمخدِّرات بتحريم تعاطيها. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية، الَّتي تفكِّك بناء الجماعات، وتذهب بسلامتها وأمنها، بما وضعه من نظام اجتماعي موزون، وعدالة شاملة تضمن سلامة الجميع وطمأنينتهم. يضاف إلى ذلك كلِّه أن القرآن الكريم جاء رحمة للناس جميعاً، ففيه الهداية وتفريج الكروب، وإصلاح العيوب، وتكفير الذنوب، مع ما تفضَّل به الله تعالى من الثواب في تلاوته، روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». إذاً ففي تلاوة القرآن ثواب وبركة، وفيه نور لاينتشر إلا بالعمل المثمر البنَّاء. ومع ذلك كلِّه فإن القرآن لا يزيد الظالمين إلا خساراً،(1/325)
فهم لا ينتفعون بما فيه من شفاء ورحمة، لأن لهم آذاناً أصمُّوها عن سماع الحقِّ ووعيه، وقلوباً مريضة عمياء غير مستعدَّة لتلقِّي الأنوار الإلهية الَّتي تحملها آياته، فإنْ حدث واستمعوا إليها فإنها لا تزيدهم إلا حيرة في أمرهم، وضلالاً في سعيهم؛ قال تعالى: {..قلْ هُوَ للَّذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ والَّذين لا يُؤمنونَ في آذانِهِم وَقْرٌ وهو عليهِمْ عَمىً..} (41 فصلت آية 44) وهكذا فأصحاب القلوب السليمة ينتفعون بهذا الخير الإلهي الوفير، لأنه يتجاوب مع صدق إيمانهم وسلامة فطرتهم، وتصميمهم على العمل بموجبه، بينما يُعرِض الكافرون والمنافقون عنه فَيُلْقُون بأنفسهم بين أنياب البؤس والشقاء.
وفي الختام: لابدَّ أن نشير إلى التساؤلات المطروحة حديثاً حول الفرق بين الكتاب والقرآن. ونحن نؤكد وجوب التزامنا جميعاً بشريعة الله بمجملها؛ سواءً ما ورد منها في مصطلحات الكتاب أو القرآن أو الصحف أو الآيات، دون أن نغمط هذه التساؤلات حقَّها من جهة، ولا أن نجعلها سبباً لدخولنا في مناظرات فلسفية تحيد بنا عن صراط الله وشرعه القويم من جهة ثانية؛ والله أعلم بالنوايا وهو أعلم بالمهتدين.
الفصل الرابع:
الإعجاز العلمي في القرآن
لقد حوى القرآن فيما حوى تصوُّراً لجانب من علم الله الشامل، ليهتدي العقل البشري به، فيرتاد آفاق العالم المعلوم منها والمجهول، فتتَّسِعُ المدارك، ويسطع نور الإيمان المطلق بوحدانية الله؛ الَّذي بيده مفاتيح العلوم كلِّها. ففي الوقت الَّذي كانت دراسة العلوم الكونية والطبيعية، في نظر بعض الشرائع السماوية، أمراً محرَّماً في العصور الماضية، جاء الإسلام ليكون أجرأ مَنْ كشف الحجب عن العقل البشري، ذلك الكنز الهائل الَّذي يحمله الإنسان في رأسه، فأمره بالبحث والدراسة في البرِّ والبحر، والتفكر في النفس البشرية، لإدراك عظمة الكون الَّتي تنمُّ عن عظمة خالقه، وليستفيد من بديع صنع الله وينتفع به.(1/326)
وإن القرآن الكريم ليتناول القضايا الكونية بطريقة مثيرة للاهتمام وآسرة للُّب، فهو يمسُّ موضوع المجهول منها مسّاً رقيقاً ولا يتوغَّل فيه، تاركاً لعقل الإنسان المجال واسعاً للبحث والدراسة والتمحيص، للوصول إلى قوانين الكون، والَّذي جعل الله تعالى له سنناً لا تتبدَّل، وأمر الإنسان أن يبحث عنها ويدركها، ويتعامل معها في حدود طاقته وحاجته. وفي هذا تشريف للإنسان، إذ أعطاه تعالى العينين والعقل وفيهما قُوَّتا الإبصار والبصيرة، ليشاهد ويفكر ويبحث ويتعمَّق متى شاء وأراد، والغاية الأهمُّ الَّتي ترجى من وراء ذلك هي الوصول إلى الحقيقة الَّتي توصله بدورها إلى الخالق العظيم. وهذا كلُّه من توابع الإيمان ونتائجه، إذ لا معنى لإيمان غير مقترن بعملٍ ومتابعة للجهود، من أجل اكتشاف ما غاب عن علمنا الحالي، بما يرضي الله عنَّا، لنكون رسل العلم والعقل والتفكير، والمحبَّة والسَّلام والإسعاد.(1/327)
وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم ليس كتاب نظريَّات علمية، ولم يأت ليكون بنصِّه منهجاً للعلم التجريبي، بل هو منهج للحياة كلِّها، وسبيل لتحريض العقل ليعمل وينطلق، وتقييم للمجتمع دون أن يدخل في جزئيات وتفاصيل علمية بحتة؛ فمعرفة هذه التفاصيل متروكة للعقل بعد تقييمه وإطلاق سراحه. إذ يكتفي بالإشارة إلى القضايا الكونية، لأن تعريف الناس بمباحث العلوم الكونية ليس من مقاصد الشريعة، بل إن غايتها أن تجعلهم يتوصَّلوا إلى هذه المعارف بعقولهم واجتهاداتهم، فإذا اهتدَوُا إليها وقد علموا أن القرآن سبقهم في الإشارة إليها، والحضِّ عليها، استدلُّوا على أن القرآن الكريم ليس من كلام البشر، وبذلك يفتح أمامهم باب الهداية والإيمان بالله تعالى وبهذا الدِّين الخالد. وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى بعض القضايا الكونية، فجاء العلم الحديث مصدِّقاً لها، ووقف خاشعاً أمام إعجازها الَّذي أَخْبَر عنه النبي الأمِّي محمَّد صلى الله عليه وسلم ـ قبل أربعة عشر قرناً ـ من خلال كتابٍ مُعجز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من الله العليم الحكيم. وهناك أمثلة كثيرة حول الآيات الَّتي تتعلق بالإعجاز العلمي اخترنا منها ما يلي:
$ قال تعالى: {وهو الَّذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وجعلَ بينَهُما بَرْزَخاً وحِجْراً مَحجوراً} (25 الفرقان آية 53)، وقال أيضاً {مَرَجَ البحرينِ يلتقيان * بينهما بَرْزَخٌ لا يبغيان} (55 الرحمن آية 19ـ20)، وقال أيضاً {..وجعلَ بين البحرين حاجِزاً أَإِلهٌ مع الله بلْ أكثَرُهُم لا يعلمون} (27 النمل آية 61)، وقال أيضاً {وما يستوي البحرانِ هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سائغٌ شرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ومن كلٍّ تأكلونَ لحماً طريَّاً وتستخرجونَ حِليَةً تَلْبَسونَها وترى الفُلْكَ فيه مواخِرَ لتبتغوا من فضلهِ ولعلَّكم تشكرون} (35 فاطر آية 12).(1/328)
تتحدَّث الآيات الكريمة عن ظاهرة وجود بحرين أحدهما عذب فرات، وثانيهما ملح أجاج، أو كلاهما مالحان، فإنهما يتوازيان ويلتقيان، ولا يختلطان أو يمتزجان، إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من قدرته تعالى، فلا يغلب أحدهما على الآخر وحيث يختلف كلُّ بحرٍ بحيواناته ومخلوقاته، ودرجة ملوحته عن غيره. وهذا ما توصل إلى اكتشافه العلماء خلال السنوات القليلة الماضية بعد اتباع الطرائق العلمية المسماة (الإستشعار عن بُعد).
ولا يمنع الحديث عن البحار من الإشارة إلى مجاري الأنهار الَّتي غالباً ما تكون أعلى من سطح البحر، ومن ثمَّ فالنهر العذب هو الَّذي يصبُّ في البحر المالح دون أن يمتزج فيه، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر، وهو أضخم وأغزر، على النهر الَّذي فيه الحياة للناس والأنعام والنبات.
كذلك نشير إلى وجود البرازخ والحواجز المائية الَّتي أبدعها الخالق على حافَّتي التيارات البحرية المختلفة، حارَّة كانت أم باردة، صاعدة أم هابطة، شمالية أم جنوبية. كذلك إذا التقى نهران في مقرٍّ واحد تجد أن ماء أحدهما لا يمتزج بالآخر، ويمكن مشاهدة النهرين مستقلَّين كلِّ واحدٍ عن أخيه، وكأنَّ خيطاً يمرُّ بينهما، ويكوِّن حداً فاصلاً بينهما. وقد اكتشف العلماء قانون المطِّ السطحي منذ عشرات السنين، وهو قانون ضابط للأشياء السائلة، ويفصل بين سائلين، حيث أثبت أن تجاوب الجزئيات يختلف من سائل لآخر، لذلك يحتفظ كلُّ سائل باستقلاله في مجاله، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة بكلمة برزخ؛ وفي هذا دليل على مزيد من المعجزات العلمية، كشفها القرآن الكريم بكلِّ بساطة، ممَّا يؤكد أنه من لدن عليم خبير.
$ وقال تعالى: {فمن يُرِدِ الله أن يهديَهُ يَشرحْ صدرَهُ للإسلام ومن يُرِدْ أن يُضلَّهُ يجعلْ صدرَهُ ضيِّقاً حَرَجاً كأنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماء كذلك يجعلُ الله الرِّجس على الَّذين لا يؤمنون} (6 الأنعام آية 125).(1/329)
في هذه الآية يصوِّر الله تعالى بشكل دقيق ملفت للنظر، حال الكافر بحالة من يصعد في طبقات الجو، وما يصيبه من ضيق في الصدر. فإذا ارتفع الإنسان عن سطح الأرض يشعر بانقباض، وكأنه يختنق بسبب اختلاف الضغط الجوي ونقص الأوكسجين، وهذا ما يأخذه علماء الفضاء بالاعتبار لدى استعداد روَّادهم لعملية تخطِّي الغلاف الجوي للأرض، وكذلك الطيارون فهم يضعون كمَّامات الأوكسجين على أنوفهم، ليستنشقوه أثناء طيرانهم في حال الضرورة، بسبب نقص الأوكسجين في الطبقات العليا من الجو، وإلا فإن أحدهم سيصاب بحالة شبيهة بالاختناق، فتراه يتنفس بصعوبة، وتسرع ضربات قلبه ويثقل صدره، وقد جاء عصر العلم بمنجزاته واكتشافاته، ليزيح الستار عن هذه الحقيقة الَّتي تضمَّنتها هذه الآية الكريمة.
$ وقال تعالى: {ومن كلِّ شيءٍ خلقْنَا زوجين لعلَّكم تَذَكَّرون} (51 الذاريات آية 49).(1/330)
إن جميع الموجودات في هذا الكون تتصف بصفة الزوجية، الأحياء منها والجمادات، ما تراه العيون وما لا تراه، حتَّى إن الذرَّة مركبة من نوعين اثنين من الكهارب، أحدهما موجب والآخر سالب. وحين نفكر في أن جميع الناس قد عرفوا الزوجية والتزاوج بحكم الواقع العملي للحياة، إلا أن فكرة عموم الزوجية لم تُعرف إلا في العصر المتقدم، وكأن كتاب الله يخاطب كلَّ عصر بعصره. فهاهو يخاطب عصر النبوة بشرح مبسط لقانون الزوجية، حيث يقول تعالى: {واللَّيلِ إذا يغشى * والنَّهار إذا تجلَّى * وما خَلَقَ الذَّكر والأنثى} (92 الليل آية 1ـ3) فالله عزَّ وجل يُقْسم بهاتين الآيتين ـ الليل والنهار ــ مبيِّناً صفة كلٍّ منهما؛ الليل حين يغشى البسيطة ويغمرها ويخفيها، والنهار حين يتجلَّى ويظهر، فيظهر في تجلِّيه كلُّ شيء ويُسفر، وهما أوانان متقابلان في دورة الفلك، وفي الخصائص والآثار، ومع تقلُّب الليل والنهار، تبقى حركة الحياة نشطة مستمرَّة على مدار الساعة، ويبقى الإنسان هو العمود الفقري لهذه الحركة. كما ويُقْسم الله سبحانه بخلقه الذكر والأنثى من جميع الأجناس، تأكيداً على حقيقة قيام الحياة على التَّكامل الزوجي بين المخلوقات، وهذا دليل على أنه عليم تمام العلم بدقائق المادَّة وما فيها، إذ لا يُعقَل أن يكون هذا التلاؤم والتناسب بين الذكر والأنثى في الحيوان والنبات بمحض المصادفة، أو بتدبير طبيعة لا سيطرة لها على ما يحدث فيها.(1/331)
وما دمنا في بحث الإعجاز العلمي الخاص لعموم الزوجية، لابد لنا أن نقف مذهولين أمام الحقيقة الَّتي أثبتها القرآن الكريم، والَّتي تشير إلى أن الحيوان المنوي هو السبب في تحديد الذكورة أو الأنوثة، ولا علاقة للبويضة الَّتي تحملها الأنثى بذلك التحديد، حيث يقول تعالى: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} (75 القمر، آية 37 ـ 39)، وضمير منه هنا يعود إلى الحيوان المنوي. وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض الرجال الَّذين يضطهدون زوجاتهم بسبب إنجابهن للبنات دون البنين.
$ وإذا ما تتبَّعنا آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، نجده يخبر في بعض آياته عن دوران الكواكب والنجوم، قبل أن يكتشف العلم ذلك بقرون عديدة إذ قال تعالى: {لا الشَّمسُ ينبغي لها أن تُدرِكَ القمرَ ولا اللَّيْلُ سابقُ النَّهارِ وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون} (36 يس آية 40).
$ أمَّا قوله تعالى: {وأرسلنا الرِّياح لواقح..} (15 الحجر آية 22) فقد كان المفسِّرون يفسِّرونها قديماً بأن الرياح تثير سحاباً فتلقِّحها ـ بمعنى تخصبها ـ فيسقط المطر. ثمَّ عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السُّحُبَ ذات الشحنة الكهربائية الموجبة، وتلقي بها في أحضان السحب سالبة التكهرب، فيحدث الرعد والبرق والمطر. وعرفنا أيضاً أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من الأعضاء المذكَّرة في الزهور إلى الأعضاء المؤنَّثة فتلقِّحها، وقد تكون العملية من شجرة ذات أزهار مذكَّرة إلى شجرة ذات أزهار مؤنَّثة.(1/332)
$ وإذا تأمَّلْنا قوله تعالى: {إنَّ الَّذين كفروا بآياتنا سوف نُصْلِيهِم ناراً كلَّما نَضِجَت جلودُهُم بدَّلناهُم جُلوداً غَيرَهَا ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} (4 النساء آية 56)، فإننا نجد أن الآية الكريمة تتحدَّث عن لون من ألوان العذاب الَّذي سَيُجزَى به الكافرون؛ وهو تبديل جلودهم المحترقة بغيرها، فيكون هذا العذاب من أشدِّ أنواع العذاب إيلاماً يعانون منه طيلة فترة إقامتهم في النار.
وقد كشف علم التشريح المجهري اليوم عن السرِّ في اختيار الله لهذا النوع من التعذيب، فقد تبيَّن أن الجلد عضو غنيٌّ بالنهايات العصبية، الَّتي تقوم باستقبال جميع أنواع الحسِّ من المحيط الخارجي، كالإحساس بالألم والحرارة والضغط والبرودة، أمَّا النُسج الَّتي تلي طبقة الجلد فإنها أكثر تحسُّساً بمستقبلات حسِّ الضغط، لكنها أقل منه تحسساً بمستقبِلات الألم والحرارة واللمس. لذلك عندما يُحقن الشخص بإبرة فإنه يشعر بذروة الألم عندما تجتاز الإبرة الجلد، ومتى تجاوزت الجلد إلى الأنسجة الأخرى، تخفُّ درجة الإحساس بالألم. وعندما يتعرَّض الجلد للحرق، فإن ذلك يؤدِّي للإحساس بألم شديد جداً، لأن النار تنبِّه مستقبلات الألم، فإذا ما امتدَّ الحرق للأنسجة تحت الجلد، يصبح الألم أخفَّ لأن هذه الأنسجة أقلُّ حساسيَّة بالألم. وهكذا أشارت الآية القرآنية إلى أن أكثر أعضاء الجسم غنىً بمستقبلات الألم هو الجلد، كما أن الحروق هي أشدُّ المنبِّهات الأليمة، وتبديل الجلد المحترق بجلد سليم إشارة إلى استمرار الشعور بالعذاب والألم، بدل الانتقال إلى حالة من فقدان الحسِّ والشعور.(1/333)
$ وعندما نتفكر في الآيات القرآنية الَّتي تحدَّثت عن خلق الإنسان نجد فيها من ألوان الإعجاز ما لا يحصى، وجميعها تشهد بالسبق القرآني في مجال علم الأجِنَّة. وقد اخترنا من هذه الآيات قوله تعالى: {..يخلُقُكُم في بطونِ أمَّهاتِكُم خَلْقاً من بعد خَلْقٍ في ظلماتٍ ثلاثٍ ذلكُمُ الله ربُّكُم له المُلْكُ لا إله إلاَّ هوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ} (39 الزمر آية 6). فالطبُّ يقرِّر اليوم أن الجنين ينتقل من طور إلى طور، في الرحم، ضمن أغشية تحيط ببعضها، وهي من الداخل للخارج كما يلي:
1 ـ الغشاء الأمنيوسي: وهو يحيط بجوف الرحم المملوء بالسائل الأمنيوسي الَّذي يسبح فيه الجنين بشكل حر.
2 ـ الغشاء الكوريوني: الَّذي تصدر عنه الزغابات الكوريونية الَّتي تنغرس في مخاطيَّة الرحم.
3 ـ الغشاء الساقط: وهو عبارة عن مخاطيَّة الرحم السطحية بعد عملية التعشيش ونموِّ محصول الحمل، وسمِّي بالساقط لأنه يسقط مع الجنين عند الولادة.
وبالنظر إلى الآية السابقة، وإلى المعطيات العلمية حول تلك الأغشية الثلاثة، نجد أنفسنا في صدد إعجاز قرآني جديد، إذ صوَّرت الآية الأغشية بالظلمات، وبيَّنت بأن عملية الخلق تتمُّ على أطوار متلاحقة داخل هذه الظلمات الثلاث.
$ وهناك معجزات ماديَّة قرآنية تجدر الإشارة إليها في ختام هذا الموضوع، تكمن في آية البسملة وهي قوله تعالى: {بسم الله الرَّحمن الرَّحيم} الَّتي يبلغ عدد حروفها تسعة عشر حرفاً، وهذه الحقيقة مادِّية وملموسة، ولا يستطيع أحد أن يجادل فيها، لأنها ليست تفسيراً، وليست تخميناً أو استنتاجاً.(1/334)
ولقد قام أحد الباحثين المسلمين بعمليَّة إحصاء عددية، فوجد أن كلَّ كلمة في هذه الآية تتكرَّر في القرآن الكريم كلِّه عدداً من المرات، ويكون هذا العدد من مضاعفات الرقم (19) عدد حروف البسملة. فكلمة اسم تتكرَّر في القرآن كلِّه تسع عشرة مرَّة. ولفظ الجلالة يتكرَّر في القرآن ألفين وستمائة وثمان وتسعين مرَّة (2698) وهذا العدد يساوي حاصل ضرب (19 × 142).
وكلمة الرحمن تتكرَّر في القرآن كلِّه 57 مرَّة، وهذا العدد يساوي حاصل ضرب (19 × 3)، وكلمة الرحيم تتكرَّر في القرآن 114 مرَّة وهذا الرقم يساوي حاصل ضرب (19 × 6)، وقد ورد ذكر هذا العدد (19) في إحدى سور القرآن الكريم، وهي سورة المدَّثر، وجاء ذكره في سياق الآيات الَّتي تتحدَّث عن الَّذين يدَّعون أن القرآن الكريم من قول البشر، قال تعالى: {ذَرْني ومن خلَقْتُ وحيداً * وجعلتُ له مالاً ممدوداً * وبنينَ شُهوداً * ومَهَّدتُّ له تمهيداً * ثمَّ يَطْمعُ أن أزيد * كلاَّ إنَّه كان لآياتنا عنيداً * سأرْهِقُه صَعُوداً * إنَّه فكَّرَ وقدَّر * فَقُتِل كيف قَدَّرَ * ثمَّ قُتِلَ كيف قَدَّرَ * ثمَّ نَظَرَ * ثمَّ عَبَسَ وبَسَرَ * ثمَّ أدْبَرَ واستكبر * فقال إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَر * إنْ هذا إلاَّ قولُ البَشَر * سأُصْلِيه سَقَرَ * وما أدراك ما سَقَرُ * لا تُبقي ولا تَذر * لوَّاحةٌ للبشر * عليها تِسعةَ عشر} (74 المدثر آية 11ـ30).(1/335)
ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الوجه من الإعجاز عندما صرَّح بأنه جعل عدد الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، حيث عدَّه نوعاً من الاختبار والامتحان للذين لايؤمنون، عندما يعرفون ما لهذا العدد من مراعاة واعتبار في عدد الحروف أو الكلمات، أو غير ذلك ممَّا لا طاقة للبشر بمثله، ممَّا يشكِّل دليلاً واضحاً على أن مصدره هو الله تعالى. وكذلك هو برهان يقيني للذين أوتوا الكتاب على صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم في رسالته، وهو أيضاً سبب لتقوية إيمان المؤمنين وذهاب الرَّيبة والشَّك من صدور أهل الكتاب والمؤمنين فقال تعالى: {وما جعلنا أصحابَ النَّارِ إلاَّ ملائِكَةً وما جعلنا عِدَّتَهُم إلاَّ فتنةً للَّذين كفروا ليَستيقنَ الَّذين أُوتوا الكتابَ ويَزدادَ الَّذين آمنوا إيماناً ولا يرتابَ الَّذين أُوتوا الكتابَ والمؤمنونَ وليقولَ الَّذين في قُلوبِهِم مرضٌ والكافرون ماذا أرادَ الله بهذا مَثلاً كذلك يُضِلُّ الله من يشاءُ ويهدي من يشاءُ وما يَعلمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هوَ وما هي إلاَّ ذكرى للبشر} (74 المدثر آية 31).
الفصل الخامس:
القرآن والعلم
سورة العلق(96)
قال الله تعالى: {اقرأ باسمِ ربِّكَ الَّذي خلَق(1) خلَقَ الإنسانَ من علَق(2) اقرأ وربُّكَ الأكرم(3) الَّذي علَّمَ بالقلَم(4) علَّم الإنسانَ ما لم يعلم(5)}
ومضات:
ـ هذه الآيات هي أوَّل ما نزل من القرآن الكريم على رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والملفت للانتباه أنها تأمره أوَّل ما تأمره بالقراءة. فماذا يعني أن تضمَّ الآيات الخمس الأولى ستَّ عبارات تتعلق بالقراءة والكتابة، والعلم والتعليم؟ إن هذه الآيات تشكِّل افتتاحيَّة وحي السماء، وهذا يعني أن أهمَّ ما جاء الإسلام لتحقيقه هو نشر العلم بكلِّ فروعه.(1/336)
ـ ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ كتاباً ليقرأ سطوره لأنه كان أُميّاً، بل كان المطلوب قراءة ربَّانيَّة باسم الله الخالق العظيم، الَّذي خلق الإنسان من حوين صغير، يعلق في الرحم، بعد اتِّحاده بالبويضة.
ـ هذا الخالق العظيم، جعل من القلم أساساً للعلم، وبهذا القلم تعلَّم الإنسان كثيراً من المعارف، ومازال أمامه الكثير ليتعلَّمه.
في رحاب الآيات:
أوَّل أمر إلهي للإنسان الغارق في بحار الجهل والجاهلية، حمله إليه النبيُّ الأميُّ الكريم؛ {اقرأ} بكلِّ ما في هذه الكلمة من إيحاء إلى طَرْقِ أبواب العلم والمعرفة، ثمَّ أُتبعت هذه الدعوة إلى القراءة، بدعوة إلى أختها، وهي الكتابة بالقلم {الَّذي علَّمَ بالقلم} تنبيهاً وإشارة إلى أن حضارة الإسلام لن تُبنى إلا بالعلم، وعماد العلم البشري القراءة والكتابة.
والقراءة يجب أن تبدأ باسم الله، وكذلك كلُّ أمر، وكلُّ حركة، وكلُّ خطوة، وكلُّ عمل؛ فباسم الله نبدأ، وباسم الله نسير، وإلى الله نتَّجه وإليه تصير الأمور. فالقراءة عن الله وبالله هي العلم الحقيقي، وهي مفتاح ازدهار الحضارة الإيمانية، الحضارة الَّتي أثَّرت في الحضارات كلِّها، وأمدَّتها بجوهر العلوم ومفاتيح السعادة.(1/337)
والله هو الَّذي خلق، وهو الَّذي علَّم، فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة. ونبدأ من صفات الله بالصفة الَّتي بها الخلق والبدء، فهو خالق الإنسان من تلك النطفة العالقة بالرحم، من ذلك المنشأ الصغير المهين التكوين، فتدلُّ على كرم الخالق فوق ما تدلُّ على قدرته، فمن كرمه رفع هذا العلق، إلى درجة الإنسان، الَّذي يُعلَّم فيتعلَّم. وهنا تبرز حقيقة التعليم، تعليم الربِّ للإنسان بالقلم، لأن القلم كان ومايزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان، ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الَّذي نلمسه الآن، ونعرفه في حياتنا المعاصرة، ولكنَّ الله سبحانه يعلم أهميَّة القلم، فيتَّخذ منه رمزاً في أوَّل سورة من سور القرآن الكريم نزولاً، هذا مع أن الرسول الَّذي حمل هذه الرسالة، لم يكن كاتباً بالقلم، وما كان محمَّد صلى الله عليه وسلم ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى، لوكان هو الَّذي يبتدع هذا القرآن، إلا أن الأمر كان وحياً جاءه برسالة سماوية صادرة من عند الله، فمنه يستمدُّ الإنسان كلَّ ما علم، وكلَّ ما يعلم من أسرار هذا الوجود، وأسرار نفسه، فالوحي من هناك، من ذلك المصدر العلوي المقدَّس الفريد.(1/338)
فتبارك الله الأكرم، الَّذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه بالعلم على كثير ممَّن خلق، ورفعه به مقاماً عليّاً حين قال: {..يرفعِ الله الَّذين آمنوا منكم والَّذين أوتوا العِلمَ درجاتٍ..} (58 المجادلة آية 11). ومن الجدير بالذكر هنا أنه ليس المقصود بالعلم مجرَّدَ تحصيل العلوم الشرعية، وما يتصل بها، كما يفهم بعض الناس خطأً، بل هو مطلق العلم النافع في الدنيا والآخرة، والَّذي يهدي أهله لمعرفة قوانين الله تعالى فيما خلق وأوجد في هذا الكون، وتسخير ذلك لخدمة الإنسان ورفاهيَّته، ومن ثمَّ لتحضير المجتمع والسعي لرقيِّه وتمدُّنه. وهنالك أدلَّة كثيرة في كتاب الله تؤيِّد هذه الحقيقة وتدعمها، منها قوله تعالى: {إنَّ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأولي الألباب * الَّذين يَذْكُرونَ الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبهم ويتفَكَّرونَ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ ربَّنا ما خلَقْت هذا باطلاً سبحانَك فَقِنَا عذابَ النَّار} (3 آل عمران آية 190ـ191)، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بعد أن تلا هذه الآية: «ويلٌ لمن لاكها بين لَحْيَيْهِ فلم يتفكَّر فيها» (أخرجه عبد بن حميد وابن حاتم وابن حبان في صحيحه عن عطاء رضي الله عنه ).(1/339)
ففي هذه الآية إيحاءٌ من الله تعالى، لكي ينمِّي المسلم قواه العقلية، بدراسة علم الفلك وطبقات الأرض، والجبال والأنهار، ومن ثمَّ تسخير هذه القوى الكبيرة لخدمة الإنسان، فكلُّ ما نراه من حضارة راقية، ومدنيَّة زاهرة، هي من نتاج العقل المفكِّر. والإسلام حين دعا إلى التفكُّر وحثَّ عليه، إنما أراد ذلك لتنمية نطاق العقل وتوسيع مداركه، فدعا إلى النظر فيما خلق الله، في السموات والأرض، وفي الإنسان نفسه، وفي الجماعات البشرية، لأن وظيفة العقل هي التأمُّل والتفكير ومن ثمَّ الإبداع، فإذا بطل عمل العقل توقَّف تطوُّر الحياة وتجمَّد. وقد أراد الإسلام للإنسان أن ينهض من سُباته، فعدَّ التفكير والتعلُّم من جوهر العبادة، وحارب التقليد الأعمى، الَّذي يمنع العقل من الانطلاق والبحث، ويقف به عند حدود القديم المألوف، قال تعالى: {..إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهم مُقتَدون * قال أَوَلو جِئْتُكُم بأهدى مِمَّا وَجَدْتُم عليه آباءكُم قالوا إنَّا بما أُرسِلْتم به كافرون * فانتقمنا مِنْهُم فانْظُر كيف كان عاقِبةُ المكذِّبين} (43 الزخرف آية 23-25). ولولا يقظة العقل وتوجيه الله تعالى له، لما اهتدت البشرية إلى قوانين الحياة، وعِلل الوجود وسنن الله في الكون، ولبقيت كما خُلقت دون تطوُّر، ولكن العقل المستنير بنور العلم استطاع أن يستخرج من الأرض كنوزها، وأن يستنبت خيراتها، ويقرِّب المسافات البعيدة، ويكتشف القوانين في البرِّ والبحر والجو، لينفِّذ بذلك المهمَّة الَّتي كلَّفه الله بها، واستخلفه في الأرض من أجلها.(1/340)
إن هذه الآيات في أوَّل سورة العلق، وفي غيرها من سور القرآن، تعكس موقف الإسلام من العلم، وإن الباحث يرى أن هذا الموقف مع دلالته الَّتي لا حدود لها، على موقف الإسلام من العلم والمعرفة، والتعليم ومحو الأميَّة بكلِّ أشكالها، فإنه قد دُعِّمَ في القرآن الكريم بمواقف أخرى وآيات تتلى؛ تَقْرَع سمع البشريَّة ليل نهار، كي تهجر الجهل والجهلاء والجاهليَّة، وتُقبل على العلم والعلماء والتعلم والتعليم، فهناك سورة من سور القرآن تدعى بسورة القلم، حيث أقسم الله تعالى في هذه السورة، بالدَّواة والقلم، وما يُسَطِّرُ العلماء بالقلم والحبر من العلوم والمعارف، فقال تعالى: {ن والقلمِ وما يَسْطُرون} (68 القلم آية 1). لقد أقسم الله تعالى بِنُون، والنون هي الدَّواة وعاء الحبر، وأقسم بالقلم وأقسم بما يسطرون، كلُّ ذلك من أجل لفت الأنظار إلى أهميَّة ما أقسم به، وحثِّ المسلمين على العناية بالقراءة والكتابة، وأدوات العلم والمعرفة، لتحصيل المعارف، والتخلِّي عن الجهل والجاهليَّة وجعلها من مخلَّفات الماضي.
كما أن كتاب الله صرَّح في آيات كثيرة، بلزوم العناية بالعلم، وعلى رأسها أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن ورائه أُمَّتُه، بأن يدعو ربَّه طالباً منه أن يزيده من العلم، فقال تعالى: {..وقل ربِّ زدني علماً} (20 طه آية 114).
كما نوَّه بقدر العلم والعلماء، فقال سبحانه: {أَمَّنْ هو قانتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحذَرُ الآخرةَ ويَرجو رحمةَ ربِّهِ قلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يَتَذكَّرُ أولوا الألباب} (39 الزمر آية 9).(1/341)
وجَعَلَ العلم وزيادة المعرفة سبباً من أسباب زرع مخافة الله وخشيته في النفوس، فقال تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله أنزلَ من السَّماء ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مُخْتلفاً ألوانُها ومن الجبالِ جُدَدٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سُودٌ * ومن النَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ مُختلفٌ ألوانُهُ كذلك إنَّما يَخشى الله من عبادهِ العلماءُ إنَّ الله عزيزٌ غفور} (35 فاطر آية 27ـ28). (الجُدَدُ: هي الطرق المختلفة الألوان، والغرابيب: هي صخور متناهية السَّواد كالغربان)؛ فقد لفت الله الأنظار إلى عظمته في إنزال المطر من السماء، وكيف جعله سبباً لنموِّ النباتات والأشجار، وما تجود به من ثمار، وكيف خلق من الجبال صخوراً بيضاءَ وحمراءَ مختلفة الألوان، وسوداءَ قاتمة السَّواد، وخلق من الناس أجناساً، ومن الدوابِّ والأنعام أصنافاً، ثمَّ أَتْبع ذلك بقوله: إنما يخشى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماءُ، أي الَّذين اطَّلعوا ـ دراسة وتمحيصاً ـ على بديع خلقه ودقيق صنعه، أحقُّ وأحرى من غيرهم، بأن تنغرس في نفوسهم خشيةُ الله، وتملأ قلوبهم محبَّة الله ومهابته سبحانه.
فانظر كيف يوازن كتاب الله تعالى بين من يعلمون ومن لا يعلمون، ويصرِّح بأنه لا وجه للمقارنة بينهم، فهم لا يستوون مع بعضهم لا في الدنيا ولا في الدار الآخرة، ففي الدنيا؛ هم أهل الحَلِّ والعقد، وهم أصحاب الرأي والمشورة والدعوة إلى الحقِّ، والوقوف في وجه الجهل والجاهلية والخرافات والأوهام، وفي الدار الآخرة؛ لهم الدرجات العالية في أعلى الجنان.(1/342)
ولقد كثرت آيات القرآن الكريم الَّتي توقظ العقل وجميع الحواسِّ والمشاعر، كي تتفتَّح وتعمل، ومن ثمَّ تتوصَّل إلى معرفة الله سبحانه، فلا يكاد القرآن الكريم يذكر بديع صنع الله، ولا يسرد جانباً من عظمة الكون، ودِقَّة صنعه وشدَّة إحكامه، وخضوعه لنظام عامٍّ يحكمه، لا يذكر القرآن شيئاً من ذلك وما أشبهه، إلا وَيُتْبِعُ هذا الذكر بقوله تعالى: {أفلا تذكَّرون} {أفلا تعقلون} {أفلا تبصرون} {أفلا تتفكَّرون} وأمثال هذه التعابير، الَّتي تُعتَبر يداً رحيمة لطيفة ناعمة، تلامس أحاسيس الإنسان النائم أو السادر عنها، لأن يستيقظ ويرى آثار صنع الله وإبداعه، وكلُّ ذلك دعوة إلى العلم والتعلُّم والمعرفة، ونبذ للأوهام والأضاليل، ففي قوله تعالى: {وفي الأرضِ آياتٌ للموقنين * وفي أنفسِكم أفلا تُبْصرون} (51 الذاريات آية 20ـ21) دعوة صريحة إلى دراسةِ بديعِ صنعِ الله في الأرض، وفي جسم الإنسان ووظائف أعضائه، وفي قوله تعالى: {قلِ انظروا ماذا في السَّمواتِ والأرض..} (10 يونس آية 101) دعوةٌ إلى دراسة ماذا في السموات وماذا في الأرض، وهناك آيات وآيات في كتاب الله، منها ما يدعو إلى النظر إجمالاً كما في الآيات السابقة، ومنها ما يدعو إلى البحث والدراسة والتمحيص تفصيلاً، كما في قوله تعالى: {أفلا يَنظرونَ إلى الإبلِ كيف خُلقت * وإلى السَّماءِ كيف رُفعت * وإلى الجبالِ كيف نُصبت * وإلى الأرضِ كيف سُطحت * فَذَكِّر إنَّما أنت مُذَكِّر * لستَ عليهم بمُسَيْطر} (88 الغاشية آية 17ـ22). وقد أمرنا الله في هذه الآيات أن ننظر أوَّلا إلى الإبل، ثمَّ أتبعها بالسماء وهي مرتفعة كارتفاع هَامَةِ الإبل، ثمَّ أتبعها بالجبال الَّتي يشابه منظرها منظر سنام الإبل وتكوير ظهرها، ثمَّ ختمها بالأرض كيف سطحت، كما هي خفُّ الإبل مسطحة.(1/343)
إنَّ ما ذُكِر ما هو إلا جزء يسير ممَّا حواه كتاب الله تعالى، من دعوة إلى العلم والمعرفة، ونبذٍ للجهل والتخلُّف، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، فلم تكن هذه الدَّعوة الإلهيَّة صرخةً في واد ولا نفخاً في الرماد، إنَّما أثمرت وآتت أُكُلَها في رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، وفي المسلمين عامَّة؛ فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغِّب في العلم، ويدعو إليه، ويعتبر طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم، ويحذِّر من الجهل والجاهلية، ويَظهَر ذلك في أقواله وأفعاله:
أمَّا الأقوال: فسنسوق طائفة عطرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع وهي قليل من كثير: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» (رواه ابن ماجه وغيره) وكلمة مسلم اسم جنس تشمل الرجل والمرأة على السَّواء. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جاءه أجلُه وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النَّبيين إلا درجة النبوَّة» (رواه الطبراني في الأوسط). وعن واثِلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من طلب علماً فأدركه؛ كتب الله له كِفلين من الأجر، ومن طلب علماً فلم يدركه، كتب الله له كفلاً من الأجر» (رواه الطبراني في الكبير). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علَّم علماً أو كرى نهراً (أي أزال ما به من موانع تمنع جري الماء وتعيقه) أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته» (رواه البزَّار وأبو نُعَيْم في الحُلْيَة).(1/344)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة أن يتعلَّم المرء المسلم علماً ثمَّ يعلِّمه أخاه المسلم» (رواه ابن ماجه). وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العالم والمتعلِّم شريكان في الخير ولا خير في سائر الناس» (رواه ابن ماجه). وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علَّم علماً فله أجر مَنْ عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء» (رواه ابن ماجه). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يبعث الله العباد يوم القيامة ثمَّ يميِّز العلماء فيقول: يامعشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم لأعذِّبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» (رواه الطبراني في الكبير).(1/345)
وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم بالرحلة إلى طلب العلم، وحضَّ الناس على ذلك، عندما يحتاج طلب العلم إلى الهجرة من الوطن، واللَّحاق بالعلماء، كي يَعُبَّ المسلم من العلوم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال» (أخرجه ابن سعد في الطبقات والسيوطي في الدر المنثور). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة» (رواه مسلم وغيره). وعن زِرِّ ابن حُبَيْش قال: أتيت صفوان بن عسَّال المُرَادي رضي الله عنه قال: ما جاء بك؟ قلت أنبُطُ العلم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع» (رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم). وعن قَبِيصَةَ بن المخارق رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ياقبيصة ما جاء بك؟ قلت: كبرت سِنِّي ورقَّ عظمي، فأتيتك لتعلِّمني ما ينفعني الله تعالى به، فقال: ياقبيصة، ما مررتَ بحجرٍ ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لكَ» (رواه الإمام أحمد).
وفي الترغيب في حضور مجالس العلم ومصاحبة العلماء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مررتم برياض الجنَّة فارتعوا، قالوا: يارسول الله وما رياض الجنَّة؟ قال: مجالس العلم» (رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لقمان قال لابنه: يابني، عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء؛ فإن الله ليحيي القلب الميِّت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» (رواه الطبراني في الكبير).(1/346)
ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بجعل المدينة جامعة يأوي إليها طلاب العلم، بل وسَّع هذه الدائرة لتشمل الجبال والوديان والأعراب في باديتهم، فكان بحقٍّ الثائر الأوَّل ضدَّ الجهل والتخلُّف، وإمام النهضة العلمية، في تاريخ البشريَّة جمعاء، وها هو ذا يطلب إلى قبيلة متعلِّمة أن تعلِّم قبيلة جاهلة، ويطلب إلى القبيلة الجاهلة، أن تأوي إلى دور العلم كي تتعلَّم، أو يَلْحَقَ الطرفين عذاب شديد في الدنيا قبل الآخرة، فقد حمَّل العالم مسؤولية التعليم، وحمَّل الجاهل مسؤولية الهجرة إلى المعلِّم، والبحث عنه والأخذ من علومه، إذ أن العلم والتعلُّم والتعليم إجباري في ظلال دين الله الخالد، فعن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جدِّه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً، ثمَّ قال: ما بال أقوام لا يُفقِّهون جيرانهم ولا يُعلِّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهَوْنهم، وما بال أقوام لا يتعلَّمون من جيرانهم ولا يتفقَّهون ولا يتَّعظون؟ والله ليُعَلِّمَنَّ قوم جيرانهم ويُفقِّهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهَوْنهم، ولَيَتَعَلَّمَنَّ قوم من جيرانهم ويتفقَّهون ويتَّعظون أو لأعاجلنَّهم العقوبة ثمَّ نزل. فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قالوا: الأشعريِّين هم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب؛ فبلغ ذلك الأشعريِّين، فأَتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول الله ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشرٍ فما بالنا؟ فقال: ليُعلِّمنَّ قوم جيرانهم وليعظُنَّهم وليأمُرُنَّهم، وليتعلَّمنَّ قوم من جيرانهم ويتَّعظون ويتفقَّهون، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا، فقالوا يارسول الله! أنُفَطِّنُ غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم فأعادوا قولهم: أنفطِّن غيرنا؟ فقال ذلك أيضاً فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقِّهوهم ويعلِّموهم ويعظوهم» (رواه الطبراني في الكبير).(1/347)
فأيّ نظام عالمي عاقب الجاهل - أو كاد - على كونه أمِّياً؛ تهاون في تعلُّم القراءة أو الكتابة بل جميع أنواع العلوم والحكمة، سوى الإسلام؟ وأيّ نظامٍ عالمي هدَّد العالِم بالعقوبة؛ إن كتم علمه، فلم ينفع به الناس سوى الإسلام؟
وأمَّا الأفعال: فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته كلَّها معلِّماً، وداعياً إلى نشر العلم والمعرفة وتعميم ذلك، بعد أن كان العلم في تلك الحقبة من الزمن حِكْراً على أقلِّية محدودة من الأشراف، وكانت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله أوَّل خطوة على طريق تعميم العلم، وكان شعاره في ذلك: «ليس منِّي إلا عالم أو متعلِّم» (أخرجه ابن النجار والديلمي في الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه ). لقد خطا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأُمَّة الخطوة الأولى على هذه الطريق الطويلة، الَّتي اتَّخذت من شعار (العلم للجميع) مبدأً تسير عليه، وغاية تسعى للوصول إليها، فها هو ذا يأمر بتعليم الأطفال القراءة والكتابة، وها هو منذ الأيَّام الأولى لاستقراره في المدينة يأمر ببناء مساجد صغيرة في أحياء المدينة المختلفة، ويضع في كلٍّ منها قارئاً كاتباً، ويأمر الناس ـ كُلَّ الناس ـ أن يرسلوا أولادهم إلى تلك المدارس، الَّتي تعتبر بحقٍّ أوَّل مدارس ابتدائية رسمية عامَّة إلزاميَّة في التاريخ، فهو بحقٍّ صاحب السَّبْق في هذا الميدان، ولم يدع فرصة ولا مناسبة إلا واستغلَّها من أجل تحقيق هذا الهدف السامي والغاية النبيلة، فها هو ذا صلى الله عليه وسلم يأسر سبعين ممَّن عادَوْهُ بعد معركة بدر التي فرضوها عليه، ويفتدي الأسرى أنفُسَهم بدفع مبلغ من المال، لكن الَّذين يحسنون القراءة والكتابة، كان فداؤهم أن يعلِّم كلُّ واحد منهم، عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، فقد آثر التعليم على إجبارهم على دفع المال، مع شدَّة الحاجة إلى المال في ذلك الوقت، لأن التعليم يحقِّق جزءاً من الغاية الَّتي أُرْسِلَ من(1/348)
أجلها.
لقد كان من آثار هذا الموقف النبوي من العلم والمعرفة، أن نبغ أصحابه الكرام حتَّى وُصِفُوا بهذا الوصف؛ حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء. ولنأخذ نموذجاً من العلم النبوي الَّذي ظهر على لسان أحد صحابته الكرام، معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال: (تعلَّموا العلم، فإن تعلُّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قُرْبَة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنارُ سُبُل أهل الجنَّة، وهو الأنيس في الوحشة، والصَّاحب في الغُربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السرَّاء والضرَّاء، والسلاح على الأعداء، والزَّيْن عند الأَخِلاَّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تُقتَصُّ آثارهم، ويُقْتَدَى بفعالهم ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خَلَّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كلُّ رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامُّهُ، وسباع البرِّ وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظُّلَم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدَّرجات العُلى في الدنيا والآخرة، التفكُّرُ فيه يعدل الصِّيام، ومدارسته تعدل القيام، وهو إمام العمل والعمل تابعه، يُلهَمُهُ السُّعداء ويُحْرَمُهُ الأشقياء) (رواه ابن عبد البر النمري).(1/349)
لقد قام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشر رسالة العلم في ربوع الأرض كلِّها، وتتلمذ على أيديهم طائفة من خيار الناس، وانطلاقاً من هذا الهدي القرآني النبوي، راح المسلمون الأُول يتسابقون في مجالات العلم وميادينه المختلفة، فترجموا كتب الحضارة الإنسانية الَّتي سبقتهم واستفادوا من علومها وملكوا زمام المبادرة فيها، فكانوا أمناء على الحضارة الإنسانية، فقد حفظوها من الضَّياع، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل أضافوا حقائق جديدة وعلوماً جديدة إلى ما ورثوه عَمَّنْ سبقهم، ولقد لمع في تاريخ الحضارة الإنسانية مئات الأسماء، كلُّهم يُعَدُّ من أساطين العلم في تاريخ البشرية؛ من أمثال الغزالي، وابن رشد، والفارابي، والحسن بن الهيثم، وابن خلدون، والخوارزمي، وابن سينا، وابن نفيس وغيرهم من علماء الطِّب والعلوم والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم.
إن آثار هؤلاء العظماء التاريخيين الَّذين لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، إلا بفضل الدافع الإسلامي القويِّ على العلم والبحث العلمي، الَّذي حملهم على بذل أعمارهم سعياً وراء الحقيقة العلمية، وبعد أن وصلوا إليها حفظوها في مخطوطاتهم النفيسة، الَّتي تُعَدُّ الآن من كنوز المكتبات العالمية من عربية وأجنبية. إن نظرة واحدة إلى ما تحويه مكتبات واشنطن ونيويورك ولندن وباريز وبرلين والقاهرة ودمشق وغيرها من عواصم العالم، ترينا الثروة العلميَّة العملاقة الَّتي حوتها هذه المؤلَّفات، كلُّ ذلك انطلاقاً من موقف القرآن الكريم، وموقف رسول الإنسانية محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، من العلم والتعليم والمعرفة الإنسانية.(1/350)
ولابدَّ من وقفة صريحة أمام الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الَّتي تتحدَّث عن العلم والعلماء.. فالمتحدِّث عن علوم الشريعة يستشهد بهذه الآيات والأحاديث.. والمتحدِّث عن العلوم الحياتيِّة يستشهد بهذه الآيات والأحاديث نفسها.. ومن هنا استطاع المغرضون أن ينسلُّوا إلى عقول بعض الناس، ليؤكِّدوا لهم بأن المقصود من جميع هذه الشواهد القرآنية والنبويَّة هو الدعوة إلى تحصيل العلوم الشرعيَّة فقط. ودليلهم على هذا الزعم هو تخلُّف المسلمين عن الحضارة الأوربية الَّتي ارتقت بسبب الثورة الصناعية الَّتي قام بها الأوربيون والمبنيَّة على العلوم التَّجريبيَّة، متَّهمين الاسلام بأنه وقف حائلاً أمام مثل هذه الثورة، داعين المسلمين إلى اعتماد مبدأ العلمانيَّة الَّذي يعني تحييد دور الدِّين، أسوة بما فعله المسيحيون في البلدان الأوروبية، إبَّان ثورتهم على هيمنة الكنيسة وإعاقتها للتقدُّم العلمي في تلك البلدان، قبل عصر النهضة العلمية؛ وبالتالي على المسلمين التخلِّي عن الإسلام بدورهم، ليتمكَّنوا من اللحاق بركب الحضارة، دون الإشارة إلى أن الإسلام أو أيّاً من دعاته لم يقم بالدور السلبي نفسه الَّذي قامت به الكنيسة في أوربا، ضد التقدُّم العلمي للبشرية، بل كانت دعوة الإسلام إلى العلم دعوة واضحة وقويَّة، بلغت في بعض الأحاديث الشريفة مرتَّبة الفرض، كما يُستدلُّ من قوله صلى الله عليه وسلم «طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم» (رواه ابن ماجه وغيره)...(1/351)
وواقع الأمر أن معظم مفكِّري الحضارة الأوربية، يخشون على بلادهم من الإسلام، لأنهم يعرفون بأنه دين مفجِّر لجميع طاقات العقل والروح، وإلى أقصى الحدود.. بحيث سيعود بالمسلمين إلى دور الريادة كما كانوا، وبما كانوه سابقا، أي السبب في استيقاظ أوربة من سباتها العميق؛ الَّذي دفعتها الكنيسة إلى أحضانه.... وهذه بعض الشواهد الَّتي حفَّزت المسلمين الأوائل لسلوك المنهج العلمي، وتتبُّع طرائقه:
يقول سبحانه وتعالى في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أنَّ الله أَنزلَ منَ السماءِ ماءً }، إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ} (آية 27ـ28)... نجد أن المقصود هم علماء الطبيعة والحياة، بشكل خاص...
وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: {وفي الأرضِ آياتٌ للمُوقِنين} (آية 20) نجدها دعوة لتقصِّي علوم طبقات الأرض (الجيولوجيا).. ثمَّ يتبع تعالى ذلك بقوله: {وفي أنفسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} (آية 22) لتكون دعوة للاستزادة والتوسع في علوم الطبِّ والتشريح؛ بل وفي علم النفس أيضا.
وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إنَّ في خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليلِ والنهار لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَاب} (آية 190)، وكذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {هوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِنِينَ وَالحِسَاب مَا خَلَقَ الله ذلكَ إِلاَّ بِالحقِّ يُفصِّلُ الأياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون} (آية 5)، نجد في كلُّ ذلك نداء لعلماء الفلك؛ للمضيِّ قُدُماً في متابعة هذا العلم...(1/352)
فإذا عُدْنا إلى قوله عزَّ وجل في سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ}، لتأكَّد لنا أن هؤلاء العلماء، هم علماء الشؤون الكونية والحياتية بالدرجة الأولى؛ لأنهم كلَّما بحثوا ودقَّقوا في خلق الله، تبيَّن لهم دقَّة صنعه وإعجازه عزَّ وجل... ممَّا يثير في قلوبهم نوازع الخوف والرهبة، من عظمة الخالق فيما خلق.
إن مفاتيح العلوم الحياتيَّة هي العقل والتفكُّر والبصر والتدبُّر، وهي الأدوات الَّتي على المسلم أن يستعلمها من المهد إلى اللحد، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقرِّبني إلى الله تعالى فلا بُورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم» (رواه ابن عدي والطبراني وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها). هذه العلوم الَّتي كلَّما استزدت منها، كلَّما أعطتك المزيد عنها، وقد تنتهي أجيال دون أن ينتهوا من البحث فيها، حيث يأتي من بعدهم ورثة يتابعون البحث والاستقصاء ؛ وكأنِّي بهم وقد عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنَّة» (رواه الدارمي عن الحسن رضي الله عنه ). فبالله عليك؛ أيُّ علم نحيي به الإسلام، ونعطي الحماية للإسلام، وبه نعطي القوَّة للمسلمين سوى علوم الحياة المادية... وقد أكَّد هذه المقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا فقر أشدَّ من الجهل، ولا غنى أعودَ من العقل، ولا عبادةَ كالتفكُّر» (ورد في كنز العمال برقم 44135، عن أبي بكر بن كامل في معجمه، وابن النجار، مرويا عن الحارث بن علي). والجهل بالعلوم الحياتية هو الَّذي يوصل إلى الفقر طبعا، لأنها ـ أي العلوم الحياتية ـ سبب تكسُّب الإنسان وغناه، ولأنَّ العلوم الفقهية والتعبُّديَّة، ما كانت يوماً سبباً أو وسيلة للغنى المادي. وهذا ما نستخلصه من قول الله عزَّ وجل: {يرفع الله الَّذين آمنوا منكم(1/353)
والَّذين أوتوا العلم درجات} (58 المجادلة آية 11)، فالَّذين آمنوا هم على درجات وهذا من المنظور الشرعي، والَّذين أوتوا العلم هم أيضاً على درجات، وهم المعنيُّون بعلوم الكائنات والحياة ومختلف العلوم الأخرى.. علماً بأن جميع العلماء الَّذين سبق وعدَّدنا أسماءهم، جمعوا المجد من طرفيه؛ حيث كانوا فقهاءَ في الشريعة، علماءَ في الحياة، وحُقَّ لهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العلماءُ مصابيحُ الأرضِ وخلفاءُ الأنبياءِ وورثتي وورثةُ الأنبياء» (رواه أبو يعلى عن علي كرَّم الله وجهه).
سورة الرحمن(55)
قال الله تعالى: {يامعشرَ الجنِّ والإنسِ إن استَطَعْتُم أن تنْفُذوا من أقطارِ السَّمواتِ والأرضِ فانْفُذوا لا تنفُذون إلاَّ بسلطانٍ(33)}
ومضات:
ـ القرآن الكريم، وهو خاتم الكتب السماوية، يترك آفاق العلم مفتوحة أمام العقل البشري، وكأنَّه يحثُّنا على التفكير بإمكانيَّة الصُّعود إلى أرجاء السَّماء، ولكن ضمن إمكانيَّات معيَّنة، لا بُدَّ من معرفتها للوصول إلى هذا الهدف.
في رحاب الآيات:(1/354)
دأبَ بعض المفسِّرين في تفسير هذه الآية، على أنها أمر تعجيزي من الله عزَّ وجل، لمعشر الجنِّ والإنس على السَّواء، وإنذار لهم بأنهم لن يستطيعوا يوم القيامة، أن يخرجوا من جوانب السموات والأرض، هرباً من الحساب لأنه محيط بهم. إن تفسيرهم هذا مبني على ما توفَّر بين أيديهم من العلم والمعرفة آنذاك، إلا أن بعضهم الآخر ومنهم ابن عباس رضي الله عنه خرج عن قراءة السطور إلى تبيُّن ما وراءها فقال: معنى الآية هو: (إن استطعتم أن تعلموا ما في السَّموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان) ويتَّضح من هذا التفسير أن الإنسان يستطيع، إذا تسلَّح بسلطان العقل، والجهد المثمر والعمل الدؤوب، أن يصل إلى الذُّرى من العلم، ويحلَّ جزءاً من الرموز الَّتي أقام الله تعالى النُّظم الكونيَّة على أساسها، بإبداع وإعجاز بالغين. والحقيقة أن الله تعالى لم يقل بأننا لن نستطيع أن ننفذ بأي شكل من الأشكال، وما كان لأحد في عصرِ نزول القرآن، أن يتحدَّى مثل هذه المقولة، أو يتخيَّل إمكانيَّة حدوثها، إلا أنه جلَّ وعلا استعمل أسلوب الشرط {إنِ استَطَعْتُم} إيحاءً بأنه إذا تحقَّق الشرط، فإن هذا أمر جائز الحدوث، ولكن ضمن حدود طاقات الإنسان وقدراته.(1/355)
وقد قدَّم الله تعالى الجِنَّ على الإنس في الخطاب، لأن الإنسان ظاهر العجز عن الطيران، بقواه الذاتية، فهو غير مهيَّأ للطيران، بينما الجنُّ يطيرون في الفضاء، ويتمتَّعون بقوى خارقة. وفي هذا التقديم تنبيه لهم أوَّلاً أنهم معنيُّون بالأمر قبل غيرهم، وثانياً أن قدراتهم وقواهم مقيَّدة بإرادة الله تعالى وقدرته، فهم لا يستطيعون عنها حِوَلاً، ولو أراد الله أن يمنعهم فإن أمره نافذ لا محالة. أمَّا الإنسان فإن له شأناً آخر، فهذه الآية تثير تساؤله وتفكيره في أمر لم يكن يخطر له على بال، بل وكان يُعَدُّ ضرباً من ضروب الخيال. ويفتح القرآن الكريم بذلك ـ وهو خاتم الكتب السماوية ـ آفاق المستقبل أمامه بحضِّه على الأخذ بالعلم، وهو يطرح إمكانيَّة الصعود إلى أرجاء السماء في قوله {فانفذوا}، لكنه يقيِّد ذلك بالحصول على إمكانات معيَّنة سمَّاها بالسُّلطان، ويترك للإنسان أمر البحث عنها ومعرفتها، من أجل تحقيق هذا الهدف. وبالفعل فإننا نرى الإنسان، وبِمَلكةِ العقل والتفكير الَّتي وهبه الله إيَّاها، وفضَّله بها على غيره، يبحث بِجِدِّيَّةٍ وتصميم عن السلطان، الَّذي يكون له أداة ووسيلة، يخترق بها حجب الفضاء، ويتعرَّف بواسطتها المزيدَ ممَّا خلق الله تعالى، ملبِّياً لندائه عزَّ وجل في قوله: {قلْ انظروا ماذا في السَّمواتِ والأرضِ..} (10 يونس آية 101). ولا تقتصر الدعوة في هذه الآية على استعمال العين، بل تتعدَّاها إلى البحث والتجربة والاكتشاف، لأنه لا يمكن للعين المجرَّدة أن تحيط ببصرها بسماء واحدة فما بالنا بسموات متعدِّدة. والغاية من هذه الدعوة الإلهيَّة، استثارة هِمَّة الإنسان واستنهاض عزيمته، ليرى ما خلق الله ويتفكَّر به تفكُّر التَّدبُّر والإمعان، ومن ثمَّ الإذعان عن رضا لمن بيده مقاليد السموات والأرض، بعد أن يرى بعينيه تناسق هذا الكون وروعته وكماله، ممَّا لا يدع مجالاً للشَّك في أنَّ لهذا الكون، المتناهي في(1/356)
الدِّقة، مبدعاً عظيم الخلق والإبداع، ومن ثمَّ ليستفيد من ذلك كلِّه في تقدُّمه ورقيِّه الحضاري.
إن أمَّة تؤمن بمثل هذا الكتاب وما فيه من توجيهات وتعاليم، جديرة بأن تملأ طباق الأرض علوماً، وهذا ما بدأه المسلمون الأُوَل، فقد أصبحوا بفضل هذا الدِّين وما يدعو إليه؛ غُرَّةً في جبين الدهر، ولكن ومع بالغ الأسف، مرَّ على المسلمين حينٌ من الدهر، اكتفَوْا فيه من القرآن الكريم بالتلاوة، من أجل الثواب والبركة، وغفلوا عما فيه من حثٍّ دائم على الأخذ بأسباب العلم والتصنيع والبناء. فأدركوا إسلام الآخرة وفاتهم إسلام الدنيا، مع أن المسلم مأمور أن يدعو ربَّه قائلاً: {..ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (2 البقرة آية 201) ونجده قدَّم إسلام الدنيا على إسلام الآخرة، حثّاً عليه وتنبيهاً إلى عدم تضييعه، وفي الوقت نفسه أدرك الأوربيون ذلك عندما جاؤوا إلى مدارس الحضارة الإسلامية، في العصور الوسطى متعلِّمين، وبدؤوا بتطبيق ما تعلَّموه فيها، بينما انصرف المسلمون إلى التَّناحُر والتَّباغُض، وانزلقوا في تُرَّهات الجهل والظلام، وراحوا في سبات عميق امتدَّ بهم عدَّة قرون. ولا يخفى أن استخلاف الله عزَّ وجل الإنسان على هذه الأرض، قائم على العلم، منذ أن علَّم آدم الأسماء كلَّها، وهذا أساس دعوة الإسلام الَّتي رعت عصارة الفكر البشري، وحضاراته المتعاقبة، منذ وُجد على هذه الأرض، وأعطته الفرصة لكي يتطوَّر بمرور الزمن. وهكذا فإن على الإنسان ألا يدَّخِر جهداً في مواصلة مسيرته العلمية، لمعرفة واستكشاف ما خلق الله له وسخَّره من أجله، لتتهيَّأ له فرص الاستفادة منه، وليُثبت جدارته بهذا العقل الَّذي من أولويَّات مهامِّه، التعلُّم والتعليم، ليُسهم في بناء الصرح الأخلاقي والحضاري، قال تعالى: {ألم تَرَوْا أنَّ الله سَخَّرَ لكم ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وأسْبَغَ عليكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطنَةً(1/357)
ومن النَّاسِ من يُجادِلُ في الله بغيرِ علْمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ مُنير} (31 لقمان آية 20).
سورة السجدة(32)
قال الله تعالى: {الله الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وما بينَهُما في ستَّةِ أيَّامٍ ثمَّ استوى على العرشِ ما لكم من دونِه من وليٍّ ولا شفيعٍ أفلا تَتَذكَّرون(4) يُدبِّرُ الأمرَ من السَّماءِ إلى الأرضِ ثمَّ يَعْرُجُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ ألفَ سنةٍ ممَّا تَعُدُّون(5)}
سورة المعارج(70)
وقال أيضاً: {تعْرُجُ الملائكَةُ والرُّوحُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ خمسينَ ألف سنة(4)}
ومضات:
ـ من العبث بمكان أن نلجأ إلى قياس أبعاد هذا الكون بأرجائه الفسيحة بالوحدات القياسية المعهودة الَّتي تقاس بها أبعاد الكرة الأرضية، لذلك لجأ العلماء إلى ابتكار وحدة قياسية عملاقة هي السنة الضوئية، لحساب المسافات الكونية بشكل تقريبي، لمساعدة العقل البشري على إدراكها، ومع ذلك فإن مسألة إحصائها وحسابها بشكل دقيق لا تزال في حكم المستحيل لعِظَم هذا الخلق، فتبارك الله تعالى أعظم الخالقين. والسنة الضوئية هي المسافة الَّتي يقطعها الضوء بسرعته الَّتي تبلغ 300.000كم في الثانية، فإذا سار الضوء مدَّة سنة بهذه السرعة فالمسافة الَّتي يقطعها تُعَدُّ سنة ضوئية.
ـ إذا كان العقل البشري لا يزال قاصراً عن الإحاطة بالقياسات الكونية الَّتي تتعلق بالحياة الدنيا، فأنَّى له أن يتصوَّر حقيقة الزمان والمكان في عالم الآخرة، من هنا ينبغي على العقل أن يسلِّم بأن هناك فرقاً شاسعاً بين المقاييس الدنيويَّة والأخرويَّة، وأن هذا الأمر منطقي وطبيعي.
في رحاب الآيات:(1/358)
إنه الله سبحانه وتعالى خلق كلَّ شيء فأبدع خلقه، وهذه هي بعض آثار أُلوهيَّته ودلائلها، نلمسها في صفحة الكون المنظور، وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود، وفي نشأة الإنسان وأطواره الَّتي ذكرها الله في كتابه المبين، والَّتي كشف العلم عن بعضها ومازال يبحث جادّاً للكشف عن المزيد منها!.
وهاهو ذا القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان ليدقِّق في معالم الأرض أمامه، ويسعى جاهداً إلى كشف مجاهيل السماء ليتعرَّف من خلالها خالِقَهُ الَّذي أبدع كلَّ شيء، فالله وحده هو خالق السموات والأرض وما بينهما، وله وحده هذا الملكوت الهائل العظيم، الَّذي يقف الإنسان مبهوراً مدهوشاً أمام صنعته الجميلة، المنسَّقة الدقيقة التنظيم، والَّذي لا يرى فيه البصر ولا الحِسُّ ولا القلب موضعاً للنقص أو التناقض، ولا يذهب التكرار والأُلفة بجاذبيَّته المتجدِّدة العجيبة، ثمَّ هذه الخلائق المتعدِّدة الأنواع والأجناس، الخاضعة كلُّها لناموس واحد، المنسجمة كلُّها في نبض واحد، المتَّجهة كلُّها إلى مصدر واحد، تتلقَّى منه التوجيه والتدبير، وتتَّجه إليه بالطاعة والتسليم. لقد خلق الله هذه العوالم جميعها في ستة أيام، وهذه الأيام ليست من أيام الأرض الَّتي نعرفها، فأيام الأرض مقياس زمني ناشئ من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة. وقد كشف العلم النِّقاب عن نجوم تستغرق دورتها حول نفسها ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات، وهذه الحقيقة تقرِّب إلى الذِّهن اختلاف المقاييس بين يوم الأرض ويوم السماء. وهكذا فإنه كلَّما تقدَّمت علوم الفضاء كلَّما ازدادت مصداقيَّة القرآن الكريم ظهوراً وتحقَّق إعجازه العلمي.(1/359)
أمَّا حقيقة هذه الأيام الستة فعلمها عند الله، وهي من أيامه الَّتي يقول عنها: {..وإنَّ يوماً عند ربِّكَ كألفِ سنةٍ ممَّا تَعُدُّون} (22 الحج آية 47) فقد تكون ستة أطوار، مرَّت بها السموات والأرض وما بينهما، حتَّى انتهت إلى ما هي عليه، أو ستة مراحل في النشأة والتكوين، وهي على أيِّ حال شيء آخر غير الأيام الأرضية، والقصد من هذا التعبير الدلالة على التأنِّي في الأمور، تعليماً لنا وإرشاداً.
وبعد الخلق وتدبير الأمر استوى ربُّ العزَّة على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا مُماثلة. والاستواء على العرش يؤكد استعلاءه على مخلوقاته كلِّهم، وتمكُّنه منهم، وقدرته عليهم، أمَّا العرش فلا سبيل إلى تصوُّره، ولا طائل من الوقوف عند لفظه، فهو من علم الله وحده ولا سبيل إلى معرفته، وفي ظلال هذا الاستعلاء المطلق، يستشعر الإنسان عظمة الخالق وضآلة المخلوق، وقوَّة الخالق وضعف المخلوق. وفي ظلِّ هذا الضعف البشري، والجلال الإلهي، لا يعقل أن يتَّخذ الإنسان العاقل وليّاً غير الله؛ يشمله برحمته وعنايته في أمور دنياه، ويغفر ذنوبه ويشفع له في مواقف الآخرة.
إن تذكُّر هذه الحقيقة من شأنه أن يَرُدَّ القلب إلى الإقرار بعظمة الله وقدرته على التدبير؛ وهل غير الخالق يستطيع أن يدَبِّر أمور خلقه؟ وتدبير الأمر هو النظر في عاقبته ليجيء محمود النتيجة، كاملاً، متوازناً. والله هو الَّذي يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض، ثمَّ يعرج إليه الرُّوح والملائكة في يومٍ يقول الله تعالى عنه: {تعْرُجُ الملائكَةُ والرُّوحُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ خمسينَ ألف سنة} حيث يصعد فيه الملائكة وجبريل عليهم السَّلام إلى مواضع لا يصل إليها الإنسان، إلا بقدرة الله سبحانه، والمراد من ذكر الخمسين ألف، شدُّ العقل والتفكير إلى قانون الأعداد الكبيرة، والإيحاء بعظمة المقام الإلهي الأقدس، والكناية عن شِدَّة سُمُوِّه ورفعته.(1/360)
إن صعود الملائكة في هذا اليوم والمهامَّ الموكولة إليهم، لا ندري من أمرها شيئاً، وحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهميَّة يوم القيامة وغيره من أيام الله، فقد أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: ما أطول هذا اليوم! فقال: والَّذي نفسي بيده إنه ليُخَفَّف على المؤمن حتَّى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصلِّيها في الدنيا».
الفصل السادس:
القرآن والتصنيع
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيِّناتِ وأنزلنا معهمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ النَّاسُ بالقِسْطِ وأنزلنا الحديدَ فيه بأْسٌ شديدٌ ومنافعُ للنَّاسِ وليَعْلَمَ الله من ينصُرُهُ ورسلَهُ بالغيبِ إنَّ الله قويٌّ عزيز(25)}
ومضات:
ـ أرسل الله تعالى رسله بالتعاليم البيِّنة الواضحة، للنهوض بالأمم ورقيِّها، وأنزل معهم الشرائع والطرائق، الَّتي تضبط أمور الناس بالدقَّة والنظام البالغين، على أسس من العدل والتَّوازن، ليأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ويسير ركب الحياة نحو الأفضل.
ـ حدَّدت الآية الكريمة مرتكزات الحضارة الإنسانية في العلم المقرون بالكتاب، وفي الحقِّ والعدل المقرونان بالقسط، وفي القوَّة المقترنة بالتصنيع، وجعل من هذه الأسس امتحاناً لمعرفة مدى نصرة من يلتزم بها لدين الله القائم على العلم والقوَّة والعدل.
ـ إن الله قويٌّ عزيز، وبالتالي فالمؤمنون المرتبطون بالله تعالى أقوياء به وأعزَّاء.
في رحاب الآيات:(1/361)
إذا ثارت غريزة حُبِّ التملُّك عند الإنسان وطغت، دفعته للاستيلاء على كلِّ ما يحلو له، سواء بالحقِّ أم بالباطل، بالطرق السويَّة أو الملتوية، لذلك جاءت شرائع السماء بالعدل لتنظِّم الحقوق والواجبات، وليأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه ويؤدِّي كلٌّ واجبه، مستندة بذلك إلى الميزان العقلي والفكري لتتعادل أمور الحياة، ولتستقيم شؤون الناس الخاصَّة والعامَّة، وليرتقوا نحو الأفضل باستثمار الامكانات المادية المتاحة لهم. فكلُّ الرسالات السماوية جاءت لتقرَّ في الأرض، ميزاناً ثابتاً، ترجع إليه البشرية، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والناس، وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المنافع والمصالح، ميزاناً لا يحابي أحداً لأنه يَزِنُ بالقسطاس الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد لأن الله رَبُّ الجميع؛ والميزان هو القانون والعدل والتَّوازن، الَّذي يُحْكَمُ به بين الناس في الأرض، وإلى ذلك تشير الآية في جزئها الأوَّل. أمَّا في جزئها الثاني فهي تشير إلى الحديد بقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} دلالة على إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث، وقد خصَّ الله تعالى الحديد بالذِّكر لأنه رمز الصناعة، ومعيار قوَّة الأمم في الحرب والسلم، حتَّى إن الحضارة المعاصرة تكاد تكون قائمة على تصنيع الحديد ومشتقَّاته.
إن الربط بين تعاليم السماء، وحُسن الاتِّزان وإشاعة العدل من جهة، وبين الحديد من جهة أخرى، لم يأتِ في الآية عبثاً، فما كان لأُمَّة متفرقة يَقْهَرُ أفرادها بعضهم بعضاً، أن تحقِّق لنفسها النُّهوض الصناعي والتقدُّم الحضاري، ولو ملكت المواد الخام؛ لافتقارها إلى العلم والتفكُّر، والعمل الدؤوب المخلص، الممزوج بالتوادد والتَّراحم، فما كان لهذا العلم أن يربو في أجواء الحقد والغلِّ، والتشاحن والاستهتار.(1/362)
ولقد خلق الله عزَّ وجل الحديد لترقى به الأمم في استعمالاته المدنية والعسكرية كافَّة، وليرى الله من يَقْدِرُ على نصرة دينه ورسله، باتِّباع تعاليمه، وتطبيقها بجديَّة وإخلاص، فكلُّ ما خلقه الله تعالى وسخَّره لنا، علينا أن نستفيد منه، وهذا هو المقصود من اتِّباع التعاليم الإلهية، فلا يقتصر الأمر على أداء العبادات الجسدية، بل إن كلَّ عمل ينفع المخلوقات يصبح عبادة. وبهذا نستمدُّ قوَّتنا من قوَّته تعالى، وعزَّتنا من عزَّته، فإن أصابنا الضعف والوهن، فبسبب خلل في علاقتنا مع حضرة الله، وبسبب سوءٍ في تطبيقنا لأوامره، المسعدة لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا.
ولا يسعنا عند ذكر هذه الآية الكريمة إلا أن نقف بإجلال وإكبار لهذا الكتاب الخالد، الَّذي حوى معجزات لا تحصى، بل إن الله سبحانه أودع فيه معجزات لأهل كلِّ زمان، حتَّى تبقى حجَّة الله قائمة على العباد، بأن هذا الكتاب كتاب الله، وليس كتاب غيره من المخلوقات.
لقد أثبت البحث العلمي، أن الحديد على الأرض، هو نتيجة اصطدام الشهب والنيازك بالأرض خلال الأحقاب الماضية، ولقد عبَّر القرآن عن ذلك بعبارة: {وأنزلنا الحديد}، ولم يقل خلقنا لكم الحديد، على أنه عندما تكلَّم عمَّا في الأرض، ذكر عبارة: {خلقَ لكم}، كما في قوله تعالى: {هو الَّذي خَلَقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً..} (2 البقرة آية 29)، فلينظر الإنسان كيف جاء البحث العلمي موافقاً، لحقيقةٍ ذَكَرَها القرآن، من قبل أن يدركها العلماء بقرون عديدة.(1/363)
ومن جهة أخرى فقد ذكر سبحانه أنه أنزل الحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس، أمَّا البأس الشديد، فهو إشارة إلى استخدامه في الصناعات الحربية، وعندما تعرَّض لذكر ذلك الاستخدام، أشار إلى السلاح الدفاعي، ولم يذكر السلاح الهجومي، تأكيداً على الروح السِّلمية لهذا الدِّين الخالد، فقال الله تعالى: {ولقد آتينا داودَ مِنَّا فضْلاً ياجبالُ أَوِّبي معَهُ والطَّيرَ وأَلَنَّا له الحديد * أنِ اعملْ سابغاتٍ وقدِّرْ في السَّرْدِ واعملوا صالحاً إنِّي بما تَعملون بصير} (34 سبأ آية 10ـ11) والسَّابغات هي الدُّروع الَّتي تقي لابسها شرَّ السلاح الهجومي الَّذي يستعمله الطرف المعادي. ولا نجد في القرآن إشارة إلى صنع السُّيوف أو الرِّماح وغيرها من أسباب القوَّة، إلا في إطار الاستعداد لما يُعِدُّه العدو للمسلمين، من قوَّة وشدة بأس، وهذا لا يخرج عن إطار الدفاع.
وأمَّا الاستعمال الآخر للمعادن، والَّذي ذكره الله سبحانه في معرض سرد بعض النعم، الَّتي أنعم بها على الإنسان، كي يلفت أنظار المسلمين إلى ما أودع في المعادن، كالقِطْر (وهو النُّحاس) من فوائد ومنافع يمكن استخدامها في الأغراض المدنية، فقال سبحانه عن سيِّدنا سليمان: {..وأسَلْنا له عينَ القِطْرِ ومنَ الجنِّ من يعملُ بين يديه بإذن ربِّه ومن يَزِغْ منهم عن أمرِنا نُذقْهُ من عذابِ السَّعير * يعملون له ما يشاءُ من محاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجَوابِ وقدورٍ راسياتٍ اعملوا آل داودَ شُكراً وقليلٌ من عباديَ الشَّكور} (34 سبأ آية 12ـ13).
الفصل السابع:
تلاوة القرآن
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فاستمعوا له وأنصتوا لعلَّكم تُرحمون(204)}
ومضات:(1/364)
ـ لا يُصْغي المريض عادة إلى تعليمات الطبيب، ليطرب بصوته أو يأنس بكلامه، وإنما ليتدبَّرها برويَّة وإمعان، ثمَّ ينفِّذها حفاظاً على صحة جسده. وكلمات القرآن الكريم فيها تعليمات تشفي الروح والجسد، وعلينا أن نستوعب معانيها بدقَّة وانتباه، وننفِّذ وصاياها بحرص وعناية، لنصل إلى الغاية المرجوَّة منها، وهي سعادتنا في الحياة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء، ولتكون أماناً لنا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.
في رحاب الآيات:
القرآن الكريم كلام الله الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المُتَعبَّد بتلاوته، في آياته تكمن الحكمة، وفي سطوره الشفاء، وفي حناياه النور، يغزو القلوب فيحيي مَوَاتَها، لا يَخْلَق على مرِّ الزمن ولا يبلى مع تقادم الأيام، أُنزل من لدن حكيم عليم ليكون شريعة ومنهاجاً للبشرية إلى قيام الساعة. وقد حثَّنا الرسول الكريم على قراءته المستديمة، حيث ورد عن أبي أُمامة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (رواه مسلم) فتلك العطايا الَّتي يحملها القرآن، لا تُغْدَق علينا، إن لم نُعْطِهِ أذناً صاغية، وعقلاً واعياً.
وعلى المستمع للقرآن أن يتأدَّب في مجلس التلاوة، فيكون خاشعاً مدركاً لما يسمع، محاولاً تفهُّم آياته وتدبُّرها، مستعداً للعمل بها وتطبيقها، لتتحوَّل من كلام مسموع، إلى عمل ملموس وسلوك محسوس. لذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقلون من آية إلى أخرى حتَّى يحسنوا فهم الأولى وتطبيقها التطبيق الكامل؛ فالقرآن أُنزل ليكون منهاجاً للتربية، لا قولاً يُتَغَنَّى به، ولا نغماً يُتَرَنَّم بترديده.(1/365)
والإنصات يكون بالقلب والعقل معاً، ليخترق نور القرآن الأذن الخارجية إلى شغاف القلب، والحجب الَّتي تستره، فتدبُّ فيه الحياة، ورُبَّ آية سمعها الإنسان ووعاها، حرَّكت مكامن الخير في نفسه، وألهبت مشاعره، واستدرَّت دموع الخشية من عينيه، وغيَّرت مسيرة حياته من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن البعد عن الله إلى القرب، ومن القسوة إلى الرحمة. وليست قصَّة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببعيدة عن الأذهان، فقد سمع آية من آيات الله تُتلى، حين تسلل إلى أذنه صوت القارئ وهو يردِّد قول الله تعالى: {طه * ما أنْزَلْنَا عليك القرآنَ لتشقى * إلاَّ تذكِرَةً لِمن يخشى} (20 طه آية 1ـ3) فهوى الصنم المعبود من سماء قلبه إلى غير رجعة، وارتفعت مكانه كلمة التوحيد، وأعلن إسلامه بعد أن كاد الجميع ييأَسون من ذلك.
والاستماع إلى القرآن له مثوبة كبيرة عند الله تعالى، فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله كُتِبَتْ له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة». ولكن نور القرآن لا يدخل القلوب الملوَّثة بشهوات الدنيا وتعلُّقاتها، فلابدَّ قبل الاستماع من ذكر الله ذكراً ممزوجاً بالحبِّ والاطمئنان، مُفعماً بالخوف والتضرُّع والرجاء، في آناء الليل وأطراف النهار، وبذا تحدث للقلب صحوته، وترتدُّ إليه عافيته، فتثمر آيات القرآن فيه.(1/366)
وأوَّل الثمرات الَّتي يجنيها المستمع من تلاوة القرآن، هي انشراح الصدر الَّذي يهدي إلى الإيمان، من غير حاجة إلى حجَّة أو برهان. ولكي يصل المرء إلى اليقين الصادق، ينبغي عليه أن يترجم تلاوة القرآن، وتفسيره وفهمه فهماً عميقاً، إلى واقع وعمل. وبهذا يزداد اعتقاده رسوخاً وعمله خصوبة، فيكون سماع التلاوة كإلقاء البذرة في التربة، وتكون الدراسة للآيات والعمل بها، كالسِّقاية والرِّعاية لها، حتَّى تنمو تلك البذرة، وتقوى وترتفع شجرة طيِّبة راسخة. عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (رواه مسلم) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المؤمن الَّذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة ريحها طيِّب وطعمها طيِّب» (متفق عليه).
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {فإذا قرأتَ القرآنَ فاستَعِذْ بالله من الشَّيطانِ الرَّجيم(98) إنَّه ليس له سُلطَانٌ على الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون(99) إنَّما سلطَانُهُ على الَّذين يتَوَلَّونَهُ والَّذين هم به مُشْرِكُون(100)}
ومضات:
ـ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، تهيئة للجو الَّذي يُتْلى فيه كتاب الله، وتطهير للقلب من الوسوسة، وإخلاصٌ لله بحيث لا يشغله عنه شاغل.
ـ لا يمكن لظلمة الشيطان أن تصمد أمام نور الله، المستقر في قلب المؤمن ولا أن تقاومه.
ـ أولياء الشيطان هم من استسلموا لنوازعه وفِتَنِهِ، وتحالفوا مع أعوانه وأتباعه، وهم أوَّل من ينزلق بين براثنه، فينالهم من شروره ألوان شتَّى.
في رحاب الآيات:(1/367)
نور القرآن يباعد بين الإنسان والشيطان، ويحيي قلب الإنسان بماء الإيمان، ويحقِّق له الصلة مع حضرة الله والتوكُّل على فضله. فالشيطان حقيقة واقعة، وخلق من مخلوقات الله، أعطي العلم والقوَّة، ولكنَّ العُجْبَ والاستكبار سيطرا عليه، فتعالى على غيره من مخلوقات الله ـ وأَوَّلُهُمْ آدم عليه السَّلام أبو البشريَّة ـ فباء بالخسران والطرد من رحمة الله. لذلك ما فتئ يخطِّط ويكيد لكي يبعد آدم وذريَّته عن ورود موارد عطاءات الحضرة الإلهية، وعن كلِّ ما يُقَرِّبهم إليها. والقرآن الكريم هو ألدُّ أعداء الشيطان لأنه يكشف خططه وحبائله وينير للمؤمنين الطريق إلى حضرة الله، لذلك نصب الشيطان شِراكه ليبعد الناس عن تلاوته. إلا أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تفقده القوَّة والسيطرة، فتردُّ كيده إلى نحره، ويندحر مذموماً مقهوراً، لأن قدرته على الإغواء والإضلال، تتلاشى أمام نور الإيمان وقوَّة التوكُّل، فسلطان الإيمان والتوكُّل مبدِّد لكيد الشيطان ووسوسته.
والمؤمنون الَّذين يتوجَّهون إلى الله وحده، ويخلصون قلوبهم له، لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم مهما اجتهد في ذلك، لأن صلتهم بالله تعصمهم من الاستسلام له، ولو أخطؤوا مرَّة وانزلقوا وراء وساوسه فإنهم لا يسترسلون، وسرعان ما يتوبون إلى ربِّهم ويستغفرون. وإنما سلطانه على الَّذين يجعلونه وليّاً لهم، ويُسْلِمُون له قيادتهم لإرضاء شهواتهم وإشباع نزواتهم.
وأمَّا الاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم فلها فوائد كثيرة، منها:
1 ـ أنها تجعل القارئ يتذكَّر حقيقة الشيطان، ويتفكر في أمره، وكيف صار شيطاناً رجيماً ـ بعد أن كان مخلوقاً كريماً ـ بفسقه عن أمر ربِّه؛ حيث أبى السجود لآدم واستكبر. هذا التذكُّر يدفع القارئ إلى أن يهيِّيء نفسه لأن يأتمر بما جاءه من أوامر الله تعالى في القرآن، وينتهي عما نهاه عنه احترازاً عن المخالفة، فيزداد خشوعاً وتواضعاً أمام جلال الله وعظمته.(1/368)
2 ـ للاستعاذة تأثير فعَّال على تالي القرآن، حيث تمنحه الصفاء من وساوس الشيطان، وتنقِّيه من حديث النفس وهواجسها؛ ليشعر بحلاوة كلام الله، فتزكو نفسه وينجلي قلبه بنور الله.
3 ـ الاستعاذة خطوة أوَّلية نحو فهم وإدراك كلِّ كلمة وإشارة في القرآن الكريم، إذ أنَّ هناك حقائق ومعانيَ لا يعيها إلا قلب مطهَّر من الوساوس.
وللاستعاذة بالله في سائر الظروف، فضل كبير في إزالة الغضب وإشاعة الهدوء في النفس، فقد روى البخاري ومسلم عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: «استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمَرُّ وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
إلا أن التلفُّظ بالاستعاذة وحده لا يُجدي، إن لم يَجْمَعِ القارئ في قلبه بين الإيمان والتوكُّل على الله؛ فالإيمان نور والتوكُّل يقين، فلابدَّ أن يستقِرَّا معاً في وعاء القلب، ليشكِّلا رادعاً في وجه الشيطان، ولجوءاً لقوَّة الله وحفظه وأمنه. وتبقى للشيطان سيطرة على ضعاف النفوس، ممَّن حكمت الأنانية تصرُّفاتهم، واحتلَّت الأهواء ساحة قلوبهم، لتصبح مرتعاً له، فصاروا بذلك أدواتٍ منفِّذةً لرغائبه في الإفساد والتخريب، وأولياء له من دون الله الواحد القهار.
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لَرأيْتَهُ خاشعاً مُتَصدِّعاً من خشيةِ الله وتلك الأمْثَالُ نضْرِبُها للنَّاس لعلَّهم يتفكَّرون(21)}
ومضات:
ـ إن في القرآن الكريم هدياً إلهياً، لو أوحى به الله تعالى إلى الجبال، لخشعت وتصدَّعت على قساوتها، لأنها مخلوقات مبرَّأة من الأهواء والعناد، وفي هذا باعث للإنسان ليتفكَّر بهذا القرآن، ويحسن تدبُّره بعيداً عن نزغات الهوى والضلال.
في رحاب الآيات:(1/369)
القرآن الكريم علم إلهي متكامل، وضَّاءٌ بالنور الساطع من خلال حروفه وكلماته وسطوره، وهو دستور لحياة الإنسان المادية والروحية، يتضمَّن شيئاً عن تاريخ من سبق، وأنباءً عن بعض ما سيحدث. إنه كتاب فريد، حوى أخبار السماء والأرض والعوالم والنجوم، وعلم ما نعلم وما لا نعلم، فيه من فيض الرحمة ما لم تقدِّمه أمٌّ لوليدها، وفيه من أصناف التهديد ما يقشعرُّ من هوله جبابرة الأبطال، وفيه من دقَّة الإحكام وروعة البيان ما يعجز عنه اللسان، وفيه من العطاء الإلهي ما يفوق كلَّ تصوُّر وخيال. هذه الآيات الإلهية والحِكَم الربَّانية لو أدْرَكَتْها رواسي الأرض وشوامخ الجبال، بما فيها من حسٍّ مركَّز في ذرَّاتها؛ لذابت وانهارت أمامها، كما لو أن الخشية براكين عملاقة، انفجرت في أعماقها، فهدَّت كيانها ونقضت بنيانها، على الرغم من أنها خرجت من أعماق ذاتها.(1/370)
إن لهذا القرآن هيمنةً وسلطاناً وأثراً روحياً محرِّكاً، وفي اللحظات الَّتي يكون فيها الكيان الإنساني متفتِّحاً ومستعدّاً لتلقِّي شيء من حقيقته، يُحْدِثُ في نفسه من التغيُّرات والتحوُّلات، ما يمثِّله فعل المغناطيس في عالم المادَّة والكهرباء بالأجسام أو أشد. ولكن هذه اللحظات المضيئة في حياة الإنسان قليلة، إذا ما قورنت باللحظات المعتمة الَّتي تنسحب على معظم حياته، لذلك نجد الآية الكريمة تستثير مشاعر الإنسان الَّذي لا يخشع عند تلاوة القرآن، ويُعرض عمَّا فيه من توسعةٍ لمدارك العقل والفكر وآفاق الروح. ولهذا فقد كان لهذه الآية مكانة عظيمة بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرَّات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وَكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يصلُّون عليه حتَّى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» (رواه الترمذي)، وهذه الآيات قوله تعالى: {هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هو عالِمُ الغيب والشَّهادةِ هو الرَّحمن الرَّحيم * هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هو المَلكُ القدُّوسُ السَّلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبَّار المتكبِّرُ سُبحانَ الله عمَّا يشركونَ * هو الله الخالقُ البارئ المصوِّر له الأسماءُ الحسنى يسبِّح له ما في السَّمواتِ والأرضِ وهو العزيز الحكيم} (59 الحشر آية 22ـ24).
وغنيٌّ عن القول: أنّ قراءة هذه الآيات الكريمة بعد الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في مستهل النهار، هو تجديد يومي للبيعة من العبد المؤمن مع حضرة الله، متعهداً فيها قضاء يومٍ مثمر، يبذل فيه كلَّ أسباب الخير والبناء والتَّقوى مع جميع الخلائق، بإذن الله وعنايته وتوفيقه.
الفصل الثامن:
الآيات المحكمات والمتشابهات
سورة آل عمران(3)(1/371)
قال الله تعالى: {هوَ الَّذي أَنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ محكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فأمَّا الَّذين في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وابتِغَاءَ تأويلِهِ وما يَعلَمُ تأويلَهُ إلاَّ الله والرَّاسِخونَ في العِلمِ يَقولونَ آمَنَّا به كُلٌّ من عند ربِّنا وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الأَلبَابِ(7)}
ومضات:
ـ بُنِيَ الإسلام على أركان واضحة ومحكمة، وامتدَّت أحكامه لتشمل آفاقاً لم يدركها عامَّة الناس في زمانهم، وتعرَّضت في تأويلها إلى عبث العابثين، وانتحال المضلِّين، بغية التخريب الاجتماعي، وتحقيق مصالح معيَّنة أو غايات خبيثة.
ـ إذا أردنا فهم جميع آيات الله وأحكامه، والَّتي من هدفها تلبية حاجات الناس في كلِّ زمان ومكان، فعلينا أن نلجأ دائماً إلى العلماء الراسخين في العلم، الوارثين من فكر رسول الله عليه السَّلام ومن علمه، أصحاب القلوب المزكَّاة، والعقول المستنيرة، المدركة للعلوم الكونية والروحية.
ـ الحكمة من وجود المتشابه في كتاب الله؛ تحريك الفكر الإسلامي، وتمييز صادق الإيمان من ضعيفه.
في رحاب الآيات:
أنزل الله تعالى القرآن العظيم على رسوله الكريم، وفيه آيات بيِّنات واضحات الدلالة، لا لَبْسَ فيها ولا غموض (كآيات العقيدة، وآيات الأحكام) وهي أصل الكتاب وأساسه وتسمَّى المحكمات، وعليها بنيت أسس الشريعة الإسلامية. كما أنَّ فيه آياتٍ متشابهات حجب الله تعالى توضيحها، لعدم تمكُّن العقل البشري من فهمها في حينه، وكان أغلبُها مبنيّاً على دلائل علمية تتعلَّق بأصل الخلق، ونشأة الكون واستمراريته، ودلائل روحية تتعلَّق بعالم الغيب، وبالعالم غير المنظور.(1/372)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن القرآن لم ينزل لِيُكَذِّبَ بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به» (أخرجه الحاكم والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ) ولم يقل الرسول عليه السَّلام أن لا نُعمل تفكيرنا به، فالمسألة لا تحمل ألغازاً حُرِّم البحث فيها، ولكنَّها الشفقة؛ فقد أشفق عليه السَّلام على أصحابه، وخاف عليهم أن يدخلوا في متاهات بعيدة عن مستوى العلم المعروف آنذاك، وتَرَكَ الباب مفتوحاً للأجيال القادمة، لتتفهَّم وتتبيَّن أكثر فأكثر إلى قيام الساعة.
والآية تؤكِّد على دور العلماء الأتقياء الراسخين في قوَّة علمهم، حيث لا يخلو منهم جيل ولا أمَّة، وكثيراً ما كان يُسأَل السلف الصالح عن أمور لم تحصل، فيجيبون أنْ دَعُوها لعالِمِ زمانها. والعالِم هنا لا يعنى به عالِم الفقه والأمور الشرعية فحسب، بل هو عالِم الأمور المادية والرياضية أيضاً بدليل قوله تعالى: {هوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمسَ ضياءً والقمرَ نُوراً وقدَّرهُ مَنازِلَ لِتَعلموا عَدَدَ السِّنينَ والحسابَ ما خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يعلمون} (10 يونس آية 5). فالآية تؤكِّد على ضرورة وجود علماء متخصِّصين في علوم الفلك ودورته، والحساب القائم على الرياضيات، حيث أن مثل هذه العلوم لا يمكن لكلِّ الناس إتقانها، ولابدَّ من وجود قوم يتعلمونها بالبحث والمتابعة، ويدرِّسونها لمن أراد الاستزادة منها.(1/373)
وكمثال على فهم المتشابه نقدِّم الآية التالية: {وكُلَّ إنسانٍ ألزمناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ مَنشوراً * اقرأ كتابَكَ كَفَى بِنَفسكَ اليومَ عليك حَسِيباً} (17 الإسراء آية 13ـ14) فإذا عدنا لكتب التفسير وما قاله المفسرون القدماء عن هذه الآية، ثمَّ طلبنا من علماء عصرنا إعادة تفسيرها، بعد ظهور آلات التصوير والفيديو، وأقمار التجسُّس الصناعية والميكروفيلم، لأذهلنا الاختلاف العميق في التفسير بين مرحلة وأخرى من مراحل التطوُّر العلمي، وما رافقها من اكتشافات جديدة، إلا أنه مع هذا الاختلاف، نجد انسجاماً بين الآيات ومضمون التفاسير، إذ أن كلاً منها يصلح لأوانه.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم من الآيات المتشابهات المتعلِّقة بصفات الله تعالى، وتذكر له بعض الصفات الَّتي ظاهرها يتشابه مع صفات المخلوقات، ومن بعض هذه الآيات قوله تعالى:
{وجاء ربُّكَ والملك صفّاً صفّاً} (89 الفجر آية 22).
{ الرحمن على العرش استوى } (20طه آية 5).
{ إن الَّذين يُبايعونكَ إنَّما يُبايِعونَ الله يدُ الله فوقَ أَيديهم... } (48 الفتح آية10).(1/374)
وبما أن الله لا يشبه أحداً من خلقه في صفاته بدليل قوله تعالى: { ليس كمثله شيء.. } (42 الشورى آية 118). لذلك تبقى معاني هذه الآيات في حكم المتشابه. وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب الإيمان بهذه الآيات والتسليم بها، وتفويض معرفتها إلى الله تعالى، دون محاولة تأويلها بما يتنافى مع كمال الله تعالى وكمال صفاته. وفسَّرها جيل آخر من العلماء بما يليق بذاته تعالى من معان مجازية تسوغ في اللغة العربية وتناسب المعنى، فذهبوا إلى أن مجيء الله والملك صفّاً صفّاً،كناية عن مجيء أمره وقضاءه. والاستواء على العرش يعني تمام القوَّة والسلطان والتصرُّف بالكون. ويد الله فوق أيديهم تعني التأييد والدعم الإلهي للمبايعة. وكلُّ هذه التشابهات تكرُّمٌ من حضرة الله، في التودُّد لعباده، وتقريب القدرة الإلهية من أفهامهم، ليكون ذلك حافزاً لهم للتعمُّق في فهم آياته، وقراءتها بتدبُّرِ معانيها، وخشوع لجلال قائلها.
ويظهر دور المغرضين في كلِّ زمان ومكان، من خلال تأويل الآيات المتشابهات؛ بهدف الحصول على مآرب معينة، كالسيطرة على السذَّج من الناس، والتأثير عليهم فكرياً، أو عاطفياً، أو للحصول على مكاسب مادية أو نفوذ معيَّن، ووراء ذلك كلِّه لإحداث بلبلة في الأفكار، وإثارة الفتنة في صفوف الناس، وزرع الشكِّ في صدورهم.
وطالما أنَّ علم الله محيط بكلِّ شأن من شؤون هذا الكون الواسع، فقد ضمَّ القرآن من علم الله تعالى، ما له صلة بالإنسان، في حاضره ومستقبله، أمَّا شؤون الكون الأخرى، والَّتي لا صلة لها بذلك، فلم يعلمنا الله سبحانه شيئاً عنها، لكنه تعالى حثَّنا في آيات القرآن الكريم على إعمال الفكر والعقل والتدبُّر، لنستزيد من علومه، ونرشف من بحار عطائه الروحي والفكري اللامتناهي.
الفصل التاسع:
الناسخ والمنسوخ
سورة البقرة (2)(1/375)
قال الله تعالى: {ما نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَو نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَو مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير(106)}
سورة النحل (16)
وقال أيضاً: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهم لا يَعْلَمُون(101)}
ومضات:
ـ إن الله تعالى هو الُمُشرِّع الحكيم، وقد اقتضت حكمته، التدرُّج في بعض الأحكام، وتعديلها بما يتناسب مع استعداد البشر، وزيادة تقبُّلهم للأفضل منها، وعنده تعالى أمُّ الكتاب يمحو ما يشاء ويثبت لحكمة عالية، قد يدركها البشر وقد تغيب عنهم.
ـ إنَّ في تغيُّرِ بعض الأحكام بِتغيُّر الأزمان، وتطورها، دليل على روح التطور والتجديد الموجودة في التشريع الإسلامي من جهة، وتنبيه للدعاة أن يبتعدوا عن الجمود والتزمُّت، ممَّا يُجمِّد رقيَّ المؤمن في عالم الحضارة والتجدُّد من جهة ثانية.
ـ إنَّ في نسخ بعض الأحكام مع بقاء الآيات المُشرِّعَة لها في القرآن، تعليم أو إيحاء من الله تعالى للدعاة لكي يسلكوا سبيل الحكمة والتدرُّج في طرح الأحكام وتنفيذها، وخاصَّة مع غير المسلمين، وفي ظروف تتماثل مع بدايات الدعوة، أو خلال مسيرتها.
في رحاب الآيات:
النسخ تعريفاً: هو إبطال الحكم المستفاد من نصٍّ سابقٍ بنصٍّ لاحقٍ. أو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي. وقد نزل التشريع القرآني على قلب النبي صلى الله عليه وسلممجزَّءاً بما يتناسب مع الأحداث والوقائع، متناولاً الكثير من عادات العرب الجاهلية المستحكمة... ومُتَّخذاً منها موقف المُتمهِّل المتريِّث، لأن التأنِّي مع التنظيم خيرٌ من العجلة مع الفوضى، وأنجح في التأثير على السلوك الإنساني وإصلاحه. ومن أجل ذلك كان التدرُّج في التشريع من أهم ميزات التشريع الإسلامي.(1/376)
والحقيقة أن التدرُّج يشمل سنن الحياة كلّها؛ فالحليب في ضرع الأم يبدأ خفيفاً، وتزداد قوّته الغذائية وكثافته مع نموِّ الطفل، والمعلِّم يتعهَّد تلاميذه المبتدئين بأسهل المعلومات، ثمَّ يتدرَّج بهم حسب نضوجهم العقلي وسموِّهم الفكري. وكذلك الأمم تتقلَّب كما يتقلَّب الأفراد في أطوار شتَّى، فمن الحكمة في سياستها، وتشريعاتها، أن يُصاغ ويُختار لها ما يناسب حالها في الطور الَّذي تكون فيه، حتَّى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسب ذلك التشريع الأوَّل، كان لازماً أن يوجد لها تشريع آخر يتَّفق وهذا الطور الجديد، وإلا لاختلَّ ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام.
