القُدْوَةُ الحَسَنَةُ وأَثَرُها في بِناءِ الجِيلِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى القدوة الحسنة ، الذين هم بناء الجيل ، وهداة الطريق ، ومنار السبيل.
ويمكن إجمال أهمية القدوة الحسنة في الأمور التالية:
1- إنَّ المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب، والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلع إلى مراتب الكمال، ويأخذ يحاول يعمل مثله حتى يحتلَّ درجة الكمال والاستقامة.
2- إنَّ القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل والأعمال الصالحة من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
3- إنَّ الأتباع والمدعوين الذين يربيهم ويدعوهم الداعية ينظرون إليه نظرة دقيقة دون أن يعلم هو أنه تحت رقابة مجهرية، فربَّ عمل يقوم به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر، لأنهم يعدونه قدوة لهم.
4- الفعل أبلغ من القول: إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به، وفي هذا أمثلة كثيرة أذكر منها:
فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ يُصَدِّقُ حَدِيثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَالاَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِى بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِى الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْهَدْىَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِى نُزُولِهِ أَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ فِى مَجِىءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَمَا قَاضَاهُ عَلَيْهِ حِينَ صَدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ :« قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا ». قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ هَدْيَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ لِبَعْضٍ حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. صحيح البخارى(2731 و2732 )
فدلَّ ذلك كله على أهمية القدوة، وعظيم مكانتها.
5- إن النبي - صلى الله عليه وسلم- قد حذر الدعاة من المخالفة لما يقولون، فبين - صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف حال الدعاة الذين يأمرون الناس وينهونهم وينسون أنفسهم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ ، تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ ؟ قَالُوا : خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ، أَفَلاَ يَعْقِلُونَ.مسند أحمد (12540) حسن.
ولا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه؛ بل يتعدى إلى كل من يدعوهم، فليحتاط الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله، وليُري الله - تعالى- من نفسه خيراً.
6- إن جمله الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - من أولهم إلى آخرهم كانوا قدوة حسنة لأقوامهم، وهذا يدل على عِظم وأهمية القدوة الحسنة، ولهذا قال شعيب - عليه السلام - لقومه: ((قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود/88])).
7- إن الناس كما ينظرون إلى الداعية في أعماله وتصرفاته ينظرون إلى أسرته وأهل بيته، وإلى مدى تطبيقهم لما يقول، وهذا يفيد ويبين أن الداعية كما يجب عليه أن يكون قدوة في نفسه يجب عليه أن يقوم أهل بيته وأسرته ويلزمهم بما يأمر به الناس، ويدعوهم إليه، فعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : حدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ سَالِمًا ، قَالَ : كَانَ عُمَرُ إذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ جَمَعَ أَهْلَ بَيْتِهِ ، فَقَالَ : إنِّي نَهَيْت النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا ، وَإنَّ النَّاسَ لَيَنْظُرُونَ إلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إلَى اللَّحْمِ ، وَايْمُ اللهِ لاَ أَجِدُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَعَلَهُ إلاَّ أَضْعَفْتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ ضِعْفَيْنِ.مصنف ابن أبي شيبة (ج 11 / ص 125) (31285) هكذا ومصنف عبد الرزاق (20714) موصولا وهو صحيح.
فالقدوة الحسنة هو الذي يطابق قوله فعله ، وحاله مقاله ، ذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى أناس صادقين ، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) }[الأحزاب/23]
وتحتاج إلى رجال يقولون ويفعلون ، وقد ذمَّ الله تعالى من يقول ولا يفعل حيث قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } [الصف/2-3]
وقد اقتدى الناس بالأنبياء والمرسلين ، لأنهم كانوا صادقين مع الله ومع الناس ، وثبتوا حتى النهاية ، قال تعالى عنهم :{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام/83-90]
وأفضل هؤلاء بلا منازع سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى عنه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) } [الأحزاب/21]
فهو قدوتنا في كل شيء ، من تمسك بغرزه نجا ، ومن تركه هلك .
فلا بد من القدوة في البيت، وفي الطريق، وفي العمل ، وفي جميع شئون الحياة، حتى تؤتي الدعوة أكلها ، وتينع ثمارها ، فالكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب ، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان .
وانظروا يا رعاكم الله إلى القدوة السيئة وأثرها في هلاك المجتمعات ، قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) [هود/96-99]
وفي هذا الكتاب مجموعة طيبة من البحوث المقالات العلمية حول أهمية القدوة الحسنة وأثرها وشروطها ، ومجالاتها المنوعة ، جمعتها من مواقع شتى ، ولاسيما من موقع المختار الإسلامي ، وصيد الفوائد ، والإسلام اليوم ،والشبكة الإسلامية ، وغيرها ، وهي معزوة لمصادرها في بدايتها أو نهايتها، وتركتها كما هي .
سائلا المولى جلَّ وعلا أن تكون دافعاً لنا ، لأن نكون قدوة حسنة لغيرنا .
قال الشاعر :
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى . كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدا وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وناشره وقارئه والدال عليه في الدارين .
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 5 شوال 1429 هـ الموافق ل 5/10/2008م
- - - - - - - - - - - - - - -(1/1)
القدوة قبل الدعوة
أمسكَت بيدي طبيبة من إحدى الدول الإسلامية وأجلستني وسألتني وجدّت في السؤال!، لماذا النّاس هنا منافقون؟!، هالني السؤال، فُوجِئتُ بِهِ، أطرقتُ صامتة، ثم نظرتُ إليها طالبةً الفهم والاستيضاح، فالنفاق حكمٌ خطير لهُ ضوابطه، فكرَّرَتِ السؤال، وأتبعتْهُ بجملٍ متلاحقة، لا أحد يمتثل تعاليم الإسلام وسماحته، هالني ما رأيتُ في قسمنا من صراعاتٍ وتزلّفات وعدم إخلاص في العمل، لماذا الزميل يضيّق على زميله و كأنهما في حلبة صراع، ينتظر كل منهما الفرصة لينقضّ على الآخر، وسردت لي من المواقف والصور ما ضاقت بهِ نفسي، أبدعتُ في الدّفاع، و بيّنت لها أن هذه حالات شاذّة، ولا تمثّل الدين ولا البلاد، وضربتُ لها الأمثلة بفلان وفلانة ممن طاب ذكرهم وحسُنَ بين الناس منهجهم وسيرتهم و أثمرت إنجازاتهم وأثنى عليهم زملاءهم، ولم تقتنع!، وحُقّ لها ذلك!
الكلّ يرى في أبناء الحرمين صيانة الدين وتمثيله و تطبيقهِ، تتوق أنفسهم لرفقتهم والتعلم منهم، فماذا ستكون ردّة الفعل عندما ينصدم أحدهم بصور عجيبة ومؤلمة متناقضة؟!، إذا كان هذا انطباع مسلمة عن أخوةٍ لها مسلمين ونفورها منهم، فنفور الكافر من باب أولى وارد جداً!
قاعدتنا في كل مكان وزمان أنّ فاقد الشيء؛ لا يعطيه، وهل ننتظر ممن لم يُحسِنوا لأنفسهم بتربيتها و دعوتها لمحاسن الأخلاق وجميل التعامل وسامي التواصل مع الآخرين أن يُحسنوا لغيرهم وأن يوصلوا الدعوة لهذا الدين لمن يحتاجها في أصقاع المعمورة فضلاً عن زملائهم المُخَالِطِين..؟!
ما رأيتُ أخطر على الأمة من فقراء الأخلاق، ولا رأيتُ أخطر عليها، ولا أشدّ تنفيراً من الدين؛ إلا من ساءَت منهُمُ الأخلاق وهم يحسبون أنهم يُحسنون عملاً..!
تطرّف البعض في وصفِ التديّن والاستقامة، فهم في التصنيف على طرفي نقيض، و تعدّدت المفاهيم واختلفت من بلدٍ إلى بلد، و وقع الصراع بين أنصار الجوهر و المتمسكين بأهميّة المظهر، والحق أن الإسلام اهتمّ بالجانبين وأولى كلاً منهما عناية فائقة و ارتبطت أحكام شرعية أصيلة بكلٍّ منهما، فالشخص المتديّن، شخص يملأ قلبه عقيدة صحيحة يعمل بأركانها، ويمتثلها في حياته، ويقوّم من أجلها نهجه، وتصدقها كلماتهُ ومظهره، تلتمس من كلماته عُمق الحماس والاعتزاز بالإسلام والغيرة على شعائر الدّين، داعية ميداني لا يترك طرق أي باب خيرٍ أنّى وُجِد، وبين هذا وذاك، يتقلّب بين الخوف والرجاء. ولا يهدأ له بال حتى يُبَشّر بالقبول، ويرى كتابه باليمين، وتقرّ عينه بالرسول.. !
أمة الإسلام في مرحلة تحتاج فيها أن تصل للجميع صورة الشخص المسلم المتديّن كأحسن ما تكون، كما أرادها له الإسلام، الصورة التي ستمكّننا من نشر هذه الدعوة و هداية الناس و دعوتهم إلى الاستقامة، الأمة في مرحلة خطيرة ومنعطفات أخطر، تقاسي الجرح بعد الآخر، لم يعد هناك وقتٌ إلا لصادق الفعال، وتحقيق سامي المقال، وامتثال الإسلام عقيدةً، وخُلُقاً، وسمتاً، وتعاملاً، وحديثاً. هذا الالتزام الخُلُقي هو الذي فتح الدنيا بفضل الله - تعالى -، وأوصل الإسلام إلى أقاصي العالم.
ولن يتأتّى لنا ذلك إلا إذا بدأ كل فردٍ بنفسه، فهذبها واستكمل فضائلها، ونقّاها من رذائلها وشوائبها، وربّاها كأحسن ما تكون التربية، روّضها في رياض الطاعة، وهذا الدرب ولا غيره هو ما سيوصل الأمة بفضل الله إلى القيادة والريادة، وينشر دعوة الإسلام في أصقاع الأرض.
أرشد الإمام الشافعي مؤدِّب أولاد هارون الرشيد فقال: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإن أعنّتهم معقودة بيدك، فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح عندهم ما تركته"، والأجمل قول أحدهم: "كونوا عبّادًا قبل أن تكونوا قوّادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
ولو تأمّلنا دعوة الرُسل السابقين، وكيف يبعث الله من القوم أحسنهم أخلاقاً، ومن عُرِفوا بين قومهم بالصدق والأمانة، فالمتلقّي متى شعر بالراحة والاطمئنان والثقة بمن يدعوه فسيقبِل عليه، وفي أقل الأحوال لن ينفُر منه.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى لكل هذا؛ فقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، و اعتصم - صلى الله عليه وسلم - بالحلم، والصبر على الأذى، وخفض الجناح، والرفق، وحسن المعاملة - مع قوة الشخصية - والمهابة العلمية. فبلغت دعوته ما بلغت، وبلغت محبته في القلوب ما بلغت.
وهذا معاذ - رضي الله عنه - قبل أن يبعثه - صلى الله عليه وسلم - لدعوة الناس، حدّد له ما يجب أن تكون عليه شخصيته، فأوصاه بتقوى الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، ولزوم الإيمان، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح، ونهاه عن أن يسب حكيمًا، أو يكذب صادقًا، أو يطيع آثمًا، أو يعصي إمامًا عادلاً، أو يفسد أرضًا، وأوصاه باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر. أوصاهُ كما أوصى غيرهُ من دعاةِ الخير ورُسِل العقيدة بكل معاني تربية النفس، و معالم تهذيبها، والارتقاء بها.
و شخصية لها هذه الصفات كيف يقابلها الآخرون.. ؟!!، وما هو تأثيرها ولو لم تتكلم.. ؟!!، ولو لم تعتلي المنابر.. ؟!!، وتتحدث في المؤتمرات والقنوات.. ؟!!. حقاً "إن لله رجالاً أحيوا الحق بذكره، وأماتوا الباطل بهجره".
كان الحسن البصري إذا دخل السوق ترك المسلمون تجارتهم، وقالوا: لا إله إلا الله، وذكروا الله كثيرًا، بل قال أحد تلامذته: إن الرجل لينتفع برؤية الحسن البصري حتى لو لم يسمع كلامه ولم ير عمله.. !!
والإسلام من مبدأ دعوته، أرسى القواعد الأساسية، والأحكام الشرعية، و اعتنى عناية خاصة بجانب الأخلاق والعلاقات الإنسانية، فهو يشيع بين الناس أواصر الرحمة، والحب والتسامح، والفضل، والتعاون، ومراقبة الضمير، وخشية الله، إلى غير ذلك من المعاني الكريمة، ورتّب عليها الأجر والثواب والفضل والمنازل الرفيعة، وتلك هي أدوات الدعوة الميدانية الناجحة.
والشباب يحتاج لرؤية نماذج صادقة مع ربه، تتحلى بالأخلاق الكريمة، يخرجون إليهم ويتعاملون معهم بالأخلاق الحسنة فيحببوهم في الاستقامة، ولسان الحال كما نعلم أبلغ من ألف ألف مقال.. !!
ليست العبرة في كم يسمعون من الكلام، أو كم يقرؤون من الكتب، إنّما العبرة في إتباع أحسن الكلام وتطبيقه ولو كان قليلاً، {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}، وما أحوج الأمة لأمثالهم.
يقول أبو الأعلى المودودي: " إن رسالتي إلى المسلمين هي أن يفهموا تلك المسؤوليات ويطلعوا بها. فما هي هذه المسؤوليات؟، ليس فقط الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليست هي فقط أن تقيم الصلاة وتصوم رمضان وتؤدي الشعائر، وليست هي أيضاً أن تقيم أصول الإسلام فيما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث، بل هناك فوق كل هذا مسؤولية ضخمة ملقاة على عاتقك، وهي أن تقف شاهد حق أمام الدنيا كلها {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. وقال - تعالى -: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله}، والشهادة المطلوبة من المسلم، قولية وعملية، أما الشهادة القولية فهي أن يقوم المسلمون بإيضاح الحق واستعمال كافة الوسائل من أجل تثبيت هذا الحق في القلوب. وأما الشهادة العملية فهي أن نطبق عملياً في حياتنا الأصول التي أمرنا الحق به، فلن توافقنا الدنيا على الحق لو ذكرناه بألسنتنا، بل يريدون أن يروا محاسن وبركات هذا الحق داخل حياتنا، يريدون أن يروا هذا بأعينهم، يريدون أن يتذوقوا حلاوة الإيمان التي تظهر في سلوكنا الأخلاقي، يريدون أن يروا كيف أن هداية الدين خلقت إنساناً طيباً، وأقامت مجتمعاً صالحاً، وحضارة طاهرة شفافة وشريفة. وكيف أنها طورت العلوم والآداب والفنون على خطوط صحيحة سليمة، وكيف ظهر التعاون الاقتصادي بين الناس، وكيف سمت الحياة الاجتماعية ". ا. هـ.
لذلك نريدكم يا أهل هذه الملّة؛ علمٌ وعمل، دينٌ و خلُق، تعاونٌ وبرّ وحبّ للخير لكم ولغيركم، نريدكم أدوات دعوة متحرّكة في أي مكان وُجدتم، تنطق ألسنتكم وأعمالكم وعلاقاتكم بخُلق الإسلام و خيريته، والله لا يضيع أجرمن أحسن عملاً.لنتذكّر دائماً {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، و لنقيّم أنفسنا ولنقوّم معوجّها ولنصل بها لأعلى مراتب الكمال كما أراد لنا هذا الدين..!
2007/11/10 -http://alislam4all.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/1)
الكاملات من النساء
آسيا بنت مزاحم 1
جهلان إسماعيل
هي امرأة ليست كغيرها من النساء
ضربت أروع المثل في التضحية والفداء والمحبة لله....
ثبتت على دينها ثبات الجبال الرواسي...
صبرت على أشد أنواع العذاب
تركت كل شيء، وكانت تنعم بكل شيء في ملك زوجها
إنها امرأة فرعون، التي خلد الله ذكرها وأعلى من قدرها في كتابه العزيز وأنزل فيها قرآنا يتلى على مر العصور والدهور حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لتكون منارة يهتدي بها أصحاب الأرواح المتطلعة من الرجال والنساء إلى الجنة، وقدوة يحتذي بها كل المسلمين والمسلمات في الثبات على الدين والتضحية من أجله.
يقول الله - عز وجل -: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}التحريم11
وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه المرأة بالكمال بقوله:" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" رواه الشيخان
في بيتها تربى كليم الله
لقد أكرمها الله ومن عليها عندما ساق إليها تابوت موسى - عليه السلام - الذي ألقته أمه في اليم خوفا من فرعون وملئه فأحبته بكل جوارحها وأحاطته برعايتها وعنايتها ودافعت عنه ضد جبروت زوجها الذي ملأ الكفر قلبه فلم يعد فيه مكان للرحمة ولا الشفقة على أي أحد خوفا على حياته وملكه.
يقول الله - عز وجل -: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}القصص 9
وافق فرعون على مضض وردَّ في غلظة وجلافة "بل قرة عين لك"، ونجحت آسية في الحفاظ على حياة موسى- عليه السلام - وقامت على تربيته خير قيام ولم تأل جهدا في رعايته، فكان بركة عليه وسببا لدخولها الجنة، وأهلك الله على يديه الطاغية وجنوده.
بداية المعاناة
جاء في تفسير القرطبي قال أبو العالية: اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها. فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري، فقالوا له: اقتلها! فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها، فقالت: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ووافق ذلك حضور فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة فقال فرعون ألا تعجبون من جنونها إنا نعذبها وهي تضحك فقبض روحها
وقال سلمان الفارسي فيما روى عنه عثمان النهدي: كانت تعذب بالشمس فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها
وقيل: سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى فأطلعها الله حتى رأت مكانها في الجنة
وقيل: لما قالت رب بن لي عندك بيتا في الجنة، أريت بيتها في الجنة يبنى وقيل إنه من درة
ولما قالت ونجني نجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم.
ما عند الله خير وأبقى
نجحت آسية في الامتحان الصعب الذي يرسب فيه الكثير من الرجال الأشداء، وآثرت ما عند الله من خير واستعلت بإيمانها على زخارف الدنيا، وماذا تساوي كل هذه الدنيا بما فيها من مباهج وبهرج كاذب إذا خسر المرء نفسه في الآخرة؟! وهذا ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - - بقوله: " يؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الكفار فيقال: اغمسوه في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس ضرا في الدنيا فيقال: اغمسوه في الجنة غمسة ثم يقال له: هل رأيت ضرا قط؟ فيقول: لا"
حقاً.... إن كل ما يلقاه المرء في هذه الدنيا من عنت ومشقة لا يساوي شيئا إذا كُتب له النجاة من النار والفوز بالجنة.
أختي المسلمة حريٌ بك أن تعلمي أن هذه الدنيا لا تساوي عند الله شيئا وأن تسمي بروحك إلى الملأ الأعلى وأن تعملي لدين الله لا تخشي شيئا، فإن أقصى ما يستطيع الطغاة فعله هو أخذ جسدك الفاني أما روحك المتطلعة إلى الجنان ورضا الرحمن فلن يستطيع أحد أن يسلبها منكِ ولتكن آسية بنت مزاحم قدوة لك في حبها لربها وثباتها على دينها، ومهما تكن لديك من عوائق فلن يكون لديك فرعون كفرعونها!
http://www.lahaonline.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/2)
هل يجلس أبناؤنا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة؟
24 ذو القعدة 1428هـ الموافق له 3- 12- 2007م
لقد كان ولا يزال الإسلام يهدف للوصول بالشخصية المسلمة إلى أعلى درجات الخلق الحسن من خلال القدوة العملية في الحياة اليومية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك فإن الأزمة التي يعانى منها المربون تجاه تنمية الخلق الحسن لدى أبنائهم إنما ترجع إلى أزمة في القدوة المباشرة من جهة، ومن جهة أخرى عوامل الهدم المحيطة المتمثلة في وسائل الإعلام الهدامة، ولكن هل معنى ذلك أن الوصول بأبنائنا لهذا النموذج الخلقي يعد أمراً صعباً؟
كلا بالاستعانة بالله، والتزام نهج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفهم أهمية التربية الخلقية؛ يتحقق لنا ذلك - إن شاء الله -.
إننا عندما نربى الطفل تربية أخلاقية سليمة فإننا:
* نعوده الأخلاق الحسنة، ونبعده عن الأخلاق الرذيلة.
* نطهّر نفسه من الأخلاق السيئة، ونحليها بالأخلاق الحسنة.
* ننشه إنساناً متكاملاً خلقياً، بحيث يصير مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر.
* نعوده التمييز بين الخير والشر.
ووسائلنا في ذلك كثيرة، يأتي على رأسها:
1- التزام القدوة أمام الطفل فلا نكذب، أو نسخر، أو نسب، أو نلعن أمامه فضلاً عن أن يكون ذلك خلقاً دائماً لنا.
2- قص القصص والحكايات الهادفة المفيدة عليه.
3- الممارسة العملية للأخلاق الحسنة معه: ففي اللعب مثلاً لا يكون - المربي - أناني، وعلى المائدة لا يكون طماعاً شرهاً، وعند الانفعال لا يكون بذيء الألفاظ لا يملك نفسه أو يسيطر عليها وهكذا.
4- عمل ربط للطفل بين التلقين النظري عن الأخلاق الحسنة (أجر الخلق الحسن، مكانة صاحبه عند الله، قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، أثر هذه الفضيلة في خدمة الدين والدعوة إلى الله - تعالى-)، وبين الواقع العملي الذي يعيشه في حياته اليومية.
نماذج وأمثلة:
1- التدريب والتعود على خلق الرحمة من خلال:
* القيام للكبير والمريض في المواصلات العامة.
* مساعدة الكبير والمريض والضعيف في عبور الطريق.
* تقديم الطعام للطيور والحيوانات المنزلية.
* عدم ضرب الصغير أو التكبر عليه.
* تقديم الطعام أو التصدق من مصروفه على الفقراء من زملائه وجيرانه.
* مساعدة الصغير والضعيف الذي يحتاج إليه أو يستغيث به.
* لا لعب أو تعذيب للحيوانات أو الحشرات، أو الطيور أو أخذ بيضها أو صغارها منها.
* عدم تخويف أحد في الظلام، أو تهديده بسلاح ولو على سبيل المزاح.
2- التعود على التعاون من خلال:
* اللعاب الجماعية.
* الرحلات.
* الصلاة في جماعة.
* توزيع الأعمال المنزلية على جميع الأفراد، والاشتراك في تنفيذها من شراء الطعام، وغسله وإعداده، وغسل الأواني وغير ذلك من أعمال.
* تبادل الكتب الخارجية المدرسية، والكتب الثقافية والأشرطة، والقصص مع زملائهم وأصدقائهم.
3- التعود على الشجاعة من خلال:
- ممارسة لعبة عنيفة (كاراتيه - تايكوندو - مصارعة).
- الجرأة في مواقف إنكار المنكر، أو إسداء النصيحة محافظاً على الأدب في ذلك.
- ممارسة السباحة واصطحابه في رحلات صيد بحرية أو نهرية إن أمكن.
4- التعود على الصدق من خلال:
- الصيام مع تعليمه فقه الصيام، وكيف أنه يربى فيه التقوى والمراقبة لله - تعالى-.
- عدم التهاون في تقسيم الكذب إلى أنواع (أبيض لا شيء فيه، وأسود يحرم فعله)، فكل الكذب ممنوع ومحرم.
- عدم تداول النكات المضحكة لأنها من الكذب أيضاً.
- الاعتراف بالخطأ لينجى نفسه من العقوبة، وتربيته على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (الصدق منجاة ولو رأيتم فيه الهلكة).
5- التعود على الأمانة من خلال:
- عدم إفشاء الأسرار.
- عدم الغش عند البيع والشراء أو الامتحانات.
- رد الأمانات لأصحابها، وعدم المساس بها أثناء وجودها في حوزته.
- رد المال الزائد أو المشتريات الزائدة للبائع عند اكتشافها بعد الشراء.
- عدم الإطلاع على ورقة أحد أو كتابه، أو الأشياء الخاصة به إلا بإذنه.
6- التعود على الحياء من خلال:
- عدم التلفظ بالسب أو البذاءة
- عدم الإخبار بشيء قبيح رآه أو سمعه.
- عدم خلع ملابسه أمام أحد حتى ولو كان أخاه.
- عدم تبرج البنت أو تعطرها أو دخولها على الأجانب بعد سن السادسة تعويداً لها على ذلك.
- عدم مصافحته للبنات والعكس.
- تعويده على أن يغار على أخته، ويخرج معها لتوصيلها ولا يتركها وحدها.
- الاستئذان عند الدخول خاصة على الوالدين.
7- التعويد على ضبط الألفاظ:
لابد من إبعاد الطفل عن التعبيرات الدارجة على ألسنة عامة الناس، والتي تحمل معاني سلبية مثل (كبر دماغك - طنش - اخبط لك ركعتين).
كما يجب تعويده على الألفاظ المهذبة مثل: (من فضلك - حضرتك - لو سمحت - بعد إذنك - لو تكرمت - أعتذر - جزاك الله خيراً - بارك الله فيك - ما شاء الله - إن شاء الله).
أعزائي الآباء والمربين: إننا إذا بذلنا الجهد في تنشئة الطفل خلقياً فإننا في الحقيقة ننفع أنفسنا، ونخدم ديننا، فالطفل دَمِث الأخلاق، مهذب الطبع؛ نموذج مشرف لوالديه، وهو بشارة بالخير في خدمة دينه مستقبلاً.
http://www.islammemo.cc:المصدر
ـــــــــــــــ(1/3)
يا عالي الهِمة
بِقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أراها * * * تُنال إلا على جسر من التعب.
آخر:
فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور * * * بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا.
آخر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم * * * الجود يُفقر، والإقدام قتَّال.
آخر:
والذي يركب بحرًا سيرى * * * قُحَمَ الأهوالِ من بعِدِ قُحَمْ.
آخر:
الذل في دَعَة النفوس ولا أرى * * * عِزَّ المعيشة دون أن يُشْقَى لها.
كان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يصوم حتى يعود كالخلال العود الذي يخلل بهِ الأسنان فقيل له: " لو أَجْمَمْتَ نفسك؟ "؛ أي: تركتها تستريح فقال: " هيهات! إنما يسبق من الخيل المُضَمَّرة. ".
وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة.
فيا وصل الحبيب أما إليه بغير مشقة أبدًا طريق.
قال الإمام المحقق ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وقد أجمع عقلاء كل الأمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيمِ، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً، استراح طويلاً، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادة لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله) أهـ.
وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي:
وإذا النفوسُ كُنَّ كبارًا * * * تعبت في مرادها الأجسام.
وقال ابن الرومي:
قلب يظل على أفكاره وَيَدٌ * * * تُمضِي الأمور ونفسٌ لهوها التعَبُ.
وقال مسلم في صحيحهِ: " قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنال العلم براحة البدن ".
ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقهِ، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، فأما في هذه الدار فكلا ولمَّا. أهـ (1).
قال الصديق أبو بكر - رضي الله عنه -: " والله ما نمتُ فحلمت، ولا توهَّمتُ فسهوت، وإني لعلى السبيل ما زغتُ "، أي: شغلته حروب الردة والفتوح وإرساء جهاز دولة الخلافة إلى حَدِّ أنه لا يتسنى له أن يستغرق في نومهِ، ولا يتاح له أن يحلم ".
وقال فاطمة بنت عبد الملك في أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: " ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخلِف ".
وقال الإمام أحمد - رحمه الله - لابنه في المحنة: " يا بني! لقد أعطيتُ المجهود من نفسي ".
وقال الشيخ محمد الخضر حسين - رحمه الله -: " كبير الهمة دومًا في عناء، وهو أبدًا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ: لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولم تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن، ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لا بد منه، ويحب الإثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرمَ البذل، وتمنعه عزَّة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين وإن كان ثمة فهم " أهـ.
ومصداقه في قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
أرى نفسي تتوق إلى أمور * * * ويقصر دون مبلغهن حالي.
فنفسي لا تطاوعني ببخل * * * ومالي لا يُبَلِّغُني فعالي.
وقيل للربيع بن خيثم: (لو أرحت نفسك؟ )، قال: (راحتَها أريد).
وربما كان مكروه النفوس إلى * * * محبوبها سببًا ما مثله سببُ.
قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي: -
" دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله: عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور " كأني أُسهِّل عليه الإجابة فقال لي أحمد بن حنبل: " إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد، فقد استرحت ".
وقد قيل للإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: " متى يجد العبد طعم الراحة؟ "، فقال: " عند أول قدم في الجنة ".
أحزان قلبي لا تزول * * * حتى أبشر بالقبول.
وأرى كتابي باليمين * * * وَتُسَرَّ عيني بالرسول.
قال الأمير شمس المعالي قابوس: " ابتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل ".
ونحن أناس لا توسط عندنا * * * لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ.
تهون علينا في المعالي نفُوسُنا * * * ومن خطب الحسناء لم يُغْلِه المهر.
وقال أحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده: " إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحب أن أُغْبَنَ أيامي ".
انفضوا النوم وهُبُّوا للعلا * * * فالعلا وقف على من لم ينم.
فالصلاةُ خيرٌ من النومِ، والتجلُّد خيرٌ من التبلُّد، والمنية خيرٌ من الدنية، ومن عزَّ بزَّ:
فثب وثبة فيها المنايا أو المنى * * * فكل محب للحياة ذليل.
فترى عالي الهمة منطلقًا بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين بالصعاب.
قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه- : " عليكم بكل أمر مَزْلَقة مَهْلَكَة "، أي: عليكم بجسام الأمور دون خسائسها.
وقال أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه-: " من طلب عظيمًا، خاطر بعظيمتهِ ".
ذريني وأهوال الزمان أُعانِها * * * فأهوالُها العظمى تليها رغائبه.
وقال كعب بن زهير:
وليس لمن لم يركب الهولَ بُغْيَةٌ * * * وليس لِرَحْلٍ حَطَّه الله حَاملُ.
آخر:
ذريني أنل ما لا يُنال من العُلا * * * فصعب العلا في الصعبِ، والسهلُ في السهلِ.
تريدين إدراكَ المعالي رخيصة * * * ولابُدَّ دون الشَّهْدِ مِن إبر النحْلِ.
وقال الشريف الرضي:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل * * * أبدًا يُمانع عاشقًا معشوق.
وصبرتُ حتى نِلْتُهن ولم أقل * * * ضجرًا: دواء الفارك (2) التطليق.
وعالي الهمة دائم الترحال في طلبِ مبتغاه حيث لاح له.
آخر:
هِمَمٌ تقاذفتِ الخطوبُ بها * * * فهُرعن من بلدٍ إلى بلد.
آخر:
إذا لم أجد في بلدة ما أريده * * * فعندي لأخرى عَزْمَةٌ ورِكابُ.
وقال مالك بن الرَّيْب:
وفي الأرضِ عن دارِ المذلة مذهبٌ * * * وكلُّ بلادٍ أُوْطِنَتْ كبلادي.
ولا يزال يطير إلى المعالي بجناح الهمة، لا يلوي على شيء، ولا يستفزه لوم اللائمين، ولا تثبيط القاعدين:
سبقت العالمين إلى المعالي * * * بصائب فكرةٍ، وعلوِّ هِمَّهْ.
ولاح بحكمتي نور الهدى * * * في ليالٍ للضلالة مُدْلَهِمَّهْ.
يريد الجاهلون ليطفئوه * * * ويأبى الله إلا أنْ يُتِمَّهْ.
وقال الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي:
رأيتُ عَرابةَ الأوسيَّ يسمو * * * إلى الخيراتِ منقطعَ القرينِ.
إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ * * * تلقَّاها عرابةُ باليمينِ.
وقال ابن نباتة السعدي:
أعاذلتي على إعتاب نفسي * * * ورعيي في الدجى روضَ السهاد.
إذا شام الفتى برقَ المعالي * * * فأهونُ فائتٍ طِيبُ الرقاد.
ومن أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلا لوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها، قال الله - تعالى -: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (3)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة اللّه غالية ألا إن سلعة اللّه الجنة " (4)، وقدر السلعة يُعرف بقدر مشتريها، والثمنِ المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيمًا، والثمن خطيرًا، والمنادي جليلاً؛ كانت السلعة نفيسة: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (5).
أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام * * * فدع السهو وبادر مثل فعل المستهامِ.
وسح الدمع على ما أسلفته * * * وابك ولا تلو على عذل الملام.
أيها اللائم دعني لست أصغي للملام * * * إنني أطلب مالكًا نيله صعب المرام.
في جنان الخلد والفردوس في دار السلام * * * وعروسًا فاقت الشمس مع بدر التمام.
طرفها يشرق بالخط مضيًا بالسهام * * * ولها صدغ على خدٍّ كنون تحت لام.
أحسن الأتراب قدًّا في اعتدال وقوام * * *مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام.
وقد لا يتسنى له إدارك بغيته، وتحقيق غايته لأمور خارجة عن إرادته، فلا يفل ذلك من عزيمته، ولا يحط من همته، بل يعزي نفسه أنه أدَّى ما عليه، وأعذر إلى نفسه:
وَمُبْلِغُ نفسٍ عُذْرَها مِثْلُ مُنْجَحِ
قال الطائي:
وركب كأطراف الأسنة عرَّسوا * * * على مثلها، والليل تسطو غياهِبْهُ
لأمرٍ عليهم أن تتم صدورُه * * * وليس عليهم أن تتمَّ عواقبه
وقال آخر:
سأضرب في طول البلاد وعرضها * * * أنال مرادي أو أموت غريبًا
فإن تلفت نفسي فللهِ دَرُّها * * * وإن سلمت كان الرجوع قريبًا
آخر:
عَجِبْتُ لهم قالوا: تماديتَ في المنى * * * وفي المُثُلِ العُليا، وفي المرتقى الصعبِ.
فاقصر، ولا تجهد يراعك إنما * * * ستبذر حبًّا في ثَرَى ليس بالخصبِ.
فقلتُ لهم: مهلاً، فما اليأس شيمتي * * * سأبذر حَبي، والثمار من الربِّ.
إذا أنا أبلغت الرسالة جاهدًا * * * ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي؟ (6).
ــــــــــ
(1) مفتاح دار السعادة ص: 366-367.
(2) الفِرْك: هو بغض أحد الزوجين الآخر.
(3) الآية: 19، سورة الإسراء.
(4) الترمذي (2567) وقال: حسنٌ غريب، والحاكم، وصححه، وأقره الذهبي.
(5) الآية: 111، سورة التوبة.
(6) فالداعية العالي الهمة يتمثل دومًا قول الصالحين: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (164) سورة الأعراف، فإن لم يستطع الدعاة تحقيق كل غايتهم فحسبهم أنهم كانوا كما قال سيد قطب - رحمه الله تعالى -: (أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا: عملوا وقبضوا الأجر المعلوم! وليس لهم، ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر، لا شأن الأجير)، وحسبهم أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والثلاثة، وقد يأتي نبي وليس معه أحد، قال - تعالى -: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (48) سورة الشورى، وقال - تعالى -:{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (272) سورة البقرة.
http://www.m-ismail.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/4)
الاهتمام الزائد بالمظهر
السؤال:
بعض الناس يهتم بمظهره وملابسه اهتماما مبالغا فيه، وينفق في ذلك مبالغ كبيرة، فهل هذا موافق للشرع أم لا؟
الجواب:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه.
أما بعد:
فإن الاهتمام المبالغ فيه بالمظاهر هو من الإفراط المذموم، والإسراف المنهي، فالإسلام دين الوسطية، بين الإفراط والتفريط بين الغلو والجفاء، فقد قال - سبحانه وتعالى -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف 31)
فأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند إتيان المساجد وإرادة الصلاة، وأباح لنا الأكل والشرب، ثم حذَّرنا من الإسراف والمبالغة وأخبرنا أنه لا يحب المسرفين.
وقال - سبحانه -: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27)
فالمبذر قرين الشيطان ومثيله في خلقه، لتضييعه الأموال وصرفها في غير ما هو نافع، وضابط ذلك كما قال العلماء: ألا يكون في منفعة دينية ولا دنيوية، أما المسلم، فإن خلقه كما وصفه الله - عز وجل -: (والَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا? (الفرقان: 67)، فهم بين الإسراف والتقتير والتبذير والبخل في الإنفاق.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كل واشرب والبس ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ ومخيلة. وقد صح مرفوعا.
وكثير من الناس يحرص على أن يكون ظاهره في أكمل صورة وأنظفها وأجملها وأطيبها ثم لا يطهر قلبه ونفسه من الأمراض التي حذرنا الله - تعالى -منها، كالنفاق والكذب والحقد والحسد والكبر والرياء والفخر والعجب بالنفس والظلم والجهل والغل على المؤمنين أو الشهوات المحرمة الخبيثة وغير ذلك، وقد نبهنا الله - تعالى - إلى أن لباس التقوى والتجمل به خير من اللباس الظاهر فقال - سبحانه -: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَ رِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَكَّرُونَ } (الأعراف: 26).
وقد صاغ ذلك أحد الشعراء فقال:
إذا المرءُ لم يَلبس ثيابا من التقى * * * تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعةُ ربه * * * ولا خير في المرء إن كان عاصيا
وأخبر رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - العباد بمحل الفلاح والنجاح من العبد، فقال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -.
فالقلوب هي محل التقوى ومعادن الرجال وكنوز المعرفة، والأعمال هي ميزان العباد عند الله - تعالى -، كما قال - سبحانه -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، فعجباً لمن يهتم بموضع نظر الخلق فيغسله وينظفه من القذر، ويزينه لئلا يطلع فيه على عيب، ثم لا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق فيطهره ويزينه.
نسأل الله أن يصلح قلوبنا ويطهر ألسنتنا، ويستعمل جوارحنا في طاعته،،،
والحمد لله رب العالمين.
http://www.al-athaصلى الله عليه وسلمy.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/5)
النجاح قدرك .. فانطلق
خالد المنيف
يقول الكاتب الشهير والمدرب المتميز (زيج زيجلار): كنت أظن أن أكثر الأحداث مأساوية للإنسان هو أن يكتشف بئر نفط أو منجم ذهب في أرضه بينما يرقد على فراش الموت، ولكن عرفت ما هو أسوأ من هذا بكثير وهو عدم اكتشاف القدرة الهائلة والثروة العظيمة داخله!!
أنت من أنت؟!
أنتَ مَن فضّلك ربُّك وأكرمك، وقال عن غيرك أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، ووصفهم بأنهم نجس. أنت من أسجد لأبيك الملائكة واستخلفك في الأرض، وخلقك في أكمل وأجمل صورة، وميّزك بعقل وبصيرة. سيرة ذاتية راقية يُنتظر من صاحبها أن يغير مجرى التاريخ ويسطر أروع الإنجازات !!
هِمَمٌ تتكلم
هل تعلم أخي الحبيب أنك تعيش في زمان فيه من وسائل الإعانة على النجاح وتيسير درب التفوق مالم يكن لغيرك في أي وقت مضى؟
إنّ السلاحَ جميعُ الناسَ تحملُه * * * وليس كلُّ ذواتِ المخلبِ السّبعُ
تجوب الكرة الأرضية في ساعات وتتواصل مع من شئت، ولو كان في أقصى البلاد، بلا مشقة، وفي ثوانٍ لا تحمل هم رزقك، ولا تسهر ليلك مكابداً؛ فلا مجاعات ولا أوبئة. نِعم لا تُعدّ ومِنح لا تُحصى، فما هو عذرك؟
إذا وجد الإنسان للخير فرصة * * * ولم يغتنمها فهو لاشك عاجزُ
هل تدرك أنك أفضل حالاً من الآلاف الذين حققوا إنجازات مازال الزمان يصفق لها!
هل تصدق أن رجلاً عبر بحر المانش وقد بُترت إحدى قدميه.. ؟! هل تصدق أن عجوزاً جاوزت السبعين تتسلق أعلى القمم؟! هل تصدق أن أعمى يصل إلى قمة (ايفرست)؟! هل تصدّق أن كفيفة صماء بكماء نالت أكثر من شهادة دكتوراه، وألّفت عشرات الكتب؟ هل تعرف المشلول الذي ترأس أعظم دولة في عصره؟! وهذا (بلزاك) أعظم الروائيين الفرنسيين كان مصاباً بمرض نفسي خطير (الذهان الفكري) وغيرهم كثير.
هذا هو الشرفُ الذي لا يُدّعى * * * هيهاتَ ما كلُّ الرجالِ فحولُ
فما هو عذرك أخي الحبيب؟ إنك تملك من القدرات فاستثمرها، ولا تغررك البدايات المتواضعة فالعبرة دائماً بكمال النهايات!
هل يا ترى هناك فرق بين ورقة الـ(500) ريال والريال، وكلاهما في قعر المحيط؟!
وبين شخص يملك قدرات عظيمة وإمكانات هائلة لم يستخدمها وبين آخر كسيح مقعد!
يحاول نيلَ المجدِ والسيفُ مغمدُ * * * ويأملُ إدراكَ المنى وهو نائمُ
وعند اليابانيات الخبر اليقين
لو استوقفْتَ أماً أمريكية وسألتها عن سبب تميز أو ضعف أداء ابنها الدراسي لقالت مباشرة: إن ذلك يعود لضعف أو قوة قدراته الفطرية... ابني ذكي... ابني متوسط الذكاء، ولو سألت أماً يابانية لوجدت عندها الخبر اليقين؛ فالإجابة وبالاتفاق عند كل الأمهات اليابانيات إن التميّز أو الضعف يعود إلى حجم الجهد المبذول؛ لذا فالقاعدة عند جميع اليابانيين تقول: إن الإنجاز ممكن لو بذل جهداً إضافياً وصبر على المصاعب، وفي هذا يقول أعظم مخترع في التاريخ(1093 اختراع): إن ما حققته يعود إلى 1% الهام و99% جهد...
غيرُ مجدٍ مع صحتي وفراغي * * * طولُ مُكثي والمجدُ سهلٌ لباغي
لا تنزعنّ مخالبَ الأسد
أخي الحبيب لا تكن كالليث وقد سُجن في أقفاص السيرك قد نُزعت مخالبه وكُسرت أنيابه فغدا كالمعزة لا رجع ولا أثر!
خلقَ اللهُ للحروب رجالاً * * * ورجالاً لقصعةٍ وثريدِ
أخي الحبيب اطّرح كلمة لا أقدر، واهجرْ كلمة لا أعرف، وطلّق كلمة مستحيل طلاقاً بائناً، ولا تنصت لهؤلاء الكسالى الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف. التحقْ بقوافل الناجحين، واهربْ من مستنقع الخيبات والكسل. انطلق على بركة من الله نحو أهدافك. كسّر الحواجز المصطنعة، وانسف الأفكار السلبية، وليكن سلاحك الإيمان و الصبر والمثابرة، وستصل بإذن الله.
ومضة قلم
في بيتنا جذعٌ حنى أيامه وما انحنى.
..فيه أنا
http://www.almokhtsaصلى الله عليه وسلم.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/6)
التربية عن طريق القدوة الصالحة
محمد بن سالم بن علي جابر
إن المناهجَ والنظرياتِ التربويةَ في حاجةٍ دائمةٍ إلى من يُطَبِّقُهَا ويعملُ بها، وبدون ذلك تظلُّ تلك المناهجُ والنظرياتُ حِبراً على ورق، لا تتحقق جدواها ما لم تتحول تلك المناهجُ إلى سلوكٍ عَمَلِيٍّ يسير عليه الأفرادُ في تَصَرُّفَاتِهِم وَمَشَاعِرِهم وأفكارِهم[1].
ولذا كان المنهجُ الإلهيُّ - في إصلاحِ البشريَّةِ وهدايتِها إلى طريقِ الحقِ - مُعتمِداً على وجودِ القُدْوَةِ التي تحوِّل تعاليمَ ومبادئَ الشريعةِ إلى سلوكٍ عمليٍّ، وحقيقةٍ واقعةٍ أمام البشر جميعاً؛ فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوةَ التي تترجم المنهج الإسلامي إلى حقيقة وواقع، قال - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ولما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((كان خُلُقُهُ القُرآنَ!))[2].
مواقفُ من السيرة النبوية تبيِّنُ أهميةَ القُدوة وأثرَها:
ولقد تجلَّى تأثيرُ القُدوة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجَدوَاها الكبيرة - التي لا تتوافر لمجرد الدعوة النظرية - في كثير من المواقف التي كان لها ظروفُها الخاصَّة؛ حيث لا يُجدِي فيها مجردُ الأمر والكلام النظري، بل لا بد فيها من التطبيق العملي؛ ليتعمق أثرُها في النفوس، ومن ذلك ما يلي:
1- الزواجُ من امرأةِ الابنِ بالتَّبَنِّي:
كانت عادةُ التَّبَنِّي مُتَأَصِّلَةً بين العرب قبل الإسلام، وكانوا يعاملون الابن بالتبني معاملةَ الابن من الصُّلبِ؛ فيحرِّمون الزواجَ من امرأتِهِ، ويُعظِّمون هذا الأمر جدّاً، فلما جاء الإسلام وَحَرَّم التَّبَنِّي، وأراد اقتلاعَ آثار الجاهلية من نفوس المسلمين؛ لم يكتفِ - في ذلك - بالدعوة النظرية لتحريم التبني وهدم آثاره؛ بل دَعَمَ تلك الدعوةَ النظرية بالتطبيق العملي؛ فأُمِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتزوج من زينبَ بنتِ جحش - رضوان الله عليها - التي كانت زوجةً لزيدِ بن حارثة، الذي تَبَنَّاه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وكان يُدْعَى زيدَ بنَ محمد؛ قال - تعالى -: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37].
وهكذا أجرى الله - عز وجل - إبطالَ الآثار الجاهليةِ للتبنِّي "على يد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومولاهُ زيدِ بن حارثة، وابنةِ عمته زينب بنت جحش؛ ليكون درساً عمليّاً قويّاً، في تحقيق ما أمر الله - تعالى - به، وتنفيذه؛ مهما كانت الرَّغبةُ والهوى، ومهما كانت الآثارُ والنتائجُ.
وهذا شأن المؤمن دائماً مع اللهِ - تعالى - وأوامرِهِ؛ يسمعُ ويطيعُ، ويلبي ويستجيبُ، رَغِبَتْ نفسه في ذلك أم لم تَرْغَبْ، وافقَ المجتمع - مِن حولِه - أم لم يوافِق، رضي الناس عن فعله أم كرهوا!! فالأمر أولاً وأخيراً لله رب العالمين"[3].
2- النَّحْرُ والحَلْقُ للتحلُّلِ من عُمْرَةِ الحُدَيِبِيَةِ:
لما صدَّ المشركون الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش؛ كان وقع ذلك عظيماً على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أمرهم - عليه السلام - بنحر ما معهم من الهَدْي ليُحِلُّوا من إحرامهم؛ لم يستجب أحد من الصحابة لهذا الأمر، مع شدةِ حرصهم على طاعتِه، - صلى الله عليه وسلم - .
وهنا يتجلى الأثرُ العظيم للقُدوة؛ إذ أشارت أمُّ سَلَمَةَ - رضوان الله عليها - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم هو أولاً فينحرَ بُدْنَهُ ويحلقَ شعرَه؛ لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا محالة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نَحَرَ بُدْنَهُ، ودعا حالقَه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فَنَحَروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً! "[4].
ففي هذه القصة دلالة ظاهرة على التفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل؛ ففي حين لم يتغلب القولُ على هموم الصحابة وتألُّمِهم مما حدث؛ فلم ينصاعوا للأمر؛ نجدهم بادروا إلى التنفيذ؛ اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تحوَّل أمرُهُ القَولي إلى تطبيقٍ عمليٍّ؛ حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً. ولهذا يدعو الإسلام إلى دعم القول بالعمل، ومطابقة الأفعال للأقوال، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
ويطول بنا الأمر جدّاً؛ لو حاولنا استقصاء المواقف التي كان فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوةً لأصحابه، وإنما يمكن القول - إجمالاً - بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قدوة لأصحابه في كل شيء، وفي جميع المجالات..
ففي الغزوات يتقدمُ الصَّحابةَ، أو يوجِّههم من مركز القيادة، وكان في غزوة الخندق يربطُ الحجر على بطنه! ويحفر الخندق مع الصحابة، ويرتجز مثل ما يرتجزون؛ فكان مثالاً للمُرَبِّي القدوة، يتبعه الناس، ويعجبون بشجاعته وصبره، - صلى الله عليه وسلم - .
وكان قدوةً في حياته الزوجية، والصبرِ على أهله، وحُسن توجيهِهِنَّ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهْلِهِ، وَأَنا خَيْرُكُم لأَهْلِي))[5].
وكان قدوةً في حياته الأبوية، وفي حُسن معاملته للصِّغار، ولأصحابه، ولجيرانه، وكان يسعى في قضاء حوائجِ المسلمين، وكان أوفى الناس بالوعد، وأشدَّهم ائتماناً على الودائع، وأكثرَهم ورعاً وحذراً من أكل مال الصدقة، أو الاقتراب مما استرعاه الله من أموال المسلمين.
وكان أفضلَ داعيةٍ إلى الله - سبحانه - يصبرُ على الشدائدِ الناجمةِ عن كيد أعداء الله وأعداء الفضيلة وتواطئهم، وكان حازماً لا يفقد حزمَه في أشدِّ المواقفِ هولاً وهَلَعاً وجَزَعاً؛ لأن ملجأَهُ إلى الله - سبحانه - يستَلْهِمُ منه القوةَ والصبر، وموقفُهُ من ثقيفٍ في الطائفِ - عندما ذهب لدعوتهم - خير دليل على ذلك[6].
تأثيرُ القدوةِ الصالحةِ في الأطفال:
لا يَسْهُلُ على الطفلِ إدراكُ المعاني المجردة؛ لذا فهو لا يقتنعُ بتعاليمِ المربي وأوامره بمجرد سماعها، بل يحتاج مع ذلك إلى المثالِ الواقعيِّ المشاهَدِ، الذي يدعمُ تلك التعاليمَ في نفسِهِ، ويجعله يُقْبِلُ عَلَيها ويَتَقَبَّلُها ويعملُ بها.
وهذا أمرٌ لم يَغْفُل عنه السَّلَفُ الصَّالِحُ، بل تَنَبَّهُوا له، وأَرْشَدُوا إليه المربين، فها هو عمرُو بن عتبةَ يُرشِد مُعلِّمَ ولدِه قائلاً: "لِيَكُنْ أولَّ إصلاحُكَ لِبَنِيَّ إصلاحُك لنفسِك؛ فإن عيونَهم معقودةٌ بعينك، فالحَسَنُ عندهم ما صَنَعْتَ، والقبيحُ عندهم ما تركتَ! "[7]؛ وهذا يؤكدُ أنه لا سبيل إلى التربيةِ السليمةِ إلا بوجود قُدوةٍ صالحةٍ تغدو نموذجاً عمليّاً للامتثال للأوامر، والاستجابة لها، والانزجار عن النواهي، والامتناع عنها[8].
وقد كان شبابُ الإسلام وناشئوه في عصر النُّبوَّةِ يحرِصون على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقليدِهِ ومحاكاتِهِ في جميع أمورِهِ؛ في وُضُوئِهِ، وصلاتِهِ، وقراءَتِهِ للقرآن، وقيامِهِ، وجلوسِهِ، وكرمِهِ، وجهادِهِ، وزهدِهِ، وصلابتِهِ في الحق، وأمانتِهِ، ووفائِهِ، وصبرِهِ... إلخ[9].
ومما يروى من ذلك: ما أخرجه البخاريُّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
((بِتُّ عند خالتي ميمونةَ ليلةً، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض الليل، قام رسول الله فتوضَّأ من شَنٍّ معلَّقٍ[10] وُضوءاً خفيفاً، ثم قام يصلي، فقمتُ فتوضَّأتُ نحواً مما توضأَ، ثم جئتُ فقمتُ عن يساره، فحوَّلني فجعلني عن يمينِه، ثم صلى ما شاء الله... )) الحديث[11].
وأولُ المطالَبين بالقدوةِ الحسنةِ هما الوالدانِ؛ لأنَّ الطفلَ الناشئَ يراقبُ سلوكَهما وكلامَهما، ويتساءل عن سبب ذلك، فإن كان خيراً فخير.. فهذا عبدُ الله بن أبي بَكْرَةَ يراقبُ - وهو طفلٌ - أدعيةَ والدِهِ، ويسألُه عن ذلك، ويجيبُه والدُه عن دليلِ فِعْلِه هذا:
فعن عبدِ الله بن أبي بَكْرَةَ - رحمه الله - قال: (قلتُ لأبي: يا أبتِ، أسمعُك تقول كلَّ غَدَاةٍ: "اللهمَّ عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت"، تكرِّرُها ثلاثاً حين تصبحُ، وثلاثاً حين تمسي؟! فقال: يا بني، إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهن، فأنا أحب أن أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ)[12].
فالوالدان مطالبان بتطبيق أوامرِ الله - تعالى - وسنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - سلوكاً وعملاً، والاستزادةِ من ذلك ما وَسِعَهم ذلك؛ لأنَّ أطفالَهم في مراقبةٍ مستمرَّةٍ لهم، صباحَ مساءَ، وفي كل آنٍ، "فقدرةُ الطفل على الالتقاطِ الواعي وغيرِ الواعي كبيرةٌ جدّاً، أكبرُ مما نظنُّ عادةً، ونحن نراه كائناً صغيراً لا يدرِك ولا يَعي"[13].
فوائدُ القدوةِ الصالحةِ في تربيةِ النشءِ:
تؤتي القدوةُ الصالحةُ فوائدَ تربويةً عظيمةً في تنشئةِ الصغارِ، نذكر منها:
• تحقيقُ الانضباطِ النفسيِّ، والتوازنِ السلوكيِّ للطفلِ.
• وجودُ المَثَلِ أو النموذجِ المُرْتَقَبِ في جانبٍ من الكمال (الخُلُقِي، والديني، والثقافي، والسياسي)؛ حيث يثيرُ في النفسِ قَدْراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة.
• مستوياتُ الفهمِ للكلامِ عند الناس تتفاوتُ، لكنَّ الجميعَ يتساوى عند النظر بالعين؛ فالمعاني تصل دون شرح!
• القدوةُ - ولا سيما من الوالدين - تُعْطِي الأولادَ قَنَاعةً؛ بأنَّ ما عليه النموذجُ القدوةُ هو الأمثلُ الأفضلُ الذي ينبغي أن يُحتذَى.
الأطفالُ ينظرون إلى آبائهم وأمهاتهم نظراتٍ دقيقةً فاحصةً، ويتأثَّرون بسلوكهم دون أن يدركوا! ورُبَّ عملٍ - لا يُلْقِي له الأبُ أو الأمُّ بالاً - يكونُ عند الابنِ عظيماً! [14].
ـــــــــــــــ
[1] التربية على منهج أهل السنة والجماعة، جمع وترتيب: أحمد فريد، الدار السلفية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، ص (251).
[2] أخرجه مسلم (1/512-513) في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل (139/746)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (308)، والنسائي في الكبرى (6/412) كتاب التفسير، باب: تفسير سورة المؤمنون، وأحمد (6/91)، (6/112) من طريق آخر عن عائشة.
[3] دراسات في التفسير، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، الطبعة الثالثة، 1415، 1995م، ص (112).
[4] الرحيق المختوم؛ صفي الرحمن المباركفوري، دار الكتب العلمية، ص (314). وهذا طرف من حديث صلح الحديبية الطويل، أخرجه البخاري (5/675، 679) كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد (2731، 2732)، وأبو داود (2/93، 94) كتاب الجهاد، باب: في صلح العدو (2765).
[5] أخرجه الترمذي (6/188) كتاب المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو داود (2/692) كتاب الأدب، باب: في النهي عن سب الموتى (4899)، وابن حبان (3018، 4177)، والطبراني في الأوسط (6/187) رقم (6145)، والدارمي (2/159)، وأبو نعيم في الحلية (7/138)، والبيهقي (7/468). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[6] أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، عبد الرحمن النحلاوي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1425هـ - 2004م، ص (206).
[7] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (38/271).
[8] مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة، عدنان حسن باحارث، دار المجتمع للنشر والتوزيع، ص (68)، التربية على منهج أهل السنة والجماعة، ص (255).
[9] تربية (النَّاشِئة) في ضوء السيرة؛ الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، ضمن كتاب المؤتمر العالمي للسيرة والسنة النبوية، والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية، ص (252).
[10] شَنٍّ مُعَلَّقٍ: أي: السِّقَاء البالي. انظر: المنتقى شرح الموطأ (1/217).
[11] أخرجه البخاري (2/225) كتاب الأذان، باب: إذا لم يَنوِ الإمامُ أن يَؤُمَّ (699)، ومسلم (1/532) كتاب صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (192/763).
[12] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (701)، وأبو داود (2/745) كتاب الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح (5090)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، رقم (22، 572، 651)، وأحمد (5/42)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد له ص (260).
[13] منهج التربية النبوية للطفل، مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح وأقوال العلماء العاملين، محمد نور بن عبد الحفيظ سويد، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ - 1998م، ص (90، 91).
[14] تربية الطفل في الإسلام: النظرية والتطبيق، د. محمد عبد السلام العجمي وآخرون، مكتبة الرشد، المملكة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1425هـ - 2004م، ص (95).
http://www.alukah.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/7)
لماذا لا نكون عظماء ؟!
علي صالح طمبل*
في كل يوم نقابل كثيراً من الناس فلا نلتفت إلى أغلبهم، ولا نتذكر منهم إلا القليل، ولا تُنقش في ذاكرتنا إلا مواقف بعينها يصنعها بعضهم.
وذاكرتنا عادة ما ترتبط بالمواقف الخارجة عن المعهود والروتين الذي صار سمة بارزة لحياتنا اليومية.
ولكن السؤال الذي يطفو على صفحة ذاكرتي الآن هو: ما الذي يميِّز حياة أحدنا عن الآخر، ولماذا يمرُّ علينا في حياتنا ملايين الأشخاص ونحس بأن الغالبية العظمى منهم لا تعدو أن تكون نسخة مكررة وممجوجة من بعضها..نفس الدورة الحياتية: طفولة..شباب.. زواج.. إنجاب.. ووفاة دون أن يخلِّف معظمهم ما يسترعي الانتباه.
فهل كان للعظماء وذوي العزم في هذه الدنيا مقدرات تفوق مقدراتنا أم كانت لهم أعضاء تزيد عن أعضائنا؟ بالطبع الخيار الثاني لا يستقيم.. والخيار الأول قد يكون صحيحاً، ولكن هل كلُّ من له مقدرات فائقة يصبح عظيما بالضرورة؟ هذا أيضاً لا يستقيم؛ لأن كثيراً ممن كانت له مقدرات فائقة لم يستحق أن يدرج في مصاف العظماء.. مع العلم بأن الإنسان لا يستغل من مقدراته في أغلب الأحيان ما يزيد عن 20%.
في رأيي أن مردَّ ذلك يعود أولاً إلى توفيق الله - عز وجل -، ثم إلى العزيمة التي تميِّز العظماء عن غيرهم. وكما قال بعض الحكماء: (لو تعلق قلب ابن آدم بالثريا لنالها). وقال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم * * * وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتكبر في عين الصغير صغارها * * * وتصغر في عين العظيم العظائمُ
وقال المتنبي أيضاً:
وإذا كانت النفوس كباراً * * * تعبت في مرادها الأجسامُ
وقال أيضاً:
إذا غامرتَ في شرف مروم * * * فلا تقنع بما دون النجومِ
فطعم الموت في أمر حقيرٍ * * * كطعم الموت في أمر عظيم
لكنَّ البعض كان عظيماً في الحق، وبعضهم كان عظيماً في الباطل؛ وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة).
فهل سألت أخي نفسك يوماً: لماذا لا تكون عظيماً في الحق تذود عن الدين وتحمي حياضه بما تملك من مقدرات، في أي مجال كان؛ لتفوز بخيري الدنيا والآخرة؟! لماذا ترضى أن تكون حياتك نسخة مكررة من حياة الآخرين لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، ولا هدف لها ولا منهج ولا تخطيط؟! ولماذا تحصر نفسك في الأهداف الصغيرة وتشغلها بتوافه الأمور التي تحجبك عن عظائمها ومعاليها؟! لماذا تركن إلى الدنيا وترضى بالفتات بدلاً من أن تعلق قلبك بالله ونصرة دينه بكل ما أوتيت من قوة ومقدرة؟!
إنها خاطرة عجلى لنراجع حياتنا: إلى أين تسير؟ وبم تنشغل؟.. دعوة لننفض غبار التواكل والكسل والروتين والجمود ونستبدل كل ذلك بالتوكل والعمل والعزيمة والمثابرة، وما التوفيق إلا من عند الله.
http://www.meshkat.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/9)
الطفل والتناقض الاجتماعي
عدنان باحارث
يتفق المربون على أهمية القدوة في التربية، المتمثلة في سلوك المربي وفق النهج الذي يدعو إليه، فإن من الصعوبة بمكان إقناع المتربي بسلوك نهج ما دون أن يكون الداعية إلى هذا النهج متمثلاً ما يدعو إليه.
وفكرة القدوة مبنية في الطبيعة الإنسانية على مبدأ المحاكاة والتقليد المتأصلة في الطبيعة الإنسانية، فالكل يقلد ويحاكي، كباراً كانوا أو صغاراً، فأما الكبار فإنهم يقلدوا في ملابسهم، وأثاثهم، ومراكبهم، وأنواع طعامهم، ومناهج تفكيرهم، ومذاهبهم، وتصوراتهم ونحوها. وأما الصغار فإنهم يقلدون في حركاتهم،، وألعابهم، وكلماتهم ونحوها. وكل ذلك لا يخرج عن التقليد والمحاكاة، سواء كان من الكبار أو الصغار، إلا أننا لاعتيادنا- نتعجب من تقليد الصغار ومحاكاتهم التي تخلو عادة من المنطق، ولا نتعجب من أنفسنا حين يحاكي بعضنا بعضاً في أنواع اختياراتنا المختلفة في سلوكنا وفكرنا وتوجهاتنا، والتي تخلو أحياناً بل ربما في كثير من الأحيان من المنطق العقلي، والنظر الشرعي الصحيح- وإلا فأي نظر شرعي، أو منطق عقلي يبرر تقليد المسلمين للكفار في مذهب فكري ضال، أو سلوك خلقي شائن؟.
ولما كان تأثير القدوة مؤكداً في ميدان التربية جاء التحذير الشديد من الله - تعالى -للمؤمنين بأن يحذروا الازدواجية السلوكية في مخالفة الأعمال للأقوال؛ حيث يقول - تعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } ، نعم كبر مقتاً أن يقول المربي ويدعي مالا يفعل؛ لأن هذا القول وهذا الإدعاء الذي يكذبه الواقع العملي له تأثير سلبي على النشء من المتربين، فهم لا يستطيعون أن يوفقوا بين أقوال المربين الحسنة، وبين أعمالهم القبيحة، وقدراتهم العقلية لصغر أسنانهم وقلَّة خبراتهم- لا تسمح لهم بقبول القول والتغاضي عن العمل، فهذا صعب في عالم الطفولة، في حين
كم هو سهل في عالم الكبار، فكلُّنا أو جلُّنا لا يتعجب من مسلك النفاق الذي استشرى في الحياة الإنسانية، فقد أصبح مقبولاً في حياة الكبار أن يجمع الشخص في وقت واحد بين المتناقضات، فلا مانع من المناداة بالحق مع العمل بالباطل، ولا مانع من الأمر بالتقوى والمناداة بها مع التفريط في الواجبات، لقد أصبح مستساغاً مقبولاً عند جمهرة الناس أن أقوال الناس لا تطابق أعمالهم، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، فلا إنكار فيما بينهم، الكل قد تلبَّس بهذا المسلك المشين، وكما قال الحكيم: " افتضحوا فاتفقوا "!!
إن سلوك المربي لمنهج النفاق يعرضه للعقوبة الشديدة يوم القيامة مع الفضيحة أمام الخلائق؛ ففي الحديث المتفق عليه يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه يعني تخرج أمعاء بطنه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ".
إنها لمصيبة كبيرة أن يفقد النشء الجديد حقه من القدوة الصالحة في الآباء والمعلمين، فيحتاج إلى أن يتدرب على منهج الفصل بين كلام المربي وسلوكه، فيتعود على ألا يتأثر بالفعل إذا جاء مخالفاً للقول عند المربي، ويتدرب على طريقة الفصل بين النظرية والتطبيق، بحيث يقبل النظرية ويؤمن بها ويعمل بها، دون أن يجد أثرها في المربين، وهذا في الحقيقة تكليف بما لا يطاق؛ فإنى للصغار أن يتمكنوا من هذه القدرة الفائقة في حسن الانتقاء عن المربين، فيأخذون بدقة- ما حسُن من أقوالهم وأفعالهم، ويتركون بتفوق الشائن من أخلاقهم وسلوكياتهم.
إن الله - تعالى - وهو الحكيم الخبير لم يكلف الكبار البالغين أن يؤمنوا بالكتب المنزلة إلا حين تأتي بها القدوات الصالحات من الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فيعيش الناس النص من الوحي مع تطبيقه العملي في سلوك الرسول أو النبي، بل إن البشر في كثير من الأحيان كما حكى لنا القرآن يكفرون بنصوص الوحي مع وجود القدوة الصالحة في سلوك نبيهم، فكيف لو جاءت النصوص مجردة عن القدوة الصالحة، ماذا ترى الناس يصنعون بالنصوص النظرية مجردة عن التطبيقات؟
إن مما يجب أن يستقر في نفوس المربين: أن النص من القرآن أو السنة لا يؤثر وحده في النشء حتى تحمله إليهم بالأسلوب الصحيح القدوة الصادقة الصالحة في سلوك عملي واقعي، وما لم يتحقق ذلك من المربين فلن نتوقع أن ينصاع النشء للنصوص وحدها، منسلخة عن القدوة الصالحة.
http://www.bahaصلى الله عليه وسلمeth.oصلى الله عليه وسلمg المصدر:
ـــــــــــــــ(1/10)
القدوة وأثرها في المربين
عصام خضر
القدوة الحسنة هي من أفعل الوسائل وأقربها للنجاح وأكثرها فاعلية في حياة المربين...وتظل كلمات المربين مجرد كلمات ويظل المنهج مجرد حبرا على ورق .. ويظل معلقا في الفضاء.. ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض .. وما لم يترجم إلى تصرفات وسلوك ومعايير ثابتة، عندئذ يتحول هذا المنهج إلى حقيقة واقعة، وتتحول هذه الكلمات إلى سلوك وأخلاق عندئذ فقط تؤتي الكلمات ثمارها في حياة المربين.
ولقد علم الله - سبحانه - وهو يضع ذلك المنهج العلوي المعجز أنه لابد من قلب إنسان يحمل هذا المنهج ويحوله إلى حقيقة، لكي يعرف الناس أنه حق.. ثم يتبعوه لابد إذن من قدوة..
إن القدوة الصالحة عنصر رئيس ذو أهمية بالغة في البناء والتربية.. كما أنها ليست وحدها الكفيلة في بناء الأشخاص وتربيتهم فهناك جوانب أخرى يجب مراعتها في العملية التربوية إلا أن هذه الجوانب الأخرى لا تؤتي ثمارها أيضا بغير القدوة الصالحة، بل قد تأتي بثمار عكسية إذا وجدت القدوة السيئة. فالقدوات التي يغلب عليها الجانب النظري أو الفكري ويضعف عندها الجانب العملي والروحي والدعوي هي فتنة للمتعلمين والمتربين.. ولهذه الشخصيات تأثيرها السلبي على المسيرة التربوية، حيث يصبح مألوفا أن نقرأ ونتعلم ثم نتكلم أو نكتب، ولا يهم بعد ذلك أن تكون أرواحنا وقلوبنا وأعمالنا وبذلنا على نفس الدرجة التي يوحي بها كلامنا أو شهرتنا.
ومثل هذه الشخصيات لا تؤثر مواعظها في القلوب كما قال مالك بن دينار - رحمه الله -: (إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا). وعن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
ودعوة الإسلام لم تعرف في تاريخها المشرق وظيفة العالم أو المفكر الذي لا علاقة له بمتاعب العمل والبذل والعطاء.. فالذي يحرك الأمة في الحقيقة هم الدعاة والمربين الذين يفعلون ما يقولون
إن هؤلاء القادة المربين البارزين في علمهم وفكرهم مع قلة عبادتهم وبذلهم وتضحياتهم وضعف سلوكهم لا يمكن أن تنمو في ظلهم دعوة قوية تغير الأمة، بل هم بهذه التركيبة الخطيرة يقتلون فيمن حولهم كثيرا من المعاني السامية الجميلة من صفاء القلوب وقوتها وصدق المحبة والأخوة وحسن العبادة والإقبال عليها، والاستقامة والورع، والبذل والعطاء والتضحية والحياة للدعوة.. نعم يقتلون كل هذه المعاني حين يراهم هؤلاء وهم القادة المربون المشار إلى علومهم وأفكارهم.
إن القدوة الصالحة من أعظم المعينات على بناء العادات والأخلاق والسلوكيات الطيبة لدى المتربى حتى إنها لتيسر معظم الجهد في كثير من الحالات، والإسلام لا يعتبر التحول الحقيقي قد تم سواء من قبل المربِي أو المتربى حتى يتحول إلي عمل ملموس في واقع الحياة.
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - قدوة للناس في واقع الأرض.. يرونه وهو بشر منهم تتمثل فيه هذه الصفات والطاقات كلها فيصدقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين ولا يقرأونها في كتاب! يرونها في بشر فتتحرك لها نفوسهم وتهفو لها مشاعرهم ويحاولون أن ينهلوا منها.. كل بقدر ما يطيق أن ينهل وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود. لا ييأسون ولا ينصرفون ولا يدعونه حلما مترفاً لذيذاً يطوف بالأفهام.. لأنهم يرونه واقعاً يتحرك في واقع الأرض كما يرونه سلوكا عمليا لا أماني في الخيال.
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل. وكان مربيا وهاديا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بكلامه فعن طريقه - صلى الله عليه وسلم - أنشأ الله هذه الأمة التي يقول فيها - سبحانه - " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " سورة آل عمران 110
لقد بعثه الله قدوة للعالمين.. وهو أعلم حيث يجعل رسالته. وأعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير وقد جعله الله القدوة الرائدة للبشرية يتربون علي هديه ويرون في شخصه الكريم الترجمة الحية للقرآن، فيؤمنون بهذا الدين على واقع تراه أبصارهم محققا في واقع الحياة.
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - قدوة جعلها الله متجددة على مر الأجيال والله - سبحانه - لا يعرض علينا هذه القدوة للإعجاب السلبي والتأمل التجريدي في سبحات الخيال إنه يعرضها علينا لنحققها في ذوات أنفسنا وذوات من نقوم على تربيتهم، ومن ثم تظل حيويتها دافقة شاخصة ولا تتحول إلى خيال مجدد تهيم في حبة الأرواح دون تأثر واقعي ملموس ولا اقتداء.
والإسلام يرى أن القدوة معلم أساسي وقاعدة أساسية للتربية ابتداءً من مرحلة الطفولة إلى أن يحملوا أمانة هذا الدين.
فلابد إذن للمجتمع من قدوة في مربيهم وقادتهم تتحقق فيهم المبادئ وينسج على منواله المربين.
نعم على المربي أن يحقق في نفسه ما يريد أن يحققه في الآخرين، فيتعهد نفسه بالرعاية ويمتاز بالشفافية، ويتحرى الصدق في المواقف، والإخلاص في النية، ومالم يستمد قادة الدعوة ومربيها نورهم من مشكاة النبوة وأخلاقهم من أخلاق النبوة، ويصبحوا كالصحابة نجوما يهتدى بهم في ظلمات هذه الأيام فإن دعوتهم ستبقى ناقصة.
هذا المعلم أو هذا الأساس - القدوة الذي هو من أهم أسس التربية والذي لن يفيدنا كثيرا إلا بعد أن نراه مطبقا بالفعل ويفيدنا أكثر أن نراه مطبقا في أعلى صوره لأن ذلك سوف يعطينا فكرة عملية عن المدى الذي يمكن أن يبلغ إليه هذا العنصر لنقيس به جهدنا إليه في كل مرة ونحاول المزيد.
وجانب القدوة المتمثل في شخصه صلي الله عليه وسلم لن يتكرر في أي جيل آخر لكن لدينا سيرة مفصلة لحياته - صلي الله عليه وسلم - كأنه حي بين ظهرانينا. ولئن أثر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بشخصه في بناء هذا الجيل الفذ الفريد فإن سيرته التي بين أيدينا تفرض علينا أن نكون كالجيل الأول وهذا الذي حدث لجيل التابعين فهو لم يشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمع سيرته كما نقرؤها أو نسمعها نحن.
يقول الشاطبي: (إذا وقع القول بيانا فالفعل شاهد له ومصدق) الموافقات 3/ 317
صدق والله فكم من دعاة ومربين أشعلوا حماسا وأحيوا فينا حب العمل والمثابرة والجد و الصبر ثم ما لبثوا أن سقطوا من أعيننا ومن أعين أتباعهم في لحظات بسبب كلمة أو تصرف لم يكن متناسبا مع مكانتهم كقدوات للآخرين وما الذي جعل أحمد بن حنبل إماما للسنة إلا بصبره في المحنة وإحيائه عقيدة السلف.
فها هو أبو جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة (فعبر الفرات فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه وقال: يا هذا، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنك بإجابتك خلق من خلق الله وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل - يعني المأمون إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما قلت فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله) مناقب الإمام أحمد 314.
وتمر الأيام عصيبة على الإمام أحمد، ويمتحن فيها أشد الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له (يا أستاذ قال الله - تعالى -" ولا تقتلوا أنفسكم " فقال أحمد: يا مروزي اخرج، انظر أي شيء ترى. قال فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقا من الناس لا يحصى عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعهم فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قوما بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء) مناقب الإمام أحمد 330
ونذكر هنا بعضا من أبرز الجوانب لتفعيل القدوة في حياة المتربى وجعله من المستويات الجيدة الفعالة في الدعوة إلي الله.
1- الإيمان بالفكرة: إن إيمان المربي بالفكرة التي يتحرك من خلالها ويؤمن بها لهي من أهم الأسباب لاستقرار المتربى وسيره قدما في طريق الدعوة فلا يمكن بحال أن تثمر العملية التربوية إذا كانت من أشخاص لديهم غبش أو تزعزع في الفكرة التي يحملونها أو عدم وضوح في صحة الطريق الذي يسلكونه ونحن هنا لا نتكلم عن صحة الفكرة أو صواب الطريق نحن نتكلم عن الأصوب سواء فيم يتعلق بالفكرة التي يحملها المربي أو فيما يتعلق بصحة الطريق الذي يسلكه.
فمن يسير في طريق يصل من خلاله لرضا ربه وتعبيد الناس لرب العالمين ينبغي أن تكون رؤية هذا الطريق واضحة تماما معالمها وأساليبها وأهدافها، ومن ثم فعلى من يرى في نفسه أهلية لممارسة عملية البناء التربوي لدى إخوانه أن يسعى حثيثا لفهم ووضوح الفكرة التي ينطلق من خلالها.
والإيمان بالفكرة التي يحملها المربي والفهم الجيد لصحة الطريق الذي يسلكه لا تتكون في نفس المتربى حتى يكون هو أو من يؤمن بما يقول، ثم يترجم هذا إلى عمل.. ومن ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله -: آمن أنت أولا بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الجاد! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة! لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائنا حيا دب على وجه الأرض في صورة بشر
2- تعلم العلم: إذا كان العلم ضروريا لكل مسلم، فالداعية القدوة هو أكثر الناس حاجة لتعلم العلم، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (تعلموا قبل أن تسودوا) فتح الباري 1/165
فالسيادة في الدعوة تحتاج إلى علم يتأكد فيه القدوة من صحة خطواته، ويصحح فيه خطوات الآخرين.
إن المربي ينبغي أن تكون فيه صفات معينة تؤهله لهذه المهمة الخطيرة، فينبغي أن يشعر الشخص الذي يتلقى التربية أن مربيه أعلى منه وأنه منه بالطبيعة في موقف الآخذ المتلقي، لا في موقف الند ولا في موقف أعلى من موقف المربي.
هذه حقيقة نفسية تعمل عملها تلقائيا في النفوس! فأنت لكي تتلقى لابد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي، وإلا فلو أحسست أنك في الموقف الأعلى أو المساوي فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس والعلو أمر شامل يشمل مسائل كثيرة فقد يكون علوا روحيا، أخلاقيا أو يكون تفوقا علميا وهو المعني هنا، فعلى المربين أن يهتموا ببناء أنفسهم بناءً علميا رصينا قويا حتى لا يقف المربي عند حد معين ومن ثم تقف الدعوة ككل وتعجز عن أن تعطي أفضل ما لديها أو تهتم بتنمية المواهب والقدرات الفذة لأن ما عندها أصبح لا يكفي للكبار فتدور الدعوة في حلقة مفرغة حول موضوعات لا يخرجون منها لأن قادتها ومربيها ليس لديهم ما يؤهلهم بالنهوض بالدعوة والتقدم بها قدما ومن ثم فعلى أي حركة تريد أن يكتب لها النجاح أن تكون من خطتها تربية كوادر علمية تتسم بالفهم والعمق وإلا فالفشل والسير في المحل والواقع يحدثنا عن دعوات مر عليها سنين إلا أن أجيالها تتآكل وصفوفها تتساقط لأن ليس لدى قادتها ومربيها ما يؤهلهم للسير قدما في طريق الدعوة ويبدأ هؤلاء القادة والمربين في تربية جيل جديد هم على قناعة أنهم لن يستطيعوا أن يصلوا بهم إلى مرحلة البناء الكامل للنهوض بهذه الأمة.
إن تربية الكبار هي من أشق وأدق الأشياء في العملية التربوية فجيل الكبار الذي أصبح على درجة من الوعي والثقافة والعلم في حاجة إلى قيادة وزعامة يحس الكبار أمامها أنهم أصغر من قادتهم ومربيهم وأنهم في موقف التلقي منهم لا في موقف الند ولا في موقف التوجيه.
وليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي - وهي البديهية الأولى في التربية-
إنما أن تكون عنده حصيلة علمية بمفهومها الشامل يعطيها للآخرين من خلال علمه الذي ثابر على تحصيله ومن خلال تجربته الواقعية ومن خلال حركته بهذا الدين.
3- الابتعاد عن المباحات:
يقول الإمام بن القيم: قال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية (قدس الله روحه) في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العلية، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة. ثم يقول ابن القيم (فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام) مدارك السالكين 2/26.
إنها الصيانة التي نريدها للداعية القدوة وهو يزاول عملية الصعود في مدارك السالكين فحذار وأنت تصعد أن تستهويك بعض مناظر الأرض الجذابة، فتقف برهة تلتفت للوراء لإشباع رغبة النظر فتتأخر عن الصعود، ذلك إن لم تهو إلى الأرض بعد أن صعدت منها.
وعملية الصعود هذه علم كيف يتقنها (يحى بن يحى) الذي أهداه الإمام مالك جزاء على ذلك لقب (عاقل أهل الأندلس) وذلك أنه رحل إلى الإمام مالك وهو صغير وسمع منه وتفقه (وكان مالك يعجبه سمته وعقله، روى أنه كان يوما عند مالك في جملة أصحابه إذ قال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره (أي وبقي يحيى مكانه) فقال له مالك: لم تخرج فترى الفيل، لأنه لا يكون بالأندلس، فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك و علمك ولم أجئ لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وسماه (عاقل أهل الأندلس) طبقات الفقهاء 152
إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب.. ولكن وقت الداعية القدوة المربي أضيق من أن يشغل شيئا منه في مباح لا يجني من ورائه شيئا لقضيته التي تشغله ليل نهار.
وإنه من المباح شراء سيارة ثمينة ذات منظر جذاب بطولها وعرضها، ولكن.. لا يدري ذلك المربي القدوة أن وراءه أتباعا ينظرون إليه نظرة المناقض لكلامه الذي كان يقوله لهم ومازال، عن الزهد وحقارة الدنيا وفتنتها فينخفض مستوى التلقي عند أولئك الأتباع دون أن يشعر المربي, وأشياء كثيرة من المباح نقترفها أمام من نربيهم، ثم نشتكي من سلبية (غير أصلية) طرأت عليهم دون علمنا بأننا من المتسببين في نشؤ السلبية بسبب سهو عن محاسبة دائمة للنفس حتى تكون في حمى مما توشك أن ترتع فيه من مزالق.
فعلى المربي أن يعي أنه تحت رقابة دقيقة ممن يقوم بتربيتهم، فيحاسب نفسه على كل كلمة أو تصرف صغر أم كبر، حتى يتجنبه في مرات أخرى وحتى يكون على مستوى القدوة الذي لا يحيد عنه، وهذا لا يتأتى إلا بمحاسبة دائمة مع شعور دائم بأنه موضع قدوة.
كما أننا لا نستغرب عندما يطلق (ابن الحاج) على الخطورة التي تترتب على ذلك (السم القاتل)
و يعلل ذلك بأن (الغالب على النفوس الاقتداء في شهواتها و ملذاتها و عاداتها أكثر مما تقتدي به في التعبد الذي ليس لها فيه حظ . فإذا رأت ذلك من عالم و إن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة، تقول لعل لهذا العالم، العلم بجواز ذلك لم نطلع عليه أو رخص فيه العلماء فإذا رأت من هو أفضل منها في العلم و الخير يرتكب شيئا من ذلك، فأقل ما فيه من القبح (الاستصغار و التهاون) بمعاصي الله - تعالى -المدخل لابن الحاج 1/107.
و المربون يريدون أن يروا فيمن يقومون على تربيتهم المعاني السامية الذين يتكلمون عنها، هم لا يريدون من يقول لهم خذوا قولي واتركوا فعلي، بل يريدون رؤية أفعال تطابق أقوال.
و في سيرته - صلى الله عليه وسلم - جملة من الحوادث و الأمثلة ظهر فيها كيف استخدم - صلى الله عليه وسلم - القدوة الحسنه في تربية أصحابه - رضي الله عنهم - كأسلوب متميز عن باقي الأساليب الدعوية.
* ففي صلح الحديبية وبعد أن فرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قضية الكتاب قال للصحابة - رضي الله عنهم - (قوموا فانحروا، ثم احلقوا)
يقول الراوي: (فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا رسول الله: أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلق لك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنته، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما) زاد المعاد لابن القيم 3/295.
من هذا المثال يتبين لنا مدى فاعلية التربية الصامتة في تربية الأتباع.
* كذلك ينبغي للمربي أن يوضح بعض التصرفات التي يقوم بها- لاسيما التي تحمل التأويل السيء- لمن يربيهم مع اهتمام المربي بتفعيل مبدأ حسن الظن في المجتمع المسلم مع من يقوم على تربيتهم.
فقد يضطر المربي أحيانا إلى أن يتكلم مع امرأة من محارمه أمام المتربى فإن لم يوضح له تلك التصرفات، فإن ذلك سيجعله يطبق تماما ما رأى من قدوته ظانا أن ذلك هو الصواب.
ولم تفت على مربي الرعيل الأول - صلى الله عليه وسلم - أهمية هذا الأمر فعندما جاءت صفية - رضي الله عنها- زوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوره في اعتكافه في المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - : " على رسلكما إنما هي صفية بنت حي " فقالا سبحان الله يا رسول الله، و كبر عليهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا) فتح الباري 2035.
يقول ابن دقيق العيد: (و هذا متأكد في حق العلماء و من يقتدى به, فلا يجوز أن يفعلوا فعلا يوجب سؤ الظن بهم و إن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، و من ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيا نفيا للتهمة) فتح الباري 4/280
* وفي حنين، وجنود المسلمون يفرون والأعداء يرشقونهم بالنبل هل كان قائدهم ومربيهم يكتفي بوعظهم بالثبات في مثل هذا الموقف؟ إن مئات الكلمات والمواعظ والخطب الرنانة في الثبات لا تفعل فعله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والجنود في حالة من الخوف والهلع. إنهم في حاجة في مثل هذا الموقف إلي القائد المربي القدوة الذي يرجعهم إلى الجادة التي انحرفوا عنها.
فهذا هو العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - شاهد عيان يروي ماذا فعل القائد القدوة المربي في ذلك الموقف الحرج قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نفارقه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكفها إرادة آلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال عباس وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة. وفي رواية فنزل واستنصر وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) مسلم 1775، 1776.
وماذا كانت نتيجة هذا الموقف من النبي - صلى الله عليه وسلم - القائد المربي. يقول العباس: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك).
إن مسؤولية القائد المربي مسؤولية عظيمة أمام الله- تبارك وتعالى -وأمام أتباعهم.. فلا ينبغي له أن يتوارى في المواقف التي ينبغي أن يظهر فيها سواء في حل المشاكل أو فيما يتعلق بمواجهة الناس في أي أمر من أمور الدعوة، فلقد كان - صلى الله عليه وسلم - أشجع الناس سباقا في شدائد الأمور فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول (لم تراعوا لم تراعوا)
إن المرء ليقف مشدوها لهذه الشجاعة النادرة، ينطلق الناس قبل الصوت مجرد سماعهم له، فيجدون القدوة المربي قد سبقهم بل وقد رجع وهم في بداية الانطلاق، إن هذه الدعوة الصامتة للشجاعة هي التي خرجت أعمى كابن مكتوم يصر على الجهاد ويحمل الراية ويقاتل حتى يقتل، وهي التي خرجت أعرج كعمرو بن الجموح يبكي لأنه أعفي من الجهاد ثم يطلب بإلحاح مشاركة المجاهدين ويقول (إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة ويقاتل حتى يقتل.
إن القدوة الأولى المتمثلة في المربي الأول محمد - صلى الله عليه وسلم - هي التي خرجت أجيالا على مر العصور عرفنا من خلالها معنى الصبر والتحمل والشجاعة.
فهذا هو يوسف بن يحي البويطي، خليفة الإمام الشافعي، (وكانت الفتاوى ترد على البويطي من السلطان، فمن دونه وهو متبوع في صنائع المعروف كثير التلاوة، لا يمر يوم وليلة غالبا حتى يختم، فسعى به من يحسده وكتب فيه إلى ابن أبي دؤاد بالعراق فكتب إلى والي مصر أن يمتحنه أي يسأله هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق وهي بدعة المعتزلة، وكان على رأسهم ابن أبي دؤاد فامتحنه فلم يجب أي بخلق القرآن فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: (إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى) وكان أمر أن يحمل إلى بغداد في أربعين رطل حديد يقول الربيع صاحب الشافعي ولقد رأيته على بغل وفي عنقه غل وفي رجليه قيد وبين الغل والقيد سلسلة حديد وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بكن فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم) طبقات الشافعية 1/275
* بل إن التجرد من عبودية العبيد وعبودية المال والإخلاص لله صفة لازمة للداعية المربي ومن دون ذلك يصبح من المتعذر عليه أن ينشأًَ جيلا من الدعاة إذ أن الناس جبلوا على اتباع المتجرد الذي لا ينوي بعمله إلا وجه الله.(1/11)
جاء في ترجمة الخطيب البغدادي، أنه (دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير فقال للخطيب فلان يسلم عليك ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: كأنك تستقله ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال: هذه ثلثمائة دينار، فقام الخطيب محمرا وجهه وأخذ السجادة وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد) طبقات الشافعية 3/14.
وحركة (نفض السجادة) التي لم تستغرق دقيقة واحدة من الخطيب، ربت أتباعه الذين كانوا في المسجد على معاني العزة وحقارة العبودية لغير الله، ظهرت في قول أحدهم (ما أنس عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها) طبقات الشافعية 3/14
ولنعلم أن نصر الله منوط باستقامة حملة الدعوة قادتها ومربيها وتلك نقطة قد نغفل عنها أحيانا حيث نركز على صحة أفكارنا وما نقدمه للناس ثم تدور في نفوسنا التساؤلات: لم لا ننتصر إذن!
مع أننا لو تأملنا في كتاب الله لوجدنا فيه إناطة النصر للمؤمنين بما يتصفون به في ذواتهم وما يفعلونه لا مجرد ما يقولونه للناس.
وبعد فما أردنا من هذا العرض إلا إخراج بعض المعاني التي غارت في الأرض، ليتذكر فيها من نسي من مربينا ويعلم فيها من جهل أهمية القدوة في عملية البناء التربوي.
http://www.saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/12)
ألا تخشى الفقر ؟!
كيف للمرء إحساناً في سيره إن لم يحسن التوقف والتفتيش في بضاعته، فلعلها تكون مزجاة.. يسير أحدنا في طريقه إلى الله وقلبه معتمدٌ على ما منّ الله عليه به من علم أو عمل وفقّه الله إليه، فيركن إلى ذلك العلم أوّ ذلك الحال، فيسرُّه ما يرى .. ويستعظِم نفسه التي بين جنبيه، ويظنُّ أنَّه قد حازَ قصبَ السبقِ وكان في السابقين فبزَّ أقرانهُ .. ويُعاود النظر في تلك البضاعة والتي لا يعلم حقيقتها إلا الله فينظر إليها بعين العجب والفرح، فحالهُ كحال من سافر سفراً بعيداً فاستعدَّ لسفره بالزاد والراحلة ثمّ نظر في متاعه إلى تلك الصرَّة التي واراها عن غيره و أحكم لها إيثاقاً فسرّه ُما رأى واطمأنت نفسه للنجاة وبلوغ المنزل ..
فكلّما هجمَ على قلبهِ خاطر الفقر والحاجة، عاود النَّظر إليها فوجدها على أحسن حال ٍكما هي لم ينقص منها شيء، فأغراهُ ذلك المنظر بمواصلة السير والثقة في الوصول!
وما حال هذا أو ذاك إلا كحالِ سائرٍ قد جمع صفراً فظنّهُ ذهباً أو من رأى جبلاً عظيماً، فاستحال هباءً!!
وهذه حال كلّ من كانَ كحاله ِأو مثلهِ في السير، يركن إلى عقلٍ أو علمٍ أو فهمٍ أو عملٍ أو حالٍ أو رزقٍ وكلّها في يدهِ عوار ٍ والذي يملكها هو الله رب العالمين. وتراهُ راكناً إليها معتمداً عليها، فما ينفعهُ سرور منظرٍ في عينِ نفسهِ ولا ثقلاً يجدهُ في كفّه ِ.. فالأمور بالحقائق !!
وليتَ كل سائرٍ إلى الله يوقنُ أنّ ما بيدهِ وإن عظُم في عينهِ لا يُغنيه عمّا في يد ِالله.. وأنّه لا يبلغُ حقيقةَ الصدقِ حتّى يكونُ فيما عندَ الله ِأوثقُ ممّا في يدهِ..
إضاءة:
قيل لأبي حازم الزاهد: ما مالُك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقةُ بالله، واليأسُ ممّا في أيدي الناس "
وقيل له: أما تخافُ الفقر؟ فقال:أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟! ".
http://www.saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/13)
كن .. حتى يكون !!
لابد من كلمات تقال للآباء والأمهات والمربين والمربيات لتعم الفائدة، ومن أراد لولده أن يكون... فلابد أن يقال له أولاً: كن أنت...
* كن قدوة حسنة:
أيها الأب العزيز.. إن عين الولد بك معلقة، ونفسه بك مرتبطة، فأنت قدوته وإمامه، وحجته على ما يفعل، فكن قدوة حسنة له في إيمانك بالله وعبادتك له - عز وجل -، وكن قدوة في أخلاقك وآدابك وحسن تعاملك، كن قدوة بكل ما تحمله كلمة قدوة من معانٍ، من خلال سلوكك العملي مع أولادك، إمامك في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - .
* كن عادلاً:
إنك لن تستطيع أن تحكم بين اثنين في قضية عابرة إذا لم تكن عادلاً، فما بالك بمن تشغلك قضيته طوال حياتك؟! إنك لن تستطيع أن تحقق ما ترى إذا شعر الولد أنك تفضل أخاه عليه؛ فهذا هو الجور الذي لا يرضاه الطفل، كما لم يرضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
* كن له بعض أوقاته:
أيها الأب وأيتها الأم.. لا عذر لكما عند الله، ثم لا حجة لكما عند الطفل بعدم وجود الوقت المخصص للجلوس معه؛ فهذا حقه: 'وأعط كل ذي حق حقه'، وهذه أمانة المسئولية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، فيا من تترك ولدك لغيرك يربيه؛ لا تبكِ غدًا على تجنيه؛ فلقد أضعته ولدًا فأضاعك شيخًا.
* كن مسامحًا:
إن كثرة العتاب واللوم على كل صغيرة وكبيرة عما قليل سوف يأتي بنتائج عكسية، فلا ينتصح الولد ولا يقلع، ثم تسقط بعدها هيبتك ومكانتك عنده، ثم يتركك ولا يسمع منك شيئًا، وهذا أنس - رضي الله عنه - يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرًا فما سمع منه أفًا، وكما قال الشاعر:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فما بالك بولدك؟!
* كن ذكيًا:
في استغلال الأوقات المناسبة، والأحداث الجارية؛ لطبع ما تريد من قيم وأخلاق في نفس ولدك، كما لو طرقت على الحديد وهو ساخن، فما تلقيه في روع الفتى حينئذ ينطبع في قلبه مباشرة، فلا تمحوه الأيام ولا الآلام، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يردف ابن عباس - رضي الله عنهما - خلفه على حمار، وهو مسرور لكونه خلف خير الخلق على دابة واحدة، فيعلمه كلمات لا ينساها قلب الفتى، ولا تنساها الأمة بأسرها من بعده.. 'يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف'.
وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدرك الغلام قبل أن تنطبع العادات السيئة في نفسه فيقول في الموقف ذاته الذي يرى فيه السلوك الخاطئ: 'يا غلام سمّ الله - تعالى -، وكل بيمينك، وكل مما يليك'، فلا ينساها الغلام أبدًا فيقول: 'فما زالت تلك طعمتي بعد'.
* كن قصّاصا:
للقصة سحر في النفوس، فهي تجعل الطفل يغوص معها، ويعايش أبطالها، فعليك أيها الأب وأنت أيتها الأم خاصة العناية برواية القصص للأولاد. والقرآن الكريم ثلثه من قصص الأولين، والسنة النبوية بها الكثير من القصص النبوي الصحيح، واجعل هذه القصص للتدبر والاعتبار ثم العمل، وليست عند النوم فقط، قال - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ}.
* كن صبورًا:
في الاستماع لحاجات ولدك ورغباته، واعلم أنك تتحدث مع طفل له حدود وقدرات عقلية محدودة؛ فخاطبه على قدر عقله، وإمامك - صلى الله عليه وسلم - يحتمل ويصبر على عائشة وهى متكئة على ظهره تنظر للعب الحبشة، حتى قالت: حتى أكون أنا الذي أسأمه، ثم تعلّق - رضي الله عنها - بقولها: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.
* كن صاحبًا:
أيها الأب، أيتها الأم. فليكن كل منكما صاحبًا يكن ساحبًا، فللصحبة أثر عظيم جدًا في نفس الولد، وتجعل قلبه كالصفحة البيضاء: ينطبع عليها كل ما يريده الأب والأم، وهذه الصحبة ليست منك للولد فقط، ولكن من غيرك أيضًا له؛ فأصدقاء السوء يهدمون ما تبنيه أنت أيها الأب؛ فاشغل وقت ولدك بصحبتك له، واستيقظ قبل أن يُسرق طفلك وأنت عنه غافل، فصحبتك تدخل السرور على قلبه، وتجعله يحكي لك كل أموره، وتصبح سريرته لك علانية، فصاحبه وشجعه وامدحه، وأكثر من الثناء عليه؛ فما ترك ابن عمر - رضي الله عنهما - صلاة القيام بعدما سمع كلمة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : 'نعم الرجل عبد الله لو كان يصلى من الفجر'.
* كن مراقبًا:
أيها الأب.. لا تلقِ البذرة ثم تتركها وتذهب، وتقول: ها أنا ذا زرعت. ولكن انتظر الحصاد، فسوف تأتي من خلفك آفات الشر والفساد تأكل محصولك قبل أن تجني ثماره، فكن مراقبًا في أخلاقه - وخاصة خلق الصدق - فالكذب أساس الرذائل، ولما أراد الرسول أن يحجب الرجل عن كل الشرور قال: 'لا تكذب'. وكن مراقباً له في أصدقائه ورفاقه، كن مراقبًا له في تكوينه الجسدي وخلواته، كن على حذر أن يكون هناك من يحاول هدم بنائك الذي بنيته في سنين، مع دوام الاستعانة بالله - تعالى -أول وآخر الأمر.
http://www.islammemo.cc المصدر:
ـــــــــــــــ(1/14)
الجليس الصالح
شوقي عبد الصادق
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وبعد:
فمجالسة الصالحين فضيلة أمر اللَّه - سبحانه - نبيه بها، فقال - تعالى -: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً" [الكهف: 28]، وقال - تعالى -: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما
عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين" [الأنعام: 52].
فهذا أمر اللَّه - سبحانه - لرسوله بأن يكون أولى الناس بالمجالسة هم الصالحون، ومثل له أروع الأمثلة فقال فيما رواه أبو موسى الأشعري: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة». [اللؤلؤ والمرحان 1687] وهذا الحديث يفيد أن الجليس
الصالح جميع أحواله مع من يجالسه خير وبركة ونفع ومغنم، مثل حامل المسك الذي تنتفع بما معه، إما بهبةٍ، أو بيع أو برائحة المسك التي تنبعث منه.
ثمار مجالسة الصالحينأولاً: لا يشقى بهم جليسهم:
فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون تنادوا هلموا إلى حاجتكم». قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشدَّ لك تمجيدًا وأكثر لك تسبيحًا، قال: فيقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها، قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبةً، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون من النار، قال: يقول: وهل رأوها، قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشدّ لها مخافةً، قال: فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم». [اللؤلؤ والمرجان 1722]..