فالله تعالى أنزل على نبيِّه في كلِّ حال ما يناسب الظروف الَّتي تحيط به وبالمؤمنين. ومن تأمَّل هذا الإبداع، والحكمة العظيمة في وجود النسخ في القرآن الكريم، اطمأنَّ إلى مناسبة التشريع الإلهي لكلِّ زمان ومكان. فالحكم المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، بينما الحكم الناسخ له يجيئ منوطاً بحكمة ومصلحة أخرى تتناسب مع الحال الجديد الَّذي أصبحوا عليه.
وقد روي عن ابن عباس ـ ترجمان القرآن ـ رضي الله عنه أنه كان يُفسِّر قوله تعالى: {يُؤتي الحكمة من يشاءُ ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً...} (2 البقرة أية 269) بأن المقصود بالحكمة، معرفة الناسخ والمنسوخ والحكمة منهما.(1/377)
فعندما ندرس موضوع تحريم الخمر، ونعرف أن شرب الخمر كان مستحكماً بين عرب الجاهلية، وكان استئصال هذه العادة - دفعة واحدة - أمراً صعباً جداً، بل مستحيلاً، نجد عظمة الحكمة في التشريع القرآني عندما نزل تحريم الخمر بالتدريج، وعلى مراحل كانت نهايتها القضاء على هذه العادة المؤذية المستحكمة، وهذا ما شرحناه مفصَّلاً في فصل تحريم شرب الخمر وعقوبته. وهكذا فُرض الصوم بالتدريج، وحُرِّم الرِّبا على مراحل، كذلك جاء تعديل حكم المواريث منسجما مع اتساع دائرة الدخول في الإسلام من قبل فروع العائلة..
والسؤال الَّذي يُطرح كثيراً: ما هي الفائدة من بقاء الآيات المنسوخة الحُكم في المصحف تُقرأ وتُتلى مع أن حكمها منسوخ؟!. والجواب على هذا السؤال يتضح في عدَّة نقاط أهمها:
ـ إن بقاء هذه الآيات يُذكِّر المؤمنين بنعمة الله عليهم من حيث تكامل التشريع وبلوغه الأفضل والأكمل.
ـ كما أن في بقاء هذه الآيات إشارة إلى أنه على المؤمن أن يتحلَّى بأسلوب القرآن، ويتَّخذ من حكمة التدرُّج سبيلاً لدعوة الناس إلى الحقِّ وهدايتهم إليه.
ـ ولعل أهم سبب لبقاء هذه الآيات يتلوها المسلم في صلاته وعباداته، هو الإيحاء بأنه من الممكن تطبيق بعض هذه الأحكام المنسوخة، في بعض الأوقات الخاصَّة، إذا اقتضت حكمة الدعوة والتشريع ذلك، مع الاهتمام بالانتقال من هذا الحكم المنسوخ إلى الحكم الناسخ في السرعة الممكنة.. وهذا أفضل أسلوب لشدِّ قلوب الناس إلى الإسلام، بدل تصعيب الأمور عليهم، أو محاسبتهم الحساب العسير، ممَّا يُنفِّرهم ويُبعدهم عن الصراط المستقيم.
الفصل العاشر:
أضواء على سورة الفاتحة
قال الله تعالى: {بسم الله الرَّحمن الرَّحيم(1) الحمدُ لله ربِّ العالمين(2) الرَّحمنِ الرَّحيم(3) مالكِ يَومِ الدِّين(4) إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعين(5) إهدنا الصِّراطَ المستقيم(6) صراط الَّذين أنعمت عليهم غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضَّالِّين(7)}
ومضات:(1/378)
ـ إن استهلال سور القرآن الكريم ومنها الفاتحة، بالبسملة {بسم الله الرَّحمن الرَّحيم}، أدب من آداب تلاوة القرآن الكريم، وإشارة من الله تعالى لأهميَّتها، وإرشادٌ لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ أمر ذي بال لم يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» (رواه ابن ماجه وأبو داود) (أبتر: أي مقطوع عن الخير لا يحقِّق أغراضه). فالبسملة إذن مطلوبة من المؤمن قبل شروعه بأيِّ عمل لتُحقِّق معناها، (باسمك اللهمَّ أبدأ عملي)، وبهذا تجعله يخلص النيَّة، ويتوجَّه بقلبه وكيانه نحو النور الإلهي، فيراقب الله في كلِّ أمر من أمور دينه ودنياه، ممَّا يكفل صلته المستمرَّة به.
ـ اختصَّ الله تعالى البسملة بصفتين من صفاته، مشتقَّتين من الرحمة، هما الرحمن الرحيم، ليبيِّن لعباده أن ربوبيَّته ربوبيَّة حب وإحسان، وهذا ممَّا يبعث الطمأنينة والسكينة في قلب المؤمن ويهدِّئ من روعه.
ـ تشتمل الفاتحة على المقاصد الأساسية للقرآن الكريم كَكُلٍّ فهي:
أوَّلاً: تُعلِّم المؤمن الحمد والثناء على الله عزَّ وجل، بما هو أهله، على ما أنعم به وتفضَّل عليه، وعلى سائر المخلوقات.
ثانياً: فيها إقرار باتِّصاف الله تعالى بالصفات الَّتي لا غنى للإنسان الضعيف الخطَّاء عن فيضها، ومنها هاتان الصفتان {الرَّحمن الرَّحيم} فالرحمن عظيم الرحمة، والرحيم دائم الرحمة. كما أن لفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه الرحمة، ولفظ الرحيم يدل على شمولية هذه الرحمة، وقد أوردهما الله تعالى بصيغ المبالغة دلالة على شموليَّتهما وسعتهما، قال تعالى: {..ورحمتي وسِعَتْ كُلَّ شيءٍ..} (7 الأعراف آية 156) فرحمته تعالى وسعت الكون كلَّه، فكيف بها لا تسع أخطاء الإنسان، وهفواته وزلاَّته، ما قلَّ منها وما كثر؟ فإذا أقلع عنها وتاب منها، وأناب إلى الله بصدق وعزيمة، غفرها الله تعالى له ولو كانت ملء قراب الأرض.(1/379)
ثالثاً: فيها إعلان وبيان عن وحدانيَّة الله تعالى وربوبيَّته للعالمين، وتأكيد على أنه القادر القاهر المتصرِّف في الأكوان وسائر المخلوقات، والمالك للحساب والجزاء في يوم لا ينفع المرء فيه إلا عمله.
رابعاً: فيها تعليم المؤمن صدق التوجُّه الكلِّي الخالص لله تعالى بحسن التوكُّل عليه، والاستعانة به في كلِّ أمر، مع بذل أفضل جهد ممكن في تعاطي الأسباب بالشكل الوافي.
خامساً: فيها تذكير للإنسان بأنه معرَّض للضلال والضياع، وأنه قد يصيب وقد يخطئ، لأن عقله وإدراكه محدودان، فهو في حاجة مستمرة إلى الله عزَّ وجل، وعليه أن يلجأ إليه دائماً ليلهمه الصَّواب والثبات.
سادساً: تشير إلى وجود معارج السعداء ليسعى المؤمن للوصول إليها، وكذلك منازل الأشقياء ليجتهد في الابتعاد عنها والخلاص منها0
وبهذا كلِّه استحقَّت سورة الفاتحة أن تسمَّى بأمِّ الكتاب، والسبع المثاني، والشافية والكافية، والأساس والحمد، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه : «لأعلمنَّك سورة هي أعظم السور في القرآن، الحمد لله ربِّ العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الَّذي أوتِيتُهُ».
- في رحاب الآيات:
حين يستأنس المؤمن بالقرب من الله تبارك وتعالى، ويشعر أنه بمنأى عن وسوسة الشيطان، يستجمع شعوره ويتوجَّه إلى ربِّه بقلب نقي، وروح صافية، فيذكر اسمه مستعيناً به، راجياً منه السداد في أموره كافَّة، لأنه الربُّ المعبود، ذو الفضل والجود، عظيم الرحمة، متَّصل الإحسان، عمَّت رحمته كلَّ مخلوقاته، وكفلت أرزاقهم ومصالحهم.
والبسملة قبل الشروع بأي عمل، تُعَدُّ بالنسبة للمؤمن، كإبرة البوصلة الَّتي تعيِّن بدقَّة جهة المسير؛ ابتغاء مرضاة الله، فتتبلور نيَّته ويكون عمله تصديقاً لها.(1/380)
وفي غمار هذا الفيض من القرب والرحمة يشعُّ قلب المؤمن بالإيمان، فيتحرَّك لسانه بالثناء على الله تعظيماً وتبجيلاً ومحبةً، وشكراً على آلائه الَّتي لا تُعَدُّ ولا تحصى، فهو السيد المربِّي، وهو مالك الملك المتصرِّف بشؤون ملكه، الواضع لقوانينه، وهو ربُّ العالمين جميعاً، عوالم الإنس والجن والملائكة، وبمعنى أوسع وأعم عوالم السموات والأرض، وهي جميعاً في قبضته يسيِّرها بحكمته، وهو مالك يوم الحساب ومالك الآخرة. فكلُّ ثناء جليل هو له، لأنه خالق الكائنات وملهمها ما يحقِّق الغاية منها، وإليه ترجع الأمور.
والحمد يحمل في طيَّاته معانيَ بالغة الأهمية، جاء في الحديث الشريف: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان» (أخرجه أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).
وقد وردت كلمة الحمد في القرآن الكريم، في آيات كثيرة؛ توضح ماهيَّتها ومنها:
1 ـ شموليَّة التسبيح والحمد: فكلُّ شيء في الكون يسبِّح بحمد الله، قال تعالى: {تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبع والأرضُ ومن فيهِنَّ وإِنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدِهِ ولكن لا تفقهون تسبيحَهُم إنَّه كانَ حليماً غفوراً} (17 الإسراء آية 44).
2 ـ التواصل والاستمراريَّة: {وهوَ الله لا إله إلاَّ هوَ له الحمدُ في الأُولى والآخرةِ ولهُ الحُكمُ وإليه تُرجَعون} (28 القصص آية 70).
كذلك فقد بيَّنَتِ الآيات المواطن الَّتي يتعيَّن على المؤمن أن يحمد الله تعالى ويسبِّحه فيها ومنها:
1 ـ الحمد لله على نعمة الخلق: {الحمدُ لله الَّذي خَلَقَ السَّموات والأرضَ وجعلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ ثمَّ الَّذين كفروا بربِّهم يَعْدِلُون} (6 الأنعام آية 1).
2 ـ والحمد لله عند الفَرَجِ: {وقالوا الحمدُ لله الَّذي أَذْهَبَ عنَّا الحَزَنَ إنَّ ربَّنا لَغَفُورٌ شكور} (35 فاطر آية 34).(1/381)
3 ـ والحمد لله طلباً لكشف الغمِّ وإذهاب الحزن: {ولقد نعلمُ أنَّكَ يضيقُ صدرُكَ بما يقولون * فسبِّح بحمدِ ربِّكَ وكُن من السَّاجدين} (15 الحجر آية 97ـ98).
4 ـ والحمد لله للاستعانة على البلاء بالصبر: {فاصبرْ على ما يقولونَ وسبِّحْ بحمدِ ربِّك قبلَ طلوعِ الشَّمسِ وقبلَ غروبِهَا ومِنْ آناءِ اللَّيلِ فسبِّحْ وأطرافَ النَّهارِ لعلَّكَ ترضى} (20 طه آية 130).
وفي الفاتحة يخبر الله تعالى عباده بأنه الرحمن الرحيم؛ ليشيع في نفوسهم الطمأنينة، مشيراً إلى أن الصلة الَّتي تربطهم به، هي صلة الرحمة والقرب، والرعاية الَّتي تفيض بالحنان والمودَّة، ممَّا يدفعهم لعمل ما يرضيه، بنفس هادئة، وصدر منشرح. وقد قدَّم الله عزَّ وجل الترغيب على الترهيب في تعريف عباده بذاته القدسيَّة؛ ليستثير في نفوسهم الحب والرضا، ويحثَّهم على ما ينقذهم في يوم الحساب، ذلك اليوم الَّذي يُحدِّد فيه مالك الملك، عاقبة كلِّ إنسان بناءً على ما قدَّمته يداه، وهذا أسلوب تربوي تهذيبي أمثل.
ولاشكَّ أن من أبسط مظاهر العدل أن يُحاسَبَ الإنسان ويُجازَى على عمله، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشر، والحساب والجزاء إن لم يُستَوْفَيا في الدنيا، فلابدَّ أنهما سيتحقَّقان في الآخرة، وإلا لكانت الحياة عبثاً لا يتلاءم مع عدل الله وحكمته.
فإذا تيقَّنَ الإنسان أنه لا ريب محاسَب، وأن الله القويَّ الجبَّار هو الَّذي سيحاسبه؛ سعى إلى الاستقامة في أموره ما استطاع، وحاول الترفُّع عن صغائر الذنوب واجتناب كبائرها، مطمئناً إلى عدالته تبارك وتعالى، فلا يبتئس إن أصابه ظلم من الخلق، لأنه واثق أن حقَّه سيردُّ إليه إن عاجلاً أو آجلاً.(1/382)
وهذه الحقيقة هي الَّتي تفرِّق بين عبودية المرء للنزوات والأهواء، وبين عبوديته لله، والَّتي تتحقَّق بها الغاية الَّتي خُلق من أجلها، فإذا ما استقرَّ في عقل المؤمن وقلبه، وأيقن بأن الله مالك ليوم الحساب، وأدرك حبَّه وعنايته، وفضله ورحمته، وقوَّته وعدالته، توجَّه إليه بكلِّيته، قلباً وقالباً، وخصَّه بالعبادة الَّتي تعني الخضوع والخشوع والتسليم، إيماناً منه بأنَّ لله سلطاناً لا يُدرك العقل كنهه، لأنه أوسع من أن يحيط به الفكر، أو يرقى إليه الإدراك. والعبادة مقام عظيم يتشرَّف به العبد لانتسابه إلى حضرة الله الخالق، فيكون حراً كريماً في معتقده، لا سلطان لمخلوق عليه.
وبما أن الله تعالى قد بيَّن لعباده أنه المتفرِّد بالربوبية، فلا ينبغي لهم أن يشركوا في عبادته أحداً، ولا يُعَظِّموا ـ تعظيم المعبود ـ أحداً غيره، وحريٌّ بهم أن لا يستعينوا بمن هو دونه، إلا في حدود الأخذ بالأسباب، وأن لا يطلبوا المعونة لإنجاز أعمالهم وقطف الثمار المرجُوَّة إلا منه، وبهذا يكون معنى الاستعانة بالمخلوقين مرادفاً للمعنى الحقيقي للتوكُّل على الله، وهذا من كمال التَّوحيد.
فإذا كان الله ـ وحده ـ هو المعبود وهو المستعان، فقد تخلَّص الضمير البشري من عبء الظروف والأوضاع وذلِّ الأشخاص، كما تخلَّص من سيطرة الأوهام والخرافات، وعندها يستطيع التمييز بين التحرُّر المطلق من كلِّ عبودية لغير الله، وبين العبودية المطلقة لله تعالى، ويختار ما فيه خيره وسعادته في الأولى والآخرة.(1/383)
إلا أنَّ الإنسان كثيراً ما يَضِلُّ طريقه في الحياة، ويجد نفسه بأمسِّ الحاجة إلى من يأخذ بيده، فيتوجَّه إليه عزَّ وجل بندائه مستغيثاً به، طالباً منه تصحيح مسيرته، وانتشاله من دوَّامة الضياع والتخبُّط في متاهات الشكِّ والحيرة الَّتي تعترض طريقه، فهو مفتقر إلى ربِّه في كلِّ لحظة ليثبِّته على الصراط المستقيم، والشرع القويم، ويرسِّخ أقدامه فيه، وما من أحدٍ أَوْلَى بالمخلوق من خالقه، الَّذي يدعوه فيستجيب له ويعطيه سؤله.
هذا الصراط هو الطريق الَّذي سلكه من رضي الله عنهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. لذلك يتوجه العبد إلى ربِّه لِيَسْلُكَهُ في زمرة هؤلاء الأحباب، ويبعده عن زمرة أولئك المنحرفين الَّذين سلكوا طريق الشهوات؛ الَّذي يؤدِّي بهم إلى الانحراف والخزي، أو الَّذين علموا الحقَّ وعدلوا عنه، أو الَّذين قصَّروا في البحث عن حقيقة الإيمان، واتَّبَعوا سبل الضلالة والخسران.
وبعد الانتهاء من قراءة الفاتحة يرجو العبد من أعماق قلبه الاستجابة والقبول بقوله: آمين (أي اللهمَّ استجب) ومَنْ أَوْلى من الله تعالى بالاستجابة لعباده المؤمنين. ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين، فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» (رواه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه). علماً بأن كلمة آمين ليست من اللغة العربية، ولا هي خاصَّة بالإسلام وحده، وإنما استعملها سائر أتباع الشرائع السماوية السابقة، وفي هذا إشارة لطيفة إلى وحدة جذور هذه الشرائع.(1/384)
تلك هي الفاتحة الَّتي استحقَّت أن تسمَّى أمَّ الكتاب إذ حوت مقاصده الأساسية؛ من دعوة للتَّوحيد، وإقرارٍ بالعبودية الخالصة لله وحده، والتِمَاس العون منه لاجتياز رحلة الحياة بنجاح، والوصول إلى دار السَّلام بسلام. ولا تصحُّ صلاة المسلم إلا بقراءتها، ذلك لأن الصَّلاة صلة بين العبد وخالقه، ولأن لها معالم وسمات أهمها، شعور المؤمن بالقرب والقدسية، وهو يقف بين يدي الله تعالى وفي حضرته، ولهذا فمن الطبيعي أن يتوجَّه إليه بكلماته الَّتي علَّمه إياها، ليعرف كيف يثني عليه ويحمده.
ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: قسمت الصَّلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي،? ولعبدي ما سأل. إذا قال العبد: الحمد لله ربِّ العالمين. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحمن الرَّحيم. قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدِّين. قال الله: مجَّدني عبدي، وإذا قال: إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الَّذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضَّالِّين. قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
وما أجمل أن نختتم هذا الباب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبشروا فإن هذا القرآن طَرَفُه بيد الله وطَرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلُّوا بعده أبداً» (رواه الطبراني).
----------------(1/385)
الباب الخامس -أركان الإسلام
مقدِّمة:
يرتكز بناء الإسلام على دعائمَ خمس مبيَّنَةٍ فيما رواه ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصوم رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلاً» (متفق عليه). وهذا البناء لا يكتمل إلا باكتمال أركانه، ليصبح مؤهَّلاً لاستيعاب تعاليم العقيدة الروحية والتربية الأخلاقية، الَّتي تُجْمَل تحت عنوان رسالة الإسلام.
وفي هذا الباب سنتناول هذه الأركان بشيء من التفصيل وذلك حسب ترتيب أولويتها في الحديث الشريف المذكور. ولكنَّنا لن نتوقف عند الإقرار بنبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وبأنه رسول الله إلى الناس، لأنه تقدَّم تفصيل ذلك في الباب الثالث من هذا الكتاب، سائلين المولى عزَّ وجل التوفيق والرشاد.
الفصل الأوَّل:
الشهادتان (شهادة التَّوحيد)
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {قُلْ أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بيني وبينَكُم وأُوْحِيَ إليَّ هذا القرآنُ لأُنذرَكُم به ومن بَلَغَ أَئِنَّكُم لتشهدونَ أنَّ مع الله آلهةً أُخرى قُلْ لا أشهدُ قُلْ إنَّما هوَ إلهٌ واحدٌ وإنَّني بريءٌ ممَّا تُشركون(19)}
ومضات:
ـ الله وحده هو الخالق، وهو وحده المالك، فلا عبوديَّة ولا ولاء لغيره. وشهادة أن لا إله إلا الله وحده، ربّاً ومعبوداً، هي قضية العقيدة في صميمها، فإمَّا إخلاص الولاء لله وهو الإسلام، وإمَّا إشراك غيره معه وهو الشرك الَّذي لا يجتمع مع الإسلام في أيِّ حال من الأحوال.
في رحاب الآيات:
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية الَّتي تتصدَّى لها الرسالة منذ يومها الأوَّل، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرِّف الناس بربِّهم الحق، ويجعلهم يعبدونه تعالى دون سواه.(1/386)
إن إفراد الله سبحانه بالألوهيَّة، يعني نزع السلطان من كلِّ ما سوى الله وردَّه إلى الله، سواء أكان سلطاناً على الضمائر، أم على الشعائر، أم على وقائع الحياة، أم كان في الأرواح والأبدان. فالأرض وما عليها لله، والناس خلفاؤه في إعمارها، ومؤتَمَنُون على حسن التصرف مع أنفسهم وفيما بينهم، وإخلاص النيَّة في ذلك لوجهه عزَّ وجل، كما أنهم مكلَّفون بالعمل على رفع راية التَّوحيد في أرجائها، لتتوحَّد وجهة سيرهم نحو مرضاة خالقهم وموجدهم.
ولا إله إلا الله بمدلولاتها اللغوية تعني: لا شريعة إلا من الله، ولا سلطان إلا لله. وقد تمثلت بداية الدعوة برفع راية لا إله إلا الله، لأن سلامة المجتمع تنبثق من تصوُّرٍ اعتقادي شامل، يردُّ الأمر كلُّه إلى الله، فيُقْبِلُ العبد راضياً طائعاً لما يقضي به الله، من إرادةٍ في توزيع الأرزاق، ومن حثٍّ على التكافل بين الجميع، وتكون ثمرة هذا الاعتقاد، الإيمان الراسخ الَّذي يستقرُّ في القلب، فيتطهَّر بذلك من الطمع والحسد، والغرور والأنانية وغيرها من الأمراض، الَّتي تفسد عليه نعيم الحياة، وتحيلها إلى جحيم مستعر، كما هو الحال بالنسبة لأولئك الَّذين يعتمدون المبادئ والأنظمة الوضعيَّة في تنظيم علاقاتهم الاجتماعية كبديل عن الشرائع السماوية. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر منصف الفرق بين ما خلق الله تعالى وما صنعه الإنسان، فما صنعه الإنسان أشياء ميِّتة قليلة الفائدة، وما خلقه الله أشياء ذات حياة تامَّة الفائدة. وكمثل على ذلك العين الزجاجية الَّتي قلَّد الإنسان بها خلق الله تعالى، ولا وجه للمقارنة بين عين زجاجية جامدة ميتة عمياء، وبين عين خلقها الله فيها الحياة والبريق والبصر والضياء، وهذا هو الفرق بين تشريع الله من حيث النتيجة وتشريع الإنسان على هذا النمط؛ فليخجل الإنسان من نفسه عندما يحاول أن يضع تشريعه مكان تشريع الله تعالى.(1/387)
فالعقيدة هي الأساس الَّذي تقوم عليه قيم المجتمع، والمنبع الَّذي تصدر عنه النظم والقوانين الَّتي تحكم سيره، فإن كانت صحيحة وسليمة آتت ثمارها في المجتمع تحضُّراً ورقيّاً، وإن كانت فاسدة ومشوَّهة أورثت في المجتمع تخلُّفاً وتمزُّقاً، وأصبح على شفا حفرة من الهلاك والدمار المتربِّصَيْن به. ولما كانت الأخلاق الفاضلة من أهمِّ الدعامات الَّتي تحمي صرح المجتمعات الإنسانية؛ كانت الصلة بينها وبين العقيدة صلة وثيقة، بحيث لا يمكن أن تسود في مجتمع ما، إن لم تكن مرتكزة على أساس متين من العقيدة الصحيحة، الَّتي تضع الموازين، وتقرِّر القيم، كما تحدِّد السلطة الَّتي تخضع لها هذه الموازين والقيم، والجزاء الَّذي تملكه حيال كلٍّ من الملتزمين والمخالفين؛ فقبل تقرير تلك العقيدة تكون القيم متأرجحة، لأنها فقدت عناصر الضبط والسلطة والجزاء.
وعندما تقرَّرت عقيدة التَّوحيد في ظلِّ الإسلام، وعرف الناس ربَّهم وعبدوه وحده، وتحرَّروا من سلطان الأهواء والشهوات، تطهَّر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يَعْدِل بعدل الله، ويَزِنُ بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، دون أن يحتاج الأمر إلى العقوبات الَّتي شرعها الله إلا فيما ندر؛ لأن الرقابة انبثقت من الضمائر والقلوب، ولأن الطمع تسامى حتَّى صار طمعاً في رضوان الله تعالى، وكذلك أضحى الحياء من حضرته تعالى، والخوف من غضبه، خُلقان يُتوِّجان سلوك المؤمن في مجتمع ارتقى بأفراده أعلى مراتب الفضيلة، وأسمى درجات العدالة، فأصبحوا في غنى عن رقابة السلطة والقضاء، لأن الرقابة الذاتيَّة جعلت من كلِّ فرد خصماً وحكماً في الوقت نفسه. وهكذا ارتفعت البشرية في نظامها، وأخلاقها، بل في حياتها كلِّها، إلى أعلى قِمَّة في الإنسانية ما كانت لترتفع إليها إلا في ظلِّ الإسلام.(1/388)
ولم يكن لشيء من هذا المنهج المبارك أن يتحقَّق على هذا المستوى الرفيع، لولا فضل الدعوة الَّتي بدأت برفع راية التَّوحيد خفَّاقة، شعارها لا إله إلا الله. وطبيعة هذا الدِّين هي الَّتي قضت بذلك، فهو دين يقوم على قاعدة أنَّ الألوهيَّة لله الواحد الأحد، في تنظيماته وتشريعاته الَّتي تنبثق من هذا الأصل، وفي نظامه الَّذي يتناول الحياة كلَّها، وخصوصاً شؤون الحياة البشرية كبيرها وصغيرها، فينظِّم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، بل في الدار الآخرة أيضاً، ولا في العالم المنظور وحده بل في عالم الغيب المكنون أيضاً، ولا في المعاملات الماديَّة وحدها بل في أعماق الضمير وخفايا السرائر والنوايا كذلك. هذا جانب من طبيعة هذا الدِّين، يحدِّد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمولها لشعاب النفس كلِّها، ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضماناً من ضمانات الاحتمال والتناسق بين السريرة والعمل.(1/389)
ومتى استقرَّت عقيدة لا إله إلا الله في أعماق النفس، استقرَّ معها النظام الَّذي تتمثَّل فيه، وتلقَّت تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرِّضا والقبول، فلا تتلكَّأ بتنفيذها بل تسارع لتطبيقها بمجرَّد تلقِّيها إيَّاها. وهكذا أُبطِلت الخمر، وأبطل الرِّبا وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلُّها، أبطلت بآيات من القرآن الكريم، أو بكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حين نرى أن السلطات البشرية تبذل قصارى جهودها وإمكاناتها العملاقة في سبيل حماية المجتمع من هذه التصدُّعات، فتضع القوانين والنظم والتشريعات، وتبثُّ الدعايات في مختلف وسائل الإعلام، وعلى الرغم من هذا كلِّه تبقى عاجزة عن المعالجة الجذرية، ولا تتمكَّن إلا من ضبط القليل ممَّا ظهر من المخالفات، الَّتي يتخفَّى أصحابها للقيام بها بعيداً عن الأعين. وهنا تظهر ميزة التشريع السماوي، وروعة القرآن الكريم في طرحه قضية التَّوحيد، وما يترتَّب عليها عن طريق مخاطبة فطرة الإنسان بما في وجوده، وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات، وذلك بعد أن يوقظ فطرته من السُّبات وينعشها، ويفتح منافذها لتتلقَّى رسائل الوحي الإلهي المؤثِّرة وتستجيب لها. وقد تمَّ هذا التلقِّي لمسلمي عصر النبوَّة، على مدى ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، اكتمل خلالها بناء العقيدة، وكذلك نفذت إرادة الله في قيام القواعد الَّتي ساهمت في نشأة الأمَّة الإسلامية، وظهورها للعالم، لتكون خير أمَّة أخرجت للناس عقيدة وسلوكاً، ومنهجاً وواقعاً وعلماً وعملاً، فكانت العقيدة هي الروح السارية في واقع المجتمع الفعلي، وكان واقع المجتمع تجسيداً لروح العقيدة.(1/390)
والتصوُّر الإسلامي للألوهيَّة وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان، تصوُّر كامل شامل، يسهل على الناس تطبيقه كنظام حيٍّ، وعمل واقعي. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضِّح للناس على الدوام، مبادئ عقيدة التَّوحيد وأسسها وما يتفرَّع عنها، ويتحمَّل في سبيل ذلك صنوفاً من الإيذاء والتعنُّت والإعراض، بصبر وثبات عظيمين، وبقوَّة تنهزم أمامها أباطيل المعرضين وادِّعاءاتهم المزيَّفة. وها هو ذا النبي عليه الصَّلاة والسَّلام يعلن للمشركين براءته من شركهم، ويُشهد الله على ذلك فيقول لهم: {وإنَّني بريءٌ ممَّا تُشركون}. ولقد كانوا يدعونه إلى إقرارهم على ما اتخذوا من أولياء من دون الله، كما دعوه إلى الإتيان بشاهد يشهد بنبوَّته، وأنه رسول من عند الله؛ فيؤيِّده الله بشهادته العظمى الَّتي لا تعدلها شهادة، فيطرحها عليهم بطريق الاستفهام التقريري: {قُل أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادةً}؟ أيُّ شاهد تعلو شهادته كلَّ شهادة، فتحسم القضية ولا يبقى بعدها شهادة؟. وكما يؤمر صلى الله عليه وسلم بالسؤال فهو يؤمر كذلك بالجواب؛ ذلك أنه لاجواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم، {قُلِ الله} فالله سبحانه وتعالى هو الَّذي يفصل بالحقِّ وهو خير الفاصلين، فإن قال سبحانه؛ فقد انتهى إليه القول وقُضي الأمر.(1/391)
فما أحوج الأمَّة المؤمنة بعد أن تستيقن حقيقة مهمَّتها في الأرض، وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة الَّتي تدعو إليها، ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكلِّ مدلولاته، ما أحوجها إلى موقف الإيمان المبرَّأ عن الشرك، وأن تقول ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تنفيذاً لأمر ربِّ العالمين. فهذا القرآن لم يأتِ لمواجهة موقف تاريخي حدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما جاء منهجاً مطلقاً خارجاً عن قيود الزمان والمكان؛ منهجاً تتَّخذه الأمَّة المسلمة حيثما كانت، في مثل الموقف الَّذي تَنَزَّلَ فيه القرآن الكريم.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إِنَّ الله لا يغفرُ أن يُشْرَكَ بهِ ويغفرُ ما دون ذلكَ لِمَن يشاءُ ومن يُشرك بِالله فقد افترى إِثماً عظيماً(48)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {إِنَّ الله لا يغفِرُ أَن يُشرَكَ به ويغفرُ ما دونَ ذلكَ لِمن يشَاءُ ومن يُشركْ بالله فقد ضَلَّ ضلالاً بَعيداً(116)}
ومضات:
ـ الإيمان بوحدانيَّة الله هو الدعامة الأساسية الَّتي يقوم عليها بناء العقيدة الإسلامية، وكلُّ من يقوم بهدمها فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً ولا مغفرة له، فالشرك أكبر من كلِّ ذنب وأظلم من كلِّ افتراء.
ـ إن الله ذو مغفرة واسعة تسع ذنوب التائبين مهما عظمت، شريطة أن يؤمنوا بوحدانيَّته ويسلِّموا بها.
في رحاب الآيات:(1/392)
عقيدة التَّوحيد حقيقة أزليَّة خالدة، ينبغي على المرء إدراكها بعقله وروحه وذرَّات وجوده كلِّها. أمَّا عقائد الشرك ـ على اختلاف أنواعها، وتعدُّد أشكالها ـ فهي مُحْدَثَة صنعها الإنسان بدافع أهوائه، لذلك أتت مضطربة متداخلة؛ ومتنافرة في مضامينها، وإن اتفقت كلُّها في شيء واحد وهو الهبوط بالإنسان إلى الدَّرْك الأسفل من الغفلة، وردم جميع مناهل الإيمان المغروسة بداخله، وإغلاق منافذ العقل ومنابع الفكر في أعماقه. لذلك فإن الله يغلق باب المغفرة أمام من يشرك به، ويرضى بأن يمرِّغ نفسه في أوحال الانحطاط الفكري والفراغ الروحي، بينما يفتح بابها على مصراعيه، أمام كلِّ مؤمن مذنب اقترف الذنب وقَلْبُهُ متَّصل بالله غير منكر لوجوده، ممَّا يُولِّد في نفسه الرجاء والخوف، ويبعده عن التعلُّق بالمعصية أو التشبُّث بها على الرغم من ارتكابه لها، ولذلك فهو يسارع إلى طلب المغفرة بصدق وإنابة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال الله عزَّ وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذُّنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً» (رواه الطبراني).(1/393)
والتَّوحيد الَّذي دعا إليه الإسلام هو توحيد الربوبيَّة والألوهيَّة، قال تعالى: {إنَّ إلهَكمُ لَوَاحدٌ * ربُّ السَّمواتِ والأرضِ وما بينَهُمَا وربُّ المشارق} (37 الصافات آية 4ـ5). وكانت العرب تعتقد بتوحيد الربوبيَّة، وأن الله هو الخالق والمبدع لكلِّ الموجودات، وقد شهد لهم القرآن بهذه الحقيقة: {وَلَئِن سألتهُمْ من خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وسخَّرَ الشَّمسَ والقمرَ ليقولُنَّ الله..} (29 العنكبوت آية 61)؛ ولكنَّهم كانوا يشركون في عبادة ربِّهم، ويتَّخذون آلهة من دونه، زعماً منهم أنها واسطة تقرِّبهم إلى الله. وقد أنكر الله عليهم هذا الإشراك في كتابه العزيز وعلى لسان نبيِّهِ: {وَلَئِن سألتَهُم من خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ ليقولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم ما تَدْعونَ من دونِ الله إنْ أرادَنِيَ الله بضُرٍّ هل هُنَّ كاشفاتُ ضُرِّهِ أو أرادَنِي برحمةٍ هل هُنَّ ممسكاتُ رحمتِهِ قل حسبِيَ الله عليه يتوكَّلُ المتَوكِّلون} (39 الزمر آية 38). فالموحِّدون هم من تطهَّرت نفوسهم من دنس الشرك، وتطهَّرت قلوبهم وأرواحهم من دنس الذنوب والمعاصي، وتغلَّبت فيهم عناصر الخير على عناصر الشر، فإن وقعوا في ذنب أو معصية فسُرعان ما يتوبون ولا يطول عليهم الأمد في الغفلة كما قال تعالى: {إنَّ الَّذين اتَّقَوْا إذا مسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيطانِ تذكَّروا فإذا هم مُبصِرون} (7 الأعراف آية 201).(1/394)
والسبب في استنكار جريمة الشرك، وخروج صاحبها من دائرة المغفرة، أنَّ من يشرك بالله يخرج عن حدود الانتماء للتعاليم الإلهيَّة، وتفسد فطرته، فلو بقي في قلبه خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشدَّهُ إلى الشعور بوحدانيَّة الله. والسؤال الَّذي يطرح نفسه، ما الَّذي يدفع المشرك لأن يتَّخذ لله شريكاً، وقد خلق الله تعالى له كلَّ ما يحتاج إليه وعلى أكمل وجه؟ وما الَّذي يرجوه من ذلك الشريك؟ لا شيء، سوى الرَّغبة بالتفلُّت من تعاليم الله وتكاليفه، لإشباع غرائزه البهيميَّة والحصول على مكاسب لا أخلاقية، وفي هذا كلِّه ضلال وإثم، وتدمير لأركان السعادة الَّتي وضعها الله تعالى للإنسانية، ونسف لجسور الإيمان الموصلة إلى المغفرة الإلهيَّة، ولو أنه أبقى عليها وصانها لتمكَّن من عبورها، ولنجا من عذاب الله الشديد، الَّذي أعدَّه لكلِّ من يتخاذل ويصرُّ على الإشراك به.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أنداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ الله والَّذين آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً لله ولو يَرَى الَّذين ظَلَمُوا إذ يَرَونَ العَذابَ أنَّ القُوَّةَ لله جَميعاً وأنَّ الله شَديدُ العَذابِ(165)}
ومضات:
ـ حبُّ الله الَّذي يعمر قلوب المؤمنين به، هو أقوى وأشدُّ أثراً من حبِّ المشركين لمن يتخذونهم أرباباً وأولياء من دون الله.
ـ محبَّة الله الواحد الأحد، تجذب القلوب الطاهرة نحو خالقها، وتزرع فيها بذور الرحمة والتعاون، أمَّا الَّذين في قلوبهم زيغ فلهم تعلُّقات تخرجهم عن دائرة الإيمان الصحيح، وتوقعهم في مهاوي الشَّرْذَمَة والفساد.(1/395)
ـ إن القوَّة والسلطان في الدنيا والآخرة لله وحده، ولكنَّ الظَّالمين لأنفسهم لا يدركون ذلك، إلا بعد أن يحيق بهم العذاب الشديد في جهنم، مع الخزي والنَّدامة في الدَّار الآخرة، وبعد أن أمضَوْا حياتهم في الدنيا ضائعين في صحارى العطش الروحي، يلهثون وراء السراب، لأنهم اتخذوا لأنفسهم أرباباً من دون الله، ودنَّسوا قلوبهم بالإشراك به، ففقدوا جذورهم الإيمانيَّة وحضارتهم الأخلاقيَّة.
في رحاب الآيات:
الحبُّ شعور نبيل، ومعنىً سامٍ من أسمى المعاني في الوجود، يرقى بالروح إلى آفاقها الرحبة، عبر نشوة زاخرة بالعطاء، وهو انجذاب عاطفيٌّ سخيٌّ من المحبِّ نحو محبوبه، تتفجَّر من خلاله ينابيع الشوق والوجد في النفس، لتصبح مُلْكاً لمن تحب، توَّاقة لإرضائه متلهِّفة إلى طاعته. وأَجَلُّ أنواع الحبِّ هو حبُّ الله، حيث تنصهر نفوسنا بحبِّه عزَّ وجلَّ، فتتخلَّق بالأخلاق المرضيَّة عنده، وتتذوَّق حلاوة جوده وكرمه، وينعكس ذلك كلُّه في اتِّباع تعاليمه، وبما نؤدِّيه من العبادات، ممَّا يجعلنا مستكينين له مستسلمين، حين يتَّصل ضعفنا وعجزنا بقوَّته الإلهيَّة المطلقة، ويفنى وجودنا الزائل أمام وجوده الدائم الباقي الَّذي لا يزول.
وإنما تنشأ هذه المحبَّة الإلهيَّة بشحذ القوى العقلية والروحية، وعمق التفكُّر في ملكوت السموات والأرض، وحسن التدبُّر لآيات القرآن، وكثرة ذكر الله، مع استحضار أسمائه الحسنى، وصفاته العليَّة.(1/396)
ومتى رسخت هذه المحبَّة وتعمَّقت جذورها في القلب، أصبح الله هو الغاية، فيجد المرء من حلاوة الإيمان، ولذَّة اليقين، وحسن الصلة بالله، ما تَقرُّ به العين وتتلاشى أمامه كلُّ الملذَّات، وهذا من علامات صحَّة النفس وسلامة القلب، ذلك أنه لا كمال لسعادة الإنسان، إلا بمعرفة جمال الله وجلاله، وشهود رحمته وحكمته. روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (متفق عليه).
وقد أيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم جذوة المحبَّة وأشعلها في قلوب أصحابه، فأحبُّوا الله أعظم من حبِّهم لأنفسهم وآبائهم وأمَّهاتهم، ورَضُوا أن يبذلوا نفوسهم ومُهَجهم في سبيله وهم فرحون مستبشرون. وكان ممَّا حُفِظ من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ عمل يقرِّبني إلى حُبِّكَ» (رواه الترمذي بسند صحيح).
إن محبَّة الله هي الَّتي حملت مصعب بن عُمَيْر على ترك ما كان ينعم به من طيب العيش في كَنَفِ أسرته، إلى الشظف والحرمان، حين عارض والداه إسلامه. قال عمر رضي الله عنه : «نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير، وعليه ثياب رثَّة فقال: انظروا إلى هذا الرجل الَّذي نوَّر الله قلبه.. لقد رأيتُه بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون» (أخرجه البيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية). ومحبَّة الله تعالى تقتضي محبَّة القرآن الكريم، ومحبَّة الشريعة السمحة، يقول عثمان رضي الله عنه : (لو سلمت منَّا القلوب ما شبعت من كلام الله عزَّ وجل، وكيف يشبع المحبُّ من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبه)؟.(1/397)
ومن مظاهر حبِّ الله، محبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ أنه النبي الأمين، ومُبلِّغ الرسالة، وقائد الخَلق إلى الحقّ. ولهذا فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفانَوا بمحبَّته، وبلغوا بها أرفع المنازل والدرجات، وضربوا أروع الشواهد والأمثال على صدقها. وكُتُبُ السيرة غنيَّة بذلك، وقد ورد فيها أنه لمَّا أخرج أهل مكَّة زيد بن الدُّثنَّة رضي الله عنه ـ وكانوا قد أسروه ليقتلوه ـ قال له أبو سفيان: أنشدك الله يازيد، أتحبُّ أن محمَّداً الآن مكانك تُضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبُّ أن محمَّداً في مكانه، الَّذي هو فيه، تصيبه شوكة وأنِّي لجالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمَّد محمَّداً. وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : «متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أنِّي أحبُّ الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء، فرَحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت» (متفق عليه).(1/398)
على أنَّ هذا الحبَّ لا يتنافى مع محبَّة الزوج والولد والأهل والعشيرة، مادامت هذه المحبَّة تابعة للحبِّ الإلهي، وغير مانعة له من النُّموِّ والسُّموِّ والوصول إلى الكمال. فمحبَّة الزوج والولد والعشيرة فطريَّة ومتأصِّلة بقلب الإنسان وعاطفته، وهي محمودة إلا إذا صرفته عن المَثَل الأعلى، وأعاقته عن النهوض لخدمة دينه ونفع وطنه. وهذا هو هدي القرآن الكريم وأسلوبه الحكيم، إذ أنَّه لا يبخس الفطرة حقَّها، فهو يقيم العلاقة الزوجيَّة على أساس من المودَّة المشتركة بين الزوجين، قال تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفسكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إليها وجعلَ بينكم مودَّةً ورَحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون} (30 الروم آية 21). كما أنه يمنح الولد حقَّه من الرِّعاية والحنان، وينكر على من يجافي هذه الفطرة وَيَصِمُهُ بالقسوة والجفاء؛ فقد جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «أتُقبِّلون الصبيان؟ فما نُقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟» (رواه البخاري ومسلم). وهكذا يساير الإسلام الفطرة ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويفتح القلب الإنساني لحبِّ الله الَّذي لا حياة إلا به. وقد أثبت الله سبحانه وتعالى هذه المحبَّة للمؤمنين فقال: {..والَّذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله..}.(1/399)
وهناك فريق من الناس ممَّن لم يتهيَّأ لهم النُّضْج الإيماني والفكري، يمزجون بين حبِّهم لله وحبِّهم للمخلوقات، الَّتي سخَّرها الله، لتكون وسائلَ وأسباباً لتنفيذ إرادته وقضائه في الأرض، فيمالئونهم ويتقرَّبون إليهم وكأنَّهم هم صانعو القدر، متناسين أن مفاتيح العطاء كلَّها بيد الله، وقد ينساقون وراءهم فيتساهلون بأمر عقيدتهم كسباً لمرضاتهم وطمعاً في مساعدتهم. أمَّا المؤمن فهو الَّذي يفطن إلى كنه العلاقة الَّتي تربطه بغيره من المخلوقات، فعندما يحتاج إليهم يدرك تمام الإدراك، أن مشيئتهم وإرادتهم مقيَّدة بمشيئة الله. وقد يمدُّ يده طالباً مساعدتهم في قضاء حوائجه أخذاً بالأسباب، لكنَّ قلبه يبقى مخلصاً لله، حرّاً من كلِّ تعلُّق بغيره، لا يتوكَّل إلا عليه، لأنه هو المعطي وهو المانع، وكلُّ تعلُّق بغيره يصل إلى درجة تتعارض مع تعلُّقه بالله، يُعتَبر شركاً خفيّاً، لأنه يحجب صاحبه عن رؤية الله في كلِّ أمر من أوامره، وينافي التوكُّل عليه، واللجوء إليه في السرَّاء والضرَّاء. ويدخل في دائرة الإشراك، الإفراط في حبِّ الزوجة أو الولد أو المال أو أيِّ شيء زائل، بحيث يطغى على حبِّ الله تعالى: {قُلْ إن كان آباؤُكُم وأبناؤُكم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَونَ كسادَهَا ومساكنُ ترضَوْنَها أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ وجهادٍ في سبيلهِ فترَبَّصُوا حتَّى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (9 التوبة آية 24). وهؤلاء المعرضون عن الإخلاص في عبادة الله تعالى، يظلمون أنفسهم في الدنيا والآخرة، ولو تفتَّحت بصائرهم لأدركوا أنهم يرمون بأنفسهم في دائرة عذاب الله، ويجدر بهم أن يدركوا أن القوَّة لله جميعاً، وأن عذاب الله شديد، قبل أن يصبحوا نَادمين بائسين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.(1/400)
ولا بدَّ لنا أن نشير في ختام البحث إلى أنه لا بدَّ للمؤمن من الاعتقاد بأن الله وحده هوالخالق للعالم أجمع، وأنه مالك الملك، المتصرِّف فيه بالرزق، والحياة والموت، والضرِّ والنفع، وغير ذلك، وهذا يدفعنا إلى إفراد الله وحده بالعبادة، والقصد والطلب، وإفراده بتصريف حياة البشر في التشريع، فلا نعبد إلا الله، ولا نتوكَّل إلا عليه،ولا نقصد سواه، ولا نعمل إلا ابتغاء وجهه ورضاه، ولا نسأل غيره، ولا ننذر إلا له، ولا نحلف أو نقسم إلا به سبحانه وتعالى.
ولقد شابَ تاريخ البشرية ومنذ العصور القديمة، عادات وتقاليد، حرفت الإنسان عن مسيرة التَّوحيد الصافي النقي والَّذي لا تشوبه شائبة، فاعتاد الناس عليها، ولا بدّ من ذكر بعضها:
1- التمائم والرقى: وهي لا تجوز بغير كلام الله تعالى، مع الاعتقاد بأنَّها لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.
2- النذور: النذر لله وحده مشروع، وإيفاء النذر واجب.
3- الحلف واليمين: لا يجوز الحلف بغير الله.
4- الاستغاثة والاستعانة والتوسُّل: وكلُّها خطوط اتصال بحضرة الله، نلجأ إليها حين الرخاء وحين الشدَّة، ولا مانع أن نتوسَّل إلى الله بنبيّه صلى الله عليه وسلم، وبالصالحين من أحبابه وأوليائه دون غيرهم، قال تعالى {...ولو أنَّهم إذ ظَلموا أَنفُسَهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفرَ لهم الرسولُ لوجدوا الله توَّاباً رحيماً} (4 النساء آية 64)، وقال تعالى: {...وابتغوا إليه الوسيلة..} (5 المائدة آية 35).
5- الجنُّ والشياطين: وهي من مخلوقات الله علينا أن نحاذرها ونستعيذ منها، لا أن نتخيَّلها ونُحاول التودُّد إليها للاستفادة منها لأيِّ غرض كان.
6- القبور: لا يجوز أن نصلي تجاه قبرٍ، بالغاً ما بلغ صاحبه، بِنيَّة تعظيمه أو التوجُّه إليه من دون الله.(1/401)
7- السحر والعرافة والتنجيم: إن أصحاب هذه الحرف يتصرَّفون وكأنهم شركاء لله يعلمون الغيب، أو يستطيعون تحريك الأقدار، لذا لا يجوز التقرب منهم أو مجالستهم أو الاعتقاد بهم بأيِّ شكل كان.
وختاماً نعود لنؤكِّد ما أوردناه في مقدِّمة هذا الباب (أركان الإسلام) أننا أوردنا مبحث محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباب الثالث من هذا الكتاب (الفصل الرابع، (سلسلة الأنبياء)، البند التاسع).
الفصل الثاني:
الصَّلاة
الصَّلاة لغة: الدعاء، قال تعالى: {..وصلِّ عليهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم..} (9 التوبة آية 103) أي ادْعُ لهم. وهي شرعاً: أقوال وأفعال مخصوصة، مُفتَتَحة بالتكبير، مُختَتَمة بالتسليم. ودليل فرضيتها قائم بالقرآن والسنَّة والإجماع.
ففي القرآن قوله تعالى: {وما أُمِروا إلاَّ لِيعبُدوا الله مخلِصِيْنَ له الدِّينَ حُنَفَاءَ ويقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكاة وذلك دين القيِّمة} (98 البينة آية 5) كما وردت في آيات كثيرة، منها: {..فأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكَاةَ واعتصِمُوا بالله هوَ مولاكُمْ فَنِعْمَ المولى ونِعْمَ النَّصِير} (22 الحج آية 78).
وفي السنَّة: وردت أحاديث متعدِّدة، منها الحديث القدسي الَّذي رواه أبو داود في سننه عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى: إنِّي فرضت على أمَّتك خمس صلوات، وعَهِدت عندي عهداً أنَّه من جاء يحافظ عليهنَّ لوقتهنَّ أدخلته الجنَّة، ومن لم يحافظ عليهنَّ فلا عهد له عندي».(1/402)
وأمَّا الإجماع: فقد أجْمَعَتِ الأمَّة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة. وقد فُرِضَتِ الصَّلاة ليلة الإسراء قبل الهجرة بنحو خمس سنين، على المشهور بين أهل السيرة. وهي فرض عين على كلِّ مسلم بالغ عاقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الَّذي سأله عمَّا يجب عليه من الصَّلاة قال: «خمس صلوات في اليوم والليلة، قال الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا إلا أن تَطَّوَّع» (رواه البخاري ومسلم)، فالصلوات المكتوبة خمس في اليوم والليلة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها إلا بنذر.
والصَّلاة هي أعظم فروض الإسلام بعد الشهادتين، لحديث جابر رضي الله عنه : «بين الرجل وبين الكفر ترك الصَّلاة» (رواه مسلم). وقد شُرعت الصَّلاة شكراً لنعم الله تعالى الَّتي لا تحصى، ولها فوائد دينية وتربوية على الصعيدين الفردي والاجتماعي. فَمِنْ فوائدها الدِّينية: عقد الصلة بين العبد وربِّه، بما فيها من لذَّة المناجاة للخالق العظيم، وإظهار العبوديَّة له سبحانه، وتفويض الأمر إليه، والتماس الأمن والسكينة والنجاة في رحابه. وهي طريق الفوز والفلاح، وتكفير السيئات والخطايا، قال تعالى: {قد أفلحَ المؤمنون * الَّذين هُمْ في صلاتِهِم خاشعون} (23 المؤمنون آية 1ـ2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفَّارة لما بينهنَّ، ما لم تُغْشَ الكبائر» (رواه مسلم والترمذي وغيرهما). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا قام يصلِّي، أُتي بذنوبه فَوُضِعَتْ على رأسه أو على عاتقه، فكلَّما ركع أو سجد، تساقطت عنه» (رواه ابن حِبَّان في صحيحه).(1/403)
ومن فوائدها الشخصية: ذكر الله تعالى والتقرُّب إليه: {..وأقِمِ الصَّلاة لِذكري} (20 طه آية 14)، وتقوية النفس والإرادة: {واستعينُوا بالصَّبْرِ والصَّلاة وإنَّها لَكَبيرَةٌ إلاَّ على الخاشعين} (2 البقرة آية 45)، والاعتزاز بالله تعالى دون غيره: {إياك نعبد وإياك نستعين} (1 الفاتحة آية 5)، والسُّمُو عن الدنيا ومظاهرها، والترفُّع عن مغرياتها وأهوائها. كما أن في الصَّلاة راحة نفسية عظيمة، وطمأنينة روحية فريدة، وبعداً عن الغفلة الَّتي تصرف الإنسان عن رسالته السامية في هذه الحياة، قال صلى الله عليه وسلم : «جُعِلَتْ قُرَّة عيني في الصَّلاة» (رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك) كما أن في أدائها راحة وملاذاً بالله، وخلاصاً من الهمِّ والحزن؛ كان عليه الصَّلاة والسَّلام «إذا حَزَبَهُ أمر (أي نزل به همٌّ أو غمٌّ) قال: أرحنا بها يابلال» (أي أذِّن لإقامتها يا بلال لنرتاح بها) (رواه أحمد وأبو داود). ومن فوائدها الشخصية أيضاً: تدريب النفس وتعويدها على حبِّ النظام والالتزام به في سائر الأعمال وشؤون الحياة، إذ تؤدَّى في أوقات منظَّمة، كما أنها تُعلِّم المرء خصال الحلم والأناة والسكينة والوقار، وتعوِّده على حصر الذهن في المفيد النافع، وتركيز التفكير في معاني آي القرآن وعظمة الله تعالى وَفِقْهِ الصَّلاة.(1/404)
ومن فوائدها الاجتماعية: إقرار العقيدة الجامعة لأفراد المجتمع، وتماسكهم حولها، وتنمية روابط الانتماء للأمَّة، وتحقيق وحدة الفكر وتقوية الشعور بالجماعة الَّتي هي بمثابة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى. وفي صلاة الجماعة فوائد عميقة وكثيرة، من أهمِّها إعلان مظهر المساواة، وقوَّة الصفِّ الواحد، ووحدة الكلمة، والتدرُّب على الطاعة في القضايا العامَّة أو المشتركة باتِّباع الإمام فيما يرضي الله تعالى، والاتجاه نحو هدف واحد وغاية نبيلة سامية هي الفوز برضوانه عزَّ وجل. كما أن بها تعارف المسلمين وتآلفهم، وتعاونهم على البرِّ والتَّقوى، وتغذية الاهتمام بأوضاعهم وأحوالهم العامَّة، ومساندة الضعيف والمريض والغائب عن أسرته وأولاده.
وإن إقامة الصَّلاة وأداءَها في المسجد تجعل منه مقرّاً لقاعدة أخويَّة متعاونة متآزرة، يُطبَّق من خلالها شعار الأخوَّة الإسلامية الَّذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً» (رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والصَّلاة تُميِّز المسلم عن غيره، فتكون طريقاً للثقة به والاطمئنان إليه، وهي تبعث روح المحبَّة والمودَّة فيما بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم : «من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم» (أخرجه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه ).(1/405)
والصَّلاة لبُّ العبادة لما فيها من التذلُّل والتضرُّع لجلال الله، ولما تورث من راحة للنفس وسَكينة في القلب، والتحرُّر من كلِّ تبعيَّة إلا لله. أمَّا أوقاتها فهي من زوال الشمس (ميلها عن دائرة نصف النهار) إلى ظلمة الليل، ويشمل ذلك الصلوات الأربع: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. أمَّا صلاة الفجر فلها شأن خاص، وقد خصَّها الله بمزايا عديدة، لأنها الفريضة الَّتي تتجلَّى فيها محبَّة العبد لربِّه وامتثاله لأوامره، حيث يهجر فراشه وراحته لا يثنيه برد الشتاء عن النهوض، والمبادرة للوضوء بالماء مهما بلغت درجة برودته، بل على النقيض من ذلك يمنحه شعوراً بلذَّة الطاعة، ونشوة العبادة لأنه يتَّصل بخالقه، ويطلب منه الرحمة والرضوان، قال تعالى: {أقِمِ الصَّلاة لِدُلُوْكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ اللَّيلِ وقرآنَ الفجْرِ إنَّ قرآنَ الفجرِ كان مَشْهُوداً} (17 الإسراء آية 78) وقد اقترنت صلاة الفجر بقرآن الفجر لأن ملائكة الليل والنهار تجتمع في ذلك الوقت ويشهدونه جميعاً. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وقرآنَ الفجرِ إنَّ قرآنَ الفجرِ كانَ مشهوداً} أنه قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار». كما أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الملائكة يتعاقبون، ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فيكم، فيَسألهم ـ وهو أعلم ـ فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون». وقد يكون المراد أن الإنسان يشهد في الفجر آثار القدرة، ومواطن الحكمة في خلق السموات والأرض، فهنالك الظلام الحالك الَّذي يزيله النور الساطع، وهناك اليقظة من النوم بعد الخمود، والتبدُّل الَّذي يشمل كلَّ ما في الوجود. وقراءة القرآن في الفجر حيث يكون الذهن صافياً، تُمَكِّن الإنسان من(1/406)
استيعاب معانيه فكريّاً، والارتشاف من أنواره روحيّاً، لذلك فقد كانت له مكانة مميَّزة وخاصَّة.
أمَّا صلاة الليل فهي تزرع في قلب المسلم الإرادة الفولاذية، وتسمو بروحه إلى معارج الحبِّ الإلهي، قال تعالى: {إنَّ ناشِئَةَ اللَّيلِ هيَ أشدُّ وَطأً وأَقْوَمُ قِيْلاً} (73 المزمل آية 6). ففي هذه الآية يدعو الله تعالى رسوله ليسبِّحه في صلاة الليل، لما فيها من عظيم الثواب، إذ أن العبادة في الليل أشقُّ على النفس، وأبعد عن الرِّياء، قال تعالى: {ومِنَ اللَّيلِ فتهجَّدْ به نافِلةً لك عسى أن يبعثَكَ ربُّك مقاماً محموداً} (17 الإسراء آية 79) وفي الحديث الشريف: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوَّله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل» (رواه مسلم والترمذي عن جابر رضي الله عنه ). ولعل أجمل ساعات الوصال والاتصال بالحضرة الإلهية، هي ساعات الثلث الأخير من الليل، حيث تحلو المناجاة، وتنسكب العبرات عشقاً وشوقاً للواحد الغفَّار. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام، ثلاث عقد، يضرب على كلِّ عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلَّت عقدة، فإن توضَّأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (متفق عليه). وإن ليل القائم يتنوَّر بنور عبادته مثل وجهه، فقد سئل الحسن البصري: [ما لنا نرى وجوه قوم منوَّرة؟ فقال: خَلَوْا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره]. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ من قِبَل الله تعالى بالصَّلاة والتهجُّد وتلاوة القرآن، ليُبعث المقام المحمود، وهو المصطفى المختار الَّذي كان يُمْضِي الليل واقفاً بين يدي الله تعالى، يناجيه ويدعوه ويتصل به، ويصلِّي له حتَّى تتورَّم قدماه، فإذا كانت حالة الرسول صلى الله(1/407)
عليه وسلم هكذا، وهو الَّذي غَفَرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فكيف بنا نحن المذنبين؟ أليس حَريٌ بنا أن نسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونتبارى في تحصيل المزيد من الصلوات والنوافل والأذكار الَّتي تُزَكِّي لنا الفؤاد، وتُحْيِي منا الأرواح، وتزرع فينا الأمل بمرضاة الله وعفوه، فننال المنزلة الَّتي أعدَّها الله للمقرَّبين من عباده، ونحظى بالنعيم الَّذي أعدَّه لهم. فما أحوج المؤمنين لأن يسلكوا إلى الله مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيخلصوا العبادة والطاعة والتوجُّه إلى الله، ويدركوا أن العناء والتعب النفسي الَّذي يلاقونه في شؤون حياتهم، يزول ويتلاشى كلَّما سبَّحوا بحمد ربِّهم، واستمدُّوا من حضرته المدد والغوث، وفي هذا ما يجدِّد نشاطهم ويقوِّي هممهم لمتابعة العمل.
أمَّا عن إقامة الصَّلاة فإنها تقتضي اقتران التلاوة بتدبر مع التزام الخشوع القلبي، فإنْ أقيمت على هذا النحو من الأداء أفاضت على صاحبها نوراً وهداية، وكانت عنده بمثابة حصن متين يقيه شرور المنكرات والرذائل، مصداقاً لقوله تعالى: {اتلُ ما أُوحيَ إليك من الكتابِ وأقِمِ الصَّلاة إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكرِ ولَذِكْرُ الله أكبرُ وَالله يعلمُ ما تصنعون} (29 العنكبوت آية 45).(1/408)
وليس المهمُّ أن نصلِّي فحسب، بل المهمُّ والأهمُّ أن تكون صلاتنا مقبولة عند الله تعالى، وأوَّل الشروط الَّتي ينبغي على المصلِّي أن يلتزمها لضمان قبول صلاته؛ هو الإقامة الَّتي أرادها الله، والَّتي تعني الأداء الكامل التام ظاهراً وباطناً. فمتى خشع القلب وأخبت لربِّه وعلم أنه ماثل بين يديه، خشعت الجوارح والأركان. ولهذا فلابدَّ من الطمأنينة بين كلِّ حركة وأخرى من حركات الصَّلاة، وفي هذا ورد في الأثر: [أسوأ الناس الَّذي يسرق من صلاته]، وهذه السرقة هي عدم إتمام الوقوف والركوع والسجود والقعود بنشاط تام، فإذا خلت الصَّلاة من صدق التوجُّه إلى الله كانت صلاة صوريَّة شكليَّة، ولا تتجلَّى في المصلِّي آثارها في حسن الخُلُقِ والبعد عن المعصية، ولهذا نجد بعض المصلِّين لا يتورَّعون عن ارتكاب الذنوب، والقيام بالمنكرات دون خجل أو حياء، وهؤلاء الَّذين قال صلى الله عليه وسلم في حقِّهم: «من لم تَنْهَهُ صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بُعداً» (أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ). وهذا الصنف من الناس كان ولا يزال يسيء إلى سمعة المسلمين، ويعطي المثل السيء عنهم، وينفِّر غير المصلين من الصَّلاة، بسبب التناقض الجليِّ بين سلوكهم وتصرُّفاتهم، وبين وصفهم مصلِّين وذاكرين لله تعالى.(1/409)
وقد صرَّحت الآية الكريمة بأن الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكيف لا ينتهي عن ذلك هؤلاء المصلُّون! ذلك أن للصلاة مظهراً خارجياً، وجوهراً وحقيقة، فحركات الصَّلاة من قيام وقعود وسجود هي مظهر الصَّلاة وهذا ظاهر العبادة، وهذه الحركات يؤدِّيها سائر المصلِّين، أمَّا الوصول إلى جوهر الصَّلاة، فهذا من عمل القلب لا الجوارح، إلا أنه لا يمكن إدراكه بالعين المجرَّدة، كما لا يمكن أن نحكم على مستوى صلاة المصلِّي إلا بمقدار ما تنعكس آثار هذه الصَّلاة في أعماله وتصرُّفاته. فالمصلِّي المرتكب للفواحش، لا حظَّ له من صلاته إلا القيام والقعود، بخلاف المصلِّي الورع الَّذي تنعكس آثار الصَّلاة وخيراتها في مطلق أعماله وتصرُّفاته، وتهيمن عليه في حالتي الرضا والسخط والعطاء والمنع؛ فيكون من عداد المصلِّين الَّذين استثناهم الله تعالى، بخروجهم عن الأوصاف الملازمة للإنسان الخام، الَّذي لم يدخل مدرسة الصَّلاة وذلك في قوله جلَّ من قائل: {إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذا مسَّهُ الشَّرُّ جَزوعاً * وإذا مسَّهُ الخيرُ مَنُوعاً * إلاَّ المصلِّين * الَّذين هم على صلاتِهِم دائمون} (70 المعارج آية 19ـ23). وهذا مايؤكِّده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه « ليس كلُّ مصلٍٍّ يصلِّي، إنما أتقبَّل الصَّلاة ممَّن تواضع لعظمتي، وكفَّ شهواته عن محارمي، ولم يصرَّ على معصيتي، وآوى الغريب، كلُّ ذلك لي …» (رواه الديلمي عن حارثه بن وهب)(1/410)
إن ذكر الله تعالى هو أُسُّ العبادات، وبه نصل إلى حقيقة الصَّلاة، وجوهر الصَّلاة يعيدنا إلى دائرة الذكر لتكون بذلك حلقة متكاملة بالله، من الله وإلى الله. قال أحد العلماء العارفين: [إن في الصَّلاة ثلاث خصال: الإخلاص والخشية وذكر الله؛ فالإخلاص يقود العبد إلى المعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله ـ القرآن ـ يأمره وينهاه، فكلُّ صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة]. والذكر النافع ما تحقَّق فيه جمع القلب على الله وتفرغه ممَّا سواه، ذلك لأن صلة القلب المستمرَّة بالله، والذكر الدائم له، يتركان في الإنسان أعظم الأثر، وينقلانه من حال إلى حال، ويزوِّدانه بالقوَّة والثبات على التزام ما تلاه من القرآن الكريم في صلاته خير التزام. ومن ذكَر الله ذكره الله، وذِكْرُ الله للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وهذا من ثمار ذكر العبد ربَّه، قال تعالى: {فاذكُروني أَذكُركم..} (2 البقرة آية 152).(1/411)
وعندما تعترض المؤمن ظروف طارئة أو أوقات عصيبة لا يستطيع أن يؤدِّي فيها الصَّلاة بشكلها الأصلي؛ يُرخَّص له أن يؤدِّي هذا الفرض على الكيفية الَّتي تتلاءم مع ظرفه ووضعه رفعاً للحرج، وحرصاً على أدائها في وقتها. ومن هذه الرُّخص: القَصْر والجمع، تقديماً أو تأخيراً، والصَّلاة راكباً أو راجلاً، قائماً أو قاعداً أو مضَّجعاً، وذلك وفقاً للظرف الَّذي يطرأ على المكلَّف، من سفر أو مرض أوغيرها من الظروف والأحوال، الَّتي لا تُسقِط هذه الفريضة ووجوب أدائها عليه. والحكمة من هذا التشريع أن يبقى المؤمن على صلة دائمة بالله وبذكره، قبل الصَّلاة وبعدها وخلالها؛ لأن الذكر وظيفة روحيَّة، يستطيع المرء ممارستها أثناء قيامه بواجباته الحياتيَّة، وفي جميع الأحوال، ومن شأنه أن يصل قلبه بالله تعالى، ليستمدَّ من أنوار قدسه إيماناً يَظْهَرُ أثره في تصرُّفاته وأعماله، ويعينه على مجاهدة نفسه، ويعطيه القوَّة لخدمة مجتمعه، قال تعالى: {فإذا قَضيتُمُ الصَّلاة فاذكُروا الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِكم فإذا اطمأننتُم فأقيموا الصَّلاة إنَّ الصَّلاة كانت على المؤمنينَ كتاباً موقوتاً} (4 النساء آية 103).
والصَّلاة فرض مقيَّد بأوقات محدَّدة، لا يجوز تأخيرها أو الغفلة عنها، بل لابدَّ من المحافظة عليها للفوز برضى الرحمن؛ فهي مدرسة يدخلها المؤمن خمس مرات في اليوم ليزداد بها تعلُّماً وتفقُّهاً وحبّاً لله، كما أنها ضابطٌ روحي يُبقي للنفس جلاءها ونقاءها، وللجسد نظافته في الوضوء المستمر لإقامتها، قال صلى الله عليه وسلم : «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كلَّ يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا» (رواه الطبراني).(1/412)
وترك الصَّلاة يستوجب العقاب الإلهي بدليل قوله تعالى: {ما سَلَكَكُم في سَقَرَ * قالوا لم نَكُ من المصلِّين} (74 المدثر آية 42ـ43) وقوله أيضاً: {فويلٌ للمصلِّين * الَّذين هم عن صلاتِهِم سَاهون} (107 الماعون آية 4ـ5)، وقال صلى الله عليه وسلم : «من ترك الصَّلاة متعمِّداً، فقد برئت منه ذِمَّة الله ورسوله» (رواه أحمد).
الفصل الثالث:
الزَّكاة
الزَّكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض من فروضه، فُرِضَتْ في المدينة في شوَّال من السنة الثانية للهجرة بعد فرض الصَّوم وصدقة الفطر. وقُرنت الزَّكاة بالصَّلاة في القرآن الكريم في كثير من الآيات، ممَّا يدلُّ على كمال الاتصال بينهما. ودليل مشروعيتها قائم بكتاب الله تعالى، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ففي الكتاب قوله تعالى: {وأقيموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة وارْكَعوا مع الراكعِين} (2 البقرة آية 43)، وأمَّا في السُّنَّة فقوله صلى الله عليه وسلم : «بُنِيَ الإسلام على خمس.. منها إيتاء الزَّكاة» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما).
والزَّكاة لغة: النموُّ والزيادة، يقال زكا الزرع: إذا نما وزاد، وزكت النفقة إذا بورك فيها، وقد تطلق بمعنى الطهارة، قال تعالى: {قد أفلحَ من تَزَكَّى} (87 الأعلى آية 14) وتطلق أيضاً على المدح، قال تعالى: {..فلا تُزَكُّوا أنفسَكُم..} (53 النجم آية 32) وعلى الصلاح، يقال: رجل زكيٌّ، أي كثير الخير، وزكَّى القاضي الشهود: إذا بيَّن زيادتهم في الخير. وسُمِّي المال المُخْرَجُ في الشرع زكاة، لأنه يزيد البركة والنُموَّ في المال المُخْرَجِ منه، ويقيه الآفات، قال تعالى: {خُذْ من أموالِهِم صَدَقَةً تُطهِّرُهُم وتُزَكِّيهِمْ بها..} (9 التوبة آية 103) فهي تطهِّر مؤدِّيها من الإثم وتنمِّي أجره.(1/413)
والزَّكاة شرعاً: حقٌّ يجب في المال، ويمكن تعريفها بأنها: حقٌّ واجب على المسلم المالك للنِّصَاب، من مال مخصوص يؤدِّيه، وفق نسبة محدَّدة، لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. فالمال المخصوص يشمل الذهب والفضَّة، والزروع والثمار، وعروض التجارة والسوائم، والمعدن. والطائفة المخصوصة: هم الأصناف الثمانية المشار إليهم بقوله تعالى: {إنَّما الصَّدقاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمُؤَلَّفَةِ قلوبُهُم وفي الرِّقابِ والغارمينَ وفي سبيلِ الله وابنِ السَّبيلِ فريضةً من الله والله عليمٌ حكيم} (9 التوبة آية 60). والوقت المخصوص هو تمام الحول من العام إلى العام.
وقد أُطْلِقَت الزَّكاة في عُرف الفقهاء على فعل الإيتاء نفسه، أي أداء الحقِّ الواجب في المال، وعلى الجزء المقدَّر من المال الَّذي فرضه الله حقاً للفقراء. وتُسمَّى الزَّكاة صدقة، لدلالتها على صدق العبد في العبوديَّة والطاعة لله. أمَّا الحكمة من تشريعها فتظهر واضحة فيما يلي:
ـ تخفيف الفوارق الطبقيَّة، لأن التفاوت بين الناس في الأرزاق والمواهب وتحصيل المكاسب، أمر واقع ويحتاج إلى علاج: {والله فَضَّلَ بعضَكُم على بعضٍ في الرِّزْقِ..} (16 النحل آية 71) أي أنَّ الله تعالى أجزل العطاء لبعض الناس وقَدَرَ الرزق على بعضهم الآخر، ولهذا فقد أوجب على الغنيِّ أن يعطي الفقير حقاً واجباً مفروضاً، لا تطوُّعاً منه، أو مِنَّةً بإعطائه: {والَّذين في أموالهم حقٌّ مَعْلوم * للسَّائِلِ والمَحْرُوم} (70 المعارج آية 24ـ25) وفريضة الزَّكاة أعظم الوسائل لعلاج ذلك التفاوت، وتحقيق التكافل أو الضمان الاجتماعي في الإسلام.
ـ صيانة المال وتحصينه، ومعالجة الآفات الناجمة عن الفقر والجوع والحرمان، قال صلى الله عليه وسلم : «حصِّنوا أموالكم بالزَّكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدُّوا للبلاء الدعاء» (رواه الطبراني والخطيب عن ابن مسعود رضي الله عنه ).(1/414)
ـ إعانة الفقراء والمحتاجين، والأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، ومساعدتهم على ظروف العيش الكريم إن كانوا عاجزين، فتكون وقاية لأفراد المجتمع من مرض الفقر، وحماية لهم من ضائقة العجز أو الضعف أو الإفلاس. ولابدَّ من التضامن والتعاون والتآزر بين صفوف المجتمع المسلم، ليقوم بمسؤوليَّاته في أداء هذا الواجب، فقد روى الطبراني عن الإمام علي كرَّم الله وجهه: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الَّذي يسع فقراءهم، ولن يُجْهَدَ الفقراء إذا جاعوا أو عَرُوا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذِّبهم عذاباً أليماً).
ـ تطهير للنفس من داء الشُّحِّ والبخل، وتعويد المؤمن على البذل والسخاء، كيلا يقتصر إنفاقه على الزَّكاة، وإنما يساهم بواجبه الاجتماعي في رفد الدولة بالعطاء عند الحاجة، وتجهيز الجيوش، وصدِّ العدوان، وفي إمداد الفقراء إلى حدِّ الكفاية.
ـ تقديم الشكر العملي لله تعالى على نعمة المال لئلا ينقلب نقمة على صاحبه.
ولا يخفى أن كُلاًّ من الغنى والفقر لون من ألوان الامتحان للناس، فالغنيُّ ابتلاه الله بالمال، وكلَّفه أن ينفقه في مرضاته، ويؤدِّي حقَّ الفقير فيه، فإن فعل فقد فاز ونجا، وإن امتنع فقد خاب وخسر. وأمَّا الفقير فقد ابتلاه الله بالفقر، فهل يصبر أم يتضجَّر ويتأفَّف، فإن صبر كان له مثل أجر الغنيِّ الشاكر، وإن لجَّ وتأفَّف وتضجَّر، وسخط على قسمة الله، كان مستحقّاً للعقاب كالغنيِّ الفاجر، الَّذي لم يأتمر بأمر الله في ماله. ويجب على جميع المسلمين أن يجدُّوا في الكسب الحلال، ليصبحوا أغنياء، ويقوموا بأداء الزَّكاة ـ وكأن الإسلام جعل الغنى ركناً من أركانه ـ فلا يفوتهم هذا الركن المكين.
وأخيراً إن لأحكام الزَّكاة تفصيلات كثيرة ولن نخوض فيها، ولكن لابدَّ من الإشارة السريعة إلىنسبتها حسب الجدول التالي:
أنواع الزَّكاة(1/415)
بشرط أن تبلغ الأموال النصاب الشرعي، ويحول عليها الحول
أوَّلاً ـ زكاة النقد: نسبتها 2.5 % (اثنان ونصف بالمئة)
أـ الذهب: ونصابه 20 مثقالاً أي ما يعادل [85 ـ 96غراماً] حسب نسبة الذهب.
ب ـ الفضَّة: ونصابها 200 درهم أي ما يعادل [742 ـ700غراماً]
جـ ـ الأوراق النقدية: تقومَّ وفقاً لنصاب الذهب أو وفقاً لنصاب الفضَّة حسب الأنفع للفقير.
ثانياً ـ زكاة المواشي:
كلُّ نوع منها له نصاب معيَّن شريطة أن تأخذ غالب غذائها من المراعي المباحة.
أ ـ الإبل
ب ـ البقر
جـ ـ الغنم
د ـ الماعز
هـ ـ وأمَّا الخيل والبغال والحمير فتجب فيها الزَّكاة إن كانت للتجارة فقط.
ثالثاً ـ زكاة الزروع والثمار:
أ ـ ما يسقى بماء السماء (وهي ما تُسمى المزروعات البعلية) وكذا ما يسقى من ماء الأنهار دون دفع ثمن الماء: نسبة الزَّكاة فيها 10% (عشرة بالمئة)
ب ـ ما يسقى بواسطة مضخات الري: نسبة الزَّكاة فيها 5% (خمسة بالمئة)
رابعاً ـ زكاة عروض التجارة:
تُقوَّم السلع التجارية في آخر كلِّ عام وتحسب الزَّكاة على صافي الموجودات + الأرباح (بعد حسم جميع أنواع المصاريف والنفقات): نسبة الزَّكاة فيها 2.5% (اثنان ونصف بالمئة)
خامساً ـ العقارات للسكن الشخصي، وحليُّ المرأة للزينة في الحدود المعقولة (أي المعتاد أو العُرف): لا زكاة عليها.
وسنأتي على بحث الإنفاق في الإسلام بشكل موسع في الباب التاسع من هذا الكتاب بإذن الله.
الفصل الرابع:
الصَّوم
سورة البقرة(2)(1/416)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا كُتِبَ عليكمُ الصِّيام كما كُتِبَ على الَّذين من قَبلكُم لعلَّكُم تَتَّقُون(183) أيَّاماً مَعدوداتٍ فمن كان منكُم مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَرَ وعلى الَّذين يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسْكينٍ فمن تَطَوَّعَ خَيراً فهو خَيرٌ لهُ وأن تَصُومُوا خَيرٌ لكُم إن كُنتُم تَعلَمُونَ(184) شَهرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنزِلَ فيه القُرآنُ هُدىً للنَّاسِ وبَيِّناتٍ من الهُدى والفُرقانِ فمن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ ومن كان مَرِيضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بكُمُ العُسرَ ولِتُكمِلُوا العِدَّةَ ولتُكَبِّرُوا الله على ما هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ(185)}
/ ومضات:
ـ يُعَدُّ الصَّوم من أقدم العبادات الإنسانية وأكثرها انتشاراً، وقد اختلفت أنواعه ومدَّته باختلاف الشرائع، وحسب أحوال المكلَّفين واستعداداتهم وظروفهم.
ـ إن فريضة الصَّوم مدرسة تربويَّة عظيمة، يدخلها المسلم مرةً كلَّ عام، فيتخرج منها نقيَّ الروح طاهر النفس، قويَّ الإرادة صحيح البدن.
ـ لقد اختار الله للمؤمنين الصَّوم في شهر رمضان دون غيره من الشهور؛ لأنه الشهر الَّذي أنزل فيه القرآن وسائر الكتب السماويَّة، الَّتي أُفيضت من خلالها هداية الرحمن على البشريَّة.
/ في رحاب الآيات:(1/417)
تتعدَّد الوسائل الَّتي تسهم في بناء الشخصية الإيمانية، وتتفاوت سلباً وإيجاباً، ومن أسرعها تأثيراً ونجاحاً، امتحان المرء نفسه للتعرُّف على مدى قدرته على الصبر والتحمُّل، ولقد أثبتت هذه الوسيلة فاعليتها من خلال التشريع الإلهي السماوي، الَّذي فرض على الناس بعض العبادات الَّتي تهدف لذلك، ومنها الصَّوم الَّذي تتحقَّق فيه هيمنة سلطان الروح على الجسد؛ فيعيش الإنسان مالكاً زمام أموره بنفسه، لا أسير ميوله الماديَّة البهيميَّة، كما يغرس فيه الأمانة والصدق مع الذَّات، فما من شيء يمنعه ـ لدى أدائه لهذه العبادة ـ من ممارسة المفطِّرات وتعاطيها غير اعتقاده بأن الله يراقبه ويطَّلع عليه. وقد جاء في الحديث القدسي: «كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصِّيام فإنه لي وأنا أجزي به» (أخرجه أحمد ومسلم والنَّسَائي).
ومعنى الصِّيام في الإسلام هو: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات، مع النيَّة على ذلك، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ولمَّا كان الامتناع عن ممارسة هذه الأمور المباحة ثقيلاً على النفس، يصعب عليها تقبُّله إن لم تكن مؤمنة وعاشقة لله؛ خاطب الله عباده بهذا النداء العذب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} قبل أن يلقي إليهم الأمر بالصِّيام، فخلع عليهم لقب المؤمنين تحريكاً لقلوبهم وشدّاً لعزائمهم، لأن الإيمان يقتضي الامتثال والطاعة، ثمَّ أتبع هذا النداء بالتكليف بعد أن شحذ نفوسهم، ودفعها لتنهض وتستجيب لأمره.(1/418)
والصِّيام فريضة قديمة موجودة في الشرائع كافَّة، والغاية الأولى منه هي إعداد القلوب لتقوى الله وخشيته، وإعداد النفوس لكلِّ خير، ذلك أن الصَّائم يترك شهواته ـ مع قدرته على اتِّباعها ـ امتثالاً لأمر الله، ومسارعة إلى مرضاته، وهذا من شأنه أن يورث خشية الله في القلب، وينمِّي ملكة المراقبة للذَّات، ويقظة الضمير. وقد فُرض الصَّوم على المسلمين في البداية ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ثمَّ نُسِخ ذلك بصوم شهر رمضان. وكان الصِّيام في بدء الإسلام اختياريّاً بالنسبة للصحيح المقيم، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كلِّ يوم مسكيناً، مع بيان أن الصِّيام أفضل من الإطعام. وبعدها أصبح صيام شهر رمضان فرضاً على الصحيح المقيم، على قاعدة التدرُّج في الأحكام، وأُبيح للمريض أن يفطر حفاظاً على صحَّته، وكذلك للمسافر منعاً للمشقَّة والضرر، بشرط أن يقضيا ما فاتهما عند القدرة. أمَّا إذا أفطر المؤمن لشيخوخةٍ أو ضعف وكان عاجزاً عن القضاء، فعليه فدية إطعام مسكين عن كلِّ يوم أفطره، وإن زاد على ذلك فهو خير له. ومن كان ذا عذر وأخذ بالعزيمة ولم يفطر فهو خير له، شريطة ألا يُجهد نفسه أو يُحمِّلها فوق طاقتها.(1/419)
وقد ثبت طبيّاً أن الصِّيام يزيل الموادَّ المترسِّبة في الجسم، ويجفِّف الرطوبات الضارَّة، ويطهِّر الأمعاء من السموم الَّتي تحدثها البِطنة، ويذيب الشحوم ذات الخطورة الشديدة على القلب، وقد قال أحد أطباء الغرب عنه: [إنه جرَّاح ذهني، يشفي من العلل دون استعمال مشرط أو إراقة دم]. والصِّيام يقوِّي الإرادة، ويعوِّد النفس على الصبر والاحتمال، فيواجه الإنسان الحياة بشجاعة، وبقدر ما تقوى الإرادة يضعف سلطان العادة ويقوى سلطان العبادة، وبذلك تتاح الفرصة لهجر الكثير من العادات السيئة. والصِّيام يحقِّقُ نوعاً من المساواة بين الأغنياء والفقراء، ويفجِّر ينابيع الرحمة والعطف في قلوب الأغنياء، بعد أن يذوقوا معاناة مَن ضاقت بهم سبل الرزق، ممَّا يؤدِّي إلى حفز استعداداتهم لمواساتهم، فتتآلف القلوب، وتتلاشى الأحقاد، ويتآزر الجميع للنهوض بالمجتمع وتوفير الطمأنينة في أرجائه.
والصِّيام ليس مجرد إمساك عن المفطرات، وإنما هو هجرٌ لجميع المعاصي والسيئات فلا يحلُّ للصائم أن يتكلَّم إلاَّ حسناً، ولا يفعل إلاَّ جميلاً. قال صلى الله عليه وسلم : «الصِّيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، إني صائم» (أخرجه أحمد ومسلم والنَّسَائي). وبهذا يكون الصِّيام درساً عملياً في تعويد النفس على الفضائل، وحملها على الاتِّصاف بكلِّ ما هو حسن في جميع الحالات، وإلا فإنه سيتحوَّل إلى مجرَّد عمل شاقٍّ لا يحتوي أي مضمون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» (أخرجه النَّسَائي وابن ماجه).(1/420)
وقد اختار الله تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور فأنزل فيه القرآن الكريم، وهو الشهر الَّذي كانت الكتب السماوية تُنزَّل فيه على الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم : «أُنْزِلَتْ صحف إبراهيم في أوَّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» (رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ) وقد أنزل الله القرآن الكريم، كغيره من الكتب السماوية، هدى لقلوب العباد الَّذين آمنوا به وصدَّقوه واتَّبعوه، وفيه دلائل واضحة، وبرامج عملية مسعدة لمن فهم آياته وتدبَّرها.
فَمَنْ أظلَّه شهر الصَّوم، وكان مقيماً في بلده، صحيحاً في جسمه، فعليه أن يصوم، أمّا في حالة المرض المؤدِّي إلى الضرر، أو زيادة العلَّة، أو تأخُّر الشِّفاء ففي ذلك حكمان:
1 ـ ألا يطيق المريض الصَّوم بحال من الأحوال، فالإفطار في حقِّه واجب.
2 ـ أن يقدر على الصَّوم مع وجود المشقَّة الَّتي قد ينجم عنها الضرر، فهذا يُرخَّص له بالإفطار، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ أن تُؤتى رخصه كما يحبُّ أن تُؤتى عزائمه» (رواه البيهقي والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه ) (الرخصة هي تسهيل الحكم على المكلَّف بسبب عذر حاصل).(1/421)
والإفطار مشروط بالقضاء بعد زوال السبب أو بدفع الفدية بالنسبة لمن لا يتوقع زوال هذا السبب، وهذا تيسير وترغيب في أداء الفريضة، ومراعاة من الشارع جلَّ شأنه لأحوال الناس الصحيَّة والمعاشيَّة، وفيه توجيه للدعاة ليسلكوا بالناس سُبل التسهيل، وأن يتجافوا عن التشدُّد. فالداعي مع الإنسان كالطبيب مع المريض، همُّه بُرْؤُه وشفاؤه بأيسر السُّبُل وأخفِّ الكُلَفِ، وليس من الصواب ما يفعله بعض الناس في تحرِّي المشاقِّ وتكليف الناس بها. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَكَ المتنطِّعون» قالها ثلاثاً (رواه مسلم) (المتنطِّعون هم المتشدِّدون في غير موضع التشديد)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدِّين يسر، ولن يشادَّ الدِّين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجَة» (رواه البخاري) (الغدو هو الخروج صباحاً، والرَّواح هو العودة مساءً، والدُّلْجة هي سير الليل).
فالحمد لله على ما هدانا إليه من الحقِّ، والحمد لله على ما امتنَّ به علينا من الرُّخص، مراعاة لظروفنا وأحوالنا، بحيث نقوم بأداء الفرائض على أتمِّ وجه، حتَّى إذا ما صمنا شهر رمضان؛ الصِّيام الأمثل حقَّ لنا أن نستقبل العيد مهلِّلين مكبِّرين، الله أكبر الله أكبر.
من هذا كلِّه نستشفُّ أن:
1 ـ الصِّيام عبادة من شأنها تهذيب الروح، وتقوية الإرادة، وتدريب النفس على الطاعات ومخالفة الأهواء، كما أنها تطبيب للأجسام. وبما أن شرائع الله جميعاً قوامها الخير والإصلاح في كلِّ أمور الحياة، فقد كان الصِّيام ركناً أساسيّاً في كلٍّ منها.
2 ـ الصِّيام يولِّد شعوراً بالرَّقابة الذاتيَّة لدى المؤمن، وبالتالي إحساساً بمراقبة الله له، ممَّا يقوِّي الخشية والتَّقوى في نفسه.(1/422)
3 ـ ليس الغرض من الصِّيام حرمان المؤمن من الملذَّات المباحة، بل هو اختبار لإرادته ومدى امتثاله لأوامر الله، وفرصة لإعطاء جسمه شيئاً من الراحة والتنظيف الداخلي.
4 ـ ما جعل الله في الدِّين من حرج، بل جعل لكلِّ ظرف حكماً يناسبه، تيسيراً لأمور العباد، ففرض على المؤمنين الصِّيام، واستثنى منهم من كان مريضاً؛ يمنعه مرضه ـ لزمنٍ مؤقت ـ عن الإمساك عن الطعام أو الشراب، وكذلك المسافر؛ حتَّى لا تتضاعف عليه المشقَّة والعناء، إلى أن يملك كلٌّ منهما القدرة على الصِّيام، فيصوم بدلاً عما أفطر.
5 ـ إن شريعة الله ذات قوانين منضبطة محكمة، فمن رُخِّصَ له في ظرف مؤقَّت، ثمَّ زال عنه ذلك الظرف، توجَّبت عليه العودة إلى ظلِّ تلك القوانين والالتزام بها. أمَّا أولئك الَّذين يملكون موانع دائمة؛ كالكِبَر في السنِّ أو المرض المزمن وما إلى ذلك، فقد جعل الله لهم مخرجاً، بأن أباح لهم أن يستبدلوا الصِّيام بدفع الفدية، وهي إطعام مسكين أكلتين مشبعتين، من الطعام الوسط، عن كلِّ يوم يفطرونه.
6 ـ قبل أن يصبح حكم الصِّيام في الإسلام إلزاميّاً كان اختياريّاً، وكان قد أوجب فدية على المفطر؛ وهي إطعام مسكين عن كلِّ يوم يفطره، مع ترغيبله بأن يصوم لما في ذلك من فوائد صحيَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة وتعبُّدية.
7 ـ اختصَّ الله تعالى شهر رمضان، الَّذي هو شهر الصِّيام، بفضائل كثيرة من أهمِّها أنه أُنزِل فيه القرآن الكريم، والكتب السماوية الَّتي سبقته، وكلُّها تحمل الهداية والإرشاد للناس.(1/423)
8 ـ بدء فريضة الصِّيام مرهون بإثبات ظهور هلال شهر رمضان، وتنتهي بإثبات ظهور هلال شهر شوال؛ وهذا الإثبات يتمُّ بالرؤية البصرية أو عن طريق الحسابات الفلكية الَّتي يقوم بها (قوم يعلمون)؛ بدليل قول الله تعالى: {هُو الّذي جَعلَ الشّمسَ ضياءً والقمرَ نوراً وقدّره منازل لتَعلموا عددَ السِنينَ والحسَابَ ماخلق الله ذلك إلا بالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يعلمون} (10 يونس آية 5)، وقوله أيضاً: {الشمسُ والقمرُ بِحُسبان} (55 الرحمن آية 5).
9 ـ عيد الفطر هو عيد الطائعين، الَّذين دخلوا امتحان رمضان ونجحوا فيه، فحقَّ لهم أن يفرحوا ويشكروا الله تعالى على ما وفَّقهم إليه من الهداية والإيمان، ويكبِّروه.
الفصل الخامس:
الحج
الحجُّ هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد فرضه الله عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة النبوية. وقد كان مفروضاً في زمن إبراهيم عليه السَّلام، وجاء الأمر به في شريعتنا تأكيداً لتلك الفريضة الَّتي أمر الله خليله بالإعلام عنها، والدعوة إليها حين قال: {وأَذِّنْ في النَّاسِ بالحجِّ يَأْتُوكَ رجالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ من كُلِّ فَجٍّ عميق * ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهم ويَذْكُروا اسم الله في أيامٍ معلومات..} (22 الحج آية 27ـ28).
والحجُّ لغة: القصد إلى مُعظَّم، أمَّا معناه شرعاً: فهو زيارة مكان مخصوص في زمن مخصوص، بفعل مخصوص. وتعتريه الأحكام الخمسة فيكون: فرضاً، وواجباً، وحراماً، ومكروهاً، ومندوباً إليه مستحباً.(1/424)
فهو فرض على البالغ العاقل المستطيع مرَّة واحدة في العمر، وذلك ثابت بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمَّة. أمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {..ولله على النَّاسِ حِجُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً..} (3 آل عمران آية 97). وأمَّا في السُّنَّة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم : «بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وإقامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزَّكاة وحجِّ البيت وصوم رمضان» (رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما). وأمَّا الإجماع: فكما أن الأمَّة الإسلامية أجمعت على فرضيَّة الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام، فكذلك أجمعت على فرضيَّة الحجِّ في العمر مرَّة على من يستطيعه.
والدليل على فرضيَّته مرَّة في العمر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خَطَبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ياأيُّها الناس فُرض الله عليكم الحجَّ فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يارسول الله؟ فسكت، حتَّى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قلتُ نعم، لوجبت ولما استطعتم» (رواه أحمد ومسلم والنَّسَائي) وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه : «من زاد فهو تطوُّع» (رواه أحمد والنسائي).
وقد يجب الحجُّ أكثر من مرَّة لعارضٍ كَنَذْرِ أحدهم، بأن يقول: لله عليَّ حجَّة، لأن النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقُرُبات المقصودة، وكذلك يجب في حالة القضاء عند إفساد التطوُّع. ويحرم الحجُّ إن كان بمال حرام، ويُكره إن كان دون إِذْنِ مَنْ يجب استئذانه؛ كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته، أو الدائن لمدين لا مال له يقضي به، أو الكفيل لصالح الدائن، ويكون حكمه مستحبّاً لمن حجَّ حجَّة ثانية فما فوقها غير الفريضة.(1/425)
وأمَّا فضل الحجِّ فقد بيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة إلا أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنَّة» (المبرور: المقبول). وللحجِّ آداب وشعائر، ورد بعضها في قوله تعالى: {الحَجُّ أَشهُرٌ معلُومَاتٌ فمن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ في الحَجِّ وما تَفعَلُوا من خَيرٍ يَعلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى واتَّقُونِ ياأُولِي الألباب} (2 البقرة آية 197).(1/426)
وهكذا فإن الحجَّ ركن من الأركان الَّتي بُني عليها الإسلام، وأحد الدعائم الأساسيَّة الَّتي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي العالمي. وهو عبادة موقوتة بزمان محدَّد من كلِّ عام، ونوع من السلوك البشري الراقي حيث يلتزم جميع المسلمين، حكَّاماً ورعيَّة، بلباس موحَّد، دون أي تفريق أو تمييز، وهو لون من ألوان التدريب العملي على مجاهدة النفس، من أجل الوصول إلى إقامة التوازن، بين حياة روحيَّة سامية وبين متطلَّبات الجسد المادية، لضمان النجاح في القيام بأعباء الرسالة الإلهيَّة، الَّتي كُلِّف الإنسان بحملها. والحجُّ مدرسة أيَّامها معدودات يعيش المؤمن في رحابها عفيفاً مستقيماً، بعيداً عن الملذَّات الدنيوية المباحة، لأنه قد نذر نفسه للإقبال على الله وقَصْدِ رضاه، كي ينهل من العطاءات الروحيَّة الَّتي تتدفَّق في الحجِّ، فلا يقرب زوجه ولا يستمتع بها، ويخلع عن نفسه أهواءها ونوازعها، كما يخلع عن جسده ملابسه وزينته، ليرتدي ملابس الإحرام البيضاء الَّتي ترمز إلى الطهارة والنقاء، وتزيل جميع الفوارق الاجتماعيَّة بين الناس، وتوحِّد قلوبهم وتصهرها في بوتقة واحدة، لتصبح قادرة على ترديد التلبية الرائعة الخالدة (لبيك اللهمَّ لبيك)، بوتيرة واحدة، وكأنها تنطلق من حنجرة واحدة، فيشعر الحاجُّ بنوع من الفناء لكيانه الشخصي، ليتحوَّل إلى ذرَّة متناهية الصغر في الكتلة الإنسانيَّة الواحدة، حيث لا أنانية ولا خصام، بل إيثار ووئام، وبُعدٌ عن الجدال والمهاترات، من أجل المحافظة على وُدِّ الآخرين وتأليف قلوبهم، وجمعها حول كلمة الله تعالى، ممَّا يقوِّي استعداد نفسه لعمل الخير والحرص عليه. ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمُّه».(1/427)
فالمؤمن الَّذي يكتمل حسُّه، ويتعمَّق يقينه بالله، يندفع إلى العمل الصالح رغبة في أن يراه الله حيث يحب. ولهذا يُطَمْئن الله عباده بأنه مطَّلعٌ ومشاهد، ورقيبٌ ومحاسب: {وما تفعلوا من خيرٍ يَعلَمْه الله} وهذا يشمل كلَّ عملٍ صالح في أيِّ وقت وفي أيِّ مكان.
ولعل من أروع آثار الحجِّ الاجتماعية أنه مؤتمر عام لاجتماع أكبر عدد ممكن من أفراد الأمَّة الإسلامية، ليشهدوا المنافع الجمَّة الَّتي تعود عليهم بالخير والبركة، وتستوي في ذلك المنافع الروحية والاقتصادية والسياسية. ويمكننا أن نلمح في كلمة (منافع) الواردة في صيغة النكرة في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} إشارة إلى أن المنافع المكتسبة من الحجِّ، متعدِّدة ومختلفة باختلاف الأزمنة، واختلاف النواحي والمجالات.
فالحجُّ مناسبة للتعارف بين أفراد الشعوب الإسلامية، ولتوحيد غاياتهم، ليصلوا بذلك إلى حياة القوَّة والعزَّة والعلم والعمل، وذلك نتيجة الفائدة الَّتي يحصلون عليها من تبادل الآراء المختلفة والثقافات المتنوِّعة. كما أن الحجَّ موسم لعقد المعاهدات والاتفاقيات، ودراسة الوسائل الممكنة لتيسير التعاون الاجتماعي والاقتصادي، وتقوية اللُّحمة بين أقطار المسلمين على اختلاف جنسياتهم وألوانهم.(1/428)
والله تعالى يحدِّد في هذه الآية الأخلاق الأساسية الَّتي تقوم عليها رحلة الحجِّ التعبُّدية، ثمَّ يلفت الانتباه إلى رحلة الحياة فيأمر المؤمنين بالتزوُّد، استعداداً لها بزادٍ يخصُّ الجسد والروح معاً، فأمَّا زاد الجسد فهو الحلال من الطعام والشراب واللباس، وأمَّا زاد الروح ـ وهو الأهم ـ فهو تقوى الله عزَّ وجل والإكثار من ذكره، لأن الذكر غذاء القلب والروح، ونفعُه لا ينقطع في الدنيا ولا في الآخرة. وإذا كانت ثمار هذا الزَّاد تتجلَّى بوضوح في مواسم العبادة كالحجِّ، فحريٌ بالإنسان أن يثابر عليه طيلة حياته، ويبقي قلبه في حالة اتصال دائم مع حضرة الله، فلا يغفل عنه، ولا ينصرف عن مراقبته، بل يتوجَّه إليه بالخوف والحبِّ معاً ليحظى برضاه وينال نعيمه، وبذلك تستمر نتائج مدرسة الحجِّ بالتفاعل في نفس الحاجِّ في شؤون حياته كافَّة، حتَّى يلقى وجه ربِّه الأعلى، وحينها سوف يرضى بإذن الله.
من ذلك كلِّه نستشرف آفاقاً جليلة نُلخِّصها بما يلي:
1 ـ الإسلام سلسلة متَّصلة من التعاليم والأحكام في غاية الدقَّة والانضباط، لا تنفكُّ عن النظام الَّذي يسيِّر هذا الكون، لذلك كانت فروضه انعكاساً حقيقياً لهذا النظام. والحجُّ حلقة من هذه السلسلة، موقوت بزمن معلوم لا يصحُّ إلا فيه. وفي ذلك كلِّه تعليم للناس أن موازين الأمور سواء منها الدِّينية أو الدنيوية، لا تستقيم إلا بالنظام والانضباط، ومحورها جميعاً هو حسن استثمار الوقت والزمن.
2 ـ الحجُّ تجمُّع بشري مؤمن مليء بالمعاني والقيم، يحكمه سلوك وآداب معيَّنة تجعل الحاجَّ يصل بها إلى الغاية المرجوَّة منه. ومن هذه الآداب: العزوف عن المعاشرة الزوجية وتجنُّب دواعيها، والامتناع عن الظلم والبغي، والتجافي عن الخوض في الجدالات والمهاترات الَّتي توقع البغضاء بين الناس، وتجرُّهم إلى الخلافات والصراعات.(1/429)
3 ـ الإحرام هو أحد الشعائر الَّتي يقوم بها الحاجُّ قبل شروعه بالحجِّ، يرمز إلى خلع كلِّ ما له علاقة بالفروق الاجتماعية، وهو بمثابة صكِّ المساواة بين سائر الناس، من كلِّ الأجناس والطبقات، يوقِّعه الحاجُّ بملء إرادته، ونفسه زاخرة بالتواضع والرِّضا.
4 ـ إن الله عالمٌ بصير لا تخفى عليه خافية، وهو كريم مع عباده يكافئ المحسن بأحسن ممَّا قدَّم.
5 ـ العاقل يحمل معه من المؤونة في سفره ما يكفيه ويوفِّي جميع احتياجاته، إن لم يكن فوق ذلك. وينبغي على الإنسان أن يتزوَّد في رحلة سفره في هذه الدنيا، والَّتي تنتهي به عند منعطف الموت إلى الدار الآخرة، بكلِّ ما يكفل له النجاة والسعادة فيها، وخير ما يتزوَّد به هو التَّقوى، لأنها تعني الاجتهاد في كسب رضا الله عزَّ وجل، والابتعاد عن كلِّ ما يغضبه، ولا يتَّقي الله إلا مَنِ استنار قلبه بالإيمان واستضاء عقله بالهداية.
وقبل إنهاء هذا الفصل تجدر الإشارة إلى موضوعين هامين يتعلَّقان بالحجِّ هما: الهدي، وقدسيَّة البيت الحرام والكعبة المشرفة، ومنزلتهما المباركة، ونجمل حديثنا عنهما في الصفحات التالية بإذن الله.
آ ـ الهدي:
سورة الحج(22)
قال الله تعالى: {والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائِرِ الله لكم فيها خيرٌ فاذكُروا اسم الله عليها صَوَافَّ فإذا وَجَبتْ جُنُوبُها فَكُلوا منها وأَطعموا القانِعَ والمُعْتَرَّ كذلك سخَّرناها لكم لعلَّكم تشكرون(36) لن ينالَ الله لُحُومُهَا ولا دِماؤُها ولكن يَنالُهُ التَّقوى منكم كذلك سخَّرَهَا لكم لِتُكَبِّروا الله على ما هداكم وبشِّرِ المحسنين(37)}
ومضات:(1/430)
ـ إن تقديم الذبائح يعني منح الجائع الفقير فرصة يحصل فيها على ما يُمسِكُ رمقه لأشهر طويلة؛ وبهذا فإن الذبح ليس مجرد عمل تقليدي تعبُّدي وإنَّما هو سلوك اجتماعي تعاوني. وخير مناسبة يتمُّ فيها هذا العمل هو الحج، ذلك المؤتمر السنوي العام الَّذي يجتمع فيه الغنيُّ والفقير والمكتفي والجائع، فيرى الغنيُّ بعينه حلاوة تقديم القربات إلى الله تعالى في إكرام عياله، وإهدائهم من نعم الله الَّتي تفضَّل بها عليه، وجعلها أمانة في يده وفي أيدي الأغنياء.
ـ الغاية من تقديم لحوم الذبائح للفقراء مع إخلاص النيَّة لله فيها؛ إتمام شعائر الله وتعظيمها، فالله تعالى غنيٌّ عن الصدقات والأضحيات، وهو المتفضِّل برحمته على المخلوقات أجمعين.
في رحاب الآيات:
الهدي هو ما يهدى من الأنعام إلى الحرم تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل، وهي من شعائر الله في الحجِّ، وقد أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النَّعم، والنَّعم هي الإبل والبقر والغنم، ذكراً كانت أو أنثى، وللمرء أن يهدي للحرم ما يشاء منها، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، وكان هديُه هديَ تطوُّع. وأقلُّ ما يجزئ عن الواحد شاة أو سُبْعُ بَدَنَة (ناقة)، أو سُبع بقرة، فإن البقرة أو الناقة تجزئ عن سَبْعَة. قال جابر رضي الله عنه: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة أشخاص، والبقرة عن سبعة» (رواه أحمد ومسلم).(1/431)
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحبُّ إلى الله من إهراق دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً» (أخرجه ابن ماجه والترمذي والبغوي في شرح السنة). كما روي عن جابر رضي الله عنه قال: «شهدتُ المُصَلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى خطبته نزل عن منبره وأتى بكبش فذبحه بيده وقال: بسم الله والله أكبر هذا عني وعن من لم يضحِّ من أمَّتي» (أخرجه الترمذي). وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «قالوا: يارسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: سُنَّة أبيكم إبراهيم، قالوا: فمالنا فيها يارسول الله؟ قال: بكلِّ شعرة حسنة، قالوا: فالصوف؟ قال: بكلِّ شعرة من الصوف حسنة» (أخرجه ابن ماجه وأحمد بن حنبل والحاكم والبيهقي في السنن)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ياأيها الناس ضحُّوا وطيبوا بها نفساً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يوجِّه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة» (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه).
$ أحكام الهدي:
ينقسم الهدي إلى مستحبٍّ وواجب؛ فالهدي المستحب للحاجِّ المُفْرِد ـ وهو الحاجُّ الَّذي أحرم بالحجِّ فقط ــ والمعتمر المفرد. أمَّا الهدي الواجب فأقسامه كالآتي:
1 ـ واجب على القارن والمتمتِّع؛ والقارن هو الحاجُّ الَّذي أحرم بالحجِّ والعمرة بنيَّة واحدة، والمتمتِّع هو كلُّ من أحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحجِّ قبل أن يحجَّ، وكان موطنه خارج نطاق الحرم، ثمَّ تحلَّل وأحرم بالحجِّ بعد ذلك.
2 ـ واجب على من ترك واجباً من واجبات الحجِّ، كَرَمْيِ الجمار والإحرام من الميقات، والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، أو منى، أو ترك طواف الوداع.(1/432)
3 ـ واجب على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام غير الوطء، كالتطيُّب والحلق، أمَّا الوطء فإنه يفسد الحجَّ إن كان قبل التحلُّل الأصغر.
4 ـ واجب بالجناية على الحَرَمِ كالتعرُّض لصيده أو قطع شجره.
$ شروط الهدي:
1 ـ أن يكون ثنِيّاً إذا كان من غير الضأن، أمَّا الضأن فإنه يجزئ منه الجَذَع فما فوقه، وهو ما له ستة أشهر وكان سميناً.
والثني من الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر: ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة تامَّة، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه.
2 ـ أن يكون سليماً، فلا تجزئ فيه العوراء ولا العرجاء ولا الجرباء ولا العجفاء (الهزيلة)، وعن الحسن رضي الله عنه ، عن أبيه ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: (إذا اشترى الرجل البَدَنة، أو الأضحية، وهي وافية فأصابها عور أو عرج أو عجف قبل يوم النحر فليذبحها وقد أجزأته) (رواه سعيد بن منصور).
$ استحباب اختيار الهدي:
روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول لبنيه: يا بَنِيَّ لا يهدِ أحدكم الله تعالى من البُدن شيئاً يستحيي أن يهديه لكريمه، أي لحبيبه المكرَّم العزيز لديه، فإن الله أكرم الكرماء وأحقُّ من اختير له.
$ إشعار الهدي وتقليده:
الإشعار: هو أن يشقَّ أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة، حتَّى يسيل دمها، ويجعل ذلك علامة لكونها هدياً فلا يُتعرض لها.
والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها، لُيعرف بها أنه هدي. وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم غنماً وقلَّدها، وبعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه عندما حجَّ سنة تسع. وثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قلَّد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة وقت الحديبية.
والحكمة من الإشعار والتقليد تعظيم شعائر الله وإظهارها، وإعلام الناس أنها قرابين تساق إلى بيته، وتُذبح له ويُتَقَرَّب بها إليه.(1/433)
على أنه يجوز ركوب البُدن والانتفاع بها لقوله تعالى: {لكم فيها منافِعُ إلى أجلٍ مُسمَّىً ثمَّ مَحِلُّها إلى البيتِ العَتيق} (22 الحج آية 33).
$ الذبح:
1ـ وقت الذبح: اختلف العلماء فيه، فعند الشافعي أن وقت ذبح الهدي يوم النحر، وأيَّام التشريق، لقوله صلى الله عليه وسلم : «وكلُّ أيَّام التشريق ذبح» (رواه أحمد) فإن فات وقته، ذُبح الهدي الواجب قضاء. وعند مالك وأحمد، وقت ذبح الهدي أيَّام النحر، سواء أكان ذبح الهدي واجباً أم تطوُّعاً، وهذا رأي الأحناف بالنسبة لهدي التمتُّع والقران.
2ـ مكان الذبح: لا يُذبح الهدي سواء كان واجباً أم تطوُّعاً إلا في الحرم، وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه. عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مِنى مَنحَر وكلُّ المزدلفة موقف، وكلُّ فجاج مكَّة طريق ومنحر» (رواه أبو داود وابن ماجه) والأَوْلى بالنسبة للحاجِّ أن يذبح بمنى، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة، لأنها موضع تَحَلُّلِ كُلٍّ منهما.
3ـ كيفيَّة الذبح: يجب أن تتمَّ عملية الذبح بكلِّ مهارة وتلطُّف، فعن شداد بن أوس في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرِح ذبيحته». ولا يجوز الأكل من البَدَنة (الناقة أو البقرة) إذا نُحرت، حتَّى تموت وتبرد حركتها، لقوله تعالى: {فإذا وجَبَتْ جُنوبُها فَكلوا منها وأطعموا القانعَ والمُعْتَرَّ}.
$ الأكل من لحوم الهدي:(1/434)
أباح الله تعالى للمهدي الأكل من لحوم الهدي فقال: {..فكلوا منها وأطعموا البائِسَ الفقير} (22 الحج آية 28) وهذا الأمر يتناول بظاهره هدي الواجب، وهدي التطوُّع. وللمُهدي أن يأكل من هديه الَّذي يُباح له الأكلُ منه أيَّ مقدار يشاء بلا تحديد، وله كذلك أن يهدي ويتصدَّق. وقيل يأكل النصف ويتصدَّق بالنصف، وقيل يقسمه أثلاثاً: فيأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدَّق بالثلث. وقد خصَّت الآية الكريمة البُدن بالذِّكر لأنها أعظم الهدي، وأبانت أن الله أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيراً وهي حيَّة تُركب وتُحلب، وهي ذبيحة تُهدى وتُطعم، وهذا يستوجب شكر الإنسان لربِّه، كما يستوجب أن يُذكر اسم الله عليها، ويتوجَّه بها إليه وهي تُهيَّأ للنحر بِصَفِّ أقدامها، فإذا اطمأنت إلى الأرض بموتها، أكل منها أصحابُها استحباباً، وأطعموا الفقير القانع الَّذي لا يسأل، والفقير المُعترَّ الَّذي يسأل؛ وهكذا سخَّرها الله للناس ليشكروه على ما قدَّر لهم فيها من الخير حيَّة وذبيحة.(1/435)
وقد بيَّن الله لنا الحكمة والهدف من ذبح الأنعام ونحرها بعد ذكر اسم الله عليها في قوله سبحانه: {لن ينالَ الله لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُه التَّقْوى منكم} أي لن يصل إلى الله سبحانه شيء منها، إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجُّهاتها، والله قد هدى المؤمنين إلى توحيده والتوجُّه إليه، وإدراك حقيقة الصلة بينه وبينهم، وحقيقة الصلة بين العمل والنيَّة. فقد بَشَّر بالجنَّة المحسنين الَّذين يحسنون التصوُّر، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة به في كلِّ نشاط من نشاطات الحياة. وهكذا فإن المسلم لا يخطو في حياته خطوة، ولا يتحرَّك في ليله أو نهاره حركة إلا وهو ينظر فيها إلى الله، ويجيش قلبه بتقواه، ويتطلَّع فيها إلى رضاه، فإذا الحياة كلُّها عبادة، تتحقَّق بها إرادة الله من خَلْقِ العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض، ويُشِعُّ منها النور فيصلُ إلى السماء وينالُ أهلُها البشرى في الدنيا والآخرة.
ب ـ قدسيَّة البيت الحرام:
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {وإذ جَعَلنا البَيتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وأَمْناً واتَّخِذوا من مقَامِ إبراهِيمَ مُصَلّىً وعَهِدنَا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طَهِّرا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكِفينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ(125) وإذ قال إبراهيمُ رَبِّ اجعَل هذا بَلَداً آمِناً وارزُق أهلَهُ من الثَّمَراتِ من آمَنَ منهُم بِالله واليَومِ الآخِر قال ومن كَفَرَ فأُمَتِّعُهُ قَليلاً ثمَّ أضطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وبِئسَ المَصِيرُ(126)}
سورة إبراهيم(14)
وقال أيضاً: {رَبَّنا إنِّي أسكنْتُ من ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غيرِ ذي زرْعٍ عند بيتكَ المُحَرَّمِ ربَّنا لِيُقيموا الصَّلاةَ فاجعلْ أفئدةً من النَّاس تهوي إليهم وارزُقْهُم من الثَّمرات لعلَّهُم يشكرون(37)}
ومضات:(1/436)
ـ شرَّف الله تعالى الكعبة العظيمة بأن جعلها مهوى لأفئدة المؤمنين، يُقْبِلون إليها من كلِّ جانب، وجعل إقامتهم حولها أَمْناً وسلاماً.
ـ كرَّم الله تعالى سيدنا إبراهيم، بأن جعل مقامه مصلّىً للناس.
ـ أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم وابنه إسماعيل، أن يطهِّرا البيت الحرام من الأرجاس، ليكون محراباً لعبادة الله وحده.
ـ عندما طلب إبراهيم عليه السَّلام من حضرة الله أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى مكَّة، كان المكان قفراً خالياً من أيِّ بشر سوى إسماعيل ووالدته، واليوم يأوي إلى ذلك المكان ملايين الناس في كلِّ عام حُجَّاجاً ومعتمرين، استجابة من الله تعالى لدعاء الخليل عليه السَّلام.
ـ إن هذه الصورة من الإجابة الإلهيَّة، تُشَجِّعُنا على المواظبة على الدعاء الحارِّ، ولو كنَّا في ظروف صعبة جداً، لا نرى فيها أيَّ أمل بتحقيق مرادنا، ذلك لأن عطاء الله غير محدود، وبغير حساب، ولا تحدُّه قوانين البشر وفهمهم الظاهري للأمور.
ـ الخلق كلُّهم عيال الله، والرزق رحمة منه تصيب البَرَّ والفاجر على السواء، من آمن ومن كفر، ولكنَّها تكون خاصَّة بالمؤمنين في الآخرة، وتبقى جهنَّم مثوى للكافرين.
في رحاب الآيات:(1/437)
الكعبة المشرَّفة هي أوَّل بيت أمر الله تعالى بإقامته على الأرض من أجل عبادته، وعهد إلى نبيِّه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السَّلام إقامة بنائه وتجديد ركائزه وتطهيره، وأمرهما أن يحمياه من كلِّ ما يمنع تحقيق هذه الغاية، لتكون الكعبة بذلك ملتقى للمؤمنين، يُقبلون عليها من كلِّ جانب، ويحظون بالأمن في رحابها، فهي أكبر محطَّة للتجمُّع الإيماني في الأرض كافَّة. وفضلاً عن ذلك، فقد اختصَّ الله تعالى هذه البقعة المقدَّسة، بخصائص انفردت بها دون غيرها، ففيها الصفا والمروة، وزمزم، والحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السَّلام. وهي أيضا مراكز للإشراق الروحي، ومكان اجتماع المسلمين في الحجِّ، إذ يأتون إليها من أصقاع الأرض ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله تعالى في أيَّامٍ معلومات، وهذا دليلٌ كافٍ على شرف هذا البيت، وأحقِّيَّته في أن يكون قبلة للمسلمين.(1/438)
وقد أوصى الله المؤمنين أن يتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى، يتوجَّهون فيه إلى الله تعالى لما له من حرمة وقداسة وطهارة، وتذكيراً لهم بانتسابهم إلى شجرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السَّلام؛ الَّذي استجاب لأمر ربِّه، فأخذ زوجته وولده إسماعيل الَّذي وهبه الله إيَّاه بعد أن بلغ من الكبر عتيّاً، وبعد أن اشتعل منه الرأس شيباً، هذه الثمرة الَّتي جاءت بعد انتظار مديد وقلق طويل، يحملها الأب ليتركها في قلب الصحراء امتثالاً لوحي الله. وبعد أن يفرغ من مهمَّته، ويترك زوجته وولده غريبين في أرض قفراء موحشة لا أثر فيها لحياة، يرفع بصره نحو السماء، وقلبه مفعم بالتسليم لأمر الله، وينعقد الدعاء على لسانه آياتٍ محكماتٍ تُعلِّم المؤمن كيف يكون أدبه مع الخالق، وكيف يكون الدعاء. لقد دعا إبراهيم ربَّه أن يجعل هذا البيت المتواضع، المشيَّد في صحراء مقفرة، مهوى للأفئدة، تحنُّ إليه القلوب حُبّاً وشوقاً، وتُهْرَع إليه من أصقاع الأرض الدانية والقاصية، لتجد فيه ملاذاً لروحها القلقة، وطمأنينة وسكينة في كنف الله ورعايته.
وقد تمَّ اختيار المكان الَّذي ينبغي لإسماعيل وأمِّه أن يسكنا فيه، بوحي من الله جلَّ وعلا، حيث يحفُّه الأمن والسَّلام، وتقام فيه الصَّلاة على أصولها، وتكون بمثابة الخلوة مع الله لتربية النفس وعقد الصلة بينها وبينه، وتفريغ القلب من الأغيار، وقطع جميع علائق الدنيا. وهذه الخلوة لابدَّ منها لكلِّ مؤمن حتَّى يؤهَّل لاستقبال العطاء الإلهي والقيام بالتكاليف؛ إنها تَهْيِئَةٌ لشحن القلب بنور الله بعد تفريغه وتنظيفه من الأغيار ليكون أهلاً لحمل الأمانة. وعلى الرُّغم من أن إبراهيم عليه السَّلام قد خصَّ المؤمنين بدعائه، فإن الله بفضله وإحسانه جعل رزق الدنيا شاملاً للناس أجمعين؛ من كان مؤمناً ومن كان كافراً، لكنَّه اختصَّ المؤمنين بنعيم الآخرة دون سواهم، والله كريم حكيم.(1/439)
وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعاءه، فجعل البيت الحرام أماناً وأمناً، وسلاماً وسلماً، وجعل القلوب تهوي إليه، والرحال تُشدُّ إلى أرضه، والأفئدة تتعانق في رحابه. فليس من مسلم إلا وقلبه معلَّق بالكعبة، وترى المسلمين يتوجَّهون إليها من الآفاق في أيَّام الحجِّ، مدفوعين بقوَّة لا يستطيعون مقاومتها، فهي أشبه ما تكون بالغريزة أو الإلهام، وقد أراد الله تعالى لهذا التجمُّع البشري الهائل أن يُثمر عملاً جماعياً يعود بالخير والنتائج الإيجابيَّة على المؤمنين في أصقاع الأرض، وفي جميع دروب الحياة، وأن يكون وسيلة تحلُّ مشاكلهم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة. فهو مؤتمر سنوي يجتمع فيه القاصي والداني، والأبيض والأسود تحت مظلَّة الإيمان، حيث يتداولون أمورهم، ويستشعرون الوحدة والقوَّة بتجمُّعهم وإخائهم، فيشكرون الله تعالى ويحمدونه، على عظيم فضله وإحسانه، بأن هداهم إلى هذا النور وهذا الإخاء، الَّذي ما كانوا ليهتدوا إليه لولا أن هداهم الله.
وقد نسب الله ـ تعالى ـ البيت إلى ذاته العليَّة فقال: {بيتي} تعظيماً له وتكريماً؛ لذلك نرى أن النفس المؤمنة تتوق إليه وترتاح لرؤيته، ولقد جاشت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى عند رؤية الكعبة وقال: «ياعمر! هنا تُسْكَب العبرات» (أخرجه ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما).
ثم أشارت الآية إلى صنوف العابدين في البيت الحرام وهم: الطائفون حول البيت، والمعتكفون عنده للعبادة، والمصلُّون الَّذين يحفُّهم تعالى برحمته وفضله، وفي ذلك يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : «يُنزِّل الله كلَّ يوم على حجَّاج بيته الحرام عشرين ومائة رحمة ستين للطائفين وأربعين للمصلِّين وعشرين للناظرين» (رواه البيهقي بإسناد حسن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما).
سورة المائدة(5)(1/440)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائِرَ الله ولا الشَّهرَ الحرامَ ولا الهَدْيَ ولا القلائِدَ ولا آمِّينَ البيتَ الحرامَ يَبْتغونَ فضْلاً من ربِّهم ورِضواناً وإذا حللتُمْ فاصطادُوا ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قومٍ أَن صدُّوكم عن المسجدِ الحرامِ أن تَعْتَدُوا وتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقوى ولا تَعَاوَنُوا على الإثم والعُدوانِ واتَّقُوا الله إنَّ الله شديدُ العقاب(2)}
ومضات:
ـ بيت الله الحرام منطقة أمان، يرفرف عليها السَّلام، ويُظِلُّ من يؤمُّها ويقيم فيها، وهذا السَّلام يشمل الحيوان والنبات إلى جانب الإنسان.
ـ الله تعالى يحبُّ للمؤمن أن يسموَ فوق انفعالاته الشخصيَّة وأهوائه الذاتيَّة، ويُحْسِنَ لمن أساء إليه، وهذه قمَّة الفضائل الإنسانية.
ـ الأمر بالتعاون على البِرِّ والتَّقوى ركنٌ من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن الكريم، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضاً على كلِّ ما فيه فائدة تعمُّ الأفراد والجماعات في دينهم ودنياهم.
في رحاب الآيات:
حثَّ الإسلام المؤمنين على ألا يحملهم الهوى والعصبيَّة وعداوة الناس أو ظلمهم لهم على ترك العدل في أمورهم، بل أمرهم بالالتزام به في كلِّ حالة، وهو بذلك يكفل العدل المطلق لكلِّ الناس كما يكفله لأبنائه، وهذه المقوِّمات تجعل الإسلام ديناً عالميّاً، يمكن للناس جميعاً الاحتماء بتعاليمه لنيل حقوقهم، سواء كانوا من معتنقيه أم من غيرهم. فهو لا يطالبنا بإقامة العدل فيما بيننا فقط، بل بإقامته بيننا وبين غيرنا حتَّى ولو كانوا أعداءً لنا، وهذا قِمَّة ما يمكن أن يصل إليه الناس في ضبط النفس وسماحة القلب، تلك القمَّة الَّتي لابدَّ من أن ترقى إليها الأمَّة، المكلَّفة من ربِّها، بأن تقوم على هداية البشريَّة، وترتفع بها إلى الأفق الكريم الوضيء.(1/441)
وقد نهى الله تعالى المسلمين عن أن يجعلوا شعائر الله (الَّتي كان العرب يتخذونها منذ الجاهليَّة، بما توارثوه من دين إبراهيم الحنيف) حلالاً لهم يتصرَّفون فيها كيف يشاؤون، أو يتهاونون بحرمتها، أو أن يُحِلُّوا الأشهر الحرم، وهي أربعة: رجب (لأداء العمرة)، وذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم (للقيام بشعائر الحج). وقد كانت العرب تُعظِّم هذه الأشهر وتحرِّم القتال فيها، فمن وُجد في غير هذه الأشهر أصيب منه، إلا أن يكون مشعراً بَدَنَةً أو بقرة أو مُحرِماً بعمرة إلى البيت الحرام، فحينئذٍ لا يتعرَّض له أحد. وقد أمر الله تعالى المسلمين بتقرير هذا المعنى، فلا يقاتلون فيها أحداً ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين، فإنَّ لهم حينئذٍ أن يردُّوا الاعتداء، وألا يَدَعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم ـ وهم لا يرعون حرمتها ـ ويستترون خلفها، للنيل من المسلمين، ثمَّ يذهبون ناجين بعملهم.
ونهى المسلمين كذلك عن أن يُحِلُّوا الهدي الَّذي كان يُهدى من غير المسلمين إلى مَحِلِّه من بيت الله، فلا يجوز لمسلمٍ غَصْبُهُ أو ذَبْحُه أو حَبْسُه، كما يَحْرُمُ عليهم التعرُّض بالقتل أو الصدِّ لكلِّ من قصد بيت الله بالزيارة رغبة في مرضاة الله، وسعياً وراء الرزق والكسب المادي. فالمسلمون ملزمون بالتعامل مع جميع الناس بالإحسان، وفي كلِّ زمان ومكان، وينبغي عليهم التقيُّد بهذا الالتزام بشكل أخصَّ في بيت الله الحرام، وفي الأشهر الحرم، وبغَضِّ النظر عن العداوة الَّتي قد تكون أحياناً بينهم وبين بعض الفئات.(1/442)
وكان المشركون قد صدُّوا المسلمين عن البيت الحرام عام الحديبية، فنهى الشارع الحكيم أن يعتدوا عليهم عام حجَّة الوداع حين ملكوا القدرة عليهم. وقد نزلت هذه السورة بعد صلح الحديبية، حيث يدعوهم الله تعالى فيها ليرتفعوا إلى مستوى الدَّوْر الَّذي أناطه بهم، إنه دور هداية الناس بلا تأثُّر بالمشاعر الشخصيَّة والعواطف الذاتيَّة، والملابسات العارضة في الحياة. يدعوهم لأن يرتقوا فوق العدل نفسه، ليصلوا إلى مرتبة التسامح وضبط النفس مع من اعتَدَوا عليهم، وتركوا في نفوسهم جروحاً وآلاماً، وخلَّفوا في قلوبهم الكره والبغض، فإساءة المسيئين شيء، وواجب الأمَّة المسلمة شيء آخر. إنها تَبِعَةُ حمل الرسالة، التبعة الَّتي لابدَّ للمؤمنين أن يتجاوزوا فيها كلَّ ما ينالهم من الأذى، ليقدِّموا للناس نموذجاً رائعاً من السلوك المتسامي، الَّذي يصنعه الإسلام وينادي به، وبهذا يعكسون عن الإسلام صورته الحقيقيَّة الَّتي تجذب الناس إليه وتحبِّبهم فيه. وهو تكليف شاقٌّ، ولكنَّه لا يرهق النفس المؤمنة، ولا يحمِّلها فوق طاقتها، فهو يعترف لها بأن من حقِّها أن تغضب ومن حقِّها أن تكره، ولكن ليس من حقِّها أن تعتدي في فورة الغضب وشدَّة الشنآن. ويهيب بالمؤمن أن يملك نفسه عند الغضب، ويعدُّ ذلك بطولة، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الشديد بالصُّرَعَة ـ الَّذي يصرع الناس ويغلبهم ــ إنما الشديد الَّذي يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه).(1/443)
ولا يقف نُبْلُ الإسلام عند هذا الحد، بل إنه يتجاوزه ليسمو بالمؤمن إلى درجة تتفجَّر فيها ينابيع الخير في نفسه، فيتحوَّل من مقام العدل والإمساك عن الظلم والاعتداء، إلى مقام التسامح والإحسان إلى من أساء إليه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ولا تّسْتَوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِئَةُ ادْفَعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينكَ وبينَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّه وَليٌّ حميم} (41 فُصِّلَتْ آية 34). وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يارسول الله إن لي قرابة أصِلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنَّما تُسِفُّهم الملَّ ـ أي الرماد الحار ـ ولا يزال معك من الله تعالى ظهيرٌ عليهم مادمت على ذلك» (رواه مسلم).
وهذا الخُلق العظيم لا يمكن أن يتحلَّى به إلا من وصفهم الله تعالى بالمحسنين، الَّذين قال عنهم: {..والكاظمينَ الغيظَ والعَافينَ عن النَّاسِ والله يُحبُّ المُحسنين} (3 آل عمران آية 134). وأشار إلى أن هذا من الأمور الَّتي يجب الثبات عليها بحزم وعزيمة فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأمور} (42 الشورى آية 43).
وهكذا فإن الله تعالى يعطي الأمان للناس جميعاً في حرم بيته الحرام، ويجعله منطقة تأمن فيها الحيوانات والطيور والأشجار فضلاً عن الإنسان، ويُحَرِّمُ التعرُّض لأيٍّ منها بالأذى، أو بالترويع أو العدوان، فلا صيد إلا بعد انتهاء مدَّة الإحرام وخارج البيت الحرام. أمَّا في البيت الحرام فسلامٌ مطلق يرفرف على كلِّ من في هذا البيت استجابة لدعوة إبراهيم عليه السَّلام، ويرفرف على المنطقة كلِّها أربعة أشهر في العام.(1/444)
وينهى الإسلام عن كلِّ ما يفرِّق الأمَّة المؤمنة، ويأمر بكلِّ ما يدعم وحدتها وتماسكها، ولهذا أُمِرَتْ بالتعاون فيما بينها؛ فإن كان تعاونها في دائرة البِرِّ والتَّقوى فهو تعاون محمود وعمل خيريٌّ تثاب عليه. أمَّا إذا صُرِفَ لغير ذلك ووُجِّه نحو الفساد والإفساد، فهو تعاون مذموم وعمل غيرُ شرعي، يُعَاقَبُ عليه كلُّ من يشجِّعه أو يقوم به. وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا البِرَّ الَّذي يجب التعاون عليه، وبيَّن لنا ما هو الإثم المنهي عنه فقال: «البرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطَّلع عليه الناس» (رواه مسلم والترمذي عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه ).
والأمر بالتعاون على البرِّ والتَّقوى من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن الكريم، إذ يوجب على الأفراد أن يعين بعضهم بعضا على كلِّ ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وعلى كلِّ عمل من أعمال التَّقوى الَّتي يدفعون بها المفاسد والمضارَّ عن أنفسهم وعن غيرهم، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على كلِّ ما فيه الخير والفلاح للجميع.
وهكذا استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الربَّاني أن تُروِّض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القويَّة، والاعتياد على هذا السلوك القويم، بعد أن كان المنهج الجاهلي المسلوك والمبدأ المشهور: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، حيث كانت حميَّة الجاهلية مسيطرة، ونعرة العصبية مستولية، وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ولا تستمدُّ تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزانه. وجاء الإسلام ليربط القلوب بالله ويربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، فأخرج العرب والبشرية كلَّها، من حميَّة الجاهلية ونعرة العصبية وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية، في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء، إلى التعامل مع جميع الخلق بالعدل بل بالإحسان والحلم وسعة الصدر والصفح الجميل.(1/445)
وهكذا وُلِد الإنسان من جديد في الجزيرة العربية، ولد الإنسان الَّذي يتخلَّق بأخلاق الله، وكان هذا هو المولد الجديد للعرب، كما هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض. والمسافة الشاسعة بين دَرَكِ الجاهليَّة المتردِّية فيه، وأفق الإسلام الشاهق، هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وقول الله العظيم: {ياأيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بالقِسطِ ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنآنُ قومٍ على ألاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتَّقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون} (5 المائدة آية 8).
-----------------
الباب السادس-التربية الروحيَّة في الإسلام
مقدمَّة:
لم يقتصر دين الإسلام على مجرَّد الدعوة للإيمان بالله فحسب؛ بل جاء للناس بمنهج تربوي كامل وشامل، لشتَّى فروع التربية الَّتي تستند إليها المجتمعات الإنسانية، في عمليَّة التقدُّم والتطوُّر نحو الأفضل، وفي سبيل تحقيق ما يصبو إليه أفرادها من سعادة ونجاح، وطمأنينة وسلام.
إن التربية الروحيَّة نواة التربية الإسلامية وجوهرها، وقد قامت على قواعد قويَّة، وأسس متينة من شأنها توطيد أواصر الصلة بين المسلم وربِّه، وربط أسباب دنياه بأسباب آخرته. وقد رافقتها التربية الأخلاقية كظلِّها، ثمَّ أُكملتا بالتربية الاجتماعية، الَّتي كانت بمثابة الطابق الثالث في بناء التربية في الإسلام. وإن أهمَّ طاقة تنير هذا البناء : دوام ذكر الله وتسبيحه، وتلاوة كتابه، والاستقامة على عبادته، والتضرُّع إليه بالدعاء.
إن من أبرز سمات تربية الإسلام الروحية، الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، وأقرب مثال على ذلك العبادات الَّتي تُعنى بالجانبين الروحي والمادي في الإنسان، وقد جُعلت متنوِّعة ومتكرِّرة ليبقى المسلم على طهارة روحية متجدِّدة تقرِّبه من الله، وتجذبه إليه كلَّما نأت به ماديَّات الحياة بعيداً عن الحضرة الإلهية.(1/446)
وقد ظهرت ميزة الاعتدال بشكل أوضح في كثير من الآيات القرآنية؛ ففي طائفة منها نجد حضّاً للمؤمنين على طلب المنزلتين الروحيَّة والماديَّة معاً كقوله تعالى: {وابْتَغِ فيما آتاكَ الله الدَّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدُّنيا وأَحْسِن كما أَحْسَن الله إليك ولاتَبْغِ الفَسادَ في الأَرضِ إنَّ الله لا يحبُ المُفسِدينَ} (28 القصص آية 77).
وفي طائفة أخرى من الآيات يرشد الله المؤمنين لكي يَجْمَعوا في دعائهم بين طلب الدنيا وطلب الآخرة وذلك في قوله جلَّ وعلا: {..فَمِنَ النَّاسِ من يقول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنيا وما له في الآخرةِ من خَلاق * ومنهم من يقولُ ربَّنا آتِنَا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّار * أولئك لهم نصيبٌ ممَّا كَسَبُوا والله سريعُ الحِساب} (2 البقرة آية 200ـ202). فالوسطيَّة بين الروحانيَّة المتطرِّفة، والماديَّة المفرطة الجامحة، أمر تستدعيه حياة المجتمع، والإسلام هو الَّذي تحقَّقت فيه هذه الميزة، وتفرَّد بها عن غيره، قال تعالى: {وكَذلكَ جَعَلنَاكُم أمَّة وَسَطاً..} (2 البقرة آية 143).
وفي هذا الباب سنتناول أبرز الدعائم الَّتي قامت عليها تربية الروح في الإسلام، ونوجزها ضمن عدد من الفصول، ثمَّ ننتقل إلى التربية الأخلاقية في الإسلام بإذن الله.
الفصل الأوَّل:
ذكر الله وحسن الصلة به
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اذكروا الله ذِكراً كثيراً(41) وسبِّحوه بُكْرَةً وأصيلا(42) هوَ الَّذي يُصلِّي عليكُمْ وملائِكَتُهُ ليخرجَكُم من الظُّلمات إلى النُّورِ وكان بالمؤمنين رحيماً(43) تحيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَونَهُ سلامٌ وأَعدَّ لهم أجراً كريماً(44)}
ومضات:(1/447)
ـ إن ذكر الله تعالى هو قوام الحياة الروحية، وهو العنصر الفعَّال الَّذي يتفاعل داخل كيان الذاكر، ويتَّحد مع ذرَّات القلب ليتحوَّل إلى طاقة نورانيَّة ربانيَّة، تولِّد في روح المؤمن القوَّة والنشاط، وتدفعه للقيام بالمزيد من الطاعات والعبادات والعمل المنتج، وهو عطاء مستمر لا ينقطع، ومن ثمراته خروج المؤمن من الظلمات النفسيَّة والماديَّة إلى رحاب الحقِّ والحكمة والعمل الصالح، وهذا من رحمة الله بعباده وهو أرحم الراحمين.
ـ في الدار الآخرة ـ يوم اللقاء العظيم مع حضرة الله ـ يجد المؤمن كل سلام وتقدير ومحبَّة، مع التكريم في المُقَام، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
في رحاب الآيات:
أعطيات الله تعالى سابقة لعباداتنا، فقد رزقنا العقل لندرك عظمته وقدراته الخلاَّقة، ووهبنا الحسَّ الروحي والفطرة السليمة، لنذوق حلاوة الإيمان، ومنحنا أجساماً قويَّة، كاملة البنية، لنستعين بها على القيام بالعمل المطلوب منَّا، ولنسخِّرها مع جملة الطاقات الَّتي أودعها الله فينا للتحرُّر من ظلمات الجهل والتقاليد، والخروج منها إلى نور العلم والمعرفة واليقين.
ولما كان ذكر الله من أهم الأبواب الَّتي يَلِجُها المؤمن؛ للوصول إلى رحاب المعرفة الإلهيَّة، جاء الحضُّ عليه في آيات من القرآن الكريم، يفوق عددها عدد الآيات الَّتي تحضُّ على غيره من العبادات المحدَّدة بأوقات معيَّنة، كما جاء الأمر بالمداومة عليه في كل حين وعدم الانشغال عنه في أي حال من الأحوال، قال تعالى: {..فاذكروا الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبكم..} (4 النساء آية 103) فهو مطلوب بالليل والنهار، وفي البَرِّ أو البحر، في السفر أو الحضر، في الغنى أو الفقر، في الصحَّة أو السُّقم، في السرِّ أو الجَهْر، وعلى كل الأحوال.(1/448)
وليس الذكر مجرَّد تحريك للِّسان؛ بل هو اتصال قلبي بالله، ونشاط روحي بنَّاء. والقلب الفارغ من الذكر يبقى لاهياً حائراً مظلماً، ما لم يحصل له الاتصال بالله والأنس بمجالسته، فإذا امتلأ من نور ذكره، صحا صاحبه من لهوه، واهتدى بعد حيرته، فأبصر طريقه وعلم من أين وإلى أين ينقل خطاه. ومن خير ما قيل في تصوير القلوب الخالية من الذكر والقلوب العامرة به، قول أحد العلماء العارفين:
قلوب إذا منه خلت فنفوس لأَحْرُف وسواس اللعين طروس
وإِن مُلِّئَت منه ومن نور ذكره فتلك بدور أشرقت وشموس
ولا يزال لسان العبد يلهج باسم الله حتَّى يحصل له الحضور الدائم معه، وحينها يفوز بالشهود القلبي، فلا يفتر عن مراقبة الله وذكره، إلى أن يحظى باليقين والطمأنينة المطلقَيْن، قال تعالى: {الَّذين آمَنُوا وتَطْمَئِنُ قُلُوبُهم بذِكرِ الله ألاَ بذِكْرِ الله تَطمئِنُّ القُلوب} (13 الرعد آية 28) وإذا غلب الذكر على الذاكر امتزج حبُّ المذكور بروحه، حتَّى تزول الحجب بينه وبين ربِّه، ويلمس حقيقة وجوده بعين البصيرة، فيغدق عليه الحقُّ تعالى من العلوم والأنوار ما يليق بفضله وكرمه.(1/449)
ويجب أن يكون الذكر مقترناً بالتسبيح الَّذي هو تنزيه لله جلَّ وعلا عما لا يليق به من الصفات، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل التسبيح بقوله: «من قال سبحان الله العظيم نَبتَ له غرس في الجنَّة» (أخرجه ابن مردويه). كما أخرج ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد: سبحان الله قالت الملائكة: وبحمده، وإذا قال: سبحان الله وبحمده، صلُّوا عليه». وثواب الذكر هو صلاة الله وملائكته على العبد الذاكر المسبِّح لله {هُوَ الَّذي يُصَلِّي عَلَيْكُم ومَلائِكَتُهُ..}، وصلاة الله رعاية لعبده، وعناية بأمره، ورفع لدرجاته، وصلاة الملائكة استغفار له ودعاء. وهذا من شأنه أن يخرجه من ظلمات الضلالة إلى نور الله؛ ونور الله واحد متَّصل شامل، وهو يشرق في قلوب المؤمنين، ويغمر أرواحهم، ويهديهم إلى فطرة التَّوحيد الَّتي يقوم عليها الوجود كله، وذلك أجرهم في الدنيا دار العمل، أمَّا أجرهم في الآخرة دار الجزاء فهو الأمان من عذاب الله يوم القيامة، والفوز بالأجر العظيم. والله واسع الرحمة بالمؤمنين حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم إذا أخلصوا وصدقوا في إيمانهم.
وتحيَّة المؤمنين الذاكرين يوم يلقون ربَّهم سلام؛ وهل هناك ما هو أجمل وأصفى من السَّلام؟ سلام من كلِّ خوف، ومن كلِّ تعب، ومن كلِّ كدٍّ، سلام يتلقَّونه من الله تحمله إليهم الملائكة، وهم يدخلون عليهم من كلِّ باب، يبلِّغونهم التحيَّة العلويَّة، إلى جانب ما أَعَدَّ الله لهم من أجر كريم، فياله من تكريم.
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ نُقَيِّضْ له شيطاناً فهو له قرينٌ(36)}
ومضات:(1/450)
ـ إن نور الله تعالى يحصِّن قلب المؤمن ويضرب حوله سوراً منيعاً يصعب على الشيطان أن يخترقه، ولا يزال هذا السور قائماً ما استقام الذاكر على ذكر الله تعالى. أمَّا من غفل عن الله وقطع اتصاله به، فهو أعزل أجرد لا حول له ولا قوَّة، تغزوه نزغات الشيطان من شتَّى الاتجاهات.
في رحاب الآيات:
قضت سنَّة الله في الكون أن يطرد النور الظلام، فما إن يظهر النور حتَّى يختفي الظلام، وبمجرَّد أن ينحسر النور وينطفئ، يعود الظلام ليحلَّ من جديد. وبذرة النور الإلهي مزروعة في ساحة القلب الإنساني، وهي الفطرة الَّتي أودعها الله تعالى قلوب خلائقه، وهذه الساحة تُشِعُّ وتضيء، وتنبض بالحياة الإيمانيَّة كلَّما مَسَّتها النفحات الإلهية، وتبقى هكذا مضيئة مشرقة طالما بقي لها هذا الاتصال مع حضرة الله، فلا تكتنفها ظلمة أو غفلة.
ولا يتحقَّق الاتصال بحضرة الله تعالى إلا بكثرة ذكره، الَّذي تدخل ضمن دائرته بعض العبادات كالصَّلاة والحجِّ، وتندرج في أنواعه المداومة على قراءة القرآن الكريم بوعي وتبصُّر، وعندها تصبح ساحة القلب مهبطاً للعلوم الربَّانية، وملتقى للأنوار الإلهيَّة، وبهذا يطمئنُّ القلب ويخشع، وينقاد لأوامر الله بكل محبَّة ورغبة. أمَّا إذا أُهمل هذا القلب، وأعرض به صاحبه عن عطاء الله وتجلِّياته، فإنه يغدو نفقاً للشيطان ينفذ من خلاله إلى أعماق نفسه، لينفث فيها سمومه وأفكاره، فيصبح أداة طيِّعة له، فقد أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد وَكَّل الله به قرينه من الجن، قالوا: وإيَّاك يارسول الله؟ قال: وإيَّاي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». فكما أن الظلمات والنور لا يجتمعان في مكان واحد ووقت واحد، كذلك فإن الشيطان لا يمكن أن يدخل قلباً استقرَّ فيه النور الإلهي.(1/451)
فالقلب إمَّا عرش للرحمن، وإمَّا عشٌّ للشيطان، والشقيُّ المحروم من أهمل قلبه، حتَّى جعل منه بؤرة، ينفث فيها الشيطان وساوسه وشروره، والسعيد الموفَّق من نظَّف سريرته، وطهَّر قلبه فصار منزلاً لأنوار الله، وانتصر بذلك على شيطانه فابتعد عنه ولاذ بالفرار؛ كما كان شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الَّذي قال في حقِّه النبي صلى الله عليه وسلم : «والله إن الشيطان ليفرُّ منك ياعمر» (رواه الشيخان).
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {إنَّما المؤمنونَ الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلون(2)}
سورة الرعد(13)
وقال أيضاً: {الَّذين آمنوا وتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بذكْرِ الله ألا بذكْرِ الله تَطمئِنُّ القلوبُ(28)}
ومضات:
ـ للإيمان علائم وإشارات تدلُّ على صدق الإنسان في ادِّعائه؛ إنه لا يهدأ باله، ولا تسكن نفسه إلا عندما يلزم محراب ذكر الله عزَّ وجل. وإذا ما سمع ذكره من غيره، وتليت عليه آياته انتابه شعور بعظمته وجلاله، وسيطر عليه خشوع يمتزج به رجاء مرضاته، والوجل والخوف من حرمان رتبة القبول عنده.
ـ غريزة الخوف هي إحدى الغرائز الفطرية في النفس البشريَّة، إلا أن التربية الإيمانيَّة تهذِّبها وتوجِّهها نحو الله تعالى وحده، وتخلِّصها من الخوف ممَّا سواه، وليصبح الخوف من الله حافزاً للمؤمن وسبباً لطمأنينته، بدلاً من أن يكون عاملاً مثبِّطاً له.
ـ يجب أن تظهر ثمرات الذكر والخشية ـ الَّتي هي خوف ممزوجٌ بالحبِّ ـ في سائر أعمالنا الخاصَّة والعامَّة، كانعكاسات إيمانيَّة طيِّبة لجمال هذا الذكر وصفاته.
في رحاب الآيات:(1/452)
غريزة الخوف بمعناها الواسع مزروعة في أعماق النفس البشريَّة، غير أن التربية الإيمانيَّة تنظِّم هذه الغريزة وتوجِّهها كغيرها من الغرائز، حتَّى تبقى ضمن إطارها الصحيح ليستفاد منها في إعمار قلب المؤمن بتقوى الله تعالى واستشعار عظمته وهيبته. والخوف من الله نوعٌ من السمو الروحي الَّذي يقرِّب الإنسان من خالقه سبحانه، فتراه كلَّما ازداد منه خوفاً ازداد قرباً إليه لا هروباً. فالمؤمن الوَجِل من الله يخشى أن يخالف أوامره، ولا يغترُّ بالكثير من الأعمال والقربات الَّتي يقوم بها ابتغاء وجهه؛ بل يبقى خائفاً من عدم رضا الله عنها، وعدم اختتامها بخاتمة القبول، وقد قال تعالى في حقِّ هذا المؤمن وحقِّ من كان على شاكلته: {والَّذين يُؤْتُون ما آتَوا وقُلوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون * أولئك يُسَارِعُونَ في الخيراتِ وهُمْ لها سابقون} (23 المؤمنون آية 60ـ61) فكانت هذه الآيات أعظم شهادة لهم من الله، وأصدق تعبير عن حالهم، فهم يستصغرون كل عمل يعملونه من أجله، ويرون أنه أقلُّ بكثير ممَّا يتوجَّب عليهم من فروض الطاعة والولاء لخالقهم، فتراهم يتحرَّقون شوقاً للقيام بمزيد من الطاعات، والمسارعة في فعل الخيرات، ويتسابقون إلى الخير ولا يَدَعُون لحظة تمرُّ دون أن يشغلوها، بذكر أو عبادة أو عمل صالح، أو إصلاح بين الناس، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فمن أحبَّ الله أحبَّ مخلوقاته حُبّاً به، لا فرق في ذلك بين إنسان وحيوان ونبات.(1/453)
والمؤمنون الذاكرون صفوة مختارة من مخلوقات الله، تنتاب قلوبهم رعشة الإيمان المنعشة؛ كلَّما طرق سمعهم اسم الله، وتستيقظ فيهم عواطف متباينة لكنها سامية، نبيلة، أدناها الحبُّ والشوق، وأعلاها الخوف والخشية، لأنهم يستشعرون عظمة من يقفون على بابه بشكل جليٍّ، وذلك لقوَّة إيمانهم، وشدَّة قربهم منه وكأنهم ماثلون بين يديه، قال تعالى: {..وبَشِّر المُخْبِتِينَ * الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَت قُلوبُهُم..} (22 الحج آية 34ـ35). وهؤلاء المخبتون ـ أي المتواضعون المذعنون لله ـ الخاشعون قد شفَّت أرواحهم فارتقت، وصفت قلوبهم فاطمأنت، وإذا ما تناهى إلى سمع أحدهم آية من آيات الله تتلى، تواضع وخشع، ولان قلبه وفاض دمعه، واستسلم بكليَّته إلى خالقه. وهذه صورة من صور إعجاز القرآن الكريم في سرعة تأثيره في النفوس، وقوَّة جاذبيته لها؛ إنه يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، فإذا دخل نوره إلى القلب ذاق حلاوته، ووجد في كلماته النورانيَّة المنسجمة، زيادة في الإيمان تبلغ درجة الاطمئنان. وقد وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة من أهل الكتاب عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: {وإذا سمعوا ما أُنْزِل إلى الرَّسُولِ ترى أعينَهُمْ تَفيضُ من الدَّمْعِ ممَّا عَرَفُوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا آمنَّا فاكْتُبْنَا مع الشَّاهِدِين} (5 المائدة آية 83) فمن عرف صغار شأنه أمام عظمة الله، آمن به وبما أرسله إيماناً نقيّاً خالياً من كلِّ شائبة، فلا تسوِّل له نفسه أن يحيد عن دربه، ولا يسوِّغ له قلبه أن يشرك معه شيئاً من مخلوقاته، أو أن يتوكَّل على أحد منها في تصريف شؤونه وأحواله، بل يتوكَّل على الله وحده، ويبذل الأسباب الَّتي يملكها تنفيذاً لتعاليمه سبحانه وتعالى، في حسن التوكُّل، ثمَّ يفوِّض أمره إليه.
سورة الأعراف(7)(1/454)
قال الله تعالى: {واذكر ربَّكَ في نفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودون الجهرِ من القولِ بالغُدُوِّ والآصال ولا تكن من الغافلين(205) إنَّ الَّذين عندَ ربِّكَ لا يستكبِرونَ عن عبادَتِهِ ويُسبِّحونَهُ وله يَسجُدون(206)}
ومضات:
ـ خير الذكر وأفضله الذكر الممزوج بالخوف، الَّذي يصحبه التضرُّع والتذلُّل لله، مع السكينة والخشية منه عزَّ وجل.
ـ ذكر الله عبادة تتَّصف بكونها دائمةً، ومطلقةً عن قيود الزمان والمكان، فأينما كان المؤمن يجب أن يكون مع الله، وأيُّ وقت يمرُّ عليه يجب أن لا يغفل فيه عن ذكره، لاسيَّما في أوَّل نهاره وفي آخره، بالغدوِّ والآصال.
ـ إن الملائكة الأطهار لا يفترون عن هذه العبادة، ودأبهم التسبيح والسجود، شكراً لله على نعمائه، وتمجيداً لعظمته وكبريائه، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن وحاله.
في رحاب الآيات:
في الآية الكريمة إرشاد وتوجيه إلى مداومة الذِّكر النابض بالخوف والتضرُّع، الخافت الخفي، ويؤيِّد ذلك ما رواه أحمد وابن حبان عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الذِّكر الخفي». فيستحسن للذاكر أن يكثر من خلوته بربِّه بعيداً عن أعين الناس، استزادة في التأمُّل والتبتُّل، وابتعاداً عن الرِّياء والمفاخرة. والخلوةُ بالله هي حضانة روحيَّة، وانقطاع عن كل العلائق المادية والمشاغل الدنيوية، حتَّى إذا بلغت الروح درجة عالية في الصفاء والرقي؛ رجع صاحبها إلى خوض غمار الدعوة إلى الله، والانتقال من مرحلة التأهُّل الذاتي إلى تأهيل الآخرين. وهذه الخلوة كانت سنَّة جميع المرسلين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر منها في غار حراء، الَّذي كان الاعتكاف فيه بمثابة الرَّحِمِ، الَّتي احتضنت روحه الشريفة، إلى أن اكتمل إعداده، وأصبح على استعداد لتلقِّي الوحي السماوي، والدعوة إلى دين الله.(1/455)
فإن لم يكن للمؤمن حظٌّ كبير من ذكر الله، الَّذي يمثِّل الغذاء الأساسي للروح، خرج من الدنيا ولم يكتمل نموُّه الإيماني ونضجه الروحي، فلا تنطلق روحه في ملكوت السموات، بل تبقى أسيرة العذاب والضيق والحرج، وفي ذلك قال السيِّد المسيح عليه السَّلام: (لا يدخل ملكوت السموات من لم يولد ولادتين) أي الولادة الجسدية، والولادة الروحية. وذِكْرُ الله تعالى بوعي وخشوع، طريق يسلكه الذاكرون، فتُفْتَح في وجوههم جميع الأبواب الموصدة، وتزول من أمامهم كلُّ الحُجب المانعة، فيزول الوَقْرُ من الأسماع، وينجلي العمى عن البصائر، وتنقشع الظلمة عن القلوب والعقول. وعلى النقيض من ذلك حال الغافلين الَّذين أهملوا تغذية أرواحهم، وأسرفوا في الاهتمام بمتطلَّبات أجسادهم، فصدق فيهم قول الله تعالى: {..لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبْصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعامِ بل هم أضلُّ أولئك هُمُ الغافلون} (7 الأعراف آية 179).
وعندما يستحضر الذاكر جلال الله وعظمته، ويهيمن عليه الشعور بالخوف من غضبه وعقابه، مع رجاء رحمته ومرضاته؛ تصفو روحه، ويرِّق قلبه فيتصل بالله، ويرتبط به برباط الحبِّ الَّذي يدفعه لمراقبته في جميع أحواله، وعدم الغفلة عنه ولو للحظة واحدة. وعندها يصل لأعلى مقامات القرب والشهود، ويتحقَّق بمقام الإحسان الَّذي عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه عن عمر رضي الله عنه ).(1/456)
والله جليس الذاكرين ما ذكروه منفردين أو مجتمعين، مُسرِّين أو معلنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (متفق عليه). وما من جماعة يجتمعون على ذكر الله إلا حفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وعمَّهم بمغفرته ورحمته. روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عزَّ وجل، تنادَوْا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم، ما يقول عبادي: قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني: قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة وأشدَّ لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يقولون: يسألونك الجنَّة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ياربُّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصاً وأشدَّ لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فممَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً وأشدَّ منها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم».(1/457)
وأفضل أوقات الذِّكر طرفا النهار، حيث يُحسُّ الذاكر شدَّة ارتباطه بما حوله، ومن ثمَّ شدَّة ارتباطه بخالقه. ومن افتتح نهاره بذكر الله، واختتمه به كان جديراً بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ولقد كثر في القرآن الكريم التوجيه إلى ذكر الله وتسبيحه، في الآونة الَّتي تشارك فيها ظواهر الكون، في التأثير على القلب البشري وترقيقه، وإرهافه، وتشويقه للاتصال بالله، قال تعالى: {فاصبرْ على ما يقولونَ وسَبِّح بحمدِ ربِّك قبل طُلوعِ الشَّمسِ وقبل الغروب} (50 ق آية 39) وقال: {واذكر اسمَ رَبِّك بُكْرَةً وأَصِيْلاً * ومن اللَّيلِ فاسجدْ له وسبِّحهُ ليلاً طويلاً} (76 الإنسان آية 25ـ26).(1/458)
وينبغي أن يقترن ذكر الله بالصحوة الفكريَّة واليقظة الروحيَّة، فلا يذكره اللسان، ويغفل عنه القلب، فالإنسان أحوج ما يكون للاتصال بربِّه ليتقوَّى على نزغات الشيطان. فالله تعالى يقوِّي عزيمة عباده المؤمنين، ويشحذ همَّتهم لإحسان عبادته، والتوجُّه إليه، والاتصال به، فيزوِّدهم بما يغنيهم عمَّن سواه. ويضرب الله لعباده مثلاً بالملائكة الأطهار الَّذين هم دائبون على عبادته، يسبِّحونه، ويقدِّسونه، ويسجدون لجلاله، وقد اختصَّ السجود بالذِّكر لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ياويله! أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنَّة، وأُمرت بالسجود فأبيتُ فلي النار» (أخرجه مسلم وابن ماجه والبيهقي). وفي هذا قال أحد العارفين المحبِّين: [اعلم أنه لا شيء أنكأ على إبليس من ابن آدم في جميع أحواله في صلاته من سجوده، لأنه خطيئته، فكثرة السجود وتطويله يحزن الشيطان وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده، لأنه حينئذ يذكر الشيطان معصيته فيحزن، فيشتغل بنفسه عنك]، ولذلك أصبح دأب الشيطان المستمر، وشغله الشاغل الترصُّد للمؤمنين، والحيلولة بينهم وبين الذِّكر، قال تعالى: {إنَّما يُرِيْدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُمُ العداوَةَ والبَغْضَاءَ في الخمر والميسرِ ويَصُدَّكُم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاة فهل أنتم مُنْتَهُون} (5 المائدة آية 91).(1/459)
وتُخبرنا الآية الكريمة بأن الملائكة الأطهار دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصِّرون. وهم الَّذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، ولا تستبدُّ بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة لأنهم مبرَّؤون من ذلك. فما أحوج الإنسان إلى الاقتداء بهم في كثرة ذكر الله وتسبيحه؛ وهو المخلوق الَّذي فُطِرَ على حبِّ الخير ولديه القابليَّة للشر، وفيه لمَّة من المَلَكِ ونزعة من الشيطان؛ فإنْ أَكثر من ذكر الله، غلب عليه الخير واتَّصف بالصفات الملائكيَّة، وإن غفل عن ذكره تعالى، تحكَّم به الشرُّ وصار الشيطان له قريناً، يأمره بالسوء والفحشاء، حتَّى يرديه في أودية الشقاء.
سورة الزُّمَر(39)
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صدرهُ للإسلامِ فهو على نُورٍ من رَبِّهِ فويلٌ للقاسيةِ قُلوبُهُم من ذكرِ الله أولئك في ضلالٍ مبين(22) الله نَزَّل أَحْسَن الحديثِ كتاباً متشابهاً مَثَانِيَ تقشَعِرُّ منه جلودُ الَّذين يخشونَ ربَّهُم ثمَّ تَلينُ جلودُهُمْ وقُلوبُهُمْ إلى ذكْرِ الله ذلك هُدى الله يهدي به من يشاءُ ومن يُضْلِلِ الله فما له من هَادٍ(23)}
ومضات:
ـ إن انشراح الصدر للإسلام يعني تفتُّح خلايا العقل والقلب والنفس، لاستقبال العلم الإلهي المودع في رسالة الإسلام، ومن ثمَّ هضمه واستيعابه ليتمثَّل عملاً وأخلاقاً.
ـ مَثَلُ القلوب القاسية الَّتي تراكمت عليها الحجب، وحالت دون وصول نور الله وهدايته إليها، فأضحت صلدة ميتة كمثل البئر المهجورة الَّتي سدَّتها الصخور، فحالت دون نزول الغيث فيها، فجفَّت وغارت مياهها.
ـ إن لذكر الله حلاوة وعذوبة ترتعش لها أوصال الذاكر، وتُسْتقى منها برودة اليقين، وإن حلاوتها لتزيد في كلِّ مرة أكثر من سابقتها.
ـ من تعرَّض للهداية الإلهية وفتح لها مغاليق قلبه أخذ بقسط وافر منها، ومن أعرض عنها تشعَّبت به المسالك فلا هادي يرشده، ولا نور يضيء له الطريق.
في رحاب الآيات:(1/460)
الكآبة والانقباض، والسرور والانشراح، حالات متباينة ومختلفة تعتري النفس البشرية، وتعود في أصلها لأسباب كثيرة، قد تكون ظاهرة يسهل على الإنسان تحديدها ومعالجتها، وقد تكون خفيَّة وغامضة يصعب عليه معرفتها وإدراكها. والقرآن الكريم يعطينا من خلال هذه الآيات، تفسيراً واضحاً لهذه الحالات، الَّتي تنتاب أحدنا فتجعله يشعر بالانشراح أو الانقباض؛ فالانشراح علامة من علامات دخول النور للقلب المتصل بالله، أمَّا الانقباض فهو أثر يخلِّفه البعد عن الله، والإعراض عن ذكره.(1/461)
وإن جوهر الإسلام نور إلهي يخترق حجب الصدور، ليشيع في القلوب أجواء الراحة والسعادة النفسيَّة، وهذا النور القدسي عندما لا يجد في القلب مستقراً، يعود من حيث أتى، تاركاً المُعرض عنه في ظلمات بعضها فوق بعض، ويصبح من العسير إزالتها. فالعاقل من يتفقَّد قلبه ويتأكَّد من سلامته من التلوُّث، ويراقب تقلُّباته خشية أن تتراكم عليه الآفات، فتحيله إلى قلب أجرد قاحل، لا ينبت إلا الشوك والضريع، كما يسعى جاهداً لوقايته والمحافظة عليه بكثرة الذِّكر، الَّذي يستمطر به أنوار الله، فتتفجَّر ينابيع الحكمة المودعة في أعماقه على لسانه، وتتندَّى تربة هذا القلب فيشدُّها الحنين والشوق إلى بارئها، ويطلب صاحبها الصلة والوصال بإرادة المحبِّ الظمآن، وبعزيمة العاشق الولهان!! فياحسرة على القاسية قلوبهم الَّذين إذا ذكر الله عندهم، وذُكِرَتْ دلائل قدرته وبدائع صنعته أمامهم، أعرضت نفوسهم، وازدادت قلوبهم قسوة، فحُرموا من تذوُّق حلاوة الإيمان، مثلهم في ذلك كمثل المريض الَّذي تعاف نفسه أطايب الطعام. أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي»، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُوْرِثُ القسوةَ في القلب ثلاثُ خصال: حبُّ الطعام، وحبُّ النوم، وحبُّ الراحة». وكما أن للقسوة أسبابها، فللانشراح علاماته وأسبابه، أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يارسول الله! أيُّ المؤمنين أَكْيَس؟ قال: أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقال: وما آية ذلك يانبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».(1/462)
فالمؤمنون يتلقَّون القرآن الكريم بمحبَّة وقبول، لأنهم يوقنون أنه كتاب الله، الَّذي لا اختلاف في طبيعته، ولا في اتجاهاته، ولا في روحه، ولا في خصائصه، بل هو كلٌ متماسك، تتكرَّر مقاطعه وقصصه، وتوجيهاته ومشاهده، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تُعاد في مواضع متعددة، وفق حكمة تتحقَّق في الإعادة والتكرار في تناسق واستقرار، على أصول ثابتة متشابهة، لا تعارض فيها ولا اصطدام. والَّذين يخشون ربَّهم ويتَّقونه، ويعيشون في تطلُّع ورجاء، يتلقَّون هذا الذِّكر في وجل وارتعاش، وفي تأثُّر شديد تقشعرُّ له الجلود، ثمَّ تهدأ نفوسهم، وتأنس قلوبهم بهذا الذِّكر، قال زيد بن أسلم: قرأ أُبَيُّ بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقُّوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدُّعاء عند الرِّقة فإنها رحمة» (أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أُبي بن كعب)، وعن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعرَّ جلد المؤمن من مخافة الله تحاتَّت عنه خطاياه كما يتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقُها» (أخرجه البيهقي في الشعب والخطيب والبزار). وقال أحد المحبِّين الذاكرين: [ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة].
وإن القلوب الطاهرة لترتعش حين تحرِّكها النفحات الإلهية نحو الهدى والاستجابة والإشراق، وهي على النقيض من قلوب الضالِّين الَّتي لا تقبل الهدى، ولا تجنح إليه؛ فتغدو قاسية غافلة لا تستشعر الأنوار الإلهية، ولا تتحسَّس العطايا الربانية.
سورة الحديد(57)(1/463)
قال الله تعالى: {ألم يَأْنِ للَّذين آمنوا أن تخشعَ قُلوبُهُم لِذكْرِ الله وما نَزَلَ من الحقِّ ولا يكونوا كالَّذين أُوتوا الكتابَ من قبلُ فَطَالَ عليهِمُ الأمَدُ فقَسَتْ قُلوبُهُم وكثيرٌ منهم فاسقون(16) اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتِها قد بيَّنَّا لكُمُ الآياتِ لعلَّكم تَعقلون(17)}
ومضات:
ـ لابدَّ للمؤمنين من شحذ هممهم لاجتياز طريق الإيمان بمحبَّة الله تعالى وخشيته، حتَّى تمتزج خلاياهم الروحية بأنواره القدسية، وتتفجَّر ينابيع عواطفهم بذكره وتلاوة كتابه الكريم.
ـ لقد ابتعد الكثير من الناس عن المنابع الروحية لرسالات أنبيائهم ردحاً طويلاً من الزمن، فتحجَّرت عواطفهم الإيمانية، وانحرفوا عن السلوك القويم الموصل إلى محبَّة الله تعالى ورضوانه.
ـ إن الله تعالى قادر على أن يحيي أرض القلوب بعد مواتها.
ـ تعاليم الله تعالى واضحة؛ فإذا تدبَّرناها أدركنا ما فيها من خير ورشاد للفرد والمجتمع.
في رحاب الآيات:
بعض الصحابة الكرام توهَّجت قلوبهم بمحبَّة الله بمجرد مبايعتهم للنبي عليه السَّلام على الإسلام، ولم تمضِ عليهم أيَّام قليلة حتَّى تعرضوا لمختلف أنواع الابتلاء والتعذيب الجسدي، فصبروا وصابروا، ومنهم من استشهد، فما وهنوا ولا تراجعوا. وبعضهم الآخر أعلن إسلامه ظاهراً، ولم تنبض قلوبهم بروح الإسلام، ولم تنصهر مشاعرهم بذكر الله، فكان عليهم أن يتنبَّهوا لحسن إسلامهم، وإعمار قلوبهم بمحبَّة الله سبحانه وعشقه. وهذه الآية تحمل لهم عتاباً مؤثِّراً من المولى الكريم، واستبطاءً لاستجابة قلوبهم الَّتي أفاض عليها من فضله، حيث بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإيمان، ونزَّل عليهم الآيات البيِّنات لتخرجهم من الظلمات إلى النور.(1/464)
إنه عتاب فيه ودٌّ ومحبَّة لاستثارة المشاعر بجلال الله والخشوع لذكره، وإلى جانب ذلك فيه تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ، حين يمتدُّ بها الزمن دون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة، حين تغفل عن ذكر الله، وما أشدَّ العذاب النفسي الَّذي يقع فيه من قسا قلبه بعد الإيمان! وما أخطر أن يقسوَ القلب فيفسق عن أمر الله، ويبتعد عن حوض عطائه النوراني الكريم. والعِبَرُ كثيرة في قسوة القلوب عند كثيرٍ من أتباع الرسالات السماوية، الَّذين تحوَّلت عباداتهم إلى طقوس جوفاء، لا تنعش الروح ولا تغذِّي القلب؛ وكان جدير بهم أن يلتجئوا إلى الله تعالى، الَّذي يليِّن أرض القلوب بعد قسوتها، كما يحيي التربة بعد موتها.
فلنسرع إلى مجالس الذِّكر والإيمان، مجالس الحبِّ في الله مع الأولياء الصالحين، حيث تنتعش القلوب بالتجلِّيات الربَّانية والنفحات الإلهية، ولنسرع إلى صلوات الجماعة ففيها عطاء وبركة، وإلى كتاب الله نتدارس آياته بوعي وفهم، بعشق وحنين، ليتفتَّح ورد الإيمان، وتزهر أغصان العمل. عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى عليه السَّلام قال لقومه: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله تعالى، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنَّما الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَت قُلوبُكُم من بَعدِ ذلك فهي كالِحجارةِ أو أشَدُّ قَسوَةً وإنَّ من الحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأَنهَارُ وإنَّ منها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ منها لَما يَهبِطُ من خَشيَةِ الله وما الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ(74)}
ومضات:(1/465)
ـ وصف الله تعالى قلوب الغافلين عن ذكره، بالصلابة والغلظة، بسبب ما تراكم عليها من ظلمات المعاصي والذنوب، فصارت لا تتأثر بالعظات والمعجزات الإلهية الَّتي تَلِيْنُ لها الصخور الصلدة.
ـ إن قلوب الغافلين أكثر عقماً من الحجارة، بل الحجارة خير منها، إذ أن بعضها مكامن للماء، تتفجَّر منها الينابيع وتحمل الخير للجميع، وبعضها الآخر يلين ويتشقق لقلَّة صلابته، بينما قلوب هؤلاء صمَّاءُ قاسية، لا يرجى منها خير، وما كانوا كذلك إلا لانقطاعهم عن الله.
ـ الله تعالى عليم بمخلوقاته، لا يغفل عن عمل مهما صغر شأنه.
في رحاب الآيات:
الإنسان مخلوق بديع التكوين، معقَّد التركيب، يتألَّف من عناصر مختلفة متباينة لكنها متكاملة منسجمة، تترك بَصَماتها الواضحة على سلوكه وانفعالاته. فهو جسدٌ مادِّي ينتمي إلى الأرض، وروح تنتمي إلى ملكوت السموات وعالم الغيب، ومن جهة أخرى فهو يخضع لقوى يشدُّه بعضها إلى الأرض ـ منشأ جسده ـ وبعضها الآخر إلى الأعالي، حيث مصدر روحه، وفي خضمِّ ذلك تدور صراعات عنيفة في داخله، يديرها ويتحكم فيها طرفان هما العقل والقلب من جهة، والنفس والأهواء من جهة أخرى، وإن نتيجة هذا الصراع هي الَّتي تحدِّد الملامح الخاصَّة الَّتي تميِّز شخصية كلِّ إنسان.(1/466)
فالشخصية الإنسانية تُصَنَّفُ في أنماط مختلفة، وفقاً لما يعتلج في وجدانها من البواعث والانفعالات، الَّتي تؤثِّر وتتأثَّر من خلالها بما حولها. والناس يتدرَّجون في الرقي والسمو، تبعاً للكيفية والمقدار الَّذي تتجاوب فيه عقولهم وقلوبهم مع شريعة الله، فأدنى الناس درجةً هم أولئك الَّذين يكادون يتساوون مع الجماد لقسوة قلوبهم؛ الَّتي لا تلين أمام آلاء الله ومعجزاته العظيمة، فلا خير يرجى منهم، لأنفسهم أو لمن حولهم، وهم بذلك يضربون مثلاً سيِّئاً في التصلُّب والقسوة يفوق قسوة الحجارة؛ إذ أنَّ الحجارة ليست كلَّها صمَّاء عقيمة، بل إنَّ بعضها قد يكون مصدراً للخير والعطاء. ويُهيب تعالى بهؤلاء أن يتفكَّروا في خلق هذه الحجارة، الَّتي تتفاوت من حيث تكوينها والدور الَّذي خلقت من أجله، فإنَّ منها ما تتفجَّر منه العيون الصافية، جداول وأنهاراً وفيرة غزيرة، تحمل أسباب استمرار الحياة إلى سائر المخلوقات، ومنها ما تنساب منه المياه بشكل يسير ضئيل، لكنه يطفئ ظمأ العطشى ويلبِّي حاجاتهم، ومنها ما يمضي عليه ردحٌ من الزمن مثبت إلى الأرض كالجبال الشامخة، حتَّى إذا أراد الله بها أمراً تكسَّرت وهبطت من علو، كما أصاب الجبل حين تبدَّى له نور الله أثناء مناجاة موسى عليه السَّلام فخشع وتصدَّع من هيبة الله وجلاله.(1/467)
ولعلَّ أولئك يدركون ـ إذا ما تفكَّروا في ذلك كلِّه ـ أنَّ مخلوقات الله جميعاً هي مصدر خير لهذا الكون، وإن تفاوت مقداره بينها، وحريٌّ بالإنسان أن يكون مصدراً للخير على الدوام، لأنه مؤهَّل بما لم يؤهَّل به غيره من سائر المخلوقات، فهو أكرم الخلق على الله عزَّ وجل، لذلك نجد بين الناس من هو منيب إلى الله، داعٍ إلى صراطه المستقيم، يضمُّ بين جوارحه نفساً لوَّامة توَّاقة إلى لقاء الله عزَّ وجل، وقلباً نابضاً بذكر الله يفيض بالخير والعطاء على من حوله، فتحيا قلوب الناس به، ومنهم أيضاً من لا يطيق الذنوب ويكثر من الاستغفار، فهو في عداد التائبين، تفيض عيناه بالدمع عند تذكُّرِ ضعفه أمام قوَّة الله، والتفكُّر في ذنبه أمام سعة رحمة الله وغفرانه، ومنهم من لا يتحرك قلبه بالإيمان، ولا تستكين جوارحه لعظمة الله وجبروته، إلا إذا واجهته المحن وضاقت به السبل، عندها تنطلق صيحة الرجاء من أعماقه لحضرة الله طالبة النجاة، لأنه إنسان غافل يحتاج إلى هزَّة عنيفة، توقظ مشاعره وتفتِّح بصيرته، ليستفيق ويعود إلى سبيل الرشاد.
فمعيار الخير في ذات الإنسان إذن، هو مقدار الحبِّ والإيمان وذِكْر الله الَّذي يعمر قلبه، وقد شَبَّهَتِ الآية القلب بالنبع، لأنهما كلاهما يشتركان بخاصيَّة التدفُّق ونشر الحياة، فإذا تدفَّق القلب بالحبِّ والإيمان عمَّر ما حوله بالنور والخير، وإذا تدفَّق النبع بالمياه العذبة حوَّل الصحارى القاحلة إلى واحات خضراء. وإن جفاف القلب كذلك يشبه جفاف النبع، فمن جفَّ قلبه فقد نضب من ماء محبَّة الله تعالى، وماء محبَّة الخلق، فعاش بجسد حيٍّ وقلب ميت، فلا ينفع نفسه ولا ينفع غيره.
الفصل الثاني:
التَّسبيح
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبعُ والأرضُ وَمَن فيهنَّ وإنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهونَ تَسبيحَهُم إنَّه كان حليماً غَفوراً(44)}
سورة النور(24)(1/468)
وقال أيضاً: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون(41)}
سورة الروم(30)
وقال أيضاً: {فسبحانَ الله حينَ تُمسونَ وحينَ تُصبحونَ(17) وله الحمدُ في السَّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحينَ تُظْهِرُون(18)}
ومضات:
ـ إن التَّسبيح والتَّحميد لله هما لغةُ العاشقين لله، وترجمان قلوبهم الَّتي تشهد جماله في إبداع خلقه وجميل صنعته؛ فتلهج بالثناء عليه حمداً وشكراً، وعرفاناً وتنزيهاً له سبحانه عمَّا لا يليق بكماله.
ـ لا تقتصر عبادة التَّسبيح على الإنسان؛ بل إن جميع الموجودات والعوالم، تتقرَّب إلى الله بهذه الصلة الروحية، وتستديم عليها، وتجد فيها حياتها واستمراريَّتها.
ـ إن في تسبيح العوالم لله، وقيام جميع الكائنات به ـ ما عقل منها وما لا يعقل ـ تعليماً وإرشاداً للإنسان بأن يعترف بفضل الله عليه؛ فيشكر نعماءه ويسبِّح بحمده، لئلا تكون تلك المخلوقات الَّتي فضَّله الله عليها أكثر ذكراً لله، وأفضل منه شكراً وعرفاناً بعظيم فضله عليها.
ـ ينبغي على المؤمن أن يُكْثِرَ من التَّسبيح مع بداية كلِّ نهار، وعند إقبال كلِّ ليلة من ليالي عمره؛ وذلك لما في هذين الوقتين المتعاقبين من شهودٍ حسيٍّ لآثار القدرة الإلهية من جهة، وليبقى المؤمن دائم الصلة بربِّه من جهة أخرى.
في رحاب الآيات:
التَّسبيح تنزيهٌ لله تعالى عن كلِّ نقصٍ لا يليق بكمال ذاته وصفاته، ومعنىً من معاني تمجيد عظمته وقدسيته، وصورة من صور إفراده بالعبوديَّة والطاعة والمحبَّة.(1/469)
وهذه الآيات الكريمة تصوِّر لنا مشهداً فريداً للكون تحت عرش الله، يتوجَّه بالتَّسبيح إليه (عزَّ وجل) منزِّهاً إيَّاه، ومقدِّساً لعظمته عن كلِّ ما لا يليق بذاته العليَّة. فما من ذرَّة فيه ولا حصاة ولا حبَّة إلا وتنبض بالحمد والتَّسبيح، وما من حجر أو شجر أو ورقة أو زهرة، أو نبتة أو ثمرة إلا وتلهج بذكره والثناء عليه. فالكون الكبير الواسع المدى كلُّه حركة وحياة، وكلُّ دابَّة فيه، وكلُّ سابحة في الماء أو طائرة في الهواء، وكلُّ ساكن ومتحرِّك في الأرض والسماء يسبِّحون الله ويتوجَّهون إليه، ويشهدون بوحدانيَّة ربوبيَّته وألوهيَّته، وكلٌّ يضرعُ بطريقته ولغته البعيدة عن الفهم البشري.
فالله جلَّ وعلا أثبت أن لكلِّ ذرَّة لساناً ناطقاً بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّنزيه لصانعه وبارئه، وحامداً له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان تنطق الأرض يوم القيامة، كما قال تعالى: {يومئذ تُحدِّثُ أخبارها} (99 الزلزلة آية 4) وبهذا اللسان تشهد أجزاء الإنسان يوم القيامة: {يومَ تَشْهدُ عَليِهِمْ ألسِنَتُهُمْ وأَيديهِمْ وَأَرجُلُهُمْ بمَا كَانُوا يَعْمَلْونْ} (24 النور آية 24).
وقد أثبتت الأبحاث العلميَّة وجود الحياة في كلِّ ذرَّات الوجود، وأن هذه الذرَّات مؤلَّفة من شوارد تعمل مع بعضها بعضاً، حسب الوظائف المنوطة بها، وكلُّها تعمل بأمر الله تعالى، حسب ما صمَّمه لها، من أجل استمرار الحياة في هذا الكون، وطالما أن فيها حياةً فمن البديهي أن تسبِّح الله تعالى الواحد القهَّار؛ يؤكد ذلك قوله تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون}.(1/470)
ومن الملاحظ أن هذه الآية جاءت لتقرِّر حقيقة تسبيح الموجودات لله سبحانه، ولكنها قد سُبقت بصيغة استفهام تقريري تَكرَّر ورودها كثيراً في القرآن الكريم وهي {ألم تر} والحقيقة أن هذه الرؤية الَّتي يريد الله لعباده أن يشهدوا بها ما ذُكر بعدها؛ لا يقصد بها الرؤية الَّتي تُشاهد بعين البصر، ولكنَّها الَّتي تُدرك بعين البصيرة. وهي رؤيةٌ لا تتحقَّق إلا لمن طهُرت قلوبهم من نجاسات الغفلة وملوِّثات المعاصي، وغدت كالمرآة صفاءً ونقاءً، فانعكس عليها قبس من نور الله، فأبصر أهلها الحقائق، وسمعوا ما لا يسمعه غيرهم. وأمثال هؤلاء يتمكَّنون من إدراك حقيقة تسبيح الكائنات لله تعالى، بل إنهم ما إن يسبِّحون الله ويذكرونه حتَّى يُسبِّح ما في الكون بتسبيحهم، ويذكر بذكرهم، كما قال تعالى في شأن نبيِّه داود عليه السَّلام: {إنَّا سخَّرنا الجِبَال معه يُسبِّحنَ بالعَشيِّ والإشراق} (38 ص آية 18). وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
فكلُّ مخلوق في السموات أو في الأرض قد علم صلاته وتسبيحه، وأرشده الله إلى طريقة معيَّنة، ومسلك خاص في عبادته. أخرج أحمد وابن مردويه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابْنَيْهِ: آمركما بسبحان الله وبحمده، فإنهما صلاة كلِّ شيء وبهما يرزق كلُّ شيء». وجاء في فضل التَّسبيح أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه : «ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلت: أخبرني يارسول الله، قال: إن أحبَّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده» (رواه مسلم والترمذي). ومعنى قولنا (سبحان الله): أي براءةً وتنزيهاً لله من كلِّ نقص. ومعنى قولنا (وبحمده): فهو شكر لله على نعمه واعتراف بها.(1/471)
والمراد من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون} الأمر بالتَّسبيح والتَّنزيه والحمد والصَّلاة له في جميع أوقات الليل والنهار. وقد أُمر المؤمن بالتَّسبيح في هذين الوقتين المتعاقبين، لأنهما آيتان حسِّيتان من آيات قدرة الله، وبإمكان المؤمن أن يشهدهما كلَّ يوم، فيستقبل نهاره بتنزيه الله عن جميع صفات النقص، ويصفه بجميع صفات الكمال، ويقرن تسبيحه هذا بالحمد والشكر على نعمائه سبحانه وتعالى، وكذلك يكون حاله عند إدبار النهار وإقبال الليل. وما الصلوات الخمس الَّتي يؤدِّيها المسلم في أوقات متعاقبة إلا بعض مظاهر التَّسبيح العملي لاشتمالها عليه وعلى الحمد أيضاً.
ولعل السبب في تخصيص الطير بالتَّسبيح، في الآية الكريمة، مع أنها تدخل في عموم المخلوقات الَّتي تسبِّح لله في السموات والأرض؛ هو لفت الأنظار إلى كمال القدرة الإلهية في صنعها، ولأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجَّة واضحة على عظيم قدرة الخالق المبدع. فسبحان الله وبحمده؛ هو المُنزَّه والمحمود من جميع أهل السموات والأرض، وفي كلِّ الأحوال والأماكن والأزمان، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.
الفصل الثالث:
الاستقامة والوفاء بعهد الله
سورة فُصِّلَتْ(41)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تَتَنزَّلُ عليهمُ الملائكَةُ ألاَّ تَخَافوا ولا تَحزنوا وأبشِرُوا بالجنَّة الَّتي كُنتم تُوعدون(30) نحن أولياؤُكُم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتهي أنفُسُكُمْ ولكم فيها ما تَدَّعُون(31) نُزُلاً من غفورٍ رحيم(32) ومن أحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال إنَّني من المسلمين(33)}
سورة الأحقاف(46)(1/472)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13) أولئك أصحابُ الجنَّةِ خالدينَ فيها جَزَاءً بما كانوا يعملون(14)}
سورة الجن(72)
وقال أيضاً: {وأَنْ لوِ استقاموا على الطَّريقَةِ لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً(16)}
ومضات:
ـ الاستقامة تعني الالتزام الكامل بالتوجُّه نحو الله وبالله وفي سبيل الله.
ـ إن من يُخلص العبوديَّة لله تعالى ويسير ضمن تعاليمه، يحصل على الدعم الروحي في رحلته الحياتيَّة، حيث تُظلُّه العناية الربانيَّة، وتُسخَّر له الملائكة لتيسير أموره وحفظه، وكذلك في رحلة الآخرة بدءاً من حفرة القبر، وحتَّى دخول جنان الخلد بإذن الله عزَّ وجل؛ حيث فيها ما تقرُّ به الأعين وتطرب له القلوب.
ـ يتمايز الناس في الدنيا بأنسابهم وأحسابهم وأموالهم، أمَّا عند الله فإن أفضل الناس من حسن كلامه وصلح عمله، وطاب سلوكه وممشاه، وانتسب إلى مدرسة الإسلام بصدق وجدارة.
في رحاب الآيات:
أن يقول المرء (ربِّيَ الله) فهذا سهل على اللسان، ويكاد أهل الأرض يجمعون على ترداد هذا القول، ولكن قليلاً منهم من يشعر بالمسؤوليات والالتزامات الَّتي تترتب على الاعتراف بوجوده تعالى، وبكونه خالقهم ومقدِّر أمورهم، ويدركون أنَّ عليهم أن ينظِّموا برنامج حياتهم وفق مخططاته عزَّ وجل. وسبيلهم إلى ذلك يتلخَّص في كلمة واحدة حيث يُتْبِعُ أحدهم القول بالعمل؛ إنها الاستقامة.(1/473)
فالاستقامة هي المسار الصحيح للإنسان في حياته العملية فيما يُرضي الله عنه تعبديّاً، وبما يُسْعِد مجتمعه فكريّاً أو ماديّاً أو جهداً عمليّاً. وأعضاء مجتمع الاستقامة هم أهل الله وخلفاؤه في الأرض، تحوطهم العناية الربَّانية في الدنيا والآخرة، وتحفُّ بهم ملائكة الرحمة بالبشائر والاستغفار، والرعاية الكريمة؛ قلوبهم واثقة بالله، مطمئنة به، لا تعرف الخوف إلا منه عزَّ وجل. جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: «قلت يارسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؛ قال: قل آمنت بالله، ثمَّ استقم».
وبمجرَّد أن ينوي المؤمن الاستقامة، ويقرِّر السير عليها بصدق، فإن الله يُسخِّر له ملائكة الرحمة لتلهمه الحقَّ، وترشده إلى طريق الخير والصلاح، ولتكون معه في وحشة القبر تؤنسه، وتزيل عنه الروع من أهوال يوم القيامة، وتدخله معزَّزاً مكرَّماً إلى دار الخلود قائلة له: طبت وطاب محياك وطاب مماتك. قال بعض الصالحين: [إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة، ألا تخافوا من هول الموت ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظَيه قائمَين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنَّة الَّتي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها، فلا تهولنَّك فإنما يُراد بها غيرك]. وقيل أيضاً: [البشرى للمؤمنين المستقيمين في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث].
ولاشكَّ في أن الصبر على تكاليف الاستقامة أمر عسير، ولذلك يستحقُّ الصابرون عند الله هذا الإنعام الكبير، الَّذي هو صحبة الملائكة وولاؤهم ومودَّتهم، وبشائرهم بالجنَّة الَّتي فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدَّعون، والَّتي اختارها تعالى داراً لإقامتهم: {نُزلاً من غفور رحيم} فهي من عند الله أنزلهم فيها بمغفرته ورحمته، فأيُّ نعيم بعد هذا النعيم؟.(1/474)
لقد استحقَّ المؤمنون هذا التكريم بسبب رفعهم لواء التَّوحيد، لذلك فإن أحسن كلمة تقال في الأرض، هي كلمة التَّوحيد، الَّتي تصعد في مقدِّمة الكلم الطَّيب إلى السَّماء، شريطة أن تقترن بالعمل الصالح الَّذي يصدِّقها، مع الاستسلام لله الَّذي تتوارى معه الذَّات، فتصبح الدعوة خالصة له سبحانه ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
كان الحسن رضي الله عنه إذا تلا هذه الآية {ومن أَحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المسلمين}، قال: (هذا الداعي إلى الله، هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبُّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه).
إذن، فالإسلام يجعل مركز الصدارة للدعاة الَّذين استقاموا على طريق الله عزَّ وجل، فهم أشرف الخلق، وأحبُّ الخلق إلى الله، يدعون الناس إلى الإيمان بأقوالهم وأفعالهم، بل إن أفعالهم لتسبق أقوالهم، فهم منارات للهدى، وبصائر للأفئدة، وهم المسلمون حقاً وصدقاً.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {من المؤمنينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ فمنهم من قضى نَحْبَهُ ومنهم من ينتظِرُ وما بدَّلُوا تبديلاً(23) ليجزي الله الصَّادقينَ بصدقِهِم ويُعذِّبَ المنافقينَ إن شاءَ أو يتوبَ عليهِمْ إنَّ الله كان غفوراً رحيماً(24)}
ومضات:
ـ المؤمن الصَّادق هو الَّذي يُكْمِل مسيرة العمل والخدمة والتضحية حتَّى نهايته، دون ملل أو كلل، متحمِّلا ما يعترضه من المتاعب والإيذاء.
ـ المكافأة الَّتي يرجوها الصَّادق من عمله هي رضاء الله عنه، فهي وحدها الَّتي تبلِّغه طموحه وتروي ظمأه. وليست الجنَّة حافزه أو النار مفزعه فقط، لأنَّ صدقه الحقيقي لا ينبع من اهتمامات ماديَّة يطلبها جسده بل من إشراقات روحيَّة ومعنويَّة تستمدُّ زخمها من الصلة بالله عزَّ وجل.(1/475)
ـ الإيمان والنفاق لا يجتمعان في قلب واحد، ومن تعرَّض قلبه للإصابة بالنفاق أو صفة من صفاته، فأمره متروك إلى الله تعالى إمَّا أن يعذبه، أو يتوب عليه إذا أفاق من سباته قبل فوات الأوان واستدرك ما فاته، فمغفرة الله قائمة ورحمته واسعة وهو أرحم الراحمين.
في رحاب الآيات:
في خضمِّ معترك الحياة وأثناء مواجهة الأحداث أخذت الشخصية المؤمنة تتبلور بشكل جديد، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتَّضح سماتها، وكانت الفئة المؤمنة الَّتي تتكوَّن من مجموع تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوِّماتها الخاصَّة، وقيمها الأصيلة، وطابعها المتميِّز بين سائر الفئات. وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة أحياناً، وتشتدُّ قسوتها فتبلغ درجة الفتنة، لكنَّها فتنة كأنَّها النار الَّتي تصوغ الذهب، فهي تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تبقى خليطاً مجهول القيم.(1/476)
لقد علِم الله جلَّ وعلا أن هذه الخليقة البشريَّة لا تُصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً حقيقيّاً، ولا تصحُّ ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيَّة الواقعيَّة، الَّتي تُحفر في القلوب، وتُنقش في الصدور وتأخذ من النفوس، وتعطي في معترك الحياة وملتقى الأحداث. لقد كانت مرحلة عجيبة حقاً تلك الَّتي قضاها المسلمون أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مرحلة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مُبَلْوَراً في أحداث وكلمات، فكان كلُّ مؤمن يبيت وهو يشعر أن عين الله ترقبه، وأن سمع الله يناله، وأن كلَّ كلمة منه وكلَّ حركة، بل وكلَّ خاطر قد يصبح مكشوفاً للناس ويتنزَّل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلُّ مؤمن يُحِسُّ الصلة القوية الَّتي تربطه بربِّه، فإذا أصابه أمر أو واجهته معضلة انتظر أن تُفتح أبواب السماء ليتنزَّل منها حلٌّ لمعضلته، أو فتوى في أمره، أو قضاء في شأنه.(1/477)
والنصُّ القرآني هنا يُغفل أسماء الأشخاص، ليصوِّر نماذج البشر وأنماط الطباع، ويُغفل تفصيلات الحوادث وجزئيَّات الوقائع، ليصوِّر القيم الثابتة والسنن الباقية، الَّتي لا تنتهي بانتهاء الحدث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، بل تبقى قاعدة ومثلاً لكلِّ جيل. فهو يهتمُّ بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويُظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره الحكيم، ويقف عند كلِّ مرحلة من مراحل الدعوة للتوجيه والتعقيب، والربط بالأصل الكبير. فالقرآن الكريم معدٌّ للعمل لا في وسط محدَّد ولا في تاريخ معيَّن، بل هو معدٌّ للعمل دائماً كلَّما واجه المرء مثل هذا الحدث أو شبهه مادامت الحياة، وفي مختلف البيئات، بالقوَّة نفسها الَّتي عمل بها في حياة المجموعة الأولى. والأحداث الَّتي مرَّ بها المسلمون الأوائل طبعتهم بطبائع مختلفة، لكنَّها إيجابية، وأوَّلها وأهمُّها الوفاء بالعهد مع الله. فكان كلُّ من يريد أن يرتقي سُلَّم الإيمان يعاهد الله تعالى عهداً لا ينكث فيه ولا يتراجع عنه، على أن يسخِّر إمكاناته الجسدية والفكرية والروحية جميعها، وكذلك وقته كلَّه للعمل البنَّاء الدائم والمستمر لما فيه سعادة الإنسانية، وبما يُرضي الله تعالى عنه. وقد صدقوا بعهدهم، فمنهم من قضى نحبه أي وفَّى بعهده وهلك في سبيل مبدئه، كأنس بن النضر رضي الله عنه الَّذي عاهد الله على قتال أعداء الحقِّ حتَّى الرمق الأخير في حياته؛ فوفَّى بعهده في معركة أُحد، حيث أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمِّي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أوَّل مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبت عنه. لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فقاتل حتَّى قُتل، فَوُجِدَ في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة ورمية). ومنهم من ينتظر اللحظة المناسبة للوفاء بهذا النذر،(1/478)
وما تراجعوا عن عهدهم، ولا غيَّروا اتجاههم، خلافاً للمنافقين الَّذين قالوا لا نولِّي الأدبار فبدَّلوا قولهم، وتراجعوا عن العمل من أجل حماية العقيدة والدعوة إليها، وهذا شأنهم لأنهم كاذبون مع أنفسهم فكانوا كاذبين مع ربِّهم.
والله جلَّ وعلا يختبر عباده ليُميِّز الخبيث من الطيب، ويُظْهِرَ أمر كلٍّ منهما واضحاً، ثمَّ يثيب أهل الصدق منهم بوفائهم فيما عاهدوا الله عليه، ويعذِّب المنافقين الناقضين لعهدهم، المخالفين لأوامره إذا استمروا على نفاقهم حتَّى يلقَوْه، إلا إذا تابوا وأقلعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال، فإنه يغفر لهم ما أسلفوا من السيئات. فالله من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حثٌّ عليها في كلِّ حين، وبيان نفعها للتائبين.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بعد إذ هَدَيتَنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمَةً إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ(8) ربَّنَا إنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ الله لا يُخلِفُ المِيعَادَ(9)}
ومضات:
ـ ينبغي على المؤمن مهما بلغ من درجات العلم والمعرفة ألا يُفتتن بعلمه وعمله، وأن يُبقي قلبه في حالة اتصال بالله عزَّ وجل وتوكُّل مطلق عليه، ليثبِّته على الصراط المستقيم، فلا يخطئ طريق الحقِّ، لاسيَّما وأنه قد ذاق حلاوة الإيمان بالدِّين القويم، وعرف حكمة الشرع المستقيم. وعليه أن يسأل الله تعالى التَّفَضُّلَ عليه بنعمة الثبات على دينه الحقِّ، لأنه يدرك أنه لا يقدر على شيء إلا بفضل الله ورحمته، وأن قلبه بين أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء.
ـ على المؤمن أن يدرك أنه سائر لا محالة إلى يوم عظيم سيَجمَعُ فيه تعالى الخلائق للحساب، وأن يترجم إدراكه إلى عمل يوافقه، فهذا وعد الله الحقُّ، والله لا يخلف وعده.
في رحاب الآيات:(1/479)
إن للإيمان حلاوة وعذوبة يعرفها من سلَّم جوارحه ووجدانه لله عزَّ وجل، ورقَّت مشاعره وأحاسيسه حتَّى صارت مرهفة تلتقط كلَّ الإشارات والدلالات الربَّانية. والقلب الَّذي صدق مع الله ومع نفسه ينعم بأمن الله وطمأنينته، لأن أجهزة الإنذار ضدَّ الزيغ أو الخطأ، جاهزة في أعماقه دائماً، لترسل تحذيرها موقظة منبِّهة.
وهذه الآية هي بمثابة صيحة التحذير وجرس التنبيه والإنذار بالخطر، يُقرع في أعماق القلب المؤمن بشكل دائم، لئلا ينسى تربُّص الشيطان للميل به عن طريق الهدى، وإلقائه في مهاوي التهلكة. فالمؤمن حذر يقظ في مراقبة الثغرات الَّتي يمكن أن ينفذ الشيطان إليه من خلالها. ولما كانت استمرارية هذه المراقبة شاقَّة عسيرة عليه، كان لابدَّ له من طلب مدد إلهي يساعده ويُمِدُّه بالقوَّة لِيُثَبِّتَ أقدامه على الصراط المستقيم.
وفي مواجهة خوفه من تسلُّل الشيطان إلى قلبه، وهدمه للصرح الإيماني فيه، يتوجَّه العبد إلى ربِّه بالدعاء خاشعاً متوسِّلاً، أن يثبِّته على دينه، لأن هذا عطاء لا يعدله عطاء، وهو في أمسِّ الحاجة إليه لأنه يدرك حقيقة ضعفه، وكونه عرضة للتقلُّب والنسيان والانحراف، ولأنه لا يملك قلبه، بل هو في يد الله يقلِّبه كيف يشاء، لذلك يدعوه ألا يزيغ قلبه، وأن يسبغ عليه من رحمته وفضله، ويعطيه القوَّة للاستمرار في عملية البناء الأخلاقي والحضاري، وهو يتذكَّر يوم الحساب الَّذي لا ريب فيه، حيث تُعرض عليه صحيفة أعماله، ويُحاسَبُ بدقَّة وتُقام عليه الحُجَّة في كلِّ ذنب قام به.(1/480)
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: يا مُقَلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلت: يارسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، أمَّا تسمعين قوله تعالى: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب}» (رواه ابن مردويه). وهذا هو حال الراسخين في الإيمان مع ربِّهم، الإيمان الَّذي يولِّد الطمأنينة المستمدَّة من الصلة بالله والثِّقة بوعده وعهده، والتَّقوى واليقظة ورقَّة الإحساس؛ الَّتي يفرضها على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تنحرف عن سواء السبيل.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دعا ربَّهُ مُنيْباً إليه ثمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ وجَعَلَ لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيلهِ قُلْ تمتَّعْ بكفرِكَ قليلاً إنَّك من أصحابِ النَّار(8) أمَّنْ هوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحْذرُ الآخرةَ ويرجوا رحمةَ ربِّهِ قُلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يتذكَّرُ أُولوا الألباب(9)}
ومضات:
ـ هذه صورة معبِّرة عن الإنسان الَّذي تُلِمُّ به مصيبة، أو يقع في ضائقة، فيطلب المساعدة الإلهية بإلحاح، حتَّى إذا تحقَّقت له نسي أو تناسى ما كان به بالأمس وكأنَّ شيئاً لم يكن، فيُعرِض عن الله. وقد يصل به الجحود إلى أكثر من ذلك حتَّى يلتفت عنه، ويَتَّبِع آلهة يبتدعها لنفسه، وأبغض هذه الآلهة المزيَّفة (الهوى). ولكن مهما طال الزمن بهذا الإنسان، وجرت به الريح فإن مصير سفينته إلى براثن الأعاصير والعذاب في الدنيا والآخرة.
ـ كلَّما ازداد عطاء الله للمؤمن الحقيقي، ازداد من ربِّه قرباً وعبادة خشية أن تزِلَّ به قدم غرور أو فتنة.(1/481)
ـ أبواب العلم كثيرة، وكلها تزوِّد المؤمن بالقوَّة الروحية والإيمان العميق، وجميعها تدلُّ وتشهد على عظمة الله وقدرته. فمن صار له هذا الإحساس والشهود، صار من أولي الألباب أصحاب القلب والعقل المستنير بنور الله سبحانه وتعالى.