قال القاضي عياض - رحمه الله -: ذِكْرُ اللَّه ضربان؛ ذكر بالقلب وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان:
أحدهما وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة اللَّه وجلاله وجبروته وملوكته وآياته في سماواته وأرضه.
والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي؛ فيتمثل ما أمر به ويترك ما نهي عنه ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر اللسان مجردًا فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث.
انتهى.
ثانيًا: يحشر المُجالس للصالحين معهم في الآخرة:
ففي الصحيحين من رواية أنس بن مالك أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه متى الساعة قائمة؟ قال: «وما أعددت لها». قال: ما أعددتُ لها إلا أني أحبُ اللَّه ورسوله، قال: «إنك مع من أحببت».
ثالثًا: يستفاد من مجالسة الصالحين علم وصلاح وفقه: فهذا موسى - عليه السلام - يقول للخضر: "هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً" [الكهف: 66]، وهذا زكريا - عليه السلام - يكفل مريم ويتردد عليها في المحراب فتثير فيه الرغبة في الدعاء وطلب الولد من اللَّه - تعالى -الذي يعطي بأسباب وبغير أسباب، لما رأى عندها رزقًا في غير ميعاده فسألها أنى لك هذا؟ قالت: هو من اللَّه إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.
فتوجه إلى ربه بالسؤال: هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء [آل عمران:
38].
رابعًا: الجليس الصالح يُذكر صاحبه بالله:
ويجدد فيه كَوَامِنَ الإيمان ويوقظ التوكل والخوف والرجاء وشاهد ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي بكر رضي
الله عنه قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللَّه ثالثهما؟ ».
وهؤلاء أصحاب موسى عليه السلام يقولون له: إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء: 61، 62].
خامسًا: الجليس الصالح ربما كان سببًا في خروجك من الدنيا على التوحيد والإيمان:
فقد أخرج البخاري عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. [فتح الباري 3/136]وذكره الألباني في أحكام الجنائز بزيادة قوله - عليه السلام -: «فلما مات قال: صلوا على صاحبكم». [أحكام الجنائز ص26].
فأي فضل نال هذا الصبي اليهودي بجلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده في هذا الساعة الحرجة من عمره حتى خرج من الدنيا بالإسلام وأنقذه اللَّه من النار.
والجليس الصالح قد يكون إنسانًا حيًا، ولا يكون صالحًا إلا إذا كان ذا دين متمسكًا بالكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة موحدًا ربه كمال التوحيد.
وقد يكون كتابًا، وأسمى الكتب وأعلاها صلاحًا وإصلاحًا كتاب اللَّه - تعالى -وما صح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - من سنة قولية أو فعلية أو تقريرية أو تركية.
وقد يكون هذا الجليس شيئًا معنويًا لا يرى ولا يسمع ولكنه يؤثر في جليسه ويظهر عليه حسنُ المجالسة وشاهد
ذلك حديث الصحيحين من رواية أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : «سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكان آخرهم ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه». [اللؤلؤ والمرجان برقم 61] ولنا أن نتخيل من هو فليس الرجل السابع إنه ذكر اللَّه بالتفكر والقلب واللسان الذي عاش معه فترة من الوقت فأثر فيه حتى
فاضت عيناه شوقًا إلى مولاه ورجاءً في ثوابه ورضاه وخوفًا من عذابه وأذاه.
وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد.
http://www.altawhed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/15)
تنمية الذات بمخالطة الصالحين
إسماعيل رفندي
نبارك ونحسٌن حديثنا بقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [سورة الكهف: 28]
أمر من الخالق - سبحانه وتعالى - لمعية ومعايشة الذين يعبدونه ويحبونه في جميع الأحوال. وفي آية أًخرى يذكرنا القرآن المجيد ويأمرنا أن نكون في دائرة الصادقين وذلك بعد الإيمان والتقوى. لهذه الضرورة بين الله - سبحانه وتعالى - النتائج الحقيقية لهذه المخالطة والصداقة والمعايشة. {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ولا شك في إظهار وإعلان النتائج {يوم لا ينفع مال ولا بنون إِلاّ من أتى الله بقلب سليم}, {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}.
من هنا نعلم:
- أن الإنسان لا يستغني من غيره ولا يستغني من صديق صادق صالح. إذاً يأتي دور المجالسة الدائمة والهادفة,
و يجب علينا الاختيار الصائب؛ لأن مجالسة الصالحين من عباد الله سبيل إلى الالتزام ومن ثم سبيل إلى المكث تحت عرشه ثم إلى الجنة.
إن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الجليس يعتبر أوضح دليل على مسائل النفع والضرر المتعلقة بنوع الجليس؛ حيث يقول - عليه الصلاة والسلام -: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) قسّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - نوعية الجليس إلى قسمين:
القسم الأول: الجليس الصالح:
- وهو كحامل المسك يحذيك و يمنحك لما عنده من علم ومعرفة وخلق حسن.
- ويدلك على مواطن الخير والصلاح.
- ولا يؤذيك بشيء.
- ويذكرك بالله.
القسم الثاني: الجليس السوء:
- وهو كنافخ الكير.
- يعرضك للمخاطر والمخاوف.
- يدفعك نحو الفساد والزلات.
- فإنه يريد أن يحرقك كما يحرق نفسه.
- و يشوّه سمعتك.
- وبالاستمرارية يؤثر في السلوك حتى يطبع انحرافاته طبائع عندك.
واعلم أخي الحبيب أن « الطبع يسرق » كما قال ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: " ما رأيت أكثر أذى المؤمن من مخالطة من لا يصلح ، فإن الطبع يسرق ، فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم فتر عن عمله " إذا من قال لا أتأثر بمخالطة الطالحين ولا أتطبع بمجالسة السيئين فقد أخطأ ؛ لأن الصحبة السيئة باستمرارية تترك على أغوار النفس وبنفخ من المثير أو من الشيطان يقع فيما وقع فيه الطالح نفسه، وبمقدار تأثره السلبي السيء يبتعد عن مجالسة الصالحين ونور الحقيقية.
لا شك أن الجليس يستأنس بجليسه، ويرتاح برؤيته، ويتطبع بطبعه، ويبدأ بمسيرة الخلة والصداقة معه؛ لذا لا بد من الحذر الجدي في هذه المسألة بين الخطين الإيجابي والسلبي , أو بين جليس السوء والجليس الصالح؛ لأن هذه المسألة كلها تصب في مصب الصحبة وكيفية الاستفادة منها.
لذا حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كيفية اختيار الصديق؛ لأن له الحظ الأوفر في صحبة المرء حين يقول (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) في هذا الحديث الشريف عدة فوائد وأحكام حول مسألة الخلة وصحبة الصالحين:
1- لا بد للمرء المؤمن أن يبحث عن صاحب صالح.
2- بيان مدى التأثير المتبادل بين الأصحاب.
3- إمكانية تحول الصديق نحو صديقة.
4- ويعتبر الخلة من الأسباب الرئيسية لرضى الله - سبحانه -.
5- لا بد من التقييم الشرعي للصديق حسب فهم الحديث (فلينظر أحدكم من يخالل).
ثمرات صحبة الصالحين:
* كلما كان الصاحب أكثر استقامة ازدادت الثمرات والفوائد، لذا فالثمرات على قدر الصحبة ووفق موازين الصلاح منها:
1- تأليف القلوب .
وذلك وفق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وفي الحديث القدسي: (وجببت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ).
2- التصحيح والتقويم المستمر .
وذلك عن طريق التواصي والنصيحة وإرادة الخير، ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عنه ضيعته ويحوطه من ورائه).
3- الاقتداء .
وهو أمر ضروري لكل إنسان يتخذ قدوة من الصالحين، وعلى رأسهم رسول الله- صلى عليه وسلم-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}، وأيضاً أن يصبح قدوة للغير في الصلاح والالتزام والإيجابية، ولا تتحقق هذه المسألة إلاّ بمخالطة الصالحين ومجالستهم.
آداب مع الصالحين:
1- الالتزام بآداب الشرع وما أكد عليه الشرع بين الأخوة وفي مجالس الصالحين.
2- الالتزام بالأخلاق الفاضلة مثل:
- خفض الجناح.
- الابتسامة الصادقة.
- سعة صدر.
- السيطرة على النفس.
- الخطاب الصادق.
- الالتزام بالوعود.
3- التماس الأعذار، والتعامل مع أخطائهم بلطف.
4- عدم الإصابة بالحساسية النفسية وتجنب سوء الظن.
5- تجنب الغل والحذر من الحسد.
6- تجنب القطيعة معهم.
7- الزم الصفح وكن من العافين عن الناس.
8- تجنب عن كشف أسرارهم.
9- مشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم.
اللهم اجعلنا منهم...
19-11-2005
http://islameiat.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/16)
تنبيه الأذكياء بأهمية الإقتداء
محمد حسن يوسف
تعاني الأجيال الشابة من المسلمين التي تحيا في ظل الصحوة الإسلامية المباركة من غياب القدوة. فهذه الأجيال تحيا الآن في ظل الدروس النظرية لعظمة الإسلام وريادة أجياله الأولى لمجالات الحياة المختلفة. إلا أنها حينما تتجه بناظريها إلى الواقع المعاش، فلا تجد من تقتدي أو تتأسى بهم، ولا تجد إلا حفنة من أرباب المادية العلمانية الذين تم تمجيدهم وتزيينهم للناس، وتقديمهم في صورة النماذج التي يجب أن يسير الناس وفقا لخطاها.
فلماذا نترك القدوات المعصومة من الأنبياء والمرسلين الذين يزخر بهم كتاب الله العزيز؟ ولماذا نترك شبابنا يتخذ من المهرجين والعابثين والمغنين واللاعبين قدوات لهم، ويتركوا هذا المعين الضخم الذي لا ينضب من القدوات الذين يزخر بهم تاريخنا الإسلامي، من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين؟!
أسباب تراجع القدوات الإسلامية:
* عدم العلم بهذه الشخصيات، وجوانب عظمتها، وكيفية الإقتداء بها. ذلك أن أجيال المسلمين شُغلت طوال سنوات الدراسة وهي طويلة بما فيه الكفاية - باستذكار شخصيات بعينها منتقاة بعناية وكأنها هي الشخصيات التي يجب عليها الإقتداء بها.
* التركيز الإعلامي بوسائله المختلفة - سواء المشاهدة أم المقروءة أم المسموعة - بتسليط الأضواء على مثل هذه الشخصيات حاليا (التي تحتل مكان الصدارة في مجالات التمثيل والغناء والرياضة)، وكأن ثوابت المجتمع قد تغيرت. ففي بداية القرن الماضي وحينما بدأت تظهر السينما في مصر، كان لابد من وجود ممثلين. وفي ظل المجتمع المحافظ في ذلك الوقت، كان هؤلاء يوصفون (بالمشخصاتية)، وترفض الأسر الكريمة الارتباط بهم أو الإقتداء بهم. وكانوا يُنعتون بأخس الصفات وأقبحها. وفي ظل توالي عمليات التجهيل بأصول الدين، وبسير أعلام الإسلام، تغيرت نظرة المجتمع لهذه الفئة لتحتل مركز الصدارة، وتصبح محط أنظار الجميع في الإقتداء بهم والوصول إلى " مكانتهم " المزعومة. وتبعتها في ذلك الفئة التي تعمل في مجال الغناء والرياضة.
* في ظل تغير الثوابت المادية للمجتمع، بحيث أصبح رجل الدين لا يتعدى راتبه العشرات من الجنيهات، في حين يحظى صاحب المواهب الفذة " المزعومة " بالآلاف من الجنيهات، تحولت نظرة المجتمع نحو هذه الفئة، وأصبح الجميع يتهافت على الدخول في هذه المجالات " المربحة " للغاية!!
القدوة في القرآن والسنة:
أكثر القرآن الكريم والحديث النبوي من ضرب الأمثلة المتكررة لنماذج من البطولات، لكي تظل نموذجا حيا يُطلب من المسلمين الإقتداء بهم في حياتهم، والسير على نهجهم. ولنأخذ أمثلة على ذلك: فقد قال - تعالى -لرسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - : " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ "[ الأنعام: 90 ]. أي يطلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بمن سبقه من الرسل في تحمل مشاق الدعوة إلى الله والصبر عليها. كما قال - تعالى - مخاطبا المسلمين: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ اْلآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "[ الأحزاب: 21 ]. فهنا يطلب الله - تعالى -من المسلمين أن تظل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - محط أنظارهم لا يحيدون عنها ويقتدون بها في كافة مجالات حياتهم. وقال - تعالى -: " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "[ الممتحنة: 4 ]. وقال - تعالى -: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ اْلآخِرَ " [ الممتحنة: 6 ]. فيطلب الله - تعالى - منا ضرورة الإقتداء بالأنبياء والفئات المؤمنة التي كانت معهم، إذ إن النجاة في هذا الإتباع.
وجاء في الحديث الشريف عن جرير بن عبد الله البجلي، - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وفي رواية للترمذي: من سن سنة خير فاُتبع عليها، فله أجره، ومثل أجور من اتبعه، غير منقوص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة شر، فاُتبع عليها، كان عليه وزره ومثل وزر من تبعه، غير منقوص من أوزارهم شيئا. [1]
والحديث بهذا السياق من الأحاديث التي وقع خطأ في فهمها لدى كثير من الناس الذين ابتلوا بالأهواء والبدع، إذ أصبح يمثل السند الشرعي لكل من أراد أن يُدخل في الدين ما ليس فيه. فالسنة الحسنة ليست بدعة في الدين، وليست أمرا محدثا في الإسلام، وليست إضافة على السنة، أو اختراعا في العبادة، ولا فيما لا يَمُت للدين بصلة. [2] ولعل الرواية التي ساقها مسلم والنسائي تفسر لنا سياق الحديث حتى لا نخطئ فهمه:
فعن جرير - رضي الله عنه -، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار، أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالاً، فأذن وأقام فصلى، ثم خطب، فقال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "[ النساء: 1 ]. والآية التي في الحشر: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ "[ الحشر: 18 ]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة.
قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة، كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تهلل كأنه مُدْهنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من سن في الإسلام....الحديث.
قال النووي [3]: قوله: (النمار): ثياب صوف، و(العباء): جمع عباءة. وقوله: (مجتابي النمار): أي: خرقوها وقوروا وسطها. قوله: (فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ): أي: تغير. وقوله (مذهبة) ضبطوه بوجهين: أحدهما: (مذهبة)[4]: أي: فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيها خطوطا مذهبة يرى بعضها أثر البعض. والثاني: (مدهنة): المدهن: الإناء الذي يدهن فيه، وهو أيضا اسم للنقرة في الجبل التي يستجمع فيها ماء المطر; فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء، وبصفاء الدهن والمدهن. وقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها) إلى آخره، فيه: الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: (فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها، فتتابع الناس)، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان.
أهمية وجود القدوة في حياتنا:
ولأهمية القدوة في حياة البشر، حاول الأعداء - أثناء فترات استعمارهم [5] لبلادنا - ومن سار على نهجهم طمس جميع صور البطولات الفذة في تاريخ الإسلام، سواء في صدره أو فيما بعد. ودأب من سار على نهجهم على تشويه صور قادة الإسلام العظام في أعمالهم سواء المنشورة في الكتب أو المجلات أو الجرائد، أو المعروضة في غيرها من أجهزة الإعلام الأخرى. وإلا فلماذا يُصور الصراع فيما بين الصحابة منذ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحجم من الضخامة؟!! وما الحكمة من تصوير الفتنة التي وقعت بين رموز الإسلام في ذلك الحين وإبرازها على ما عداها من أعمال جليلة تميزت بها أعمالهم حينذاك؟!!
ولكي تكتمل حلقات المخطط، فقد تم فرض وجوه باهتة لتتصدر أجهزة الإعلام المختلفة بحيث تكون محورا لحديث الناس عنها ليل نهار. وحتى يكون للأمر قوته وتأثيره، تم إضفاء هالات كبيرة حول شخصيات بعينها، حتى يصعب نقدها، ويتخذها الناس مثلا عليا لا يستطيع أحد تجريحها أو الطعن عليها. فاُخترعت أسماء كبيرة، مثل: " عميد الأدب العربي "، و "كوكب الشرق "، و" العندليب الأسمر "... الخ.
على أنه ينبغي معرفة أن مركز القدوة حساس دقيق جدا، ويجب ألا يوضع فيه إلا من كان مستعدا للأخذ بالعزيمة، والبعد عن الرخص، وإلا من كان يغلب عليه الجد والزهد والتجرد، ويشتاق إلى التعب والبذل، لأنه إمام لمن حوله يقلدونه، ولابد أن يكون فعله أبلغ في التعبير عن عقيدته ومعاني دعوته من قوله، لأن المنظر أعظم تأثيرا من القول. ومن ها هنا لما همّ إمام مصر، الليث بن سعد، بفعل مفضول ينافي العزيمة، قال له إمام المدينة، يحيي بن سعيد الأنصاري: " لا تفعل! فإنك إمام منظور إليك ". [6]
ومن هنا نفهم سر حكمة السيدة أم سلمة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لما دخل إليها غاضبا من عدم تنفيذ الصحابة لأمره بذبح هديهم وحلق شعورهم للتحلل من الإحرام بعد إبرام صلح الحديبية مع قريش، حيث قالت له: " يا نبي الله! اخرج ولا تكلم أحدًا منهم حتى تنحر بدنك، وتحلق شعرك ". ففعل. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا. [7] فهنا كان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له أكبر الأثر في تقليد الصحابة - رضي الله عنهم -، وامتثالهم لأمره.
سبل العلاج:
أولا: الإكثار من عرض نماذج للقدوات الفذة التي يزخر بها تاريخنا، حتى تكون بطولاتهم وأعمالهم نصب أعيننا، نحاول الإقتداء بها والوصول إليها. ونعرض فيما يلي بعض الأمثلة لذلك: [8]
* كان أبو إسحاق الشيرازي العالم الفقيه يكرر كل درس مائة مرة، ويكرر السطر الواحد من القياس ألف مرة.
* قال الفارابي: صعب عليّ كتاب، فكررته أربعين مرة.
* مكث الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المفسر في مسألة واحدة من صلاة العشاء إلى صلاة الظهر من اليوم الثاني في جلسة واحدة.
* سافر جابر بن عبد الله شهرا كاملا في طلب حديث واحد.
* جرب مكتشف الكهرباء توماس أديسون خمسة آلاف بطارية أخطأ فيها كلها، قبل أن يكتشف التجربة الصحيحة.
* أقسم المعتصم لا يغشى رأسه ماء من جنابة حتى يخوض معركة عمورية.
* كان سعيد بن المسيب إذا انتصف الليل أقام الليل لا ينام حتى الصباح.
* كان ابن تيمية إذا صعبت عليه مسألة استغفر الله ألف مرة فيفتحها الله عليه.
* صلى سعيد بن المسيب ستين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام في المسجد.
* مكث عطاء بن رباح ثلاثين سنة لا ينام إلا في المسجد طلبا للعلم.
* ختم عبد الله بن إدريس القرآن في زاوية بيته أربعة آلاف مرة.
* كان خالد بن معدان يسبح الله كل يوم مائة ألف مرة.
* قال ابن الجوزي: طالعت في شبابي أكثر من عشرين ألف مجلد.
* قال ابن معين: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما حفظناه.
* ذكر الذهبي أن ابن عطية المحدّث الأندلسي كرر في حياته صحيح البخاري سبعمائة مرة، وقرأ المزني الرسالة للشافعي خمسمائة مرة، وقرأ النيسابوري صحيح مسلم مائة مرة.
ثانيا: إعداد الدعاة إعدادا سليما شاملا لتحمل مسئولية الدعوة وقيادة الأمة معا، بحيث ألا يتبوأ عرش الدعوة إلا من تتوافر فيهم الصفات المثلى الإسلامية. ولننظر كيف كان حال الدعاة فيما مضى، حينما كانت الأمة في عزها وقوتها: في عهد السلطان (سليمان القانوني) أُعلن عن وظيفة إمام مسجد خالية... أتدرون ماذا كانت الشروط المطلوبة في اختيار المرشح؟!
1- أن يجيد اللغة العربية والتركية والفارسية واللاتينية.
2- أن يكون دارسا وفاهما للقرآن الكريم والإنجيل والتوراة.
3- أن يكون عالما في الشريعة والفقه والسيرة النبوية وتاريخ الإسلام.
4- أن يكون عالما في الرياضة والطبيعة.
5- أن يجيد ركوب الخيل والمبارزة بالسيف للجهاد.
6- أن يكون حسن المظهر.
7- أن يكون جميل الصوت.
8- قبل هذا وبعده: أن يكون قدوة حسنة وأسوة صالحة.
هذه هي الشروط المطلوب توافرها في الداعية كما جاء ذلك في الإعلان التركي قبل أربعمائة سنة!! [9]
ثالثا: ويرتبط بما سبق، ضرورة مطابقة العلم للعمل بالنسبة لمن يتصدى للعمل في مجال الدعوة. فالعمل متمم للعلم، فهو ثمرة العلم، ودليل على صدق الداعية. ولعل هذا هو السر في عقم جهد بعض الدعاة. إنه طيلة حياته يتكلم دون أن يرى أثرا يذكر من تغير اجتماعي أو تغيير في الأفراد. ولخطورة مخالفة القول الفعل، حذرنا الله منه، فقال - تعالى -: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا َلا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا َلا تَفْعَلُونَ "[ الصف: 2-3 ]. [10]
رابعا: تصميم برامج وأفلام تخاطب فئة الأطفال والمراهقين يتم بثها على الفضائيات الإسلامية. فالأطفال والمراهقون هم أكثر الفئات العمرية احتياجا لوجود القدوة في حياتهم، نظرا لاحتياجهم الشديد في هذه المرحلة العمرية لمن يقلدونه. كما أنهم أكثر المراحل العمرية تأثرا بمن يقتدون به. وحيث إن الساحة تزخر حاليا بوجود أفلام الكارتون الغربية التي تربي الأطفال على عادات وقيم الغرب، فإننا بحاجة لوجود مثل هذه النماذج الإسلامية في حياتنا.
----------------
[1] صحيح. رواه مسلم في صحيحه (1017/69) و(1017/70) و(1017/71)، والنسائي في سننه (2553). والرواية الأولى هي رواية مسلم، وفي أخرى له: قال: " جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم... فذكر بمعناه ". أخرجه مسلم. وأخرج النسائي الرواية الأولى، وليس عنده: " مُجتابي النمار، أو العباء "، وزاد " حفاة "، وقال: " مذهبة ". وانظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ح [4663]، 6/543-544. أما الرواية الثانية فقد رواها الترمذي في سننه وصححها (2675)، وابن ماجه في سننه (202)، وانظر جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ح [7319]، 9/523. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، 6305.
[2] د/ عمر عبد العزيز، أحاديث مقلوبة بين تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، ص: 37.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم: 4/112-113.
[4] قال السيوطي في حاشيته على سنن النسائي (5/79): (كأنه مذهبة): قال في النهاية: فإن صحت الرواية، فهو من الشيء المذهب، وهو المموه بالذهب، ومن قولهم: فرس مذهب، إذا علت حمرته صفرة، والأنثى مذهبة. وإنما خص الأنثى بالذكر، لأنها أصفى لونا وأرق بشرة.
[5] والأدق: استخرابهم!!
[6] محمد أحمد الراشد، المنطلق، ص: 238.
[7] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/90.
[8] عائض القرني، مفتاح النجاح، ص ص: 17-19.
[9] د/ عبد الودود شلبي، من شيخ أزهري إلى شيخ الأزهر: الأزهر إلى أين؟، ص ص: 133-134.
[10] د/ سعيد قابل، القدوة منهاج ونماذج، ص ص: 178-180.
6 من جمادى الأولى عام 1425 من الهجرة
الموافق في تقويم النصارى 13 من يونيو عام 2005.
http://www.saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/17)
القدوة ... القدوة !!
عبد الله البصري
ونحنُ نَستَعِدُّ لاستِقبالِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ، قَد هيَّأنا لأبنائِنا فيه كُلَّ ما يحتاجونه مِن مُستلزماتٍ دِراسيةٍ، مِن كُتُبٍ ودفاتِرَ وأقلامٍ ونحوِها، فَإِنَّ هاهُنا تساؤلاً قد يَرِدُ على أَذهانِ كثيرٍ مِنَ الآباءِ: لماذا نَستَعِدُّ في أولِ كلِّ عامٍ ونَبذُلُ ونُنفِقُ، ونُوَفِّرُ لأبنائِنا طُوالَ العامِ كلَّ ما يَطلبون، ثم نُفاجَأُ بِأَنَّ النتائجَ في نهايةِ كُلِّ فصلٍ أَضعفُ مِنَ الذي قَبلَهُ؟ ولماذا يَبدَأُ عَدَدٌ مِنَ الأبناءِ مَسيرتَهُ التَّعلِيمِيَّةَ مِنَ المتفوقين، ثم لا تمرُّ به الأعوامُ إلا وَينقُصُ تفوُّقُهُ ويَقِلُّ نَشَاطُهُ، حتى إِنه قد يُصبِحُ بَعدَ النجاحِ مخفِقًا، وبَعدَ التفوقِ مُقَصِّرًا؟ وَمَعَ أَنَّ لهذا الأمرِ أسبابًا كثيرةً مُعقَّدَةً، يحتاجُ الكلامُ عليها وتفصيلُها بحثًا طويلاً ودراسة مفصلة، إِلاَّ أَنَّ هَاهُنا مَسأَلَةً مُهِمَّةً يَنبغِي التَّنَبُّهُ لها، بل هي قاعدةٌ تربويةٌ يجبُ أَن يَعِيَها الآباءُ والأولياءُ، قَبلَ أَن يُطالِبُوا أَبناءَهم بِتَشَرُّبِ مَا يُلقِيهِ عليهم مُعلِّمُوهُم، والتِهَامِ ما يَطَّلِعون عليه في كُتُبِهِم، والنجاحِ في حياتِهِم ومُستَقبَلِ أَمرِهِم، تلكم هي مَسألةُ وُجُودِ القُدوةِ الحسنةِ، وَتَوَفُّرُ النموذجِ الحيِّ الذي يُحتذَى.
إِنَّ المعلوماتِ والقَوَاعِدَ التي يتلقَّاها الأبناءُ في محاضِنِ التربيةِ وَأَماكِنِ التعليمِ، تَبقَى رَسُومًا جَامِدَةً لا حَيَاةَ فيها ولا حِرَاكَ، فإذا هَيَّأَ اللهُ لها مَن يَنفُخُ فيها رُوحَ التَّطبيقِ مِن أبٍ أو أخٍ كبيرٍ، آتَت ثمارَها وظَهَرَت آثارُها، وَرَسَخَت في أذهانِ الطلابِ وعُقُولِهِم رُسُوخَ الجبالِ الراسيةِ، وَأَمَّا إِذَا كان المعلمون يَبنُونَ كُلَّ يَومٍ لَبِنَةً ـ وهي وللأسفِ ضَعِيفةٌ ـ ثم يَهدِمُ المجتمعُ أَلفَ لَبِنَةٍ بما يَرَاهُ المتعلمُ عَلَيهِم مِن مخالفاتٍ لما تَعَلَّمَه، فَأَنَّى لِبُنيانِ العِلمِ يَومًا أَن يَقومَ ويَرتَفِعَ؟ وَكيفَ لِصرحِ الأَخلاقِ والآدَابِ أَن يَصلُبَ ويَشتَدَّ؟
متى يَبلُغُ البُنيَانُ يَومًا تَمَامَهُ *** إِذَا كُنتَ تَبنِيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ
أَرَى أَلفَ بَانٍ لا تَقُومُ لِهَادِمٍ *** فَكَيفَ بِبَانٍ خَلفَهُ أَلفُ هَادِمِ
كَيفَ يحافِظُ الولدُ على الصلاةِ وَأَبوهُ لها مِنَ المهملين؟ كيف يخِفُّ لأداءِ صلاةِ الفجرِ مَعَ الجماعةِ وأبوه عنها مِنَ المتكاسلين؟ متى يَتَعَلَّمُ الصِّدقَ في القَولِ والوَفَاءَ بِالوَعدِ ، وهو يَرَى وَالِدَهُ يَكذِبُ ويخُلِفُ؟ متى يَعي حُرمَةَ الغِشِّ وَوَالِدُهُ يَغُشُّ في بَيعِهِ وشِرائِهِ ومعاملاتِهِ؟ وَمَن هذا الطالبُ الذي سَيُكرِمُ جَارَهُ، وَوَالِدُهُ وجارُهُ مُتلاحِيَانِ مُتَخَاصِمَانِ ؟ وَأَيُّ طَالِبٍ سَيُطَبِّقُ مَا تَعَلَّمَهُ عَن صِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَبوهُ مُصارِمٌ لأَخيهِ مُقاطِعٌ لِبَني عَمِّهِ وأقاربِهِ؟ وهل سَيَعرِفُ أبناؤُنا حُقُوقَ إِخوانِهِم المسلمين، أو يقدرون أَنظِمَةً ويَعمَلُون بِتَعلِيمَاتٍ، أو يحافظون على مُقَدَّراتٍ، وَنحنُ نُعَوِّدُهُم عَلى أَضدَادِ ذلك؟!! إِنَّهُ لأَمرٌ يَتَقَطَّعُ منه القَلبُ أسًى، أَن نَكونَ ـ نحنُ الأَوليَاءَ ـ أَوَّلَ العَقَبَاتِ التي يَصطَدِمُ بها أَبناؤُنا بَعدَ خُرُوجِهِم مِن مُؤَسَّسَاتِ التعليمِ ومَعَاهِدِ الدِّرَاسةِ، حتى لَكَأَنَّنَا نَقُولُ لهم بِلِسانِ حَالِنا: يَكفِيكُم حِفظُ مَا تَعَلَّمتُمُوهُ في عُقُولِكم، ثم تفريغُهُ على أوراقِ الإجابةِ في الاختباراتِ، ولا يهمُّنا بَعدَ ذلك طَبَّقتُمُوهُ أَم أَهملتُمُوهُ!!
وَأَمَّا حِينَ يَكونُ المعلمُ هو أَوَّلَ الهادِمِينَ، بما يَلحَظُهُ طلابُهُ مِن فَرقٍ بَينَ مَا يَقُولُهُ في المدرسةِ وما يَعملُهُ خارجَها، وبما يَرَونَهُ مِن مُفَارَقَاتٍ بَينَ أَوَامِرِهِ المِثالِيَّةِ مُعَلِّمًا في الفصلِ، وَتَصَرُّفاتِهِ المُغايِرَةِ مُوَاطِنًا يمشِي في الشَّارِعِ أو في السوقِ، وكأنه لا يَعرِفُ ممَّا كان يُلقِيهِ في دُرُوسِهِ شَيئًا، فَإِنَّ تِلكَ هي أَكبرُ خَطِيئةٍ يَرتكِبُها في حَقِّ مجتمعِهِ، وَأَعظَمُ ذَنبٍ يَقترِفُهُ ويُهَوِّنُُ على طلابِهِ اقترافَهُ.
يا أيها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ *** هَلاَّ لِنَفسِكَ كان ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَا *** كَيمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
وَنَرَاكَ تُصلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا *** أَبَداً وَأَنتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانهَهَا عَن غَيِّهَا *** فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقتَدَى *** بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَّعلِيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ *** عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
إِنَّهُ مَا لم يَكنْ هُنَاكَ تَوَافُقٌ بَينَ العِلمِ وَالعَمَلِ، وَتَنَاغُمٌ بَينَ التَّنظِيرِ وَالتَّطبِيقِ، وَبِيئَةٌ داخلَ المدرسةِ وخارجَها يَتَهَيَّأُ لِلمُتَعَلِّمِ فيها شَوَاهِدُ حيَّةٌ على إِمكانِيَّةِ تحقُّقِ مَا تَعَلَّمَهُ وَاقِعًا مَلمُوسًا، فَلَن يَزيدَنَا التَّعلُّمُ حِينَئِذٍ إِلاَّ مَقتًا لأَنفُسِنَا، شَاهِدُ ذلك في كِتابِ رَبِّنا، إذ يَقولُ ـ - سبحانه - ـ: " يَا أيها الذين آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ. كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُون " لَقَد كان كثيرٌ مِن أَجدَادِنا وَآبائِنا وَهُم على جَانِبٍ مِنَ العِلمِ قَليلٍ، كَانوا خَيرًا مِن كَثِيرٍ مِن أَبنائِنا اليَومَ، الذين لا نُسَمِّيهِم مُتَعَلِّمِينَ، وَلَكِنْ يحِقُّ أَن نَسِمَهُم بِأَنصَافِ المُتَعَلِّمِينَ، لأنهم اكتفوا مِنَ العِلمِ بِحِفظِهِ، وَمِن قَوَاعِدِهِ بِاستِظهَارِهَا ، ولم تحظَ أَرضُ الوَاقِعِ مِنهُم بِتَطبِيقٍ وتحقِيقٍ.
فَيَا أيها الآباءُ والأولياءُ والمعلمونَ،، القُدوَةَ القُدوَةَ، وَيَا أيها الأَبناءُ، التَّطبِيقَ التَّطبِيقَ لما تَعَلَّمتُم، فَإِنَّ قليلاً مِنَ العِلمِ مَعَ العَمَلِ وحُسنِ الأَدَبِ، خيرٌ مِن كثيرٍ مِنَ العِلمِ بِلا عَمَلٍ، وَ مَا نَقَصَ اليَهودَ عِلمٌ إِذْ مَقَتَهُمُ اللهُ وغَضِبَ عَلَيهِم، وَإِنما لأنهم عَلِمُوا فَلَم يَعمَلُوا، وَتَعَلَّمُوا فَلَم يُطَبِّقوا، وَعَرَفُوا فَلَم يَلزَمُوا، بل تحايَلُوا على مخالَفَةِ الأَوَامِرِ وارتكابِ النواهي، وَاقتَرَفوا المَعَاصِيَ وهُم يَعلَمُونَ.
أيها الآباءُ والمعلمون، إِنَّ الأبناءَ يُولَدُونَ وَهُم على الخيرِ مَفطُورُونَ، وَعَلَى اتِّباعِ الحقِّ مجبولُون، قُلُوبُهُم طَاهِرَةٌ ، وَصُدُورُهُم مُنشَرِحَةٌ، وَنُفُوسُهُم على الخيرِ مُقبِلَةٌ، ونحنُ الذينَ نملِكُ تَثبِيتَ تِلكَ الفِطرَةَ أَو تَغيِيرَهَا، قال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: " كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يمُجِّسَانِهِ أَو يُنَصِّرَانِهِ " فَمَاذَا نحن فاعلون؟! هل سَنعمَلُ على تَثبِيتِ فِطرَةِ اللهِ التي فُطِرَ أَبنَاؤُنا عَلَيهَا بجَعلِ أَنفسِنا قُدوَةً لهم في الخيرِ وتَسييرِهِم على الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ؟ أَم سَنترُكُهُم يَتَّبِعُونَ السُّبُلَ المُغوِيَةَ المُضَلِّلَةَ فَتَفَرَّقَ بهم عن السَّبِيلِ؟
أيها الأبُ الكريمُ والوالدُ الرحيمُ، إِنَّكَ لا تَتَعَامَلُ مَعَ بهائمَ في مَشرُوعِ تَسمِينٍ، فَتَكتَفِي بِمَلءِ بُطُونِ أَبنَائِكَ وَكُسوَتِهِم وتَوفِيرِ المأوى لهم، وَلستَ جَلاَّدًا تَلجَأُ إِلَيكَ الأُمُّ حِينَمَا تَعجِزُ عَن أَبنَائِهَا، لِتَصُبَّ جَامَ غَضَبِكَ عَلَيهِم، لَكِنَّكَ مُرَبٍّ فَاضِلٌ وَمُوَجِّهُ قَدِيرٌ، أَو هَكَذَا يجِبُ أَن تَكونَ، بَل إِنَّكَ أَنتَ المعلِّمُ الأَوَّلُ والمُربِّي الأَسَاسُ، وَإِذَا أَنتَ لم تُحسِنِ التَّربِيَةَ وَالتَّأدِيبَ لأَولادِكَ وهم لا يَتَجَاوَزُونَ خمسَةً أو سِتَّةً، فَلا تَلُمْ مُعَلِّمًا يُدَرِّسُ في الفصلِ عِشرِينَ طالبًا أو ثلاثِينَ، أو مُدِيرًا في مَدرسَتِهِ عَشَراتٌ مِنَ الطلابِ، هُم مِن بُيُوتٍ مختلفةٍ، وَنِتَاجُ تَربِيَاتٍ مُتَغَايِرَةٍ، فِيهِم الكبيرُ والصغيرُ، وَمِن بَينِهِم وَلَدُ الغَنيِّ وابنُ الفَقِيرِ، وفِيهِم مَن فَقَدَ أُمًّا أَو أَبًا، وَمِنهُم المَرِيضُ أَو المُصابُ، فَاعرِفْ دَورَكَ وَافهَمْ مُهِمَّتَكَ، كُن بِأَبنَائِكَ رَحِيمًا شَفِيقًا، وفي تَعَامُلِكَ مَعَهُم وَدُودًا بَشُوشًا، قَوِّ العِلاقَةَ بَينَكَ وبَينَهُم، وَاشدُدْ حِبالَ الأَوَاصِرِ بهم، رَبِّهِم قَبلَ أَنْ تُطالِبَ غَيرَكَ بِتَربِيَتِهِم، ولُمْ نَفسَكَ قَبلَ أَن تَلُومَ الآخَرِينَ، صَاحِبْهُم وَحَافِظْ على فِطَرِهِم سَلِيمَةً وَأَخلاقَهُم حَسَنَةً، قَبلَ أَن يَتَلَقَّفَهُم أَصدِقاءُ السُّوءِ وَأَصحَابُ الفَسَادِ، فَيُغَيِّرُوا فِطَرَهُم وَيَعِيثُوا بِأَخلاقِهِم، تَذَكَّرْ أَنَّكَ أَنتَ المَسؤُولُ الأَوَّلُ عَنهُم قَبلَ المدرسةِ ومن فيها، يَقولُ اللهُ ـ - سبحانه - ـ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ " ويقولُ ـ - سبحانه - ـ: "وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسْأَلُكَ رِزقاً نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" ويقولُ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: "كُلُّكُم رَاعٍ وكُلُّكُم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ" ويقولُ: "كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضَيِّعَ مَن يَعُولُ" ويقولُ: "إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَجُلٍ عَمَّا استرعَاهُ أحفِظَ ذلك أَم ضَيَّعَهُ حتى يَسأَلَ الرَّجُلَ عَن أَهلِ بَيتِهِ" ويقولُ: "مُرُوا أَولادَكم بِالصَّلاةِ لِسَبعٍ وَاضرِبُوهُم عليها لِعَشرٍ".
إنَّكم ـ أيها الآباءُ ـ لم تُقَصِّرُوا في وَاجِبِ النَّفَقَةِ على أَبنَائِكم، لا في طَعَامٍ ولا كِسَاءٍ، ولا مَأوًى ولا دَوَاءٍ، رَبَّيتُمُ الأَجسَادَ وَسمَّنتُمُ الأَجسَامَ، أَركبتُمُوهُمُ السَّيارَاتِ، وَملأتم جُيُوبَهُم بِالرِّيَالاتِ، وَأنتُم على ذلك إِذَا اقتصدتم وَتَوَسَّطتُم مَأجُورُونَ مُثابون، قال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: "أَفضَلُ دِينَارٍ يُنفِقُهُ الرَّجُلُ دِينارٌ يُنفِقُهُ على عِيَالِهِ، ودِينارٌ يُنفِقُهُ على دَابَّتِهِ في سَبِيلِ اللهِ، وَدِينارٌ يُنفِقُهُ على أَصحَابِهِ في سَبيلِ اللهِ" رواه مسلمٌ، وَلَه مِن حَدِيثِ أبي هُريرةَ ـ - رضي الله عنه - ـ: " دِينارٌ أَنفقَتَهُ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ أنفقتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقتَ بِهِ على مِسكِينٍ، ودِينارٌ أَنفقتَهُ على أَهلِكَ، أَعظَمُها أَجرًا الذي أَنفَقتَهُ على أَهلِكَ " فَأَللهَ أَللهَ في الأَهَمِّ والأَسمى، أَللهَ أَللهَ في الأَثبَتِ وَالأَبقَى، أَللهَ أَللهَ في تَربِيَةِ العُقُولِ وَإِصلاحِ القُلُوبِ، الأَروَاحَ الأَروَاحَ فَزَكُّوها، القُدوَةَ القُدوَةَ فَوَفِّرُوها، الأَخلاقَ الأَخلاقَ فَهَذِّبُوها، الآدَابَ الآدَابَ فَعَلِّمُوها.
يَا خَادِمَ الجِسمِ كَم تَسعَى لِخِدمَتِهِ *** أَتعَبتَ نفسَك فِيمَا فِيهِ خُسرَانُ
أَقبِلْ عَلى الرُّوحِ فَاستَكمِلْ فَضَائِلَهَا *** فَأَنتَ بِالرُّوحِ لا بِالجِسمِ إِنسانُ
رَبُّوا أَبنَاءَكُم قَبلَ التَّعلِيمِ، وَأَدِّبُوهُم قَبلَ التَّفَقُّهِ، فَإِنَّهُ لا عِلمَ إِلاَّ بَعدَ تَربِيَةٍ حَسَنَةٍ وَأَدَبٍ جَمٍّ، وَهَذَا رَبُّكُم ـ - جل وعلا - ـ يُخاطِبُ كَلِيمَهُ مُوسَى - عليه السلام - فَيَقُولُ: " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعلَيكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى. وَأَنَا اختَرتُكَ فَاستَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعبُدْني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي " لَقَد عَلَّمَهُ - سبحانه - أَدَبَ المَكَانِ فَقَالَ: " اِخلَعْ نَعلَيكَ " وَعَلَّمَهُ أَدَبَ الحدِيثِ فَقَالَ: " فَاستَمِعْ لما يُوحَى " ثم أَوحى إِلَيهِ بِأَجَلِّ عِلمٍ وَأفضَلِ فِقهٍ، وهو التَّوحِيدُ والشَّرِيعَةُ فَقَالَ: " إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعبُدني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي " وَهَذِهِ أُمُّ الإِمامِ مالكِ بن ِأنسٍ ـ رحمةُ اللهِ عليه وعليها ـ لما أرادت لابنِها أَن يَطلُبَ العِلمَ أَلبَسَتهُ أَحسَنَ الثِّيَابِ، ثم أَدنَتهُ إِلَيها وَمَسَحَت على رأسِهِ، وَقَالَت: يَا بُنيَّ، اِذهَبْ إلى مجالسِ رَبِيعَةَ، وَاجلِسْ في مجلسِهِ، وَخُذْ مِن أَدَبِهِ وَوَقَارِهِ وَحِشمَتِهِ قَبلَ أَن تَأخُذَ مِن عِلمِهِ.. - فَرحمها الله - مَا أَعقَلَهَا! عَلَّمَتهُ الأَدَبَ قَبلَ أَن يجلِسَ في مجلِسِ الطَّلَبِ. وهكذا يجِبُ أَن يَكونَ الوَالِدَانِ لابنِهِمَا، يُعَلِّمَانِهِ الأَدَبَ مَعَ مُعَلِّمِيهِ وفي مدرستِهِ، لا أَن يجعلا بَينَهُ وبَينَ ذلك سَدًّا بما يَسقِيَانِهِ مِن مَسَاوِئِ الأَخلاقِ، أو يُقِرَّانِهِ عليه مِن مَرذُولِ الطِّباعِ وَقَلِيلِ الأَدَبِ.
إِنَّنا إِذَا استَطَعنَا أَن نُعَلِّمَ أَبنَاءَنَا الأَدَبَ مَعَ مُعَلِّمِيهِم، وَأَن نَغرِسَ في قُلُوبِهِم حُبَّ كُتُبِهِم واحترامَ مَدَارِسِهِم، وَأن نَصِلَ بهم إلى مَعرِفَةِ قِيمَةِ كُلِّ ذلك، فإني كَفِيلٌ لكم بِأَن تحمَدُوا السُّرَى، وَألاَّ تَذهَبَ جُهُودُكُم سُدًى، وَأَلاَّ تَشْكُوا مِن تَدَنِّي دَرَجَةٍ أَو ضَعفِ مُستَوَى، أَمَّا حِينَ نُقَدِّمُ لِلمَدَارِسِ طلابًا بِلا أَدَبٍ، طلابًا لا يَعرِفُونَ قِيمَةَ مَا هُم عَلَيهِ مُقدِمُونَ، فَإِنما نَضَعُ بَينَ أَيدِي المُعَلِّمِينَ رَمَادًا لا جمرَ فيه، فَكَيفَ نُطالِبُهُم أَن يُوقِدُوا مِنهُ نَارًا؟ وَهَل تَرَونَ نَافِخًا في الرَّمَادِ يُوقِدُ نَارًا؟ لا ـ واللهِ ـ وَلَو نَفَخَ طُولَ عُمُرِهِ. إِنَّ حَالَ مُعَلِّمٍ مَعَ طالبٍ بلا أدب كَحَالِ مَن قَالَ:
لَقَد أَسمَعتَ لَو نَادَيتَ حيًّا *** وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لمَن تُنَادِي
وَلَو نَارًا نَفَختَ بها أَضَاءَت *** وَلَكِنْ أَنتَ تَنفُخُ في رَمَادِ
نسأل اله لأبنائنا التوفيق والسداد، والنجاح في حاضر أمرهم ومستقبله، إنه جواد كريم.
http://www.saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/18)
القدوة الحسنة
موسى محمد هجاد الزهراني
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ التَّوْبِةِ: 128]..
إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطئ عليها فضلاء ونجباء البشر ونبلاؤهم، حتى إنها لتجيب على كل ما يختلج في الفؤاد من أسئلة قد تبدو محيرة لمن لم يذق طعم الإيمان بالله - تعالى - من الذين كفروا، والغريب في الأمر أن بعض بني قومنا من المسلمين هداهم الله لا يحفلون بهذه الميزة العظيمة التي ميزنا الله بها وهي كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة وأسوة حسنة رغم أنها تمثل الرادع الفعلي عن ارتكاب ما يخل بخلق المسلم، وهي المحرك الأساس إلى الارتقاء بالذات إلي معالي الأمور وقممها السامقات.
إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنٌ يمشي على الأرض وكان خلقه القرآن، ولذلك تجد كثيراً من عامة المسلمين اليوم إذا سألتهم ولو كان ذلك بطريقة عشوائية عن: من هو قدوتك أو مثلك الأعلى؟!
لسمعت الإجابة: النبي صلى الله عليه سلم!.
أتعرف شيئاً عن سيرته؟.
فسيحدثك ولو بالقدر القليل عن سيرته - عليه السلام - من ولادته ونشأته وعبادته وشجاعته وحسن خلقه وغزواته وغير ذلك إلى الوفاة.
وإنك لتسمع من البعض أيضاً عبارة: هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وما ذلك إلاَّ دلالة واضحة على أن المسلمين عموماً لديهم الرجوع الذهني إلى القدوة المطلقة وهو النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - .. فيفعلون ما فعل وينتهون عما نهى ويخجلون من فعل شيء لم يفعله.
* * *
أين هذا من الكثرة الكاثرة في الأرض اليوم بكل في كل زمان من الكافرين على جميع أصنافهم وتنوع مذاهبهم وتنوع مذاهبهم ومشاربهم؟.
خذ مثلاً.. النصارى الموجودين اليوم.. لو سألت أحدهم أو مجموعة منهم عن قدوته في الحياة لما حار جواباً إلاَّ بعد تفكير مضطرب قد تأتي الإجابة بعده ليست كما تريد.. وينسى (المسيح - عليه السلام -) أو (يسوع كما يحلو لهم أن يعبروا) لأنه يجهل سيرته تماماً ولا يعلم منها إلا الجزء المظلم في نظرة النصرانية من أنه أحد الأقانيم الثلاثة.. ثلاثة في واحد.. وأنه ابن الإله، وهو المصلوب لإنقاذ الجنس البشري من تبعات خطيئة أبيهم آدم.. وهو الذي نزل باسم الإله تارة أو ابنه تارة أو ما إلى ذلك من خرافاتهم..
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 158]
فإذا أردت منه شيئاً يسيراً عنه ولادة عيسى - عليه السلام -.. لربما غضب منك لأنه يعلم أنك تريد تسفيه عقيدته في ابن الإله (حسب زعمهم).. وإذا أردت شيئاً من سيرته لم تسمع من فيّ الخاصة منهم إلاَّ العبارة المشهورة عن المسيح عندهم " إذا صفعك أحدهم على الخد الأيسر فأدر له الخد الأيمن ومن جاءك يريد أخذ شيئاً من مالك فأعطه مالك كله " على أنها لا سند لها من شرع ولا عقل إلاَّ إنها لا تمثل ما عليه واقع حال النصرانية المحرفة أبداً ولا يحفل قسسهم ولا باباوتهم ورهبانهم وساستهم وبوش الظالم المعتدي على أفغانستان والعراق أكبر مثال لا يحفلون بهذا النص عن المسيح عندهم ولا يُعملونه في واقعهم، وواقعهم المرّ يشهد بذلك.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سبحانه أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 171]
* * *
أين المسلمون عن شكر نعمة القدوة المطلقة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأين العمل بسنته والافتخار بها؟.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [سُورَةُ الأَحْزَابِ: 21]
وبقي أن نعلم أن القدوات ثلاثة.. القدوة المطلقة وهو الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والقدوة الثانية: من مات على الإسلام الصحيح من سلف الأمة المخلصين ومن كانت سيرته نبراساً لمن بعده كالصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان.. وعلماء الأمة الأربعة فمن بعدهم وشمسهم الوهاجة شيخ الإسلام بن تيميه.. إلى آخر عالمٍ مات منهم.. بالشرط المتقدم.
القدوة الثالثة: من يصلح الاقتداء به في هذا الزمان من الأخيار، على أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة..
ولله در الشيخ الدكتور عائض القرني على روعة وصفة لقدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، في رائعته: تاج المدائح:
أنصت لميميةٍ جاءتك من أَمَمِ **** مُدادها من معاني نون والقلم
سالت قريحةُ صبٍّ في محبتكم*** فيضاً تدفق مثل الهاطلِ العممِ
كالسيل كالليل كالفجر اللحوح غدا * يطوي الروابي ولا يلوي على الأكم
أجش كالرعد في ليل السعود ولا *** يشابه الرعد في بطش وفي غشم
كدمع عيني إذا ما عشت ذكركم *** أو خفق قلب بنار الشوق مضطرم
يزري بنابغة النعمان رونقها *** ومن زهير؟ وماذا قال في هَرِمِ
دع سيف ذي يزنٍ صفحاً ومادحه *** وتبّعاً وبني شداد في إرم
ولا تعرج على كسرى ودولته *** وكل أصْيد أو ذي هالة ٍوكمي
وانسخ مدائح أرباب المديح كما *** كانت شريعته نسخا لدينهم
رصّع بها هامة التأريخ رائعة *** كالتاج في مفرق بالمجد مرتسم
فالهجر والوصل والدنيا وما حملت **** وحب مجنون ليلى ضلة لعمي
دع المغاني وأطلال الحبيب ولا*** تلمح بعينك برقا لاح في أضم
وأنس الخمائل والأفنان مائلة *** وخيمة وشويهات بذي سلم
هنا ضياء هنا ري هنا أمل *** هنا رواء هنا الرضوان فاستلم
لو زينت لامرء القيس انزوى خجلا *** ولو رآها لبيد الشعر لم يقم
ميمية لو فتى بوصير أبصرها *** لعوذوه برب الحل والحرم
سل شعر شوقي أيروي مثل قافيتي *** أو أحمد بن حسين في بني حكم
ما زار سوق عكاظ مثل طلعتها*** هامت قلوب بها من روعة النغم
أثني على من؟ أتدري من أبجله؟ *** أما علمت بمن أهديته كلمي
في أشجع الناس قلبا غير منتقم *** وأصدق الخلق طرّا غير متهم
أبهى من البدر في ليل التمام وقل *** أسخى من البحر بل أرسى من العلم
أصفى من الشمس في نطق وموعظة *** أمضى من السيف في حكم وفي حكم
أغر تشرق من عينيه ملحمة *** من الضياء لتجلو الظلم والظلم
في همة عصفت كالدهر واتقدت *** كم مزقت من أبي جهل ومن صنم
أتى اليتيم أبو الأيتام في قدر *** أنهى لأمته ما كان من يتم
محرر العقل باني المجد باعثنا *** من رقدة في دثار الشرك واللمم
بنور هديك كحلنا محاجرنا *** لما كتبنا حروفا صغتها بدم
من نحن قبلك إلا نقطة غرقت **** في اليم بل دمعة خرساء في القدم
أكاد أقتلع الآهات من حُرَقي *** إذا ذكرتُك أو أرتاعُ من ندمي
لما مدحتك خلت النجم يحملني *** وخاطري بالسنا كالجيش محتدم
أقسمتُ بالله أن يشدو بقافية *** من القريض كوجه الصبح مبتسم
صه شكسبير من التهريج أسعدنا *** عن كل إلياذة ما جاء في الحكم
الفرس والروم واليونان إن ذكروا *** فعند ذكراه أسمال على قزم
هم نمقوا لوحة للرق هائمة *** وأنت لوحك محفوظ من التهم
أهديتنا منبر الدنيا وغار حرا *** وليلة القدر والإسراء للقمم
والحوض والكوثر الرقراق جئت به *** أنت المزمل في ثوب الهدى فقم
الكون يسأل والأفلاك ذاهلة *** والجن والإنس بين اللاء والنعم
والدهر محتفلٌ والجو مبتهج *** والبدر ينشق والأيام في حلم
سرب الشياطين لما جئتنا احترقت *** ونار فارس تخبو منك في ندم
وصُفّدَ الظلم والأوثان قد سقطت *** وماء ساوة لما جئت كالحمم
قحطان عدنان حازوا منك عزتهم *** بك التشرف للتأريخ لا بهم
عقود نصرك في بدر وفي أحد *** وعدلا فيك لا في هيئة الأمم
شادوا بعلمك حمراء وقرطبة *** لنهرك العذب هب الجيل وهو ظمي
ومن عمامتك البيضاء قد لبست *** دمشق تاج سناها غير منثلم
رداء بغداد من برديك تنسجه *** أيدي رشيد ومأمون ومعتصم
وسدرة المنتهى أولتك بهجتها *** على بساط من التبجيل محترم
دارست جبريل آيات الكتاب فلم*** ينس المعلم أو يسهو ولم يهم
اقرأ ودفترك الأيام خُط به *** وثيقة العهد يا من بر في القسم
قربت للعالم العلوي أنفسنا *** مسكتنا متن حبل غير منصرم
نصرت بالرعب شهرا قبل موقعة *** كأن خصمك قبل الحرب في صمم
إذا رأوا طفلا في الجو أذهلهم *** ظنوك بين بنود الجيش والحشم
بك استفقنا على صبح يؤرقه *** بلال بالنغمة الحرّى على الأطم
إن كان أحببت بعد الله مثلك في **** بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفى ناظري من منظر حسن ***ولا تفوه بالقول السديد فمي
* * *
بعد، فهذه كلمات يسيرة كتبتها على عجل، أثارها في صدري ما قرأته عن مقارنه الأديان [1] وتخبطاتها حاشا الإسلام.
أسأل الله أن يجعلنا من المهتدين المقتدين بالرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ويرزقنا أتباع سنته وشفاعته يوم القيامة.
--------------------
[1] انظر كتاب أستاذنا الفاضل أ د / مصطفى حلمي (الإسلام ومقارنة الأديان)..
12/5/1425هـ
http://saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/19)
مواقف تربوية .. تحت المجهر
هاشم محسن باصرة
يقول مدرس لمادة التربية الإسلامية تعودت وضع الساعة في يدي اليمنى خلافا لعادة الناس في وضعها على اليد اليسرى، وذلك حتى تأخذ اليد اليسرى راحتها في الحركة
عندما أكتب بها على السبورة ولئلا ينشغل الطلاب بالنظر إلى الساعة أثناء الكتابة، فجاءني طالب بعد فترة من بداية العام الدراسي وقال: يا أستاذ حصل نقاش بيني وبين بعض الزملاء حول لبس الساعة في اليد اليمنى أو اليسرى فقلت لهم: أن لبسها في اليد اليمنى هو السنة، وقالوا: ليس في ذلك سنة بل تلبس في إحدى اليدين فرددت عليهم: بأنك تلبس الساعة في يدك اليمنى اتباعا للسنة، ففوجئت باستدلاله بي في حجته على زملائه، ثم ابتسمت وبينت له سبب لبسي لها في اليد اليمنى ثم سألته مداعبا له: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يلبس الساعة في اليد اليمنى أم اليسرى؟ ففكر ثم ابتسم وانصرف.
علما أن قاعدة الشرع المستمرة كما قال الإمام النووي - يرحمه الله - أن ما كان من باب التكريم والتزيين استحب فيه التيامن وما كان بضد ذلك استحب فيه التياسر.
وبعد فترة دار حديث بيني وبين أحد الزملاء وهو وكيل مدرسة حول هذه الحادثة فقال: قد حصلت لي حينما كنت مدرسا حادثة طريفة تبين دقة مراقبة الطلاب لمدرسيهم حيث تعودت في نهاية كل عام دراسي عمل استبيان للطلاب عن طريقة تدريسي وملاحظاتهم حول شخصي الضعيف فتأتيني ملاحظات دقيقة جدا في أمور لم أكن القي لها بالا ومن ذلك أن طالبا كتب إنك يا أستاذ تدخل الفصل وغترتك غير منظمة أتمنى أن تكون غترتك منظمة فهذا أليق بك. يقول: فضحكت لأني فعلا كنت القي بطرفي الغترة فوق رأسي بدون عناية فتتراكم فوق رأسي كل مرة بأشكال مختلفة كأشكال السحاب في السماء ولما كنت تعودت على هذه الطريقة فلم يكن يخطر ببالي أن عين هذا الطالب مركزة على هذه الغترة أثناء الدرس وأنها ستكون جديرة بأن يسجلها ملاحظة للمدرس.
ولاشك أن حسن السمت والمظهر من آداب الإسلام فقد أورد الإمام ابن حجر في فتح الباري قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أن حسن السمت والتؤدة جزءا من ست وأربعين جزءا من النبوة)) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - .
ثم ذكر مدير المدرسة وهو مربي فاضل: قائلا لقد كنت وأنا طالب أراقب مدرسا أنيقا في ملابسه معتنيا بها حتى كنت أراقب جزمته الجميلة وكنت أتمنى أن البس مثلها في يوم ما.
وحدثت أيضا مدرسا متعينا هذا العام بقصة الساعة فأشار إلى يده وقال: إني البسها أيضا في يدي اليمنى كما كان يلبسها أستاذي وأشار إلى الرجل الجالس أمامه فابتسم الرجل وابرز يده اليمنى فظهرت الساعة.
فهل أدركت أيها المربي الفاضل إلى أي درجة أنت تحت مجهر أعين الطلاب بل وربما سائر أفراد المجتمع.
http://www.muslema.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/20)
نبي احترف صناعة النجوم
يعد سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أهم صانع نجوم ظهر في الحياة.
ذلك الرجل الذي لم يكلف أحداً من أتباعه بمهمة إلا وهو لها كفء.
احترف تفجير الطاقات واكتشاف المواهب وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
فكان يقوم بثلاث مهام: تفجير الطاقات، اكتشاف المواهب، توجيه المواهب.
يحول الفتى المدلل مصعب بن عمير إلى سفير للإسلام، تلك المهمة التي لا ينتدب لها اليوم إلا الرجال المخضرمون والمحنكون، الذين يستطيعون تمثيل بلادهم خير تمثيل.
وقد نجح فيها وباقتدار مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، كسفير مهد لأهم هجرة في التاريخ.
داعية زرع الإسلام في موطن جديد غير موطنه الذي ظهر فيه.
انظروا إلى عبقرية القائد محمد - صلى الله عليه وسلم - في توجيه المواهب، يوجه زيد بن ثابت إلى الترجمة ثم الكتابة ثم كل المهام المتعلقة بالرجل ذي المهارات التحليلية.
تخيَّلوا معي ولو للحظة ماذا لو وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت إلى القيادة العسكرية..ربما فشل وأصيب بالإحباط.
قال لنا أحد كبار المدربين: إن هناك مؤامرة شائعة بين النجوم الكبار في المجالات المختلفة.. عندما يرون نجماً صاعداً يشق طريقه بقوة فإن هم يئسوا من إحباطه كي لا ينافسهم فإنهم يستغلون حلمه بأن يشجعوه ويهيئوا له فرصة أكبر من حجمه واستعداده حتى يفشل، فإذا فشل انزوى إلى الأبد ولم تقم له قائمة بعد ذلك.
انظروا كيف يتآمر المتربعون في القمم على الصاعدين، في حين يعكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السماع لأصحابه ومشاورتهم حتى قال عنه المغرضون إنه أذن.
كان من بين أهدافه - صلى الله عليه وسلم - أن يكتشف مكامن القوة في كل شخص حتى يضعه في مكانه اللائق.
حتى إنك لتجد الصحابي الجليل لا تعرفه كتب التاريخ، إلا من خلال مهمة كلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، فنفذها على أكمل وجه.
ونتساءل: كيف برع - صلى الله عليه وسلم - في أن يختار ذلك الموهوب من بين آلاف الصحابة ليقوم بتلك المهمة وهو يعرف أنه سيقوم بها على أكمل وجه؟
والله لو لم نجد من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - صفة غير صناعة الأبطال والنجوم في كل المجالات لكفت دليلاً على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فإبرازه للرموز دون غيرة منهم.. فيه معنى التسامي الأخلاقي المطلق وإنك لعلى خلق عظيم (4) (القلم).
والاستماع للآخرين والبحث في مكامن قوتهم فيه أقصى معاني الترفع عن الكبر.
وتوجيهه - صلى الله عليه وسلم - لصحابته الكرام كلٍّ في مجال تميزه الفطري، يتضمن أفضل معاني نفع الآخرين وهل توجد مساعدة على وجه الأرض أفضل من أن تعرِّف الإنسان ذاته وتحببه فيها؟
وكل ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمثل تحدياً لكل مؤسسات تفعيل الطاقة البشرية، حيث بلغت نسبة نجاحه - صلى الله عليه وسلم - في توظيف الطاقات 100%، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - نشأ في بيئة بدوية، فهل يستطيع هؤلاء أن يأتوا بنصف هذه النسبة مع ما يتوافر لديهم من إمكانيات مادية؟!!.
http://muslema.com المصدر :
ـــــــــــــــ(1/21)
كيف نرغب أطفالنا في الصلاة ؟
منذ البداية يجب أن يكون هناك اتفاق بين الوالدين - أو مَن يقوم برعاية الطفل - على سياسة واضحة ومحددة وثابتة، حتى لا يحدث تشتت للطفل، وبالتالي ضياع كل الجهود المبذولة هباء، فلا تكافئه الأم مثلاً على صلاته فيعود الأب بهدية أكبر مما أعطته أمه، ويعطيها له دون أن يفعل شيئاً يستحق عليه المكافأة، فذلك يجعل المكافأة التي أخذها على الصلاة صغيرة في عينيه أو بلا قيمة؛ أو أن تقوم الأم بمعاقبته على تقصيره، فيأتي الأب ويسترضيه بشتى الوسائل خشية عليه.
وفي حالة مكافأته يجب أن تكون المكافأة سريعة حتى يشعر الطفل بأن هناك نتيجة لأفعاله، لأن الطفل ينسى بسرعة، فإذا أدى الصلوات الخمس مثلاً في يوم ما، تكون المكافأة بعد صلاة العشاء مباشرة.
أولاً: مرحلة الطفولة المبكرة (ما بين الثالثة و الخامسة):
إن مرحلة الثالثة من العمر هي مرحلة بداية استقلال الطفل وإحساسه بكيانه وذاتيته، ولكنها في نفس الوقت مرحلة الرغبة في التقليد؛ فمن الخطأ أن نقول له إذا وقف بجوارنا ليقلدنا في الصلاة: " لا يا بني من حقك أن تلعب الآن حتى تبلغ السابعة، فالصلاة ليست مفروضة عليك الآن "؛ فلندعه على الفطرة يقلد كما يشاء، ويتصرف بتلقائية ليحقق استقلاليته عنا من خلال فعل ما يختاره ويرغب فيه، وبدون تدخلنا (اللهم إلا حين يدخل في مرحلة الخطر)... " فإذا وقف الطفل بجوار المصلي ثم لم يركع أو يسجد ثم بدأ يصفق مثلاً ويلعب، فلندعه ولا نعلق على ذلك، ولنعلم جميعاً أنهم في هذه المرحلة قد يمرون أمام المصلين، أو يجلسون أمامهم أو يعتلون ظهورهم، أو قد يبكون، وفي الحالة الأخيرة لا حرج علينا أن نحملهم في الصلاة في حالة الخوف عليهم أو إذا لم يكن هناك بالبيت مثلاً من يهتم بهم، كما أننا لا يجب أن ننهرهم في هذه المرحلة عما يحدث منهم من أخطاء بالنسبة للمصلى..
وفي هذه المرحلة يمكن تحفيظ الطفل سور: الفاتحة، والإخلاص، والمعوذتين.
ثانياً: مرحلة الطفولة المتوسطة (ما بين الخامسة والسابعة):
في هذه المرحلة يمكن بالكلام البسيط اللطيف الهادئ عن نعم الله - تعالى - وفضله وكرمه (المدعم بالعديد من الأمثلة)، وعن حب الله - تعالى - لعباده، ورحمته؛ يجعل الطفل من تلقاء نفسه يشتاق إلى إرضاء الله، ففي هذه المرحلة يكون التركيز على كثرة الكلام عن الله - تعالى - وقدرته وأسمائه الحسنى وفضله، وفي المقابل، ضرورة طاعته وجمال الطاعة ويسرها وبساطتها وحلاوتها وأثرها على حياة الإنسان... وفي نفس الوقت لابد من أن يكون هناك قدوة صالحة يراها الصغير أمام عينيه، فمجرد رؤية الأب والأم والتزامهما بالصلاة خمس مرات يومياً، دون ضجر، أو ملل يؤثِّّّّّّر إيجابياً في نظرة الطفل لهذه الطاعة، فيحبها لحب المحيطين به لها، ويلتزم بها كما يلتزم بأي عادة وسلوك يومي. ولكن حتى لا تتحول الصلاة إلى عادة وتبقى في إطار العبادة، لابد من أن يصاحب ذلك شيء من تدريس العقيدة، ومن المناسب هنا سرد قصة الإسراء والمعراج، وفرض الصلاة، أو سرد قصص الصحابة الكرام وتعلقهم بالصلاة...
ومن المحاذير التي نركِّز عليها دوما الابتعاد عن أسلوب المواعظ والنقد الشديد أو أسلوب الترهيب والتهديد؛ وغني عن القول أن الضرب في هذه السن غير مباح، فلابد من التعزيز الإيجابي، بمعنى التشجيع له حتى تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من حياته.
ويراعى وجود الماء الدافئ في الشتاء، فقد يهرب الصغير من الصلاة لهروبه من الماء البارد، هذا بشكل عام؛ وبالنسبة للبنات، فنحببهم بأمور قد تبدو صغيرة تافهة ولكن لها أبعد الأثر، مثل حياكة طرحة صغيرة مزركشة ملونة تشبه طرحة الأم في بيتها، وتوفير سجادة صغيرة خاصة بالطفلة..
ويمكن إذا لاحظنا كسل الطفل أن نتركه يصلي ركعتين مثلا حتى يشعر فيما بعد بحلاوة الصلاة ثم نعلمه عدد ركعات الظهر والعصر فيتمها من تلقاء نفسه، كما يمكن تشجيع الطفل الذي يتكاسل عن الوضوء بعمل طابور خاص بالوضوء يبدأ به الولد الكسول ويكون هو القائد ويضم الطابور كل الأفراد الموجودين بالمنزل في هذا الوقت.
ويلاحظ أن تنفيذ سياسة التدريب على الصلاة يكون بالتدريج، فيبدأ الطفل بصلاة الصبح يومياً، ثم الصبح والظهر، وهكذا حتى يتعود بالتدريج إتمام الصلوات الخمس، وذلك في أي وقت، وعندما يتعود على ذلك يتم تدريبه على صلاتها في أول الوقت، وبعد أن يتعود ذلك ندربه على السنن، كلٌ حسب استطاعته وتجاوبه.
ويمكن استخدام التحفيز لذلك، فنكافئه بشتى أنواع المكافآت، وليس بالضرورة أن تكون المكافأة مالاً، بأن نعطيه مكافأة إذا صلى الخمس فروض ولو قضاء، ثم مكافأة على الفروض الخمس إذا صلاها في وقتها، ثم مكافأة إذا صلى الفروض الخمس في أول الوقت. (11)
ويجب أن نعلمه أن السعي إلى الصلاة سعي إلى الجنة، ويمكن استجلاب الخير الموجود بداخله، بأن نقول له: " أكاد أراك يا حبيبي تطير بجناحين في الجنة، أو "أنا متيقنة من أن الله - تعالى - راض عنك و يحبك كثيراً لما تبذله من جهد لأداء الصلاة "، أو: "حلمت أنك تلعب مع الصبيان في الجنة والرسول - صلى الله عليه وسلم - يلعب معكم بعد أن صليتم جماعة معه"... وهكذا. (10)
أما البنين، فتشجيعهم على مصاحبة والديهم (أو من يقوم مقامهم من الثقات) إلى المسجد، يكون سبب سعادة لهم؛ أولاً لاصطحاب والديهم، وثانياً للخروج من المنزل كثيراً، ويراعى البعد عن الأحذية ذات الأربطة التي تحتاج إلى وقت ومجهود وصبر من
الصغير لربطها أو خلعها...
ويراعى في هذه المرحلة تعليم الطفل بعض أحكام الطهارة البسيطة مثل أهمية التحرز من النجاسة كالبول وغيره، وكيفية الاستنجاء، وآداب قضاء الحاجة، وضرورة المحافظة على نظافة الجسم والملابس، مع شرح علاقة الطهارة بالصلاة.
و يجب أيضاً تعليم الطفل الوضوء، وتدريبه على ذلك عملياً، كما كان الصحابة الكرام يفعلون مع أبنائهم
ثالثاً: مرحلة الطفولة المتأخرة (ما بين السابعة والعاشرة):
في هذه المرحلة يلحظ بصورة عامة تغير سلوك الأبناء تجاه الصلاة، وعدم التزامهم بها، حتى وإن كانوا قد تعودوا عليها، فيلحظ التكاسل والتهرب وإبداء التبرم، إنها ببساطة طبيعة المرحلة الجديدة: مرحلة التمرد وصعوبة الانقياد، والانصياع وهنا لابد من التعامل بحنكة وحكمة معهم، فنبتعد عن السؤال المباشر: هل صليت العصر؟ لأنهم سوف يميلون إلى الكذب وادعاء الصلاة للهروب منها، فيكون رد الفعل إما الصياح في وجهه لكذبه، أو إغفال الأمر، بالرغم من إدراك كذبه، والأولََى من هذا وذاك هو التذكير بالصلاة في صيغة تنبيه لا سؤال، مثل العصر يا شباب: مرة، مرتين ثلاثة، وإن قال مثلاً أنه صلى في حجرته، فقل لقد استأثرت حجرتك بالبركة، فتعال نصلي في حجرتي لنباركها؛فالملائكة تهبط بالرحمة والبركة في أماكن الصلاة!! وتحسب تلك الصلاة نافلة، ولنقل ذلك بتبسم وهدوء حتى لا يكذب مرة أخرى.
إن لم يصلِّ الطفل يقف الأب أو الأم بجواره-للإحراج -ويقول: " أنا في الانتظار لشيء ضروري لابد أن يحدث قبل فوات الأوان " (بطريقة حازمة ولكن غير قاسية بعيدة عن التهديد)
كما يجب تشجيعهم، ويكفي للبنات أن نقول: "هيا سوف أصلي - تعالى - معي"، فالبنات يملن إلى صلاة الجماعة، لأنها أيسر مجهوداً وفيها تشجيع، أما الذكور فيمكن تشجيعهم على الصلاة بالمسجد و هي بالنسبة للطفل فرصة للترويح بعد طول المذاكرة، ولضمان نزوله يمكن ربط النزول بمهمة ثانية، مثل شراء الخبز، أو السؤال عن الجار... إلخ.
وفي كلا الحالتين: الطفل أو الطفلة، يجب أن لا ننسى التشجيع والتعزيز والإشارة إلى أن التزامه بالصلاة من أفضل ما يعجبنا في شخصياتهم، وأنها ميزة تطغى على باقي المشكلات والعيوب، وفي هذه السن يمكن أن يتعلم الطفل أحكام الطهارة، وصفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعض الأدعية الخاصة بالصلاة، ويمكن اعتبار يوم بلوغ الطفل السابعة حدث مهم في حياة الطفل، بل وإقامة احتفال خاص بهذه المناسبة، يدعى إليه المقربون ويزين المنزل بزينة خاصة، إنها مرحلة بدء المواظبة على الصلاة!!
ولاشك أن هذا يؤثر في نفس الطفل بالإيجاب، بل يمكن أيضاً الإعلان عن هذه المناسبة داخل البيت قبلها بفترة كشهرين مثلا، أو شهر حتى يظل الطفل مترقباً لمجيء هذا الحدث الأكبر!!
وفي هذه المرحلة نبدأ بتعويده أداء الخمس صلوات كل يوم، وإن فاتته إحداهن يقوم بقضائها، وحين يلتزم بتأديتهن جميعا على ميقاتها، نبدأ بتعليمه الصلاة فور سماع الأذان وعدم تأخيرها؛ وحين يتعود أداءها بعد الأذان مباشرة، يجب تعليمه سنن الصلاة ونذكر له فضلها، وأنه مخيَّر بين أن يصليها الآن، أو حين يكبر.
وفيما يلي بعض الأسباب المعينة للطفل في هذه المرحلة على الالتزام بالصلاة:
1. يجب أن يرى الابن دائماً في الأب والأم يقظة الحس نحو الصلاة، فمثلا إذا أراد الابن أن يستأذن للنوم قبل العشاء، فليسمع من الوالد، وبدون تفكير أو تردد: "لم يبق على صلاة العشاء إلا قليلاً نصلي معا ثم تنام بإذن الله؛ وإذا طلب الأولاد الخروج للنادي مثلاً، أو زيارة أحد الأقارب، وقد اقترب وقت المغرب، فليسمعوا من الوالدين: "نصلي المغرب أولاً ثم نخرج"؛ ومن وسائل إيقاظ الحس بالصلاة لدى الأولاد أن يسمعوا ارتباط المواعيد بالصلاة، فمثلاً: "سنقابل فلاناً في صلاة العصر"، و "سيحضر فلان لزيارتنا بعد صلاة المغرب".
2. إن الإسلام يحث على الرياضة التي تحمي البدن وتقويه، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله - تعالى - من المؤمن الضعيف، ولكن يجب ألا يأتي حب أو ممارسة الرياضة على حساب تأدية الصلاة في وقتها، فهذا أمر مرفوض.
3. إذا حدث ومرض الصغير، فيجب أن نعوِّده على أداء الصلاة قدر استطاعته، حتى ينشأ ويعلم ويتعود أنه لا عذر له في ترك الصلاة، حتى لو كان مريضاً، وإذا كنت في سفر فيجب تعليمه رخصة القصر والجمع، ولفت نظره إلى نعمة الله - تعالى - في الرخصة، وأن الإسلام تشريع مملوء بالرحمة.
4. اغرس في طفلك الشجاعة في دعوة زملائه للصلاة، وعدم الشعور بالحرج من إنهاء مكالمة تليفونية أو حديث مع شخص، أو غير ذلك من أجل أن يلحق بالصلاة جماعة بالمسجد، وأيضاً اغرس فيه ألا يسخر من زملائه الذين يهملون أداء الصلاة، بل يدعوهم إلى هذا الخير، ويحمد الله الذي هداه لهذا.
5. يجب أن نتدرج في تعليم الأولاد النوافل بعد ثباته على الفروض.
و لنستخدم كل الوسائل المباحة شرعاً لنغرس الصلاة في نفوسهم، ومن ذلك:
* المسطرة المرسوم عليها كيفية الوضوء والصلاة.
** تعليمهم الحساب وجدول الضرب بربطهما بالصلاة، مثل: رجل صلى ركعتين، ثم صلى الظهر أربع ركعات، فكم ركعة صلاها؟... وهكذا، وإذا كان كبيراً، فمن الأمثلة: " رجل بين بيته والمسجد 500 متر وهو يقطع في الخطوة الواحدة 40 سنتيمتر، فكم خطوة يخطوها حتى يصل إلى المسجد في الذهاب والعودة؟ وإذا علمت أن الله - تعالى - يعطي عشر حسنات على كل خطوة، فكم حسنة يحصل عليها؟
*** أشرطة الفيديو والكاسيت التي تعلِّم الوضوء والصلاة، وغير ذلك مما أباحه الله - سبحانه -.
أما مسألة الضرب عند بلوغه العاشرة وهو لا يصلي، ففي رأي كاتبة هذه السطور أننا إذا قمنا بأداء دورنا كما ينبغي منذ مرحلة الطفولة المبكرة وبتعاون متكامل بين الوالدين، أو القائمين برعاية الطفل، فإنهم لن يحتاجوا إلى ضربه في العاشرة، وإذ اضطروا إلى ذلك، فليكن ضرباً غير مبرِّح، وألا يكون في الأماكن غير المباحة كالوجه؛ وألا نضربه أمام أحد، وألا نضربه وقت الغضب... وبشكل عام، فإن الضرب(كما أمر به الرسول الكريم في هذه المرحلة) غرضه الإصلاح والعلاج؛ وليس العقاب والإهانة وخلق المشاكل؛ وإذا رأى المربِّي أن الضرب سوف يخلق مشكلة، أو سوف يؤدي إلى كره الصغير للصلاة، فليتوقف عنه تماماً، وليحاول معه بالبرنامج المتدرج الذي سيلي ذكره...
ولنتذكر أن المواظبة على الصلاة - مثل أي سلوك نود أن نكسبه لأطفالنا - ولكننا نتعامل مع الصلاة بحساسية نتيجة لبعدها الديني، مع أن الرسول صلى الله - تعالى - عليه وسلم حين وجهنا لتعليم أولادنا الصلاة راعى هذا الموضوع وقال "علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر"، فكلمة علموهم تتحدث عن خطوات مخططة لفترة زمنية قدرها ثلاث سنوات، حتى يكتسب الطفل هذه العادة، ثم يبدأ الحساب عليها ويدخل العقاب كوسيلة من وسائل التربية في نظام اكتساب السلوك، فعامل الوقت مهم في اكتساب السلوك، ولا يجب أن نغفله حين نحاول أن نكسبهم أي سلوك، فمجرد التوجيه لا يكفي، والأمر يحتاج إلى تخطيط وخطوات وزمن كاف للوصول إلى الهدف، كما أن الدافع إلى إكساب السلوك من الأمور الهامة، وحتى يتكون، فإنه يحتاج إلى بداية مبكرة وإلى تراكم القيم والمعاني التي تصل إلى الطفل حتى يكون لديه الدافع النابع من داخله، نحو اكتساب السلوك الذي نود أن نكسبه إياه، أما إذا تأخَّر الوالدان في تعويده الصلاة إلى سن العاشرة، فإنهما يحتاجان إلى وقت أطول مما لو بدءا مبكرين، حيث أن طبيعة التكوين النفسي والعقلي لطفل العاشرة يحتاج إلى مجهود أكبر مما يحتاجه طفل السابعة، من أجل اكتساب السلوك نفسه، فالأمر في هذه الحالة يحتاج إلى صبر وهدوء وحكمة وليس عصبية وتوتر..
ففي هذه المرحلة يحتاج الطفل منا أن نتفهم مشاعره ونشعر بمشاكله وهمومه، ونعينه على حلها، فلا يرى منا أن كل اهتمامنا هو صلاته وليس الطفل نفسه، فهو يفكر كثيرا بالعالم حوله، وبالتغيرات التي بدأ يسمع أنها ستحدث له بعد عام أو عامين، ويكون للعب أهميته الكبيرة لديه، لذلك فهو يسهو عن الصلاة ويعاند لأنها أمر مفروض عليه و يسبب له ضغطاً نفسياً... فلا يجب أن نصل بإلحاحنا عليه إلى أن يتوقع منا أن نسأله عن الصلاة كلما وقعت عليه أعيننا!!
ولنتذكر أنه لا يزال تحت سن التكليف، وأن الأمر بالصلاة في هذه السن للتدريب فقط، وللاعتياد لا غير!! لذلك فإن سؤالنا عن مشكلة تحزنه، أو همٍّ، أو خوف يصيبه سوف يقربنا إليه ويوثِّق علاقتنا به، فتزداد ثقته في أننا سنده الأمين، وصدره الواسع الدافىء... فإذا ما ركن إلينا ضمنَّا فيما بعد استجابته التدريجية للصلاة، والعبادات الأخرى، والحجاب
رابعا: مرحلة المراهقة:
يتسم الأطفال في هذه المرحلة بالعند والرفض، وصعوبة الانقياد، والرغبة في إثبات الذات - حتى لو كان ذلك بالمخالفة لمجرد المخالفة- وتضخم الكرامة العمياء، التي قد تدفع المراهق رغم إيمانه بفداحة ما يصنعه إلى الاستمرار فيه، إذا حدث أن توقُّفه عن فعله سيشوبه شائبة، أو شبهة من أن يشار إلى أن قراره بالتوقف عن الخطأ ليس نابعاً من ذاته، وإنما بتأثير أحد من قريب أو بعيد. ولنعلم أن أسلوب الدفع والضغط لن يجدي، بل سيؤدي للرفض والبعد، وكما يقولون "لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه" لذا يجب أن نتفهم الابن ونستمع إليه إلى أن يتم حديثه ونعامله برفق قدر الإمكان.
17-4-1425 هـ
http://mynono.hawaawoصلى الله عليه وسلمld.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/22)
كونوا قدوات
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
• كيف تطالب أبناءك بأن يتحكموا في أعصابهم، وأنت عاجز عن ذلك حتى وأنت تناقش معهم هذا الموضوع فقد تكون مغضباً.
• الرسائل غير المباشرة أمضى وأقوى من التوجيه المباشر، مع الحاجة إليهما، فمثلاً: حسن علاقتك بزوجتك يؤدي دوراً عظيماً في حياة أبنائك، هدوؤك وحسن تصرفك والقدرة على الاستماع أولى من عشر محاضرات في الموضوع، تنظيمك لوقتك، ودقة مواعيدك ومبادرتك إلى ما يخصك دون أن تعتمد على الأوامر أقوى من دروس وجدال، إذا أمرت ابنك بعمل فلم ينجزه أن تقوم بإنجازه دون أن تنبذه بكلمة واحدة أشدّ تأثيراً من الضرب المبرح... وهلم جرا.. والحالات الاستثنائية لها علاجها.
• قلل ما استطعت من قولك لأبنائك: كنت وكنت وكان أبي، فالإكثار من ذلك سيتحول إلى سخرية بينهم، دع أعمالك الحاضرة تتحدث عن شخصيتك، فأبناؤك لا يهمهم كثيراً كيف كنت، وكيف كان أبوك، وقد لا يصدقونك، ولكن يهمهم كيف أنت الآن دون دعوى وضجيج.
• من أنجح وسائل التربية المثل والقدوة، والمحبة والإعجاب أقصر وسيلة للاقتداء والتشبه، وقدوتنا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فامتلاء قلوبنا بمحبته وقلوب أبنائنا بمحبته يدفعنا إلى التأسي به والصدور عن هديه وأخلاقه، ثم مما يعين على ذلك محبة صحابته، واختيارك أحد كبار الصحابة مثلاً لأبيك، مما ترى أن هناك توافقاً بين صفات ابنك وصفاته، فيقرأ سيرته، ويتشبع بأخلاقه، ويجعله مثلاً له بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك مؤثر في تربيته وعلو همته وتقويم سلوكه، وقل مثل ذلك في كبار قادة سلف الأمة وعلمائها، وقد يكون الاقتداء نسبياً في صفة أو خلق أو علم.
• مهما كان للقول من تأثير فإن الفعل أقوى تأثيراً وأمضى سلاحاً، وهناك من الأفعال ما يكون تأثيره سريعاً ومباشراً، وهناك ما يكون تأثيره متدرجاً وهو التأثير التراكمي، حيث إن مجموعة من الأفعال على مدى عدة أيام أو شهور أو أعوام يكون لها من التأثير ما لسواها؛ فالكرم مثلاً لا يكون بمرة أو مرتين، وإنما يعرف الكريم بكرمه إذا تكرر منه الفعل وأصبح سجية له وطبعاً، والصدق لا يوصف به من صدق يومين أو شهرين، بل يتوج به من لم يعرف بالكذب في يسر أو عسر "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً".
• تريد من ابنك أن يكون منظماً ومرتباً، ودقيقاً في مواعيده، وحازماً في إنجاز أموره، وأنت تعيش الفوضى وتمارسها "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" (البقرة: من الآية44)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف: 2). كن قدوة في نفسك، مرتباً في عملك، يرى منك ابنك في تعاملك معه ما تطالبه به، ويجدك في تعاملك مع الآخرين أسوة ومثلاً، إذا كنت كذلك فسترى ما يسرك، وإلا فعلى نفسها جنت براقش.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
15/8/1425هـ
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/23)
كيف فهم الصحابة التأسي .. ( عمر نموذجا )
د. بدران بن الحسن
-د. فريدة صادق زوزو
أهمّية التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إنّ التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي درج عليه المسلمون منذ عصر الصحابة يحتاج إلى تأمّل ونظر وتدبّر، ذلك أنّ هذا التأسّي إمّا وقع فيه إفراط أخرجه عن غايته، وإما وقع فيه تفريط أدّى إلى الطّعن في صاحب الرّسالة - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك طبعاً بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم.
كما أنّ التأسّي منذ عصر التدوين قُصِر في الغالب الأعمّ على التأسّي الفقهيّ، وما يتعلّق بالعبادات والشعائر، ولا يكاد يخرج من دائرة الحلال والحرام، ولست أدري لماذا إذا ذكرت القدوة أو التأسّي يذهب ذهن المسلم إلى اتباع السّنة بالمفهوم الذي صاغه الأصولّيون والفقهاء فيما يتعلق بالجانب التشريعيّ، رغم أنّ القرآن الكريم جاءت فيه آيات كثيرة تدعو إلى مطلق التأسّي والاقتداء. قال الله - تعالى -: (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ...) [الأحزاب: من الآية21]، وقال - عز وجل -: (... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...) [الحشر: من الآية7]، وقال - تعالى -: (... فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ... ) [النور: من الآية63]، وقال - تعالى -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
وقال - تعالى -: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...) [الجمعة: من الآية2] وغيرها من الآيات القرآنيّة الكريمة.
والمعلوم أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالإسلام، والإسلام ليس تشريعاً فحسب، بالرغم من مركزيّة قضيّة التشريع، بل هو هداية للإنسان في كل أبعاد شخصيّته.
لهذا لا بد من تأسيس علم التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث يعمل هذا العلم على دراسة واستكناه الدوائر التي يشملها التأسّي، وكيفيّته، حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - نموذجاً لكل مسلم في كل أبعاد شخصيّته؛ في رؤيته للحياة والكون، في فعاليته، في منهجيّته، في دوره كحاكم، ومربٍ، ومبلغ، وداعية، ومجتهد، وأب، و...
دور الصحابة - رضي الله عنهم في فهم التأسّي:
ولا شك أنّ بناء هذا التأسّي على أسس متينة من الفهم لحقيقة التأسّي، يقتضي معايشة الصحابة رضوان الله عنهم، وهم مقبلون بكليّتهم على استلهام النموذج النبويّ أثناء وجوده بين ظهرانيهم، وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - .
وأهمية معرفة الكيفيّة التي فهم بها الصحابة التأسّي تشكل قاعدة مركزيّة وأساساً في سبيل بناء منهج التأسّي، باعتبار أنّ الصحابة شهدوا نزول الوحي، وعاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسدّدهم ويصحح فُهُومهم وأعمالهم، ويوجّه بصائرهم إلى معاني الهداية والاقتداء، فحقّقوا صفة الخيريّة بشهادة الله ورسوله؛ الخيريّة في تحقيق الوعي؛ وعي الرسالة، والعمل، والاتباع، والطاعة، والتأسّي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فقد حافظ كل صحابي على شخصيّته المتميزة، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكلهم صوراً مكرّرة له، ولم يكونوا يريدون أنْ يكونوا صوراً مستنسخة منه، رغم تقديرهم لقيمته، وتضحيتهم في سبيله، وطاعتهم المطلقة له - عليه الصلاة والسلام -، ورغم أنّه أعاد صياغة شخصياتهم، أو بتعبير الصحابة رضوان الله عنهم: "كان رسول الله يفرغنا ثم يملؤنا".
تأسّي مجموع الصحابة يشكل نموذجاً للتأسّي الكلّي:
وفهم الصحابة للتأسّي له جانب مرتبط بشخصيّة كل منهم، وبمجموع هذه التأسّيات إنّ صح التعبير-تشكل النموذج الكلّي للتأسّي الذي صاغه الصحابة - رضوان الله عنهم - بشكل علميّ توفّرت فيه الممارسة العملية والاحتكاك بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدته وهو يبني النموذج لبنة لبنة.
ولو أخذنا أيّ صحابي كمثال أو نموذج لوجدناه يمثل أحد جوانب التأسّي الكلّي لجيل الصحابة - رضوان الله عنهم -.
وفي مقالتنا هذه نريد أن نأخذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نموذجاً نحاول من خلاله تبيّن كيف فهم الصحابة التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
نموذج التأسّي العمريّ:
واختيارنا لعمر - رضي الله عنه - يرجع لمواصفات وخصائص توفرت له تساعدنا أكثر على فهم نموذجه في الاقتداء، ذلك أنّه كان أقرب الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي بكر الصّديق - رضي الله عنه -، وأكثرهم حضوراً في تشكل الدّعوة والدّولة والأمّة، وأُتيحت له فرصة الافتاء(1)، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والوزارة في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، والخلافة لمدة تزيد على العقد من الزمن، وأنشأ من الدواوين وأحدث من العمال الكثير الكثير، وتوسعت في عهده رقعة بلاد الإسلام، وأول من جمع القرآن في المصحف (2)، وموافقاته للقرآن أشهر من أنْ تذكر.
والدارس لسيرة عمر - رضي الله عنه - ، والمطلع على مروياته، ينتبه إلى مفارقة تستحقّ التأمّل؛ فهو من جهة كثير الحضور والقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن جهة أخرى نجد أنّ مرويّاته من القلّة بحيث تُعدّ على الأصابع.
ألم يكن عمر يقدّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
ألم يكن عمر يهتمّ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
ألم يكن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
إذا كان يتبعه فكيف يجادله ويناقشه في كل أمر لا يستوعبه؟!
وما محلّ اعتبار عمر؟!
وما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، يقول به"؟!
لو كان التأسّي رواية الحديث فقط ونقل أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وملازمته دائما لما وسع عمر أنْ يتجاهل هذا، ولكان أكثر الصحابة حفظاً ورواية عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -.
ولو كان التأسّي إعمالا لما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون تفهّم لما أوسع في الاجتهاد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل وحتى في حياته كما سبق ذكره- ولما أنشأ من المصالح والدواوين ما لم يكن من قبل في مرحلة النبوّة.
ولو كان التأسّي يقتضي اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون تفهّم وتعليل ومحاولة استيعاب، لما كان من عمر أن يجادل ويناقش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المواضع، مثل: أسرى بدر، ويوم الحديبية، والصلاة على عبد الله بن أبي بن سلول، ولما كان منه أن يقترح ويبدي رأيه لرسول الله في مواضع عديدة.
ولو كان التأسّي ظاهرياً لما وسع عمر قطع شجرة الحديبية، أو أحجار منى، أو إيقاف إعطاء سهم المؤلّفة قلوبهم.
ولو كان التأسّي مناقشة كل ما يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعقله، لما كان من عمر أنْ يقول مقالته عن الحجر الأسود وهو يُقَبِّلُه، وهو يعلم أنّه يقبّله لأنّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبله، ويعلم أيضا أنّه حجر لا يضرّ ولا ينفع.
إنّ عمر - رضي الله عنه - لو لم يكن متبعاً لرسول الله ومتأسياً به لما قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنّ الحق ينطق على لسانه"(3). كما أن السلف فهموا من حديث: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ"(4) الخلفاء الأربعة، وبالأخص الشيخان؛ أبو بكر وعمر، كما جاء في الطبقات لابن سعد من حديث سفيان بن عيينة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"(5).
هذا القبول الذي لاقاه عمر من الأمّة منذ عهد الصحابة، وهذه الشهادة له من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من موضع، تجعل منه من أقرب الناس إلى النبي وسنته، مع أنّه قليل الرواية، وكثير الانجازات التي لم تكن معروفة في الأمّة قبله.
من هنا نفهم أنّ عمر - رضي الله عنه - فهم اتباع السنة والتأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به على أنّه اتباع لطريقة ومنهج وعادة (6) النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الوحي، وسيرته التي سلكها في تبليغ الرسالة وتحقيق النموذج الأمثل للاقتداء، وتحقيق هداية القرآن في الناس.
ورغم اشتراك الصحابة - رضوان الله عنهم - في أصل الاتباع إلا أنّ كل صحابّي له ميزته في اتباع السنة، شكّلت شخصيّته، وتوافقت مع روحه، فإذا كان عبد الله بن عمر يتتبّع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشيه وجلوسه واستظلاله، فإنّنا نجد عمر بن الخطاب له منهجه في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتأسّي به، يمكن لنا أنْ نعتبر أنّ منهج عمر - رضي الله عنه - في فهم التأسّي يقوم على عدة قواعد مميّزة لخطّ عمر الذي صاغه فيما بعد من تأثروا به:
قواعد منهج التأسّي العمريّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
أول هذه القواعد: أنّ عمر - رضي الله عنه - كان يعتبر الاقتداء الأمثل في حفظ كتاب الله، والانشغال به عما سواه، مستلهما ذلك من نهي رسول الله عن كتابة السنة، وأنّ السنة تحفظ بحفظ القرآن والعناية به، والعيش في رحاب القرآن كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وثانيها: أنّ عمر يتوقف ويتّبع ما كان ليس له علّة مثل تقبيل الحجر الأسود وغيرها، فإنّه لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك فعله، ولو لم يعقله لتحققه من أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا حقاً، ولا يزيد عليه، وينهى عن الزيادة على ما اكتفى عنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وثالثها: كان عمر يفهم التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورته الاجتماعيّة المعروفة كسلوك، وتتداولها الناس بينهم، وهذا معروف عن سيرة عمر وعدم تقبّله لما كان شاذاً، واعتباره للنقل العام وما يرتبط بكل الناس، وهذا المذهب هو ما تجسّد فيما بعد في عمل أهل المدينة كمستند فقهيّ في المذهب المالكيّ، حتى إنّ عمر لما جاءه أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - بحديث لم يكن معروفاً لديه طالبه بالدليل والشاهد.
رابعها: أنّ تأسّي عمر وتشبّهه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله يتشدّد في رواية الحديث، وكان من أحرص الصحابة وأكثرهم تميّزاً في الحرص على عدم التقوّل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أظنّ ذلك إلا نابعاً من وعي دقيق، وعميق من مخافة انشغال الناس برواية الحديث والافتراء أو عدم التثبّت، وترك القرآن الكريم الذي هو أصل ومستند للسنّة، وأحسب أنّ عمر بتشدّده في رواية السنة لم يكن يعني به عدم الاهتمام بالسنة، بقدر ما كان يبذر البذور الأولى للتثبّت العلميّ ومنهج نقد الرواية والجرح والتعديل الذي تحوّل فيما بعد إلى علم الحديث رواية ودراية، وحافظ على السنة، وحماها من الدّخيل والزائف، وعمر كان يعي تماماً وجوب بقاء نموذج النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحاً في أجيال المسلمين القادمة، ولا تتداخل سنته - صلى الله عليه وسلم - وسيرته مع آراء الرواة(7).
خامسها: أنّ عمر - رضي الله عنه - عايش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حالات متعدّدة؛ في الحرب والسلم، قاضياً وحاكماً، ومبلغاً وداعياً، ومجتهداً وقاضياً، وأباً، وزوجاً لابنته، وأخاً(8)، ومشرّعاً، فامتلك الفهم الذي استطاع من خلاله أنْ يصوغ منهجه في التأسّي الذي يقوم على التفريق بين مستويات التأسّي المختلفة؛ ما هو واجب الاتباع، وما هو من العادة القابلة لعدم الأخذ بها، وما هو مرتبط بالزمان والمكان والأحوال.
كما أنّه امتلك روح التأسّي التي جعلت منه يراعي روح الشريعة ومقاصدها كما يراعي أفرادها الجزئيّة، وظاهرها في التعامل مع القرآن والسنة في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، كما تجلّى في نقاشاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ويتجلّى أيضا في اجتهاداته التي أنجزها في اقتراح خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، وفي سهم المؤلّفة قلوبهم، وفي خراج أرض السواد، وفي توسعة الحرم، وفي إقراره معاوية على لباسه واتخاذه الحجب،... وغيرها.
فبالرغم من معارضته الظاهريّة للنصوص، فإنّ التأمّل الدّقيق في اجتهاداته يرى أنّها كانت صائبة، وسارت مع روح النص حيث يجب مراعاة روحه، وتوقفت عند الظاهر حيث يجب التوقّف عند الظاهر.
وختاماً: وفي ختام مقالتنا المقتضبة هذه، نودّ أنْ نؤكّد أنّ منهج التأسّي العام برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشكّل من مجموع تأسيّات كل صحابته، ذلك أن لا أحد من الصحابة ادّعى أنّه استوعب كل ما يجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشكل يغني عن الاخرين، وإلا صار هو في مقام النبيّ. كما أنّ تأسّي كل صحابّي مرتبط بشخصه إلى حد كبير(9).