في رحاب الآيات:
للإنسان طاقة محدودة على تحمُّل الألم الناجم عن المصائب أو الأمراض الَّتي تصيب جسده، أو الناتج عن النكبات الَّتي يتعرض لها في ماله أو في أهله. وفي الأحوال جميعها فإن هذه الطاقة وشدَّة تحمُّلها تختلف من شخص لآخر. وعندما يزيد الألم تتَّجه قوى المرء الفكرية والروحية تلقائياً إلى حضرة الله تطلب منه العون والمدد، فتكون هذه المحنة امتحاناً، فهو إمَّا أن يتعرَّف الحقيقة فيدرك حاجته الدائمة إلى ربِّه، أو أن يتحوَّل عن خالقه بمجرَّد زوال الألم وكشفه الغمَّة عنه، وكأنَّ هذه العلاقة علاقة آنيَّة مرتبطة بالمصالح المؤقَّتة، والحاجة الطارئة، وبذلك يفشل وتزِلُّ قدمه.
إن صلة المؤمن بخالقه صلة مستقيمة مرتبطة مع أنفاسه ونبضات قلبه، في السرَّاء والضرَّاء، في العُسر واليُسر، صلة تعطيه كوابح تضبط عواطفه، فلا طغيان في حال الفرح، ولا يأس في حال الحزن، بل اتزان وسكينة ورضاً بقدر الله تعالى خيره وشرِّه. وهذه الصلة لا يمكن أن تقوى وتتمتَّن إلا بالكثير من التعبُّد والخشوع والتقرُّب من الله عزَّ وجل، وخاصَّة في جوف الليل حين تهدأ حركة الأحياء، وترتاح الأعصاب، وتحنُّ القلوب، وتنسكب العبرات. فإذا قويت هذه الصلة، تذكًّر المؤمن خالقه في جميع الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدَّة» (رواه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح) وقال الحسين رضي الله عنه : (من نسي الحقَّ عند العوافي لم يُجِبِ الله دعاءَه عند المحن والاضطرار).(1/482)
إن الجحود لا يقف بالضالِّ عند نسيان فضل ربِّه فحسب، بل يمتدُّ به حتَّى يجعل لربِّه أنداداً، إمَّا آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى، وإمَّا رموزاً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعلها في نفسه شريكة مع الله، فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله، ويتعلَّق بأولاده وأهله كما يتعلَّق بالله أو أشدَّ تعلُّقاً، فيطيعهم بمعصية الله ويرضيهم بسخطه، وتكون العاقبة هي الانحراف أكثر فأكثر عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدَّد، وإفراده بالعبادة والتوجُّه والحبِّ هو وحده الطريق إليه، والعقيدة في الله لا تحتمل معه شريكاً في القلب، كائناً من كان، لا مال ولا ولد ولا صديق ولا قريب، فأيُّما مشاركة قامت في القلب من هذا النوع وأمثاله، فهي من قبيل اتخاذ أنداد مع الله، وضلال عن سبيله، تؤول بصاحبها إلى النار بعد قليل من التمتُّع في هذه الأرض. وكلُّ متاع مهما طال قليل، وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عُمِّر، بل إن حياة الجنس البشري كلِّه على الأرض، متاع قليل، إذا قيست بأعمار بقية مخلوقات الله الكونية. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (ياأيُّها الناس! ألا تستحون؟ إلى متى تؤمِّلون ما لا تبلغون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون؟ إن من كان قبلكم أمَّلوا بعيداً، وبنَوْا مشيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً).(1/483)
وبعد الانتهاء من عرض الصورة المظلمة، للإنسان اللاهي المنصرف عن ربِّه، تعرض الآية الصورة المشرقة، للإنسان الواعي المتصل بالله اتصالاً سوياً مستقيماً، فهو قانت لربِّه، مطيع له، متوجِّه إليه، ساجد على أعتابه، قائم بين يديه، حَذِرٌ من عقابه، راجٍ لرحمته. وكلمة القانت لله فيها أربعة وجوه: فهو المطيع، وهو الخاشع، وهو القائم، وهو الداعي إلى الله. ومن ذلك كلِّه ندرك أن الصلة القويمة بالله يجب أن تكون في السرَّاء والضرَّاء، وأن الله لا يقبل إلا الإيمان الخالص من كل الشوائب.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {هو الَّذي يُسيِّرُكُم في البرِّ والبحرِ حتَّى إذا كنتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بريحٍ طيِّبَةٍ وفرِحُوا بها جاءتها رِيْحٌ عاصفٌ وجاءهُمُ الموجُ من كلِّ مكان وظنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوا الله مُخلصينَ له الدِّينَ لَئِنْ أنجيتَنَا من هذه لنكوننَّ من الشَّاكرين(22) فلمَّا أنجاهُمْ إذا هم يَبْغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ ياأيُّها النَّاسُ إنَّما بَغيُكُم على أنفسِكُمْ متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثمَّ إلينا مَرْجِعُكُم فننبِّئُكُمْ بما كنتُمْ تعملون(23)}
ومضات:(1/484)
ـ لا يمكن لسفينة الحياة أن تمضي في مسيرتها ما لم تعترضها الرياح الهادرة، وتحيط بها الأمواج العاصفة، ومهما كانت مهارة الربَّان وقدراته الفنية، فإن أعاصير القدر أشدُّ هولاً من أن يجتنبها بإمكاناته الفردية، لذا كان لابدَّ له من المساعدة الإلهية تمدُّه بالعون، وتنقذه من براثن الخوف والذعر. وإن كريم الصفات، وجميل الأخلاق، لا ينسى فضل الله حين يأتيه، بل يحمده ويشكره، ويرعى مخلوقاته بالعطف والرعاية. أمَّا لئيم النفس خبيث الصفات، فإنه سرعان ما ينسى فضل الله عليه ومدده في وقت حاجته، فيتابع مسيرة الحياة، بالظلم والبغي والاعتداء على حقوق الناس. وهذا العنت والصلف والتسلُّط سيرتدُّ عليه بالويل والثُّبور، إِنْ عاجلاً أو في يوم تنشر فيه صحائف الأعمال، ويلقى المرء كتاباً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويفزع المجرم من سوء عمله، ويتمنَّى لو أنه كان ترابا.
في رحاب الآيات:
صفحة من صفحات الوجود تُنْشَر أمام أنظارنا بكلِّ غناها ورحابتها ونبضاتها الدافقة، بمدِّها وجزرها، تلهب خيال الإنسان، وتذكي نار القلب ليلتمس العون من الخالق العظيم، وتلفت الانتباه إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهم مندفعون وراء تيَّار الحياة الصاخب، لعلَّهم يتوقَّفون قليلاً، يلتقطون أنفاسهم ولو للحظة وهم يقلِّبون كتاب الكون المفتوح، ويقرؤون صفحاته الزاخرة، ويأخذون منه العبرة الَّتي تنفعهم في رحلتهم القصيرة على الأرض.(1/485)
إنها صورة البحر بسعته ومهابته، بهوله ورعبه، بهدوئه ووداعته، ترسمها لنا ريشة مبدعة لا تستخدم من أدوات الرسم إلا الكلمة المعبِّرة، وما أفقرها من أداة إن لم تكن صادرة عن ذاتٍ قادرة، تُخضع ما في الوجود لسلطانها. وتبدأ الريشة بالرسم فترصد حياة الإنسان الوادعة الهانئة، فتبدو كمراكب في البحر تتهادى بِزَهْوٍ وخُيَلاء، وريح طيبة تحرِّك السفن بوداعة ورفق، وعلى حين غِرَّة تقطِّب السماء جبينها، وتسري رعدة على سطح البحر، وتهبُّ الريح الهوجاء، ويعلو الموج، وتتقلقل السفينة، ويحدق الموت بمن عليها فتراهم يترنَّحون وكأنَّهم سكارى وما هم بسكارى، ولكنَّه الخطب الشديد والغرق الوشيك.(1/486)
عندها، وبشكل فطري لا إرادي، تتَّجه أنظار القوم نحو السماء، وتَسْبَحُ في عالم الملكوت، ويدركون أن الله وحده هو المنقذ، فتعتريهم رعدة الرجوع إلى الحقِّ، وترتفع الأصوات بالدعاء والاستغاثة، مصطدمة بعويل الريح وعاتي الأمواج، وتتعرَّى فطرتهم ممَّا علاها من ركام البعد، ويخلع القلب حجاب الغفلة، فيتخذ عهداً عند الله أن يثوب إليه ويؤوب، وأن يحوِّل اتجاهه من الضلال إلى الهدى، ومن الغيِّ إلى الرشد. ويأتي الأمر إلى الريح من الله الرحيم بعباده فتهدأ، وإلى البحر فيسكن، ويسكن معه كلُّ شيء بما في ذلك القلوب الَّتي تستردُّ طمأنينتها، وتواصل السفينة رحلتها وكأنَّ شيئاً لم يحدث، حتَّى إذا وصلت إلى شاطئ الأمان، ولامست أقدام الناس الأرض اليابسة، تحرَّك وحش الغفلة والأنانية في أعماقهم، فإذا هم ينسون أو يتناسون ما قطعوه من عهد لله، فيعيثون في الأرض فساداً، ينشرون الجهل والجاهلية، ويحوِّلون فراديس العلم إلى مقابر للعقل والقلب والهداية، ويَلْبِسُون الحقَّ بالباطل ويشوِّهون كلَّ ما هو جميل، ويعتدون على حقوق الله وحقوق العباد، تحقيقاً لمصلحة عابرة لا تلبث أن تزول، ويبقى الظلم منقوشاً في صحائفهم بأحرف سوداء، وسيحصدون سوء ما زرعوا، ويجنون نتائج الخراب الَّذي صنعوه.(1/487)
وهذه الصورة ليست إلا تلخيصاً لرحلة الإنسان الغافل على الأرض، فتراه يتقلَّب في أحضان النعيم، لاهثاً وراء إرضاء أنانيته، متجاوزاً حقوق غيره، ناسياً الغاية الَّتي خُلق من أجلها، وهي عمارة الكون، وخلافة الله في الأرض، وإقامة ميزان العدل، وإعلاء كلمة الحقِّ، والإقبال على بارئ الخلق، فتراه يظلم ويبطش ويسرف على نفسه، ويعتدي على غيره، حتَّى إذا داهمته مصيبة لَجَّ بالشكوى، وتوجَّه إلى الخالق بالدعاء، وقطع العهود على نفسه ببذل البرِّ والخير والتَّقوى. فإذا كشف الله غُمَّته، رجع إلى أنانيَّته وغطرسته وظلمه، فيكون من الخاسرين الظالمين لأنفسهم، وتكون عاقبته الندم على ما فرَّط في جنب الله عزَّ وجل. وكان الأجدر به أن يغتنم الفرصة الَّتي منحها الله تعالى له ليستيقظ من غفلته، ويعود إلى رشده فيستقيم، ولكنَّها الغفلة تحيق بالقلوب اللاهية، وترمي بظلالها الثقيلة السوداء على العقول والأبصار. والله نسأل أن يحفَّنا باللطف والرحمة، ليثبِّت أقدامنا على صراطه المستقيم، وينوِّر قلوبنا بشرعه القويم، حتَّى نبقى عابدين مخلصين له الدِّين، ولحلاوة محبَّته ذائقين، ولساعات أعمارنا بطاعته مالئين، ولفرص السعادة الحقيقية مغتنمين آمين يا ربَّ العالمين.
الفصل الرابع:
التَّقوى
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله ولْتَنْظُرْ نفسٌ ما قدَّمت لِغَدٍ واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(18) ولا تكونوا كالَّذين نَسُوا الله فأنساهُمْ أنفسَهُمْ أولئك همُ الفاسقون(19)}
ومضات:
ـ التَّقوى تعني العفَّة عن المحارم والشهوات، ومحاذرة ارتكاب ما يغضب الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وهي بمجملها الالتزام بشرع الله طاعةً ورغبةً.
ـ في الآيات نداء للمؤمنين لينهلوا من معين التَّقوى، وليحاسبوا أنفسهم على ما قدَّموه من أعمال لرحلتهم الأبدية.(1/488)
ـ الإنسان اللاهي الغافل عن الله تعالى ضائع، وفاقد لمقوِّمات بناء الشخصية المؤمنة، وهو مفتقر للاستقرار النفسي، وبعيد عن أسس النجاح وفق ميزان الله.
في رحاب الآيات:
عندما ينوي المرء السفر إلى بلد ما، فإن أوَّل ما يفكر فيه هو كيفيَّة الحصول على العملة المتداولة في ذلك البلد، ومعرفة أسعارها، من أجل تيسير أموره وتمكينه من تحقيق قصده من هذا السفر. ويلفت الله تعالى نظر عباده إلى اليوم القريب، الَّذي تنطلق فيه رحلتهم الأبدية، تلك الرحلة ذات الاتجاه الواحد، والَّتي لا عودة بعدها، إنها الرحلة الَّتي يصل فيها المرء إلى مكانٍ؛ العملةُ المتداولة فيه هي أعماله فقط، تلك الأعمال الَّتي كان يقوم بها خلال مسيرة الحياة الجسدية. وفي هذه الرحلة يحقُّ له أن يحمل من حقائب السَّفر ما شاء، فلا قيود على الوزن، لأن محتويات هذه الحقائب هي محصِّلة أعماله، وزاده من الَّتقوى. التَّقوى الَّتي تجعل القلب، وهو يقطع رحلة الحياة يقظاً، حسَّاساً شاعراً بالله في كلِّ حالة، خائفاً متحرِّجاً، خجلاً من أن يطَّلع الله عليه في حالة يكرهها؛ وعين الله على كلِّ قلب، في كلِّ لحظة، لا تغفل ولا تنام، فمتى يأمن ألا يراه؟.(1/489)
ويحذِّر الله عباده من أن يكونوا كأولئك الَّذين نسوه فأنساهم أنفسهم، وهي حالة عجيبة، ولكَّنها حقيقية، فالَّذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يرفعه عن السائمة الَّتي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى، هي نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدَّخر لها زاداً للحياة الأخروية الباقية، ولا ينظر فيما قدَّم لها للغد القريب من رصيد. وهذا كله يتطلَّب من المرء صحوة روحية وهو في عالم المادَّة، حيث ينسى نفسه في غمرة انشغاله بالدنيا لاهثاً وراءها، ومكثراً من تحصيل متاعها، ليعلم أن أعماله الخيِّرة والبنَّاءة تتحوَّل إلى حسابه الجاري في عالم الروح، وتُسجَّل له في رصيد الحسنات، وأن أعماله السيئة وذنوبه تُكْتَب في رصيد السيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد فاز الفوز العظيم ونجا من العذاب الأليم، وإلا فهو من النادمين، ولاتَ حين مندم فلا ينفع الندم.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وسَارِعُوا إلى مَغفِرةٍ من ربِّكُم وجَنَّةٍ عَرضُها السَّمَواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقِينَ(133) الَّذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء والكَاظِمِينَ الغَيظَ والعافينَ عن النَّاسِ والله يُحِبُّ المُحسِنِينَ(134) والَّذين إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَكَرُوا الله فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم ومن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وهُم يَعلَمُونَ(135) أُولَئِكَ جَزاؤهُم مغفِرَةٌ من ربِّهِم وجَنَّاتٌ تَجري من تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيها ونِعمَ أجرُ العامِلينَ(136)}
ومضات:
ـ تحمل هذه الآيات دعوة للمؤمنين ليدخلوا في ميدان التنافس في الخير وينالوا درجة المتَّقين، والجائزة الَّتي تُمنَح للفائزين هي جنان الخلد ونعيم لا يفنى.(1/490)
ـ المتَّقون هم أولئك الَّذين نذروا ما يملكونه؛ سواء كان قليلاً أم كثيراً، ومهما كان مقدار حاجتهم إليه، لمساعدة المحوجين والبائسين، وهم أيضاً الَّذين يملكون أنفسهم عند الغضب، ويتجاوزون عن أخطاء الناس.
ـ المتَّقون المحسنون يملكون قلوباً طاهرة ومنوَّرة، فإذا شابها ذنب أو غفلة، سارَعُوا إلى الله بالإنابة والتوبة الصادقة، دون تباطؤ أو إصرار على التَّمادي في الذنب.
ـ الجائزة الكبرى الَّتي ينالها الفائزون في هذا التنافس الحارِّ في تقوى الله، هي نيل مغفرته تعالى ورضاه، وخلود في أحضان الجنان وفي ظلال عرش الرحمن.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين الواقعيَّة والمنطق السليم، والتَّقوى فيه عامل أساسي لشدِّ الهمم والعزائم، لأنها ترادف معنى الإخلاص، ولا تقاعس مع الإخلاص، ولا تسويف مع الحبِّ الصادق الَّذي أعطانا نبي الله موسى عليه السَّلام مثلاً رائعاً عنه، وصوَّره الله تعالى لنا بقوله: {وما أعجلَكَ عن قومِكَ ياموسى * قال هُمْ أُوْلاءِ على أثري وعَجِلْتُ إليك ربِّ لِتَرضى} (20 طه آية 83ـ84). فالمحبُّ العاشق لله يسارع إلى كلِّ عمل يوصله إلى رضاه تعالى ودخول جنَّته، تلك الجنَّة الرحبة الواسعة الَّتي أعدَّها الله لمن امتثل أوامره وترك نواهيه، وزكَّى نفسه ونمَّى عقله وأنار قلبه، وأمضى رحلة حياته في الإشادة والبناء وإسعاد الناس وخدمة الخلائق، إلى أن يصل إلى مرتبة المتقين الَّذين تصفهم الآيات بجملة من الصفات الجليلة.
فهم ينفقون في السَّعة والضيق كلٌّ حسب حاله، وهذا أَدَلُّ على التَّقوى، لأنَّ المال عزيز على النفس، يشقُّ عليها بذله في طرق الخير والمنافع العامَّة، وحبُّ الخير هو الَّذي يحرِّك في الإنسان دافع البذل، فإن لم يتوافر هذا الدافع بقرار ذاتي، فالدِّين ينمِّيه ويقوِّيه، لأنه جاء لتعديل الأمزجة المعتلَّة، وإصلاح النفوس المريضة.(1/491)
وكذلك هم الَّذين يملكون زمام نفوسهم، فلا يظهرون غيظهم مع قدرتهم على الإيقاع بأعدائهم، ولا يُغلَب الغيظ إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبثقة من إشراقة التَّقوى، وبتلك القوَّة الروحية المنبعثة من التطلُّع إلى أفق أعلى وأسمى من أفق الذَّات وضروراتها. إن كظم الغيظ هو المرحلة الأولى فقط، وهو وحده لا يكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه دون زوال حقده، لذلك تمضي الآيات لتشير إلى المرحلة الثانية الكفيلة بانتزاع الأحقاد من صدور المؤمنين، وهي العفو والسماحة والتجاوز، والله سبحانه لم يدعُ الناس إلى السماحة فيما بينهم، إلا بعد أن أطلعهم على جانب من سماحته معهم ليتذوَّقوا ويتعلَّموا. فهو غفَّار الذنوب؛ بل إنه جعل المغفرة الحقيقية بيده وحده جلَّ وعلا في قوله: {ومن يَغفِرُ الذنوبَ إلاَّ الله}، وهو يحبُّ أولئك العافين عن الناس، وحبُّه لهم من شأنه أن يطلق في نفوسهم حبَّ الإحسان والخير، ويبعث في قلوبهم الرغبة في عمل ما يقرِّبهم منه. ولكن الإنسان لا يخلو من لحظات ضعف تنتابه، فيزِلُّ أو يقع في ذنب، وعندها لا ينبذه الإسلام ولا يطرده الله من رحمته، بل يفتح أمامه باب الأمل للتواصل من جديد مع الله تعالى ونيل مغفرته؛ إنْ هو استغفر لذنبه وتاب، وندم على فعلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قال إبليس: يارب! وعزَّتك لاأزال أغوي بني آدم مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي لاأزال أغفر لهم ما استغفروني» (رواه الإمام أحمد).(1/492)
فالإسلام يدرك ضعف المخلوق البشري، الَّذي قد تدفعه نزواته وشهواته إلى مخالفة أمر الله، فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى احتقاره، بل يفترض فيه الخير مادامت شعلة إيمانه متوقِّدة لم تخمد، وطالما عرف أنه مخطئ وأن له ربّاً يغفر، فاستغفر وعاد عن خطئه، ولا يزال هذا العبد الضعيف المذنب بخير، مادام ممسكاً بالعروة الوثقى الَّتي تربطه بحضرة الله، سائراً في الدرب لم يقع في دائرة اليأس، ومهما تعثَّر فإنه سيصل في النهاية، مادامت الشعلة مضيئة تنير دربه، والأمل يشدُّ عزيمته، ومادام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره مُقِرّاً له بالعبوديَّة.(1/493)
والإسلام لا يدعو بهذا إلى التهاون، ولا يمجِّد العاثر الهابط، إنما يتجاوز عن عثرة الضعيف ليستثير في النفس الرجاء، وليحضَّ على طلب المغفرة من الله، وأمَّا الَّذين يستهترون ويُصِرُّون على المعصية فقد ظلموا أنفسهم وتعدَّوا على حرمات الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (رواه البيهقي والبزَّار)، فالله لم ينكر على الإنسان وقوعه في الذنب، ولكنَّه أنكر إصراره عليه. والإصرار هو امتلاك القوَّة الجسدية والعقلية عند تكرار ارتكاب الذنب مع معرفة أنه ذنب، ومع ذلك يكرِّر فعله من أجل مصلحة أو مكسب أو هوى. فالمرء قد يسرق لظرف ما ثمَّ يتوب، ويردُّ المال المسروق، لكنَّ في تكرار السرقة إصراراً عليها، وقد يكذب ثمَّ يتوب، لكنه إذا عاد إلى الكذب فهو مصرٌّ عليه. ولكن إذا تيقَّظ الضمير، وآبت النفس إلى جادَّة الصواب، وحاولت إصلاح الخطأ، كان ذلك توبة يفرح الله بها، ومدعاة لمغفرة الذنوب، جاء في الحديث القدسي فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجل: «أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني، ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت إليه باعاً وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول» (متفق عليه).
والاستغفار هو طلب المرء المغفرة من الله على ما اقترفه من إثم أو ما قصَّر فيه من عمل، وهو يعجِّل بالخلاص إذا قصد به التوبة النصوح، قال صلى الله عليه وسلم : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلِّ ضيق مخرجاً، ومن كلِّ همٍّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» (رواه أبو داود).(1/494)
والتوبة النصوح تستلزم النَّدم على ما مضى، والإقلاع عن الذنب، والعزم الأكيد على استئناف حياة صالحة فيما يُستَقبَلُ من الزمان، فإن كان ثمَّةَ حقوق للعباد وجب ردُّها إلى أصحابها ما أمكن، وهذه التوبة هي الَّتي يقبلها الله ويفرح بها، وحسب التائب شرفاً أن يقول الله في شأنه: {..إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطهِّرين} (2 البقرة آية 222).
والمتَّقون الَّذين وصفتهم الآيات بما تقدَّم، لهم ثواب عظيم وأمن من العقاب، وعفوٌ عما سلف من ذنوبهم، وجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبداً، فنعمت الجنَّة جزاءً لمن أطاع الله.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ عليها ملائكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يعصونَ الله ما أمرَهُمْ ويفعَلون ما يُؤمرون(6)}
ومضات:
ـ يأمر الله تعالى المؤمنين أن يوجِّهوا أزواجهم وأولادهم، ويعلِّموهم أسس الصلاح والحلال والحرام، وقاية لهم من نار رهيبة تشتعل بها أجسام الناس والحجارة.
في رحاب الآيات:(1/495)
يوجِّهُ الله تعالى من خلال الآية نداء إنذار وإنقاذ إلى كلِّ مؤمن بل إلى كلِّ إنسان؛ أن يعمل صالحاً، ويأمر أهله بالطاعة، لتكون حجاباً له ولهم من نار جهنَّم، الَّتي وقودها الناس والحجارة، وهي الَّتي كان المشركون يعبدونها من دون الله، وهذا منتهى التحدِّي للإنسان الَّذي ظلم نفسه فعبد غير الله، والآن يُكَبُّ هو ومعبوده في النار، فهل يستطيع أحدهما أن ينقذ الآخر؟. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً} قال: (اعملوا بطاعة الله، واتَّقوا معاصيه، وَمُروا أهليكم بالذِّكر ينجيكم الله من النار). وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُم ناراً} قال: (أدِّبوا أهليكم). وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم...} فقالوا: يارسول الله كيف نقي أهلنا النار؟ قال: تأمرونهم بما يحبُّه الله وتنهونهم عما يكره الله».
ففي الآية إرشاد إلى أنه يجب على الرجل تعلُّم ما يجب من فرائض الدِّين وتعليمها لأهله، لاسيَّما أولاده، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه ابن عمر رضي الله عنه : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيَّته» (متفق عليه). فالأبناء يُخلقون مزوَّدين بقوى فطرية تصلح أن توجَّه للخير، كما تصلح أن توجَّه للشر، وعلى الآباء أن يستغلوا هذه القوى ويوجِّهوها وجهة الخير، ويعوِّدوا أبناءهم العادات الحسنة، حتَّى ينشأ الطفل خيِّراً ينفع نفسه وينفع أمَّته.(1/496)
ووقاية النفس والأهل من النار لا تكون إلا بالتعليم والتربية، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وفلاحهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» (رواه ابن ماجه) وفي هذا الحديث دلالة على ما ينبغي أن يكون عليه الآباء من ملازمة أولادهم، ليكون تصرُّف الأبناء تحت نظر الآباء وإشرافهم، فإذا تصرَّف أحدهم أيَّ تصرُّف يحتاج إلى توجيه، كان ذلك التصرُّف موضع العناية والنظر. والإسلام لا يفرِّق بين الذكور والإناث في هذه الناحية، فلكلٍّ من الجنسين الحقُّ في التنشئة الصالحة، وتعلُّم العلم النافع، ودراسة المعارف الصحيحة، وأن تتاح له أسباب التأديب ووسائل التهذيب، لتكمل إنسانيته، ويستطيع النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسن تأديبها، وربَّاها فأحسن تربيتها، وغذَّاها فأحسن غذاءها، كانت له وقاية من النار» (رواه الخمسة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيّاً وعقليّاً وروحيّاً حتَّى يكون عضواً نافعاً لنفسه ولأمَّته، وذلك بتهيئته ليكون سليم الجسم قويَّ البنية، قادراً على مواجهة الصعاب الَّتي تعترضه، بعيداً عن الأمراض والعلل الَّتي تشلُّ حركته وتعطِّل نشاطه. وأن يتهيَّأ عقله ليكون سليم التفكير، قادراً على النظر والتأمُّل، يستطيع أن يفهم البنية الَّتي تحيط به، ويُحْسِنَ الحكم على الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين. وأمَّا إعداده الروحي فيتمُّ بأن يُهَيَّأ ليكون متيقِّظ العواطف والمشاعر، ينبسط للخير ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشرِّ ويضيق به، وينفر منه. وأمَّا الوسائل الَّتي يمكن للأب أن يهيِّئ ابنه من خلالها فتتلخَّص بما يلي:
1 ـ إبراز قيمة الفضائل وآثارها الفردية والاجتماعية، وإظهار مساوئ الرذائل وآثارها أمام الطفل بقدر ما يتسع له فهمه.(1/497)
2 ـ أن يكون الآباء أنفسهم مثلاً صالحاً لأبنائهم؛ فإن من عادة الأطفال أن يتشبَّهوا بآبائهم ويحاكوهم في أقوالهم وأفعالهم، والقدوة الصالحة ما هي إلا عَرْض مجسَّم للفضائل. وإن الطفل الَّذي يرى والديه يهتمَّان بأداء الشعائر والبعد عما يُخِلُّ بتعاليم الدِّين، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، والأثرة، والبخل، وغير ذلك من الصفات الذميمة، لابدَّ وأن يتأثَّر تأثُّراً بالغاً بهما وبما يصدر عنهما.
3 ـ تلقين الطفل مبادئ الدِّين وتمرينه على العبادات، وتعويده على ممارسة فعل الخير، فإن ذلك يجعل منه نواة صالحة لمجتمع سليم راق.
4 ـ على الآباء أن تكون معاملتهم لأولادهم قائمة على أساس الملاطفة والرفق واللين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه أن يعاملوا أولادهم بالرفق واللين، ويضرب لهم المثل بما يمارسه هو بنفسه: «فكان يصلِّي صلى الله عليه وسلم يوماً إماماً، فارتحله الحسن؛ ابن بنته، فأطال السجود، فلمَّا فرغ قالت الصحابة: يارسول الله، أطلت السجود! فقال صلى الله عليه وسلم : إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» (أخرجه النسائي وأحمد والحاكم عن عبد الله بن شداد عن أبيه). «وقبَّل صلى الله عليه وسلم طفلاً من أبناء بناته، فقال رجل من الأعراب: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحداً منهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (متفق عليه) أي ما الَّذي أستطيع أن أفعله معك وقد غاض نبع الرحمة في قلبك؟.
5 ـ ومن الضروري أن يحبِّب الآباء أبناءهم في اختيار الأصدقاء الأخيار ومزاملة أصحاب الخلق الفاضل، فإن الأطفال يحاكي بعضهم بعضاً، ويتشبَّه كلٌّ منهم بالآخر.(1/498)
يُستَخلَصُ ممَّا تقدَّم أهميَّة دور المؤمن في الإشراف على تربية أولاده وتوجيه سلوكهم، لوقايتهم من شرور أنفسهم، بالتعاون مع الأمِّ المؤمنة الصالحة. فإن كانت عاطفة الأبوين تدفعهما ألاَّ يقفا مكتوفي الأيدي عند رؤية أولادهما على وشك الوقوع في نار الدنيا، فالأَوْلى بهما أن يحفظوهم من نار الآخرة، الَّتي سبيلها المعاصي والفسق والجهل والتمرُّد، وأن يزرعا فيهم حبَّ الله ورسوله، وحبَّ الخير لأنفسهم وللناس أجمعين. فالأبناء أمانة وضعها الله بين يدي الآباء، وهم مسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحسن التربية، كانت لهم المثوبة، وأنقذوهم من سوء الخاتمة، وإن أساؤوا تربيتهم استوجبوا العقوبة ورموا بهم وبأنفسهم إلى التهلكة.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ولو أنَّ أهلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لفتحنا عليهِمْ بركاتٍ من السَّماءِ والأرضِ ولكِنْ كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يَكْسِبُون(96)}
ومضات:
ـ الإيمان والتَّقوى هما مفتاحا الرزق والخير لأنهما يقودان إلى حسن التعامل وتوثيق الصلات بين الناس.
ـ هناك عوامل فعَّالة غير منظورة تؤثِّر على رزق الإنسان سلباً أو إيجاباً على الرغم من تعاطيه الأسباب للكسب، ولا تتوضح معالم هذه العوامل إلا لمن ربط فؤاده بموجد الأسباب والمسبَّبات، وأدرك أنه تعالى هو وحده القادر على بسط الرزق إنعاماً وتكريماً للمحسنين، أو حجبه وتضييقه جزاءً للغافلين والمكذِّبين.
في رحاب الآيات:(1/499)
ينصح علماء الطبيعة والبيئة بالإكثار من التشجير، والمحافظة على الغابات من عبث الإنسان، ويؤكِّدون أهمية الأشجار في ترطيب أجواء الأرض واستقطاب الغيوم إليها؛ وهذا يدلُّ على وجود علاقة خاصَّة بين الشجر والغيوم. ويبدو من سياق الآية الكريمة أيضاً وجود علاقة بين تقوى الإنسان وورعه، وبين عوامل الطبيعة في الجو، وكأنَّ الأعمال الصالحة والاتجاه الروحي الصافي نحو حضرة الله، يستقطب الرزق من السماء والأرض، كما يستقطب الشجر ماء المطر ويمتصُّ غذاءه من الأرض.
إذن: هناك علاقة وثيقة خفيَّة بين الإيمان وتقوى الله من جهة، وبين الرزق الإلهي الوفير من جهة أخرى، ويمكن أن يدركها أولو البصيرة ويستشفَّها أصحاب اليقين، كما يمكن للإنسان المؤمن أن يتلمَّسها من خلال تجاربه اليومية. وميزة هذه العلاقة أنها تعطي الإنسان الأمل والتفاؤل، وتدفعه للدعاء والتضرُّع، وتزرع في قلبه الثقة بالله، والتسليم بأنه الرازق الحقيقي بعد تعاطي الأسباب الَّتي تثمر عادةً المسببات المرغوبة.
فالإيمان بالله قوَّة دافعة دافقة تُستَمَدُّ من قوَّة الله، وتعمل على تحقيق مشيئته في الأرض، بعمارتها ودفع الفساد والفتنة عنها. وتقوى الله يَقظةٌ واعية تصون الإنسان من التهوُّر والغرور، وتوجِّه الجهد البشري بعناية ليكمِّل رسالة البناء والإعمار. وهكذا يسير الإيمان والتَّقوى متناسقين متلازمين في طريق الخير، فيحدث بينهما لقاح خفيٌّ يومض بأنوار البركات الربَّانية، لينهمر العطاء الإلهي، وليتلاحم مع جود الأرض وكرمها، ويتفتَّح الخير في ذلك كله فيعمَّ البلاد والعباد.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {يابني آدمَ قد أنزلنا عليكُمْ لِباساً يُواري سَوْءَاتِكُمْ وريشاً ولباسُ التَّقوى ذلك خيرٌ ذلك من آياتِ الله لعلَّهم يذَّكَّرون(26)}
ومضات:(1/500)
ـ على الإنسان الواعي أن يَحذَرَ الحملة الموجَّهة لتمزيق برقع حيائه، وتهديم ركائزه الأخلاقية، والَّتي تدعوه إلى التخلِّي عن الأخلاق والفضائل باسم التحرُّر والمدنية، وأن يحارب هذه الحملات الهادفة إلى تعطيل طاقاته والسيطرة عليه، ليكون أداة طيِّعة لتحقيق الفساد والإفساد.
ـ ربط الله سبحانه وتعالى بين الثياب والتَّقوى، لأن الأولى لباس الجسد والثانية لباس القلب والروح، وفي ذلك قال الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقى تقلَّب عُريانا وإن كان كاسياً
في رحاب الآيات:
من الأدعية المأثورة: (اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)، ولعل هناك رابطاً متيناً بين العورة والقلق الَّذي يروِّع الإنسان ويخرجه عن اتزانه وهدوء أعصابه وتفكيره. وهذا ما أدركه تجار الجنس وحاولوا أن يستغلُّوه، في محاولاتهم المستميتة، للتكسُّب من وراء تأجيج الغرائز الجنسية، بالأفلام الَّتي تتضمَّن مشاهد العري، وما أرفقوها من العنف الَّذي يولِّد القلق وتوتُّر الأعصاب، في أجواء تصيب النفس العفيفة بالغثيان. ذلك لأن الإنسان بشكل عام يخجل من كشف العورة، ويحاول جاهداً أن يسترها عن أعين الناس، ويرى في هتك الستر عنها شيئاً مخالفاً للآداب العامة. لذلك أتت الشريعة الإسلامية متوافقة مع المبادئ السليمة، محدِّدة ما يباح كشفه وما يجب ستره، وتناولت ما هو أشدُّ أهمية، وهو عيوب النفس وما يحاول الإنسان أن يخفيه منها عوضاً عن أن يعالجه بالتَّقوى ويتخلَّص منه.(2/1)
وهذا الكلام يقودنا إلى التمييز بين نوعين من العورة: العورة الجسدية، والعورة النفسية. فالأولى تكرَّم الله علينا بسترها فخلق لنا لباساً يكسوها ويحجبها، ليحفظ لنا ماء وجوهنا ويرفعنا عن مرتبة البهائم، وجعل لنا آداباً لشكره عليها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً قال: «الحمد لله الَّذي كساني من الرِّياش ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في الناس» (رواه أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ). أمَّا العورات النفسية فهي كلُّ عيب من العيوب الخُلقية أو النفسية، ومن حقِّ المسلم على أخيه المسلم أن يستر عورته، فمن سترها على أخيه ستر الله عليه، ومن بحث عنها وأفشاها كشف الله ستره وفضحه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة» (رواه مسلم).
إن اللباس الأجمل والأرقى الَّذي جعله الله لعباده المخلصين الَّذين حسُنت صلتهم بخالقهم، هو لباس التَّقوى الَّذي يؤهِّلهم لتلقِّي نور الله حيث يفيض على الجوارح، فَيُظهر في عيني صاحبه الصَّفاء والنَّقاء، وفي وجهه النور والبهاء، وفي معاملته الإخلاص والوفاء، وفي مشيته السكينة والوقار، وفي خلقه التسامي والنُّبْل، وفي غضبه الحلم والأناة، وفي لسانه الصدق والعدل، وفي سلوكه الصبر والسماح، وفي مشاعره التواضع والرحمة، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى صدره الشريف ويقول: «التَّقوى ههنا، التَّقوى ههنا» (رواه الترمذي ومسلم).
وأجمل ثوب تكسو به التَّقوى صاحبها هو ثوب الحياء، الَّذي جاء فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه) وكذلك ورد عن عمران بن حُصَيِن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير» (متفق عليه).
الفصل الخامس:(2/2)
التَّوبة وَسعَةُ المغفرة الإلهيَّة
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وإذا جاءَكَ الَّذين يُؤمنون بآياتنا فقلْ سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسهِ الرَّحمةَ أنَّهُ من عَمِلَ منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تابَ من بعدِهِ وأصلحَ فأنَّه غفورٌ رحيمٌ(54)}
ومضات:
ـ إذا جاءكم الَّذين يؤمنون بالله الواحد الأحد، وبتعاليمه وآياته في خلقه وإبداعه، فقولوا لهم سلام عليكم، السرور والطمأنينة والسعادة لكم في أحضان الإسلام، والرحمة منحة لكم من الرحيم الرحمن، فما أنتم إلا بشر تنحدرون من آدم عليه السَّلام، وكلُّ بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوَّابون المصلحون.
في رحاب الآيات:
خطاب كريم من ربٍّ كريم لرسول كريم، لكنَّه يشمل كلَّ مسلم في كلِّ حين، ومضمونه: يا أيُّها النبي إذا جاءك الَّذين يؤمنون بآياتي المبثوثة في كلِّ ركن من أركان هذا الكون، في السموات والأرض والنجوم والكواكب، والشجر والدواب، وفي أنفسهم، فبارك إيمانهم، وشدَّ على أيديهم مقوِّياً عزائمهم مباركاً جهودهم، وبشِّرهُم إن صدقوا وأخلصوا؛ برحمة الله ورضوانه، وبأن لهم منه السَّلامة من كلِّ عقاب، والبراءة من كلِّ عذاب. قال عكرمة: نزلت هذه الآية في الَّذين نهى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه و سلم عن طردهم، فكان إذا رآهم النبي صلى الله عليه و سلم بدأهم بالسَّلام وقال: «الحمد لله الَّذي جعل في أمَّتي من أمرني أن أبدأهم بالسَّلام» (أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).(2/3)
وقد استعملت الآية كلمة (سلام) لما فيها من دلالة على الأمن والرِّضا والطمأنينة، الَّتي يتوخَّاها كلُّ إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب، ولأن السَّلام اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته. ومع السَّلام أتت الرحمة الَّتي كتبها الله على ذاته القدسية، كرماً منه ومِنَّةً وتفضُّلاً، فقد ورد في الصحيحين عن الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «لمَّا قضى الله على الخلق كَتَبَ في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي».
وقد قضى الله تعالى عندما خلق الإنسان أن جعله مخلوقاً مشرَّفاً بالتكليف، ولم يكلِّفه الكمال، لأن التكليف به تكليف بما لا يطيق، {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا..} (2 البقرة آية 286) وإنما كلَّفه أن يستعين بربِّه ليتغلَّب على وسوسة الشيطان، وأن يتطهَّر من الدنس كلَّما تورَّط في الإثم، وأن يرتقي في مدارج الاستقامة، ويبتعد عن مسالك الخطيئة؛ الَّتي لا عصمة له من ارتكابها، ولكنَّه مأمور بالرجوع عنها، ليخرج من دائرة الشرِّ والأشرار، ويدخل في زمرة الأخيار الَّذين قال في حقِّهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون» (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أنس رضي الله عنه ). فهذا القول هو تفسير لطبيعة سلوك البشر؛ فكما أخطأ أبوهم آدم فكلُّ واحد منهم معرَّض للخطأ. فإمَّا أن يسرع بالتَّوبة ويتوب، فيتوب الله عليه كما تاب على آدم، وإمَّا أن يصرَّ على ذنبه ويستكبر عن التَّوبة، فيُحرم رحمة الله ورضوانه كما حُرم منها إبليس الَّذي أصرَّ على ذنبه واستكبر.(2/4)
فالتَّوبة هي صلة مباشرة بالله، ويقظة روحية واستشعار بالانحراف، والعمل على العودة إلى الصراط المستقيم والثبات عليه. أمَّا الإصرار على الإثم والتمادي فيه، فهو مظهر للفراغ الروحي المتولِّد عن موت الإحساس والضمير عند من يرتكبونه، لذلك فهم قلَّما يشعرون بالألم الباعث على الندم. ولهذا كان الإصرار على الذنب من صفات الكافرين، قال تعالى: {إنَّهم كانوا قَبْلَ ذلك مُتْرَفين * وكانوا يُصِرُّونَ على الحِنثِ العظيم} (56 الواقعة آية 45ـ46).
وقد فتح الله تعالى باب التَّوبة على مصراعيه أمام عباده، فقد روى مسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتَّى تطلع الشمس من مغربها».
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إنَّما التَّوبة على الله للَّذين يعملونَ السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ يتوبونَ من قريبٍ فأولئكَ يتوبُ الله عليهِمْ وكان الله عليماً حكيماً(17) وليستِ التَّوبة للَّذين يعملونَ السَّيِّئاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحدَهُمُ الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن ولا الَّذين يموتون وهمْ كُفَّارٌ أولئكَ أعتدْنا لهمْ عذاباً أليماً(18)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفسَهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً(110)}
سورة النحل(16)
وقال أيضاً: {ثمَّ إنَّ ربَّكَ للَّذين عَمِلُوا السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ تابوا من بعدِ ذلك وأصلَحُوا إنَّ ربَّك من بعدِها لغفورٌ رحيم(119)}
سورة طه(20)
وقال أيضاً: {وإنِّي لغفَّارٌ لمن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صالحاً ثمَّ اهتدى(82)}
ومضات:
ـ الذنب يسبب البعد عن الحضرة الإلهية، والتَّوبة تقرِّب إلى الرحمن الرحيم لما فيها من ندم وإنابة إليه سبحانه، فما أحلى المسارعة في الاستغفار، وتصحيح المسار، وتقديم الاعتذار للواحد القهار.(2/5)
ـ المغفرة الإلهية تعني عفوه تعالى عن الذنب الَّذي يرتكبه المؤمن أو عن التقصير الَّذي يبدر منه.
ـ لا يمنح الله تعالى المغفرة هكذا جزافاً لمن يخطئ، بل يقيِّد ذلك بشروط أهمُّها:
ا ـ أن يتخذ المذنب قراراً حازماً بالإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه.
ب ـ أن ينهج طريق العمل الصحيح المثمر، ويكثر ـ جهده ـ من العبادات وعمل الخير، ويصلح ما نجم عن خطئه فالحسنات يذهبن السيئات.
ج ـ أن يتحلَّى بالإيمان الكامل بأن ما رسمه تعالى له هو لخيره ولصالحه، وأن يجعل النور الإلهي قائده ودليله في مسيرة حياته.
في رحاب الآيات:
إن جهلك للقانون لا يعفيك من المسؤولية، ولا ينجيك من عواقب مخالفته. هذا هو مقتضى مجموع النُظُم والقوانين البشرية الَّتي تحكم المجتمع الدنيوي في كل بلدان العالم. أمَّا القانون الإلهي فيحدِّد أنه متى كانت نيَّتك في العمل صادقة خالصة لوجه الله تعالى، فأنت غير مؤاخذ عما يبدر منك من الأخطاء، الَّتي تجهل أنها أخطاء، وهذا بعض ما عناه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه) إلا أنه في اللحظة الَّتي تدرك فيها خطأك، فأنت مطالبٌ بالتَّوبة النصوح، الَّتي تعني الرجوع عن الخطأ وعدم العودة إليه.(2/6)
فالإنسان قد يخطئ فيسيء إلى نفسه، أو إلى غيره دون علم وبحسن نية، أو تحت تأثير الضعف البشري الَّذي يعتريه كلما عُرضت أمامه صنوف الشهوات وأنواع الفتن. فإن سارع إلى استدراك ما فرَّط فيه فندم ثمَّ أَتْبع عمله السيء عملاً حسناً، وأصلح ما نجم عنه من إفساد تاب الله عليه، ووجد أبواب رحمته مفتَّحة أمامه، وأمام جميع الخاطئين المتطهرين، إذا أنابوا إليه بتوبة صادقة، مقرونة بصلاح القلب وإصلاح الحال، مشفوعة بالتزام شرع الله القويم، بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، سواءً منها المادية كالمال، أو المعنوية كالإساءة إلى الناس وذلك بردِّ اعتبارهم وصيانة كراماتهم. فلعلَّهم بذلك يندرجون في طائفة التائبين الَّذين استثناهم الله من عذابه وأكرمهم بمغفرته، قال تعالى: {إلاَّ من تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملاً صالحاً فأولئكَ يُبَدِّلُ الله سيِّئاتِهِم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً} (25 الفرقان آية 70). لكن وللأسف الشديد فقد درج العوامُّ من الناس ـ عندما ينصحهم أهل الفضل بالكفِّ عن المعاصي والموبقات ـ على أن يقولوا: دعونا نَعِشِ الحياة كما يحلو لنا فالله غفور رحيم. إن هذه العبارة ناقصة وهي تعبِّر عن جزء من الحقيقة ، فالله واسع المغفرة، بدليل قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي الظنَّ الحسن» (رواه البخاري) ولكن الله أيضاً شديد العقاب، بدليل قوله تعالى: {ومن يبدِّل نِعمة الله منْ بعدِ ما جاءَتهُ فإن الله شديدُ العقاب} (2 البقرة آية 211). ثمَّ إن مغفرته تعالى متاحة لمن يطلبها بصدق العزيمة، ويُصلح ما نجم عن خطئه من الفساد؛ فهل يصحُّ أن نكسر نافذة الجيران ثمَّ نقول لهم: عفواً على كسرها دون أن نتقدَّم لإصلاحها، طامعين بسماحهم وسعة صدرهم؟. فالذنب يُحدث أثراً في نفس مرتكبه، وفي نفوس الآخرين، ولهذا كان لابدَّ من عمل جادٍّ لإزالة آثار الخطأ سواء من صفحات قلوبنا أم من صفحات قلوب الآخرين. وهذا العمل(2/7)
الجادُّ هو ما نسميه بالتَّوبة، وهي تغيير مسار حياتنا من الخطأ إلى الصواب، ويكون ذلك عن طريق الندم بالقلب، والاعتذار باللسان بأن نستغفر الله، والإقلاع بالجوارح وهو الكفُّ عن الذنب وإصلاح ما نجم عنه من ضرر وإساءة للآخرين، ثمَّ الاتجاه فكراً وقلباً نحو حضرة الله، والعمل على إصلاح أخطاء المجتمع وعيوبه بكلِّ وسائل الحكمة والرفق واللين، وتقديم الخدمات المختلفة له، من نشرٍ للعلم، وإصلاح بين المتخاصمين وغيره، وأن يكون عملنا خالصاً لوجه الله، وابتغاء محبَّته ورضوانه.
والتَّوبة الحقيقية المثمرة ليست كلمة تقال، وإنما هي توبة النفس الَّتي يهزُّها الندم من الأعماق، فتتوب وتنيب وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل. لا توبةَ الَّذي اقترف من الآثام ما اقترف مع العلم والإصرار، حتَّى إذا أشرف على الموت وآذنت شمسه بالمغيب، وأدرك أنه هالك، أعلن توبته بصوت خنقته حشرجات الاحتضار، وجسد يغالب أنياب الموت، كتوبة فرعون لمَّا أدركه الغرق فقال: {..آمنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الَّذي آمنَتْ به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلِمين} (10 يونس آية 90) ذلك أن توبته هذه هي توبة المفلس الَّذي أحاطت به خطيئته، ولم يبقَ لديه القدرة على ارتكاب المزيد من الذنوب، ولا فسحة من العمر للانقياد للهوى. وهي توبة ولدت ميتة لا رجاء منها ولا قبول لها، إذ لا يمكن لها أن تنشئ في القلب ندماً بعد أن توقفت نبضاته، أو في الحياة تبدُّلاً بعد أن انتهى أجلها، وبالتالي فإنها لن تُحْدِثَ النتيجة المرجوَّة من التَّوبة وهي الارتقاء في الخُلُق والعودة إلى الرشاد، وهكذا يشترك العاصي المُصِرُّ؛ مع الكافر في مصير واحد، هو عذاب جهنم وبئس المصير؛ ومع ذلك: «فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الَّذي رواه الترمذي والحاكم وأحمد بسند صحيح.(2/8)
وقدكتب تعالى على نفسه قبول توبة عباده على الرُّغم من استغنائه عنهم، فلا تنفعه توبتهم ولا تضرُّه معصيتهم، ولكنها رحمة منه وزيادة في نفعهم، فبالتَّوبة عن الأخطاء رجوع عن الفساد، وإصلاح لحياة الأفراد والمجتمع. ولو لم يشرع تعالى لهم التَّوبة لما كان لديهم الحافز على الرجوع عن أخطائهم، ولهلكوا بسبب استرسالهم في المعاصي واتِّباع الهوى، ولتصدَّعت البنية الأخلاقية للمجتمع، وانزلق أفراده وراء وسوسة الشيطان، واستسلموا لليأس والقنوط. وبهذا يكون الإسلام قد فتح أمام الإنسان العاصي بابين: باب الإصلاح بالتَّوبة والإنابة، وباب الرجاء والأمل بفضل الله تعالى وكرمه وحسن تقبُّله للمنيبين والتوَّابين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره (أي وجده) وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة» (متفق عليه) ذلك أن توبة العاصي تعني عودة الضالِّ إلى جادة الصواب، وهذا ما يريده تعالى لنا، فقد خلقنا لنكون سعداء آمنين في الدنيا، ثمَّ لننعم بجنَّاته وبفضله في الحياة الآخرة، لا ليشقينا في الدنيا ثمَّ يعذِّبنا في الآخرة، تنزَّه الله تعالى عن ذلك. ولهذا كلِّه ينبغي على المسلم أن ينتسب لمدارس الإيمان والتربية الروحية، ويصحب أساتذتها ليشرفوا على تربية قلبه، إلى أن يصبح قلباً سليماً منوَّراً؛ يرى الحقَّ بنور الله فيتَّبِعُه، ويرى الباطل بذلك النور فيجتنبه، وبهذا ينجو من موارد الشكِّ والشبهة الَّتي قد توقعه في الخطأ من حيث لا يدري، ويصبح طريقه آمناً فيمضي فيه مسرع الخطا قاصداً رضوان الله. وإذا ما تعرَّض لزلَّة قدم في مسيرته، فأصاب شيئاً من الذنوب، وتلظَّى بنار الندم على اقترافها، أقبل نحو شجرة التَّوبة، وجعل يستظلُّ بظلالها الوارفة، ثمَّ يتابع مسيرته.
سورة التَّوبة(9)(2/9)
قال الله تعالى: {وآخرون اعتَرَفُوا بذُنُوبِهِم خَلَطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيِّئاً عسى الله أن يتوبَ عليهم إنَّ الله غفورٌ رحيم(102) خُذْ من أموالِهِمْ صدقةً تُطهِّرُهُمْ وتُزكِّيهِمْ بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم(103) ألم يعلموا أنَّ الله هو يَقْبَلُ التَّوبة عن عبادِهِ ويأخُذُ الصَّدَقَاتِ وأنَّ الله هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ(104) وقُلِ اعملوا فسَيَرى الله عمَلَكُم ورسولُهُ والمؤمنون وسَتُرَدُّون إلى عالِمِ الغيبِ والشَّهادَةِ فينبِّئُكُم بما كنتم تعملون(105) وآخرونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إمَّا يُعذِّبُهُم وإمَّا يتوبُ عليهم والله عليمٌ حكيم(106)}
ومضات:
ـ تختلف شرائح المخطئين بين معترف بذنبه نادم على فعله، وبين معاند مُصرٍّ ومستهتر؛ والمُقرُّ بذنوبه والمكثر من عمل الخير، تُرجى له المغفرة والتَّوبة عليه من حضرة الله.
ـ الإكثار من الصدقات من أنجع الوسائل في تطهير النفس، وزرع الشعور بالمشاركة والانتماء إلى المجتمع السليم المعافى، كما أن الإنفاق في سبيل الله هو دعامة مكينة للتوبة الحقيقية؛ وكذا كلُّ عمل مُجْدٍ ومستمر هو بمثابة بطاقة انتساب للمجتمع الإيماني.
ـ دعاء الرسول الكريم للصحابة، وكذلك دعاء العلماء الصالحين للمؤمنين، يمنحهم شعوراً قوياً بالطمأنينة والراحة النفسية، لما لهم من قرب وحظوة عند ربٍّ سميع مجيب.
ـ تُعرَضُ الأعمال يوم القيامة على الحضرة الإلهية وعلى الرسول صلى الله عليه و سلم ، وعلى المؤمنين الصالحين.
ـ باب الرجاء والأمل برحمة الله تعالى يضيء شعلة التفاؤل، ويبقي المؤمن على أعتاب الحضرة الإلهية لائذاً ومستجيراً.
في رحاب الآيات:(2/10)
يتفاوت تقييم الناس لبعض المفاهيم بحسب المنظار الَّذي ينظرون إليها من خلاله، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمؤمن فقد يعرِّض قلبه لنسمات الإيمان فتتحرَّك كوامن الخير في نفسه، ويتجلَّى له العمل الصالح فيتلقَّفه ويتعهَّده، وهو مدرك بأنه يفعل ما فيه الخير والفائدة من العمل، وقد تأخذه الدنيا بمشاغلها ولهوها فتفوته تلك النسمات، فيتقاعس عن الخير، أو يرتكب ذنباً دون أن يدرك أنه يسيء إلى نفسه أو إلى من حوله. فقيامه بصالح العمل لا يعني أنه ملاك لا يخطئ، وارتكابه لمعصية ما؛ لا يعني بأنه انحطَّ إلى درك الفسق والشر؛ بل إن ذنبه يثقل كاهله، وتضيق به نفسه، فيستغفر الله تعالى وكلُّه أمل بأن يتوب عليه، يحدوه إلى ذلك أمله بعظيم مغفرة الله، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله تعالى لا يتعاظمه ذنب عبده أن يغفره» (أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ذلك أن رحمته تعالى أوسع من أن يدركها عقل بشر. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنَّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد» (أخرجه مسلم).(2/11)
ومن عظيم فضله تعالى في قبوله توبة العبد المذنب، نسخُ ذنبه ومحوه من كلِّ السجلات الَّتي تحفظ أعماله، روى أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إذا تاب العبد تاب الله عليه، وأَنْسَى الحفظة ما كانوا كتبوا من مساوئ عمله، وأَنْسَى جوارحه ما عملت من الخطايا، وأَنْسَى مقامه من الأرض، وأَنْسَى مقامه من السماء، ليجيء يوم القيامة وليس شيء من الخلق يشهد عليه بذلك» (أخرجه ابن عساكر). وبناء على ذلك فإن صدور أيِّ زلَّة أو هفوة من المؤمن لا يقتضي إحباط سائر عمله، أو وضعه في قائمة الهالكين؛ فإن لكلِّ جواد كبوة، ولابدَّ من إعطاء المخطئين الفرصة لمعرفة أخطائهم وتبيُّنها، حتَّى يُقِرُّوا بها، ويشعروا بالأسف والندم على ما نجم عنها من آثار سلبية، ومن ثمَّ يباشروا عملية الإصلاح والترميم من جديد. وأوَّل ما عني به الإسلام هو إصلاح أعماق النفس الإنسانية، فما على المخطئ إلا أن يتوجَّه إلى خالقه وحده، ويعترف بين يديه بتقصيره، ويُظهِرَ الرغبة بإصلاح فعلته، دونما حاجة إلى واسطة من البشر، بل إن الله ستر عليه معصيته ويكره منه أن يفضح نفسه.
والخطوة الأولى في طريق الإصلاح تتمثَّل بالإكثار من العبادات والنوافل، فقد روي عن الإمام علي كرَّم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضَّأ فيحسن الوضوء ويصلِّي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له» (أخرجه أحمد في مسنده) ثمَّ تلا هذه الآية: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَّ يستغْفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 110).(2/12)
أمَّا الخطوة الثانية فهي الإنفاق في سبيل الله، بوجوه البرِّ كافَّة، وهذا ما يربط المرء المقصِّر بإخوانه، حيث تتوطَّد أواصر المحبَّة، وتُمَتَّنُ صلة التراحم والتوادد في المجتمع الإنساني. وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتولَّى أخذ الصدقات من المؤمنين لتوزيعها على المحتاجين، وكان من حسن حظِّهم حصولهم على دعائه عليه السَّلام لهم بالخير والبركة، مِمَّا يثلج صدورهم ويشعرهم بالأمان والاطمئنان الروحي والنفسي، ويعطيهم دفعاً إيمانيا يقوِّي إرادتهم للسيطرة على أنفسهم، وتصعيد ميولها، وهذا ما عنته الآية آنفة الذكر: {خُذْ من أموالِهِم صدقةً تُطهِّرهُم وتُزكِّيهِم بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم..}.(2/13)
وقد ترك الإسلام فُسْحَةً واسعة للتوبة الَّتي تنجم عن الرغبة الداخلية والإرادة المصمِّمة، وجعل لها مظهراً عملياً يتمثَّل في الإنفاق الخصب المجدي، لأن عدم إتاحة مثل هذه الفرص أمام المذنبين المستغفرين، يصيبهم بنوع من اليأس يشلُّ شعورهم وتفكيرهم، ثمَّ يقعدهم عن العمل والمشاركة الجماعية، لذا أتى الأمر الإلهي: {وقُلِ اعملوا}، فالمؤمن الَّذي يعمل ويخطئ خير من الَّذي لا يعمل ولا يخطئ. وطالما أن هذا العمل سيكون مشهوداً من قبل حضرة الله ورسوله وسائر المؤمنين، فلابدَّ أنه سيكون عملاً محاطاً بالعناية والرعاية، وبملاحظة المجتمع له وتقويمه إذا اعوجَّ أو انحرف عن جادَّة الصواب، وفي يوم الحساب ستُعْرَضُ نتائج الأعمال على الله تعالى والرسول والمؤمنين لقوله تعالى: {يومئذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخفى منكم خافية} (69 الحاقة آية 18) لذلك فهم يقدِّمون أعمالهم في الحياة الدنيا، وهم في حالة من الرجاء والأمل بأن يقبل الله تعالى عملهم، ويشملهم بعفوه الكريم ويبعدهم عن عذابه، وأن يبلِّغهم مقاصدهم. روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما اجتمع الرجاء والخوف في قلب امرئ مسلم عند الموت إلا أعطاه الله ما يرجو وصرف عنه ما يخاف» (أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه ).(2/14)
لذلك كلِّه فلا ينبغي أن تُرفع عصا الانتقام والعقاب، في وجه المذنب والمقصِّر، طالما أن فرصة التَّوبة متاحة أمامه لينال بها من رحمة الله تعالى، قال صلى الله عليه و سلم : «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتَّى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا» (متفق عليه). فإذا تاب العبد من ذنبه وأناب فقد حقَّ على المجتمع المسلم أن يحبَّه لأن الله تعالى قد أحبَّه، وأن يدعو له بالثبات على التَّوبة، وأن لا يعيِّره بما سلف من ذنبه، وأن يتعهَّده بالرعاية والعناية فيذكِّره بالله ويعينه على الاستقامة.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّرَ عنكم سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيْدِيْهِمْ وبأيمانِهِمْ يقولون ربَّنا أتممْ لنا نُورَنَا واغفرْ لنا إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير(8)}
ومضات:
ـ يدعو الله تعالى عباده المؤمنين ليتوبوا إليه توبة صادقة يلتزمون بشروطها وآدابها، حتَّى يغفر لهم ويدخلهم فسيح جنانه.
ـ يوم الحساب، هو يوم الخزي والعار والندامة للكفار والعاصين، ويوم الإجلال والتقدير للأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ولمن تبعهم من الصالحين التائبين المنيبين، حيث سيجعل لهم الله نوراً يحيط بهم ويُشِعُّ من حولهم، وهم في غبطة وأمل في ظلِّ هذا الفيض الغامر راجين المغفرة التامَّة؛ ومَنْ غيرُ الله قادر على أن يغفر ويرحم؟.
في رحاب الآيات:(2/15)
المنهج الإلهي المودع في القرآن الكريم غاية في الوضوح، غاية في الدِّقَّة، قد وُضع من أجل إنقاذ الإنسان من أجواء الجهل والتخلُّف والانحطاط الأخلاقي، والارتقاء به إلى مرتبة المؤمن العاقل طاهر القلب. ومع ذلك فإن بعض الناس يجعلون القرآن من وراء ظهورهم فلا يقرؤونه، وبعضهم الآخر يُعْنَى بتجويد حروفه ويهمل فهم معانيه، أو يعرف معانيه ويغفل عن العمل بمضمونها. أمَّا السالك إلى مقام المؤمن الحقيقي فهو الَّذي يوطِّد العزم على تغيير مسار حياته من طريق الضلال إلى طريق الهدى، مع الشعور بالندم على أخطائه، لعلَّ الله يرحمه ويمحو ذنوبه، ويدخله في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة تجري من تحت قصورها أنهار الجنَّة. ثمَّ إن لهذا المؤمن من رحمة الله ومغفرته نوراً يُظلُّه في دنياه وآخرته، نوراً من الحكمة والفيض الربَّاني يذيقه حلاوة الإيمان فيطرب لها، ويشعره بقربه من حضرة الله فيهيم وجداً ويقول: هل من مزيد؟. وفي الآخرة ينضوي هذا المؤمن وأمثاله تحت لواء النبي صلى الله عليه و سلم ، فيفيض عليهم الله تعالى نوراً يضيء لهم الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم كإضاءة القمر في الليلة الظلماء، فيدعون الله قائلين: ربَّنا أكمل علينا هذا النور وأَدِمْهُ لنا، ولا تَدَعْنا نتخبَّط في الظلمات ونحن نجتاز الصراط؛ وحينها يستغيث بهم المنافقون والمنافقات قائلين: {..انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ من نُورِكُمْ...} (57 الحديد آية 13). أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيدِيهِمْ وبأيمانِهِمْ..} قال: (ليس أحد من الموحِّدين إلا يُعطى نوراً يوم القيامة، فأمَّا المنافق فيُطفأ نوره، والمؤمن يُشفق ممَّا يرى من إطفاء نور المنافق فهو يقول: {ربَّنا أتممْ لنا نورنا} وامحُ لنا ذنوبنا، إنك أنت القادر على المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب).(2/16)
وإلهامُهم هذا الدعاء في هذا الموقف الَّذي يُلجم الألسنة، ويُروِّع القلوب، هو علامة الاستجابة، فما يُلْهِمُ الله المؤمنين الدعاء إلا بعد أن يهيِّئ لهم الإجابة، فالدعاء هنا نعمة يمنُّ بها الله عليهم تضاف إلى مِنَّته بالتكريم وبالنور، فأين هذا النور من النار الَّتي وقودها الناس والحجارة؟ إنَّ هذا لهو الثواب العظيم والفوز الكبير.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أَسْرَفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم(53) وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسلمُوا له من قبلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصَرُون(54) واتَّبِعُوا أحسَنَ ما أُنزِلَ إليكُمْ من ربِّكُمْ من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ بَغْتَةً وأَنتم لا تشعرون(55) أن تقولَ نَفْسٌ ياحسرتى على ما فرَّطتُ في جَنبِ الله وإن كنتُ لَمِنَ السَّاخرين(56)}
ومضات:
ـ إنها دعوة ربَّانية لجميع القوافل البشرية الهائمة في دروب الذنوب والمعاصي، لكي يرجعوا تائبين إلى ربٍّ كريم غفور رحيم، فالله يغفر الذنوب جميعاً، وهو أرحم الراحمين. فليستدركوا منيبين مصلحين لما أفسدوا، ويسلموا القيادة إليه، فلا منقذ من العذاب ولا ناصر لهم إلا هو.
ـ ينبغي على العباد أن يشدُّوا الهمم والعزائم لتطبيق التعاليم الإلهية بكل قوَّة ونشاط، قبل أن يفوتَ الأوان ويحلَّ العذاب، فتغرق المراكب بغتة وهم لا يشعرون.
ـ من فاته قطار التَّوبة، وانقطع في صحارى الذنوب والمعاصي، ليس له إلا الهوان والحسرات، فقد تهاون واشتطَّ في اللامبالاة؛ وسخر واستهزأ ثمَّ ندم حيث لا ينفع الندم.
في رحاب الآيات:(2/17)
إن من أخطر الأسلحة الَّتي يستخدمها الشيطان لإبعاد الخلائق عن الله هو سعيه لإيقاعهم في اليأس والقنوط من رحمة الله. فإذا اقترف عبدٌ ذنباً ولم يكن يدرك سعة رحمته تعالى، ولا يعرف السبيل للوصول إليها، فإن الشيطان لا يزال يحوم حوله ليهوِّل له ما اقترف من إثم، وليشعره بأنه عبدٌ خطَّاء لا خير فيه، ولا أمل يُرتجى منه حتَّى ينكفئ على نفسه مصاباً بالإحباط، وهو يعاني أشدَّ المعاناة ندماً على ما اقترفت يداه، وحزناً لعدم تمكُّنه من التَّوبة، أو عدم قبول توبته كما وسوس الشيطان له. وتأتي رحمة ربِّ العالمين، الرحمة المزجاة للخلائق كافَّة، رحمة الرحمن الرحيم، لتنشر ظلالها على الناس جميعاً، ليطمئنوا بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه لا مكان لليأس في رحاب الله، وبالتالي فلا داعي للتردِّي في مهاوي القنوط والبؤس. إنها الرحمة الواسعة الَّتي تسع كلَّ تائب عن المعصية، وإنها الدعوة للأوبة إلى الله، وإلى الثِّقة بعفوه، فالله رحيم بعباده وهو يعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم العوامل المسلَّطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه، ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كلَّ مرصد، ويتربَّص بهم الدوائر، ويعلم أن الإنسان مخلوق ضعيف سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الَّذي يربطه بالله، والعروة الَّتي تشدُّه إليه. فالله عليم بكنه هذا المخلوق وتكوينه؛ لذا يمدُّ له يد العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتَّى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه، ويثبِّت خطاه على الصراط المستقيم.(2/18)
فبعد أن يلج العبد باب المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طُرد وانتهى أمره، ولم يعد يُقبَل ولا يُستقبَل، في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة النَّديِّ اللطيف: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أسرفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم}. أخرج أحمد وأبو يعلى والضياء عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «والَّذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتَّى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثمَّ استغفرتم لغُفر لكم، والَّذي نفس محمَّد بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثمَّ يستغفرون فيغفر لهم». فليس بين العبد وبين ربِّه حاجز مانع؛ فالتَّوبة تخترق السموات السبع لتصل إلى ربِّ العالمين فَيَمُنُّ بعفوه وغفرانه.
ومع ذلك فإن بعض المتعصِّبين المحجِّرين لرحابة عفو الله وكرمه، يدَّعون بأن الاستشهاد بهذه الآيات والأحاديث يشجِّع الناس على ارتكاب المزيد من الذنوب والآثام طمعاً بهذا العفو الإلهي. والواقع أن إبقاء العبد في محيط حسن الظنِّ بالله، أفضل بكثير من إيقاعه في اليأس، لأن حسن الظنِّ بالله يورث الإقبال على التَّوبة الصادقة في أيَّة لحظة، بينما يغلق اليأس الباب في وجه العاصي، وكأنه بذلك قد أصدر الحكم على نفسه بأنَّ مصيره جهنَّم لا محالة. لذلك فقد أتى الأنبياء الكرام مبشِّرين لا مُنفِّرين، ويتعيَّن على الداعي أيضاً أينما كان أن يكون مبشِّراً مؤلِّفاً للقلوب لا منفِّراً لها، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه و سلم على رهط من أصحابه يضحكون فقال: والَّذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثمَّ انصرف وبكى القوم، فأوحى الله إليه: يامحمَّد! لمَ تقنِّط عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه و سلم وقال: أبشروا، وقرِّبوا، وسدِّدوا».(2/19)
ذلك أن التَّوبة عندما تلامس شغاف قلب العبد فإنها تشدُّ عزيمته في طريق الصلاح والإصلاح، وتحثُّه على الالتزام بالطاعة بصدق وإخلاص، وتؤهِّل نفسه للتحلِّي بأحسن الأخلاق، واكتساب أفضل العلوم. روي في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله» (أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في مصنفه).
وها هي دعوة أخرى توجِّهها الآية إلى الإنابة لله، والعودة إلى رحاب الطاعة وظلالها، دون مراسم أو حواجز، وبغير وسطاء أو شفعاء. إنه اتصال مباشر بين العبد والربِّ، بين المخلوق والخالق سبحانه، فَمَنْ أراد الأوبة من الشاردين فليَؤُبْ، ومن أراد الاستسلام لله فليستسلم، فالباب مفتوح، لا حاجب دونه ولا حسيب عليه.
فهلمُّوا عباد الله إلى التَّوبة قبل فوات الأوان، {وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسْلِموا له من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصرون} واتَّبِعوا ما أمركم به ربُّكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة، وأنتم لا تعلمون به حتَّى يغشاكم. فالرجوع إلى الله، والالتزام بمبادئ شريعته يجنِّب الإنسان الوقوع في الخطأ، ويدفع عن نفسه الحسرة والألم، فتراه يقول: ياحسرتى وياندمي على تفريطي في طاعة الله وفي حقِّه، أو على سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه وبالرسول وأولياء الله الصالحين.
سورة هود(11)
قال الله تعالى: {وياقوم استغفِروا ربَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه يُرْسِلِ السَّماءَ عليْكُم مِدْراراً ويَزِدْكُمْ قوَّةً إلى قوَّتِكُمْ ولا تَتَولَّوا مُجرمين(52)}
ومضات:
ـ كلَّما كان الاستغفار جادّاً والتَّوبة حقيقية، كلَّما انهمرت بركات السماء على الإنسان بأنواع وفيرة وأشكال مختلفة.(2/20)
ـ الصلة بالله تعالى تولِّد قوى روحيَّة وجسديَّة تعين المرء على أداء دوره بنجاح على مسرح الحياة.
ـ إن انقطاع صلة الإنسان بخالقه يبقيه في محيط الجهل والانحطاط.
في رحاب الآيات:
هناك علاقة غير منظورة بين عمل الإنسان ورحمة السماء؛ وعمل المؤمن لا يقتصر على العبادة وأداء المناسك، بل يتَّسع ليشمل كل عمل مفيد يؤدِّيه لمجتمعه، ومهما بلغت حسناته واتَّسعت، فإن رحمة الله أوسع وأجلُّ وأعظم وهو محتاج إليها، والحسُّ الروحي الإيماني هو الأساس المعوَّل عليه للشعور بهذه الحاجة. وإن ممَّا لاشكَّ فيه أن القلوب الطاهرة الزكيَّة المزكَّاة، المستغفرة المنيبة، تشدُّ إليها العطاء الإلهي والخير والبركة من السماء، وهذا ما يزيد الإنسان قوَّة وينزله مكانة عالية، لاسيَّما إذا سخَّر هذا العطاء لمصلحة الكلِّ دون أنانية أو مطامع شخصية. وبذلك تتجلَّى لنا الأواصر المتينة بين القيم الإيمانيَّة والقيم الواقعيَّة في حياة البشر، واللُحمة بين طبيعة الكون ونواميسه الكليَّة والحقِّ الَّذي جاء به هذا الدِّين، وهذا ما يحتاج إلى جلاء وتوضيح، خاصَّة في نفوس الَّذين لم تصقل أرواحهم وتشِف، حتَّى ترى هذه العلاقة أو تستشعرها.
والآية الكريمة الَّتي نحن بصددها ترسي أسس الحياة السليمة على الأرض، فإذا أراد الإنسان أن يستزيد من الخير والنجاح والفلاح، في دنياه وآخرته، فعليه بالاستغفار المقرون بالتَّوبة النصوح، والندم على ما اقترف، ممَّا يؤهِّله لمحو خطاياه، ويقرِّبه من مولاه، ويفتح عليه أبواب خيرات الأرض والسماء. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتَّى رجع، فقيل له: ما رأيناك استقيت؟ قال: لقد طلبت المطر بمخاديج السماء الَّتي يُستنزل بها المطر، ثمَّ قرأ: {وياقومِ استغفروا ربَّكُمْ..}.(2/21)
وهناك علاقة وثيقة بين الاستغفار والقوَّة، إذ أن القلب النظيف والعمل الصالح يزيدان المؤمن قوَّة وصحَّة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق، ويمنحانه راحة الضمير، وهدوء النفس، والاطمئنان إلى عدل الله، والثقة برحمته، ويزيدانه قوَّة ليعمل وينتج ويؤدِّي تكاليف الخلافة في الأرض، كما أن القلوب المستغفرة تتَّحد مع بعضها بعضاً في حبٍّ إيماني وصفاء ربَّاني يزيل الضغائن، وينمِّي أواصر التعاون والتباذل، ليصبح المجتمع قويّاً متماسكاً تجاه الشرِّ وأعوانه. وقد تتوافر القوَّة لمن لا يحكِّمون شريعة الله، ولكنها قوَّة آنيَّة سرعان ما تتحطَّم وتعود عليهم بالوبال والخسران، لأنها لا تستند إلى أساس متين من الإيمان والخير.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ولو يُعَجِّلُ الله للنَّاس الشَّرَّ استِعْجَالَهُم بالخيرِ لَقُضيَ إليهِمْ أجلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذين لا يرجونَ لقاءَنا في طغيانِهِمْ يعمهون(11)}
ومضات:
ـ الله رؤوف بعباده، رحيم بهم، لا يستجيب دعاءهم بالشرِّ على أنفسهم، أو أولادهم، أو أموالهم في حال الغضب؛ ولو فعل لقضوا نحبهم وهلكوا.
في رحاب الآيات:(2/22)
هناك صور تتكرَّر في آيات القرآن الكريم، تكشف خفايا النفس الإنسانية، الَّتي لم تستكمل إيمانها الخالص بالله. فبعض الناس يريدون أن يمسكوا بزمام القضاء والقدر فيجعلوه يأتمر بأمرهم، ويغدق عليهم الخير متى أرادوا، ويتنزَّل بالشرِّ على أعدائهم متى شاؤوا، وكأنهم بذلك يتألَّهون على الله ويجعلون أنفسهم أصحاب القرار من دونه! ولكنَّهم بهذا التفكير المريض يتخبَّطون في دياجير الضلال والطغيان، ممَّا يجعلهم متسرِّعين في اتِّخاذ القرارات، فهم يستعجلون في طلب الخير، كما يستعجلون في طلب دفع الشر. وقد فُطر الإنسان على العجلة كما بيَّن القرآن الكريم ذلك حين قال تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَل..} (21 الأنبياء آية 37) وما استعجاله الخير إلا لشدَّة حرصه على المنافع، أمَّا استعجاله الضُّر فلقلَّة صبره على المحن والخطوب، وكثرة الانفعالات الَّتي تعتمل في صدره، كالغضب أو الجهل أو العناد أو غير ذلك. فقد يدعو الإنسان على نفسه أو ماله أو ولده حين الغضب أو اليأس، ولكنَّ لله جلَّ وعلا قوانينه الَّتي تغاير انفعالات البشر، فهو الحليم، المتجاوز عن السيِّئات، وهو الربُّ الرحيم الَّذي يعرف أين تكمن مصلحة عباده، ولو أنه استجاب لدعائهم لأهلكهم، لذلك يقول صلى الله عليه و سلم : «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم» (رواه مسلم في صحيحه). والتعجيل في طلب الشرِّ من قبل الإنسان لم يقتصر على شؤونه الخاصَّة بل تعدَّاها إلى علاقته بأنبياء الله ورسله، فما إن يدعو رسولٌ قومه إلى الإيمان بالله، ويحذِّرهم من عاقبة تكذيبه، حتَّى يسخروا منه ويطلبوا تعجيل العقوبة الَّتي يتوعَّدهم بها، وقد سجَّل القرآن الكريم ذلك فقال تعالى: {ويقولونَ متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين} (67 الملك آية 25)، وقال أيضاً: {وإذ قالوا اللَّهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ(2/23)
فأمْطِر علينا حجارةً من السَّماءِ أو ائْتِنا بعذابٍ أليمٍ} (8 الأنفال آية 32) فهؤلاء لا يرجون لقاء الله، ولا يخافون وعيده، لذلك فإن الله يمهلهم ويتركهم يخوضون ويلعبون، وقد يغترُّون بحلم الله، ويحسبونه عاجزاً عن ردع مخالفاتهم، ولكنَّ إمهال الله إمَّا أن يكون استدراجاً لهم، أو رأفة بهم عسى أن يتنبَّهوا فينيبوا إلى الرحمن ويتوبوا، أو يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {ولو يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عليها من دابَّةٍ ولكن يُؤخِّرُهُمْ إلى أجلٍ مسمىً فإذا جاءَ أجلُهُمْ لا يستئخِرُون ساعةً ولا يستقدِمُون(61)}
ومضات:
ـ الله حليم حكيم، لا يعجِّل عقابه للكافرين بنعمه ورسالاته، بل يمهلهم إلى أجل مسمَّى لا يتأخر لحظة واحدة عن موعده الَّذي يقرِّره جلَّ وعلا. وما تأخير الله إنزال عقابه إلا رحمة بالمقصِّرين عسى أن يستدركوا ويتوبوا.
في رحاب الآيات:
يختلف قانون العقوبات السماوي عن القانون الوضعي البشري بشموليَّته لحياة الإنسان الخاصَّة والعامَّة، وحتَّى بشموله لتفكيره ونواياه، وكلِّ كلمة تنبس بها شفتاه! كما أنه يختلف في توقيته لتنفيذ العقوبة. والإسلام لا يتهاون تجاه من يخطئ بحقِّ غيره، بل لقد شرع قوانين مشدَّدة رادعة بحق المخالفين من أجل بثِّ الطمأنينة داخل المجتمع الإنساني؛ فلا سرقة ولا خمرة، ولا زنا ولا ربا، ولا اعتداء بالقتل ولا بغيره. وكذلك حمى المحصنات من القذف، والأعراض من الهتك، ومنع شهادة الزور، وحذَّر من التلاعب بأرزاق العباد، أو احتكارها، أو الغشِّ فيها، وحثَّ على رعاية الفقير وعيادة المريض، ومساعدة الغريب وابن السبيل. ولكنْ هل استجاب الناس جميعاً لتعاليم الله؟. إن ما يرتكبه الناس من كفر بأنعم الله، ومن شرٍّ وفساد في الأرض، لهو نتيجة انحرافهم عن تعاليمه عزَّ وجل، ولو عجَّل بمؤاخذتهم لأهلكهم جميعاً.(2/24)
ولكنَّ الله تعالى لا يؤاخذ المقصِّرين إلا بعد أن يعطيهم فسحة من الوقت، فإذا قصَّروا في أمورهم التعبديَّة، أو بحقِّ أنفسهم، أو بحقِّ غيرهم، منحهم مهلة عساهم يعودون إلى جادَّة الصواب، ويعوِّضون ما فاتهم ويصلحون ما أفسدوا؛ فإن أصرُّوا على الذنوب واستكبروا أوقع بهم عقابه في الزمان والمكان اللَّذَيْن يختارهما.
والتأخير يكون على أنواع: فقد يؤخِّرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي كلٌّ بحسب تماديه وفحشه، وقد يؤخِّرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدَّرة لهم، إلى أن يسلِّموها إلى جيل آخر، وقد يؤخِّرهم جنساً إلى أجلهم المحدَّد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى، ويفسح لهم الفرصة علَّهم يحسنون صنعاً، فإذا حلَّ ذلك الأجل فإن الله يجازي المكلَّفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه من أمرهم شيء، دقَّ أو جلَّ، ظهر أو استتر.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجب المؤاخذة، ولكنَّ الله تعالى بفضله ورحمته يمهل ثمَّ يؤاخذ من كان مصرّاً على عناده وتقصيره، ويعفو عمَّن تاب وأناب، تأكيداً لحلمه وسعة صبره، فإن رحمته قد سبقت غضبه، وهو يمهل العبد لكنَّه لا يهمله؛ بل يأخذه بالعذاب في أجله المحدَّد، فلكل أمَّة أجل ولكل أجل كتاب.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {قُلْ هوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عليكُمْ عذاباً من فَوْقِكُمْ أو من تحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيْقَ بعضَكُمْ بأسَ بعضٍ انظرْ كيف نُصرِّفُ الآياتِ لعلَّهم يفقهون(65)}
ومضات:
ـ بعد أن يتأكَّد الإنسان من عظمة الخالق عزَّ وجل وقدرته، عليه أن يستوعب التعاليم الإلهيَّة الَّتي يجب أن يلتزم بها، والَّتي وضعها الله تعالى لمصلحة الإنسان وسعادته، وأيُّ تقصير في تنفيذ هذه التعاليم يؤدِّي إلى خلل في المجتمع الإنساني، فإذا كثر التمادي والتخريب كان لابدَّ من العقوبات الإلهيَّة لإصلاح هذا الخلل.
في رحاب الآيات:(2/25)
بيَّن الله سبحانه وتعالى خطَّ المسيرة لآدم وذرِّيته، منذ أَمَرَهُ بالهبوط إلى الأرض، وهو أن يتَّبعوا منهج الله فقال: {قُلنَا اهبِطُوا منها جميعاً فإمَّا يأتِيَنَّكُمْ منِّي هُدىً فمن تَبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا همْ يحزنون} (2 البقرة آية 38) إذن في حال الالتزام أمنٌ وسرور، وفي حال المخالفة خوفٌ وحزن.
وأوَّل نموذج للمخالفة هو مخالفة آدم عليه السَّلام، حين أكل هو وزوجه من الشجرة فبدت لهما سوآتهما، (والسوأة هي العورة، والعورة هي ما لا يحبُّ الإنسان المؤمن كشفه على الآخرين إمَّا لأنه مخجل أو لأنه مخزي)، وأيُّ عورة في المجتمع إذا بحثتَ عن أسبابها، وجدتَ أنها حدثت بسبب مخالفة مبدأ من مبادئ الله في الأرض. والله ليس بعاجز عن تأديب المخالفين والمقصِّرين، المتهاونين بشريعته، والأمثلة في تاريخ الإنسانية كثيرة، وقد أورد القرآن الكريم جانباً منها، فمن هؤلاء من انصبَّ عليهم العذاب من فوقهم، كالرجم بالحجارة والطوفان، والصيحة، والريح، كما فُعل بعاد وثمود وأقوام شعيب ولوط ونوح عليهم السَّلام. ومنهم من فاجأهم العذاب من تحت أرجلهم، كالخسف والزلزال، والرجفة، والبركان، كما فُعل بقارون، وأصحاب مَدْيَن.
ومنهم من يُسلِّط الله عليه عذاباً أشدَّ وأقسى هو العذاب النفسي، حيث يعيش الإنسان المخالف في دوَّامة، يفترسه الألم، وينهشه الحزن، ولا يعرف سبيلاً للخلاص. وقد يُسلِّط الله بعض المنحرفين على بعض، فكم من ظالم يتمادى في ظلمه، أو طاغية يستبدُّ بطغيانه، ويستمتع بخيرات الآخرين مستعيناً بالحديد والنار لِكَمِّ أفواه المعارضين، وكم من دول تسلَّطت على أخرى ونهبت ثرواتها وتركتها تعاني شظف العيش والحرمان. وقد يجعل الله المنحرفين فِرَقاً متناحرة، متحاربة، أهواؤهم شتَّى، ومذاهبهم مختلفة وغير ذلك.(2/26)
وتصوير الآية للعذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيه من الرعب والإثارة ما فيه، فهو عذاب عامٌّ، شامل، غامر، يحيق بصاحبه، ولا يدع له مجالاً للحركة أو الهرب، ولو كان العذاب يأتيهم فقط عن يمين أو عن شمال لكان وقعه أخف، إذ بوسع المخالف أن يجد ملاذاً في الأرض يحميه، أو ركناً من أركانها يؤويه، ولكنَّه عذاب يُصبُّ عليه صبّاً، أو ينبع من تحت قدميه نبعاً، فلا يدع له مجالاً لأيَّة حركة.
فيا أيُّها الإنسان! تأمَّل بعين بصيرتك كيف تَرِدُ الآيات والدلائل بطرق مختلفة، منها عن طريق العقل، ومنها عن طريق علم الغيب، لعلَّك تفقه الحقَّ، وتدرك الحقائق بأسبابها وعللها والَّتي تفضي إلى الاعتبار والعمل بما يرضي الله.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ما يفعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إن شَكرتُمْ وآمنتُمْ وكان الله شاكِراً عليماً(147)}
ومضات:
ـ قد يكون مفهوم العذاب بالنسبة لبعض المنحرفين يحمل معنى اللذَّة بتعذيب الآخرين إرضاءً لشهوة الانتقام، أو بسبب عقدة نفسية متأصِّلة في نفوسهم المريضة. أمَّا مفهوم التعذيب عند الله عزَّ وجل فهو غير ذلك تماماً، فحاشا لله سبحانه وتعالى أن يعذِّب الخلائق سروراً ومتعة بعذابهم، لأن عقابه للمذنبين في كثير من الأحوال رحمة بهم، ومعالجة روحية تخلِّص نفوسهم ممَّا علق بها من أدران الذنوب، وتوصلها في النهاية إلى الشفاء والراحة.
ـ يعتقد بعض الخلق خطأً أن تعذيب النفس وإرهاقها هو أحد الأبواب المقرِّبة إلى الله عزَّ وجل، إلا أن هذا مرفوض في شرائع الله تعالى، لأنها مبنية أساساً على موازين ثابتة من الحبِّ والعقلانية.
في رحاب الآيات:(2/27)
خلق الله الإنسان ووهبه السمع والبصر، والعقل والقلب، ليستمتع بما في الوجود، وليشكر المنعم على نعمائه. ولكن الإنسان قد يضيع في زحمة الحياة، ويغرق في النعيم المادي، وينسى النعيم الروحي الَّذي لا يتحقَّق إلا بالاتصال بربِّه، وشكره والعمل على مرضاته. وقد يؤدِّي به هذا النسيان للتردِّي في حمأة الرذيلة فيكفر بنعم الله، ويسيء إلى مخلوقاته. من هنا رتَّب الله تعالى عقوبات رادعة لأمثال هؤلاء العصاة، بهدف إحقاق الحقِّ، وإقامة ميزان العدل في الأرض لا رغبةً في الانتقام، أو أخذاً بثأر، أو تشفِّياً، أو سعياً لمغنم أو دفعاً لمغرم، تنزَّه الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. وإنما هو العقاب الزاجر والرادع عن المعاصي وأكل الحقوق، فلو أن الحياة كانت تجري بالإنسان من غير هذا الرادع، المتمثِّل بالعقاب الدنيوي أو الأخروي، أو كليهما معاً، لرأينا المجتمع الإنساني أشبه بالغابة، يأكل كبيرُ وحوشها صغيرَها، ويهتك قويُّها حرمة ضعيفها. فكان لابدَّ من وجود العقاب على الإساءة والجحود، مقابل الثواب على الإحسان والشكر.
فليس سواءً مَنْ شَكَرَ نِعَمَ الله ووظَّف حواسَّه وقدراته في سبيل عبادته وخدمة مخلوقاته، ومن كفر بها وجحد وعطَّل هذه النعم وأساء استعمالها. فالشكر هو إدراك قيمة هذه النعم واستثمارها مع التعبير عن الامتنان لذلك، والكفر هو الجهل بها وتبديدها وإظهار الجحود والنكران لها، وقد ربطت الآية الكريمة الشكر مع الإيمان لأنه قرينه الملازم له، فالمؤمن يشكر الله على نعمه ويشكر العباد على إحسانهم إليه، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» (رواه أبو داود والترمذي)، والكافر يجحد نعم الله تعالى وإحسان الناس إليه.(2/28)
ولا يقتصر واجب الشكر على الضعيف دون القوي، أو الفقير دون الغني، بل الناس كلهم في ذلك سواء، لأن الله تعالى هو القويُّ العزيز، مالك الملك، الغني عن عباده يشكر لهم إيمانهم وإخلاصهم وحسن عبادتهم، فكيف بالخلائق الضُّعفاء المغمورين بنعم الله؟.
الفصل السادس:
الدعاء والاستجابة
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {وإذا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ فلْيستجيبوا لي ولْيُؤمِنُوا بي لَعلَّهُم يَرشُدونَ(186)}
ومضات:
ـ يزيل الله تعالى بهذه الآية كلَّ الحواجز النفسية والمادية والبشرية، الَّتي يتوهَّم المرء وجودها بينه وبين الله، ويحثُّه بذلك على التجرُّد من كلِّ شيء، والتوجُّه إليه بقلب نقيٍّ صافٍ، واثق من حسن إجابته عزَّ وجل.
ـ في الآية إرشاد إلى المداومة على الدعاء والاجتهاد فيه؛ لاستمرار القرب من الله، والصلة معه.
في رحاب الآيات:
الدعاء الحارُّ النابع من الأعماق، يغسل القلب ويطهِّر النفس من الأدران، وهو ملجأ المحبِّ العاشق، والمحتاج الملهوف، والسعيد الظافر، والحزين السقيم، والمتألِّم المتأوِّه. فهو مخرج من كلِّ ضيق، وتعبير عن كلِّ نشوة، ولهذا فإن الله جلَّ وعلا يحبُّ اللحُوحَ في الدعاء، الَّذي يضرع إليه في سائر الأوقات والظروف.(2/29)
والإنسان في حاجة دائمة إلى مَدَدٍ علوي، وعَونٍ إلهي في كلِّ أموره، لذلك فهو بالفطرة يبسط كفَّيه بالدُّعاء كلَّما داهمه خطب، أو ألمَّت به نازلة وضاقت به السبل، طالباً المعونة والفرج من خالقه، مستزيداً من فضله. والله تعالى يُطمئن عباده بأنه قريب منهم، بل أقرب إليهم من حبل الوريد، فليتوجَّهوا إليه بقلوبهم وجوارحهم، فهو معهم يسمعهم ويستجيب لهم، وليس بينه وبينهم واسطة أو حجاب، فليدعوه وليرجوه بما شاؤوا. فالدعاء مخُّ العبادة، لما له من دور هامٍّ في تمتين الصلة مع الله عزَّ وجل، وإبقائها حيَّة نابضة، وقد حثَّ عليه الرسول الكريم في أحاديث كثيرة منها قوله: «إن الله تعالى حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين» (رواه أحمد وأبو داود عن سلمان رضي الله عنه ). وقوله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدِّين، ونور السموات والأرض» (رواه أبو يعلى والحاكم عن الإمام علي رضي الله عنه ).
وفي لحظات الدعاء الحقيقي يصل المؤمن إلى ذروة الصفاء مع الله عزَّ وجل، فتنحلُّ القيود وتنزاح الحجب بين المخلوق والخالق، ويهيم القلب المشرق بنور الله بين التذلُّل والتدلُّل، خاشعاً منيباً، طامعاً بفضل الله، راغباً في طلب المزيد، متوجِّهاً إلى ربٍّ جليلٍ كريم؛ حيث يقول سبحانه: {قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربِّي لولا دُعاؤكُم..} (25 الفرقان آية 77).
وللدعاء آداب يجب توفُّرها عند الشروع به ومنها:(2/30)
1 ـ تحميد الله والثناء عليه ثمَّ الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه وليُصلِّ على النبي ثمَّ ليدعُ بما شاء» (رواه أبو داود والترمذي وابن حِبَّان عن فُضالة بن عبيد رضي الله عنه ). ومن أجمل كلمات الثناء؛ ثناء رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام على الله عزَّ وجل عندما استسقى لقومه فقال لهم: «إنكم شكوتم جَدْبَ دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمنه عنكم، وقد أمركم الله بالدعاء ووعدكم أن يستجيب لكم، ثمَّ دعا قائلاً: الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهمَّ أنت الله، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنْزِلْ علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوَّة وبلاغاً إلى حين» (رواه أبو داود والحاكم).
2 ـ مدُّ اليدين ورفعهما إلى السماء والسؤال ببطون الأكُفِّ لا بظهورها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «سلوا الله ببطون أكفِّكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (رواه أبو داود والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه ).
3 ـ الدعاء بالخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تدْعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» (رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها).
4 ـ التأمين: أي أن نقول آمين يارب العالمين في ختام الدعاء؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا دعا أحدكم فليؤمِّن على دعاء نفسه» (رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).(2/31)
ويستجاب الدعاء في مواطن كثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أبواب السماء تُفتَّح، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصَّلاة، وعند رؤية الكعبة» (رواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ). ويُستحبُّ الدعاء في جوف الليل قال صلى الله عليه وسلم : «أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (رواه الترمذي والنَّسَائي والحاكم عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه ).
أمَّا الَّذين لا تُرَدُّ دعوتهم فمنهم ثلاثة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتَّح لها أبواب السماء ويقول الربُّ تبارك وتعالى: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وكذلك دعوة الأخ لأخيه في غيابه مستجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعاء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكَّل به كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملك آمين ولك مثل ذلك» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ) ، وكذلك دعوة المريض والمبتلى مستجابة ، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :«إذا دخلت على مريضِ فَمُرْهُ يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه )، وذلك لأن المريض المبتلى يرقُّ قلبه، فيلتجئ إلى الله بصدق وانكسار .
أمَّا شروط استجابة الدعاء فهي:
1 ـ اليقين بالإجابة مع حضور القلب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهٍ» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).(2/32)
2 ـ عدم الدعاء بإثم أو قطيعة رحم وعدم الاستعجال على الله في الإجابة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استُجيب له، فإمَّا أن يُعجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يؤخَّر له في الآخرة، وإمَّا أن يُكفَّر عنه ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل فيقول: دعوتُ ربِّي فما استجاب لي» (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وقال صلى الله عليه وسلم : «يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي» (رواه الشيخان).
3 ـ توخِّي الحلال في المأكل والمشرب والملبس، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمُدُّ يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام وغُذيَ بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك؟» (رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
4 ـ الإكثار من الدعاء حين الرَّخاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن سَرَّهُ أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).(2/33)
أمَّا استجابة الدعاء؛ فقد تكون معجَّلة في الدنيا، أو مؤخَّرة إلى الآخرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتَّى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي! إني أمرتك أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيبَ لك، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أفرِّج عنك ففرَّجتُ عنك؟ فيقول: نعم يارب، فيقول: إني عجَّلتُها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أُفَرِّج عنك فلم تَر فرجاً؟ قال: نعم يارب، فيقول: إني ادَّخرتُ لك بها في الجنَّة كذا وكذا، فلا يَدَعُ الله دعوةً دعا بها عبده المؤمن إلا بيَّن له، إمَّا أن يكون عجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يكون ادَّخر له في الآخرة، قال: فيقول المؤمن في ذلك المقام: ليته لم يكن عجَّلَ له شيئاً من دعائه» (رواه الحاكم عن جابر رضي الله عنه ).
ويخاطب الله تعالى النفوس المؤمنة، ويهزُّها من الأعماق هزّاً خفيفاً رفيقاً، فربَّما نسيت ـ وهي في غمرة الحياة ومشاغلها ـ واجباتها نحو خالقها، أو قصَّرت فيها فيذكِّرها بقوله: إذا كنت أنا ربُّكم الغني عنكم أستجيب دعاءكم، أفلا تستجيبون أنتم لدعوتي فتؤمنون بي، وتمتثلون لأوامري وأنتم مفتقرون إليَّ، وفي استجابتكم لندائي حياتكم ونجاتكم؟ إنها دعوة رائعة تسكب في قلب المؤمن وُدّاً وأُنْساً ورضاً، ويعيش معها في ملاذٍ أمين وقرار مكين في حمى ربٍ قريب مجيب.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّه لا يُحبُّ المعتدين(55) ولا تُفسدوا في الأرضِ بعد إصلاحِهَا وادعُوهُ خوفاً وطمعاً إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين(56)}
ومضات:(2/34)
ـ الدعاء هو طلب المخلوق من الخالق تحقيق بعض غاياته أو قضاء حوائجه، ولا يمكن أن يثمر دعاء من أجل إصلاح ما فسد، أو إعادة بناء ما تهدَّم، ما لم يقترن بالعمل الجادِّ لتحقيق هذه الأهداف؛ ولا يقبل الله تعالى دعاء من يترجَّى الله بلسانه من أجل الإعمار، بينما تحمل يده معول التخريب وتُعْمِل الهدم والفساد في الأرض.
ـ الدعاء اللحوح، المتفجِّر في خفية عن الأعين والأسماع ـ سوى عين الله وسمعه ـ والممزوجُ بدموع القلوب المحترقة بحبِّ الله، المعترفة بفضله وقوَّته؛ هو الطريق لإعمار النفوس بالإيمان، والمجتمع بالخير والسَّلام.
في رحاب الآيات:
الدعاء مناجاة حميمة بين المخلوق والخالق، ووسيلة اتصال مباشرة بحضرة الله. إنه مكالمة سرِّية بين العبد الفقير المحتاج والربِّ الغني المعطاء، تنقلها أسلاك خفيَّة تصل ما بين قلب العبد والذَّات الإلهية، وما أكثر ما يحتاج العبد، وما أكثر ما يستجيب الله!. وإن أبلغ الدعاء ما كان في خفية وتضرُّع، لأنه أَلْيَق بجلال الله وعظمته، إذ هو دليل على عمق الإيمان وعلى الثقة المطلقة بقرب الله وسعة رحمته. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّها الناس ارْبَعُوا (أي ارفقوا وهوِّنوا) على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم» (رواه مسلم) وقال أحد الصالحين: [إن الله إنما يُتَقرَّب إليه بطاعته فما كان من دعائكم الله، فليكن في سكينة ووقار، وحسنِ سَمْتٍ وزيٍّ وهدي وحسن دعة]. والدعاء الخفي إن لم يكن واجباً فهو مندوب ويدلُّ على ذلك وجوه:
1 ـ إن الله تعالى أثنى على نبيِّهِ زكريا فقال: {ذِكْرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريَّا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيّاً} (19 مريم آية 2ـ3).(2/35)
2 ـ قال الرسولصلى الله عليه وسلم : «دعوة في السرِّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» (رواه الحسن البصري) وأضاف: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربِّهم، وذلك أن الله يقول: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَة}.