ووجود الصحابة في حد ذاته له دلالة بالغة الأهميّة في دور التأسّي الجماعي للصحابة في حفظ الصورة واضحة عن كيفيّة تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الوحي، وتنزيله على واقع الناس، وتحقيق الهداية به، وتبليغه، وتحقيق النموذج القرآني في بناء الشخص، والشخصيّة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، والأمّة المسلمة.
وانفراد بعض الصحابة بالإكثار من الرواية يقابله انفراد بعضهم في جوانب أخرى من النقل العمليّ لشخصية محمد بن عبد الله الرسول، وشمائله، وطريقته، وعادته في تمثّل الوحي، والأخذ عنه في كل ما يتعلق به كمعلم للهداية.
والاقتصار على التأسّي الفقهي يحصر عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دائرة الحلال والحرام والحكام الفقهية العملية فقط، وفي مستوى واحد من التأسّي دون بقية المستويات المطلوبة من النبيّ الخاتم والرسالة الخاتمة، وهذا ما لا أظن أنّ الصحابة يغيب عنهم هذا الوعي الكلّي للتأسّي، وإلا طعنّا في الرسول ذاته لأنّه يكون قد اختار لصحبته والتبلغ عنه ناساً قاصرين، وهذا ما لم يقلْ به عاقل فضلاً عن مسلم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
----------------------------------------
(1) طبقات ابن سعد، ج2/ص334.
(2) مناقب عمر بن الخطاب، ابن الجوزي، ص126.
(3) طبقات ابن سعد، ج2/ ص335.
(4) الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والتّرمذي وحسّنه وصحّحه، انظر حجية السنة، الشيخ عبد الغني عبد الخالق، ص57.
(5) طبقات ابن سعد، ج2/ ص234.
(6) من معاني السنة في اللغة: الطريقة والعادة والسيرة، انظر: القاموس المحيط للفيروزأبادي.
(7) ذكر ذلك ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ج2/ ص120.
(8) جاء في كتب السنة والسيرة أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوه أحياناً: يا أخي.
(9) وهذا لا يدل على أنّ الصحابي يروي ما يوافق شخصيته ومنهجه، بل الرواية جزء من التأسّي، يتضمن معنى وعي نقل علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه، ولا تأثير لشخصية الصحابي بشكل يؤثر على النصّ المرويّ كما أثبتت ذلك كثير من الدلائل التاريخيّة.
13/7/1425
29/08/2004
http://www.islamtoday.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/24)
الفجوة بين جيل الآباء والأبناء .. من يردمها ؟
معمر الخليل
فيما تمر الأيام، وتتسابق السنوات في تغيير ملامح وأفكار الناس باستمرار، ينسى الآباء في كثير من الأحيان، أنهم كانوا في يوم من الأيام أطفالاً وأبناء، يتذمرون من طلبات وأوامر الآباء، ويجدون - من وجهة نظرهم- إجحافاً من الآباء بحقهم، وتقليلاً من شأنهم.
فيما يغيب عن أذهان معظم الأبناء، أنهم سيقفون يوماً أمام أولادهم، يفرضون عليهم ما يرونه -أنسب- لهم في كل شيء، ويحددون لهم الخطأ والصواب، ويقسون عليهم أحياناً.
وبين نسيان الآباء محدودية فكر الأبناء، تتجدد مشكلة مستمرة، طالما بقيت الحياة تضج بالصخب والتجدد، وهي الفجوة بين الآباء والأبناء بكل أبعادها؛ العمرية والفكرية والثقافية وما يتعلق بالعادات والتقاليد وما يرتبط بدخول تكنولوجيات جديدة وتطور على مختلف الأصعدة... وغيرها.
ورغم أن لكل عصر خصائصه، وكلٌ يرى أن عصره أكثر حساسية من غيره، فإننا نرى أن عصرنا كذلك، يتمتع بخصوصية فريدة، ساعدت في تباعد الفجوة بين الجيلين، بسبب ما دخل في عصرنا الحديث من تطور متسارع لم تشهد له الحقبات الماضية مثيلاً، وما شهده من تقارب في الزمان والمكان، وإلغاء لحواجز كثيرة ارتبط أساساً بالتكنولوجية التي حولت العالم إلى قرية.
الفجوة العمرية:
تعد الفجوة العمرية؛ أكثر الفجوات تأسيساً للاختلافات اللاحقة، فبقدر ما يبتعد جيل الآباء -زمنياً- عن جيل الأبناء، تتسع الفجوات الأخرى، وتضيق مساحة الالتقاء الفكري والثقافي وحتى اللغوي.
في الماضي، كان الشبان يتزوجون في سن مبكرة، تصاعدت مع مرور الزمن، إذ كانت الأجيال السابقة تحرص على تزويج أبناءها عند سن البلوغ، ثم في أجيال لاحقة بات الزواج في سن أكبر، بسبب اتساع المدن وتنوع المصالح وتباعد المنازل.
كانت العائلة الواحدة قد تزوج جميع أبناءها في منزل الأب، ولم يكن على الابن أن يحمل الكثير من المسؤوليات كي يكون أباً.
ومع تعقد الحياة، أصبح لزاماً على الشاب أن يؤمن منزلاً وعملاً، ما ساعد في تقدم سن الزواج.
وفي جيلنا الحالي، بات على الشاب أن يكون متحصناً بالكثير من المسؤوليات والقدرات كي يقدم على الزواج، وإن تزوّج أخّر الإنجاب لوقت لاحق ريثما تتحسن الأمور المادية!
هذا التقدم التدريجي في سن الزواج والإنجاب، أثمر عن فجوة كبيرة لم تكن في السابق موجودة بين أعمار الآباء والأبناء.
فبدل أن يكون بين الأب وابنه 15-20 عاماً كحد أقصى، بات الكثير من الآباء يبتعدون عن أبناءهم مسافة 30 سنة أو أزيد.
هذا الاختلاف الكبير في الأعمار، ولّد مسافات متباعدة من الثقافة والعادات والتقاليد والأفكار ومدخلات العصر الحديث بين الجيلين، ما ساعد في بروز أكبر للمشكلة.
الفجوات الأخرى:
تتبع العديد من المشاكل؛ الفجوة العمرية بين جيل الآباء والأبناء، حيث تظهر فجوات أخرى، كمثل:
- الفجوة الفكرية: لكل عصر طريقة تفكيره وقناعاته وأسلوب دراسة ومعلومات متوافرة، ما يساعد في خلق حالة فكرية معينة لدى أبناء الجيل الواحد، تختلف مع نظيراتها في الأجيال الأخرى.
- العادات والتقاليد: مع تغير الحياة بشكل دائم، وتبدلها، ودخول معطيات جديدة وخروج أخرى، تتغير العادات والتقاليد بشكل مستمر وهادئ ربما لا يلحظها الشخص خلال حياته، إلا أن هذا الاختلاف يظهر بشكل واضح في اختلاف العادات والتقاليد بين جيل الآباء والأبناء.
- أنماط الحياة: كذلك تتغير أنماط الحياة وأسلوب العيش، الاستيقاظ في الصباح، السهر، أهمية السيارة، لقاء الأصدقاء، مشاهدة التلفاز، ألعاب التسلية، السياحة... إلخ.
وغيرها من الاختلافات الكثيرة والعديدة، والتي قد تتوالد مع مرور الأيام.
توصيف المشكلة:
المشكلة الأساسية التي يخلقها وجود فجوات متعددة بين جيل الآباء والأبناء، تتمحور في موضوع التربية على الأغلب.
ذلك أن أكبر المهام التي توجد على عاتق الآباء، هي مهمة التربية في كل شيء، الدينية والخلقية والسلوكية والثقافية والاجتماعية.. وغيرها.
لذلك، فإن أي خلل في هذه العلاقة، يؤدي بالتالي إلى خلل في المسألة التربوية.
لذلك وفي ظل هذه الفجوة، باتت العملية التربوية، تفتقر إلى العديد من معطيات النجاح.
الدكتور محسن آل تميم (عضو مجلس الشورى) يقول: "في ظل المستجدات المعاصرة أصبح جيل الشباب يواجه بحراً متلاطماً من الأفكار والرغبات والتحديات، وما يسببه ذلك من ضغط نفسي كبير، ومع أن هذا يستلزم تكثيف الجهود التربوية والتوعية والمزيد من التفهم لمعاناتهم.
كما أن ازدياد مستوى القلق والتوتر لدى الآباء والمربيين أدى إلى افتقار الحوار الهادئ والمجادلة بالتي هي أحسن، مما زاد في اتساع الفجوة بين الآباء والمربيين من جهة وبين الشباب من جهة أخرى".
إن الفجوات الموجودة بين جيل الآباء والأبناء تؤدي إلى جملة كبيرة من المشاكل، يذكر الشيخ فهد العماري، (القاضي في محكمة جدة) بعضاً منها:
- جمود العواطف بين الآباء والأبناء.
- الانشغال عن الآخر (كل مشغول بنفسه، ويفكر بحياته ونجاحه).
- عدم المبالاة والاهتمام، وعدم وجود الثقة.
- التحطيم بالنقد، وعدم وجود المديح المنضبط.
- عدم وجود المزاح المنضبط.
- الشعور لدى الأبناء أن الأبوين فاقدين لحسن التربية والفهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
- التفكك الأسري.
- عدم المشاركة في المناسبات.
- غياب الاحترام والتقدير.
- اليأس من حالة الأبناء وتربيتهم.
- انعدام وجود القدوة من الأبناء تجاه الآباء.
وغيرها من المشاكل الكثيرة.
ردم الفجوة.. مسؤولية من؟
من الضروري البحث عن طرق لإيصال الرسالة التربوية من الآباء لأبنائهم على أكمل وجه.
يرى الأستاذ عبد الله الآنسي من الطائف، أن على الآباء التعامل بشكل مناسب مع الأبناء، وبطريقة يُحترم فيها حق الأبناء في الاختلاف وإبداء الرأي. ويضيف: " وهذا يتطلب:
ـ تفعيل دور الأسرة للقيام بدورها خاصة تنمية الوعي الديني.
- توفير البيئة المدرسية المناسبة لتطوير الشخصية وإشباع الحاجات لتطوير الفكر والإبداع.
ـ وضع رؤية واضحة ووسيلة جديدة لتأصيل مفهوم الانتماء والوطنية تتناسب مع ظروف العصر.
ـ التحضير لكل مرحلة من مراحل النمو بتعهد الجوانب المختلفة لهذه التغيرات بوضع برامج متابعة لتعديل السلوك ولنشر الثقافة التربوية والصحية والاجتماعية.
ـ إقامة لجان لحماية الأبناء الذين يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي والجنسي داخل الأسرة أو خارجها".
فيما تقول إحدى الأخوات:
"الحل في الصحوة، إن يصحو كل فرد مسؤول عاقل راشد بالغ من غفلته ويدرك مهمته وينجزها بإخلاص وأمانة، وليطرد التبعية والتخلف والانقياد الأعمى نحو الهاوية.
فيدرك الأب مسؤوليته ويلملم جراح الغفلة ويُصلح ما قد فسد ويشارك بكل جدية في تربية أبنائه وإنقاذهم من كبوتهم قبل أن يقعوا في جحر الضب المُناقدين إليه بلا وعي ولا تفكير، وليكن نِعم قدوة لنعم خلف.
ولتدرك ألام عظم الأمانة التي في عنقها ولتقبل على احتضان أبنائها وبناتها ولترعاهم ولتعلم أنهم كسبها وربحها في الدنيا والآخرة، فبعزهم عزها وبفوزهم فوزها، ولتخلع ربقة الجاهلية الحديثة ولتكن نِعم الأم لأفضل بنت ونعم الزوجة لزوجها ونعم القلب الذي يسع أبناءها، ولتكن الحصن المنيع والسور الواقي الذي يقف بالمرصاد وبلا هوادة ضد كل دخيل ومتسلل إلى بيتها الآمن.
وليدرك الابن ولتدرك البنت مدى خطورة الانحراف عن المسار والجادة، ولندع اللوم جانباً ولنكن غرساً طيباً باراً نْعين آباءنا وأمهاتنا على برنا وحسن تربيتنا، ولنكن خير خلف لخير سلف وما نزرعه اليوم نحصده غداً ولنعلم أن عزنا في ماضينا وفي العلم والعمل والاستقامة ولننظر بعين ثاقبة إلى ما وصل إليه الغرب من انهيار أخلاقي وتفكك أسري وأمراض ليس لها عد ولا حصر، فهل نسير نحو الهاوية أم نقود العالم كله نحو العلياء والسمو".
أما أحد المختصين في علم الاجتماع، فيقول:
هناك ضرورة للتحلي بحسن الاستماع من أجل الحفاظ على التواصل، وأحذر من الضغط والإكراه الذي يقطع العلاقة، بل يجب وجود ثقافة حوار داخل الأسرة، وهو ما قد يوجد هي الحل".
ويتابع بالقول: " إلا أن كيفية إدارة الحوار هي التي تحدد نجاح هذا الحوار أو فشله، فغياب التحدث ''بطريقة لائقة'' مع الآباء هو سبب الأزمة الرئيس، كما أن طريقة رد الابن على سؤال أبيه حول تأخره-مثلا- هي التي ستدير الحوار فيما بعد".
" وأدعو إلى اعتماد نظرية الثواب والعقاب، وتقديم النموذج السلبي والإيجابي لأخذ العبرة، كما أعتقد أن أساس وجود الفجوة هو الابتعاد عن الدين، لذلك فالرجوع إلى تعاليم الدين الإسلامي ستساعد كثيراً الجيلين في ردم الفجوة بينهما، والاتصال السليم بما يخدم الأسرة".
6/8/1425هـ
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/25)
أطفالنا بين غياب القدوة وتفريط الراعي (وإهمال الأمانة)
تأسرني رؤية طفل بكامل براءته التي فطره الله عليها، ولكن هيهات أصبحت رؤية هؤلاء نادرة أو قليلة، فقد اغتلنا تلك البراءة، وشوهنا معالمها بأمور كثيرة قد يكون أقلها: الهيئة، واللباس، والتقليعات.
لذا نعرض هنا بعض النماذج لإهمالنا وتفريطنا في تربية أطفالنا، وفهم عالمهم، والتعامل معه؛ علَّنَا نعالج السبب والمسبب للاغتيالات المتكررة للراحلة براءة.
نماذج:
* أطفالنا جُلهم إن لم نقل كلهم يكذبون!! كيف تعلموا الكذب، وكيف عرفوا تزييف الحقائق وقد وُلِدُوا على الفطرة! بكل بساطة يا سادة إنهم يستمعون للتناقض والتزييف من والديهم أو أحدهما فيثمر التعليم، والغرس ينتج.
* من الأطفال من يتلفظ كثيراً بألفاظ نابية أو قذرة، ولا يجدون من يمنعهم أو يوجههم، بل يقابلون بالابتسامة، والإعجاب على الفصاحة وطلاقة اللسان ولو بسيئ الألفاظ.
* البعض الآخر من أطفالنا تعلقت نفوسهم بسماع الغناء، ومتابعة المسلسلات.. من السبب؟ وكيف تعودوا عليها! كان عندي طفلة تتأخر في الحضور للحلقة، سألت أختها يوماً: لم تتأخر أختك ولا تحضر معك!! قالت: أتيت وهي تشاهد المسلسل، وستأتي بعد أن ينتهي!
من علمها؟ من عودها! من وجهها؟ من رباها؟ من أدبها وحفظها عما يخدش براءتها!
* يترك الأطفال بل قد يرغمون على البقاء أمام جهاز الرائي أو الفيديو لمشاهدة الرسوم المتحركة؛ بما في بعضها من اغتيال لبراءتهم، ولما في بعضها الآخر من إعاقتهم عن مزاولة نشاطهم الطبيعي وحركتهم ولهوهم البرئ الذي يكون أحياناً كثيرة من أسباب قتل الإبداع والنبوغ والتفكير.
* بعض الأطفال قد ينعم الله عليهم في مقابل فساد أهليهم أو إهمالهم بمعلمين ومعلمات صالحين وصالحات، ويؤدون أدوارهم التربوية والتعليمية على أكمل وجه، وبطبيعة الأطفال وفطرتهم يتقبلون ويتحمسون لما يغرس في نفوسهم وعقولهم الغضة، ولكن المشكلة تكمن في عودتهم لمنازلهم، ورؤيتهم المتناقضات بين ما تعلموه من خلق ودين وعلم، وبين ما يرونه من أهليهم من تجاوز وتعدٍ لكل ما غرس معلميهم في أنفسهم الوقوف عنده، وعدم تجاوزه، وطبعاً هم يرون والديهم قدوتهم ومثلهم الأعلى؛ فبهذه التناقضات يعيش الطفل في دوامة ومتاهة لا أول لها ولا آخر، متذبذب حائر، لا استقرار لتفكيره، ولا ثقة ولا اطمئنان لمن حوله، وقد واجهنا تساؤلات الأطفال البريئة عن التناقضات التي يعيشونها ما بين (المنزل) الأسرة؛ والتي تناقض تصرفاتها المدرسة، وما يتلقون فيها من أخلاق وآداب، فما ذنب هؤلاء الأطفال ليعيشوا الازدواجية، ويعانوا منها منذ صغرهم! ولم لا نمثل لأبنائنا قدوة صالحة، ومثالاً يحتذى به أو على الأقل نتجنب فعل السوء ولو أمامهم فقط.
تقول إحدى الأخوات: كانت تأتيهم ابنة جارتهم الصغيرة وتمكث عندهم وقتاً من كل يوم، ولمّا لاحظت هذه الصغيرة أن هذه الأخت لا تشاهد الرائي سألتها مستنكرة عن السبب، فأخبرتها أنها لا تشاهده لأن الله لا يريد أن نشاهده ونسمع ما يكون فيه من موسيقى وغناء، وقد أعدّ لنا في الجنة أفضل منها إذا تركناها، المهم أن الطفلة علقت بمخيلتها الكلمات، وتذكرت منزلها والتناقض بين من كانت تراهم قدوتها وبين ما سمعت من هذه الأخت!! عادت الطفلة لمنزلها، وفي المساء كان أقاربها الشباب مجتمعين أمام الرائي، ويقلبون في القنوات الفضائية بصخبها، وضجيجها، ومنكراتها؛ فدخلت عليهم الطفلة تصرخ فيهم، وتنادي بإغلاق الجهاز، حاولوا ثنيها ولكنها ألحت، وكانت تقول لهم: حرام والله سيغضب منا، ولن ندخل الجنة، وهم يهدئونها ويحاولون إسكاتها ودون فائدة استمرت في إزعاجها لهم، وتساءلوا عن المصدر الذي علمت منه أن الرائي والموسيقى لا يحبها الله، فأخبرتهم بخبر جارتهم، فما كان من والدتها إلا أن اتصلت بوالدة هذه الأخت، وطلبت منها أن تُسكت ابنتها وتطلب منها أن تكف عن إخبار الطفلة بما يحبه الله وما يبغضه، وأنها أزعجتهم بإنكارها تصرفاتهم!! تقول محدثتي: وبعد ذلك لم أرها إطلاقاً، وسمعت عنها فيما بعد عندما كبرت ما لا يسر مسلم غيور.
* طفلة لم تبلغ السادسة كل حديثها عن الزواج والعريس والعروسة بغض النظر عن كونها تردد ما لا تدرك ماهيته، ولكن لم تشغل طفلة بهذه الأمور الكبيرة والتي تغتال براءتها! وتسمع التعليقات عليها يميناً وشمالاً من أقاربها بأحد الشباب المراهقين، وكانت تستنكر، وعندما سافر الشاب تأسفت عليه، وقالت: سافر قبل أن أتزوجه!!
هذا أنموذج آخر لاغتيال براءة أطفالنا، بل لانتهاكها.
* العام الماضي قرأت في منتدى الحصن النفسي موضوعاً لمعلمة تطلب فيه الحل والطريقة الصحيحة للتعامل وإنقاذ طفلة في الصف الخامس الابتدائي تتعرض لتصرفات لا أخلاقية من ابن عمها الصغير؛ والذي أظنها قالت: تعلّم هذه التصرفات من الخادمة، وهي - الطفلة - بدورها تنقلها لصديقاتها!
أرأيتم أن براءة أطفالنا تغتال وتسلب منهم بسبب أقرب الناس لهم!
فأين الوالدين؟ كيف يغفل ويترك الأبناء لتغتال براءتهم بهذا الشكل المقزز!
* يحدث كثيراً شجار وخصام بين الوالدين على مرأى ومسمع من الأطفال، والذين بدورهم تهتز ثقتهم بمصدر الأمان والثقة بالنسبة لهم، ويصبح الأمر صعب على أذهانهم كثيراً أن تستوعبه، فمن المخطئ؟ والدهم الذي يسعى لأجلهم، ويوفر لهم كل شيء،، أم والدتهم التي تحنو عليهم، وتطعمهم وتلبسهم!!
بل لا نبالغ إذا قلنا أن أكثر المشاكل النفسية للطفل سببها الوالدين؛ وخاصة الخوف والقلق الذي يكون مصدره فقدان الطفل للشعور بالأمن بين أبويه.
* عند لحظة غضب من أحد الوالدين - وغالباً الأم - يسمع الأبناء تفريغ شحنات هائلة من الشتائم، وإنكار فضل الأب وجميله طوال العمر، ووصفه بكل قبيح وسيئ، وذلك أحياناً كثيرة لحظة تهورٍ وغضب تزول سريعاً عن الأم، ولكن آثارها لا تزول في نفوس الأطفال الذين تغيرت نظرتهم المثالية لوالدهم!!
* تطالعنا بين فينة وأخرى ملابس وتقليعات غريبة صارخة لا تناسب إطلاقاً براءة أطفالنا، وتعاليم ديننا الفطرية، ومع ذلك نصر على اغتيال براءتهم وجمالهم بتكفينهم بهذه الملابس، وهنا أتساءل ما الجمال الذي يشاهده أولياء هؤلاء الأطفال بهذه التقليعات والموضات التي تغتال جمال الأطفال الحقيقي الذي يتجسد ببراءتهم ولو كان لباسهم يخلو من الغرابة والتقليعات!
* اصطحاب كثير من الأسر لأطفالها في أماكن الفساد واللهو، وإطلاعهم على الفساد، وتعويدهم عليه منذ الصغر، كما أننا نخطئ كثيراً باصطحاب الأطفال للمناسبات أو الحفلات الاجتماعية التي تخالف تربيتنا لأطفالنا، والتي تولد بعقولهم تناقضات بين ما يرون وما يغرس في نفوسهم، فحفلات غناء ورقص وعري وضياع وقت ماذا ستكون نتائجها وآثارها على الأطفال؟
المصدر : http://www.صلى الله عليه وسلمiyadhedu.gov.sa/alan/fntok/dawh/0/0/047.htm
ـــــــــــــــ(1/26)
القدوة غرس الأخلاق من المهد
أ/ مي حجازي
السؤال:
أما بعد: فأنا لدي ابنة وحيدة عمرها 8 أشهر، ولقد سمعت أن أول 7 سنوات من عمر الطفل هي أهم فترة يتم فيها إكساب الطفل المبادئ والقيم والأخلاق الحميدة.
والسؤال: كيف أعلم ابنتي القيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية وعمرها 8 أشهر؟ وهل يمكن أن ترشدوني إلى أسماء كتب أو مواقع على الإنترنت لقراءتها تخص هذا الموضوع؟
والسؤال الآخر بارك الله فيكم: زوجتي حامل بالشهر الثالث وابنتي ترضع منها، فهل هذا يؤثر على ابنتي أو على زوجتي أو على الجنين؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أيها الأب الفاضل، ومرحباً بأسرتك - بارك الله لك فيهم، وأعانك وزوجتك على تحمل مسئولياتكما الجسام -، ولا بد أن أذكرك وزوجتك بالدعاء المتواصل لجنينكما في تلك الأيام المباركات؛ فمما ثبت من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجنين يكتب له رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد بعد الشهر الرابع من الحمل (120 يوماً)؛ فعسى الله بدعائكما المجاب - إن شاء الله - أن يكتب هذا الجنين من السعداء، ومن أهل الجنة.
وأبدأ ردي على سؤالك بقول ماري كوريللي؛ إذ تقول: "ما من مجتمع راق خير استطاع أن يصل إلى تحقيق المثل العليا إلا اشتركت في تحقيقه ورفع صرحه أم عظيمة"، ويقول جورج هربرت: "أم صالحة خير من مئة أستاذ"، ولعل تلك الكلمات تمهد الطريق أمامي لأوجز إجابتي على سؤالك في جملتين - يأتي تفصيلهما لاحقاً - لتعلم أن تعليم طفلتك قواعد السلوك الطيب والقيم والأخلاق الإسلامية يتم من خلال:
- العلاقة الدافئة بين الطفلة وأسرتها.
- الحب غير المشروط الذي يمنح للطفلة وبالأخص من أمها.
لقد أصبت يا أخي حين أكدت على أن أهم 7 سنوات في حياة الطفل هي سنواته السبع الأولى التي يبنى فيها أساس هذا الصرح الإنساني الذي يكتمل بناؤه بعد ذلك بحسب قوة أساسه الذي تأسس في تلك السنوات السبع، ولعل هذا ما أكد الحديث النبوي على سبل استثماره من خلال الملاعبة، ولو تأملت الحديث معي لوجدت الأمر من النبي بأن يلاعب المربي ابنه - أي يلعب معه - ليس أن يتركه يلعب وحسب، ففي الملاعبة تقوية لأواصر الحب والمودة، والحنان والصداقة، وسبيل لتشرب الطفل الصفات الأساسية، وأخلاق من يلاعبه؛ من خلال العشرة الطيبة في لحظات اللعب المرحة المثمرة.
ومما لا شك فيه أن الطفل من سن 8 شهور وربما أقل يكون لديه ما يشبه الرادار الذي يلتقط ما حوله من مشاعر وانفعالات، ويحسها ويتجاوب معها حتى قبل أن ينضج عقله، وهو ما يظهر في نظرات عينيه لمن حوله، والتي تنطق عنه قبل لسانه؛ إذن فدوركما أنت وأم الطفلة هو توطين المحبة في بيتكما، وغمر طفلتكما بها وبالحنان والرفق، وبذلك تمهدان الطريق لتلقي كل توجيهاتكما؛ فالمحب لمن يحب مطيع، وكذلك فان إشعار الطفلة بكونها مرغوبة ومحبوبة وأن من حولها يسعون لإسعادها يجعلها تبادلهم نفس الشعور، فتكون أذن خير لهم.
ولعل هناك نقطة مهمة لا بد من اقتحامها بشكل أو بآخر وهي وجود مسئوليات ستداهمكما أنت وأم الطفلة في غضون شهور، وقد تثقل على كاهل الأم بالأخص؛ وهو ما يعيق ما تحدثنا عنه من دفء العلاقة التي يجب أن تحاول الأم الحفاظ عليها بفصل مشكلاتها وإحباطاتها، وكل ما يعوق استمتاعها بأمومتها؛ عن تلك العلاقة القوية، وقد تحتاج الأم بالتنسيق معك لوضع خطة دقيقة لمواجهة ما قد يواجهها من عقبات بسبب غيرة الطفلة من المولود الجديد، وستجد تفاصيل تعينكما على رسم تلك الخطة وتوزيع الأدوار فيها على كليكما فيما يلي:
- علاج الغيرة بإعادة ترتيب الأولويات.
- احموا أبناءكم من الغيرة.
ويبقى أمر مهم في مسألة تربية الطفلة على الخلق القويم ألا وهو: القدوة، فعندما يكون الوالدان نموذجاً للأخلاق من الحلم والعفو، والتعاملات الطيبة مع الناس فلا شك أن هذه الأخلاقيات والسلوكيات ستنطبع على الطفلة بشكل أو بآخر، كما أن حبها لكما - كما أسلفنا - سيدفعها دفعاً لاستمثالها، وتقليد من تحبهم.
أما بالنسبة لإرضاع الطفلة أثناء الحمل فالأمر يحتاج لمراجعة طبيبة أمراض النساء التي تتابع حمل زوجتك وحالتها الصحية، كذلك لا بد من مراجعة طبيب الأطفال لينصح بالأمثل لفطام الطفلة.
ولا شك أن الإنترنت حافلة بمقالات ومواقع وكتب عن التربية يمكن أن تفيدك في مزيد من الأفكار والتفاصيل ولتطبيقات للوصول إلى ما تبغي، وتجد بعضاً منها فيما يلي:
- مجلة ولدي.
- واحات تربوية.
وأخيراً أخي الفاضل أرجو أن نكون قد أفدناك بما يلزم، وفي انتظار متابعتك لنا بمزيد من الاستفسارات والأخبار، وشكراً جزيلاً لك، ويمكن للأم الاطلاع على ما يلي لمزيد من الخبرات عن العناية بالطفل وحسن تربيته:
- حسن التربية.. سؤال كل أم جديدة.
- دليلك إلى عالم الوالدية.
- تساؤلات سنة أولى تربية.
- دعي فطرتك تجاه طفلك تنطلق.
المصدر : http://www.islamonline.net/Taصلى الله عليه وسلمbia/Aصلى الله عليه وسلمabic/display.asp?hquestionID=4489
ـــــــــــــــ(1/27)
القدوة الغائبة !!
أحمد بن خالد العبد القادر
الخميس21 ربيع الآخر 1425هـ - 10يونيو 2004 م
لكل أمة رجالات قدموا لها وضحوا في سبيلها الكثير، كل أمة ملكت أطيافاً قدموا أرواحهم فداءً في سبيل بقائها، كل أمة ظلت في عزة ورفعة ومكانة بفضل رجالات قضوا جُلَّ أوقاتهم يسعون في تطويرها، والعمل على نجاحها، وديمومة بقائها، إنهم أولئك الرجال الذين سطروا بأفعالهم فغيروا بصنيعهم دوامة التاريخ، وحفروا لهم ذكرى في صخورها الصلدة، وجعلوا سيرتهم حية خالدة، لم يزلزلها تطور الأيام، وغربلة التطور.
إنهم أولئك الرجال الذين باتوا محلاً لتطلعات الكثيرين، ومثالاً يقتدي المتطلعون إليه في تغيير آثار التاريخ، وأن يكونوا فاعلين ومؤثرين في مجتمعاتهم، عملاً بما فعله أمجاد السالفين، والتي بقيت آثارهم حية نرقبها في كل ساعة ولحظة.
وإن من أعظم الأمم التي خرَّجت رجالات يحتلون رأس الهرم في القدوة والاتزان، والفداء في خدمة دينهم والتفاني، رجال أثروا العالم بأسره؛ فسلبوا الألباب، وكثر في عشق سيرهم الأحباب، وسارت سيرهم على الألسنة، وأخبارهم في المجلدات والكتاب، إنهم رجالات الأمة المحمدية، الذين فتحوا الدنيا فأشاعوا فيها النور بعد الظلام، وسار من بعدهم على نهجهم من تحمل تلك الشعلة المضيئة، وقد جعلوا من قبلهم أمثلة عليا كنجوم قد انتشرت في أفق السماء، فأحالوها ضياءً من بعد ظلمة قاتمة، يكفي كل واحد منهم أن نجعله قدوة وأسوة نكتسب منه مقومات الأمة المحمدية الخالدة في ركائز التاريخ.
أين أولئك الرجال الذين تزاحمت أسماؤهم في صفحات التاريخ؟ ما لي أرى سيرتهم قد انطفأت من عقول الناشئة! وذهبوا مع مساري الرياح، وقد توطن محل تلك الرجالات نماذج سوداء قاتمة، تزكم من خبيث ريحها الأنوف، وتصم لسيرهم المعتمة الأسماع.
نماذج سوداء زاحمت نماذج حسنة جميلة، وعملت بجد وحرص دون كلل ولا ملل على توطين نفسها في العقول، وأن تحل نفسها محل النماذج الخالدة، والعمل على غرسها في قلب القيم والنفس، فلا تفتأ النفس إلى تغييرها، والتطلع إلى شيء يحل محلها، مهما ظهر فارق المحاسن والمساوئ.
في كل يوم يخرج لنا أحد تلك النماذج فيضاف إلى القائمة السوداء، والتي بات لها جمهور غفير كبير يتطلع إلى تلك النماذج المدرجة ضمن القائمة القاتمة، دون أي تفكر أو تمعن في صحة المنهج، أو مدى قوامته، والسبل الناجعة والناجحة في تطبيقه، كلها أمور غابت عن المشاهد والقارئ والمتطلع، فبات اللاعب الفلاني هو قدوة البعض، والممثل الآخر يهواه قلوب محبيه فيفعلون ما يفعل حتى في أدق الدقائق هم حريصون على تطبيقها، وغابت النماذج المبدعة والتي تزخر بهم أمتنا الخالدة على مر السنين الطويلة والممتدة.
وصدف أن حصل لي موقف مع أحد الأشخاص عندما لم يعلم من هو الصحابي الذي اشتهر بلقب الفاروق!! ولكني داريت تعجبي، وبدأت أسأله في نماذج أخرى تخالف المنحى تمام الخلاف، فوجدته فيه بارعاً ومتقناً أشد الإتقان، إلى درجة أنه أدهشني أن تستوعب ذاكرته كل تلك النماذج الهزيلة، وتغيب عن ذاكرته ( العبقرية ) ولو نتف من أولئك النماذج الأطهار.
إن من الأسباب المهمة في تهاوي الأمة وتصدع بنيانها هو غياب القدوة الصالحة المشبعة لما يهوى في نفوس الشباب، والعجب أن الأمة تحتفي بكثير من تلك النماذج وتفخر بهم في مواطن كثيرة، وعلى الرغم من ذلك تغيب أسماء كثيرة عنهم وذلك لتقصير منهم، واهتمامهم المفرط في تقليد النماذج الأخرى المخالفة في المنهج والطريقة، وذلك لاختلال المفهوم الصحيح لمعنى القدوة، والتي ينبغي أن تكون مغروسة في قلب كل حريص ومثابر إلى الرقي والتطلع إلى الأفضل والأجمل.
القدوة الجميلة هي التي تتشبث بكل تفاصيلها، فلا تكاد تفارق جميل فعل فيها، ولا سلوك حسن يصدر منها؛ إلا وبادرت في تطبيقه والعمل على التخلق بأنماط تلك السلوكيات.
ولله در الأئمة البارزين في تصنيف كتب السير والأعلام، لينقلوا لنا تحفاً من النماذج المشرقة الزاهرة، ومُثُلاً عليا وضاءة باهرة، الأمر لا يتطلب منك سوى أن تفتح أي كتاب في سير أحد البارزين فتشتم من أريج سيرته العطرة ما يجبرك على فعل ما كان يفعله، ولتجد من الحلاوة والجمال ما يدفعك دفعاً إلى جعل أحد تلك النماذج الزاخرة قدوة تقوم على محاولة تقليده والتطبع بجميل فعاله.
المصدر : http://links.islammemo.cc/filz/one_news.asp?IDnews=474
ـــــــــــــــ(1/28)
القدوة الحسنة
* مفهوم القدوة الحسنة:
القدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبحاً، وإن ساراً وإن ضاراً، ولهذا قال تعالى:
(( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً )).
والأسوة أو القدوة نوعان: أسوة حسنة وأسوة سيئة، فالأسوة الحسنة الأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي أسوة سيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم: (( بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على إثرهم مهتدون )).
والمقصود هنا أن يكون الداعية المسلم قدوة صالحة فيما يدعو إليه؛ فلا يناقض قوله فعله، ولا فعله قوله.
* أهمية القدوة الحسنة:
ويمكن إجمال أهمية القدوة الحسنة في الأمور التالية:
1- إن المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب، والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلع إلى مراتب الكمال، ويأخذ يحاول يعمل مثله حتى يحتل درجة الكمال والاستقامة.
2- إن القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل والأعمال الصالحة من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
3- إن الأتباع والمدعوين الذين يربيهم ويدعوهم الداعية ينظرون إليه نظرة دقيقة دون أن يعلم هو أنه تحت رقابة مجهرية، فرب عمل يقوم به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر، لأنهم يعدونه قدوة لهم.
4- الفعل أبلغ من القول: إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به، وفي هذا أمثلة كثيرة أذكر منها:
لما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أذن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: أخرج إليهم واذبح واحلق!! ففعل فتابعوه مسرعين، فدل ذلك كله على أهمية القدوة، وعظيم مكانتها.
5- إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذر الدعاة من المخالفة لما يقولون، فبين - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف حال الدعاة الذين يأمرون الناس وينهونهم وينسون أنفسهم قال: ( أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به ).
ولا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه؛ بل يتعدى إلى كل من يدعوهم، فليحتاط الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله، وليُري الله - تعالى- من نفسه خيراً.
6- إن جمله الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - من أولهم إلى آخرهم كانوا قدوة حسنة لأقوامهم، وهذا يدل على عِطم وأهمية القدوة الحسنة، ولهذا قال شعيب - عليه السلام - لقومه: (( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )).
7- إن الناس كما ينظرون إلى الداعية في أعماله وتصرفاته ينظرون إلى أسرته وأهل بيته، وإلى مدى تطبيقهم لما يقول، وهذا يفيد ويبين أن الداعية كما يجب عليه أن يكون قدوة في نفسه يجب عليه أن يقوم أهل بيته وأسرته ويلزمهم بما يأمر به الناس، ويدعوهم إليه، ولهذه الأهمية كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: " إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة ".
* وجوب القدوة الحسنة:
(1) قال الله - جل وعلا -: (( يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ))، (( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )).
هذه الآية العظيمة تبين لنا أنا الداعي إلى الله - عز وجل - ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً، ولهذا قال بعده: (( وعمل صالحاً ))، فالداعي إلى الله - عز وجل - يكون داعية من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بأقوالهم والأعمال؛ فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم.
فالداعي إلى الله - عز وجل - من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل؛ حتى يقتدى بفعاله وأقواله.
أيضاً فإن هذه الآية الكريمة تفيد أن الدعاة إلى الله - عز وجل - هم أحسن الناس قولاً إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثر الناس بدعوتهم، وينتفعون بها، ويحبونهم عليها.
(2) قال الله موبخاً اليهود: (( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ))، فأرشد - سبحانه - في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لما يقول أمر يخالف العقل كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل.
(3) صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار؛ قتندلق أقتابه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار؛ فيقولون له: يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ).
هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم خالف قوله فعله، وفعله قوله - نعوذ بالله من ذلك -، فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية أن يعمل بما يدعوا إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه.
فينبغي للدعاة إلى الله - تعالى - أن يعنوا عناية تامة بالقرآن والسنة، فالعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة، ليعرف ما أمر الله به وما نهى عنه، ويعرف طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته إلى الله، وإنكاره المنكر، وطريقة أصحابه - رضي الله عنهم -.
وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها.
فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يعنوا بهذا الخلق، وأن يقبلوا على كتاب الله قراءة وتدبراً، وتعقلاً وعملاً يقول - سبحانه وتعالى -: (( كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا ءايته وليتذكر ألوا الألباب )).
بتصرُّف: من كتاب مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة للشيخ سعيد بن وهف القحطاني
المصدر : http://dawahwin.com/aصلى الله عليه وسلمticle.php?op=Pصلى الله عليه وسلمint&sid=210
ـــــــــــــــ(1/29)
القدوة الحاضرة الغائبة
أنوار أبو خالد
الخميس: 13- 5 - 2004 م
القدوة في التربية هي أفضل الوسائل وأقربها إلى النجاح، لأن كل وسيلة تظل حبراً على ورق ما لم تتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض، وسلوك بارز يترجم الأفكار والمشاعر.
ومن هنا تتبين ضرورة اهتمام الأبوين وكل مربّ بتربية من يعتني به ويرعاه وينشئه على الآداب الإسلامية، على أن يكون الأب والمربي قدوة حسنة، وأسوة صالحة؛ فيما يغرسه من مبادئ وأخلاق في نفس الطفل، وإلا فإن جهودكم أيها الآباء ستبوء بالفشل والندم، ففاقد الشيء لا يعطيه.
وغير واقعي أن نطلب من الطفل الالتزام بالصدق ونحن لا نمارسه أمامه، أو قد نجيبه على ممارسته من أمامنا، فالطفل في هذا السن الصغير يكون عجينة لينة سهلة التشكيل، فهو شديد التعلق بأبيه، منزَّه له من الوقوع في الخطأ، أو ارتكاب أي مزلة، فهو يرى كل أفعاله سليمة وصحيحة، ويعتبره مثله الأعلى في كل صغيرة وكبيرة.
فعلى الأب أو المربي أن يتحلى بمكارم الأخلاق والعادات الحسنة، وأن يعلم الطفل منذ نعومة أظفاره الآداب الإسلامية في جميع جوانب الحياة ابتداء من أداب إلقاء السلام عندما يدخل مكاناً أو يخرج منه، واحترام الكبير والعطف على الصغير، ويعوده على الصدق والأمانة، ثم يرتقي معه تدريجياً في هذه الأخلاق وفي زرع المبادئ الإسلامية، ثم تعليمه الفرائض والحرص على الالتزام في تطبيقها، على أن يكون ذلك بالتشجيع والثواب، وأحياناً بالتخويف من العقاب، ويتابعه في تنفيذها، فبهذا يكون الأب قد قدم للمجتمع بذرة طيبة صالحة.
ولا تنسَ أن من صميم العناية بالطفل وتنشئته على الآداب الإسلامية العناية بالصحة الجسمية والنفسية، وما يتطلب ذلك من غذاء مناسب، وتربية بدنية، ووقاية من الأمراض النفسية أو العضوية، وذلك يكون بتوفير جو أسري مناسب ينشأ الطفل فيه بعيداً عن الخلافات، فعلى الأبوين أن يشيعا في البيت كل مظاهر الارتباط بالله من الحرص على العبادات، والاعتزاز بها، والسعادة بالحرص عليها، والتعامل من خلالها؛ سواء مع من هم أصغر أو أكبر منا سناً.
وهنا مهم جداً إشراك الطفل معهم في ذلك، ومحاولة تطبيق هذه المبادئ؛ فمثلاً: مهم اصطحاب الأطفال إلى المسجد، وأن يعطى الطفل جزءاً من الصدقة ليقدمها إلى فقير حتى يشعروا بشعورهم، ويعطفوا عليهم، ويحمدوا الله على النعمة التي هم فيها، وهذا فيه تعليم تطبيقي للطفل على اتباع ما أمر الله.
وعلى الأبوين أيضاً أن يكون جزء من حديثهم الودّي مع أطفالهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ويفترض هنا أن يبينوا لهم بعض مواقفهم في الإخلاص والتضحية، والصبر والمثابرة، وحب الآخرين، وعدم الاعتداء على الآمنين.
وهنا كلما قُدّمت هذه القصص بأسلوب قصصي مشوّق كان أفضل، وتأثيره أعمق في نفسية الطفل، ودوره في تنمية الجوانب الدينية فيه أكثر.
إن توعية الطفل وتصحيح سلوكياته، أو توضيح خطأ بعض سلوكيات الآخرين مهم، وتعليم الطفل ما له وما عليه من حقوق وواجبات من ضوء ما ورد في كتاب الله، وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - خاصة إذا قُرنت بموقف من مواقف سلوكه أو سلوك الآخرين.
لا بد أن يفهم الطفل أنه عندما يعمل خيراً أو يقدم شيئاً ليس فقط لغرض الكسب مقابله؛ بل إنه يفعل ذلك لأنه يفترض أن يعمله، فإن أثابه عليه الآخرون كان جيداً، وإن لم يثيبوه عليه فإن الله يراه وهو يثيبه عليه.
كذلك على الأبوين تصحيح نظرة أطفالنا لله - سبحانه وتعالى - وذلك من خلال ذكر أسماء الله، وتفسير كل اسم، وماذا يحمل من صفات ومعانٍ، فالطفل لا يعلم إلا ما نحن نمليه عليه، ونظرة الطفل لله تكون في هذه الحدود، فهنا مهم أن نعلم الطفل كيف يحب الله، وأن يعمل ما يعمله لكسب رضا الله، ثم يتجنب عقابه، ومهم هنا أن نوضح أن الله أيضاً غفور رحيم لزلتنا ولأخطائنا وغفلاتنا، وإننا ندخل الجنة - إن شاء الله - برحمته وليس بأفعالنا فقط.
المصدر : http://wصلى الله عليه وسلمiteصلى الله عليه وسلمs.alصلى الله عليه وسلمiyadh.com.sa/kpage.php?aصلى الله عليه وسلمt=18898&ka=84
ـــــــــــــــ(1/30)
القدوة
أوزجان بشار
يرن جرس الهاتف، يلقي رب المنزل بجريدته جانباً.. يهرع الصغير نحو الهاتف ويرفع السماعة, بينما يرفع أبوه إصبعه إلى شفتيه محذراً و مشيراً إلى السماعة، الابن يحجب السماعة بيده وهو يهز رأسه مستفسراً، الأب يلوح بإصبعه يميناً ويساراً علامة أنه غير موجود قطعياً.
ويحنى الصغير رأسه علامة الفهم ثم يصيح:
بابا غير متواجد.
متى سيأتي؟
لا أعرف.
هل تعرف أين هو؟
لا أعرف.
الأمر ضروري جداً..
هنا يدرك الأب بأن المتصل ربما ليس هو الشخص الغير مرغوب فيه، فيقفز ليقول للصغير وبالإشارة أيضاً: أنة قد وصل.
فيقول الصغير: عمي الباب يطرق، أعتقد أنه أبي.. الأمر يبدو أمراً اعتيادياً جداً لذلك أتقنه الصغير وبمهارة.
الأمر هنا مرادف لأسلوب أحد أطباء علم النفس في جامعه هارفارد وهو البروفيسور "أريدا فيليبس"، وقد اشتهر هذا المحاضر بإتقان واستغلال" السيكودراما" إلى أقصى حد ممكن في محاضراته التي يحرص على أن تكون عمليه تطبيقيه أكثر من كونها تحليلية، أو سردية، أو تاريخية، وهذا المحاضر هو نفسه الذي أحدث زلزالاً شديداً بأسلوب التحقيقات الجنائية بالولايات المتحدة، وجعلها فوق منحنيات ما بين اليقين والشك، فقد كان يتحدث إلى ستة عشر من طلابه عندما اقتحم باب القاعة رجل، واخرج من جيبه مسدساً، وبدأ يطلق النار صوب الطلاب؛ فارتمى من ارتمى على الأرض، وزحف البعض الآخر على بطنه، و قفزت طالبة تحت الكرسي، وأخرى إلى أحضان زميلها و.. و.. ثم مضت خمس دقائق، ثم دعا البروفيسور "أريدا فيليبس" المحاضر طلابه للعودة إلى أماكنهم، وأن يتمالكوا أنفسهم؛ حيث الأمر جزء من المحاضرة, ثم وزع عليهم ورقة تحتوي على مجموعة أسئلة:
1- كم طلقه أطلقت؟
2- من هو الذي أطلق الرصاص؟
3- من أي جيب أخرج المسدس؟
4- ماذا كان يرتدي صاحب المسدس؟ وما ألوانها؟
5- بماذا تفوه من كلمات؟
6- هل كان له شارب أم حليق الشارب؟
7- هل كان غزير الشعر؟ أم كان بدون شعر؟ ما لون شعره إن كان له شعر؟
8- ما صفاته التقريبية؟ هل كان نحيلاً أم كان بديناً؟
9- هل يوجد بوجهه علامات مميزة؟
وأسئلة أخرى وصلت إلى عشرين سؤالاً، ولكن المهم أن جميع الإجابات تفاوتت واختلفت اختلافاً يثير الدهشة، فالحادثة واحدة ووقعت أمام الستة عشر طالباً وطالبة في لحظة واحدة من الزمن, جميعهم شاهدوها مشاهدة ترتقي لدرجة المعايشة ومع ذلك تناقضت الشهادات، قال البعض: بأن الذي أطلق النار عربياً ملتحياً، وقال البعض: بل زنجياً طويل القامة, وقال آخرون: أنة كان صينياً قصير القامة، بل وقالت طالبة: أنها رأت أكثر من شخص واحد يطلق الرصاص، وهكذا فقد اعتمد المحامون الأمريكيون على هذا المشهد كمرجع كلاسيكي علمي إذا ما أرادوا تفنيد وتزييف شهادة أحد شهود العيان.
المشهد الأمريكي هو نفسه المشهد العربي عندما يقوم الطفل الصغير بالرد على المكالمة، ويقوم بالتمثيل مثل الطالب الأمريكي الذي تطوع بأن يقوم بدور مطلق الرصاص، الدراما هي الدراما، والمحاضر هو الأب الذي درب أبنه علي الرد على المكالمات بمهارة.
مأساة البحث عن القدوة تستمر حيث أن البعض من الأباء والأمهات يعلمون أبنائهم الكذب، ويحرضونهم عليه باستمرار، ثم يغضبون فجأة عندما يكتشفوا أن أحد هؤلاء الصغار قد كذب عليهم ليمارسوا بكل تناقض دور الواعظ عن تحريم الكذب.
مثل هذا الأب ما هو سوى مثل للقدوة السيئة بلا جدال، فأحذر ما تزرع، فما تزرعه ستحصده يوماً ما.
المصدر : http://www.aصلى الله عليه وسلمabصلى الله عليه وسلمenewal.com/index.php?صلى الله عليه وسلمd=AI&AI0=2645
ـــــــــــــــ(1/31)
الشخصية المؤثرة
د. علي بن عمر بادحدح
إن نجاح الداعية مرتبط بقدرته التأثيرية في المدعوين، ولا شك أن التأثير لا يأتي عفواً ولا عرضاً، كما أنه قطعاً لا يفرض فرضاً، بل هو مرتبط بمؤهلات ومواصفات لابد للداعية منها لتكون له شخصيته المؤثرة ومنها:
1- التميز الإيماني والتفوق الروحاني الذي يكون الداعية به عظيم الإيمان بالله، شديد الخوف منه، صادق التوكل عليه، دائم المراقبة له، كثير الإنابة إليه، لسانه رطب بذكر الله، وعقله مفكر في ملكوت الله، وقلبه مستحضر للقاء الله، مجتهد في الطاعات، مسابق إلى الخيرات، صواّم بالنهار، قواّم بالليل - مع تحري الإخلاص التام، وحسن الظن بالله -، وهذا عنوان الفرح، وسمت الصلاح، ومفتاح النجاح، إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله، وهي التي تجلب التوفيق من الله فإذا بالداعية مسدد؛ أن عمل أجاد، وأن حكم أصاب، وأن تكلم أفاد، ومثل هذا ينطبق عليه وصف السلف بأنه: " من تذكرك بالله رؤيته ".
2- الزاد العلمي، والرصيد الثقافي، حتى يجد الناس عند الداعية إجابة التساؤلات، وحلول المشكلات، إضافة إلى أن ذلك هو العدة التي بها يعلّم الداعية الناس أحكام الشرع، ويبصرهم بحقائق الواقع، وبه أيضاً يكون الداعية قادر على الإقناع، وتفنيد الشبهات، متقناً في العرض، ومبدعاً في التوعية والتوجيه.
3- رجاحة العقل، وحسن التدبير، فلا سذاجة تضيع بها معاني القيادة، ولا غضب يشوه صورة القدوة، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة، وللداعية في الأوزاعي مثل يحتذى عندما بيَّن ضريبة القدوة بقوله: " كنا نضحك ونمزح، ولما صرنا يقتدى بنا خشينا أن لا يسعنا التبسم "، فلابد للداعية من الاتزان والهيبة، وأن يكون صاحب عقل يرجح إذا اختلفت الآراء، ويحلل ويدلل إذا فقد الإدراك وغاب التصور، ويتقن به ترتيب الأولويات، واختيار الأوقات، واستغلال الفرص والمناسبات، وحسن التخلص من المشكلات، والقدرة على التكيف مع الأزمات.
4- رحابة الصدر، وسعة الخلق؛ وذلك ليستوعب الداعية من حوله من الناس، فإنه كما أثر: ( لن تسعوا بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم ).
وللناس مطالب كثيرة، وتساؤلات عديدة، تحتاج من الداعية إلى الاحتمال، لأن الاحتمال - كما قيل - قبر المعايب، ولأن سعة الأخلاق رابط للناس ومؤثر فيهم، فهذا رجل جاء إلى أبي إسحاق الشيرازي فجالسه ثم قال: ".. فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده، ما حبب إلى لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات ".
والناس يلتفون حول من يعين محتاجهم، ويغيث ملهوفهم، ويتفقد غائبهم، ويؤثروهم على نفسه، ويفيض عليهم من حبه، ويقوي صلته بهم بالأخوة، ويعمق الامتنان بالإحسان.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
5- الجرأة الواعية والثبات الراسخ، فالناس في الملمات يحجمون، وتتقدم بالداعية جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التصرف، فإذا هو المقدم الذي تشخص إليه الأبصار، وتتعلق به القلوب، ويصفه الناس بالشجاعة والإقدام، وعند المصائب يتخاذل البعض، ويتخلف آخرون، ويتلون فريق ثالث، ويبقى الداعية كالطود الشامخ، وحسبك في ذلك موقف الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في يوم حنين، ثبت فكان بؤرة التجمع، ونقطة الانطلاق نحو الانتصار في يوم حنين.
6- الاستمرار والابتكار، فالعمل المنقطع يتبدد أثره، والعمل المتكرر يبعث الملل ويفقد الحماس، وتنويع الأساليب باعث على التشويق، ودليل على الإثراء وكثرة العطاء.
هذه بعض الملامح، فهل يعي الدعاة أن الضعف في التأثير والتغيير يكون في بعض الأحيان عائداً إلى قصورهم، وعدم استكمالهم لمعالم الشخصية المؤثرة!!.
المصدر : http://www.dawahwin.com/aصلى الله عليه وسلمticle.php?sid=154
ـــــــــــــــ(1/32)
التربية قدوة
د.علي بن محمد التويجري
لما كان الأب في البيت يستطيع أن يحقق مع الأم جو المحبة والأمن الذي يحتاجه الطفل لينمو، والذي يسبب الحرمان منه كل أمراض الطفولة، والمراهقة، والشباب التي نعرفها, فلنسأل أنفسنا: كيف يعامل الأب أهل بيته؟ وكيف يناقشهم؟ وكيف يجدد أفكارهم ومعلوماتهم؟ وكيف يقضي وقت فراغه؟ ومن يجالس؟ وفيم يتحدث؟ وكيف يغضب أو يثور؟
نعرف كيف ينشأ الطفل لأن سلوك الأب وفكره واهتماماته هي العامل الأول والأساس فيما يتربى عليه الطفل من قيم ومبادئ, وهذا السلوك هو ما يحاكيه الطفل أو يثور عليه ويكرهه، ويريد بكل الصور أن يكونه أو أن يتخلص منه, وما أكثر الدراسات النفسية التي تكشف لنا عن أثر هذا السلوك الأبوي في نفسية الطفل وأخلاقه، بل وفي قدراته العقلية والنفسية، واحتمالات نجاحه أو فشله في الحياة، وما أكثر ما نعرف عن صور العنف والانحراف التي كان سببها ومصدرها الأول هو جو البيت، وسلوك الأب المربي, فالنصف إذن سلوك الآباء في البيت ومع العائلة نعرف نوع التربية التي يتلقاها الطفل وقيمتها.وهذه القدوة في المنزل تحتاج إلى قدوة أخرى في المدرسة, فالمدرسة مهما كانت ليست بناء أو منهجاً أو مادة تعليمية، ولكنها أساساً وقبل كل شيء معلم.
كيف يفكر المعلم؟ ما هي طريقته في المعرفة، وطريقته في تعليم نفسه، ووسائله في نقل هذه المعرفة والعلم إلى الأطفال؟ وعلى ما يكون المعلم سيكون الطفل، لأنه مع الطعام وضرورات النمو البدني؛ يتلقى ويتغذى بما يتعرف عليه من قدوة, فالأسلوب الأمثل للتربية يبدأ أولاً بالأسلوب الأمثل لإعداد المعلم، ولتوفير كل ظروف ووسائل الراحة المادية والعقلية والنفسية اللازمة لأداء وظيفته.
ويبقى بعد القدوة في البيت، والقدوة في المدرسة، القدوة في المجتمع, فلنسأل أنفسنا: ماذا يقدم المجتمع لأطفالنا من قدوة، نعرف بالضبط ما هي تربية أطفالنا؟ وكيف سينشؤون؟ والقدوة في المجتمع ناشئة ومتمثلة في كل مؤسساته حتى مؤسساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى جانب مؤسساته الإعلامية والتثقيفية بالطبع.
لست أريد بالطبع أن اعدد العيوب أو النواقص في هذه القدوات الثلاث بالنسبة لأطفالنا وأجيالنا الناشئة، فنحن نعرف عنها الكثير، ويحتاج كل منها إلى حديث مستقل، ولكن أردت فقط أن أوجه النظر إلى أننا عندما نسأل عن التربية يجب أن نسأل عن (القدوة في البيت والمدرسة والمجتمع)، وإذا أردنا أن نعرف الأسلوب الأمثل للتربية وجب علينا أن نعرف خصائص هذه القدوات ومحاسنها أو عيوبها. -نسأل الله أن يمنحنا نعمة التربية الصالحة لأبنائنا وبناتنا، والسعادة بها!!.
المصدر : http://www.suhuf.net.sa/1999jaz/oct/19/aصلى الله عليه وسلم1.htm
ـــــــــــــــ(1/33)
من أجل تربية أفضل
إبراهيم بن صالح الدحيم
- بين يدي الحديث:
الحديث عن التربية حديث مهم تحتاج إليه جميع طبقات المجتمع بلا استثناء، فالتربية الإسلامية: جهد يقوم على تطبيق منهاج الله في الأرض، وتحقيق الدينونة له، وهذا الأمر يجب على الجميع السعي فيه.
ولقد كان أنبياء الله - عليهم الصلاة والسلام - يقومون في أممهم بالدعوة إلى الله، وإلزامهم منهج الله، ومعالجتهم على ذلك، كما قال موسى - عليه السلام -: «لقد عالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة»(1)، ثم كان لنبينا - صلى الله عليه وسلم - القِدْح المعلى في ذلك، وقد أخرج جيلاً فريداً صار معجزةً من معجزاته، كما قال القرافي - رحمه الله -: " لو لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته.."(2).
لقد كان الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم فما يلبث إلا ويحسن إسلامه، ويعظم أمره؛ مما يلقى من حسن الرعاية، وعظيم التربية.
ثم تتابع الناس بعد ذلك جيلاً بعد جيل يعنون بالتربية، فالآباء على مر العصور يُلزمون أبناءهم مجالس العلماء وحلق الذكر، وربما طلبوا لهم مؤدباً ومربياً تُوكل إليه مهمة العناية بهم، ورعاية أدبهم، وتكميل جوانب النقص فيهم.
حتى إذا أقبل علينا هذا الزمن بما فيه، وفُتحت علينا فيه الثقافات، وغزتنا الأفكار من كل جانب، وهاجت أعاصير العولمة، واهتزت القيم والمبادئ، واضطربت الثوابت؛ صار الحديث عن التربية أشد إلحاحاً من ذي قبل؛ بغية تحصين المجتمع، وتثبيت ثوابته، وحفظ مبادئه وقيمه.
ولئن كان الناس يسعون دائماً إلى طلب الأفضل في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم ومساكنهم؛ فإن طلب الأفضل في جانب التربية أحق وأوْلى؛ إذ بها تجمُل الحياة وتزين، وتصلح وتستقيم، وبدونها تختفي قيمة المظاهر وتذبل، وتنقلب نقمة لا نعمة، لأجل هذا كله كان الحديث: (من أجل تربية أفضل)، أُثير فيه قضايا ملحّة، وألفت النظر فيه إلى جوانب مهمة، ولا أزعم بهذا الحديث أني استوفيت جميع الجوانب، ولكن حسبي أنها مراجعات لبعض جوانب التربية في مجتمعنا، تُذكّر الناسي، وتنبه الغافل، وتُرشد الجاهل، وتدعو الراغب إلى زيادة البحث، وتعميق النظر، والسعي إلى الأفضل.
أولاً: ما التربية؟
إن معرفتنا لمفهوم التربية على الوجه الصحيح سيساعدنا في القيام بها، وسيجنبنا تبعات تصرفات غير مسؤولة تُمارَس باسم التربية، وما هي من التربية بسبيل!
فما التربية؟
بالنظر إلى أهداف التربية الإسلامية وجوانبها يمكن أن نقول إن التربية هي: (تنمية الشخصية عبر مراحل العمر المختلفة؛ بهدف تكوين المسلم الحق الذي يعيش زمانه، ويحقق حياة طيبة في مجتمعه على ضوء العقيدة والمبادئ الإسلامية التي يؤمن بها).
حول التعريف: حين نتأمل في تعريف التربية تتبين لنا أمور يجب العناية بها:
ـ فالتربية التي نريد؛ تكون بتنمية الشخصية بجميع جوانبها، العقلية منها والجسمية والروحية، والنفسية والاجتماعية؛ بحيث نعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه في الرعاية والتوجيه، فلا نشطط بجانب دون آخر.
دخل ثلاثة رهط على بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء»، فرد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأرشد إلى ضرورة العناية بجميع الجوانب، فقال: «ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(3).
ـ والتربية التي نريد هي التي تستمر وتتطور، مراعيةً مراحل العمر المختلفة، لا تقف عند سن معيّنة، ولا تعمم لجميع المراحل أسلوباً تربوياً واحداً، بل تعرف لكل مرحلة خصائصها التي تميزها عن غيرها، والتي يجب مراعاتها من أجل تربية أفضل، وهذا يحتم علينا مزيداً من التعرف على خصائص المرحلة التي نريد توجيه التربية إليها، وهو الشيء الذي يجعل التربية أكثر سلاسة، وأسرع كسباً، وأنضج ثماراً، وأيضاً فإن معرفتنا بخصائص المرحلة سيجنبنا الصدام النكد مع الطباع والفطر الكامنة في النفوس مما قد يجعل خسائرنا في التربية أضعاف مكاسبنا.
ـ والتربية التي نريد هي التي يُرسم لها أهداف يتم العمل على تحقيقها؛ إذ إن العمل دون هدف محدد مدعاة إلى التخبط والاضطراب، وتحويل ميدان التربية إلى معمل تكثر فيه الضحايا وسط تجارب مرتجلة، ثم إن العمل دون أهداف إهدار لأنواعٍ من الثروات الدعوية دون عائد كبير، وقد قيل: «إذا خرجت من منزلك دون هدف؛ فكل الطرق توصلك إلى المكان الذي تريد..»، والمعنى: إن أي مكان تذهب إليه فهو ما تريد؛ لأنك لم تقصد شيئاً بعينه تريد الذهاب إليه.
إننا حين نطالب بوضع أهداف للتربية؛ فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تتحول التربية إلى آلة تجعل كل كلمة لا بد أن تصدر عن هدف، وكل تصرف كذلك، إنه أحياناً قد يكون من العقل والحكمة وحسن التدبير عمل شيء زائد عن هدف محدد مرسوم، حين يمر عليك مثلاً حدث يستدعي التنفير من العقوق، أو الرحمة بالمسكين، أو التذكير بحسن الخاتمة أو سوئها؛ أَوَ ليس من العقل والحكمة استغلال الحدث في التأثير، وإن لم يكن نوع الحدث من أهدافك المرحلية الحاضرة؟!
ـ والتربية التي نريد هي التي تساعد الفرد على أن يعيش في زمانه لا خارج زمانه، ولا بعيداً عن مجتمعه معزولاً عن واقعه، يقبع في وادٍ والناس في وادٍ وشأن آخر.
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيش زمانه، ويتعامل معه تعامل الخبير الفاحص، لم يكن يجهل تحركات الأعداء، أو تخفى عليه مكائدهم، ولذا كانت استعدادته - صلى الله عليه وسلم - مبكرة، وغزواته أكبر شاهد بذلك، وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على الصحابة، ودعاهم إلى ضرورة مخالطة الناس والعيش معهم فقال - صلى الله عليه وسلم - : «المسلم إذا كان مخالطاً الناسَ ويصبر على أذاهم؛ خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(4).
ـ والتربية التي نريد هي التي نسعى من خلالها إلى تحقيق حياة طيبة في المجتمع، من خلال ترسيخ روح العمل الجماعي في الفرد، والقضاء على كل أنانية مقيتة تجعل الشخص نفعياً، يعيش لمصلحة نفسه فحسب، إنما نريد أن نعد المسلم الحق الذي ينفع أمته ومجتمعه، فيكون بذلك عضواً نافعاً يطيب بمثله المجتمع، لا أن يكون غصة على مجتمعه، ونكالاً عليه، نريدها تربية تفاعلية، يتفاعل فيها الفرد مع من حوله، ويتفاعل من حوله معه.
ـ والتربية التي نريد هي التي تُصاغ على ضوء العقيدة الإسلامية والمبادئ التي يؤمن بها المسلم، فتكون بذلك تطبيقاً عملياً لاعتقاد المسلم ومبادئه، وعلى هذا؛ فحين نستفيد من الدراسات الغربية وغيرها في هذا المجال؛ فلا بد أن نعرضها على عقيدتنا ومبادئنا، فما وافق منها العقيدة قبلناه، وما خالفها رددناه ولا كرامة.
تلك هي التربية - بالمعنى العام - التي نصبو إلى تحقيقها، وهذا ما نريده من المربين عموماً.
ـ لكن يبقى أن أشير إلى أمر مهم هو: أننا حين نريد تنزيل هذه التربية على شخصٍ ما؛ فلا بد أن نراعي قدراته وإمكاناته وميوله الشخصية حتى نحقق بذلك تربية أفضل، وهذا ما يُعبّر عنه بمراعاة الفروق الفردية؛ إذ تجد بعض المربين يخطئ حين يريد أن يجعل من المتربي نسخة طبق الأصل منه، أو من قدوة يرتسمها، أو يريد أن يجعل الأشخاص الذين يقوم على تربيتهم نسخة واحدة متماثلة!!، وحين يسير المربي على هذه الطريقة؛ فإنه سيحكم على المتربي بالإخفاق لمجرد أنه لم يصل إلى الحد الذي قدَّره له؟! مع أن المتربي قد يكون قد خطا خطوات كبيرة لكنها في عين المربي غير ملحوظة؛ ولذا يمكن أن نقول: إن التربية في حق الشخص المعيَّن هي: إيصال الفرد إلى كماله هو (لا إلى كمال غيره).
ثانياً: الارتقاء المعرفي بالفرد:
الحقيقة أننا نعيش أزمة معرفية يشترك فيها عامة طبقات المجتمع بلا استثناء، حتى إنه جاء في إحصائية علمية أُجريت على خريجي جامعة عربية كان من نتائجها: «أن 72%من الخريجين لم يستعيروا كتاباً واحداً من مكتبة الجامعة طَوال حياتهم الجامعية»(5)؛ فإذا كان هذا في الطبقة التي يُفترض أن تكون علاقتها مع الكِتَاب أكبر؛ فما الظن بغيرهم؟ لذا فإن من الضروري لرفع مستوى التربية تركيز العناية بهذا الجانب، فكم نحن بحاجة إلى رفع مستوى العلم والثقافة والمعرفة عند المربي، وكذا عند المتربي.
لا بد أن يكون عند المربي أرضية معرفية كافية يستطيع من خلالها إدارة التربية على شكل صحيح، وبوضع صحيح، إن من المقررات البديهية أننا حين نريد أن نرتقي بإنسان إلى مستوى أرفع؛ فلا بد أن نكون نحن في موضع أرفع منه حتى نستطيع أن نناوله أيدينا فيرتقي، وحين يكون المربي أقل معرفة من المستوى المطلوب فإنه لا يملك أن يعطي شيئاً؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، إنه لا بد من مخزون معرفي كافٍ يمتلكه المربي، يكون به قادراً على تغذية التربية معرفياً ورعايتها.
ـ وهذا يدعونا إلى القول بأن من الأمانة حين يرى المربي أن المتربي لا يستفيد منه كثيراً، أو أنه قد نفد ما عنده - ليس في كل جوانب المعرفة فحسب -؛ فمن الأمانة أن يدفع بالمتربي ويوجهه إلى من قد يكون أكثر منه نفعاً، وأقدر على العطاء، وسيكون ذلك حسنة من حسنات المربي الأول، ودلالة على النصح والتجرد؛ مما سيكون له أعظم الأثر في نفس المتربي، بل إنه سيحس بمدى العناية التي تُقدَّم من أجله، وهو الشيء الذي سيدفع به إلى مزيد من الاجتهاد والتقدم والرقي.
أما العناية بالارتقاء المعرفي لدى الفرد فهي أيضاً مسؤولية عظيمة، يجب أن تُصرف العناية لها من سن مبكرة، تبدأ من سني العمر الأولى، وأن يستدرك ما فات بعد ذلك يقول أحد الباحثين: (إن تعليم القراءة للأطفال يبدأ من سن ستة أشهر..)(6).
قد نحكم على هذا الكلام بأنه مجازفة، لكن حين يُنظر إلى أن الطفل يمكن أن تُوجَّه ميوله، وتقع عنده الرغبة والولع في القراءة من سن مبكرة جداً؛ فإن هذا الكلام قد يكون أكثر مصداقية.
ـ حين تهيأ للطفل فرصة المعرفة من الصغر، ويرى أدواتها معروضة بين عينيه، في صورة مكتبة منزلية، أو عن طريق اهتمام أفراد الأسرة بالكتاب؛ فإن ذلك سيوجه ميول الطفل ولا بد، وسيولد عنده الرغبة شيئاً فشيئاً.
وينشأ ناشئ الفتيان منّا على ما كان عوَّده أبوه
لقد رأينا ونحن نطالع سِيَر العلماء أن بيوت العلم قد أثَّرت في الغالب في أبنائها، فأخرجت علماء أصحاب مخزونٍ معرفيٍ ضخم، إن هذا التوجه المعرفي في البيت، وتوافر أدواته فيه، سيساعد في اكتشاف موهوبي القراءة على أقل تقدير، فضلاً عن تولُّد الرغبة في نفسه، («مايكل فاراداي» عالم فيزيائي شهير، كان أبوه فقيراً، وكانت الأسرة من شدة الفقر تسكن فوق حظيرة لعربات الخيل؛ مما اضطر «مايكل» إلى الانقطاع عن الدراسة ليعمل بمحل لتجليد الكتب، ولعل هذه المهنة المرتبطة بالمعرفة كانت أحد أسباب عشقه للعلم؛ فقد كان ينكب على الكتب التي يراد تجليدها؛ مما كوَّن لديه حصيلة معرفية جيدة)(7).
ـ ثم قد لا يكفي تهيئة الجو وإيجاد الرغبة، بل لا بد من تشجيع القراءة عند الأطفال من سن مبكرة؛ بأن تبذل لهم المكافآت وغيرها من الحوافز التي تدفعهم إلى المواصلة، وأن يُشجَّعوا مع ذلك على المشاركة أثناء القراءة (ونقصد بالمشاركة: التعليق على المقروء، وذكر شواهد مماثلة له من الواقع، ونقد المواقف..)؛ فإن هذا يربي في نفس الطفل الشوق إلى القراءة والاستمتاع بها، ونستطيع من خلالها أن نوصل إليهم المبادئ والقيم المهمة التي يحتاجون إليها، وتلك هي المهمة الأولى للقراءة.
ـ وكذا من فاته قطار المعرفة في الصغر؛ فإنه يحتاج إلى تشجيعٍ أكبر وبعث للهمة، من أجل استدراك ما فات، ولن يكون الأمر صعباً حين توجد الرغبة وتنبعث العزيمة.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ثم إن مما يبعث النفس إلى القراءة والمعرفة الاطلاع على سِيَر السلف، وشدة شغفهم بالعلم والمعرفة(8).
ولا بد مع التشجيع من توجيه قراءة المتربي، ومساعدته على اختيار الأنسب والأنفع، فلا يقرأ كل ما تدفع به أرحام المطابع دون تمييز؛ لأن قراءة ما هو نافع - فضلاً عما لا نفع فيه أو فيه ضرر - سيفوّت قراءة ما هو أنفع، وهذا التوجيه وهذه المساعدة للمتربي تؤكد ما سبق ذكره؛ من ضرورة وجود حظوة معرفية كافية لدى المربي - ولو للمرحلة العمرية التي يقوم عليها -.
ـ كما يلزم المربي وهو يوجه القراءة أن يكون لديه معرفةً بمستوى المتربي وقدراته، وحاجاته المعرفية؛ لأن الكتاب الجيد كالدواء لا يفيد كل الناس، وإلى هذا المعنى أشار الغزالي - رحمه الله - بقوله: «أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره، أو يخبط عليه عقله، ولذلك قيل: كِلْ لكُل عبدٍ بمعيار عقله، وزِنْ له بميزان فهمه؛ حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار»(9).
ـ ثم على المربي أن يُشعر المتربي أن الارتقاء المعرفي لا يأتي دون ثمن، بل يحتاج إلى جد واجتهاد، وصبر ومثابرة؛ حتى تتهيأ النفس لذلك، وقديماً قال السلف: " لا يُنال العلم براحة الجسم "، ولما سُئل (أديسون) عن العبقرية قال: "إنها 1% إلهام، و 99%عرق جبين(10)، ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام هو توجه كثير من الناس إلى الكتب السهلة والقصص والحكايات، وعزوفهم عن الكتب الصعبة والكتابات الرفيعة، والتي من طبيعتها استنفار القوى العقلية لدى القارئ لمزيد الفهم والتأمل والتفكير، إن التوجه للكتب السهلة قد يكون مقبولاً لوقت معين، لكن لا يصح أبداً الاستمرار عليها؛ لأن ذلك يعوق عملية الارتقاء، ويسبب للذهن نوع تأسُّن أو ركودٍ في المعاني والمفهومات والمدارك.
ثالثاً: الرقابة الذاتية:
يهتم كثير من المربين بمتابعة سلوك المتربي، وملاحظة التغير الذي يطرأ عليه، والارتقاء به، ومعالجة الظواهر السيئة والسعي في وضع حمايات تقيه بعض المخاطر، وهذا الفعل حسن لا غبار عليه، بل هو المطلوب، لكن حين يسير في وضعيته الصحيحة التي تُصلح ولا تُفسد، ولكننا أحياناً كثيرة نغفل عن غرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي، والتي بدورها تساعد في تعميق التربية بشكل أقوى؛ فتكون أدعى للثبات، وتمنحنا شيئاً من الوقت يمكن صرفه لآخرين ابتغاء توسيع العمل.
ـ لست أهوّن من المتابعة، بل هي جانب مهم في نجاح العملية التربوية، ولكني أقول إنه لا بد من بذل جهد قوي وكبير في سبيل تقوية الحصون الداخلية لدى المتربي؛ حتى يشعر دائماً برقابة الله له، وقربه منه، واطلاعه عليه، فيشعر بالمسؤولية تجاه نفسه بضرورة لزوم الصدق مع الله ومع النفس؛ فكم نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة قصة يوسف مع امرأة العزيز يوم واجه الإغراء بقول: ((معاذ الله!!))، وقصة الراعي مع ابن عمر - رضي الله عنه - حين أعلنها الراعي مدوية تنساب في أودية مكة (فأين الله؟)، وكذا قصة المرأة الأعرابية يوم صرخت بصوت جلجل في الأفق (فأين مُكَوْكِبُها؟)، وغير ذلك كثير مما جاء عن السلف الصالح ومن بعدهم.
ـ لا بد أن يرسخ عند المتربي الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه، وأنه هو المطالب بتزكيتها وتكميلها، وأن دور المربي معه ما هو إلا إعانة له على تزكيته هو لنفسه: (( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ))[الشمس: 9 - 10]، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ))[الحشر: 18]، ((وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ))[مريم: 95].
إن ضمور هذا المعنى في النفوس - الرقابة الذاتية - أحدث ضعفاً واضحاً في صفوف المتربين من خلال التقصير في بعض الواجبات - كالصلاة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام - أو الوقوع في شيء من المحرمات - كإطلاق البصر واللسان، وما يجري بعده من ويلات.. - كل ذلك يحصل نتاج ضعف المراقبة في النفوس.
ـ لقد فهم السلف هذا المعنى، ونادوا بإصلاح النفس ومحاسبتها، والقيام عليها بالمتابعة والرقابة؛ فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا..»(11)، ويقول الحسن البصري - رحمه الله -: «المؤمن قوَّام على نفسه يحاسبها لله»(12)، وهذا ابن القيم - رحمه الله - يحذر من إهمال النفس وعدم القيام عليها فيقول: (أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، وإذا فعل ذلك سَهُل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها.. إلخ)(13).
إن تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والرقابة الذاتية عليها ومحاسبتها؛ سيساعدنا كثيراً في التربية، ويجعلنا نجني نتائج أفضل، ونحس بنوع من الأمن تجاه المتربي.
ـ وعلى المربي وهو يغرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي؛ أن يعلم أنها لا تنمو إلا على قسط من الحرية، وترك الفرصة للاختيار، ولا بد من غرس نوع من الثقة في نفس المتربي، فالتنقيب عن أخطائه، وتتبع عوراته، والبحث عن سقطاته، والسير معه بنظام الجاسوسية؛ كفيل بإفساد النتائج على عكس ما يراد لها من صلاح، وفي حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم»(14).
إنه ليس من أحد إلا لديه عيوب ونقائص، وحين نتوجه للبحث عن الخبايا وكشف المستور؛ فإننا نساهم - شعرنا أو لم نشعر - في إعطاء الجرأة للمخطئ في التبجح بالخطأ وإظهاره دونما استحياء، حيث يحس أن أوراقه قد احترقت فلا يبالي بما صنع، بل يصل الحال أحياناً عند بعضهم إلى قصد المخالفة والعناد، وبهذا يخرج من حيز المعافاة، ويعم الضرر به من بعد ما كان الأمر مقصوراً على المخطئ ذاته.. (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)(15).
إن أحداً منا لو سُلطت عليه الأضواء لانكشف منه ألف عيبٍ وعيبٍ؛ لذا ينبغي على المربي أن يعلم أنه يربي بشراً من عادته الخطأ والتقصير؛ فالمرء لا يولَد كاملاً بل يتطور ويرتقي، ويكتسب الكمالات شيئاً فشيئاً، (إننا حين نرسم للناس صورة مثالية فسوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يُعَدُّ قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال: ( والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)(16)(17)، ولما أفشت حفصة - رضي الله عنها - ما أسرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - لها أطلعه الله على ذلك فلم يُفِضَ في المناقشة أو يستقصي، بل كان - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى-: ((عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ))[التحريم: 3]، كل ذلك كرماً منه - صلى الله عليه وسلم - وحسن إدارة ورعاية، قال الحسن: «ما استقصى كريم قط»، وقال سفيان الثوري: «ما زال التغافل من شيم الكرام»(18).
ليس الغبي بسيدٍ في قومه لكنَّ سيد قومه المتغابي
وحين ندعو إلى نوع من الإغضاء فلسنا نريد الإهمال وترك الحبل على الغارب، والانقطاع عن المتابعة؛ كلا، بل إن: «.. الشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية، ولو كان فيه كل جميلٍ من الخصال !...»(19).
رابعاً: إطلاق الإبداع:
(دماغ الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله وإتقانه ومننه وعظيم إحسانه؛ فالدماغ قادر على معالجة ما يصل إلى 30 بليون معلومة في الثانية، وفيه نحو ستة آلاف ميل من الأسلاك، ويحوي الجهاز العصبي للإنسان عادة حوالي 28 بليون عصبون، وكل عصبون من هذه العصبونات عبارة عن حاسب آلي ضئيل الحجم له استقلاله الذاتي، وهو قادر على معالجة حوالي مليون معلومة..»(20)، ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[آل عمران: 191].
إذا علمنا هذا؛ فإن قدرات هائلة مما زوَّد الله بها بني آدم يقتلها الناس وهم لا يشعرون؛ من خلال ممارستهم السيئة تجاه الإبداع والمبدعين.
ـ لقد دلت بعض الدراسات أن الطفل يولد وهو على درجة عالية من القدرة على الإبداع، (إن الأطفال حين تكون أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات يكون 95% منهم إبداعيين، وإمكاناتهم في ارتقاء مستمر، في حين تقل النسبة تدريجياً كلما تقدم السن حتى لا يبقى سوى 2%)(21)؛ فأي فرصة تضيع وأي إبداعات تهدر؟!
ـ إننا نخطئ كثيراً في التعرف على الإبداع، حين نحس أنه مرادف للذكاء والتفوق، وليس هذا بالضروري، بل إننا بهذه النظرة القاصرة نفقد صوراً من الإبداع لا تراها العيون، فقد دلَّت الدراسات على أن لدى كل واحد منا جانباً إبداعياً في شخصيته، وسيظهر ذلك حين نحسن استخراج الإبداع، ونفتح المجال له، وقد قيل: (العقل كمظلات الطيارين لا تنفع حتى تُفتح)، وهكذا الإبداع لا يشرق حتى يُطلق.
- وحين لا نتعامل مع الإبداع بطريقة صحيحة؛ فإننا لسنا نخسر إبداعه فقط، بل إن مجرد إغفال الإبداع سيسبب للأمة أزمات، ويخلق لها مشكلات هي عنها بغناء، (والغنم بلا راعٍ ليس له مرعى)؛ يعني: أنها ستتجاوز مرعاها فتفسد زروع الآخرين، أو تقع في فم الذئب الضاري! يقول أحد المشتغلين بقضايا الإبداع: إن عقل الطفل ابن الخامسة يشبه بركاناً له فوهتان: واحدة هدامة، والأخرى مبدعة، ونحن بقدر ما نوسّع مدى الفوهة المبدعة؛ نوقف الفوهة الهادمة. ا. هـ.
- وإذا فرض عدم وجود آثار سلبية لإهمال الإبداع؛ فإن الإبداع قد يتوجه - إن لم يوجه - إلى ما لا نفع فيه، فنقع في مشكلة (هدر الطاقات) دون أي عائد يذكر!! ذُكِرَ أن رجلاً جاء إلى أحد الخلفاء العباسيين فعرض عليه لعبة بارعة بأن يثبت إبرة في الأرض، ثم يرمي وهو واقف إبرة أخرى فتدخل في سُمِّها، ثم يرمي الثالثة والرابعة.. إلى المئة كل إبرة تدخل في سُمّ الأُخرى، فلما انتهى أَمَرَ له الخليفة بمئة دينار ومئة جلدة، فعجب الرجل!! فقال الخليفة: مئة دينار لبراعتك، ومئة جلدة لانشغالك فيما لا طائل من ورائه!
إن علينا مسؤولية عظيمة في توجيه الإبداع ورعايته، والسعي الجاد في تهيئة المواقع التي تنمّيه، والمحاضن التي تغذّيه وتحسن توجيهه، ومن ثم تنعم بالاستفادة منه.
وينبغي من أجل رعاية الإبداع التنبه إلى ما يلي:(1/34)
- إن الإبداع من أجل أن ينمو ويزهر يحتاج إلى بيئة آمنة داخلية وخارجية تضمن له الاستمرار في الإبداع، وزيادة العطاء، وروعة الإنتاج؛ فحين يسمع الابن في البيت عبارات الاستهزاء، وألفاظ الازدراء والتنقُّص تنهال عليه من أبويه أحدهما أو كلاهما، أو من إخوته وأقاربه وجيرانه؛ فإن ذلك سيقيد حركته، ويجعله يضرب أخماساً بأسداسٍ قبل أن يقدم على فعل شيء: ماذا تفعل؟ هذا جنون!! دعنا من عبثك!! لا تكلف نفسك عناءً لا طائل منه... وغيرها من الكلمات التي نقولها نطفئ بها ثورة في نفوسنا دون أن نعرف عواقبها، فهل سينمو الإبداع في مثل هذه الأرضية؟!
وحين يجد مثل هذا التندُّر والتنقيص في محيط مدرسته يوجَّه إليه من معلميه أو من زملائه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى ضمور اهتماماته، وفتور عزيمته، وخبوّ ذهنه، ومن ثم التفاته عن إبصار كل نقطة تفوّق لديه.
- لا بد من أجل نمو الإبداع من التشجيع وتقديم الحوافز، وإعطاء نوع من الأمن الذي يجرئ المتربي على مزيد من الإبداعات، ولا بد أن تُثار في نفسه روح المغامرة والتحدي من أجل إثبات الذات دون غرور أو جنوح، كان ابن شهاب - رحمه الله - يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: (لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم، يتبع حِدَّة عقولهم)(22)، (وفي مسابقة أجرتها مجلة إنجليزية شهيرة وجهت فيه سؤالاً للأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم، وازدهار الأدب؛ فكانت الإجابة الفائزة لكاتبة مشهورة قالت: «إنه التشجيع!!»، وقالت: «إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير!!»(23).
ـ ثم إن مما يجعل بعض جوانب الإبداع تختفي لدى المتربي هو أن المربي قد يكون يعيش ميولاً معرفية محددة، وأنماطاً حياتية معينة تجعله لا يبصر الحياة إلا من جهة ميوله ورغباته الخاصة؛ فهو يبصر كل إبداع يتوافق مع ميوله، في حين تغيب عنه صور من الإبداع كثيرة تجري من بين يديه ومن خلفه دون أن يراها؟! لذا فإن على المربي أن يقيس الأعمال والتصرفات لا من جهة توافقها مع أنماطه، وميوله، ورغباته الشخصية؛ بل يجب أن يقيسها بنظرة شمولية واسعة تجعله أقدر على اكتشاف صور أكثر من الإبداع المختفي حول حواجز الرؤية المحدودة، والنظرة المحجمة الضيقة التي يعيش فيها المربي.
ـ وحين يخفق المبدع مرة؛ فإن من الواجب ألا يُعَيَّرَ بإخفاقه، ويُحَمَّل مسؤولية ذلك وحده، ويُتخلى عنه، على حد قول القائل: (يداك أوكتا وفوك نفخ)، بل يجب أن يواسى، ويُشد من أزره، ويثنى على مبادرته وخطوات العمل التي قام بها؛ إذ هي في حد ذاتها جهد يحتاج إلى شكر، ثم بعد ذلك يعلم أن في العالم ناجحين كُثراً أخفقوا في محاولات كثيرة؛ لكنهم لم يقنطوا، ولم يرضوا أن يحكموا على أنفسهم بالإخفاق الدائم، بل إنهم رأوا أن كل حالة إخفاق فإنها لا بد ستدلهم على اكتشاف طريق مسدودٍ قد غاب عنهم، أو أسلوب غير صحيح يتم تلافيه في تجربة أخرى جديدة، لا بد أن يقال له وبوضوح: " إنك لن تعدم الفائدة حتى في إخفاقاتك".
إن علينا - معاشر المربين - ونحن نطلب مزيداً من إطلاق الإبداع؛ أن نمتلك حاسة شم قوية تنفذ إلى مواطن الإبداع في شخصية المتربي، وتجيد توظيفها والتعامل معها.
خامساً: الرسائل الخفية:
أو ما يُطلق عليها لغة الإيحاء ((وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ))[هود: 88](24).
كم تصنع الرسائل الخفية من أثرٍ بالغٍ في شخصية المتربي دون أن نشعر؟! وهذا الأثر قد يكون إيجابياً نافعاً، وقد يكون سلبياً يهدم ما قد بني، ويفسد ما تم إصلاحه؛ فحين تكون سيرة المربي حسنة، واستقامته جيدة، ومراقبته لنفسه مستمرة؛ فإن رسائل حسنةً منه ستظهر دون أن يشعر تؤثر في المتربي، وتساهم في صياغة شخصيته دون كثير نصح، أو توجيه مباشر.
ذكر ابن حجر في ترجمة (الجُلندي ملك عُمان) عن ابن إسحاق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يدعوه إلى الإسلام، فقال: «لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له..»(25)، وقال يونس بن عبيد - رحمه الله -: «كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله، ويسمع كلامه»(26)، وقال عبد الواحد بن زيد: «ما بلغ الحسن إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه».
إن «الواو والراء والدال» لا يُشَمُّ منها رائحة الورد؛ فكن بالخير موصوفاً، ولا تكن للخير وصّافاً.
إن في الناس أوجهاً لامعاتٍ تملأ العين زهرة ورواءَا
ويراها البصير صورة زهرٍ لم تهبها الحياة عطراً وماءَا
ولقد ترى الناس يتأثرون بسمت العالم والداعية، وحسن دلّه، وعظيم مواقفه؛ أبلغ مما يتأثرون بكلامه، بل ربما نسوا الكلام وبقيت المواقف والمُثل التي انطبعت في النفوس، وقد قيل: «من لا ينفعك لحظه؛ لا ينفعك لفظه».
إن القدوة الحسنة عملية تربوية مستمرة لا تعرف الملال ولا الانقطاع، تساعد المتربي على الارتقاء وبلوغ الكمالات، وتختصر الوقت، وتعطي قناعة تامة بإمكانية بلوغ الفضائل والكمالات.
«إن الأسوة هي علم الحياة» كما قال مصطفى الرافعي(27) - رحمه الله -: (لو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مئة كتاب، ثم رأوا رجلاً فاضلاً بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصاحبوه؛ لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة، وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مئة كتاب، ومن ألف كتاب... إلخ)(28)، وذكر صاحب كتاب (من وحي الأسرة)(29) أن أحد علماء الشام قال له: «التقيت بسبعة إخوة حفظة كتاب الله، وكان أكبرهم على مشيخة القراء، فلما مات استلم المشيخة الثاني ثم الثالث وهكذا.. فقلت لأحدهم يوماً: كيف حفظتم بهذا الإتقان والإجادة وأبوكم يعمل في صبغ الثياب من الصباح إلى المساء؟! فقال: أُمُّنا حافظة لكتاب الله...»، لقد كانت أمهم أسوة تتردد في جنبات البيت، تبني قناعات في نفوس أبنائها، وترسل رسائل خفية حسنة مفادها: (أن بالإمكان فعل ما كان، وأفضل مما كان).
وعلى هذا فحين يختلف الحال، ويظهر التقصير من المربي - ولو تكلف إظهار نفسه بالمظهر الحسن - فإن لغة الإيحاء أو الرسائل الخفية ستوصل غير ما يقال، وتؤكد غير ما يُنفى (كيف نطمع في دعوة الناس إذا كنا نحن - الدعاة - غير مطبقين له في ذواتنا؟ كيف ندعو الناس إلى أخلاقيات لا إله إلا الله إذا كنا نحن أنفسنا غير متخلقين بها؟ كيف ندعوهم إلى الثبات إذا كنا نحن لا نثبت؟ وكيف ندعوهم إلى الصدق إذا سوغنا لأنفسنا أن نكذب؟ كيف ندعوهم إلى التجرد لله إذا كانت ذواتنا هي محور تحركنا؟ ومصالحنا الذاتية هي التي تحدد مواقفنا وأعمالنا؟ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ))[الصف: 2 - 3] كبر مقتاً لأنه يكون صدّاً عن سبيل الله؛ بدلاً من أن يكون دعوة إلى الله! والشاعر يقول:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ!
نستطيع أن نخفي حقيقة أنفسنا في خطبة حماسية بليغة، أو موعظة مؤثرة، أو محاضرة قيمة، أو كتاب نؤلفه؛ ولكن الدعوة ليست خطباً ولا مواعظ، ولا محاضرات ولا كتباً - وإن كانت كلها أدوات نافعة مطلوبة للدعوة -، إنما الدعوة قدوة وصحبة وتربية، هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا ينبغي أن يكون فهمنا لحقيقة الدعوة.
وفي الصحبة الطويلة التي تقتضيها عملية الدعوة - أي تقتضيها عملية التربية - يستحيل علينا أن نخفي حقيقة أنفسنا، ولا بد أن «ننكشف» أمام الذين يتلقون منا؛ فكيف إذا اكتشفوا ذات يوم أننا كنا «نخدعهم»؟! أننا كنا نحدثهم بمعانٍ نفتقدها نحن، أو نشتمل على أضدادها؟! كيف تكون الصدمة؟! وكيف تكون النتيجة؟! ونحن بهذا لسنا نشترط بلوغ الكمال في شخصية المربي - وإن كان الترقّي فيه مطلوب - بل نقصد الحث إلى مزيدٍ من الاجتهاد في متابعة النفس وإلزامها منهج الصدق والإخلاص والمراقبة.
سادساً: لغة الحوار:
(الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين، وحين نمارس الحوار على وجهه الصحيح؛ فإننا لا نفيد المتربي وحده بل نحن نستفيد منه أكثر؛ فمن خلال الحوار والنقاش تنضج أفكارنا، ويرتقي تفكيرنا، وتتزن نظرتنا، إننا حين نعرض أفكارنا للتشذيب والتهذيب، والإضافة والنقد؛ نكون أكثر معرفةً للواقع، وأقدر على التعامل معه.
ـ الحوار يزيد من قبول المتربي للمربي؛ حيث يشعر أن المربي لا يمارس معهم نوعاً من إلغاء الشخصية.
وحين نطالب بالحوار؛ فإننا نقصد القيام بدور المُحاور لا المناظِر؛ فهناك فرق كبير بينهما؛ فالمناظِر يبغي إقناع صاحبه برأيه ليتبناه، بينما المحاور يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا يراها المُحاور الآخر على الوجه الصحيح، وبهذا يكون الحوار هادئاً ومنتجاً؛ لأنه يستهدف النفع المتبادل وليس الاستحواذ والاستيلاء..)(30).
ـ إن من المهم جداً أن نجعل الحوار أساساً في حياتنا، لا سيما في المجال التربوي، فلا نفرض الأمور فرضاً جازماً لا يقبل المناقشة، لقد كانت النساء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجدن حرجاً في مراجعته المرة تلو الأخرى في أي شأن من شؤونهن، فضلاً عن الرجال ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ ))[المجادلة: 1]، إنه الشعور بالأمن بين المربي الرحيم - صلى الله عليه وسلم - وبين الأمة، والذي ينظر في سيرته - صلى الله عليه وسلم - يجد ما يشفي ويكفي في هذا الباب.
هذا ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول له: «إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك!! فقال - صلى الله عليه وسلم - : سل عما بدا لك!! فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: صدق، فلم يزل يسأل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يجيبه على ما سأل حتى رجع ضمام إلى قومه مسلماً»(31)، إنك لتعجب وأنت تطالع مثل هذا المثال؛ فمع الجفاف في أسلوب ضمام - زعم، وتزعم - إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقابل ذلك كله بهدوء نفس، وحسن إجابة.
(وهذا حصين بن عبيد يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولَمَّا يسلم بعدُ، فيبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - معه حواراً منطقياً: «كم تعبد يا حصين؟! قال: سبعة: واحداً في السماء، وستة في الأرض!! قال: يا حصين من تعد من هؤلاء السبعة لرغبتك ورهبتك؟! قال: الذي في السماء..»(32)، وبمثل هذا الحوار تُزال الشبهة، ويُصحح التصور!
ويذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف ذات عبر)(33) ما جرى في إحدى البلاد: أن فتاةً صغيرة جاءت من المدرسة يوماً وعلامات الحزن والهمّ بادية على نفسها، فلاحظت أمها ذلك فسألتها: ما السبب يا بنيتي؟
قالت الطفلة: إن مدرّستي هددتني بالطرد إن أنا عدت بهذه الملابس الطويلة غداً، قالت الأم المربية: ولكنها الملابس التي يريدها الله يا بنيتي! قالت الطفلة: نعم يا أماه! ولكن المدرّسة لا تريد ذلك، عندها قالت الأم بعبارة حانية وحوار هادئ: حسناً يا بنيتي! المدرّسة لا تريد والله يريد؛ فمن تطيعين؟! أفتطيعين الذي أوجدك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً؟
فقالت الطفلة: بل أطيع الله، قالت الأم: أحسنت يا بنيتي وأصبت.
بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب المقنع الذي يؤكد الثوابت، ويقيم القيم؛ جرى الحوار الهادئ بين الأم والطفلة؛ فماذا كانت النتيجة؟
في اليوم التالي: جاءت البنت إلى المدرسة بالثوب الطويل، فانفجرت المعلمة غاضبة مؤنبة للفتاة أمام زميلاتها، حتى ثَقُلَ الأمر بالطفلة فهُرعت بالبكاء الذي لا ينقطع، وعندها هدأت المعلمة، وخفّضت من صوتها، وقطعت صراخها، ثم توجهت إلى الطفلة قائلةً: لِمَ لا تستجيبين لما أمرتك به؟!
فنطقت الطفلة بكلمة الحق التي صارت كالقذيفة على هذه المعلمة: والله! ما أدري من أطيع: أنت، أم هو؟! قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت الطفلة: الله.. أأطيعك فألبس ما تريدين، أم أطيعه وأغضبك؟! ثم قالت بكل ثبات: سأطيعه - سبحانه - وليكن ما يكون، فسكتت المعلمة، وفي اليوم التالي: دعت المعلمة الأم لتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي!
لقد كان هذا الثبات من هذه الطفلة نتاج القناعات التي رسخت في نفسها من جراء هذا الحوار المثير الذي قامت به الأم؛ فهل نحاور أبناءنا وطلابنا ومن نقوم على تربيتهم من أجل أن نبني في نفوسهم قناعات لا تتزعزع، وثوابت لا تتغير تكون أكثر صموداً في زمن المتغيرات والفتن؟
ثم إن الحاجة تعظم إلى الحوار والمراجعة حال معالجة الأخطاء؛ إذ لا بد منه لأجل التعرف على ملابسات الخطأ وأسبابه قبل إصدار الأحكام؛ وذلك من أجل تجنب ردود الأفعال السريعة التي تفسد أكثر مما تصلح، وتزيد من اتساع الهوة بدلاً من تضييقها.
جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شاب ممتلئ شباباً وقوةً وشهوةً يستأذن في الزنا؛ فهل رجمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ضربه؟ لا؛ فالأمر يحتاج إلى نوع إقناع، وفتح لعين المخطئ إلى جوانب قد غفل عنها، وهذا هو ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الشاب؛ حيث قال له: ادنُ مني (إشعاراً له بالأمن)، فلما دنا قال له: أترضاه لأمك..؟! لأختك..؟! لابنتك..؟! والشاب يقول: لا.. لا.. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليه بقوله: (وكذلك الناس لا يرضونه..)(34)، فيا له من حوار هادئ، وإقناع منطقي آتى أكله، وأعطى ثماره!