3 ـ إن النفس شديدة الرغبة في الرِّياء والسمعة، فكان الأَولى في الدعاء الإخفاء ليبقى مصوناً عن الرِّياء.
وعلى المؤمن أن يتوخَّى في الدعاء عدم الاعتداء، وذلك بطلب غير المشروع، كضرر العباد، أو طلب الغنى بلا كسب؛ كأن يكتفي الإنسان بالكلمات دون العمل وتعاطي الأسباب، فما كان الله ليرزق عبداً يجلس في أعالي الجبال يطلب القوت والمأوى، فالله يحب المتوكِّلين ولا يحب المتواكلين. وطلب المغفرة مع الإصرار على الذَّنب، صورة من صور الاعتداء، فلابدَّ من توبة وإنابة لكي يُقبَل الدعاء، ومنها كذلك التوجُّه بالدعاء لغير الله.
كما أن على المؤمن أن يدرك أن دفقة الحياة في الدعاء، هي الخوف والطمع والرجاء: الخوف من عقاب الله، والطمع والرجاء في مغفرته ورضوانه، حتَّى يكون الرجاء والخوف ملازمين له كجناحي الطائر، يحملانه في طريق استقامته، فإذا اكتفى بأحدهما هلك. والترغيب بالرجاء يقترن مع الدعوة إلى خشية الله، واتِّقاء عذابه في جميع آيات القرآن الكريم، قال تعالى: {نَبِّئ عبادي أَنِّي أنا الغفور الرَّحيم * وأَنَّ عَذابِي هوَ العذابُ الأليم} (15 الحجر آية 49ـ50).(2/36)
فمن صحَّة الدعاء أن تذوب على أعتاب الله بقلب يحترق حبّاً وخوفاً، ودموع سخيَّة مدرارة تغسل الذُّنوب، وتبدي الندم على ما فرَّطت من حقوق الله، وأنت بين رجاء وأمل لا تقنط من رحمة الله ولا تيأس، موكلاً الأمر كله إلى ربِّ العالمين، وموقناً بالإجابة. جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فإن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله» (رواه الإمام أحمد وابن حِبَّان في صحيحه والبيهقي)، ثمَّ تترك تقدير الأمور لحضرة الله، فلا تستبطئ الإجابة من الله تعالى، فهو أدرى بما يناسبك، وهو يرى ما لا ترى.
فالدعاء هو توثيق الصلة بين المؤمن وخالقه، وتمتين للعلاقة الفريدة بين الإنسان وربِّه، وهو حالة من حالات الوجد ولون من ألوان الوصال، تصلح به تربة القلب فلا ينبت فيها إلا صالحاً، فإذا صلحت تربة القلوب صلحت أرض المجتمع، وتلاشت عناصر الفساد، وانهارت قوى الإفساد. ورحمة الله ليست محجوبة عن أحد من خلقه شريطة أن ينفِّذ تعاليم الله، وأن يحسن إلى نفسه فيجنِّبها مواطن الزلل، وأن يحسن إلى مخلوقات الله بالحبِّ والوُدِّ والعطاء.
سورة غافر(40)
قال الله تعالى: {وقالَ ربُّكُمُ ادعوني أستجِبْ لكمْ إنَّ الَّذين يستكبِرُون عن عبادَتِي سيَدْخُلُون جهنَّمَ داخِرِين(60)}
ومضات:
ـ يحلو الدعاء في لحظات التجلِّي، حين يُغْمَرُ القلب بنور الخالق عزَّ وجل، ويتفجَّر بالمحبَّة والعشق، وتتولَّد فيه الرغبة للُّجوء إلى المبدع العظيم، فيضع المؤمن أمانيه ورغباته وأحلامه بين يدي ربٍّ كريم عطوف رحيم.
ـ ندب الله تعالى عباده إلى دعائه وتكفَّل لهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً، ومَنْ أعرض عن دعاء ربِّه فهو مستكبر متعال، مآله إلى جهنَّم صاغراً ذليلاً فيها.
في رحاب الآيات:(2/37)
تزداد إيجابية القرآن الكريم وضوحاً كلَّما تكررت الآيات الكريمة؛ الَّتي تشجع الإنسان وتحثُّه على التوجُّه المستمر إلى الله عزَّ وجل بالدعاء طلباً لقضاء حاجاته، مهما عظُم شأنها أو صغر. وقد حثَّ الله تعالى عباده على الدعاء، ووعدهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً. روى النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وقال ربُّكُم ادعُوني أستجبْ لكم...}» (رواه مسلم والطبراني وأحمد والبخاري وقال الترمذي حسن صحيح)، وقال أنس رضي الله عنه : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لِيَسْأَلْ أحدُكُمْ ربَّه حاجته كلَّها» (أخرجه الترمذي وابن حبان)، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفع حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، ولكنَّ الدعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، فعليكم بالدعاء» (أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء مخُّ العبادة» (رواه الترمذي)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء» (رواه الطبراني وأبو الشيخ القضاعي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً). وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال ربُّكم: عبدي إنك ما دعوتني ورجوتني فإني سأغفر لك على ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة، ولو أخطأت حتَّى تبلغ خطاياك عنان السماء ثمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي». وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أفضل العبادة الدعاء) ثمَّ قرأ هذه الآية.(2/38)
والتوجُّه للدعاء توفيق من الله، كان عمر رضي الله عنه يقول: (أنا إن مُنعتُ الدعاء أشدُّ عليَّ إن مُنعتُ الإجابة، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاء كانت الاستجابة معه). ولكنَّ بعض الناس يعتدُّون بأنفسهم، ممَّا يصرفهم عن اللجوء إلى الله بالدعاء، فيتوهمون أنهم ليسوا في حاجة إلى أية مساعدة إلهيَّة، وأنهم بقوَّتهم وإمكاناتهم يستطيعون تحقيق ما يشاؤون، فَيَحْرِمُونَ بذلك أنفسهم من فيض الله الواسع، ويجعلون بينهم وبينه حجاباً، ولذلك فقد حقَّ عليهم مقت الله والذُّلُّ والهوان سواء في الدنيا أم في الآخرة، أو فيهما معاً، ذلك أنهم نسوا أن ما بأيديهم من قوَّة ومال وصحَّة وعقل، إنما هي في الأصل عطاءات من حضرة الله تفضَّل بها عليهم، فاستعلَوْا استكباراً، ونسُوا أن الله جلَّ وعلا يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم لا يفلته.
سورة النمل(27)
قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دعاهُ ويكْشِفُ السُّوءَ ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون(62)}
ومضات:
ـ يقع بعض الناس في الشِّرْكِ الخفي بتوجُّههم الكُلِّي إلى أصحاب النفوذ والجاه والسلطة، ليقضوا لهم حوائجهم، فيكيلون لهم المديح والثَّناء ويكثرون لهم العطاء، متناسين قدرة الله عزَّ وجل على قضاء حوائج الناس وإجابة دعائهم، وأنَّ تصريف الأمور كلِّها بيده وحده جلَّت عظمته.
ـ إن الله سبحانه وتعالى لا يقضي حوائج الإنسان الآنيَّة فقط، بل يدعم وجوده الإنساني بالإمكانات ليصبح أهلاً لقيادة الأمور وتذليل الصعاب.
في رحاب الآيات:(2/39)
ما أحلى أن يجد الإنسان من يقف بجانبه في الشدائد والأزمات! ومَن أجلُّ وأعظمُ من ربِّ العالمين يغيث عباده عند اضطراب أمورهم، وانقطاع حبل آمالهم؟ وما أكرمها من ساعة نفقد فيها أسباب النجاة، فيتكرَّم علينا مسبِّب الأسباب بالمساعدة والإنقاذ!. ولكن هذه النعم لن تتوافر لعبدٍ، ما لم يلجأ بقلب صادق التوجُّه إلى حضرة الله؛ ولن تتحقَّق لعبد، ما لم يُهْرَع بلهفة إلى خالقه ومولاه يطلب العون والمدد؛ عندها، وبصدق الدعاء والتضرُّع، تحفُّه العناية الإلهية لتقلب عسره يسراً، متخطِّية جميع الموازين البشرية. بينما نجد الناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، فيلتمسون القوَّة والنصرة والحماية في قوَّة من قوى الأرض الضعيفة الهزيلة. أمَّا حين تلجئهم الشدَّة، ويضطرهم الكرب، تزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربِّهم منيبين مهما كانوا من قبلُ غافلين أو مكابرين، أخرج الإمام أحمد عن رجل من أهل البادية قال: «قلت يارسول الله إلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده الَّذي إن نزل بك ضُرٌّ فدعوته كشف عنك، والَّذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رَدَّ عليك، والَّذي إن أصابك سَنة فدعوته أنزل لك».(2/40)
والقرآن يُوقظ مشاعر بني آدم بما هو واقع في حياتهم {ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ}، فمن الَّذي يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الَّذي استخلف جنسهم في الأرض أوَّلاً، ثمَّ جعلهم قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل يخلف بعضهم بعضاً في مملكة الأرض؟ أليس هو الله الَّذي فطرهم وفق النواميس الَّتي وضعها لإيجادهم في هذه الأرض، وزوَّدهم بالطاقات والاستعدادات الَّتي تسمح لهم بالخلافة فيها، وتعينهم على أداء هذه المهمَّة الضخمة؟ أليس هو الله الَّذي وضع النواميس الَّتي تجعل الأرض قراراً، وتنظِّم الكون بتناسق بحيث تتهيَّأ للأرض تلك الظروف المُساعِدة للحياة، فلو اختلَّ شرط واحد من هذه الشروط الكثيرة، المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه، لأصبحت الحياة على هذه الأرض مستحيلة. وأخيراً، أليس الله هو الَّذي قدَّر الموت والحياة؟ فلو عاش الأوَّلون لضاقت الأرض بهم وبمن جاء بعدهم، ولغدا سير الحياة والحضارة بطيئاً؛ لأن تجدُّد الأجيال هو الَّذي يسمح بتجدُّد الأفكار وبتجدُّد أنماط الحياة دون تصادمٍ، بين القدامى والمحدثين، إلا في عالم الفكر والشعور، ولو بقي القدامى أحياءً، عَظُم التصادم والتناقض، وتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام. فعلينا جميعاً بعون الله تعالى أن ننفِّذ القوانين الإلهية بما يتناسب وكمال هذه القوانين لنصبح أمناء الله في أرضه.
فَمَنِ الَّذي حقَّق وجود هذه الحقائق وأنشأها؟ إنَّه الله لا إله إلا هو، ولكنَّ بعض الناس يغفلون عن هذه الحقائق، وهي كامنة في أعماق نفوسهم، مشهودة في واقع حياتهم، ولكن: {قليلاً ما تذكَّرون} ولو تذكَّرها الإنسان وعقلها، لبقي موصولاً بالله صلة الفطرة الأولى، فلا يغفل عنه ولا يشرك بعبادته أحداً.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {ويَدْعُ الإنسانُ بالشَّرِّ دُعاءَهُ بالخيرِ وكان الإنسانُ عَجُولاً(11)}
ومضات:(2/41)
ـ الإنسان الحكيم لا يطلب من الله تعالى لنفسه أو لغيره إلا الخير، ولا يستسلم لثورات الغضب أو نوبات اليأس، فيتمنى الهلاك والسوء لنفسه أو لعياله، بل يتحلَّى بالصبر والجَلد، ولا يتخلَّى عن ثقته بالله تعالى الَّذي بيده الخير كله.
ـ قد يطلب الإنسان من الله عزَّ وجل أمراً يعتقد فيه خيره فلا يستجاب له، فإن صبر ورضي فسرعان ما يتبيَّن له خطؤُه، وأن الخير يكمن فيما اختاره الله تعالى له، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لو اطَّلعتم على ما في الغيب لرضيتم بالواقع» (متفق عليه).
في رحاب الآيات:
قال الله تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلٍ..} (21 الأنبياء آية 37) فالعجلة في طبع الإنسان وتكوينه، فهو يمدُّ بصره إلى ما وراء اللحظة الحاضرة، يريد أن يتحقَّق له كلُّ ما يخطر بباله، وكلُّ ما تصبو إليه نفسه، وقد يكون في ذلك ضرره، أو حتَّى هلاكه. إلا أن من امتلأ قلبه بحبِّ الله فإنه يثبت عند الشدائد، ويصبر، وَيَكِل الأمر لله فلا يتعجَّل قضاءه. ذلك أنَّ الإيمان ثقة وصبر واطمئنان، فالمؤمن يتعاطى الأسباب بالشكل الصحيح المدروس، ويخطِّط لكلِّ عمل يقوم به، ويعطي كلَّ مرحلة من مراحل التنفيذ حقَّها من الجهد والعمل والتطبيق؛ فيعمل بوعي وهدوء وإتقان، وبإمكانات عقلية متفتِّحة، وبذلك تصبح إمكانية الوقوع في الخطأ أقل، وهذا من شأنه أن ينظِّم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. فالمجتمع المبني على النظام يَحدُّ من تجاوز بعض أفراده لرقاب بعض، واتِّخاذهم مطيَّة للوصول إلى أهدافهم، فالتأنِّي والهدوء يجعلان العقل هو القائد وهو الرائد، والعجلة تجعل الهوى والشهوة هما المسيطران وهما الدافعان، ومتى كان الهوى يقود إلى الصواب؟ ومتى كانت الشهوة تنظر بعين الحق؟.(2/42)
وقد نهى الله جلَّ وعلا الإنسان عن العجلة الَّتي جُبِلَ عليها تكوينه، لأن له من الإرادة وحريَّة الاختيار، ما يجعله قادراً على امتلاك جماح نفسه، والنأي بها عن طريق الخطر. وهذا ليس من قبيل تكليفه بما لا يُطاق، بل إنه امتحان واختبار لإرادته، ولتمييز من امتثل أوامر ربِّه ممَّن ضرب بها عرض الحائط فخسر وندم، لذلك قيل: [إياكم والعجلة فإن العرب تكنِّيها أمَّ الندامات]، وقال آدم عليه السَّلام لأولاده: (كُلُّ عملٍ تريدون أن تعملوه فقفوا له ساعة، فإني لو وقفتُ ساعة لم يكن أصابني ما أصابني).
ومن أنواع العجلة أن يبالغ الإنسان في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أنَّ فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وإيذائه، وإنما يُقْدِم على ذلك العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور، غير متفحِّص لحقائقها وأسرارها. وقد يدعو على نفسه أو ولده عند الضجر أو اليأس بما يتمنَّى بعد خمود ثورة غضبه ألا يكون قد استجيب له، فالعاقل مَنْ يتحرَّى الهدوء وضبط الأعصاب ما أمكن، لأن في ذلك نجاحه واستقرار المجتمع الَّذي ينتمي إليه؛ وأن يسلِّم قيادته لله تعالى ويوكل أمره إليه، موقناً بأنَّه تعالى أدرى بمصلحته، وبما فيه خيره في دينه ودنياه ومعاشه وعاقبة أمره.
الفصل السابع:
إعمار بيوت الله
سورة النور(24)
قال الله تعالى: {في بيوتٍ أَذِنَ الله أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ(36) رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصَّلاة وإيتاء الزَّكاةِ يخافونَ يوماً تَتَقَلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار(37) ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا ويزيدَهُم من فضلهِ والله يرزقُ من يشاءُ بغير حساب(38)}
ومضات:
ـ بيت الله تعالى هو كلُّ مكان يجتمع فيه أصحاب القلوب المؤمنة لإقامة الصَّلاة، وذكر الله وتسبيحه، وللتعليم والتعلُّم، وتدارس كلِّ ما يفيد أمر الأمَّة، وتحسين أحوال المسلمين.(2/43)
ـ رُوَّاد هذه البيوت رجال ربانيُّون، تعمل أيديهم بالتجارة وغيرها من أسباب الرزق، بينما قلوبهم عامرة بذكر الله، وتقيم أجسادهم وأرواحهم الصَّلاة الحقيقية، فتراهم ينفقون وينيبون للواحد القهار خوفاً من يومٍ تنفطر فيه القلوب وتخشع الأبصار؛ يومٌ يجعل الولدان شيبا.
ـ يغدق الله تعالى على المؤمنين الذاكرين أفضل الجزاء، ويزيدهم من حسن كرمه رزقاً بغير حساب.
في رحاب الآيات:
النور الطليق الفائض والغامر في السموات والأرض، يتجلَّى ويتألَّق في بيوت العبادة الَّتي تتفرَّغ فيها القلوب للصلة بالله، وتتطلَّع إليه وتذكره وتخشاه، وتُخلص له وتؤْثِره على كلِّ ما سواه. هذه البيوت يمكن أن تكون المساجد، أو بيوت المسلمين، أو نوادي تجمُّعهم، أو أماكن عملهم؛ فالمقصود هو أن يحوِّلوا كلَّ مكان يجتمعون فيه، إلى مركز لذكر الله وتوحيده وتسبيحه وتمجيده.
تلك البيوت: {أَذِنَ الله أن تُرفَعَ} وإِذْنُ الله هو أمر نافذ، فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهَّرة رفيعة، يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألِّق في السموات والأرض، وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء، وتتهيأ بالبناء لتضُمَّ مجالس العلم والذِّكر والعبادة، وتتآلف معها القلوب المؤمنة الطاهرة، المسبِّحة الواجفة، المصلِّية الواهبة، قال تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليومِ الآخرِ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكاة ولم يخشَ إلاَّ الله فعسى أُولئكَ أن يكونوا من المهتدين} (9 التوبة آية 18). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» (رواه الترمذي وابن ماجه وابن خُزَيمة وابن حِبَّان في صحيحهما والحاكم).(2/44)
ولهذه البيوت حرمات وللإقامة فيها آداب، فعن السيدة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: باسم الله، والسَّلام على رسول الله، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله والصَّلاة على رسول الله، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك» (أخرجه الترمذي في سننه وقال حديث حسن). وروى الحكم بن عُمَيْر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كونوا في الدنيا أضيافاً، واتَّخذوا المساجد بيوتاً، وعوِّدوا قلوبكم الرِّقة، وأكثروا التفكُّر والبكاء، ولا تختلف بكم الأهواء، تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤمِّلون ما لا تدركون» (رواه مسلم). وكان المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرحاً للنشاطات البنَّاءة كافَّة ومنها:
ـ استقبال الوفود وإنزالهم فيه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم استقبل في مسجده وفد نصارى نجران، كما استقبل أيضاً وفد ثقيف، وضرب لهم قبَّةً فيه.
ـ إنزال بعض الأسرى فيه، أملاً أن تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ.
ـ اللهو المباح مثل المصارعة، ولعب الأحباش بالحراب، وإنشاد الشعر.(2/45)
ولخدمة المساجد وتطهيرها وتنظيفها وتعطيرها والقيام على شؤونها فضل كبير، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلُّون عليه، ويستغفرون له مادام ذلك الضوء فيه» (رواه الحرث بن أبي أمامة وأبو الشيخ). وقد أمر الله تعالى بتطهير هذه البيوت من النجاسات الحسيَّة والمعنوية، كاللغو وغيره، وأمر بذكره فيها، وإخلاص العبادة له. وأجمع العلماء على تعظيم المساجد ووجوب الحفاظ على حرمتها ومراعاة آداب دخولها. فمن حرمة المسجد أن يسلِّم الداخل وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يَسُلَّ فيه سهماً ولا سيفاً، ولا يطلب فيه ضالَّة، ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلَّم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطَّى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيِّق على أحد في الصفِّ، ولا يمرُّ بين يدي مصلٍّ، ولا يبصق، ولا يتنخَّم، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن يُنزِّهه عن النجاسات والصبيان والمجانين وإقامة الحدود، وأن يُكثر فيه ذِكر الله تعالى ولا يغفل عنه، فإذا فعل هذه الخصال فقد أدَّى حقَّ المسجد، وكان المسجد حرزاً له، وحصناً من الشيطان الرجيم.(2/46)
والله تعالى يصف عباده المؤمنين الَّذين يعمرون المساجد، بأنهم رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها، ولا بيعهم وتجارتهم عن ذِكر ربِّهم، وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع ممَّا في أيديهم، فما عندهم ينفد وما عند الله باق. وهم يؤدُّون الصَّلاة في مواقيتها على الوجه الَّذي رسمه الدِّين، ويؤتون الزَّكاة المفروضة عليهم تطهيراً لأموالهم وأنفسهم من الأرجاس. وليس في ذلك انصراف عن الدنيا، بل إنهم يجمعون بين الدِّين والدُّنيا معاً، بشكل متوازن متساوٍ ومتكافئ، فالرجل الصالح يعمل في البيع والشراء بهمَّة ومقدرة وذكاء، ويملك الدنيا بيده دون أن يتعلَّق بها قلبه المحصَّن بذِكر الله على الدوام، فإذا أوشك القلب أن ينشغل عن الله تأتي الصَّلاة القويمة لتعيده إلى طريق الذِّكر، وتغرس في حناياه مخافة يومٍ شديد البأس، تنفطر فيه القلوب وتزيغ الأبصار، هلعاً ورهبةً من محكمة ربِّ العالمين. ورعاية المسلم لأقربائه وأقرانه، وسائر أفراد مجتمعه، وخاصَّة الفقراء والمحتاجين منهم؛ يخفِّف عنه بأس هذا اليوم.(2/47)
ويبيِّن الله تعالى في هذه الآية للمؤمنين، مآل أمرهم وحسن عاقبتهم، فيقول: {ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا} أي على ما يقدِّمون من قربات محفوفة بالخوف من عذاب الله يوم القيامة، والرجاء في تقبُّل تلك القربات، كالتسبيح والذِّكر وإيتاء الزكاة، إلا أن الله لا يضيع أجر المحسنين، فيثيبهم على ما فعلوا من حسنات، وأعمال صالحة. وقد بيَّن الله حالهم تلك في قوله: {إنَّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قَمْطَريراً * فَوَقَاهُمُ الله شرَّ ذلك اليومِ ولقَّاهُمْ نَضْرَةً وسروراً * وجزاهُمْ بما صبروا جَنَّةً وحريراً} (76 الإنسان آية 10ـ12). وفي قوله تعالى: {ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا} إيحاء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفر لهم، أي يجزيهم على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة عفواً وغفراناً، قال تعالى: {من جاءَ بالحسنةِ فله عشرُ أمثالها..} (6 الأنعام آية 160) وقال أيضاً: {للَّذين أحسنوا الحُسنى وزيادة..} (10 يونس آية 26) وقال في حديث قدسي: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ) ثمَّ نبَّه الله تعالى إلى كمال قدرته وعظيم جوده، وسعة إحسانه بقوله: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم من الفضل الَّذي لا حدَّ له، في مقابل امتثالهم له، وخوفهم من قهره وشديد عذابه.
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله من آمَنَ بالله واليَومِ الآخِرِ وأقامَ الصَّلاة وآتى الزَّكَاةَ ولم يَخشَ إلاَّ الله فَعَسَى أولَئكَ أن يَكُونُوا من المُهتَدِينَ(18)}
سورة البقرة(2)
وقال أيضاً: {ومن أظلَمُ ممَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أن يُذكَرَ فيها اسمُهُ وسَعى في خَرابِها أولَئِكَ ما كان لَهُم أن يَدخُلُوها إلاَّ خَائِفينَ لهم في الدُّنيا خِزيٌ ولهم في الآخِرةِ عَذابٌ عَظيمٌ(114)}
ومضات:(2/48)
ـ مساجد الله تعالى هي البقع الطاهرة من الأرض، الَّتي يتَّخذها الناس مراكز للعبادة، يتعلَّمون فيها مبادئ دينهم وتعاليمه، ويتدارسون أمور بعضهم بعضاً.
ـ تستقيم عمارة المساجد بارتيادها من قبل المؤمنين الموحِّدين الموقنين بالآخرة، الَّذين يقيمون الصَّلاة كما يجب أن تقام، ويؤتون ما فرضه الله تعالى في أموالهم من حقوق للفقراء.
ـ الإنسان الَّذي تمكَّن الإيمان من قلبه، مطمئن بالله لا يساوره القلق أو الخوف من غيره.
ـ الوظيفة المنوطة بالمساجد هي ذِكر الله تعالى في رحابها، فالَّذين يمنعون الناس من الصَّلاة أو قراءة القرآن أو الذِّكر الخاشع، قد اقترفوا إثماً لا يفوقه ظلم أو اعتداء، لأنَّهم يعتدون بذلك على حقٍّ من حقوق الله تعالى يقوم عليه بناء المجتمع وإعماره. وكان حريٌّ بهم أن يدخلوا المساجد بقلوب وَجِلة خاشعة من هيبة الله تعالى، وبما أنهم أساؤوا وأفسدوا، فإنهم يدخلونها محاطين بسوء عملهم، ولو أنهم علموا سوء عاقبتهم لاعتصر الهلع والفزع قلوبهم، فهم سيلاقون الخِزْي والعار في الدنيا، ثمَّ ينقلبون إلى عذابٍ أليم في الآخرة.
في رحاب الآيات:
كانت بيوت الله ـ وما تزال ـ مراكز تجمُّع للمؤمنين، وأمكنة تلتقي فيها مشاعرهم، وتتوثَّق روابط قلوبهم، وتتصعَّد فيها ميولهم وتسمو، وهي أيضاً ملتقيات لدراسة أمور المجتمع، ووضع الحلول لمشاكله الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والماديَّة، لذلك فقد حظيت بالأهميَّة البالغة لدى من أدرك قيمة رسالتها.(2/49)
والمساجد لا تُقيَّم بفخامة بنيانها، وبديع هندستها، وروعة زخرفتها، وإنفاق الأموال الطائلة على حجارةٍ مرصوفة، وزخارف منقوشة فيها، ولا قباب متعالية، ومآذن متطاولة، وطنافس مفروشة، ومصابيح مدلاَّة، بل إن عمارة المساجد تُقَيَّم بالعلماء الصادقين الَّذين يؤمُّون الناس فيها، العاملين على نشر العلم بفروعه، وعلى هداية البشر، وتذكيرهم بخالقهم وإخلاص العبادة له، وبذلك يُخَرِّجون بناة للأمَّة ودعاة للأُخوَّة والسَّلام، والمحبَّة والوئام، بين أفراد المجتمع بكلِّ طوائفه وطبقاته، ودون تمييز عنصري أو طبقي لكي تسود المحبَّة والأُلْفة والسعادة والرحمة بين الجميع، وبهذا تكون المساجد مراكز إشعاع إيماني وحضاري وفكري.(2/50)
ويعمِّر المسجد من كان يملك القدرة على تحقيق المعاني السابقة والدعوة إليها وكان قلبه عامراً بالإيمان بوحدانيَّة الله، موقناً أن الله تعالى هو المهيمن على ما في الوجود، وأنه الربُّ المعبود، ولا معبود سواه، وأن ثَمَّةَ يوماً ترجع فيه الخلائق إلى بارئها، ويُنصب ميزان العدل، وتُوزن أعمال العباد بالقسطاس المستقيم. ذلك المعمِّر هو مؤمن خاشع عاقل، متعلِّق القلب بالله، فهو إن صلَّى، فالانسجام يقود حركة جسده وتسبيح قلبه، وإن ركع فهو يركع بجسمه، وبروحه، وإن سجد فقد أيقن أنه يسجد على أعتاب الرحمن، فلا شرود ولا استغراق في وساوس النفس، وإن خرج من المسجد ليمارس حياته العمليَّة لازمته خشية الله؛ فلا ظلم ولا تظالم، بل قلب رحيم يصبو إلى إسعاد مخلوقات الله، لا يهدأ من العمل الدؤوب من أجل بناء المجتمع الفاضل، القائم على العلم والتَّراحم والتآخي. وإن تعرَّض لامتحان صمد، وله من إيمانه السند، ومن ربِّه المدد، لذلك فهو يتبع الحقَّ وهو موقن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن سلطان الله هو الأقوى والأبقى، فهو قويٌّ بالله لا يخشى سواه. ومن توافرت فيه هذه الأخلاق ممَّن يعمرون مساجد الله فلن يضنَّ الله عليه بالهدى والرضا، وسيُدرج اسمه في قائمة الأبرار المهتدين، قال صلى الله عليه وسلم : «إن عُمَّار بيوت الله هم أهل بيوت الله» (رواه الطبراني مرفوعاً) وقال أيضاً: «من توضَّأ في بيته فأحسن الوضوء، ثمَّ أتى المسجد فهو زائر الله وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر» (رواه الطبراني).(2/51)
وفي مُقابل أعمال البناء والعطاء، هناك نشاطات الهدم والتخريب، إذ أن فريقاً من الناس قد غشيهم الظلام، فأصابهم منه ما أصابهم، جعلوا دأبهم إطفاء شعلة الإيمان، وإخماد صوت الحقِّ، فركَّزوا حملاتهم على تشويه تعاليم الشريعة السمحة بالتطرُّف والمغالاة، وإساءة استعمال بيوت الله في غير ما أقيمت له، وسعوا في تخريبها؛ خراباً معنويّاً بدسِّ الفتن بين أبنائها، وتشويه معتقداتهم، وتشكيكهم بتعاليم شريعتهم. ليس لهم غرض إلا إشباع ميولهم العدوانيَّة بدافع الحسد لأولئك المُنْضَوِين تحت ظلِّ الله، فهم كالحشرات الضارَّة الَّتي لا تنسجم مع كلِّ نظيف وأصيل. ولكنَّ هؤلاء المخرِّبين يعرفون ـ ضمناً ـ أنَّهم يحاربون قوَّة لا قِبَل لهم بها، هي قوَّة الله، لذلك تراهم خائفين قلقين، وهذا طبيعي، فالعين تنكسر أمام الحقِّ، والهَامَة تنحني أمام جلاله، فهم وإن لم يتراجعوا ظاهريّاً، فإنهم ممزَّقون من داخلهم، يخافون أن ينكشف عنهم الحجاب، ويتعرَّوا أمام الخلائق، وكان يجدر بهم أن يراعوا حرمات مساجد الله، فيدخلوها منكِّسي رؤوسهم، خافضي أبصارهم خجلاً من صَغارهم أمام عظمة الله، أَمَا وإنهم لم يفعلوا فإنَّ لهم في الدنيا خزياً، ولهم في الآخرة عذاباً عظيماً.
وهذا الحديث يقودنا إلى تقليب صفحات التاريخ لنجد أن الإسلام قد حافظ على حرمات المعابد أنَّى وُجدت، وأباح لغير المسلمين حريَّة العبادة، وأوصى جنوده في الحرب ألا يعتدوا عليها، وألا يتعرَّضوا لرجال الدِّين، بل أمرهم بأن يتركوهم وما يعبدون. وتعتبر وصية الخليفة الراشدي الأوَّل أبي بكر رضي الله عنه لجنوده المتوجِّهين إلى الشام لدعوة الرومان إلى الإسلام، وثيقة هامَّة في هذا المجال، حيث يقول: (وإنكم ستمرُّون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، سيروا على بركة الله).
الفصل الثامن:
الرضا بالقضاء والقدر
سورة يونس(10)(2/52)
قال الله تعالى: {وإن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فلا كاشفَ له إلاَّ هوَ وإن يُرِدْكَ بخيرٍ فلا رادَّ لفضلهِ يُصيبُ به من يشاءُ من عبادهِ وهو الغفورُ الرَّحيم(107) قُل ياأيُّها النَّاسُ قد جاءكُمُ الحقُّ من ربِّكُمْ فمن اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسهِ ومن ضلَّ فإنَّما يَضِلُّ عليها وما أنا عليكُم بوكيل(108)}
ومضات:
ـ مقاليد أمور الخلق، وتصاريف أقدارهم بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الَّذي قدَّر ما هو كائن لهم أو عليهم، وهو الَّذي قسم بينهم أرزاقهم ولا رادَّ لإرادته.
ـ الخير والشرُّ مفهومان متناقضان يصيب الله بهما من يشاء من عباده، ويكونان كجزاء عادل على أعمالهم في أغلب الأحيان، وقد يوجَّهان من الله إليهم ليبلُوَهم ويختبرهم، أيُّهم يحسن التصرُّف بالخير حين جريانه بين يديه، وأيُّهم يحسن الصبر على الضُّرِّ إذا أصابه، ثمَّ يجازيهم أو يثيبهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة حسبما يستحقُّون.
ـ المؤمن هو المستفيد الأوَّل من ثمرات هدايته واتِّباعه تعاليم الحضرة الإلهيَّة، والضالُّ هو أوَّل من يعاني من آثار تعنُّته وفجوره، والله غنيٌّ عن إيماننا ولا يضرُّه ضلالنا.
في رحاب الآيات:(2/53)
إذا خرج الإنسان عن قواعد الله وتعاليمه الحكيمة الَّتي وضعها من أجل سلامته وسعادته، فإنه سيلقى عقاب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً. هذا هو قانونه الأزلي، قانون الثواب والعقاب، فعمل الإنسان إمَّا أن يؤدِّي به إلى الإضرار بنفسه أو إلى خير يصيبه، وتضطلع إرادة الله المطلقة في تقدير الأمور، وتبقى النتيجة والمسؤولية متعلِّقة بإرادة الإنسان واختياره الشخصي؛ فإن زكَّى نفسه فقد أفلح، وإن أهلكها بالمخالفات والمعاصي فقد خاب وهلك. لذلك جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الخير ليعلِّمَنا كيف ننقذ أنفسنا من دائرة عذاب الله، فقال: «اطلبوا الخير دهْرَكُم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله تعالى، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوه أن يستر عوراتكم ويؤمِّن روعاتكم» (أخرجه البيهقي).(2/54)
وقد يسأل أحدهم: إذا كان الله يقدِّر الخير للطائعين والشرَّ للعاصين، فلماذا نرى الكثير من المؤمنين الطائعين وقد ابتُلُوا بمصائب مختلفة، كالمرض أو الفقر أو فَقْدِ الولد وغير ذلك، بينما نرى من العاصين من يغرق في النعيم والخيرات؟ والجواب نسوقه من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سرَّاءُ شكر وكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر وكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن» (رواه مسلم مرفوعاً) فالله تعالى إذا أحبَّ عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه، وكلَّما ازداد صبراً وشكراً ارتقت درجته عند الله. ولا يزال المؤمن بين شكر على النعم وصبر على المحن حتَّى ينال درجة الأبرار والصدِّيقين، قال صلى الله عليه وسلم : «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمَّ الأمثل فالأمثل. يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء الإنسان حتَّى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (أخرجه الترمذي). وأيّاً كان قضاء الله تعالى في المؤمن فإنه يرضى به لأنه لا رادَّ لقضائه، فلو اجتمع الناس جميعاً على أن يدفعوا عنه ضُرّاً قد كتبه الله عليه فإنهم لن يردُّوه، ولو اجتمعوا على أن يمنعوا عنه خيراً قدَّره له فإنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وقد أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه: «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء» (أخرجه الطبراني عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه )، والرضا أعلى درجة من الصبر.(2/55)
وأمَّا الكفار والمتمرِّدون فقد يزيد لهم الله تعالى من أسباب النعيم والقوَّة، ما يجعلهم يزدادون ظلماً وطغياناً، حتَّى يستحقُّوا عظيم العقاب، قال تعالى يتوعَّدهم: {وذَرْنِي والمكذِّبينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قليلاً * إنَّ لَدَينا أَنْكَالاً وجحيماً} (73 المُزَّمل آية 11ـ12) وقال أيضاً: {ذَرْنِي ومن خَلَقتُ وحيداً * وجعَلْتُ له مالاً ممدوداً * وبَنِينَ شُهوداً * ومَهَّدت له تمهيداً * ثمَّ يطمعُ أن أَزيدَ * كلاَّ إنَّه كان لآياتنا عنيداً * سأُرْهِقُهُ صَعُوداً} (74 المُدَّثر آية 11ـ17) وهكذا فإنك ترى أن هذه النعم الدنيوية ما هي إلا امتحان يريد الله به اختبارنا أيُّنا أحسن عملاً، ومع ذلك فإنه تعالى يختصُّ برحمته من يشاء لنفسه الهداية، فيهديه إلى سواء السبيل.
إن نداء الله عامٌّ شامل، وقد نزل القرآن للناس كافَّةً دون تخصيص المؤمنين، لذلك فهو يدعوهم جميعاً إلى تدبُّره، سواء من سمع هذه الدعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أم مِنَ الدعاة بعده إلى أن تقوم الساعة؛ فقد أرسل الله القرآن هدىً ونوراً، ولو أن الناس اطَّلعوا على ما في ثناياه من الحكمة والموعظة لم يخالفوه، ومن سلك سبيل الحقِّ وصدَّق بما جاء من عند الله فإن الفائدة عائدة إليه، ومن اعْوَجَّ وأعرض، فإن وبال ضلاله عائد على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء، وما يصيبه من العذاب. إنها دعوة صريحة وواضحة، ولكلٍّ أن يختار لنفسه ما يشاء، وما الرسول أو الداعي إلا مبلِّغين عن الله، وليسا مكلَّفين بسوق الناس إلى الهدى كُرْهاً، بل إنَّ أمْرَ هداهم وضلالهم موكَّل إلى إرادتهم واختيارهم، وقد كتب الله لهم أو عليهم ما علمه من اختيارهم، ضمن إطار إرادته سبحانه، فلا يحدث شيء في هذا الكون إلا بإرادته.
سورة الحديد(57)(2/56)
قال الله تعالى: {ما أصابَ من مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفُسِكُمْ إلاَّ في كتابٍ من قَبْلِ أن نبرَأَهَا إنَّ ذلك على الله يسيرٌ(22) لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتكم ولا تفرَحُوا بما آتاكُمْ والله لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فخور(23)}
ومضات:
ـ إن اعتقاد المؤمن أنه يتحرَّك ضمن دائرة الإرادة الإلهيَّة، يعطيه شعوراً بالاطمئنان أنَّ أمور الحياة مرتَّبة من قِبَل ربِّ العالمين، ومقدَّرة من لَدُنْ عليم حكيم، منذ خلق الأكوان وأراد لهذه الخليقة أن تكون. وهذا الشعور بالإحاطة الإلهيَّة يعطيه التوازن في عواطفه وردود أفعاله، فتكون معتدلة لا تطرُّف فيها، سواء في حالات الحزن أو الفرح، بحيث يمضي مع قدر الله في طواعية ورضا.
ـ إن الله تعالى لا يحبُّ من يختال طرباً، متباهياً بين أقرانه بما حَصَّل عليه من نعيم وعطاء متميزين، ناسباً الفضل لنفسه فيما آتاه الله، ناسياً فضل ربِّ العالمين في تقدير الأرزاق والأعمار بين الناس أجمعين.
في رحاب الآيات:(2/57)
مَن للإنسان يحملُ عنه همومه ومصائبه وآلامه غير إيمانه القوي بحضرة الله؟؛ فكثيرٌ من الناسِ يُصابون بانهيارات عصبيَّة، أو أزمات قلبيَّة بمجرَّد تعرُّضهم لنكبة تقضُّ مضجعهم. أمَّا العبوديَّة الحقيقية لله فهي تعين المرء على الاستسلام الكامل لإرادة الحضرة الإلهيَّة، فما نحن سوى مؤتمنين من قِبَلِه عزَّ وجل على أنفسنا ومالنا وأهلنا، ولنا حقُّ الإدارة دون حقِّ الملكية المطلقة، لأننا وما نملك مِلك للمالك الأحد الفرد الصمد. وهذا الوجود هو من الدِّقة والتنظيم بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدَّر منذ تصميمه، محسوب حسابه في كيانه، لا مكان فيه للمصادفة، فقبل خلق الأرض وخلق الأنفس، كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كلُّ حدث سيظهر للخلائق في وقته المعيَّن، وفي علم الله لا شيء ماضٍ، ولا شيء حاضرٌ، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنيَّة إنما هي معالم لنا ـ نحن أبناء الفَناء ـ نرى بها حدود الأشياء، إذ لا ندرك الأشياء بغير حدود تميِّزها، حدود من الزمان، وحدود من المكان. وكلُّ حادث من خير أو شرٍّ يقع في الأرض هو في ذلك الكتاب الأزلي، من قبل ظهور الأرض في صورتها الَّتي ظهرت بها: {إنَّ ذلك على الله يسير}، ومن شأن معرفة هذه الحقيقة في النفس البشرية، أن تسكب فيها الطمأنينة عند استقبال الأحداث، خيرها وشرِّها، تلك الطمأنينة بالله، الَّتي يبحث عنها الملايين من البشر المنكوبين، لأن فيها تهدئة للعواطف، فلا فرح طاغٍ، ولا حزن مُدمِّر، بل عواطف متوازنة، متماسكة، تضع المرء في حجمه الحقيقي دون مباهاة ولا تفاخر، فالَّذي أعطى قادر على أن يأخذ، والَّذي وهب قادر على أن يمنع، وكلُّنا لا حول لنا ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم. قال عكرمة رضي الله عنه : (ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً) وهذا هو الاعتدال الَّذي يتمتَّع به المسلم الحقيقي.(2/58)
إن هذه العقيدة الَّتي تملأ نفس المؤمن، هي من أعظم العلاجات لآثار الحوادث المؤلمة الَّتي تصادف الإنسان في حياته، وهي في الوقت نفسه، تُعَدُّ من أشدِّ العوامل الإيجابيَّة في النظر إلى المستقبل، حيث يُقبِل الإنسان على عمله ومسؤولياته وهو واثق بأن عمله لن يذهب سدى، فإن هو نجح فقد حقَّق مراده، وقطف ثمرات سعيه، وشكر الله المنعم، فكان خيراً له، وإن حال بينه وبين هدفه عارض سلبي، من مرض أو خسارة أو ما شابه ذلك، علم أن ذلك مقدَّر كائن ولا يستطيع دفعه مهما بذل، وليس له ملاذٌ إلا الصبر فكان الصبر خيراً له، لأن من ثمار الصبر الأجر والمثوبة عند الله من جهة، والحفاظ على الأعصاب والملكات والصحَّة من جهة أخرى. وهكذا يُقْبِل المؤمن وكلُّه ثقة بالله عزَّ وجل على المستقبل، بكامل طاقاته وملكاته، ممَّا يهيِّئ له الفرصة للفوز والنجاح وتحقيق الأهداف، بعيداً عن التقاعس واليأس والقنوط.
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {ولا تقولنَّ لشيء إنِّي فاعلٌ ذلك غداً(23) إلاَّ أن يشاءَ الله واذكرْ ربَّكَ إذا نسيتَ وقُلْ عسى أن يهدِيَنِ ربِّي لأقربَ من هذا رَشَداً(24)}
ومضات:
ـ إنَّ ربط المؤمن مشيئته بمشيئة الله عزَّ وجل، حالة روحية تذكِّره بالله في كلِّ حين، وتخلق لديه شعوراً بالثقة والطمأنينة والتسليم، وهذا لا يتنافى مع الدراسة والتخطيط المسبق الدقيق لأمور حياته كافَّة.
ـ يُرجِع بعض الناس أسباب تراخيهم وكسلهم إلى الإرادة الإلهيَّة، بقولهم (لو شاء الله لفعلنا) وهذا فهم خاطئ للعقيدة، فلو فعلوا لوجدوا أن الله قد شاء، ولا يمنعهم من تنفيذ ما أرادوه، فقد ترك لهم حرية الاختيار والعمل.
في رحاب الآيات:(2/59)
إن كلَّ عمل من أعمال الكائن الحي مرهون بإرادة الله، وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان دون تفكير في أمر المستقبل أو التدبير له، بل من المفروض في الإنسان العاقل أن يخطِّط لأموره كلِّها، ويبرمجها وفق نظام يتقيَّد به، وبذلك يستثمر كلَّ أوقاته بشكل مُجْدٍ لا هدر فيه. ولكن يجب أن لا يغيب عن باله أنه يعيش أصلاً ضمن المخطَّط الإلهي، وهذا يعني أن يحسب حساب الغيب، وحساب المشيئة الَّتي تدبِّره، وأن يعزم ويستعين بمشيئة الله، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره، فإن جرت مشيئة الله بغير ما دبَّر لم يحزن ولم ييئس لأن الأمر لله أوَّلاً وأخيراً.(2/60)
فالموت حقٌّ ويمكن أن يقع في أيَّة لحظة، والحوادث يمكن أن تعترض المرء في أيِّ مكان، والأمراض يمكن أن تنزل به على حين غِرَّة، لذا فإن تنفيذ رغباته مرهون أبداً بقوى تحيط به قد لا يستطيع التصرُّف أو التحكُّم فيها. ومن هنا كان على الإنسان الابتعاد عن الحتميَّة في قراراته، وأن يربط إرادته بإرادة الله، وأن يَعِدَ بتنفيذ الأمور المخطَّط لها أو الموعود بها بعد ربطها بمشيئة الله، فيقول: سأفعل بإذن الله؛ حتَّى وإن أقسم على فعلٍ وهو واثق بأنه لابدَّ فاعله، فليقرن يمينه بمشيئة الله، لعلَّه أن يعترضه ما يمنعه من أن يبرَّ بقسمه، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير حانث» (أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي)، وبهذا يستمرُّ الارتباط الروحي بين العبد وخالقه، وبين الأسباب ومسبِّبها. هذا هو المنهج الَّذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم، فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكِّر ويدبِّر، ولا يُحِسُّ بالغرور وهو يفلح وينجح، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق، بل يبقى في كلِّ أحواله متَّصلاً بالله، قويّاً بالاعتماد عليه، شاكراً لتوفيقه إيَّاه، مسلِّماً بقضائه وقدره. وإن دوام إعمار القلب بذكر الله يُمَتِّن أواصر هذا الارتباط، ويعمِّق جذوره، وبه يحصل المؤمن على الطمأنينة، فلا يشعر بالهلع والجزع عندما تخرج الأمور من يده، وفي الوقت نفسه لا يتوانى عن مواصلة تعاطي الأسباب والمسبَّبات، ولا يُحِسُّ بكسلٍ أو تراخٍ، بل يشعر بالثقة والقوَّة لأنه لائذٌ بربه، راضٍ بقضائه، فإذا انكشف له تدبير الله المخالف لتدبيره، فإنه سيقبل قضاءه بالرضا والتسليم.
---------------(2/61)
الباب السابع -التربية الأخلاقية في الإسلام
الفصل الأوَّل:تزكية النفس
سورة الشمس(91)
قال الله تعالى: {ونَفْسٍ وما سوَّاها(7) فألهَمَهَا فُجورَهَا وتقواها(8) قدْ أفلحَ من زكَّاها(9) وقد خابَ من دسَّاها(10)}
ومضات:
ـ تقوم التربية الأخلاقية في الإسلام على تزكية النفس، الَّتي تعني التخلِّي عن الأخلاق الذميمة والعادات السيئة، والتحلِّي بكلِّ خُلُق فاضل لتصبح النفس طاهرة نقية، ويكون صلاحها في الفرد عنوان صلاح المجتمع.
ـ تعكس هذه الآيات الكريمة حقيقة الوجود النفسي في الإنسان، فهو مخلوق ذو استعدادات متوازية لاستقبال المؤثِّرات الخيِّرة والشرِّيرة على السواء.
ـ قد فاز من أعمل أجهزة التقاط المؤثِّرات الخيِّرة لديه فرجح خيره على شرِّه، وانعكس تزكية وتطهيراً بمحبَّة الله وذكره، وقد خاب من عطَّلها وجعل مؤثِّرات الشرِّ تغلبه، فلوَّث نفسه بالمعاصي ودنَّسها بالآثام.
في رحاب الآيات:
من خلال هذه الآيات الكريمة تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بأوضح معالمها، فالكائن البشري بنظر الإسلام مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعدادات، مزدوج الاتجاهات، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه، مزوَّد باستعدادات متساوية للخير والشرِّ، والهدى والضلال، وهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شرٌّ، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشرِّ، وهذه القدرة كامنة فيه يعبِّر عنها القرآن الكريم بالإلهام تارة في قوله تعالى: {ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فُجورَها وتقواها}، وبالهداية تارة أخرى في قوله تعالى: {وهديناهُ النَّجدين} (90 البلد آية 10)، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية، إنَّما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجِّهها هنا أو هناك، ولكنَّها لا تخلقها خلقاً لأنها مخلوقة بالفطرة، وكائنة بالطبع، وكامنة بالإلهام.(2/62)
فالنفس البشرية تُخْلَق على الفطرة، وكأنَّها أرض خصبة صالحة لإنبات أيِّ بذور تُزرع فيها، وهنا يكمن دور الوالدين والعائلة والمجتمع في التأثير على شخصية الإنسان واستعداده. وحين يصبح في سنِّ البلوغ يمسك قراره بيده، فله عقله وتفكيره، وله حرِّيته ملء إرادته في زرع أرض نفسه بما شاء وكيفما شاء. فإن انتقى بذور الخير والإيمان ومحبَّة الله تعالى والخلائق، فقد نجح وأفلح في مهمَّته الَّتي خُلق من أجلها، لأنه بذلك يكون قد ربَّى نفسه ونمَّاها، حتَّى بلغت غاية ما هي مستعدَّة له من الكمال العقلي والعملي، وأثمرت بذلك الثمر الطيِّب لها ولمن حولها. وإن هو أهمل هذا الاختيار وترك لنفسه العنان، وسار بها على درب الفساد والإفساد فقد خاب مسعاه، وفشل في مهمَّته، وخسر نفسه وأوقعها في التَّهلُكة بفعل المعاصي ومجانبة الطاعات، وبذلك يكون قد هوَّن من شأن القوَّة العاقلة الَّتي اختُصَّ بها بوصفه إنساناً، واندرج في عداد الخاطئين المسيئين لاستعمال قوانين الله.(2/63)
هناك إذن تبعة مرتَّبة على منح الإنسان هذه القوَّة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه؛ توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشرِّ على السواء. ومن رحمة الله بالإنسان أنه لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوَّة الواعية المالكة للتصرُّف وحدهما، بل أعانه بالرسالات الَّتي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، فيبصر الحقَّ في صورته الحقيقيَّة، وبذلك يتَّضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا خفاء فيه ولا شبهة. أخرج الطبراني عن ابن عباس t قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذه الآية: {ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فجورها وتقواها} وقف ثمَّ قال: اللهم آتِ نفسي تقواها، أنت وليُّها ومولاها، وأنت خير من زكَّاها»، فتزكية النفس هدف من أهداف الرسالات السماوية، وغايتها الارتقاء بالطبائع الإنسانية حتَّى تصبح أقرب إلى الملائكية، وتخليص الإنسان من سيطرة سلطان الأهواء والشهوات، لتكون الفضائلُ كالصدق والأمانة، والتَّواضُع والإيثار، والاستقامة ونحوها؛ مُثُلاً عليا تقود مسيرته في الحياة، وتوجِّه سلوكه بحيث لا يخرج عن إطار التربية الأخلاقية.
ومن خلال الفصول القادمة سنتناول بإذن الله، بعض الأخلاق، وقيمتها التربويَّة في الإسلام بشيء من التفصيل.
الفصل الثاني:
التواضع
سورة الكهف(18)(2/64)
قال الله تعالى: {واضرِبْ لهم مَثَلاً رجُلَيْنِ جعلنا لأحدِهِمَا جَنَّتينِ من أعنابٍ وحَفَفناهُما بنخلٍ وجعلنا بينهما زَرْعاً(32) كِلتا الجنَّتين آتَتْ أُكُلَها ولم تظلِمْ منه شيئاً وفجَّرنا خلالَهُما نَهَراً(33) وكان له ثمرٌ فقال لصاحبهِ وهوَ يُحاوِرُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعَزُّ نَفَراً(34) ودخلَ جنَّتهُ وهوَ ظالِمٌ لنفسهِ قال ما أظنُّ أن تَبِيدَ هذه أبداً(35) وما أظنُّ السَّاعَةَ قائمَةً ولئِنْ رُدِدتُ إلى ربِّي لأجِدَنَّ خيراً منها مُنْقَلَباً(36) قال له صاحبُهُ وهوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بالَّذي خَلَقَكَ من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ سوَّاكَ رجُلاً(37) لكِنَّا هوَ الله ربِّي ولا أُشركُ بربِّي أحداً(38) ولولا إذْ دخلتَ جنَّتَكَ قلتَ ما شاءَ الله لا قوَّة إلاَّ بالله إن تَرَنِ أنا أقلَّ منكَ مالاً وولداً(39) فعسى ربِّي أن يُؤْتِيَنِ خيراً من جنَّتِكَ ويُرْسِلَ عليها حُسْبَاناً من السَّماءِ فتصبِحَ صَعيداً زَلَقاً(40) أو يُصبحَ ماؤُهَا غَوراً فلن تستطيعَ له طَلَباً(41) وأُحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقلِّبُ كفَّيهِ على ما أنفقَ فيها وهي خاويةٌ على عُرُوشِهَا ويقولُ ياليتني لم أُشْرِكْ بربِّي أحداً(42) ولم تكنْ له فئةٌ ينصرونَهُ من دُونِ الله وما كان مُنتصراً(43) هُنالِكَ الوَلايَةُ لله الحقِّ هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقْباً(44)}
ومضات:
ـ هذه قصَّة إنسان قَوَّم نفسه على أساس ما يملكه، من أموال وذريَّة وعقارات، ولبس رداء الغرور والأماني، وكأنَّ الله تعالى يُعجِزُهُ أن يحصي ممتلكاته، وأن يقضي عليها بالدَّمار والزوال، عقوبة له على تجبُّره وتعاليه.
ـ يجب أن نقف دائماً متواضعين على أعتاب الله عزَّ وجل، معترفين له بالقدرة على العطاء والمنع، فإن أعطانا شكرنا، وإن مَنَعَنَا صبرنا، له الولاية والأمر، وعلينا الامتثال والصبر.
في رحاب الآيات:(2/65)
هذه الرائعة القرآنية تقدِّم لنا عرضاً تصويرياً لما ينتاب الإنسان من غرور أو تكبُّر عند شعوره بالغنى والجاه، تلك الظاهرة الَّتي لا تزال تتكرَّر في حياة الإنسان ما دامت الحياة قائمة. إنها ملحمة الوجود تُختَزَل في أسطر قليلة تصوِّر الحرب الضروس بين الخير والشرِّ، بين من انتمى إلى جناب الرحمن، وبين من انحاز إلى مكر الشيطان. وهي قصَّة تضعنا على مفترق طريقين، ثمَّ تبيِّن لنا بوضوح نهاية كلِّ طريق منهما، طريق الأمن والأمان الموصل إلى الله، وطريق الشرِّ والفساد الموصل إلى ظلمات بعضها فوق بعض، وما على الإنسان إلا أن يختار.
إنها قصَّة الإنسان صاحب الثروة والمال الوفير، وقد ظنَّ أنه ملَك الدنيا، فلا فقر يؤرِّقه ولا تعاسة تصيبه بعد اليوم، ونسي أن الكثير من الأغنياء المترفين فقدوا ثرواتهم بين عشيَّة وضحاها لأسباب مختلفة، وأن المرء مهما اجتهد في توزيع أمواله ضمن استثمارات مختلفة، تحسُّباً للطوارئ المهلكة، فإنه لابدَّ أن يأتيه يوم يترك فيه ثروته، إن لم تتركه هي، ويُعْرَض على حضرة الله مجرَّداً من كلِّ شيء إلا من أعماله.(2/66)
وتبدأ القصَّة بوصف مظاهر الازدهار والثَّراء، فالدنيا مقبلة، والنعمة موفورة يملكها رجل أفاء الله عليه من خيره لعلَّه يتذكَّر ويشكر. امتلك جنَّتين ارتفعت فيهما الكروم وسمقت، وتدلَّت عناقيدها كحبَّات الياقوت تسرُّ الناظرين، وتُسيل لعاب الجائعين، ومن وراء الكروم ضربت أشجار النخيل طوقاً حولها، وكأنها حارس أمين يحميها من أنظار المتطفلين، وتحت الكروم والنخيل امتدَّت النباتات تغطِّي الأرض بخضرة زُمرديَّة مبهجة للنفس، منبِّهة للحسِّ، جالبة للفرح، وبين الثمار والأشجار شَقَّ الماء مجراه على شكل نهر متموِّج يفيض بالخير على المزروعات، ويوقد فيها شعلة الحياة. كلتا الجنَّتين طرحتا محصولهما في الوقت المحدَّد دون أيِّ نقص، وعهدُنا بالأشجار أنها تعطي عاماً وتقصِّر عاماً، ولكنَّ استدراج الله لهذا المتكبِّر جعله يستوفي محصوله كاملاً عاماً بعد عام. ولمَّا التقى بصاحبه الفقير الَّذي أخذ يذكِّره بنعم الله عليه، استعلى وتكبَّر، وكان بينهما حوار يتَّسم بالغرور والجحود بنعم الله؛ من جهة صاحب المال، حيث قال وقد صَعَّر خدَّه: أنا أفضل منك بكثير، فمالي وفير ورهطي كبير، أمَّا أنت فقد أتلفت مالك في الإنفاق على الناس، فأين هؤلاء الَّذين تصدقت عليهم؟ هل يقدِّمون لك معونة في محنتك؟. ثمَّ أخذ بيد صاحبه باستعلاء وبدأ يجول به في أنحاء جنَّتيه، ونفسه قد ركبت مركب الغرور حتَّى كادت تطير؛ وقال: انظر إلى هذا النعيم هل من الممكن أن يزول؟ وما لي أراك تحدِّثني عن الآخرة، وعن قيام السَّاعة والحساب؟ إنني أستبعد هذا الأمر، وهل معك دليل على صدقك؟ ولنفرض أن هذا حدث، وأنني رجعت إلى ربِّي، هل تظنُّ أنه سيحرمني بعد أن ملكت كلَّ هذا في الدنيا؟ لا بل إنه سيعطيني بدل الجنَّة جنَّات، وما الحياة الدنيا إلا عنوان للآخرة المزعومة. قال العبد المؤمن محاوراً متأنِّياً علَّه يحرِّك ولو قليلاً من الإيمان في قلب صاحبه: هل نسيت الخالق(2/67)
الَّذي أنعم عليك بهذا النعيم، وهل أنكرت قيام الساعة الَّتي أخبرنا الله بها على لسان أنبيائه؟ هل نسيت كيف خلقك الله ولم تكُ شيئاً؟، لقد خلقك من مكوّنات التراب ثمَّ جعلك نطفة في قرار مكين، ثمَّ حوَّل هذه النطفة المهينة إلى إنسان سويٍّ قادر مقتدر، فإذا به يكفر بنعم خالقه؛ أمَّا أنا فإن لي من إيماني الكفاية، وأقولها معترفاً منيباً بأن الله هو ربِّي وخالقي ومالك أمري، وأنا أنزِّهه عن أن أشرك به مالاً أو ولداً أو حبّاً للدنيا. ثمَّ يخاطبه بلسان المعلِّم الرؤوف الَّذي يمدُّ يد المساعدة لمن جرفه تيَّار الحياة، يبثُّ تعاليمه بحبٍّ ورأفة، فيقول لصاحبه: هَلاَّ إذ دخلت جنَّتك قلت: ما شاء الله لا قوَّة إلا بالله، فالخير كلُّه بيده، وهو وحده الخالق القادر؛ إنك تراني فقير الحال، قليل المال والعيال، ولكنَّ ثقتي بالله لا حدود لها، وهو قادر على أن يعوِّضني خيراً من جنَّتك، وعندي من اليقين ما يملأ قلبي بأن أموالك تلك فتنة لك، وأنَّ الله قادر على إبادتها حين يشاء، فقد يرسل عليها مطراً يقتلع نباتاتها وتصبح أرضها طيناً خاوية، أو أن تغور مياهها في باطن الأرض، فلا تستطيع الحصول عليها مهما بذلت من مال وجهد، فتجفَّ أشجارها وتفقد خضرتها وحياتها.(2/68)
ويُسدل الستار على ذلك الحوار، وفي نفس السامع ما فيها من الرهبة والخشية من قدرة الله تعالى، ويُرفع ليقع البصر على مشهد آخر يصوِّر الوجه المناقض للمشهد الأوَّل، فالأوَّل فيه إشراقة الحياة، وسحر الجمال، والثاني مشى فيه الخراب والدمار حتَّى لم يدع بقعة أو زاوية إلا وانساب فيها. لقد نزلت عقوبة الله بالمتكبِّر كما توقَّع العبد الصالح، بإتلاف جنَّتيه، فأصبح عاليها سافلها، وقد تصدَّعت جدرانها، وذوى زرعها فأصبحت أثراً بعد عين. ودخل المغرور جنَّته فلم يجد إلا بواراً وخراباً، فصار يُقلِّب كفَّيه حزناً وأسفاً على ما أنفق فيها من مال وما بذل من جهد، وعلى ما فرَّط في حقِّ ربِّه. عند ذلك فقط اهتزَّت فطرته النائمة، واستيقظ ضميره الوسنان، فأرسل موجات صوتية تنعقد حروفاً لاكها لسانه في مرارة: (ياليتني لم أشرك بربِّي أحداً، ياليتني لم أغترَّ بمالي وسلطاني، ياليتني...) ويتلفَّت حواليه ليلتمس ولو صديقاً واحداً من الرهط الكبير الَّذي كان يحفُّ به فلا يجد أحداً، إنه رهط مزوَّر، كان منتفعاً بخيراته وبساتينه، واليوم وقد اندثر النعيم، فقد اندثر معه كلُّ شيء. إنها غاية في الهزيمة والخيبة، حيث لا مال ولا أهل ولا نفوذ ولا سلطان؛ ولم يبقَ سوى شبح إنسان يقف ذليلاً أمام خالقه، مجرَّداً من زينة الدنيا وزخرفها، لا يملك سوى ذنوبه وتقصيره، فإن شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه ولن يجد من دون الله نصيراً.
من هذه القصَّة المليئة بالعبر نستخلص ما يلي:
1 ـ إن الغرور والتسلُّط من أشدِّ الأمراض الَّتي يبتلى بها الإنسان، ولا نجد أحداً تكبَّر وتجبَّر إلا أنزل الله به العقوبة، ومرَّغ أنفه في تراب الذُّل والهوان.
2 ـ إن تعلُّق الإنسان المفرط بماله يدخله في دائرة الشرك بالله، ويجعله يحسب نفسه وكأنَّه صاحب القرار من دون الله تعالى، فيعطي لماله الضمان بالسَّلامة المطلقة، ويعطي لنفسه الوعد بالمزيد من المال في الدار الآخرة.(2/69)
3 ـ يجب أن يملك الإنسان المال ولا يجعل المال يتملَّكه، وهذا مرهون بتقوية الصلة بالله، فلا مشيئة له إلا بأمره، ولا قوَّة له إلا من خلال تأييده.
4 ـ إذا حلَّت النكبة بمؤمن صالح تقيٍّ هبَّ إخوانه وأحبابه لنجدته وعونه، فتنقلب عليه برداً وسلاماً وكأنَّها لم تكن. ولكن إذا نزلت النازلة بالجبَّار المتغطرس، انفضَّ عنه أصدقاء المصلحة، وقرناءُ السوء، ليبقى في الساحة وحيداً، طريداً، منبوذاً يتجرَّع غصص النكبة وحده فلا تجده إلا وقد انهار.
5 ـ الولاية لله الواحد الأحد، مالك الأكوان، بيده مقادير كلِّ شيء، وهو على كلِّ شيء قدير، ولا حول للمخلوق ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {ولا تمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إنَّك لن تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً(37) كلُّ ذلك كان سيِّئُهُ عندَ ربِّكَ مكروهاً(38)}
/ ومضات:
ـ حين يخلو قلب الإنسان من الشعور بالخالق المعطي، تأخذه الخُيَلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو جمال، ولو أيقن أن ما هو عليه هو من فضل الله تعالى وممَّا منحه إيَّاه من نِعَم، لحدَّ من كبريائه وخفَّف من غلوائه، ومشى على الأرض هوناً وتواضعاً.
ـ التواضع أدب مع الله وأدب مع الناس، وهو أجمل الصفات الَّتي يمكن أن يتحلَّى بها الإنسان، لأنه مرآة صافية تكشف كوامن النفس الطيِّبة.
ـ إن الله تعالى يكره صفتي التكبُّر والاستعلاء، الَّلتين ترتكزان على الأنانية المفرطة وحبِّ الذَّات، لأنهما تسيئان للمجتمع الإسلامي المبني على التآلف والتحابب والتعاون، والَّذي لا مكان فيه للغطرسة والزَّهو والعجرفة.
/ في رحاب الآيات:(2/70)
يمشي المرء مَرَحاً عند شعوره بالتفوُّق على الآخرين، ناسباً الفضل في ذلك لنفسه، ناسياً من أعطاه القوَّةعلى التميُّز والتفوُّق، وهذا ما يوقعه في العُجْبِ والكبرياء والمفاخرة، ويعيق جهوده عن الحصول على المزيد من المزايا، ويشلُّ حركته عن تقديم المزيد من العطاء. والقرآن الكريم يجابه المتطاول المختال بحقيقة ضعفه وعجزه وضآلته بقوله: {إنَّك لن تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً}. فالإنسان بحجمه ضئيل هزيل، لا يبلغ بالقياس إلى الأجسام الضخمة شيئاً، إنما هو قويٌّ بقوَّة الله، عزيز بعزَّته، كريم بروحه الَّتي نفخها فيه، وبالعقل الَّذي وهبه إيَّاه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه.
وهذا التواضع الَّذي يدعو إليه القرآن هو أدب روحي مع الله، وأدب اجتماعي مع الناس، وما يميل عن هذا الأدب إلى الخُيَلاء والعُجْب، إلا إنسان ذو نفس فارغة من حبِّ الله، وعقل جاحد لا يجيد وضع الأمور في موضعها الصحيح. جاء في الحديث الشريف: «من تواضع لله رفعه، فهو في نفسه حقير، وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعهُ الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير» (أخرجه أبو داود) وقال صلى الله عليه وسلم : «الاختيال الَّذي يَبْغُضُ الله، الخُيَلاءُ في الباطل» (أسنده أبو حاتم محمَّد بن حِبَّان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه). والله تعالى يمقت صفات الكِبْر والعُجْب بالنفس والتكبُّر على مخلوقاته، ومن يتَّصف بها فهو مكروه منبوذ من حظيرة قدسه. ولهذا ورد في الأثر: (أقسم الربُّ القدُّوس أن لا يدخل حضرته من كان من أرباب النفوس). فما هو الربح الَّذي يجنيه من خسر الله؟ وما أجمل قول ذلك العالم العارف بالله الَّذي قال مناجياً ربَّه سبحانه: [إلهي ماذا وَجَدَ من فقدك وماذا فَقَدَ من وجدك]؟. فمن خسر الصلة بالله خسر كلَّ شيء وفاته كلُّ خير، ومن حصل على رضا الله فقد حصَّل كلَّ شيء وجنى الربح الأعظم في هذه الحياة وفي دار الخلود.
سورة فاطر(35)(2/71)
قال الله تعالى: {من كان يُريدُ العزَّة فلله العزَّة جميعاً إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَّالحُ يرفَعُهُ والَّذين يَمْكُرون السَّيِّئاتِ لهم عذابٌ شديدٌ ومَكرُ أولئك هو يَبُورُ(10)}
ومضات:
ـ تكمن العزَّة الحقيقية في الركون والرجوع إلى الله تعالى صاحب العزَّة والجاه، وكلُّ من يتمسَّك بغيره وينشد منه القوَّة والعزَّة فإنَّما يتمسَّك بالوهم والسراب ومآله إلى ذلٍّ وهوان.
ـ درب العزَّة يمهِّده العمل الخيِّر المنتج البنَّاء، ويزيِّنه ورد الكلام الحلو المعسول.
ـ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وعلى الباغي تدور دوائر العذاب في الدنيا والآخرة.
/ في رحاب الآيات:(2/72)
إن من صفات الله تعالى العزَّة والقوَّة، فإذا تقرَّب العبد من ربِّه طاعةً ومحبَّة وعملاً، أحبَّه الله، وأسبغ عليه ظلالاً من صفاته. فالمؤمن عزيز بالله، ولا عزَّة له بغيره، وكلُّ من يريد هذه العزَّة فعليه أن يطلبها من مصدرها؛ من الله لا من أحد سواه، فالله عنده خزائن السموات والأرض، فهو موجدها وهو المالك الأصلي لها، ولا يُلْتَمَس ذلك من غيره، قال بعض العارفين: [من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز] ولعزَّة المؤمن وجه ناصع يتجلَّى في تواضعه لمخلوقات الله، وحسن معشره معهم، ومخاطبتهم بطيِّب الكلام وعذبه، ولا يقتصر الأمر على مجرَّد الكلام والألفاظ الجميلة، بل يجب أن يقترن بحسن معاملتهم، ومدِّ يد المعونة لهم، وإسداء النصيحة، والبذل من أجلهم، والتضحية في سبيلهم، وهكذا يصعد العمل الصالح إلى عنان السماء، ممزوجاً بطيِّب الكلام ومعسوله، ليجد أبواب السماء مفتَّحة له، وصحائف القبول مشرَّعة له. وكم أضاع أقوام حُسن صنائعهم بقبائح ألفاظهم، فحبطت أعمالهم لدى مولاهم، ونفرت منهم قلوب الخلائق، جاء في الحديث الشريف: «لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، ولا يقبل قولاً وعملاً إلا بنيَّة، ولا يقبل قولاً وعملاً ونيَّة إلا بإصابة السُّنة» (أخرجه أبو القاسم ومجاهد من حديث ابن عباس t ) وقال بعض المحبِّين: [إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع، لأن من خالف قولُهُ فعله فهو وبال عليه].(2/73)
وصلاح العمل يكون بالإخلاص فيه، وما كان من هذا القبيل، قَبِلَه الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه، بل عليه العقاب الشديد، فالصَّلاة والزَّكاة وأعمال البرِّ إذا فُعِلَت مراءاة للناس لا يتقبَّلها الله، قال تعالى: {فويلٌ للمُصلِّين * الَّذين هم عن صلاتِهِمْ ساهون * الَّذين هم يُراؤُونَ * ويمنعُونَ الماعون} (107 الماعون آية 4-7) والَّذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزَّة الكاذبة، والغلبة الموهومة وبثَّاً للفتنة والتفرقة، وقد يبدو في الظاهر أنهم أعزَّاء أقوياء، ولكن هذا وهمٌ ليس له سند من الحقيقة، لأن القول الطيِّب هو الَّذي يُؤْلَف، والعمل الصالح هو الَّذي يثمر، وبهما تكون العزَّة بمعناها الواسع الشامل، أمَّا المكر السيء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزَّة، ولو حقَّق القوَّة الطاغية الباغية في بعض الأحيان، إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العقاب الشديد. ذلك وعد الله، ولا يخلف الله وعده، وإن أمهل الماكرين حتَّى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم.
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {وإذ قُلنا ادخُلُوا هذهِ القَريَةَ فَكُلُوا منها حَيثُ شِئتُم رغَداً وادخُلُوا البَابَ سُجَّداً وقُولُوا حِطَّةٌ نغفِر لكم خَطاياكُم وسَنَزيدُ المُحسِنينَ(58)}
ومضات:
ـ لقد فتح الله تعالى القرية الَّتي أشار إليها في الآية الكريمة لبني إسرائيل، وأباح لهم الأكل من طيِّباتها بسعة ووفرة، وهذه منَّة ونعمة منه، ينبغي عليهم أن يشكروه عليها بالسجود والدعاء، والعرفان بفضله والتواضع له. وهذا يدلُّ على أن اللحظة الَّتي يكون فيها المرء في ذروة فرحه وإحساسه بالفخر والنصر؛ هي من أجَلِّ اللحظات الَّتي يلجأ فيها إلى الله تعالى طالباً منه العفو والمغفرة، متذلِّلاً بين يديه متذكِّراً ضعفه وافتقاره إليه؛ ممَّا يجعله خلوقاً منصفاً مع عباد الله لا جبَّاراً عصيّاً.(2/74)
ـ الله تعالى يوسع من فضله على من أحسن القول والعمل والنيَّة.
في رحاب الآيات:
تتحدَّث هذه الآية عن إحدى النعم الَّتي أسبغها الله تعالى على بني إسرائيل عندما نصرهم وفتح لهم قرية، ثمَّ أباح لهم الأكل منها بسعة وهناءة حيث شاؤوا، وأمرهم بدخولها متواضعين له، طالبين منه أن يحطَّ عنهم خطاياهم وذنوبهم، وأعطاهم وعداً بمغفرة ذنوبهم والتَّجاوز عن أخطائهم، وبشرى بزيادة عطائه ما داموا محسنين، يزدادون شكراً وتواضعاً عند كلِّ نعمة، ويستغفرون عند كلِّ خطيئة.(2/75)
فصاحب النفس المزكَّاة ينسب جميع النعم الَّتي تصيبه لفضل الله، وكلَّما ازدادت عليه زحفاً وإقبالاً، ازداد تواضعاً وشكراً، أسوة بالمزكِّي الأعظم محمَّد صلى الله عليه وسلم ، الَّذي لم يزده العزُّ إلا تواضعاً، ولم يزده التواضع إلا رفعة وعظمة. لقد عاد إلى بلده مكَّة فاتحاً، وأكرمه الله بنصرة الإسلام وإعلاء كلمته، فعندما دخلها طأطأ رأسه على ناقته تذلُّلاً لله، حتَّى كاد أن يمسَّ جبينه الشريف رحل ناقته. فهنا يكمن سرُّ عظمة الرجال القادة، ومن هنا نتبيَّن أن على الإنسان أن يقابل نعم الله بالشكر والعرفان، وطلب الغفران عن كلِّ ما يبدر منه من الهفوات والزَّلات، وأن يتحلَّى بالتواضع والاتِّزان في أحلى ساعات نجاحه، فلا يفتتن بما يحقِّقه من فوزٍ وانتصار في أيِّ مجال، ولا يدع نشوة الفخار تطير بصوابه إعجاباً بما أنجزه، فيفقد بذلك القدرة على التبصُّر والإدراك. بل إن عليه، وهو في قِمَّة نشوته وسعادته ألا ينسى فضل الله عليه الَّذي أوصله إلى الفلاح، وأن يزداد تواضعاً له، ويذكر المستضعفين في الأرض فيظلُّهم برعايته وعنايته، ويتعاون معهم على بناء المجتمع الحرِّ الكريم، وتحقيق رسالة السَّلام في زرع المحبَّة والإخاء والإعمار في كلِّ أنحاء المعمورة. وفي هذا كبح لأهوائه وتقييد لأطماعه الَّتي يمكن أن تزلَّ به إلى ما لا تحمد عُقْباه. وعليه أن يشكر المنعم الَّذي من صفاته السامية أنه يزيد النعم لمن شكر، فهو القائل عزَّ وجل: {..لَئِن شكرتُمْ لأزيدَنَّكُمْ..} (14 إبراهيم آية 7) فَحَقُّ النِّعَمِ الشكر عليها، ودوام الشكر سبب زيادتها.
الفصل الثالث:
الأمانة
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً(58)}
ومضات:(2/76)
ـ الأمانة من أهمِّ المبادئ الَّتي يرتكز عليها الإسلام، ويدعو إلى أدائها لأهلها، لتكون ذمم المؤمنين بريئة من الشبهات على الدوام.
ـ إن ما يرشدنا إليه الله تعالى (أن نحكم بالعدل) هو سياج سعادتنا ودرع أمننا وسلامنا، وهو مُطَّلع علينا ناظر إلينا، ومراقب لحسن تنفيذنا وامتثالنا لأوامره.
في رحاب الآيات:
الأمانة تعريفاً هي: كلُّ ما يجب حفظه وتأديته إلى أهله. فهي كلمة واسعة المدلول تشمل جميع العلاقات الإنسانية؛ فالتزام الإيمان وتعهُّده بأسباب الرعاية والنماء أمانة، وإخلاص العبادة لله أمانة، وإحسان المعاملة مع الأفراد والجماعات أمانة، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه أمانة. والأمانة والعدل دعامتان من دعائم المجتمع الفاضل، فما أكرمَ المجتمعَ الَّذي يأمن فيه الناس بعضهم بعضاً! وما أعظم المجتمع الَّذي يسود فيه العدل، فلا ظالم ولا مظلوم، ولا تجاوز على حقوق العباد. والإسلام ـ بوصفه دين الحياة القويمة والتعامل السليم بين الناس ـ يرسي دعائم الأمن الاجتماعي، فيأمر الناس جميعاً بأداء الأمانة إلى أصحابها، خوفاً من أن يَفرُط بعضهم على بعض، فتختلَّ القيم الاجتماعية، وتسود الفوضى وينقلب المجتمع إلى غابة يأكل القويُّ فيها الضعيف، وقد أكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).(2/77)
وللأمانة أنواع: أولها وأعظمها أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد، إنها أمانة الفطرة الإنسانية الَّتي حملها الإنسان وتعهَّدها. وكذلك حفظُ المرء ما عهد الله إليه من أوامر ونواهٍ، واستعمال جوارحه ومشاعره فيما ينفعه ويقرِّبه من ربِّه. هذه الأمانة الَّتي تنبثق منها سائر الأمانات الأخرى، فمن حفظ حقَّ الله حفظ حقوق عباده، الَّتي تتطلَّب ردَّ الودائع إلى أهلها، وكتم أسرارهم، وستر عيوبهم، والبعد عن الغش في البيع، وترك التطفيف في الكيل والوزن وغير ذلك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أنسt : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له». ويدخل في هذا الإطار أمانة العلماء مع العامَّة، بأن يرشدوهم إلى مبادئ وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة، والكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام الَّتي تقوِّي إيمانهم، وتنقذهم من الشرور والآثام، وترغِّبهم في عمل الخير، وتبعدهم عن التعصُّبات الباطلة الَّتي تمزِّق صفوفهم وتضعف شوكتهم، وكذلك أمانة الزوجة مع الزوج بحفظ ماله وعرضه وسرِّه.
أمَّا الأمر بالعدل بين الناس، فالنصُّ يطلقه عدلاً شاملاً بين الناس جميعاً، فهو حقٌّ لكلِّ إنسان بوصفه إنساناً، وهو أساس الحكم في الإسلام، وقيمة أخلاقية عليا. ذلك أن إقامة الحقِّ والعدل هي الَّتي تشيع الطمأنينة، وتنشر الأمن، وتوثِّق علاقات الأفراد، وتنمِّي الثقة فيما بينهم، وتحقِّق الرخاء في المجتمع، وتدعم أوضاعه فلا يتعرَّض لخلخلة أو اضطراب.(2/78)
إنَّ مهمَّة رسل الله تحقيق العدل، وكذلك وظيفة أتباعهم في السير على هذا النهج، كي تبقى الشرائع تُظِلُّ الناس بظلِّها الظليل، بحيث يتحقَّق العدل بإيصال كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام، وبتجنُّب الهوى في القسمة بين الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الَّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص t ). وقد أُمِرَ المسلمون وخاصَّة الولاة والقضاة، بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال، لأنه فوَّض إليهم أمر النظر في مصالح العباد، يقول الله تعالى: {..وإذا قُلتُمْ فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى..} (6 الأنعام آية 152). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس t : «لا تزال هذه الأمَّة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت رحمت» (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً).
وأخيراً فإن الله تعالى لا يأمر عباده إلا بما فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في الدارين، فعليهم أن يَعملوا بأوامره، فهو أعلم منهم بالمسموعات والمرئيات، فإذا حكموا بالعدل فهو سميع لذلك الحكم، وإذا أدَّوْا الأمانة فهو بصير بذلك، وفي هذا وعد عظيم للمطيع، ووعيد شديد للعاصي، وفي ذلك إشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم عن عمر t ).
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنَّه كان ظَلُوماً جَهُولا(72)}
سورة الأحزاب(33)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون(27)}
ومضات:(2/79)
ـ أشار الله تعالى إلى ثقل الأمانة وعظم مسؤوليتها، حيث رمز إلى أن لها وزناً معنوياً، لا تستطيع السموات والأرض والجبال الرواسي أن تحمله، لأنها تتعلَّق بأداء الحقوق إلى أصحابها سواء منها المادية أم المعنوية.
ـ ينبغي على الإنسان أن يدرك عظم الأمانة المنوطة به قبل أن يتعهَّدها، حتَّى يحسن تقدير تبعاتها، ويعمل على حفظها؛ فأيُّ إساءة بتأديتها تخلُّ بإيمانه بالله ورسوله، فيسيء بذلك إلى نفسه ومجتمعه.
في رحاب الآيات:(2/80)
إن حمل الأمانة يعني صيانتها والقيام بأعبائها وتكاليفها، فهي تحتاج إلى وعاء يستوعبها، ولا تضيق جوانبه باحتوائها، وهذا الوعاء هو العقل وحريَّة الإرادة؛ لذلك اختار الله الإنسان ـ على ضعفه ـ لحملها، في حين عجز ما في الكون من أجرام عظام عن حملها، وخشي من التقصير في أدائها؛ فقد روى الترمذي عن ابن عباس t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: ياآدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها». فلا الجبال الرواسي، ولا السموات الطباق، ولا الأراضي المرساة مؤهَّلة لهذه المهمَّة، لذلك ارتعشت ارتعاشة الخوف والقلق حين عرضها الله تعالى عليها، فهي لا تملك المقوِّمات لتَحَمُّل هذه التبعات. وهذا هو الفرق بينها وبين الإنسان، فهو حرٌّ يملك العقل، وبالعقل يستوعب ويفهم ويدرك ما يُلقى إليه، وبالحريَّة يتمكن من اختيار ما يشاء منه ويلتزم به. لذلك كان مصير هذه المخلوقات الَّتي اعتذرت عن حمل الأمانة إلى فناء وزوال، بينما كان مصير الإنسان إلى خلود في الجنَّة أو في النار، وفقاً لحسن اختياره أو سوئه. لذا ينبغي عليه ألا يكون ضيِّق الأفق، محدود التفكير، وأن يمعن النظر في حجم الأمانة وعظيم مسؤولياتها، فيعدُّ نفسه ويتهيَّأ للنهوض بأعبائها والقيام بواجباتها، فيصونها ولا يضيِّعها، وعليه أن يدرك مقدار ضغط الشهوات ونوازع النفس ومتاهات الهوى ونزغات الشيطان، فلا يأمن جانبها ويركن إلى الغرور؛ حتَّى إذا تعرَّض لشيء من ذلك وجد نفسه أسيراً لها عاجزاً عن القيام بأعبائها فيخونها، ويخون بذلك نفسه ويلقي بها إلى التهلكة.(2/81)
والأمانة بمفهومها الواسع هي المسؤولية العظيمة الملقاة على كاهل الإنسان في اختياره للطريق الَّذي يسلكه في حياته، وتقدير نتائج هذا الاختيار وتحمُّل عواقبه كاملة. فهو بين خيارين: إمَّا الامتثال لأمر الله، والنهوض بتكاليف الأمانة بالتعب والنصب، وإمَّا الاستسلام لنوازع النفس والركون إلى الأهواء ومعصية الله تعالى. وهذا هو المحكُّ لاستسلامه لأمر الله أو تمرُّده عليه، وهنا مفترق الطرق حيث يُفْرَزُ الناس إلى فريقين: فريق يقصِّر في حمل الأمانة فيفشل في الامتحان ويخسر نفسه، وفريق يحملها بعزم وصلابة، ويصل إلى المعرفة العميقة بالله، ويهتدي لنواميسه في مخلوقاته، فيطيعه الطاعة الكاملة بإرادته الكاملة. وهذه ميزة الإنسان المؤمن الفاضل على كثير ممَّن خلق الله، لذلك كان محلَّ التكريم الَّذي أعلنه الله تعالى في قرآنه الكريم حيث قال سبحانه: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُمْ في البرِّ والبحر ورزقناهُمْ من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُمْ على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70).(2/82)
وأعظم أمانة هي أمانة الإيمان والتَّوحيد لله عزَّ وجل، فقضية التَّوحيد هي المحور الَّذي تتمركز عليه عقيدة الإنسان وتدور حوله التكاليف جميعها، وتحت هذه الأمانة تندرج كلُّ أمانات الإنسان مع محيطه، ومنها: أمانة العلم، فالعلم لديه أمانة وهو مسؤول عنه ومؤاخذ عليه من قِبَل الله تعالى إن لم يعلِّمه للناس؛ فعن أبي هريرة t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سُئِلَ عن علمٍ فكتمه ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة» (رواه أبو داود والترمذي)، وإن الحواسَّ الَّتي جعلها الله وسائل تسهم في تزويد عقولنا بالمعارف أمانة، ونحن مسؤولون عنها وعن تنمية عقلنا بالعلم والمعرفة، قال تعالى: {..إن السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً} (17 الإسراء آية 36) وقال أيضاً: {أفلم يسيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعْقلون بها أو آذانٌ يسمعونَ بها فإنَّها لا تَعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ الَّتي في الصُّدور} (22 الحج آية 46). وجسدُنا أمانة وعلينا أن نطعمه ونغذِّيه حلالاً طيِّباً، وبالقدر الَّذي أمرنا به الله تعالى بقوله: {..وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين} (7 الأعراف آية 31). ونحن بوصفنا آباءً وأمَّهاتٍ مؤتمنون على أُسَرنا، ومكلَّفون بالإنفاق عليها وحمايتها، وتربية أفرادها التربية الإسلامية المثلى، يقول صلى الله عليه وسلم : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري)، وعملنا أمانة بين أيدينا، ونحن مسؤولون عن القيام بجميع ما يتطلَّبه من الالتزامات بتجرُّد وإتقان، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه أبو يعلى وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها)، وما يودعه الناس لدينا على سبيل الأمانة فنحن مسؤولون عن ردِّه إليهم. والسرُّ الَّذي يستأمننا عليه إنسان، أمانة، وما يدور بين الزوج وزوجته، أمانة، وينبغي عليهما حفظه وعدم هتك الستر عنه،(2/83)
أخرج أحمد وعبد بن حُمَيْد ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثمَّ ينشر سرَّها».
ولعظم شأن الأمانة فقد اعتبرت خيانة إحدى هذه الأمانات في نظر الشرع خيانة لله ولرسوله، لذلك قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون} فالأمانة والخيانة قطبان متنافران، وخطَّان متوازيان لا يلتقيان مهما طال الطريق وتطاول الزمن. وممَّا يُرَسِّخُ في النفس الإحساس بجلال قدر الأمانة وعظمتها أن القرآن الكريم وصف سفير الرحمن جبريل عليه السَّلام بأنه الأمين فقال: {نَزَلَ به الرُّوحُ الأمين} (26 الشعراء آية 193)، كما بيَّن في أكثر من موضع أن رسل الله عليهم الصَّلاة والسَّلام أمناء، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن كلاً من هود ونوح وصالح ولوط وشعيب عليهم السَّلام قد قال لقومه: {إنِّي لكم رسولٌ أمين} (26 الشعراء آية 107).
فالأمانة سِمَةُ الأبرار والأطهار الَّذين سمعوا تعاليم الله ووعوها، فروَّضوا أنفسهم على النهوض بتكاليف الرسالة السماوية، فلا تصرفهم عن غايتهم نزغات الشيطان، أو وساوس النفس الأمَّارة بالسوء، أو فتنة الدنيا بشتَّى إغراءاتها. أمَّا الخيانة فهي سِمَة الكفَّار والفجَّار الَّذين شغلتهم احتياجات وجودهم الجسدي المحسوس عن حياتهم الروحية، فهم في شغل دائم لإروائها لا يفرِّقون في ذلك بين حلال ولا حرام، ولا بين عدل أو ظلم؛ فخانوا بذلك أمانة الله وخانوا أرواحهم بحجبها عن نور الله، وخانوا قلوبهم بإهمالها فعبثت بها الشهوات، وعشَّشت في زواياها الذنوب والأهواء، فكانوا من الخاسرين الَّذين خسروا نعيم الآخرة، فَحَسْبُهُمْ جهنَّم وبئس المصير.
الفصل الرابع:
الصَّبر
سورة البقرة(2)(2/84)
قال الله تعالى: {ولَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ منَ الخَوفِ والجُوعِ ونَقْصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذين إذا أصابَتهُم مصِيبَةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إلَيهِ راجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عليهِم صَلَواتٌ من ربِّهِم ورحمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ(157)}
سورة آل عمران(3)
وقال أيضاً: {ياأيُها الَّذين آمَنُوا اصبِرُوا وصابِروا ورابِطُوا واتَّقُوا الله لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ(200)}
سورة الطور(52)
وقال أيضاً: {واصبرْ لحكم ربِّك فإنَّك بأعيُننا وسبِّحْ بحمد ربِّكَ حين تقُومُ(48) ومن اللَّيلِ فسبِّحْهُ وإِدْبارَ النُّجوم(49)}
ومضات:
ـ الحياة سلسلة من التجارب والشدائد يخوضها الإنسان، والهدف منها اجتيازه للامتحان الإلهي الَّذي تتحدَّد فيه نتيجته، بمقدار صبره وتجلُّده، وحسن تسليمه لله، وعمله على طاعته وإرضائه.
ـ الصَّبر هو الثمن الَّذي يدفعه المؤمن لينال به البشرى من الله تعالى بالرضا والثواب. ومن تخلَّق بالصَّبر وحسن التسليم لله مؤمناً بأن الأقدار كلَّها بيد الله، وإليه ترجع الأمور كلُّها، فهو ممَّن مَنَّ الله تعالى عليهم وجعلهم من القوم المهتدين؛ الَّذين يملكون مفاتيح الخير للناس جميعاً، والَّذين يبنون ويعمِّرون، ويتحوَّلون إلى مشاعل من العلم والحكمة تضيء الطريق أمام البشرية جمعاء، فهؤلاء لهم من ربِّهم الجنَّة نِعْم الثواب وحسنت مرتفقاً.
ـ إن التزام أحكام الشريعة وتبليغها للناس يحتاج إلى الكثير من الصَّبر والأناة والحلم.(2/85)
ـ إن أحكام الله عزَّ وجل وتعاليمه ترمي إلى إسعاد الجنس البشري، وقد يصعب على بعض الناس إدراك مقاصدها على الفور، ومن ثمَّ تبنِّيها واتِّباعها، لذا يطلب الله تعالى من النبي الكريم أن يصبر على تبليغ الدعوة، وعلى ما يلاقيه من صدٍّ وعَنَتٍ في سبيل إيصال مفهوم الشريعة إلى الناس، ويُبشِّره بأنه في حفظ الله ورعايته. وهذه العناية الربَّانية تشمل كلَّ الدعاة المخلصين، العاملين بجدٍّ وثبات في مواجهة ما يلاقونه من صعوبات وعقبات، فجميعهم برعاية الله مكلؤون، وبأنظاره تعالى محفوفون.
/ في رحاب الآيات:
ليس الإنسان بمأمن من البلاء والآلام والمصائب الَّتي قد تواجهه في رحلة الحياة، ولابدَّ له أن يعاني منها وأن يصبر على أذاها، فالصَّبر هو صمَّام الأمان لأنه يعني قوَّة الإرادة، وسعة الصدر والقدرة على التحمُّل، ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعظم عطاء حيث قال: «ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر» (رواه الخمسة عن أبي سعيد الخدري t ). وهو يساعد على ضبط كوابح النفس والأخذ بزمامها؛ فالمؤمن الصابر إذا حلَّ به حزن أو أَلَمَّت به نازلة، أحال نكبته إلى قوَّة، وجعل منها درساً ليفهم حقائق كانت خافية عليه، أو معاني غفل عن إدراكها، أو إرشادات قصَّر في اتباعها؛ لهذا تراه دائماً رابط الجأش، راسخ القدم مطمئناً، حَسنَ الظن بربِّه، وهو موقن في قرارة نفسه أنَّ أيَّ تخاذل يقع فيه، سيكون ضرره أشدَّ وأوقعَ من ضرر البلاء نفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء وإن الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي).(2/86)
فالابتلاء تجربة تربوية من شأنها أن تبني شخصية المؤمن بناءً قوياً، وتُعِدَّه إعداداً راقياً، وكلَّما كان عسيراً وشاقّاً كلَّما تطلَّب مزيداً من الصَّبر والثبات والتحمُّل، ليتمكَّن المؤمن المبتلى من جني ثمرته الغالية، فعن أبي هريرةt أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله حتَّى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (رواه الترمذي) فمن ثبت وتمسَّك بأهداب الصَّبر فأجره على الله.
والمؤمن ينظر إلى المصائب على أنها امتحانات إلهية فتشرق نفسه حيالها، ويتعامل معها على أنها فرص لرفع الدرجات وحطِّ الخطايا، فلا يبتئس أو يتخاذل بل يمضي قُدُماً لينجح في الامتحان، وتأتيه البشارة من الله بأن له الرحمات والنعيم. روي عن عمر بن الخطاب t أنه قال: (ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نِعَم: الأولى أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنها لم تكن أعظم ممَّا كانت، والثالثة: أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير) ثمَّ تلا قوله تعالى: {..وبَشِّرِ الصَّابرين * الَّذين إذا أصابتهُم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون * أولئك عليهِمْ صلواتٌ من ربِّهِمْ ورحمةٌ وأولئك همُ المهتدون}.(2/87)
فهذه الآية الكريمة تحدِّد ملامح هؤلاء الصابرين، الصَّبر الجميل، المُرْجِعِين أمورهم إلى الله تعالى، فهم مطمئنون، قلوبهم متصلة بخالقها لا تتبرَّم ولا تتذمَّر، وألسنتهم مطهَّرة لاتنطق إلا بالتسليم لله والرضا بقضائه، وتردِّد: {إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}. أي كلُّنا لله، جوارحنا متجهة إليه، وأمورنا راجعة إليه، وله نسلِّم التسليم المطلق. عن أمِّ سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنالله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمِدك واسترجع (أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون)، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنَّة وسمُّوه بيت الحمد» (أخرجه أحمد والترمذي) وبما أن الجزاء يكون على قدر الجهد، فالله تعالى يثيب المؤمنين الصابرين ثواباً عظيماً.(2/88)
فالصَّبر هو شطر الإيمان وزاد الطريق، ولهذا حثَّ الله تعالى عليه لما له من أثر كبير في مسيرة الإنسان. والمجالات الَّتي تظهر فيها أهمِّية الصَّبر كثيرة ومتفرعة، ولعلَّ أهمَّها الصَّبر على الطاعات، والصَّبر عن الشهوات ولذَّاتها، لأنه جهاد دائم، بخلاف المصيبة الَّتي تكون بمثابة عارض لا يلبث أن يزول، كفقدان الأهل والأحِبَّة وحلول الأوجاع والأمراض. وهناك صبر على التعامل مع الناس وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلم إذا كان مخالطاً الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الَّذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (رواه الترمذي). وأعظم الصَّبر صبر الأنبياء على الإيذاء والإعراض والصدود الَّذي يلقونه من أقوامهم، وقد سُمِّي أربعة منهم بأولي العزم لعظيم ابتلائهم وجميل صبرهم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السَّلام، وجاء الأمر لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم من الله تعالى أن يقتدي بهم ليكون له في صبرهم أسوة حسنة في هذا الشأن، فقال له: {فاصبرْ كما صبرَ أُولُوا العَزْمِ منَ الرُّسُلِ..} (46 الأحقاف آية 35). وليس المقصود بالصَّبر الاستسلام للأمراض أو الآلام، بل هو الجَلَد والتحمُّل وحسن التعايش مع الصعوبات، وكيفية مقاومتها والالتفاف حولها دون الإذعان لها. ولابدَّ في هذه المواقف من استمداد العون من الله تعالى، لأن الإيمان أقوى من جميع المواقف والعواطف والمشاعر النفسية، لأنه نور الله تعالى وإكسير الحياة للقلوب ومطهِّرها من الآثام.(2/89)
وإذا استقرَّت إرادة الصَّبر في أعماق النفس وتأصَّلت بداخلها، ولَّدت فيها طاقات إضافية على التحمُّل؛ فهي بحر لا ساحل له، وكلَّما اشتدَّت الخطوب أغدقت علينا مزيداً من الإرادة والعزيمة في مواجهتها. وأحسن الصَّبر هو الصَّبر على الإيذاء في العقيدة وهو المصابرة بعينها، فهي شدٌّ للعزائم وثبات على الحقِّ، وإصرار في وجه من يخطِّط ويدبِّر لتخريب حياتنا وتدمير سعادتنا. وأمَّا المرابطة فهي كلُّ ما فيه انتظار وترقُّب واستعداد من أجل تحقيق أيِّ عمل في سبيل الله، فحراسة حدود الوطن لمواجهة الأعداء مرابطة، فيها الثواب الجزيل والعطاء الوفير، فقد فاق جزاؤها الدنيا وما فيها من متع، كما ذكر سهل بن سعد الساعدي t أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها». وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة مرابطة، والصَّبر على العلم والتعلُّم مرابطة، والسهر على راحة العلماء ومشاركتهم في خدمة العمل الإسلامي مرابطة، وكذلك أَنْ توقف نفسك عند حدود الله وتلتزم بها ولا تتعدَّاها، وتترصَّد الشيطان فلا تسمح له أن يتغلغل إلى داخلها مرابطة. وكذلك من المرابطة التزام جانب الحيطة والحذر مع كلِّ من يحاول أن يتعرَّض للعقيدة الإسلامية بأيِّ أذى، لتلويث أفكار المسلمين وإبعادهم عن جادَّة الصواب، وإفشال مسعى هؤلاء وقذف باطلهم بالحقِّ فيدمغه، قال تعالى: {بل نقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هوَ زَاهِقٌ..} (21 الأنبياء آية 18).
وهكذا فإن كلَّ عمل يقوم به المرء، لابدَّ أن يتجمَّل بالصَّبر، لأنه الحارس اليقظ للإرادة يمنعها من أن تهن أو تضعف، والحارس للنفس البشرية من الانهيار أمام الأهواء أو الشدائد.(2/90)
وفي الختام نجد أن المؤمن ينال بالصَّبر مرتبة جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتعجَّب من خيرها وبرِّها حيث قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلَّه له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له» (رواه مسلم).
الفصل الخامس:
القناعة
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رحمةَ ربِّكَ نحن قَسمْنَا بينَهُمْ معيشَتَهُمْ في الحياةِ الدُّنيا ورفعنا بعضَهُمْ فوق بعضٍ درجاتٍ ليتَّخِذَ بعضُهُمْ بعضاً سُخْريّاً ورحمةُ ربِّك خيرٌ ممَّا يَجمعون(32)}
/ ومضات:
ـ القناعة كنز لا يملكه إلا من آمن بحكمة الله قولا وعملا فيما قَسَم لخلقه.