وكذا كان الأمر مع حاطب بن أبي بلتعة في القصة المشهورة في أحداث غزوة الفتح؛ فهل نحن نفتح حلقات للحوار عند معالجة أخطاء أبنائنا وطلابنا؟
حين تكتشف أن ابنك يدخن مثلاً، أو يسمع الغناء، أو يجلس مع رفقة سيئة؛ فإنك قد ترفع العصا عليه فتوجع يده، أو تضرب هامته، وتتبع ذلك بصيحات الوعيد، وزمجرات التهديد، وتظن أنك قد قضيت على المشكلة، لكنها في الحقيقة تزداد تجذراً في نفسه، ورسوخاً قد يحمله على التحدي والعناد، بينما لو فتحت عينيه بالحوار الهادئ إلى شيء لم يدركه؛ فإنك على أقل تقدير إن لم تقض على المشكلة فستوقف مدها، أو تجعله يتعامل بحذر قد يسهم باستيقاظه فيما بعد، وتنبعث في نفسه أسئلة تحتاج إلى إجابة، وحين نقول ذلك فلسنا نعارض العقوبة ونمنع منها؛ لكنّا نحاول حصرها في مكانها الصحيح الذي تفيد منه.
أما حين نفرض الأمور فرضاً جازماً، ونلغي مساحة الحوار والنقاش المفيد؛ فإننا قد نوجه الظاهر من شخصية المتربي بحكم السلطة والنفوذ، لكننا سنكون بعيدين كل البعد عن الشعور الداخلي وتغيير القناعات؛ مما قد يسبب تمرداً - إن صح التعبير - في المستقبل القريب أو البعيد متى ما وجدت الفرصة مواتية لذلك، وكما في المثال الإنجليزي: (من السهل قيادة الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره على أن يشرب)(35).
سابعاً: التدريب:
لقد كتب الله لأنبيائه رعي الغنم قبل البعثة كفرصةٍ للتدرب على سياسة الناس والصبر والجلد، إضافةً إلى ما تورثه برعيها من الرحمة واللين؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم!! قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)(36)، قال ابن حجر معلقاً: «قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيتها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم من الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة؛ ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك لأول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.
وخُصّت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرباط دونها - أي الغنم - في العادة المألوفة، ومع أكثريتها فهي أسرع انقياداً من غيرها..»(37)، فإذا كان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يحتاجون إلى نوع تمرين وتدريب لأجل رعاية الخلق ومعالجتهم؛ فغيرهم ممن يسير على طريقتهم من باب أوْلى وأحرى.
والتدريب هو: «عبارة عن نشاط منظم يركز على الفرد لتحقيق تغير في معارفه ومهاراته وقدراته لمقابلة احتياجات محددة في الوضع الحاضر أو المستقبلي، في ضوء متطلبات العمل الذي يقوم به المرء، وفي ضوء تطلعاته المستقبلية للوظيفة التي يقوم بها في المجتمع»(38).
ومن هنا نعلم أن التدريب ارتقاء دائم، وتطور مستمر، يسهم في تحسين الأداء، وتصحيح الأفكار، وزيادة البصيرة.
إن الدورات التربوية التدريبية تجمع إليك تجارب مركزةً لناجحين اختيرت بعناية، تجعل المربي يقوم بأداء أفضل، ومن ثم ثمرات أفضل، فإذا كان هذا ما سنحصل عليه من خلال الدورات التدريبية التربوية فلا ينبغي الاستنكاف عن الاستفادة منها حتى لو كلفنا ذلك بعض المال.
إن رجال الإدارة والاقتصاد وغيرهم ليسوا أحق بهذه الدورات والبرامج التدريبية من رجال التربية والتعليم والدعوة الذين يقومون على بناء الأجيال، ورعاية الناشئة، وصياغة الأمة وصناعتها، إننا بحاجة لمن يعلمنا فن الحوار، وفن الصمت، ومن يعلمنا الكف عن الإدمان على بعض الأشياء وبعض التصرفات، كما ( أننا بحاجة إلى من يدربنا على إدارة الوقت، وإدارة أعمالنا عن طريق الهاتف، وعن طريق الأهداف، وطريق التفويض، ومن يدربنا على رسم الأهداف، وعلى التخلي عن النزعات العدوانية، ومن يدربنا على حل مشكلاتنا عن طريق التفاوض، ومقايضة المصالح، ومن يدربنا على القراءة المثمرة، والتفكير المبدع، وحين نحرز تقدماً على هذه الأصعدة؛ فإننا سنجد أن معالم حياتنا كلها قد تغيرت، وصارت فرص النجاح والارتقاء أفضل بكثير مما هي عليه اليوم)(39).
وحيث إن الأمر هنا مجرد إثارة للموضوع لا غير؛ فإني أشير إلى بعض مواضيع الدورات التي يحتاج إليها المربي من أجل تربية أفضل فمن ذلك:
صياغة الأهداف - إدارة العمل - تحسين الأداء - أنماط الشخصية - فن التعامل والقدرة على التأثير - رعاية الإبداع - أدبيات الحوار - حل المشكلات وغيرها كثير.
وختاماً: فإن صياغة النفس البشرية على الفضائل، وتربيتها على الكمالات؛ عملية ضخمة كبيرة لا يصح أن تُصرف لها فضول الأوقات، إنها ليست عملية يوم أو شهرٍ أو سنة، بل هي جهد دائم، وسعي مستمر وكما قال الرافعي: (إننا لسنا على غارة نُغيرها، بل على نفوس نُغيّرها)(40) فكم هي مهمة عظيمة جليلة!
__________________________
(1) رواه البخاري ضمن حديث الإسراء الطويل، رقم (3207).
(2) الفروق، 4/ 170.
(3) البخاري، رقم (5063).
(4) رواه الترمذي، رقم (2507)، وصححه الألباني.
(5) الطرق الجامعة للقراءة النافعة، لمحمد موسى الشريف، ص 20.
(6) بناء الأجيال، د. عبد الكريم بكار، ص 99، وفيه مزيد كلامٍ يحسن مراجعته.
(7) وأد مقومات الإبداع، إبراهيم البليهي، ص 81، كتاب المعرفة.
(8) انظر: المشوق إلى القراءة وطلب العلم، علي العمران؛ فقد جمع من عجيب أحوال السلف مع القراءة والطلب.
(9) مسافر في قطار الدعوة. الشويخ، ص 312، نقلاً عن إحياء علوم الدين.
(10) القراءة المثمرة، بكار، ص 54.
(11) إغاثة اللهفان، ص 86.
(12) إغاثة اللهفان، ص 87.
(13) إغاثة اللهفان، ص 91.
(14) أبو داود، رقم (4888).
(15) البخاري، رقم (6069).
(16) مسلم، رقم (2749).
(17) مقالات في التربية، الدويش، ص 71.
(18) محاسن التأويل، للقاسمي، في تفسير آية التحريم 3.
(19) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 2/ 47.
(20) اكتشاف الذات، بكار، ص (109).
(21) اكتشاف الذات، بكار، ص (109 ـ 110).
(22) جامع بيان العلم وفضله، 1/ 85.
(23) علو الهمة. محمد إسماعيل المقدم، 399.
(24) الإصابة، (1/ 538).
(25) سير أعلام التابعين، صبري شاهين، ص (15).
(26) وحي القلم، (2/ 111).
(27) وحي القلم، ( 3/ 46).
(28) عبد الله البوسعيد، ص 210.
(29) رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، ص 230.
(30) بناء الأجيال، لعبد الكريم بكار، ص 29، (بتصرف).
(31) البخاري، حديث، رقم 63.
(32) الترمذي، رقم 3483، وضعفه الألباني.
(33) ص 99.
(34) رواه أحمد، (5/256)، والهيثمي في المجمع، (1/ 129).
(35) 200 حكمة قيادية ووصية إدارية، للحمّادي، ص 30.
(36) البخاري، رقم (2262).
(37) فتح الباري، (4/ 558).
(38) حول التربية والتعليم، عبد الكريم بكار، ص 389.
(39) حول التربية والتعليم، د. عبد الكريم بكار، ص 403.
(40) وحي القلم، (1/ 23).
المصدر : http://albayan-magazine.com/bayan-202/bayan-05.htm
ـــــــــــــــ(1/35)
مصعب بن عمير من الترف إلى الشظف
كان مصعب بن عمير - رضي الله عنه - أول سفير يبعث من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة ليعلم أهلها الإسلام، ويدعوهم إلى الإيمان.
يروي ابن إسحاق أنه بعد بيعة العقبة الأولى وانصراف الأنصار؛ بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين فعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: "أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانوا يقرئُون الناس، فقدم علينا بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر ابن الخطاب في عشرين من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى جعل الإماء يقلن: قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما قدم حتى قرأت: "سبح اسم ربك الأعلى" .. في سور من المفصل (1).
ونزل مصعب على أسعد بن زرارة، فكان يُسمى بالمدينة المقريء، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمّوا بعضاً - رضي الله عنهم - أجمعين.
نموذج لصدق الداعية وحكمته:
عن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير - رضي الله عنه - يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر على بئر يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لأسيد: لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا؛ ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً.
قال فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
قال: فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد، ليتسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه؟
فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؟
قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد ابن معاذ مقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك.
قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً مبادراً مخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت "بلغت" هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟
قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟
قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن.
وذكر موسى بن عقبة: أنه قرأ عليه أول الزخرف، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام، قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته، فأقبل عائداً إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير.
فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا إمرأة إلا مسلماً أو مسلمة، ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار، إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وكان شاعراً قائداً لهم، يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق(2).
الدروس والعبر:
مصعب بن عمير نموذج للداعية المخلص الصادق الذي تفتقر إليه مجتمعاتنا التي ملئت بدعاة فقراء من كل مقومات الداعية الناجح، ومن حياته نستخلص بعض الدروس والعبر وفي مقدمتها:
1- بالإخلاص والتضحية تنتشر الدعوات:
إن إخلاص الداعية وصدقه، وحبه لدعوته، وشغفه بها، وتضحيته العزيزة الغالية في سبيلها لهما من أهم عوامل النجاح، وإقبال الناس على دعوته، وما أقبل الناس على الإسلام في صدره الأول، ودخلوا فيه أفواجاً؛ إلا لتضحيات الصحابة والتابعين بكل غال ورخيص في سبيل تبليغ دعوتهم.
وما انصرف الناس عن الإسلام، وما ضعف ووهن في قلوب معتنقيه؛ إلا بإخلاد دعاته إلى الراحة والدعة، والإقبال على الترف الزائد، والنعيم المترف، الذي أقعدهم عن تحمل الصعاب، وحال بينهم وبين تكبد المشاق، وأفقدهم صدق كلماتهم عن الجهاد والتضحية، فلم تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية.
ولعل هذا هو السر في إقبال الناس على كل داعية مخلص في عصرنا وكل عصر، وكيف لا وليس لهم من زاد في دعوتهم التي ينطلقون بها إلا الإخلاص والوفاء، والصدق والتضحية الغالية التي لا تقف عند حد.
إن صدى الكلمات المخلصة الصادقة يجوب الأرجاء، ويعم الأنحاء، حتى إنه ليصل إلى كل مكان على سطح المعمورة قال تعالى: (( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ))(التوبة:32).
2- نبع القلب يفيض على القلوب:
إن الدعوة النابعة من القلب تجد طريقها إلى قلوب الناس ميسرة، وقد قال ابن عطاء: "كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز".
إن لهذه الجملة من حكم ابن عطاء لدلالات يجب أن يفطن لها الدعاة إلى الله الذين يرشدون الخلق إلى خالقهم، ويعرفونهم على طريق الهدى الذي جاءنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وليعلم هؤلاء الدعاة أنهم بقدر ما يتمكن الإيمان في قلوبهم بقدر ما يكون تأثير حديثهم في هداية الناس وإرشادهم، ولقد جاء في الحكم أيضاً: "تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيثما صار التنوير وصل التعبير".
وعلامة الكلام الذي يسبقه التنوير تأثيره في القلوب، وتهييجه الأرواح، وتشويقه الأسرار، فإذا سمعه الغافل تنبه، وإذا سمعه العاصي انزجر، وإذا سمعه الطائع زاد نشاطه، وعظم شوقه، وإذا سمعه السائر طوى عنه تعب سيره، وإذا سمعه الواصل تمكن من حاله، فالكلام صفة المتكلم، فإذا كان المتكلم ذا تنوير وقع في قلوب السامعين، وإذا كان ذا تكدير فَحَدُّ كلامه آذان المستمعين، فكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز، لذلك قال سيدنا علي - كرم الله وجهه -: "من تكلم عرفناه من ساعته، ومن لم يتكلم عرفناه من يومه".
3- الحلم والصفح:
على الداعية أن يقابل السيئة بالإحسان، وأن يكون متصفاً بالحلم والصفح، وأن يعلم أن الطريق لكسب القلوب المعادية للدعوة إنما يكون بالإحسان إلى من أساء، وتذكُّر قول الله - تعالى- دائماً: (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ))(فصلت:34).
ألا ترى إلى مصعب وقد جاءه أسيد، ثم سعد، وكل منهما وقف عليه متشتماً، فما غضب ولا ثار ولا تأثر، ولكنه رد عليهم الرد الجميل، وهدأ من غضبهم، حتى أجلسهم للاستماع للحق الذي يغزو القلوب، ويأسرها حين تتجرد، وتسمعه من قلب صادق متجرد، ألا تسمع لقول أسعد لمصعب: "هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه"؟
4- إشراقة الإيمان تظهر في الوجه:
الإيمان حين يتسرب إلى القلوب، وتتشربه الأفئدة؛ تبدو آثاره منذ اللحظة الأولى على محيا صاحبه؛ ألا تتأمل في قوله: "والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله"، وحين نظر سعد بن معاذ إلى أسيد وقد أقبل يكسو نور الإيمان وجهه فقال سعد: " أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ".
وهذا الأمر نفسه يتكرر مع سعد بن معاذ حين يؤمن، نعم شتان بين وجه مظلم بظلمة قلب صاحبه لكفره أو لاستغراقه في المعاصي، ووجه مضيء منير بقلب صاحبه الذي مُليء بنور الإيمان والطاعة، فالوجه مرآة: إما أن تعكس نور القلب وسناه، وإما أن تعكس ظلمته وقسوته.
وما أجمل قول الشاعر:
تريك أعينهم ما في صدورهم إن العيون يؤدّي سرَّها النظر
وقال الحكماء: العينان أنمّ من اللسان، وقال بعض البلغاء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا (4).
5- أثر السيد في قومه عظيم:
إن الرجل الذي يكون سيداً في قومه تتطلع إليه الأنظار، ويكون قدوة لمن خلفه من الأتباع، ومن ثم تكون كلمته فيهم مسموعة، وأثره فيهم كبيراً، وهو إما أن يقودهم إلى الحق، ويرشدهم إلى الخير، أو يحول بينهم وبين الهداية، فسعد بن معاذ - رضي الله عنه - حين يشرق الإيمان على فؤاده، ويحل نور الإسلام في قلبه؛ يتوجه إلى قومه فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة، بينما أبو قيس بن الأسلت يحول بين قومه وبين نور الهداية سنين، ولله في خلقه شؤون.
إن هذا يجعل المسلم الداعية يحرص على أن يتوجه بدعوته أيضاً إلى كبار القوم، ولا ييأس من أن يهدي الله منهم رجلاً واحداً فيهدي الله به خلقاً كثيراً، فيعظم الأجر، ويعم النفع والخير.
_______________________
(1) فتح الباري 7-260-3925
(2) سيرة ابن هشام 2-58
(3) إيقاظ الهمم في شرح الحكم 321.
(4) أدب الدنيا والدين -256.
المصدر : http://www.almujtamaa-mag.com/Detail.asp?InSectionID=78&InNewsItemID=38317
ـــــــــــــــ(1/36)
المثل الأعلى - صلى الله عليه وسلم -
سلمان بن فهد العودة
19/12/1423 الموافق له: 03/03/2002
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لا تطالها الظنون.
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له.
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل؛ فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار؛ فحلف على نصر الدين، وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد علماً من أعلام نبوته، ونصراً لأمر الله لا للأشخاص.
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة، فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث:
لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة من محمد
فاستل العداوات، ومحا السخائم، وألّف القلوب، وأعاد اللُّحمة، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي، ولا باني مجد ذاتي، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده.
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق.
قل إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال ويستتر في بعض، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه - صلى الله عليه وسلم - .
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس، ويخاطب كل قوم بلغتهم، ويحدثهم بما يعرفون، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه.
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه، وكل فرد أقبل فهو جليسه.
ما تكلف مفقوداً، ولا رد موجوداً، ولا عاب طعاماً، ولا تجنب شيئاً قط لطيبه، لا طعاماً ولا شراباً ولا فراشاً ولا كساءً، بل كان يحب الطيب ولكن لا يتكلفه.
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه، وقسمات وجهه، وصفة شعره، وكم شيبة في رأسه ولحيته، وطريقة حديثه، وحركة يده، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله ومشربه، ومركبه وسفره، وإقامته وعبادته، ورضاه وغضبه، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة والغسل، والقسم والنفقة، والمداعبة والمغاضبة، والجد والمزاح، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها.
ولعمر الله إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء، وما لا يعرفه الصديق عن صديقه، ولا الزوج عن زوجه، ولا كان أهل الكتاب يعرفونه شيئاً يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء؛ وذلك لتكون سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال، ولكل الناس.
فالرئيس والمدير، والعالم والتاجر، والزوج والأب والمعلم، والغني والفقير؛ كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم، وتفاوت طرائقهم.
والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به - صلى الله عليه وسلم - مهما تقلبت به الحال، ومهما ركب من الأطوار، فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته، فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه، ولكنها قد لا تصلح لغيره، ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة، أو على العلم، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه:
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
فإذا قرأ سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحس بقرب التناول، وسهولة المأخذ، وواقعية الاتباع، حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع فقال لهم: ( أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له، وأعلمكم بما أتقي)، وقال: ( اكلفوا من العمل ما تطيقون )، وقال: ( إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا ).
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه، وتقليب النظر فيها، وإدمان مطالعتها، واستحضار معناها وسرها، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف.
إن الله - عز وتعالى - لم يجعل لأحد وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المنصب الشريف: منصب القدوة والأسوة؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن يقتدي بهم (( فبهداهم اقتده )) إلى ما خصه الله - تعالى- وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال، ولهذا قال - سبحانه -: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً )).
إن حياته - صلى الله عليه وسلم - وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية، والترجمة العلمية؛ لنصوص الشريعة،
ومن الخير أن تظل هذه السيرة بواقعيتها وصدقها محفوظة من تزيد الرواة، ومبالغات النقلة التي ربما حولتها إلى ملحمة أسطورية تعتمد على الخوارق والمعجزات، وبهذا يتخفف الناس من مقاربتها واتباعها ليكتفوا بقراءتها مع هزِّ الرؤوس، وسكب الدموع، وقشعريرة البدن.
إن الآيات التي تأتي مع الأنبياء حق، لكنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، والقاعدة هي الجريان مع السنن الكونية كما هي. وكثيرون من المسلمين - وربما من خاصتهم - يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها، فيقتدون به - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وحجّه ( خذوا عني مناسككم )، وسنن اللباس والدخول والخروج؛ وهذا جزء من الاتباع المشروع بيد أنه ليس كله، ولا أهم ما فيه، فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله - تعالى-، والتجرد والإخلاص، ومراقبة النفس، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية، وأحق بالرعاية، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفاً؛ لأن الناس يتنافسون - عادة - فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله، وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها، وتكلف تمثلها فوق المشروع؛ دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة، وحكمتها وأثرها في النفس. وهذه المسائل حتى التعبدية منها؛ ما شرعت إلا لمنافع الناس ومصالحهم العاجلة والآجلة، وليست قيمتها في ذاتها فحسب بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون.
وإنه لخليق بكل مسلم أن يجعل له ورداً من سيرة المصطفى - عليه السلام - إن كان ناشئاً فمثل ( بطل الأبطال ) لعزام، وإن كان شاباً فمثل ( الشمائل المحمدية ) لابن كثير أو الترمذي، و( الفصول ) لابن كثير أو ( مختصر السيرة ) أو ( الرحيق المختوم ) أو ( تهذيب سيرة ابن هشام )، وإن كان شيخاً فمثل ( سيرة ابن هشام ) أو ( ابن كثير )، وإن كان متضلعاً بالمطولات فمثل ( سبل الهدى والرشاد ) وكتاب ( نضرة النعيم ). رزقنا الله حب نبيه، وحسن اتباعه ظاهراً وباطناً، وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
http://www.islamtoday.net/aصلى الله عليه وسلمticles/show_aصلى الله عليه وسلمticles_content.cfm?aصلى الله عليه وسلمtid=635&catid=38
ـــــــــــــــ(1/37)
حتى تكون القدوة صالحة لا بدّ من...
صفات القدوة الصالحة:
1 ـ اقتران القول والعمل:
فالقدوة الصالحة تقول خيراً وتعمل خيراً، فلا تجد تناقضاً بين منطقها وسلوكها، ولذلك كان الأنبياء - عليهم السلام - والأولياء قدوات صالحة لأنّك تجد انسجاماً واضحاً بين ما يقولون وبين ما يجسّدون من تلك الأقوال، وهذا ما دعا القرآن الكريم إلى اعتبار التناقض أمراً ممقوتاً عند الله: ((يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )).
2 ـ حيازة مؤهلات وصفات مؤثرة:
فلكي يكون شخصٌ قدوة لغيره لا بدّ أن يمتاز عليه بسمة أو سمات عديدة يفتقدها المقتدي أو بعضها، فيسعى للسير على منوال القدوة من أجل اكتساب مثل ما لديه من مؤهلات وصفات حميدة.
وكلّما كانت القدوة حائزة على مؤهلات أكبر كانت قوّة الدفع أكبر، ولذا يُنصح الشبان والفتيات بعدم حصر قدواتهم في النماذج المحدودة، وإنّما الانطلاق نحو القمم، ولذلك قال الشاعر:
ومَنْ يتهيّب صعودَ الجبال يعش أبدَ الدّهرِ بينَ الحفر
3 ـ الثبات على المبادئ:
القدوة الصالحة ليست قدوة موسمية تؤثر لبعض الوقت، أو في أماكن محدّدة، إنّما هي ذات تأثير وجاذبية أينما حلّت وارتحلت ((وجعلني مباركاً أينما كنت ))، فالثبات يعطي الانطباع عن الصدق والصبر، والتحدي والإيمان العميق بالمبادئ التي يحملها القدوة، بعكس التذبذب أو التردد، أو التراجع أو التساقط.
إنّ الإنسان الشاب أو الفتاة قد ينهار تحت الضغوطات لكنّه إذا تذكّر الثابتين الصامدين، المقاومين في عناد؛ خجل من نفسه، واتّكأ على جراحه، وواصل المسير.
4 ـ العمل على السجيّة وعدم التكلّف:
كلّما كانت القدوة تتصرّف بوحي من ثقتها بنفسها وإيمانها، وعلى سجيّتها دونما تصنّع ولا تكلّف ولا تمثيل؛ شدّ ذلك الأنظار إليها، فالقول الحسن لدى القدوة يطفح كما الماء من الينبوع بعفوية وتلقائية، والفعل الحسن يصدر عنها كما يصدر الشعاع عن الشمس، والعطر من الوردة ذاتها.
إنّ الوردة لو أرادت أن تتعطّر بعطر غير عطرها فلربّما فاح ذلك العطر مؤقتاً لكنّه لا يمثل أنفاس الوردة العاطرة، وإنّما هو شيء طارئ ودخيل عليها، وكذلك القدوة ففعلها وقولها ليس طارئاً وإنّما هو من شمائلها.
والنفس الإنسانية ميّالة بطبعها إلى الإنسان الصادق مع نفسه ومع الآخرين، والذي يتصرّف بنقاء شبيه بنقاء الماء والشعاع والعطر، وهذا هو السبب الذي يجعل بعض الناس يؤثر فيك من غير أن يتكلّم معك، فسلوكه وحده قدوة، وهو نفسه الذي يجعل بعض الصالحين يقول: «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، حتى يروا منكم الصدق والصلاح والورع، فذلك داعية»، وقد ثبت تربوياً أنّ (التربية غير المباشرة) العملية أكثر تأثيراً من (التربية غير المباشرة) القولية.
5 ـ آمرة مؤتمرة، ناهية منتهية:
وهذا هو التطابق بين الإيمان وبين العمل، فحتى تؤتي القدوة تأثيرها لا بدّ أن تعمل بما تأمر به، حتى إذا رأى المؤتمرون فعلها بما تأمر صدّقوها، وأخذوا بأوامرها، كما لا بدّ أن تنتهي عمّا تنهى عنه من شر أو منكر، أو سوء أو خبث أو بذاءة، فإذا لم يلحظ المنتهون ذلك، أو رأوا عكسه وبخلافه؛ عابوها وانتقصوا من قدرها، وسخروا منها، وفي ذلك يقول الشاعر:
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ولو راجعت قصص القدوات الصالحة لرأيت هذا الشرط واضحاً في سلوكهم، فقد كانوا لا يأمرون بشيء حتى يسبقوا الناس إلى العمل به، ولا ينهون عن شيء إلاّ ويسبقون الناس أيضاً بالامتناع عنه.
6 ـ تعترف بالخطأ وتسعى لتصحيحه:
القدوة قدوتان: قدوة معصومة لا يتطرّق الخطأ إلى أقوالها وأفعالها، كما هم الأنبياء - عليهم السلام - الذين يشبههم البعض بالشموس الساطعة التي كلّها نور، ولأنّ المراد منها أن تنير عقول الناس وقلوبهم وحياتهم، فلا يصحّ أن يكون هناك شيء من الظلمة ولو قليلاً.
وهناك قدوة غير معصومة، قد يصدر عنها الخطأ لكنّها تسارع إلى معالجته وتفاديه، والاعتراف به، وعدم الإصرار عليه، أو تكراره مستقبلاً، وبذلك تكون قدوة حتى في صراحتها وشفافيتها، وفي سعيها إلى تصحيح ما تقع به من أخطاء.
إنّ المتقين - وهم قدوات صالحة - يقعون في الخطأ أحياناً، لكنّ ميزتهم عن سواهم أن سواهم تأخذه العزّة بالإثم فيكابر ويحاور ويناور لئلاّ يقال عنه أ نّه أخطأ، فيما يؤوب المتقي إلى ربّه، ويثوب سريعاً إلى رشده (( إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون )).
و"طائف الشيطان" هو الخواطر الخبيثة والشريرة التي تخطر على بال الإنسان، لكنّه بما أوتي من قدرة إيمانية تصحيحية يعمل على طرد تلك الوساوس والتسويلات والخواطر، ليعود إلى سابق عهده ونقائه، كالنهر تتساقط بعض الشوائب لتلوثه لكنّه سرعان ما يعود إلى صفائه من جديد.بتصرف يسير عن : http://www.balagh.com/youth/3k0صلى الله عليه وسلمb8jq.htm
ـــــــــــــــ(1/38)
المربية القدوة
خولة درويش
أكد المربون على أهمية مرحلة الطفولة بقولهم: "إن الطفولة صانعة المستقبل".
وقد سبقهم الإسلام إلى تقرير هذا المبدأ التربوي، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (كل مولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
لهذا كان واجبنا جميعاً أن نوفر لأطفالنا كل ما يؤهلهم لحياتهم المقبلة، فنعمل جاهدات على إحياء قلوبهم بمحبة الله، وإيقاظ عقولهم ومداركهم، وتمرين حواسهم، كما نرعى نمو أجسادهم.
وباختصار.. نربيهم على طريقة الإسلام التي تعالج الكائن البشري كله معالجة شاملة لا تترك منه شيئاً، ولا تغفل عن شيء، جسمه وعقله وروحه.
فلا تستهيني - أختي المربية - بمهمتك فأنت تربين رجال المستقبل الذين سيرفعون من شأن الأمة، ويبنون لها مجدها - بإذن الله -، وأنت في عملك هذا في عبادة تؤجرين عليها - إن شاء الله - إن أحسنت القصد، وما تربية الأجيال إلا إعدادهم لحمل رسالة الأمة، ونشر عقيدتها.
إنك تعدين النساء الفاضلات اللاتي يتمثلن مبادئ الإسلام، ويعملن بها بعزة وفخار، ويضحين برغباتهن في سبيل الله، ولما كان للمربية الأثر الكبير في الناشئة، حيث إنها المثل الأعلى الذي يجتذب الأطفال؛ فيقلدونها، وتنطبع أقوالها وأفعالها في أذهانهم؛ لذا فلابد للمربية المسلمة أن تراقب الله - تعالى- في حركاتها وسكناتها، وتتعاهد نفسها بالتقوى، وتحاول أن تصعد إلى القمة السامقة في تمسكها بكل ما يدعو إليه دينها، وتأخذ بيد غيرها إلى الخير الذي تسعى إليه، فذلك من صميم ما يدعو إليه ديننا.
إنها قدوة لأطفالنا فلا يناقض قولها عملها، إن دعتهم لمبدأ فهي أحرص الناس على القيام به؛ لأنها المسلمة التي تقرأ قوله تعالى: (( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ))[الصف:3].
وإذا دعت إلى الالتزام بالآداب الإسلامية فلا تهملها أو تغفلها:
- فهي تلتزم بتحية الإسلام، وترد على أطفالها تحيتهم بأحسن منها.
- تلزم نفسها بآداب الطعام والشراب، وتعلمها أطفالها، وتذكرهم بها.
- تدعوهم إلى شكر صاحب المعروف، وهي أحرص الناس على تطبيق المبدأ حتى في معاملتها لأطفالها.
- تعاملهم بأدب واحترام؛ ليستطيعوا احترام غيرهم في المستقبل اقتداء بسلوك مربيتهم.
- تبتعد عن الظلم، وتسعى جاهدة لإشاعة العدل بين أطفالها قال - صلى الله عليه وسلم - : ( اتقوا الله واعدلوا في أولادكم )، وقد كان سلفنا الصالح يستحبون التسوية بين الأطفال حتى في القُبَل.
- تعاملهم بالرحمة والرفق؛ ليكونوا في المستقبل متكافلين متعاطفين كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وعلى قدر ما تعطي الأطفال من التشجيع والثقة بالنفس والعاطفة الصادقة تستطيع النهوض بهم.
- لا تتلفظ بكلمة نابية تحاسب عليها، ولا تتكلم بكلمة جارحة قد تبقى عالقة في عقل الطفل وقلبه، وقد لا تزيلها الأيام والأعوام.
- تضبط نفسها ما أمكن، فكما يسوؤها أن تسمع الأطفال يتلفظون الكلمات التي لا تليق كذلك يجب أن تمسك لسانها وتحبسه عن قول ما لا ينبغي وما لا تحب أن يقلدها فيه صغارها.
- إنها تلتزم بما تدعو إليه؛ لأنها تسمع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الذي يقول ولا يفعل: (.. ويجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهي عق المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه)(رواه البخاري ومسلم).
إننا إذ نريد أجيالاً تخلص نفسها لله، وتعمل جاهدة لرضاه؛ فيجب أن نكون لها القدوة الصادقة في ذلك بعملنا المخلص الدؤوب، وبعد ذلك فإن شفافية الأطفال سرعان ما تلتقط الصورة وتنفذها بالقدوة الطيبة التي تعرف قيمة الوقت، ولا تضيعه، والذي طالما لمسوه من مربيتهم.
ثم تركز المربية في توجيهها على ما يحبه الله ويرضاه، إن ذلك هو الهدف الحقيقي من التربية، فلا يصح أن تركز على المصلحة أثناء حثهم على العمل؛ ذلك لأن التعلق بالمصالح الذاتية يخرج أجيالاً أنانية بعيدة عن تحمل المسؤولية، وحمل الرسالة بأمانة.
ولا مانع أثناء توجيهها من الإشارة إلى فوائد هذا العمل الذي تدعو له، لكن التركيز الفعلي يركز على مرضاة الله - تعالى-،
فالمربية الناجحة لا تهمل التشجيع، لكن التشجيع الذي لا يفسد عليها هدفها، بحيث لا يكون التشجيع المادي هو الأساس، وإنما تثني عليهم، وتغرس الثقة في نفوسهم، وتحفزهم إلى كل عمل طيب.
- إنها المربية القدوة في حسن مظهرها: تعتني به؛ لتظهر دائماً بمظهر جذاب يسر الطفل، على أن لا يكون في ذلك سرف ومبالغة.
وهذا الأمر الذي تدعو له التربية المعاصرة قد سبق إليه الإسلام؛ فقد دعا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى حسن المظهر بقوله: (كلوا واشربوا، وتصدقوا والبسوا؛ في غير إسراف ولا مخيلة)، والتوسط في الملبس كما بين ابن عمر - رضي الله عنهما - هو: "ما لا يزدريك به السفهاء، ولا يعتبك عليه الحلماء".
- إن المربية القدوة في حسن إعدادها للأجيال: تعمل على تربية الطفل على طرائق التفكير المنظم، يلاحظ الظاهرة فيدرسها بالطريقة العلمية السليمة ليصل إلى النتائج، وهي طريقة الإسلام الذي يمتدح العقل والنظر والفكر.
تعوده على التفكير المنطقي السليم بكونها قدوة خيرة في ذلك، تبتعد عن أحاديث الخرافة، تثير تفكيره وتربط الأسباب بمسبباتها.
وأخيراً: لابد من صدق النية، وسلامة الطريقة، نخلص لله في نياتنا، ونلتمس الصواب في أعمالنا، فالغاية التي نسعى إليها تستحق أن يبذل في سعيها كل جهد، إنه عمل يبقى لما بعد الموت، فلنتق الله في الأمانة التي بين أيدينا، وما علينا إلا أن نسأل أنفسنا قبل أي تصرف: ما أثر ذلك على سلوك الطفل في المستقبل؟ فإن كان أثره إيجابياً يتناسب مع مبادئ الإسلام وغايته فلنقدم، وإلا فلنراقب الله - تعالى- ونمتنع عنه.
ولتكن كل واحدة منا مربية قدوة في التزامها الشرعي لواجباتها الدينية:
- قدوة في كلامها العفيف.
- قدوة في عدلها ورحمتها.
- قدوة في إتقان علمها، وتقدير قيمة وقتها.
- قدوة في التفكير المنطقي السليم، والبعد عن الخرافة.
- قدوة في البعد عن الازدواجية والتناقض بين القول والعمل.
ولعل حاجة المسلمين تكمن في تربية جادة عقدية للأجيال الناشئة، شباب المستقبل الذي يخطط له الطريق ليسير على نهج السلف، سلف هذه الأمة الذين رفعوا لواء الإيمان والأخلاق بالدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله؛ فكانت لهم العزة في الدنيا، والفلاح في الآخرة، وأرجو ألا يكون ذلك عنا ببعيد!
المصدر : http://www.dawahwin.com/aصلى الله عليه وسلمticle.php?sid=568
ـــــــــــــــ(1/39)
القدوة وأثرها في الدعوة النسائية
أهميتها ـ مقوماتها ـ ميادينها
أسماء بنت راشد الرويشد
الحمد لله ربّ العالمين القائل في كتابه المبين: (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )).
والصلاة والسلام على النبي الأمين الذي جعله الله قدوة للمؤمنين: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )) - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وعلى كل من اتبع آثارهم واقتفى، أما بعد:
تشتد حاجة المسلمين اليوم إلى مثل أعلى يقتدون به، ويقتفون أثره، ويحذون حذوه؛ وذلك بسبب ضعف فهم الناس للدين، وقلة تطبيقهم لهم، ولغلبة الأهواء، وإيثار المصالح العاجلة، مع قلة العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، فنحن في هذه المرحلة من الزمن؛ وقد بدت آثار الصحوة الحقة تبهت في مجتمعنا المسلم، قد تضاعفت حاجة المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكون أنموذجاً واقعياً، ومثالاً حياً؛ يرون الناس فيهم معاني الدين الصحيح علماً وعملاً، قولاً وفعلاً، فيقبلون عليهم، وينجذبون إليهم؛ لأنَّ التأثير بالأفعال والأحوال أبلغ وأشدّ من التأثير بالكلام وحده، وقد قيل: شاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
ويشهد لأهمية ذلك أنَّ الله - جلَّ وعلا - جعل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة لمن بعده: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.. ))، كما أمره أن يقتدي بمن سبق من الأنبياء: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ))(الأنعام /90).
ورأس الأمر في القدوة والأسوة الحسنة أن ندعو الناس بأفعالنا مع أقوالنا، يقول عبدالواحد بن زياد: "ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه"، ولما نبذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه وقال: (إني اتخذت خاتماً من ذهب) فنبذه وقال: (إني لن ألبسه أبداً) فنبذ الناس خواتمهم فدلَّ ذلك على أنَّ الفعل أبلغ من القول.
ونحن - كما أسلفت - في هذه الفترة العصيبة التي تمر على الأمة من الضعف والهزيمة نحتاج أن نحقق في أنفسنا أنموذج التطبيق الصحيح لهذا الدين؛ لكي يحقق الله لنا النصر والتمكين، ونسد على المتربصين أعداء الذين منافذ تسلطهم وسطوتهم باسم الإصلاح، وحفظ الحقوق، فهذا خليل الله إبراهيم - عليه السلام - لما جعله الله إماماً للناس يقتدى به قال: ((ومن ذريتي)) أخبره الله - تعالى- أنَّ فيهم عاص وظالم لا يستحق الإمامة، فقال: ((لا ينال عهدي الظالمين))، فإذا أردنا أن يحفظ الله لنا ديننا، ويستتب أمننا، ونردّ كيد أعدائنا؛ فلنقم هذا الدين علماً وعملاً ومنهجاً لحياتنا وسلوكنا، إذ إن المسلم القدوة أشد على أعداء الدين من كل عدة، ولذلك لما تمنى الناس ذهباً ينفقونه في سبيل الله كانت مقولة عمر بن الخطاب: "ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله"، فعسى إن كنا على مستوى حسن الأسوة والتأسي أن يمكن لنا في الأرض، وأن يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين.
أهمية القدوة في حياة المسلمين وواقعهم:
1ـ إنَّ القدوة هي ذلك التأثير الغامض الخفي الذي يمثله أفعال وأقوال ومواقف المثال الحي المرتقى في درجات الكمال، مما يثير في نفس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع الغيرة، والتنافس المحمود، ويتولَّد لديهم حوافز قوية تحفزهم؛ لأن يعملوا مثله، وقد يكون ذلك دون توجيه مباشر.
2ـ القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل والاستقامة تعطي الآخرين قناعة بأنَّ بلوغ هذا المستوى من الأمور ممكن، وأنها في متناول قدرات الإنسان ولا سيما في زمن الفتن وكثرة الصوارف.
3ـ مهما توسعت دائرة المعارف، وانتشر العلم بين النَّاس؛ فإنَّ واقعهم لا يزال يشكو القصور والانحراف؛ ما لم يقم بذلك العلم عاملون مخلصون، يكونون قدوات في مجتمعاتهم وطبقاتهم، يمتثلون أمره، ويخطون على منهجه، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي للحياة يفهمه الجميع؛ إذ إن مستويات فهم العلم والقول عند الناس تتفاوت، لكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين لمثال حي، يكون أيسر وأقوى في إيصال المعاني وإحداث التغيير، ومن ذلك ما كان من تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش ابنة عمته من زيد بن حارثة مولاه الذي أعتقه؛ لكي يكون قدوة ومثالاً حياً للناس لما تأصل في نفوسهم من الفوارق الطبقية التي جاء الإسلام بإلغائها، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
4 ـ إنَّ غياب القدوة في حياة المسلمين عامل رئيس في فشو الجهل، وانتشار المنكرات واستفحالها؛ وذلك لأنَّ العاملين بالعلم والقائمين بدين الله هم في الحقيقة دعاة يعلنون الحق بأفعالهم، وينشرون الدين الحق حين ينتشرون بين الناس، فيظهر أمره في الناس، وتنحسر أمامهم المنكرات بتواجدهم الفعال المؤثر في الآخرين، وهكذا فكلما ازدادت القدوات انتشر العلم، واختفت المنكرات، وقد نقل عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال يوماً لأصحابه: "ادعوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم".
5ـ الناس ينظرون إلى المتعلم العلم الشرعي والصالح نظرة دقيقة فاحصة دون أن يعلم، فربّ خطأ يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر؛ وذلك لأنه محسوب في مجتمعه قدوة لهم، وهنا تكمن أهمية القدوة وخطورتها، إذ إن كل مفارقة بين أقوال القدوة وسلوكه واهتماماته تشكِّل مصدر حيرة وإحباط لدى عامة الناس، وخصوصاً المبتدئين في الالتزام، ويكون مصدر فتنة للناس، واستخفاف بالعلم الذي تلقاه.
فالذين يعرفهم الناس بالصلاح والتدين؛ وهم في الحقيقة جمعوا مع تلك السمعة تناقضاً في الواقع، ومخالفة لما يفترض أن يكونوا عليه؛ هؤلاء لا يقال فيه: إنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوات، بل إنهم يمارسون دوراً تخريبياً؛ إذ هم يشوهون صورة الصالحين والفضلاء في أذهان العامة، ويعطونهم صورة مخالفة لحقيقة الدين التي قد لا يعرفونها إلا من خلالهم، كما أنههم يشجعون الناس بطريقة خفية على التميع والهشاشة الدينية، ويتسببون في تبخير ما بقي من هيبة واحترام للصالحين، ويكونون سبباً في فقد ثقة الناس بهم.
ولذلك فإنَّ المسؤولية عظيمة وكبيرة على العلماء والدعاة والصالحين وذويهم وأهل بيوتهم بشكل خاص، إذ لا بدَّ أن يؤهلوا تأهيلاً خاصاً لإكمال وظيفتهم الدعوية في المجتمع؛ عن طريق الاهتمام بتحقيق القدوة والأنموذج الواقعي للصلاح والاستقامة، وهذا يلقي عليهم مسؤولية عامة تجاه الناس، فضلاً عن مسؤوليتهم الخاصة تجاه أنفسهم فيما بينهم وبين الله - تعالى-.
وعلى ذلك فإنَّ على كل مسلم ومسلمة عرف طريق الحق وسلكه أن يجاهد نفسه ليقترب ما استطاع من ذلك الأنموذج الإنساني الراقي، نعني به القدوة، وإذا نظرنا في تاريخ العلماء والصالحين وجدنا أدبيات كثيرة تحثّ المسلم على التميز والحرص على العمل بالعلم، إذ يقول سفيان بن عيينة: "إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهل؛ فما أصنع بالعلم الذي كتبت؟!"، وقال الحسن: "لا تكن ممَّن يجمع علم العلماء، وطرائف الحكماء، ويجري في العمل مجرى السفهاء"، وقال أيضاً: "كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، ولسانه وبصره ويده".
فالرأس في الخير لا بدَّ أن يسير في طريق المجاهدة، ومنابذة الشهوات، ولا يرتضي لنفسه أن يكون من الخلوف الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم: (يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون)، وإنما يحرص على أن يكون من أتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذين وصفوا بأنهم: (يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره)، وكما يقول مالك بن دينار: "إنَّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصخرة الصماء".
مقومات القدوة:
1ـ الإخلاص، وهو من أعظم المطالب؛ إذ يجب أن يفتش عنه الإنسان المقتدى به، فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله - عزَّ وجل - بعيداً عن أغراض النفس، ونظر الناس، فيفعل الأمر، ويترك النهي، مع تمام الخضوع لله، والتسليم له.
2ـ الاستقامة على الإيمان والعمل الصالح، إذ إن هناك الكثير من الصالحين، ولكن قليل من يستقيم على ذلك، ويتمسَّك به في كل أحيانه وظروفه، وفي كل زمان ومكان، فلا يتغيَّر ولا يتلون ولا يحابي، فللقدوة في نفسه شغلاً بين إقامتها ومجاهدتها وسياستها، وهذا هو المطلوب الأعلى، والنهج الأسمى، وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
3ـ حسن الخلق: إذا كانت الاستقامة والصلاح يتوجهان إلى ذات المقتدى به ليكون صالحاً في نفسه، قويماً في علاقته مع ربه، فإنَّ حسن الخلق يتوجه إلى علاقته بالناس، وأصول تعامله معهم، ويُجمل ذلك المنهج الدعوة النبوية في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وخالق الناس بخلق حسن).
والكلام في حسن الخلق واسع ومتشعب، ولكن نجعله في أمور وكليات منها:
* الصدق: فيحذر القدوة الخداع والكذب والتحايل، وكل خلق يضاد صفة الصدق؛ لأنَّ المؤمن القدوة لا بدَّ أن يطمئن إليه الناس ويثقوا به، ولا يكون ذلك إلا لصادق.
* الصبر، وتحمل الأذى، والصفح عن المسيء، وسعة الصدر: إذ إن الناس يكتشفون معدن الإنسان، ويمنحونه احترامهم وثقتهم عن طريق رؤيتهم لتصرفاته وتعامله، وأخلاقياته الراقية التي تنشأ عن الصبر والاتزان.
ومن أعظم أنواع التعامل الحسن أيضاً:
* التواضع، وإنكار الذات، وأن يألف ويؤلف، وكذلك العفو والتسامح، وغض الطرف عن الهفوات.
ومن مكارم الأخلاق التي هي مقومات القدوة:
* عفة اللسان، والترفع عن القيل والقال، وترك الانشغال بسفاسف الأمور، وتجنب الخوض مع الخائضين.
ومن صفات القدوات:
* الكرم، والرحمة، وأداء الأمانة، ووفاء الوعد، والقناعة، والعفة، والرضا بالقليل، وغير ذلك من الأخلاق والصفات التي تجسدت في قدوتنا وأسوتنا النبي الكريم الأكرم سيد الخلق وقدوتهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
4ـ استقلال الشخصية: وذلك ركن رئيس في سمات القدوة، فيتحرر القدوة من التبعية والتقليد الساذج، فيكون مؤثراً لا متأثراً، ما لم يكن متأسياً بهدي الصالحين والمصلحين، فلا يليق بمن هو في موقع القدوة أن يكون إمعة يخضع لضغط الجهال والسفهاء، يميل معهم حيث مالوا، وقد ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قوله: "وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإذا أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم"، ولكي لا يفتتن به إمعة من رعاع الناس لا يرى الدين إلا من خلال تصرفاته، فكما تكون الإمامة والأسوة في الخير؛ فهناك قدوة الضلالة ينظرون الناس إليه على أنه مثلهم الأعلى، فإن زلَّ زلوا معه، وإن عاد إلى الصواب بعد ذلك قد لا يعودون.
5 ـ من مقومات القدوة: الاعتدال في أمور الحياة، ونهج منهج التوسط والاقتصاد، ومراعاة آداب الشريعة وتوجيهاتها في أمور الحياة والمعيشة، ولا سيما في اللباس والمظهر، وهما الامتداد المادي لحقيقة الذات، والعاكس المهم لكثير من كوامن الشخصية وخصائصها، فمن المهم أن ينسجم مظهر القدوة مع منهج التدين الذي ينسب إليه، والحذر من المفارقات والتناقض الذي يضعف أثر القدوة في نفوس الناس.
6 ـ تنظيم الوقت وحفظه من مقومات شخصية القدوة، بحيث يعطي كل ذي حق حقه، ولا يطغى جانب في حياته على جانب آخر، فتضيع الواجبات والأولويات على حساب الاشتغال بالتوافه والثانويات.
ميادين القدوة:
1ـ العبادة والطاعات المحضة، وذلك بالمحافظة على الفرائض والواجبات، والتزود بالإكثار من النوافل والقربات، فذلك ميدان مهم من ميادين الدعوة بالقدوة، كما كان التأثير بذلك قوياً في هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في عبادته وقيامه بحق ربه، ومن ذلك أيضاً أمره لنسائه بقيام الليل حينما رأي تنزل الفتن والخزائن على أمته ليقتدي بهن النساء، خاصة والناس عامة في كل زمان، ولاسيما زمن كثرة الفتن.
2ـ علاقة القدوة بالناس وتعامله معهم وكسبه لحبهن واحترامهم وثقتهم من خلال حسن تصرفه وتحليه بمكارم الأخلاق والسماحة والكرم والعدل وطيب العشرة وطلاقة الوجه وحسن القول، إلى غير ذلك من مجالات الدعوة بالقدوة في التعامل، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الميدان أعظم أسوة وأرقاها.
3 ـ تكوين النفس وتربيتها علماً وأدباً وسمتاً ومظهراً، وهذا ـ كما أشرنا سابقاً ـ لا تتحقق القدوة إلا به، وهو في الوقت ذاته مجال من مجالات الدعوة وأسلوب مؤثر من أساليبها. فيقع التأثر في نفوس الناس بمظهر القدوة وسمته ووقاره موقعاً بليغاً يفوق أحياناً الاستفادة من أقواله وعلمه. وقد ورد أنَّ الذين كانوا يجلسون على الإمام أحمد بن حنبل في مجلس درسه يبلغ المئات، مع أنَّ الذي يطلب عليه ويدون علمه عدد قليل من ذلك الحشد الكبير الذي إنما حضر انتفاعاً بهدي الشيخ وإقتداء بسمته وأدبه.
أهمية القدوة في أوساط النساء:
إننا في ظل الظروف الحالية والمرحلة الخطيرة المقبلة بحاجة ماسة إلى قدوات من نساء فقهن دينهن ووعين دورهن في المجتمع، إذ إن هناك مجالات وميادين نسائية كثيرة تفتقر إلى التوجيه القيادي العملي، ولاسيما في مجالي التربية في البيوت والتعليم في المدارس والجامعات. ومع ذلك فهناك من النساء الرائدات كان لهن التأثير الكبير بفضل الله على أزواجهن وأسرهن وطالباتهن من خلال أسلوب القدوة الفعَّال.
ومع أنَّ الصحوة العلمية والحركة الدعوية في أوساط النساء قد بلغت في وقتنا الحاضر من القوة والنشاط ما لم يسبق له مثيل فيما مضى، إلا إنه لا يزال الأمر محصوراً في طبقة المتدينات والراغبات في الخير إجمالاً، بينما هناك في أوساط النساء جماعات كثيرة وشريحة ضخمة لا يبلغهن ذلك الخير ولا تصلهن الدعوة، وذلك في الغالب بسبب الغفلة والانشغال بأمور الدنيا.
فكيف يمكن إيصال الدعوة إليهن والتأثير عليهن؟
إنه عن طريق القدوة الصالحة لتلك المرأة الواعية الفاضلة التي لا بدَّ أن تكون موجودة بين صفوف أولئك النسوة.
عندها يفهم الجميع هذا الدين ويدركون المطلوب منهم والمحذور عليهم، من خلال النساء الصالحات القدوات.
نصائح وتوجيهات لكل موفقة اصطفاها الله - جل وعلا - لتكون أسوة تحتذى ومنارة للهدى:
إنَّ الذي ينحدر للتهافت على الملذات ذلك الذي رضي لنفسه أن يعيش دائماً في القاع، وأما من يرقى في سلم الطاعات ومجاهدة الملذات؛ فذلك صاحب الإمامة في الدين وقدوة المتقين ومضرب الأمثال للعالمين، وإن كانت امرأة {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}.. وكذلك {َمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا..}.
فلذلك أيتها الموفقة، يا من هداك إلى طاعته وبيَّن لك سبيله، يا طالبة العلم الشرعي، يا من نشأت في بيوت الصلاح والدعوة، يا أم وزوجة وأخت وبنت الداعية، يا نساء بيوت العلم والصحوة.
إلى المثل التي يحتذي بها غيرها من النساء، إلى القدوة الصالحة لغيرها من المؤمنات، إلى المثال الحي الواقعي لحياة ملأتها المغريات والملهيات؛ حتى ظنَّ بعض المفتونات أنَّ بلوغ ذلك المستوى من تكوين الذات وإنشاء مثل تلك البيوت من الأمور المستحيلة.
وإليك ـ أختي القدوة الداعية بأفعالك ـ هذه التوصيات والتنبيهات:
1ـ الحذر من التساهل الذي يفتن العامة ويلبس عليهم، مثل الأخذ بالرخص وبعض أقوال أهل العلم الشاذة أو المرجوحة. ولما نهى عمر - رضي الله عنه - عبد الرحمن بن عوف عن لبس الخفين في الحج ـ أخذاً بالرخصة في ذلك ـ؛ لخشية عمر أن يتوسَّع الناس في ذلك، قال له:"عزمت عليك إلا نزعتهما، فإني أخاف أن ينظر الناس إليك فيقتدون بك". ومن ذلك في الوقت الحاضر: تساهل كثيراً من الخيرات، بل وبعض طالبات العلم الشرعي في ركوب السيارة مع السائق لوحدها وحصول الخلوة بذلك؛ أخذاً بقول بعض من رخص، وكذلك التساهل في الوقوع في بعض الأمور المستحدثة التي ترجح تحريمها، كما في مسألة تشقير الحاجبين ليبدوا أدق قريباً من وصف النمص، وذلك مما أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بعدم جوازه.
بل إن صاحبه الأسوة الحسنة قد تحتاج إلى ترك بعض المباحات أو التقليل منها؛ احتياطاً لأمر دينها وبعداً عن الشبهات وصيانة لنفسها عن مواطن سوء الظن؛ لأنَّ ذلك ينفر الناس من الاقتداء بها. ككثرة المزاح والضحك وكثرة الخروج والزيارات وامتدادها الساعات الطويلة بغير حاجة ولا مبرر شرعي.
2 ـ إنَّ مما يساعد المرأة المسلمة على الارتقاء بذاتها إلى درجة القدوة: أن تتخذ مع اقتدائها بنبيها وسلفها الصالح ـ من بعض من تلقاه من الصالحات العالمات بدينهن مثلاً تقتدي به؛ لأنَّها لا بدَّ وأن تجد فيمن عاشرته وتلقت عنه سمتا وهديا فائقا يجذبها إليه، فتستطيع من خلال التأمل أن تقف على أفضل ما يحمله من حولها من الصالحين والصالحات من صفات، ثم تستلهم من ذلك الدافع القوي لتربية ذاتها، فقد تجد عند البعض حسن التعامل مع الآخرين.. كالصفح عن المسيء وحسن الظن ولطف الخطاب وسعة الصدر والتواضع وإنكار الذات، وقد تلمح عند أخريات الإسراع إلى فعل الطاعات وبذل الصدقات، ثم قد يجذبها عند الأخرى حسن مظهرها المتلائم مع تعاليم دينها مع احتفاظها ببهائها وجمالها ونظافتها، كل ذلك من غير إسراف ولا مخيلة.
ولهذا التوجيه أصل عظيم في كتاب الله - تعالى -، حيث قال الله - تعالى - آمراً نبيه بالنظر في أحوال وأوصاف الأنبياء قبله متخذاً هديهم أسوة له، فقال - تعالى -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..}.
3 ـ لا بدَّ وأن تكوني واضحة وصادقة مع نفسك لاكتشاف نوعية التصرف والخطأ الذي لا يصلح معه أن تكوني قدوة ويسقط هيبتك الدينية، ومن ثم انتفاعهم بكلامك، بل قد يكون ذلك سبباً في فتنة الآخرين وضلالهم تأسياً بخطاك، وذلك الأمر يتطلب الوقوف على النفس بالمحاسبة ومراجعة الذات ثم العمل على تهذيبها ومجاهدة ما شقّ عليها.
4ـ الحذر من بعض الأمور الدارجة في هذا العصر، والتي تهافت عليها الكثير من النساء لقصورهم العلمي ونقص ديانتهم، فأصبحت في بعض المجتمعات والأسر من المشاهد والظواهر المألوفة، مع مخالفتها الصريحة للدين وبيان حكم تحريمها، ولكن لغلبة ممارستها وكثرة الوقوع فيها استسهلها وتأثر بها كثير من الصالحات والقدوات، وشاكلن الجاهلات في ذلك؛ فاختلط الأمر على العامة وتلبس الباطل والمنكر بلبوس الحق والمعروف.
ومن ذلك:
أ ـ ما يتعلق بالمظهر واللباس، سواء في لبس الحجاب عند الخروج، أو لبس الثياب والزينة عند النساء، فأما مظاهر القصور والخلل في الحجاب متنوعة، منها: التساهل في لبس النقاب الواسع والبرقع، وانتشار ذلك، ولبس العباءة على الكتف والجلباب، والتساهل في ستر القدمين والساق بالجوارب، ولنا في عائشة - رضي الله عنها - أسوة حسنة عندما كانت تشدّ خمارها حياء من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو ميت في قبره عندما كانت تدخل البيت الذي دفن فيه. وأمَّا التساهل في المظهر واللباس والزينة بشكل عام، فقد عمَّت به البلوى في أوساط بيوت الصالحين، وتقلَّد حملها ووزرها كثير ممَّن هم مظنة القدوات لغيرهن.. فلبسن الملابس الضيقة المحجمة لأجسادهن بشكل تأباه الفطر السليمة ويحرمه الدين القويم كما صحَّ في حديث الكاسيات العاريات. وكذلك الملابس شبه العارية التي تكشف عن أجزاء من الجسم شأنها أن تُستر، وللأسف.. لقد عظم الخطب، وقد كان النكير من قبل على عامة النساء اللواتي وقعن في هذه المظاهر الخداعة من التقليد الساذج للغرب، ولكن ـ للأسف ـ نجد هذه المظاهر انتقلت إلى كثير من الصالحات وتساهلن بها في أنفسهن وفي أهليهن.
ب ـ كثرة الخروج للأسواق والتجوال بها، وكذلك الملاهي والمطاعم التي يكثر فيها المنكرات وتجمع الفساق. والأصل قرار المرأة في بيتها لغير حاجة شرعية {وقرن في بيوتكن}.
ج ـ السفر بغير محرم، وفي الحديث المتفق عليه:"لا يحل لامرأة أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم".
د ـ الخلوة مع الرجل الأجنبي، كالبائع في المحل والطبيب في العيادة والسائق في السيارة؛ لحديث"لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما".
هـ ـ التعطر عند الخروج من المنزل أو أثناء الزيارات والتجمعات النسائية وتقديم العطر والبخور لهن ومنهن من ستركب سيارتها مع سائق أجنبي يجد ريحها، ونسيت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :"أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية".
و ـ الاختلاط بالرجال في البيوت بالجلسات الأسرية، أو إقرار ذلك أثناء جلوسها معهم، والسماح للبنات بمخالطة الشباب الذكور من الأسر القريبة، مع غياب الغيرة على الأعراض وعدم مراقبة المولى - جل وعلا -.
ز ـ الإسراف العام في شؤون الحياة، والمبالغة في الاهتمام بالتوافه من أمر الدنيا، كتزيين المنازل واقتناء الأواني والإسراف في الملابس والحلي والولائم، على وجه التفاخر والتكاثر المحرَّم والذي غرق فيه أرباب الدنيا ـ نسأل الله العافية ـ.
5 ـ إنَّ الفرق الذي بيننا وبين أسلافنا وقدواتنا الصالحة أنَّ المسلمات كنَّ جميعاً قدوات بعضهن لبعض {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ..}؛ وذلك بسبب قوة علاقتهن بالله - تعالى -،"ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف".. كانت القلوب بالله متصلة وحريصة على تأدية أمانة هذا الدين.
والآن قلَّ أن نجد هذه البواعث فينا إلا من رحمه الله؛ لغلبة الغفلة والتعلق بالدنيا وشهواتها، وكلما بعد الزمن عن زمن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ازداد هذا الجهل وقلَّ التأثر وتساهل الناس في أداء الأمانة وغابت قيادة القدوة.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
وفي الختام أخاطب أختي المسلمة فأقول:
انظري إلى نفسك: هل تريدين الدنيا أم الآخرة؟(1/40)
فإن كانت تريد الدنيا فروّضيها على حبّ الآخرة، وجاهديها على الاستعداد لها وأكثري الدعاء. وإن كانت تريد الآخرة فاغتنمي وقتك واستزيدي من العمل الصالح واضربي أروع الأمثلة وأرقى النماذج للمسلمات من بنات عصرك.
تأملي سيرة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - القدوة، ادرسيها؛ لعلها تكون زادك إلى الله والدار الآخرة، وكذلك سير أسلافك من الصالحين العابدين العالمين من رجال ونساء؛ طلباً لشحذ همتك ودفعاً لنفسك للتأسي بهم.
سائلين ربنا ومولانا - جل وعلا - أن يتولانا فيمن تولى من عباده الصالحين، ويدخلنا برحمته في زمره أوليائه أئمة الهدى، ونسأله - جل وعلا - أن يجعلنا للمتقين إماماً.
المصدر : http://www.lahaonline.com/Daawa/Fiqh/13-17-11-2003.doc_cvt.htm
ـــــــــــــــ(1/41)
القدوة وأثرها في التربية
د.رقية المحارب
الحمد لله الذي جعل لنا قدوة وأسوة حسنة، وسن لنا أحسن السنن، وبين لنا طريق السلامة من الفتن فجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله على قدوة الخلق أجمعين وعلى أله وصحبه أجمعين، أما بعد:
القدوة في اللغة:
القدوة هي الاسم من الاقتداء، وكلاهما مأخوذ من مادة (ق د و) التي تدل على اقتياس بالشيء واهتداء، قال الجوهري: القدوة بالكسر: الأسوة، يقال: فلان قدوة يقتدى به، وقد يضم فيقال: لي بك قدوة وقدوة وقدة.
والقدو: أصل البناء الذي يتشعب منه تصريف الاقتداء، يقال: قدوة لمن يقتدى به، قال ابن الأعرابي: القدوة التقدم، يقال: فلان لا يقاديه أحد، ولا يماديه أحد، ولا يباريه أحد، ولا يجاريه أحد، وذلك إذا برز في الخلال كلها (1).
القدوة في الاصطلاح:
قال المناوي: القدوة هي الاقتداء بالغير ومتابعته والتأسي به.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: الأسوة كالقدوة، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة.
إذن القدوة الحسنة هو: ذلك الشخص الذي اجتمعت لديه الصفات الحسنة كلها، لكن هذا لا يمنع من القول أن فلاناً قدوة في صفة معينة ويكون ممن ينقص حظه في أمور أخرى، فيقال - مثلاً -: فلان قدوة في البذل والتضحية ولكنه لا يتصف بالعلم مثلاً، ويقال: إن فلاناً قدوة في طلب العلم دون الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقال: إن هذه الأخت قدوة في الأدب واللباقة ولكنها ليست على قدر من العلم الشرعي، والموفق من ضرب من كل خير بسهم فيكون له باع في كل فضيلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وبضد ذلك القدوة السيئة التي تزين للناس الباطل ويتخذ مثلاً، وأشهر القدوات السيئة الشيطان (2).
أهمية القدوة في التربية:
لا يخلو كتاب في التربية من إيراد القدوة كإحدى الوسائل المهمة لفعاليتها، ففي دراسة أجريت على 446 شاباً و 94 فتاةً تبين أن 75% يرون أن وجود القدوة مهم جداً، وهي من أكثر الوسائل تأثيراً، وهذا لا شك يعود إلى رؤية الناس للنموذج الواقعي الذي يشاهدونه، وبدون هذا التطبيق الواقعي تكون التوجيهات كتابة على الماء لا أثر لها في قلوب المتلقين وعقولهم، فتلك التي تدعو إلى الصدق وتكذب ينقلب التقدير الواجب لها إلى استهجان واستغراب ممن يدعو إلى شيء ويخالفه.
ولعظيم أهميتها ورد الحث على الاقتداء بالأنبياء - عليهم السلام - في كل الأمور، ولذلك قال الله - عز وجل -: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) الأنعام:90، فهم مضرب المثل في الصفات المتميزة؛ وذلك لأنهم نهضوا بأعظم وأخطر مهمة وهي إصلاح الناس، ولأن إصلاح الناس يتطلب مستويات عليا من الأخلاق كان لهم منها النصيب الكامل إعانة لهم للقيام بالمهام الشاقة، وفي هذا يقول الله - عز وجل - ممتناً على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )) القلم:4، ويقول ابن كثير عند قوله - عز وجل -: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )) الأحزاب:21، هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله - تبارك وتعالى - الناس بالتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه - عز وجل -(3).
ومما يدل على أهميتها وجود تلك الغريزة الفطرية الملحة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، وخاصة الأطفال فهم أكثر تأثراً بالقدوة، إذ يعتقدون أن كل ما يفعله الكبار صحيحاً (4). ورد في موسوعة العناية بالطفل: "يبدأ الطفل في سن الثالثة يدرك بوضوح أكثر أنه من الذكور، وأنه سيصبح يوماً ما رجلاً كأبيه، وهذا ما يحمله على الشعور بإعجاب خاص بأبيه وبغيره من الرجال والصبيان، إنه يراقبهم بدقة، ويسعى جاهداً للتشبه بهم في مظهره وسلوكه ورغباته، بينما تدرك الطفلة بنت الثالثة أنها ستصبح امرأة فتندفع إلى التشبه بأمها وباقي النساء، إنها تركز اهتمامها على الأعمال المنزلية، والعناية بالدمى على هيئة عناية أمها بالمواليد، وتقتفي أسلوبها بالتحدث إليهم ... " (5).
ووجود القدوة الحسنة دعم لانتشار الخير؛ لأن الناس بفطرتهم يحبون محاسن الأخلاق، ودرجات الكمال، وتعطيهم أملاً في الوصول للفضائل؛ ولذا كان من رحمة الله أن يوجد في الناس على مر العصور - حتى في أوقات ضعف الأمة - نماذج تبقى صامدة مجاهدة، تتمثل الإسلام في أقوالها وأعمالها واعتقاداتها، ولكن قد يقل العدد أو يكثر بحسب قوة الأمة، ولكن لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، وكثيرة هي القصص عن اهتداء كثير من الناس بمجرد رؤية صلاة خاشعة، أو تصرف لبق في موقف صعب، وهذا كله بدون أن يشعر المقتدى به.
يقول "محمد أمين المصري" - رحمه الله -: "وليس للمسلمين من سبيل إلا هذا السبيل، طليعة تتأسى خطوات محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه شبراً بشبر، وذراعاً بذراع في كل ظاهرة وخفية، وفي كل دقيقة وجليلة، في العبادة والتفكير، والحرب والتدبير، والسياسة والدعوة، والجرأة والحكمة: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )) الأنعام:153، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، رجل العقيدة هو السبيل الوحيد لعلاج أنواع الانحرافات، ورجل العقيدة أعظم ذخر نقدمه للعقيدة، وأكبر رصيد نعده في سبيل نصرتها" (6).
صفات القدوة الحسنة:
وإذا كنا مقتنعين بأهمية وجود القدوة الصالحة فما هي يا ترى مواصفاتها، وما هو المحيط الذي تنشأ فيه؟
للقدوة الحسنة صفات كثيرة، نتطرق إلى أهمها:
1- الإخلاص: ولا يمكن للقدوة أن يؤثر في الناس ما لم يكن مخلصاً لله - عز وجل -، وذلك مرده إلى وضع القبول له في الأرض كما في الحديث الذي في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إذا أحب الله العبد دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء، فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وهذا القبول مفتاح للقلوب، وهو دواء وعصمة من كثير من الأمراض النفسية، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر مرفوعاً: ( إنما الأعمال بالنيات ) تقرير لضرورة الإخلاص في الأعمال، وهذا الإخلاص يقود إلى أعمال أخرى، وصفات كريمة؛ لأن النفس المخلصة تحب ما يحب الله - عز وجل - فتعمل على بذل الوسع في ما يرضيه سبحانه، يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "العمل بلا إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه"(7).
2- العلم: وكيف تكون قدوة صالحة بلا علم، إن صاحب العلم ذو مكانة كبيرة في الناس، ومن هذا شأنه فهو حري أن يؤخذ منه ويهتدى بهديه.
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو جهل كمن هو عالم
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
وللعلم تأثير على اكتساب المعالي من الصفات، وفي تهذيب الأخلاق، ولا تجد أحداً رزق الإخلاص والعلم إلا تجده كريم الخصال، عظيم الفعال، محمود السيرة، مرضي الخليقة، والعلم بلا عمل كما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
وكان السلف - رحمهم الله - لا يأخذون العلم إلا ممن يعمل بعلمه، قال إبراهيم النخعي: " كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه "، وقال الإمام أحمد: " يكتب الحديث عن الناس كلهم إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو إليه، أو كذاب، أو رجل يغلط في الحديث "، ونقل قريب من هذا القول عن الإمام مالك - رحمه الله -.
3- حسن الخلق: وهذا باب عظيم من أبواب الخير، والخلق الحسن أكثر ما يدخل الجنة؛ ولذلك كان الأنبياء والصالحون من أكثر الناس اتصافاً بها، ولا يمكن أن يتأثر الناس بسيئ الخلق؛ لأن الناس مجبولون على حب من أحسن إليهم، ومما يحزن له الإنسان أنك ترى فظاظة وغلظة من بعض الدعاة إلى الله - عز وجل -، وترى من بعض دعاة الباطل الابتسامة الدائمة، والسؤال المستمر عن أصحابه، وزيارتهم والتودد إليهم، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان على خلق عظيم، وكان هذا الخلق هو القرآن، ووصف أحد الصالحين بأنه قرآن يمشي على الأرض.
وتعد تربية الأبناء بالقدوة من أقوى الوسائل في تعويدهم فعل الخير؛ لأن الناشئ يتعلم من الأعمال أكثر من الأقوال، بل إن التلقين لا يكاد يثمر الثمرة المطلوبة في وجود الفعل المخالف، ولهذا كان بعض الآباء يرسلون أبناءهم لمن يظنون فيه الصلاح لتربيته، وليستفيد الولد من نموذج حي يعمل بما يقول، قال عمرو بن عتبة لمعلم ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت" (8)، وكان كثير من السلف يذهبون إلى حلق بعض العلماء لا ليطلبوا العلم وإنما ليستفيدوا الأخلاق والسمت.
وحسن الخلق يشمل أموراً كثيرة، من أهمها: الصدق واللين، وحسن الاستماع، والبشاشة عند اللقاء، والتودد والكرم والشجاعة، ولكل صفة من هذه الصفات تطبيقاتها سواء في تربية الأولاد في البيت أو المدرسة، وسواء كان التعامل مع الصغار أو الكبار.
بين التقليد والاقتداء:
التأسي مطلب شرعي، ومحمدة لصاحبه إذا كان من يقتدى به أهل لذلك كالأنبياء والصالحين، وكل من سن في الإسلام سنة حسنة، ولكن الله - عز وجل - ذم من يقتدي بأهل الضلالة قال - تعالى-: ((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )) الزخرف آية 23، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل ) رواه البخاري.
ومن يقلد أهل الضلالة في طريقة معيشتهم يقوده إلى تقليدهم في كل اعتقاداتهم ونظرتهم للأمور، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد بعث الله محمداً بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان له من هذه الحكمة أن شرع له من الأقوال والأعمال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق مفسدة ذلك؛ لأمور منها:
أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس.
ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأوليائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام؛ كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين" (9).
الإمامة في الدين وحب الرياسة:
بعض الناس يحب أن يكون قدوة يقتدى به في الخير؛ لما يعلم من عظيم الأجر والثواب الذي يصله من تأثر الناس بفعله وقوله كما قال تعالى: ((وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا )) قال الحسن: "من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله، إماماً لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب "، ومن دعاء الصالحين: (( واجعلنا للمتقين إماماً )) قال البخاري: " أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا "، وبعض الناس يريد أن يكون رأساً في الدين ليشار إليه بالبنان، ويعبد القلوب إليه، ولينال بذلك حظوظاً دنيوية - والعياذ بالله -، فهذه رياسة في الدين مذمومة؛ بخلاف الرياسة المحمودة التي لا تريد شيئاً مما في أيدي الناس، وإنما تتمنى الازدياد من الأجر بقدر استفادة الناس منها، وكون الإنسان قدوة يتطلب منه أن يتخلق بأخلاق الأنبياء، وهذه تحتاج مجاهدة عظيمة، ومن صدق الله وفقه وأعانه، وبلغه مقصوده.
نماذج من القدوات:
كثيرة بحمد الله الصفحات المضيئة في تاريخنا وحاضرنا، وذكر طرف من الأخبار فيه تقوية للهمم، وتنشيط للعزائم؛ لتكون قدوات يستفيد منها المسلم في نفسه، ويتعدى نفعها إلى من حوله.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا") متفق عليه.
قال أبو العباس الرقي - وكان من حفاظ الحديث -: إنهم دخلوا على أحمد بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث، فقال أحمد: فكيف تصنعون بحديث خباب: (إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه)؟
قيل لنافع: ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
كيف أصبح قدوة؟
سؤال يطرحه كل جاد وجادة؛ لأنه يعرف أن كون الإنسان قدوة هو رفعة في الدنيا والآخرة؛ ولذا فإنني أشير إلى بعض الخطوط العامة:
* صحح النية في هذه الرغبة.
* ألزم نفسك دعاء الله - عز وجل - أن يجعلك إماماً للمتقين.
* خذ من العبادة بقدر ما تستطيع، وداوم عليها، واحرص على الشمولية فيها.
* اقرأ في سير العلماء والقادة المؤثرين في مجتمعاتهم.
* تحول عن الكسالى، وصاحب أهل الهمم العالية.
* داوم على الأعمال التي تؤديها، ولا تدع التسويف يقتل طموحاتك ويقلل من إنتاجك.
* احضر بعض الدورات التي تعلم تنظيم الوقت، وإدارة النفس.
* اجعل طموحك أن تسبق الناس كلهم إلى الخير وأبواب المعروف.
* حمل نفسك مسؤوليات معينة، وراقب أداءك فيها.
* لا تحقر نفسك، ولا تغتر في الوقت ذاته.
خاتمة:
وبعد: فنحن هذا الوقت في أمس الحاجة إلى قدوات في العبادة، والدعوة، والأخلاق، وإلى أمس الحاجة إلى البحث في أسباب قلة النماذج التي يقتدى بها.
وإذا كان التوجيه الرباني للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقتدى بهدى الأنبياء، فنحن نتأسى به - صلى الله عليه وسلم - ، ونسير على خطاه، مع استحضار أن وجود القدوة في هذا الوقت عنوان على شموخ الإيمان، وعزة الإسلام، فيا لها من قلوب مؤمنة تلك التي اختارت طريق الجنة، وصبرت، وجاهدت.
نسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
______________________
1ـ لسان العرب 15/171.
2ـ نضرة النعيم 11/5300.
3ـ تفسير القرآن العظيم 3/483.
4ـ مسؤولية الأب المسلم ص66.
5ـ موسوعة العناية بالطفل.
6ـ المسؤولية، فصل رجل العقيدة.
7ـ الفوائد ص67.
8ـ الآداب المرعية 2/159.
9ـ اقتضاء الصراط المستقيم 1/79.
بتصرف يسير عن : http://www.lahaonline.com/Daawa/DaawaObsta/a3-17-10-2004.doc_cvt.htm
ـــــــــــــــ(1/42)
أثر القدوة في إصلاح النفوس
الدكتور محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
يا رب هذا ذلنا ظاهر بين يديك، وهذا ضعفنا لا يخفى عليك، فعاملنا بالإحسان إذ الفضل منك وإليك، نطلب منك الوصول إليك، ونستدل بك عليك، اهدنا بنورك إليك، وأقمنا بصدق العبودية بين يديك.
يا رب علمنا من علمك المخزون، واحفظنا بسر اسمك المصون، وحققنا بحقائق أهل القرب، واسلك بنا مسالك أهل الحب، وأغننا بتدبيرك عن تدبيرنا، وباختيارك عن اختيارنا، وأخرجنا من ذل معصيتك إلى عز طاعتك، وطهرنا من الشرك، اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تخيبنا، ومن فضلك نرغب فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
يا رب لقد خاب من رضي من دونك بديلاً، ولقد خسر من ابتغى عنك متحولاً.
يا رب لا يطيب الليل إلا بمناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك، ولا تطيب الدنيا إلا بذكرك، ولا تطيب الآخرة إلا ببرك، يا ذا العزة والجبروت، ويا مالك الملك والملكوت، ويا من أمنت يونس في بطن الحوت، ونجيت موسى في التابوت، وحفظت الحبيب محمداً بنسيج العنكبوت، سبحانك أنت الحي الذي لا يموت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في الحديث القدسي: ((ليس كل مصلٍ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب؛ كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل له الجهالة حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم عليَّ فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يُمس ثمرها، ولا يتغير حالها)).
وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خير نبيٍ اجتباه، وللعالمين أرسله، زكَّى الله عقله فقال:
((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى))(لنجم:2)، وزكى لسانه فقال: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى))(لنجم:3)، وزكى شرعه فقال: ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))(لنجم:4)، وزكى جليسه فقال: ((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى))(لنجم:5)، وزكى فؤاده فقال: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))(لنجم:11)، وزكى بصره فقال: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى))(لنجم:17)، وزكاه كله فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(القلم:4).
قال - عليه الصلاة والسلام: (ألا يا ربَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم، ألا يا رب متخوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله، ما له عند الله من خلاق، ألا وإن عمل الجنة حَزْن بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بسهوة، ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً).
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الهداة المهديين، الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا، يقول الإمام علي - كرم الله وجهه -: "إنه ليس شيء شر من الشر إلا العقاب، وإنه ليس شيء خير من الخير إلا الثواب، وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر، واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة، خير مما نقص في الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح، وكم من مزيد خاسر.
واعلموا أن الذي أمرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، وقد تُكفِّل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم، فبادروا بالعمل وخافوا بغتة الأجل".
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان يقول الله - عز وجل - في سورة الحجر: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))(الحجر:85).
فالسماوات والأرض تعبير قرآني يطابق مفهوم الكون، والذي يبدو لعلماء الفلك من خلال المراصد العملاقة أن هذا الكون لا
تحدُّه نهاية، ولا تحيط به دراية، ففي كل يوم تُكتشف مجرَّة جديدة، ونجوم بعيدة، فهناك مئات ألوف الملايين من المجرات، وفي المجرة الواحدة مئات ألوف الملايين من النجوم والكواكب، ويكفي أن نذكر أنه تم اكتشاف مجرة بعدها عن أرضنا يزيد عن ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية، علماً بأن الضوء يقطع ما يقارب ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، قال تعالى: ((فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ))(الواقعة:75 - 76 ).
فلا يعرف ما تعنيه مواقع النجوم إلا العلماء، ومن عرف ما تعنيه مواقع النجوم خشع قلبه، وخشعت جوارحه، وخر لله ساجداً، قال الله تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28)
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ".
نعود إلى الآية الكريمة: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))(الحجر:85) فالحق لابَسَ خلق السماوات والأرض، فماذا تعني كلمة " الحق "؟
يا لروعة القرآن إنه يفسر بعضه بعضاً قال الله تعالى: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ))(صّ:27)، فالحق إذاً مناقض للباطل، وقال تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ))(الانبياء:16) فالحق إذاً مناقض للّعب، والحق إذاً ليس باطلاً وليس لعباً، وإذا كان الباطل هو الشيء الزائل والزاهق فالحق هو الثابت المستقر الأبدي.
وإذا كان اللعب هو الشيء العابث غير الهادف؛ فالحق هو الذي ينطوي على هدف كبير، وهو الاستقرار الهادف، أو الحكمة الثابتة، فما الهدف والحكمة من خلق السماوات والأرض؟
قال بعض العلماء في تفسير الآية الكريمة: ((.. خلق الله السماوات والأرض مَظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، وخلقنا كي نتعرف إليه من خلال خلق السماوات والأرض، فإذا عرفناه عبدناه، وإذا عبدناه حق العبادة سعدنا بعبادته في الدنيا والآخرة، فمن تعرَّف إلى الله وعبده حق العبادة، وسعد بقربه؛ فقد حقق الهدف من خلق السماوات والأرض، وحقق الهدف من خلقه، وقد ورد في الأثر القدسي: ((ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء...)).
يا رب ماذا وجد من فقدك، وماذا فَقَدَ من وجدك.
فمعرفة الله أمر مصيري في حياة الإنسان، فمن لم يعرف ربه، ومن لم يهتد بهداه؛ ضل عقله، وشقيت نفسه، وحزن على ما فاته، وخاف مما هو آت، وكان هلوعاً جزوعاً منوعاً قال تعالى: (( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى))(طه:123) (( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(البقرة:38) (( إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ))(المعارج:19).
فهذا الهدي الرباني كيف نقنع الناس به؟ وكيف نحملهم على اتباعه؟ ولماذا دخل الناس في دين الله أفواجاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي عهد صحابته الراشدين؟ ولماذا خرج ناسٌ كثيرون من دين الله أفواجاً في عهود لاحقة؟ ولماذا كان الواحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كألف؟ ولماذا صار الألف من بعض المسلمين كأفٍّ؟ ولماذا نجح الأنبياء في تزكية نفوس أتباعهم والسمو بها، ولم ينجح غيرهم من دعاة الإصلاح وأدعياء الدين؟
يقول أحد المفكرين: إن مثلاً واحداً أنفع للناس من عشرة مجلدات، لأن الأحياء لا تصدق إلا المثل الحي، لهذا كان النبي الواحد بمثله الخلقي الحي وجهاده أهدى للبشرية من آلاف الكتَّاب الذين ملؤوا بالفضائل والحكم بطون المجلدات، وإن أكثر الناس يستطيعون الكلام عن المثل العليا، ولكنهم لا يعيشونها، لهذا كانت حياة الأنبياء إعجازاً، وكانت نتائج دعوتهم إعجازاً، بينما لا تلقى دعوة الداعين غير المخلصين من أتباعهم إلا الاستخفاف والسخرية، فالإسلام لا يحييه إلا المثل الأعلى، والقدوة الحسنة، والسلوك المستقيم، والانضباط الذاتي، والعفة عن المطامع والمحارم، والعمل الصالح، والتضحية والإيثار قال - عليه الصلاة والسلام -:(ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل)، وقال أيضاً:(ركعتان من ورِع خيرٌ من ألف ركعة من مخلط)، والمخلط هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وقال - عليه الصلاة والسلام -: (من لم يكن له ورع يصده عن محارم الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله).
روي أن سيدنا عمر رأى راعياً يرعى شياهاً، فقال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، فقال الراعي: ليست لي، قال عمر: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب - وهو بهذا يمتحنه -، فقال الراعي: ليست لي، قال عمر: خذ ثمنها!! عندها قال الراعي: والله إنني بأشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟
لقد وضع هذا الراعي يده على جوهر الدين، ولو أن حظه من الثقافة الدينية محدود، فكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه.
فإذا حدثت أحدَنا نفسُه أن يأخذ ما ليس له بحق، وليس عليه رقيب أو شهيد؛ فقال في نفسه كما قال هذا الراعي: ولكن أين الله؟ فهو قد عرف الله، وصحت عباداته، أما إذا أخذ ما ليس له بحق أن يأخذه فلن تنفعه ثقافته الدينية مهما اتسعت، وقد لا يقبل الله منه عباداته وأعماله مهما كثرت.
قال سهل التستري - رحمه الله تعالى -: " واللهِ لتركُ درهم من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، وقيل: ليس الولي من يفعل خوارق العادات، ولكنه من تجده عند الأمر والنهي في الملمات"، وقال سيدنا عمر - رضي الله عنه - لأويس القرني - رضي الله عنه -: " عظني يا أويس!!، فقال أويس: "ابتغ رحمة الله عند طاعته، واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك فيما بينهما ".
وفي القرآن الكريم إشارات دقيقة إلى الصفات الرفيعة التي يجب أن يتحلى بها كل من دعا إلى الله، وتصدى لهذه المهمة المقدسة، فلا بد من الترفع عن الدنيا وما فيها، ولا ينبغي أن يُتخذ الدين مطية للدنيا، قال الله - تعالى-:
((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ))(يّس:20- 21)، ولا بد من العمل الصالح فهو دليل صدق الداعية، وسبب نجاح الدعوة قال - تعالى-: (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))(فصلت:33).
ولا بد من الصبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى من تدعوه فهو علامة الصدق في طلب الجنة، والإصرار على الفوز برضوان الله، قال الله - تعالى-: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))(السجدة:24).
ولا بد من الانقياد التام لأوامر الله كلها في المنشط والمكره، وما عُرفت حكمته وما لم تُعرف، فالرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين قال الله - تعالى-: (( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))(البقرة:124).
ولا بد أن تكون الخشية لله وحده قال الله - تعالى-: (( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً))(الأحزاب:39).
أيها الإخوة الكرام: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى لأصحابه الأطهار، وأسوةً حسنةً للمؤمنين الأخيار، وقدوة صالحة لأتباعه الأبرار، فقد اتسمت دعوته باتساع رقعتها، وامتداد أمدها، وعمق تأثيرها، لأنه طبق بسلوكه ما قاله بلسانه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم، وكان خلقه القرآن، وأحبه أصحابه إلى درجة فاقت حد التصور، وأطاعوه طاعةً جاوزت حدود الخيال، قال أبو سفيان يوم كان مشركاً: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
فالسر في قوة تأثير النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه أنه كان لهم أسوة حسنة، وقدوة صالحة، ومثلاً يُحتذى، قال ملك عمان وقد التقى النبيَّ العدنان:" والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه كان لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد".
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - جم التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلسَ جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُر مادَّاً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، وكان يذهب إلى السوق ويحمل بضاعته ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر.
وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويكنس داره، وكان في مهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، و يمشي هوناً، خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلمَ تكلم بجوامع الكلم.
وكان دمثاً، ليس بالجاحف ولا المهين، يعظم النعم وإن دقت، ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم مذاقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها.
إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، وكان يؤلف ولا يفرق، ويقرب ولا ينفر، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويُحَسِّن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، و لا يقصر عن حق ولا يجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يسره من القول.
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحَّاش، ولا عيَّاب ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي.
ولا يخيب فيه مؤمله، وكان لا يذم أحداً ولا يعيِّره ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب وعلى جفوته في مسألته ومنطقه، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه.
الحديث عن شمائله - صلى الله عليه وسلم - لا تتسع له المجلدات، ولا خطب في سنوات، ولكن الله - جل في علاه - لخصها بكلمات فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(القلم:4).
والمثل الأعلى الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيرته وخلقه حمل أصحابه الكرام على أن يهتدوا بهديه، ويتبعوا سنته، ويقتفوا أثره، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجعل من سلوكه ومواقفه مثلاً أعلى يُحتذى، فكان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته وقال لهم:" إني أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايمُ الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانته مني" فصارت القرابة من عمر - رضي الله عنه - مصيبة.
وقد جسد هذا الخليفة الراشد - رضي الله عنه - بسلوكه قيم الحق والخير في أبهى صورها، جسدها بمواقفه وأحكامه فكان بحق بطل مبدأ مضى نحو تحقيقه من دون أن ينظر إلى الثمن.
وفي خلافة سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاءه إلى المدينة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة معلناً إسلامه، وقد رحب به عمر، لكن بدوياً من فزارة داس على طرف ردائه، فغضب الملك والتفت إلى هذا البدوي وضربه، وهشم أنفه، فشكاه الفزاري إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، واستدعي عمر الملك الغساني إلى مجلسه، ودار بينهما حوار صيغ على الشكل التالي:
قال عمر: يا ابن أيهم جاءني هذا الصباح مشهد يبعث في النفس المرارة، بدوي من فزارة بدماءٍ تتظلم، بجراج تتكلم، مقلةٌ غارت، وأنف قد تهشم، وسألناه فألقى فادح الوزر عليك بيديك، أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟
قال جبلة: لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً، أنا أدبت الفتى، أدركت حقي بيدي.
قال عمر: أي حق يا ابن أيهم، عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم، عند غيري جبهةٌ بالإثم بالباطل تلطم، نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً.
أرضِ الفتى، لابد من إرضائه، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك.
فقال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين هو سوقة وأنا صاحب تاج، كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً، كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.
فقال عمر: عالَم نبنيه كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
أيها الإخوة الكرام: كلكم يعلم ماذا فعل جبلة بعد موقف عمر هذا - رضي الله عنه -.
لقد أدرك أعلام العلماء من السلف الصالح أثر القدوة الحسنة في تهذيب النفوس والسمو بها، وحملها على عظائم الأعمال، فوعظوا أنفسهم قبل أن يعظوا غيرهم، لذلك كان تأثيرهم في معاصريهم شديداً، وهيبتهم عند أولي الأمر عظيمة، قال الإمام الغزالي: "الوعظ زكاة الاتعاظ، ومن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (تركت فيكم واعظين: ناطقاً وصامتاً، فالناطق هو القرآن، والصامت هو الموت، وفيهما كفاية لكل متعظ).
فقلت لنفسي ( هذا قول الإمام الغزالي ): أما أنتِ فمصدقةٌ بأن القرآن هو الواعظ الناطق، فإن الله - تعالى- يقول فيه:
(( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ))(هود:15)، فقد وعدك ( يخاطب نفسه ) الله - تعالى- بالنار على إرادة الدنيا وحبها، وكل ما لا يصحبك بعد الموت فهو من الدنيا، ولو أن طبيباً وعدك بالمرض على تناول ألذِّ الأكلات لتحاشيتها واتقيتها، أيكون الطبيب عندك أصدق من الله - تعالى-، فإن كان كذلك فما أكفرك، وإن كان المرض أشد عندك من النار فما أجهلك، ثم وعظنا بالواعظ الصامت وهو الموت، فقلت قد أخبر الواعظ الناطق عن الواعظ الصامت، حيت قال الله تعالى: (( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ))(الشعراء:205 - 207)
وهكذا نجد كيف أن القدوة تفعل فعل السحر في النفوس، لأن الناس لا يتعلمون بآذانهم بل يتعلمون بعيونهم، ولغة العمل أبلغ من لغة القول، لذلك لا تستطيع أن تقنع الناس بشيء إلا إذا كنت قانعاً به، ولا تستطيع أن تحملهم على اتباعه إلا إذا سبقتهم إليه، عندئذ تكون أنت أيها الداعية قدوة حسنة.
والقدوة الحسنة هي حقيقة مع البرهان عليها، فمتى يستقيم الظل والعود أعوج، فأنت أيها المسلم على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ورد في الأثر القدسي:(إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه).
أيها الإنسان: صانك الله فلا تبتذل، وأعزك فلا تَذل، وأعلاك فلا تسفل، ونقَّاك فلا تتلطخ، هو يسر لك فلا تتعسر، وقربك فلا تتباعد، وأحبك فلا تتبغض، جد بك فلا تكسل، واستخلفك فلا تتكل، وأعتقك فلا تتعبد لغيره، وأقالك فلا تتعثر، ونسبك فلا تجحد، وجبرك فلا تنكسر، وأنبتك فلا تذوِ، وحسَّنك فلا تقبح، وحلاك فلا تسمج، وعلمك فلا تجهل، ونوه بك فلا تخمل، وقواك فلا تضعف، ولطفك فلا تكثف، وأسرك فلا تنكشف، وانتظرك فلا تتوقف، وأمنك فلا تتخوف، وقومك فلا تتقصف، وندَّاك فلا تنشف.
أيها الإخوة المؤمنون: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر، إذا رجع العبد العاصي إلى الله سطع نور بين السماء والأرض، ونادى منادٍ مِن قِبَلِ الله - جل وعلا -: أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة الكرام: قلت في الخطبة الأولى إن جوهر الدين أن يعرف الإنسان ربه، وإن الكون كله مظهر لأسماء الله الحسنى، وإن التفكر في مخلوقات الله باب واسع من أبواب معرفة الله، وإن الإنسان إذا تفكر في خلق الله عرفه، وإذا عرفه عبده وعبده سعد في الدنيا والآخرة، وقد وصف الله - تعالى- المؤمنين بأنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض، وقد حضنا الله على التفكّر في بعض آياته، ومنها الإبل فقال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ))(الغاشية:17).(1/43)
فلو أمعن المرء النظر إلى الجمل لرآه من أبدع المخلوقات، إنه أعجوبة في الهندسة التشريحية، فالجمل يُعدُّ وسيلة لا تُقدر بثمن في المناطق الصحراوية والتي تغطي سدس مساحة اليابسة، والتي تستعصي حتى على أقوى المركبات، وفي العالم ما يزيد عن خمسة عشر مليوناً من الجمال تزداد باستمرار، فكل ما في الجمل متقن التصميم للتكيف مع بيئته القاسية.
فعينه لها أهداب كثيفة، ومزدوجة، تحجب عنها الرمال المتطايرة، وتتميز العين بقدرتها على التكبير والتقريب، فهي تريه البعيد قريباً، والصغير كبيراً، وهذا سر انقياده لطفل صغير، أو لدابة قميئة قال تعالى: (( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ))(يّس:72)
وفي إمكان الجمل إغلاق أذنيه ومنخريه حفظاً من الغبار، أما أخفافه الضخمة فهي تُسهِّل له الحركة على الرمال من دون أن يغرز فيها، وشفتا الجمل مطاطيتان قاسيتان، تلتهمان الأشواك الحادة، وهما فعَّالتان في تجميع الطعام والأشواك حيث لا يفقد الجمل أية رطوبة بمد لسانه إلى الخارج (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ))(الغاشية:17).
ومن أبرز مزايا الجمل قلة حاجته إلى الماء ومع أنه يمكنه أن يشرب ما يملأ حوض استحمام، لكنه يستطيع أن يستغني عن الماء كلياً عشرات الأيام بل بضعة أشهر، حيث يستطيع في الحالات الطارئة أن يأخذ ما يحتاج إليه من ماء من أنسجة جسمه، فيخسر ربع وزنه من غير أن يضعف عن الحركة.
وفي السنام يخزن الجمل من الشحم ما يعادل خمس وزنه، ومنه يسحب الجمل ما يحتاج إليه من غذاء إن لم يجد طعاماً، ومتوسط عمر الجمل يزيد عن أربعين عاماً.
ولا يسلس قياد الجمل إلا إذا عومل باحترام ومودة وعطف، وفي هذا عبرة لبني البشر (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ))(الغاشية:17).
عرفتك يا رب في بحث وفي فطرة فجئتك صباً طاهر القلب خاليا
لك في الآفاق آيات لعل أقلَّها نوراً بدا إليه هداك
فإن رأيت النبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أرباك
وإن رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من ذا الذي أسراك
وإن رأيت النهر بالعذب قد جرى فاسأله من ذا الذي أجراك
وإن رأيت البحر في الملح قد طغى فاسأله من ذا الذي أطغاك
وإن رأيت الليل يغشاك داجياً فاسأله من يا ليل حاك دجاك
وإن رأيت الصبح يسفر ضاحياً فاسأله من يا صبح حاك ضحاك
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، إنك أنت العفو الكريم، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق من دونك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، و نعوذ بك من عضال الداء، ومن السلب بعد العطاء، ومن شماتة الأعداء.
اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضى إلا عنك، ومن الصبر إلا على بلائك.
اللهم إنا نسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برّك، وعوائد إحسانك، وجميل سترك، وروح قربك، وجفوة عدوك.
اللهم احرسنا عند الغنى من البطر، وعند الفقر من الضجر، وعند الكفاية من الغفلة، وعند الحاجة من الحسرة، وعند الطلب من الخيبة، وعند المنازلة من الطغيان، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بفعل المسيئين يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع مجيب للدعوات.
اللهم أعز كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير، ومن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر.
والحمد لله رب العالمين
المصدر : http://www.nabulsi2.com/text/01fصلى الله عليه وسلمiday/izai/fصلى الله عليه وسلمiday-03.htm
ـــــــــــــــ(1/44)
الإمام القدوة مسروق بن الأجدع
مجدي عرفات
اسمه ونسبه: هو مسروق بين الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مرة بن سلمان بن معمر ويقال: سلامان بن معمر بن الحارث بن سعد بن عبد الله بن وادعة بن عمر بن عامر الهمداني، يقال: إنه سُرِقَ وهو صغير ثم وُجد فسمي مسروقًا، وعداده في كبار التابعين وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
شيوخه: حدث عن أبي بن كعب وعمر، وروى عن أم رومان ومعاذ بن جبل، وخباب وعائشة وابن مسعود وعثمان وعلي وعبد الله بن عمرو وابن عمر ومعقل بن سنان والمغيرة بن شعبة وغيرهم.
الرواة عنه: روى عنه الشعبي وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب، وعبد الله بن مرة، وأبو وائل، وأبو الضحى، وأبو إسحاق، وأبو الأحوص الجشمي، وأنس بن سيرين، وأبو الشعثاء المحاربي وآخرون.
ثناء العلماء عليه:
قال مرة الهمداني وأبو السفر: ما ولدت همدانية مثل مسروق.
وقال: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقًا، وكان مسروق لا يستشير شريحًا.
قال إبراهيم: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلمونهم السنة: علقمة والأسود وعبيدة ومسروقًا والحارث بن قيس وعمرو بن شرحبيل.
قال ابن المديني: أنا ما أقدم على مسروق أحدًا.
قال ابن عيينة: بقي مسروق بعد علقمة لا يفضل عليه أحد.
قال يحيى بن معين: مسروق ثقة لا يُسأل عن مثله.
قال العجلي: تابعي ثقة كان أحد أصحاب عبد الله الذين يُقرئون ويُفتون وكان يصلي حتى ترم قدماه.
قال ابن سعد: كان ثقة له أحاديث صالحة.
قال أبو نعيم: ومنهم العالم بربه، الهائم بحبه، الذاكر لذنبه، في العلم معروف، وبالضمان موثوق، ولعباد الله معشوق، أبو عائشة المسمى بمسروق.
قال ابن حجر: ثقة فقيه عابد مخضرم.
من أحواله وأقواله:
قال الشعبي: خرج مسروق إلى البصرة إلى رجل يسأله عن آية فلم يجد عنده فيها علمًا، فأخبر عن رجل من أهل الشام، فقدم علينا هاهنا ثم خرج إلى الشام إلى ذلك الرجل في طلبها.
قال أبو الضحى: كان مسروق يقوم فيصلي كأنه راهب، وكان يقول لأهله: هاتوا كل حاجة لكم فاذكروها لي قبل أن أقوم إلى الصلاة.
قال إبراهيم بن المنتشر: كان مسروق يرخي الستر بينه وبين أهله ويقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم.
قال أبو إسحاق: حج مسروق فلم ينم إلا ساجدًا على وجهه حتى رجع.
وعن امرأته قالت: كان مسروق يصلي حتى تورَّم قدماه، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
عن مسروق قالت عائشة: يا مسروق، إنك من ولدي وإنك لمن أحبهم إليَّ، فهل لك علم بالمُخْدَج(1).
قال إبراهيم بن المنتشر: أهدى خالد بن عبد الله بن أسيد عامل البصرة إلى عمي مسروق ثلاثين ألفًا وهو يومئذ محتاج فلم يقبلها.
قال أبو إسحاق السبيعي: زوج مسروق بنته بالسائب بن الأقرع على عشرة آلاف لنفسه يجعلها في المجاهدين والمساكين.
قال أبو الضحى: غاب مسروق عاملاً على السلسلة سنتين ثم قدم فنظر أهله في خرجه فأصابوا فأسًا، فقالوا: غبت ثم جئتنا بفأس بلا عود، قال: إنا لله استعرناها نسينا نردها.
وقال الكلبي: شلت يد مسروق يوم القادسية وأصابته آمّة.
قال الشعبي: غشي على مسروق في يوم صائف وكانت عائشة قد تبنته فَسَمّى بنته عائشة، وكان لا يعصى ابنته شيئًا، قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب، قال: ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرفق، قال: يا بنية، إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة.
قال إبراهيم بن المنتشر: كان مسروق لا يأخذ على القضاء أجرًا، ويتأول هذه الآية: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم".
وقال أبو الضحى: سُئل مسروق عن بيت شعر، فقال: أكره أن أجد في صحيفتي شعرًا.
قال مسروق: لأن أفتي يومًا بعدل وحق، أحب إليَّ من أن أغزو سنة.
قال: ما بقي شيء يُرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء إلا السجود لله - تعالى -.
قال: كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله - تعالى -، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله.
قال: من سره أن يعلم علم الأولين والأخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
قال الذهبي: هذا قاله مسروق على المبالغة لعظم ما في السورة من جُمل أمور الدارين، ومعنى قوله: فليقرأ الواقعة أي يقرأها بتدبر وتفكر وحضور ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
قيل له: أبطأت عن عليٍّ وعن مشاهده، قال: أرأيتم لو أنه حين صفّ بعضكم لبعض فنزل ملك فقال: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما أكان ذلك حاجزًا لكم؟ قالوا: نعم، قال: فوالله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم وإنها لمحكمة ما نسخها شيء.
أخذ بيد ابن أخ له فارتقى به على كناسة بالكوفة قال: ألا أريك الدنيا، هذه الدنيا أكلوها فأفنوها، لبسوها فأبلوها، ركبوها فأمضوها (أخلفوها وأبلوها) واستحلوا فيها محارم وقطعوا فيها أرحامهم.
قال - رحمه الله -: ما من شيء خير للمؤمن من لحد قد استراح من هموم الدنيا.
كان يتمثل:
ويكفيك مما أغلق الباب دونه
وأُرخي عليه الستر ملح وجردق
ماء فرات بارد ثم تغتدي
تعارض أصحاب الثريد الملبق
تجشأ إذا ما تجشوا كأنما
غذيت بألوان الطعام المفتق
قال: إني أحسن ما أكون ظنًا حين يقول لي الخادم: ليس في البيت قفيز ولا درهم.
قال: إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكر ذنونه ويستغفر منها.
قال: لقد اختلفت إلى عبد الله بن مسعود من رمضان إلى رمضان ما أغبه يومًا.
قال أبو الأحوص: سمعت ابن مسعود يقول لمسروق: يا مسروق، أصبح يوم صومك دهينًا كحيلاً وإياك وعبوس الصائمين، وأجب دعوة من دعاك من أهل ملتك ما لم يظهر لك منه معزاف أو مزمار، وصَلّ على من مات منهم، ولا تقطع عليه الشهادة، واعلم أنك لو تلقى الله بأمثال الجبال ذنوبًا خير لك من أن تلقاه- كلمة ذكرها- وأن تقطع عليه الشهادة، يا مسروق وصلّ عليه وإن رأيته مصلوبًا أو مرجومًا فإن سئلتَ فأحل عليَّ وإن سئلتُ أحلتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الشعبي: ما كان مسروق يشير على شريح بشيء إلا أطاعه.
قال مسروق: لا تنشر بزّك إلا عند من يبغيه، أي لا تنشر علمك إلا عند من ينتفع به.
قال أبو وائل: لما احتضر مسروق قال: أموت على أمر لم يسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر، أما إني لست أدع صفراء ولا بيضاء إلا ما في سيفي هذا فبيعوه وكفنوني به.
قال مسروق: ما عملت عملاً أخوف عندي أن يدخلني النار من عملكم هذا، وما بي أن أكون ظلمت مسلمًا ومعاهدًا دينارًا ولا درهمًا ولكن بي هذا الحبل الذي لم يسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر، فقيل له: ما حملك على الدخول فيه؟ قال: لم يدعني شريح وزياد والشيطان حتى أدخلوني فيه.
وفاته: توفي - رحمه الله - تعالى - سنة اثنتين وستين، وقيل ثلاث وستين.
المراجع:
- تاريخ دمشق لابن عساكر.
حلية الأولياء. - سير أعلام النبلاء.
تقريب التهذيب.
___________________
هامش:
(1) المخدج اليد: أي يده ناقصة الخلق قصيرة.
http://www.altawhed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/45)
عام جديد والقدوة المفقودة
صلاح عبد المعبود
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن من يتصفح تاريخ أمتنا الإسلامية يجد صفحاته النيرة تمتلئ بذكر صفات الفرد المسلم وحسن تصرفاته وأنها موافقة لما يأمر به الإسلام، فلقد كان الله ورسوله أحب إلى هذا الفرد مما سواهما، ومَن أحب شيئًا أطاعه وأكثر من ذكره، فكانت طاعة الله ورسوله سبيله في هذه الحياة الدنيا: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون {النور: 52}.
كما كان لتمسك الفرد المسلم بدينه أثره البارز في معاملة الآخرين، فكان أحدهم إذا مشى في طريقه فكأنما سار الإسلام في ذلك الطريق، فهناك ارتباط تام بين الإيمان والسلوك والعلم والعمل، فديننا ليس مجموعة من الطقوس التي تؤدى في أوقات معينة، ثم بعد ذلك يفعل الإنسان ما يريد، ويطلق لنفسه العنان لتفعل ما تشاء، بل العبادة وسيلة لترشيد سلوك العبد مع ربه ومع نفسه ومع الناس أجمعين، ولذلك عندما ذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة وذكروا من صلاتها وصيامها وصدقتها وكانت تأخذ شيئًا من الليل غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: "هي في النار... "، وذلك أن العبادة لم تصبغ سلوك المرأة بصبغة الإيمان ولباس التقوى، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
إن القدوة الصالحة دعوة صامتة وهي أبلغ أثرًا وأعظم شأنًا من الدعوة الناطقة، وكان لسلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أثر في دخول الناس في دين الله فرادى وجماعات، فإن الناس ينظرون في سلوك الداعي قبل الاستماع إلى وعظه وكلامه، فإن كان تقيًا ورعًا عاملاً بعلمه وقَّافًا عند حدود ربه، قبلوا كلامه وكان فيه الأثر، وكانت من ورائه الثمرة الطيبة، وإن كان الأمر على النقيض من ذلك فإنهم ينظرون إليه بأعينهم ولا تلتفت إليه قلوبهم، ومن هنا يصبح الوعظ كلامًا أجوفَ لا ينبض بالحياة ولا يحرك في الناس ساكنًا ولا يأتي من ورائه نتيجة ولا ثمرة.
إن العامة وسواد الأمة ليقعون في حرج شديد عندما يرون قدوتهم وأسوتهم من الدعاة والعلماء والمصلحين يخالفون بأعمالهم أقوالهم، وتلك آفة خطيرة وداهية عظمى تثمر فقدان الثقة بين الأمة وقادتها من العلماء وأهل الصدارة والقدوة.
والناظر في سيرة نبي الأمة والداعي الأول - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه قد لُقب قبل البعثة بالصادق الأمين، فهل بعد الصدق والأمانة إذا توفرتا في شخص أن يكذب على الله أو يخون قومه ويدلس عليهم؟ فكان من دواعي الثقة عند ذوي الفطر السليمة والعقول الناضجة صدق الداعي وأمانته وسلوكه وخلقه العظيم الذي تحلى به وكان طبيعة فيه وميزة في أحواله ومعاملاته كلها مع العام والخاص، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يُجاءُ بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون أي فلان ما شأنك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمرُكم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه". رواه البخاري.
فكانت عقوبته شديدة وعاقبته مريرة لأنه دل الناس على الخير، فمنهم من استقام وفاز بالجنة، ورغم أنه كان سببًا في نجاة غيره إلا أنه لم ينتفع هو بعلمه، فكان بمثابة النار التي تأكل نفسها لتضيء لغيرها، وتلك هي خسارة الدنيا والآخرة، أن يخرج الإنسان بغير زاد رغم معرفته وعلمه الذي آتاه الله إياه، وما أجمل ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الفوائد - وهو يصف هذا الصنف الخبيث من الدعاة، حيث قال: "علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها بأقوالهم ويدعون إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس هلمَّوا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع طرق". اه. إنهم صنف خبيث من الدعاة من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا يفتون الناس بغير الحق ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
افتقاد القدوة الصالحة وأثره على الأمة
والملاحظ في هذه الأيام هو افتقاد القدوة الصالحة من بعض من تصدروا للدعوة فكانوا حجر عثرة في سبيل السالكين والمجدين، وأثمر ذلك خطرين شديدين:
أ- الانفصال الخطير في عقول العامة بين العلم المطبوع في الكتب والمسموع من ألسنة العلماء وبين العمل والتطبيق في واقع الحياة ودنيا الناس، فقد حدثت فجوة هائلة بين العلم والعمل.
ب- فقدان الثقة بأهل الصدارة والعلماء نتيجة لزلات بعضهم الفاضحة، وزلة العالم بلاء متعد ضرره إلى الأمة بأسرها، ومركز السلامة في دائرة الأمن بالنسبة للأمة هي ثقتها بعلمائها فهم قادتها وأولوا الأمر فيها.
فكثير من الدعاة - إلا من رحم ربي - يدعو الناس إلى احتقار الدنيا والزهد فيها وهم أول الناس مسارعة إليها وحرصًا عليها، ومنهم من ينهى عن الغيبة والنميمة وتجريح الأشخاص وغض الطرف عن مساوئهم والنظر إلى محاسنهم ثم هم يترصدون الأخطاء لبعضهم ويتصيدون الزلات ويفضحونها ولا يسترونها حرصًا على وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، هذا فضلاً عن إظهار الشماتة بمن ابتلي أو أصابه الضر في نفسه أو ماله أو ولده، ومنهم من يرغبون الناس في الورع والبعد عن الشبهات والزهد في فضول الحلال خشية الوقوع في الحرام، ثم هم يحومون حول الشبهات ويحرصون على المنصب والجاه بأي وسيلة وأي طريق، وتلك الصور المؤسفة وكثير غيرها هي أعراض لمرض القلب ونقص الإيمان وقلة التقوى، وأصحابها أنفسهم في حاجة إلى علاج كي يبرءوا منها، فإن صورتهم تدعو إلى السخرية من أناس يدعون إلى الفضيلة والزهد وهم يعانون من التخمة ويجمعون الأموال ويشيدون البنيان.
جيل القدوة
ورحم الله سلف الأمة حيث قل كلامهم وكثرت أعمالهم، وكانت طرائقهم وسيرهم غرة في جبين الدهر لكل سالك طريق الآخرة، فكانوا كالنجوم التي يقتدى بها في دياجير الظلام وأستار الليل.
إن لسان الحال أبلغ وأصدق من لسان المقال، والصحابة لم يكونوا على معرفة كاملة بلغة البلاد التي فتحوها، ولكنهم خرجوا إليها بلغة العمل، وهذه اللغة يفهمها جميع الناس وهي أقصر طريق إلى الإقناع والتصديق، فرأى الناس منهم الصدق والأمانة في المعاملة والهمة العالية والنشاط في العبادة والطاعة، فتأثرت قلوبهم ودخلوا في دين الله أفواجًا.
يستطيع فرد أن يغير أمة منحلة بالدعوة والقدوة، ولا تستطيع أمة كاملة عابدة أن تغير فاسدًا واحدًا بمجرد العبادة، فمناط التغيير هو الدعوة، ولابد للداعي أن يكون قدوة صالحة، فالناس ينظرون إلى المنهج الذي يدعو إليه هل هو واقع حي مطبق في حياته أم هو مجرد دعوى يدعيها باللسان، فإذا رأوه يصدق قوله فعله انقادوا إليه بحب وولاء، وآمنوا عن يقين صادق بما يدعو إليه بل وأصبحوا هم كذلك دعاة إلى منهج الحق، فلا يكتفون بتطبيق المنهج على أنفسهم وإنما يصبحون دعاة لغيرهم، وبذلك ينتشر الحق والخير، والبداية كانت هي القدوة الحسنة التي صلحت في نفسها واجتهدت لإصلاح غيرها، قال - تعالى -: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون". البقرة (44)
إن غياب القدوة الصالحة يفتح باب الشيطان ليشكك في صدق المنهج كله، ويسمح بالدخول إلى العقول ليفسدها ويغرس فيها الوهم والظن والشك ويسقيها بالسم الرعاف ويقلب فيها جميع القيم والموازين لتخرج من كل هذا التخبط بنتيجة واحدة وهي أن هناك كلامًا يُقال وحقائق مسطورة في بطون الكتب، وهناك واقعًا يختلف مع هذه الحقائق وتلك القيم، وتلك النتيجة المرة تموت في مهدها بوجود القدوة الصالحة.
ومع إشراقة عام جديد، هل نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، نتمسك بهما ونسير على هديهما فتطابق أقوالنا أفعالنا، ونكون دعاة إلى ديننا بعقيدتنا وسلوكنا، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
والحمد لله أولاً وآخراً
http://www.altawhed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/46)
أين أثرك أيها الملتزم القدوة
ماجد المسعود
كل من سار على الأرض ترك أثرا وعلامة تدل على مروره على هذه الأرض!فإن سرت على الرمال بدت آثار قدمك،وإن تجولت في حديقة ظهرت علامات طريقك!.
ولنا اليوم أن نتساءل:لك سنوات تتعلم العلم فأين أثر علمك؟ولك سنوات تصلي وتصوم فأين الأثر في النفس والجوارح؟!ولقد قرأت كثيرا وحفظت كثيرا عن بر الوالدين وحسن المعاملة فأين النتيجة؟!
دعني أنقلك إلى واقع موظف صغير في أحد المستشفيات لترى كيف نفع الإسلام والمسلمين..
*موظف صغير في المرتبة والمكان ولكنه موفق مسدد استثمر مكانه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بتطبيق عملي،فهو يعمل في قسم المواعيد.فإذا أتته امرأة أحالها إلى الطبيبة مباشرة،
وإذا تقدم له رجل أحاله إلى الطبيب.ثم في حالة وجود عجز وضغط على الطبيبة فإنه يحول النساء الكبيرات في السن إلى الطبيب.
وهو بهذا حفظ نساء المسلمين وحفظ رجالهم ومنع وقوع المحظور الشرعي من رؤية الرجل للمرأة والمرأة للرجل!
أليس هذا الموظف الصغير قدم خدمة عظيمة للإسلام.
أخي في الله وهناك مواقف كثيرة لم أذكرها ولكن نحن لا نقرأ ونسمع لنستمتع بجهودهم ونفرح بأعمالهم فحسب! بل لنقتدي ونتأسى،وإلا فقد قامت الحجة علينا فلا تأخذنا الغفلة وتلهينا الأماني.
فالدعوة تحتاج إلى قيام وجهد وتعب ونصب ولكن عندما تعلم ما تثمره من هذا لتحمست أكثر إذا اهتدى أحد على يديك يأتيك كل شيء يعمله من خير يأتيك أجره حتى بعد الموت بعد الموت بعد الموت بعد الموت.
http://go2top.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/47)
التعليم بالقدوة القولية والعملية
طرائق النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم أصحابه - رضوان الله عليهم -
د. أحمد محمد العليمي
الحاجة إلى قدوة:
" مهما يكن من أمر إيجاد منهج تربوي متكامل، ورسم خطة محكمة لنمو الإنسان، وتنظيم مواهبه وحياته النفسية والانفعالية والوجدانية والسلوكية، واستنفاد طاقاته على أكمل وجه..
مهما يكن من ذلك كله، فإنه لا يُغني عن وجود واقع تربوي يمثّله إنسان مربٍّ؛ يحقق بسلوكه وأسلوبه التربوي كل الأسس والأساليب والأهداف التي يراد إقامة المنهج التربوي عليها ".1
القدوة المثلي للمسلمين هو محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أمرنا الله - تعالى - بالاقتداء به، والتأسي بطريقه ومنهجه.
قال الله - تعالى -: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ". (الأحزاب: الآية 21).
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى درجات القدوة، فقوله وعمله وتقريره سنة مأمورون بالسير على هداها، والاقتداء بها، وتطبيقها في واقع الحياة.
" والإسلام لا يعرض هذه القدوة للإعجاب السالب، والتأمل التجريدي في سبحات الخيال. إنه يعرضها عليهم ليحققوها في ذوات أنفسهم، كلٌّ بقدر ما يستطيع أن يقتبس، وكل بقدر ما يصبر على الصعود.
وهكذا تظل القدوة في الإسلام شاخصة ماثلة للعيان تتدفّق حيويتها ولا تتحول إلى خيال مجرّد تهيم في حبّه الأرواح، دون تأثير واقعي، ولعلّ الحكمة في ذلك ما أودعه الله في طبيعة النفس الإنسانية من استعداد للمحاكاة ".2
وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاقتداء به، والتمسك بهديه والالتزام بطريقه، فمن ذلك:
عن مالك بن الحُويرث - رضي الله عنه - قال: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً فظنّ أنا اشتقنا أهلنا.
وسألنا عمّن تركْنَا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً فقال: " ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّنْ لكم أحدكم ثم ليؤمّكم أكبركم ".3
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: " لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعليّ لا أحجّ بعد حجّتي هذه ".4
وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: إن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟
قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي فإنه مَنْ يعشْ منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمَنْ أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهتدين، عضوا عليها بالنواجذ ".5
" وهكذا علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رائد التربية الإسلامية أن يقصد المربي إلى تعليم طلابه بأفعاله، وأن يلفت نظرهم إلى الاقتداء به، لأنه إنما يُقتدى برسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يحسن صلاته وعبادته وسلوكه بهذا القصد فيكسب ثواب مَن سنَ سنة حسنة إلى يوم القيامة ".6
وعندما تتأمل شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - تجد:
" لقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - عجيبة من العجائب، عظمات... لا تُحد.
شخوص كثيرة مجتمعة في شخص واحد، كل واحد منها متكامل في ذاته كأنه متخصص في جانبه منقطع له.. ثم تجتمع الشخوص كلها - على تكامل كل منها - فتتكامل على نطاق أوسع وتتناسق في محيطها الشامل، وتتألف منها نفس واحدة تجمع كل النفوس، وتجمعها في توازن واتّساق.
روح شفّافة عظيمة. وقوة حيوية فيّاضة تعدل وحدها أشدّ الناس حيوية لو كان متخصصاً فيها بلا زيادة!
ورجل سياسة يُشيّد أمة من الفتات المتناثر، فإذا هي بناء ضخم لا يطاوله شيء في التاريخ. ويمنح هذا البناء من وقته وفكره وروحه وجهده ومشاعره ما يشغل- وحده - حياة كاملة بل حيوات.
ورجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش ويحارب وينتصر.. كقائد متخصص كل همّه القتال متفرغاً عن كل ما عداه.
وأب وزوج ورب أسرة كبيرة كثيرة النفقات.. نفقات النفس والفكر والشعور فضلاً عن نفقات المال.. كرجل متخصص للأبوة على أعلى نسق شهدته الأرض، ومتخصص للأسرة لا يشغله عنها شاغل من الحياة.
وعابد متحنث لربه، كرجل منقطع للعبادة، متخصص لأدائها، لا تصله بالأرض رابطة، ولا يشغله همّ من الهموم، ولا تجيش في نفسه نوازع، ولا تتحرك في كيانه رغبات.
ومع ذلك كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض، الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل، وتغلغلت في كيانه، فمدّته على أقصى اتساع.
عظمات.. لا تُحد.
كل هذه الشخوص المتفرقة مجموعة في شخصه، مجموعة على تناسق وتوافق واتزان، كل منها يأخذ نصيبه كاملاً من نفسه ومع ذلك لا يميل، لأن طاقات أخرى عظيمة توازنه في كل اتجاه.
ذلك هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، النور الكوني الذي بهر العالمين.
وحق للناس أن يحبوه كل ذلك الحب، ويعجبوا به ويتبعوه.
ولقد كانت حكمة الله - سبحانه - من بعثه على هذه الصورة المتكاملة الشاملة العظيمة، كحكمته في إنزال القرآن على هذا النهج الشامل المعجز العظيم، فكان محمد- في كونه آية كونية - كفءً لهذا القرآن.. وكان خُلقه القرآن.
وكان قدوة للناس في واقع الأرض..يرونه، وهو بشر منهم تتمثّل فيه هذه الصفات كلها وهذه الطاقات، فيصدّقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين، ولا يقرؤونها في كتاب! ويرونها في بشر، فتتحرك لها نفوسهم، وتهفو لها مشاعرهم ويحاولون أن يقبسوا قبسات من الرسول.. كل بقدر ما يطيق أن يقبس، وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود.. لا ييأسون ولا ينصرفون.. ولا يدعونه حلماً مترفاً لذيذاً يطوف بالأفهام.. لأنهم يرونه واقعاً يتحرك في واقع الأرض.. ويرونه سلوكاً عمليّاً لا أماني في الخيال.
لذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل. وكان مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به سواء في ذلك القرآن المنزل، أو حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - .7
قلت: " وإذا قصر بصرك أن ترى قدوة في واقعك، فارفع بصرك قليلاً لترى القدوة العظمى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
تجزئة القدوة
كمال القدوة نادر إلا في محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تعنى ندرته عدم وجوده، أو عدم انتصاب قدوات جزئية تتكامل من خلال الأداء الجماعي.
ومن ذلك:
قدوة في تحصيل العلم ومعرفة طرائقه تحصيلاً وأداءً.
قدوة في التضحية والإنفاق في سبيل الله.
قدوة في الحركة الدؤوبة والحرص على مصالح الدعوة والأمة.
قدوة في الصبر على متطلبات الطريق، ومشقات الأداء.
وبانتظام القدوات في طريق الدعوة تتكامل الصورة، ولا ينفكُّ بعضها عن بعض، والله المستعان.
الفصام النكد:
وقد حذّر الله من الفصام النكد الذي قد يحدث بين القول والعمل، حيث لا بد من التوافق والتطبيق بين القول والعمل.
قال - تعالى -: " يأيها الذين أمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ". (الصف: الآية 2-3).
وورد في السنة ما يؤكد ذلك، ومنه:
عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يُجاء بالرجلِ يومَ القيامة فيُلقى في النار، فندلقُ أقتابه في النار، فيَدُور كما يَدور الحمارُ برحاه، فيجتمعُ أهل النار عليه، فيقولون: أيْ فلان ما شأنك؟ أليس كنتَ تأمرنا بالمعروفِ، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كُنتُ آمركم بالمعرُوفِ ولا آتيه، وأنهاكم عنِ المنكر وآتيه ".8
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مررتُ ليلةَ أُسريَ بي على قوم تُقرضُ شفافههم بمقاريض من نار، قال: قلتُ: مَنْ هؤلاء؟ قالوا: خطباءُ مِنْ أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ".9
ولا يعني هذا أن مَنْ لم ينفذ الأمر لا يدعو إليه.
قال سعيد بن جبير - رحمه الله -: " لو كان المرء لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر.
وعندما سمع الإمام مالك - رحمه الله - هذا القول قال: صدق، ومَن هذا الذي ليس فيه شيء".؟10
يقول أبو عبد الرحمن السلمي: " حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل.. قالوا: فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً ".11
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيها والعمل بهن ".12
____________________________
1 أصول التربية الإسلامية/ 254 ط/ دار الفكر الثانية.
2 المرجع السابق/ 257 ط/ دار الفكر الثانية.
3 أخرجه البخاري 5/ 2238 (ح/ 5662) ومسلم 1/465- 466 (ح/ 674).
4 أخرجه مسلم 2/ 943 (ح/ 1297).
5 ورد عند البخاري " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي " 6/2612 (ح/6723) ومسلم 4/ 1467 (ح/ 1837) وأخرجه الترمذي 5/44- 45 (ح/2676) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وذكرته بلفظ الترمذي لكمال نص الحديث عنده.
6 أصول التربية الإسلامية/ 262 ط/ دار الفكر الثانية.
7 منهج التربية الإسلامية/ 182-183
8 أخرجه البخاري 3/ 1191 (ح/3094) وقوله: " فتندلق " تخرج وتنصب بسرعة. وقوله: " أقتابه" جمع قتب وهي الأمعاء والأحشاء. أفاده د: البغا بموضعه.
9 أخرجه أحمد ( ح/ 11766).
10 رسالة المسترشدين، 61.
11 مقدمة في أصول التفسير 6.
12 مقدمة في أصول التفسير 44.
http://www.taصلى الله عليه وسلمbawi.com بتصرف من :
ـــــــــــــــ(1/48)
القدوة الحقيقية
الشيخ محمود المصري
إننا نعيش زماناً قد اجتمعت فيه كل أنواع الغربة وكثرت فيه الفتن وعمت فيه البلايا والمحن وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما أخبر بذلك الصادق الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال « سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين... » (صحيح الجامع: 3650)
فكان لابد للمؤمن أن يتمسك بدينه وأن يعرف وجهته الحقيقية ليثبت أمام تلك الفتن...
وبخاصة عندما نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن هذه الأمة الميمونة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فلما سأله الصحابة عن صفات تلك الفرقة الناجية قال لهم: « الذين هم على مثل ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي » فكان لازماً يا أخي ألا يلتفت قلبك إلى غيرهم بل عليك أن تتشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - « فالمرء مع من أحب » (متفق عليه)
أخي الحبيب إن الأسوة والقدوة لم تكتمل إلا في النبي وأصحابه الذين رياهم وعلمهم وعدلهم فكانوا أبطالاً في كل ميادين الحياة وقدوة لمن أراد القدوة الحقيقية.
فإذا أردت القدوة في الزهد فهذا حبيبك - صلى الله عليه وسلم - الذي خير بين أن يكون ملكاً رسولا ً أو عبداً رسولاً فاختار أن يكون عبداً رسولاً بل عرضت عليه جبال الدنيا أن تصير له ذهباً فأبى بل ينام على الحصير ويؤثر الحصير في جنبه الشريف ويمر عليه الهلال تلو الهلال ولا يوقد في بيوته نار وكان أكثر دعائه « اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً » ومات ودرعه مرهونة عند رجل ٍ يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير بل قالها صريحة « إن عبداً خير بين مفاتيح الأرض وبين ما عند الله فاختار ما عند الله » وكل ذلك ثابت في أحاديث صحيحة وكان أصحابه - رضي الله عنهم - يأكلون ورق الشجر ولا يجدون قوت يومهم ومع ذلك فتحوا الدنيا كلها ونصروا دين الله وبلغوا تلك الرسالة العظيمة على لحومهم ودمائهم وأشلائهم.
وإن كنت تريد قدوة في العزة فهذا حبيبك - صلى الله عليه وسلم - يعرض عليه المشركون المال والجاه والنساء فيرفض كل ذلك بكل عزة ويأبى إلا أن يعبّدهم لله رب العالمين وتعلم أصحابه هذا الدرس جيداً فلم يكن عندهم أغلى من هذا الدين حتى قالها عمر بن الخطاب بكل عزة وهو ذاهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس وكان يلبس ثياباً قديمة ويخوض برجليه في الماء قالها بكل عزة لقد كنا أذل قوم ٍ فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيرة أذلنا الله..
بل قالها ((ربيع بن عامر)) عندما سأله من أنتم وما الذي جاء بكم إلى هنا؟ قال له نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة إنها العزة المفقودة في أيامنا بسبب الوهن و حب الدنيا وبسبب الهزيمة النفسية التي نعانى منها.
ولو استطردنا في الأمثلة فإننا سنحتاج إلى مجلدات ولكن حسبنا أن نعرف أن الأسوة والقدوة لم ولن تكتمل إلا في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلينا أن نقتفى أثرهم ونهتدي بهديهم.
فيا من انشغل قلبك بالدنيا وزهرتها الفانية ماذا تريد؟
إن كنت تريد المال فاعلم أنك إذا اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ستدخل الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويكفيك أن تعرف أن أدنى أهل الجنة سيظفر بمثل خمسين ملك ملكٍ من ملوك الدنيا وأن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة سيأخذ الدنيا ومثلها معها (رواهما مسلم)
وإن كنت تريد الشهرة فأنا أدلك على خير إذا فعلته كنت معروفاً في السموات السبع وذلك بأن تداوم على النوافل حتى يحبك الله - عز وجل - فإذا أحبك فإنه ينادى على جبريل - عليه السلام - ليحبك فيحبك جبريل وينادى في ملائكة السماوات السبع فيحبونك ثم يوضع لك القبول في الأرض
وإن كنت تريد الجاه فاعلم أنك ستكون في الجنة أعظم من كل ملوك الدنيا فالخدم من حولك والحور العين بين يديك والأنهار تجرى تحت رجليك وسقف بيتك عرش الرحمن - جل وعلا - ولكن كل ذلك بشرطٍ أن تحقق التوحيد لله - جل وعلا - وأن تتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن تجعل ذلك كله ابتغاء وجه الله وأن تحب النبي وأصحابه من كل قلبك فالمرء مع من أحب.
http://www.islamway.com المصدر :
ـــــــــــــــ(1/49)
القدوة والاقتداء
يوسف بن عبدالله العلوي
يقال: فلان قَُِدوة، أو قِدَة: إذا كان ممن يقتدى به، أي: يفعل مثل فعله تشبهاً به، وفي القرآن: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام/90]، قال ابن فارس في المقاييس: "القاف والدال والحرف المعتل أصل صحيح يدل على اقتباس بالشيء واهتداء ... ". وفي لسان العرب: "يقال: قِدْوة، وقُدْوة لما يقتدى به. ابن سيده: القُدوة، والقِدوة ما تسننت به ... والقدى جمع قدوة، يكتب بالياء. والقِدَة كالقدوة، يقال: لي بك قِدوة وقُدوة وقِدَة ... والقُدوة والقِدوة: الأسوة ... ".
أهمية القدوة:
وتعد القدوة من أهم الوسائل المؤثرة في التربية، لأمور عدة، منها:
1- أن القدوة وسيلة من الوسائل التي تربى عليها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - لسلوك منهج الدعوة الذي سلكه الأنبياء من قبله، حيث عرضت عليه حياة الأنبياء في قصص القرآن ليقتدي بهم في إبلاغ الرسالة، والثبات على الحق، والصبر على الأذى، ومواجهة الملأ، والتوكل على الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإقتداء بمن سبقه من الأنبياء : "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ... " [الأنعام/90].
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربى على القدوة، فإن هذا يدل على أن القدوة ليست ضرورة للأطفال وحدهم، ولا للطلاب والتلاميذ، ولا للعامة، وإنما أيضاً للعلماء والمعلمين والدعاة والقادة.
2- أن الإنسان جبل على المحاكاة والتأثر، وفي الوقت نفسه يحب البطولة والكمال، فإذا رأى من ذلك شيئاً كان أوقع في نفسه من الحديث المجرد عن تلك الكمالات والبطولات، خاصة في مرحلة المراهقة والشباب؛ فإنها تشهد قابلية شديدة للاستهواء، وإعجاباً شديداً بالبطولة، ورغبة في الإقتداء بها، وهذا باب من التربية والدعوة عظيم.
3- أن القدوة تقنع الآخرين بإمكانية بلوغ الفضائل؛ فربما يتحدث المتحدث عن الفضائل التي ينبغي أن يُتحلى بها، أو المواقف التي ينبغي أن تُوقف، فيسمع الناس-أياً كانت طبقتهم- حديثاً يظنونه من عالم الخيال، ولا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، فإذا رأوه واقعاً، أو عرض عليهم القدوات وقد بلغوا تلك الفضائل ووقفوا تلك المواقف أدركوا إمكانية بلوغها، وأنها في أرض الواقع لا في سماء الخيال.
4- أن الفعل أبلغ في إفهام المتلقين من القول المجرد عنه؛ فإن المتحدث يتحدث على الناس وهم مختلفة عقولهم في مدى استيعاب الكلام وفهمه، فيخرج السامعون وهم يعبرون عن الكلام حسب ما أدركته عقولهم فيتفاوت معنى الكلام لتفاوت الأفهام، وربما انقلب مقصود المتكلم إلى النقيض، ولكن ماذا لو كانوا يرون أمامهم مواقف وأفعالاً؟ أتراهم يخطئون في فهم ما يرونه بأبصارهم، وفي نقله؟ وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما اتخذ خاتماً من ذهب فاتخذ الناس مثله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إني اتخذت خاتماً من ذهب، فنبذه وقال: إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم) [أخرجه البخاري]، ومن ذلك ما حصل في الحديبية حينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة ثلاثاً أن يحلقوا وينحروا، فلم يفعلوا، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأشارت عليه أم سلمة - رضي الله عنها- أن يخرج إليهم وينحر ويحلق، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأى الصحابة -رضي الله عنهم- ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بادروا إلى فعل ما أمرهم به. [أخرجه البخاري]، وفي غزوة الفتح لما شق على الناس الصوم، قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء، فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فأفطر الناس. [متفق عليه].
القدوة في القرآن والسنة:
وقد وردت القدوة في القرآن بصور متنوعة، منها:
1- أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهدي الأنبياء والرسل من قبله، بعد أن ذكر قصصهم وأحوالهم، فقال -سبحانه وتعالى-: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام/90]، وقال -سبحانه-: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [الأحقاف/35].
2- وحث الله -عز وجل- الأمة على الاقتداء بنبيها - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) [الأحزاب/33].
3- كما حثها على الاقتداء بمواقف الأنبياء والرسل وأتباعهم في الثبات على الحق والبراءة من الكفر وأهله، فقال -سبحانه-: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله...) الآية [الممتحنة/4]، ثم أكد الله عز وجل الحث على الاقتداء بعد ذلك فقال: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة...) [الممتحنة/6].
4- وذكر سبحانه عن بعض أنبيائه التزامهم هذه الصفة في سلوكهم ودعوتهم، كما ذكر عن شعيب قوله لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) [هود/88].
5- وعلم سبحانه عباده أن يدعوه ليكونوا قدوة في التقوى، فقال سبحانه عن عباد الرحمن: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) [الفرقان/74] قال مجاهد: (اجعلنا أئمة في التقوى، حتى نأتم بمن كان قبلنا، ويأتم بنا من بعدنا) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم بإسنادين صحيحين كما قال ابن حجر.
6- وأنكر سبحانه على من يخالف فعلُه قولَه، فقال سبحانه عن بني إسرائيل: (أ تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [البقرة/44]، وقال للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [الصف/2-3].
7- كما ذم سبحانه وتعالى المقتدين في الباطل، فقال سبحانه: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون. فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) [الزخرف/23-25].
وأما في السنة فقد وردت أيضاً في صور مختلفة، منها:
1- الأمر بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه وعبادته، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (صلوا كما رأيتموني أصلي) [أخرجه البخاري]، وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) [أخرجه مسلم].
2- وكان - صلى الله عليه وسلم - يحث على المبادرة إلى الخيرات ليكون المرء قدوة لغيره، زيادة في الأجور ورفعة في الدرجات، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) وكان مناسبة هذا القول أن ناساً من الأعراب جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرأى سوء حالهم، فحث الناس على الصدقة، فأبطؤوا عنه، حتى جاء رجل من الأنصار بصرة من ورق، كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس من بعده يتصدقون، فتهلل وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقال هذا القول [أخرجه مسلم]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [أخرجه مسلم].
3- كما كان - صلى الله عليه وسلم - يعرض القدوات لأصحابه، ويحثهم على الاقتداء بهم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (اقتدوا بالذين من بعدي: أبو بكر وعمر) [أخرجه أحمد والترمذي]، وكان يقص القصص لأصحابه وأمته ليقتدوا بأصحابها في الثبات على الحق وطلب الخير، ومن ذلك حديث خباب -رضي الله عنه - حين شكا الصحابة - رضي الله عنهم- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة ما يلقونه من قريش، فقالوا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [أخرجه البخاري].
معالم في القدوة والإقتداء
1- إن أساس القدوة أن يكون فعلُه موافقاً لقوله، بل يكون سره خيراً من علانيته، وإذا خالف هذا الأساس فلا قدوة حينئذ، ولا اقتداء، وقد قال شعيب -عليه السلام- لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) [هود/88]، وأنكر الله تعالى على من لا يستقيم على قوله، فقال سبحانه عن بني إسرائيل: (أ تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [البقرة/44]، وقال للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [الصف/2-3]، وفي الحديث المتفق عليه عن أسامة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يافلان، مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، أنهى عن المنكر وآتيه).
2- القدوة مؤثر بهديه وسلوكه تأثيراً طبعياً عفوياً لا يتكلفه؛ إلا أنه يحسن أحيانا في مقام التعليم والدعوة إلى الخير أن يقصد المربي التأثير لا رغبة في الرياء والسمعة؛ فيظهر العمل ليقتدي الناس به، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة على المنبر، وقال: (إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) [متفق عليه]، ولعل من هذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن أن يجعل لبيته نصيباً من صلاته النافلة، وقال: (فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً) [أخرجه مسلم]، ومن الخير اقتداء الأهل والأولاد به.
3- من منهاج النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربية أصحابه -مع كونه هو القدوة- أن يعرض لهم القدوات ليعتبروا بهم ويقتدوا، كما سبق في حديث خباب -رضي الله عنه -، وكالقصص التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصها على أصحابه - رضي الله عنهم - وأمته.
فعلى المربي أن يُعنى بعرض قصص القرآن وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصصه وسير الصحابة - رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان، وهذا باب في الاقتداء عظيم قد يكون له من التأثير على النفوس ما هو أعظم من تأثير المربي بقوله وفعله، كما أنه وسيلة يتجاوز بها المربي في تربيته بعض ما ينقصه، لأن القدوة مهما سعى إلى الكمال فلن يصل إليه، وسيبقى بشراً يعتريه النقص ويغالبه الشيطان وتنازعه النفس الأمارة بالسوء، كما أن من أعمال السر ما لا ينبغي للقدوة أن يظهرها للناس حفاظاً على الإخلاص، وبعداً عن الرياء أن يطرأ على النفس، وسداً للباب الذي يفضي لاعتقاد الناس أنه مرائي.
4- ينبغي للمربي أن يبتعد عن مواطن الشبهة والريبة، ولو لم يكن يقصد سوءاً، لئلا يرتاب الناس في أمره، وهي مواطن يتسلل منها الشيطان إلى قلوب الناس فيزين لهم الشك وسوء الظن في مرتاديها، ومن وضع نفسه في مواطن الشبهة فلا يلومن إلا نفسه، ويدل على ذلك الحديث المتفق عليه عن أم المؤمنين صفية - رضي الله عنها - حين جاءت إلى - النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في المسجد فلما أرادت الرجوع قام - النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقلبها، فرآه رجلان من الصحابة فأسرعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله - وفي رواية: هل نظن بك إلا خيراً - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال: شراً)، قال ابن حجر في الفتح4/280 معدداً فوائد الحديث: (وفيه: التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به؛ فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب لإبطال الانتفاع بعلمهم). وقد أدرك عمر -رضي الله عنه- هذا الأمر حين رأى على طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- ثوباً مصبوغاً وهو محرم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ ياطلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة. أخرجه مالك [الحج/10].
5- على من وضع نفسه في مقام التربية أن لا يتكلف القدوة حين يخفي تقصيره عند المتربين بإظهار الطاعات واجتناب المكروهات، أو يوهمهم بذلك في كلامه وفعله، لئلا ينتقدوه وهو شيخهم، أو يفت في عزيمتهم، وإن فعل هذا عن حسن نية فإنه من نقصه وضعفه في تربية نفسه أولاً، وهو ثانياً من الرياء المذموم الذي يأثم به، وليعلم ثالثاً أن حبل الكذب كما يقال قصير، وكما قال زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
والمتربي مراقب لشيخه وفي الوقت نفسه يجله ويعظمه، فإن أدرك سوء صنيع شيخه وهو لا محالة مدرك فسيكون الأثر السلبي على نفسه حينئذ أشد مما لو علم قبل ذلك، سواء أدرك المتمشيخ معرفة المتربي به أو لم يدرك، وإذا فاحت رائحة الرياء والخداع فكيف سيكون حاله.
6- القدوة في أعين الناس؛ ترقبه وتقتدي به، وزلته زلة لهم، أو زلة له هو من أعينهم، والناس لا يغتفرون خطأ القدوة، وهذا سلوك غير شرعي، ولكن على القدوات أن يتعاملوا مع هذا الواقع بدقة وحساسية، مع السعي لتصحيح هذا الخطأ بالتأكيد على بشرية القدوة وعدم عصمته، وأن الوقوع في الخطأ لا يسلم منه أولياء الله المتقون إلا أنهم يستغفرون الله ويرجعون إليه، كما قال تعالى في وصف المتقين: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) [آل عمران/135-136]، ويعرض أيضاً ما حصل للأنبياء والرسل الذين هم خير القدوات عليهم الصلاة والسلام من أمورٍ عاتبهم الله جل وعلا عليها فاستغفروا الله منها، كإغواء الشيطان لآدم عليه السلام بأكل من الشجرة ، وغضبِ موسى -عليه السلام- وإلقائه الألواح ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، وعبوس النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوليه عن الأعمى ، وغير ذلك مما حصل لبعض الصحابة والتابعين والصالحين من عباد الله -عز وجل-.
أسأل الله عز وجل أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا ! ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأن يجعلنا من الراشدين!، وأئمة للمتقين!.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر : http://www.almuصلى الله عليه وسلمabbi.com
ـــــــــــــــ(1/50)
القدوة الحسنة والتحلي بخلق الإسلام أهم ما يمتلكه الداعية
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5518) -رقم الفتوى 19186 القدوة الحسنة والتحلي بخلق الإسلام أهم ما يمتلكه الداعية
تاريخ الفتوى : 06 جمادي الأولى 1423
السؤال
أنا طالب في جامعة فلسطينية كيف أستطيع أن أدعو الطلاب أثناء الدراسة إلى دين الله وما هي الوسائل التي تمكنني من ذلك؟
والسلام عليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن المسلم يتشرف بالدعوة إلى الله تعالى، وإلى هذا الدين العظيم الذي شرفه الله تعالى بالانتساب إليه والدعوة له. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].
وقد أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكل من اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، فقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108].
فكل من اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، فعن علي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" رواه البخاري.
والدعوة إلى الله تعالى تكون بكل أسلوب شرعه الله تعالى: من تعليم الناس ما فرض الله عليهم من أمر دينهم، ومن توجيههم ونصحهم بما ينفع في دينهم ودنياهم، وبيان محاسن الإسلام وإصلاحه للفرد والمجتمع، وأنه سبب لسعادة المسلم في الدارين.
ومن أهم وسائل الدعوة أن يتحلى الداعية بأخلاق الإسلام، ويكون نموذجاً وقدوة لغيره فلسان الحال أصدق من لسان المقال.
وقد انتشر الإسلام في كثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية على أيدي الدعاة المخلصين من التجار والمهاجرين، كما حدث في شرق آسيا وأفريقيا.
والدعوة اليوم تحتاج إلى شباب مخلصين من الذين وهبوا أنفسهم لله تعالى، وضحوا في سبيلها بكل غال، وبذلوا جهدهم لبيان ما جاء الإسلام به لينقذوا الأمة مما تتخبط فيه من الجهل بالدين والتبعية لأعداء الله تعالى.
والحاصل أن عليك أن تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادل بالتي هي أحسن، وتعلم الشباب ما فرض الله عليهم تجاه دينهم وأمتهم، وتبين لهم محاسن الإسلام وما يسعدهم في الدنيا والآخرة.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ـــــــــــــــ(1/51)
القدوة الحسنة !
موسى محمد هجاد الزهراني
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ سُورَةُ التَّوْبِةِ : 128 ] ..
إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطئ عليها فضلاء ونجباء البشر ونبلاؤهم ، حتى إنها لتجيب على كل ما يختلج في الفؤاد من أسئلة قد تبدو محيرة لمن لم يذق طعم الإيمان بالله تعالى من الذين كفروا ، والغريب في الأمر أن بعض بني قومنا من المسلمين هداهم الله لا يحفلون بهذه الميزة العظيمة التي ميزنا الله بها وهي كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة وأسوة حسنة رغم أنها تمثل الرادع الفعلي عن ارتكاب ما يخل بخلق المسلم ، وهي المحرك الأساس إلى الارتقاء بالذات إلي معالي الأمور وقممها السامقات .
إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنٌ يمشي على الأرض وكان خلقه القرآن ، ولذلك تجد كثيراً من عامة المسلمين اليوم إذا سألتهم ولو كان ذلك بطريقة عشوائية عن : من هو قدوتك أو مثلك الأعلى ؟!
لسمعت الإجابة :_ النبي صلى الله عليه سلم ! .
أتعرف شيئاً عن سيرته ؟ .
فسيحدثك ولو بالقدر القليل عن سيرته عليه السلام من ولادته ونشأته وعبادته وشجاعته وحسن خلقه وغزواته وغير ذلك إلى الوفاة .
وإنك لتسمع من البعض أيضاً عبارة : هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وما ذلك إلاَّ دلالة واضحة على أن المسلمين عموماً لديهم الرجوع الذهني إلى القدوة المطلقة وهو النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - .. فيفعلون ما فعل وينتهون عما نهى ويخجلون من فعل شيء لم يفعله.
* * *
أين هذا من الكثرة الكاثرة في الأرض اليوم بكل في كل زمان من الكافرين على جميع أصنافهم وتنوع مذاهبهم وتنوع مذاهبهم ومشاربهم ؟ .
خذ مثلاً .. النصارى الموجودين اليوم .. لو سألت أحدهم أو مجموعة منهم عن قدوته في الحياة لما حار جواباً إلاَّ بعد تفكير مضطرب قد تأتي الإجابة بعده ليست كما تريد .. وينسى ( المسيح عليه السلام ) أو ( يسوع كما يحلو لهم أن يعبروا ) لأنه يجهل سيرته تماماً ولا يعلم منها إلا الجزء المظلم في نظرة النصرانية من أنه أحد الأقانيم الثلاثة .. ثلاثة في واحد .. وأنه ابن الإله ، وهو المصلوب لإنقاذ الجنس البشري من تبعات خطيئة أبيهم آدم .. وهو الذي نزل باسم الإله تارة أو ابنه تارة أو ما إلى ذلك من خرافاتهم ..
{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 158 ]
فإذا أردت منه شيئاً يسيراً عنه ولادة عيسى عليه السلام .. لربما غضب منك لأنه يعلم أنك تريد تسفيه عقيدته في ابن الإله ( حسب زعمهم ) .. وإذا أردت شيئاً من سيرته لم تسمع من فيّ الخاصة منهم إلاَّ العبارة المشهورة عن المسيح عندهم " إذا صفعك أحدهم على الخد الأيسر فأدر له الخد الأيمن ومن جاءك يريد أخذ شيئاً من مالك فأعطه مالك كله " على أنها لا سند لها من شرع ولا عقل إلاَّ إنها لا تمثل ما عليه واقع حال النصرانية المحرفة أبداً ولا يحفل قسسهم ولا باباوتهم ورهبانهم وساستهم - وبوش الظالم المعتدي على أفغانستان والعراق أكبر مثال - لا يحفلون بهذا النص عن المسيح عندهم ولا يُعملونه في واقعهم، وواقعهم المرّ يشهد بذلك .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً } [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 171 ]
* * *
أين المسلمون عن شكر نعمة القدوة المطلقة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأين العمل بسنته والافتخار بها ؟ .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا } [ سُورَةُ الأَحْزَابِ : 21 ]
وبقي أن نعلم أن القدوات ثلاثة .. القدوة المطلقة وهو الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والقدوة الثانية : من مات على الإسلام الصحيح من سلف الأمة المخلصين ومن كانت سيرته نبراساً لمن بعده كالصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان .. وعلماء الأمة الأربعة فمن بعدهم وشمسهم الوهاجة شيخ الإسلام بن تيميه .. إلى آخر عالمٍ مات منهم .. بالشرط المتقدم .
القدوة الثالثة : من يصلح الاقتداء به في هذا الزمان من الأخيار ، على أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ..
ولله در الشيخ الدكتور عائض القرني على روعة وصفة لقدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، في رائعته : تاج المدائح :
أنصت لميميةٍ جاءتك من أَمَمِ **** مُدادها من معاني نون والقلم
سالت قريحةُ صبٍّ في محبتكم***** فيضاً تدفق مثل الهاطلِ العممِ
كالسيل كالليل كالفجر اللحوح غدا * يطوي الروابي ولا يلوي على الأكم
أجش كالرعد في ليل السعود ولا *** يشابه الرعد في بطش وفي غشم
كدمع عيني إذا ما عشت ذكركم *** أو خفق قلب بنار الشوق مضطرم
يزري بنابغة النعمان رونقها ***** ومن زهير ؟ وماذا قال في هَرِمِ
دع سيف ذي يزنٍ صفحاً ومادحه ***** وتبّعاً وبني شداد في إرم
ولا تعرج على كسرى ودولته ***** وكل أصْيد أو ذي هالة ٍوكمي
وانسخ مدائح أرباب المديح كما ***** كانت شريعته نسخا لدينهم
رصّع بها هامة التأريخ رائعة ***** كالتاج في مفرق بالمجد مرتسم
فالهجر والوصل والدنيا وما حملت **** وحب مجنون ليلى ضلة لعمي
دع المغاني وأطلال الحبيب ولا***** تلمح بعينك برقا لاح في أضم
وأنس الخمائل والأفنان مائلة ***** وخيمة وشويهات بذي سلم
هنا ضياء هنا ري هنا أمل ***** هنا رواء هنا الرضوان فاستلم
لو زينت لامرء القيس انزوى خجلا ***** ولو رآها لبيد الشعر لم يقم
ميمية لو فتى بوصير أبصرها ***** لعوذوه برب الحل والحرم
سل شعر شوقي أيروي مثل قافيتي *** أو أحمد بن حسين في بني حكم
ما زار سوق عكاظ مثل طلعتها***** هامت قلوب بها من روعة النغم
أثني على من ؟ أتدري من أبجله ؟ ***** أما علمت بمن أهديته كلمي
في أشجع الناس قلبا غير منتقم ***** وأصدق الخلق طرّا غير متهم
أبهى من البدر في ليل التمام وقل * أسخى من البحر بل أرسى من العلم
أصفى من الشمس في نطق وموعظة ** *أمضى من السيف في حكم وفي حكم
أغر تشرق من عينيه ملحمة ***** من الضياء لتجلو الظلم والظلم
في همة عصفت كالدهر واتقدت *** كم مزقت من أبي جهل ومن صنم
أتى اليتيم أبو الأيتام في قدر ***** أنهى لأمته ما كان من يتم
محرر العقل باني المجد باعثنا ***** من رقدة في دثار الشرك واللمم
بنور هديك كحلنا محاجرنا ***** لما كتبنا حروفا صغتها بدم
من نحن قبلك إلا نقطة غرقت **** في اليم بل دمعة خرساء في القدم
أكاد أقتلع الآهات من حُرَقي ***** إذا ذكرتُك أو أرتاعُ من ندمي
لما مدحتك خلت النجم يحملني ***** وخاطري بالسنا كالجيش محتدم
أقسمتُ بالله أن يشدو بقافية ***** من القريض كوجه الصبح مبتسم
صه شكسبير من التهريج أسعدنا **** عن كل إلياذة ما جاء في الحكم
الفرس والروم واليونان إن ذكروا ***** فعند ذكراه أسمال على قزم
هم نمقوا لوحة للرق هائمة ***** وأنت لوحك محفوظ من التهم
أهديتنا منبر الدنيا وغار حرا ***** وليلة القدر والإسراء للقمم
والحوض والكوثر الرقراق جئت به*** أنت المزمل في ثوب الهدى فقم
الكون يسأل والأفلاك ذاهلة ***** والجن والإنس بين اللاء والنعم
والدهر محتفلٌ والجو مبتهج ***** والبدر ينشق والأيام في حلم
سرب الشياطين لما جئتنا احترقت **** ونار فارس تخبو منك في ندم
وصُفّدَ الظلم والأوثان قد سقطت ***** وماء ساوة لما جئت كالحمم
قحطان عدنان حازوا منك عزتهم ***** بك التشرف للتأريخ لا بهم
عقود نصرك في بدر وفي أحد ***** وعدلا فيك لا في هيئة الأمم
شادوا بعلمك حمراء وقرطبة ***** لنهرك العذب هب الجيل وهو ظمي
ومن عمامتك البيضاء قد لبست ***** دمشق تاج سناها غير منثلم
رداء بغداد من برديك تنسجه ***** أيدي رشيد ومأمون ومعتصم
وسدرة المنتهى أولتك بهجتها ***** على بساط من التبجيل محترم
دارست جبريل آيات الكتاب فلم***** ينس المعلم أو يسهو ولم يهم
اقرأ ودفترك الأيام خُط به ***** وثيقة العهد يا من بر في القسم
قربت للعالم العلوي أنفسنا ***** مسكتنا متن حبل غير منصرم
نصرت بالرعب شهرا قبل موقعة *** كأن خصمك قبل الحرب في صمم
إذا رأوا طفلا في الجو أذهلهم ***** ظنوك بين بنود الجيش والحشم
بك استفقنا على صبح يؤرقه ***** بلال بالنغمة الحرّى على الأطم
إن كان أحببت بعد الله مثلك في **** بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفى ناظري من منظر حسن *****ولا تفوه بالقول السديد فمي
بعد ، فهذه كلمات يسيرة كتبتها على عجل ، أثارها في صدري ما قرأته عن مقارنه الأديان [1] وتخبطاتها حاشا الإسلام . أسأل الله أن يجعلنا من المهتدين المقتدين بالرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ويرزقنا أتباع سنته وشفاعته يوم القيامة .
القاهرة - في 12/5/1425هـ
----------
[1] انظر كتاب أستاذنا الفاضل أ د / مصطفى حلمي ( الإسلام ومقارنة الأديان ) ..
ـــــــــــــــ(1/52)
الوقفة الأولى: القدوة الحسنة
هاهنا أمور كثيرة، فإننا جميعاً نقدم فلذات أكبادنا إلى المدارس يقضون فيها اثني عشر عاماً، يكونون فيها مع المعلمين والمعلمات في كل يوم نحو ست ساعات إلى ثمان ساعات، يشاهدهم المعلمون والمعلمات أكثر مما نشاهدهم في بيوتنا، نحن نعول على دورهم، نحن نجد أن هناك مهمة كبرى نحتاجها منهم.
أولها: أن يكونوا قدوات حسنة، فليس أضر في التعليم من أن يكون المعلم قدوة سيئة، فيقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، وقد ذم الله جل وعلا ذلك لنا -معاشر المؤمنين- فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف:2-3].
وحذرنا الله عز وجل من ذلك، وضرب لنا المثل السيئ القبيح لمن كان لهم هذا السلوك، كما بين الحق سبحانه وتعالى ذلك في قوله: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [الجمعة:5]، فهو حمار يحمل علوماً وكتباً فوق ظهره ولا يعقل منها شيئاً، ولا يفهم منها علماً، ولا يأخذ منها سلوكاً، فما أقبح هذا المثل!
الوقفة الثانية: التركيز على الهدف والغاية من التعليم
وأمر آخر: تركيزهم على المهمة التي ذكرناها { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } [البقرة:129]، وليس مجرد سرد للمعلومات.
الوقفة الثالثة: القرب من الطلاب والرأفة بهم
وثالثة مهمة، وهي قربهم من الطلاب والطالبات ورأفتهم بهم وشفقتهم عليهم، وإبداؤهم كامل الحب لهم، فإن التعليم لا يجد طريقه إلى العقول، وإن الفهم لا يجد طريقه إلى القلوب إلا عندما يقبل ذلك الطالب أستاذه ويحبه من قلبه، وتتعلق به نفسه.
تأمل كيف كان تعليم سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ، بل كيف وصفه الله عز وجل وبين صفته العظمى في تعليمه؟ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128]، ووصفه الله جل وعلا في حاله مع من يدعوهم ويعرضون فقال: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف:6]، ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه فقال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار ) ذلك هو الشفيق الرحيم.
لا يمكن أن تعلم أحداً وأنت دائم القسوة عليه، وأنت دائم النفرة منه، وأنت دائم العبوس في وجهه، ولن تصل كلماتك إلى عقله وقلبه.
ومن هنا نقول: كيف علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ خذ ذلك الحديث الرقيق الأديب العجيب الذي قال فيه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك ) ثم شرع يعلمه الحقيقة العظمى، ففرح معاذ بتلك المقدمة، وانشرح صدره، وتهيأ قلبه، وانفرجت أساريره، وتلهفت نفسه، فكل كلمة حينئذ تقع موقعها، وتقبل وتؤثر بإذن الله عز وجل.
وكان رديفه ابن عباس -كما في الحديث المشهور- وهو غلام صغير، فيلتفت إليه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - فيقول: ( يا غلام! إني أعلمك كلمات ) كلها مقدمات.
والقرآن يعلمنا في قصة لقمان { يَا بُنَيَّ } [لقمان:16] مما يبين أن هذا التلطف والشفقة والرحمة مهمة في غاية الأهمية.
ـــــــــــــــ(1/53)
القدوة الحسنة والقدوة السيئة
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 53 / ص 149)
المعتاد والغالب أن الأبناء والذرية يقتدون بالآباء والمربين والمعلمين ، كما حكى الله ذلك عن أهل الجاهلية في مثل قوله تعالى: { إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } (1) { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } (2) . وقال تعالى: { مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } (3) . وقال تعالى عن قوم إبراهيم: { بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } (4) . وقال تعالى عن قوم هود: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } (5) . وغير ذلك من الآيات .
فالآباء قدوة حسنة أو سيئة لأولادهم ، والاقتداء هو التقليد والاتباع ، والتمسك بما عليه الأسلاف من عقيدة أو عمل . فالمعتاد أن الأبناء يحسنون الظن بآبائهم ، ويتمسكون بما كانوا عليه ، ويعتقدونه سفينة النجاة ، ففي قصة موت أبي طالب لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : « قل: لا إله إلا الله . كلمة أحاج لك بها عند الله » (6) قال له الحاضرون من المشركين: أترغب عن
__________
(1) سورة الصافات الآية 69
(2) سورة الصافات الآية 70
(3) سورة الزخرف الآية 23
(4) سورة الشعراء الآية 74
(5) سورة الأعراف الآية 70
(6) صحيح البخاري المناقب (3671),صحيح مسلم الإيمان (24),سنن النسائي الجنائز (2035),مسند أحمد بن حنبل (5/433).
ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب (1) .
وقد قال عن قوم نوح: { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } (2) . وذلك دليل شدة تمسك الخلف بسنة من سبقهم ، وتصلبهم في ما تلقوه عنهم ، كما قال عن المشركين: { مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ } (3) .
ثم إن هناك أخص من التقليد في العقائد ألا وهو تأسي الذرية والأطفال بما عليه المربون وأولياء الأمور ، واتباعهم في أفعالهم وأقوآله م ، دون تفكير في الحسن والقبيح ، والضار والنافع ، والخير والشر ، فمتى كان المربي أو الولي مستقيما متبعا للحق ، فإن من تحت يده غالبا يقتدون به ، فتراهم يحافظون على الصلوات في الجماعة ، ويتقربون بالنوافل ، ويسابقون إلى المساجد ، ويواظبون على الأذكار والأدعية عقب الصلوات المكتوبة ، ويكثرون من ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وتدبره ، ويحبون الخير وأهله ، مقتدين في ذلك بمن يربيهم ويعلمهم ، ويرون أن ذلك هو سبيل النجاة ، وإن لم يكن الولي أو المربي يعلمهم ويلقنهم هذه الفضائل والفوائد ، فأما إن أضاف إلى أفعاله الحسنة النصح والإرشاد ، وتوجيه من تحت يده ، وترغيبهم في فعل الخيرات ، وحثهم على الإكثار من القربات ، فحدث ولا حرج عن تأثرهم وتقبلهم وتلقيهم لنصائحه وإرشاداته ، واطمئنانهم إلى صحة ما يهديهم إلى فعله ، وتطبيقهم لكل صغيرة وكبيرة يدعوهم إليها غالبا .
وبضد ذلك نرى أن الآباء وأولياء الأمور والمربين والمعلمين متى كانوا منحرفين زائغين ، ظهر الفساد غالبا فيمن تحت أيديهم من الأطفال والذراري ، فينشئون على استعمال السباب والشتم واللعن والقذف والعيب والثلب وسيئ المقال أو على الوقاحة والرذالة والرعونة والجفاء وخشونة الطباع ، أو على الانحراف في الأخلاق والطبائع ، أو على الحسد والظلم والكذب والخيانة والسرقة والاختلاس والفجور وقول الزور ، أو على المعاصي الظاهرة ولو كانت منكرة في العقل والفطرة ، فتراهم يقلدون أكابرهم ومشايخهم في شرب الدخان ، وحلق اللحى ، وتعاطي المسكرات والمخدرات ، والعكوف على سماع الأغاني والملاهي ، والنظر في الصور الفاتنة ، والصحف الماجنة ، والأفلام الهابطة ، ونحو ذلك .
ولا شك أن إظهار أمثال هذه المعاصي أمام النشء الصغير غير المميز ، مما يدفعه إلى التلوث بها ، أو ببعضها ، سواء تهاون والده به بادئ ذي بدء أو حذر منها ، فإذا أعلن فعلها أمام الأطفال والجهال ، حتى نشبوا في تلك الحبائل ، ثم حاول تخليصهم وإنقاذهم منها تعب في ذلك ولم يستطع ، فيندم حين لا ينفع الندم . فلا تسأل عما يحدث من جراء التخلق بمثل هذه الأخلاق الرذيلة ، حيث يتحلى الولد بالعقوق والعصيان ، والمخالفة الظاهرة لولي أمره ، ويصبح كلا على أبويه ، يذيقهما مرارة الحياة ، ويجرعهما غصص الأذى ، حيثما لم يترب على معرفة حق الله تعالى ، وما أمر به في حق الأبوين ، وإنما يسعى في نيل شهوته البهيمية ، واتباع غريزته الدنية ، ونيل ما يهواه ، دون مبالاة بحل أو حرمة أو حق لله أو للوالدين ، حيث لا يعرف من العلم والدين ما يردعه أو يمنعه عن العبث بحق ربه وأهله ، كما يعبث الطفل بلعبته .
ولقد كثر هذا الضرب في شباب المسلمين ، فتراهم يتسكعون في الأسواق والطرق ، يعاكسون ، ويمارسون المنكر ، وتجدهم طوال الليل على الأرصفة وأطراف الطرق المتطرفة ، وفي الصحاري وخارج المدن ، يلعبون ويمرحون ، ونرى أحدهم في جلسائه وقد أشعل سيجارته ، وتفيهق في مشيته ، وتحلى كما تتحلى الإناث بالتختم بالذهب أو الضيق من اللباس ، مما يسبب التأنث والانحراف عن شيم الرجال وشهامتهم ، فنهاية أحد أولئك الكسل والبطالة ، فتراه عاطلا خاملا ، فلا نجاح في الدراسة ، ولا لزوم لعمل مفيد ، ولا حرفة ولا صناعة ، حتى إن الكثير من آبائهم يتمنون لهم الموت سريعا .
وكم حاول بعض الأولياء القضاء على هؤلاء- ولو كانوا أبناءهم- وإعدامهم من الوجود؟ لما يلاقونه من الأذى وسوء المقال ، وتكبد الخسارة ، وإنفاق الأموال الطائلة عليهم ، وهذا هو نتيجة الإهمال في زمن الإمهال ، أو هو أثر التربية السيئة ، والتنشئة على اللهو والباطل ، حتى تمكن فيهم الفساد ، فحاول الولي إقامتهم ولات حين مناص .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز برقم 1360 وفي تفسير التوبة، ورواه مسلم في الإيمان برقم 39.
(2) سورة المؤمنون الآية 24
(3) سورة سبأ الآية 43
ـــــــــــــــ(1/54)
القدوة الحسنة
يتناول الدرس معنى القدوة وأهمية القدوة الحسنة والشوط الواجب توفرها في الشخص حتى يكون أهلا لئن يقتدى به، وماهي الأمور التي تخرج الشخص عن صلاحية الاقتداء به، ثم بين كيف تتم التربية بالقدوة مع بيان نماذج من القدوات عبر التاريخ .
أولاً التعريف :
يقول الله سبحانه وتعالى : ' لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21] ' سورة الأحزاب , قال القرطبي في تفسيره : [ الأسوة القدوة , والأسوة ما يتأسى به أي يتعزى به فيقتدي به في جميع أحواله ] , ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : [ الأسوة نوعان؛ أسوة حسنة، وأسوة سيئة ] ، نخلص من هذا أن القدوة الحسنة تنطبق على من يتبع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - , فيكون متبوعًا في كلامه وأفعاله.
ثانياً : أهمية القدوة
وتكمن أهمية القدوة في العملية التربوية في الأسباب التالية:
1- إن القدوة الحسنة يثير في نفس العاقل قدرًا كبيرًا من الاستحسان , فتتهيج دوافع الغيرة لديه، ويحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به.
2- إن القدوة الحسنة تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة.
3- إن مستويات الفهم لكلام عند الناس تتفاوت ، ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي ؛ فإن ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد المربي إيصالها للمقتدي.
4- إن الاتباع ينظرون إلى القدوة نظرة دقيقة دون أن يعلم ، فرب عمل يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر
هفوة العالم مستعظمة إن هفا أصبح في الخلق مثل
وعلى زلته عمد تسهم فبها يتحج من أخطأ وزل
لا تقل يستى علمي زلتي بل بها يصل في العلم الخلل
إن تكن عندك مستحقرة فهي عند الله والناس جبل
فإذا الشمس بدت كاسفة وجل الخلق لها كل الوجل
وتراقت نحوها أبصارهم في انزعاج واضطراب وزجل
وسرى النقص لهم من نقصها فغدت مظلمة منها السبل
وكذا العالم في زلته يفتن العالم حرًا ويضل
يقتدي منه بما فيه هفا لا بما استعصم فيه واستقل
فهو ملح الأرض ما يصلح إن بدا فيه فساد وخلل
وهذا أبو جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأموم في الأيام الأولى للفتنة عبر الفرات , فإذا أحمد جالس في الخان فسلم عليه , وقال: [
يا هذا؛ أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل ـ يعني المأمون ـ إن لم يقتلك فإنك تموت ولا بد من الموت؛ فاتّقِ الله ولا تجبهم إلى شيء , فجعل أحمد يبكي , ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله ].
ثالثاً : شروط القدوة
1- الإيمان بالفكرة: لا تتكون القدوة في نفس الداعية حتى يكون هو أول من يؤمن بما يقول ، ثم ينقل هذا الإيمان إلى عمل.
2- تعلم العلم: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ تعلموا قبل أن تسودوا ]، فالسيادة في الدعوة تحتاج إلى علم يتأكد فيه القدوة من صحة خطواته، ويصحح فيه خطوات الآخرين.
3- حسن الخلق: هناك أخلاق بارزة يحتاجها الداعية القدوة دائمًا ، وبغيرها يصبح من المتعذر عليه النجاح في دعوة الناس، ومن أهمها الصبر والرحمن والرفق والتواضع والمخالطة.
4- موافقة العمل القول.
5- عدم الانقطاع عن الأعمال: عدم الانقطاع عن عمل ما دون أي مبرر شرعي أو نسيان, وترجع خطورة هذا الانقطاع إلى أمرين ؛ الأول : هو دخوله في دائرة الذين يقولون ما لا يفعلون ، و الثاني: هو إحساس المتربي بعدم جدية ذلك الأمر وأهميته.
6- التثبت من صحة النقول: سواء كانت أحاديث للرسول صلى الله عيه وسلم أو كلمات للصالحين؛ فإذا كان القدوة لا يتثبت من صحة النقول يكون المقتدون كذلك.
7- الابتعاد عن المباحات: يقول ابن القيم: [ فالعارف يترك كثيرًا من المباح إبقاء على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخًا ين الحلال والحرام ].
وهذه أتقنها يحيى بن يحيى فقد كان يومًا عند مالك في جملة أصحابه؛ إذ قال قائل: قد حضر الفيل فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره [أي وبقي يحيى مكانه] فقال له مالك: لم تخرج فترى الفيل - لأنه لا يكون بالأندلس -، قال يحيى : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك , وأتعلم من هديك وعلمك , ولم أجئ لأنظر إلى الفيل , فأعجب به مالك , وسمّاه عاقل أهل الأندلس.
8- المحاسب الدائمة: فعلى الداعية القدوة أن يعي أنه تحت رقابة دقيقة ممن يتخذونه قدوة لهم فيحاسب نفسه على كل كلمة أو تصرف صغر أم كبر حتى يتجنّبه في مرات أخرى.
رابعاً : مبطلات القدوة
1- مخالفة العمل للقول: ولا نستغرب عندما يطلق ابن الحاج على الخطورة التي تترتب على ذلك السم القاتل ، ويعلل ذلك بأن الغالب على النفوس الاقتداء في شهواتها وملذاتها وعاداتها أكثر مما تقتدري به في التعبد الذي ليس لها فيه حظ، فإذا رأت ذلك من عالم؛ وإن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة تعذر نفسها في ارتكابها.
عن أسامة بن زيد قال : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] رواه البخاري ومسلم وأحمد.
2- عدم الالتزام بالقول: وتختلف عن سابقتها بأن هذه لا تكون فيمن يخالف عمله قوله متعمدًا، وإنما تكون فيمن لا يطبق ما يقول، وليس على صفة الدوام، وذلك لأسباب منها:
أ- عدم تقدير حجم العمل المترتب على قوله.
ب- عدم معرفة نوع العمل المترتب على قوله.
ج- الحماسة غير الواعية.
د- عدم تقدير القوة التي يمتلكها لأداء ذلك العمل , ومن ثم يواجه بذلك العمل؛ فلا يستطيع أن يطبق ما قاله، ودعا إليه، ويتضح ذلك في قول ابن عباس رضي الله عنه: [كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجلّ دلّنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به فأخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن أحب الأعمال إليه إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به , فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين , وشق عليهم أمره، فقال الله تعالى: ] يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون [.
3- الزلل بجميع صورة القولية والفعلية.
4- الانتصار للنفس : والانتصار للنفس ظاهرة تنبئ عن عدم إخلاصه لما يحمل من معانٍ سامية, محاولاً إخفاء الحقيقة في سبيل عدم الوقوع في دائرة الإحراج التي يعتبرها مسًا لكرامته ومكانته بين متّبعيه , وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ قدوتنا جميعًا ـ يمر بقوم على رؤوس النخل فيقول: [مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ] فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : [ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا ] , قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ : [إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ] أخرجه مسلم وابن ماجة وأحمد , فبهذا التجرد الخالص له وحده يكون القدوة ناجحًا في دعوته، وكيف لا يتبع قوم قدوتهم وهو على هذا المستوى من التجرد البيّن للحق.
خامساً : كيف تتم التربية بالقدرة
نقتطف هنا بعض الزهور من الروضة النبوية لنرى كيف استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة الحسنة في تربية أصحابه رضي الله عنهم كأسلوب متميز عن باقي الأساليب في الدعوة.
1- أهمية التربية الصامتة للأتباع : في صلح الحديبية، وبعد أن فرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قضية الكتاب قال للصحابة رضي الله عنهم : [ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا ] قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. رواه البخاري والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد . 2-لا بد للقدوة أن يوضح بعض التصرفات التي يقوم بها للأتباع خاصة تلك التي تحتمل التأويل السيء , ومثالاً على ذلك جاءت صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة, ثم قامت تنقلب , فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقلبها ؛ حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - : [عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ] فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : [ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا] خرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد كلهم عن الحسين بن علي , يقول ابن حجر: وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتزار، ويقول ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظنّ بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم.
3-عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت؛ فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي في عنقه السيف وهو يقول: [ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا] أخرجه السبعة ماعدا النسائي , فهذه الدعوة الصادقة للشجاعة هي التي أخرجت أعمى كابن أم مكتوم يصر على الجهاد ، ويحمل الراية ويقاتل حتى يقتل ، وهي التي أخرجت أعرج كعمرو بن الجموح يبكي لأنه أعفي من الجهاد، ثم يطلب بإلحاح مشاركة المجاهدين، ويقول: إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، ويقاتل حتى يقتل.
4-روى البخاري في صحيحه عن عقبة قال: صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر فسلم , ثم قام مسرعًا , فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم , فرأى أنهم عجبوا من سرعته , فقال: [ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ] رواه مسلم والنسائي وأحمد.
ولكم ألقى الشطان في نفوس بعض المربين أن الإنفاق أمام المتربين من الرياء , فيحجم عن أصل من أصول العملية التربوية، وبالتالي يفاجأ هذا الأخ بظهور علامات الشحّ على من يربيهم مع أنه أعطاهم دروسًا كثيرة عن الإنفاق، وينسى حقيقة وهي هل رأوا واقعًا عمليًا للإنفاق من مربيهم؟
صفحات مملوءة بالقدوات
1-القدوة في الشجاعة : قال ابن المبارك: لقد كنّا يومًا في المسجد الجامع , فوقعت حية , فسقطت في حجر أبي حنيفة , فهرب الناس غيره , ما رأيته زاد على أن نفض الحية وجلس.
2-القدوة في التضحية للمبدأ والعقيدة :يوسف بن يحيى البويطي خليفة الإمام الشافعي كانت الفتاوى ترد عليه من السلطان فمن دونه، وهو مقتدى به أعمال المعروف كثير التلاوة لا يمر يوم ولا ليلة غالبًا ما يختم، فسعى به من يحسده، وكتب فيه إلى ابن أبي دؤاد بالعراق، فكتب إلى والي مصر يمتحنه؛ أي يسأله هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق ؟ فامتحنه فلم يجب ـ أي بخلق القرآن ـ فقال له: قل فيما بيني وبينك , قال: إنه يقتدي بي مائة ألف , ولا يدرون المعنى ، فأُمِر أن يحمل إلى بغداد في أربعين رطل حديد - يقول الربيع صاحب الشافعي - ولقد رأيته على بغل , وفي عنقه غلّ,وفي رجليه قيد , وبين الغلّ و القيد سلسلة حديد , وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه , ولأموتن في حديدي هذا ؛ حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
3-القدوة في العزة: جاء في ترجمة الخطيب البغدادي أنه دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، فقال للخطيب : فلان يسلم عليك , ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك , فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه ، وقطب وجهه ، فقال العلوي: كأنك تستقله , ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال: هذه ثلثمائة دينار، فقام الخطيب محمرًا وجه، وأخذ السجادة , وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
وحركة نقض السجادة التي لم تستغرق دقيقة واحدة من الخطيب ربت أتباعه الذين كانوا في المسجد على معاني العزة وحقارة العبودية لغير الله ؛ ظهرت في قول أحدهم : ما أنسى عز خروج الخطيب , وذلك ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها .
4-القدوة في الورع: هذا هو الحافظ عبد العظيم المنذري صاحب [مختصر صحيح مسلم] يعطي درسًا عمليًا في الورع لصاحبه الحافظ الدمياطي , فقد خرج من الحمام وقد أخذ منه حرها فما أمكنه المشي فاستلقى على الطريق إلى جانب حانوت فقال له الدمياطي: يا سيدي أنا أقعدك مسطبة الحانوت ـ وكان الحانوت معلقًا ـ فقال وهو في تلك الشدة: بغير إذن صاحبها كيف يكون , وما رضي.
اسم الكتاب: المصفى من صفات الدعاة ... ... المؤلف: عبد الحميد البلالي
ـــــــــــــــ(1/55)
القدوة مبادئ ونماذج
يتناول الدرس معنى القدوة وأهمية القدوة الحسنة والشوط الواجب توفرها في الشخص حتى يكون أهلا لئن يقتدى به، وماهي الأمور التي تخرج الشخص عن صلاحية الاقتداء به، ثم بين كيف تتم التربية بالقدوة مع بيان نماذج من القدوات عبر التاريخ .
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد ،
فإن الدعوة إلى الله أمر جليل ودعامة عظيمة؛ من دعائم ترسيخ المبادئ الحقة في المجتمع المسلم، ومن أهم طرق الدعوة إلى الله والتي يكون مردودها أوقع وأقوى في النفوس:' القدوة الصالحة' والتي يرى فيها الناس واقعًا معاشًا للمبادئ التي يدعو إليها، القول فيها صنو العمل . ولأهمية هذا الأمر أردت أن أنبه على بعض إشارات تعين على أداء تلكم المهمة العظيمة والرسالة الشريفة.
مقصود القدوة ومعناها:
الأسوة والقدوة بمعنى واحد، ويقصد بها السير والاتباع على طريق المقتدى به، وهي نوعان : حسنة وسيئة .
الأول: الأسوة الحسنة: الاقتداء بأهل الخير والفضل والصلاح في كل ما يتعلق بمعالي الأمور وفضائلها، من القوة والحق والعدل.
وقدوة المسلمين الأول رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفي ذلك يقول عز وجل:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21] {[سورة الأحزاب].ومن دقيق المعنى في هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه جعل الأسوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يحصرها في وصف خاص من أوصاف، أو خلق من أخلاقه، أو عمل من أعماله الكريمة، وما ذلك إلا من أجل أن يشمل الاقتداء أقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وسيرته كلها فيقتدي به - صلى الله عليه وسلم - ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقتدى بأفعاله وسلوكه من الصبر الشجاعة والثبات والأدب وسائر أخلاقه، كما يشمل الاقتداء بأنواع درجات الاقتداء من الواجب، والمستحب، وغير ذلك مما هو محل الاقتداء.
والنوع الثاني: الأسوة السيئة: ويعني السير في المسالك المذمومة، واتباع أهل السوء والاقتداء من غير حجة أو برهان، ومن ذلك قول المشركين:} إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23] { [سورة الزخرف]. ولهذا رد عليه القرآن بقول:} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ ...[24] {[سورة الزخرف].
أهمية القدوة الحسنة :
إن من الوسائل المهمة جدًا في تبليغ الدعوة، وجذب الناس إلى الإسلام، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ القدوة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وأخلاقه الزاكية مما يجعله أسوة حسنة لغيره؛ فيقبلون عليه، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده.
فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على أن الإسلام حق من عند الله . وتكمن أهمية القدوة الحسنة في الأمور الآتية :
المثال الحي المرتقي في درجات الكمال: يثير في نفس البصير العاقل قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتقدير والمحبة، فإن كان عنده ميل إلى الخير، تطلع إلى مراتب الكمال، وأخذ يحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها في المقتدى به.
القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية : تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت: ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي. فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد الداعية إيصالها للمقتدى، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : [ إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ - فَنَبَذَهُ وَقَالَ:- إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا] فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد. قال العلماء :'فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول'.
الأتباع ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة فاصحة : دون أن يعلم، فرب عمل يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر، وذلك أنهم يعدونه قدوة لهم، ولكي ندرك خطورة ذلك الأمر؛ فلنتأمل هذه القصة:
يروي أن أبا جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة؛ عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، قال: يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل ـ يعني المأمون ـ إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول : ما قلت ؟ فأعاد عليه فجعل يقول : ما شاء الله، ما شاء الله .
وتمر الأيام عصيبة على الإمام أحمد، ويمتحن فيها أشد الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري، فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له: 'يا أستاذ قال الله تعالى:} وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...[29]{[سورة النساء: 29]. فقال أحمد : يا مروزي اخرج، انظر أيّ شيء ترى !! قال: فخرجت على رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصى عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم . فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قومًا بأيدهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم !! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء'. فمن أبرز أسباب أهمية القدوة أنها تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي وهذا بالتالي يساعد المتربي على أن يكون من المستويات الجيدة في حسن السيرة والصبر والتحمل وغير ذلك.
أصول القدوة :
الأصل الأول: الصلاح، وهذا يتحقق بثلاثة أركان:
الركن الأول: الإيمان: وتحقيق معنى التوحيد ومقتضياته من معرفة الشهادتين والعمل بمقتضاهما.
الركن الثاني : العبادة: فيستقيم القدوة على أمر الله من الصلاة، والزكاة، والصيام، وسائر أركان الإسلام العملية، ويهتم بالفرائض والمستحبات، ويَجِدّ في اجتناب المنهيات والمكروهات.
ويتمثل القدوة الحديث القدسي: [... وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...] رواه البخاري .
الركن الثالث: الإخلاص : فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله، بعيدًا عن أغراض النفس وأغراض المخلوقين بل عبودية خاضعة تمام الخضوع لله، أمرًا ونهيًا ونظرًا وقصدًا. وإن النصح والإخلاص يرقى بالعبد الضعيف العاجز إلى رتبة القادر العامل ففي غزوة العسرة من تبوك سجل القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء الناصحين المخلصين في قوله سبحانه}لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[91]وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[92]{.
وسجل لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الموقف حين خاطب جنده الغازين في سبيل الله بخير هذه الطائفة بقوله: [ إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ]رواه البخاري- واللفظ له- وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
و أما ضعف الإخلاص عند كثير من ذوي المواهب والمواقع القيادية؛ جعل تابعيهم والمعجبين بهم يَشْقَوْنَ بمواهبهم ويرجعون بها القهقري. يتبين من كل ذلك أن الإسلام يلحظ في أعمال الناس ما يقارنها من نيات وما يصاحبها من دواعي وبواعث .
الأصل الثاني : حسن الخلق:إذا كان الصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به ليكون صالحًا في نفسه قويمًا في مسلكه؛ فإن حسن الخلق يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الناس، وأصول تعامله معهم، وإليه الدعوة النبوية في قوله - صلى الله عليه وسلم - : [ ...وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
والكلام في حسن الخلق واسع متشعب وتحاول أن نحصر عناصره الكبرى في خِلالٍ خمس:
الصدق : تبرز أهمية الصدق وعظم أثره في مسلك القدوة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : [ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ...] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
وقد سأل هرقل أبا سفيان عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً : ' هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ' .
وما أنجى الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك إلا صدقهم مع الله ومع رسوله، حين ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ولقد نادى الله سبحانه عباده المؤمنين في ختام قصتهم بقوله:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[119] {[سورة التوبة]. وهل رأيت سوأة أزري ممن يتسنم مواقع القيادة والقدوة بينما ترمقه الألحاظ، وتشير إليه الأصابع بالخيانة والكذب. وما كان للتهريج والادعاء، والهزل أن يغني فتيلاً عن أصحابه. وفي الحديث: [ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ] رواه أحمد.
الصبر : الأزمات إذا استحكمت والضوائق إذا ترادفت لا دفع لها ولا توقّي ـ بإذن الله ـ إلا بالصبر ذلك أن : [ ...الصَّبْرُ ضِيَاءٌ...] رواه مسلم . ومَنْ أَوْلَى من الرجل الأسوة بتوطين نفسه على احتمال المكاره من غير ضجر، والتأني في انتظار النتائج مهما بعُدت. والصبر من معالم العظمة المحمودة وشارات الكمال العالي ودلائل التحكم في النفس وهواها وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة. فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصبارون، وقد استحقت فتنة من بني إسرائيل الإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم:} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24] {[سورة السجدة]. وأدركت بني إسرائيل حالة استحقوا بها ميراث الأرض المباركة، وكان درعهم في ذلك الصبر:} وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ...[137] {[سورة الأعراف]. ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق، يجسد هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ أَشَدّ النَّاس بَلَاء الْأَنْبِيَاء ثُمَّ الْأَمْثَل فَالْأَمْثَل] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي.
الرحمة : الرحمة عاطفة حية نابضة بالحب للناس، والرأفة بهم، والشفقة عليهم . والرحمة المذكورة هنا يقصد بها: الرحمة العامة لكل الخلق، فيلقى المسلم الناس قاطبة وقلبه لهم بالعطف مملوء، إن الرحمة الخاصة قد تتوفر في بعض الناس فيرّق لأولاده حين يلقاهم ويهشّ لأصدقائه حين يجالسهم، ولكن الرحمة المطلوبة من القدوة أوسع من ذلك وأرحب: [...ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ...] رواه الترمذي وأبو داود وأحمد.
بل إن الرحيم تنال رحمته الحيوان من غير البشر، والله يثيب على هذه الرحمة، ويغفر بها الذنوب. فالذي سقى الكلب لما رآه يأكل الثرى من العطش؛ شكر الله له فغفر له، المرأة البغي من بني إسرائيل سقت كلبًا كان يطيف حول بئر في يوم حار قد دلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وسقته؛ فغفر لها. ولئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب .
التواضع : جبلت النفوس على كره من يستطيل عليها ويستصغرها، كما جبلت على النفرة ممن يتكبر عليها ويتعالى عنها، حتى ولو كان ما يقوله حقًا وصدقًا. إن قلوبهم دون كلامه مغلقة، وصدورهم عن إرشاده ووعظه موصدة . إن التواضع خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ومَنْ أحق بهذا الخلق من رجل القدوة، فهو أنجح وسيلة على الائتلاف.. إن ابتغاء الرفعة، وحسن الإفادة من طريق التواضع هو أيسر الطريق وأوثقها؛ ذلك أن التواضع في محله يورث المودة، فمن عمر فؤاده بالمودة امتلأت عينه بالمهابة.
ويلتحق بهذا الأمر ويلتصق به: حديث المرء عن نفسه، وكثرة الثناء عليها، فذلك شيء ممقوت، يتنافى مع خلق التواضع وإنكار الذات، فينبغي لرجل الدعوة ومحل القدوة ألا يدَّعى شيئًا يدل على تعاليه. بل إن حق عليه أن يعرف أن كل ما عنده من علم أو مرتبة هو محضُ فضل الله عليه فليتحدث بفضل الله لا بفضل نفسه، فإذا أدرك الناس منه ذلك؛ فتحوا له قلوبهم، وتحلّقت حوله نفوسُهم قبل أجسادهم، ووقع وعظّه وتوجيهه منهم موقع القبول والرضا، ونال من الحظوة على قدر إحسانه وقصده.
الرفق : والرفق صفة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي رحم الله العباد بها؛ فاصطفاه لها، يقول الله عز وجل:} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159]{ [سورة آل عمران]. نعم لقد أدرك الله برحمته أن يمنن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويستميت في هدايته، فأرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، وسكب في قلبه من العلم والعمل، وفي خلقه من الإحسان والبر، وفي طبعه من اللين والرفق، وفي يده من الكرم والندى ما جعله أزكى عباد الله قلبًا، وأوسعهم عطفًا، وأرحبهم صدرًا، والينهم عريكة . هذا بعض نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المجتزأ من قوله تعالى:} وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[4]{ [سورة القلم]. وهذا إيراد من قبس النبوة في باب الرفق، وبيان أثره:
يقول عليه الصلاة والسلام : [إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ] رواه مسلم-واللفظ له- والترمذي وأحمد . وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: [عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ] رواه مسلم.
وقد يحسن أن نخصّ الدعاة المقتدى بهم بخطاب عن الرفق أخذًا من نهج السلف؛ إذ أن هذا الميدان- ونحن نعيش الصحوة الإسلامية وأجواءها المباركة- نحتاج فيه إلى مزيد عناية، وفقه، وترفق:
يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو على المنبر : 'يا أيها الناس لا تُبغّضوا الله إلى عباده، فقيل كيف ذلك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصًّا- أي: واعظاً- فيقول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه'.
وَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:' يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ' قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
يعلق على هذا الحافظ بن حجر في الفتح بقوله: ' وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب تَرْك الْمُدَاوَمَة فِي الْجِدّ فِي الْعَمَل الصَّالِح خَشْيَة الْمَلَال , وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَاظَبَة مَطْلُوبَة لَكِنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ : إِمَّا كُلّ يَوْم مَعَ عَدَم التَّكَلُّف . وَإِمَّا يَوْمًا بَعْد يَوْم فَيَكُون يَوْم التَّرْك لِأَجْلِ الرَّاحَة لِيُقْبِل عَلَى الثَّانِي بِنَشَاطٍ , وَإِمَّا يَوْمًا فِي الْجُمُعَة , وَيَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال وَالْأَشْخَاص , وَالضَّابِط الْحَاجَة مَعَ مُرَاعَاة وُجُود النَّشَاط '.
والرفق ذو ميادين فسيحة ومجالات عريضة، فرفق مع الجهال: إما جهل علم، أو جهل تحضر، ولقد رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأعرابي الذي بال في المسجد، وتركه حتى فرغ من بوله وأمر أصحابه بالكف عنه وألا يقطعوا عليه بوله فلما فرغ دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبره أن المساجد لم تبن لهذا وإنما هي لذكر الله والصلاة .
ومن الذين يخصون بمزيد من الترفق: المتبدئون في الإسلام والعلم وطريق الاهتداء. والغفلة في هذا الجانب قد تؤدي إلى فتنة وانعكاس في المقصود، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : [ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا...] رواه البخاري ومسلم.
يقول ابن حجر:'والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليُقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبب على من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبًا الازدياد بخلاف ضده'.
وينبغي أن يتمثل القدوة في هذا الباب الرفق بمجالسيه، فيتحمل من كان منهم ذا فهم بطيء،ويسع بحلمه جفاء ذا الجهالة، لا يعنف السائل بالتوبيخ القبيح فيخجله، ولا يزجر فيضع من قدره.
الأصل الثالث : موافقة القول العمل : يقول الله عز وجل:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3] {[سورة الصف]. الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان فحسب، ولكنه صدق في اللهجة واستقامة في المسلك، الباطن فيه كالظاهر، والقول فيه صنو العمل .. هذا جانب.
وجانب آخر: أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل، ولهذا قال شعيب عليه السلام: } وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88] {[سورة هود].
وجانب ثالث: هو أن كثيرًا من الناس لا يتوجه نحو العمل حتى يرى واقعًا ماثلاً، وأنموذجًا مطبقًا يتخذه أسوة، ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل أحد. بل متى يكون المرء قدوة صالحة، وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير، وترك ما ينهى عنه من سوء؟! وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ]
وغير تقي يأمرُ الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
وهنا مسألة هامة يحسن التنبيه إليها: وهي أن المسلم حتى ولو كان قدوة مترقيًا في مدارج الكمال قد يغلبه هوى، أو شهوة، أو تدفعه نفس أمارة بالسوء، أو ينزغه الشيطان، فتصدر منه زلة، أو يحصل منه تقصير .فإذا حدث ذلك فليبادر بالتوبة والرجوع، وليعلم أن هذا ليس بمانع من التأسي به والاقتداء . وقد حدّث مالك عن ربيعة قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:'لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر' قال: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء'. وقد قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله بن الشخير: 'يا مطرف عظ أصحابك، فقال مطرف : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل؛ فقال الحسن : يرحمك الله وأيُّنا يفعل ما يقول؟ لودَّ الشيطان أنه ظفر بهذه منكم، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر'.
وقال الحسن أيضًا:' أيها الناس إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم، وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه؛ لعُدم الواعظون، وقلّ المذكرون، ولما وُجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه، ويرغّب في طاعته، وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين، وإذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فالزموا ـ عافاكم الله ـ مجالس الذكر، فربّ كلمة مسموعة ومحتقرٍ نافع'.
شواهد حية في مواقف القدوة :(1/56)
في صلح الحديبية: وبعد أن فرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، من كتابة الصلح مع قريش، أمر عليه الصلاة والسلام الصحابة أن ينحروا، ثم يحلقوا من أجل أن يتحللوا من عمرتهم؛ لأنهم قد حصروا ومنعوا من البيت. يقول الراوي: ' فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا' رواه البخاري .
توضيح موقف وتفسير تصرف : يحسن بالقدوة أن يكون على درجة من الشفافية والتحسس؛ ليبقى بعيدًا عن موارد الظنون، ومواقع التأويلات . عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا: جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : [عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ] فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : [ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجة والدارمي وأحمد. قال الحافظ في الفتح:'وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتياط من كيد الشيطان والاعتذار'. ويقول ابن دقيق العيد:' وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سببُ إلى إبطال الانتفاع بعلمهم'.
آمنة للصحب الكرام : فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول مهدئًا من روعهم: [ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا] رواه البخاري ومسلم . عليه الصلاة والسلام لقد كان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس قولاً وعملاً .إن المتأمل ليقف متعجبًا لهذه الشجاعة المحمدية، ينطلق الناس قبل الصوت فيجدون إمامهم قد سبقهم بل قد رجع وهم في بداية الانطلاق، إن هذه الدعوة الصامتة للشجاعة مع قوارع القرآن هي التي استنهضت همة الأعمى كابن أم مكتوم ليصر على الجهاد ويحمل الراية، والأعرج كعمرو بن الجموح ليطلب الجهاد بإلحاح قائلاً:'إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة' فيقاتل حتى يقتل .
كرهت أن يحبسني :هذا مثال من غير الشجاعة ولكنه منظوم في مسلك السيرة العملية التي ترسم للأتباع، تقطع دابر الوسواس لدى بعض المتفيهقة ليميزوا ما كان رياءً مما ليس كذلك، فَعَنْ عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ:
[ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ] رواه البخاري والنسائي وأحمد.
وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
من رسالة:' القدوة مباديء ونماذج' للشيخ/ صالح بن حميد
ـــــــــــــــ(1/57)
أبو حنيفة النعمان السيرة العطرة والشخصية القدوة
عبد العزيز بن سعد الدغيثر
النجاح طموح سامٍ يتمناه كل إنسان، ولذا فإن الله تعالى وجه هذه الغريزة الإنسانية والفطرة البشرية لأن تكون ضمن إطارها الصحيح.
وتجد ذلك جليا في دعاء عباد الرحمن الذين نالوا رضاه تعالى ومن ثم النعيم الدائم في جنان الخلد، ومن دعائهم: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" (الفرقان: من الآية74).
وإمامة المتقين لا تكون إلا لمن نال قدراً كبيراً من التقوى والعلم، ولكن العلم لا يستطاع براحة الجسد، بل لا بد من بذل الجهد العظيم والوقت الكثير لتحصيل ذلك العلم.
فإن العلم بالوحيين من إرادة الله الخير للعبد كما في قوله تعالى: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)، وكما في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".أخرجه البخاري ومسلم من حديث معاوية.
والعلم بالشرع طريق إلى الجنة كما في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أبو داود والترمذي وحسنه الأرناؤؤط، وحيث إن أصحاب المذاهب المتبوعة قد وصلوا إلى درجة عليا من الإمامة في الدين، فقد بدأت بأولهم زمنا وأكثرهم أتباعا وهو الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - تعالى.
نبذة عن التعريف بالإمام:
هو الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى، ولد - رحمه الله - سنة 80 هـ، كان أبو حنيفة - رحمه الله - خزازاً يبيع الخز والأقمشة، وعن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة ربعة من أحسن الناس صورة وأبلغهم نطقا وأعذبهم نغمة وأبينهم عما في نفسه.
ويعد أبو حنيفة من صغار التابعين الذين يشملهم حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم"رواه البخاري ومسلم.
وقد روى عن خلق كثير منهم: عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال وعن الشعبي وعن جبلة بن سحيم وعدي بن ثابت وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعمرو بن دينار وأبي سفيان طلحة بن نافع ونافع مولى ابن عمر وقتادة وقيس بن مسلم وعون بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وآخرين.
أما أكبر شيوخه في الفقه فهو هو حماد بن أبي سليمان، لدرجة أن الذهبي قال عن حماد: وبه تفقه، مما يدل على أنه لازمه ملازمة كبيرة بحيث عرف به. وسبب الملازمة الطويلة لحماد قصة ذكرها من ترجم له، فقد رووا عن أبي حنيفة أنه قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلا أجبت فيه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت علي نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة.
منزلته العلمية:
الثناء على أبي حنيفة في فقهه وتدينه وورعه وصدقه مبثوث في كتب الجرح والتعديل، قال محمد بن سعد العوفي سمعت يحيى بن معين يقول كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظ.
وقال صالح بن محمد سمعت يحيى بن معين يقول كان أبو حنيفة ثقة في الحديث وروى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن ابن معين كان أبو حنيفة لا بأس به وقال مرة هو عندنا من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا، وذكره ابن حبان في معرفة الثقات، إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن أبا حنيفة لم يكن من المتخصصين في رواية الحديث مع جلالته، ولذا طعن عليه جمع من أهل الحديث لوجود الخطأ في رواياته..
أما في الفقه: فقد قال الذهبي: وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك. قال ضرار بن صرد سئل يزيد بن هارون أيما أفقه الثوري أو أبو حنيفة فقال أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث. وفي ترجمته من تهذيب الكمال عن روح بن عبادة قال: كنت عند بن جريج سنة خمسين يعني ومئة وأتاه موت أبي حنيفة فاسترجع وتوجع وقال: أي علم ذهب؟
وأما في العقيدة: فلم يغفل الإمام أبو حنيفة جانب العقيدة، فقد كان له مع المبتدعة صولات وجولات، فله مناظرات معهم تدل على فهم سلفي وبعد عن البدع في الجملة.