ـ تسجِّل هذه الآية الكريمة استنكاراً للقول الَّذي يتقوَّله بعض الناس حين يتكلَّمون بما ليس لهم به علم، فيدَّعون أنه ليس من العدل أن يكون هناك فقراء بين الناس، وأن العدالة تقتضي أن يقسم الله تعالى الأرزاق بالتَّساوي، فلا يكون هناك فقير ولا غني. وهم بذلك يتطفَّلون ويدَّعون القدرة على تغيير موازين المجتمعات البشرية، وتبديل القواعد الَّتي ترتكز عليها، ولو أنهم أمعنوا النظر في الأمر لوجدوا أن استمرارية الحياة على هذه الأرض تقتضي وجود التفاوت بين الناس، في المال والعقل والقدرات، ليتمَّ التعاون فيما بينهم، لئلا تتعطَّل أمور الحياة أو تخرج عن مسارها الصحيح.
ـ إن رحمة الله تعالى لا تقتصر على توزيع الأرزاق على الناس بل هي أوسع من ذلك وأشمل، فكم من فقير قنوع، سعيد في حياته؛ ينعم برحمة الله تعالى، وكم من غنيٍّ طامع سُلب هذه الرحمة، فلا يهدأ له بال ولا يطمئن ولا يعرف للسعادة طعماً.
/ في رحاب الآيات:(2/91)
يبدو بعض أدعياء الفكر والثقافة وكأنَّهم شركاء للخالق عزَّ وجل في تصريف أمور الكون؛ إذ يريدون أن يغيِّروا شرائح المجتمع وأسلوب الحياة، وفق موازينهم المختلَّة ونظرتهم القاصرة، والَّتي تنظر إلى الأمور من زاوية ضيِّقة، ولا تنظر إليها نظرة دقيقة شاملة، لذلك لم يدركوا ما سيلحق الناس من ضرر وإفساد، وتفتيت للعلاقات القائمة بينهم، لو تمَّ لهم ما أرادوا.
إن الله تعالى قدَّر شؤون هذا الكون أحسن تقدير، من ذلك أنه أحاط الكرة الأرضية بقوانين ثابتة حكيمة تكفل استمرار الحياة عليها، وقد أحكم دورانها حول نفسها وحول الشمس، وهو الَّذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوَّده بالعقل، ومنحه الإرادة والقوَّة ليتمكَّن من التعايش مع الآخرين وكسب العيش؛ كذلك قدَّر قوانين الرزق والعطاء، وخلق الأسباب والمسببات لئلا يتواكل الناس، وينقطعوا عن السعيِّ والعمل. فكما أن الله قدَّر هذه الأشياء فأحكم التقدير، فكذلك قدَّر وجود الطبقات الاجتماعية المتفاوتة الَّتي لا يدلُّ وجودها على فساد تركيبة المجتمع، ولا يعني تفضيل قوم على قوم، بل هي أقوام مسخَّرة لخدمة بعضها بعضاً، تتساوى جميعها في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية، كما تتساوى أمام الله في الجزاء على العمل والعبادة، فتعمل بشكل منسجم يتمِّم بعضها بعضاً، بحيث يشعر كلٌّ في موقعه بالسرور والقناعة إذا أدَّى دوره المنوط به بنجاح وإتقان.(2/92)
فالسبق الحقيقي هو لمن أحسن عمله، واستقامت سيرته، وأبلى البلاء الحسن فيما يرضي الله عنه دون طغيان أو إخلال بموازين الأمانة والمسؤولية والشرف. والحكمة الكامنة في التفاوت بين الناس، وفي جميع العصور والبيئات، هي أن يتَّخِذ كلُّ فرد موقعه في معركة الحياة، حسب مواهبه ومقدرته، وحين يسير دولاب الحياة يُسَخَّرُ بعض الناس لبعضهم حتماً. وليس هذا التسخير مثار استعلاء طبقة على طبقة، أو فرد على فرد، بل هو توزيع للوظائف الحياتيَّة المطلوبة على كلِّ أفراد المجتمع، لتتوازن أمور الناس وتقضى حوائجهم، ويتابعون جميعهم مسيرة الإعمار. وهكذا فالكلُّ مسخَّرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والاختلاف في الأعمال والأرزاق، قال الله تعالى: {..هوَ أنشَأكُمْ من الأرضِ واستعمَركُم فيها..} (11 هود آية 61) وقال سبحانه: {وهوَ الَّذي جعلَكُم خلائِفَ الأرضِ ورفعَ بَعضكُمْ فوقَ بعضٍ درجاتٍ ليبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ..} (6 الأنعام آية 165).(2/93)
لقد سار الإسلام بالمجتمع في هذه التعاليم إلى العدالة الاجتماعية المطلقة والسعادة الحقيقية، فقد نفى وجود العوز والفاقة في ظلال هذا التمايز بين الناس غنىً وفقراً، واستطاع أن يصل بهم جميعاً إلى حدِّ الغنى، وقضى على مشكلة الفقر عملياً. ففي عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يبقَ في المجتمع فقير محتاج إلى الزَّكاة، وبذلك أثبت الإسلام صحَّة نظريته عملاً وتطبيقاً. فلو كان جميع الناس على مستوى فكري واجتماعي واحد لما أمكن أن تقوم الحياة بهذه الصورة، ولبقيت أعمال كثيرة جداً معطَّلة لا تجد لها منجزاً. وإن الَّذي خلق الحياة هو الَّذي خلق الاستعدادات متفاوتة بتفاوت الأدوار المطلوب أداؤها، وبمقابل هذا التباين يتباين الرزق، وهكذا تسير الأمور في الاتجاه الصحيح. إن الله الَّذي مكَّن الغنيَّ من المال ومنعه عن الفقير؛ ابتلى كلاً منهما واختبره، فهل يشكر الغنيُّ نعمة الله فيضمن كفاية الفقير فيفوز في الاختبار؟ وهل يصبر الفقير على الفقر فينجح في الامتحان؟ أم أنَّ أحدهما أو كليهما يتنكَّر لقدر الله فتكون الخسارة العظمى؟. إن الله يصيب برحمته من يشاء من عباده وفق ما تقتضي حكمته سبحانه، ولا علاقة بينها وبين متع الحياة الدنيا، ولا صلة لها بالقيم المادية في هذه الحياة، فهذه القيم زهيدة عند الله، ومن ثمَّ يشترك فيها الأبرار والفجَّار، وينالها الصالحون والطالحون، بينما يختصُّ الله المحسنين برحمته في الدنيا والآخرة.
وختام القول: إن استمرار دوران عجلة الحياة متوقِّف على شعور كلِّ فرد في المجتمع بافتقاره إلى ما عند غيره، واحتياج غيره إلى ما عنده، فيتبادلون المنافع وتسير عجلة الحياة دون توقف، ولاشكَّ أنها ستتوقف عندما يشعرون بالاستغناء عن بعضهم بعضاً.
سورة طه(20)(2/94)
قال الله تعالى: {ولا تَمُدَّنَّ عينَيْكَ إلى ما متَّعْنا به أزواجاً منهمْ زَهْرَةَ الحياةِ الدُّنيا لنفتِنَهُمْ فيه ورزْقُ ربِّكَ خيرٌ وأبقى(131) وأْمُرْ أهلَكَ بالصَّلاة واصطبِرْ عليها لا نسئَلُكَ رِزْقاً نحن نرزُقُكَ والعاقِبَةُ للتَّقوى(132)}
/ ومضات:
ـ الإسلام لا يدعو إلى الإعراض عن طيِّبات الحياة، ولكنه يدعو إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية، وإلى الصلة بالله والرضا بعطائه بحيث لا تتهاوى النفوس أمام زينة المال، بل تبقى القيم العليا هي الأساس، وهي المحرِّر للإنسان من عبوديَّة المادَّة والزخارف الزائفة.
ـ إن ممارسة الإنسان للعبادات لا تزيد في ملك الله شيئاً، فالله غنيٌّ عن العالمين، ولكنها تشعره بطمأنينة الصلة بالله فتستريح جوارحه وتسكن نفسه، ومن ثمَّ يُجزى عليها الجزاء الأوفى.
/ في رحاب الآيات:(2/95)
زرع الإسلام في أعماق المسلم القناعة وهي: الرضا بالميسور، واليأس ممَّا في أيدي الناس، وذلك لئلا يتعلَّق قلبه بالمادِّيات فتصبح هدفه، أو يصبح الإكثار منها غاية طموحه. وطلب منه في الوقت نفسه أن يسعى للكسب الحلال بكلِّ جهده شريطة أن يسخِّر بعضاً من عطاء الله في سبيل خدمة عباد الله، بحيث تتوازن نفسيَّة المسلم، فلا يشعر بالقلق إن قلَّ نصيبه من الدنيا أو كثر، لأن الرزق الحقيقي هو غنى النفس ورضاها بما قسمه الله من عطاء مادِّي وروحي. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (رواه الشيخان والترمذي)، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنَّ أو يعلِّم من يعمل بهنَّ، قلت أنا يارسول الله، فأخذ بيدي وعدَّ خمساً وقال: اتَّقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبب للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (رواه الترمذي والإمام أحمد).
وهذا درس عملي تطبيقي يدرِّب الله عباده المؤمنين عليه لتزكو نفوسهم وتسمو فوق المادِّيات؛ فهو يأمرهم بأن يتَّجهوا إليه بالعبادة، وألا ينبهروا بما في أيدي المترفين وأن لا يتمنَّوا زواله من أيديهم ليمتلكوه هم، فإنَّما النعيم الَّذي ينعمون به زهرة ذابلة، ونعمة زائلة، كالزهرة تجدها نضرة عطرة، ولكنها سريعة الذُّبول على ما بها من رونق وجمال. فهذه النعمة موضوع اختبار لهم، بحيث تكشف عن معادنهم وسلوكهم، وكيفية تصرفهم بها أثناء جريانها بين أيديهم، وثواب الله الدائم خير من النعيم الفاني، فهو رزق للنعمة لا للفتنة، رزق طيِّب باق لا يحول ولا يزول.(2/96)
وليست هذه دعوة للحرمان من طيِّبات الحياة، ولكنها دعوة لتوثيق الصلة بالله، وطلب رضاه، فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، بل تعيش طليقة متحرِّرة من قيود المظاهر والشكليَّات الَّتي لا تساوي شيئاً بنظر أغنياء القلوب إذا قيِست بما عند الله. روى الطبراني أنه «لمَّا آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرآه على رمال حصير قد أثَّر في جنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يارسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه! فقال: أوَ في شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيِّباتهم في حياتهم الدنيا»، فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، وإذا جاءه شيء من رزقها وخيرها أنفقه في سبيل الله تعالى.(2/97)
من جهة ثانية فقد اهتمَّ الإسلام كثيراً بإشاعة الجو التعبُّدي ضمن العائلة، وجعل ذلك مسؤولية ربِّ العائلة، فالرجل مأمور أن يتابع أفراد عائلته في صلاتهم وصومهم وسائر عباداتهم، وعليه بالصبر والحلم والأناة أثناء المتابعة، وألا يشعر بالملل واليأس في تحمُّل هذه المسؤولية، ولا يغتمَّ من أجل تحصيل الرزق، بل يتَّقي الله تعالى في سائر أموره فيأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، قال تعالى: {..ومن يتَّقِ الله يجعَلْ لهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ من حيثُ لا يحتسِبُ..} (65 الطلاق آية 2ـ3) وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدَّة أو ضيق أمرهم بالصَّلاة وتلا: {وأْمُرْ أهلكَ بالصَّلاة}». وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِ في الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيَّته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح). فأوَّل واجبات المسلم أن يحوِّل بيته إلى بيتٍ مسلم، وأن يوجِّه أهله إلى أداء الفريضة الَّتي تصلهم بالله تعالى، فتوحِّد اتجاههم العلوي في الحياة، وأن لا يخدعوا بزخارف الحياة الدنيا الفانية الَّتي يتمتع بها المترفون في هذه الدنيا، فهي حظُّهم من الوجود ثمَّ ينقلبون عنها شرَّ منقلب، قال الله تعالى: {..وسَيَعْلَمُ الَّذين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ ينقلِبُون} (26 الشعراء آية 227). إن العاقبة الحسنة والحياة الأبديَّة الناعمة هي من نصيب المتَّقين، الَّذين عزفوا عن التعلُّق بالدنيا وزخارفها على الرغم من انهماكهم بها، وأقبلوا على ربِّهم بما يحبُّ من القول والعمل والصفات فكانوا هم الفائزون.
الفصل السادس:
الصِّدق
سورة التوبة(9)(2/98)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقُوا الله وكونوا مع الصَّادقين(119)}
سورة الزمر(39)
وقال أيضاً: {فمن أظلمُ ممَّن كَذَبَ على الله وكَذَّبَ بالصِّدق إذ جاءَهُ أَلَيْسَ في جهنَّمَ مثْوىً للكافرين(32) والَّذي جاءَ بالصِّدق وصَدَّقَ به أولئك هُمُ المتَّقون(33) لهم ما يشاؤونَ عندَ ربِّهمْ ذلك جزاءُ المُحسنين(34)}
سورة الأنعام(6)
وقال أيضاً: {ومن أظلمُ ممَّنِ افترى على الله كذِباً أو كَذَّبَ بآياتِهِ إنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالمون(21)}
/ ومضات:
ـ الصِّدق هو المِحَكُّ لمعرفة درجة الإيمان، وهو الفضيلة الَّتي يجب أن تصطبغ بها كلُّ أعمالنا وتصرفاتنا أثناء توجُّهنا إلى الحضرة الإلهية، حتَّى تُتوَّج أعمالنا كلُّها بالنور والفلاح.
ـ أشدُّ الناس ظلماً هو من يعتدي على حقوق الله تعالى وتشريعاته وتعاليمه، سواء بالتقوُّل عليها كذباً وبهتاناً، أو بالتكذيب المباشر لما أنزله تعالى من الرسالات السماوية.
/ في رحاب الآيات:(2/99)
الصِّدق خُلقٌ من أجلِّ الأخلاق الَّتي يتَّصف بها المؤمنون، وتاج مرصَّعٌ تُوِّج به النبيُّون والمرسلون. وهو الطريق لكلِّ خير وبرٍّ، وعنوان للرقيِّ المادِّي والروحي في كلِّ جيل وعصر، ومِحَكٌّ دقيق يميِّز المؤمن ـ الَّذي يتحرَّى هذا الخلق في أقواله وأعماله ـ عن المنافق الَّذي يكثر من الكذب حتَّى يصبح علامة من علامات نفاقه، ويسلك به الطريق الضيِّق، فينزلق من خلاله إلى أودية الشرور والآثام. وقد بيَّن لنا الصَّادق المصدوق نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم عاقبة الأمرين عندما قال: «عليكم بالصِّدق فإن الصِّدق يهدي إلى البِّر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدق حتَّى يكتب عند الله صِدِّيقاً، وإيَّاكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتَّى يكتب عند الله كذَّاباً» (رواه الأربعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ).
ولما كانت القدوة الصالحة خير طريق لاكتساب الخُلقِ الحسن؛ فقد أمرنا الله عزَّ وجل بصحبة الصَّادقين من المؤمنين في قوله: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله وكونوا مع الصَّادقين}، وقد امتدحهم الله في آية أخرى فقال: {مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه..} (33 الأحزاب آية 23) فهم الوجه المشرق المنير للإنسانية، وفيهم تتجلَّى الرجولة الحقيقية لأنهم صدقوا قولاً وعملاً، ونشروا راية الإيمان شرقاً وغرباً، فسكنت قلوبَهُم سعادةٌ يحسدهم عليها ملوك الدنيا وأباطرتها، وعُمِّرت بيوتهم المتواضعة بذكر الله ونوره، فغدت تضاهي بسكينتها والسعادة الَّتي فيها، قصور الأمراء والمترفين.(2/100)
فالصِّدق بُغية المؤمنين ولا يزالون يتحرَّونه حتَّى ينالوا رتبة الصدِّيقين، ولا يحيدون عن دربه إلى أن يلقَوُا الله فيحشرهم مع النبيين والشهداء والصالحين. ويسألون الله أن يثبِّتهم على هذا الخلق العظيم أسوة بحبيبهم الصَّادق الأمين صلى الله عليه وسلم الَّذي كان يدعو كما علَّمه الله: {وقُلْ رَبِّ أدخلني مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخرجني مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعلْ لي من لدُنْكَ سلطاناً نصيراً} (17 الإسراء آية 80) أي ربِّ أدخلني كلَّ مدخل في الحياة دخولاً حسناً مَرْضِيَّاً تجعلني فيه من الصَّادقين، وأخرجني إخراجاً حسناً مؤيداً بتوفيقك واكتبني فيه من الصَّادقين، واجعل رحلة حياتي من بدئها إلى ختامها، ميسَّرة ومسدَّدة وآمنة، في ظلِّ عنايتك الَّتي تظلُّني؛ إلى أن ألقاك وقد أدرجتني في ديوان الصَّادقين الأبرار.
فما أجمله من دعاء يترجم حقيقة حالهم؛ إنهم صدقوا والتزموا التَّقوى في أموالهم وأعمالهم، فأعدَّ الله لهم خير المساكن، وأكرم المنازل، وبوَّأهم الجنَّة يتمتَّعون بنعيمها المقيم، ويتلذَّذون فيها بالنظر إلى وجهه الكريم، فيغدق عليهم من فضله ورضوانه ما يسعدهم ويرضيهم؛ فهم في بساتين غنَّاء ورياض فيحاء، وأنهار جارية، وأشربة صافية لذيذة، ومجالس صادقة خالصة، لا لغو فيها ولا تأثيم وَعْد الصِّدق الَّذي وعدهم في قوله جلَّ من قائل: {إنَّ المُتَّقينَ في جنَّاتٍ ونَهَرٍ * في مقعدِ صِدْقٍ عند مَلِيْكٍ مقْتَدِرْ} (54 القمر آية 54ـ55). فما أشدَّ ظلم الإنسان لنفسه عندما يُعْرِضُ وينأى عن طريق الصِّدق والصَّادقين، ويسلك طريق الكذب ويرضى بأن يكون من المفسدين المنافقين، ولهذا فإن الله عزَّ وجل نفى صفة الكذب وافترائه عن المؤمن الَّذي يكون حريصاً على سلامة المجتمع وأمنه وسعادته فقال: {إنَّما يفتري الكذبَ الَّذين لا يؤمنونَ بآياتِ الله وأولئكَ هُمُ الكاذبون} (16 النحل آية 105).(2/101)
فالكذب آفة من أشدِّ الآفات فتكاً بالمجتمع، ومن أشدِّها خطراً على سلامته، وذلك لما يخلق من عداوة بين الناس، وغرسٍ لبذور الشكِّ في نفوسهم، وتحطيم لعامل الثِّقة فيما بينهم. وما فشا الكذب في أمَّة إلا كثرت فيها المفاسد وشاعت الجرائم، فهو مصدر كلِّ رذيلة، ومنشأ كلِّ كبيرة.
إن من يفتري على الله الكذب ويكذِّب بما جاء به رسله الصَّادقون، يكون قد خرج عن دائرة الإيمان، وهوى في حمأة النفاق، لأنه بافترائه الكذب يصبح أشدَّ ضرراً وإيذاءً من الكافر الَّذي يعلن إنكار الحقيقة وجحودِها، بينما يتجاوز المفتري ذلك إلى اختلاق الأباطيل الَّتي يزرع بها بذور الفتنة والشِّقاق. ويليه في درجة الأذى الكاذب المعرض عن الحقِّ؛ فليس هناك من هو أظلم ممَّن يعرف الحقَّ؛ ثمَّ ينكره ويختلق الأكاذيب حوله وينشرها، وليس ثَمَّةَ من هو أضلُّ ممن نزع عن نفسه حماية الله العزيز القوي، ورفع راية الشيطان يستظلُّ بها، وهي لن تجلب له سوى الإحباط والمهلكات.
ولعلَّ أشدَّ أنواع الكذب خطراً وتهديماً أن يكذب الكاذب وهو يَدَّعي أنه يقول الحقَّ مدعوماً بوحي مزعوم يأتيه؛ أو رسالة سماوية تتنزَّل عليه، فهذا ظلم للحقِّ، وظلم للنفس، وظلم للناس. فهو ظلم للحقِّ لأنه تزوير للإرادة الإلهية، وهو ظلم للنفس بإيرادها موارد التهلكة، وهو ظلم للناس لأنه يصرفهم عن جادَّة الحقِّ باسم الحقِّ كذباً وبهتاناً، والحصيلة النهائية هي هدم القيم الاجتماعية والأخلاقية الَّتي يريد الله إرساءها بين عباده.(2/102)
ومن الكذب أيضاً أن يزعم المرء أن لله ولداً أو شريكاً، أو يدَّعي في دينه ما ليس فيه، أو أن يُكذِّبَ بالكتب السماوية أو يحرِّفها أو ينكر بعض ما جاء فيها، أو ينكرها كلَّها مستجيباً بذلك لأهوائه وشهواته، وأبلغ مثال على ذلك كفر أبي جهل وتكذيبه للنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بصدقه، فقد روي أن الأخنس بن شُرَيْق التقى بأبي جهل فقال له: [يا أبا الحكم! أخبرني عن محمَّد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرك يخبرنا، فقال أبو جهل: والله إن محمَّداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب (بنو قصي) باللواء والسقاية والحجابة والنبوَّة فماذا يكون لسائر قريش؟]، إن هذا النوع من الكذب والتكذيب هو أشدُّه ضرراً وإيذاءً، وهو في الوقت نفسه أشدُّه عذاباً، لأنه جحد للحقِّ عن إصرار وعناد.
وهناك آخرون يتَّخذون من الكذب وسيلة لتحقيق مصالحهم الشخصية، ويستترون بستار التديُّن والصلاح؛ كأن يدَّعي بعضهم أن له مع الله حالاً أو كشفاً أو مشاهدة، ليخدع مخلوقات الله ويوهمهم بالفوقيَّة عليهم، وأنهم محتاجون لبركاته وتوجُّهاته، ليشتري بذلك ثمناً قليلاً من متاع الدنيا وزخرفها.(2/103)
وتندرج في أنواع الكذب صفة الإخلاف بالوعد، كأن يقول المرء قولاً لا يفي به. وقد عُدَّ هذا النوع من الكذب من أفظع الأفعال الَّتي يبغضها الله ويكرهها، وقد أنكرها سبحانه وتعالى على من يتَّصف بها من المؤمنين ووبَّخهم في كتابه العزيز على هذا التَّصرف المذموم فقال: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لِمَ تقولونَ ما لا تفعلون * كَبُرَ مَقْتاً عندَ الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (61 الصف آية 2ـ3) فجاء الخطاب من الله لهم بصيغة استفهام يتضمَّن الإنكار والتوبيخ لكلِّ من يَعِدُ وعداً ويُخلفه، ويتفوَّه بكلام لا ينجزه. وقد استدلَّ السلف بهذه الآية على وجوب الوفاء بالوعد لأنه دليل على كريم الشِّيم، وجميل الخصال، وبه تتولَّد الثِّقة بين الجماعات فترتبط برباط المودَّة والمحبَّة حين يتعامل أفرادها مع بعضهم بعضا، ويكونون يداً واحدة فيما قرَّروا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا في أُمَّة إخلاف الوعد قلَّت الثِّقة بين أفرادها وانحلَّت عُرى الروابط بينهم، وأصبحوا عِقْداً متناثراً لا يُنتَفعُ به، فلا يهابهم عدوٌّ إذا اشتدَّت الأزمات، وعظُمت الخطوب.(2/104)
وقيل في معنى هذه الآية: هي أن يأمر الإنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه، كقول الله تعالى: {أَتأْمُرونَ النَّاسَ بالبرِّ وتَنْسَونَ أنفسَكُمْ وأنتمْ تتلونَ الكتابَ أفلا تعقلون} (2 البقرة آية 44) فهذا فعل يبغض الله صدوره من المؤمنين وخاصَّة ممَّن يكونون في مقام الدعوة والإرشاد والتهذيب؛ فلا يعقل أن يعظ واعظ بترك الموبقات وهو غارق فيها إلى أذنيه، أو يرشد إلى طريق الجنَّة من هو مترنِّح على طريق النَّار، فهذا من أكبر الموبقات عند الله، لأن المسيء في عمله لا تتجاوز عظته الآذان؛ بل قد يوقع الناس في الفتنة والإعراض عن طريق الإيمان كُلِّيةً، حيث يتساءلون في أنفسهم: إذا كان القدوة يفعل بخلاف ما يقول فكيف بمن هم دونه؟، وإذا كان ما يتفوَّه به الواعظ من الحكمة والمواعظ لا يؤثِّر فيه شخصياً، فهل يعقل أن يؤثِّر في عامَّة الأشخاص؟، إنه إذن القدوة السيئة، والأداة المنفِّرة عن طريق الله. فلو كان يرتكب ما يرتكبه دون أن يجعل من نفسه واعظاً وقدوة، لخفَّ الضرر الصادر عنه فيما يتعلَّق بالناس الباحثين عن الدليل إلى الحقِّ، وعن القدوة الصالحة. فما بالك بإنسان واعظ مرشد ينبِّه الناس إلى أضرار الغيبة، وآثارها السلبية والسيئة في المجتمع ثمَّ تراه في مجالسه الخاصَّة سمَّاعاً للغيبة، مشاركاً فيها، منغمساً في آثامها؟، أليس الله بقادر على هؤلاء جميعاً وغيرهم ممَّن يملك من الكذب ألواناً وأصنافاً؟! أليس في جهنَّم مكان يتَّسع لهم ويكون مستقرّاً دائماً لهم؟! بلى إن جميع الفئات من الكاذبين المدجِّلين، لهم مقت شديد وعقاب مروِّع من الله، لما جنَوْه بحقِّ أنفسهم وحقِّ الآخرين!.
وحول هذه المعاني يقول الشاعر:
يا أَيُّها الرجل المعلِّم غيرَه هلاَّ لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفسك فانْهَهَا عن غيِّها فإذا انتهتْ فأنتَ حكيمُ
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
#######(2/105)
بعونه تعالى
«تمَّ الجزء الأوَّل من الكتاب»
آيات قرآنية
ومضات من القرآن الكريم
عرض وتحليل
التعريف بالجزء الثاني من الكتاب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله بشيراً ونذيراً وهادياً إلى صراط مستقيم، وبعد،
فقد أنزل الله القرآن الكريم دستوراً يُنَظِّم حياة البشر، ويهديهم إلى الطريق الأقوم الَّذي فيه سعادتهم. قال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقوم ويُبَشِّرُ المؤمنين} (17 الإسراء آية9).
والقرآن مليء بالمعاني الجليلة، والتشريعات الحكيمة، والإرشادات اللطيفة الَّتي ينبغي على المسلم تدبُّرها وفهمها فهماً صحيحاً مستمداً من روح القرآن، وما ورد في تفسيره من السنَّة الصحيحة، مستعيناً بالعلوم والمكتشفات الحديثة. وعليه أن يَحذر من أن يُخضع آيات القرآن لأهوائه، وآرائه، وأن يتأوَّلها بما يناسب ما يحمله من نظريات وأفكار هي في الحقيقة بعيدة كلَّ البعد عن الأهداف القرآنية، وفي ذلك يقول سيِّدنا محمَّد r: «من قال في القرآن بغير علم فَلْيَتَبَوَّأ مقعده من النار» ( رواه أبو داود).
ورحلتي مع هذا الكتاب تبدأ من اليوم الَّذي تعرَّفتُ فيه إلى الأستاذ غازي آق بيق الَّذي جعل من أهمِّ الأهداف في حياته تنفيذ هذا الكتاب على أكمل وجه وأتمِّه، وهو في سبيل ذلك يحرص على جمع كلِّ معلومة مفيدة حول أيِّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم؛ وعرض عمله هذا على من يظنُّ أن بإمكانهم إفادته بالجديد من المعلومات، ويتقبَّل منهم النقد بروح علمية، وصدر رحب.
وقد قرأت الجزء الأوَّل من هذا الكتاب، وأغلب أبوابه كانت حول الأسس العامَّة للإسلام، وأركان العقيدة والتشريع لهذا الدِّين الحنيف، إضافة إلى التربية الروحية والخلقية الَّتي يسعى إلى تحقيقها..(2/106)
وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب تقرأ بحثاً مطولاً عن التربية الاجتماعية، وكيف بنى الإسلام الروابط الاجتماعية على أساس الاحترام المتبادل بين الأفراد، وتحريم كلِّ ما يضرُّ بالمجتمع وسعادته وتماسكه. ثمَّ تقرأ صوراً من المعاملات المالية في الإسلام، هذا الجانب المهم من التطبيق العملي للأسس النظرية والتربوية في الإسلام.
ثمَّ الموضوع الأهم وهو أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، كما يصوِّرها القرآن الكريم، والمبادئ الَّتي تنطلق منها، والأهداف الَّتي تتَّجه إليها، والأسلوب الَّذي تسير عليه، وأهمُّ الصفات الَّتي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله تعالى، والمبادئ الَّتي يجب أن يقوم عليها الحوار مع أبناء الديانات الأخرى، وخاصَّة منهم أهل الكتاب.
ثمَّ أتبع ذلك بأساليب الدفاع عن هذه العقيدة وحمايتها، وأهم هذه الأساليب الجهاد في سبيل الله، وبيَّن أهدافه وأنه ليس أبداً عدواناً وتعدِّياً، كما يصوِّره أعداء الإسلام، وإنَّما شُرِّع لأهداف سامية منها: ترقية النفس الإنسانية، ونشر العلم، والهداية، والدفاع عن المستضعفين في الأرض..
ثمَّ تحدَّث في الباب قبل الأخير عن الدار الآخرة، وهي المحطَّة الأخيرة من الرحلة الإنسانية، والَّتي حار الفلاسفة في فهم حقيقتها، وتخبَّطوا في أوهامهم دون أن يستطيعوا معرفة كنهها، بينما طرحها الإسلام بشكل واضح وبسيط.
وختم الكتاب بالحديث عن عدَّة أمور متفرِّقة من وحي القرآن الكريم.
وأنا إذ أترك للقارئ الفرصة لإتمام قراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، لابدَّ لي من شكر مُعِدِّه، على ما بذله من وقت وجهد في سبيل إخراجه على هذا الشكل، دون أن تكون له غاية من وراء ذلك إلا خدمة القارئ الباحث عن الحقيقة؛ بتقديم فهم علمي سليم ومعاصر لكتاب الله الكريم.
أسأله تعالى أن يتقبَّل منه عمله خالصاً لوجهه الكريم، ويجعله ذخراً له في دنياه وآخرته، إنه تعالى سميع مجيب، والحمد لله ربِّ العالمين.
محمَّد شريف الصواف
دبلوم دراسات عليا في الفقه المقارن(2/107)
الباب الثامن -التربية الاجتماعية في الإسلام
القسم الأوَّل -رعاية الإسلام للروابط الاجتماعية
الفصل الأوَّل -نظرة الإسلام إلى المجتمع الإنساني
سورة الحجرات(49)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وقبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكرمكُمْ عندَ الله أتقاكُمْ إنَّ الله عليمٌ خبير(13)}
ومضات:
ـ إن مسؤولية بناء المجتمع الإسلامي العالمي تقع على عاتق الرجل والمرأة على السواء.
ـ خلق الله تعالى آدم وحواء وجعل من ذريَّتهما الشعوب والقبائل والأجناس والألوان، فالناس كلُّهم إخوة، لذلك فلابدَّ لجسور التوادد والتواصل من أن تبقى قائمة بينهم، فلا تفاضل بين لون وآخر، أو عرق وآخر، بل مساواة بين الجميع أمام الله تعالى؛ الَّذي يُكرَمُ الناس لديه على درجة تقواهم، فمن نال شرف التَّقوى حصل على وسام مرضاة الله، والله أعلم بأعمال مخلوقاته خبير بنواياهم.
في رحاب الآيات:(2/108)
في ثنايا الآية الكريمة معنى الخطاب الإلهي الموجَّه للبشر جميعاً: يا أيُّها الناس! نحن خلقناكم بقدرتنا من أصل واحد، وأوجدناكم من أب وأم، فلا تفاخر بالأجداد والآباء، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلُّكم لآدم وآدم من تراب. وجعلناكم شعوباً شتَّى، وقبائل متعددة ليحصل بينكم التعارف والتآلف، ويتلاشى التناحر والتخالف. أمَّا اختلاف الألسنة والألوان، وتباين الطباع والأخلاق، وتفاوت المواهب والاستعدادات، فإنما هو تنوُّع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف، والعمل على نهوض المجتمع الإنساني وتحقيق الخلافة في الأرض. لذلك لا يكون التفاضل بين الناس بالأحساب والأنساب، بل بالتَّقوى والعمل الجادِّ المخلص، فمن أراد شرفاً في الدنيا، ومنزلة في الآخرة فليتَّق الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من سرَّهُ أن يكون أكرم الناس فليتَّقِ الله» (رواه الترمذي وقال حسن صحيح). والتَّقوى معناها مراعاة حدود الله تعالى أمراً ونهياً، والاتِّصاف بما يرضيه عنَّا. وقد رفع الإسلام لواء التَّقوى لينقذ البشرية من عواقب العصبية للجنس، أو للقبيلة، أو للأسرة، بشتَّى الأسماء، وهي في حقيقتها عصبيَّة جاهلية، والإسلام منها براء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: «دعوها فإنها نتنة» (رواه أبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبُّرها بآبائها، كلُّكم لآدم وحواء، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، فإذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه» (أخرجه البيهقي)، وأخرج الترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اتقى الله أهاب الله منه كلَّ شيء، ومن لم يتَّق الله أهابه الله من كلِّ شيء».(2/109)
وهذه هي القاعدة الَّتي يقوم عليها المجتمع الإسلامي؛ المجتمع الإنساني العالمي الَّذي تحاول البشرية في خيالها المحلِّق أن تحقِّق لوناً من ألوانه ولكنَّها أخفقت، لأنها لا تسلك الطريق الوحيد الموصل إليه، وهو الطريق إلى الله تعالى. لذلك نجد أن الله جلَّ وعلا يخاطب رسوله الكريم بتلك العبارة الشاملة، الَّتي تتَّسع لتشمل سائر الأجناس والمذاهب والَّتي تنفي التحيُّز أو التعصُّب: {قُلْ أعوذُ بربِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس * إله النَّاس} (114 الناس آية 1ـ3). فالله هو ربُّ الناس جميعاً، والربُّ هو المربِّي والموجِّه والراعي والحامي، وهو ملك الناس جميعاً، والملك هو المالك الحاكم المتصرِّف، وهو إله الناس جميعاً، والإله هو مَنْ وَلِه الكلُّ به ولهجوا باسمه، ونادوا من أعماق قلوبهم أن الحمد لله ربِّ العالمين.
ومن هنا نرى أن الإسلام بعد أن وضع القواعد السليمة لبناء النفس المؤمنة، سعى لإشباع نوازع النفس البشرية التوَّاقة إلى الفوز والتفوُّق على الآخرين، فبيَّن أن سبيل التنافس والتسابق ينحصر في المكرمات الَّتي تكسب رضا الله، كما قال تعالى: {…وفي ذلك فليتنافسِ المُتَنافسون} (83 المطففين آية 26) أي في الأسباب الموصلة إلى ذلك النعيم ليَكُنِ التنافس والتسابق، وما أكثر هذه الأسباب كالاستزادة من التخلُّق بالأخلاق الفاضلة قولاً وعملاً، والإكثار من البذل والتضحية والفداء، والإقبال على العلم والتعلُّم بنَهم.
وهكذا يأخذ كلُّ مؤمن مكانه في فردوس النعيم حسب جِدِّه وجهده، ولذا كانت الجنَّة درجات، وكانت علِّيون الدرجة العليا الَّتي ينالها أولو الألباب، وهم الصفوة من خواص المحبِّين لحضرة الله، والعاملين الملتزمين بشرعه الخالد الحنيف.
سورة النساء (4)(2/110)
{ياأيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَهَا وبثَّ منهما رِجالاً كثيراً ونساءً واتَّقوا الله الَّذي تَسَاءَلُونَ به والأرحامَ إنَّ الله كان عليكُمْ رقيباً(1)}
ومضات:
ـ إن الناس كلَّهم عائلة واحدة، مهما تعدَّدت أجناسهم وتلوَّنت بشرتهم، فأبوهم جميعاً آدم وأمُّهم حواء.
ـ إن قضية خلق هذا الكمِّ الهائل من الناس من نفس واحدة، منذ سيِّدنا آدم وإلى يوم القيامة، لهي معجزة وآية رائعة تدلُّ على عظمة الله تعالى، وتدفع إلى إجلاله والخشية منه.
ـ بمقدار ما نخشع لعظمة الله، علينا أن نصل أرحامنا ونقوِّي أواصر المحبَّة معهم، وندعمهم بالعطاء المادي والروحي لتزهر شجرة العلاقات الإنسانية بورد الرحمة والتراحم.
في رحاب الآيات:(2/111)
لقد افتتح الله تعالى سورة النساء بخطابه للناس جميعاً، داعياً إيَّاهم إلى عبادته وحده، ومنبِّهاً لهم إلى قدرته الَّتي خلقهم بها من نفس واحدة؛ وهي نفس آدم عليه السلام والَّتي خلق منها زوجها وهي حوَّاء، فالأصل البشري واحد والنماذج لا حصر لها. وإن إلقاء نظرة على التنوُّع في خصائص الأفراد، على هذا المدى الواسع الَّذي لا يمكن أن يتماثل فيه فردان تمام التماثل على توالي العصور، لتدلُّ على دقَّة إبداع اليد المدبِّرة عن علم وحكمة، وتجعل العين والقلب يجولان في ذلك المتحف الحي، فيتمليان النماذج الَّتي لا تنفد. ومهما تشعَّب الناس بعد ذلك إلى أمم وبلدان وأجناس فإنما تشعُّبهم هذا ما هو إلا كتشعُّب العائلة الواحدة، والإخوة من أب واحد وأم واحدة، وحريٌّ بهذا التوحُّد في منشئهم وأصلهم أن يؤدِّي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، والَّذي يرتكز على المبدأ الإنساني؛ وأن يصلوا أرحامهم ليكونوا أتقياء حقاً، وليظفروا بمرضاة الله، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: أمَّا ترضَيْن أني أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك».
وقد تَرفعُ ظروف الحياة أفراداً وتخفض آخرين، وقد تغني فئات، وتفقر فئات، وقد يؤدي تباعد البلدان واختلاف المناخ إلى تنوُّع ألوان البشر وتمايز العادات والأفكار، وكلُّ ذلك بإذن الله وإرادته، لكن الكلَّ عند الله سواء في آدميتهم وإنسانيتهم، وهم سواء أمام القانون الإلهي وفي كيان المجتمع الإنساني الواحد، يتأثَّر مجموعهم بفردهم وفردهم بمجموعهم، وليس لأحدهم فضلٌ على الآخر إلا بالتَّقوى.(2/112)
إن التفكُّر في أصل الإنسان وتكوُّن الأجناس البشرية، يستوجب العمل على تمتين العلاقات الأسرية والاجتماعية والأممية، ليستمر التعاون والنماء بين جميع أبناء العالم كأفراد لأسرة واحدة. وهكذا يؤكِّد الإسلام على الوحدة الإنسانية بين الناس، بوصفهم إخوة ينحدرون من أصل واحد.
وهنا يجدر بنا أن نلاحظ كثرة خطاب القرآن للناس بهذه الألفاظ الَّتي تشعرهم بوحدة أصلهم الإنساني: (ياأيُّها الناس .. يابني آدم..) فالتشريع القرآني يسمو بالناس إلى أفق ترقى معه كرامة الإنسانية جمعاء، بصرف النظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم فيقول: {ولقد كرَّمْنَا بني آدمَ..} (17 الإسراء آية 70) وتلك الكرامة تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة، والفكر والعقيدة والتعلُّم والعيش الكريم، ويرقى إلى ذروة السمُوِّ الإنساني حين يجعل أساس الثواب والعقاب للناس مرتكزاً على نواياهم وأعمالهم لا على ظواهرهم، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم).(2/113)
وقد كرَّر الله تعالى الأمر بالتَّقوى في أوَّل الآية وفي آخرها، ليشير إلى عظيم حقِّه على عباده، كما قرن تعالى بين التَّقوى وصلة الرحم ليدلَّ على أهمِّية هذه الرابطة الوثيقة؛ فعلى الإنسان أن يرعى رابطة الإيمان بالله، وروابط القرابة وصلة الرحم، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمن، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم معلَّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» (متفق عليه). وصلة الرحم تنبثق من الأسرة الواحدة، وتمتدُّ لتشمل أفراد المجتمع بكامله، ولا تستقيم أمور الأسرة الَّتي هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، إلا إذا تراحم أفرادها، وتوثَّقت عرى المحبَّة فيما بينهم. ولن تستطيع الأسرة أن تحيا بمعزل عن الآخرين، لأن أعباء الحياة كثيرة، ولابدَّ من التعاون بين الأفراد، ومن باب أولى التعاون بين الأهل، إذ الأقارب للإنسان كالرِّداء الواقي الَّذي يحميه من حرِّ الصيف وقرِّ الشتاء، وهم كالمحارة الَّتي تنغلق على اللؤلؤة لتحميها من عوادي الزمن، فإذا ما تخلَّى الإنسان عن قرابته فكأنما انسلخ عن جلده، أو ترك أعضاءه هملاً مشاعاً تعبث بها الخطوب وصروف الأيام!.
ولا يمكن أن تقوم علاقة وطيدة بين الأفراد وذويهم، إلا على أسس المحبَّة والرحمة، والتسامح والإيثار وبذل الخير، ومدِّ يد المساعدة، ونفي التشاحن والبغضاء والأنانية الَّتي تعمل كالمعول في هدم الروابط الاجتماعية. وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة في قوله: «الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شحنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله تعالى» (أخرجه أبو داود والترمذي).(2/114)
وتتَّسع دائرة الرحمة لتشمل الناس جميعاً، فالناس كما علمنا إخوة، وما أجدر الإخوة أن يتراحموا، فيعطي الغني الفقير، ويصفح المحسن عن المسيء، ويرحم الكبير الصغير، ويعين القوي الضعيف. بمثل هذه الأخلاق ساد المسلمون الأوائل، وأرسَوْا دعائم حضارة رائعة، أضاءت ظلمات الجهل الَّذي تَمَلَّكَ الإنسانَ ردحاً طويلاً من الزمن. والله تعالى حفيظ مطَّلع على جميع أحوالنا، فلا مفرَّ من الرقابة الإلهية الَّتي ترصد كلَّ حركة وكلَّ سكنة، وتعلم ما أسررنا وما أعلنَّا، فلا يغيب عن علم الله شيء في الأرض ولا في السماء، ولابدَّ أن يجازي من يفرِّط في تعاليم الله، جزاءً شديداً عادلاً، ويكافئ الساجدين له المستسلمين لعظمته المحافظين على تطبيق شرعه.
فالعاقل هو من يقدِّر حساباته بدقَّة ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، وتكون دنياه مزرعة يحصد إنتاجها يوم الحساب، فقد روى أبو يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أَتْبَعَ نفسَهُ هواها وتمنَّى على الله» (رواه الترمذي).
ولا تقف الرحمة الإلهية عند حدود الإنسان بل تتعدَّاه إلى الحيوان، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثمَّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبُ من العطش مثلَ الَّذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفَّه ماءً ثمَّ أمسكه بفيه، حتى رَقِيَ فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كلِّ كبد رطبة أجر» (متفق عليه).
الفصل الثاني:
بِرُّ الوالدين
سورة الإسراء(17)(2/115)
قال الله تعالى: {وقضى ربُّكَ ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدين إحساناً إمَّا يبلُغَنَّ عندكَ الكِبَرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لهما قولاً كريماً(23) واخفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةِ وقُلْ ربِّ ارحمْهُما كما ربَّياني صغيراً(24) ربُّكُمْ أعلَمُ بما في نفوسِكُمْ إن تكونوا صالحينَ فإنَّه كان للأوَّابينَ غفوراً(25)}
سورة الأحقاف(46)
وقال أيضاً: {ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أمُّهُ كُرْهاً ووضعَتْهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وفصَالُهُ ثلاثونَ شهراً حتَّى إذا بلغَ أَشُدَّهُ وبلغَ أربعينَ سنةً قال ربِّ أَوْزِعْنِي أن أشكُرَ نعمَتَكَ الَّتي أنْعَمْتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمَلَ صالحاً تَرْضَاهُ وأَصْلِحْ لي في ذُرِّيَّتي إنِّي تُبْتُ إليك وإنِّي من المُسْلمين(15) أولئك الَّذين نَتَقَبَّلُ عنهم أحسنَ ما عمِلوا ونتجاوزُ عن سيِّئاتِهِمْ في أصحابِ الجنَّةِ وَعْدَ الصِّدقِ الَّذي كانوا يُوعدون(16)}
ومضات:
ـ يريد الله تعالى أن نتوجَّه إليه وحده بالعبادة بكلِّ ذرات وجودنا وأصدق عواطفنا ومشاعرنا.
ـ إن النتاج العملي لصلتنا بحضرة الله تعالى يتجلَّى بالرحمة والعطف على الناس جميعاً وخاصَّة الوالدين، لاسيَّما عند بلوغهما مرحلة الكبر بما تحمله من الوهن والضعف الجسدي.
ـ يشعر الإنسان عادة بالقوَّة والجبروت أمام الضعفاء والمسنين، لذا كان لابدَّ له من إذلال نفسه على قدمي والديه وتأمين راحتهما، متذكراً كم تعبت أمه في رعايته صغيراً، وكم بذل والده من العناية به والاهتمام حتى غدا يافعاً ناضجاً.
ـ في برِّ الوالدين كفَّارات لكثير من الذنوب ومغفرة تشمل معظم السيئات.
في رحاب الآيات:(2/116)
تكمن العبادة الحقيقية لله في التوجُّه إليه ـ تعالى ـ جسداً، وروحاً، قلباً وتفكيراً وقالباً، إنها تتجلَّى في السير على منهجه وتعاليمه، ومن أهمِّ هذه التعاليم أن نحسن صحبتنا لوالدينا، وأن نعاملهم بأحسن ما تكون عليه الأخلاق من حلو الكلام وكريم الرعاية والعناية، وذلك بالتذلل لهما، مع الرحمة بهما والعطف عليهما والإحسان إليهما؛ لاسيَّما وأنَّ برَّنا بوالدينا ينعكس علينا ببرِّ أولادنا بنا، والعكس بالعكس فإن ثمرة عقوقنا لوالدينا هي عقوق أولادنا لنا. إن معاملة الوالدين زرع ولابدَّ لكلِّ زرع أن يثمر ثمره فالحلو يثمر ثمراً حلواً، والمرُّ يثمر ثمراً مُرّاً، وكما تدين تدان وبالكيل الَّذي تكيل تكتال. ونظراً للتضحية العظيمة الَّتي يقدِّمها الوالدان لأبنائهما فقد أمر الله ببرِّهما وقرن بين عبادته والإحسان إليهما، وجعل أمره حكماً مبرماً مقضياً، حثاً على هذا البر وإعلاءً لشأنه، أخرج الحاكم وصححه البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين». وقال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، و دعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده » (رواه أبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة ).(2/117)
إن القرآن الكريم يستثير مشاعر العطف والرحمة في وجدان الأبناء تجاه أمَّهاتهم وآبائهم، ذلك أن الحياة في خضَمِّ اندفاعها توجِّه اهتمامهم نحو الأمام إلى الذرِّية، إلى الناشئة الجديدة، وقلَّما توجِّه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الجيل الذاهب المُوَلِّي، بينما يندفع الوالدان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، وإلى التضحية من أجلهم بكلِّ شيء حتى بالذات. فكما تمتص النبتة الخضراء كلَّ غذاء الحبَّة فإذا هي خاوية، فكذلك شأن الأولاد يمتصون كلَّ جهد، وكلَّ عافية، وكلَّ اهتمام من الوالدين، إلى أن يدخلا طور الشيخوخة الَّتي تسير بهم نحو الضعف والموت، بينما يدخل الأولاد طور الشباب الَّذي يسير بهم نحو النَّماء والقوَّة.(2/118)
إن أوَّل مرتبة من مراتب برِّ الوالدين ألا يظهر من الولد ما يدلُّ على الضجر أو التأفُّف من والديه، فقد قال تعالى: {ولا تنهرهما} أي لا يصدر منك ما يسيء إليهما. والفرق بين النهي عن التأفُّف، والنهي عن الانتهار: أنَّ الأوَّل للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول، بالرد أو التكذيب، وقد ورد في الأثر: [لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أُفٍّ لحرَّمه]. إن الإسلام يدفع الابن إلى مرتبة أعظم تكريماً، وأكثر إيجابية بأن يكون كلامه مع والديه ليِّناً مفعماً بالإكبار والاحترام، مُعرِباً عن حبِّه وامتنانه. ثمَّ إنه يرقى درجة أعلى فيصل به إلى الرحمة، الَّتي ترقُّ وتلطُف حتى لكأنَّها الذل، الَّذي لا يرفع عيناً ولا يرفض أمراً مشروعاً، وكأن للذل جناحاً يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام. أخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ولد بارٍّ ينظر إلى والديه نظرة رحمة، إلا كتب الله له بكلِّ نظرة حجة مبرورة، قالوا: وإن نظر كلَّ يوم مائة مرة؟ قال: نعم والله أكبر وأطيب». والآيات تعود بالإنسان إلى مرحلة طفولته الضعيفة حيث رعاه والداه خلالها أحسن رعاية، فإذا أصبحا مُسنَّين واعتراهما شيء من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، فإن الإسلام يهيب بالابن أن يتوجه إلى الله من خلال رعايتهما، طالباً منه أن يشملهما برحمته الواسعة. أمَّا من قصَّر في حقِّهما عن جهل، فقد ترك الله له باب المغفرة مفتوحاً للتوبة والإنابة، ليكون في عداد الأوَّابين الَّذين يسارعون إلى ربِّهم مستغفرين منيبين؛ كلَّما زلَّت بهم القدم. فمن قصَّر في حقِّ من حقوق أبويه فلْيُعلن توبته ولْيستدرك تقصيره تجاههما ولو بعد موتهما، ولْيُسرع إلى ربِّه نادماً مستغفراً علَّه يغفر له، إنه غفور رحيم. أخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه، أنَّ رجلاً قال: «يا رسول الله، هل بقي علي من برِّ أبويَّ شيء(2/119)
بعد موتهما أبرُّهما به؟ قال: نعم الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم الَّتي لا رَحم لك إلا من قبلهما، وإكرام صديقهما». وأخرج الحاكم والذهبي والبيهقي والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات». والأبناء ملزمون ببرِّ الوالدين وإن كانا غير مسلمين، فقد جاء في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: «قَدِمَتْ أمِّي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمِّي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صِلِي أمَّك».(2/120)
ومن الملاحظ أن توصية الآباء بالأبناء قليلة إذا ما قورنت بتوصية الأبناء بالآباء، وذلك لأن الفطرة كفيلة برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية لا تحتاج إلى محرِّض، وقد تصل أحياناً إلى حد الموت في سبيل الأبناء. وتخص الآيات الكريمة الأم بالذِّكر تقديراً لها على ما تعانيه من آلام الحمل والوضع، فهي تحمل طفلها كرهاً وتضعه كرهاً، تلك هي صورة الحمل وخاصَّة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وآلامه، فالوضع عملية شاقَّة، ولكنَّ آلامها الهائلة كلَّها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تُنسي الأم حلاوة الثمرة، ثمرة التلبية لفطرتها، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش وتمتد. ثمَّ تأتي مرحلة الرضاع والرعاية حيث تعطي الأم خلاصة غذائها لبناً سائغاً، وعصارة قلبها وأعصابها حباً ورعاية، لا تملُّ ولا تكلُّ، ولا تكره ولا تضجر، بل تؤدي واجبها فرحة سعيدة سعادة غامرة، وغاية ما تتطلع إليه من الجزاء أن تراه يسلم وينمو. وعلى الرُّغْم من عظمة هذا العطاء، نجد ظاهرة العقوق لا تزال متفشية في كثير من الأسر والمجتمعات، حيث يُقابَلُ فيها الإحسان بالإساءة، والمعروف بالمنكر، والفضل بالجحود، إلا أنه غالباً ما يكون هذا العقوق حصاداً لزرعٍ غرس بذوره الآباء، ونتيجة لأسباب يقع بها الكثير منهم إمَّا بشكل عفوي تقليدي، وإمَّا عن قصد وتعمُّد، ومن هذه الأسباب:
1 ـ معاملة الآباء لأبنائهم بالأسلوب التقليدي الَّذي عوملوا به من قبل آبائهم، مدفوعين بدافع التقليد الأعمى، أو مهملين متجاهلين لِدَوْرِ المرونة الفكرية، الَّذي تتطلبه عملية التطور والتغيير، الَّذي يطرأ على المجتمعات والعلاقات الاجتماعية بمرور الأيام.(2/121)
2 ـ مخالفة الوالدين بعض القواعد التربوية الَّتي تشكل كبرى الدعامات لنشأة الأولاد نشأة سويَّة وسليمة. ومن الأمثلة على ذلك التفريق في المعاملة بين صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وعدم التسوية بينهم في الحقوق والواجبات، والعواطف والمشاعر. وفي هذا روى أنس رضي الله عنه : «أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبَّله وأجلسه على فخذه وجاءت ابنة له، فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا سَوَّيْتَ بينهما» (رواه البزار).
فيكون مثل هذا السلوك الخاطئ سبباً في عقوق الأبناء لآبائهم من جهة، وفقدان روح المحبَّة والتعاون فيما بين الأبناء أنفسهم من جهة أخرى. وقد يتصف بعض الآباء بالقسوة الشديدة على أبنائهم، ويتعمَّدون إهانتهم وتحقيرهم ممَّا يؤدي إلى أسوأ النتائج السلبية، ونادراً ما يسلم الأبناء من الإصابة بالأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية والشخصية، الَّتي تكون ثمرة الأخطاء التربوية الَّتي يرتكبها الآباء في حقِّ الأبناء.
3 ـ سيطرة الفكر المادي على العلاقة بين الأب والابن، وذلك حين ينظر الأب إلى أولاده على أنهم أفواه تلتهم أمواله، وتحرمه من التلذُّذ بها، والإنفاق منها على مُتَعِهِ وراحته، ويشتدُّ حرص الأبناء على أخذ حقِّهم الكامل من مال أبيهم، فيسعَوْن للحصول عليه عاجلاً للتمتع به كيفما شاؤوا.
4 ـ شعور الآباء بأن لهم دَيناً على أولادهم مقابل رعايتهم والسهر عليهم، ومطالبتهم المتكررة لهم بردِّ هذا الجميل والعناية بهم، خاصَّة عند كبرهم وضعفهم.
5 ـ الصراع الفكري الدائم بين الأجيال بسبب تطور العلوم والمعارف والعادات؛ حيث يُعْتَبَرُ الأب المُدافع الشديد عن الماضي الموروث، ويمثِّل الأبناء الجيل المتطلِّع إلى حاضر ومستقبل يوافق المعطيات الجديدة.(2/122)
لقد عالج الإسلام هذا الموضوع بشكل عقلاني ووجداني في آن واحد، فعاد بذاكرة الولد إلى أياَّمه الأولى، وإلى معاناة والديه وآلامهما في رعايته، وطلب منه بالمقابل أن يقدِّم لهما أحلى ما عنده من معاني الودِّ والوفاء. ويخلص الإسلام من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، إلى مرحلة النضج والرشد، مع استقامة الفطرة، واهتداء القلب وبلوغه أَشُدَّه ما بين الثلاثين والأربعين عاماً، حين تكتمل جميع القوى والطاقات ويتهيَّأ الإنسان للتدبُّر والتفكر في رويَّة وهدوء. وفي هذه السن تتَّجه الفطرة السليمة المستقيمة بنظرها واهتمامها إلى ما وراء الحياة الحاضرة، فتتدبَّر شؤون المصير والمآل، وهنا يصوِّر القرآن الكريم ما تختلج به نفس الإنسان وهو في مفترق الطريق بين شطر من العمر ولَّى، وشطر يكاد آخره يتبدَّى، فيتَّجه إلى الله يدعوه أن يعينه لينهض بواجب الشكر، وأن يرشده إلى صالح العمل وأن يصلح له ذريته، وهي رغبة القلب المؤمن في أن يستمر عمله الصالح في ذرِّيته، وأن يؤنس قلبه الشعور بأن في نسله من يعبد الله ويطلب رضاه. فالذرِّية الصالحة هي أمل العبد الصالح، وهي أحبُّ إليه وآثرُ عنده من الكنوز والذخائر، وأسعدُ لقلبه من كلِّ زينة. إن العمل الصالح يمتدُّ من الوالدين إلى الذرِّية ليصل الأجيال المتعاقبة بطاعة الله، روى أبو داود في سننه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّمهم أن يقولوا في التشهُّد: اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرِّياتنا، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك وأتمَّها علينا».(2/123)
وجملة القول: إن حياة المؤمن تستقيم بأمرين اثنين؛ أوَّلهما عبوديَّته لله تعالى، وثانيهما الإحسان إلى الوالدين، وإلا فإنه يخسر إنسانيته الَّتي كرَّمه الله بها على كثير ممَّا خلق في هذا الكون.
الفصل الثالث:
مكانة المرأة في الإسلام
سورة الممتحنة(60)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ إذا جاءكَ المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شيئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنين ولا يَقْتُلْنَ أولادهنَّ ولا يأتِينَ ببهتانٍ يفتَرِيْنَهُ بين أيدِيهِنَّ وأرجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ فبايعْهُنَّ واستَغْفِر لهنَّ الله إنَّ الله غفورٌ رحيم(12)}
ومضات:
ـ في هذه الآية تكريس لدور المرأة المؤمنة الموحِّدة، الطاهرة الشريفة الأمينة، المحافظة على حدود الله، المطيعة لأوامره. وفي مضمونها تشجيع لها لتأخذ دورها البنَّاء للنهوض بأعبائها تجاه المجتمع وأبنائه.
في رحاب الآيات:(2/124)
كان المجتمع قبل الإسلام يمتهن كرامة المرأة، فلم تكن في نظره إلا مجرد أداة لإرواء الغرائز والإنجاب، فكان يوكل إليها جميع أعمال الخدمة، بينما يخص الرجل بالمزايا، فيعتبره السيِّد المطلق في أسرته، فهو للفروسية والقتال، وللحبِّ والشعر، وللزعامة والمفاخرة، أمَّا النسوة فما خُلقن إلا لخدمته وتأمين متطلباته. ثمَّ جاء الإسلام ليأخذ بيد المرأة، ويضعها في المكان اللائق بها، شريكة لا خادمة، أُمّاً مكرَّمة لا جارية، فحفظ لها كرامتها، وصان لها أموالها الخاصَّة بها، وكلَّف الرجل بالإنفاق عليها، سواءً كان أباً أو زوجاً أو ابناً، أو أخاً أو عماً أو خالاً؛ بحيث يكون كلٌّ من هؤلاء ملزماً بها في حال فقدان سابقه أو عجزه. وبالمقابل طلب منها التعهُّد بصيانة نفسها وتربية أولادها على مكارم الأخلاق، وأن تكون مؤمنة موحِّدة، طائعة في مرضاة الله، وبذلك حقَّ للصحابيات المؤمنات التشرُّف بمبايعة النبي الكريم، مع ما في ذلك من إقرارٍ بقيمتهن في المجتمع، وبدورهن في المحافظة على بنيته طاهرة نظيفة من كلِّ دنس. تلك البيعة الَّتي كانت عهداً على صيانة المقوِّمات الأساسية لبناء العقيدة والمجتمع وهي:
1 ـ عدم الشرك بالله.
2 ـ عدم ارتكابهن ما يُخِّل بأمانتهن وشرفهن كالسرقة والزنا.
3 ـ عدم قتل الأولاد، بما في ذلك الإجهاض دون مبرر شرعي، فهنَّ مؤتمنات على ما في أرحامهن.
4 ـ ألاَّ يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم، وأن يحافظن على العفة صيانةً لأنفسهن ولأُسَرهن.(2/125)
5 ـ ألاَّ يعصين الرسول صلى الله عليه وسلم في معروف، وهذا يشمل العهد بطاعته في كلِّ ما يأمرهن به، وهو لا يأمر إلا بمعروف. أخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: «كان فيما أُخِذَ على النساء من المعروف ألاَّ يَنُحن، فقالت امرأة: لابدَّ من النَّوْح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنتن لابدَّ فاعلات فلا تخمشن وجهاً، ولا تخرقن ثوباً، ولا تحلقن شعراً، ولا تَدْعُنَّ بالويل، ولا تقلن هجراً إلا حقاً».
فلما بايعت النساء على هذه الأسس الخمسة قُبلت بيعتهن، واستغفر الرسول لهن عما سلف. أمَّا كيفية البيعة، فقد أخرج ابن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثمَّ يغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعته.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذين كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادِنا صالِحَيْنِ فخانَتَاهُمَا فلم يُغنيا عنهُما من الله شيئاً وقيلَ ادخُلا النَّارَ مع الدَّاخلين(10) وضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذين آمنوا امرأةَ فرعونَ إذْ قالتْ ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنَّة ونجِّني من فرعونَ وعَمَلِهِ ونجِّني من القومِ الظَّالمين(11) ومريمَ ابنةَ عِمْرانَ الَّتي أحصنَتْ فرجها فنفخنا فيه من روحِنا وصدَّقَتْ بكلماتِ ربِّها وكُتُبهِ وكانت من القانتين(12)}
ومضات:
ـ إن هذا النص القرآني يسلِّط الضوء على نموذجين متناقضين من النساء، وهذا التناقض بينهما قائم على أساس التناقض بين الكفر والإيمان. يتجسَّد النموذج الأوَّل بزوجتي نَبِيَّيْن صالحين هما نوح ولوط عليهما السلام، عاشت كلٌّ منهما في بيت النبوة وتنعمت فيه، ولكنَّ الشقاء غلب عليهما فلم تنفعهما قرابتهما الجسدية للأنبياء شيئاً، ووقعتا في شرِّ أعمالهما وكفرهما.(2/126)
أمَّا النموذج الثاني فيتجلَّى بآسية زوجة فرعون، والصدِّيقة مريم العذراء؛ فالأولى عاشت في بيت فرعون مدَّعي الألوهية، وهي توحِّد الله وتعبده وتبتهل إليه ليخلِّصها منه ومن أعوانه الظالمين، والثانية لم تكن زوجة لنبي أو ابنة له، ومع ذلك فقد كانت عابدة، تقيَّة، ورعة، استحقَّت أن تكون أمَّ النبي الرسول عيسى المسيح عليه السلام. فالفرق ما بين النموذجين بيِّن شاسع، كالفرق ما بين عمليهما ومصيريهما.
في رحاب الآيات:
أي نوع من النساء تلك الَّتي عاشت في بيت النبوة والعلم والحكمة، وكانت زوجة النبي وشريكة حياته، لكنَّها لم تؤمن به ولم تستجب له، ولم تتعرض للنفحات الربَّانيَّة الَّتي كانت تُغدق عليه من غير انقطاع!. لقد جعل الله هذه المرأة الكافرة مثالاً يبيِّن به حال الكافرين الَّذين لم ينتفعوا بعظات النبيين والمرسلين، لظلمة قلوبهم، وسوء أعمالهم، وفساد نفوسهم، فكانت امرأة نوح وامرأة لوط، مثلاً بيِّناً على أن النسب والقرابة، لا يحولان بين الكافر وبين عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ لقد كان جديراً بهما وهما في عصمة نَبِيَّيْن أن تنتفعا بهديهما، وتحصلا على ما فيه سعادتهما في المعاش والمعاد، لكنَّهما رفضتا ذلك، وارتكبت كلُّ واحدة منهما خيانة في حقِّ الدعوة والنبوة، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وأرشدت الثانية قوم لوط إلى ضيوفه ليكونوا هدفاً لمآربهم الخبيثة، فلم تدفع عنهما صلتهما بالنبيَّيْن شيئاً، وحاق بهما سوء عملهما، وستدخلان النار في زمرة داخليها جزاءً وفاقاً.(2/127)
وجعل الله تعالى زوجة فرعون، ومريم ابنة عمران نموذجاً رائعاً للمرأة الصالحة، فقد عاشت آسية بنت مزاحم زوجة فرعون في قصره، وهو راعي الكفر ومدَّعي الألوهية فلم تعبَأْ بكفره وتسلُّطه؛ بل فتحت قلبها للهداية فراح يشرب من مناهل الإيمان، ويحلِّق في أجواء التعبُّد لله الواحد الأحد العزيز القهار. فقد آمنت بموسى عليه السلام ولما بلغ ذلك فرعون أمر بقتلها، فدعت ربَّها قائلة: ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنَّة النعيم، وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه، ومن أتباعه الطغاة؛ فنجّاها الله من شره، ولم يضرَّها اتصالها به وهو زعيم الكافرين. وفي هذا دليل على أن سنن الله تقضي بألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكلِّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ودعاؤها هذا وموقفها هما مثلٌ للاستعلاء على عَرَض الحياة الدنيا في أزهى صورة، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان رضي الله عنه قال: كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت تَرى بيتها في الجنَّة.
وأمَّا مريم ابنة عمران العفيفة، الطاهرة الشريفة، الَّتي حفظت فرجها وصانته عن مقارفة الفواحش، وآمنت بشرائع الله القدسية وكتبه، وكانت من الطائعات العابدات، حتى أثنى الله عليها لكثرةخشوعها وتضرُّعها، وتعبُّدها، ثمَّ أرسل جبريل الأمين إليها لينفخ في جيبها فحملت بعيسى عليه السلام، وأصبحت أُمّاً لرسول كريم.(2/128)
إن إفراد امرأة فرعون بالذِّكر هنا مع مريم ابنة عمران، يدلُّ على المكانة العالية الَّتي جعلتها قرينة مريم في الذِّكر، بسبب معاناتها وبلائها، فكلاهما نموذج للمرأة المتطهرة المؤمنة القانتة، يضرب الله بهما المثل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنات من بعدهن في كلِّ جيل. أخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل نساء أهل الجنَّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
فكلُّ نفس رهينة بما اكتسبته في الدنيا؛ فلا القرب من الصالحين ينجي مع ارتكاب الذنوب، ولا القرب من العصاة يضر مع الامتثال والطاعة، فلتنظر كلُّ نفس ما قدمَّت لغدٍ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والخلاصة: أن الإسلام يقدِّم صوراً زاهية للقنوت وحسن العبادة من خلال امرأتين كريمتين، ولا يخفى على كلِّ ذي لبٍّ ما في هذا من تكريم للمرأة عموماً، حين يجعل منها مثلاً يُضرَب للمؤمنين، رجالاً ونساءً، ليحثَّهم على الاقتداء بهما.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {وإذا بُشِّرَ أحدُهُمْ بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مُسْوَدّاً وهوَ كظيم(58) يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّرَ به أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرابِ ألا ساءَ ما يحْكُمون(59)}
ومضات:
ـ لو نظر الوالد إلى ابنته الوليدة بعين البصيرة والتدبر، لرأى فيها وجه أمِّه الَّتي احتضنته وأحسنت إليه، ورأى فيها أمَّ المستقبل، الَّتي في حجرها يستمر النوع البشري ويتواصل، ولشعر بالسرور الغامر، لأنه يمكنه من خلال ابنته أن يتابع رسالة البناء والإعمار بحُسن تربيتها وتزويدها بالعلوم والفضائل.
في رحاب الآيات:(2/129)
إن نظام الحياة قائم على قانون الزوجية، ومن التزاوج بين الذَّكر والأنثى يستمر النسل وتتكاثر الأحياء. وإذا ما تأمَّلنا عالم الحيوان، وجدنا الذَّكر منه يتعاون مع الأنثى، ويرعى أولاده من الجنسين، ويذود عنهما بخوف واندفاع واحد، وبدرجة اهتمام واحدة، فلا فرق عنده بين ذكر وأنثى. فما بال الإنسان يتمرَّد على قانون الله، وينحطُّ في هذا الشأن إلى رتبة دون رتبة الحيوان، فيتألَّه على الله يحيي ويميت، يستحيي الذكور ويقتل الإناث، لا لشيء إلا لأن مجتمعه ينبذ الإناث ويفضِّلُ الذكور، ولأن العُرف الجائر يقضي بمثل هذا الظلم والتعسُّف الَّذي يهدر قيمة الإنسان، الَّتي رفعها الله وأعلى قدرها، فقال: {ولقد كرَّمنا بني آدم..} (17 الإسراء آية 70).(2/130)
وقد درج المجتمع البشري القديم بأَسْرِهِ، بما في ذلك اليونان والرومان، على إهانة المرأة، فَعَدَّها بعضهم مخلوقة من نسل الشيطان، وَعَدَّها بعضهم الآخر خادمة للرجل السيِّد وجارية عنده، وكانت بعض القبائل العربية في المجتمع الجاهلي تَئِد البنات، فيدفن الأب ابنته في التراب عقب ولادتها خشية العار. فجاء الإسلام ليردَّ لها كرامتها، ويُبدِّل ظلمة قلوب الناس إلى نور وَضَّاء، ويحيل قسوتهم تجاهها رحمة؛ فهذا كتاب الله يأتي بالقول الفصل في قضية الدفاع عنها، ويغوص في أعماق العالم الداخلي للإنسان الجاهلي ليشعره بالخجل من فعلته، ويرصد حركاته الداخلية والخارجية رصداً دقيقاً، فهو حين يُبشَّر بالأنثى يَعَدُّ ذلك نعياً يعود عليه بالعار والذل بين قبيلته، فتنقبض أسارير وجهه، ويتقطَّب جبينه، ثمَّ يَنْسَلُّ من بين الناس وكأنه لصٌّ يخشى أن يُضبط متلبِّساً بجريمته، حتى إذا انفرد بنفسه، وقع فريسة صراع نفسي لا أقسى ولا أمر، هل يحتفظ بالمولودة ويعرِّض نفسه للذل والعار بين أفراد قبيلته؛ لتعيش في بيته مقهورة ذليلة، لا ترث ولا تتمتع بأي امتياز يحظى به الذَّكر؟ أم أنه يلقي بحمله الثقيل في ثنايا التراب، فيدفنها ويدفن معها ما يظنه عاراً، مخمداً صوت الحياة الَّذي يصدح في صدرها؟؛ إنه في الحالتين مجرم آثم، لأنه لم يتقبَّل هبة الله بما تستحقُّ من التكريم وحسن الوفادة. إن ما يفعله هذا السفَّاح اعتداءٌ على حقوق الله واستهانة بمخلوقاته، وخروج عن قوانينه، وقد قبَّح الله تعالى عمل هؤلاء وأظهر فظاعة جرمهم بقوله: {وإذا الموؤودَةُ سُئِلَتْ * بأيِّ ذنبٍ قُتِلت} (81 التكوير آية 8ـ9). إن مجرد تصوُّر عملية خلق الإنسان في معمل الرحم، وكيف تتطور النطفة المهينة إلى إنسان سوي لجدير بأن يهز ضمير الإنسان، وأن يحفزه على احترام بذرة الحياة وهي تُصَنَّع في هذا المعمل العظيم، وتحمله على حُسن استقبالها حين تخرج إلى النور، فكيف يغتمُّ(2/131)
من يبشَّر بالأنثى، وهو لا يملك أن يخلق جناح بعوضة؟.
وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على العناية بالبنات، فورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهنَّ كُنَّ له ستراً من النار»، وأخرج أبو نُعَيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له بنت فأدَّبها فأحسن أدبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نِعم الله الَّتي أسبغ عليه كانت له ستراً أو حجاباً من النار».
والسؤال الَّذي يطرح ذاته هو: هل تعيش المرأة اليوم في عصر العلم، حياة أفضل من تلك الَّتي كانت مثيلاتها تعيشها في العصر الجاهلي؟ وهل تتمتع بالإنصاف والإحسان، فتُستَقْبَل الأنثى بالفرح نفسه الَّذي يستقبل به الذَّكر؟ الجواب: لا. فما زالت عقدة رعاية الأنثى تلاحق بعض الآباء وكأنها آفة، فمتى يَنْفُضُ هؤلاء عن عقولهم رواسب الجهل، ويعودون إلى القرآن العظيم ليستقوا منه نور الإسلام، ويؤمنوا بأن الحياة هي هبة الله المقدَّسة، الَّتي علينا أن نصونها وفق قوانين الله تعالى ومشيئته، وأن نكرِّم مخلوقاته وفق ما يُرضيه عنا، ليبقى للحياة الديمومة مع العزَّة والكرامة؟.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيِيَنَّهُ حياةً طيِّبةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أجرَهُمْ بأحسنِ ما كانوا يعملون(97)}
ومضات:
ـ ردَّ الإسلام للمرأة كرامتها، وحفظ لها حرمتها، وحثَّها على العمل البنَّاء المنتج، شريكة للرجل، في سبيل سعادة المجتمع ورقيِّه الأخلاقي والعلمي.
ـ العمل الصالح المثمر هو ما اقترن بالإيمان، لأن ما كان من العمل لله دام واتصل، وما كان لغيره انبتَّ وانفصل.
في رحاب الآيات:(2/132)
المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل أمر طبيعي، لأن المكانة الاجتماعية لأيٍّ منهما لا تقلُّ أهمِّيَّة عن الآخر، لذلك حثَّ الله تعالى كلا الجنسين على العمل المنتج، لما فيه خير المجتمع، وعدَّ ذلك من العبادة، وقد ساوى الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً بين المرأة والرجل في أمور كثيرة تُعَدُّ أسس الحياة الكريمة، وقوام الاعتبار الإنساني الرفيع في إثبات الحقوق وإيجاب الواجبات منها:
1 ـ المساواة في الإنسانية، قال تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكُمْ الَّذي خَلَقَكُمْ من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زَوجَها وبَثَّ منهما رِجالاً كثيراً ونساءً..} (4 النساء آية 1).
2 ـ المساواة في الخَلْق، فنفس الرجل ونفس المرأة سواء قال تعالى: {ونفسٍ وما سوَّاها * فألهمَهَا فُجورَهَا وتقواها * قدْ أفلحَ من زكَّاها * وقدْ خابَ من دسَّاها} (91 الشمس آية 7ـ10).
3 ـ المساواة في حقِّ الحياة، لذا حرَّم الله تعالى وَأْدَ البنات فقال سبحانه: {وإذا الموؤودَةُ سُئِلَتْ * بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (81 التكوير آية 8ـ9).
4 ـ المساواة في التكاليف الشرعية والتحلِّي بمكارم الأخلاق والثواب على ذلك، قال تعالى: {إنَّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصَّادقينَ والصَّادقاتِ والصَّابرينَ والصَّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدِّقينَ والمتصدِّقاتِ والصَّائمينَ والصَّائماتِ والحافظينَ فروجَهُمْ والحافظاتِ والذَّاكرين الله كثيراً والذَّاكراتِ أعدَّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً} (33 الأحزاب آية 35).
5 ـ المساواة في التحذير من العقاب، قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ..} (66 التحريم آية 6).(2/133)
6 ـ المساواة في فريضة العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» (رواه مسلم) وكلمة مسلم اسم جنس، وهي تشمل في اللغة العربية الذكر والأنثى.
7 ـ المساواة في العقوبات كالزنا والسرقة، إذ لاتتغير العقوبة على أية جريمة باختلاف جنس الجاني، قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة} (24 سورة النور آية 2). وكذلك المساواة في القِصاص، فالرجل يُقتَل بقتل المرأة عمداً في الشريعة الإسلامية، كما يُقتَل بقتل الرجل، كذلك المرأة تُقتل بقتل الرجل عمداً، كما تُقتل بقتل المرأة.
8 ـ المساواة في حقِّ العمل بما يتفق مع فطرتها ووظيفتها في الحياة، قال تعالى: {وقُلِ اعمَلوا فسيرى الله عملَكم ورسولُهُ والمؤمنون..} (9 التوبة آية 105).
9 ـ إقراره لحقِّ المرأة في الميراث، قال تعالى: {للرِّجالِ نَصيبٌ ممَّا تَركَ الوالدانِ والأقرَبُونَ وللنِّساءِ نَصيبٌ ممَّا تَركَ الوالدانِ والأقربونَ ممَّا قلَّ منه أو كَثُرَ نَصيباً مفْروضاً} (4 النساء آية 7).
10 ـ المساواة في الأهلية لإجراء العقود وسائر التصرُّفات المالية القولية والفعلية: كالتبرُّع والصدقة والدَّين والوقف والبيع والشراء والوكالة والكفالة... إلخ.
11 ـ المساواة في حقِّ التملُّك وأن يكون لها ملكيَّة منفصلة عن ملكيَّة الرجل، سواء كان أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً أو غيرهم، وأن يكون لها حرية التصرُّف في هذه الملكية بمعزل عن سيطرة الرجل وخصوصاً الزوج.(2/134)
12- المساواة في الحقوق الاجتماعية مثل حقِّ البيعة بدليل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إذا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ …} (60 سورة الممتحنة آية 12). وكذلك حقُّ الإجارة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ بنت أبي طالب حين أجارت الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة: «قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمَّنتِ» (رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله ابن عكرمة). وينسحب على ذلك جميع الحقوق السياسية، طالما أن في وجود المرأة المناسبة تأدية الخدمات السليمة لمجتمعها.
وبعد أن أعلن الإسلام موقفه الصريح من إنسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر إلى طبيعتها، وما تصلح له من أعمال الحياة فأبعدها عن كلِّ ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة، وخاصَّة دورها في الأمومة، ولهذا خصَّها ببعض الأحكام دون الرجل زيادة أو نقصاناً، كما أسقط عنها بعض الواجبات الدِّينية في ظروف معينة للغرض نفسه، وليس في هذا ما يتنافى مع مبدأ مساواتها بالرجل في الإنسانية والأهلية، والكرامة الاجتماعية، والحقوق والواجبات العامَّة، بل هو توفيق بين إمكاناتها وكفاءاتها من جهة، وظروفها من جهة أخرى.(2/135)
والآية الكريمة تقرِّر أن من يعمل صالحاً من كلا الجنسين، بشرط الإيمان، فله الحياة الطَّيِّبة، والجزاء الأوفى عند الله تعالى، فالله جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب، لأنه لابدَّ له من قاعدة أصيلة يرتكز عليها وهي الإيمان بالله، وعلى غير هذه القاعدة لا يقوم بناء. والعقيدة هي المركز الَّذي تُشَدُّ إليه الخيوط جميعها، وهي الباعث على هذا العمل حتى تتحقَّق الغاية المرجوَّة منه. والعمل الصالح هو ما كان لوجه الله وطلب رضاه، ليس فيه هوىً ولا رياء، وجزاؤه حياة طيِّبة على هذه الأرض؛ وفي الحياة أشياء كثيرة تطيب بها: منها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان لرعايته وستره ورضاه، ومنها الصحة والهدوء والرضا والبركة، والرزق الحلال والكسب المشروع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: « اللهم قنِّعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلُف عليَّ كلَّ غائبة لي بخير» (أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي).
وهكذا نجد أنَّ لكلِّ عمل صالح جزاءً في الدنيا والآخرة، وأن الجزاء الطَّيِّب في الدنيا لا ينقص من الأجر الحسن في الآخرة، بشرط أن نحتسب ما نعمل لوجه الله تعالى، وأن نؤمن أن ما نقوم به من عمل هو لمصلحة الجماعة وبدافع حبِّ الآخرين، فلا فائدة من مؤمن منغلق على نفسه، منعزل عن أمَّته، لا يشاركها همومها وأفراحها، ولا يمدُّ لها يد العون متكاتفاً مع إخوانه لأن: «الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه» (رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
الفصل الرابع:
بناء الأسرة في الإسلام
سورة الروم(30)
قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفسِكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إليها وجَعَل بينَكُمْ مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون(21)}
ومضات:(2/136)
ـ جعل الله تعالى للرجل والمرأة دورين متكاملين يتمِّم أحدهما الآخر، ولا يطمئن أحدهما إلا بالآخر، ولا يزالان في قلق واضطراب حتَّى يلتقيا ويدخلا معاً مجتمع السكينة والطمأنينة. وطبقاً لهذه العلاقة التكاملية يمكن للبيوت أن تشاد، وللأسر أن تزدهر، وللمجتمعات السعيدة أن تؤسَّس.
ـ الأسرة تَجمُّع مقدَّس له غايات سامية، طالما حرص الإسلام على إبقائه قوياً متماسكاً، يحقِّق أهدافه ويصمد أمام الطوارئ والأحداث.
ـ الغاية من بناء الأسرة إنجاب النسل الصالح، وحصول السَّكَنِ النفسي بين الزوجين، وانسجام أفراد الأسرة في ظلال شرع الله الخالد.
ـ الأسرة الَّتي تُبنى على قواعد الإسلام الحقيقية، هي أسرة باقية مدى العمر لا تنفصم عراها ولا تنحل أوصالها.
ـ يحافظ الإسلام على الحقوق المتبادلة بين الزوجين، ويربِّي كلاً منهما على احترام حقوق الآخر، والاكتفاء بالحقوق الشرعية الَّتي منحها له شرع الله.
ـ لا يُلجأ إلى الطلاق إلا في الحالات النادرة، وعندما تصبح الحياة بين الزوجين عقيمة لا تحقِّق غايتها، عندها يأذن الشرع بإيقاع الطلاق؛ لتجد الزوجة رجلاً آخر تتعاون معه على تحقيق أهداف الإسلام من الزواج، وليجد الرجل امرأة يتعاون معها على بناء أسرة سليمة.
في رحاب الآيات:(2/137)
الأسرة كيان مقدَّس في نظر الإسلام، وهي اللَّبِنَة الصالحة الأساسية في بناء المجتمع الإنساني السليم، ولهذا أَوْلَى الإسلام بناءها عناية فائقة، وأحاط إنشاءها بأحكام وآداب تكفل أن يكون البناء متماسكاً قويّاً، يحقِّق الغاية الكبرى من وجوده. إن الزواج الإسلامي هو بداية الطريق، فالحياة الزوجية في الإسلام علاقة شرعية مقدسة، قَلَّ من يلتزم شرع الله فيها، ويراعي حقوقها وواجباتها؛ نتيجة للجهل بأحكامها وآدابها أو تجاهل ذلك، لذا فإن كثيراً من المشكلات والأزمات تحدث بين الزوجين، فتتعرض الأسرة إلى هزَّات عنيفة، قد تؤدِّي إلى زعزعة أركانها وانفصام عراها. ونحن بإزاء آية كريمة تُشِعُّ نوراً وتنطق حكمة، فهي تقرِّر أن المرأة آية من آيات الله تعالى، خلقها من جنس الرجل لأن المجانسة من دواعي التآلف، والمخالفة من أسباب التباعد والتنافر، ولقد خلقها الله تعالى لتكون زوجةً له وسكناً لقلبه، والسكن أمر نفساني، وسر وجداني يجد فيه المرء سعادة تشمل جميع أجزاء حياته، وهذا من الضرورات المعنوية الَّتي لا يجدها الرجل إلا في ظل المرأة. ولا يخفى أن ما يجده الرجل في المرأة تجد المرأة نظيره في الرجل، وما لم يكن هناك سكن ومودَّة ورحمة بين الزوجين، فإن الخلل يصيب الحياة الزوجية، ولابدَّ من إصلاحه؛ لتعود تلك الحياة إلى المنهج الإلهي، فتعود إليهما المكافأة الربانيَّة العاجلة من الألفة والمحبَّة، والتفاهم والتعاون على النهوض بأعباء المسؤولية الزوجية. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن معنى {مودَّة ورحمة}، فقال: (هي التنازل عن حقوقك)، فأنت عندما تحبُّ إنسانا تتغاضى عن هفواته وعثراته.(2/138)
وبهذا التصوير يضع القرآن الكريم أسس الحياة العاطفية الهانئة الهادئة؛ فالزوجة ملاذ الرجل يأوي إليها بعد جهاده اليومي في سبيل تحقيق العيش الحر الكريم، والركن الَّذي ينحاز إليه بعد كدِّه وجهده، فيأنس بها ويفضي إليها بآلامه وآماله، فتكون له خير مواسٍ ومعين، وتكون من الزوجات اللواتي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهن عندما قيل له: «أيُّ النساء خير؟ فقال: الَّتي تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» (رواه أصحاب السنن). فحقُّ الزوج على زوجته أن تتلقَّاه كلَّ يوم فَرِحَةً مرحة، طلقة الوجه، مبتسمة الثغر، نظيفة الجسد، طيِّبة الرائحة، لا يشمُّ منها إلا طيِّباً، ولا يرى منها إلا جميلاً، ولا يسمع منها إلا عذب المنطق وطيِّب الحديث، فتستحقُّ بذلك رضوان الله فضلاً عن مرضاة زوجها، لما جاء في الحديث الشريف: «إن الله يحبُّ المرأة البَزِغَة المَلِقة» (رواه أبو نعيم في الفردوس عن الإمام علي كرَّم الله وجهه). والبَزِغة هي المتزينة لزوجها حتَّى تبدو كالشمس في بزوغها وإشراقها، أمَّا المَلِقة فهي الَّتي تتودَّد له بحسن الكلام وجميل الفعال.(2/139)
وكما يفرض الإسلام للزوج على زوجته حقوقاً ويضع عليها واجبات، فكذلك يجعل للنساء على أزواجهن حقوقاً ويضع عليهم واجبات، فخير الرجال خيرهم لزوجاتهم، والسعيد من الأزواج من يجعل من امرأته صديقاً له بكلِّ ما في هذه الصداقة من معنى؛ والسبيل إلى ذلك حسن المعاملة الَّتي نص عليها قول الله تعالى: {..وعاشِروهُنَّ بالمعروف..} (4 النساء آية 19) ومن المعروف احترامها، ومراعاة حقوقها ومشاعرها لِتُبادِلَه حسن العشرة؛ فتحترم مشاعره، وتقدِّره حقَّ قدره، وتوفِّر له أسباب الراحة والطمأنينة، والأُلْفة والمودَّة، فيَشيع في البيت جوٌّ من الاستقرار النفسي، ويخيِّم على الجميع التوادد والتراحم، وتتحقَّق بهذا، الغاية المرجوَّة من الزواج فيكون زواجاً سعيداً.
أمَّا الزواج الَّذي لا يقوم إلا على المتعة الجسدية، فإنه لا يستحقُّ أن يسمَّى زواجاً؛ لأن السعادة في الحياة الزوجية تقوم على أساس أعمق وأبعد من هذا، إذ أنها ثمرة رباط روحي وقلبي قبل أن يكون رباطاً جسدياً. وقد اقتضت حكمة الله خَلْقَ كلٍّ من الجنسين على نحو موافقٍ للآخر، مُلَبياً لحاجاته الفطرية والنفسية، والعقلية والجسدية، بحيث يجد عنده الراحة، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والرحمة، فما أسعد المؤمن الحقيقي بزوجته المؤمنة وما أسعد المؤمنة الحقيقية بزوجها المؤمن.(2/140)
وانطلاقاً من هذا نرى أنَّ الإسلام أحاط الأسرة بتشريعات وأحكام متوازنة، يلتزم بها كلٌّ من الزوجين، ممَّا يكفل بناءها بناءً سليماً، كما قال الله تعالى: {..ولهنَّ مِثْلُ الَّذي عليهِنَّ بالمعروفِ..} (2 البقرة آية 228). ولقد توَّج الشارع الحكيم العلاقة الزوجية بعوامل الاستقرار والمودَّة، وهي مجموعة من الأخلاق الفاضلة والمُثُل العليا الكاملة، والَّتي تعتبر بحقِّ بمثابة حوافز دافعة لتحقيق قوله تعالى: {ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكُنوا إليها وجعلَ بينكم مودَّةً ورحمةً..}، وهي في الوقت نفسه ضوابط مانعة من التجاوز والتعسُّف والإساءة إلى الكيان المقدَّس (الأسرة).
لقد أراد الإسلام للأسرة أن تكون كياناً راسخ القواعد والجذور شامخ البنيان، مثمراً الثمار المرجوَّة، منتجاً النتاج الطيِّب المبارك، لذلك سلك بالمجتمع الَّذي أراد بناءه؛ المنهج الأمثل لإقامة مجتمع إنساني على قواعد متينة من التآخي والتحابب والتعاون والإيثار، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى» (متفق عليه من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنه ).
وما الأسرة في الإسلام إلا لبنة متماسكة متناسقة مع ما حولها من اللبنات في البناء القوي المتين، وبغية الوصول إلى هذه الغاية الجذَّابة الكبرى نهج المنهج التالي:
1 ـ ربَّى أفراد الأمة رجالاً ونساءً على الإيمان، حتَّى أصبح امتثال أوامر الله واجتناب محرَّماته أحبَّ إلى المسلم من الماء البارد على الظمأ الشديد.
2 ـ ألزم الأولياء باختيار الزوج الملتزم بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، وهو وصف ينبغي أن يتحقَّق في الطرفين.
3 ـ سمح للخاطبين بأن يرى كلٌّ منهما الآخر ويجلسا مع بعضهما ويتحدَّثا معاً، ممَّا يعطيهما الفرصة لتعرُّفِ الميول والرغبات الشخصية لكلٍّ منهما.(2/141)
4 ـ أمر كلاً من الزوجين بالإحسان إلى الآخر ومعاشرته بالمعروف.
5 ـ عند حدوث خلاف بين الزوجين أمر باتِّباع مجموعة من الإجراءات تكفل العودة بهما إلى الحياة الزوجية المنشودة.
6 ـ عندما يتعسَّر الاستمرار في العلاقة الزوجية بين الزوجين أَذِنَ بالطلاق ضمن قواعد وآداب وشروط تجعل منه علاجاً، بدل أن يكون عبُوَّة ناسفة تدمِّر كيان الأسرة.
7 ـ عند انحلال عقدة الزواج ألزم كلاً من الزوجين بالتزامات تضمن الحقوق لكلٍّ منهما، وتمنع من التجاوز واختلاط الأنساب.
إن الدارس للمنهج الإسلامي في العلاقات الزوجية لابدَّ أن يلمس في هذا المنهج الحقائق التالية:
أوَّلاً: أثر تديُّن الزوجين في استقرار الحياة الزوجية، وأداء الأسرة لدورها الاجتماعي المنشود:
إن الإسلام عقيدة تملأ القلب من نور الله وخشيته، وتحمل المؤمن على العمل بمقتضى منهجه وشريعته، وتغرس فيه أخلاقاً كريمة توطِّد صِلات المودَّة بين الناس، فتجعل علاقاتهم قائمة على الانسجام والتكامل لا على التنافر والتنازع.
وانطلاقاً من ذلك نرى أن الزوجين المسلمين حَقَّ الإسلام، المؤمنين حَقَّ الإيمان، يسعيان معاً بكلِّ صدق وإخلاص إلى تطبيق مبادئ هذا الدِّين الخالد وقِيَمِه العليا في علاقاتهما اليومية.(2/142)
إن الزوج المسلم وكذا الزوجة المسلمة يعلم كلٌّ منهما منهج الإسلام الَّذي يحدِّد مسلك العلاقة بينهما، ومادام الإيمان قد ملأ قلبيهما، ومادامت خشية الله قد ملكت عليهما السمع والبصر والإرادة، فلابدَّ أن يسعيا لأداء الحقوق لأصحابها، وتنفيذ الواجبات الملقاة عليهما بل وفوق ذلك، فإن الزوج المسلم يرى في أداء حقوق زوجته باباً من أبواب طاعة الله والتقرُّب إليه، وترى الزوجة المسلمة في قيامها بواجباتها تجاه زوجها، قربة من القربات تتقرَّب بها إلى مرضاة ربِّها، وكلٌّ منهما يرى في الآخر أنه هديَّة من الله تعالى، فيحسن صنعاً بهديَّة الله، لأن إكرام الهديَّة من إكرام مهديها، وإهانة الهديَّة إهانة لمن أهداها.
وهكذا نرى أن العلاقة الطيِّبة تنمو بينهما باستمرار، وتزدهر بعيداً عن كلِّ ما يعكِّر صفوها، بل إن الفتور لا يجد في هذا الجدار المنيع ثغرة ينفذ من خلالها إلى حياتهما، وأن حرارة المودَّة تنبع من الإيمان الَّذي ملك عليهما السمع والبصر والتفكير، وهذا الإيمان في ازدياد مستمر يوماً بعد يوم.(2/143)
إن أسرة تقوم حياتها على هذه الأسس، وإن علاقة زوجية تحكمها مثل هذه المفاهيم، لهي أسرة بعيدة كلَّ البعد عن الظواهر المَرَضِيَّة الَّتي تنشأ في العلاقات بين الناس، الَّذين لا يلتزمون بهذه المبادئ ولا يعتقدون بهذه العقيدة، ولا يقدِّسون هذه القيم، حيث تسود الأهواء والأنانية بعيداً عن هدي الله وشرعه؛ وتبدأ المشكلة بنزاع خفيف لا يلبث أن يتطور ويستفحل أمره، حتَّى يأتي على الأسرة فيدمِّرها، لأن كلاً من طرفيه لا يحتكم إلى الشرع الَّذي يوازن بين الحقوق والواجبات، والَّذي وضع لنا الميزان لنُميِّز بين الخطأ والصواب؛ هذا الميزان الَّذي اعتاد الناس أن يستغلُّوه في حال تعرضت مصالحهم للخلل... ويتجاهلوه في حال تعرَّضت مصالح غيره للخلل... والأشد خطورة من ذلك محاولة ـ بل وأحيانا ـ الإصرار على فلسفة الخطأ لإظهاره صوابا، بغية التمادي فيه... إننا في مثل هذه الحالة نجد أن هذا الطَّرَفَ أو ذاك أو كليهما أسير شهواته ورغباته الذاتية على حساب حقوق الطرف الآخر، وهنا يكمن الخطر، وهذا هو منبع الشر، لاسيَّما وأن الشيطان يجد في هذه البيئة ضالَّته المنشودة، فيزيِّن للمبطل باطله، ويعميه عن الحقِّ ولوازمه، فإذا هو قد ضل وسلك منهج الباطل بعيداً عن منهج الحقِّ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ويحقِّق مكسباً، ولا يدري أنه يسعى إلى شقائه الَّذي يلازم حياته ولا يفارقه؛ فيشعر بقلق دائم واضطراب مستمر ونزاع شديد مع الزوجة والأولاد والأهل والجيران، كلُّ ذلك نتيجة الإعراض عن هدي الله عزَّ وجل. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، إذ أن أمر الدنيا مهما عظُمَ فهو يسير، لأن الحياة فيها مؤقتة، لكنَّ الحقيقة الَّتي لا مراء فيها، أنَّ وراء هذه الحياة الأليمة الحاضرة، حياة أخرى دائمة أشد إيلاماً وأكثر عذاباً، مصداق قوله تعالى: {ومن أعرضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضَنْكاً ونحشرُهُ يومَ القيامةِ أعمى * قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً(2/144)
* قال كذلكَ أتتكَ آياتُنا فنسيتَها وكذلك اليومَ تُنسى} (20 طه آية 124ـ126).
إن هذه المعاناة الَّتي يعيشها كثير من الناس، إنْ هي إلا صفَّارة إنذار تنبِّه الغافل عن الحقِّ، لأن يثوب إلى رشده ويعود إلى جادَّة الشرع الإلهي المُسْعِد. وفي الطرف الآخر حيث شَرْعُ الله وآدابُ الإسلام؛ يتعلَّم الزوجان سعة الصدر والصفح والمسامحة والإغضاء عن الهفوات، فإذا لمس أحدهما من صاحبه تقصيراً غير متعمَّد في واجباته ـ لاسيَّما إذا كان بسبب ظروف قاهرة ـ تجده قد صبر وسامح وتنازل عن حقِّه، وبذا يغلق الباب في وجه الخصومات والمنازعات، ويفسح المجال واسعاً لتعايش قائم على الوفاق والأُلفة والتعاون والوفاء، لا على الشقاق والنُّفْرة والتعسُّف والخيانة.
إنَّ أُسرةً تقوم علاقات الزوجين فيها على هذا النحو، هي أسرة جديرة بأن تظللها السعادة الدائمة، وأن تكون مرتعاً خصباً لتربية الأولاد على الفضائل والمكارم، وبذا تكون قد أدَّت رسالتها وحقَّقت الهدف الأسمى من إنشائها، ألا وهو إمداد المجتمع بأفراد صالحين، وإعدادهم لتحمُّل المسؤولية، وليكونوا خلَفَاً صالحاً يرثون منهج أسلافهم الصالحين، وبذلك تدور رحى الحياة البشرية في الاتجاه الصحيح، وتسير قافلة الحياة على الطريق الآمن السويِّ، لتصل بعد أن تقطع المسافة المحدَّدة إلى السعادة الأبدية.
ثانياً: الأساس الصالح لاختيار كلٍّ من الزوجين صاحبه:(2/145)
كثيرة هي الأمور الَّتي تُراعى عند اختيار أحد الزوجين لصاحبه، ولكلٍّ من هذه الأمور دوره في تحقيق مطلب من مطالب الزواج، وقد لخَّص النبي صلى الله عليه وسلم هذه المطالب وردَّها إلى أربعة أمور فقال: «تُنكَح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدِّين ترِبت يداك» (متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ). ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر واحدة من هذه الأمور الثلاثة الأُوَل، فلكلٍّ منها دوره في إسباغ الراحة النفسية على كلٍّ من الزوجين، لكنَّها لا تقدِّم ولا تؤخِّر في بعث الهمَّة والإرادة والتصميم على الوفاء بالحقوق الَّتي لأحدهما على الآخر، بل ربَّما كانت عاملاً مثبِّطاً لهذه الناحية الأساسية في العلاقات الزوجية، فكثيراً ما يدفع التباين الجمالي بين الزوجين وكذا التباين المادي أو الاختلاف في المستوى الاجتماعي، إلى التعالي من قِبَل من يرى أنه مَحْظِيٌّ بقسط أوفر من هذه الأمور؛ فتسوء العلاقة ويحدث الخصام والنفور.
إن العامل الأساسي الَّذي لابدَّ منه في الزوجين هو عامل الدِّين والالتزام بأحكام دستور الله الخالد، وسنة النبي المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام، فهذا الالتزام هو الكفيل بإضفاء السعادة عليهما لأنه سيطبع المواقف والأقوال والأفعال بطابع الحقِّ؛ والحقُّ هو مطلب كلِّ مؤمن صحيح الإيمان.(2/146)
إن كلاً من المال والجمال والمستوى الاجتماعي مُعرَّض للتبدُّل والتغيُّر، فكم انقلب الجمال قُبْحاً إن لم تزيِّنه الفضائل، وكم حلَّ الفقر مكان الغنى، والضَّعَةُ الاجتماعية مكان الرِّفعة، وبقي لهذا الإنسان الخلق الذميم والسلوك المنَفِّر. لكنَّ الإيمان والتديُّن يزدادان يوماً بعد يوم، والخلُق الكريم المحبب يثلج صدر الزوجين بالراحة النفسية والاطمئنان والتمتع بالحقوق الَّتي يقدِّمها مَنْ عليه هذه الواجبات، رضيَّةً بها نفسه، ورغبة في رضاء الله تعالى، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى عندما أمر أولياء المرأة باختيار الرجل المتديِّن الخلوق فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (رواه الترمذي عن أبي حاتم المزني).
ثالثاً: أساس التعامل بين الزوجين في الإسلام:
إن القاعدة الأساسية الَّتي ينبغي أن تنطلق منها العلاقات بين الزوجين هي قوله تعالى: {..ولهنَّ مِثْلُ الَّذي عليهِنَّ بالمعروفِ وللرِّجالِ عليهِنَّ درجةٌ..} (2 البقرة آية 228) فلكلٍّ منهما حقوق، وعليه واجبات، وينبغي أن يؤدِّي واجباته فلا يفرِّط فيها، ولا يطلب زيادة على حقوقه متجاوزاً حدوده. أمَّا الدرجة الَّتي للرجال على النساء فهي درجة الإشراف والقوامة على شؤون الأسرة، وتحمُّل المسؤولية المالية، وليست درجة تشريف أو تمييز بين حقوقه وحقوقها، وهذه الدرجة هي الَّتي أهَّلت الزوج لأن يُخَاطَب بأمر الله ويُسْتَوْدَعَ أمانته سبحانه حيث أمر الرجل قائلاً: {..وعاشِروهنَّ بالمعروف..} (4 النساء آية 19) والمعروف هو كلُّ ما عُرِفَ حُسْنُهُ ونفعه، ونقيضُهُ المنكر وهو كلُّ ما استُنْكِرَ إثمه وضرره.
إن المعاشرة بالمعروف تدخل في كلِّ تصرف وكلِّ كلمة تدور بين الزوجين إلا أنَّ أظهرَ مظاهرها ما يلي:(2/147)
1 ـ تأمين جميع حوائجها العاطفيَّة والروحيَّة والماديَّة، من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء وغير ذلك في حدود طاقته ووسعه، على أن لا تقل عن حد الكفاية، قال تعالى: {..على المُوسِعِ قَدَرُهُ وعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ..} (2 البقرة آية 236) وقوله تعالى: {لينفقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ..} (65 الطلاق آية 7).
2 ـ إحسان القول والمعاملة وعدم الإساءة إليها بأيِّ شكل من أشكال الإساءة.
3 ـ الحفاظ على دينها وشرفها وعدم تعريضها للفتنة والانحراف.
4 ـ حثُّها على حضور مجالس العلم والإيمان لتغذية عقلها بالعلم وقلبها بنور الإيمان.
5 ـ حثُّها على أداء فرائض الله واجتناب محارمه.
6 ـ عدم تكليفها من الأعمال ما لا تطيق ومساعدتها إذا لزم الأمر.
7 ـ التوسعة في الإنفاق عليها وعلى سائر أهل بيته، لاسيَّما في مناسبات الأفراح والأعياد ضمن حدود الشرع وحدود طاقته.
8 ـ الحفاظ على مالها وممتلكاتها وعدم التدخُّل في شؤون ذلك إلا بإذن منها.
رابعاً: علاج الشرع للخلافات الزوجية:(2/148)
إن أسرة تسير في حياتها وسلوكها وفقاً لمنهج الله هي أسرة سعيدة مهما قلَّت ذات يدها، وهي أبعد ما تكون عن الخلاف بين الزوجين، ولكنَّ الالتزام المطلق بكلِّ هذا المنهج، ربَّما لا يتيسر في بعض الأسر أو لدى بعض الأشخاص في بعض الظروف والأحوال، فإذا نشأ الخلاف بينهما فإن الإسلام وضع منهجاً محدَّداً واضحاً، إذا ما طبَّقه الزوجان على هذا الخلاف تلاشى بإذن الله وزال أثره، وعادت الحياة الزوجية بينهما إلى سابق عهدها من الوفاق والألفة. وفي هذه الحالة إمَّا أن يكون المشتكي هو الزوج أو الزوجة؛ فإذا اشتكت الزوجة تغيُّراً في علاقتها مع زوجها، فإن الإسلام يأمرها أن تحاول إصلاح ما بينها وبينه بحكمتها وحسن تصرُّفها، قال تعالى: {وإنِ امرأةٌ خافت من بعْلِها نُشوزاً أو إعراضاً فلا جُناحَ عليهما أن يُصْلِحا بينَهُما صُلْحاً والصُّلْحُ خيرٌ..} (4 النساء آية 128). وأمَّا إذا أحسَّ الرجل من زوجته تغيُّراً في السلوك والمعاملة والخلق، ممَّا جعله ينفر منها ويشعر تجاهها بمشاعر الكراهية، فإن كتاب الله يأمره أن يستر ذلك فلا يشيعه، وفي الوقت نفسه يشكِّكه في هذه المشاعر ويصرف نظره إلى ما يرتضيه منها، ويبيِّن له أنه لا يدري ما ادَّخر الله له من الخير عندها، ويوجِّه نظره إلى لزوم المعاشرة بالمعروف حتَّى ولو كره منها بعض المواقف، قال تعالى: {..وعاشِروهنَّ بالمعروفِ فإن كرهتموهُنَّ فعسى أن تكرَهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً} (4 النساء آية 19)، فعلى الزوج أن ينزع من نفسه مشاعر الكراهية ويستبدلها بمشاعر المودَّة والتقدير للفضائل الَّتي تتحلَّى بها والمحاسن الَّتي تزيِّنها.(2/149)
وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يوجِّه الأنظار إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهي أن الكمال المطلق لله وحده، ولن يبلغ البشر درجة الكمال المطلق. فإذا رأى الزوج من زوجته أمراً لا يُسِر، فلا يجوز أن يغيب عن باله الأخلاق الكريمة الأخرى، والمزايا الفاضلة المتعدِّدة الَّتي تتحلَّى بها، فإذا ساءه شيء سَرَّتهُ أشياء، ولا يجوز أن يحمله ما يسوؤه منها وهو قليل، على الكراهية والبغض، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
كلُّ هذا والرجل يكتم عن زوجته ما في نفسه ولا يبوح لها بشيء، فإذا تأكَّد من أن الإساءة مقصودة وأن التفريط في حقوقه ليس هفوة ولا خطأً عارضاً، فعليه أن يلجأ إلى قول الله تعالى: {..واللاَّتي تخافونَ نُشوزَهُنَّ فعِظوهُنَّ واهجروهُنَّ في المضاجعِ واضربوهُنَّ فإن أطعنَكُم فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلاً إنَّ الله كان عليّاً كبيراً * وإن خِفتُمْ شِقاقَ بينهِما فابعثوا حَكَماً من أهلهِ وحَكَماً من أهلها إن يُريدا إصلاحاً يُوفِّقِ الله بينَهُما إنَّ الله كان عليماً خبيراً} (4 النساء آية 34ـ35).(2/150)
إن الدارس لهذا النص القرآني لا يخفى عليه أنه قد بيَّن ما ينبغي فعله على الرجل الَّذي لمس الإساءة المتكرِّرة من زوجته، فعليه أن يصارحها بإساءتها بأسلوب لائق محفوف بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبيِّن لها ما يترتَّب على ذلك من معصية الله وتحمُّل الذنوب والسيئات، والَّتي ستجني ـ إن أصرَّت عليها ـ ثمارها من غضب الله وعذابه ما لا يطاق، وأن هذه الحياة الدنيا مؤقتة زائلة، وأن طاعة زوجها أوجبها ربُّها سبحانه، فإن أدَّت حقَّه فازت بالجنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا صلَّت المرأة خمسها وحَصَّنت فرجها وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنَّة شاءت» (رواه ابن حبان في صحيحه)، وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنَّة» (رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها قلت: فأيُّ الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمُّه». (رواه البزَّار والحاكم).
إن علاج الرجل لأي ظاهرة مَرَضِيَّة في علاقته مع زوجته، وبهذا الأسلوب اللطيف، بعيداً عن مداخلات الآخرين كفيل برأب الصدع وإعادة الوفاق بينهما، لاسيَّما إذا ظهر من خلال هذا الحوار الهادئ الهادف البنَّاء، أن إساءة الزوجة كانت ردّاً على إساءة صدرت من الزوج عن غير قصد، فما أسرع عودة المؤمن عن خطئه إذا ظهر له ذلك الخطأ، وأمَّا إذا أصرَّت الزوجة على باطلها، وحملها الغرور على الاستمرار في الإساءة، فقد وجَّه القرآن الكريم الزوج إلى علاج آخر ألا وهو الهجر في الفراش.(2/151)
إن الهجر في الفراش إجراء علاجي ذو تأثير نفسي كبير على المرأة، حيث تجد تبدُّل الحال من إقبال إلى إدبار ومن مودَّة إلى جفاء. وإن المرأة العاقلة الَّتي ترى أن السعادة الَّتي كانت تلفُّ هذا البيت باتت مهدَّدة بالزوال، وأن المشاعر الطيِّبة والعواطف النبيلة الَّتي كانت تغمر علاقتها مع زوجها، قد اختفت وظهر مكانها ما يجرح العواطف ويبئس النفس، إن هذه الزوجة سُرْعان ما تتنازل عن موقفها وتهجر إساءتها وتعود إلى سابق عهدها وكريم خصالها المألوفة. فإذا فشل هذا العلاج السابق، وأصرَّت الزوجة على السير في الاتجاه الَّذي يرضي غرورها ويغضب زوجها وربَّها، فقد وضع الشرع الحكيم أمام الزوج أحد حلَّين لا ثالث لهما وهما، الضرب أو التحكيم:
أمَّا الضرب فقد شرعه الله علاجاً لمشكلة، فإذا عرف الزوج مسبقاً ممَّا يعلم من نفسيَّة زوجته واستعدادها، أن ضربها لا يفيد في إصلاحها، بل قد يزيد النار ضراماً، فعليه أن لا يلجأ إليه بل يتجاوزه إلى الخطوة التالية ألا وهي التحكيم. ولابدَّ هنا من وقفة عند هذا العلاج، فقد ذكره القرآن الكريم في معرض ذكر وسائل إصلاح العلاقة بين الزوجين، فإذا علمنا أنه سيزيد الخلاف شدَّةً ويباعد ما بين الزوجين أكثر فأكثر، فإن الضرب والحالة هذه لا يكون مشروعاً.
وحتَّى في الحالة الَّتي يجدي فيها الضرب، فإنه لم يُشَرَّع للانتقام، ولا ليروي الزوج المفجوع في علاقته مع زوجته غليله، في مخلوق جعله الله تحت إمرته. إن الضرب المشروع أقرب إلى الإيلام النفسي منه إلى التعذيب الجسدي، فاشتُرط فيه أن لا يترك أثراً على المرأة وأن لا يضرب الوجه ولا يعنِّف، وقد مثَّل الفقهاء فقالوا: كأن يضربها بطرف ثوبه أو بشيء لا يؤذي ولا يؤلم ألماً مبرِّحاً.(2/152)
يذكر بعض المحدثين أن وفداً من النساء أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الضرب كلُّ واحدة منهنَّ تشتكي ضرب زوجها لها، فوجَّه النبي صلى الله عليه وسلم كلامه إلى أولئك الأزواج وأمثالهم، والَّذين لم يعرفوا حدود ما أباحته الآية، فعن إياس بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن (أي تجرَّأن) النساء على أزواجهنَّ، فرخَّص في ضربهنَّ فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهنَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أطاف بآل بيت محمَّد نساءٌ كثير يشكون أزواجهنَّ، ليس أولئك بخياركم» (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
وواضح من الحديث أن الضرب لم يُبَحْ إلا لامرأة تجرأت على زوجها وتطاولت عليه، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ الَّذين يضربون زوجاتهم شرار الأمَّة وليسوا من خيارها. ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالقول إنما أَتبَعَ ذلك بالعمل، فهو خير من فَقِهَ كتابَ الله، فَعَلِمَهُ وطبَّقه وعَلَّمَهُ، ولم يثبت أنه ضرب امرأة قط، بل نجده صلى الله عليه وسلم أشد خوفاً من الله عزَّ وجل عندما أرسل جارية صغيرة في حاجة له، فلما أبطأت عليه خرج يتفقدها فوجدها تلعب ببهمة ـ شاة صغيرة ـ فاستدعاها وقال: «لولا خشية القَوَد ـ أي القصاص ـ لأوجعتك بهذا السواك» (رواه الإمام أحمد عن أم سلمة) وعلى ضوء هذه الحقائق ينبغي أن يفهم الرجال قضية ضرب الزوجات.(2/153)
وإذا لجأ الزوج إلى هذا العلاج فلم يُجْدِ في عودة الزوجة إلى جادَّة الحقِّ، وكذا الأمر إذا تجاوزه أصلاً فلم يلجأ إليه، وهو ما رغَّبَ به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، عندها ينبغي على الزوج ـ وفي هذا الوقت وليس قبله ـ أن يسمح بتسرُّب خبر خلافه مع زوجته خارج نطاق بيت الزوجية، أمَّا قبل ذلك فيجب أن يكون الخلاف بينهما محصوراً بين جدران البيت بعيداً عن مداخلات غيرهما، والَّذين قد يؤثِّرون فيه تأثيراً سلبياً فَيزيدون المشكلة تعقيداً. فإذا بلغت هذا الحد، ولم يفلح الزوج في محاصرة المشكلة ومعالجتها، فقد أمر الإسلام بأن يتولَّى العلاج شخصان حكيمان خبيران، أحدهما من طرف الزوج، والآخر من طرف الزوجة، حيث توضع أمامهما المشكلة بكلِّ حيثيَّاتها وأبعادها، ويحاولان الوصول إلى حلٍّ لها، فإن وجدا إمكانية لإعادة الوفاق والتفاهم بين الزوجين، فهذا بيت القصيد، وإن وجدا أن الخلاف عميق ولا يمكن إزالة أسبابه، أوصَيا بالطلاق، لأنه لا يمكن أن تستمر الحياة الزوجية في ظلال الخصام والتناحر والنزاع، لأن مثل هذه العلاقة لن تحقِّق أهداف الشرع من وجودها، والأولى الفصل بين هذين الزوجين، فلعل المرأة تجد رجلاً غيره تستطيع أن تتعاون معه على تحقيق مقاصد الزواج، ولعل الزوج يجد زوجة تتعاون معه، وبذلك يكون الطلاق خيراً على الطرفين وعلى المجتمع.
خامساً: منهج الإسلام في الطلاق:(2/154)
أقرَّ الشارع الحكيم مبدأ الطلاق بعد أن أحاطه بقيود صارمة، حفاظاً على الأسرة من إساءة استعماله، وصيانةً لحقوق المرأة والأولاد من عبث العابثين من الرجال واستهتارهم. وأباح الله تعالى اللجوء إليه بعد استنفاذ فرص المصالحة كافَّة، وانقطاع الأمل من عودة المياه إلى مجاريها بين الزوجين، وعدم جدوى جميع الحلول العلاجية الَّتي وضعها للعودة بالزوجين إلى الوفاق والحبِّ والتفاهم. ولم يترك الله تعالى المتفارقَيْنِ يغرقان في صراعات نفسية داخلية؛ بل واسى الأنفس المكلومة وأمدَّها بشحنة من الأمل في قوله سبحانه: {وإن يتفرَّقا يُغْنِ الله كُلاًّ من سَعَتِهِ وكان الله واسعاً عليماً} (4 النساء آية 130).(2/155)
فإذا وصلت العلاقات بين الزوجين إلى طريق مسدود، وأصبح الطلاق هو العلاج الوحيد للخروج من هذا المأزق العسير، فإن القرآن الكريم يخاطب هذا الرجل من خلال خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: {ياأيُّها النَّبيُّ إذا طلَّقتمُ النِّساءَ فطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصوا العدَّة واتَّقوا الله ربَّكُم لا تُخرجوهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يَأتِيْنَ بفاحشةٍ مبَيِّنَةٍ وتلك حدودُ الله ومن يتعدَّ حدودَ الله فقد ظَلَمَ نفسَهُ لا تدري لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً} (65 الطلاق آية 1) أي إذا عزمتم على طلاق النساء فطلِّقوهن لوقت عدتهن، وهذا يعني أن الزوج الَّذي سلك المنهج الَّذي حدَّده الإسلام للقضاء على الخلاف بين الزوجين، إذا وصل إلى هذا الحد فعليه أن يطلِّق إن أراد الطلاق طلقة واحدة، في طهر لم يمسها فيه، وهذا معنى لعِدَّتِهِنَّ، ولا يخفى أن الشرع الحنيف وضع في وجه الطلاق عقبة صعبة الاجتياز لأنه أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ فحيث تكون المرأة مطلب الرجل ومبتغاه بعد امتناع عن المعاشرة الزوجية طول مدة الدورة الشهرية، ههنا يوقفه الشرع وقبل أن يقضي منها أربه ويقول له: إن شئت أصبت منها مطلبك، وعندها يمتنع عليك الطلاق إلى ما بعد دورة شهرية قادمة، وإن شئت آثرت الطلاق، وعليه فالرجل المسلم حَقَّ الإسلام لا يُقْدِم على الطلاق إلا بعد يأسه من زوال أسبابه.
ولا يخفى أن توجيه الخطاب إلى الأمة الإسلامية من خلال الرسول صلى الله عليه وسلم أدعى إلى جلب الانتباه إلى هذا الحكم، والعناية به والالتزام بمضمونه من قبل الأمة.(2/156)
أمَّا ما يجري بين الناس من عدم الالتزام بهذا المنهج جملة وتفصيلاً، لا من حيث المراحل ولا من حيث الزمان ولا من حيث العدد، فهو ناتج عن ضعف الإيمان في نفوسهم، وهو في الوقت نفسه خروج عن مقتضى هذا المنهج وبُعدٌ عن هدي الله عزَّ وجل. وقد حدثت بعض الظواهر المَرَضِيَّة في هذا الشأن بين المسلمين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث طلَّق عبد الله بن عمر زوجته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها وإمساكها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض ثانية، ثمَّ تطهر، وعندها إن شاء طلَّق قبل أن يمسها، وإن شاء أمسكها بالمعروف. كما أنه حدثت حادثة أخرى وهي: «أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثاً دفعة واحدة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالمسلمين وهو مُغْضَب أشدَّ الغضب لدرجة أن غدا وجهه وردياً أحمر من شدَّة تأثُّره، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمَّ قال: أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم»؟! (أخرجه النسائي عن محمود بن لبيد).
ومع الإذن بالطلاق، ضمن هذه الشروط الَّتي قلَّ أن ينتهي الأمر بمن يراعيها إلى الطلاق، وعلى الرغم من ذلك كلِّه، لم يقطع الشرع الحنيف الأمل من عودة الوفاق بين الزوجين، فجاءت التشريعات لتثمر عودة الزوجين إلى الوفاق بعد الطلاق، وفي غالب الأحيان، حيث سمح بالطلاق ليكون تجربة يعيش فيها الزوجان، وخلال مدة العدَّة، وهي ثلاث دورات للعادة الشهرية؛ يعيشان حالة الفراق وهما قريبان من بعضهما في بيت الزوجية، كي ينظر كلٌّ منهما إلى ما يترتب على الفراق من آثار، فإذا وجد أن العودة إلى الوفاق أفضل كان بوسعهما الرجوع إليه فوراً، ولا يمنع منه أي مانع؛ بل إن التشريعات مهَّدت الطريق وهيَّأت الظروف لذلك.(2/157)
فهاهو ذا كتاب الله قد جعل الطلاق ثلاث مرات اثنتان رجعيتان والثالثة بائنة فقال تعالى: {الطَّلاقُ مرَّتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان..} إلى أن يقول سبحانه: {فإن طلَّقها فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه..} (2 البقرة آية 229ـ230).
إن الطلاق الرجعي يعني أن الزوج المطلِّق يملك على زوجته المطلَّقة حقَّ إرجاعها إلى عصمته وعقد نكاحه ضمن مدة العدَّة متى شاء، دون قيد ولا شرط، ولا يحول بينه وبين استخدام هذا الحقِّ أحد، بل إن شرع الله الخالد، أمر الزوجة المطلَّقة هذه، أن تبقى طيلة مدة العدَّة في دار الزوج، حتَّى إذا غيَّرت موقفها أو غيَّر موقفه في أي وقت من ليل أو نهار تجد زوجها قريباً منها، ويجد زوجته قريبة منه، بعيداً عن مداخلات الأهل والأصدقاء وغيرهم من الفضوليين، وأكثر من ذلك فقد سمح للزوجة هذه، بأن تتصرف على نحو يشعر زوجها بوجودها وأنها مهيأة له كي يراجعها ويعود إلى سابق عهده معها، ولم يأذن بخروجها من دار الزوج، كما لم يأذن بإخراجها من قبل الزوج إلا إذا ارتكبت الفاحشة كما مر معنا قوله تعالى: {..لا تخرجوهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يأتِينَ بفاحشةٍ مبيِّنة..}.
وما كان هذا الحكم إلا مراعاة لهذه الناحية الإيجابية، وليكون العامِلَ?المساعد على اغتنام أي فرصة تسنح خلال مدة العدَّة لإعادة المياه إلى مجاريها، ولو كانت المطلَّقة بعيدة أو خاضعة لسيطرة الأهل، لفاتت هذه الفرصة، لذا نبَّه القرآن الكريم إلى هذه الناحية الهامة والنتيجة السارَّة، كما مرَّ معنا في قوله تعالى: {لا تدري لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً}.(2/158)
وأمَّا ما نراه في المجتمعات الإسلامية اليوم، من مخالفات لهذه القواعد والأسس الواضحة، فما هو إلا فسق عن أحكام الشرع وصراطه المستقيم، وإن ما تعاني منه الأسر الكثيرة من المعضلات العائلية، ليس إلا نتاجاً خبيثاً، لهذا الفسق والانحراف والبعد عن الظلال الظليلة الَّتي يوفِّرها شرع الله تعالى ودينه القويم.
فإذا أصرَّ الزوج على الطلاق على الرغم من جميع ما تقدَّم من الظروف والعوامل المساعدة على العودة إلى التفاهم، وانتهت العدَّة دون أن يراجع زوجته، تحوَّل الطلاق الرجعي إلى طلاق بائن، وتسمى هذه بالبينونة الصغرى إن كان الطلاق في المرة الأولى أو في المرة الثانية، وقد بيَّن كتاب الله تعالى هذه الحالة وأحكامها إذا ما أوشكت العدَّة على الانتهاء، فخاطب الرجل قائلاً له: {فإذا بلَغْنَ أجلَهُنَّ فأمسكوهُنَّ بمعروفٍ أو فارقوهُنَّ بمعروفٍ وأَشْهِدوا ذَوَي عدْلٍ منكم وأقيموا الشَّهادةَ لله ذلكُم يُوعَظُ به من كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ ومن يتَّقِ الله يجعلْ له مخرجاً * ويرزُقْهُ من حيثُ لا يحتسبُ ومن يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُهُ إنَّ الله بالِغُ أمرِهِ قد جعلَ الله لكلِّ شيءٍ قَدْراً} (65 الطلاق آية 2ـ3).(2/159)
ولا يخفى أن الحقَّ سبحانه وتعالى، قدَّم في الذِّكر الإمساك ترغيباً للزوج فيه، وأخَّر المفارقة تنفيراً له منها، كما أمر بالإشهاد على الأمر الَّذي اختاره، وأن يكون الشهود عدولاً أخياراً، لأن الزوج واقف على مفترق طرق، فإذا ولج في أحدها كان الشهود مثبتين لذلك المسلك. ثمَّ إن كتاب الله بيَّن أن هذه الأحكام والتشريعات يلتزم بها الَّذين ملأ الإيمان قلوبهم، فوجدوا في امتثال أمر الله ضالَّتهم المنشودة. وقد وعد الله من يطيع أمره ويجتنب نهيه بأن يجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، وأن يرزقه الرزق الَّذي يرضيه من حيث لا يتوقع ولا يخطر له على بال، وهذا شأن كلِّ متوكِّل على الله معتمد عليه، فالله تعالى يكفيه مؤونة الصعاب الَّتي تلاقيه، ولا يستطيع أحد أن يَحُولَ دون ذلك، فهو سبحانه بالغ أمره الَّذي يريد فلا يفوته منه شيء، لكنَّ حصول ذلك مرهون بحلول الزمن الَّذي قدَّر الله حصوله فيه، في الوقت والمقدار والشكل المحدَّد. فإذا اختار الزوج المفارقة، وأصرَّ عليها، وآن أوانها بانقضاء العدَّة، ملكت المرأة أمر نفسها، وأصبح موضوع الرجعة إلى زوجها أكثر صعوبة، حيث يحتاج إلى عَقْدٍ جديد وَمَهر جديد، وبالتالي يحتاج إلى موافقة الزوجة، فإن لم يكن لها رغبة في العودة فلا يملك أحد أن يجبرها. ولا يخفى أن سماح الشرع بعودة الحياة الزوجية في مثل هذه الحال، يُعَدُّ عاملاً إيجابياً في التقليل من وقوع الطلاق أو الاستمرار فيه.(2/160)
فإذا تراجع الزوجان قبل انقضاء العدَّة، أو عُقِدَ بينهما عَقْدُ الزواج من جديد بعد انقضاء العدَّة، وعادا إلى الحياة الزوجية من جديد، فإن أوامر الشرع وأحكامه وآدابه الَّتي أمر أن تحكم العلاقة بين الزوجين، ينبغي الالتزام بها من قبلهما ثانية، فإذا تجدَّد الخلاف بينهما مرة أخرى بعد حين، فإن المنهج الَّذي طُبِّق في الخلاف السابق، ينبغي تطبيقه، فإذا فشلت مراحل العلاج كلُّها وآل الأمر إلى الطلاق؛ طُبِّق المنهج الَّذي أوصى به الشرع كما طُبِّق أوَّل مرَّة وهكذا. فإذا آل الأمر بهما إلى الحياة الزوجية من جديد، سواء كانت بالرجعة، إن حصلت من الزوج قبل انقضاء العدَّة، أم تمت بموجب عقد جديد ومهر جديد، فإن أوامر الشرع وآدابه يجب أن تراعى للمرة الثالثة في هذه الحياة الزوجية الجديدة.
فإذا نشأ الخلاف للمرة الثالثة، كان للشرع رأي آخر وحكم مختلف، حيث يُوقِفُ الرجل ليقول له: اعلم أن إيقاع الطلقة الثالثة سوف يفصل بينك وبين زوجتك نهائيّاً؛ فإذا حصل الفراق، وقُدِّر لها زواج آخر، حيث رضي بها زوجها الجديد ورضيت به، فقد خسرتها ولن تعود إليك مرة أخرى، فإن طلَّقها الثاني وبتَّ طلاقها، أو مات عنها وانقضت عدتها في الحالتين، أبيح لها ولزوجها الأوَّل العودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد ومهر جديد، قال تعالى: {فإن طلَّقَها فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه..} (2 البقرة آية 230).(2/161)
إن هذا الحكم ولاشكَّ سوف يهزُّ الرجل هزّاً عنيفاً، فلا يوقع الطلقة الثالثة وفي نفسه أيُّ ميل نحو زوجته أو رغبة فيها أو حاجة إليها، فإذا كان فيه شيء من ذلك فلا يوقع الطلقة الأخيرة، لأنه يعلم أن وراءها ما وراءها، إذ أن اشتراط زواجها الثاني قبل أن تَحِلَّ له مرة أخرى ليس بالأمر اليسير، فلا تتقبله النفوس الكريمة ولا أصحاب المروءة من الرجال، وبذلك يضمن الشرع الحنيف عدم وقوع هذه الطلقة المفرِّقة نهائياً؛ مادام هناك أي بصيص أمل في الاستمرار بينهما.
ولا يخفى أن للشرع حكمةً بالغة في عدم السماح لهما بالزواج مرة رابعة، حيث أن أمراً جُرِّب ثلاث مرات وكانت نتيجته فاشلة في كلِّ مرَّة، فلا فائدة تُرجى من تجربة جديدة في ظل الظروف نفسها والمفاهيم ذاتها، وإن زواج هذه المرأة من زوج غيره، يكشف لها عن محاسن الزوج الأوَّل أو مساوئه، فإذا قُدِّر لها أن تنتهي علاقتها بالزوج الثاني ورغبت في زوجها الأوَّل ورغب بها، عادا بمفاهيم مختلفة وأفكار مغايرة، ويوشك أن يؤدم بينهما، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {فإن طلَّقَها (أي الزوج الأوَّل الطلاق الثالث) فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه فإن طلَّقَها (أي الزوج الثاني طائعاً مختاراً دون تواطؤ من أحد وقد سبق ذلك حياةٌ ومعاشرة زوجية حقيقية كاملة) فلا جُنَاحَ عليهما (أي المرأة وزوجها الأوَّل) أن يتراجعا إن ظنَّا أن يُقيما حدودَ الله وتلكَ حدودُ الله يُبَيِّنُها لقومٍ يعلمون} (2 البقرة آية 230).(2/162)
أمَّا ما يفعله بعض الناس من الاتفاق مع رجل لا رغبة له في الزواج من امرأة بمثل حال هذه المرأة، ويَتمُّ الزواج محدَّداً بزمن معين كيوم أو يومين أو غير ذلك، ثمَّ يطلِّقها، وبذلك يحصل الشكل الَّذي نصَّ عليه الشرع دون المضمون؛ فإن مثل هذا العمل حرام على الطرفين قطعاً، لأنه يُفَوِّت على الشرع هدفه من هذا التشريع، ألا وهو ردع الأزواج المستهترين عن إيقاع الطلقة الثالثة، والإبقاء على الحياة الزوجية، ودعوةٌ للزوجين إلى تجاوز الخلافات بينهما لصالح الأسرة والأولاد، وحثٌّ للمرأة الَّتي لا غنى لها عن زوجها ولا عن بيتها وأولادها، على أن تتجاوز عن بعض مطالبها لصالح الوفاق.
إن عملية التواطؤ هذه ليست مشروعة ولا يُقِرُّها شرع ولا كرامة ولا عقل رشيد، ولا تميل إليها المرأة العفيفة الطاهرة الكريمة، فلا تقع إلا من أناس جاهلين تخلَّوا عن القيم السامية الَّتي يتحلَّى بها المسلم والمسلمة، ولهذا نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استنكر هذا الصنيع أشد الاستنكار، ولَعَنَ من يفعلُه ومن يُفْعَلُ من أجله، وشبَّه ذلك بمن يستعير تيس جاره لينزو على ماشيته، وساء مَثَلُ القوم الَّذين يشوِّهون شرع الله بهذه الحيل المخزية. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بالتيس المستعار. قالوا بلى يارسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» (رواه ابن ماجه). والمحلِّل هو الَّذي يتزوَّج أمثال هؤلاء النسوة بغية تحليلهن لأزواجهن، ولا غاية له سوى ذلك.(2/163)
وبَعْدَ أن ارتسمت في أذهاننا صورة الطلاق في الإسلام، نستطيع أن نقول: إن دين الإسلام هو دين كلِّ زمان وكلِّ مكان، فقد أوجد حلولاً واقعية مثالية للمشاكل الَّتي تظهر في ساحة الحياة الزوجية، وحثَّ على الحلم وضبط النفس، ولكنَّه في النهاية يترك صمَّام الأمان مفتوحاً تجنُّباً لحدوث الانفجار وتكَوُّن واقعٍ يجرح المجتمع جروحاً لا تندمل، ويشكِّل ضغوطاً تفوق احتمال الإنسان سواء كان الزوج أو الزوجة.
إن أسباب حدوث الخلافات الزوجية عديدة ولا تكاد تحصى، ولو حاولنا التعمُّق في دراستها لوجدنا من الأهمِّية بمكان الوقوف عند بعضها وتحليلها، ومن هذه الأسباب:
1 ـ عدم الدِّقة في اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر منذ البداية، فبعضهم يكتفيبمشورة الأهل، وبعضهم يكتفي بحسن المظهر والشكل الجميل، ناسياً أو متناسياً أن الَّذي سيعيش معه هو الخلق الجميل والطبع الحسن إضافة إلى الشكل، وقد أباح الشارع الحكيم للخاطبَيْن أن يجلسا معاً ويتحدَّثا مع بعضهما، ممَّا يعطيهما فرصة تَعرُّفِ الميولِ والرغبات وما تنطوي عليه نفس كلٍّ منهما من طباع، فعن أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم» (رواه الإمام أحمد في مسنده). وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما، «أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه خطب امرأة ليتزوجها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أَنَظَرت إليها؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم : انظر إليها؛ فذلك أحرى أن يؤدم بينكما»، أي أكثر عوناً على أن تقع المودَّة بينكما، وكما سمح الشرع للرجل فقد سمح للمرأة الَّتي تجلس في مجلس واحد مع من يخطبها، يتبادلان الكلام ويثيران الأسئلة الَّتي تكشف إجابتها عن مكنونات النفس والتفكير.
2 ـ محاولة الأهل التدخُّل في الحياة الشخصية للزوجين، والعمل على فرض السيطرة والغلبة منذ البداية.(2/164)
3 ـ الفوارق الثقافية بين الزوجين، وخاصَّة جهلهما أو جهل أحدهما بأحكام الشريعة المطهرة، والابتعاد عن مجالس العلم والتربية الأخلاقية.
4 ـ عدم إخضاع كلا الزوجين لدورات تربوية تشرح أهداف الزواج، وكيفية بناء عشِّ الحياة الزوجية المُثلى، ومراعاة كلٍّ منهما حقوق الطرف الآخر، وإدخال السرور إلى قلبه وإراحته نفسياً وحسِّياً؛ وكيفية خلق الجو المناسب لإرواء غرائزهما لدرجة الإشباع لكلٍّ منهما.
5 ـ عدم تأهيل الأبوين بالعلم والخبرة، ليتمكنا من تربية أولادهما التربية الصالحة.
6 ـ وجود طبائع سيئة متأصِّلة عند أيٍّ منهما، كالبخل والتعصُّب الشديد والغَيْرة الشديدة والتشبُّث بالرأي، ممَّا لا يدع مجالاً للتقارب والتوادد وحسن الانسجام.
7 ـ كثرة الأولاد، وعدم محاولة ضبط الإنجاب، ممَّا يشيع في الأسرة نوعاً من اختلاط الأمور وضياع المسؤولية، والضغط الاقتصادي والتوتر العصبي، خاصَّة وأن كثيراً من الزوجات يعتقدن أن كثرة الإنجاب تمنع الرجل من التفكير بالطلاق أو تعدد الزوجات، وهنَّ في الوقت نفسه يُهملن أزواجهن بحجَّة العناية بالأولاد ورعايتهم.
8 ـ إهمال كلٍّ من الزوجين أو أحدهما لمقتضيات النظافة والزينة، وحسن المظهر، وحسن التجمل لصاحبه، وعدم ارتداء الملابس المناسبة لكلِّ زمان ومقال.
9 ـ عدم خبرة الزوجة في أصول تدبير المنزل، وعدم إتقانها لطهو الطعام ضمن الأطر الصحية، مع التوفير وعدم التبذير.(2/165)
إن أحد هذه الأسباب أو غيرها قد يكون كافياً لإشاعة جو من البغضاء بين الزوجين، وهنا يتدخل الشارع الحكيم ليضع حداً لهذا النزاع المستمر، ولا يترك الأهواء والرغبات المنحرفة تهدم صرح الأسرة وتزيل السعادة الزوجية، وقد وجدنا كيف أمر بتدخُّل أهل الخبرة والحكمة، من أقارب الطرفين، لدراسة أسباب النزاع، ومحاولة تقريب وجهات النظر وإسداء النصح والمشورة الطيِّبة، أملاً في زوال عواصف الكراهية والحقد والأنانية، وجلاء النفس وتطهيرها لمتابعة رحلة الحياة الزوجية بالحبِّ والتفاهم والوئام.
وفي حال العجز عن الوصول إلى هذه النتيجة فلا مصلحة لأحد في بقاء هذه الأسرة، الَّتي عطَّل سوء التفاهم بين قطبيها مقاصد الزواج وأهدافه، فغدا جوُّها جحيماً لا يطاق، وأصبح الاستغناء عن اجتماع عناصر هذه اللبنة خير من بقائه.
إن ممَّا لا يخفى على كلِّ ذي بصيرة وإنصاف، أن اللجوء إلى الطلاق وفقاً لقواعد الإسلام ومنهجه، هو خير علاج، لأن بقاء الزوجين على ما بينهما من الكراهية والبغضاء والنفور، ربَّما أدَّى بهما أو بأحدهما إلى الانحراف والسير في طريق الرذيلة والصِّلات المحرَّمة، بل ربَّما أدى بأحدهما إلى ارتكاب جريمة القتل أو جريمة الانتحار، ممَّا يترتب عليه أفدح الأخطار بالنسبة للزوجين اللَّذَيْنِ قد يتعرَّض المنحرف منهما للإصابة بالأمراض الجنسية الفتَّاكة، وبالنسبة للأولاد، حيث تفسد تربيتهم بسبب الإهمال والقدوة السيئة الَّتي يرونها في الشجار الدائم والخصام المحتدم بين الوالدين.(2/166)
إن عدم الطلاق في مثل هذه الحالات يعرِّض المجتمع أيضاً لأشد الأخطار حيث تكون لبنات بنائه لبنات هشَّة، قائمة على التنازع والتنافر لا على الألفة والمحبَّة والتعاون، وفي الوقت نفسه لا أمل له بروافد كريمة من مثل هذه الأسر، بل إن سوء التربية لهذه الروافد من البنين والبنات، هو المتوقع، وفي هذا ما فيه من الخسارة العظمى والطامَّة الكبرى للأمة. إن نظرة واحدة إلى المجتمعات الَّتي منعت الطلاق تكفي للبرهنة على واقعية هذا الكلام، فقد تفكَّكت فيها رابطة الأسرة ولا شيء يجمع بين أفرادها، وإنَّ مَنْعَ الطلاق يساهم بدور فعَّال في هذه النتيجة، وكم من حادثة انتحار في تلك المجتمعات وقعت وتقع والسبب المباشر أو الأهمُّ فيها هو عدم الإذن بالطلاق. إنَّ كلَّ ما تقدم يدعو جميع الأمم والشعوب إلى الاعتصام بحبل الله المتين، والعودة إلى حكم الفطرة، وهو ما تقضي به شريعة الإسلام، وقد أقرَّ بذلك كبار علماء الاجتماع في العالم وعلى مرِّ العصور والأزمان.
سادساً: تَعَدُّد الزوجات:
من الأمور الَّتي ترتبط بنظام الأسرة في الإسلام موضوع تعدُّد الزوجات. وقد أباح الإسلام التعدُّد حيث جاء ذلك في قوله تعالى: {وإن خِفتُم ألاَّ تُقسِطوا في اليتامى فانكِحوا ما طابَ لكم من النِّساءِ مثنى وثُلاثَ ورُباعَ فإن خِفتُم ألاَّ تَعدِلوا فواحدة..} (4 النساء آية 3).
إن ممَّا لاشكَّ فيه ولا ريب أن الوضع الفطري الطبيعي بالنسبة للرجل أن تكون له زوجة واحدة، يختارها لتكون شريكة حياته، يتبادلان عواطف المحبَّة والوئام، ويتعاونان على إنشاء أسرة متماسكة قوية البنيان؛ لإنجاب النسل الصالح الَّذي يرفد المجتمع بأفراد صالحين، يرثون عن سلفهم مسؤوليات المجتمع، ويمسكون بأيديهم زمام الأمور، الَّتي كانت إلى عهد قريب في أيدي سلف كريم، فيكونون خير خلف لخير سلف.(2/167)
ولهذا كان الأولى أن يقتصر الرجل على زوجة واحدة، وهذا هو الغالب في المجتمعات الإسلامية حيث يقتصر معظم الرجال على زوجة واحدة، وفي الوقت نفسه، ليس له أيُّ صلة بغيرها من النساء؛ لأن الله تعالى حرَّم عليه الزنا؛ فهو عفيف طاهر واقف عند حدود الله. إلا أن الحياة لا تسير حسب الأحلام والمُثُل، فكثيراً ما يخالف واقعها تلك المثل والأحلام الجميلة، حيث نجد في الحياة الزوجية أموراً استثنائية وحوادث طارئة، ممَّا يجعل الرجل مضطراً إلى الزواج بأكثر من واحدة، ولو أن الشرع منعه من الزواج في مثل هذه الحالات فكأنما يدفعه إلى الرذيلة دفعاً، وشَرْعُ الله لا يأمر بالفحشاء ولا يحمل على فعل المنكر.
إن نظرة سريعة نلقيها على المجتمعات الَّتي منعت التعدُّد المنضبط الطاهر المشروع، ترينا أن الناس قد مالوا إلى التعدُّد الفوضوي النجس الحرام، فلا تكاد تجد رجلاً يخلو من عدد كبير من الخليلات اللاتي يجتمع بهن على ما حرَّم الله، وإذا كان هذا في صفِّ الرجال فالصورة نفسها تتكرَّر في صفِّ النساء، ويؤكِّد هذا إحصائيات تُجرى بين وقت وآخر لعدد الأولاد اللاشرعيين، فالمؤشِّر البياني لذلك في تصاعد مستمر، مع ما ينتج عن ذلك من انتشار الأمراض الجنسية الفتَّاكة، وآخرها اكتشافاً وباء نقص المناعة المكتسبة، الَّذي تعارفوا على تسميته بالإيدز أو السِيدا والَّذي يهدِّد المجتمع البشري بأفدح الأخطار.
إن الإسلام عندما سمح بتعدُّد الزوجات لاحظ مجموعتين من الحاجات الَّتي قد تدعو إلى التعدُّد، ومع ذلك قيَّده بعدد معين، مع إثبات كامل الحقوق الزوجية لجميع الزوجات، في حين أن الخليلة في المجتمعات غير الإسلامية ليس لها أيُّ حقٍّ من حقوق الزوجة. أمَّا المجموعة الأولى من الحالات الَّتي تدعو إلى تعدُّد الزوجات فهي حاجات شخصية فردية ومنها:(2/168)
1 ـ أن تكون الزوجة عقيماً لا تلد، وبما أن حُبَّ الأولاد غريزة في النفس البشرية، لذا فإن مثل هذه الحالة تضع الرجل أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: فإمَّا أن يطلِّق هذه الزوجة العقيم ليتزوج غيرها أو أن يسمح له الشرع بزواج آخر، ولاشكَّ أن السماح له بالزواج مع الإبقاء على الزوجة الأولى، أجدَرُ بأخلاق الرجال ذوي المروءات من التطليق، ولو أننا دقَّقنا في الأمر لوجدنا أن التعدُّد في مثل هذه الحالة هو في مصلحة الزوجة الأولى، فمن الأفضل لها أن تبقى زوجة كريمة لها كامل حقوق الزوجة، من أن تفقد زوجها ثمَّ لا أمل لها في الزواج مرة أخرى بعد أن يُعلَم أن طلاقها كان بسبب عقمها.
وقد حدث في مرات متعدِّدة أنَّ الزوجة العقيم تبحث لزوجها عن زوجة أخرى تنجب له أطفالاً، حفاظاً على صلة المودَّة الَّتي تربطها بهذا الزوج. ومن جهة أخرى فإن الحل ليس حلاً لمشكلة الرجل مع إغفال مشكلة المرأة، بل إن المرأة الَّتي يثبت عقم زوجها، فإن الشرع الحنيف أعطاها حقَّ طلب التفريق بينها وبين زوجها العقيم إن هي آثرت ذلك.
2 ـ أن تصاب الزوجة بمرض مزمن أو مرض معدٍ أو منفِّر، بحيث لا يستطيع الزوج أن يعاشرها المعاشرة الزوجية، والزوج هنا أيضاً أمام أحد خيارين: فإمَّا أن يطلِّقها وليس في ذلك شيء من المروءة ولا الوفاء، مع ما فيه من المهانة والضياع لهذه المرأة. وإمَّا أن يُسمح له بالزواج، مع الإبقاء على الزوجة الأولى، ولها كامل حقوق الزوجة والَّتي منها الرعاية الصحية، ولا يَشُكُّ أحد في أن بقاءها زوجة أكرم وأنبل وأضمن لسعادتها وسعادة زوجها.(2/169)
3 ـ أن يشتدَّ كره الزوج لها بحيث لم ينفع معه علاج التحكيم ولا الطلاق الأوَّل ولا الثاني، وهنا يجد الزوج نفسه أيضاً أمام أحد حلَّين فإمَّا أن يطلقها ويتزوج غيرها، وإمَّا أن يبقيها عنده ولها كامل حقوقها المشروعة بوصفها زوجةً ويتزوج معها امرأة أخرى. ولاشكَّ أن بقاءها زوجة أفضل لها ولأولادها في معظم الحالات، وأكثر غرماً على الزوج، وهذا دليل على وفائه وكريم خلقه، حيث لم يوقع الطلقة الثالثة المفرِّقة بينهما أبديّاً.
4 ـ بَقيت حالة أخيرة وهي أن يكون لدى الزوج الرغبة الجنسية الشديدة ما لا يكتفي معها بزوجة واحدة، إمَّا لكبر سنها وإمَّا لكثرة الأيام الَّتي لا تصلح فيها للمعاشرة الزوجية، وهي أيام الحيض والنفاس، وفي هذه الحالة يقضي العقل والحكمة، أن لا نمنعه من الزواج الثاني، وفي ذلك ما فيه من تعريضه لخطر الوقوع في ما حرَّم الله والاعتداء على كرامة هذه الزوجة. لذا أباح له الشرع زوجة ثانية، ضمانة لسلامته وسلامة الزوجة الأولى وسلامة المجتمع وسلامة المرأة الثانية من ضياع حقوقها وحقوق أطفالها لو عاشرها المعاشرة المحرَّمة.(2/170)
ويبقى العدل هو الشرط الجوهري للتعدُّد، فلا يجوز للرجل أن يفرِّق بين نسائه في النفقة، أو المعاملة، أو حتَّى في بشاشة الوجه وحلاوة اللسان، فإذا فُقدت القدرة على العدل انعدم حقُّ الرجل في التعدُّد. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة والمثل الأعلى في تحرِّي العدل بين زوجاته، فكان يقسم بينهن ما يملكه من متاع، ثمَّ يتوجَّه إلى ربِّه داعياً: «اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» (رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن السيِّدة عائشة رضي الله عنها) ولكنَّ الله تعالى، الَّذي فطر النفس البشرية ويعلم سرَّها ونجواها، علم أن تحقيق العدل المطلق يكاد يكون مستحيلاً، فالعدل المادي يمكن أن يتحقَّق، ولكنَّ العدل العاطفي والنفسي لا يمكن تحقيقه، فالإنسان يملك ما بين يديه ولكنَّه لا يملك ما يجيش به قلبه، لذلك أوصى الله الرجال ألا يميلوا إلى واحدة كلَّ الميل، وينصرفوا عن الأخرى، فتصبح كالمعلَّقة الَّتي ليست بذات زوج يرعى حقَّها، وليست مطلَّقة تملك حريتها، ممَّا يوقعها في الضيق ويفسد عليها حياتها، ويجعلها مثار قلق وإزعاج للزوج، بدل أن تكون سكناً له وراحة وسعادة، فقال سبحانه وتعالى: {ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بينَ النِّساءِ ولو حَرَصْتُمْ فلا تميلوا كلَّ المَيْلِ فتَذَرُوها كالمُعلَّقَةِ وإن تُصْلِحوا وتتَّقوا فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 129). وقد حذَّر الرسول الكريم من الميل إلى زوجة دون أخرى فقال: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقَّيه ساقط» (رواه أحمد وأصحاب السنن).
وهكذا فإن العقل الرشيد والحكمة البالغة المعهودة في شرع الله وأحكامه كلِّها، تقضي بالسماح له بالزواج الشرعي من الثانية مع الإبقاء على الأولى ولها كامل حقوقها بوصفها زوجةً صالحة كريمة.(2/171)
وأمَّا المجموعة الثانية من الحالات الَّتي تدعو إلى تعدُّد الزوجات، فهي حاجات اجتماعية تجعل من التعدُّد مصلحة اجتماعية ووطنية، وذلك عند قلَّة الرجال وكثرة النساء، سواء في الأحوال العادية كما هو الحال في بلاد شمال أوربا، أم في حالات الحروب والأوبئة، كما وقع في بلاد أوربا فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث بلغت نسبة الرجال إلى النساء واحد إلى أربع في بعض البلدان، وواحد إلى ستٍّ في بعض البلدان الأخرى. ففي مثل هذه الحالات يكون التعدُّد واجباً اجتماعياً ووطنياً وأخلاقياً وإنسانياً في آن واحد، حيث تُصان به النساء عن التبذُّل، فيأوين إلى بيت الزوجية، حيث يجدن الحماية والنفقة، وتصان الأخلاق من الانحلال والفساد. ولقد رأت أوربا النتائج السيئة لمنع التعدُّد فأخذت تفكر بإباحة التعدُّد المشروع، لكنَّهم مع بالغ الأسف لم يفعلوا بَعْدُ، وبقي الباب مفتوحاً للتعدد غير المشروع.
وعلى الرغم من كلِّ ما تقدَّم فإن الإسلام ليس وحده الَّذي أباح التعدُّد، فقد أباحته اليهودية في التوراة، وليس في المسيحية نص صريح يمنع التعدُّد؛ حيث كان قائماً في الأمم المسيحية حتَّى بداية عصر النهضة، ولم تنكره الكنيسة في كلِّ تلك العصور، وقد أباحت الكنيسة في أيَّامنا هذه للإفريقيين المسيحيين تعدُّد الزوجات كما هو معلوم.
وفي ختام البحث في نظام الأسرة في الإسلام، لابدَّ من الإشارة إلى أن الزوج يستطيع أن يتخلَّص من زوجة لا يريدها بالطلاق، فماذا عن المرأة الَّتي لا تريد زوجها، فهل تستطيع أن تطلِّقه؟! الواقع أن الطلاق تترتب عليه أعباء مالية ونفقات يتحمَّلها الزوج، لذلك كان في يد الزوج وحده، لكنَّ الشرع الحنيف لم يدع هذه الناحية سبباً لظلم الرجل للمرأة؛ وهي واقفة مكتوفة الأيدي لا تملك أن تتحرك، بل فتح لها الإسلام أبواباً واسعة للتخلُّص من الرجل، إذا كرهته فلم تستطع المقام معه، وذلك بالتشريعات التالية:(2/172)
1 ـ أعطى الإسلام المرأة الحقَّ في أن تشترط على الزوج ألا يتزوج عليها، فلو شرطت عليه في عقد الزواج ألا يتزوج عليها صحَّ الشرط، وكان لها حقُّ فسخ الزواج إذا لم يفِ لها بالشرط.
2 ـ شرع التفريق للعلل، فإذا أصيب الرجل بعلَّة تمنع المعاشرة الزوجية أو بمرض مزمن أو بعاهة منفِّرة أو مرض سارٍ خطير، وطلبت الزوجة التفريق بينها وبين زوجها، فرَّق القاضي بينهما بعد أن يتحقَّق من ذلك.
3 ـ التفريق للغيبة الطويلة أو الحكم على الزوج بالحبس: فإذا غاب الزوج عن زوجته غيبة طويلة بغير عذر، أو حُكِمَ عليه بالسجن لمدة تزيد على ثلاث سنوات، يمكن لهذه الزوجة أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها، بعد مرور عام على غيبته أو سجنه.
4 ـ التفريق لعدم الإنفاق: فإذا ثبت عجز الزوج عن الإنفاق على زوجته، فرَّق القاضي بينهما لهذا السبب.
5 ـ التفريق للشقاق: فإذا أصبحت الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق، ورفض الزوج طلاق زوجته، فإن القاضي يفرِّق بينهما؛ إذا تبيَّن له أن الزوج أَلحقَ الضرر بها أو آذاها.
6 ـ التفريق بسبب كراهية الزوجة للزوج: فإذا ما أحسَّت الزوجة نفوراً شديداً من زوجها بحيث لم تعد تُطيقُ العيش معه بأيِّ شكل، يحقُّ لها أن تطلب التفريق بعد أن ترضيه ماديّاً إذا أصرَّ على ذلك وهذا ما يسمى بالمخالعة.
كلُّ هذا انتصاراً للحقِّ ورفعة لشأنه، فليس في الإسلام تحيُّز لكائن على حساب كائن آخر، فالرجل والمرأة في نظر الشرع سواء، ولا يفضِّل هذه الجهة أو تلك، إنَّما هو العدل المطلق في ظلال شرع الله الحنيف الخالد.
سابعاً: المعاشرة الزوجية:(2/173)
قال الله تعالى: {ويَسألونَكَ عن المَحيضِ قُل هوَ أذىً فاعتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ ولا تَقربوهُنَّ حتَّى يَطهُرنَ فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيثُ أمَرَكُمُ الله إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ * نِسَاؤكُم حَرثٌ لكُم فَأْتوا حَرثَكُم أنَّى شِئتُم وقَدِّمُوا لأنفُسِكُم واتَّقُوا الله واعلَمُوا أنَّكُم ملاقُوهُ وبَشِّرِ المُؤمِنِينَ} (2 البقرة آية 222-223).
ومضات:
ـ يسبب الجماع في مدة الحيض ضرراً وأذىً للرجل والمرأة على السواء؛ لذلك كان لابدَّ من الامتناع عنه حتَّى تطهر المرأة وتغتسل. عندها يحلُّ للزوج أن يأتيها من حيث أمره الله؛ وهو محل النسل والولد، ويمكن له أن يأتيها كيف يشاء، قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، خلافاً لما كان يُعتقد قبل الإسلام.
ـ المقصود بالتحريم في هذه الآيات هو تحريم الجماع فقط أثناء مدة الحيض، بينما يحلُّ للزوجين ما سوى ذلك من مجالسة ومؤاكلة ومداعبة.
ـ إن الله يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزِّهين عن الفواحش المحبِّين للطهارة.
ـ المرأة محل الزرع وموضع النَّسل، تحضن الجنين في رحمها وترعى أخلاقه وآدابه في طفولته، لذلك يجب على المؤمن أن يحسن اختيار الزوجة الَّتي ستكون راعية لبيته وأُمّاً لأولاده.
ـ المؤمن يخاف الله ويبادر إلى تقديم الأعمال الصالحة الَّتي تكون له ذخراً في الدنيا والآخرة، ويحذر المعصية والعبث ليقينه بأنه صائرٌ إلى حساب الله لا محالة، ثمَّ إنَّ له البشرى بالفوز العظيم، واستحقاق جنَّات الخلود، لما بذله في سبيل تأسيس أركان السعادة الإنسانية.
في رحاب الآيات:(2/174)
من أهمِّ أهداف الزواج حفظ النوع البشري بالتوالد، كما يُحفظ النبات بالزرع؛ فالمرأة بمثابة الأرض المعدَّة لإلقاء البذور، والزوج هو الزارع بالطريقة الَّتي يختارها في وضع الحَبِّ. وقد جاء التعبير في الآية الكريمة عن النساء بالحرث بياناً لدورها الهام في بناء الأسرة. وفي ذلك توجيه للخاطبين كي يحسنوا الاختيار، لأن الزواج في الإسلام ليس محلاً لإشباع الدافع الجنسي، أو لإرواء غليل الشهوة الغريزية فحسب؛ بل هو خطَّة محكمة لإعمار الأرض وإحيائها بالنسل الصالح.
ولقد أحلَّ الله تعالى إتيان الزوجة في معظم الأوقات، باستثناء مدة النَّفاس والحيض الَّتي تمرُّ بها الزوجة؛ إذ أن الحيض حالة تشبه المرض، يتم أثناءها طرح البويضة والعش الجنيني المخرَّب خارج رحم المرأة، وغالباً ما تترافق هذه العملية بآلام جسدية واضطرابات نفسية، ممَّا يجعل المرأة غير مستعدَّة نفسياً ولا صحياً للمباشرة الجنسية، الَّتي يُقصد بها استمتاع كلٍّ من الزوجين بالآخر.
وقد رفع الإسلام بهذا النهي من شأن المعاشرة الزوجية، ونزَّهها عن أن تكون مجرَّد قضاء شهوة غريزية آنيَّة، لتكون بالمقابل وظيفة إنسانية ذات أهداف سامية في طبيعة الحياة البشرية واستمرارها، يقوم عليها بناء الأسرة وإحلال المودَّة والحبِّ بين أفرادها.
وينحصر النهي في هذه الآية عن المباشرة أثناء الحيض فقط، دون المعاشرة والمؤاكلة والمجالسة، فقد وضَّح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح. وفي لفظٍ (الجماع)» (رواه الجماعة إلا البخاري).
وقد أجمع الأطبَّاء على وجوب الابتعاد عن مباشرة المرأة في مدة الحيض، كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزَّل من لدن حكيم عليم، لما في ذلك من أضرار وأذى على الطرفين، ومن هذه الأضرار:
1 ـ آلام أعضاء التناسل لدى الأنثى، وإحداث الالتهابات في الرحم والمبيض، ممَّا قد يؤدِّي إلى تلف المبيض وإحداث العقم.(2/175)
2 ـ إن دخول سائل الحيض في عضو التناسل عند الرجل قد يحدث له التهاباً صديديّاً، لما فيه من جراثيم وأذى.
ولا يحلُّ للرجل أن يباشر زوجته حتَّى تطهر، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطُّهر الَّذي يحل به الجماع هو تطهُّرها بالماء، وأنها لا تحلُّ حتَّى ينقطع الحيض وتغتسل بالماء. فإذا تطهَّرت جاز للزوج أن يباشرها في المكان الَّذي أحلَّه الله له، وهو مكان النسل والولد أي القُبُل لا الدُبُر، لأن الإتيان في الدُّبُر خروج عن موضع الحرث الَّذي خلقه الله.
وما تحريم ذلك إلا لعلَّة الضرر والأذى، وفي هذا التحريم تكريم للمرأة وصيانة لحقِّها، فللمرأةحقٌّ على الزوج في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوِّت حقَّها، ولا يقضي وطرها أو يحقِّق مقصودها. وكذلك فالدبر لم يتهيَّأ لمثل هذا العمل، ولم يُخلق له، وإنما الَّذي هُيِّئ لذلك هو الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه. ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لايستحي من الحقِّ فلا تأتوا النساء في أدبارهنَّ» (رواه النسائي عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه )
وبقوله تعالى: {أنَّى شئتم} أُعطيَ الزوج الحرِّية في إتيان زوجته كيفما يشاء، قائمة أو قاعدة أو مضطجعة على أن يكون ذلك في مكان الحرث (الفرج). وفي ذلك يقولصلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطابرضي الله عنه : « أقبل وأدبر واتقِ الدبر والحيضة» (رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ).
وقبل أن يشرع الزوجان باللقاء الجنسي يستحبُّ منهما أن يقوما بالمقدِّمات كي يصلا بعملهما إلى غايته؛ فيبدآن بالتسمية بالله والدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضرَّه الشيطان أبداً» (رواه البخاري).(2/176)
أمَّا الخطوة الثانية فهي المداعبة، وهي فن يضايق المرأة إهماله، ويثير اشمئزازها إغفاله، بل إنه قد يؤذيها إيذاء بدنياً ونفسياً، ويحوِّل هذا العمل إلى عمل آلي بغيض بالنسبة للطرفين. وللألفاظ والنظرات أهمِّيتها العظمى في التمهيد، ومهما بدت هذه الأمور تافهة وصغيرة في نظر بعض الناس، فإنها هامَّةٌ جداً في هذه الحالة. قال أحد علماء النفس الاختصاصيين بقضايا الجنس تحت عنوان المغازلة والمداعبة: [واعلم أنه لا يكفي أن يستهوي الرجل زوجته حتَّى تذعن له مرة واحدة فقط حين يتزوجها، بل يجب أن يلاطفها ويستعطفها ويستهويها عند كلِّ وصال]. فالمداعبة تمهيد هامٌّ يتوقف عليه تحقيق المتعة، واستمرار سعادة الحياة الزوجية، ويجب أن يكون الجماع منسجماً في العمل والاستجابة له، ومن ضرورات هذه المشاركة المساواة في الحقوق وفي الاستمتاع بالاتحاد الجنسي.
وأفضل الأساليب ما تولَّته يد الشريعة الغرَّاء، وجاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فهو البلسم الشافي والطب الواقي، وذلك وجوب ترك الزوج زوجته تأنس به ويأنس بها، وتسكن إليه ويسكن إليها فتحصل المودَّة، وتلتقي القلوب، قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكُم من أنفُسِكُمْ أزواجاً لتَسْكُنوا إليها وجَعَلَ بينَكُمْ مَوَدَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَتَفكَّرون} (30 الروم آية 21).
ومن الأسباب الهامَّة لجعل الزواج خصباً ومثمراً للذريَّة الصالحة، المداومة على الاستغفار وتقديم الصدقات، قال تعالى: {فقلتُ استغفروا ربَّكُمْ إنَّه كان غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عليكم مِدْرارا * ويُمْدِدْكُمْ بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنَّاتٍ ويجعلْ لكم أنهارا} (71 نوح آية 10ـ12).(2/177)
ومن ثمَّ فإن الشارع الحكيم يعوِّد المسلم على ألا تغيب عن باله الغايات السامية من الأحكام أثناء تفصيلها، فينقله من الحديث عن الدم والغُسل إلى الحديث عن التوبة والطهارة والنقاء حيث يكمن خيره وسعادته، وذلك كلُّه من دواعي محبَّة الله تعالى له: {إن الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهرين}.
الفصل الخامس:
الحجاب في الإسلام
سورة النور(24)
قال الله تعالى: {قُلْ للمؤمنينَ يغُضُّوا من أبصارِهِمْ ويحْفَظُوا فروجَهُمْ ذلك أزكى لهم إنَّ الله خبيرٌ بما يصنعون(30) وقل للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فروجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظَهَرَ منها ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعولَتِهِنَّ أو آبائِهِنَّ أو آباءِ بعولَتِهِنَّ أو أبنائِهِنَّ أو أبناءِ بعولَتِهنَّ أو إخوانِهِنَّ أو بني إخوانِهِنَّ أو بني أخواتِهِنَّ أو نسائِهِنَّ أو ما مَلَكتْ أيمانهُنَّ أو التَّابعينَ غيرِ أولي الإِرْبَةِ من الرِّجال أو الطِّفلِ الَّذين لم يَظهروا على عوراتِ النِّساءِ ولا يَضْرِبْنَ بأرجُلِهِنَّ ليُعْلَمَ ما يُخْفِيْنَ من زينتِهِنَّ وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّها المؤمنون لعلَّكم تفلحون(31)}
ومضات:
ـ غضُّ البصر هو الخطوة الأولى والأهمُّ على طريق حماية المجتمع من الفساد الأخلاقي، وهو الحصن الَّذي يحمي نفس المؤمن من المؤثِّرات الجنسية المحرَّمة.
ـ لم يحبس الإسلام المرأة في زنزانة ولم يقيِّد حريَّتها بالسلاسل، بل نظَّم لها أُطُرَ حياتها ولباسها وزينتها، بالشكل الَّذي يحفظ لها كرامتها الإنسانية، ويصون حرمتها الأخلاقية، أثناء ممارستها لحياتها الاجتماعية والعملية؛ بما يكفل لها النجاح والأمان والكرامة معاً.(2/178)
ـ لا يكفي للمرأة أن تلتزم باللباس الشرعي الَّذي هو مظهر الحشمة، لتخوض غمار الحياة في ميادين العمل المناسب، بل عليها أن تلبس ثوب التَّقوى والحياء أيضاً، كي تنجح في التعامل مع الرجل، بعيداً عن المؤثِّرات الجنسية والعاطفية، الَّتي لا ينبغي لأحد أن يستمتع بها سوى الزوج.
في رحاب الآيات:
لو طَبَّق الناس قاعدة غضِّ البصر، لانخفضت نسبة التهتُّك والإباحية الجنسية بنسبة عالية في المجتمع البشري كلِّه، لأن معظم الإثارات الجنسية تبدأ بالنظر، ويليه السمع، ويتبعه اللمس، بالإضافة إلى الرائحة كعامل للإثارة. وقد حمى الإسلام مجتمع المسلمين من تلك المؤثِّرات ليبقى بعيداً عن الملوِّثات النفسية والفكرية، كي تتَّجه طاقات أبنائه نحو العمل البنَّاء المنتج، فصانها من الهدر والضياع في معابر اللذة وشهوات الجسد.(2/179)
ولا يمكن لإرادة غضِّ البصر عن المحرَّمات، أن تسيطر على أعصاب العين، ما لم تكن مرتبطة بروحانية صافية، وإيمان عميق الجذور. إن توفُّر هذه الإرادة هو الحصن الأوَّل والأقوى، الَّذي يقدِّم الحماية للمرء من خطر التمادي والانزلاق في طريق الخطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «النظرة سهم من سهام إبليس فمن تركها من خوف الله، أثابه إيماناً يجد حلاوته في قلبه» (رواه الطبراني والحاكم)، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنَّة: إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يُخلف، غضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» (رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعليٍّ ـ كرَّم الله وجهه ـ : «ياعليُّ لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود) ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات مخافة ألا يتحقَّق شرط غضِّ البصر، فقد جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إيَّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا يارسول الله! لابدَّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقَّه، قالوا: وما حقُّ الطريق يارسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».(2/180)
إن صون النفس عن الوقوع في الحرام هو النتيجة الإيجابية لغضِّ البصر، والإحساس بالرقابة الإلهية، والاستعلاء على الرغبة المحرَّمة في مراحلها الأولى، ومن ثَمَّ يجمع الله تعالى بينهما في آية واحدة بوصفهما سبباً ونتيجة، أو باعتبارهما خطوتين متتاليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. إن ما ذكر من غضِّ البصر وحفظ الفرج أطهر لمشاعر المؤمنين، وأضمن لعدم تلوثِّها، وأحفظ للجماعة وأكثر صوناً لحرماتها وأعراضها. والله هو الَّذي يأمر الناس بهذه الوقاية، وهو العليم بواقعهم النفسي وتكوينهم الفطري، وهو الخبير بنزغات نفوسهم وحركات جوارحهم، فعليهم اتقاؤه في السر والعلن، وأن يكونوا على حذر منه في كلِّ ما يأتون وما يذرون.
ويأتي اللباس المحتشم الوقور عاملاً أساسيّاً وداعماً لغضِّ البصر، ليجعل من المرأة سيدة موفورة الكرامة، مصانة العرض، لا أداة إثارة مبتذلة، أو سلعة رخيصة تنهشها الأعين المريضة، وتتمنَّاها الأنفس الخبيثة. وقد حثَّ الإسلام المرأة أيضاً على غضِّ البصر تزكيةً لها، وتطهيراً للمجتمع من أدران الفاحشة، والتردِّي في بؤرة الفساد والتحلُّل الخلقي، وتجنيباً للنفوس من أسباب الإغراء. فهو يأمر المؤمنات بغضِّ أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحلُّ، وحفظ فروجهن عن الزنا، وامتناعهن عن كشف العورات، وكلِّ ما من شأنه أن يفضي إلى الفاحشة أو يمهِّد لها.(2/181)
وحرصاً من الإسلام على صيانة المرأة من السقوط في الهاوية، فقد أمرها ألا تبدي زينتها إلا لزوجها أو المحارم من الأقارب. فالزينة حلال للمرأة وتلبية لفطرتها، فكلُّ أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو بصورة أفضل، والزينة تختلف من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ولكن أساسها في الفطرة واحد، وهو الرغبة في تحصيل الجمال. والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية، ولكنَّه ينظِّمها ويضبطها، ويُسَيِّرُها في الاتجاه الصحيح حيث جعلها من حقِّ رجل واحد هو شريك الحياة، الَّذي يطَّلع من زوجته على ما لا يطَّلع عليه أحد سواه، جاء في الحديث الشريف: «الرافلة في الزِّينة في غير أهلها كمثل ظُلمة يوم القيامة لا نور لها» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود). أمَّا ما ظهر من الوجه والكفَّيْن فيجوز كشفه لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (رواه أبو داود وقال مرسل حسن). ويقول الله تعالى للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} والجيب هو فتحة الصدر في الثوب، والخمار هو غطاء الرأس والنحر والصدر، والمقصود: أن يُلقين خمرهن على جيوبهن ليستُرن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتَّى لا يُرى منها شيء. والمؤمنات اللواتي تلقَّين هذا النهي، وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكَّأن في الطاعة على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية تمرُّ بين الرجال كاشفة صدرها لا يواريه شيء، وربَّما أظهرت عنقها، وذوائب شعرها، وقرطي أذنيها، فلما أمر الله النساء بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كنَّ سبَّاقات متلهِّفات لتنفيذ أمر الله كما قالت عائشة رضي الله عنها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَّل، لما أنزل الله: {وليضربن} شققن مروطهنَّ فاختمرن بها).(2/182)
وبهذا فقد رفع الإسلام ذوق المجتمع، ورقَّى إحساسه بالجمال، فلم يعد الطابع الغريزي للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذَّب. فجمال الكشف عن مفاتن الجسد ـ مهما يكن من التناسق والاكتمال ـ جمال حيواني، يهفو إليه الإنسان بحسِّ الغريزة الحيوانية، وأمَّا جمال الحشمة فهو الجمال الراقي، الَّذي يرقى معه الذوق الجمالي ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالطهارة في الحسِّ والخيال. فالإسلام يجعل من هذه الحشمة واجبة وإلزامية كوسيلة وقائية للفرد والمجتمع، ولا يكون التخلِّي عنها مباحاً إلا تجاه الفئة الَّتي ورد ذكرها في الآية الكريمة والَّتي تشمل: الآباء والأبناء، وآباء الأزواج وأبناءهم، والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، والنساء المختصات بهن للخدمة والصحبة، وما ملكت أيمانهن من الإماء أو التابعين الَّذين لا يكترثون بالنساء؛ وهم البُله والحمقى المغفَّلون الَّذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً، وإنما يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم. وكذلك الأطفال الَّذين لم يبلغوا سنَّ الشهوة والاستمتاع بالنساء، ولا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالميل الجنسي، فإذا ميَّزوا وثار فيهم هذا الشعور، ولو كانوا دون البلوغ فهم خارج هذا الاستثناء. ولم تذكر الآية الأعمام والأخوال وهم من المحارم، كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية، أمَّا عدم ذكرهم فلأنَّهم بمنزلة الآباء، فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال، أمَّا المحارم من الرضاع فقد بيَّنتها السُّنة المطهرَّة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب» (رواه الشيخان).(2/183)
ولما كانت الوقاية هي الهدف من هذا الإجراء، فقد مضت الآية تَنهى المؤمنات عن الإتيان بالحركات الَّتي تعلن عن الزينة المستورة، ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة، وإن هذا ليدلُّ على معرفة عميقة بخفايا النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها، لأن الخيال يكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان، قال ابن عباس رضي الله عنه : (كانت المرأة تمرُّ بالناس وتضرب برجلها ليُسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان)، ويندرج تحت هذا النهي تحريك زينتها لتُظهِرَ ما خفي منها. ومن مستلزمات التَّقوى والحشمة ألا تخرج من بيتها متطيِّبة متعطِّرة، لأن للطيب أثراً كبيراً وعاملاً هاماً في إثارة الغريزة لدى الرجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شمَّ منها ريح الطِّيب فقال: ياأمة الجبَّار! أجئت من المسجد؟ قالت: نعم، قال لها تطيَّبتِ؟ قالت: نعم، قال: إني سمعت حِبِّي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة طُيِّبتْ لهذا المسجد حتَّى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة» (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
ثم يفتح الله تعالى باب التوبة لعباده كما عوَّدهم دائماً، ليرجعوا إلى طاعته فيما أمرهم به، من غضِّ البصر وحفظ الفرج، ليفوزوا بالسعادة الدائمة. ولكنْ للتوبة شروطاً هي: الإقلاع عن الذَّنْب، والندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إليه، وردُّ الحقوق إلى أهلها؛ لا كما يظنُّ الناس الآن أنها كلمة تُلاك باللسان، دون أن يكون لها أثر في القلب، ولا عزم على عدم العودة، حتَّى إن كثيراً ممَّن يزعمون أنهم تابوا يتحدَّثون عما فعلوه من الآثام على سبيل الافتخار، وهذا دليل على أن توبتهم كاذبة، وأنَّهم غافلون عن حقيقة ذنوبهم، فلا تنفعهم توبتهم شيئاً إلا من رحم الله وصدق منهم.
سورة الأحزاب(33)(2/184)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ قُلْ لأزواجِكَ وبناتِكَ ونساءِ المؤمنينَ يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبهِنَّ ذلك أدنَى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وكان الله غفوراً رحيماً(59)}
ومضات:
ـ إن وجود الرقيق وانتشاره في عهد تكوين المجتمع الإسلامي، كان يعني ازدحام الأسواق والطرقات بالجواري، ولمَّا كان الفرق الظاهري بين السيِّدة الحرَّة وبين الجارية شبه معدوم، فقد تعيَّن على الحرَّة أن تخلع على نفسها جلباباً تتميَّز به عن الجارية؛ كيلا يسيء أحد إليها أو يعاملها معاملة الجواري.
في رحاب الآيات:
الملابس والزينة مظهران من مظاهر المدنيَّة والحضارة، والتجرُّد منهما إنما هو رِدَّة إلى الحياة البدائية. وإذا كان اتخاذ الملابس من لوازم الإنسان الراقي، فإنه بالنسبة للمرأة أشدُّ إلزاماً لأنه ينبئ عن مدى تمسكها بدينها وشرفها وعفافها وحيائها، ومن ثَمَّ كانت الحشمة أولى بها وأحق. فأعزُّ ما تملكه المرأة هو الشرف والحياء والعفاف، وإن المحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانيتها في أسمى صورها، وليس من صالحها ولا من صالح المجتمع أن تتخلَّى عنها.(2/185)
إن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدُّها على الإطلاق. ولاشك أن التبذُّل مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها، وأن وضع الضوابط والحدود والقيود أمامها يخفِّف من حدَّتها، ويلطِّف من شدَّتها، ويهذِّبها تهذيباً جديراً بالإنسان وكرامته. من أجل ذلك تناول القرآن الكريم ملابس المرأة بشيء من الاهتمام، وما توجيه الخطاب إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، والنساء المؤمنات، إلا دليلٌ على أن جميعهن مطالبات بتنفيذ هذا الأمر دون استثناء، مهما بلغن من العفَّة، ولو كنَّ في مستوى طهارة بنات النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه. وإذا أردنا أن نفهم آيات الأحكام في القرآن الكريم، فعلينا أن ندرس أسباب نزولها، والأجواء المحيطة بنشأة هذه الأسباب. والحقيقة أن من الأسباب الظاهرية لهذا الأمر هو تمييز المرأة الحرَّة من المرأة الأَمَة، حتَّى لا يحاول أصحاب النفوس الخبيثة التحرش بها. فقد كانت المدينة المنورة مركزاً لأوَّل تجمُّع إسلامي ظهر للوجود، كما كانت مركزاً تجارياً هاماً يقصده الأعراب من كلِّ صوب، منهم الصالح ومنهم الطالح، وكان أصحاب النوايا السيئة يترصَّدون بالجواري والقينات لأنه لم يكن لهن قيمة اجتماعية تحميهن من التحرش بهن والتطاول عليهن، فما كانت الأَمة بنظر ساداتها سوى سلعة تباع وتُشترى، لذلك تعيَّن على السيدة الحرَّة أن تظهر بلباس معيَّن يميِّزها عن الجارية ويصون كرامتها. ولكن هذا لا يعني أن نَقْبَلَ ونحن في حضارة القرن العشرين، بتبرُّج المرأة واستهتارها بمبادئ الأخلاق والكرامة والشرف بحجَّة انتهاء عهد الرقيق، فللجلباب غاية أرقى وأسمى من مجرَّد تمييز الحرَّة عن الجارية، وهذه الغاية هي تزويد المرأة بالوسائل الَّتي تكفل لها المشاركة في العمل البنَّاء، الَّذي يوافق فطرتها ومهمَّتها الأساسية في كلِّ ما يخدم المجتمع، بعيداً عن التأثيرات العاطفية والغريزية، الَّتي يمكن أن تتولَّد عن التقاء(2/186)
المرأة بالرجل، في جوٍ من التبرُّج وعدم الحشمة.
إن التزام المرأة باللباس الشرعي يعني عدم ظهورها بثياب خليعة تُظهرُ مفاتن جسدها، فتكون مصدر إغراء لأصحاب النفوس المريضة فتغدو أداة تعطيل للعمل، لا أداة مشاركة فيه ودفع به إلى الأمام، وهذا لا يعني كبتها أو الضغط على حرِّيتها، أو إلزامها بلباس منفِّر أو منافٍ للذوق السليم، بل تكريمها وتشريفها لتبقى شريكاً منتجاً معطاءً، وأُمّاً للأجيال ومربية لها التربية المثلى، ولكنَّ بعض الأفراد من كلا الجنسين، غالى في التشدد، ونادى بعزل المرأة عن ساحة المجتمع؛ ووأدها في منازل المغالاة والقهر، وفي هذا قمع لإنسانية المرأة، وهدر لكرامتها، وتعطيل لقواها الخيِّرة المنتجة. كما أن هذا الغلو يُظهر المجتمع الإسلامي وكأنه مجتمع رجاله ذئاب؛ لا همَّ لهم سوى الجنس، ولا بديل لحماية المرأة منهم إلا بهذا العزل المادي والمعنوي.
سورة الأحزاب(33)(2/187)
قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ قُلْ لأزواجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدُّنيا وزينَتَهَا فَتَعالَيْنَ أُمتِّعْكنَّ وأُسَرِّحكُنَّ سراحاً جميلاً(28) وإن كنتُنَّ تُرِدْنَ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فإنَّ الله أعدَّ للمحسناتِ منكُنَّ أجراً عظيماً(29) يانساءَ النَّبيِّ من يَأتِ منكُنَّ بفاحشةٍ مبيِّنَةٍ يُضاعَفْ لها العذابُ ضعفينِ وكان ذلك على الله يسيراً(30) ومن يَقْنُتْ منكنَّ لله ورسولِهِ وتعملْ صالحاً نُؤْتِها أجرَهَا مرَّتينِ وأعْتَدْنا لها رِزْقاً كريماً(31) يانساءَ النَّبيِّ لستُنَّ كأحدٍ من النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ فيطمَعَ الَّذي في قلبهِ مرضٌ وقُلْنَ قولاً معروفاً(32) وقَرْنَ في بيوتِكُنَّ ولا تَبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأولى وأقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأطِعْنَ الله ورسولَهُ إنَّما يُريدُ الله لِيُذهبَ عنكم الرِّجْسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُمْ تطهيراً(33) واذكُرْنَ ما يُتلى في بيوتِكُنَّ من آياتِ الله والحكمةِ إنَّ الله كان لطيفاً خبيراً(34)}
ومضات:
ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يمثِّل رأس السلطة في الدولة الإسلامية الفتية، وعلى الرغم من هذه المكانة، فقد كانت حياته المادية بسيطة متواضعة، يغلب عليها الزهد والتقشف. وقد أرادت زوجاته أن يستثمرن وضعهن بوصفهنَّ زوجاتٍ لقائد تلك الدولة، ويتمتَّعن بالعيش الرغيد، ولكن إرادة الله تعالى اقتضت أن تجعل منهن قدوة لنساء المسلمين، فأُمِرْنَ بالتخلِّي عن هذه الأفكار، والعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم بالطريقة الَّتي ارتضاها لنفسه، وإلا فإنهن سيُطلَّقن ليعشن الحياة الرغيدة الَّتي يحلمن بها بعيداً عنه، إلا أنهنَّ اخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحياة التقشف الَّتي يعيشها؛ على نعيم الدنيا، فبوركن من نساء صالحات وأمهات للمؤمنين قانتات.(2/188)
ـ نظراً لكون نساء النبي قدوة لنساء الصحابة ولسائر المسلمات من بعدهن، فقد أُمرن بالاستقامة، لأن أيَّ خطأ يرتكبنه قد يؤخذ على أنه مثال يحتذى، بالإضافة إلى ما يسبِّبن من الإساءة إلى شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لذلك جاء تهديدهن بالعذاب المضاعف، إن هنَّ فعلن شيئاً من ذلك، وبالمقابل فإنهن سيكافَأنَ على طاعتهن لله عزَّ وجل وللنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيامهن بواجب الزوجية، بالثواب المضاعف من الله تعالى، فلهن أجر على أعمالهن الصالحة وأجر آخر باعتبارهن مثالاً يحتذى، فهن بذلك عاملات داعيات.
ـ إنَّ تصرُّفهنَّ وسلوكهنَّ وهنَّ القدوة يجب أن يكون متصفاً بالحشمة والأدب والتَّقوى، وأن يتَّسم حديثهن بالجدِّية والوقار لئلا يسبِّب فتنة لأحد، إضافة إلى لزوم تمسكهن بحبال الصلاة والصِّلة بالله تعالى، وأدائهن للصدقات والزَّكاة، وطاعتهن للرسول صلى الله عليه وسلم ، لكي يُصبحن في غاية الصفاء والطهارة والنقاء، وحسن الاقتداء به.
ـ كان من جملة الأوامر الَّتي وُجِّهت لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهلن من عطايا العلم والحكمة، الَّتي تتنزَّل في بيوتهن، وتجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتظهر في أعماله، وأن يراعين حرمة ذلك، ويستزدن من ذكر الله وتسبيحه، وهو العليم بما يفعلن.
في رحاب الآيات:
في هدي القرآن الكريم مدرسة اجتماعية لكلِّ امرأة تريد أن تبني عشاً نموذجياً للزوجية، فمهمَّة المرأة الأساسية مهمَّة تربوية، لما لها من أثر كبير على تنشئة الجيل، الَّذي سيحمل مسؤولية الأمانة وشرف الكلمة. والآيات الَّتي نحن بصددها دروس مثالية، ترسم لكلِّ واحدة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم منهاج حياتها الأمثل، في الدنيا والآخرة، وتضعها في موقع المسؤولية باعتبارها زوجة لسيِّد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.(2/189)
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهل بيته عيشة الكفاف، لا عجزاً عن تأمين المستوى المعيشي الرفيع، فقد عاش حتَّى فُتحت له مكَّة وقويت الفئة المسلمة، وكثرت غنائمها، وعمَّ فيؤها، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد، ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته عليه السلام نار!! وما كان هذا إلا استعلاءً على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله تعالى. ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقيت تراودهن مشاعر النساء ورغباتهن، وعلى الرغم من فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوَّة الكريمة، فإن بعضاً من الرغبة الطبيعية في متع الحياة ظلت حيَّة في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله، وعلى المؤمنين من خيره، كلَّمن النبي صلى الله عليه وسلم لينلن من رَغَد العيش والرفاهية، فلم يستقبل هذه المطالب بالترحيب، إنما استقبلها بالاستنكار وعدم الرضا.(2/190)
وقد أوحى الله تعالى إلى رسوله بالجواب الَّذي ورد في الآيات الكريمة ويحمل فصل الخطاب: يا أيُّها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن أحد أمرين: فإن رغبتُنَّ في سعة الدنيا ونعيمها وبهرجها الزائل، فتعالَين حتَّى أدفع لَكُنَّ متعة الطلاق، وأطلِّقكن طلاقاً من غير ضرر، وإن كنتن ترغبن في رضوان الله ورسوله، والفوز بالنعيم الوافر في الدار الآخرة، فقد هيَّأ الله تعالى للمحسنات منكُنَّ ثواباً كبيراً وهو الجنَّة، الَّتي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ به الأعين. وفي قوله تعالى: {وإن كنتُنَّ تُرِدْنَ الله..} إشارة إلى أن في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم اختياراً لسبيل الله القويم ولجنَّة النعيم، وآية التخيير هذه تحدِّد الطريق، فإمَّا الدنيا وزينتها، وإمَّا الله ورسوله والدار الآخرة، فالقلب واحد ولا يتَّسع لرغبتين متناقضتين، وهذا التخيير يحسم في القلب المسلم كلَّ أَرجَحَةٍ وتذبذب بين قيم الدنيا وقيم الآخرة، بين الإخلاد إلى الأرض، والتوجُّه إلى السماء، ويخلِّص القلب من كلِّ وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرُّد لله، والخلوص له وحده دون سواه. وبعد التخيير يأتي التحذير من مغبَّة اتباع الهوى، فمن تُحْرِجُ منهن الرسول صلى الله عليه وسلم وتطالبه بما يشقُّ عليه، يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، لأن قبح المعصية منهن أشدُّ من غيرهن، وكان ذلك سهلاً يسيراً على الله الَّذي لا يحابي أحداً لأجل أحد، فلا يغني عنهن كونهن نساء رسوله شيئاً. ومن تقنت منهن لله ورسوله، وتعمل صالحاً، يؤتها الله تعالى أجرها مرتين، والقنوت هو الطاعة والخضوع، والعمل الصالح هو الترجمة العملية لهما، وكما أن العذاب يضاعف للمذنبة ضعفين، فإن الثواب للطائعة يكون ضعفين، ويهيِّئ الله لها في الجنَّة رزقاً حسناً مُرْضياً لا ينقطع. ثم أظهر الله تعالى مكانتهن بين النساء من حيث الفضل والشرف؛ لكونهن زوجات خاتم الرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم ،(2/191)
فليست الواحدة منهن كالواحدة من آحاد النساء.
ويجدر بنا القول، إنه عندما جاء الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية، كان المجتمع العربي كغيره من المجتمعات في ذلك الحين، ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتعة وإشباع الغريزة، وهذا ما يذهب بقيمتها الإنسانية، فلما جاء الإسلام أخذ بتصحيح نظرة المجتمع إليها، والتأكيد على الجانب الإنساني في علاقات الجنسين، فليست العلاقة بينهما مجرَّد وسيلة لإشباع شهوة الجسد، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيَّين من نفس واحدة، جعل الله بينهما موَّدة ورحمة، ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان. وبهذا فقد شرَّف الله تعالى المرأة بشكل عام، ثم خصَّ نساء النبي بالشرف على النساء كافَّة، وهذا ما بيَّنه النصُّ القرآني موضِّحاً بأن لهن مكانة لا يشاركهن فيها أحد، ولا ينلنها إلا بالتَّقوى. وبعد أن بيَّن لهن منزلتهن، شرع في بيان الوسائل الَّتي تُذهِبُ الرِّجْس عن أهل البيت وتطهرهن تطهيراً، فجاءت متضمِّنة النهي عن مخاطبة الغرباء من الرجال، بلهجة عذبة رقيقة ليِّنة، تكون سبباً في إثارة شهوات الرجال، وتحريك غرائزهم، فتُطمِع بهن مرضى القلوب وتهيِّج مشاعرهم. كما أُمرن بالاستقرار في بيوتهن؛ وليس معنى هذا الأمر وجوب ملازمتهنَّ البيوت فلا يبرحْنها إطلاقاً، بل هو إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر، فحيوية البيت معدومة ما لم تُوجدها فيه سيِّدة كريمة، وأريجه ساكن لا يفوح ما لم تنشره زوجة صالحة فاضلة، ودفؤه غائب وحنانه مدفونٌ ما لم تبعثه أمٌّ رؤوم.(2/192)
إن الإسلام الَّذي رفع شأن المرأة إلى هذه المرتبة السامية يطلب منها أن ترتفع هي بنفسها أيضاً عن سفاسف الأمور، فلا تجعل من نفسها دمية معروضة في واجهة تنهشها العيون الجائعة، وتلك هي الجاهلية الَّتي سادت قبل الإسلام، وهي الآن سائدة في كلِّ مجتمع هابط إلى حضيض مَهين. إن القرآن الكريم يوجِّه نساء النبي ونساء المؤمنين جميعاً إلى التعالي فوق تلك الزينة المزيَّفة، الَّتي تجعل للجسد المكانة الأولى، وتلغي الروح بقيَمِها ومُثُلها الرفيعة، ويربط قلوبهن بالله، ويوجِّه بصائرهن إليه عزَّ وجل الَّذي يُسْتَمَدُّ منه النور. فالإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم كلَّها في نطاق العقيدة، ولكلٍّ منها دور تؤدِّيه لتطبيق مقتضيات هذه العقيدة، وتتناسق كلُّها في اتجاه واحد، ومن هذا التجمُّع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدِّين، ومن ثَمَّ كان الأمر بإقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الإيمانية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكرام، لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة، وكلُّ ذلك لحكمة إلهية بالغة وهدف إصلاحي كبير.
وهكذا يبيِّن النصُّ القرآني أن هذه الأوامر والتوجيهات ما هي إلا وسيلة لإذهاب الرِّجس وتطهير أهل البيت، وكلمة الرجس مستعارة للتعبير عن الذنوب والمعاصي، لأن العاصي يتدنَّس بها ويتلوَّث كما يتلوَّث بَدَنه بالنجاسات الحسيَّة. وأمَّا الطهارة فتكون بكثرة الطاعات الَّتي تمحو الخطايا وتُنقِّي النفس، فيبقى العبد معها نقياً كالثوب الطاهر. روى الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرُّ بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة ياأهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّرَكُم تطهيراً».(2/193)
والخلاصة إن أهداف الإسلام تتحقَّق في التطهير والتطهُّر وذلك بالاستزادة من ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن بتدبُّر وتفكُّر، والاستفادة من منابع الحكمة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وتحويل كلِّ ذلك إلى عمل مثمر بنَّاء.
القسم الثاني:
أخلاق اجتماعية دعا إليها الإسلام
الفصل الأوَّل:
وحدة الكلمة والاعتصام بحبل الله المتين
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {ياأيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مسلِمُونَ(102) واعتَصِموا بحَبْلِ الله جميعاً ولا تَفَرَّقُوا واذكُروا نِعمَةَ الله عليكم إذ كُنتُم أعداءً فألَّفَ بين قُلوبِكُم فأصبَحتُم بنعمَتِهِ إخواناً وكُنتُم على شَفا حُفرةٍ منَ النَّارِ فأنقَذَكُم منها كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ(103)}
ومضات:
ـ تتضمَّن هذه الآيات الكريمة دعوة للمؤمنين كي يجاهدوا أنفسهم، ويستسلموا بكلِّ جوارحهم للإيمان بالله، ويواصلوا العمل حتَّى آخر رمق من حياتهم بما يقتضيه هذا الإيمان.
ـ حين تتغلغل محبَّة الله في القلوب، تتفرع عنها محبَّة لسائر مخلوقاته، وبالسير على نهجه القويم، تتوحَّد الخُطا وتتشابك الأيدي في تعاون وأُلفة، تنأى بالمؤمنين عن مهاوي الهلاك والشقاق، وتجعل منهم إخواناً متحابِّين.
في رحاب الآيات:(2/194)
يأمر الله تعالى، من خلال هاتين الآيتين جميع المؤمنين في كلِّ أرجاء المعمورة، أن يتركوا الشهوات والشبهات ويزكُّوا أنفسهم، كي يتمكَّن الإيمان من قلوبهم، وتترسَّخ جذوره في أعماقهم، فيستسلموا استسلاماً كاملاً لشريعة السماء، ويخلصوا في العمل من أجل السَّلام والإخاء الإيماني، دون كلل أو ملل حتَّى الرمق الأخير. ويناديهم الله تعالى بهذا النداء المحبَّب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} ليستثير عواطفهم الكريمة، فيتلقَّوا أوامره ونواهيه بقلوب مؤمنة مطمئنة، ومن هذه الأوامر الدعوة إلى التَّقوى؛ وهي أن يُطاعَ الله فلا يُعصى، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وأن يُشكرَ فلا يُكفر، وكلَّما زادت تقوى القلب استيقظ شوقه إلى مقام أرفع ودرجة أرقى.
فإذا تمكَّن الإيمان من القلب، وترسَّخت جذوره في صميم النفس، أثمر حالة من حالات الرضا، الَّتي تفجِّر الطاقات الكامنة، وتحرِّك القوى الهاجعة في أعماق الإنسان، فيندفع إلى الخير اندفاع المحبِّ إلى ما يُحِبُّ، ويبتعد عن الشرِّ ابتعاد الكاره عما يكره، وهذه المنزلة لا يصل إليها إلا من اتقى المحارم والشُّبُهات، واقتصد في الشهوات والملذَّات، وجاهد نفسه وتجافى عن الدنيا دار الغرور؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتَّقوا الدنيا..» (رواه مسلم).
وتؤكِّد الآية على ضرورة تمسُّك المؤمنين بالتَّقوى، وأن يبقوا على تسليمهم المطلق لله تعالى في جميع أوقات حياتهم وسائر ظروفهم، ليموتوا مسلمين حين انقضاء آجالهم. فمن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.(2/195)
والله سبحانه إنما دعا الناس إلى الإسلام لأنه يجمع القلب إلى القلب، ويضمُّ الصفَّ إلى الصفِّ، هادياً لإقامة كيان موحَّد، ونبذ عوامل الفرقة والضعف وأسباب الفشل والهزيمة؛ ليكون لهذا الكيان القدرة على تحقيق الغايات السامية، والمقاصد النبيلة، والأهداف المثلى الَّتي جاءت بها رسالته العظمى. فهو يكوِّن روابط و صِلات بين أفراد المجتمع لتُوجِد هذا الكيان وتُدعِّمه، وهذه الروابط تقوم على الأخوَّة المعتصمة بحبل الله، وهي نعمة يمنُّ الله بها على المجتمع، ويهبها لمن يحبُّ من عباده ويحبُّونه، فما من شيء يجمع القلوب مثلُ الأخوَّة في الله، حيث تتلاشى إلى جانبها الأحقاد القديمة، والأطماع الشخصية، والنزعات العنصرية. قال تعالى: {.. وَمَن يَعْتَصِمْ بالله فَقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3 آل عمران آية 101).
وإذا كانت وحدة الكلمة هي القوَّة الَّتي تحمي دين الله، وتحرس دنيا المسلمين، فإن الفرقة هي الَّتي تقضي على دينهم ودنياهم معاً. ولن يصل المجتمع إلى تماسكه إلا إذا بذل له كلُّ فرد من ذات نفسه، وكان عوناً له في كلِّ أمر، ليصبح أفراده كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الَّذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)، وما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وشبَّك بين أصابعه» (متفق عليه).(2/196)
وخير مثال على هذا؛ الأمَّة العربية الَّتي كانت في بدء أمرها فرقاً متعادية وقبائل ممزَّقة، ثمَّ هبَّت عليها نفحة الإسلام فجمعت شتاتها، ووحَّدت كلمتها، فانطلقت إلى غايتها الكبرى في توحيد العالم تحت راية الهداية والعلم والأخلاق الفاضلة، بعد أن عرفت طريقها، وأحكمت خطَّتها، فجنت أطيب الثمرات من وراء الوحدة والاتحاد؛ وأدركت عملياً ـ بعد أن آمنت عقلياً وقلبياً ـ أن الوحدة قوَّة، وأن التفرُّق ضعف، وأنه ما من شدَّة تعرَّضت لها إلا كان سبَبُها الاختلاف والانقسام، لذلك كان همُّ أعدائها أن يتَّبعوا معها سياسة (فرِّق تَسُدْ)، وأوجدوا بذلك الثغرات الَّتي نفذوا من خلالها إلى مآربهم. وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه كيف يكونون يداً واحدة، وقلباً واحداً في مادياتهم ومعنوياتهم وحركاتهم وسكناتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمهُ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربةً فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة..» (متفق عليه).(2/197)
وقد صوَّر النصُّ القرآني حال القوم حين كانوا متفرِّقين مختلفين، في مشهدٍ حيٍّ متحرِّك تضطرب له القلوب، فمثَلُهم في التفرقة كمثل قوم أشرفوا على هوَّةٍ بركانية ملتهبة، وبينما هم على وشك السقوط في النار إذا بيد العناية الإلهية تمتَدُّ إليهم فتتدارك هلاكهم وتنقذهم، وإذا بحبل الله يؤلِّف بينهم، ويجمع شملهم. فما أجملها من نعمة قد تفضَّل الله بها عليهم، فأكرمهم بالنجاة والخلاص بعد الخطر والترقُّب، وقد بَيَّن الله تعالى فضله في تأليف تلك القلوب، وإنقاذها من براثن الفرقة والضياع بقوله سبحانه: {..هو الَّذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين * وألَّف بين قلوبِهِمْ لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبِهِمْ ولكنَّ الله ألَّفَ بينهم إنَّه عزيزٌ حكيمٌ} (8 الأنفال آية 62ـ63)، وبذلك وضَّح الله طريقه الَّذي ارتضاه للناس كي يسلكوه فيهتدوا به إلى سعادة الدارين.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين فرَّقوا دينَهُمْ وكانوا شِيَعاً لست منهم في شيءٍ إنَّما أمرُهم إلى الله ثمَّ ينبِّئُهم بما كانوا يفعلون(159)}
ومضات:
ـ إن شريعة الإسلام تهدف إلى توحيد الشعوب وإذابة عوامل التفرقة بينها، ونشر لواء الأخُوَّة والمحبَّة بين أفرادها؛ لذا كان من المستغرب حقاً أن تظهر قوى مفرِّقة ومصدِّعة لهذه الوحدة الإيمانية الإنسانية باسم الدِّين، ودافعها الخلافات السياسية والمذهبية.
ـ إن الفئات المتصلِّبة المصرَّة على التفرقة ليست من شرع الله في شيء، ورسول الله بريء منها إلى يوم القيامة.
في رحاب الآيات:(2/198)
إن تعاليم السماء كلَّها وحدة متَّصلة، يأخذ بعضها بيد بعض في نسق منسجم ومنهج سليم، وكلُّها تدعو إلى وحدانيَّة الله ونشر السلام على الأرض، ولكنَّ عقول الناس متباينة في مدى فهمها واستيعابها لهذه التعاليم. لذلك نرى بعض الفئات تتقارب، إمَّا بسبب طبيعتها المتشابهة أو بسبب مصالحها المشتركة، وتتَّخذ لنفسها منحىً مذهبيّاً خاصّاً يبعدها عن منهج الصالح العام، فتتشعَّب الطرق أمام الناس ويضيعون في متاهات التعصُّب، وهذه الفرق تبني لنفسها قواعد فكرية تخالف بها غيرها من المجموعات، ولا تلبث أن تتحوَّل إلى قوالب فكرية جامدة متحجِّرة، تكفِّر غيرها وتناصبه العداء، مُعْرِضَةً عن الحوار العقلاني النزيه، مستبدَّةً بأفكارها، محدثة ما لم يكن في صلب العقيدة، وضاربة حول ذاتها سوراً يمنعها من التواصل مع الآخرين.