روى الخطيب بسنده، عن يحيى بن نصر، قال: كان أبو حنيفة يفضل أبا بكر وعمر، ويحب علياً وعثمان، وكان يؤمن بالأقدار، ولا يتكلم في القدر، وكان يمسح على الخفين، وكان من أعلم الناس في زمانه وأتقاهم.
وعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فهو مبتدع، فلا يقولن أحدٌ بقوله، ولا يصلين أحدٌ خلفه.
وأما تعظيمه للنصوص: فقد كان أبو حنيفة من أشد المعظمين للنصوص، وقد جعل منهجه ولمن تبعه أن يقدم النص على كل قول، فقد روى نوح الجامع عن أبي حنيفة أنه قال ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال.
وقال وكيع: سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض القياس.
وقال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث إلا بما يحفظه من وقت ما سمعه.
طلابه:
وللإمام أبي حنيفة طلاب ملازمون، أخذوا عنه الفقه وطريقة الاستنباط، كما أن له طلاباً أخذوا عنه الرواية، فممن تفقه عليه زفر بن الهذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ونوح الجامع وأبو مطيع البلخي وغيرهم كثير جداً.
مكانته في نظر معاصريه:
ولأبي حنيفة - رحمه الله - تأثير كبير فيمن عاصره، ونجد ذلك منثورا في طيات كلامهم عنه، فنجد عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وعنه قال: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. وقال أيضاً كما في (تهذيب الكمال): أفقه الناس أبو حنيفة ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله
وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل.
وقال عبدالله بن داود الحربي ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنة عليهم وقال سفيان الثوري وابن المبارك كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه، وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض.
ولما انتقد بعض المثبطين القاسم بن معن في جلوسه مع صغار الطلبة بين يدي أبي حنيفة، بطريقة استفزازية، نجد الرد المليء بالحب والإعجاب بهذا العالم المربي، فقد قيل للقاسم بن معن ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة قال ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة وقال له القاسم تعال معي إليه فلما جاء إليه لزمه وقال ما رأيت مثل هذا.
وقال مكي بن إبراهيم كان أعلم أهل زمانه وما رأيت في الكوفيين أورع منه.
وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سئل ابن المبارك، مالك أفقه أو أبو حنيفة قال: أبو حنيفة.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
علاقته بالحكام:
ابتلي أبو حنيفة بالسلطة السياسية في وقته فقد جربوا معه فتنة المال وفتنة السجن فلم يهتز أو يتأثر، قال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة وقد جرب بالسياط والأموال.
وفد كان لأبي حنيفة مصادمات مع الولاة، فقد كان يرفض الأوامر الخاصة كتوليته القضاء، وقد روي من غير وجه أن الإمام أبا حنيفة ضرب غير مرة على أن يلي القضاء فلم يجب، فقد كان ابن هبيرة قد أراده على القضاء في الكوفة أيام مروان الجعدي فأبى وضربه مئة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة وأصر على الامتناع فخلى سبيله، وكان الإمام أحمد إذا ذكر ذلك ترحم عليه.
وعن مغيث بن بديل قال دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه فقال: لا أصلح، قال: كذبت. قال: فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح فإن كنت كاذباً فلا أصلح وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح فحبسه.
محفزات للاستمرار:
من توفيق الله تعالى أن تهيأت له أسباب لطلب العلم والاستمرار فيه، فمن تلك الأسباب:
فقد وفقه الله تعالى للتعلم على يد حماد الفقيه وملازمته السنوات الطوال.
ومن ذلك استغناؤه بالتجارة عن الحاجة للولاة ومنتهم، قال الذهبي عنه: كان لا يقبل جوائز السلطان بل يتجر ويتكسب، وفي شذرات الذهب: وكان لا يقبل جوائز الدولة بل ينفق ويؤثر من كسبه له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع وأجراء - رحمه الله - تعالى. وهذا يدل على أنه لم تشغله التجارة عن العلم، بل يشرف على عملهم ويستعين بالثقات في إدارة تجارته.
وفي الرؤى مبشرات للمؤمنين، فقد جاء عنه أنه قال: رأيت رؤيا أفزعتني رأيت كأني أنبش قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيت البصرة فأمرت رجلا يسأل محمد بن سيرين فسأله فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
مظاهر القدوة في شخصية أبي حنيفة:
احترامه وتقديره لمن علمه الفقه، فقد ورد عن ابن سماعة، أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ما صليت صلاة مُذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو علمته علما.
ومن السمات المميزة لأبي حنيفة سخاؤه في إنفاقه على الطلاب والمحتاجين وحسن تعامله معهم، وتعاهدهم مما غرس محبته في قلوبهم حتى نشروا أقواله وفقهه، ولك أن تتخيل ملايين الدعوات له بالرحمة عند ذكره في دروس العلم في كل أرض. نسأل الله من فضله، ونسأل الله لإمامنا أن يتغمده بواسع رحمته، ومن عجائب ما ورد عنه أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره. وحدث حجر بن عبد الجبار، قال: ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر إكراماً لأصحابه. وقال حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده.
ومن أشد مظاهر القدوة في شخصيته تصحيحه لمفاهيم مخالفيه بالحوار الهادئ وقد كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم والمخالفين
حرصه على هيبة العلم في مجالسه، فقد ورد عن شريك قال كان أبو حنيفة طويل الصمت كثير العقل.
الاهتمام بالمظهر والهيئة، بما يضفي عليه المهابة، فقد جاء عن حماد بن أبي حنيفة أنه قال: كان أبي جميلا تعلوه سمرة حسن الهيئة، كثير التعطر هيوباً لا يتكلم إلا جواباً ولا يخوض - رحمه الله - فيما لا يعنيه. وعن ابن المبارك قال: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة.
كثرة عبادته وتنسكه - رحمه الله -، فقد قال أبو عاصم النبيل كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته، واشتهر عنه أنه كان يحيى الليل صلاة ودعاء وتضرعا. وذكروا أن أبا حنيفة - رحمه الله - صلى العشاء والصبح بوضوء أربعين سنة. وروى بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف قال بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر هذا أبو حنيفة لا ينام الليل فقال أبو حنفية والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيى الليل صلاة وتضرعا ودعاء، ومثل هذه الروايات عن الأئمة موجودة بكثرة، والتشكيك في ثبوتها له وجه، لاشتهار النهي عن إحياء الليل كله، وأبو حنيفة - رحمه الله - قد ملأ نهاره بالتعليم مع معالجة تجارته، فيبعد أن يواصل الليل كله. ولكن عبادة أبي حنيفة وطول قراءته أمر لا ينكر، بل هو مشهور عنه - رحمه الله -. فقد روي من وجهين أن أبا حنيفة قرأ القرآن كله في ركعة.
خوفه من الله تعالى، فقد روى لنا القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " القمر 46 ويبكي ويتضرع إلى الفجر.
ومن مظاهر القدوة شدة ورعة، وخصوصا في الأمور المالية، فقد جاء عنه أنه كان شريكاً لحفص بن عبد الرحمن، وكان أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة بمتاع، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته، فبين. فباع حفص المتاع، ونسى أن يبين، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
تربيته لنفسه على الفضائل كالصدقة، فقد ورد عن المثنى بن رجاء أنه قال جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها.
وله - رحمه الله - حلم عجيب مع العوام، لأن من تصدى للناس لا بد وأن يأتيه بعض الأذى من جاهل أو مغرر به، ومن عجيب قصصه ما حكاه الخريبي قال: كنا عند أبي حنيفة فقال رجل: إني وضعت كتابا على خطك إلى فلان فوهب لي أربعة آلاف درهم فقال أبو حنيفة إن كنتم تنتفعون بهذا فافعلوه. وقد شهد بحلمه من رآه، قال يزيد بن هارون ما رأيت أحدا أحلم من أبي حنيفة، وكان ينظر بإيجابية إلى المواقف التي ظاهرها السوء، فقد قال رجل لأبي حنيفة اتق الله فانتفض واصفر وأطرق وقال جزاك الله خيرا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا، وجاء إليه رجل، فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز، فقال: ما لونه؟ قال: كذا، وكذا، فقال له: اصبر حتى يقع، وآخذه لك، إن شاء الله تعالى، فما دارت الجمعة حتى وقع، فمر به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه الثوب، فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهماً، فقال الرجل: يا أبا حنيفة ما كنت أظنك تهزأ، قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين ديناراً، وبقي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.
الجدية والاستمرار وتحديد الهدف، فقد وضع نصب عينيه أن ينفع الأمة في الفقه والاستنباط، وأن يصنع رجالا قادرين على حمل تلك الملكة.
ترك الغيبة و الخوض في الناس فعن ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط. قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها. بل بلغ من طهارة قلبه على المسلمين شيئا عجيبا، ففي تاريخ بغداد عن سهل بن مزاحم قال سمعت أبا حنيفة يقول: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" قال: كان أبو حنيفة يكثر من قول: اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له.
ومن أهم مظاهر القدوة في شخصيته حرصه على بناء شخصيات فقهية تحمل عنه علمه، وقد نجح أيما نجاح. ومن طريف قصصه مع تلاميذه التي تبين لنا حرصه على تربيتهم على التواضع في التعلم وعدم العجلة، كما في (شذرات الذهب): لما جلس أبو يوسف - رحمه الله - للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلا فسأله عن خمس مسائل وقال له: إن أجابك بكذا فقل له: أخطأت، وإن أجابك بضده فقل له: أخطأت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال "تزبيت قبل أن تحصرم" يعنى تصدرت للفتيا قبل أن تستعد لها فجعلت نفسك زبيبا وأنت لازلت حصرما.
ومن أشد مظاهر القدوة في شخصيته تصحيحه لمفاهيم مخالفيه بالحوار الهادئ وقد كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم والمخالفين، وروى أيضا عن عبد الرزاق قال: شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف فسأله رجل عن شيء فأجابه فقال رجل: إن الحسن يقول كذا وكذا قال أبو حنيفة أخطأ الحسن قال: فجاء رجل مغطى الوجه قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ الحسن ثم سبه بأمه ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون ثم قال: إي والله أخطأ الحسن وأصاب بن مسعود.
ومن مظاهر القدوة عدم اعتقاده أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأن غيره من العلماء على خطأ، فقد جاء في ترجمته في تاريخ بغداد عن الحسن بن زياد اللؤلؤي يقول: سمعت أبا حنيفة يقول قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.
وفاته:
قال الذهبي: توفي شهيداً في سنة خمسين ومئة وله سبعون سنة، وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات في السجن - رحمه الله -.
---------------------------------------------
أهم مراجع الموضوع:
سير أعلام النبلاء للذهبي
شذرات الذهب لابن العماد
تذكرة الحفاظ - للذهبي
المنتظم - لابن الجوزي
البداية والنهاية لابن كثير
وفيات الأعيان - لابن خلكان
الطبقات السنية في تراجم الحنفية - للغزي
2 19/2/1427هـ
12/2/1427هـ
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/58)
أسلوب القدوة
دكتورة / فاطمة با جابر
الاقتداء الصحيح طريق الاهتداء
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة لكل مسلم فهو إذا أراد أن يأمر أصحابه بأمر يبدأ بتطبيقه على نفسه، عنْ جَابِرٍ قَال: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، فَبَلَغَهُ: أَنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَصَامَ بَعْضٌ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) إن معلم البشرية يرى أن الاقتداء الفعلي أكثر تأثيراً في النفوس والعقول، والنصح والوعظ وإن كان لابد منهما إلا أنه لابد من تجسيد تطبيقي لهما، فمن سار على نهجه فقد اهتدى، ومن خالفه فقد عصى، والحديث يبين أنه عندما علم عن حال الناس من التعب وهم على سفر أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد للناس أن الدين يسر، فأخذ بمبدأ (يسّروا ولا تعسّروا)، وكان من خُلقه إذا خُيّر بين أمرين اختار أيسرهما، فبدأ بنفسه وشرب الماء، فاقتدى به بعض أصحابه، أما الآخرين الذين أرادوا إتمام الصيام مخالفين قدوته فقد وصفهم - صلى الله عليه وسلم - بأنهم عصاة. لأن الاقتداء بالنبي أمر واجب على كل مسلم، قال - تعالى-:(وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (الحشر آية 7).
كان الصحابة رضي الله - تعالى - عنهم يقتدون بكل أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى وإن لم يعرفوا العلة، عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: (قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَ وَاللَّهِ! لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) يبين الحديث حرص الصحابة على الاقتداء حتى بدقائق الأمور، فكل أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كانت قدوة للأمة الإسلامية.وقد بين الحديث أن عمر أعلن طاعته واتباعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تقبيل الحجر، وأنه فعل ذلك اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي هذا أن إعلان بعض الأعمال يكون أفضل من إخفائها إذا كان فيها قدوة؛ لأن من الأعمال ما يقتدى بها ويستمر أجرها لمن سنها.ومن يحاول إظهار العمل للقدوة، عليه أن يكون عالماً عارفاً بما يفعل ويظهره للاقتداء به، وأن يراقب قلبه فلا يدع للرياء فيه مجالاً. وهذه صفة المقربين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد لهم أنهم قدوة ويقتدى بهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) يشير الحديث إلى إن الإسلام هو دين القدوة الحسنة، وإن أكثر الناس قدوة هو أعلمهم وأصلحهم، وكان في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر، ممن طلب - صلى الله عليه وسلم - الاقتداء بهم، وإن كان في الحديث تخصيص لهما، إلا أنه يفيد العموم، فكل من كانت صفاته موافقة لمنهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فهو قدوة للآخرين.
ومنهجه - صلى الله عليه وسلم - توافق الفعل مع القول لأنه أعمق وأقوى في التأثير على النفس، وما أعظم موقف عمر- رضي الله عنه- حين كان يجمع أهل بيته ليقول لهم: إني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحداً منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه، أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالاً شديداً، ثم يخرج رضي الله - تعالى - عنه ويدعو الناس إلى الخير، فلم يتأخر أحد عن السمع والطاعة، لإعطائهم القدوة بفعله، قبل إعطائهم إياها بقوله.
فالصحابة رضي الله - تعالى - عنهم كانوا أبر"هذه الأمة قلوباً، وأعمقهاً علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه، وعلى الأمة الإسلامية أن تعرف فضلهم، وتتبع آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم [1]". قال - تعالى -: (أولئك الذين هدى الله، فبهدهم اقتده) (الأنعام آية 90)
وقد ورد كثير من الأحاديث التي تشير إلى أن الصحابة كانوا قدوة لبعضهم، فهم
يؤيدون ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وينكرون ما خالف السنة حتى ولو كان من العبادات، وسار على نهجهم التابعون. فعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله - تعالى -عنهم، قَالَ: (صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقٍ قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي، يَا ابْنَ أَخِي! إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُُ - عز وجل -، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ - عز وجل -، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ - تعالى -، وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ - تعالى -. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - عز وجل -: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) الحديث يشير إلى أن ابن عمر أنكر فعل الناس كيف يقصرون الصلاة ويكملون النافلة، فذكر: "لو اخترت التنفل؛ لكان إتمام فريضتي أربعاً أحب إلي، ولكني لا أرى واحداً منهما، بل السنة القصر وترك التنفل، ومراده النافلة الراتبة مع الفرائض كسنة الظهر والعصر وغيرها من المكتوبات). ويفيد الحديث بأن تقديم الأولويات أفضل من تقديم المكملات. وقياساً عليه فإنه ينبغي على من بيده زمام الأمور تقديم الأولويات في الأعمال، في جميع الأحوال، وخاصة من بحوزته أعمال خاصة بالآخرين، ولكن الواقع مغاير لما ينبغي، فقد قُدمت المصالح الشخصية وأُعطيت الأولويات الخاصة اهتماماً أكثر ووضعت في مقدمة الأعمال دون مبالاة بمصالح الآخرين. وهذه المعاناة المعاصرة تفشت في المجتمعات الإسلامية، وما ذلك إلا لفقد القدوة، والبعد عن السيرة النبوية، لأن قدوته - صلى الله عليه وسلم - سراج ينير القلوب والعقول لمن تمسك بها. فهو قدوة حية على مر العصور لمن اتبعها وتمسك بها.
http://www.pصلى الله عليه وسلمopheteducation.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/59)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح هم القدوة في الدين
د. ناصر عبد الكريم العقل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة في الدين، ثم أصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين - لأن اللَّه - تعالى- زكاهم؛ ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رباهم، وتوفي وهو عنهم راضٍ، وهم حملة الدين علمًا وعملاً، فقد نقلوا لنا القرآن وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعملوا بمقتضاهما، ولم تظهر فيهم الأهواء والبدع والمحدثات في الدين.
فإن الحق والهدى يدوران معهم حيث داروا، ولم يجمعوا إلا على حق، بخلاف غيرهم من الطوائف والمنتسبين للأشخاص والشعارات والفرق فإنهم قد يجتمعون على الضلالة.
ثم السلف الصالح من: التابعين وتابعيهم، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة الفاضلة، هم القدوة بعد الصحابة؛ لأنهم كانوا على منهاج النبوة وسبيل الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا.
وعلى هذا المنهج سار أئمة الدين، وأهل السنة إلى يومنا، وإلى أن تقوم الساعة، ملتزمين بما جاء في الكتاب والسنة، ومقتفين لأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والسلف الصالح - والحمد لله-، وسبيل هؤلاء (السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الدين)، هو سبيل المؤمنين الذي توعد اللَّه من يتبع غيره، وجعل اتباع غيره مشاقَّة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن موجبات النار، نسأل اللَّه العافية، قال اللَّه - تعالى -: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115].
وبذلك يتقرر أن سبَّ الصحابة والسلف الصالح والطعنَ فيهم، طعنٌ في الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما أنه خيانة للأمة وعامة المسلمين؛ لأنه طعن في خيارها وقدوتها؛ ولذلك عمد أهل الأهواء والبدع والافتراق إلى الطعن في الصحابة والتابعين والسلف الصالح أو بعضهم كما سيأتي بيانه.
مصادر الدين هي: الكتاب والسنة (الوحي فحسب):
المنهج الحق، منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة يقوم على: أن مصادر الدين: الكتاب والسنة، والإجماع (هو مبني عليهما)، وما عدا ذلك فهو باطل؛ لأنه بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - انقطع الوحي، وقد أكمل اللَّه - تعالى - الدين، قال - تعالى -: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3]، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض». [صحيح الجامع الصغير: 2934]
والدين الحق يقوم على التسليم لله تعالى؛ والتسليم يرتكز على: التصديق والامتثال، والاتباع لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو دين اللَّه - تعالى -، أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي وأكمله فليس لأحد أن يُحْدث شيئًا زاعمًا أنه من الدين لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». [متفق عليه]
فالدين كله عقيدة وشريعة، لا يجوز استمداده إلا من الوحي.
والعقيدة هي أصول الدين وثوابته وقواطعه، وعليه فإن: مصادر تلقي العقيدة الحق، هي: الكتاب، والسنة وإجماع السلف، وهذه هي مصادر الدين، ويتفرع من هذه القاعدة العظيمة الأصول التالية:
1- إذا اختلفت فهوم الناس لنصوص الدين، فإنَّ فَهْمَ السلف (الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم) هو الحجة، وهو القول الفصل في مسائل الاعتقاد وغيرها لأنهم خيار الأمة، وأعلمها وأنقاها وقد أمرنا اللَّه وأمرنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم، والرجوع إليهم، وتوعد من اتبع غير سبيلهم، وعليه فإن:
2- منهج السلف في تقرير العقيدة يعتمد على الكتاب والسنة، ولذلك كان هو الأعلم والأسلم والأحكم، ويتمثل ذلك بآثارهم المبثوثة في مصنفاتهم، وفي كتب السنة والآثار.
3- العقيدة توقيفية لا يجوز تلقيها من غير الوحي؛ لأنها غيب لا تحيط بها مدارك البشر، ولا عقولهم ولا علومهم.
4- العقيدة غيبية في تفاصيلها، فلا تدركها العقول استقلالاً، ولا تحيط بها الأوهام، ولا تدرك بالحواس والعلوم الإنسانية ولا غيرها.
5- كل من حاول تقرير العقيدة واستمدادها من غير مصادرها الشرعية فقد افترى على اللَّه كذبًا، وقال على اللَّه بغير علم.
6- كما أن العقيدة مبناها على التسليم والاتباع: التسليم لله - تعالى -، والاتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الزهري: «مِنَ اللَّه - عز وجل - الرسالة، وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - البلاغ، وعلينا التسليم».
[البخاري 13/508]
7- الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة التابعين وتابعيهم وأعلامُ السنة - السلف الصالح - كانوا على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسبيلهم هو سبيل المؤمنين، وآثارهم هي السنة والطريق المستقيم. قال الأوزاعي: «عليك بآثار مَنْ سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم». [رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2077، 2078)]
مصادر التلقي عند أهل الأهواء:
أما أهل الأهواء فقد تفرقت بهم السبل في مصادر تلقي الدين والعقيدة، وتنوعت مشاربهم ومصادرهم، فجعلوا من مصادر الدين وتلقي العقيدة:
1- العقليات والأهواء والآراء الشخصية، والأوهام والظنون وهي من وساوس الشياطين وأوليائهم، ومن اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
2- الفلسفة وتقوم على أفكار الملاحدة والمشركين من الصابئة واليونان والهنود والدهريين ونحوهم، والفلسفة أوهام وتخرصات ورجم بالغيب.
3- عقائد الأمم الأخرى ومصادرها، مثل كتب أهل الكتاب وأقوالهم، والمجوس والصابئة، والديانات الوضعية الوثنية.
4- الوضع والكذب (لدى الرافضة والصوفية وغالب الفرق)، ومصدره الزنادقة ورؤوس أهل البدع، فإنهم يكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى الصحابة والتابعين وأئمة الهدى وسائر الناس، ويضعون الأحاديث والروايات بأسانيد وهمية ومختلقة.
5- الرؤى والأحلام والكشف والذوق (لدى الصوفية والرافضة ونحوهم)، ومصدرها الأهواء وإيحاء الشياطين.
6- المتشابه والغريب والشاذ من الأدلة الشرعية واللغة وأقوال الناس.
7- الاعتماد على آراء الرجال دون عرضها على الشرع أو القول بعصمتهم وتقديسهم.
وللحديث بقية إن شاء الله.
http://www.altawhed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/60)
القدوة قبل الدعوة .. عندما سألتني : لماذا هم منافقون ؟!!
د. ندى بنت عبد العزيز اليوسفي
أمسكَت بيدي طبيبة من إحدى الدول الإسلامية وأجلستني وسألتني وجدّت في السؤال!، لماذا النّاس هنا منافقون؟!!!، هالني السؤال، فُوجِئتُ بِهِ، أطرقتُ صامتة، ثم نظرتُ إليها طالبةً الفهم والاستيضاح، فالنفاق حكمٌ خطير لهُ ضوابطه، فكرَّرَتِ السؤال، وأتبعتْهُ بجملٍ متلاحقة، لا أحد يمتثل تعاليم الإسلام وسماحته، هالني ما رأيتُ في قسمنا من صراعاتٍ وتزلّفات و عدم إخلاص في العمل، لماذا الزميل يضيّق على زميله و كأنهما في حلبة صراع، ينتظر كل منهما الفرصة لينقضّ على الآخر، وسردت لي من المواقف والصور ما ضاقت بهِ نفسي، أبدعتُ في الدّفاع، و بيّنت لها أن هذه حالات شاذّة، ولا تمثّل الدين ولا البلاد، وضربتُ لها الأمثلة بفلان وفلانة ممن طاب ذكرهم وحسُنَ بين الناس منهجهم وسيرتهم و أثمرت إنجازاتهم وأثنى عليهم زملاءهم، ولم تقتنع!، وحُقّ لها ذلك!
الكلّ يرى في أبناء الحرمين صيانة الدين وتمثيله و تطبيقهِ، تتوق أنفسهم لرفقتهم والتعلم منهم، فماذا ستكون ردّة الفعل عندما ينصدم أحدهم بصور عجيبة ومؤلمة متناقضة ؟!، إذا كان هذا انطباع مسلمة عن أخوةٍ لها مسلمين ونفورها منهم، فنفور الكافر من باب أولى وارد جداً!
قاعدتنا في كل مكان وزمان أنّ فاقد الشيء؛ لا يعطيه، وهل ننتظر ممن لم يُحسِنوا لأنفسهم بتربيتها و دعوتها لمحاسن الأخلاق وجميل التعامل وسامي التواصل مع الآخرين أن يُحسنوا لغيرهم وأن يوصلوا الدعوة لهذا الدين لمن يحتاجها في أصقاع المعمورة فضلاً عن زملائهم المُخَالِطِين.. ؟!
ما رأيتُ أخطر على الأمة من فقراء الأخلاق، ولا رأيتُ أخطر عليها، ولا أشدّ تنفيراً من الدين؛ إلا من ساءَت منهُمُ الأخلاق وهم يحسبون أنهم يُحسنون عملاً.. !
تطرّف البعض في وصفِ التديّن والاستقامة، فهم في التصنيف على طرفي نقيض، و تعدّدت المفاهيم واختلفت من بلدٍ إلى بلد، و وقع الصراع بين أنصار الجوهر و المتمسكين بأهميّة المظهر، والحق أن الإسلام اهتمّ بالجانبين وأولى كلاً منهما عناية فائقة و ارتبطت أحكام شرعية أصيلة بكلٍّ منهما، فالشخص المتديّن، شخص يملأ قلبه عقيدة صحيحة يعمل بأركانها، ويمتثلها في حياته، ويقوّم من أجلها نهجه، وتصدقها كلماتهُ ومظهره، تلتمس من كلماته عُمق الحماس والاعتزاز بالإسلام والغيرة على شعائر الدّين، داعية ميداني لا يترك طرق أي باب خيرٍ أنّى وُجِد، وبين هذا وذاك، يتقلّب بين الخوف والرجاء. ولا يهدأ له بال حتى يُبَشّر بالقبول، ويرى كتابه باليمين، وتقرّ عينه بالرسول.. !
أمة الإسلام في مرحلة تحتاج فيها أن تصل للجميع صورة الشخص المسلم المتديّن كأحسن ما تكون، كما أرادها له الإسلام، الصورة التي ستمكّننا من نشر هذه الدعوة و هداية الناس و دعوتهم إلى الاستقامة، الأمة في مرحلة خطيرة ومنعطفات أخطر، تقاسي الجرح بعد الآخر، لم يعد هناك وقتٌ إلا لصادق الفعال، وتحقيق سامي المقال، وامتثال الإسلام عقيدةً، وخُلُقاً، وسمتاً، وتعاملاً، وحديثاً. هذا الالتزام الخُلُقي هو الذي فتح الدنيا بفضل الله - تعالى -، وأوصل الإسلام إلى أقاصي العالم.
ولن يتأتّى لنا ذلك إلا إذا بدأ كل فردٍ بنفسه، فهذبها واستكمل فضائلها، ونقّاها من رذائلها وشوائبها، وربّاها كأحسن ما تكون التربية، روّضها في رياض الطاعة، وهذا الدرب ولا غيره هو ما سيوصل الأمة بفضل الله إلى القيادة والريادة، وينشر دعوة الإسلام في أصقاع الأرض.
أرشد الإمام الشافعي مؤدِّب أولاد هارون الرشيد فقال: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإن أعنّتهم معقودة بيدك، فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح عندهم ما تركته"، والأجمل قول أحدهم: "كونوا عبّادًا قبل أن تكونوا قوّادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
ولو تأمّلنا دعوة الرُسل السابقين، وكيف يبعث الله من القوم أحسنهم أخلاقاً، ومن عُرِفوا بين قومهم بالصدق والأمانة، فالمتلقّي متى شعر بالراحة والاطمئنان والثقة بمن يدعوه فسيقبِل عليه، وفي أقل الأحوال لن ينفُر منه.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى لكل هذا؛ فقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، و اعتصم - صلى الله عليه وسلم - بالحلم، والصبر على الأذى، وخفض الجناح، والرفق، وحسن المعاملة - مع قوة الشخصية - والمهابة العلمية. فبلغت دعوته ما بلغت، وبلغت محبته في القلوب ما بلغت.
وهذا معاذ - رضي الله عنه - قبل أن يبعثه - صلى الله عليه وسلم - لدعوة الناس، حدّد له ما يجب أن تكون عليه شخصيته، فأوصاه بتقوى الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، ولزوم الإيمان، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح، ونهاه عن أن يسب حكيمًا، أو يكذب صادقًا، أو يطيع آثمًا، أو يعصي إمامًا عادلاً، أو يفسد أرضًا، وأوصاه باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر. أوصاهُ كما أوصى غيرهُ من دعاةِ الخير ورُسِل العقيدة بكل معاني تربية النفس، و معالم تهذيبها، والارتقاء بها.
و شخصية لها هذه الصفات كيف يقابلها الآخرون.. ؟!!!، وما هو تأثيرها ولو لم تتكلم.. ؟!!!، ولو لم تعتلي المنابر.. ؟!!، وتتحدث في المؤتمرات والقنوات.. ؟!!!. حقاً "إن لله رجالاً أحيوا الحق بذكره، وأماتوا الباطل بهجره".
كان الحسن البصري إذا دخل السوق ترك المسلمون تجارتهم، وقالوا: لا إله إلا الله، وذكروا الله كثيرًا، بل قال أحد تلامذته: إن الرجل لينتفع برؤية الحسن البصرى حتى لو لم يسمع كلامه ولم ير عمله.. !!!!!!
والإسلام من مبدأ دعوته، أرسى القواعد الأساسية، والأحكام الشرعية، و اعتنى عناية خاصة بجانب الأخلاق والعلاقات الإنسانية، فهو يشيع بين الناس أواصر الرحمة، والحب والتسامح، والفضل، والتعاون، ومراقبة الضمير، وخشية الله، إلى غير ذلك من المعاني الكريمة، ورتّب عليها الأجر والثواب والفضل والمنازل الرفيعة، وتلك هي أدوات الدعوة الميدانية الناجحة.
والشباب يحتاج لرؤية نماذج صادقة مع ربه، تتحلى بالأخلاق الكريمة، يخرجون إليهم ويتعاملون معهم بالأخلاق الحسنة فيحببوهم في الاستقامة، ولسان الحال كما نعلم أبلغ من ألف ألف مقال.. !!!!
ليست العبرة في كم يسمعون من الكلام، أو كم يقرؤون من الكتب، إنّما العبرة في إتباع أحسن الكلام وتطبيقه ولو كان قليلاً، ((أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب))، وما أحوج الأمة لأمثالهم.
يقول أبو الأعلى المودودي: ((إن رسالتي إلى المسلمين هي أن يفهموا تلك المسؤوليات ويطلعوا بها. فما هي هذه المسؤوليات؟، ليس فقط الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليست هي فقط أن تقيم الصلاة وتصوم رمضان وتؤدي الشعائر، وليست هي أيضاً أن تقيم أصول الإسلام فيما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث، بل هناك فوق كل هذا مسؤولية ضخمة ملقاة على عاتقك، وهي أن تقف شاهد حق أمام الدنيا كلها ?وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً?. وقال - تعالى -: ? ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله?، والشهادة المطلوبة من المسلم، قولية وعملية، أما الشهادة القولية فهي أن يقوم المسلمون بإيضاح الحق واستعمال كافة الوسائل من أجل تثبيت هذا الحق في القلوب. وأما الشهادة العملية فهي أن نطبق عملياً في حياتنا الأصول التي أمرنا الحق به، فلن توافقنا الدنيا على الحق لو ذكرناه بألسنتنا، بل يريدون أن يروا محاسن وبركات هذا الحق داخل حياتنا، يريدون أن يروا هذا بأعينهم، يريدون أن يتذوقوا حلاوة الإيمان التي تظهر في سلوكنا الأخلاقي، يريدون أن يروا كيف أن هداية الدين خلقت إنساناً طيباً، وأقامت مجتمعاً صالحاً، وحضارة طاهرة شفافة وشريفة. وكيف أنها طورت العلوم والآداب والفنون على خطوط صحيحة سليمة، وكيف ظهر التعاون الاقتصادي بين الناس، وكيف سمت الحياة الاجتماعية. )). ا. هـ.
لذلك نريدكم يا أهل هذه الملّة؛ علمٌ وعمل، دينٌ و خلُق، تعاونٌ وبرّ وحبّ للخير لكم ولغيركم، نريدكم أدوات دعوة متحرّكة في أي مكان وُجدتم، تنطق ألسنتكم وأعمالكم وعلاقاتكم بخُلق الإسلام و خيريته، والله لا يضيع أجرمن أحسن عملاً. لنتذكّر دائماً ((إن هذا الدين يهدي للتي هي أقوم))، و لنقيّم أنفسنا ولنقوّم معوجّها ولنصل بها لأعلى مراتب الكمال كما أراد لنا هذا الدين..!
http://www.lahaonline.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/61)
مقصود القدوة ومعناها
الأسوة والقدوة بمعنى واحد، ويقصد بها السير والإتباع على طريق المقتدى به، وهي نوعان: حسنة وسيئة.
الأول: الأسوة الحسنة: الإقتداء بأهل الخير والفضل والصلاح في كل ما يتعلق بمعالي الأمور وفضائلها، من القوة والحق والعدل.
وقدوة المسلمين الأول رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفي ذلك يقول - عز وجل-:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[21]} [سورة الأحزاب].ومن دقيق المعنى في هذه الآية الكريمة: أن الله - سبحانه- جعل الأسوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحصرها في وصف خاص من أوصاف، أو خلق من أخلاقه، أو عمل من أعماله الكريمة، وما ذلك إلا من أجل أن يشمل الإقتداء أقواله - عليه الصلاة والسلام - وأفعاله وسيرته كلها، فيقتدي به - صلى الله عليه وسلم - بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ويقتدى بأفعاله وسلوكه من الصبر، والشجاعة والثبات، والأدب وسائر أخلاقه، كما يشمل الإقتداء بأنواع درجات الإقتداء من الواجب، والمستحب، وغير ذلك مما هو محل الإقتداء.
والنوع الثاني: الأسوة السيئة: ويعني السير في المسالك المذمومة، وإتباع أهل السوء والإقتداء من غير حجة أو برهان، ومن ذلك قول المشركين:} إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23]{ [سورة الزخرف]. ولهذا رد عليه القرآن بقول:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ...[24]} [سورة الزخرف].
أهمية القدوة الحسنة:
إن من الوسائل المهمة جداً في تبليغ الدعوة، وجذب الناس إلى الإسلام، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ القدوة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وأخلاقه الزاكية مما يجعله أسوة حسنة لغيره؛ فيقبلون عليه، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده.
فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على أن الإسلام حق من عند الله.
وتكمن أهمية القدوة الحسنة في الأمور الآتية:
1- المثال الحي المرتقي في درجات الكمال: يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الإعجاب والتقدير والمحبة، فإن كان عنده ميل إلى الخير، تطلع إلى مراتب الكمال، وأخذ يحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها في المقتدى به.
2- القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية: تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
3- مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت: ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي. فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد الداعية إيصالها للمقتدى، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : [إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ - فَنَبَذَهُ وَقَالَ:- إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَداً] فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد. قال العلماء:'فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول'.
4- الأتباع ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة فاحصة: دون أن يعلم، فرب عمل يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر، وذلك أنهم يعدونه قدوة لهم، ولكي ندرك خطورة ذلك الأمر؛ فلنتأمل هذه القصة:
يروي أن أبا جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة؛ عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، قال: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل ـ يعني المأمون ـ إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت. فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله.
وتمر الأيام عصيبة على الإمام أحمد، ويمتحن فيها أشد الامتحان، ولم ينس نصيحة الأنباري، فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة، ويقول له: 'يا أستاذ قال الله - تعالى-:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...} [سورة النساء: 29]. فقال أحمد: يا مروزي اخرج، انظر أيّ شيء ترى!! قال: فخرجت على رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً من الناس لا يحصى عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم. فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قوماً بأيدهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه. فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم!! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء'.
فمن أبرز أسباب أهمية القدوة أنها تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي، وهذا بالتالي يساعد المتربي على أن يكون من المستويات الجيدة في حسن السيرة والصبر والتحمل وغير ذلك. http://muslema.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/62)
الإمام القدوة محمد بن المنكدر
مجدي عرفات
اسمه ونسبه: هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى، ينتهي نسبه إلى تيم بن مرة بن كعب بن لؤي أبو عبد الله القرشي التيمي المدني.
مولده: ولد سنة بضع وثلاثين.
شيوخه: روى عن عائشة وأبي هريرة وابن عمر وجابر وابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وأبي أمامة وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبى صالح ذكوان السمان.
تلامذته والرواة عنه: عمرو بن دينار والزهري وهشام بن عروة وأبو حازم الأعرج وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج ومعمر ومالك وشعبة والسفيانان والأوزاعي وابن أبي ذئب وأبو حنيفة وأمم سواهم.
ثناء العلماء عليه:
قال سفيان: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون ولم يُدْرَكْ أحدٌ أجدر أن يقبل الناس منه إذا قال قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - منه.
قال الحميدي: هو حافظ، وقال ابن معين وأبو حاتم: ثقة.
قال أبو حاتم البستي: كان من سادات القراء لا يتملك البكاء إذا قرأت حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يصفر لحيته ورأسه بالحناء، قال مالك: كان ابن المنكدر سيد القراء. وقال أبو معشر: كان سيدًا يطعم الطعام ويجتمع عنده القراء. قال يعقوب الفسوي: هو غاية في الإتقان والحفظ والزهد حجة.
قال ابن الماجشون: إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني.
قال الذهبي: الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام.
قال ابن حجر: ثقة فاضل.
من أحواله وأقواله: قال أبو القاسم اللالكائي: كان المنكدر خال عائشة فشكا إليها الحاجة، فقالت: إن لي شيئًا يأتيني أبعث به إليك، فجاءتها عشرة آلاف، فبعثت بها إليه، فاشترى جارية فولدت له محمدًا وأبا بكر وعمر.
قلت: فهو ابن خال عائشة، ولذلك سأل الترمذي البخاري عن سماعه من عائشة، فقال: نعم يقول في حديثه: سمعت عائشة.
قال الذهبي: إن ثبت الإسناد إلى ابن المنكدر بهذا فجيد. وذلك ممكن لأنه قرابتها وخصيص بها ولحقها وهو ابن نيف وعشرين سنة.
قال عكرمة بن إبراهيم عن ابن المنكدر أنه جزع عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟ قال: أخشى آية من كتاب الله: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.
قال ابن عيينة: كان لمحمد بن المنكدر جار مبتلى فكان يرفع صوته بالبلاء، وكان محمدٌ يرفع صوته بالحمد.
قال مالك كان محمد بن المنكدر لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا كان يبكي.
روى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر أنه كان يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه قومي ضعي قدمك على خدي.
روى أبو نعيم بسنده إلى ابن المنكدر قال: إني َللَيلة مواجه هذا المنبر في جوف الليل أدعو إذا إنسان عند أسطوانة مُقَنِّع رأسه فأسمعه يقول: أي رب إن القحط قد اشتد على عبادك وإني مقسم عليك يا رب إلا سقيتهم، قال: فما كان إلا ساعة إذا سحابة قد أقبلت ثم أرسلها الله وكان عزيزًا على ابن المنكدر أن يخفى عليه أحد من أهل الخير، فقال: هذا بالمدينة ولا أعرفه، فلما سلم الإمام تقنع وانصرف واتبعه ولم يجلس حتى أتى دار أنس فدخل موضعًا ففتح ودخل قال: ورجعت فلما سبحت أتيته فقلت: أدخل؟ قال: أدخل، فإذا هو ينجر أقداحًا، فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله، قال: فاستشهرها وأعظمها مني، فلما رأيت ذلك قلت: إني سمعت إقسامك البارحة على الله يا أخي هل لك في نفقة تغنيك عن هذا وتفرغك لما تريد من الآخرة؟ قال: لا، ولكن غير ذلك لا تذكرني لأحد ولا تذكر هذا لأحد حتى أموت ولا تأتي يا ابن المنكدر فإنك إن تأتي شهرتني للناس فقلت: إني أحب أن ألقاك قال: ألقني في المسجد قال: وكان فارسيًا فما ذكر ذلك ابن المنكدر لأحد حتى مات. قال ابن وهب: بلغني أنه انتقل من تلك الدار فلم يُر ولم يدر أين ذهب، فقال أهل تلك الدار الله بيننا وبين ابن المنكدر، أخرج عنا الرجل الصالح.
قال سفيان: كان ابن المنكدر يقول: كم من عين ساهرة في رزقي في ظلمات البر والبحر، وكان إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعًا مسته الدموع.
قال ابن المنكدر: بات أخي عمر يصلي وبت أغمز قدمي أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.
قال ابن عيينة: تبع ابن المنكدر جنازة سفيه فعوتب فقال: والله إني لأستحي من الله أن أرى رحمته عجزت عن أحد.
قلت: الأصل ألا تتبع جنائز هؤلاء السفهاء والفسقة والمبتدعة، ولذلك أنكروا عليه وعاتبوه على صنيعه، لكن يجوز ذلك عند ظن المصلحة. والله أعلم.
قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استضاقت.
وقال أيضًا: إن الله يحفظ العبد المؤمن في ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فما يزالون في حفظ أو في عافية ما كان بين ظهرانيهم.
وقال أيضًا: نعم العون على تقوى الله الغنى.
قال أبو معشر السندي: بعث ابن المنكدر إلى صفوان بن سليم بأربعين دينارًا، ثم قال لبنيه: يا بني ما ظنكم بمن فرغ صفوان بن سليم لعبادة ربه؟ قلت: صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله الزهري عابد من العباد ثقة مفتي.
قيل لابن المنكدر: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان.
عن عمر بن محمد بن المنكدر قال: كنت أمسك على أبي المصحف، قال: فمرت مولاة له فكلمها فضحك إليها ثم أقبل يقول: إنا لله إنا لله، حتى ظننت أنه قد حدث شيء، فقلت: مالك؟ فقال: أما كان لي في القرآن شغل حتى مرت هذه فكلمتها.
قال عمر بن محمد بن المنكدر: بينا أنا جالس مع أبي في المسجد مسجد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذ مر بنا رجل يحدث الناس ويفتيهم ويقضي، قال: فدعاه أبي، فقال له: يا أبا فلان إن المتكلم يخاف مقت الله - عز وجل - وإن المستمع يرجو رحمة الله - عز وجل -.
قال ابن المنكدر: ليأتين على الناس زمان لا يخلص فيه إلا من دعا كدعاء الغريق.
وقال: الفقيه يدخل بين الله وبين عباده فلينظر كيف يدخل.
قال بشر بن المغفل: جلست إلى محمد بن المنكدر فلما أراد أن يقوم قال: أتأذن، قلت: هذا هو أدب المجالسة ينتهي بالاستئذان.
أتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال: يا أبا عبد الله كأني أراك قد شق عليك الموت، قال: فما زال يهون عليه الأمر حتى إن وجهه لكأنه المصابيح ثم قال له محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك ثم قضى - رحمه الله -.
وفاته: توفي - رحمه الله - سنة ثلاثين ومائة أو بعدها.
______________________
المراجع:
حلية الأولياء.سير أعلام النبلاء.
تهذيب التهذيب.تقريب التهذيب.
http://www.altawhed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/63)
حتى تكون القدوة صالحة لا بدّ من...
صفات القدوة الصالحة:
1 ـ اقتران القول والعمل:
فالقدوة الصالحة تقول خيراً وتعمل خيراً، فلا تجد تناقضاً بين منطقها وسلوكها، ولذلك كان الأنبياء - عليهم السلام - والأولياء قدوات صالحة لأنّك تجد انسجاماً واضحاً بين ما يقولون وبين ما يجسّدون من تلك الأقوال، وهذا ما دعا القرآن الكريم إلى اعتبار التناقض أمراً ممقوتاً عند الله: ((يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )).
2 ـ حيازة مؤهلات وصفات مؤثرة:
فلكي يكون شخصٌ قدوة لغيره لا بدّ أن يمتاز عليه بسمة أو سمات عديدة يفتقدها المقتدي أو بعضها، فيسعى للسير على منوال القدوة من أجل اكتساب مثل ما لديه من مؤهلات وصفات حميدة.
وكلّما كانت القدوة حائزة على مؤهلات أكبر كانت قوّة الدفع أكبر، ولذا يُنصح الشبان والفتيات بعدم حصر قدواتهم في النماذج المحدودة، وإنّما الانطلاق نحو القمم، ولذلك قال الشاعر:
ومَنْ يتهيّب صعودَ الجبال يعش أبدَ الدّهرِ بينَ الحفر
3 ـ الثبات على المبادئ:
القدوة الصالحة ليست قدوة موسمية تؤثر لبعض الوقت، أو في أماكن محدّدة، إنّما هي ذات تأثير وجاذبية أينما حلّت وارتحلت ((وجعلني مباركاً أينما كنت ))، فالثبات يعطي الانطباع عن الصدق والصبر، والتحدي والإيمان العميق بالمبادئ التي يحملها القدوة، بعكس التذبذب أو التردد، أو التراجع أو التساقط.
إنّ الإنسان الشاب أو الفتاة قد ينهار تحت الضغوطات لكنّه إذا تذكّر الثابتين الصامدين، المقاومين في عناد؛ خجل من نفسه، واتّكأ على جراحه، وواصل المسير.
4 ـ العمل على السجيّة وعدم التكلّف:
كلّما كانت القدوة تتصرّف بوحي من ثقتها بنفسها وإيمانها، وعلى سجيّتها دونما تصنّع ولا تكلّف ولا تمثيل؛ شدّ ذلك الأنظار إليها، فالقول الحسن لدى القدوة يطفح كما الماء من الينبوع بعفوية وتلقائية، والفعل الحسن يصدر عنها كما يصدر الشعاع عن الشمس، والعطر من الوردة ذاتها.
إنّ الوردة لو أرادت أن تتعطّر بعطر غير عطرها فلربّما فاح ذلك العطر مؤقتاً لكنّه لا يمثل أنفاس الوردة العاطرة، وإنّما هو شيء طارئ ودخيل عليها، وكذلك القدوة ففعلها وقولها ليس طارئاً وإنّما هو من شمائلها.
والنفس الإنسانية ميّالة بطبعها إلى الإنسان الصادق مع نفسه ومع الآخرين، والذي يتصرّف بنقاء شبيه بنقاء الماء والشعاع والعطر، وهذا هو السبب الذي يجعل بعض الناس يؤثر فيك من غير أن يتكلّم معك، فسلوكه وحده قدوة، وهو نفسه الذي يجعل بعض الصالحين يقول: «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، حتى يروا منكم الصدق والصلاح والورع، فذلك داعية»، وقد ثبت تربوياً أنّ (التربية غير المباشرة) العملية أكثر تأثيراً من (التربية غير المباشرة) القولية.
5 ـ آمرة مؤتمرة، ناهية منتهية:
وهذا هو التطابق بين الإيمان وبين العمل، فحتى تؤتي القدوة تأثيرها لا بدّ أن تعمل بما تأمر به، حتى إذا رأى المؤتمرون فعلها بما تأمر صدّقوها، وأخذوا بأوامرها، كما لا بدّ أن تنتهي عمّا تنهى عنه من شر أو منكر، أو سوء أو خبث أو بذاءة، فإذا لم يلحظ المنتهون ذلك، أو رأوا عكسه وبخلافه؛ عابوها وانتقصوا من قدرها، وسخروا منها، وفي ذلك يقول الشاعر:
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ولو راجعت قصص القدوات الصالحة لرأيت هذا الشرط واضحاً في سلوكهم، فقد كانوا لا يأمرون بشيء حتى يسبقوا الناس إلى العمل به، ولا ينهون عن شيء إلاّ ويسبقون الناس أيضاً بالامتناع عنه.
6 ـ تعترف بالخطأ وتسعى لتصحيحه:
القدوة قدوتان: قدوة معصومة لا يتطرّق الخطأ إلى أقوالها وأفعالها، كما هم الأنبياء - عليهم السلام - الذين يشبههم البعض بالشموس الساطعة التي كلّها نور، ولأنّ المراد منها أن تنير عقول الناس وقلوبهم وحياتهم، فلا يصحّ أن يكون هناك شيء من الظلمة ولو قليلاً.
وهناك قدوة غير معصومة، قد يصدر عنها الخطأ لكنّها تسارع إلى معالجته وتفاديه، والاعتراف به، وعدم الإصرار عليه، أو تكراره مستقبلاً، وبذلك تكون قدوة حتى في صراحتها وشفافيتها، وفي سعيها إلى تصحيح ما تقع به من أخطاء.
إنّ المتقين - وهم قدوات صالحة - يقعون في الخطأ أحياناً، لكنّ ميزتهم عن سواهم أن سواهم تأخذه العزّة بالإثم فيكابر ويحاور ويناور لئلاّ يقال عنه أ نّه أخطأ، فيما يؤوب المتقي إلى ربّه، ويثوب سريعاً إلى رشده (( إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون )).
و"طائف الشيطان" هو الخواطر الخبيثة والشريرة التي تخطر على بال الإنسان، لكنّه بما أوتي من قدرة إيمانية تصحيحية يعمل على طرد تلك الوساوس والتسويلات والخواطر، ليعود إلى سابق عهده ونقائه، كالنهر تتساقط بعض الشوائب لتلوثه لكنّه سرعان ما يعود إلى صفائه من جديد.
بتصرف يسير عن : http://www.balagh.com/youth/3k0صلى الله عليه وسلمb8jq.htm
ـــــــــــــــ(1/64)
القدوة غرس الأخلاق من المهد
أ/ مي حجازي
السؤال:
أما بعد: فأنا لدي ابنة وحيدة عمرها 8 أشهر، ولقد سمعت أن أول 7 سنوات من عمر الطفل هي أهم فترة يتم فيها إكساب الطفل المبادئ والقيم والأخلاق الحميدة.
والسؤال: كيف أعلم ابنتي القيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية وعمرها 8 أشهر؟ وهل يمكن أن ترشدوني إلى أسماء كتب أو مواقع على الإنترنت لقراءتها تخص هذا الموضوع؟
والسؤال الآخر بارك الله فيكم: زوجتي حامل بالشهر الثالث وابنتي ترضع منها، فهل هذا يؤثر على ابنتي أو على زوجتي أو على الجنين؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أيها الأب الفاضل، ومرحباً بأسرتك - بارك الله لك فيهم، وأعانك وزوجتك على تحمل مسئولياتكما الجسام -، ولا بد أن أذكرك وزوجتك بالدعاء المتواصل لجنينكما في تلك الأيام المباركات؛ فمما ثبت من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجنين يكتب له رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد بعد الشهر الرابع من الحمل (120 يوماً)؛ فعسى الله بدعائكما المجاب - إن شاء الله - أن يكتب هذا الجنين من السعداء، ومن أهل الجنة.
وأبدأ ردي على سؤالك بقول ماري كوريللي؛ إذ تقول: "ما من مجتمع راق خير استطاع أن يصل إلى تحقيق المثل العليا إلا اشتركت في تحقيقه ورفع صرحه أم عظيمة"، ويقول جورج هربرت: "أم صالحة خير من مئة أستاذ"، ولعل تلك الكلمات تمهد الطريق أمامي لأوجز إجابتي على سؤالك في جملتين - يأتي تفصيلهما لاحقاً - لتعلم أن تعليم طفلتك قواعد السلوك الطيب والقيم والأخلاق الإسلامية يتم من خلال:
- العلاقة الدافئة بين الطفلة وأسرتها.
- الحب غير المشروط الذي يمنح للطفلة وبالأخص من أمها.
لقد أصبت يا أخي حين أكدت على أن أهم 7 سنوات في حياة الطفل هي سنواته السبع الأولى التي يبنى فيها أساس هذا الصرح الإنساني الذي يكتمل بناؤه بعد ذلك بحسب قوة أساسه الذي تأسس في تلك السنوات السبع، ولعل هذا ما أكد الحديث النبوي على سبل استثماره من خلال الملاعبة، ولو تأملت الحديث معي لوجدت الأمر من النبي بأن يلاعب المربي ابنه - أي يلعب معه - ليس أن يتركه يلعب وحسب، ففي الملاعبة تقوية لأواصر الحب والمودة، والحنان والصداقة، وسبيل لتشرب الطفل الصفات الأساسية، وأخلاق من يلاعبه؛ من خلال العشرة الطيبة في لحظات اللعب المرحة المثمرة.
ومما لا شك فيه أن الطفل من سن 8 شهور وربما أقل يكون لديه ما يشبه الرادار الذي يلتقط ما حوله من مشاعر وانفعالات، ويحسها ويتجاوب معها حتى قبل أن ينضج عقله، وهو ما يظهر في نظرات عينيه لمن حوله، والتي تنطق عنه قبل لسانه؛ إذن فدوركما أنت وأم الطفلة هو توطين المحبة في بيتكما، وغمر طفلتكما بها وبالحنان والرفق، وبذلك تمهدان الطريق لتلقي كل توجيهاتكما؛ فالمحب لمن يحب مطيع، وكذلك فان إشعار الطفلة بكونها مرغوبة ومحبوبة وأن من حولها يسعون لإسعادها يجعلها تبادلهم نفس الشعور، فتكون أذن خير لهم.
ولعل هناك نقطة مهمة لا بد من اقتحامها بشكل أو بآخر وهي وجود مسئوليات ستداهمكما أنت وأم الطفلة في غضون شهور، وقد تثقل على كاهل الأم بالأخص؛ وهو ما يعيق ما تحدثنا عنه من دفء العلاقة التي يجب أن تحاول الأم الحفاظ عليها بفصل مشكلاتها وإحباطاتها، وكل ما يعوق استمتاعها بأمومتها؛ عن تلك العلاقة القوية، وقد تحتاج الأم بالتنسيق معك لوضع خطة دقيقة لمواجهة ما قد يواجهها من عقبات بسبب غيرة الطفلة من المولود الجديد، وستجد تفاصيل تعينكما على رسم تلك الخطة وتوزيع الأدوار فيها على كليكما فيما يلي:
- علاج الغيرة بإعادة ترتيب الأولويات.
- احموا أبناءكم من الغيرة.
ويبقى أمر مهم في مسألة تربية الطفلة على الخلق القويم ألا وهو: القدوة، فعندما يكون الوالدان نموذجاً للأخلاق من الحلم والعفو، والتعاملات الطيبة مع الناس فلا شك أن هذه الأخلاقيات والسلوكيات ستنطبع على الطفلة بشكل أو بآخر، كما أن حبها لكما - كما أسلفنا - سيدفعها دفعاً لاستمثالها، وتقليد من تحبهم.
أما بالنسبة لإرضاع الطفلة أثناء الحمل فالأمر يحتاج لمراجعة طبيبة أمراض النساء التي تتابع حمل زوجتك وحالتها الصحية، كذلك لا بد من مراجعة طبيب الأطفال لينصح بالأمثل لفطام الطفلة.
ولا شك أن الإنترنت حافلة بمقالات ومواقع وكتب عن التربية يمكن أن تفيدك في مزيد من الأفكار والتفاصيل ولتطبيقات للوصول إلى ما تبغي، وتجد بعضاً منها فيما يلي:
- مجلة ولدي.
- واحات تربوية.
وأخيراً أخي الفاضل أرجو أن نكون قد أفدناك بما يلزم، وفي انتظار متابعتك لنا بمزيد من الاستفسارات والأخبار، وشكراً جزيلاً لك، ويمكن للأم الاطلاع على ما يلي لمزيد من الخبرات عن العناية بالطفل وحسن تربيته:
- حسن التربية.. سؤال كل أم جديدة.
- دليلك إلى عالم الوالدية.
- تساؤلات سنة أولى تربية.
- دعي فطرتك تجاه طفلك تنطلق.
المصدر : http://www.islamonline.net/Taصلى الله عليه وسلمbia/Aصلى الله عليه وسلمabic/display.asp?hquestionID=4489
ـــــــــــــــ(1/65)
أطفالنا بين غياب القدوة وتفريط الراعي (وإهمال الأمانة)
تأسرني رؤية طفل بكامل براءته التي فطره الله عليها، ولكن هيهات أصبحت رؤية هؤلاء نادرة أو قليلة، فقد اغتلنا تلك البراءة، وشوهنا معالمها بأمور كثيرة قد يكون أقلها: الهيئة، واللباس، والتقليعات.
لذا نعرض هنا بعض النماذج لإهمالنا وتفريطنا في تربية أطفالنا، وفهم عالمهم، والتعامل معه؛ علَّنَا نعالج السبب والمسبب للاغتيالات المتكررة للراحلة براءة.
نماذج:
* أطفالنا جُلهم إن لم نقل كلهم يكذبون!! كيف تعلموا الكذب، وكيف عرفوا تزييف الحقائق وقد وُلِدُوا على الفطرة! بكل بساطة يا سادة إنهم يستمعون للتناقض والتزييف من والديهم أو أحدهما فيثمر التعليم، والغرس ينتج.
* من الأطفال من يتلفظ كثيراً بألفاظ نابية أو قذرة، ولا يجدون من يمنعهم أو يوجههم، بل يقابلون بالابتسامة، والإعجاب على الفصاحة وطلاقة اللسان ولو بسيئ الألفاظ.
* البعض الآخر من أطفالنا تعلقت نفوسهم بسماع الغناء، ومتابعة المسلسلات.. من السبب؟ وكيف تعودوا عليها! كان عندي طفلة تتأخر في الحضور للحلقة، سألت أختها يوماً: لم تتأخر أختك ولا تحضر معك!! قالت: أتيت وهي تشاهد المسلسل، وستأتي بعد أن ينتهي!
من علمها؟ من عودها! من وجهها؟ من رباها؟ من أدبها وحفظها عما يخدش براءتها!
* يترك الأطفال بل قد يرغمون على البقاء أمام جهاز الرائي أو الفيديو لمشاهدة الرسوم المتحركة؛ بما في بعضها من اغتيال لبراءتهم، ولما في بعضها الآخر من إعاقتهم عن مزاولة نشاطهم الطبيعي وحركتهم ولهوهم البرئ الذي يكون أحياناً كثيرة من أسباب قتل الإبداع والنبوغ والتفكير.
* بعض الأطفال قد ينعم الله عليهم في مقابل فساد أهليهم أو إهمالهم بمعلمين ومعلمات صالحين وصالحات، ويؤدون أدوارهم التربوية والتعليمية على أكمل وجه، وبطبيعة الأطفال وفطرتهم يتقبلون ويتحمسون لما يغرس في نفوسهم وعقولهم الغضة، ولكن المشكلة تكمن في عودتهم لمنازلهم، ورؤيتهم المتناقضات بين ما تعلموه من خلق ودين وعلم، وبين ما يرونه من أهليهم من تجاوز وتعدٍ لكل ما غرس معلميهم في أنفسهم الوقوف عنده، وعدم تجاوزه، وطبعاً هم يرون والديهم قدوتهم ومثلهم الأعلى؛ فبهذه التناقضات يعيش الطفل في دوامة ومتاهة لا أول لها ولا آخر، متذبذب حائر، لا استقرار لتفكيره، ولا ثقة ولا اطمئنان لمن حوله، وقد واجهنا تساؤلات الأطفال البريئة عن التناقضات التي يعيشونها ما بين (المنزل) الأسرة؛ والتي تناقض تصرفاتها المدرسة، وما يتلقون فيها من أخلاق وآداب، فما ذنب هؤلاء الأطفال ليعيشوا الازدواجية، ويعانوا منها منذ صغرهم! ولم لا نمثل لأبنائنا قدوة صالحة، ومثالاً يحتذى به أو على الأقل نتجنب فعل السوء ولو أمامهم فقط.
تقول إحدى الأخوات: كانت تأتيهم ابنة جارتهم الصغيرة وتمكث عندهم وقتاً من كل يوم، ولمّا لاحظت هذه الصغيرة أن هذه الأخت لا تشاهد الرائي سألتها مستنكرة عن السبب، فأخبرتها أنها لا تشاهده لأن الله لا يريد أن نشاهده ونسمع ما يكون فيه من موسيقى وغناء، وقد أعدّ لنا في الجنة أفضل منها إذا تركناها، المهم أن الطفلة علقت بمخيلتها الكلمات، وتذكرت منزلها والتناقض بين من كانت تراهم قدوتها وبين ما سمعت من هذه الأخت!! عادت الطفلة لمنزلها، وفي المساء كان أقاربها الشباب مجتمعين أمام الرائي، ويقلبون في القنوات الفضائية بصخبها، وضجيجها، ومنكراتها؛ فدخلت عليهم الطفلة تصرخ فيهم، وتنادي بإغلاق الجهاز، حاولوا ثنيها ولكنها ألحت، وكانت تقول لهم: حرام والله سيغضب منا، ولن ندخل الجنة، وهم يهدئونها ويحاولون إسكاتها ودون فائدة استمرت في إزعاجها لهم، وتساءلوا عن المصدر الذي علمت منه أن الرائي والموسيقى لا يحبها الله، فأخبرتهم بخبر جارتهم، فما كان من والدتها إلا أن اتصلت بوالدة هذه الأخت، وطلبت منها أن تُسكت ابنتها وتطلب منها أن تكف عن إخبار الطفلة بما يحبه الله وما يبغضه، وأنها أزعجتهم بإنكارها تصرفاتهم!! تقول محدثتي: وبعد ذلك لم أرها إطلاقاً، وسمعت عنها فيما بعد عندما كبرت ما لا يسر مسلم غيور.
* طفلة لم تبلغ السادسة كل حديثها عن الزواج والعريس والعروسة بغض النظر عن كونها تردد ما لا تدرك ماهيته، ولكن لم تشغل طفلة بهذه الأمور الكبيرة والتي تغتال براءتها! وتسمع التعليقات عليها يميناً وشمالاً من أقاربها بأحد الشباب المراهقين، وكانت تستنكر، وعندما سافر الشاب تأسفت عليه، وقالت: سافر قبل أن أتزوجه!!
هذا أنموذج آخر لاغتيال براءة أطفالنا، بل لانتهاكها.
* العام الماضي قرأت في منتدى الحصن النفسي موضوعاً لمعلمة تطلب فيه الحل والطريقة الصحيحة للتعامل وإنقاذ طفلة في الصف الخامس الابتدائي تتعرض لتصرفات لا أخلاقية من ابن عمها الصغير؛ والذي أظنها قالت: تعلّم هذه التصرفات من الخادمة، وهي - الطفلة - بدورها تنقلها لصديقاتها!
أرأيتم أن براءة أطفالنا تغتال وتسلب منهم بسبب أقرب الناس لهم!
فأين الوالدين؟ كيف يغفل ويترك الأبناء لتغتال براءتهم بهذا الشكل المقزز!
* يحدث كثيراً شجار وخصام بين الوالدين على مرأى ومسمع من الأطفال، والذين بدورهم تهتز ثقتهم بمصدر الأمان والثقة بالنسبة لهم، ويصبح الأمر صعب على أذهانهم كثيراً أن تستوعبه، فمن المخطئ؟ والدهم الذي يسعى لأجلهم، ويوفر لهم كل شيء،، أم والدتهم التي تحنو عليهم، وتطعمهم وتلبسهم!!
بل لا نبالغ إذا قلنا أن أكثر المشاكل النفسية للطفل سببها الوالدين؛ وخاصة الخوف والقلق الذي يكون مصدره فقدان الطفل للشعور بالأمن بين أبويه.
* عند لحظة غضب من أحد الوالدين - وغالباً الأم - يسمع الأبناء تفريغ شحنات هائلة من الشتائم، وإنكار فضل الأب وجميله طوال العمر، ووصفه بكل قبيح وسيئ، وذلك أحياناً كثيرة لحظة تهورٍ وغضب تزول سريعاً عن الأم، ولكن آثارها لا تزول في نفوس الأطفال الذين تغيرت نظرتهم المثالية لوالدهم!!
* تطالعنا بين فينة وأخرى ملابس وتقليعات غريبة صارخة لا تناسب إطلاقاً براءة أطفالنا، وتعاليم ديننا الفطرية، ومع ذلك نصر على اغتيال براءتهم وجمالهم بتكفينهم بهذه الملابس، وهنا أتساءل ما الجمال الذي يشاهده أولياء هؤلاء الأطفال بهذه التقليعات والموضات التي تغتال جمال الأطفال الحقيقي الذي يتجسد ببراءتهم ولو كان لباسهم يخلو من الغرابة والتقليعات!
* اصطحاب كثير من الأسر لأطفالها في أماكن الفساد واللهو، وإطلاعهم على الفساد، وتعويدهم عليه منذ الصغر، كما أننا نخطئ كثيراً باصطحاب الأطفال للمناسبات أو الحفلات الاجتماعية التي تخالف تربيتنا لأطفالنا، والتي تولد بعقولهم تناقضات بين ما يرون وما يغرس في نفوسهم، فحفلات غناء ورقص وعري وضياع وقت ماذا ستكون نتائجها وآثارها على الأطفال؟
المصدر : http://www.صلى الله عليه وسلمiyadhedu.gov.sa/alan/fntok/dawh/0/0/047.htm
ـــــــــــــــ(1/66)
القدوة .. وبكاء حكيم
محمد سعد
للقدوة الصالحة دور كبير في توجيه الناس وبناء المجتمع، فصفات الشخص القدوة يراها الناس فيتأثرون بها، ويتبعونه فيها؛ لأنهم رأوها صفات صالحة متميزة، وتظل صفات الشخص القدوة مؤثرة كلما استحضرها الناس بين الحين والحين، وتكون حافزاً لهم إلى الصلاح والعمل والنجاح.وقد حرص الإسلام على استثمار هذه الوسيلة، ورفع من شأن من يستحقون أن يكونوا قدوة للمجتمع، ليهتدي الناس بهداهم، ويسيرون بسيرتهم، فجاءت آيات وأحاديث تحث على الاقتداء بأهل القدوة الصالحة.
ولأن أمر القدوة خطير وعظيم، لما له من تأثير كبير في المجتمع، وفي الكبير والصغير والرجال والنساء، ولا سيما النشء والشباب؛ وضع الإسلام لنا صورة واضحة لمن يستحق أن يُرفع إلى مقام القدوة في الناس، ويستحق أن يهتدي الناس بهداهم، وبين لنا الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يتخذه الناس قدوة.
وأساس الصفات للشخص القدوة هو الإيمان والهدى والصلاح، وأولى الناس بتلك المكانة هم الأنبياء - عليهم السلام -، قال تعالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام: 90).
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: (أُولَئِكَ): هؤلاء القوم الأنبياء المذكورون قبل هذه الآية - الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحقّ، وحِفْظ ما وُكِّلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جلّ ثناؤه لذلك.
"فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ": يقول - تعالى -ذكره -: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم؛ اقتده يا محمد: أي فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه عملٌ للَّه فيه رضا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى... " (تفسير الطبري، سورة الأنعام).
وقال البغوي: ("أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ"؛ أي: هداهم الله، "فَبِهُدَاهُمُ"؛ فبسنتهم وسيرتهم "اقْتَدِهْ" -).
وقال - سبحانه - يرشدنا إلى قدوتنا وأسوتنا لكي نسير على نهجه ونهتدي بهداه: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" (الأحزاب: 21).
وأرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى نماذج من القدوة الصالحة في الدين، من الصحابة الكرام، لنتبع نهجهم ونستن بسنتهم، كما في حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود والترمذي، فوصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالراشدين المهديين إبرازاً لأساس القدوة فيهم، وهو أنهم أفضل الناس رشداً وهدى في الدين، ولذلك حث على الاقتداء بهم.
وأخرج الترمذي عَن حُذَيْفَة قَالَ: "كُنّا جُلُوساً عِنْدَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنّي لاَ أدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا باللّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي. وَأَشارَ إِلى أبي بكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمّارٍ. وَمَا حَدّثَكُم ابنُ مَسْعُودٍ فَصَدّقُوهُ"، (سنن الترمذي، حديث رقم 3959، ورقم 1233 في السلسلة الصحيحة، المجلد الثالث).
قال المباركفوري في شرح الحديث: (قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي)؛ أي بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي (أبي بكر وعمر)... أي لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما... (واهتدوا بهدي عمار)؛ أي ابن ياسر. والهدي - بفتح الهاء وسكون الدال- السيرة والطريقة، والمعنى أي سيروا سيرته، واختاروا طريقته، وكأن الاقتداء أعم من الاهتداء حيث يتعلق به القول والفعل، بخلاف الاهتداء فإنه يختص بالفعل).
قال المناوي: (وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فُطروا عليه من الأخلاق المرْضية... فلذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء).
القدوة في مجتمعاتنا المعاصرة:
وعلى الرغم من خطورة شأن القدوة، وأنه لا يصح أن يوضع في مقام القدوة إلا أهل الهدى والصلاح؛ تجد في مجتمعات المسلمين فئات من العلمانيين أو المتأثرين بالمنهج العلماني، يزيفون للناس رموزاً يعظمونها ويرفعونها إلى مكان القدوة، وهي من أكبر الشخصيات هدماً للدين، فيرفعون شخصيات، مثل: قاسم أمين الذي كان سبباً من أسباب تدهور أخلاق المجتمع حينما نادى بتحرير المرأة، أو زعامات مزيفة، مثل: كمال أتاتورك أكبر علماني في القرن العشرين سعى في هدم الدين ومحوه، ومع هذا تجد الفئات العلمانية المتسلطة في تركيا تجعله رمز الحرية والانتصار والشجاعة والقدوة.
وتجد كثيراً من المستشرقين خصوصاً - والغرب عموماً - يرفعون من شأن شخصيات ضالة أو ذات منهج منحرف، سواء من الماضي أو الحاضر، ويعيدون نشر تراثها ليفتحوا بها باب فتنة على المسلمين، وتصير هي القدوة في حياتهم وثقافتهم، ويجعلون منها العلامات البارزة في تاريخ الأمة الثقافي أو الأدبي وغيره، فتجدهم يرفعون مثلاً من شأن الحلاج، وجماعة إخوان الصفا، والمعتزلة، وابن عربي، والسهروردي، ويصورونهم كأنهم أعلام الأمة، ويتجاهلون في الوقت نفسه أعلام الأمة من أهل الفضل والعلم والصلاح، وقد يتعمدون تشويه صورتهم وإثارة الشبه حولهم.
وقد تأثر بالمستشرقين عدد من الباحثين والأدباء العرب وغيرهم، فساروا على نهج المستشرقين في تعظيم تلك الشخصيات والجماعات، ولم يتخذوا منهجاً علمياً منصفاً في وزن تلك الشخصيات والتيارات، يميز الخبيث من الطيب للناس، بل عملوا برأي المستشرقين مباشرة، فتجد مثلا كاتباً أديباً يؤلف مسرحية لتخليد ذكرى الحلاج الحسين بن المنصور الذي قتل بسبب قوله: "أنا الحق" يقصد الله، ويُظهره فيها بمظهر المظلوم المقهور، وعرضت هذه المسرحية عدة مرات. وكما حاول بعضهم إبراز ابن رشد الفيلسوف في فيلم، مسقطاً قصته مع العلماء على الواقع، ومصوراً علماء الدين في صورة المتحجر المتعصب الذي يكره انطلاق الفكر وتحرير العقل.
وفي جانب آخر، وهو جانب الثقافة الشعبية الاجتماعية، تجد اليوم أهل الغناء والتمثيل والتهريج، هم الذين يوضعون رغماً عن الناس في مكان القدوة، فحياة الممثل ومأكله ومشربه وملبسه وأول أخباره وآخر أخباره، وعلاقاته الغرامية.. حتى موته، هي الأمور التي ترفع في مكان القدوة للناس في كثير من وسائل الإعلام. وصار السؤال الذي يوجه في المجلات ووسائل الإعلام في ختام برامج الحوار: من هو ممثلك المفضل؟ من هو المغني أو المغنية المفضلة عندك؟ ولم يقف العبث عند هذا الحد بل تجد لدى بعض الشباب القدوة شخصاً من فسقة الكفار وماجنيهم.
والخطير في ذلك ليس مجرد تشبه الشباب بهذا الممثل أو ذاك المغني أو تلك المغنية في الملبس والشكل، بل هو وضع هؤلاء في مكان ذي الرأي والمشورة فيؤخذ برأيه أو رأيها في كل شيء حتى في الأحكام الشرعية.
صناعة.. القدوة:
كان الناس في الماضي يعرفون القدوة الصالحة بعلمه أو صلاحه أو حسن سمته وأخلاقه، وكان هذا هو المعيار والميزان في معرفة القدوة من غيره، ولذلك قلّ انخداع الناس بالقدوات المزيفة والمزورة في الماضي.
وأما بعد التقدم الذي أحرزته البشرية في وسائل الاتصال والإعلام، فقد تغيرت الأحوال كثيراً، وصار عدد غير قليل من وسائل الإعلام ببريقها ومؤثراتها الكثيرة القوية تزيف الحقائق، وتصنع من الرموز ما تريد، عن طريق التلميع الإعلامي الخادع، فترفع من ترغب في رفعه ولو كان فاسقاً من أرذل الناس، وتضع من ترغب في وضعه ولو كان تقياً من أفاضل الناس.
وهذه ورطة كبيرة للأجيال الناشئة، حيث يقفون حائرين بين تلميع الإعلام لشخصيات فاسدة، وبين ما يسمعونه من حقيقة تلك الشخصيات، ولا يجدون من يدلهم على المعايير الصحيحة للقدوة، ويميز لهم الصالح من الطالح من بين هذا الكم العظيم من الركام الإعلامي من النجوم والمشاهير.
حماية منزلة القدوة..
القدوة تؤثر في قطاع كبير من الناس، فهي محرك نفسي عظيم في المجتمع، لا يقل دوره عن باقي العوامل المشاركة في بنية المجتمع وتقدمه، فحينما نضع أمام المجتمع الشخصيات الصالحة والناجحة ليقتدي بها الناس، فسيعود ذلك على المجتمع بتأثير إيجابي كبير، فيكثر الصالحون والعلماء والناجحون ويقوى المجتمع ويتقدم؛ وحينما تكون القدوة من أهل الفساد والسفهاء والفساق وأهل المجون؛ فسيكثر الفساد، وتتربى الأجيال على شاكلة النماذج التي اتخذوها قدوة، فيزداد المجتمع ضعفاً، وتتسارع إليه عوامل الانهيار.
ولذا فمسؤولية المجتمع كبيرة في حماية مكانة القدوة، وقصرها على أهلها من الصالحين، ورفض كل قدوة سيئة وحماية الأجيال منها، فلا ينبغي إذن أن نترك تلك المكانة الشريفة والمنزلة الرفيعة لأهل الفساد يعبثون بها كما يشاؤون، والموقف الإيجابي إزاء ما نراه من عبث بهذه المنزلة هو تفعيل عملية الإحياء لمكانة القدوة الصالحة، وبذل مزيد من الجهد في إبراز قدوات الأمة الحقيقيين، من الأنبياء والصالحين، ومن أهل الصلاح والتقوى، ومن أهل الخير والنفع وتقديم الخدمات الجليلة للأمة، ومن أهل العلم في كل مجال من دين وطبيعة وطب، وإبرازه صفاتهم ومميزاتهم وهديهم، بشتى وسائل المعرفة والاتصال بالناس من كتب وصحف وبرامج وغيرها، ولا سيما الموجهة إلى النشء.
وفي الوقت نفسه نجتهد في التحذير من تلك الجهات التي ترفع من شأن المنحرفين، من صحف ومجلات وقنوات، حتى لا يتمكن أهل الفساد من الوصول إلى منزلة القدوة في المجتمع، كما تشير بذلك الآية الكريمة في قوله - تعالى -: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة: 124).
قال ابن جرير: "قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ": هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماماً يقتدي به أهل الخير؛ لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به... "، (تفسير الطبري، سورة البقرة).
حكيم بن حزام - رضي الله عنه - يبكي بسبب القدوة الفاسدة:
إن أثر القدوة الفاسدة خطير، فقد يضل من يتبع القدوة الفاسدة ويقلدها، أو تؤدي به إلى التأخر أو التخلف عما فيه خيري الدنيا والآخرة، وضياع العمر والوقت، قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "لا يزال الناس بخير ما أَخذوا العلم عن أَكابرهم، فإِذا أَتاهم من أَصاغرهم فقد هلكوا"، قيل: "الأَكابر أَهل السنّة، والأَصاغر أَهل البدع. قال أَبو عبيد: ولا أُرى عبد الله أَراد إِلا هذا".
وقد بكى حكيم حزام - رضي الله عنه - يوماً على أنه اتبع قدوات سيئة كانت في مجتمعه، وأضاعت عليه خيراً كبيراً، وفاتته فرصة عظيمة، وهي شرف الإسلام مع من أسلم مبكراً، قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: "إن حكيم بن حزام بكى يوماً، فقال له ابنه: ما يبكيك؟ قال: خصال كلها أبكاني، أما أولها: فبطء إسلامي حتى سُبقت في مواطن كلها صالحة... وذلك أني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان رجال كبار السن - متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية؛ فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا، فلما غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة جعلت أفكر...فجئته فأسلمت يعني أسلمت متأخراً " (صفحة: 162).
15/3/1426هـ
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/67)
القدوة ... القدوة !!
عبد الله البصري
ونحنُ نَستَعِدُّ لاستِقبالِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ، قَد هيَّأنا لأبنائِنا فيه كُلَّ ما يحتاجونه مِن مُستلزماتٍ دِراسيةٍ، مِن كُتُبٍ ودفاتِرَ وأقلامٍ ونحوِها، فَإِنَّ هاهُنا تساؤلاً قد يَرِدُ على أَذهانِ كثيرٍ مِنَ الآباءِ: لماذا نَستَعِدُّ في أولِ كلِّ عامٍ ونَبذُلُ ونُنفِقُ، ونُوَفِّرُ لأبنائِنا طُوالَ العامِ كلَّ ما يَطلبون، ثم نُفاجَأُ بِأَنَّ النتائجَ في نهايةِ كُلِّ فصلٍ أَضعفُ مِنَ الذي قَبلَهُ؟ ولماذا يَبدَأُ عَدَدٌ مِنَ الأبناءِ مَسيرتَهُ التَّعلِيمِيَّةَ مِنَ المتفوقين، ثم لا تمرُّ به الأعوامُ إلا وَينقُصُ تفوُّقُهُ ويَقِلُّ نَشَاطُهُ، حتى إِنه قد يُصبِحُ بَعدَ النجاحِ مخفِقًا، وبَعدَ التفوقِ مُقَصِّرًا؟ وَمَعَ أَنَّ لهذا الأمرِ أسبابًا كثيرةً مُعقَّدَةً، يحتاجُ الكلامُ عليها وتفصيلُها بحثًا طويلاً ودراسة مفصلة، إِلاَّ أَنَّ هَاهُنا مَسأَلَةً مُهِمَّةً يَنبغِي التَّنَبُّهُ لها، بل هي قاعدةٌ تربويةٌ يجبُ أَن يَعِيَها الآباءُ والأولياءُ، قَبلَ أَن يُطالِبُوا أَبناءَهم بِتَشَرُّبِ مَا يُلقِيهِ عليهم مُعلِّمُوهُم، والتِهَامِ ما يَطَّلِعون عليه في كُتُبِهِم، والنجاحِ في حياتِهِم ومُستَقبَلِ أَمرِهِم، تلكم هي مَسألةُ وُجُودِ القُدوةِ الحسنةِ، وَتَوَفُّرُ النموذجِ الحيِّ الذي يُحتذَى.
إِنَّ المعلوماتِ والقَوَاعِدَ التي يتلقَّاها الأبناءُ في محاضِنِ التربيةِ وَأَماكِنِ التعليمِ، تَبقَى رَسُومًا جَامِدَةً لا حَيَاةَ فيها ولا حِرَاكَ، فإذا هَيَّأَ اللهُ لها مَن يَنفُخُ فيها رُوحَ التَّطبيقِ مِن أبٍ أو أخٍ كبيرٍ، آتَت ثمارَها وظَهَرَت آثارُها، وَرَسَخَت في أذهانِ الطلابِ وعُقُولِهِم رُسُوخَ الجبالِ الراسيةِ، وَأَمَّا إِذَا كان المعلمون يَبنُونَ كُلَّ يَومٍ لَبِنَةً ـ وهي وللأسفِ ضَعِيفةٌ ـ ثم يَهدِمُ المجتمعُ أَلفَ لَبِنَةٍ بما يَرَاهُ المتعلمُ عَلَيهِم مِن مخالفاتٍ لما تَعَلَّمَه، فَأَنَّى لِبُنيانِ العِلمِ يَومًا أَن يَقومَ ويَرتَفِعَ؟ وَكيفَ لِصرحِ الأَخلاقِ والآدَابِ أَن يَصلُبَ ويَشتَدَّ؟
متى يَبلُغُ البُنيَانُ يَومًا تَمَامَهُ *** إِذَا كُنتَ تَبنِيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ
أَرَى أَلفَ بَانٍ لا تَقُومُ لِهَادِمٍ *** فَكَيفَ بِبَانٍ خَلفَهُ أَلفُ هَادِمِ
كَيفَ يحافِظُ الولدُ على الصلاةِ وَأَبوهُ لها مِنَ المهملين؟ كيف يخِفُّ لأداءِ صلاةِ الفجرِ مَعَ الجماعةِ وأبوه عنها مِنَ المتكاسلين؟ متى يَتَعَلَّمُ الصِّدقَ في القَولِ والوَفَاءَ بِالوَعدِ ، وهو يَرَى وَالِدَهُ يَكذِبُ ويخُلِفُ؟ متى يَعي حُرمَةَ الغِشِّ وَوَالِدُهُ يَغُشُّ في بَيعِهِ وشِرائِهِ ومعاملاتِهِ؟ وَمَن هذا الطالبُ الذي سَيُكرِمُ جَارَهُ، وَوَالِدُهُ وجارُهُ مُتلاحِيَانِ مُتَخَاصِمَانِ ؟ وَأَيُّ طَالِبٍ سَيُطَبِّقُ مَا تَعَلَّمَهُ عَن صِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَبوهُ مُصارِمٌ لأَخيهِ مُقاطِعٌ لِبَني عَمِّهِ وأقاربِهِ؟ وهل سَيَعرِفُ أبناؤُنا حُقُوقَ إِخوانِهِم المسلمين، أو يقدرون أَنظِمَةً ويَعمَلُون بِتَعلِيمَاتٍ، أو يحافظون على مُقَدَّراتٍ، وَنحنُ نُعَوِّدُهُم عَلى أَضدَادِ ذلك؟!! إِنَّهُ لأَمرٌ يَتَقَطَّعُ منه القَلبُ أسًى، أَن نَكونَ ـ نحنُ الأَوليَاءَ ـ أَوَّلَ العَقَبَاتِ التي يَصطَدِمُ بها أَبناؤُنا بَعدَ خُرُوجِهِم مِن مُؤَسَّسَاتِ التعليمِ ومَعَاهِدِ الدِّرَاسةِ، حتى لَكَأَنَّنَا نَقُولُ لهم بِلِسانِ حَالِنا: يَكفِيكُم حِفظُ مَا تَعَلَّمتُمُوهُ في عُقُولِكم، ثم تفريغُهُ على أوراقِ الإجابةِ في الاختباراتِ، ولا يهمُّنا بَعدَ ذلك طَبَّقتُمُوهُ أَم أَهملتُمُوهُ!!
وَأَمَّا حِينَ يَكونُ المعلمُ هو أَوَّلَ الهادِمِينَ، بما يَلحَظُهُ طلابُهُ مِن فَرقٍ بَينَ مَا يَقُولُهُ في المدرسةِ وما يَعملُهُ خارجَها، وبما يَرَونَهُ مِن مُفَارَقَاتٍ بَينَ أَوَامِرِهِ المِثالِيَّةِ مُعَلِّمًا في الفصلِ، وَتَصَرُّفاتِهِ المُغايِرَةِ مُوَاطِنًا يمشِي في الشَّارِعِ أو في السوقِ، وكأنه لا يَعرِفُ ممَّا كان يُلقِيهِ في دُرُوسِهِ شَيئًا، فَإِنَّ تِلكَ هي أَكبرُ خَطِيئةٍ يَرتكِبُها في حَقِّ مجتمعِهِ، وَأَعظَمُ ذَنبٍ يَقترِفُهُ ويُهَوِّنُُ على طلابِهِ اقترافَهُ.
يا أيها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ *** هَلاَّ لِنَفسِكَ كان ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَا *** كَيمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
وَنَرَاكَ تُصلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا *** أَبَداً وَأَنتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانهَهَا عَن غَيِّهَا *** فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقتَدَى *** بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَّعلِيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ *** عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
إِنَّهُ مَا لم يَكنْ هُنَاكَ تَوَافُقٌ بَينَ العِلمِ وَالعَمَلِ، وَتَنَاغُمٌ بَينَ التَّنظِيرِ وَالتَّطبِيقِ، وَبِيئَةٌ داخلَ المدرسةِ وخارجَها يَتَهَيَّأُ لِلمُتَعَلِّمِ فيها شَوَاهِدُ حيَّةٌ على إِمكانِيَّةِ تحقُّقِ مَا تَعَلَّمَهُ وَاقِعًا مَلمُوسًا، فَلَن يَزيدَنَا التَّعلُّمُ حِينَئِذٍ إِلاَّ مَقتًا لأَنفُسِنَا، شَاهِدُ ذلك في كِتابِ رَبِّنا، إذ يَقولُ ـ - سبحانه - ـ: " يَا أيها الذين آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ. كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُون " لَقَد كان كثيرٌ مِن أَجدَادِنا وَآبائِنا وَهُم على جَانِبٍ مِنَ العِلمِ قَليلٍ، كَانوا خَيرًا مِن كَثِيرٍ مِن أَبنائِنا اليَومَ، الذين لا نُسَمِّيهِم مُتَعَلِّمِينَ، وَلَكِنْ يحِقُّ أَن نَسِمَهُم بِأَنصَافِ المُتَعَلِّمِينَ، لأنهم اكتفوا مِنَ العِلمِ بِحِفظِهِ، وَمِن قَوَاعِدِهِ بِاستِظهَارِهَا ، ولم تحظَ أَرضُ الوَاقِعِ مِنهُم بِتَطبِيقٍ وتحقِيقٍ.
فَيَا أيها الآباءُ والأولياءُ والمعلمونَ،، القُدوَةَ القُدوَةَ، وَيَا أيها الأَبناءُ، التَّطبِيقَ التَّطبِيقَ لما تَعَلَّمتُم، فَإِنَّ قليلاً مِنَ العِلمِ مَعَ العَمَلِ وحُسنِ الأَدَبِ، خيرٌ مِن كثيرٍ مِنَ العِلمِ بِلا عَمَلٍ، وَ مَا نَقَصَ اليَهودَ عِلمٌ إِذْ مَقَتَهُمُ اللهُ وغَضِبَ عَلَيهِم، وَإِنما لأنهم عَلِمُوا فَلَم يَعمَلُوا، وَتَعَلَّمُوا فَلَم يُطَبِّقوا، وَعَرَفُوا فَلَم يَلزَمُوا، بل تحايَلُوا على مخالَفَةِ الأَوَامِرِ وارتكابِ النواهي، وَاقتَرَفوا المَعَاصِيَ وهُم يَعلَمُونَ.
أيها الآباءُ والمعلمون، إِنَّ الأبناءَ يُولَدُونَ وَهُم على الخيرِ مَفطُورُونَ، وَعَلَى اتِّباعِ الحقِّ مجبولُون، قُلُوبُهُم طَاهِرَةٌ ، وَصُدُورُهُم مُنشَرِحَةٌ، وَنُفُوسُهُم على الخيرِ مُقبِلَةٌ، ونحنُ الذينَ نملِكُ تَثبِيتَ تِلكَ الفِطرَةَ أَو تَغيِيرَهَا، قال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: " كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يمُجِّسَانِهِ أَو يُنَصِّرَانِهِ " فَمَاذَا نحن فاعلون؟! هل سَنعمَلُ على تَثبِيتِ فِطرَةِ اللهِ التي فُطِرَ أَبنَاؤُنا عَلَيهَا بجَعلِ أَنفسِنا قُدوَةً لهم في الخيرِ وتَسييرِهِم على الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ؟ أَم سَنترُكُهُم يَتَّبِعُونَ السُّبُلَ المُغوِيَةَ المُضَلِّلَةَ فَتَفَرَّقَ بهم عن السَّبِيلِ؟
أيها الأبُ الكريمُ والوالدُ الرحيمُ، إِنَّكَ لا تَتَعَامَلُ مَعَ بهائمَ في مَشرُوعِ تَسمِينٍ، فَتَكتَفِي بِمَلءِ بُطُونِ أَبنَائِكَ وَكُسوَتِهِم وتَوفِيرِ المأوى لهم، وَلستَ جَلاَّدًا تَلجَأُ إِلَيكَ الأُمُّ حِينَمَا تَعجِزُ عَن أَبنَائِهَا، لِتَصُبَّ جَامَ غَضَبِكَ عَلَيهِم، لَكِنَّكَ مُرَبٍّ فَاضِلٌ وَمُوَجِّهُ قَدِيرٌ، أَو هَكَذَا يجِبُ أَن تَكونَ، بَل إِنَّكَ أَنتَ المعلِّمُ الأَوَّلُ والمُربِّي الأَسَاسُ، وَإِذَا أَنتَ لم تُحسِنِ التَّربِيَةَ وَالتَّأدِيبَ لأَولادِكَ وهم لا يَتَجَاوَزُونَ خمسَةً أو سِتَّةً، فَلا تَلُمْ مُعَلِّمًا يُدَرِّسُ في الفصلِ عِشرِينَ طالبًا أو ثلاثِينَ، أو مُدِيرًا في مَدرسَتِهِ عَشَراتٌ مِنَ الطلابِ، هُم مِن بُيُوتٍ مختلفةٍ، وَنِتَاجُ تَربِيَاتٍ مُتَغَايِرَةٍ، فِيهِم الكبيرُ والصغيرُ، وَمِن بَينِهِم وَلَدُ الغَنيِّ وابنُ الفَقِيرِ، وفِيهِم مَن فَقَدَ أُمًّا أَو أَبًا، وَمِنهُم المَرِيضُ أَو المُصابُ، فَاعرِفْ دَورَكَ وَافهَمْ مُهِمَّتَكَ، كُن بِأَبنَائِكَ رَحِيمًا شَفِيقًا، وفي تَعَامُلِكَ مَعَهُم وَدُودًا بَشُوشًا، قَوِّ العِلاقَةَ بَينَكَ وبَينَهُم، وَاشدُدْ حِبالَ الأَوَاصِرِ بهم، رَبِّهِم قَبلَ أَنْ تُطالِبَ غَيرَكَ بِتَربِيَتِهِم، ولُمْ نَفسَكَ قَبلَ أَن تَلُومَ الآخَرِينَ، صَاحِبْهُم وَحَافِظْ على فِطَرِهِم سَلِيمَةً وَأَخلاقَهُم حَسَنَةً، قَبلَ أَن يَتَلَقَّفَهُم أَصدِقاءُ السُّوءِ وَأَصحَابُ الفَسَادِ، فَيُغَيِّرُوا فِطَرَهُم وَيَعِيثُوا بِأَخلاقِهِم، تَذَكَّرْ أَنَّكَ أَنتَ المَسؤُولُ الأَوَّلُ عَنهُم قَبلَ المدرسةِ ومن فيها، يَقولُ اللهُ ـ - سبحانه - ـ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ " ويقولُ ـ - سبحانه - ـ: "وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسْأَلُكَ رِزقاً نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" ويقولُ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: "كُلُّكُم رَاعٍ وكُلُّكُم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ" ويقولُ: "كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضَيِّعَ مَن يَعُولُ" ويقولُ: "إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَجُلٍ عَمَّا استرعَاهُ أحفِظَ ذلك أَم ضَيَّعَهُ حتى يَسأَلَ الرَّجُلَ عَن أَهلِ بَيتِهِ" ويقولُ: "مُرُوا أَولادَكم بِالصَّلاةِ لِسَبعٍ وَاضرِبُوهُم عليها لِعَشرٍ".
إنَّكم ـ أيها الآباءُ ـ لم تُقَصِّرُوا في وَاجِبِ النَّفَقَةِ على أَبنَائِكم، لا في طَعَامٍ ولا كِسَاءٍ، ولا مَأوًى ولا دَوَاءٍ، رَبَّيتُمُ الأَجسَادَ وَسمَّنتُمُ الأَجسَامَ، أَركبتُمُوهُمُ السَّيارَاتِ، وَملأتم جُيُوبَهُم بِالرِّيَالاتِ، وَأنتُم على ذلك إِذَا اقتصدتم وَتَوَسَّطتُم مَأجُورُونَ مُثابون، قال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: "أَفضَلُ دِينَارٍ يُنفِقُهُ الرَّجُلُ دِينارٌ يُنفِقُهُ على عِيَالِهِ، ودِينارٌ يُنفِقُهُ على دَابَّتِهِ في سَبِيلِ اللهِ، وَدِينارٌ يُنفِقُهُ على أَصحَابِهِ في سَبيلِ اللهِ" رواه مسلمٌ، وَلَه مِن حَدِيثِ أبي هُريرةَ ـ - رضي الله عنه - ـ: " دِينارٌ أَنفقَتَهُ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ أنفقتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقتَ بِهِ على مِسكِينٍ، ودِينارٌ أَنفقتَهُ على أَهلِكَ، أَعظَمُها أَجرًا الذي أَنفَقتَهُ على أَهلِكَ " فَأَللهَ أَللهَ في الأَهَمِّ والأَسمى، أَللهَ أَللهَ في الأَثبَتِ وَالأَبقَى، أَللهَ أَللهَ في تَربِيَةِ العُقُولِ وَإِصلاحِ القُلُوبِ، الأَروَاحَ الأَروَاحَ فَزَكُّوها، القُدوَةَ القُدوَةَ فَوَفِّرُوها، الأَخلاقَ الأَخلاقَ فَهَذِّبُوها، الآدَابَ الآدَابَ فَعَلِّمُوها.
يَا خَادِمَ الجِسمِ كَم تَسعَى لِخِدمَتِهِ *** أَتعَبتَ نفسَك فِيمَا فِيهِ خُسرَانُ
أَقبِلْ عَلى الرُّوحِ فَاستَكمِلْ فَضَائِلَهَا *** فَأَنتَ بِالرُّوحِ لا بِالجِسمِ إِنسانُ
رَبُّوا أَبنَاءَكُم قَبلَ التَّعلِيمِ، وَأَدِّبُوهُم قَبلَ التَّفَقُّهِ، فَإِنَّهُ لا عِلمَ إِلاَّ بَعدَ تَربِيَةٍ حَسَنَةٍ وَأَدَبٍ جَمٍّ، وَهَذَا رَبُّكُم ـ - جل وعلا - ـ يُخاطِبُ كَلِيمَهُ مُوسَى - عليه السلام - فَيَقُولُ: " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعلَيكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى. وَأَنَا اختَرتُكَ فَاستَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعبُدْني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي " لَقَد عَلَّمَهُ - سبحانه - أَدَبَ المَكَانِ فَقَالَ: " اِخلَعْ نَعلَيكَ " وَعَلَّمَهُ أَدَبَ الحدِيثِ فَقَالَ: " فَاستَمِعْ لما يُوحَى " ثم أَوحى إِلَيهِ بِأَجَلِّ عِلمٍ وَأفضَلِ فِقهٍ، وهو التَّوحِيدُ والشَّرِيعَةُ فَقَالَ: " إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعبُدني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي " وَهَذِهِ أُمُّ الإِمامِ مالكِ بن ِأنسٍ ـ رحمةُ اللهِ عليه وعليها ـ لما أرادت لابنِها أَن يَطلُبَ العِلمَ أَلبَسَتهُ أَحسَنَ الثِّيَابِ، ثم أَدنَتهُ إِلَيها وَمَسَحَت على رأسِهِ، وَقَالَت: يَا بُنيَّ، اِذهَبْ إلى مجالسِ رَبِيعَةَ، وَاجلِسْ في مجلسِهِ، وَخُذْ مِن أَدَبِهِ وَوَقَارِهِ وَحِشمَتِهِ قَبلَ أَن تَأخُذَ مِن عِلمِهِ.. - فَرحمها الله - مَا أَعقَلَهَا! عَلَّمَتهُ الأَدَبَ قَبلَ أَن يجلِسَ في مجلِسِ الطَّلَبِ. وهكذا يجِبُ أَن يَكونَ الوَالِدَانِ لابنِهِمَا، يُعَلِّمَانِهِ الأَدَبَ مَعَ مُعَلِّمِيهِ وفي مدرستِهِ، لا أَن يجعلا بَينَهُ وبَينَ ذلك سَدًّا بما يَسقِيَانِهِ مِن مَسَاوِئِ الأَخلاقِ، أو يُقِرَّانِهِ عليه مِن مَرذُولِ الطِّباعِ وَقَلِيلِ الأَدَبِ.