وهذه الفرق تُعَدُّ أداة هدم في وحدة المجتمع، وعوامل تفرقة وتشرذم، وهي بعيدة عن الدِّين، وإن كانت في الظاهر تدعو إليه، روى بقيَّة بن الوليد بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إن الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً، إنما هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، وأصحاب الضلالة من هذه الأمَّة، ياعائشة. إن لكلِّ صاحب ذَنْب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليست لهم توبة، وأنا منهم بريء، وهم مني بُرآء» (أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم).(2/199)
وما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم التوبة عنهم إلا لعِظم ذَنْبهم الَّذي أصاب من وحدة الأمَّة مقتلاً، وأوردها موارد الضعف والتهلكة، فأيُّ استغفار ينفع في ذلك، وأيُّ توبة تفيد هؤلاء؟ والله ينذرهم بأنه سيجازيهم على مفارقة دينهم، ويذيق بعضهم بأس بعض، ويسلِّط عليهم أعداءهم ويذيقهم ألوان الذلِّ والهوان. وذلك ما لم يرجعوا عن غيِّهم، وينخرطوا من جديد في صفوف المجتمع الإسلامي الواحد، نابذين خلافاتهم وأحقادهم، متخلِّين عن أهوائهم، عازمين على اتِّباع ما يرضي ربَّهم، قال تعالى: {ولا تكونوا كالَّذين تَفَرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءَهُمُ البيِّناتُ وأولئك لهم عذابٌ عظيم} (3 آل عمران آية 105).
فالوحدة سُنَّةُ الإسلام وفريضته، والفرقة والتمزُّق بدعة الجاهلية، والمسلمون أمَّة واحدة؛ إلَهُهم واحد، ونبيُّهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، الأخوَّة شعارهم، والجماعة سِمةٌ في عباداتهم، والجمعة يوم عظيم من أيام أعيادهم؛ يجتمعون فيه على طاعة الله والاعتصام بحبله، وهم يبتغون بعد ذلك ما يشاؤون من عطائه وفضله. والحجُّ أكبرَ تجمُّع إيماني لهم، لحلِّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، ودعم وحدتهم وتوحيد صفوفهم، إضافة لسموِّهم الروحي والأخلاقي.
سورة الجمعة (62)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إذا نُوديَ للصَّلاةِ من يومِ الجُمُعَةِ فاسعَوا إلى ذكرِ الله وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون(9) فإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانتشروا في الأرضِ وابتَغُوا من فضلِ الله واذكروا الله كثيراً لعلَّكم تُفلحون(10) وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً قلْ ما عند الله خيرٌ من اللَّهوِ ومن التِّجارةِ والله خيرُ الرَّازقين(11)}
ومضات:(2/200)
ـ يدعو الله تعالى المؤمنين حين يُؤذَّن لصلاة الجمعة، إلى ترك جميع أعمال البيع والشراء وغيرها، والمسارعة إلى جلسة يشتركون فيها جميعاً بذِكرِ الله تعالى وينالون الخير العميم، فإذا انتهَوا من هذا العمل التعبُّدي الجماعي المميَّز، حلَّ لهم الانتشار في الأرض لمتابعة تجارتهم، أو تقديم الخدمات الاجتماعية، على أن يكونوا في جميع أحوالهم متَّصلي القلوب بالله لينجحوا في مساعيهم.
ـ العطاء الإلهي الروحي لا يمكن أن يقارن بأيِّ رزق مادي يناله المرء، وقد كان هذا العطاء يتنزَّل على الصحابة بملازمتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك عاتب الله تعالى الَّذين أشاحوا بوجوههم عن هذا العطاء، وانفضُّوا إلى القافلة التجارية الَّتي مرَّت أثناء صلاة الجمعة، تاركين الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً يخطب، غير مدركين لقيمة ما فرَّطوا به من رزق روحي عظيم، أثمن وأغلى من الرزق المادي، والله تعالى هو الرزاق في جميع الأحوال.
في رحاب الآيات:(2/201)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنَّة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم السَّاعة إلا في يوم الجمعة» (رواه الخمسة إلا البخاري). ويستحبُّ للمسلم أن يتطهَّر ويتنظَّف ويتجمَّل فيه عندما يريد الذهاب للصلاة؛ لأنه اليوم الَّذي هدى الله الأمَّة الإسلامية إليه ليكون لها عيداً. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ثمَّ أتى الجمعة فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثمَّ صلَّى ما كتب الله له ثمَّ أنصت إذا خرج إمامه حتَّى يفرغ من صلاته، كانت كفَّارة لما بينها وبين جمعته الَّتي قبلها» (رواه أبو داود)، وأخرج ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن يوم الجمعة مثل يوم عرفة، تُفتح فيه أبواب الرحمة، وفيه ساعة لا يَسألُ الله العبدُ شيئاً إلا أعطاه، قيل: وأي ساعة؟ قالت: إذا أذَّن المؤذِّن لصلاة الغداة).(2/202)
فيوم الجمعة في الشريعة الإسلامية هو يوم التجمُّع يتنادى المسلمون فيه من كلِّ حدب وصوب، ويزحفون إلى مساجد الله زرافات ووحدانا، ليوثِّقوا روابطهم الاجتماعية، ويتفقَّدوا أمور إخوان لهم لم يحضروا للصلاة، وليتباحثوا في أمورهم العامَّة ممَّا فيه مصلحة المجتمع وبناؤه علمياً وتربوياً. وهذا كلُّه في الحقيقة ذكر عملي يتذكَّر فيه المسلمون واجبهم نحو عباد الله، ويمدُّون إليهم يد العون والمساعدة، وهو أجدى من كلِّ بيع أو شراء. لذلك عاتب الله عزَّ وجل بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان منهم، من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة، إلى التجارة الَّتي قدمت المدينة يومئذ، فقال سبحانه: {وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً..}، فقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدمت عير المدينة، فانفضُّوا إليها وتركوا النبي، فلم يبق معه إلا رهط منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والَّذي نفسي بيده لو تتابعتم حتَّى لا يبقى معي أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً».
فإذا انقضت الصلاة فإن لهم مطلق الحرية في أن يتفرَّقوا لقضاء مصالحهم الدنيوية، بعد أن أدَّوا ما ينفعهم في آخرتهم، منتظرين الثواب من الله، ذاكرين إيَّاه، في جميع شؤونهم، وهو العليم بالسرِّ والنجوى، ولا تخفى عليه خافية. وفي هذا إرشاد إلى أمرين:
أوَّلهما: أهميَّة الصلة بالله أثناء القيام بأعمال الدنيا، حتَّى لا يطغى حبُّها على النفوس، فتتهافت على جمع حطامها بأيِّ وسيلة توفرت من حلال أو حرام.(2/203)
وثانيهما: إن في هذه الصلة فوزاً في الدنيا والآخرة، أمَّا في الدنيا فلأن من راقب الله فلا يغِشُّ في كيل أو وزن، ولا يغيِّر سلعة بأخرى، ولا يكذب في صفقة، ولا يحلف كذباً، ولا يخلف موعداً، ومتى كان هذا حاله اشتُهِر بين الناس بحسن المعاملة، فأحبُّوه، وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق. وأمَّا في الآخرة فلأنه يفوز برضوان ربِّه: {..ورضوان من الله أكبر ذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ} (9 التوبة آية 72)، وبجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين.
هذا هو التوازن الَّذي يتَّسم به المنهج الإسلامي، فهو يقيم معادلة متكافئة الطرفين بين الإيفاء بمقتضيات الحياة في الأرض بالعمل الدؤوب، وبين تغذية الروح بانقطاع القلب عمّا سوى الله وتجرُّده للذِّكر، وهي ضرورية لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقِّي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. فذِكر الله أثناء كسب الحلال من الرزق، والشعور المتصل بجلاله هو الَّذي يحيل العمل إلى عبادة، وبذا يتحقَّق للمؤمن الذِّكر الخالص والانقطاع الكامل، والتجرُّد المحض.
وما أغلاها من ساعات نصرفها في جو التعبُّد الجماعي الباعث للعزائم، المقوِّي للهمم، ننصرف بعدها إلى شؤوننا طوال الأسبوع، ونحن مشحونون بالقوَّة الروحية الَّتي تعيننا على القيام بشؤون ديننا ودنيانا. وبهذا يستمرُّ ذِكرنا لله، وتوجُّهنا لحضرته، وإنابتنا إليه في كلِّ الأوقات. ومن هنا كان اجتماع يوم الجمعة فرضاً لمصلحة الفرد والجماعة، لأن فيه ترابط وتكامل اجتماعي، وبالتالي قوَّة للمجتمع بأسره.(2/204)
وهكذا فإن اجتماع المؤمنين على التعبُّد والتفقُّه والاهتمام بشؤون الأمَّة، أفضل من المكاسب الدنيوية، الَّتي يمكن تأجيل مداولتها إلى ما بعد الانتهاء من الأمور العامَّة الَّتي تتعلَّق بمصالح المسلمين. والسعي الحقيقي هو لله ربِّ العالمين، فهو الرزَّاق المعطي، وهو خير مؤدِّب يعرِّفنا قيمة العلم والعمل المشترك، وليعلم الجميع أن مفاتيح العطاء بيده عزَّ وجل وهو خير الرازقين.
الفصل الثاني:
الإيثار
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {للفقراءِ المهاجرينَ الَّذين أُخرِجوا من ديارِهم وأموالِهم يبْتَغون فضلاً من الله ورِضْواناً ويَنصُرونَ الله ورسولَهُ أولئك همُ الصَّادقون(8) والَّذين تَبَوَّؤا الدَّارَ والإيمانَ من قبْلِهِم يحبُّونَ من هاجرَ إليهم ولا يجدونَ في صدورِهِم حاجةً ممَّا أُوتُوا ويُؤْثِرون على أنفسِهِم ولو كانَ بهم خَصَاصَةٌ ومن يُوقَ شُحَّ نفسهِ فأولئك همُ المفلحون(9) والَّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفِرْ لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلاًّ للَّذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوفٌ رحيم(10)}
ومضات:
ـ يجب أن يكون في صرح المجتمع الإسلامي العالمي ركن لرعاية فئة المهاجرين في سبيل الله، وهم الَّذين يُضطرون إلى مغادرة أوطانهم وترك أموالهم وممتلكاتهم نصرة لدين الله؛ وذلك لتعويضهم وشدِّ عزائمهم.
ـ ينبغي على المستقرِّين في أوطانهم المتمتِّعين بحرِّية ممارسة العقيدة، أن يرعوا هؤلاء الوافدين إليهم، ويسعوا إلى تأمين الراحة والسعادة لهم والإحسان إليهم، حتَّى يشعروا وكأنهم في بيوتهم وأوطانهم، لينجحوا بذلك ويفلحوا في كسب رضا الله عزَّ وجل.
ـ على الأجيال المتعاقبة أن تشكر صنيع الروَّاد الأوائل في الدعوة الإسلامية، وتستغفر الله تعالى لهم، لأنهم بذلوا الكثير من التضحيات ـ الَّتي بلغت حدَّ الإيثار ـ لتصل إليهم رسالة الإسلام، وحملوا الأمانة على أكتافهم بعزيمة وصدق.(2/205)
ـ المؤمنون إخوة متسامحون متراحمون، يتجاوزون عن أخطاء بعضهم بعضاً ولا يحملون ضغينة أو عداوة فيما بينهم.
في رحاب الآيات:
الآيات الكريمة تعود بذاكرتنا إلى صفحة ناصعة من صفحات تاريخ أجدادنا المسلمين الَّذين أُخرجوا من ديارهم، وأُكرهوا على التخلِّي عن كلِّ ما يملكونه فيها، تحت وطأة الأذى والاضطهاد والتنكُّر الَّذي كان يمارسه بحقِّهم قرابتهم وعشيرتهم في مكَّة، لا لذَنْب ارتكبوه إلا أن يقولوا ربُّنا الله، ممَّا اضطرهم إلى الهجرة للمدينة المنوَّرة يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله، بقلوبهم وأعمالهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، أولئك الَّذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدَّقوها بعملهم، فهم صادقون مع الله في اختيار طريقه، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم في اتِّباعه، وهم صادقون مع الحقِّ حيث كانوا، فصاروا صورة صادقة عنه تمشي على الأرض.
ثم تنتقل الآيات الكريمة للحديث عن فئة أخرى من المؤمنين، هم الأنصار، الَّذين كانت المدينة لهم منزلاً ووطناً، ودخل الإيمان إلى قلوبهم، فكان لهم المأوى المكين، والحصن الحصين الَّذي تسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه كما يثوب المرء ويطمئن إلى داره. ذلك الإيمان الَّذي أثمر ثمرة غالية هي الحبُّ لله وفي الله؛ فقد أحبُّوا إخوانهم المهاجرين وواسَوْهم بأموالهم وبكلِّ ما يملكون.(2/206)
لقد أفرز المجتمع الإسلامي نماذج رائعة من التضحية والبذل، وصلت إلى حدِّ الإيثار على النفس وهو شيء نادر الوجود، يحتاج تحقيقه إلى سموٍّ روحي عظيم. فقد يقول قائل: إن الاشتراكية شيء رائع لأنها تلزم الفرد بأن يقدِّم فائض أمواله للدولة، والَّتي بدورها توزعه بين الفقراء والمحتاجين. وهذا أمر جيد، ولكننا نطرح عليه سؤالاً هامّاً وهو: تُرَى أيُّ نظام في العالم يستطيع أن يُلزم جائعاً، يريد أن يأكل طعاماً لا يملك غيره؛ ثمَّ يجد من هو أحوج منه إلى هذا الطعام، فيُؤثِره على نفسه ويقدِّمه له، ويبيت على الطَّوى؟؟. إن هذا السلوك مارسه الصحابة الكرام فيما بينهم يومياً وبشكل طوعي؛ بينما نحن الآن في القرن العشرين، عصر العلم والحضارة، نجد أن الأنظمة الاجتماعية الهادفة إلى إلغاء الفقر من جذوره، قد فشلت جملةً وتفصيلاً، بسبب عدم أهليَّة المنادين بهذه الأفكار لتطبيقها على أنفسهم قبل غيرهم، وقصور الوسائل الَّتي بين أيديهم عن تطبيقها.
وما من شكٍّ أن هجرة الصحابة الكرام من مكَّة إلى المدينة، واستقبال الأنصار لهم من أجمل الأمثلة وأصدقها على المناصرة والتعاون على مدى التاريخ. فالمؤمنون في مكَّة، وعلى الرغم من كثرة الفقراء بينهم، وتهديد كفرة قريش لهم بأنهم إذا أرادوا الهجرة إلى المدينة، فإنه لن يُسمح لهم بأخذ أي شيء ممَّا يملكون من متاع الدنيا، وبالمفهوم العصري (مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة) فقد أصرُّوا على الهجرة من دار الجهل إلى دار العلم والإيمان، حيث النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عزَّ وجل وطاعته. وكان لقاء أهل المدينة لهم عجيباً فريداً، فقد فرحوا بمقدمهم وسعدوا به، ولم يكتفوا بتقديم المساعدات والإعانات لهم فحسب، بل اتخذ كلُّ واحد من الأنصار أخاً له من المهاجرين، وقاسمه ماله، وبهذه الصورة سطع وميض الإيمان الفعلي، ليربط القلوب بمحبَّة متينة متماسكة، ظلَّت نموذجاً يُحتذى إلى يومنا هذا.(2/207)
والأمثلة الَّتي ضربها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار كثيرة تفوق الحصر، وقد ورد بعضها فيما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصابني الجَهْد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة: أنا يارسول الله! فذهب إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصِّبية، قال: إذا أراد الصِّبية العشاء فنوِّميهم، وتعالى فأطفئي السراج، ونطوي الليلة لضيف رسول الله، ففعلتْ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}».(2/208)
فالمفلح هو من استطاع أن يقي نفسه من الشُّحِّ، ويبذل ممَّا عنده في مرضاة الله، لأن الشُّحَّ هو المعوِّق عن كلِّ خير، والخير كلُّ الخير في بذل المال والجهد مع صدق العاطفة، وقد يتطلَّب الأمر في بعض الأحيان بذل الدم والحياة. إن الشحيح بعيد كلَّ البعد عن الفضائل فلا يملك أن يصنع الخير لأنه يطمع في الأخذ، فلا يجرؤ ولا يقدر على العطاء. ومن وُقي الشُّحَّ فقد تخلَّص من براثن الظلم لنفسه ولغيره؛ أخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم». ويتجلَّى اتقاء الشُّحِّ فيما رواه خالد بن زيد بن حارثة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَرئ من الشُّحِّ من أدَّى الزَّكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» (أخرجه الطبراني في الكبير وهنّاد في الزهد، وإسناده حسن). ولقد أنذر الله تعالى الشحيح بحرمانه من جنَّات عدن، وطرده من نعيمه، وذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خلق الله جنَّة عدن ثم قال لها: انطقي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ومن يُوْقَ شُحَّ نفسه فأولئك همُ المفلحون}» (أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الكبير والأوسط).(2/209)
ثم تبرز الآيات أهمَّ ملامح التابعين، كما توضح أهمَّ خصائص الأمَّة الإسلامية عموماً، مبيِّنة صورة الأجيال اللاحقة لجيل الصحابة من المؤمنين، الَّذين تتَّسم نفوسهم بأنها تتوجَّه إلى ربِّها في طلب المغفرة، لا لذاتها فحسب، بل لسلفها الَّذي سبقها بالإيمان وزرع هذا الزرع الإيماني الرائع، فصار مثالاً يحتذى، كما تطلب من الله لنفسها براءة القلب من الغِلِّ أو الحقد على أحد من المؤمنين، مع الشعور برأفة الله ورحمته، والتوسُّل إليه بهذه الرحمة والرأفة. فالشعور بالحقد تجاه أي مؤمن يناقض الإيمان، لأن الحبَّ من رشحات الإيمان والكراهية من رشحات النفاق، وفي هذا تنبيه من حضرة الله للمؤمنين لكيلا يُنصِّبوا أنفسهم قضاة على من سبقهم، فقد أدَّوْا رسالتهم على أكمل وجه؛ وما نملك حيالهم إلا أن نستغفر لهم، ونشكر صنيعهم ونكون صادقين في شعورنا نحوهم، ونصَفِّي قلوبنا من أي ضغينة تجاههم أو تجاه غيرهم، وأن نسلك السبيل الَّتي سلكوا، فنصل إلى الغاية العظيمة الَّتي بلغوا، وأكْرِمْ بها من غاية.(2/210)
وهكذا ـ ومن وراء تلك النصوص ـ تتجلَّى طبيعة هذه الأمَّة المسلمة، وصورتها النقيَّة في هذا الوجود، فتبدو الرابطة الوثيقة الَّتي تربط أوَّل هذه الأمَّة بآخرها، وآخرها بأوَّلها، فيشكر المؤمن في العصر الحاضر كلَّ معروف أسداه إليه أخٌ مؤمن في العصر الماضي، ويقدِّم كلُّ جيل نتاج حضارته ليستفيد منه الجيل الَّذي يليه فيأخذ منه ويضيف عليه، وهكذا إلى أن تنتهي بهم دورة الحياة على وجه الأرض، ويستأنفوا حياتهم الأخرى في عالم الخلود والبقاء، وكلُّ الَّذين اجتمعوا في حياتهم الأولى على محبَّة الله والعمل الصالح، سيجمعهم الله في دار النعيم إخوة على سرر متقابلين. فهذا هو حال المؤمنين من عباد الله، وكلُّ ما يحدث على الساحة الإسلامية ممَّا هو بخلاف ذلك فالإسلام منه براء، ولاشكَّ أنه من أخطاء المسلمين وتقصيرهم الَّذي ينبغي لهم أن يتخلَّصوا منه، ويسارعوا إلى طاعة الله لتعود إليهم الحياة الإيمانية تباشر قلوبهم فتعيد إلى وجودهم الحيوية والنضرة النورانية.
الفصل الثالث:
الإحسان
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ يَعِظُكمْ لعلَّكم تَذَكَّرون)(90)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {واعبُدوا الله ولا تُشرِكوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكينِ والجارِ ذِي القُربى والجارِ الجُنُبِ والصَّاحبِ بالجَنبِ وابنِ السَّبيلِ وما مَلَكتْ أَيمانُكم إنَّ الله لا يُحبُّ من كان مُخْتالاً فخوراً)(36)}
ومضات:
ـ يظهر أثر العبادة الحقيقية في الإحسان إلى الناس، وسائر مخلوقات الله، بدءاً من الأقربين وانتهاءً بكلِّ ذي حياة من إنسان وحيوان ونبات.
ـ لم يكتف الإسلام بزرع بذور الأخلاق الفاضلة والصفات الجليلة في النفوس، بل حماها من كلِّ فحشاء ومنكر وبغي، ودعَّم هذه الحماية بإنذار المعتدين عليها بالعقوبات الزاجرة الرادعة.(2/211)
ـ الإقرار لله تعالى وحده بالربوبية، وتنزيهه عن أن يكون له شريكٌ، هو السبيل إلى جمع قلوب الناس على الخير والإحسان.
ـ إن الله تعالى لا يحبُّ من يسيء إلى غيره بالتكبُّر في القول أو العمل، أو التعالي على الخلائق والشعور بالعظمة والكبرياء تجاههم.
في رحاب الآيات:
تمزج الآيات الكريمة بين العبادة الصالحة القائمة على عقيدة التوحيد، وبين المعاملة الطيِّبة، لأنهما كلٌّ لا يتجزَّأ، فهذه الوحدة هي منبع كلِّ التصورات الأساسية للعلاقات الإنسانية في الإسلام، فعندما يؤمن العبد تمام الإيمان بعبوديته لله تعالى الواحد الأحد، يتكيَّف ضميره وسلوكه مع ما يحبُّه هذا الربُّ المعبود، فتغدو عبادته أعمالاً تترجم ما يعتمل في صدره من تقوى الله عزَّ وجل ومراقبته، وتنقلب أعماله كلُّها إلى عبادات عندما يخلص فيها النيَّة لله، فإذا تربَّى الناس هذه التربية، تحوَّلت حياة المجتمع بهذه النماذج الصالحة إلى وحدة متماسكة، متينة البنيان، تحكم أفرادها علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية، ترتكز على أسس المنهج الربَّاني السليم، وتدور حول محوري العدل والإحسان، فإن عجز الناس عن الوصول لأحدهما أدركوا الآخر، فيَسعَدوا ويُسعِدوا؛ لأن العدل يجعلهم يقيمون التوازن والاعتدال بين ما تهوى أنفسهم وما يحبُّه الله منهم، فينصفون الناس من أنفسهم ويعطون كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. أمَّا الإحسان فهو الدرجة الَّتي تسمو فوق العدل وتتجاوزه إلى البرِّ والإكرام، وهو الفضيلة الَّتي تقود صاحبها إلى الفضائل والأخلاق القويمة كافَّة، لأنه يعني الرُّقي بالنفس بعد مغالبتها ومجاهدتها إلى مستوى رفيع، بالعفو عن المسيء، والصفح عن المذْنِب، وصنع الجميل لذاته لا لدفع مغرم ولا لكسب مغنم، بل حبَّاً في الله وإيثاراً لمرضاته.(2/212)
والأمر بالإحسان يشمل علاقة الإنسان بربِّه وهي الَّتي عبَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه ) كما يشمل علاقة الإنسان بأسرته، وأُمَّته، والبشرية كلَّها. كذلك أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله وأراك من سبل الرشاد، فترشدهم وتسلك بهم طريق الحقِّ للوصول إلى كلِّ خير، قال تعالى: {..وأحسنْ كما أحسنَ الله إليك..} (28 القصص آية 77). وأعلى مراتب الإحسان، الإحسان إلى المسيء، فقد روي عن الشعبي أنه قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: (إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك)؛ لأن الإحسان إلى ذوي الأحقاد الدفينة يوصلنا إلى أعماق قلوبهم، ويجعلنا ننتزع جذور العداوة منها، ويؤيِّد هذا قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنَةُ ولا السَّيِّئةُ ادْفعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم * وما يُلَقَّاها إلاَّ الَّذين صبروا وما يُلَقَّاها إلاَّ ذو حظٍّ عظيم} (41 فصلت آية 34ـ35).(2/213)
وهكذا فإننا نرى أن الإسلام قد شيَّد بناء الأخلاق في نفوس المؤمنين في أقصر وقت عرفه تاريخ الحضارة البشرية، لأنه يرتكز على العدل والإحسان وإيتاء ذوي القربى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فما أعظمها من آية كريمة جمعت الخير كلَّه مكافِحَةً به الشرَّ كلَّه، وهي قوله تعالى: {إنَّ الله يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمُنكرِ والبَغيِ يَعِظُكُمْ لعلَّكُمْ تَذَكَّرون}. قال الحسن رضي الله عنه فيما أخرجه البيهقي: إنه قرأ هذه الآية ثم قال: (إن الله عزَّ وجل جمع لكم الخير كلَّه، والشرَّ كلَّه في آية واحدة، فوالله ما تركَ العدل والإحسان شيئاً من طاعة الله إلا جمعه، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعته). والفحشاء هي المجاهرة بالذنوب والمفاخرة بها، والمنكر هو الذنوب والممارسات الَّتي تستنكرها الطبائع السليمة، أمَّا البغي فهو الظلم والاستعلاء على الناس والتطاول عليهم، وتلمُّس عيوبهم، واستغابتهم، والاعتداء على أموالهم أو حقوقهم أو أمنهم أو سلامتهم. فإذا كانت آية واحدة من آيات القرآن الكريم قد دلَّت بِدِقَّةٍ وشموليَّة على وجوه الخير والشرِّ كلِّها، فكيف بالقرآن الكريم كلِّه الَّذي أُنزِل لينشئ أُمَّة وينظِّم مجتمعاً، ثمَّ ليوحِّد عالماً ويقيم نظاماً عالمياً، يجمع أفراد البشر كافَّة في أسرة واحدة، ليعيش الخلق كافَّة في كنف الله ورحمته، سُعَداء متعاونين متراحمين، حتى تغدو حياتهم الدنيا جنَّة مصغَّرة، فإذا ما انقضت آجالهم فيها، استقبلتهم الجنَّة الحقيقية الكبرى، والَّتي أعدَّ الله لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!(2/214)
ومن الإحسان برُّ الوالدين اللذين قرن الله تعالى الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده إشادة بعلُوِّ مقامهما، ولفتاً للأنظار إلى عظيم حقِّهما عندك وفضلهما عليك، فهما الحلقة الأولى في سلسلة الترابط الاجتماعي، فإذا ما استحكمت الصلة بهما تماسكت الأسرة والمجتمع. والإحسان إليهما يكون بطاعتهما وبرِّهما وخدمتهما والتأدُّب معهما، بألا يرفع الابن صوته عليهما، ولا يثقل في الكلام معهما، وأن يسعى إلى تحقيق مطالبهما والإنفاق عليهما قدر المستطاع، فهما اللَّذان مَنَحاه خلاصة حياتيهما، وعصارة جهديهما، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
وبعد الإحسان إلى الوالدين يأتي الإحسان إلى ذوي القربى الَّذي من شأنه أن يذيب الفوارق المادية بين خلايا المجتمع، ويربط هذه الخلايا بروابط المحبَّة والتعاون. ويُبنى على هذا مبدأ التكافل الاجتماعي الَّذي يتدرَّج به الإسلام من المستوى الفردي الشخصي إلى المحيط العام، وفق نظريته التطبيقية لهذا التكافل. ولقد أكدَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن صلة الرحم باعثة على كثرة الرزق، وطول العمر، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه ويُنْسَأَ له في أَثَره فَليَصِل رحمه» (متفق عليه) ومعناها التفقُّد لهم بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل. ثم تسمو الدعوة الإسلامية من الإحسان للوالدين وذوي القربى لتشمل اليتامى والمساكين، فيكون واجباً في حقِّهم إذا فقدوا من يقوم بمصالحهم أو ينفق عليهم، فحال المجتمع لا ينتظم ولا تستقيم أموره إلا بالعناية بهم وإصلاح حالهم، وإلا كانوا شوكة مؤلمة في جنبه، ولذلك كان أجر ذلك عظيماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالقائم الَّذي لا يفتر وكالصائم الَّذي لا يفطر» (متفق عليه).(2/215)
وتلفت الآية الكريمة نظرنا إلى من تربطه بنا قرابة قد لا نأبه لها ـ لأن القرب كما يقولون حجاب ـ وهي قرابة الجوار، ومن أحقُّ بحسن المعاملة من جار يسكن معنا في ناحية واحدة، وتربطنا به مصالح مشتركة، قد نلجأ إليه حين الشِّدَّة، ونفزع إليه عند المحنة، وقد نبوح له بمكنونات نفوسنا في حين نضنُّ بذلك على الأهل والأقارب؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (رواه أحمد والترمذي)، وعن معاذ رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن حقِّ الجار: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عُدْته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرَّك، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزَّيته، ولا تؤْذِه بقُتار قدرك رائحة اللحم والطعام إلا أن تغرف له منها، ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسدَّ عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سراً، ولا يخرج ولدك بشيء منه ليغيظ به ولده. هل تفقهون ما أقول لكم? لن يؤدِّي حقَّ الجار إلا القليل ممَّن رحم الله» (رواه الخرائطي مرفوعاً). ويطلَق لفظ الجار على كلِّ من يصحبك، إمَّا رفيقاً في سفر، أو جاراً في سكن، أو شريكاً في تعلُّم علم، أو جالساً إلى جنبك في مجلس، أو غير ذلك ممَّن له أدنى صحبة بينك وبينه فعليك أن ترعى له ذلك الحقَّ ولا تنساه.(2/216)
ثم تذكِّر الآية بضرورة الإحسان إلى ابن السبيل، وهو المسافر الغريب الَّذي انقطع عن بلده وأهله، فالواجب يحتِّم أن نمدَّ له يد المساعدة ليرجع إلى بلده. وهناك العبيد والأرقَّاء الَّذين يكون الإحسان إليهم بتحريرهم وعتقهم وحسن معاملتهم، فلم يرد في القرآن الكريم نصٌّ يُبيح الاسترقاق، وإنما جاءت الدعوة فيه مُلِحَّة إلى العتق، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ضرب الرقَّ على أسير، بل النقيض هو الَّذي فعله؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أعتق من كان عنده من رقيق قبل النبُوَّة، وأعتق كذلك ما أُهدي إليه منهم. ولم يقتصر الإسلام على تضييق المدخل لتجارة الرقيق وحصرها، بل عامل الأرقَّاء معاملة كريمة، وفتح لهم أبواب العتق على أوسع مدى، وبسط لهم يد الحنان، ورفع من شأنهم ولم يجعلهم موضع إهانة ولا ازدراء، ونهى أن يُنادَى أحدُهم بما يدل على تحقيره أو استعباده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأَمَتي كلُّكم عبيد الله وكلُّ نسائكم إماء الله ولكن ليقل: غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي» (رواه مسلم وأبو داود)، كما أمر أن يُطْعَمَ ممَّا يأكل المالك ويلبس ممَّا يلبسه، فعن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه حُلَّة ـ ثوب مبطَّن فاخر وهو من ملابس الوجهاء والفضلاء ـ وعلى غلامه ـ أي مملوكه ـ مثلها، فسألته عن ذلك، فذكر أنه سَابَّ رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بأُمِّه (قال له يا بن السوداء) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل وليلبسه ممَّا يلبس ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم فإن كلَّفتموهم فأعينوهم» (متفق عليه) فقد سمَّى المملوك أخاً ويجب أن يعامل معاملة الأخ، وقال صلى الله عليه وسلم : «للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكلَّف من العمل إلا ما يُطيق» (رواه مسلم)(2/217)
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ظلمهم وإيذائهم فقال: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفَّارته عتقه» (رواه مسلم)، ودعا إلى تعليمهم وتأديبهم فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له أَمَةٌ فأدَّبها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوَّجها فله أجران.. أجر بالنكاح والتعليم وأجر بالعتق» (متفق عليه).
وقد فتح الإسلام أبواب العتق والحرِّية، واتخذ وسائل شتَّى لإنقاذ الرقيق من العبودية، وجعل ذلك سبيلاً لرحمة الله وجنَّته، قال تعالى: {فلا اقْتَحمَ العقَبَة * وما أدراك ما العقَبَة * فكُّ رقَبَة} (90 البلد آية 11ـ13) كما جعل العتق كفَّارة لبعض الذنوب ومنهاالحنث في اليمين، قال تعالى: {..فكفَّارَتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطعِمونَ أهلِيكُمْ أو كسوَتُهُمْ أو تحريرُ رقَبَة..} (5 المائدة آية 89) ومنها القتل الخطأ، قال تعالى: {..ومن قتلَ مؤمناً خطأً فتحريرُ رقَبَةٍ مؤمنةِ..} (4 النساء آية 92) وجعل لشراء الأرقَّاء وعتقهم سهماً من ثمانية أسهم من مصارف الزَّكاة، قال تعالى: {إنَّما الصَّدَقَاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمُؤلَّفةِ قلوبُهُمْ وفي الرِّقَابِ والغارمينَ وفي سبيلِ الله وابن السبيل فريضةً منَ اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ} (9 التوبة آية 60) وأمر الله تعالى بمكاتبة العبد على قدر من المال فقال: {..والَّذين يبْتَغُونَ الكتابَ ممَّا ملكَتْ أيمانُكُم فكاتِبُوهُمْ إن علمْتُمْ فيهم خيراً وآتُوهُمْ من مالِ الله الَّذي آتاكُم..} (24 النور آية 33). والمكاتبة هي اتفاق بين المالك والمملوك على أن يؤدِّي الأخير مبلغاً من المال فيشتري بذلك حرِّيته، وقد أمر الله تعالى هذا المالك أن يستجيب لرغبة المملوك في ذلك وأن يعينه من ماله.(2/218)
ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة أن الإسلام وقف من الرقيق هذا الموقف الإنساني الأمثل، في وقت كان فيه الرِّق نظاماً عالمياً، ولا يملك وقتها أن يفرض تحريم الرِّق تحريماً قاطعاً على كلِّ المجتمعات، لذلك وضع التشريعات الحكيمة الَّتي تزيل معاناة الرَّقيق في الحاضر، وتسير به إلى الحرِّية في المستقبل. ولو أننا نظرنا إلى المجتمع النبوي لوجدنا أنه لا فرق فيه بين عبد وحر، وقد حرَّر النبي صلى الله عليه وسلم مملوكه زيد بن حارثة رضي الله عنه فما اختلفت النظرة إليه قيد شعرة، فقد كان عزيزاً كريماً وهو مملوك وبقي كذلك بعد الحرِّية، وأبعد من ذلك فقد وَجَدَ في مدرسة الإسلام ومجتمع الإسلام ضالَّته المنشودة وكرامته الإنسانيَّة المحفوظة، حيث رفض العودة إلى أهله بعد الحرِّية وآثر أن يعيش في كَنَفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كَنَفِ الإسلام في المجتمع الإسلامي الَّذي رفع قدره، فأصبح أميراً على جيش كبير في غزوة مؤتة، هذه هي حال الرَّقيق في ظلال الإسلام رقٌّ لا فرق بينه وبين الحرِّية. وتنتهي الآية الكريمة بالنهي عن كلِّ ما يناقض هذه الأخلاق كالكبر؛ لأنه من أشدِّ أعداء النفس الطيِّبة يوردها موارد الغرور والتعالي فيأنف من أقاربه وجيرانه، ويتعالى على الناس ويرى أنه خير منهم، في الوقت الَّذي لا يجدون فيه مناصاً من مبادلته شعوره والنفور منه، وهذا يستدعي بغض الله له والطرد من رحمته.
سورة لقمان(31)
قال الله تعالى: {ومن يُسْلِمْ وجهَهُ إلى الله وهو مُحْسِنٌ فقد استمْسَكَ بالعُروَةِ الوثقى وإلى الله عاقبةُ الأمور(22)}
ومضات:
ـ من الأخطار المحدقة بالأمَّة أن يقوم المؤمن بعبادات كثيرة لله ربِّ العالمين، دون أن يقرن ذلك بالإحسان إلى من حوله، والاهتمام بشؤونهم وهدايتهم، والعناية بدينهم وتقواهم؛ لأنه يكون بذلك منغلقاً على ذاته، محتكراً للخير دون غيره، منعزلاً عن المجتمع وما ينبغي أن يكون فيه من ترابط وتراحم وتآزر.(2/219)
في رحاب الآيات:
إن إسلام الوجه إلى الله عزَّ وجل يعني الاستسلام المطلق له مع الإحسان في العمل والسلوك، والطمأنينة لقَدَره تعالى، والانصياع لأوامره. فلا يكفي أن ننقاد للتعاليم الإلهية، وأن ننتفع بها وحدنا، لنكون عباداً صالحين، بل علينا أن نحسن إلى غيرنا بإسداء النصح لهم ومدِّ يد المساعدة إليهم؛ لإنقاذهم وجعلهم ينتفعون بما انتفعنا به من الإيمان وحسن الثِّقة بالله، وأن نستمسك بالعروة الوثقى لتوثيق صلة قلوبنا بالله، وذلك بأن نطمئن ونرضى بكلِّ ما يصيبنا من قَدَر الله، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها واتِّزانها في مواجهة الأحداث. فالرحلة طويلة شاقَّة وحافلة بالأخطار، وخطر التنعُّمِ فيها ليس بأقلَّ من خطر الحرمان، والحاجة فيها ماسَّة إلى السند الَّذي لا يتزعزع، والحبل المتين الَّذي لا ينقطع، بالعروة الوثقى؛ الَّتي هي الاستسلام لله والإحسان إلى عباده، وإلى الله المرجع والمصير. فمن سلك طريق الهدى والنور، وأسلم وجهه لله؛ فقد تخلَّص من التخبُّط في دياجير القلق النفسي، والهمِّ والاكتئاب والضياع.(2/220)
إن نور الإحسان وفضله يُشِعُّ في الآخرة أيضاً ويؤتي ثماره اليانعة، فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: «بَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذا رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يارسول الله بأبي أنت وأمي? فقال: رجلان من أُمَّتي جثيا بين يدي ربِّ العزَّة فقال أحدهما: ياربُّ خذ مظلمتي من أخي، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء، قال ياربُّ فيحمل من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال إن ذلك اليوم ليوم عظيم يحتاج الناس أن يُحمَل عنهم من أوزارهم، فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فرفع بصره فقال: ياربُّ أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مُكلَّلة باللؤلؤ فيقول: لأيِّ نبيٍّ هذا، لأيِّ صدِّيق هذا، لأيِّ شهيد هذا? قال الله: هذا لمن أعطى الثمن، فقال ياربُّ: ومن يملك ذلك? قال: أنت تملك ذلك، قال بماذا? قال: بعفوك عن أخيك، قال ياربُّ فإنِّي قد عفوت عنه، قال الله تعالى: فخذ بيد أخيك وأدخله الجنَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: اتَّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يُصلح بين المسلمين».
الفصل الرابع:
نبذ السخرية
سورة الحجرات(49)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا يَسخَرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يَكُنَّ خيراً منهنَّ ولا تَلْمِزوا أنفُسَكُم ولا تنابَزوا بالألقابِ بئْسَ الاسْمُ الفسوقُ بعد الإيمانِ ومن لم يتُبْ فأولئك همُ الظَّالمون(11)}
ومضات:
ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار واستخفاف؛ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الَّذي يعتقد بنفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص ويعيِّره.(2/221)
ـ خصَّ الله تعالى النساء بتكرار النهي عن السخرية من العباد والتعالي عليهم، مع أنهنَّ مشمولات بالنهي الأوَّل، نظراً لتفشِّي هذه العادة السيئة بين اللواتي لم يفقهن عن الله أوامره، ولم يحذرن من غضبه وعذابه، فلم يملكن الحكمة في ملء فراغهن بطاعته؛ بل اتخذن من اللغو والسخرية، والتنافس في المظاهر ميداناً لشغلهن، وقضاء أوقات فراغهن.
ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن تبادل الشتائم، والتهاتر بالألفاظ القبيحة، لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم، ويتجه بهم إلى منزلقات الجاهلية.
ـ من لم يستجب لله ويبتعد عن احتقار الناس وإيذائهم فقد ظلم نفسه، ومن لبس ثوب الظلم فقد هيَّأ نفسه لانتقام الله الَّذي يستحقُّه حقاً وعدلاً.
في رحاب الآيات:
مادَّة السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة. لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً: أنا خير منه، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، أوجدها الله تعالى فيه ليكون مخلوقاً متوازن الصفات والاستعدادات، فعنده أرضيَّة للخير واستعداد للسوء، وعقل للتمييز وقلب للتنوير، وبالتالي فإن لديه جميع الملكات الَّتي تصلح كأدوات للصراع بين الخير والشر، يخوضه الإنسان ويميِّز به الخبيث من الطيِّب، وتتقرَّر درجات الإحسان أو الإساءة. أمَّا إبليس فإنه لم يكن معتدلاً فقد كان طاووس الملائكة في العبادة، وأصبح زعيماً للشر وأهله، حمله تكبُّره وطغيانه على الإلقاء بنفسه في دائرة غضب الله تعالى ولعنته. ولو لم تغلب عليه شقوته المتأصِّلة في نفسه، لأدرك الفضل والكرامة لآدم والمكانة المتميزة الَّتي له عند ربِّه، فلم يستهن به ولم يسخر منه.(2/222)
إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق، حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يدرك إمكانية تفوُّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلُّها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.
والقرآن يهتف بالمؤمنين أن لا يسخر بعضهم من بعض، فلعلَّ الَّذي يسخرون منه هو عند الله تعالى خيرٌ منهم، وأن لا يسخر نساءٌ من نساءٍ فلعلهنَّ خيرٌ منهن في ميزان الله، فقد روى الحاكم وأبو نُعيم في الحُلية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمرين ـ الثوب الخَلِق البالي ـ تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبرَّه». وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة الَّتي يراها الرجال في أنفسهم، وتراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية الَّتي يُقَيَّمُ بها الناس، فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، لا يعلمها إلا الله، فقد يسخر الغنيُّ من الفقير، والقويُّ من الضعيف، والذكيُّ من الساذج، والولود من العقيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، بناءً على المقاييس الأرضية الَّتي تخطئ وتصيب في إصدار الأحكام، لكنَّ ميزان الله الثابت العادل لا يرفع ولا يخفض، ولا يقدِّم ولا يؤخِّر إلا على أساس الإيمان والعمل الصالح، وكلُّ ما سوى هذين المعيارين باطل مرفوض. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وفي هذا إيماء يصرف المرء عن مدح أحد أو الانتقاص منه بما يرى عليه من ظواهر الأعمال.(2/223)
إن القرآن الكريم يُذَكِّر الَّذين آمنوا بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة فيقول: {ولا تلمِزوا أنفسَكُم} فإذا عاب غيره من المؤمنين فكأنما يعيب نفسه، واللمز هو العيب، ومن اللمز التنابز بالألقاب الَّتي يكرهها أصحابها، ويُحِسُّون بأن إطلاقها عليهم ما هو إلا من قبيل السخرية والعيب، ومن حقِّ المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويُزري به، وقد غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها، لأنه وجد فيها ما يُزري بأصحابها. أمَّا الألقاب الَّتي تُكسِبُ حمداً أو مدحاً فلا تُكره، فقد أُطلقَ على أبي بكر (الصدِّيق) وعلى عمر (الفاروق) وعلى عثمان (ذي النُّورَين) وعلى علي (المرتضى) وعلى خالد (سيف الله). ثمَّ تحذِّر الآية المؤمنين من فقدان صفة الإيمان باستخدام ألفاظ الفسق والفجور، لأن في ذلك ارتداداً إلى الجاهلية، لذا فإن من لم يتب عن نبزه أخاه بما نهى الله عنه من الألقاب، أو لمزه إيَّاه أو السخرية منه، فقد ظلم نفسه وأكسبها عقاب الله بعصيانه إيَّاه.
والخلاصة: إن الآية الكريمة تشير إلى ضرورة تجنُّب أمور ثلاثة فيها كلُّ الإساءة إلى المجتمع الإيماني؛ وهي السخرية، واللمز، والنَّبْز. فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بازدراء ويسقطه عن درجته، واللمز هو ذِكر ما في الرجل من عيب في حضوره أو في غيبته، والنَّبْز هو أن يضيف إليه وصفاً يوجب بُغضه والحطَّ من منزلته، وبذلك يضع الإسلام قواعد اللياقة الاجتماعية والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني الفاضل الكريم.
الفصل الخامس:
نبذ سوء الظنِّ والغيبة والنميمة
سورة الحجرات(49)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اجتنِبُوا كثيراً من الظَّنِّ إنَّ بعضَ الظَّنِّ إثمٌ ولا تَجسَّسوا ولا يغْتَبْ بعْضُكُم بعضاً أيُحِبُّ أحدُكُمْ أن يأكلَ لحمَ أخيهِ مَيْتاً فكرهْتُمُوهُ واتَّقوا الله إنَّ الله توَّابٌ رحيمٌ(12)}
سورة القلم(68)(2/224)
وقال أيضاً: {ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهين(10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم(11)}
ومضات:
ـ لقد حَظَرَ الإسلام على المؤمن إساءة الظنِّ بالناس والشكَّ بهم، أو التجسُّس على حياتهم الخاصَّة وتتبُّع نقائصهم، أو التحدُّث عنهم بما يكرهون، أو نقل كلام بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، فشبَّه الله تعالى هذه الأعمال بما فيها من قبح وأذى، بأكل لحوم الأخلاَّء المقرَّبين بعد موتهم، وأمرنا أن نتَّقي هذه الموبقات، وأن نقتلع جذورها من أعماقنا.
في رحاب الآيات:(2/225)
تتابع الآيات القرآنية عملية بناء نموذج الإنسان الكامل في نفوس المسلمين، فبعد أن نَهَتهُم الآية السابقة عن السخرية واللمز والتنابز، تأتي هذه الآية لتحُدَّ من غلواء الاستنتاجات السيئة الَّتي يمكن أن يفسِّر بها الإنسان التصرُّفات الشخصية لغيره، وتلزمه أن يحمل ما يرى من ذلك، على المحمل الحسن مادام ذلك ممكناً، حفاظاً على صلة المودَّة بين المسلمين، ومنعاً للأضرار الواسعة الَّتي يمكن أن تَلحق المُتَّهم بما ليس فيه زوراً وبهتاناً؛ فجاءت الآية لتضع حداً لما يمكن أن يحدث نتيجة هذه الإساءة من مكروه، كما أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حيث جاء في الحديث الشريف: «إن الله حرَّم من المسلم دَمَهُ وعرضه، وأن يُظَنَّ به ظن السوء» (رواه مسلم والترمذي مرفوعاً). فيَحرُم سوء الظنِّ بمن شوهد منه الستر والصلاح وعُرِفت عنه الأمانة، أمَّا من يجاهر بالفجور، فلا يحرُم سوء الظنِّ به، بل إن سوء الظنِّ به أولى لحماية مَن حوله من أذاه وشرِّه. وقد علَّلت الآية الأمر باجتناب كثير من الظنِّ في قوله تعالى: {إنَّ بعض الظنِّ إثم} لأن فيه اتِّهاماً وشكّاً بالآخرين غير مبني على معطيات صحيحة، وخاصَّة إذا كان الأمر يتعلَّق بحياة الناس الشخصية وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا ظننتَ فلا تحقِّق» (رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ) ومعنى هذا أن تفترض في الناس البراءة فيما يتعلق بأمورهم الخاصَّة، الَّتي يعود نفعها أو ضررها عليهم وحدهم، صيانة لحقوقهم وحريَّاتهم؛ فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى على حرمة الحياة الشخصية للآخرين. وقد أكدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم سوء الظنِّ بالمؤمن من خلال أحاديث كثيرة منها ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والَّذي نفس محمَّد بيده، لَحُرمة(2/226)
المؤمن أعظم عند الله تعالى حُرمةً منك، ماله ودمه، وأن يُظنَّ به إلا خيراً».
كما حرَّم الله على عباده المؤمنين التجسُّس: وهو تتبُّع عورات المسلمين خفية دون علمهم، والتنقيص من كراماتهم والتشهير بهم لأي سبب كان. ويأتي التجسُّس في المرتبة التالية لسوء الظنِّ، وبه يخرج صاحب الظنِّ السيء من دائرة التفكير الداخلي الضمني، إلى حيِّز العمل والسلوك الحسِّي الخارجي، فيعمد إلى هذا التصرُّف بحثاً عن النقائص وسعياً وراء إبراز الأخطاء ونشرها. إن القرآن الكريم يحارب هذا السلوك الدنيء من الناحية الأخلاقية، ويدعو إلى تطهير القلب من هذا المرض تمشِّياً مع أهدافه وروحه، فقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي بَرزة الأسلمي قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتَّبعوا عورات المسلمين، فإنَّ من تتبَّع عورات المسلمين، فضحه الله في قعر بيته». ويحذِّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراض الفتَّاكة الَّتي إن حاقت بالمجتمع مزَّقته، وإن تخلَّلت صفوف الأحباب باعدتهم، فنهانا عن التجسُّس، وعن التحسُّس (هو الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو التسمُّع على أبوابهم)، وحذَّرنا من التباغض، والقطيعة؛ فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إيَّاكم والظن، فإن الظنَّ أكذب الحديث، ولا تجسَّسوا ولا تحسَّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام».(2/227)
ولا ينبغي لأحد أن يذكر الآخرين بما يكرهون ولو كان صادقاً في حديثه عنهم، فلا يحقُّ له أن يشيع أخبار السوء عنهم، لما في ذلك من أذى لهم، وإيغارٍ لصدورهم، وتفريقٍ لشملهم. قال الحسن رضي الله عنه : (الغيبة ثلاثةُ أَوجُهٍ كلُّها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبُهتان، فأمَّا الغيبة: فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأمَّا الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأمَّا البُهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه، أي أن تختلق أنت رواية كاذبة عنه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قيل يارسول الله: ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ» (رواه الترمذي وصححه). ونرى أن القرآن يعرض مشهداً تتأذَّى منه كلُّ النفوس حتى أشدها غلظة، وجميع القلوب حتى أدناها رقة، إنه مشهد أَكْلِ الإنسان لحم أخيه ميتاً، ثم يبادر فيعلن نيابة عنهم أنهم كرهوا هذا العمل المثير للاشمئزاز، فكان لزاماً عليهم أن يكرهوا الغيبة كراهيتهم لهذا العمل. روى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما عُرِجَ بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء ياجبرائيل؟ قال: هؤلاء الَّذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الغيبة أشدُّ من الزنى. قالوا: يارسول الله! وكيف الغيبة أشدُّ من الزنى؟ قال: إن الرجل ليزني فيتوب؛ فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يُغْفَرُ له حتى يغفرها له صاحبه».(2/228)
كما نهى الله تعالى المؤمنين عن النميمة؛ لكونها داءً يفتك بسلامة المجتمع، ويمزِّق وحدته وتماسكه، وهي السعي بين الناس بالكلام، أي نقل كلام بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، وهي من كبائر الذنوب، ولو كان صاحبها صادقاً فيما ينقله، كأن يَسْمَعَ شخصاً يذمُّ آخر في غيبته فينقل ما سمعه إليه دون زيادة. وقد شبَّهها النبي صلى الله عليه وسلم بالعَضْهِ وهي الذَّبيحة الَّتي تُقطَّع أعضاؤها فتفرَّق عن بعضها بعضاً، وذلك لأنها تفرِّق بين الأحبَّة، فعن عبد الله رضي الله عنه قال: إن محمَّداً صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم ما العَضْهُ هي النميمة القالَةُ بين الناس» (رواه مسلم). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنَّة نمَّام» (رواه مسلم).
والهدف من كلِّ هذه الأوامر الإيجابية البنَّاءة والنواهي التربوية الهادفة، هو تنقية المجتمع الإسلامي من شوائب الخِسَّة والضَّعة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أسس المودَّة والإخاء والنصيحة، وشغل الوقت بالإيجابيات النافعة، وصون الأُمَّة عن السلبيات المبدِّدة، فالمؤمن طاهر القلب أبداً عفيف اللسان، إذا رأى عورة لأخيه سترها، وإذا شاهد نقيصةً أعرض عن نشرها، ونبَّهه سراً للإقلاع عنها، كما قال الشاعر:
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ فَكلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَينكَ إنْ أَبْدَتْ إَلَيكَ مَعَايِباً فَصُنْهَا وَقُلْ يَاعَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ(2/229)
رُويَ عن أحد الصالحين أنه شاهد شابّاً، قويَّ البنية، صحيح الجسم، يتكفَّف الناس على باب المسجد، فقال في نفسه: لو أنه ذهب وعمل عملاً انتفع منه فأصبح في غنى عن مسألة الناس. فنام تلك الليلة فرأى الملائكة تقدِّم له لحم ذاك المتسوِّل على طبق، وتطلب منه أن يأكل منه، فعرف الصالح غلطته، وقال: إنني ما اغتبته، ولكنه خاطر مرَّ على قلبي، فأجابته الملائكة: إن مثلك يُحاسب على خطرات القلوب.
وجملة القول: إن هذه الآيات الكريمة تقيم سياجاً في المجتمع الإسلامي الكريم، حول حُرُمات الأشخاص وكراماتهم وحرِّياتهم، وتعلِّم الناس كيف يطهِّرون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب متفرِّد عجيب!!.
الفصل السادس:
نبذ البُهتان واتِّهام الأبرياء
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ومن يَكْسِبْ خَطيئةً أو إثماً ثمَّ يرمِ به بريئاً فقد احتملَ بُهتاناً وإثماً مبيناً(112)}
ومضات:
ـ أراد الله تعالى للناس أن يعيشوا في ظلال مجتمع آمن طاهر نظيف من كلِّ العيوب؛ فحرَّم الكذب والافتراء واتِّهام البريء، وعدَّ ذلك من كبائر الذنوب الَّتي لا يُكْتَفَى للتوبة منها بالاستغفار، وإنما بإصلاح ما نجم عنها من فساد وإفساد.
في رحاب الآيات:
يحرص الإسلام كلَّ الحرص على تمتين أواصر المحبَّة والوئام بين أفراد الأسرة الإنسانية، ومحاربة كلِّ ما من شأنه أن يضعف هذه العلاقة الطيِّبة بينهم؛ فتراه يحارب الغيبة والنميمة والكذب والبُهتان، ويتوعَّد من يرتكبها بأشدِّ العقوبات في الدارين.(2/230)
إن البُهتان من كبائر الذنوب الَّتي لا كفارة لها إلا بالتوبة الصادقة النصوح، وإصلاح ما ينجم عنها من فساد، وهو تعريفاً: ارتكاب الذنْب وإلحاقه بالآخرين، أو التعريض بالناس في أمورٍ هم بريئون منها. فليس هناك أكثر إثماً ممَّن يسرق ويتَّهم غيره بهذا الفعل، أو يقتل ويلقي بالشكِّ والاتِّهام على غيره، وجميع هذه الصفات يترفَّع عنها الخُلُق الكريم، وتأباها الفطرة السليمة، ويستحقُّ صاحبها العذاب العظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رمى مسلماً بشيء يريد شَينه به حبسه الله يوم القيامة على جسر من جسور جهنَّم، حتى يَخْرُجَ ممَّا قال» (أخرجه أبو داود).
ولا يخفى أن العلَّة في انتشار هذه الآفات الخلقية بين الناس، تكمن في ابتعادهم عن الدِّين الحقِّ، ممَّا يسبب ضعف الوازع الخلقي لديهم، والغفلة عن الأوامر والنواهي الَّتي جاءت بها الشريعة الغرَّاء. وقد استخدمت الآية الكريمة لفظ (الكسب) لمن يرتكب مثل هذه الفواحش، إشارة إلى أن مرتكبها يكسب الإثم والعقاب والضرر قبل أن يسبِّبه لغيره، ويستعجل العقوبة لنفسه قبل أن يعاقبه الله، قال تعالى: {كلاَّ بَلْ رانَ على قلوبِهِم ما كانوا يكسِبُون} (83 المطففين آية 14).
لذا نجد القرآن الكريم يضع ميزان العدالة الَّذي يحاسب كلَّ فرد على ما اجترح، ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إن ألقى بذنبه على عاتق غيره. ولعلَّ أدنى ما يصيب مثل هذا الإنسان هو تأنيب الضمير، ثم لا يلبث أن ينكشف فعله بين الناس فيتحاشَوْنه ويصبح منبوذاً غير موثوق به، وهذا ما يورثه القلق والحزن والندم، ثم يواجه عذاب الله الشديد يوم القيامة. فليحترز العاقل من تعريض نفسه لهذه المنزلقات وما يترتب عليها من عقوبات إن عاجلاً أو آجلاً.(2/231)
إن هذه الأحكام المُثلى والقيم الإنسانية الفُضلى، لم تكن في ظلال الإسلام آمالاً تُرجى، ولا أحلاماً خيالية بعيدة عن الواقع التطبيقي العملي، بل جعلها دستورُ السماء واقعاً حياتيّاً ملموساً، فقد ذَكر المفسِّرون في سبب نزول هذه الآية وما قبلها، أن رجلاً من المسلمين يدعى طعمة بن أُبَيْرِق سرق درعاً ووضعها في كيس من الطحين، ولما أوشك أمره أن يظهر ويُفْتَضح، أودعه عند يهودي يدعى زيد بن السمين وبعد ذلك اتَّهمه بسرقته، وقد عُرِضَ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما ضُبطت الدرع المسروقة في حوزة اليهودي أعلن أنها ليست له، وإنما أودعها عنده طعمة بن أبيرق، ولما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله ومعارفه زَكَّوه ولم يتَّهموه، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم على اليهودي عملاً بالأدلَّة الظاهرة، إلا أن وحي السماء تدخَّل وأنقذ اليهودي البريء، وأدان المجرم الَّذي يبدو للناس بمظهر المسلم. إن هذه الواقعة وغيرها تدلُّ على أن مبادئ الإسلام قوانين للتطبيق وأنظمة وضعت ليلتزم بها الناس، وليست مجرَّد شعارات برَّاقة أو أدبيَّات فكريَّة مجرَّدة، إنه الإسلام دين الحياة الأمثل، الَّذي يعيش الجميع ـ على مختلف عقائدهم ـ في ظلاله آمنين مطمئنين، لا يخافون ظلماً ولا هضماً.
الفصل السابع:
العدل وأداء الشهادة
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذينَ آمنوا كونوا قوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهداءَ لله ولو على أنفسِكُم أو الوالدين والأقرَبينَ إن يكُن غنيّاً أو فقيراً فالله أولى بِهمَا فلا تتَّبِعوا الهوى أنْ تعْدِلوا وإن تَلْوُوا أو تُعْرِضوا فإنَّ الله كان بما تعملون خبيراً(135)}
سورة المائدة(5)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامينَ لله شُهداءَ بالقِسْطِ ولا يجرِمَنَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تَعْدِلوا اعدلوا هو أقربُ للتَّقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(8)}(2/232)
ومضات:
ـ لَبِنَات جديدة تضعها الشريعة الإسلامية لتكمل إشادة بناء الشخصية المسلمة، وهي دعوتنا إلى إقامة العدل ونشر لوائه ليستظلَّ الجميع بظلاله الوارفة، وإلزامنا بمراعاة جانب الحقِّ والحقيقة في أداء الشهادة، وأن لا تأخذنا في سبيل ذلك لومة لائم سواء أكان قريباً أم بعيداً، غنياً أم فقيراً، وجيهاً أم وضيعاً.
ـ يجدر بنا كمسلمين أن نلتزم جانب الحقِّ وندافع عنه وإن كان في ذلك معارضة لمصالحنا الخاصَّة وتأييدٌ لمصالح خصومنا، فالحقُّ أولى أن يُتَّبع، والله تعالى لن يضيِّع أجر من يخشاه، ويؤثر طاعته وامتثال أوامره على كثير من مصالحه الشخصية والذاتية، لأنه سبحانه العليم الخبير بكلِّ ما يجري في هذا الوجود.
في رحاب الآيات:
العدل ميزان الله في الأرض، وهو اسم من أسمائه الحسنى، وصفة من صفاته العظمى، به ينصف الضعيف من القويِّ، والمظلوم من الظالم، وبتطبيقه يسود في الأرض التوازن والانسجام، والنظام القويم. وأهمُّ مظهر من مظاهر العدل أن يكون المخلوق عادلاً في سلوكه مع الخالق عزَّ وجل، فيعبده حقَّ عبادته، ويؤدِّي ما عليه من التزامات العبودية وتعظيم الربوبية، إذ أن النفس البشرية لا ترتقي إلا حين تتَّجه إلى حضرة الله مباشرة، متجرِّدة عن كلِّ ما سواه، فتستشعر تقواه، وتُحِسُّ أن عينه مطَّلعة حتَّى على خفايا الضمير.
ومتى ارتقى الإنسان إلى هذه المكانة في تعامله مع خالقه، أَحبَّ العدل والحقَّ والخير، وكره الظلم والباطل والشرَّ، وأصبح أداة لإحقاق الحقِّ ومحاربة الباطل، فإذا رأى مظلوماً يُعْتَدى عليه أو تُنْتَهك حرمته، أو يُسْلَب ماله هبَّ لنجدته ورفع الظلم عنه، وإذا دُعي للشهادة لبَّى الدعوة وشهد بالحقيقة الَّتي ترضي الله، فقد روى مسلم عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أَدُلُّكم على خير الشهداء؛ هو الَّذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها».(2/233)
ونظراً لأهميَّة الشهادة بالعدل فقد حضَّ الإسلام عليها، وأمر الله عباده المؤمنين بأدائها على وجهها الصحيح دون محاباة، قال تعالى: {..ولا تكتموا الشَّهادةَ ومَن يكْتُمْها فإنَّه آثِمٌ قلبه..} (2 البقرة آية 283) فإذا سُئِلْتَ في الأمر فقل الحقَّ فيه، ولو أصابك من ذلك ضرر مادي عاجل أو أصاب والدَيْك، لأن برَّ الوالدين لا يتعارض مع الصدق في أداء الشهادة على أحدهما أو كليهما، لأن في هذه الشهادة منعاً لهما من الظلم وهذا برٌّ بهما، وليس من البرِّ أن نطمس حقَّ الخصم محاباة للوالدين أو الأقربين لأن في ذلك ضياعاً للحقوق، وتنشيطاً للظلم، وتشجيعاً للظالم كي يتمادى في ظلمه. ومن يَتَّقِ الله في الشهادة فإن الله سيجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، قال تعالى: {..ومن يَتَّقِ الله يجعلْ له مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ من حيثُ لا يحتسبُ..} (65 الطلاق آية 2ـ3).
ولقد حضَّ الإسلام الناس على أن لا يَحْملهم الهوى أو العصبية أو عداوتهم لبعضهم على مجافاة العدل في أمورهم، بل أمرهم بالالتزام به في كلِّ حالة، فهو بهذا يكفل العدل لكلِّ الناس كما يكفله لأبنائه، وهذه المقوِّمات تجعل الإسلام ديناً عالميّاً، يمكن للناس جميعاً الاحتماء به، والالتجاء إلى تعاليمه، لنيل حقوقهم سواء أكانوا من معتنقيه أم من غيرهم. وكذلك أمر الإسلام أتباعه أن لا يُدْخِلوا الاعتبارات المادِّية في موضوع أداء الشهادة، سواء أكان أحد الخصمين غنياً أم فقيراً، فلا يجوز أن نغمطه حقَّه إن كان فقيراً، أو نتواطأ معه إن كان غنياً، فالله أَحقُّ أن نخشاه، وهذا كلُّه بخصوص حقوق العباد.(2/234)
أمَّا في الحدود فقد قال الفقهاء: إن ستر الشهادة في الحدود أفضل من أدائها، لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده في الحدِّ: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» (رواه أبو داود والنَّسَائي) وقوله صلى الله عليه وسلم : «من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» (رواه الطبراني مرفوعاً ورجاله رجال الصحيح) وقال صلى الله عليه وسلم : «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات ادرؤوا الحدود ما استطعتم» (رواه الخمسة).
وحسبنا أن الله تعالى مُطَّلع على سرائرنا، وأنه حمَّلنا أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كلِّ حال وفي كلِّ مجال، القسط الَّذي يمنع البغي والظلم في الأرض، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فالعدل أساس الملْك وقوامه، بل أساس الحياة السعيدة كلِّها.
الفصل الثامن:
التثبُّت من الحقائق
سورة الحجرات(49)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إن جاءَكُم فاسقٌ بنبأٍ فتَبَيَّنوا أن تُصيبوا قوماً بِجهالةٍ فتُصبِحوا على ما فعلتم نادمين(6)}
ومضات:
ـ الفاسق هو الإنسان الَّذي يخرج عن حدود طاعة الله إلى معصيته، وقد أمر الله تعالى في هذه الآية أن توضع أفعاله وأقواله تحت المراقبة والمحاكمة، لأنه لا يؤمَنْ جانبه ولا يُرْكَن إليه، فهو غير مبالٍ أصلاً بسلامة المجتمع أو أمنه أو ترابطه، وإن الأخذ بكلامه على محمل الصدق والثقة، لاسيَّما فيما يتعلَّق بأعراض الناس ومصائرهم، قد يوقعنا في مساوئ التسرُّع والخطأ، ويحملنا على أن نرتكب ما نندم عليه حيث لا ينفع الندم.
في رحاب الآيات:(2/235)
إن الإنسان الراشد العاقل مسؤول عن كلِّ كلمة يتفوَّه بها، وعن أي معنى يوحي به للآخرين، ومن هنا فقد تعيَّن عليه أن يوثِّق كلامه ويثبِّته بدلائل من أرض الحقيقة والواقع، وأن يحيط عقله ولُبَّه بالمراقبة الذاتية، فلا ينطق إلا خيراً، ولا يلقي سمعه إلا إلى ما يقبله العقل وتؤيِّده الحُجج والدلائل، وهذا لا يُدرَك إلا باستقصاء الحقائق. فكم من مقولة كاذبة أدَّت إلى تَهْلُكة، وكم من خبر زائف أدَّى إلى نزاع وشجار، وكم من شائعة مغرضة أدَّت إلى فساد في الأرض، فما كلُّ ما يُسمع يُقال، وما كلُّ ما يُسمع يُصدَّق أو يُؤخذ كقرينة إثبات، خاصَّة فيما يتعلق بأعراض الناس وأخلاقهم وأماناتهم ومجمل سلوكهم. جاء في الحديث أن معاذ بن جبل رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وهل نُحاسب على أقوالنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ثَكِلَتْك أُمُّك يامعاذ! وهل يكبُّ النَّاس في النَّار إلا حصائد ألسنتهم» (رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه).(2/236)
لقد حمى الإسلام حُرُمات الناس وكراماتهم، فشدَّد العقوبات على منتهكي الأعراض، ومثيري الفتن، وحذَّرنا في الوقت نفسه من الانسياق وراء تياراتهم، وتصديق كلِّ ما يقولون ويروِّجون، كي لا نتحوَّل إلى أدوات إذاعية لهم، تنقل افتراءاتهم وتَجَنِّيهم على النَّاس، فإذا وقعت الواقعة وكثرت الضحايا، وانجلت الحقيقة، وتبيَّن كذب ما كانوا يدَّعون، شعرنا بالنَّدم والألم لأننا كنا أدوات مشاركة في الجريمة، ومسؤوليتنا في ذلك جسيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «التثبُّت من الله والعجلة من الشيطان» (رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). ومدلول الآية عام، وهو يتضمَّن الدعوة إلى التمحيص والتثبُّت من خبر الناس عموماً، والفاسق خصوصاً، لأنه مَظِنَّة الكذب وكلامه موضع شكٍّ حتَّى يثبت صدقه، أمَّا الصادق فيؤخذ بخبره، لأن الصدق هو الأصل في المجتمع المؤمن، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصادق الثقة جزء من منهج التثبُت لأنه أحد مصادره. أمَّا الشكُّ المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار، فهو مخالف لأصل الثقة المعتمدة، ومعطِّل لسير الحياة، والإسلام يترك الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز لصيانتها فقط، لا لتعطيلها. وهذا كلُّه فيما لم يطلب الشارع دليلاً عليه، أمَّا ما طلب الشارع دليلاً عليه كالاتِّهام بالزنا، فلابدَّ فيه من شهادة أربعة شهود عدول، وإلا فهو مرفوض ولو كان من صادق أو صادقَيْن أو ثلاثة فلابدَّ من الأربعة.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لكَ به عِلمٌ إنَّ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً(36)}
ومضات:(2/237)
ـ يعرض الإسلام قواعد لتربية الحواسِّ المادِّية والروحية، لأنها إن لم تؤخذ بالعناية والعلم فإنها تخطئ في التمييز، وهذا ما يوقع صاحبها في دائرة الخطأ ثم المسؤولية والحساب. فالمرء مطالب بأن يتثبَّت من كلِّ خبر يسمعه، ومن كلِّ ظاهرة أو حركة يراها قبل أن يحكم عليها، وتلك هي مقولة الآية الكريمة الَّتي تجعل الإنسان مسؤولاً، عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
في رحاب الآيات:
إن الانقياد الأعمى وراء مبدأ أو غاية ما، دون دراسة أو حسن تبصُّر، يُعَدُّ خروجاً على قوانين الله، إذ لا يجوز تعطيل أدوات التمييز كالسمع والبصر الَّتي ترشد الفؤاد. والفؤاد يعني العقل أو القلب الَّذي يتحسَّس الخطأ والصواب إذا كان منوَّراً بالإيمان وذِكر الله تعالى.
تلك كلمات قليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الَّذي عرفته البشرية حديثاً. فالتثبُّت من كلِّ خبر ومن كلِّ ظاهرة ومن كلِّ حركة، قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج، لم يعد هناك مجال للوهم والخُرافة في عالم الفكر، ولم يبقَ مجال للظنِّ والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبقَ مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم. فالأمانة العلمية الَّتي يُشِيدُ الناس بها اليوم، ليست سوى جانب من الأمانة العقلية والقلبية الَّتي يعلنها القرآن، فيجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهب هذه النعم. إنها أمانة الجوارح والحواسِّ والعقل والقلب، أمانة يُسأل عنها صاحبها، ويرتعش الوجدان لثقلها كلَّما نطق اللسان بكلمة، أو روى رواية، أو أصدر حكماً على شخصٍ أو أمرٍ أو حادثةٍ.(2/238)
فظلمة السمع كامنة في جعل الأذن أداة الاستماع إلى الغيبة واللغو، والرفث والبُهتان، والقذف واللهو والفواحش، أمَّا نوره ففي جعلها أداة الاستماع إلى القرآن والأخبار الصادقة النافعة، والعلوم والحِكم، والمواعظ والنصيحة وقول الحق. وظلمة البصر: في النظر إلى المحرَّمات، ونوره في النظر في القرآن والعلوم وآثار رحمة الله. وظلمة الفؤاد: في إضمار الحقد والحسد والعداوة، وحبِّ الدنيا والغفلة عن الله عزَّ وجل، والتعلُّق بما سواه سبحانه، ونوره في ذِكر الله تبارك وتعالى والإنابة إليه وتصفية القلب من هذه الأوصاف، وتحليته بنقيضها من مكارم الأخلاق والعقائد السليمة.
أخرج الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء، كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار، حتى يأتي بنفاذ ما قال». وأخرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من حمى مؤمناً من منافق، بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن قفا مؤمناً بشيء يريد شينه، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج ممَّا قال». فعلينا أن نصون حواسَّنا عن الفواحش، ونحرص على طهارتها، ولا نلطِّخها برجس المعصية لأننا مسؤولون عنها أمام محكمة ربِّ العالمين.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذينَ آمنوا إذا ضَربْتُم في سبيلِ الله فتَبيَّنوا ولا تقولوا لِمَن ألقى إليكُمُ السَّلامَ لستَ مؤمِناً تَبْتغونَ عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعندَ الله مغانِمُ كثيرةٌ كذلكَ كُنتُم من قبلُ فَمَنَّ الله عليكم فتبيَّنوا إنَّ الله كان بما تعملونَ خبيراً(94)}
ومضات:
ـ يجب على المؤمن التأنِّي والتروِّي في تبيُّن حقائق الأمور، لأن عدم الرويَّة والتثبُّت قد يؤدِّي به إلى نتائج مفجعة.(2/239)
ـ يجب أن يقبل المؤمنون السلام ممن يحيِّيهم بتحيَّة الإسلام، وهم غير ملزمين بالتحرِّي عن حقيقة إيمانه، ذلك لأنهم ليسوا مكلَّفين بالكشف عن بواطن القلوب ومكنوناتها، فهم يحكمون بالظاهر فيما يتعلَّق بالعقيدة والإيمان، والله يتولَّى السرائر.
ـ المؤمن يخلص النية في سعيه في سبيل الله، ويقدِّم مصلحته الأخروية على مصالحه الدنيوية مهما كانت مغرية مُلِحَّةً، ويتحرَّى شرعيتها كيلا يفوِّت ما ادَّخره الله تعالى له من عظيم الأجر والثواب. وهذا لا يمنعه من السعي الشريف، وراء المكاسب الدنيوية الحلال، ليوظِّفها في سبيل تحقيق الكفاية والسعادة لنفسه وأسرته ومجتمعه.
ـ يجب أن يفطن الداعي إلى الله إلى دورة الحياة، وأن يعود بذاكرته إلى بدايات سلوكه طريق الإيمان، كي يعامل الآخرين بقدر إيمانهم ويخاطبهم بحسب مستواهم العقلي والروحي.
ـ إن الله تعالى خبير بالأعمال الَّتي نقوم بها، ولا يخفى عليه شيء من بواعثها.
في رحاب الآيات:
لا تخلو صفوف أتباع أيِّ شريعة من الشرائع على مرِّ الزمان، من فئة متصلِّبة متطرِّفة، تنكر على الناس إيمانهم، وتطعن بسلامة عقيدتهم، حتى ولو نطقوا بالإيمان، وتقيَّدوا بأحكام العبادات. فتراهم يُشهرون سلاح التكفير في وجه من يخالفهم من الناس دون ورع وبلا هوادة. والسبب الَّذي يدفعهم إلى ارتكاب هذه المخالفات والمغالطات هو فهمهم الخاطئ للدِّين وتعاليمه، أو أمراض نفسية مستحكمة فيهم، وشهوات مستعرة في دخائلهم، لا يمكن أن يكون لها سلطان على المؤمن، الَّذي يعي دين الله جيداً ويطبِّق تعاليمه، ويلتزم بالدعوة إلى الله ونشر لواء العلم والسلام والإخاء.(2/240)
إن أمثال هؤلاء موجودون في كلِّ زمان ومكان، والآية الكريمة، تدعوهم ليخفِّفوا من غلوائهم فتقول: لا تحسبوا أن كلَّ من اشتبهتم في كونه كافراً هو كافر، إذ ربَّما يكون الإيمان قد طاف في سماء قلبه وألمَّ بها إن لم يكن قد تمكَّن فيها بعد. فإذا انطلقتم للدفاع عن دين الله فتأنَّوا في اتِّهام من اشتبه عليكم أمره ولم تتبينوا حاله بعد، أَعَدُوٌّ هو أم مسالم، ولا تعجلوا في محاربته إلا إذا تحقَّق لكم أنه يشنُّ حرباً على دين الله ورسالته، فليس الهدف الأصلي من الجهاد قتل الأعداء والتخلُّص من أجسادهم، بل قتل العداوة في قلوبهم وتحويلهم إلى إخوة وأصدقاء. فإذا استسلم أحدهم وعرض على المؤمنين السلام فعليهم أن يقبلوه وأن يَعْرُضوا الإيمان عليه بشكل ودِّي مقبول، وأن يقولوا له قولاً ليِّناً؛ كما أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السَّلام حين أرسلهما إلى فرعون قائلاً: {فقولا له قولاً لَيِّناً لعلَّهُ يتذكَّرُ أو يخشى} (20 طه آية 44) فما هم بأكرم على الله من الأنبياء ولا ذاك الإنسان بأعتى عند الله من فرعون.(2/241)
وقد ضربت الآية لهؤلاء القوم من المسلمين الَّذين كانوا يشتدُّون على من يظنُّون فيه الكفر دون أن يتحقَّقوا منه، مثلاً مستمداً من سلوكهم لتكون التذكرة أقوى والموعظة أبلغ؛ حيث كانوا هم أنفسهم في بدء الدعوة يُخفون إيمانهم عن قومهم خوفاً وتقيَّة، حتَّى منَّ الله عليهم بإعزاز دينه، وأظهرهم على المشركين. هذه حالهم في بدء الإسلام، وهي حال هذا الإنسان الآن، لذلك يدعوهم لأن يقبلوا إيمانه، ويعملوا على زيادة حلاوته في قلبه، وتقوية أواصره في صدره، والله هو الَّذي يتولَّى السرائر وهو نِعْمَ المجازي ونِعْمَ المثيب، وهو أيضاً صاحب القرار في تمييز المؤمن من الكافر، ولا يحقُّ لأحد من البشر أن يتطاول بأخذ حقِّ الحكم على إيمان الناس، بل يتعامل مع الناس محسناً الظنَّ بهم، والله تعالى أحقُّ بالغيرة على دينه من جميع العباد.
الفصل التاسع:
العفو والمسامحة
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرفِ وأَعْرِضْ عن الجاهلين(199) وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ من الشيطانِ نَزْغٌ فاستعذ بالله إنَّهُ سميعٌ عليم(200)}
سورة فصلت(41)
وقال أيضاً: {ولا تستوي الحسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادفعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم(34) وما يُلَقَّاها إلاَّ الَّذين صبروا وما يُلَقَّاها إلاَّ ذو حظٍّ عظيم(35) وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ من الشَّيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إنَّه هو السميعُ العليم(36)}
ومضات:
ـ أيُّها المسلم خذ نفحة طيِّبة من كلِّ خُلق كريم، وتحلَّى بالمسامحة وعامل الناس باللين والحلم والرفق، ولتكن آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر في كلِّ أحوالك، كن طبيباً معالجاً لمشاكل الناس وهمومهم ناشراً بلسم شفائهم، ولا تكن قاضياً جائراً تدينهم على الشُّبُهات، وابتعد عن طريق المغرضين المخرِّبين، العابثين بالقيم العليا وفضائل الأخلاق.(2/242)
ـ إن قوَّة إيمانك تتجلَّى في قدرتك على أن تقتل العداوة الَّتي يزرعها الشيطان في قلب أعدائك، فتحوِّلهم إلى أحباب مسالمين متعاونين معك بمودَّة وصدق.
ـ ينال المؤمن القِيَمَ الأخلاقية الرفيعة والصفات الإيمانية الكريمة بالصبر الدؤوب، والمجاهدة المستمرة، وبتوفيق الله وعنايته.
ـ إن الشيطان يتربَّص بالإنسان الدوائر، ويقعد له مقاعد السوء، فهو مخلوق لا يملك سوى طاقة الشرِّ الَّتي تتأجَّج في صدره، وهي طاقة ضعيفة سُرعان ما تضمحلُّ وتتلاشى بمجرَّد التجاء المؤمن إلى الحقِّ، واستجارته بالله عزَّ وجل؛ الَّذي يحميه من وساوس هذا الشيطان اللعين.
في رحاب الآيات:(2/243)
لئن كان الله عزَّ وجل قد حكم على آدم وذريَّته بالهبوط من الجنَّة إلى الأرض، فإنه قد شرَّع لهم من الشرائع ما يرفعهم من الأرض إلى الجنان إذا ما التزموا بها!. فالدِّين يعني الرقي الأخلاقي والسلوكي والاجتماعي، وهذا كافٍ ليأخذ بيد الإنسان من مسارب الجهل وسراديب الضياع، ويصعد به إلى مرتقيات الروح، ومسالك الضياء. وهو بمجموع تعاليمه ينضوي تحت لواء شعبتين كبيرتين هما: الإيمان بوحدانية الله، والتحلِّي بمكارم الأخلاق. والآية الكريمة تتناول الجانب الثاني الَّذي يرتبط بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، وهي ذات مدٍّ روحي كمدِّ البحر يتدافع في عمق النفس بسرعة خاطفة، ولا ينحسر عنها إلا وقد طهَّرها وزكّاها. وأوَّل هذه المكارم الخلقية التسامح مع الناس، والعفو عن أخطائهم، واليسر في معاملتهم بعيداً عن التشدُّد، وخاصَّة في مجال الدعوة إلى الله، حيث ينبغي أن تكون دعوتهم مبنية على اللين والحوار البنَّاء، فالنفوس ليست كلُّها على مستوى واحد من الكمال، وإذا تعامل الداعي مع الناس على أنهم متساوون في الرقيِّ الأخلاقي شقَّ ذلك عليهم، واتسعت الهوَّة بينه وبينهم؛ لذلك فإن من واجبه أن يصرف النظر عن هَفَوات من يدعوهم، ما لم يكن فيها مخالفة صريحة لتعاليم الدِّين، وعليه أن يخفِّف عنهم الأعباء ضمن حدود الشرع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.(2/244)
ومن الواضح أن الآية تحثُّ على العمل الصالح، لأن خيره يعود على من يقوم به، وعلى من يرتبط به برابطة ما من الروابط الاجتماعية، فهو يترك أثراً إيجابياً في نفسيهما معاً، وينعكس راحةً وأمناً وطمأنينة، بينما يترك العمل السيء ردود فعل من الغضب، وتوتُّر الأعصاب في نفس من يصدر عنه ونفس من يرتبط به، وقد يحدث بسبب ردود الأفعال هذه مشاكل ومضاعفات يكون لها أسوأ النتائج. وهنا يأتي دور الإيمان، وهو المصلح النفسي والاجتماعي لنفوس الناس وطبائعهم، فالتربية الإيمانية تحثُّك على مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا لا يتحقَّق إلا بإرادة قوية، وأعصاب فولاذية، ولسان رطب بذِكر الله، وقلب عامر بمحبَّته وخشيته، وفوق ذلك كلِّه فلابدَّ من الصبر الجميل والمصابرة الواعية. وكثيراً ما تقلِب هذه الإيجابية عداوة المسيء إلى صداقةٍ ومودَّةٍ، تعودان به إلى طريق الصواب، قال عمر رضي الله عنه : (ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تُطيع الله فيه)، وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنه : «أنه لما نزلت هذه الآية {خُذِ العفو..} سأل النبيُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عنها فقال: لا أعلم حتى أسأل، ثم رجع فقال: إن ربَّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك».
ولا يقدر على تنفيذ هذه الوصية إلا الصابرون على تحمُّل الشدائد، وتجرُّع المكاره، وكظم الغيظ، وترك الانتقام، فإن ذلك ممَّا يشقُّ على النفوس، ويصعب احتماله في الأغلب من الوقائع، والأشمل من الحالات. قال أنس رضي الله عنه : (الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنتَ صادقاً غفر الله لي، وإن كنتَ كاذباً غفر الله لك)، وهذه السماحة تحتاج إلى إنسان نبيل يعطف ويسمح مع قدرته على الإساءة والرَّد، حتى لا يُصوَّر الإحسان في نفس المسيء ضعفاً، فَيَبطُلَ أثرُ الحسنة.(2/245)
إن هذه الدرجة، درجة دفع السيئة بالحسنة، وهذا التوازن الَّذي يعرف متى تكون السماحة مع القدرة، ومتى يكون الدفع بالحسنى، درجة عالية لا يُلَقَّاها أيُّ إنسان، وإنما ينالها ذوو النصيب الوافر من الأخلاق وحسن التربية، فإن وسوس لك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ بالله من كيده وشرِّه، واعتصم به من نزغاته، فالاستعاذة بالله وقاية تحميك من لظى نار الغضب الَّتي يُسعِّرها، ودرع يقيك من سهام الشرور الَّتي يُصوِّبها. ولا يخفى أن خالق القلب البشري يعرف مداخله وقنواته، ويعرف طاقته واستعداده، ومن أين يدخل الشيطان إليه، لذا فهو قادر على أن يحفظ قلب المؤمن من نزغاته إن هو استعاذ به، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضَّأ» (رواه أبو داود).(2/246)
وبعد هذه الدعوة إلى هذا المستوى المثالي في الأخلاق والفضائل نرى الآية الكريمة تحثُّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك سمة بارزة من سمات المجتمع المؤمن، حضَّ عليها الشارع الحكيم في الكثير من آيات القرآن الكريم، لأن صلاح المجتمع يتوقَّف عليها، وبها يتحقَّق التكافل الاجتماعي في أحسن صوره. وممَّا لاشكَّ فيه أن إصلاح الفرد هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع، لأن الإنسان خليَّة في جسد المجتمع البشري، إذا فسدت أضرت به وآلمته، وإذا صلحت حملت له الأمل بالصحَّة والعافية. ولا يكفي أن يصلح الإنسان نفسه، لأنه مسؤول أيضاً عن إصلاح أسرته الصغيرة، وكذلك عن الأسرة الإنسانية الَّتي يعيش بين ظهرانيها، لذلك ربط الله تعالى صلاح الأمَّة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {كنتم خيرَ أُمَّةٍ أُخرجتْ للنَّاس تأمرونَ بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عن المنكر..} (3 آل عمران آية 110). وأوَّل شروط الأمر بالمعروف أن يكون الداعي إليه هو القدوة الصالحة، والأداة المنفِّذة له، فلا خير في دعوة لا تصدر عن القلب، ولا تصدِّقها الجوارح، بل تبقى مبتورة لا تتجاوز أسماع من تُلقى إليهم، وقد ندَّد الله بأمثال هؤلاء الدعاة فقال: {أتامُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنفسَكُم وأنتم تَتْلونَ الكتابَ أفلا تعقلون} (2 البقرة آية 44).(2/247)
ولابدَّ من أن يواجه الداعي إلى الله العقبات الشاقَّة، وأن يلتقي نماذج مختلفة من البشر، ففيهم من يستمع القول فيتَّبع أحسنه، وفيهم من يستمع القول فلا يتجاوز شحمتي أذنيه، وفيهم زكي القلب حسن الاستماع بعيد الأفق، وفيهم الجاهل محدود العقل ضيِّق الأفق، فإذا ما اصطدمت مصالحهم الشخصية مع تعاليم الداعية وحاربوه، فعليه أن يحلم، وأن يحاورهم الحوار البنَّاء بالحكمة والموعظة الحسنة، قال ابن عباس رضي الله عنه : (ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك)، فإذا استنفد الداعي وسائله العقلانية ولم ينجح، فليكفف وليصمت، ولعلَّ الصمت يكون أبلغ من الكلام، وأقدر على ترويض نفوسهم وتطويعها للحقِّ بدلاً من استثارتهم للفحش في الردِّ والعناد. فالشيطان في مثل هذه المواقف نشط فرح، يسعى ليَنفُذَ بسهامه المسمومة إلى عقل الإنسان المصلح ليربكه، وإلى حماسه ليثبِّطه، وإلى غضبه ليؤجِّجه، فما على الداعية إلا أن يستعيذ بالله، وأن يقوِّي روابط صلته القلبية الروحية بالحضرة الإلهية، ليبقي على توازنه، ويوطِّد العزم من جديد على مواصلة مسيرة الإصلاح والبناء والعمل المنتج.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {لا يُحِبُّ الله الجَهرَ بالسُّوءِ من القولِ إلاَّ من ظُلِمَ وكان الله سميعاً عليماً(148) إن تُبدوا خيراً أو تُخفوهُ أو تعفوا عن سوءٍ فإنَّ الله كان عَفُوّاً قديراً(149)}
ومضات:
ـ إن الشريعة الغرَّاء تُحكِم الرقابة على كلام المؤمن بحيث يدور دائماً في دائرة الخير والإصلاح، وتمنعه من أن يذكر أخاه بسوء إلا أن يظلمه، فإنه يملك حينها حقَّ الدفاع عن نفسه ورد الظلم عنها، وأمَّا ما سوى ذلك فهو تعدٍّ يترك آثاراً سلبية في المجتمع، تنذر بالقضاء على روابط الثقة والاحترام المتبادلين بين الفرد والجماعة.(2/248)
ـ المؤمن يعفو ويسامح تخلُّقاً بأخلاق الله تعالى؛ الَّذي يحبُّ العفو مع قدرته على إهلاك المسيئين أجمعين. وتتفاوت قدرة المؤمن على العفو بحسب درجة إيمانه، ومدى قربه من الله عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:
لسان المؤمن من وراء قلبه، فهو لا ينطق بالسوء، ولا يجاهر بالفاحش من القول، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس المؤمن بالطَّعان ولا اللَّعان ولا الفاحش ولا البذيء» (رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه ). فالمؤمن الَّذي نظَّف قلبه، ونقَّى سريرته، وهذَّب مشاعره لا يمكن أن ينطق إلا بالصدق، وهو يتوخَّى الحكمة والإصلاح في كلِّ ما يلفظ، فَرُبَّ كلمة عابرة لا يحسب قائلها حساباً لما ستتركه من أثر قد أوقعت بين أخوين، أو دمَّرت سعادة زوجين. ولاشكَّ أنه عندما تصفو سريرة المؤمنين، وتطهر ألسنتهم، فإن مشاكل المجتمع تُحَلُّ تلقائياً وتتلاشى، لتصبح ذكريات بغيضة لا يحلو للمسلم أن تخطر له على بال.
والله تعالى الَّذي وضع مخطط هذا الكون بتصميم رائع، يتبرَّأ من محبَّة السوء وأهله، لما فيه من تجريحٍ للناس وكشفٍ لسوآتهم، وقطع أواصر الحبِّ فيما بينهم، وليس هذا ممَّا يرضاه الله، ولا من أجله قد خلق الحياة. ومع ذلك فإنه جلَّ وعلايعطي رخصة لمن ظُلِم أن يجهر بظلامته، وأن يعرِّي مَن ظلمه أمام الناس ليتَّقوا شرَّه، وليرفع المظلوم الظلم عن نفسه، خاصَّة إذا كان المشتكى إليه حاكماً أو غيره ممن يُرجى نفعُه في إزالة هذا الظلم، فالله لا يرضى بالظلم ولا يرضى لعباده أن يتظالموا. والله سبحانه سميع الدعاء عليم بظلم الظالم، وقلَّة حيلة المظلوم، قادر على نُصرته والاقتصاص ممَّن ظلمه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» (أخرجه الترمذي)، وبالتالي فكأنه أخذ حقَّه بيده بعد أن أوكل أمر ظالمه لله تعالى.(2/249)
إن الشريعة السمحة تأبى إلا أن تسمو بالإنسان في معارج الكمال، فهي تثير فضيلة هامَّة في نفسه؛ هي فضيلة العفو، لأنه صفة من صفات الله، واسم من أسمائه، فهو عَفُوٌّ يحبُّ العفو، فمن أجدر من المؤمن بأن يتخلَّق بما يحبُّه خالقه، وأن يدأب للاقتراب من حضرته، فينشر عليه من رحمته ومدده، فيعفو ويصفح عن مقدرة، عفواً يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلَّة العجز، قال عليه السَّلام: «ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عزَّ وجل» (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
الفصل العاشر:
الكلمة الطيِّبة
سورة إبراهيم(14)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كيف ضَرَبَ الله مثلاً كلمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيِّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السَّماء(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها ويَضْرِبُ الله الأَمْثال للنَّاس لعلَّهُم يتذكَّرون(25) ومَثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خَبيثةٍ اجْتُثَّتْ من فوق الأرضِ ما لها من قرارٍ(26) يُثَبِّتُ الله الَّذين آمنوا بالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ ويُضِلُّ الله الظَّالمينَ ويفعلُ الله ما يشاء(27)}
ومضات:
ـ الكلمة الطيِّبة نفحة روحانية تصل ما بين القلوب وتربطها برباط المحبَّة والودِّ والتآلف. أمَّا الكلمة الخبيثة فهي معول للهدم والتمزيق والتفريق، يعمل تخريباً في أوصال المجتمع فيهدُّ كيانه.
ـ الكلمة الطيِّبة تُزهر في النفس لتتفتَّح بأجمل أزهار الخير والحبِّ الَّتي يعبق شذاها فوَّاحاً في كلِّ زمان ومكان. والكلمة الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بؤر نفسية عفنة.
ـ إن لشجرة الإيمان جذوراً ضاربة في أرض الهدى ومحبَّة الله، من تمسَّك بها فقد استمسك بالعروة الوثقى، واكتسب ثباتاً وتصميماً لا زيغ فيه ولا ضلال.
في رحاب الآيات:(2/250)
الكلام فنٌّ وأدب وذوق، ومن لا يتقن هذا الفن يضيِّع الكثير من الفوائد والمغانم، فكم من كلمة خبيثة لا يأبه العبد بها، تودي به إلى الذُّل والتهلكة، وكم من كلمة طيِّبة قرَّبت بين المتباعدين، وأصلحت ما بين المتخاصمين، وجمعت شمل المتدابرين، فأورثت صاحبها عزَّاً وحمداً بين الناس لا يُمحى على مرِّ الأيام؛ لذلك أمر الله عباده بأن يجمِّلوا ألسنتهم بالكلام الحسن، وضرب لهم مثلاً حيَّاً يصوِّر فيه قداسة الكلمة الطيِّبة.
إن تصوير المعاني في القرآن معجزة من معجزاته الكثيرة، فهو بأسلوبه المتميِّز يبعث الحياة في الجماد، ويحوِّل المعنى المجرد إلى أمر شبه محسوس، والخبر الغيبي إلى أمر مُتَخَيَّلٍ شبه ملموس، ليقرِّبه من الأذهان، ويجلِّيه للأبصار، وينفي عنه الغموض، فتكون الصورة أوضح والدلالة أبلغ والحكمة أنفع!!.(2/251)
وهذه إحدى صور القرآن الكريم ينقلها من العالم المجرَّد إلى عالم الحسِّ والإدراك، إنها الكلمة الطيِّبة وهي أشبه ما تكون بفاكهة لذيذة المذاق، كثيرة الفائدة، إنها تُسعد قائلها وسامعها؛ فهي تخرج من القلب المزكَّى ويطلقها اللسان المنقَّى لتستقر في القلب، وتُسعد الناس بما تخلقه من جوٍّ يفيض بالأُلفة والمودَّة، وتُنْعِشُهم بأريجها الفوَّاح. إن الكلمة الطيِّبة ترجمة صادقة للشعور الطيِّب والإحساس النبيل، تحمل بين حروفها دفء الحبِّ ولذَّة العطاء، وسعادة التواصل الرفيع بين إنسان وإنسان؛ فهي رَوْح ورَيحان، كمثل شجرة مباركة جذورها ضاربة في عُمق الأرض، تمتصُّ منها غذاءها وأملاحها وتحوِّلها إلى نُسغ يصعد إلى ساقها فأغصانها فأوراقها، فترتعش فيها دفقة الحياة، وإذا بها تتطاول صاعدة في السماء، ثمَّ تزهر وتثمر في موعدها المحدَّد بإذن خالقها، فتتجمَّع حولها القلوب المتلهِّفة، والنفوس المتعطِّشة لجني ثمرها، والتنعُّم بخيرها المتجدِّد كلَّ عام. ولئن كانت جذور الشجرة الطيِّبة تتفرَّع في جوف الأرض، فإن الكلمة الطيِّبة تتفرَّع في شغاف القلب، وتلامس سويداءه لتخلِّف مكانها أمناً وسلاماً، بينما تصعد فروعها إلى سماء النفس فتجلوها، وإلى مرآة الوجدان فتصقلها، وتنشر على من حولها ظلال الإيمان الندية، فهي لبنة أساسية في صرح السعادة الإنسانية.(2/252)
إن الكلام الطيِّب رحيق الأنبياء ولغة المؤمنين الصادقين، والمؤمن الحقُّ هو من تخلَّق بخلق القرآن، فسما تفكيره، وتهذَّبت مشاعره، فانعكس هذا كلُّه على كلامه وتصرفاته، فهو هادئ، رزين، وقور، لا يلفظ إلا كلاماً موزوناً طاهراً نقيّاً، فهو إمَّا أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وإمَّا أن يصلح بين الناس، أو يعين على عمل نافع. وقد وجَّه القرآن إلى ما ينبغي أن تكون عليه مجالس المؤمنين بقوله تعالى: {لا خيرَ في كثير من نَجْوَاهُمْ إلاَّ من أَمَرَ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النَّاس..} (4 النساء آية 114). كما وجَّه القرآن إلى وجوب أن يكون كلامنا صادقا موزونا يراد به الوصول إلى الحقِّ، وإلى إقامة المجتمع الصالح السليم البنية، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا الله وقولوا قولاً سَديداً * يُصْلِحْ لَكُم أَعمالَكُم ويَغْفرْ لَكُم ذُنوبَكم ومَنْ يُطِعِ الله ورسولَهُ فقد فازَ فوزاً عَظيماً} (33 الأحزاب آية 70 ـ 71). هذا فيما بين الإنسان وبين إخوانه في الإنسانية، أمَّا فيما بينه وبين ربِّه، فلسانه دائم التسبيح والتحميد والتمجيد والدعاء، ولا يدور إلا بكلمات الذِّكر والشكر لله، فالمؤمن قرآن متحرِّك، سلوكه سلوك الأتقياء، وأقواله أقوال الأنبياء، لا غضب، ولا فُحش، ولا إسفاف ولا مبالغة، ولا لغو، وإذا غضب فإنه يملك نفسه ويصونها عن الانزلاق في مهاوي السفاهة والابتذال، قدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي ملك قلوب الناس بكلامه الطيِّب، وقوله الليِّن. أمَّا منهله الَّذي يستلهم منه كنوز الكلِم ولآلئه، فهو القرآن الكريم الَّذي سبى القلوب ببيانه الأخَّاذ، وكلامه العذب السلسبيل.(2/253)
هذا غيض من فيض الحديث عن الكلمة الطيِّبة وأثرها، ولما كانت الأشياء تتميَّز بأضدادها ذكر الله لنا الكلمة الخبيثة بمقابل الكلمة الطيِّبة، فلولا الظلمة لما عُرف فضل النور، ولولا القُبح لما ظهرت روعة الجمال، لأنَّ تعوُّد الإنسان على رؤية الجمال وحده، يجعله باهتاً في نظره، ويفقده قيمته مهما كان جليلاً، فإذا ما صدمت عيني الإنسان دمامةُ القُبح أدرك روعة الجمال، وإذا ما أَدْمَتْهُ يد الشرِّ أحسَّ بحنوِّ اليد الرحيمة، حين تمتدُّ إليه لتمسح جراحه. وإذا كانت الكلمة الطيِّبة كشجرة طيِّبة، فإن الكلمة الخبيثة كشجرة مرٌّ ثمرها، خبيث ريحها، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، جذورها متآكلة نَخِرَة، لفظتها الأرض وطرحتها فإذا بها تهوي جثَّة هامدة، وحطباً يابساً يُحرق أو ينبذ بعيداً. والكلمة الخبيثة ألغام متفجِّرة في طريق المجتمع المتكاتف، تُفتِّت وحدته، وتقتلع جذور الأخوَّة الَّتي تثبِّت المحبَّة بين أبنائه، وتنشر مكانها بذور البغضاء والأحقاد، فيعمُّ فيه الفساد، وتنهار أواصره، وتتداعى مقوِّماته ليصبح هباء منثوراً تذروه الرياح.(2/254)