إِنَّنا إِذَا استَطَعنَا أَن نُعَلِّمَ أَبنَاءَنَا الأَدَبَ مَعَ مُعَلِّمِيهِم، وَأَن نَغرِسَ في قُلُوبِهِم حُبَّ كُتُبِهِم واحترامَ مَدَارِسِهِم، وَأن نَصِلَ بهم إلى مَعرِفَةِ قِيمَةِ كُلِّ ذلك، فإني كَفِيلٌ لكم بِأَن تحمَدُوا السُّرَى، وَألاَّ تَذهَبَ جُهُودُكُم سُدًى، وَأَلاَّ تَشْكُوا مِن تَدَنِّي دَرَجَةٍ أَو ضَعفِ مُستَوَى، أَمَّا حِينَ نُقَدِّمُ لِلمَدَارِسِ طلابًا بِلا أَدَبٍ، طلابًا لا يَعرِفُونَ قِيمَةَ مَا هُم عَلَيهِ مُقدِمُونَ، فَإِنما نَضَعُ بَينَ أَيدِي المُعَلِّمِينَ رَمَادًا لا جمرَ فيه، فَكَيفَ نُطالِبُهُم أَن يُوقِدُوا مِنهُ نَارًا؟ وَهَل تَرَونَ نَافِخًا في الرَّمَادِ يُوقِدُ نَارًا؟ لا ـ واللهِ ـ وَلَو نَفَخَ طُولَ عُمُرِهِ. إِنَّ حَالَ مُعَلِّمٍ مَعَ طالبٍ بلا أدب كَحَالِ مَن قَالَ:
لَقَد أَسمَعتَ لَو نَادَيتَ حيًّا *** وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لمَن تُنَادِي
وَلَو نَارًا نَفَختَ بها أَضَاءَت *** وَلَكِنْ أَنتَ تَنفُخُ في رَمَادِ
نسأل اله لأبنائنا التوفيق والسداد، والنجاح في حاضر أمرهم ومستقبله، إنه جواد كريم.
http://www.saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/68)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فنحن ننتمي إلى الإسلام، وهذا الانتماء هو الذي شرفنا الله - تبارك وتعالى- به وسمانا به. ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الدعاة، وهو القدوة والأسوة والداعية المعلم الذي أمر الله- تبارك وتعالى -باقتفاء نهجه، وأن نقتدي به في عبادتنا ودعوتنا وخلقنا ومعاملاتنا وجميع أمور حياتنا، قال - تعالى -: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف: 108]، وقال - تعالى -: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب: 21]
أولا: أهمية الموضوع:
وتتضح أهمية موضوع الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة في النقاط الآتية:
1- إن الناظر في الأوساط التربوية اليوم ليلحظ قلة القدوة الصالحة المؤثرة في المجتمعات الإسلامية، رغم كثرة أهل العلم والتقوى والصلاح.
2- إن المتأمل في خضم الحياة المعاصرة يجد الأمور قد اختلطت، والشرور قد سادت، وأصبح النشء والشباب يُرددون: (نحن لا نجد القدوة الصالحة..فلماذا؟).
3- إن كثيراً من الناس اليوم بدلاً من أن يتخذوا سيرة نبيهم وقدوتهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، تراهم قد انشغلوا بالمشاهير من الممثلين أو اللاعبين، وما تراهم إلا استبدلوا
الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ثانيا: وجوب الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - :
يجب على كل مسلم ومسلمة الاقتداء والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فالاقتداء أساس الاهتداء، قال - تعالى -: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب: 21] قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه - عز وجل -" (1).
فمنهج الإسلام يحتاج إلى بشر يحمله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته، فيحوِّله إلى واقع عملي محسوس وملموس، ولذلك بعثه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج- ليترجم هذا المنهج ويكون خير قدوة للبشرية جمعاء.
لقد كان الصالحون إذا ذكر اسم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ; يبكون شوقا وإجلالا ومحبة لَهُ، وكيف لا يبكون؟ وقد بكى جذع النخلة شوقا وحنينا لما تحوَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ; عنه إلى المنبر، وكان الحسنُ إذا ذَكَرَ حديث حَنينَ الجذع وبكاءه، يقول: "يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقا إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه" (2).
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "وإنما ينفع العبد الحب لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم" (3).
ولا بد من تحقيق المحبة الحقيقية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ; وتقديم محبته وأقواله وأوامره على من سواه (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سواهما.. ) الحديث (4).
إن واجبنا الاقتداء بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وجعلها المثل الأعلى للإنسان الكامل في جميع جوانب الحياة، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ; دليل على محبة العبد ربه، وسينال محبة الله - تعالى -لَهُ، وفي هذا يقول الله - عز وجل - " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران: 31]. فسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت سيرة حية أمام أصحابه في حياته وأمام أتباعه بعد وفاته، وكانت نموذجاً بشرياً متكاملاً في جميع المراحل وفي جميع جوانب الحياة العملية، ونموذجاً عملياً في صياغة الإسلام إلى واقع مشاهدٍ يعرفُ من خلال أقوالِهِ وأفعالِهِِ فيتبع رسولَهُ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ويجعل اتِّبَاعَه دليلا على صدق محبته- سبحانه -.
كما أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به، عن عمر رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)) (5).
ولقد كان الصحابة جميعا - رضي الله عنهم - يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم - حبا صادقا حملهم على التأسي به والاقتداء واتباع أمره واجتناب نهيه؛ رغبة في صحبته ومرافقته في الجنة، قال - تعالى -: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً" [النساء: 69] وفي الحديث "المرء مع من أحب" (6).
وجاء في حديث أنس رضي الله عنه-; بلفظ قال: "شهدت يوم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فلم أَرَ يوماً أحسنَ ولا أضوأََ منه" (7)، وفي رواية: "فشهدتُه يومَ دخلَ المدينةَ فما رأيت يوماً قَط كان أحسنَ ولا أضوأَ من يوم دخل علينا فيه، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبحَ ولا أظلمَ من يوم مات فيه - صلى الله عليه وسلم - " (8).
ثالثا: أمور مهمة في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - :
- ومن الجوانب المهمة في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أن سيرته - صلى الله عليه وسلم - في إيمانه وعبادته وخلقه وتعامله مع غيره، وفي جميع أحواله كانت سيرة مثالية في الواقع، ومؤثرة في النفوس؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل؛ ولا ريب أن الإيحاء العملي أقوى تأثيراً في النفوس من الاقتصار.
على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله - تعالى -الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله - سبحانه - الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ليكون للناس أسوة حسنة يقتدون به، ويتأسون بسيرته، قال المولى - عز وجل - " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب: 21]، وقد أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالتأسي به فقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (9)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لتأخُذُوا مناسِكَكُم" (10).
وقال بعضهم في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمَامُنا *** كفى بالمطايا طِيبُ ذِكراكَ حاديا
وإن نحن أضلَلْنَا الطريقَ ولم نجدْ*** دليلا كفَانَا نُورُ وَجْهِكَ هَاديا (11)
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها أيضا في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به:
- العمل بسنته باطنا وظاهرا: مثل سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها. والسنن المؤكدة: مثل سنن الأكل واللباس والوتر وركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة..
- تطبيق السنن المكانية: الذهاب إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والصلاة في مسجده، والصلاة في مسجد قباء، والصلاة في الروضة الشريفة، وهي من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (12).
- الإكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ; كما في قوله: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) (13).
رابعا: حاجة الأمة إلى القدوات دوما بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
إن الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله - تعالى -ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله - تعالى -، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله.. هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح.
فمنذ عهد الصحابة رضوان الله عنهم- ومن تبعهم من الصالحين والعلماء والدعاة وأهل الفضل والتقى على مر العصور خلفوا سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عطائها وإيحائها وتأثيرها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، يقتدي بهم الناس في اتباع هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعمل بسنته، وبقيت سيرهم بعد وفاتهم نبراساً يضيء طريق محبيهم إلى الخير، ويرغبهم في السير على منهج الحق والهدى.
وعلى الرغم من اختفاء تلكم الشخصيات عن العيون إلا أن سيرها العطرة المدونة لا تزال بقراءتها تفوح مسكاً وطيباً، وتؤثر في صياغة النفوس واستقامتها على الهدى والصلاح، قال بشر بن الحارث: "بحسبك أقوام تحي القلوب بذكرهم، وبحسبك أقوام تموت القلوب بذكرهم".
ذلك أن القدوة لا تزال مؤثرة وستبقى مؤثرة في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيراً في النفس الإنسانية، لشغفها بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ومهيأة للتأثر بشخصيته ومحاولة محاكاته، ولا شك أن الدعوة بالقدوة أنجح أسلوب لبث القيم والمبادئ التي يعتنقها الداعية.
وفي التأكيد على أهمية القدوة الحسنة في الداعية أو الأستاذ وأثر ذلك في تلاميذه، نقل الذهبي: "كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلّمون منه حُسْنَ الأدب والسَّمت" (14).
وقبل أن نختم موضوعنا يجدر بنا أن نطرح تساؤلا مهما كثيرا ما يرد: ما السبب في قلة القدوة المؤثرة إيجابياً في الوسط التربوي؟
وتكون الإجابة على هذا السؤال بالأمور التالية (15):
1- عدم توافر جميع الصفات التالية في كثير من الأشخاص الذين هم محل للاقتداء:
أ- الاستعداد الذاتي المتمثل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح.
ب- التكامل في الشخصية أو في جانب منها بحيث يكون الشخص محلاً للإعجاب وتقدير الآخرين ورضاهم، مع سلامة في الدِّين وحسن الخلق.
ت- حب الخير للآخرين والشفقة عليهم والحرص على بذل المعروف وفعله والدعوة إليه، فمن كان على هذه الصفة أحبه الناس وقدروه وتأسوا به، ومن فقد هذه الصفة لم يلتفتوا إليه.
2- عدم تسديد النقص أو القصور الذي قد يعتري من هم محل للاقتداء كالآباء والمعلمين وأهل العلم في صفة من تلك الصفات مما يصرف الناس عن التأسي بهم، وهذا يرجع إلى عدم إدراك هؤلاء للواجب، أو عدم تصورهم لأثر القدوة في التربية والإصلاح، أو لضعف شخصي ناتج عن استجابة لضغط المجتمع، أو لسلبية عندهم نحو المشاركة في تربية الناشئة وإصلاح أفراد المجتمع.
3- مزاحمة القدوات المزيفة المصطنعة للتلبيس على الناس وإضلالهم عن الهدى وتزيين السوء في أعينهم، وصرفهم عن أهل الخير وخاصة الله، فقد أسهم الإعلام المنحرف والمشوب في صناعة قدوات فاسدة أو تافهة، وسلط عليها الأضواء ومنحها من الألقاب والصفات والمكانة الاجتماعية ما جعلها تستهوي البسطاء من الناس أو ضعاف النفوس والذين في قلوبهم مرض، وتوحي بزخرف القول الذي يزين لهؤلاء تقليدهم ومحاكاتهم.
4- "العناصر الخيرة قليلة في سائر المجتمعات، فما يكاد العامة يرون نموذجا جيداً حتى يسارعوا إلى الالتفاف حوله والتعلق به" (16).
ومن هنا تأتي الحاجة ملحة لأن نعيد إلى الناس بيان حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة والأسوة الحسنة للناس جميعا، ونعنى بتربية الأبناء والشباب، وإعطائهم الصورة الصحيحة للقدوة الصالحة، وإبرازهم الشخصية المستحقة للاتباع والاحتذاء.
ونختم موضوعنا؛ في الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة، بأن المسلم إذا راقب الله - تعالى -في عباداته ومعاملاته ودعوته وأَجْرَاها وَفْقَ ما أمر الله - عز وجل -; وما أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان مقتديا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
----------------------------------------
(1) تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي السلامة (6/391).
(2) سير أعلام النبلاء (4/570)، وفتح الباري (6/602).
(3) مجموع الفتاوى (10/610).
(4) البخاري ح16، ومسلم ح3.
(5) البخاري ج14 و15، ومسلم 69 و70.
(6) رواه البخاري (6168).
(7) رواه الحاكم في كتاب الهجرة، رقم (4338)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه.
(8) رواه أحمد (3/287).
(9) البخاري (631)، ومسلم (674).
(10) مسلم (1297).
(11) الفوائد لابن القيم، (ص: 56).
(12) البخاري ح (1196)، ومسلم ح (1391).
(13) مسلم ح (284).
(14) سير أعلام النبلاء (11/316).
(15) النقاط 1-3 يراجع: إجابة سؤال (قلة القدوة المؤثرة)، فضيلة شيخنا الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحليبي، موقع الإسلام اليوم على الإنترنت، تاريخ 17/6/1423هـ
(16) الدعوة الإسلامية لمحمد يوسف، ص: 73.
7/10/1426
09/11/2005
http://www.islamtoday.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/69)
" القدوة " ذلك المربي الفاضل !
خالد عبد اللطيف
شمّاعة التقليد..!
التربية بالقدوة..استثمار عظيم!!
تعاني من عادة التقليد (المحاكاة) لدى صغارها أشد المعاناة، وتعزو إليها كل تصرف خاطئ غريب لدى صغارها؛ فهم - في رأيها - يرون الأولاد الآخرين فيتأثرون بهم، ويحاكونهم .. !
أخرى تستثمر عادة المحاكاة لدى أطفالها خير استثمار؛ فلها خيرها، وتستعين بربها في تجنيبهم تقليد التصرفات الخاطئة. وعلى مرّ السنين جنت من " التربية بالقدوة " العديد من الصفات والأخلاق الرائعة.. في حين مازالت الأولى تتشكّى؛ وتعلّق قصور التربية، وغياب القدوة، على شماعة التقليد!
شيمة أهل البيت!
* في زيارة أخوية.. سرّه ما رآه على ابن صديقه من السمت الهادئ والأدب الظاهر، فابتدأ بالدعاء له بالبركة والحفظ، ثم تجاذبا أطراف الحديث حول أسباب هذا الخير، فلم يجد لديه كثير كلام.. "هو فضل الله وتوفيقه؛ ثم الحرص على السمت نفسه داخل البيت، والتواصي به مع أمه في كل أحاديثنا وشؤوننا؛ حتى ألفنا ذلك؛ فصار سجية وخُلُقاً لأهل البيت كلهم، ولله الحمد والمنة"!
بارّ بالسجيّة!
خرج الصغير من المسجد بعد الصلاة أمام والده، يسبقه إلى نعله ليضعه أمام قدميه! صورة من البر مليئة بالمعاني؛ فلعلها بعض جزاء برّ الوالد بأبيه لقيه في ذريته (وجزاء الآخرة خير وأبقى)، وهي صورة من التربية على تعظيم حق الوالدين، وغرس بعض الأفعال العملية فيهم مما يعينهم على إدمان البر؛ حتى تتشربه نفوسهم فيتحول - بدوره - إلى سجية لا عناء فيها!
حروف الختام..
قال التابعي الجليل سعيد بن المسيب - رحمه الله - لولده: " يا بني.. إني لأطيل في صلاتي رجاء أن أُحْفظ فيك "! وذكر قوله - تعالى - : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} في سورة الكهف في قصة الغلامين اليتيمين صاحبي الجدار:
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا.. } الآية (الكهف/82).
http://www.asyeh.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/70)
أبطال الكرتون .. القدوة الحسنة في حياة أبنائنا !!
معمر الخليل
في معظم المجتمعات البشرية، والحضارات المختلفة، توجد أمثلة معينة لأناس على درجة عالية من الأهمية والرفعة، قدموا الكثير في سبيل شعوبهم، وساهموا إيجابياً في مجالات كثيرة، حتى استحقوا أن يطلق عليهم اسم "القدوة الحسنة".
وفي مجتمعاتنا الإسلامية، وتاريخنا العريق، حظيت أسماء كثيرة وكبيرة بهذه الصفة، التي جعلت منهم نبراساً يقتدي بهم الناس، ويسيروا على خطاهم، أملاً في أن يصلوا إلى مركزهم، أو يحظوا بشرف منزلتهم.
ومع تعقيدات الحياة اليومية، وتطور النواحي التكنولوجية في المدنية الحديثة، دخلت العديد من وسائل الإعلام المؤثرة إلى منازلنا، وبات تأثيرها أقوى - في كثير من الأحيان- من تأثيرنا على أبناءنا وأخوتنا الصغار من الجيل الجديد، الذي ربما لم يعد منبهراً بالتكنولوجيا كمثلنا، بقدر ما هو متمكن منها، ومؤمن بها.
وأمام الكم المتزايد من البرامج الموجهة للأطفال، ضمن مقتضيات المنافسة الإعلامية والجري خلف الربح المادي، بات أطفالنا أمام أعداد كبيرة من الأمثلة الكرتونية والخيالية والبشرية، ممن يتكرر ظهورهم في الإعلام المرئي والمقروء، فضلاً عن الألعاب التلفزيونية أو الدمى أو الصور التي تنتشر على حقائب الأطفال المدرسية، وكراساتهم وأقلامهم وثيابهم، وغيرها.
الظاهرة تبدو من بعيد كمنهج مخطط له، ومرسوم بدقة، لنشر هذه الصورة النمطية لأبطال خياليين، إلا أنه في طبيعة الحال لا يعدو أن يكون ظاهرة، تتشارك فيها جميع شعوب الأرض، ولا تقتصر على الشعوب العربية أو المسلمة. وبالتالي فإن هذه الظاهرة قد لا تهدد شعوبنا فقط، بل تهدد شعوب العالم، إن قدّر لها أن تحدث تأثيراً عميقاً في نفوس الأطفال، أو تؤثر على طريقة تفكير وتعامل الجيل الجديد، وهو ما يحتاج من المختصين والتربويين وقفة طويلة، ودراسات عميقة، لإثبات ذلك أو نفيه.
صورة القدوة في عيون أطفالنا:
ينشأ الأطفال في سنواتهم الأولى وهم ينظرون ويشاهدون أكثر بكثير مما يقولون أو يفكرون، وهذا ما يساهم في طبع الصور والشخصيات في عقلهم الباطن، كقدوة يرغبون بتقليدها. وما أن يبدأ الأطفال بالقدرة على الحركة أو الكلام أو التصرف، حتى نجد تلك الصور العالقة في ذهنهم، وقد طفت على السطح، وباتت تؤثر في تصرفاتهم. لذلك فإننا نجد أن الدراسات النفسية والتربوية تحرص كثيراً على توصيه الأهل بإيجاد بيئة ملائمة لنمو الأطفال، من هدوء وسكينة، لئلا يصابوا بالعصبية. وأن يبعدونهم عن مشاهد العنف، لئلا يتأثروا بها فيقلدونها، ما قد يتسبب لهم بأذى كبير.
إن الصغار يبدؤون التقليد من السنة الثانية أو قبلها بقليل، وهم يتعلمون بالقدوة والمشاهدة أكثر مما نتصوره، فالطفل يحاكي أفعال والده، والطفلة تحاكي أفعال أمها.
تقول الباحثة ليلى الصفدي: "إن برامج الأطفال هي في أغلبها ليست إلا مصدراً للعنف، لأن ما يميزها التمحور حول الصراع والحرب والشر والتهديد وتغليب مفاهيم القوة على مفاهيم الضعف، بالنتيجة سيطرة السلوك العدائي على سلوك أطفالنا، وخاصة أطفالنا في عمر السنتين وما فوق ففي هذا الجيل يحاول الطفل التقليد ويتعلم قواعد السلوك ويميل إلى علاقات المحبة والمودة، فالجدير بنا كأهل تأكيد ودعم الصفات الخاصة بالحب".
ولو حاولنا رسم خطوط عريضة للقدوة الموجودة اليوم في عيون أطفالنا لاستطعنا تحديدها في عدة نقاط، أهمها:
1- أن القدوة الحسنة لديهم لا يبدو كبيراً في العمر، وهو أقرب إلى أعمارهم.
2- أنه شخصية كرتونية في الغالب، أو شخصية بشرية خيالية.
3- تتمتع هذه الشخصية بالقدرة على التعامل مع التكنولوجيا بتمكّن، من خلال السيطرة على مجريات الأمور، أو اختراق الحاجز الزماني، أو المكاني، أو الدخول إلى عوالم خيالية إلكترونية...
4- هذه الشخصية تتمتع بقوة خارقة، كأن تستطيع القفز مسافات طويلة، أو الاختفاء، أو الطيران، وغيرها.
5- أن تتمتع هذه الشخصية بقوة هائلة، عبر القوة العضلية، أو حملها لأسلحة فتاكة.
6- وفي حالات أخرى، تكون هذه الشخصية المرسومة في ذهن الأطفال، رقيقة ومسالمة وهادئة.
وعن صورة البطل أو القدوة الكرتونية في عيون أطفالنا، تقول الأستاذ الصفدي: " الصفة العامة لهذه البرامج أنها تقدم أشكال مشوهة غير طبيعية وخيالية أكثر من اللزوم، ومضمونها باعتقادي ضحل جدا، سطحي، وفي غالب الأحيان غير إنساني...، طبقي، عنصري، وعنيف. والاهم من هذا كله أنها تخلق نمطاً متماثلاً من الشخصيات بدون تفرد أو تمايز".
وفي دراسة تحليلية لمحتوى برامج الأطفال في تليفزيون الكويت، يشير الكاتب إلى أن برامج الأطفال في تليفزيون الكويت مليئة بالقيم السلبية التي كان من أبرزها قيم العنف والعدوانية، كما تشير إلى أن البرامج المنوعة هي الأكثر إيجابية في عرضها للقيم مقارنة مع باقي الأنواع من البرامج الخاصة بالأطفال، وفي المقابل فإن (أفلام) الكرتون باللغة الإنجليزية هي الأكثر في عرضه للقيم العكسية والسلبية في تلك البرامج..
وتقول صحيفة (الراشد) اليمنية، في دراسة لها حول الأفلام الكرتونية، وصورة القدوة فيها: "إن يجب على الجهات الحكومية تبني القدوة والمثل الأعلى للرموز الفكرية، والدينية، والعلمية، وهي الأجدر بأن نقتدي بها ونحاكيها في عطائها ونبوغها، بدلاً من تقليد الدمية اليابانية "بي كاتشو" أو "جراندايزر" رمز القوة والسيطرة الخيالية، والتي استغلت نفسياً في حب الطفل لهما، حيث سوقت تجارياً في شكل منتجات سلعية، دمى وألعاب، لا نعلم إلى ما ترمز إليه".
الأمثلة على هذه الشخصيات في الأفلام الكرتونية الموجهة للأطفال، كثيرة وعديدة. لدرجة أن المتابع لها يفقد أحياناً القدرة على التفريق بينها، بسبب التقاطع في أكثر من محور بين الشخصيات البطلة.
من يرسخ هذه الثقافة:
يأتي الإعلام الموجه للأطفال في الدرجة الأولى في التأثير على الجيل الجديد. فهو يرسم الخطوط العريضة للقدوة التي يحلم بها الأطفال، ويساعدهم في ذلك بعض المنتجات الغذائية التي باتت تستغل هذا الانتشار الكبير للشخصيات الكرتونية، في الإعلان والترويج لمنتجاتها، من أجل سرعة تقبل الطفل لها، لمعرفته المسبقة بالشخصية التي تروج لها.
ولم يستطع الإعلام العربي حتى الآن، أن يتمدد خارج الحيز الإعلامي الغربي، الذي تسيطر شركاته الإنتاجية على الغالبية العظمى من الأفلام الكرتونية.
وهذه الشركات استطاعت أن تحتكر سوق الأفلام الكرتونية الموجهة للطفل، في العالم بأسره، فيما تظهر الأفلام الكرتونية العربية والإسلامية هزيلة وجامدة أمام حيوية تلك الأفلام.
من أهم الشركات الغربية التي تسيطر على سوق إنتاج البرامج الموجهة للأطفال، والت ديزني (The Walt Disney)، التي أنتجت عشرات المسلسلات الكرتونية، والتي لاقت رواجاً كبيراً لدى أطفال العالم، منها (توم آند جيري، وسباديرمان، وميكي ماوس، وسوبرمان، ودينون وبومبا، المشتقان من فلم الأسد الملك، وغيرها).
بالإضافة إلى شركات الإنتاج اليابانية التي بدأت تعزو الشاشات العالمية، عبر منتجات جديدة، من نوع (البوكيمون، وأبطال الديجيتال، ويوغي، والكابتن ماجد، وغيرها).
يقول الباحث الدكتور محمد عبد الغفور (الحاصل على دكتوراة في التربية الخاصة من المملكة المتحدة): "إن إنتاج هذه الأفلام الكرتونية مصدرها دول غير عربية وغير إسلامية (في الغالب اليابان) الأمر الذي يجعلها مليئة بالقيم التي لا تتناسب مع قيمنا العربية الإسلامية، مما يجعل فائدتها لأطفالنا محدودة أو في كثير من الأحيان عكسية".
تقول الأستاذة إيمان الشيخ (الكاتبة والمترجمة الإسلامية): "نجد أطفالنا في جميع أنحاء دولنا العربية يتخذون قدوتهم من شخصيات الكرتون الخيالية الوهمية!! والتي دست إليهم عن طريق قنوات الكرتون المعروفة!! فأطفالنا يحدث لهم عملية "غسيل مخ"!! علي أيدي أباطرة أفلام الكرتون الشهيرة بوالت ديزني "walt disny". والذي يحدث أن هذه المؤسسة وغيرها يصدرون لأطفالنا أفكارهم السامة، من تحرر وانفلات!! عن طريق تقديمهم لشخصيات كرتونية، كشخصيات "سوبر مان" و"بات مان" و"توم وجيري".. الخ. هذه الأفلام التي تقدم هذه الشخصيات والتي تبدوا لنا للوهلة الأولي أنها بريئة!! تدس لأطفالنا "السم في العسل"!! عن طريق أفكارهم الخاطئة عن الكون والحياة عموما".
وفيما يمكن مراقبة بعض الأفلام الكرتونية التي تبث عبر محطات حكومية، جاءت المحطات الخاصة، لتنشر كل ما يقع تحت يدها من أفلام كرتونية، بدون رقابة أو تدخل، ما ساعد في انتشار الكم الأكبر من هذه الأفلام بين الجيل الجديد. كقناة (سبيس تون spacetoon، وMBC3، و ARTeens، وغيرها).
وهو ما ساعد في ترسيخ الشخصيات الكرتونية (البطلة!) التي بات يتكرر ظهورها على الشاشة أكثر من ترديد اسم أي من القدوات الحسنة في تاريخنا الإسلامي، وربما أكثر من ظهور الأب على ساحة الحياة لدى أطفالنا، ما يجعلهم ينقادون باتجاه تبني أفكار وتصرفات أبطال الكرتون، على حساب تقليد الأب أو أخذ النصح منه.
ماذا يتعلم أطفالنا من أبطال الكرتون:
الرسوم المتحركة هي من أوائل العناصر التي يتعلم الطفل من خلالها خاصة انه وفى ظل كثرة القنوات التلفزيونية وزخم بثها لبرامج الأطفال أصبحت ساعات البث تقريبا على مدار الساعة وأصبح من الصعوبة بمكان إقناع الأطفال بالجلوس لساعات محددة أمام التلفاز.
المتابع لبعض أفلام الرسوم المتحركة، يجد أن هذه الأفلام لا ترتقي إلى المستوى المطلوب من حيث اللغة والتصرفات والأخلاق التي نطالب أطفالنا بامتلاكها، أو امتلاك الحد الأدنى منها، بل نجدها أفلاماً تكرس العديد من العادات السلبية والألفاظ السوقية، والأخلاقيات المنافية لتعاليم يدننا الإسلامي وعاداتنا وتقاليدنا العربية.
على سبيل المثال، تؤكد روضة الهدهد (الأديبة المتخصصة في أدب الأطفال) على ضرورة استبدال بعض الألفاظ المسيئة الواردة في بعض الأفلام الكرتونية مثل "حقير، تافه، غبي". داعية إلى إيجاد البدائل التي تتناسب وتربيتنا وثقافتنا وديننا الحنيف.
كما أكدت دراسة أصدرها المجلس العربي للطفولة والتنمية في ديسمبر 2004م، أن برامج الرسوم المتحركة المستوردة في معظمها تؤثر سلباً على الأطفال، لكونها لا تعكس الواقع ولا القيم العربية، ولا حتى تعاليم الدين الإسلامي، على اعتبار أن هذه البرامج تأتى حاملة لقيم البلاد التي أنتجتها، وتعكس ثقافتها.
وأشارت في ذلك إلى ترديد الأطفال للألفاظ والعبارات التي يسمعونها، وكذلك تقليد الحركات والأصوات التي تصور شخصيات أو حيوانات، إضافة إلى تقليد بعض اللهجات والشخصيات في سلوكها وفى أزيائها.
الباحث مجدي عبدالعزيز، يضيف حول الأفكار التي يتعلم منها الأطفال من أفلام الكرتون، بالقول: " إن الكثير من الرسوم المتحركة لا يتفق والعقيدة الإسلامية؛ حيث فكرة القوة الخارقة والقدرات المستحيلة لدى سوبرمان، أو ميكى ماوس، أو الأخطاء الواضحة مثل السجود لغير الله، مثلما حدث فى الفيلم الكرتونى "الأسد الملك"، عندما قامت كل الحيوانات بالسجود لـ "سمبا" عند ولادته، وقام بعدها القرد بعرض "سمبا" على ضوء الشمس، وكأنه يستمد قوته منها، كما ظهر "الخنزير" في هذا الفيلم كحيوان طيب رقيق القلب قام بتربية سمبا واحتوائه بعد قتل أبيه".
وهذه الأفكار التي يتشربها الطفل في صغره، ستوجد لديه حالة من عدم الاتزان عندما يبدأ والداه أو معلميه بتعليمه بعض الأمور التي تختلف تماماً عما تعلّمه لسنوات طويلة من شاشات التلفاز.
فمثلاً عندما تخبر ابنك أن السجود لا ينبغي لغير الله - عز وجل -، ستحدثه ذاكرته عن سجود الحيوانات للأسد الملك في الفلم الكرتوني، وانحناء بعض الشخصيات الكرتونية لشخصيات أخرى أكبر منها أو أقوى، ما يجعل الابن يقلل من شأن هذه التوجيهات الدينية، ويعتبرها أمراً يعاكس ما تعلمه لسنوات.
وكون المشكلة لم تقتصر على الدول العربية والإسلامية، فإن دولاً أخرى تساءلت كثيراً عن الدروس التي تقدمها بعض الأفلام الكرتونية الموجهة للأطفال.
وقد تصدّى للإجابة على هذا السؤال باحثان من أمريكا اللاتينية، منذ أكثر من ربع قرن؛ هما آريل دروفمان، وأرماند ماتيلارت، بعد أن قاما بتحليل القصص المضحكة أو الهزلية لشركة ديزني؛ فاكتشفا أن العنصرية والإمبريالية والجشع والعجرفة تخللت الهزليات التي تقدمها شركات والت ديزني وتوزعها في جميع أنحاء العالم. حيث أكدت الدراسة أن أكثر من ثلاثة أرباع القصص التي يقدمها والت ديزني تصور رحلة تستهدف البحث عن الذهب، أما الربع الباقي فتتنافس فيه الشخصيات على المال والشهرة.
ووفق البحث الذي تم على أعمال ديزني وشركاته للإنتاج الفني، فإن نصف القصص تدور أحداثها خارج كوكب الأرض، بينما تقع الأحداث في النصف الآخر في أراضٍ أجنبية حيث يعيش بشر يتصفون بالبدائية، وكلهم من غير البيض!!
استخدم ديزني هذا النسيج المتشابك الساحر ... الحيوانات والأطفال والطبيعة، لتغطية مزيج متشابك من المصالح والأفكار، ترسخ أفكار الإمبريالية، وفق ما يرى الباحثان.
كيف نواجه أبطال الكرتون:
يصعب السيطرة على ما يشاهده أطفالنا في التلفاز، خاصة مع انتشار عدد معين من المسلسلات الكرتونية في معظم القنوات العربية، وصعوبة منع الأطفال نهائياً من متابعة الرسوم المتحركة، التي باتت سمة من سمات ثقافة الطفل هذه الأيام.
إذ لم يعد ظهور أبطال الكرتون مقتصراً على التلفاز، بل انتشر في الكتب والمجلات وأدوات المدرسة والقصص المصورة والملابس وغيرها.
ولكن ربما يمكننا الحد من تأثير هذه المشاهد في نفوس أطفالنا، وتقليل الصورة الخارقة لهم.
من هذه النصائح التي يمكن اللجوء إليها:
1- تحديد ساعات مشاهدة أبناءنا للتلفاز في أوقات معينة، نختار من ضمنها برامج هادفة، بعيدة عن التشويه، كالبرامج الكرتونية العربية، أو على الأقل بعض البرامج الأجنبية التي تهدف للثقافة أكثر من الإثارة والتشويق.
2- تعليم أبنائنا مبدأ النقد الموجه لما يرونه، ما يربي فيهم عدم الانبهار أو تصديق كل ما يشاهدون، والإشارة إلى بعض التصرفات السلبية التي يقومون بها، ونقدها.
3- مناقشة أبنائنا أحياناً فيما يعرض على الشاشة، من أفلام كرتون وغيرها، وتربية مبدأ المحاكات العقلية، والتفكير بما يعرض.
4- تنمية القدوة الحسنة للشخصيات الإسلامية والتاريخية الهامة، ومقارنة النقاط الإيجابية فيهم بالنقاط السلبية الموجودة في الأبطال المعروضين على الشاشة.
5- عدم ترك الطفل يشاهد البرامج المحددة له لوحده، بل يفضل الجلوس معه خلال هذا الوقت، لمتابعة ما يشاهده باستمرار، وتوضيح بعض النقاط الجديدة فيها.
وترى الدراسة التي أصدرها المجلس العربي للطفولة والتنمية في ديسمبر 2004م، أن مواجهة التأثيرات السلبية لمضامين أفلام الرسوم المتحركة من المفترض ألا يتوقف عند استعادة الدور التربوي للأسرة، وإنما تتمثل في إيجاد البدائل التي تعمق الثقافة الإسلامية أيضاً، وذلك بإنشاء ودعم شركات إنتاج الرسوم المتحركة التي تخدم الثقافة الإسلامية، وتراعى مقوماتها، ولا تصادم غرائز الطفل، بل توجهها وجهتها الصحيحة.
وتطالب دراسة المجلس العربي للطفولة والتنمية في هذا السياق بتفعيل دور مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربية، عبر تزويدها بالدعم المالي والبرامج المقترحة، وتبادل الخبراء والفنيين بين التليفزيونات العربية في مجال الإنتاج للطفل، وطرح مسابقات في مجال الإبداع البرامجي للطفل العربي.
كما توصى المسؤولين في أجهزة الإعلام العربي بتوخي الحذر في انتقاء البرامج الأجنبية، بحيث لا تقدم للأطفال نماذج يحتذونها تتعارض مع تنشئتهم وفق الأهداف التي يرتضيها المجتمع، مع استبعاد تلك البرامج التي تعمد إلى إثارة نوازع الجنس، أو العدوان، أو تسبب الفزع، أو تبرز العنف بما يتنافى مع القيم الإنسانية.
وتدعو الدراسة إلى ضرورة إيلاء عناية خاصة لبرامج الأطفال في الأقطار العربية، خاصة في ظل إعلام متنوع يبث عبر الأقمار الصناعية في كل بقاع العالم إنتاجًا إعلاميًا من إفراز ثقافات متعددة الغلبة فيها للأقوى في الإبداع والنشر والتوزيع.
كما أصدرت ورشة الأطفال العرب توصيات موجهة للحكومات، على هامش مؤتمر "الطفل العربي في مهب التأثيرات الثقافية المختلفة" الذي عقد في 25 وحتى 27 من سبتمبر 2005م. جاء فيها بعض البنود الخاصة بما يتابعه الأطفال عبر الإعلام المرئي، منها:
- جعل البرامج التليفزيونية برامج هادفة.
- زيادة البرامج الثقافية للأطفال.
- حذف البرامج التي تؤثر على سلوك الطفل.
- وقف برامج الأطفال التي تغرس العنف في قلوب الأطفال.
- أن تتوفر المصداقية في العاملين على برامج الأطفال الإعلامية.
- نريد آلية لتوضيح صورة الطفل العربي بالنسبة للطفل الغربي.
- عمل دراسة تغيير منهجية عرض برامج الأطفال، وذلك لإيضاحها بالنسبة للطفل الغربي.
5/11/1426هـ
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/71)
الرسول هو القدوة على طريق الدعوة
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله بالهدى ودين الحق وأثنى عليه ووصفه بالخلق العظيم، وجعل رسالته رسالة أخلاقية، وبعثه ليتمم به مكارم الأخلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ورضي عن أصحابه الكرام، والتابعين لهم بإحسان، الذين اقتفوا منهجه - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فدخل الناس في دين الله - سبحانه وتعالى -- لِما رأوه من أخلاقهم!! ولِما لمسوه من القرآن الذي يتحرك حياً!! متمثلاً في المعاملة التي لم تشهد البشرية لها نظيراً لدى أي فاتح من الفاتحين!! فدخل في دين الله -نتيجة ذلك- أمم لا تحصى، ما كانت لتدخل لولا هذا الخلق الكريم، وهذا التعامل الرباني العظيم، أما بعد:
إنه لجدير بنا أن نتبصر وأن نتذاكر، وأن يعظ بعضنا بعضاً فيما يتعلق بشئون دعوتنا والقيام بها، وجميعنا في زحمة المشاغل والعمل قد ينسى عيوبه أو بعض أخطائه، وقد يفوته الوقت لتدارك نقائصه، وكل بني آدم خطَّاء، ونحن لا نخلو من النقائص والعيوب أبداً، فجدير بنا أن نتحادث وأن نتذاكر فيما يقربنا إلى الله - سبحانه وتعالى -- ونحتسب عند الله - عز وجل - ما نقضيه من الأوقات ونحن نعظ أنفسنا وإخواننا، ونرقق قلوبنا لنعرف في أي طريق نسير، وما هي المعالم التي يجب أن نسلكها، وما هي الأخطاء التي يجب أن نتجنبها.
نحن ننتمي إلى الإسلام، وهذا الانتماء هو الذي شرفنا الله- تبارك وتعالى- به وسمانا به. ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الدعاة، وهو القدوة والداعية المعلم الذي أمر الله- تبارك وتعالى - باقتفاء نهجه، وأن نتأسى به في دعوتنا وخلقنا ومعاملاتنا وعباداتنا وكل حال من أحوالنا، أنزل الله- تبارك وتعالى - عليه ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف: 108].
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - المثل الحي لأصحابه، كان كما وصفته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: {كان خلقه القرآن } ما كان في القرآن من خلق فهو في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وكانت حياته - صلى الله عليه وسلم - ترجمة واقعية حية لما ينزله عليه الروح الأمين من عند ربه - تعالى- من الآيات البينات في التوحيد، والإخلاص، واليقين، والتوكل، والصبر، والجهاد، والمصابرة في الدعوة، والمثابرة في العلم، وفي المعاملة، والمعاشرة، والرفق، والحلم؛ كما أثنى عليه- تبارك وتعالى -في قوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم: 4].
فالله - سبحانه وتعالى - يخلق ما يشاء ويختار، وقد اصطفى واختار هذا النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - ؛ ليكون معلماً للبشرية في كل مكان وفي كل ميدان.
وما من دعوة سواء كانت هذه الدعوة حقاً أم باطلاً إلا وهي تحاول أن تدعي الطابع الأخلاقي والصفة الأخلاقية؛ لكي تنتشر ولكي تروج، وما من داعية أياً كانت دعوته وإلى أي شيء يدعو، إلا والأخلاق سمة بارزة في دعوته أو يحاول أن يكون كذلك، فكيف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! وكيف بالصحابة الكرام؟! وكيف بهذه الأمة التي أمرها الله - سبحانه وتعالى - أن تكون ربانية، ورباها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كانت كذلك؟! فمن اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو بمقتضى هذه الآية لا بد أن يتخلق بخلقه - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله.
http://www.alhawali.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/72)
حينما تحترق القدوة
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وأشكره جعل من نعمه الكبرى صلاح الوالد والولد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عن الصاحبة والولد ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير من وطئ الثرى وخير من سكن البلد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما ركع راكع أو سجد ، وما تذلل مؤمن بين يدي ربه وعبد.
أما بعد:فيقول الجبار العظيم:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ()يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}([1]) .
أمة الهدى والبصيرة لو كان أحدنا يركب في سفينة وكان قائد السفينة يصر على أن يقحمها في وسط الأمواج المتلاطمة وكأنه يصر على هلاكها بينما ينصحه الركاب ويحذرونه فيأبى إلا أن يصر على رأيه فكيف يكون حال من هو في تلك السفينة؟ لوكان أحدنا يركب في سيارة وهي تنحدر به في طريق جبلي خطر تكثر منحنياته ، وسائق السيارة يصر على السرعة الجنونية وعلى سلوك طريق نهايته هاوية الهلاك فكيف يكون حاله ، لو كان أحدنا يركب طائرة وأصر قائدها على أن يطير فوق منطقة تشتعل فيها حرب عسكرية وتطلق فيها صواريخ قد تسقط الطائرة فكيف يكون حاله وهو يرى الصواريخ تعبر بجوار الطائرة ويحس بها وكأنه تمر بجوار قلبه؟وكيف لو كان بين الركاب من يعز عليه ذلك القائد فهو يحبه ويحرص على سلامته ألا يكون ألم هذا واحتراق قلبه على ذلك القائد أعظم؟
أحبتي في الله إن المجتمع يتكون من مجموعة من المراكب والعربات ولكل منها قائد ؛ فكل أسرة في المجتمع هي مركبة من تلك المراكب وقائد تلك المركبة هو الأب فهو قائد إما أن يقودها إلى جنات الرضوان وإما إلى جحيم النيران، وكلما كثر من يقود أسرته إلى جنات الرضوان توجه المجتمع بأكمله إلى نفس الطريق، وكلما كثر من يقود أسرته إلى جحيم النيران توجه المجتمع بأكمله في نفس الطريق، فنقول لكل أب ا0حذر فأنت إما أن تقود أسرتك إلى الهلاك الذي لا سعادة بعده وإما أن تقودهم إلى سعادة لا شقاء بعدها ، هذه بعض الحالات التي تهلك فيها الأسرة بأكملها أوت تنجو بأكملها لكن هناك حالات أخرى يكون الأب فيها على غير الهدى ولكن الزوجة أو الأولاد فيهم من الصلاح ففي مثل هذه الحالة يحترق قلب الزوجة وقلب الولد الصالح ذكراً كان أم أنثى على أبيهم عندها يبذلون جهدهم لهدايته ؛ وقد قص علينا القرآن صورة من هذا المثل وهو مثل إبراهيم مع أبيه فكم كان يدعو أباه بكل أدب جم إلى الطريق المستقيم واستمعوا إلى تلك الكلمات التي انطلقت من قلب محب مشفق على أبيه : {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا()يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا()يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا()}(2) ، لكن تلك الكلمات الودودة الناعمة المؤدبة إصتدمت بقلب غلفته قسوة الشرك والكبر بأن يأخذ النصيحة من ابنه فجاء ذلك الرد العجيب :قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}(3)، فم يغضب الإبن ولم يخرج عن الأدب بل أجاب بقوله : {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}(4)، مدرسة قرآنية في كيفية تعامل الأبن الصالح مع الأب الفاسق، وقد قرأت قصة واقعية حدثت أحداثها في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبين كيف أن احتراق الأب القدوة بالمعاصي والذنوب يحرق قلب محبيه من زوجته وأبنائه فتدفع تلك الحرقة الأصم الأبكم لأن يتحرك لإنقاذ أبيه يقول صاحب القصة أنا شاب في السابعة والثلاثين من عمري متزوج ولي أولاد ارتكبت كل ما حرم الله وكل ما يكرهه من الموبقات أما الصلاة فكنت لا أؤديها مع الجماعة إلا في المناسبات فقط مجاملة للآخرين، والسبب أني كنت أصاحب الأشرار والمشعوذين،فكان الشيطان لازماً لي في أكثر الأوقات.كان لي ولد في السابعة من عمره اسمه مروان أصم وأبكم ،لكنه كان قد رضع الإيمان من ثدي أمه المؤمنة .كنت ذات ليلة أنا وابني مروان في البيت، وكنت أخطط ماذا سأفعل أنا والأصحاب،وأين سنذهب؟ كان الوقت بعد صلاة المغرب، فإذا بابني مروان يكلمني (بالإشارات المفهومة بيني وبينه) ويشير لي : لماذا يا أبت لا تصلي؟ ثم أخذ يرفع يده إلى السماء ويهددني بان الله يراك ، وكان ابني في بعض الأحيان يراني وأنا أفعل بعض المنكرات ، فتعجبت من
قوله . وأخذ ابني يبكي أمامي ، فأخذته إلى جانبي لكنه هرب مني ..وبعد فترة قصيرة ذهب إلى صنبور الماء وتوضأ وكان لا يحسن الوضوء لكنه تعلم من أمه التي كانت تنصحني كثيراً ولكن دون فائدة ،وكانت من حفظة كتاب الله،ثم دخل علي ابني الأصم الأبكم ، وأشار إليِّ أن انتظر قليلاً ..فإذا به يصلي أمامي ثم قام بعد ذلك وأحضر المصحف الشريف ووضعه أمامه وفتحه مباشرة دون أن يقلب الأوراق ووضع أصبعه على هذه الآية من سورة مريم :{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}(2)، ثم أجهش بالبكاء ،وبكيت معه طويلاً،فقام ومسح الدمع من عيني ، ثم قبل رأسي ويدي، وقال بالإشارة المتبادلة بيني وبينه ما معناه صلي يا والدي قبل أن توضع في التراب، وتكون رهين العذاب، وكنت والله العظيم في دهشة وخوف لا يعلمه إلا الله، فقمت على الفور بإضاءة أنوار البيت جميعها،وكان ابني مروان يلاحقني من غرفة إلى غرفة وينظر إليَّ باستغراب وقال لي:دع الأنوار.وهيا بنا إلى المسجد الكبير -ويقصد الحرم النبوي الشريف- فقلت له:بل نذهب إلى المسجد المجاور لمنزلنا،فأبى إلا الحرم فأخذته إلى هناك وأنا في خوف شديد، وكانت نظراته لا تفارقني البتة،ودخلنا الروضة الشريفة وكانت مليئة بالناس وأقيم لصلاة العشاء وإذا بالإمام يقرأ من قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).فلم أتمالك نفسي من البكاء ومروان بجانبي يبكي لبكائي،وبعد انتهاء الصلاة ظللت أبكي وهو يمسح دموعي ، حتى أني جلست في الحرم ساعة كاملة،فقال لي ابني مروان : يا أبي لا تخف ..فقد خاف علي من شدة البكاء ، وعدنا إلى المنزل فأحضر لي ماء وكانت هذه الليلة من أعظم الليالي عندي إذ ولدت فيها من جديد. وحضرت زوجتي وحضر أولادي فأخذوا يبكون جميعاً وهم لا يعلمون شيئاً مما حدث فقال لهم مروان أبي صلى في الحرم، ففرحت زوجتي بهذا الخبر إذ هو ثمرة تربيتها الحسنة، وقصصت عليها ما جرى بيني وبين مروان وقلت لها : أسألك بالله هل أنت التي أوعزت إليه أن يفتح المصحف على تلك الآية؟ فأقسمت بالله ثلاثاً أنها ما فعلت، وأنا الآن لا تفوتني صلاة الجماعة في المسجد وقد هجرت رفقاء السوء جميعاً وذقت طعم الإيمان.كما أصبحت أعيش في سعادة غامرة وحب وتفاهم مع زوجتي وأولادي خاصة ابني مروان الأصم الأبكم الذي أحببته كثيراً كيف لا وقد كانت هدايتي على يديه(6).أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(7).
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل الجنة للمتقين الطائعين خير معاد ، وجعل النار للمعرضين عن طاعته من أهل العناد أحمده سبحانه وأشكره على ما تفضل به على العباد من نعم وجاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عن النقائص والأضداد وأشهد أن محمداً عبد لله ورسوله خير العباد ومهوى الفؤاد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه من سار على النهج إلى يوم المعاد .
أما بعد:فإني أقول لكل أب بَعُدَ عن الجادة والطريق المستقيم اتق الله في نفسك وفي أهلك وولدك فإنهم أمانة في عنقك ستسأل عنهم يوم القيامة،اتق الله فيهم فإنما أنت قدوتهم فإذا احرقت نفسك بالمعاصي والذنوب احترقوا خلفك.أقول لكل أب استمع للنصيحة من ابنك كما فعل صاحب القصة فنجى ولا تتكبر عن قبولها إذا كانت على الحق فتضل كما ضل والد إبراهيم ولم ينفعه أن ابنه خليل الرحمان، وإلى من منَّ الله عليهم بالهداية من الأبناء أقول لهم اتقوا الله في آبائكم وأمهاتكم حتى وإن كانوا قد بعدوا عن الحق لا تنظروا إليهم بأنهم مجرمون انظروا إليهم بأنهم مرضى بحاجة إلى رحمة منكم وعطف. ألا ترى أخي يوم أن يصيبك المرض يسعون في طلب العلاج لك ويسهرون على راحتك .وهم قد أصابهم ما هو أعظم من مرض الأبدان إنه مرض القلوب فهل تتخلى عنهم وتبدي اليأس منهم،هل تتصور أنك ستسر غداً يوم يُذهب بهم إلى النار؟هل تتصور أنك لن تُسأل عنهم وماذا بذلت لهم؟ أنت مطالب ببرهم وإن من أولويات ذلك البر الأخذ بأيديهم إلى طريق الرضوان والجنان.هذا طفل صغير أصم أبكم أخذ بيد والده إلى الهداية فماذا فعلت أنت يا من منَّ الله عليه بالسمع والبصر؟ .
-------------------
([1]) الحج:1،2.(2)مريم:43-45.(3)مريم:46.(4)مريم(47).(5)النور:21.(6)محمد المسند،عندما نطق الأصم ... بأبلغ عبارة،شباب، العدد الثامن،رجب1420،ص19.(7)التحريم:6.
ـــــــــــــــ(1/73)
القدوة وأثرها في الدعوة النسائية
أهميتها ـ مقوماتها ـ ميادينها
أسماء بنت راشد الرويشد
الحمد لله ربّ العالمين القائل في كتابه المبين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
والصلاة والسلام على النبي الأمين الذي جعله الله قدوة للمؤمنين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى وعلى كل من اتبع آثارهم واقتفى، أما بعد:
تشتد حاجة المسلمين اليوم إلى مثل أعلى يقتدون به ويقتفون أثره ويحذرون حذوه؛ وذلك بسبب ضعف فهم الناس للدين وقلة تطبيقهم لهم، ولغلبة الأهواء وإيثار المصالح العاجلة مع قلة العلماء العاملين والدعاة الصادقين، فنحن في هذه المرحلة من الزمن وقد بدت آثار الصحوة الحقة تبهت في مجتمعنا المسلم، قد تضاعفت حاجة المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكون أنموذجاً واقعياً ومثالاً حياً يرون الناس فيهم معاني الدين الصحيح علماً وعملاً، قولاً وفعلاً، فيقبلون عليهم وينجذبون إليهم؛ لأنَّ التأثير بالأفعال والأحوال أبلغ وأشدّ من التأثير بالكلام وحده، وقد قيل: شاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
ويشهد لأهمية ذلك أنَّ الله جلَّ وعلا جعل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة لمن بعده: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..}، كما أمره أن يقتدي بمن سبق من الأنبياء: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}. (الأنعام /90).
ورأس الأمر في القدوة والأسوة الحسنة أن ندعو الناس بأفعالنا مع أقوالنا، يقول عبدالواحد بن زياد: "ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه". ولما نبذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه وقال: "إني اتخذت خاتماً من ذهب" فنبذه وقال: "إني لن ألبسه أبداً" فنبذ الناس خواتمهم فدلَّ ذلك على أنَّ الفعل أبلغ من القول.
ونحن ـ كما أسلفت ـ في هذه الفترة العصيبة التي تمر على الأمة من الضعف والهزيمة، نحتاج أن نحقق في أنفسنا أنموذج التطبيق الصحيح لهذا الدين؛ لكي يحقق الله لنا النصر والتمكين ونسد على المتربصين أعداء الذين منافذ تسلطهم وسطوتهم باسم الإصلاح وحفظ الحقوق. فهذا خليل الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ لما جعله الله إماماً للناس يقتدى به قال: {ومن ذريتي} أخبره الله تعالى أنَّ فيهم عاصياً وظالماً لا يستحق الإمامة، فقال: {لا ينال عهدي الظالمين} فإذا أردنا أن يحفظ الله لنا ديننا ويستتب أمننا ونردّ كيد أعدائنا، فلنقم هذا الدين علماً وعملاً ومنهجاً لحياتنا وسلوكنا.
إذ إن المسلم القدوة أشد على أعداء الدين من كل عدة، ولذلك لما تمنى الناس ذهباً ينفقونه في سبيل الله، كانت مقولة عمر بن الخطاب: "ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله". فعسى إن كنا على مستوى حسن الأسوة والتأسي أن يمكن لنا في الأرض وأن يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين.
أهمية القدوة في حياة المسلمين وواقعهم:
1ـ إنَّ القدوة هي ذلك التأثير الغامض الخفي الذي يمثله أفعال وأقوال ومواقف المثال الحي المرتقى في درجات الكمال، مما يثير في نفس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع الغيرة والتنافس المحمود، ويتولَّد لديهم حوافز قوية تحفزهم؛ لأن يعملوا مثله، وقد يكون ذلك دون توجيه مباشر.
2ـ القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل والاستقامة تعطي الآخرين قناعة بأنَّ بلوغ هذا المستوى من الأمور الممكنة، وأنها في متناول قدرات الإنسان، ولا سيما في زمن الفتن وكثرة الصوارف.
3ـ مهما توسعت دائرة المعارف وانتشر العلم بين النَّاس؛ فإنَّ واقعهم لا يزال يشكو القصور والانحراف، ما لم يقم بذلك العلم عاملون مخلصون يكونون قدوات في مجتمعاتهم وطبقاتهم يمتثلون أمره ويخطون على منهجه، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي للحياة يفهمه الجميع؛ إذ إن مستويات فهم العلم والقول عند الناس يتفاوت، لكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين لمثال حي، يكون أيسر وأقوى في إيصال المعاني وإحداث التغيير، ومن ذلك ما كان من تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش ابنة عمته من زيد بن حارثة مولاه الذي أعتقه؛ لكي يكون قدوة ومثالاً حياً للناس لما تأصل في نفوسهم من الفوارق الطبقية التي جاء الإسلام بإلغائها، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
4 ـ إنَّ غياب القدوة في حياة المسلمين عامل رئيس في فشو الجهل وانتشار المنكرات واستفحالها؛ وذلك لأنَّ العاملين بالعلم والقائمين بدين الله هم في الحقيقة دعاة يعلنون الحق بأفعالهم وينشرون الدين الحق حين ينتشرون بين الناس فيظهر أمره في الناس وتنحسر أمامهم المنكرات بتواجدهم الفعال المؤثر في الآخرين، وهكذا فكلما ازدادت القدوات انتشر العلم واختفت المنكرات. وقد نقل عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال يوماً لأصحابه: "ادعوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم".
5ـ الناس ينظرون إلى المتعلم العلم الشرعي والصالح نظرة دقيقة فاحصة دون أن يعلم، فربّ خطأ يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر؛ وذلك لأنه محسوب في مجتمعه قدوة لهم. وهنا تكمن أهمية القدوة وخطورتها، إذ إن كل مفارقة بين أقوال القدوة وسلوكه واهتماماته تشكِّل مصدر حيرة وإحباط لدى عامة الناس، وخصوصا المبتدئين في الالتزام، ويكون مصدر فتنة للناس واستخفاف بالعلم الذي تلقاه.
فالذين يعرفهم الناس بالصلاح والتدين.. وهم في الحقيقة جمعوا مع تلك السمعة تناقضا في الواقع ومخالفة لما يفترض أن يكونوا عليه؛ هؤلاء لا يقال فيه: إنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوات، بل إنهم يمارسون دوراً تخريبياً؛ إذ هم يشوهون صورة الصالحين والفضلاء في أذهان العامة، ويعطونهم صورة مخالفة لحقيقة الدين التي قد لا يعرفونها إلا من خلالهم. كما أنههم يشجعون الناس بطريقة خفية على التميع والهشاشة الدينية، ويتسببون في تبخير ما بقي من هيبة واحترام للصالحين، ويكونون سبباً في فقد ثقة الناس بهم.
ولذلك فإنَّ المسؤولية عظيمة وكبيرة على العلماء والدعاة والصالحين وذويهم وأهل بيوتهم بشكل خاص، إذ لا بدَّ أن يؤهلوا تأهيلاً خاصاً لإكمال وظيفتهم الدعوية في المجتمع عن طريق الاهتمام بتحقيق القدوة والأنموذج الواقعي للصلاح والاستقامة. وهذا يلقي عليهم مسؤولية عامة تجاه الناس، فضلاً عن مسؤوليتهم الخاصة تجاه أنفسهم فيما بينهم وبين الله تعالى.
وعلى ذلك فإنَّ على كل مسلم ومسلمة عرف طريق الحق وسلكه، أن يجاهد نفسه ليقترب ما استطاع من ذلك الأنموذج الإنساني الراقي، نعني به القدوة، وإذا نظرنا في تاريخ العلماء والصالحين وجدنا أدبيات كثيرة تحثّ المسلم على التميز والحرص على العمل بالعلم، إذ يقول سفيان بن عيينة: "إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي كتبت؟!". وقال الحسن: "لا تكن ممَّن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء، ويجري في العمل مجرى السفهاء". وقال أيضاً: "كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده".
فالرأس في الخير لا بدَّ أن يسير في طريق المجاهدة ومنابذة الشهوات، ولا يرتضي لنفسه أن يكون من الخلوف الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم "يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون"، وإنما يحرص على أن يكون من أتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذين وصفوا بأنهم: "يأخذون بسنته ويقتدون بأمره" وكما يقول مالك بن دينار: "إنَّ العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصخرة الصماء".
مقومات القدوة:
1ـ الإخلاص، وهو من أعظم المطالب؛ إذ يجب أن يفتش عنه الإنسان المقتدى به، فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله عزَّ وجل بعيداً عن أغراض النفس ونظر الناس، فيفعل الأمر ويترك النهي مع تمام الخضوع لله والتسليم له.
2ـ الاستقامة على الإيمان والعمل الصالح، إذ إن هناك الكثير من الصالحين، ولكن قليل من يستقيم على ذلك ويتمسَّك به في كل أحيانه وظروفه، وفي كل زمان ومكان، فلا يتغيَّر ولا يتلون ولا يحابي. فللقدوة في نفسه شغلاً بين إقامتها ومجاهدتها وسياستها. وهذا هو المطلوب الأعلى والنهج الأسمى، وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
3ـ حسن الخلق: إذا كانت الاستقامة والصلاح يتوجهان إلى ذات المقتدى به ليكون صالحاً في نفسه قويماً في علاقته مع ربه، فإنَّ حسن الخلق يتوجه إلى علاقته بالناس وأصول تعامله معهم، ويُجمل ذلك المنهج الدعوة النبوية في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وخالق الناس بخلق حسن".
والكلام في حسن الخلق واسع ومتشعب، ولكن نجعله في أمور وكليات منها:
* الصدق، فيحذر القدوة الخداع والكذب والتحايل، وكل خلق يضاد صفة الصدق؛ لأنَّ المؤمن القدوة لا بدَّ أن يطمئن إليه الناس ويثقوا به، ولا يكون ذلك إلا لصادق.
* الصبر وتحمل الأذى والصفح عن المسيء وسعة الصدر؛ إذ إن الناس يكتشفون معدن الإنسان ويمنحونه احترامهم وثقتهم عن طريق رؤيتهم لتصرفاته وتعامله وأخلاقياته الراقية التي تنشأ عن الصبر والاتزان.
ومن أعظم أنواع التعامل الحسن أيضاً:
* التواضع وإنكار الذات، وأن يألف ويؤلف، وكذلك العفو والتسامح وغض الطرف عن الهفوات.
ومن مكارم الأخلاق التي هي مقومات القدوة:
* عفة اللسان والترفع عن القيل والقال وترك الانشغال بسفاسف الأمور وتجنب الخوض مع الخائضين.
ومن صفات القدوات:
* الكرم والرحمة وأداء الأمانة ووفاء الوعد والقناعة والعفة والرضا بالقليل، وغير ذلك من الأخلاق والصفات التي تجسدت في قدوتنا وأسوتنا النبي الكريم الأكرم سيد الخلق وقدوتهم بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
4ـ استقلال الشخصية، وذلك ركن رئيس في سمات القدوة، فيتحرر القدوة من التبعية والتقليد الساذج، فيكون مؤثراً لا متأثراً، ما لم يكن متأسياً بهدي الصالحين والمصلحين، فلا يليق بمن هو في موقع القدوة أن يكون إمعة يخضع لضغط الجهال والسفهاء يميل معهم حيث مالوا، وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا وإذا أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم". ولكي لا يفتتن به إمعة من رعاع الناس لا يرى الدين إلا من خلال تصرفاته، فكما تكون الإمامة والأسوة في الخير، فهناك قدوة الضلالة ينظرون الناس إليه على أنه مثلهم الأعلى، فإن زلَّ زلوا معه، وإن عاد إلى الصواب بعد ذلك قد لا يعودون.
5 ـ من مقومات القدوة: الاعتدال في أمور الحياة ونهج منهج التوسط والاقتصاد، ومراعاة آداب الشريعة وتوجيهاتها في أمور الحياة والمعيشة، ولا سيما في اللباس والمظهر وهما الامتداد المادي لحقيقة الذات، والعاكس المهم لكثير من كوامن الشخصية وخصائصها، فمن المهم أن ينسجم مظهر القدوة مع منهج التدين الذي ينسب إليه، والحذر من المفارقات والتناقض الذي يضعف أثر القدوة في نفوس الناس.
6 ـ تنظيم الوقت وحفظه من مقومات شخصية القدوة، بحيث يعطي كل ذي حق حقه، ولا يطغى جانب في حياته على جانب آخر، فتضيع الواجبات والأولويات على حساب الاشتغال بالتوافه والثانويات.
ميادين القدوة:
1ـ العبادة والطاعات المحضة، وذلك بالمحافظة على الفرائض والواجبات، والتزود بالإكثار من النوافل والقربات، فذلك ميدان مهم من ميادين الدعوة بالقدوة، كما كان التأثير بذلك قوياً في هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في عبادته وقيامه بحق ربه، ومن ذلك أيضاً أمره لنسائه بقيام الليل حينما رأي تنزل الفتن والخزائن على أمته ليقتدي بهن النساء، خاصة والناس عامة في كل زمان، ولاسيما زمن كثرة الفتن.
2ـ علاقة القدوة بالناس وتعامله معهم وكسبه لحبهن واحترامهم وثقتهم من خلال حسن تصرفه وتحليه بمكارم الأخلاق والسماحة والكرم والعدل وطيب العشرة وطلاقة الوجه وحسن القول، إلى غير ذلك من مجالات الدعوة بالقدوة في التعامل، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الميدان أعظم أسوة وأرقاها.
3 ـ تكوين النفس وتربيتها علماً وأدباً وسمتاً ومظهراً، وهذا ـ كما أشرنا سابقاً ـ لا تتحقق القدوة إلا به، وهو في الوقت ذاته مجال من مجالات الدعوة وأسلوب مؤثر من أساليبها. فيقع التأثر في نفوس الناس بمظهر القدوة وسمته ووقاره موقعاً بليغاً يفوق أحياناً الاستفادة من أقواله وعلمه. وقد ورد أنَّ الذين كانوا يجلسون على الإمام أحمد بن حنبل في مجلس درسه يبلغ المئات، مع أنَّ الذي يطلب عليه ويدون علمه عدد قليل من ذلك الحشد الكبير الذي إنما حضر انتفاعاً بهدي الشيخ وإقتداء بسمته وأدبه.
أهمية القدوة في أوساط النساء:
إننا في ظل الظروف الحالية والمرحلة الخطيرة المقبلة بحاجة ماسة إلى قدوات من نساء فقهن دينهن ووعين دورهن في المجتمع، إذ إن هناك مجالات وميادين نسائية كثيرة تفتقر إلى التوجيه القيادي العملي، ولاسيما في مجالي التربية في البيوت والتعليم في المدارس والجامعات. ومع ذلك فهناك من النساء الرائدات كان لهن التأثير الكبير بفضل الله على أزواجهن وأسرهن وطالباتهن من خلال أسلوب القدوة الفعَّال.
ومع أنَّ الصحوة العلمية والحركة الدعوية في أوساط النساء قد بلغت في وقتنا الحاضر من القوة والنشاط ما لم يسبق له مثيل فيما مضى، إلا إنه لا يزال الأمر محصوراً في طبقة المتدينات والراغبات في الخير إجمالاً، بينما هناك في أوساط النساء جماعات كثيرة وشريحة ضخمة لا يبلغهن ذلك الخير ولا تصلهن الدعوة، وذلك في الغالب بسبب الغفلة والانشغال بأمور الدنيا.
فكيف يمكن إيصال الدعوة إليهن والتأثير عليهن؟
إنه عن طريق القدوة الصالحة لتلك المرأة الواعية الفاضلة التي لا بدَّ أن تكون موجودة بين صفوف أولئك النسوة.
عندها يفهم الجميع هذا الدين ويدركون المطلوب منهم والمحذور عليهم، من خلال النساء الصالحات القدوات.
نصائح وتوجيهات لكل موفقة اصطفاها الله جلَّ وعلا لتكون أسوة تحتذى ومنارة للهدى:
إنَّ الذي ينحدر للتهافت على الملذات ذلك الذي رضي لنفسه أن يعيش دائماً في القاع، وأما من يرقى في سلم الطاعات ومجاهدة الملذات؛ فذلك صاحب الإمامة في الدين وقدوة المتقين ومضرب الأمثال للعالمين، وإن كانت امرأة {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}.. وكذلك {َمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا..}.
فلذلك أيتها الموفقة، يا من هداك إلى طاعته وبيَّن لك سبيله، يا طالبة العلم الشرعي، يا من نشأت في بيوت الصلاح والدعوة، يا أم وزوجة وأخت وبنت الداعية، يا نساء بيوت العلم والصحوة.
إلى المثل التي يحتذي بها غيرها من النساء، إلى القدوة الصالحة لغيرها من المؤمنات، إلى المثال الحي الواقعي لحياة ملأتها المغريات والملهيات؛ حتى ظنَّ بعض المفتونات أنَّ بلوغ ذلك المستوى من تكوين الذات وإنشاء مثل تلك البيوت من الأمور المستحيلة.
وإليك ـ أختي القدوة الداعية بأفعالك ـ هذه التوصيات والتنبيهات:
1ـ الحذر من التساهل الذي يفتن العامة ويلبس عليهم، مثل الأخذ بالرخص وبعض أقوال أهل العلم الشاذة أو المرجوحة. ولما نهى عمر رضي الله عنه عبدالرحمن بن عوف عن لبس الخفين في الحج ـ أخذاً بالرخصة في ذلك ـ؛ لخشية عمر أن يتوسَّع الناس في ذلك، قال له: "عزمت عليك إلا نزعتهما، فإني أخاف أن ينظر الناس إليك فيقتدون بك". ومن ذلك في الوقت الحاضر: تساهل كثيراً من الخيرات، بل وبعض طالبات العلم الشرعي في ركوب السيارة مع السائق لوحدها وحصول الخلوة بذلك؛ أخذاً بقول بعض من رخص، وكذلك التساهل في الوقوع في بعض الأمور المستحدثة التي ترجح تحريمها، كما في مسألة تشقير الحاجبين ليبدوا أدق قريباً من وصف النمص، وذلك مما أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بعدم جوازه.
بل إن صاحبه الأسوة الحسنة قد تحتاج إلى ترك بعض المباحات أو التقليل منها؛ احتياطاً لأمر دينها وبعداً عن الشبهات وصيانة لنفسها عن مواطن سوء الظن؛ لأنَّ ذلك ينفر الناس من الاقتداء بها. ككثرة المزاح والضحك وكثرة الخروج والزيارات وامتدادها الساعات الطويلة بغير حاجة ولا مبرر شرعي.
2 ـ إنَّ مما يساعد المرأة المسلمة على الارتقاء بذاتها إلى درجة القدوة: أن تتخذ مع اقتدائها بنبيها وسلفها الصالح ـ من بعض من تلقاه من الصالحات العالمات بدينهن مثلاً تقتدي به؛ لأنَّها لا بدَّ وأن تجد فيمن عاشرته وتلقت عنه سمتا وهديا فائقا يجذبها إليه، فتستطيع من خلال التأمل أن تقف على أفضل ما يحمله من حولها من الصالحين والصالحات من صفات، ثم تستلهم من ذلك الدافع القوي لتربية ذاتها، فقد تجد عند البعض حسن التعامل مع الآخرين.. كالصفح عن المسيء وحسن الظن ولطف الخطاب وسعة الصدر والتواضع وإنكار الذات، وقد تلمح عند أخريات الإسراع إلى فعل الطاعات وبذل الصدقات، ثم قد يجذبها عند الأخرى حسن مظهرها المتلائم مع تعاليم دينها مع احتفاظها ببهائها وجمالها ونظافتها، كل ذلك من غير إسراف ولا مخيلة.
ولهذا التوجيه أصل عظيم في كتاب الله تعالى، حيث قال الله تعالى آمراً نبيه بالنظر في أحوال وأوصاف الأنبياء قبله متخذاً هديهم أسوة له، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..}.
3 ـ لا بدَّ وأن تكوني واضحة وصادقة مع نفسك لاكتشاف نوعية التصرف والخطأ الذي لا يصلح معه أن تكوني قدوة ويسقط هيبتك الدينية، ومن ثم انتفاعهم بكلامك، بل قد يكون ذلك سبباً في فتنة الآخرين وضلالهم تأسياً بخطاك، وذلك الأمر يتطلب الوقوف على النفس بالمحاسبة ومراجعة الذات ثم العمل على تهذيبها ومجاهدة ما شقّ عليها.
4ـ الحذر من بعض الأمور الدارجة في هذا العصر، والتي تهافت عليها الكثير من النساء لقصورهم العلمي ونقص ديانتهم، فأصبحت في بعض المجتمعات والأسر من المشاهد والظواهر المألوفة، مع مخالفتها الصريحة للدين وبيان حكم تحريمها، ولكن لغلبة ممارستها وكثرة الوقوع فيها استسهلها وتأثر بها كثير من الصالحات والقدوات، وشاكلن الجاهلات في ذلك؛ فاختلط الأمر على العامة وتلبس الباطل والمنكر بلبوس الحق والمعروف.
ومن ذلك:
أ ـ ما يتعلق بالمظهر واللباس، سواء في لبس الحجاب عند الخروج، أو لبس الثياب والزينة عند النساء، فأما مظاهر القصور والخلل في الحجاب متنوعة، منها: التساهل في لبس النقاب الواسع والبرقع، وانتشار ذلك، ولبس العباءة على الكتف والجلباب، والتساهل في ستر القدمين والساق بالجوارب، ولنا في عائشة رضي الله عنها أسوة حسنة عندما كانت تشدّ خمارها حياء من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ميت في قبره عندما كانت تدخل البيت الذي دفن فيه. وأمَّا التساهل في المظهر واللباس والزينة بشكل عام، فقد عمَّت به البلوى في أوساط بيوت الصالحين، وتقلَّد حملها ووزرها كثير ممَّن هم مظنة القدوات لغيرهن.. فلبسن الملابس الضيقة المحجمة لأجسادهن بشكل تأباه الفطر السليمة ويحرمه الدين القويم كما صحَّ في حديث الكاسيات العاريات. وكذلك الملابس شبه العارية التي تكشف عن أجزاء من الجسم شأنها أن تُستر، وللأسف.. لقد عظم الخطب، وقد كان النكير من قبل على عامة النساء اللواتي وقعن في هذه المظاهر الخداعة من التقليد الساذج للغرب، ولكن ـ للأسف ـ نجد هذه المظاهر انتقلت إلى كثير من الصالحات وتساهلن بها في أنفسهن وفي أهليهن.
ب ـ كثرة الخروج للأسواق والتجوال بها، وكذلك الملاهي والمطاعم التي يكثر فيها المنكرات وتجمع الفساق. والأصل قرار المرأة في بيتها لغير حاجة شرعية {وقرن في بيوتكن}.
ج ـ السفر بغير محرم، وفي الحديث المتفق عليه: "لا يحل لامرأة أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم".
د ـ الخلوة مع الرجل الأجنبي، كالبائع في المحل والطبيب في العيادة والسائق في السيارة؛ لحديث "لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما".
هـ ـ التعطر عند الخروج من المنزل أو أثناء الزيارات والتجمعات النسائية وتقديم العطر والبخور لهن ومنهن من ستركب سيارتها مع سائق أجنبي يجد ريحها، ونسيت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية".
و ـ الاختلاط بالرجال في البيوت بالجلسات الأسرية، أو إقرار ذلك أثناء جلوسها معهم، والسماح للبنات بمخالطة الشباب الذكور من الأسر القريبة، مع غياب الغيرة على الأعراض وعدم مراقبة المولى جلَّ وعلا.
ز ـ الإسراف العام في شؤون الحياة، والمبالغة في الاهتمام بالتوافه من أمر الدنيا، كتزيين المنازل واقتناء الأواني والإسراف في الملابس والحلي والولائم، على وجه التفاخر والتكاثر المحرَّم والذي غرق فيه أرباب الدنيا ـ نسأل الله العافية ـ.
5 ـ إنَّ الفرق الذي بيننا وبين أسلافنا وقدواتنا الصالحة أنَّ المسلمات كنَّ جميعاً قدوات بعضهن لبعض {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ..}؛ وذلك بسبب قوة علاقتهن بالله تعالى، "ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف".. كانت القلوب بالله متصلة وحريصة على تأدية أمانة هذا الدين.
والآن قلَّ أن نجد هذه البواعث فينا إلا من رحمه الله؛ لغلبة الغفلة والتعلق بالدنيا وشهواتها، وكلما بعد الزمن عن زمن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ازداد هذا الجهل وقلَّ التأثر وتساهل الناس في أداء الأمانة وغابت قيادة القدوة.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
وفي الختام أخاطب أختي المسلمة فأقول:
انظري إلى نفسك: هل تريدين الدنيا أم الآخرة؟
فإن كانت تريد الدنيا فروّضيها على حبّ الآخرة، وجاهديها على الاستعداد لها وأكثري الدعاء. وإن كانت تريد الآخرة فاغتنمي وقتك واستزيدي من العمل الصالح واضربي أروع الأمثلة وأرقى النماذج للمسلمات من بنات عصرك.(1/74)
تأملي سيرة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - القدوة، ادرسيها؛ لعلها تكون زادك إلى الله والدار الآخرة، وكذلك سير أسلافك من الصالحين العابدين العالمين من رجال ونساء؛ طلباً لشحذ همتك ودفعاً لنفسك للتأسي بهم.
سائلين ربنا ومولانا جلَّ وعلا أن يتولانا فيمن تولى من عباده الصالحين، ويدخلنا برحمته في زمره أوليائه أئمة الهدى، ونسأله جلَّ وعلا أن يجعلنا للمتقين إماماً.
المصدر : لها أون لاين
ـــــــــــــــ(1/75)
وداعا للقسوة مع الأبناء
عبد الله بن سعيد آل يعن الله
أسرار وأخبار ، وخفيا وبلايا ، وآهات وزفرات ، تخرج تباعا بين بعض البيوتات ، بسبب القسوة التي كشرت أنيابها ، وفعلت أفاعيلها ...
حقا ... لقد استفحلت القسوة بين بعض الأسر ، فأفرزت العدوانية والعنف ، والضرب والقتل والتشريد ، والانحراف والطلاق ، وضروبا من أنواع الشقاوة والتعاسة بين أفراد الأسرة ...
الأبناء هم سلوة الأحزان ، ودواء للأزمان ، وزينة الحياة الدنيا ، ولا شك بأن الآباء يكنون في أنفسهم من الحب والعطف لأبنائهم منذ نعومة أظفارهم ... يقول الأحنف بن قيس:" الأبناء هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وان غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودهم، ويَحبُونك جهدهم، ولاتكن عليهم ثقيلا، فيملوا حياتََك، ويتمنوا وفاتك )
دعني أحدثك عن الذي أحدثه بعض الآباء في نفوس أبناءهم ، من أجل قسوتهم عليهم ، وهذا الحديث لايعني أن نضع الآباء في قفص الاتهام، وقاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية، إن القضية ابتداءً وانتهاءً هي محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوى أعلى من تخفيف المشاكل بين الآباء والآبناء...
أطرقت حتى ملني الإطراق *** وبكيت حتى احمرت الأحداق
سامرت نجم الليل حتى غاب *** عن عيني وهد عزيمتي الإرهاق
يأتي الظلام وتنجلي أطرافه *** عني وما للنوم فيه مذاق
أنا قصة صاغ الأنين حروفها *** ولها من الألم الدفين سياق..
يقول أحد الأبناء: ( وستجد أيها الأب في ثنايا قول هذا الشاب مظاهر القسوة التي أرهقت الأبناء ) ...
يا أبي أعلم انك تحبني ، لكني أريد أن تعاملني بأسلوب يرضيني ..... اسمع عن أباء هم أصدقاء لأبنائهم ..... أريدك صديقا لي ....... لا أريدك أن تخاطبني كأب بل كأب وصديق .....أريدك يا أبي أن تجعل أوامرك ليست أوامر ..... بل اقتراحات مصحوبة بابتسامة مشرقة .... أريدك أن تؤمن بالتغيرات التي تحدث حولنا .... أن تؤمن بشبابي كذلك بطيشي لا أعني أن ترضى بذلك ...لا يا أبي ....لكني لا أريدك أن تتفاجئ بفعل مني يفقدك صوابك فتلجأ لشتمي مثلا فضلا عن ضربي .....لا يا أبي احذر.. احذر ......أن تتركني هائما لوحدي في هذه الحياة ....أرشدني ....لا تتركني لمخالب رفقاء السوء ......نعم يا أبي أريدك قدوة لي .....أريدك أن تحقق معنى القدوة في نفسي ..... ......يا أبي لا أريدك أن توبخني أمام زملائي ...فهذا الفعل يخلق في نفسي عدوانية قد تتفا جئ بها .....أبي أرجوك لا تعاملني بقسوة في طفولتي كي لا أكرهك عندما أكبر ، قد لا أفصح لك عن ذلك قد أقبل يديك ...لكن سوف تكون نفسي بعيدة عنك ...سوف أجد أن لا تَوافق بيننا ، وكل هذا آثار تلك المعاملة في صغري ...اَعلَم يا أبي أنك تريد مصلحتي ولكن أرجوك أن تبحث عن أسلوب موافق لي كشاب وموافق لزماننا .....يا أبي لا أريد أن أشعر بنقص أمام أقراني .....لا ... لم أقصد النقص المادي وإنما المعنوي والعاطفي .......أسمع عن زميلي بأنه قد تمازح مع أبيه وتصارع .....أسمع عن آخرٍ قد ذهب هو وأبيه فقط إلى النزهة والسفر ......اسمع عن شاب قد أتى له أباه بهدية رمزية ...
أبي --
لا أريد أن أكون يتيما وأنت على قيد الحياة ........لا أريد مصروفا ماديا ، لا أريد سيارة ، أريدك أنت يا أبي ....أريد أن أجلس معك ....أن تملئ عطف الأبوة الذي بداخلي ..
أعاني في حياتي ما أعاني وأقضي العيش مفقود المعاني
وأسمع بالسعادة لا أراها أيبصرها حسير الطرف عاني
وتزداد الهموم لأن مثلي رماه في شقاه الوالداني
وذى الصدر الحنون دعته دنيا وألهته المجالس عن مكاني
ويقول آخر - كنت طالبا متفوقا في المرحلة الثانوية ، وعند تخرجي ، أجبرني والدي على تخصص لا أريده ، فحال بيني وبين رغبات نفسي ، حاولت أن أقنعه عن طريق أمي وأختي الكبيرة ، فأبى ذلك ، ودخلت هذا التخصص الذي قتل إبداعي وطموحاتي ، وأبي هو السبب في ذلك وأنا الآن لي أكثر من عشر سنوات تائه ، لم أكمل دراستي ولم أكسب مراعاة من أبي .
ويقول أحدهم :- أسلوب أبي أسلوب التخويف والعقاب وأسلوب الأوامر ، لا نقاش ... لاحوار ، لسان حاله ما أريكم إلا ما أرى فكم مرة هيأ لي موقعا في دورة المياه للضرب ، وجهز سلاسل الحديد ليضعني في مستودع المنزل أو في بيت الدرج ...
ويقول لي أحدهم وعمره في الأربعين سنة : أبي لم يعدل بيني وبين إخوتي ولم يساويني في التعامل معهم أثناء صغري ، وزاد الطين بِلَّه عندما تزوج امرأة أخرى غير أمي وأتى لها أولادا آخرين فأحسن إليهم وأساء إلينا ، ثم ذكر سلسلة من الإهانات والضرب والتعقيد والطرد الذي لحق به من والده ، ثم أجهش بالبكاء ،وكانت تلك اللحظات هي أسوأ لحظاتي التي قضيتها لأن بكاء وأنين الكبير غير بكاء الصغير ، فلما انتهى من بكاءه تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقال : سامح الله والدي فهو الآن في قبره ، ولكني أحببت أن أفضفض عن بعض معاناتي في حياتي...
سبحان ربي العظيم ... رجل جاوز الأربعين سنة ،ولازال يتجرع مرارة القسوة من والده وهو في قبره .
وفي رسالة ابن لابنه ... يقول
( يا أبت حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي، وتعثرت في الطريق، أتذكر كلمات التأنيب أمام عمومتي وأقاربي؟ إن كنت نسيتها فإن الصافع ينسى مالاينساه المصفوع، وهل تتصور أني نسيت يا أبت حين قدمت إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي ، وفي مجلس قريب من المجلس نفسه ، فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لقيت؟ وهل تريدني أن أنسى ذاك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟
بل أحياناً يا أبت تحملني ما لم أتحمل؛ ففي ذات مساء أمرتني أن أحضر الطيب للضيوف فذهبت إلى أمي فوجدته لم ينته بعد وعدت إليك، ألم يكن لديك بديل عن التأنيب لي ولأمي ؟ أو ليس الأولى أن تقدر في نفسك أنه لم ينته بعد؟ وهب أنه تأخر لدقائق وما ذا في الأمر؟ ألا تتصور أني إنسان أحمل مشاعر وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي ؟ ) (1)
ويقول أحدهم في بعض الأوقات أتخيل أن يصيبني الله بحادث مروري بسيط ، أو مرض السكر والضغط ، قلت له لماذا ؟ قال من أجل أن أحصل على رصيد أبواي العاطفي أثناء مرضي ...
أبي مهلاً بعيني دمعتانِ *** تلوح بالأسى مما دهاني
أناشدُ فيكَ يا أبتاه قلباً *** عرفتُ به السماحة والتفاني
ويقول آخر أبي يعاتبني وينهرني أمام الآخرين حتى أنه في يوم من الأيام تمنيت أن الأرض ابتلعتني عندما تفلني أبي أمام جيراني ... با لإضافة أنه كثير المشاكل مع والدتي ومعي ومع إخوتي ، فلا يهد أ له بال إلا عندما يؤجج مشكلة في المنزل ، ويا ليت أن أخلاقه معنا كأخلاقه الحسنة مع زملائه وجيرانه ...
ويقول آخر أبي سبب بيننا وبينه فجوة بسبب المعاملة القاسية والضرب الشديد والعقاب البدني و الإهانة والتوبيخ والشتم الجارح ،وعندما ما يقوم أبي بضرب أمي أمامي وأمام إخوتي ، ويلغي شخصيتها وكيانها أمامنا يزداد نفورنا وكرهنا له 0
ويقول أحد الأبناء: أبي يكيلني بعبارات هشمت طموحاتي ، وبلدت إحساسي ، فأسْمَعُ باستمرار ، كلمة فاشل ، و كلمة ليس فيك فائدة ، وأنت صائع ، وأنت مجنون ، ويشبهني بإخواني وبأبناء عمومتي وأقراني ، حتى كرهت البيت والمجتمع...
علاقة الآباء بالأبناء ينبغي أن تكون على ثلاث مراحل ...
1- علاقة حنان من الأب والأم وغالبا ما تكون في فترة مابين الولادة إلى سن 10سنوات ...
2- الحنان مع القدوة ... فيحرص الآباء على أن يكونوا قدوة صالحة للأبناء مع عدم فقدان العاطفة وتكون في فترة ما بين 10 سنوات حتى 15سنة ...
3- الحنان والقدوة والصداقة ما بعد 15 سنه ...
وبذلك يكون هناك توازن في التربية بين الأب وأبنائه ...
أيها الأبناء ...
مهما أساء الآباء ، و مهما كانت أخطاؤهم ..
فهم بشر يعتريهم التقصير و الخط...
و كذلك .. هم أصحاب فضل علينا ..
فلزاما علينا طاعتهم في عسرنا و يسرنا ..
في فرحنا و حزننا ..
في رضانا و رفضنا ..
إلا في معصية الله ..
وخلاصة القول ...
من هذه الساعة ... ليودع الآباء القسوة من حياة الأبناء ... أحبوا أبنائكم بعمق... اجعلوهم يشعرون بحبكم لهم...
ليكون لسان حال من قسا على أبنائه ، وداعا أيها القسوة التي عانقت شخصيتي ، وداعا أيها القسوة.... سأتجه إلى أبنائي -- المأوى الدافئ ، والملجأ الآمن، والمدرسة الأولى ، ومركز الحب والسكينة وساحة الهدوء والطمأنينة 0
وداعا أيها القسوة ..... فكنت أترجم الشحن النفسي من العمل والمجتمع على أبنائي ، وعرفت بأني أجحفت في حقهم ... الوداع أيها القسوة ..... فوداعي لكِ بلسم وسرور ، وفراقي منكِ سعادةٌ وحبور ، وإلى غير لقاء قادم بإذن الله ...
----------------------
(1) محمد الدويش مقال ( يا أبت )
ـــــــــــــــ(1/76)
رسالة إلى إمام المسجد
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
إلى إمام الأخيار في كل بيت من بيوت الله تعالى ، يسرني مع إطلالة شهر رمضان المبارك أحييك بتحية أهل الجنة تحيتهم يوم يلقونه سلام فسلام الله عليك ورحمته وبركاته ، سائلاً المولى تعالى أن تصلك رسالتي وأنت تلبس ثوب العافية ، وتنعم بحلل الاستقامة .
أخي الفاضل : لعلك تدرك حفظك الله برعايته أن إمامة المسلمين مسؤولية عظيمة جداً وهي من إلأمانة التي تخلّت عنها السموات والأرض جاء ذلك في قول الله تعالى : (( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً )) ورسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة )) إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت ببيان هذه الأمانة وفضلها والآثار المترتبة على إهمالها . داعين لك المولى جلّت قدرته أن يعيننا وإياك على الوفاء بحق هذه الأمانة .
أخي الفاضل : أقبل رمضان وهو يحمل فضائل عظيمة ، وخيرات جسيمة ، والمسلمون ينتظرونه بفارغ الصبر ، فمن يا ترى غيرك يتولى هذه المسؤولية فيبين للصائمين عن هذه الفضائل ؟ ويوضح لهم أحكام هذا الشهر ؟ ويروى عطش كثير من السائلين عن الحق ؟ ولأن مسؤوليتك كإمام تجاه هذا الأمر عظيمة أحببت أن أذكّرك ببعض من جوانب هذه الأمانة :
أولاً : كن قدوة حفظك الله أسوة بنبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - إذ كان عليه الصلاة والسلام إماماً وقدوة لأمته من بعده ، فاحرص حفظك الله تعالى على ملازمة الفرائض في أوقاتها ، ولير من يصلي معك أثر القدوة حقيقياً في حياتك من المداومة على النافلة ، والإقبال على القرآن الكريم ، ومداومة الذكر . وإياك إياك أن يرى منك من يصلى معك تهاوناً في القدوة ، أو تأخراً عن صلاة الجماعة ، أو ضعفاً في العبادة ، فإن لذلك أثراً عظيماً في خدش هذه القدوة حفظك الله من كل هذا .
ثانياً : تعهّد جماعة المسجد بالموعظة في هذا الشهر الكريم ، وليكن لك ورد ثابت من القراءة على المصلين ، مستغلاً لأفضل الأوقات التي ترى فيها إقبال المصلين ، متخيراً من الكتب ما تراه أقرب لهم في العبارة ، وأكثر عناية بالجوانب الروحانية فإن الشهر فرصة عظيمة في توجيه هذه الجموع .
ثالثاً : أحي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحيا الله قلبك ونوّر بصيرتك ، وليكن شعارك إما معروف يبقى أو منكر ينتهي ، وتذكّر أن عاقبة السكوت عن المنكرات عاقبة وخيمة في حياة الأفراد والجماعات ، فهذا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لتأمرن بالمعروف أو لتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم تدعونه فلا يستجاب لكم .. )) هذا في حياة الأفراد ، أما على مستوى الجماعات فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم : (( افأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم باسنا ضحى وهم يلعبون * افأمنوا مكر الله ، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) وغير ذلك من الوعيد تجاه من يتجاهل هذه الشعيرة العظيمة . والأمل بعد الله تعالى على شخصك الكريم بأن تكون واعظاً ومذكراً ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، وراع حفظك الله وأنت تقوم بهذا الدور أن تتخيّر الأسلوب الأمثل في النصيحة ، وأن يكون إنكارك مستمراً ، وليعرف كل من يسمع حديثك أو يراك أنك من الآمرين والناهين .
رابعاً : ليكن لك دور بارز في دعوة أهل الحي فتخير حفظك الله من الوسائل ماهو أقرب للمقصود سواء من الشريط ، أو الفتوى ، أو الرسالة ، عن طريق لوحة المسجد ، أو المسابقات ، وليكن لك ارتباط مباشر بمكتب الدعوة أو المندوبية في مجتمعك ليتحقق بهذا التعاون النجاح المأمول بإذن الله تعالى .
خامساً : من الفرص العظيمة في هذا الشهر الكريم إفطار الصائمين ، وقد قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : (( من فطّر صائماً فله مثل أجره ... الحديث )) وحري بك حفظك الله أن تهتم بهذا الجانب وتحرص على هذا الأجر ، وتشجّع المصلين على ذلك ، خاصة إذا وجد في حيكم أو فيما يجاوره الجاليات الفقيرة من أهل الإسلام فإن ذلك أدعى لوجود هذا الخير وفقك الله .
سادساً : ركّز حفظك الله تعالى على إصلاح ذات البين ، فقد قال الله تعالى : (( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ... ... الآية )) وليكن همّك في هذا الشهر الكريم جمع شتات أسرة ، أو لم شمل أحبة ، فهذه أدوارك ولا نعدم منك حفظك الله جهداً مضاعفاً تجاه هذه الأدوار .
وأخيراً : أخي الإمام : هذه رسالتي بين يديك وهي مجرد ذكرى أحببت أن تصل إلى شخصك الكريم في بداية هذا الشهر المبارك ، وأنت ممن يفعّل دورها ، ويحي أثرها . أحيا الله قلبك ونور بصيرتك ، وزادك شرفاً بهذه الرسالة . والله يتولاك ويرعاك .
أخوكم / مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
ـــــــــــــــ(1/77)
تكسير الرموز والأعلام أشد خطراً على الأمة من القنابل والألغام!
الدكتور/عبدالعزيز بن عبدالله الأحمد
لتتصور أي أمة تنطلق بدون قيادات في سلم مجدها وتستمر في رقيها وصعودها ... أيمكن ذلك تاريخاً وواقعاً ؟!!
إن العقلاء ينفون وجود نجاحات بدون قيادات ألمعية يتبعها الناس، فكيف بالاستمرار والإبداع ؟! ولذا لا نكاد نرى أمة من الأمم تعيش بلا رموز مضيئة تنير طريقها، ومقدسات تعطيها قوة ورسوخاً وامتداداً وارتفاعاً، حسب زعم كل أمة أو مجتمع، والواقع يصدق ذلك أو يكذبه .
إن وجود "الرموز" في الأمم أمرٌ ضروريٌ لرسم الصورة التي يجب على الأمة اقتفاء أثرها..وتلمس خطاها..إذ يعطي اليقينَ بصدق المنهج، وإمكانية الممارسة والتطبيق في الحياة، كما أنه يعطي الناشئة "نماذج" حية تملك مقومات القدوة الحسنة والقيادة الفذة لتحاكيها في واقع الحياة .
ونظراً لأثر الرموز والقادة - أياً كانوا - على مجتمعهم ومن حولهم .. أكد المتخصصون في الدراسات النفسية على خطورة أثر "النموذج" Modeling على الشباب والشابات وخاصة الصغار ويظهر ذلك بتقليد بعض المشاهير، كلاماً ولبساً ومشياً ... إلخ .
إن النموذج أو ما يطلق عليه في المفردة الإسلامية "القدوة" خطير جداً في صناعة الحياة خيراً أو شراً، فكل ما يحيط بالإنسان من أب أو أم، أخ أو أخت، عالم الكبار، عالم النماذج والمشاهير في الواقع وفي الأفلام، في السير والتاريخ، كل ذلك يبني عقول الناشئة وسلوكهم، إن أسهل طريق للتربية -وهو في الوقت نفسه أشدها خطراً- هو القدوة والرمز ؛ إذ يجذب الآخرين إليه بالمحاكاة والتأسي والتقليد!
ويلاحظ في الإسلام الاهتمام البالغ بإبراز أثر النماذج بجميع أنواعها وصورها .. سواء الايجابية أو السلبية، ومثال ذلك في القرآن جلي وواضح، فكثيراً ما يبرز الله سبحانه وتعالى بعض النماذج الإيجابية بأقوالها وأعمالها آمراً بالتأسي بها ..
ويذكر بعض النماذج السلبية بمواقفها وسلوكياتها محذراً منها، كما قال تعالى آمراً نبيه محمد - - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر بعض النماذج الرائعة من إخوانه السالفين عليهم السلام: (أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده)، هؤلاء الرجال المصطفون من أبناء آدم يرقون صعداً في مدارج الكمال وترشح قلوبهم الكبيرة لاستقبال ما يفد به الملأ الأعلى من الله تعالى، فإذا بالحكمة تسيل من ألسنتهم، والأسوة الحسنة تفيض من أعمالهم، والنزاهة تقترن بأحوالهم، وليست وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بذل المعرفة والكشف عن حقائق الكون والإنسان والوجود فحسب! بل إن تربية الأصحاب والأتباع على المبادئ الحقة والتعبد لله تعالى من أهم ما جاءوا به، فكان - - صلى الله عليه وسلم - يتذكر حين يعادى ويؤذى .. صبر موسى .. وحين يحج أو يعتمر يتذكر مرور إبراهيم وإسماعيل، والأنبياء بالبيت العتيق، وكثيراً كثيراً ما كان يقص النبي - - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه رضي الله عنهم من قصص إخوانه ومن سلف ليقتدوا بهم ..
هم الرجال المصابيح الذين هم *** كأنهم من نجوم حية صُنعوا
أخلاقهم نورهم من أي ناحية *** أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا
كان المرسلون الأولون مصابيح تضيء جوانب الليل الذي ألقى بظلاله على أنحاء الدنيا، فلما ظهر فجر الإسلام بدأ ينشق عنه الظلام، وبدأت أشعة الرسالة العامة تتهادى في الأفق انتقل العالم من عهد إلى عهد جديد ..
لا تذكروا الكتب السوالف قبله *** طلع الصباح فاطفأ القنديلا
إنه قدوم الأنموذج الفريد والرمز العظيم والرجل الكريم والقدوة الوحيدة، فيه اجتمعت كمالات من سلف من الأنبياء والمرسلين والصالحين والناجحين، إنه محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي - - صلى الله عليه وسلم - ، ذو الصفات الرفيعة والخلال البديعة، إنه الأول في الصدق والوفاء، والإيمان والإحسان، والرحمة والرأفة، والشجاعة والإقدام، والذكاء والزكاء، والجود والسخاء، والزهد والورع، والتعبد والتخشع، وبشر والابتسام، والقدوة والإكرام، والفصاحة والبيان .. خيره إلى الناس موصول، ولا يصدر منه شر ولا مكروه، يحب السهل واللين .. ديدنه الإحسان والمعروف، جمع جمال الظاهر والباطن وكمالهما، يحسبه من رآه أنه لا يحب أحداً سواه، كالشمس ترسل اشعتها فيستمتع الجميع بها ويأخذ كل أمري حظه من الدفء والحرارة والإمتاع، لا يحس بأن أحداً يشاركه فيها أو يزاحمه عليها، ومع ذلك فهو بشر من البشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق..
إنها سيرة كالبحر الخضم تصب فيه الأنهار!
فمبلغ العلم فيه أنه بشر *** وأنه خير خلق الله كلهمِ
رجل وصل إلى اعظم درجات السواء البشرية بفضل من الله ونعمه، حتى طارت من الأفواه شهادات الإنصاف والتزكية له، سواء من أعداءه المعاصرين في وقته وبعد مماته وحتى يومنا هذا - - صلى الله عليه وسلم - ، كلهم يشهدون على صدقه وأمانته، وكرمه، وجوده، وإنصافه، وعدله، وسمو قدره، وفضله، وتواضعه، ورحمته... والحق ما شهدت به الأعداء !
كل البلاغة عيّ في مناقبه *** إذا تفكرت والتكثير تقليل
لو أجمع الخلق أن يحصوا محاسنه *** اعيتهم جملة منها وتفصيل
وقد خص الله تعالى هذ النبي الكريم بأمور تعز على الحصر، لكي يقتدى به ويتبع كأنموذج فريد، فهو خاتم الأنبياء وسيد العظماء والأولياء، ورسالته خاتمة الرسالات، وكتابه المهمين على جميع الكتب ناسخ لها، ولأجل أنه القدوة الاسمى والمثل الأعلى لكل مسلم ومسلمة حفظ الله سنته وطريقته كما حفظ القرآن الكريم، وبلغنا الوحيان، الكتاب والسنة متواترين عبر الأجيال .. !!
إنه الرجل الأشهر في العالم، والأكثر ترداد على الألسنة، وذكراً في الدنيا، فمنذ عهده - - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا الحاضر وهو يذكر في أذان كل صلاة إعلاما واحراماً خمس مرات في اليوم الليلة .. في كل مسجد من أنحاء العالم إنها مئات الآلاف من المساجد .. وملايين بل مليارات الصلوات .. إن هذا الذكر المدوي له نعمة من الله تعالى على . نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتذكير للناس بسيرته للاقتداء به والاهتداء بهديه!
وقد تميزت سنته وهديه وسيرته بعدد من الميزات منها :
أ ) اشتمالها على الجوانب الانسانية كلها سواء الجوانب الإيمانية العاطفية، والقولية اللسانية، والحركية السلوكية، كذلك تضم نشاطه العبادي والتعاملي، والسياسي، والإداري والاجتماعي والنفسي والتربوي .
ب ) الدقة من ناحيتين:
أولاً : التثبت في الرواية والنقل، والحرص على عدم الزيادة والنقصان في الكلمات أو الأوصاف أو الاشياء .. وهذا مما تميزت به أمة الإسلام في نقل الأحاديث ودراستها رواية ودراية .
ثانياً : التعمق في نقل كل شيء مما يخفى عن معظم الناس كأموره - - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومع نسائه رضي الله عنهن، وفي سلمه وحربه، وفي مسجد وسوقه، وحضره وسفره، وليله ونهاره، بشكل يعز نظيره ولذا يقول أحد كبار المستشرقين وهو (جون ديون) في كتابه " اعتذار من محمد والقرآن ": (لا ريب أنه لا يوجد في الفاتحين والمشرعين والذين سنو السنن من يعرف الناس حياته وأحواله بأكثر تفصيلاً، وأشمل بياناً مما يعرفون من سيرة محمد - - صلى الله عليه وسلم - وأحواله )، كل ذلك حتى يكون أنموذجاً حياً وقدوة متكاملة الصورة .. ومعلماً واضحاً للسالكين .. ولذا قال الحكيم الخبير ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ... الآية ) فإن لم يكن هذا النبي الكريم الأسوة الحسنة والقدوة الكاملة فمن ؟!
وهذا الأمر - أعني وضوح دين الإسلام، وحفظ مروياته، ودقة حفظته، وسلاسة احكامه ووضوحها، وتسيد نبيها وعمق أثره في الآخرين، اعطى أمته قوة الانتشار وكثرة الأنصار في جميع أنحاء العالم واصبح أسرع الديانات في معدل الانتشار .. مما جعل بعض السفهاء والشانئين يحقدون على هذا النصوع والنجاح .. فيمموا ووجوههم لاجتثاث أمة الإسلام من جذورها، فمرة يسخرون من الإسلام وأخرى يصبوا جام غضبهم على الكعبة المشرفة فيزمعوا إحراقها، وتارة القرآن الكريم، وأخيراً وليس آخراً الاستهزاء بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - ولو كان الاستهزاء بآحاد المؤمنين لرفض تماماً فكيف إذا كان المستهزأ به مقام النبي - - صلى الله عليه وسلم - !!
إنّ هذا أمرٌ جدُ خطير .. إن خسارتنا للأموال والأرواح بل الدنيا كلها عندنا نحن المسلمين لهو أسهل آلاف المرات من تشويه القدوة الكاملة والأسوة الحسنة للمسلمين بل العالم أجمع!
إن تشويه صورته وكسر رمزه في القلوب ومن ثم التشكيك بدينه وطريقته لهي أشد من النزال العسكري والمدافع والقنابل والألغام .. فخسارتنا بالمعارك أهون بكثير من آثار الشك بمقام النبي الكريم تلك ضررها على الاجسام، أما هذه فعلى القلوب والأفكار والمعرفة والدين .. إذاً بمن نقتدي ؟؟ ومن نتبع ؟!!
إن الله تعالى بحكمته جعل محمداً - - صلى الله عليه وسلم - أمياً لا يقرأ ولا يكتب حتى لا يظن ظانٌ أن الخير الذي معه اكتسبه من أهل الكتاب أو سرقه كما قال تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) فكيف الآن .. بما يرسمون وما يقولون !!
إنه لماسطر الشانئون الدنمركيون وغيرهم رسومات التنقص والازدراء بقدوتنا الأكمل وأسوتنا الأعلى قد بين لنا عما تكنه صدورهم من الحسد والحقد تجاه المسلمين، وهذا ليس بمستغرب منهم، فليس بعد الكفر بملك الملوك ذنب، لكن قد وجب حينئذٍ على الأحباب الدفاع عن حياض حبيبهم الذي تخللت محبته داخل القلوب والمشاعر .. وهذا مصداق لإيمان المرء كما جاء في الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) وهذه المحبة تستوجب اتباع منهجه واقتفاء سنته في جميع الأحوال .. ونصرته ومظاهر محبته - - صلى الله عليه وسلم - تبرز فيما يلي:
• كثرة ذكره والدعاء له والصلاة عليه - - صلى الله عليه وسلم - .
• إتباع سنته وفعل أوامره واجتناب نواهيه .
• نشر دينه وسنته بين الناس علماً وعملاً .
• نصرة دينه وسنته والذب عنهما وعن شخصه - - صلى الله عليه وسلم - .
وقد سرنا جداً ما سطره بعض المسلمين عملياً للمنافحة عن القدوة العظمى والأنموذج الأوحد - - صلى الله عليه وسلم - حين نال منه سفهاء، وقد رأينا مظاهر النصرة له بالدعاء والخطب والمقالات والتنادي لمقاطعتهم تجارياً وسياسياً..
بعض هذه الدعوات نجحت، لكن حتى يكون التفاعل أكثر إيجابية، وأعمق تربوياً فيحسن الالتفات لهذه الأمور :
1) بيان خطورة مثل هذه الأمور التي وصلت حد الاستهزاء بثوابتنا فذلك مدعاة لتشكيك الناس في دينهم وحرفهم عن طريقهم القويم .. لا سيما الاستهزاء بالقدوات وكسر الرموز الذين هم حملة هذه الدين ومبلغيه عن الله تعالى إلى الناس وهم الأنبياء والمرسلون وعلى رأسهم نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - كذلك يشمل ذلك المستهزين بالصحابة رضي الله عنهم والعلماء والقادة الصالحين.
2) ضرورة تحرك ولاة الأمر من العلماء والرؤوساء والأمراء بصد مثل هذه الدعوات المغرضة لتشوية الإسلام وقرآنه ونبيه، بالندوات، والمحاضرات، والفتاوى، والمؤتمرات الفقهية والسياسية والابحاث والدراسات كذلك تصعيد الوقفة الجادة أمام ذلك سيما قادة الدول بقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية فضلا عن سحب السفراء .
3) إعداد وثيقة بأمر من خادم الحرمين الشريفين أيده الله بطاعته، وبقرار من لجان شرعية وسياسية وقانونية ترفع للهيئات الإسلامية والمجامع الدولية ومحاكمها بحيث تنص ( على أن من نال من الإسلام أو الله تعالى أو القرآن الكريم أو النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقاطع سياسياً وتجارياً ويحاكم لأن هذه أشياء لا يمكن المساس بها إطلاقاً) وحري بخادم الحرمين الشريفين القيام بها وهو أهل لها..
4) ماذا لو صاحب هذه الموجة العاطفية المفرحة لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - موجه مثلها أو أقوى فكرية علمية تصدر على هيئة رسائل وكتب وبحوث سلسة ترصد سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجوانب حياته، وتظهر محاسن الدين الإسلامي وتكامله باسلوب يخاطب عقلية الإنسان الغربي وعاطفته ولدي قناعة بأن هذا العمل سيفرح به رجال الأعمال المسلمين، وسينفر له بعض المؤسسات الرسمية والخاصة ونشر ذلك في مؤسساتهم العلمية والاعلامية، بل وإيصالها لمن تقصد الانتقاص منه - صلى الله عليه وسلم - فلربما وقعت منهم بموقع .. فإن كانت هذه البحوث والكتب موجودة فنعما هي وتدعم طباعة ونشراً وإن كانت الأخرى فتكون من أكبر همومنا التي حركتها رسومهم .
5) إن مظاهر المقاطعة التي تمت وأعلنت عنها بعض الشركات التجارية وتضامن معها الناس لهو أمر حسن ويبهج الصدر ويشكرون عليه وهو مظهر من مظاهر محبة النبي - - صلى الله عليه وسلم - لكن أليس هناك مقاطعة أعظم قدراً واكبر أثراً؟ أليس مقاطعة ما حرمه النبي - - صلى الله عليه وسلم - أوجب من مقاطعة البطون والطعوم؟! أليس من ترك الصلاة محادٌ لسنته؟ أليس من أكل الربا والرشوة والمال الحرام مخالف لطريقته؟..إلخ، إن هناك مئات المظاهر المنتشرة في حياة الدول والأسر تصرخ بمخالفة النبي - - صلى الله عليه وسلم - فهل ذلك يرضي النبي - - صلى الله عليه وسلم - ؟إن مقاطعة لون من ألوان الأكل أمر سهل لوجود البديل له وهو مظهر من مظاهر محبته - - صلى الله عليه وسلم - ، لكن من المهم جداً أن نفكر في إتباع أوجب له - - صلى الله عليه وسلم - ومقاطعة أعمق أثراً وأشد خطراً من مقاطعة المأكولات..إنها مقاطعة المخالفات!
6) ولئلا يفلح الاعداء بنيل ما أرادوا من كسر الرموز وتشويهها فلا يبقى أمام الشباب والشابات إلا قدوات الأقدام والأفلام .. فمن المهم نفسياً وتربوياً مناقشة هذا الموضوع مع الابناء والبنات والطلاب والطالبات، وطرح لماذا نحب النبي - - صلى الله عليه وسلم - ؟ وكيف نحبه؟ وما مظاهر محبته؟ ومناسب جداً استغلال مظاهر المقاطعة حتى لو بالمأكولات لتحريك محبته - - صلى الله عليه وسلم - وإتباعه .. فذلك مدعاة لتفعيل سنته وإشهارها بين الناشئة .. ومقاطعة كل ألوان المخالفة لهدية وطريقته ومفاصلتها، وهذا ظهر أوله في هذه الأيام ونريد أوسطه ونطمع بآخره فهل نحن محبون له فعلاً ومتبعون ؟؟
هذا .. واللهم أجعلنا والمسلمين من أتباعه الصادقين ..
المصدر : حلول للإستشارات النفسيّة والسلوكيّة
ـــــــــــــــ(1/78)
أيها المربي هل أنت قدوة ؟؟؟
عادل بن عبدالله السلطان
حين نذكر مشكلة ما لا يعني الانتقاص . بل لترك العيب إن كان خطأ والعمل على تصحيح المسار والرقي لزكاة النفس ، خاصة حين يكون المربي متعدي النفع ، ليس كمثل من كان قدوة على نفسه فقط ، وأهم من يكونون قدوة هم أولئك الذين نصبوا أنفسهم ونذروها لله ، جلسوا في المساجد يذكرون ويتذاكرون كلام العلام الجليل ، فهم والله القدوة الحق ممشاهم ، وهم نبراس الدجى إذا أظلمت الليالي ، وهم والله من نشكو لهم بعد أن ترك أولياء الأمور أبنائهم بدون رقابة فضلاً عن التربية أصلاً..!
وحتى نكون جادين في التصحيح فهذه إشارات على الطريق أحببت سكبها فيما أحسست فقد ينسى القدوة نفسه والمربي كذلك فيزل الدرب قليلاً فتكون النتيجة ليست كما يحب:
فقد لاحظت أن بعض المشرفين وبعض المدرسين في بعض الحلقات قد لا يلقي بالاً لما يفعله.. ولا ينتبه لما يقوم به .. ! ولا هناك من يذكره.. وينبه ..!
ثم يكون ما قام به وبالاً. ويعمل ما لا يسيغ فعله ، فيكون على مر الأيام النتائج بلا ثمرة ..
وطعم ولا رائحة ..! -والأفعال هي نتائج القدوات الضعيفة-.
ومن ذلك مثلاً :
أن البعض قد يتعامل مع الطلاب (فعلاً أو قولاً ) بلا جسور المحبة ولا علاقات المحبة الطبيعية.. ولا أقصد أن يتكبر عليهم أو يجعل نفسه عالية في برج عاجي كما يقال ويكون هو الآمر الناهي فقط ..! كلا
بل يكون كمثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعامله ولطفه مع حزمه عند العمل ، ودعابته الصادقة مع قوته في العمل.
ولكن فيما أقصد أن لا يكون الطلاب في منزلته ، أي لا يزيد من النكت الكثيرة والمباحات السخيفة ليقال (متواضع!) محبوب ويتكلف أحياناً النكتة ليضحك القوم ليقال (ظريف) أو يزيد منها لملاطفة الطلاب .. كما يزعم .. وبعض الأخوة قد يتنزل في معاملته لكي يكون المشرف الأول عند الطلاب إذا غاب سئلوا عنه وهذا الأمر لم يكن إلا لأنه هو المهرج فإذا حضر كانت المزحة هي الأصل عنده ..! بل البعض قد يتغابي عند الطلاب ويمثل عندهم كما يسميه البعض (استهبالاً) ويكون معروفاً بذلك.
ولذا فإن المربي إذا سقط في هذه الهفوة كان المشرف الآخر يريد أيضاً أن يحبه الجميع فيكون هو أيضاً يتنافس مع صاحبه في هذا المرح والمزاح ، حتى يسقط صاحبه لكي يكون هو الأفضل منه في هذا الباب ،
والملاطفة إذا زادت عن حدها انقلبت إلى ضدها. وقد تنحرف الحلقة عن مسارها وتكون الشللية المقيتة ثم كون الحلقة وطلابها ومشرفيها وبالاً وكل هذا الأمر من نسيان القدوة المربي الهدف الذي من أجله جاء إلى هذا المكان.
إن المسكين الذي أصبح كالمهرج مع الأيام يصبح كالرجل الضائع الذي لا عامود أصلحه و لا إناء نضح فيه الماء لأن الطلاب أصبحوا لا يقبولون نصحه وإرشاده.
وما درى هؤلاء المساكين أن كل هذه الأفعال ليست من مصلحتهم أبداً بل ربما ندموا عليها في الغد القريب بل ربما إذا أصبحوا مربين حقاً لا اسماً فقط.
والحقيقة المهمة أيضاً ان هؤلاء الطلبة بعد عدة سنوات قريبة سيكبرون ، وربما يكونون معه في ذات المكان أو قريب منه ، ويتذكرون هل كانت طريقته صحيحة أم لا ؟ وهل كانت حقاَ تصب في مصلحتهم أم لا؟ بل ربما انتقدوه وهم صغار على أفعاله..! وحق لهم.
ولذا أؤكد على الأخوة المصلحين عدة أمور :
1- التذكير بالهدف الدعوي الذي يقوم به أفرادهم وهي التي جاء بها رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - .
2- لا بد من العناية بالاختيار المناسب لفلذات الأكباد فالحلقة الهشة هي نتاج للمشرفين.
3- العناية بكتاب الله وسنة رسوله قولاً وفعلاً فهذا أهم ما تقوم عليه ركائز الدعوة.
4- التذكير بتربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وكيفية ملاطفتهم والخلق الذي كان مزاجاً لدعوته وقوله.
5- لكل جواد كبوة ولذا على المطلعون على شؤون الحلقات التأكيد على هذه النقاط والاقتراب من الوضع الحالي لكي ينصح من يراه منغمس في العمل المشين.
وأخيراً أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا ياجرير المجامع .. فمن ترك كل أعماله وانشغلاته وأموره ليتفرغ للعمل التربوي فهو بحق يستحق الاشادة بجهوده ويثنى عليه ومن ذلك النصح له.
يقول أحد الصحابة معاتباً لأخيه : ( تعال نتعاتب ) فرد عليه أخوه بكلام لطيف : (بل تعال نتغافر ). ومن محبتنا لهم نقول تعالوا نتغافر.
سائلاً الله عز وجل أن يغفر لنا الزلل والخطأ ورحم الله من وجهنا وعلمنا فكانت كلماتهم نبراساً لحياتنا وأعمالنا.
أخوكم /
عادل بن عبدالله السلطان
Asd_274@hotmail.com
ـــــــــــــــ(1/79)
قدوة على طريق الدعوة
د/ عمرو الشيخ
** رجل سار على الطريق الصحيح ...
يلقاك بابتسامة ودود ...
ويصافحك بحرارة ...
ويذكرك بالله ...
ويوصيك بالدعوة إليه...
ويدعوك إلى العمل لدينه ...
والبذل والتضحية فى سبيله ...
والصبر والثبات على هذا الطريق
ويبشرك بمستقبل مشرق لهذا الدين ...
بصوت حنون يحمل خبرة العمر وتجربة السنين وصدق ما له مثيل يجعلك رغما عنك تنحنى لتقبل يديه ...
عاش مجاهدا وظل صابرا محتسبا ولقى ربه صائم...
أكرمنى الله عز وجل بلقائه مرتين
كانا لقائين سريعين ولكنهما تركا فىّ أثر عميق لصدق الرجل وإخلاصه
فالرجل كان يتنفس هذه الدعوة ويحياها
لا زلت أذكر كلماته التى رددها على مسامعنا يومئذ :-
((الإيمان أهم سلاح نتسلح به، يصبرنا، ويثبتنا، ويطمئننا أن المستقبل للإسلام، فعلينا أن نصبر، ونثابر، حتى يتحقق وعد الله بالنصر - إن شاء الله -.))
فمن هو هذا المجاهد ؟؟
ومن هو هذا الانسان الذى عاش للدعوة وبالدعوة وفى الدعوة ؟؟
*إنه الاستاذ مصطفى مشهور المرشد العام-الأسبق- للاخوان المسلمون رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته ...
ولد الاستاذ مصطفى مشهور رحمه الله فى الخامس عشر من شهر سبتمبر فى عام 1921 فى قرية السعديين بمحافظة الشرقية
وتدرج بمراحل التعليم حتى تخرج من كلية العلوم-جامعة القاهرة- عام 1942
* وكان انتقال "مشهور" للحياة في القاهرة قفزة في حياته، وضعته على الطريق التي سيلتصق بها طوال عمره، وهي الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين، التي تعرّف عليها من خلال مجلة كان يوزعها أحد المصلين، ويدعو من يأخذها إلى حضور درس الشيخ "حسن البنا" مرشد الإخوان، فذهب واستمع ثم انضم إلى الإخوان سنة 1936.
* ولازمته فكرة الجهاد - أثناء دراسته - وضرورة مقاومة المستعمر الغاصب للأرض والجاثم فوق الصدور، وكان يرى أن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة ضد الاحتلال، لذا كانت دعوته لزملاء الدراسة للانضمام للإخوان تبدأ من مقاومة المستعمر المحتل، فكانت تجد آذانا صاغية؛ لأن الأمة المصرية والعربية كانت مشحونة لمقاومة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
****
* اعمل لسجنك كأنك تعيش فيه أبداً.. واعمل لإفراجك كأنك تخرج غداً"..
• في يونيو 1954م أبعد عن العمل إلى مرسى مطروح، واعتقل من مرسى مطروح، وأحضر إلى السجن الحربي.
، يقول عن ذلك: "وأحضرت إلى السجن الحربي، وكان التعذيب شديدا بمجرد الدخول من باب السجن، وعذبت كثيرا، وشكلوا لي محكمة لم تستغرق أكثر من ثلاث دقائق، وحكموا علي بعشر سنوات أشغال شاقة".
وتنقل "مشهور" بين سجون ليمان طرة والواحات وأسيوط، يقول عن تجربة سجن الواحات -وهو سجن داخل الصحراء-: "وكان الجو صعبا، فتأقلمنا معه واستثمرنا الوقت وزرعنا حول الخيام، ومارسنا لعبة كرة القدم، لدرجة أننا قمنا بتربية بعض الطيور". وخرج مشهور من سجنه في نوفمبر 1964 لكنه لم يستمر طويلا خارجه؛ إذ سرعان ما اعتقل في أحداث يوليو 1965 حيث أصدر عبد الناصر أمرا باعتقال كل من سبق اعتقاله فاعتقل مشهور مع الشهيد "سيد قطب"، ولم يوجه له اتهام في هذه القضية، وظل سجينا دون محاكمة حتى أفرج عنه سنة 1971 في إطار سياسة العفو الشامل عن المعتقلين السياسيين الذي أصدره الرئيس السادات
****
* البداية من جديد :-
كان "مشهور" دائم الترديد لعبارة: "المهم أن نسير في الطريق الصحيح"؛ لذا فبعد أن اختار الإخوان أن تكون البداية من الجامعة، اختاروا "مشهور" مسئولا لقطاع الطلبة 1974، وكانت قدرته على التعامل مع الأجيال الجديدة باهرة وأدت إلى أن يستطيع هذا التيار الذي نما في الجامعات إلى إحداث تغيير واسع في المجتمع المصري الذي كان كغيره من الشعوب المسلمة تنتشر فيه الصحوة الإسلامية، وكفل ذلك لدعوة الإخوان انتشار أفكارها في قطاعات المجتمع المختلفة في وقت قصير؛ لأن طلاب الجامعة يأتون من أماكن متفرقة في مصر وسيعود كل منهم إلى مكانه ومعه أفكاره الجديدة، ومن نتاج العمل في هذه الفترة هذا العدد الكبير من القيادات التي تقود الجماعة الآن
* وقبيل أحداث سبتمبر 1981 التي اعتقل فيها الرئيس السادات عددا من قيادات القوى السياسية في مصر سافر "مشهور" إلى الكويت، ومنها إلى ألمانيا حيث قضى هناك خمس سنوات شارك فيها في إنشاء وبناء التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي تقوم فكرته على ربط تنظيمات ومجموعات الإخوان في البلدان المختلفة في إطار تنظيم واحد يتصف بالعالمية؛ لتنسيق المواقف وإيجاد قدر من التقارب بين إخوان الأقطار المختلفة، مع إعطاء قدر من الحرية في حركة الإخوان الداخلية ببلادهم بما يوائم مجتمعاتهم. وشارك مشهور في وضع النظام العام للتنظيم الدولي لضبط حركته.
عاد إلى مصر عام 1986، وبعد تولي حامد أبو النصر مرشدا عاما للإخوان اختير "مشهور" نائبا للمرشد، وعقب وفاة "أبو النصر" في فبراير 1996 عين مرشدًا عامًا.
***
* الشارح الأول لمبادىء الدعوة :-
لقبه بعض المراقبين بـ "الشارح الأول" لمبادئ دعوة الإخوان، والمسطرة التي توزن بها الجماعة في سيرها على الطريق حتى لا تنحرف عن مسارها في الغاية والهدف والوسيلة والحركة؛ لهذا احتلت فكرة ضبط الدعوة بأصولها ووزنها بميزان مبادئها حيزا كبيرا في فكره وكتاباته، وكان أبرز ما شغله في حياته هو التوازن بين الدعوة في حركتها العامة وخاصة على صعيد العمل السياسي وبين ميدانها الأصيل وهو ميدان العمل التربوي
يرى "مشهور- أن تغليب الجانب السياسي على التربوي انحراف لا بد من تقويمه؛ على اعتبار أن الإيمان الذي لا يأتي إلا بعد التربية هو السلاح الأقوى في مواجهة الأعداء قبل السياسة بأساليبها فيقول: "إن أسلوب الأحزاب السياسية لا يصلح في معركتنا إذا كان على حساب التربية والإعداد وتقوية الإيمان؛ فنحن نتعامل مع السياسة كجزء من الدين نضبطها بضوابطه ونوائم بينها وبين التربية والتكوين"، وكان مبدؤه في ذلك: "إننا لا نريد من يعطينا صوته فقط".
كما احتلت فكرة الدولة الإسلامية مكانها البارز في تفكيره وكتبه، ليس بمعناها الثيروقراطي "الديني" ولكن بمعناها الحضاري الواسع، ورأى أن الدولة بناء ضخم يحتاج إلى أساس عريض وعميق ومتين، وبالتالي يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين؛ على اعتبار أن الأساس هو أشق مراحل البناء.
وانعكس ذلك على رؤيته في التغيير التي دعا أن تكون جذرية؛ لهذا لم يكن الزمن عنده "دالة" في التغيير، بل جعل الإنجاز وحجم التغيير هما الأساس؛ لأن الدعاة ليسوا مسئولين عن النتائج بل عن العمل الصحيح، وكانت نظرته المحورية "إننا لا نريد لبنائنا أن يقوم ثم ينهار".
ومن أهم أفكار "مشهور" أن بناء الذات الإنسانية المسلمة لرجل الدعوة هي أهم وأصعب ميادين البناء؛ لأن "بناء الرجال أشق من بناء المؤسسات" لهذا اتجهت كثير من كتبه إلى تقوية هذه الذات وتدعيمها وإكسابها الصلابة، فكان كتابه "عقبات في الطريق" الذي تناول فيه المحن وما تتركه من إرباك للعاملين في الصف الإسلامي، ربما دفعها إلى التشكيك في صحة الطريق أو رشد القيادة، وكتاب "قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنة" وفيه وجه خطابا للمظلومين يخفف عنهم معاناتهم، وكتاب "زاد على الطريق" و"الحياة في محراب الصلاة" و"مناجاة على طريق الدعوة" و"الإيمان ومتطلباته" و"بين الربانية والمادية" و"مقومات رجل العقيدة" كمجموعة متكاملة لغرس القيم الإيجابية في أعماق الشخصية المسلمة المتصدرة للعمل الإسلامي؛ حتى لا تذوب في حركة الحياة
****
*آراؤهم وذكرياتهم عن الراحل العظيم :-
يقول عنه ا الشيخ حامد البيتاوي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
ورئيس رابطة علماء فلسطين في مسجد أمهات المؤمنين بنابلس
((رجل حمل هموم المسلمين، وراية الدعوة الإسلامية، منذ أكثر من ستين عامًا، تربت على يديه ومن خلال كتاباته في فقه الدعوة أجيال من الدعاة، وهو خير من كتب في هذا الموضوع، الذي تلقاه يافعًا ومارسه شابًا وعاشه واقعًا مع الإمام المؤسس فترة من الزمان تقرب من عشر سنوات قبل أن يلقى الله شهيدًا، فأفاد من ذلك كثيرًا.
عاش المسيرة الإسلامية فيما تعرضت له من ابتلاء وتمحيص، صبر وثبت، وواصل السير على طريق الدعوة دون انحراف أو تبديل، إلى أن لقي الله عز وجل في هذه الأيام المباركة مرشدًا لهذه الدعوة، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء فجزاه الله عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء ))
*****
أما د . عبد الله قادري الأهدل
فيحكى عن لقائه به فيقول :-
((رأيت رجلا ملتحيا نحيف الجسم، متوسط طول القامة، قابلني بابتسامة، وصافحني بحرارة، وطلب مني أن أقعد في المقعد الذي كان يجلس عليه.
وقع في نفسي أن هذا الرجل لا بد أن يكون قد عرفني من قبل، وأني قد نسيت اجتماعي به، فسألت الدكتور علي بن محمد جريشة: من هذا الشيخ يا دكتور؟
قال: هذا الأستاذ مصطفى مشهور، من كبار الإخوان المسلمين، وهو عضو في مكتب الإرشاد، ودم اجتماعي بالرجل ما يقارب ساعتين، تخللها تناول الغداء...
تبين لي من الرجل شدة تواضعه غير المتكلف، وعلو حسن خلقه، وشدة غيرته على دين الله، والاهتمام البالغ بالدعوة إلى الله، وهداية البشر، وللشباب المسلم عنده الأولوية في ذلك كله.
وعندما علم أنني من أساتذة الجامعة الإسلامية في مدينة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، قال: إن مهمتكم ثقيلة، ومسؤوليتكم عظيمة، لأنكم تستقبلون أبناء المسلمين، من كل حدب وصوب، وأنتم في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، مدينة المهاجرين والأنصار... وهذا العصر يحتاج إلى مناهج تناسبه، وعلماء على مستوى تحدياته، ودعاة يفقهون واقعه، ومربين تتمثل فيه القدوة الحسنة لمن يربونهم، فيجمعون في علمهم ودعوتهم وتربيتهم، بين تجارب الماضي، ومتطلبات الحاضر...
وكنت أظن أن الرجل من علماء الأزهر، لكثرة استدلاله بآيات القرآن الكريم، و الحديث الشريف، ولكن الدكتور علي جريشة، قال لي: إنه تخرج في كلية العلوم،،،
وفي هذا الوقت القصير بان لي اهتمام هذا الرجل بحقائق الإيمان ووجوب غرسه في نفوس الناس، وبالتزكية الربانية للشباب، وتفقيههم في دين الله ))
****
وهذا الداعيه الكويتى الشهير جاسم المهلهل ال ياسين يحكى عنه فيقول :-
((قدر الله سبحانه وتعالى أن يأتي يمكث في الكويت فترة طويلة وكنت في هذه الفترة من قيادات العمل الإسلامي في الكويت فكان لي اتصال دائم معه فعايشنا الرجل وجالسناه واستقينا منه معاني لا يمكن أن يأخذها من خلال كتبه ومحاضراته فمن الأمور الذي استفادها الإنسان من هذا الرجل أن يكون الإنسان عفيف اللسان بلا شك عندما خرج الإخوان من السجون اصبح فيه مشاجرات وفيه صراعات وكلام من البعض عن الأخر لكن الرجل كان من الممكن أن ينتصر لمجموعة من المجاميع لما عنده من قصص ومعلومات قد لا يتسنى للأخر أن يذكر ما يبينها ويفصل هذه الأمور التي ذكرت لكنه كان عفيف اللسان فيكفيني في ذلك مدرسة.
***
أما الأستاذ مهدى عاكف المرشد الحالى لهذه الجماعة المباركة يحكى عنه فيقول :-
مصطفى مشهور.. رجل معروف، لا يحتاج إلى أحد يقدمه.. معروف بجهاده الطويل، وفهمه العميق، وإخلاصه النادر، وتفرده في استيعاب الإخوان وتربيتهم، ونموذج فريد، مع كل ما لاقاه.. سواء في فترة سجنه، أو فترة قيادته التي كانت من أصعب الفترات على الإخوان المسلمين، حيث شهدت المحاكمات العسكرية والاعتقالات، وقد لاقى من السوء والعنت الكثير.. كنا نتعذب عندما نرى أحد الإخوة يُعذب... مشهور.. هذا الصابر المجاهد... كان قمة في الأخوة والحب والإخلاص والتفاني والالتزام الكامل بالنص.
****
*من مؤلفات الأستاذ مصطفى مشهور:
• طريق الدعوة.
• زاد على الطريق.
• تساؤلات على طريق الدعوة.
• الحياة في محراب الصلاة.
• الجهاد هو السبيل.
• قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنة.
• القائد القدوة.
• التيار الإسلامي ودوره في البناء.
• القدوة على طريق الدعوة.
• قضايا أساسية على طريق الدعوة.
• من التيار الإسلامي إلى شعب مصر.
• وحدة العمل الإسلامي.
• طرق الدعوة بين الأصالة والانحراف.
• مناجاة على طريق الدعوة.
• بين الربانية والمادية.
• مقومات رجل العقيدة.
• الإيمان ومتطلباته.
• الدعوة الفردية.
• من فقه الدعوة 1 - 2.
• الإسلام هو الحل.
***
**مزايا وصفات فاضلة:
1. القدوة التربوية، وقد قبس نورها من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عيله وسلم، وقيام الليل، ومصاحبة المرشد الأول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، ذلك أن الأخلاق الكريمة تكسب من حال الرجال، أكثر منها من التلقين والأقوال وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء السكندري ( لا تصحب من لم ينفعك حاله ويدلك على الله مقاله ).. وإن جماعتنا تولي التربية الأهمية الأولى، فهي التي تزكي الأنفس، وتهذب الخصال الكريمة " والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " [العنكبوت69].. وقد كان مرشدنا قدوة في أحواله، حكيماً في مواعظه وأقواله، أورث كثيراً من ذلك الشيء الكثير تلاميذه وإخوانه وجلساءه، رحمه الله وأجزل مثوبته.
2. الصبر: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " .. وكيف لا يوصف من صبر على مآسي السجون وآلامها قرابة عشرين عاماً !! بنفس راضية مطمئنة، لم تخضع لطاغوت ولم تركع، وقد كان مدراء السجون يعرضون على أهل المعتقل حين زيارته الإفراج عنه مباشرة بمجرد توقيعه على نص للولاء للحاكم الظالم، وكانت عزة الشيخ مصطفى وثباته على مبادئه الربانية كانت تأبى عليه أن يتنازل أو يتراجع، وكان في نبل خصاله قليلاً ما يتحدث عن مآسي السجون والصبر عليها حذراً من التباهي والتفاخر.
3. التواضع : قال الله تعالى : " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " [الشعراء21] يشهد كل من عرف الشيخ مصطفى بتواضعه الجم وشدة حيائه، وخفض جناحه لإخوانه، يؤثر إخوانه على نفسه في أسفاره وإقامته، وتلك هي صفات عظماء الرجال وكبار النفوس.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
لقد أكرم الله تعالى شيخنا الجليل بهذه الفضائل الكريمة خلال عمره الدعوي الطويل والتي هي خير ما يجب أن يتحلى بها دعاة الإسلام في كل زمان ومكان .
***
*الموت الباعث للحياة!.
في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر أكتوبر سنة 2002م وبعد يوم طبيعي قضاه في مكتبه، عاد الأستاذ مصطفى مشهور إلى منزله، وتناول غداءه، ثم ذهب إلى فراشه للراحة، وعند أذان العصر صمم على الذهاب إلى المسجد مع أنه كان متعباً، فأعانه الله، وذهب لتأدية الصلاة مع الجماعة، كيف لا، وهو يرى في نفسه القدوة والمثل للشباب .
وحين هم بمغادرة المسجد انتابته غيبوبة سقط على أثرها أرضاً ونقل بعدها إلى المستشفى، حيث شاء الله أن ينتهي به الأجل، وتنتقل روحه إلى بارئها في 12 رمضان 1423هـ الموافق 17 / 11 / 2002م
يقول الأستاذ عبد القادر أحمد عبد القادر :-
((قال الحكيم: إن الأمة التي تجيد صناعة الموت هي الأمة التي تستحق الحياة.. نعم، فمن واقع جنائز المرشدين شاهدنا ولا نزال نشاهد مظاهر الحياة تدب في أوصال المجتمع الذاهب في غيبوبات الجاهلية المتسلطة على الأمة بسهامها وبسيوفها!!
كانت الجماهير الحزينة تخطو بكل خطوة إلى قبره خطوات بل قفزات على طريق إحياء وإقرار الإسلام في جوانب الحياة واعجباه!.
ففي جنازته-رحمه الله- كان المشيعون من الصائمين المتطهرين الذين ساروا خلف الجنازة مسافة عشرة كيلو مترات أو تزيد.. فلم يحدث حادث واحد يعكر صفو رجل واحد.
إن موكب الجنازة كان جله من الشباب الذين هم دون الأربعين، بل الذين لم يبلغوا العشرين! أين كان هؤلاء يوم ارتفع الإمام "البنا" شهيداً؟ واعجباه!.
ستمر سنوات، وسيبلغ الأطفال الحلم، والأطفال الذين شاهدوا الجنائز الصامتة، الجنائز التي لم يشاهدوها على الشاشات الصغيرة المضيئة في البيوت، وإنما شاهدوها في مواكب مهيبة طويلة طويلة.. يوم يبلغ هؤلاء الأطفال سيعقدون مقارنات بين جنائز أصحاب الهيلمان والطيلسان والنياشين المزيفة أو المغرضة، الذين انخلعت عنهم زيناتهم على خشبات الغسل.. وبين جنائز أصحاب المواقف، المواقف التي تبعث الحياة فيمن بعدهم فتتواصل الأجيال.. إنه الفرق يا أطفال اليوم وشباب الغد ورجال المستقبل بين موت العدم والفناء، والموت الباعث للحياة!. ))
وما أجمل أن نختم ونحن ننصت خاشعين إلى صوته الحنون الصادق
وهو يوصينا ببعض وصاياه :-
الإيمان أهم سلاح نتسلح به، يصبرنا، ويثبتنا، ويطمئننا أن المستقبل للإسلام، فعلينا أن نصبر، ونثابر، حتى يتحقق وعد الله بالنصر - إن شاء الله -.
***
علينا أن نتواصى بالجيل الجديد، ونهتم به، ونورثه الدعوة، وندعوه، لمواصلة المسيرة بالإيمان، والدعاء، والصبر، والاحتساب، والاستبشار بأن المستقبل للإسلام، ونهتم بالتربية، وبالأشبال، وبأبناء الإخوان، وهذا معنى مهم جدًا.
فالأستاذ البنا عندما قال: نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الذي يرفض أن يستقر عليه غير الحكم الإسلامي.
فالعلم عند الله، ولله علم الغيب أن هذا الجيل من الأشبال، وأولاد الإخوان، ربما يتحقق على يديه النصر، فعلينا أن نهتم به.
وحدوث صحوة إسلامية في العالم الإسلامي، قد لمسناها هنا في مصر، فالنساء كن يلبسن فوق الركبة، فحل الحجاب، وأقبل الشباب على الصلاة.
فالصحوة في العالم الإسلامي، قابلها انهيار الأخلاق في العالم الغربي، وصدق الشاعر إذ يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ففي إنجلترا تقر بعض المجالس النيابية الشذوذ الجنسي رسميًا، فهذا انحراف في الأخلاق، ومصيره الانهيار.ودخل الكثير الإسلام، وانتشر الإسلام في أوربا، وأمريكا، فلا بد لنا أن نستبشر، ونشعر بالعزة {فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين} ونحرص عليها.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألحقنا به فى الصالحين
ـــــــــــــــ(1/80)
إليك أختي المربية
خولة درويش
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام علي نبي الهدى والرحمة. وبعد:
فهذه أبحاث وجيزة، كنت قد أعددتها في مناسبات مختلفة، ركزت فيها القول على تربية الأطفال خلال المرحلة الأولى من حياتهم.
وقد ابتغيت التربية الدينية المثلى لناشئتنا، مراعية أفضل السبل لغرس العادات الطيبة التي تنسجم مع تعاليم دينتا الحنيف كما فهمها سلف هذه الأمة، وخاصة بعد أن طغت عادات غربية، وتبعية عجيبة على كثير من عادات الناس وأعرا فهم،
وما غاب عن بالنا دور المربية، إذ أنها الأساس في العملية التربوية، فلابد أن تكون قدوة طيبة، لا يتعارض قولها مع فعلها بعيدة عن الازدواجية في تصرفاتها.
ثم أوليت اهتمامي المشكلات السلوكية التي قد تعترض الأطفال، مما يتعذر على بعض الأمهات علاجها، لنتعاون على حلها حسب أفضل الطرق التربوية،
ومما أود الإشارة إليه أنني وجهت كلماتي هذه للمربية أيا كانت: أما في منزلها أو معلمة في مدرستها.
راجية من العلي القدير أن تجد فيها ما يعينها على مهمتها.. وهي مهمة ليست بالأمر اليسير... لأنها مهمة إعداد الأجيال المؤمنة.. وقد باتت الشكوى مريرة بسبب ندرة الكتابات التربوية من الوجهة الإسلامية والمنطلق العقدي، كما كان عليه سلف هذه الأمة.
وإنه لحلم يراود نفوسنا، أن نرى أسرنا المسلمة وقد أدت دورها الريادي البناء في إعداد لبنات متماسكة، ذات إيمان عميق وخلق قويم، وذوق رفيع، ونفوس مستقرة لتهيأ لحمل الرسالة السمواية، وقيادة البشرية التائهة نحو الخير والعدل، نحو الإسلام من جديد.
والله ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين
2 رمضان سنة 1411 هـ- مكة المكرمة،
خولة درويش
1- التريية الدينية للأطفال
لقد أثبتت التجارب التربوية أن خير الوسائل لاستقامة السلوك والأخلاق هي التربية القائمة على عقيدة دينية.
ولقد تعهد السلف الصالح النشء بالتربية الإسلامية منذ نعومة أظافرهم وأوصوا بذلك المربين والآباء، لأنها هي التي تقوم الأحداث وتعودهم الأفعال الحميدة، والسعي لطلب الفضائل.
ومن هذا المنطلق نسعى جميعا لنعلم أطفالنا دين الله غضاً كما أنزله تعالى بعيدا عن الغلو، مستفيدين بقدر الامكان من معطيات الحضارة التي لا تتعارض مع ديننا الحنيف.
وحيث أن التوجيه السليم يساعد الطفل على تكوين مفاهيمه تكويناً واضحاً منتظماً، لذا فالواجب اتباع أفضل السبل وأنجحها للوصول للغاية المنشودة:
1- يراعى أن يذكر اسم الله للطفل من خلال مواقف محببه سارة، كما ونركز على معاني الحب والرجاء "إن الله سيحبه من أجل عمله ويدخله الجنة" ولا يحسن أن يقرن ذكره تعالى بالقسوة والتعذيب في سن الطفولة، فلا يكثر من الحديث عن غضب الله وعذابه وناره، وإن ذكر فهو للكافرين الذين يعصون الله.
2- توجيه الأطفال إلى الجمال في الخلق، فيشعرون بمدى عظمة الخالق وقدرته.
3- جعل الطفل يشعر بالحب "لمحبة من حوله له " فيحب الآخرين، ويحب الله تعالى لأنه يحبه وسخر له الكائنات،
4- إتاحة الفرصة للنمو الطبيعي بعيداً عن القيود والكوابح التي لافائدة فيها..
5- أخذ الطفل بآداب السلوك، وتعويده الرحمة والتعاون وآداب الحديث وا لاستماع.، وغرس المثل الإسلامية عن طريق القدوة الحسنة. الأمر الذي يجعله يعيش في جو تسوده الفضيلة، فيقتبس من المربية كل خير.
6- الاستفادة من الفرص السانحة لتوجيه الطفل من خلال الأحداث الجارية بطريقة حكيمة تحبب من الخير وتنفر من الشر.
وكذا عدم الاستهانة بخواطر الأطفال وتساؤلاتهم مهما كانت، والإجابة الصحيحة الواعية عن استفساراتهم بصدر رحب. وبما يتناسب مع سنهم ومستوى إدراكهم. ولذلك أثر كبير في إكساب الطفل القيم والأخلاق الحميدة وتغيير سلوكه نحو الأفضل،
7-لابد من الممارسة العملية لتعويد الأطفال العادات الإسلامية التي نسعى إليها، لذا يجدر بالمربية الالتزام بها "كآداب الطعام والشراب وركوب السيارة... "وكذا ترسم بسلوكها نموذجاً إسلامياً صالحاً لتقليده وتشجع الطفل على الالتزام بخلق الاسلام ومبادئه التي بها صلاح المجتمع وبها يتمتع بأفضل ثمرات التقدم والحضارة. وتنمي عنده حب النظافة والأمانة والصدق والحب المستمد من أوامر الإسلام،.. فيعتاد أن لا يفكر إلا فيما هو نافع له ولمجتمعه فيصبح الخير أصيلاً في نفسه.
8- تستفيد المربية من القصص الهادفة سواء كانت دينية، واقعية، خيالية لتزويد أطفالها بما هو مرغوب فيه من السلوك، وتحفزهم على الالتزام به والبعد عما سواه.
وتعرض القصة بطريقة تمثيلية مؤثرة، مع ابراز الاتجاهات والقيم التي تتضمنا القصة، إذ أن الغاية منها الفائدة لا التسلية فحسب.
وعن طريق القصة والأنشودة أيضاً تغرس حب المثل العليا، والأخلاق الكريمة، التي يدعو لها الإسلام.
9- يجب أن تكون توجيهاتنا لأطفالنا مستمدة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ونشعر الطفل بذلك، فيعتاد طاعة الله تعالى والاقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم - وينشأ على ذلك،
10- الاعتدال في التربية الدينية للاطفال، وعدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به، والإسلام دين التوسط والاعتدال، فخير الأمور أوسطها، وما خير الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما،
ولا ننسى أن اللهو والمرح هما عالم الطفل الأصيل، فلا نرهقه بما يعاكس نموه الطبيعي والجسمي، بأن نثقل عليه التبعات، ونكثر من الكوابح التي تحرمه من حاجات الطفولة الأساسية، علما أن المغالاة في المستويات الخلقية المطلوبة، وكثرة النقد تؤدي إلى الجمود والسلبية،بل والإحساس بالأثم "
11- يترك الطفل دون التدخل المستمر من قبل الكبار، على أن تهيأ له الأنشطة التي تتيح له الاستكشاف بنفسه حسب قدراته وإداركه للبيئة المحيطة بها وتحرص المربية أن تجيبه إجابة ميسرة على استفساراته، وتطرح عليه أسئلة مثيرة ليجيب عليها، وفي كل ذلك تنمية لحب الاستطلاع عنده ونهوضا بملكاته. وخلال ذلك يتعود الأدب والنظام والنظافة، وأداء الواجب وتحمل المسؤولية، بالقدوة الحسنة والتوجيه الرقيق الذي يكون في المجال المناسب،
12- إن تشجيع الطفل يؤثر في نفسه تأثيراً طيباً، ويحثه على بذل قصارى جهده لعمل التصرف المرغوب فيه. وتدل الدراسات أنه كلما كان ضبط سلوك الطفل وتوجيهه قائمأ على أساس الحب والثواب أدى ذلك إلى اكتساب السلوك السوي بطريقة أفضل، ولابد من مساعدة الطفل في تعلم حقه، ماله وما عليه، مايصح عمله وما لا يصح، وذلك بصبر ودأب، مع اشعار الأطفال بكرامتهم ومكانتهم، مقروناً بحسن الضبط والبعد عن التدليل.
13- غرس احترام القرآن الكريم وتوقيره في قلوب الأطفال، فيشعرون بقدسيته والالتزام بأوامره. بأسلوب سهل جذاب، فيعرف الطفل أنه إذا أتقن التلاوة نال درجة الملائكة الأبرار،.. وتعويده الحرص على الالتزام بأدب التلاوة من الاستعاذة والبسملة واحترام المصحف مع حسن الاستماع. وذلك بالعيش في جو الإسلام ومفاهيمه ومبادئه، وأخيراً فالمربية تسير بهمة ووعي، بخطى ثابتة لإعداد المسلم الواعي،
والله ولي التوفيق
2- المربية القدوة
لقد أكد المربون على أهمية مرحلة الطفولة بقولهم: ((إن الطفولة صانعة المستقبل)) وقد سبقهم الإسلام إلى تقرير هذا المبدأ التربوي فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :((كل مولودعلى الفطرة فأبواه يهودانه أوينصرانه أويمجسانه )).
لهذا كان واجبنا جميعاً أن نوفر لأطفالنا كل مايؤهلهم لحياتهم المقبلة، فنعمل جاهدات على إحياء قلوبهم بمحبة الله، وإيقاظ عقولهم ومداركهم، وتمرين حواسهم، كما ونرعى نمو أجسادهم...
وبإختصار نربيهم على طريقة الإسلام التي تعالج الكائن البشري كله معالجة شاملة لا تترك منه شيئاً، ولا تغفل عن شيء، جسمه وعقله وروحه. فلا تستهيني- أختي المربية- بمهمتك، فأنت تربين رجال المستقبل الذين سيرفعون من
شأن الأمة ويبنون لها مجدها بإذن الله، وأنت في عملك هذا في عبادة تؤجرين عليها إن شاء الله- إن أحسنت القصد- وما تربية الأجيال إلا إعدادهم لحمل رسالة الأمة ونشر عقيدتها.
إنك تعدين النساء الفاضلات اللاتي يتمثلن مبادىء الإسلام، ويعملن بها بعزة وفخار، ويضحين برغباتهن في سبيل الله،
ولما كان للمربية الأثر الكبير في الناشئة، حيث أنها المثل الأعلى الذي يجتذب الأطفال، فيقلدوها وتنطبع أقوالها وأفعالها في أذهانهم.
لذا فلابد للمربية المسلمة أن تراقب الله تعالى في حركاتها وسكناتها تتعهد نفسها بالتقوى، وتحاول أن تصعد إلى القمة السامقة في تمسكها بكل مايدعو إليه دينها، وتأخذ بيد غيرها إلى الخير الذي تسعى إليه فذلك من صميم مايدعو إليه ديننا،
إنها قدوة لأطفالنا فلا يناقض قولها عملها، إن دعتهم لمبدأ فهي أحرص الناس على القيام به لأنها المسلمة التي تقرأ قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}سورة الصف
وإذا دعت إلى الالتزام بالآداب الإسلامية فلا تهملها أو تغفلها:
- فهي تلتزم بتحية الإسلام، وترد على أطفالها تحيتهم بأحسن منها.
- تلزم نفسها بآداب الطعام والشراب وتعلمها أطفالها وتذكرهم بها.
- تدعوهم إلى شكر صاحب المعروف، وهي أحرص الناس على تطبيق المبدأ حتى في معاملتها لأطفالها.
- تعاملهم بأدب واحترام، ليستطيعوا احترام غيرهم في المستقبل، اقتداءبسلوك مربيتهم.
- تبتعد عن الظلم، وتسعى جاهدة لإشاعة العدل بين أطفا لها: قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اتقوا الله واعدلوا في أولادكم )) . وقد كان سلفنا الصالح يستحبون التسوية بين الاطفال حتى في القبل .
- تعاملهم بالرحمة والرفق. ليكونوا في المستقبل متكافلين متعاطفين كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وعلى قدر ما يعطي الأطفال من التشجيع والثقة بالنفس والعاطفة الصادقة تستطيع النهوض بهم،
- لا تتلفظ بكلمة نابية تحاسب عليها، ولا تتكلم بكلمة جارحة قد تبقى عالقة في عقل الطفل وقلبه، وقد لا تزيلها الأيام والأعوام..
تضبط نفسها ما أمكن، فكما يسوؤها أن تسمع الأطفال يتلفظون الكلمات التي لا تليق، كذلك يجب أن تمسك لسانها وتحبسه عن قول ما لا ينبغي وما لا تحب أن يقلدها بها صغارها.
إنها تلتزم بما تدعو إليه، لأنها تسمع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - كا الذي يقول ولا يفعل: ((ويجاء، بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه. فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: فلان ما شأنك، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهي عق المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه )) رواه لبخا ري ومسلم. إننا إذ نريد أجيالاً تخلص نفسها لله، وتعمل جاهدة لرضاه، فيجب أن نكون لها القدوة الصادقة في ذلك بعملنا المخلص الدؤوب، وبعد ذلك فإن شفافية الأطفال سرعان ما تلتقط الصورة وتنفذها بالقدوة الطيبة التي تعرف قيمة الوقت ولا تضيعه والذي طالما لمسوه من مربيتهم.
ثم تركز المربية في توجيهها على ما يحبه الله ويرضاه، إن ذلك هو الهدف الحقيقي من التربية. فلا يصح أن تركز على المصلحة أثناء حثهم على العمل، ذلك لأن التعلق بالمصالح الذاتية يخرج أجيالاً أنانية بعيدة عن تحمل المسؤولية وحمل الرسالة بأمانة.
ولا مانع أثناء توجيهها من الاشارة إلى فوائد هذا العمل الذي تدعو له، لكن التركيز الفعلي يركز على مرضاة الله تعالى.
فالمربية الناجحة لاتهمل التشجيع، لكن التشجيع الذي لا يفسد عليها هدفها بحيث لا يكون التشجيع المادي هو الأساس، وإنما تثني عليهم وتغرس الثقة في نفوسهم وتحفزهم إلى كل عمل طيب.
إنها المريية القدوة في حسن مظهرها :
تعتني به لتظهر دائمة بمظهر جذاب يسر الطفل على أن لا يكون في ذلك سرف ومبالغة.
وهذا الأمر الذي تدعو له التربية المعاصرة قد سبق إليه الإسلام. فقد دعا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى حسن المظهر بقوله (( كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غيرإسراف ولا مخيلة)) وا لتوسط في الملبس كما بين ابن عمررضي الله عنهما هو: ((ما لا يزدريك به السفهاء ولا يعتبك عليه الحلماء)) ،
إن المريية القدوة في حسن إعدادها للأجيال:
تعمل على تربية الطفل على طرائق التفكير المنظم، يلاحظ الظاهرة فيدرسها بالطريقة العلمية السليمة ليصل إلى النتائج، وهي طريقة الإسلام الذي يمتدح العقل والنظر والفكر ... تعوده على التفكير المنطقي السليم بكونها قدوة خيرة في ذلك، تبتعد عن أحاديث الخرافة، تثير تفكيره وتربط الأسباب بمسبباتها،
وأخيراً :
لابد من صدق النية وسلامة الطريقة، نخلص لله في نياتنا ونلتمس الصواب في أعمالنا. فالغاية التي نسعى إليها تستحق أن يبذل في سعيها كل جهد.... إنه عمل يبقى لما بعد الموت .
فلنتق الله في الأمانة التي بين أيدينا... وما علينا إلا أن نسأل أنفسنا قبل أي تصرف... ما أثر ذلك على سلوك الطفل في المستقبل، فإن كان أثره إيجابياً يتناسب مع مبادىء الإسلام وغايته فلنقدم، وإلا فلنراقب الله تعالى ولنمتنع عنه،
ولتكن كل واحدة منا مربية قدوة في التزامها الشرعي لواجباتها الدينية.
- قدوة في كلامها العفيف.
- قدوة في عدلها ورحمتها.
- قدوة في اتقان علمها وتقدير قيمة وقتها.
- قدوة في التفكير المنطقي السليم والبعد عن الخرافة. - قدوة في البعد عن الازدواجية والتناقض بين القول والعمل.
ولعل حاجة المسلمين تكمن في تربية جادة عقدية للأجيال الناشئة، شباب المستقبل، الذي يخطط له الطريق ليسير على نهج السلف، سلف هذه الأمة الذين رفعوا لواء الإيمان والأخلاق بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فكانت لهم العزة في الدنيا والفلاح في الآخرة، وأرجو ألا يكون ذ لك عنا ببعيد.
3ـ غرس العادات الطيبة في الأطفال
إن أهم وظائف التربية في مرحلة الطفولة إكساب الطفل مختلف العادات الصالحة إلى جانب الاتجاهات السليمة المرغوب فيها، والعادات التي نريد غرسها في الأطفال ليعملوا بها، أنماطاً من السلوك الإسلامي المتميز.
إن غرس العادة يحتاج إلى فترة زمنية غير يسيرة، فلا يكفي أن نقول للطفل اعمل كذا وكذا ثم نلتمس بعدها أن تتكون عنده العادة التي نسعى إليها. لا بد من التكرار والمتابعة، رغم أن تكوين العادة في الصغر أيسر منه في الكبر، ومن أجل ذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآباء بتعويد أبنائهم على الصلاة قبل موعد التكليف بها بقوله " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء، عشر" رواه أبو داوود وأحمد والدارقطني والحاكم وإسناده حسن.
ومن هنا كانت فترة الطفولة من أنسب الفترات لتعويد الصغار آداب الطعام والشراب والجلوس والنوم والتحية والاستئذان والحديث وقضاء الحاجة.،، وغيرها.
وتعتبر القدوة الطيبة الصالحة عند المربية خير معين على تكوين العادات الطيبة، لذلك يعتبر من الأهمية بمكان التزامها بالخلق الحسن، إذ تحاسب نفسها على كل كلمة أو حركة، فلا تسمح لنفسها بالتراشق بكلمات سيئة مع الآخرين لئلا تنطبع في ذهن الطفل فيسعى إلى تقليدها. بل تعطي جهدها لتسن السنة الحسنة بحسن سلوكها، لتنال أجرها وأجر الأمانة التي بين يديها "الطفل المسلم ".
إننا حين نود غرس العادات الطيبة لا بد أن نحاول مكافأة الطفل على إحسانه القيام بعمل ما، الأمر الذي يبعث في نفسه الارتياح الوجداني وحب ذلك العمل. فالتشجيع مطلب لاغنى عنه، وهوواجب لا تغفله المربية الحكيمة فلابد من الحوافز والتشجيع لمعالجة الخ أو للنهوض بالطفل نحو الأفضل.
والتشجيع قد يكون مادية ملموسة كإعطاء الطفل لعبة أو حلوى، وقد يكون معنوياً يفرح به كالمدح والابتسام والثناء عليه أمام الأخرين.
ولا يفوتنا أن نذكر أن كثرة مدح الطفل أو التهويل في تفخيم ما أتى به من عمل بسيط، يضربه وقد يؤدي إلى نتائج عكسية.
فالشكر يجب ألا يكون إلاعلى عمل مجد؟ والإسلام إذ دعا إلى شكر صانع المعروف، نهى عن الإطراء والمبالغة في المدح. وهذا توجيه تربوي هام يلتزمه المربي فلا يكثرمن عبارات الاستحسان لئلا تفقد قيمتها وتدخل الغرور إلى نفس الطفل، فقد يصل به الأمر إلى أن يقول مثلاً لزميله: أنا أحسن منك.
وكذلك إذا أحست المربية أن الثواب يمنع الأطفال من الإحساس بالواجب، فلا يعينون بعضهم إلا إذا أخذوا قصة ... ولا يطيعون المربي إلا إذا أخذوا الحلوى.،. عندها يجب أن يتحول التشجيع إلى إلزام، وقد يضطر الأمر بالمربية إلى العقاب آنذاك.
فالعقاب: طريقة تلجأ إليها المربية عندما تخفق الطرق العادية عندها (من تعلم، وتعاون، ونظام) والعقاب ليس مرادفة للتربية حيث يظن البعض أن التربية تعني الضرب والشدة والتحقير... بينما الواجب ألا يغفل المربي عن مساعدة الناشيء للوصول إلى أقصى كمال ممكن. فيسعى إلى إسعاد الطفل وتهذيبه من غير إرهاق له ولا تدليل. فالأصل ألا يعالج المسيء بالضرب أو القسوة، وإذ يؤكد الواقع أن العقاب تقل الحاجة إليه كلما ازدادت حكمة المربية، إذ تبتعد عن الأسباب المؤدية إلى العقاب كأن تبعد الطفل عن مواقف العصيان والتمرد.
(فكيف تمنعه مثلا من إكمال لعبة يحبها وينسجم معها، ثم تحذره من العصيان؟!) لذا كانت المعاملة المبنية على الحب والعطف، لا الإرهاب والقمع، هي خير معين للوصول إلى النتائج المرجوة. وقد قال تعالى: {........ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ......} (159) سورة آل عمران
فالمربية الناجحة تعطف على صغارها وتعالج أخطاءهم بحزم وصبر وأناة وتحمل، فلا تكون سريعة الغضب كثيرة الأوامر لئلا تفقد احترام أطفالها.
تعودهم على احترام مشاعر الآخرين وتساعدهم على معرفتها كأن تقول:
- انظر كيف ضربت جارك، (أخاك) يبكي!
- أخذت ألعابه وهو حزين!
وبذلك يتدرب الصغار على محاسبة أنفسهم فيبتعدون عن الأنانية وحب الذات وهكذا... تراعي أحوال أطفالها وتقدر العقوبة بحسب الحال.
ولا تلجأ إلى العقوبة الأشد إذا كانت الأخف كافية، فمن كان يتلقى التشجيع تكون عقوبته الكف عن التشجيع. وقد تكون الإعراض عن الطفل وعدم الرضى، وقد تكون العبوس والزجر.. إلى الحرمان من الأشياء المحببة للطفل. أما الضرب فلا ضرورة له البتة، ذلك أن من يعتاد الضرب يتبلد حسه ولن يزجره وجه عابس، ولا صوت غاضب ولا تهديد ووعيد، وكثيرا ما يعبر الأطفال عن استهانتهم بعقوبة الضرب وإقدامهم المقصود على المخالفة بقولهم "ضربة تفوت ولا أحد منها يموت "،
وأي عقوبة قد تظل شيئاً مرهوناً في باديء الأمر، ولكنها إن تكررت كثيراً تفقد شيئاً من تأثيرها كل مرة.
ومن صفات العقوبة الناجحة:
1- أن يكون العقاب مناسباً للعمل. فمن وسخ ينظف، ومن مزق قصة يحرم من القصص لفترة. ولا يكون من الخفة بحيث لا يجدي أو من الشدة بحيث يجرح الكبرياء
2- أن يكون عادلاً، فإن عوقب طفل لأنه ضرب زميله، لابد وأن يعاقب من يعمل مثل ما عمل، وإن عوقب لأنه سرق متاع أخيه، لا يضحك الأهل له لأنه سرق متاع أخيه.
3- أن يكون فورياً ليتضح سبب العقاب،. فيتلو الذنب مبا شرة.
4- أن يخفف بالاعتراف، ليتعود الأطفال فضيلة الصدق،
5- التدرج في إيقاع العقوبة، فيوبخ سراً في البداية لأن من اعتاده جهاراً حمله ذلك على الوقاحة وهان عليه سماع الملامة.
أما إذا وجد المربي أن الأصلح الردع لضخامة الخط، ومنعاً لمعاودته، فلا مانع من استعمال العقوبة الأشد لئلا يستهين الطفل بالذنب.
6- ألا يتوعد الطفل بما يسييء إلى المباديء والمثل كأن يقال: إن عملت كذا سأضربك إبرة، مثلا....(حتى لا يعتاد الخوف من الطبيب)
7- عدم تكرار الوعيد والتوبيخ الذي لا جدوى منه، إذ يتعلم الطفل عدم الاكتراث والاستمرار في ا لعصيان .
8- البعد عن استخدام كلمة سيء، بليد وماشابه هذه الألفاظ، لئلا يعتادها الطفل فيتبلد إحساسه وكذا عدم الاستهزاء به بندائه: يا أعرج، يا أعور... أو مناداته يا كذاب، يا لص، فيتجرأ على الباطل بهذا النداء، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات .
9- عدم مناقشة مشاكل الأطفال أمام الآخرين، فالانتقاد اللاذع للطفل ومقارنته السيئة مع الآخرين خطأ فاحش يؤدي إلى إثارة الحقد والحسد، وهذا أدب علمنا إياه الإسلام، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلمح ويعرض ولا يصرح يقول:
"ما بال أقوام! يفعلون كذا كذ ا... "
10- أن تتحاشى المربية شكوى الطفل إلى والده أو مدرسته إلا في الحالات التي تحتاج إلى مساعدة الغير وبدون علم الطفل لئلا يفقد الثقة بها، وإذا وقع العقاب من أحد الأبوين، فالواجب أن يوافقه الآخر وكذا إن وقع من المعلمة فلا تناقض الأسرة المدرسية (من مديرة وإداريات ومعلمات) رأي المعلمة ويشعر الطفل بذلك. وإلا فلا فائدة من العقاب،
11- أن يشعر أن العقوبة لمصلحته لا للتشفي وليس سببها الغضب.
12- ألا تعطي المربية وعوداً بالثواب بأشياء لا تستطيع الوفاء بها، وإلا لن تنفعها النصائح والتوصيات المتوالية بالصدق.
أما التهديد فلا ضرر بعده من عدم تنفيذ العقاب وإنما يمكن أن يستتاب الطفل دون تنفيذ التهديد بشرط واحد، هو ألا يعتقد الطفل أن التهديد لمجرد التهديد لا للتنفيذ، فينبغي أن ينفذ التهديد أحياناً حتى يعتاد الطفل احترام أقوال المربية.
13- الاهتمام بالثواب أكثر من العقاب وذلك بسبب الأثر الإنفعالي السيء الذي يصاحب العقاب. أما الاستحسان ففيه توجيه بناء لالتزام السلوك المرغوب فيه وحب الخير أكثر منه الكف عن العمل المعيب.
وأخيراً، فالمربية في يقظة تامة، ومتابعة مستمرة لأطفالها ومحاسبة لنفسها، تراعي في تصرفاتها أن تكون بحكمة وروية. طريقها في التربية خالية من الفوضى، ونظام خال من التزمت.
حازمة لأنها تعلم أنها لن تسدي لطفلها صنيعاً إن استسلمت لرغبته فبالحزم يتعلم الطفل التعامل مع بعض الظروف القاسية في المستقبل إذا خرج إلى معترك الحياة.
لا يفوتها تشجيع ذي الخلق من أطفالها، ولا الحزم مع العابث المؤذي فتحاول انتشاله مما هو فيه، مراعية تناسب العقاب مع الخط.
ولتعويد الأطفال الطاعة ينبغي على المربية أن تراعي:
- عدم إعطاء أوامر كثيرة مرة واحدة.(1/81)
- البعد عن الاستبداد والصرامة، وعدم اللجوء إلى التهديد أو الرشوة.
- متابعة تنفيذ الأوامر والتحقق من الاستجابة.
- الطلب الرقيق أعظم أثراً من التأنيب.
- طلب تنفيذ أمر محدد واضح يساعد على الاستجابة أكثر من طلب أمر عام وعائم.
- عدم تعجيلهم لئلا يؤدي ذلك إلى تأخيرهم أكثر من الاسراع مع إشعارهم بالثقة بأنفسهم،
وختاماً فالمربية بحسن حكمتها تضع الأمر في نصابه، وهي مهمة شاقة مهمة بناء الأجيال. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
4- المشكلات السلوكية عند الأطفال
يقصد بالمشكلات السلوكية هنا: المشكلات التربوية التي تعانيها المربية في تنشئة الطفل، كمشكلة تعلم النظام وا لنظافة، والتعدي، والصراخ، والانطواء... وماشابه ذلك وهي مشكلات موجودة عند غالبية الأطفال، وهي لا تدل بحال على سوء طبع الطفل أو شذوذه. ييان أحسن المربي علاجها تزول تلقائياً وبسهولة.
فما هو الحل وما الطريقة المثلى التي يحسن اتباعها مع الأطفال المشكلين.
باديء الأمر نؤكد أنه لابد للطفل من أن يجد نصيبه وحقه من الحب والعطف والحنان. وأغلب الانحرافات تنشأ من عدم التوزان بين الحب والضبط، فالزيادة في الحب تؤدي إلى الميوعة وتكوين شخصية غير متماسكة لا تعتمد عليها.
والزيادة في الكبح تؤدي إلى الثورة والعنف.
هذه ملاحظة تهمنا هنا نضعها في الحسبان. ومن جهة أخرى تحرص المربية على أن تلم إلماماً كافياً بميول أطفالها وغرائزهم، فإن وجدت من طفل حبه للعبث دعته إلى رفع ألعابه وتنظيمها ليعتاد الترتيب.
وإن وجدت منه قذارة وعدم نظافة، ساعدته لغسل وجهه ويديه وأثنت على حسن مظهره بعدها- دون مبالغة وهكذا.، ومن مشكلات الأطفال التي قد تواجه المربية:
1- كثرة البكاء والصراخ :
من واجبات المربية تعليم أطفالها ضبط الانفعال، لذا فعليها تهيئة الجو المناسب الذي يبعد طفلها عن الانفعال غير المرغوب فيه وذلك بتحقيق المعقول من طلباته... وبعدها إن لمست منه الغضب الذي لا يتناسب مع المثير وكثرة البكاء. حتى أصبحت الدموع عنده وسيلة لتحقيق غايته يقال له: لا تبك وإلا لا تسمع شكواك من ثم ينظر في سبب البكاء:
أ- فإن كان يريد الحصول على ما لا حق له فيه فلا تعطيه إياه وإلا فيعتاد الصراخ كل مرة لينال مايريد.
ب- عدم اللجوء إلى التهديد حين ثورة الغضب فذلك قد يؤدي إلى إيذائه لنفسه،
جـ- التعامل معه بأنه عادي، والتشاغل عن غضبه ثم نرى أنه يهدأ بعد فترة قصيرة وتذهب حدة التوتر.
هذا ونعمل جهدنا أن لا نكون قصرنا في إشعار الطفل بالراحة والحنان والطمأنينة وأخذ كفايته من الطعام. ونتأكد من سلامته من المرض (لا سيما إذا كان الصراخ طارئاً)، أما إن كان السبب المبالغة في تدليله: فتعمل على زيادة الضبط والكبح، لئلا يعتاد الاعتماد على الآخرين، فتضمحل شخصيته ويكثر تردده، ونكون قد كثرنا سواد التسيب وا للامبالاة.
2- السرقة:
إن الأطفال لا يعرفون ماهي ممتلكات الغير، فاللعبة التي يرونها مع غيرهم أو الحلوى يشعرون أنهم أحق بها.
وأفضل طريقة لتعليمهم الأمانة: هي احترام حقوق الطفل فيما يملك فيتدرب على احترام حقوق الغير- على أن لا يكون بذلك مبالغة فينقلب الأمر إلى أنانية وحب للذات.
وإن حصل وعبث الطفل بأغراض غيره وأخذها، فيعالج الأمر دون إثارة ضجة أو تهويل، فلا يصح بحال أن ينادى يالص، وإلا تجرأ على ذلك وهانت عليه نفسه، وننتهز الفرصة المناسبة للتوجيه غير المباشر، والقصة الهادفة مع حسن الالقاء تؤدي إلى نتائج طيبة في هذا المجال.
3- الخوف :
يعتبر من المظاهر الطبيعية لدى الأطفال، وعلى الآباء ألا يخيفوا أطفالهم إلا في الأمور المستحقة للتخويف كتخويفهم من الحوادث والأمور الخطيرة حماية لحياتهم.
أما إذا بدت من الطفل مخاوف غير عادية، فلا تسفه المربية مخاوفه وإنما تبث فيه الإحساس بالأمن والطمأنينة وكذا تشعره بالثقة في نفسه والتي قد تنتجها مهارته في عمل ما.،. لذا فتشغله المربية الحكيمة بعمل أشياء يحبها ويتقنها.. أو لعبة تلهيه وتشغله.
4- التأتأة وعدم الكلام:
إن من أهم واجبات المربية تعويد الطفل التفاعل مع الآخرين والجرأة الأدبية وتعلم السلوك المناسب في المواقف المختلفة.
فإن وجدت من طفلها تأتأة... عليها تجاهلها في بداية الأمر حتى لا يحدث ذلك إثارة لانتباه إخوته وأقرانه... ومن ثم لا تسرف في تصحيح نطقه أمام الآخرين وتمنحه الثقة بنفسه.. فإذا به يتعود التعبير عن نفسه بلسان سليم ولباقة وإتقان.
إن غرس الثقة في نفوس الأطفال له أهميته في هذا المجال "
5- مص الأصبع:
لوحظ أن غالبية أبناء الموظفات أو المشغولات عن أطفالهن لديهم هذه العادة. وحيث أن غريزة المص هي الأساس عند الصغار، فهذه عادة طبيعية في السنة الأولى، وتعالج عند الصغار بإطالة فترة الرضاعة من الثدي، وتضييق ثقوب الحلمة (عند الرضاعة الصناعية)،
وأما الأطفال الأكبر سناً فيشجعون على النشاط المتصل بالفم كمضغ اللبان والشرب من العصي المثقوبة. وبعد سن الثالثة تعمل المربية على إشغالها ما أمكن، مع العمل على إقناعه. بأن هذه من عادات الصغار ولا تليق به... لكن لا يسخر منه ولا تكون مجال تندر به أمام الاخرين.
6- كثرة الأسئلة :
دليل على ذكاء الطفل، وهي فرصة للمربية للتعرف على أطفالها وعقلياتهم، والمربية الناجحة تحاول الإجابة عن أسئلتهم وتشجعهم لطرح المزيد منها، ومهما كان لديها من أعمال فتوسيع مدارك طفلها وإشعاره بالثقة أولى من أعمالها الأخرى. لأن هذه مهمتها الرئيسية فلا تضيق ذرعة بكثرة الأسئلة، وحسن الإجابة له تأثيره الطيب،
7- التبول اللاإرادي:
أول علامة من علامات المراقبة الإرادية للتبول " هي إنتباه الطفل إلى كونه قد بل ملابسه ولفت نظر أمه إلى عمله، فإذا بدا ذلك من الطفل فهنا تهتم الأم بتدريب ابنها، وتنظم طعامه وراحته وتبعد عن الفظاظة في تعاملها معه لأنه قد تكون سبباً للتبول العرضي ليعبر عن سخطه.
فإن حصل منه التبول اللاإرادي:
أ- تضع المربية حداً لمضايقة الأطفال من إخوة وأقارب للطفل. فلا يصح بحال أن يكون هذا سبباً لإذلال الطفل.
ب- تعويده على التبول قبل النوم مباشرة.
ج- منحه مكافأة كلما استيقظ وفراشه نظيف.
د- إشعاره بالسعادة والراحة النفسية، وعدم مقارنته بالآخرين. للتقليل من شأنه .
8- مشكلات الطعام:
قلة الشهية أو التباطؤ في تناول الطعام، قد تكون لجلب انتباه الآخرين والحديث عن الطفل أمام الصديقات.
وقد تكون بسبب المرض، أو قلة نشاط الطفل، وعليه ففي كل مرة يعالج السبب... فالمريض يعالج وعديم النشاط ندفعه إلى نشاط بدني، كلعب الكرة أو ركوب الدراجة أوحتى الجري ومن ثم يدعى لتناول الوجبة. أما أن يكون عدم الأكل لإثبات الذات فهذا لا يصح وإنما نحاول أن يسمعهم الطفل انشودة أو يريهم عملاً من أعماله مع عدم حديث المربية عن طعام طفلها أمام صديقاتها...
وفيما عدا ذلك لا يستعمل العنف والضرب على الطعام وإلا أصبحت فترة الطعام بغيضة عند الطفل وبالتالي تزيد قلة شهيته.
كذلك لا يدعى للطعام عند استغراقه للعبة يحبها لأن ذلك يحرمه من الاقبال على الطعام بشهية.
9- الكلام البذيء:
قد يحلو لبعض الأطفال ترديد كلمة بذيئة سمعوها من الشارع. والمربية الحكيمة تتجنب إظهار الغضب لكلمة الطفل، وتتجاهله ما أمكن، إنها في غضبها تشعره بالفوز في إثارة اهتمامها، أما إن تكرر منه الأمر فتكتفي بالعبوس والتقطيب في وجهه، ودعوته إلى المضمضة من الكلمة القذرة. أما إذا لم يرعو كلميه على انفراد، وأشعريه بقبح ما ردده أطفال الشارع، وهو المسلم النظيف اللسان ولا مانع من عقابه بحرمان من لعبة بعينها أو نحو ذلك إلى أن يترك هذه البذاءة.
هذه بعض المشكلات التي قد تعترض المربية خلال معايشتها للأطفال سواء في المنزل أو الروضة، وقد عرضتها بإيجاز، وأرجوا أن أكون قد أوصلت المقصود إلى أخواتي المسلمات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــ(1/82)
وسائل أهل الحق في السباق إلى العقول
الوسيلة السادسة: العناية باللغة العربية ونشرها.
اللغة العربية هي لغة القرآن والسنة-أي لغة الإسلام، فالقرآن نزل بهذه اللغة، والسنة وردت بهذه اللغة، والآثار المفسرة للقرآن والسنة، ومصادر الفقه الإسلامي، وتاريخ الإسلام، وكتب الآلة من نحو وصرف وبلاغة ومصطلح وعلم تفسير وغيرها، أساسها اللغة العربية، فلا غرو أن تكون اللغة العربية هي مفتاح علوم الإسلام كلها، فلا يفقه هذا الدين حق الفقه، ولا يعلم مقاصده وأسراره وحكمه وعلله حق العلم، إلا من فقه هذه اللغة.
ولهذا كثر وصف كتاب الله-القرآن الكريم-بكونه عربيا، كما قال تعالى: {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} .
وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا} .
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} .
وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} .
وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} .
وقال تعالى: {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} .
حكمة وصف القرآن بأنه عربي.
إن هذا التنويه بكون القرآن عربيا، لجدير بالتأمل والنظر ولو وصف الله القرآن الكريم بأنه عربي مرة واحدة فقط لاستحق التأمل والنظر، فكيف وقد كرر تعالى وصفه بذلك في أساليب متعددة؟!.
ولو أن مخلوقا عاقلا وصف شيئا ما بوصف مرة واحدة، لكان لوصفه بذلك اعتبار عند القارئ والسامع فكيف إذا وصفه بذلك مرات؟!
وكيف إذا كان هذا الوصف صادرا عن الله في كتابه، فما حكمة وصف القرآن الكريم بأنه عربي؟
هل المقصود من ذلك بيان إعجاز القرآن الذي نزل بلغة العرب، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا؟
نعم إن ذلك لمقصود، ولكن هذا التحدي يكون أكمل عندما يتعلم غير العربي اللغة العربية ويصبح لسانه عربيا، يفهم القرآن الكريم بلغته التي نزل بها ويتذوق أساليبها وبلاغتها ويتعمق في فهم معانيها، ويطلع على أسرار القرآن وحكمه بها، فيتبين له معنى كون هذا القرآن معجزا حقا.
وهل المقصود بذلك نفى أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعلم هذا القرآن من بعض من كان عندهم علم من الكتب السماوية السابقة، كما زعم ذلك بعض أعداء الإسلام؟
نعم، إن ذلك لمقصود وقد صرح الله بذلك في قوله. {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} . ولكن هذا المعنى المقصود جزء مما يحمله هذا الوصف وليس كل معناه.
وهل المقصود أن هذا القرآن الذي نزل باللغة العربية، مع أنه نزل لهداية جميع البشر، شرف لك أيها الرسول ولقومك العرب وبخاصة قريشا؟!
نعم إن ذلك أيضا لمقصود، كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} .
ولكنه ليس ذلك كل المقصود.
بل هناك مقاصد أخرى من أهمها ما يأتي.
المقصد الأول: أن الدين الإسلامي إنما جاء باللغة العربية.
لقد جاء هذا الدين-أي دين الإسلام-عن طريق القرآن الكريم والسنة النبوية، وكلاهما باللغة العربية ويتوقف فهمه السليم الكامل على فهم اللغة التي حملته إلى الناس، وهي اللغة العربية، ولا يمكن أن يَنقُل للناس معاني دين الإسلام نقلا صحيحا ويبينها بيانا شافيا، إلا مَن كان عنده دراية تامة باللغة العربية، بقواعدها وبلاغتها واشتقاقها وغريبها وحقيقتها ومجا زها وأساليبها، لأنها لسان هذا الدين ولسان كتابه ولسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولسان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . {وهذا لسان عربيٌ مبين}. وقد كلف الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيانَ هذا الدين للناس، وقد فعل ذلك، وبيانه كان بلغته التي نزل بها القرآن قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} .
وقال تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
وقد كلف الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي آمنت به واتبعته، تبليغَ هذا الدين، وفي طليعة أمته أصحابه الكرام رضي الله عنهم، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} .
وقد قاموا بنشر هذا الدين وبيانه للناس بلسان عربي مبين.
وترجمة معاني القرآن الكريم لمن لا يفهم اللغة العربية، لا سبيل إليها إلا لمن يجيد اللغة العربية واللغة المترجم إليها، فاللغة العربية هي أساس البيان لهذا الدين الذي نزل بها.
المقصد الثاني: أن من أهم وسائل نشر الإسلام اللغة العربية.
إن علماء الإسلام مأمورون باتخاذ كل وسيلة مشروعة لنشر هذا الدين وإبلاغ معانيه إلى الناس، ومن أهم وسائل نشره تعليم الناس اللغة العربية التي يتمكن مَنْ تعلمها من فهم هذا الدين فهما صحيحا سريعا.
المقصد الثالث: أن كثيرا من العبادات يجب أداؤها باللغة العربية.
مثل قراءة الفاتحة في الصلاة، وأذكار الصلاة كتكبيرة الإحرام وأذكار الركوع والسجود والتشهد، ونحوها من فروض العين التي يجب على المسلم أداؤها باللغة العربية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليتقرب بها إلى الله تعالى.
المقصد الرابع: لا بد من وجود علماء يفقهون الإسلام باللغة الغربية.
إنه لا بد من وجود علماء يجيدون اللغة العربية، إجادة تجعلهم قادرين على فهم معاني القرآن والسنة وكتب العلم التي يحتاج إليها المسلمون، ليكونوا مرجعا لأهل كل بلد يعلمون الناس معاني القرآن الكريم والسيرة النبوية وغيرها، فإن وجود علماء باللغة العربية تحصل بهم الكفاية في ذلك وغيره، هو فرض كفاية يأثم كل قادر من الأمة على عدم إيجادهم، ويأثم القادرون على تعلم اللغة العربية للقيام بهذا الفرض إذا لم يتعلموها.
المقصد الخامس لا بد من وجود قادرين على ترجمة معاني الإسلام.
وهذا المقصد لا يحصل إلا بوجود علماء يجيدون اللغة العربية ويجيدون لغة البلد الذي يريدون دعوة أهله إلى الإسلام، ليترجموا لأهله معاني القرآن الكريم والسنة النبوية، وما يجب إبلاغه إلى الناس من أحكام هذا الدين، لأن علماء الإسلام مأمورون بالبلاغ المبين الذي أصبح من واجبهم بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وليس من السهولة بمكان أن يتعلم كل الناس اللغة العربية.
ترجمة معاني الإسلام إلى اللغات الأخرى.
هذا وليعلم أن تبليغ الناس معاني الإسلام وأحكامه بالترجمة إلى لغات أخرى غير اللغة العربية، أمر تقتضيه الضرورة، إذ أنه مهما أوتي المترجم من إتقان للغة العربية واللغات الأخرى التي يترجم بها معاني الإسلام، لا يمكنه أن يستوعب ما تحويه اللغة العربية من معان إلى اللغات الأخرى، ولذلك يجب على المسلمين أن يهتموا بتعليم اللغة العربية ونشرها بكافة الوسائل المتاحة، كالمدارس والمعاهد والجامعات والكتب وإعداد المعلمين وتدريبهم، والمنح الدراسية في البلدان العربية لغير العرب، وكذلك استغلال أجهزة الإعلام كالمذياع والتلفاز والفيديو والكاسيت وغيرها، لتعليم الناس-وبخاصة المسلمين-لغة القرآن ليصلوا إلى فهم هذا الدين فهما مباشرا بلغته التي جاء بها.
وإني أشبه من يجيد اللغة العربية ويفهم دينه من القرآن والسنة وكتب العلم بها مباشرة، برجل اشتد عطشه فرأى عينا جارية تنبع من صخرة في قمة جبل وهو في أسفله، فشمر صاعدا حتى وصل إلى نبع الماء واستقى منه عذبا زلالا صافيا.
وأشبه من وصلت إليه معاني الإسلام بالترجمة، برجل آخر اشتد عطشه، وهو مصاب بالكسل، وقف في أسفل الجبل ينتظر وصول الماء إليه ليشرب منه وهو في مكانه، فوصل إليه الماء وقد مر بالتراب والقاذورات التي كدرته فأخذ يشرب منه وهو بتلك الحالة.
وإن الأمة الإسلامية لجديرة بالاهتمام بلغتها ونشرها بالوسائل المتاحة، لتصل إلى الناس في هذا الكوكب الأرضي، فهي لغة دين لم يعد في الأرض دين حق سواه، وهو الذي حفظ لها هذه اللغة من الضياع، لحفظ الله تعالى هذا الدين بحفظ كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} .
انتشار لغة الأمة من علامات قوتها.
وإن انتشار لغة أي أمة لهو دليل عظمتها وتفوقها، وبلغتها تستطيع أن تسبق بدينها وفكرها وسياستها واقتصادها وسائر علومها، غيرَها من الأمم إلى عقول الناس.
وهذا ما تحقق للأمة الإسلامية أيام مجدها، حيث انتشرت لغة دينها انتشار مساجدها ومعاهدها ودعاتها، ونبغ في اللغة العربية أئمة من غير العرب فملئوا بعلمهم الآفاق من حدود الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا.
وكانت الأمم تتسابق إلى علوم المسلمين في كل مجال من مجالات الحياة، كما نقل المسلمون علوم الأمم الأخرى إلى لغتهم، واستفادوا منها وطبقوها عمليا وزادوا عليها، وعلى أيديهم تعلم الأوربيون أسس حضارتهم التي يفخرون بها اليوم.
وإن مما يؤسف له أن تنحدر الأمة الإسلامية انحدارا مروعا، في دينها وخلقها وسياستها واقتصادها وأمنها ووحدتها وقوتها العسكرية، مما كان له أثره البالغ على لغتها التي لم تعد لها مكانتها في العالم، بل أصبحت في مؤخرة اللغات، وأصبحت لغات الأجانب من النصارى وغيرهم هي لغات العلم والثقافة والفكر في العالم وأصبح المسلمون-والعرب منهم بصفة خاصة-يفتخرون باللغات الأجنبية ويتكالبون على أفكار أهلها وآدابهم ويتأثرون بهم، فأصبح السبق للأجانب ولغاتهم وأفكارهم إلى عقول أبناء الأمة الإسلامية بدلا من أن تسبق الأمة الإسلامية بلغتها ودينها وفكرها إلى عقول أبناء الأمم الأخرى [1] .
وها هي أمم الغرب تنشر لغتها في كل مكان، عن طريق مناهج التعليم والإعلام والبحث العلمي والأدوات المتنوعة والمواصلات والاتصالات، حتى ليكاد المسلم العربي يكون غريبا بلغته في بلاده، يقتني الجهاز الذي يحتاج إليه فلا يستطيع استخدامه لأن الكتب الإرشادية المتعلقة باستخدامه قد أعدت باللغات الأجنبية. وهكذا الدواء والغذاء وغيرها، وهكذا الفنادق والشركات والمستشفيات، بل إن بعض البلدان العربية ما زالت معاملاتها الرسمية باللغة الأجنبية!
وإنما هانت اللغة العربية عند أهلها، لهوان الدين في نفوسهم وضعف فقههم له، ولو كان الدين قويا في نفوسهم مطبقا في حياتهم، لعرفوا للغته حقها وقدروها حق قدرها، وسابقوا غيرهم بدينهم الحق بلغته إلى عقول الناس في الأرض كلها.
إن ترجمة معاني الإسلام من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لإبلاغ أهل تلك اللغات هذا الدين، هي فريضة كفائية، ولكن أنى لأهل تلك اللغات أن يفهموا حقائق هذا الدين كاملة عن طريق ترجمته وليس عن طريق اللغة العربية مباشرة؟!
ولقد بذل علماء الإسلام من سلفنا الصالح، جهودا مضنية لإبلاغ حقائق الإسلام إلى عقول الناس عربا وعجما، بما وضعوه من قواعد اللغة العربية من نحو وصرف واشتقاق وغيرها، وبما وضعوه من قواعد شرعية تضبط بها مقاصد الشريعة وأحكامها، من أصول الفقه وقواعده، فبينوا النص والظاهر والمجمل والمبين والمقيد والمطلق والخاص والعام، وما وضعوه من مصطلحات في علوم الحديث وعلوم التفسير، فكانوا بذلك أعظم أمة اتخذت وسائل لغوية وشرعية لتسبق بالحق الذي آتاها الله باطلَ الأمم الأخرى إلى عقول الناس.هذا بالإضافة إلى بذل جهودهم في مجالات التعليم والدعوة والجهاد في سبيل الله.
الوسيلة السابعة: القدوة الحسنة.
إن من أهم وسائل السباق إلى العقول، القدوة الحسنة التي يراها الناس ويلمسونها في صاحب الحق، بحيث يرون صاحب المبدأ يطبق مبدأه في واقع حياته وتصرفاته، فإذا كان المقام يحتاج منه إلى الكرم أقدم إلى البذل والعطاء، وإذا كان المقام يحتاج منه إلى خلق الشجاعة رآه الناس مقداما غير هياب، وإن اختبروه في صفة الصدق لم يجربوا عليه كذبا، وإن التمسوا عدالته لم يجدوا منه ظلما، وإن أرادوا معرفة تقواه ألفَوه يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما به بأس، لشدة تحرجه من الوقوع في المأثم، فضلا عن إتيانه الأوامر الواجبة وتركه المحرمات.
والخلاصة أنه يتحرك في نشاطه كله بالقرآن والسنة، فإذا رآه الناس مداوما على ذلك مالوا إلى الاقتداء به ولو لم يتكلم، لأن الحق بذاته يدعو الناس إلى ذاته، فكيف إذا رأوه مطبقا في حياة أهله ورأوا ثمار تطبيقه في الحياة؟ ويبدأ المعاند المناوئ للحق يفكر في سيرة صاحب الحق ويتدبر ويقارن بين الحق الذي يراه مطبقا في حياة صاحبه، وبين الباطل الذي يزاوله هو، ويترتب على ذلك أحد أمرين.
الأمر الأول: اتباع الحق والعمل به، ونبذ الباطل.
الأمر الثاني: الإصرار على الباطل، مع تيقنه أنه باطل، وترك الحق مع تيقنه أنه حق، وفائدة ذلك انكسار نفس صاحب الباطل أمام صولة الحق، وإقامة الحجة العملية عليه.
أما إذا كان الداعي إلى الحق لم يلتزم هو نفسه به ولم يطبقه في حياته، فإن الناس ينصرفون عنه ولا يشغلون عقولهم بالتفكير فيما يدعو إليه، لمعرفة كونه حقا فيُتَّبَع أو باطلا فيُجتَنَب.
وهذه هي القدوة السيئة التي تُنَفِّر من المبدأ وإن كان حقا، كما هي عادة غالب الناس، وقد يوجد من يفكر في المبدأ الذي لا يكون الداعي إليه قدوة حسنة في تطبيقه، فيعلم أنه حق ويتبعه، ولكن ذلك ليس من وسائل السباق الناجعة إلى العقول.
لهذا كان للقدوة الحسنة منزلتها في الإسلام. وكان رسل الله وأنبياؤه والداعون إلى هداه، كلهم قدوة حسنة، وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بمن سبقه من إخوانه المرسلين، فقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} .
وأرشد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إلى الاقتداء بنبيه إبراهيم عليه السلام ومن معه، فقال تعالى: {قد كانت لكم حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} .
وقال تعالى: {لقد لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} .
وحث تعالى هذه الأمة حثا مؤكدا على الاقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي جمع كل قدوة حسنة سبقه الأنبياء وزاده الله من فضله، فقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} .
ولقد كانت الأمة الإسلامية في ماضي عهدها، قدوة حسنة في إيمانها وفي عبادتها ومعاملاتها وسلوكها، وفي عهودها ومواثيقها وفي الأخذ بأسباب القوة والعزة، فكان ذلك سببا في سرعة وصول الحق الذي يحملونه إلى عقول الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فسارع الناس إلى الاقتداء بهم واتباع دينهم، حتى ترك أهل الديانات الأخرى دياناتهم، ووقف رعايا الطغاة ضد طغاتهم إيثارا للحق على الباطل، ونصرةً لأهل الحق على أهل الباطل، فوصل الإسلام إلى لشبونة وفينا وبلغراد وموسكو وبلاد الصين والفلبين وإندونيسيا وإفريقيا، بدون قتال في غالب تلك البلدان، لأن القدوة الحسنة تجعل اتباع الحق سهلا ميسرا لرؤيته مطبقا في واقع الحياة، يطبقه البشر.
وذلك على عكس ما عليه الأمة الإسلامية اليوم، حيث يغلب عليها القدوة السيئة التي جعلت الأمم تنفر منها ومن دينها، وجعلت أعداء الإسلام يستغلون تلك القدوة السيئة، فيبرزونها في مؤتمراتهم وندواتهم ومناهج تعليمهم وإعلامهم وفي كل مناسبة تسنح لهم.
يسمع الناس أن الإسلام يدعو إلى الصدق، ولكنهم يرون في كثير من المسلمين الكذب.
ويسمعون أن الإسلام دين القوة والعزة، ولكنهم لا يرون في المسلمين الا الضعف والذلة.
ويسمعون أن الدين الإسلامي يدعو إلى الجماعة والوحدة وأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، ولكنهم يرون المسلمين متفرقين مختلفين، يسب بعضهم بعضا، ويعتدي بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا. ويسمعون أن الإسلام دين الرحمة وأن المسلمين رحماء فيما بينهم، ولكنهم لا يجدون في كثير من المسلمين إلا القسوة والعنف يأكل القوي منهم الضعيف. ويسمعون أن الإسلام دين العدل، ولكنهم يرون الظلم بين المسلمين هو السائد.
ويسمعون أن الإسلام يدعو إلى الشجاعة، ولكنهم يرون المسلمين جبناء تضيع حقوقهم وتغتصب بلادهم من قبل عدوهم القليل فيستسلمون له ويخضعون وهم كثر.
فكان ذلك سببا في نفور الناس عن هذا الدين الذي صار أهله قدوة سيئة فيه.
وأقول-إنصافا للحق-: إنه يوجد في المسلمين من هو قدوة حسنة ولكن ليس على مستوى الأمة.
والقدوة الحسنة عندما تكون على مستوى الأمة، تبرز معاني الإسلام في السياسة والحكم والاقتصاد والسلوك والنواحي الاجتماعية والعسكرية والقوة الصناعية وغيرها.
أما ما يكون على مستوى الأفراد والأسر وبعض الجماعات الصغيرة، فإنه قدوة حسنة، ولكنه محدودة غير بارز للعالم الذي لا يطلع إلا على ما تبرزه وسائل الإعلام وإمكانات الدول.
والذي يراه الناس الآن في المسلمين هو الإسراف في المحرمات ومحاربة أغلب حكوماتهم للإسلام والدعاة إليه، والتأخر في الشؤون الإدارية والاقتصادية، مع كثرة الخيرات في بلدانهم وسعة أراضيهم، كما يرون تقتيل أعدائهم لهم وإخراجهم من ديارهم، وهدم مساجدهم وانتهاك أعراضهم، وهم سادرون في غيهم يرقصون ويغنون ويمثلون ويتعرون، يقضي في أمورهم غيْرُهم، وكأنهم غير موجودين على ظهر الأرض:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
فأين هي القدوة الحسنة فيهم، حتى يكونوا من السباقين بالحق إلى العقول، وعقولهم مأوى للباطل؟!
---------------
[1]- ليس المراد هنا التنفير من تعلم اللغات الأجنبية للاستفادة منها في العلوم المحتاج إليها وفي دعوة أهل تلك اللغات بها إلى الإسلام فهذا من فروض الكفاية في الإسلام، وإنما المراد المبالغة في تقديس تلك اللغات ونسيان اللغة العربية لغة الإسلام.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
ـــــــــــــــ(1/83)
أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين?..
المرأة المسلمة في هذا العصر تعيش فراغا في كل شيء:
- فراغا في القدوة، فلا تجد من تقتدي بها في أخلاقها ودينها..
- فراغا في الإيمان، فلا تجد من يذكرها بالله تعالى ويطعم روحها من معاني القرآن والسنة..
- فراغا في الوقت، تشكو من كثرة الأوقات وقلة الأعمال..
وفي مقابل ذلك تواجه هجمة شرسة لهدم حرمتها، وإبراز عورتها، وتضييع كرامتها، بألفاظ براقة، ودعايات خداعة، تنادي بحقوقها ومساواتها بالرجل، زعموا ..
تصوروا فتاة لا تجد القدوة الحسنة التي تعلمها وتهذبها وتربيها لا في البيت ولا في المدرسة ولا الكلية، وتعاني ضعفا في الإيمان، وجهلا بأحكام الدين، يصاحب ذلك الفراغ وتوفر المال، ثم يأتيها جند إبليس من كل حدب وصوب يزينون لها الخروج والغزل والتبرج واللهو، يوهمونها أن ذلك من حقوقها، وأن فيه سعادتها وراحتها وملء فراغ وقتها، وقتل الملل الذي في حياتها......
ألا يدعوها كل ذلك إلى الانجراف إلى مواطن الخطر، وفساد الخلق، وضياع الحياء والدين؟..
نحن في هذه الكلمة العابرة نحاول أن نبرز لإختنا المسلمة القدوة والأسوة التي تبحث عنها فلا تجدها.... نجتهد في أن نقدم صورة مشرفة لفتاة مؤمنة صادقة تصلح أن تكون قدوة لكافة الفتيات والزوجات.
---
هذه الفتاة لم يتجاوز عمرها العشرون، كانت صابرة دينة خيرة صينة قانعة شاكرة لله، بشرها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالجنة مع السيادة فيها، فهي سيدة نساء العالمين في زمانها..
فمن هي؟..
وكيف نالت هذه الدرجة الرفيعة، في الوقت الذي يتهاوى فيه كثير من النساء، والشيطان يتخذهن غرضا وهدفا لكل مفسد?..
قال عليه الصلاة والسلام: ( أريت النار، فرأيت أكثر أهلها النساء) .
لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه بالتبرج والسفور وتضييع حق الله عليها..
لم تكن لتصل إلى الجنة والسيادة على نسائها، وهي تخالل الشباب، غارقة في شهواتها..
لم تكن لتنال ذلك، وهي تقتدي بالكافرات، وتركب كل ما يزينه الشيطان لها..
لم تكن كذلك إلا وهي صاحبة مباديء وإيمان، صاحبة طاعة وعبادة لربها، قرة عين لزوجها، قائمة بحقه وحق بيتها، حافظة لعرضها وعفتها وجمالها، بعيدة عن أعين الرجال، محتشمة صادقة مؤمنة خاشعة..
فأيما فتاة أرادت أن تلحق بركبها، فلتركب مطيتها، ولتقتد بسيرتها، ولتتخذها أسوة.
قال عليه الصلاة والسلام:( فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).
إنها ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الطاهرة النقية الطائعة المتعبدة الكارهة للتبرج والسفور، الصابرة على ما أصابها رضي الله عنها..
ولدت قبل البعثة بقليل، وتزوجها علي رضي الله عنه، في السنة الثانية للهجرة، وولدت له الحسن والحسين..
كان أبوها رسول الله يكرمها ويحبها لصدقها ودينها وصبرها، قالت عائشة رضي الله عنها:
"جاءت فاطمة تمشي ما تخطيء مشيتها مشية رسول الله، فقام إليها أبوها وقال:(مرحبا بابنتي)"..
ما قام لها وما أحبها إلا لعظم شأنها عند ربها..
لم تكن فتاة ككل الفتيات، ولم تكن امرأة ككل النساء، لم تفخر على النساء والقرينات بأبيها، ولم تتعال على زوجها بمنزلة أبيها، بل كانت رضي الله عنها نعم الزوجة لزوجها، تقوم على خدمته، وتسعى في رضاه، وتأتمر بأمره وتقف عند نهيه، مثال رائع لكل زوجة مع زوجها..
جاءت تشكو إلى رسول الله ما تلقى في يديها من الرحى إذا طحنت، وفي نحرها إذا حملت القربة، حتى أصابها الضر والجهد، وتسأله خادما، فجاءها رسول الله وعلي معها وقد دخلا في فراش إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فقال لهما:
( ألا أدلكما على خير مما سألتماني إذا أخذتما مضجعكما أو آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم) .
فرضيت وقنعت وصبرت على الفقر والشدة، رضي الله عنها، وهي بذلك ترسل رسالة حية إلى كل امرأة رضيت بالدعة والخمول، وآثرت الخروج من البيت والتسكع في الطرقات تاركة عمل بيتها وواجباتها، أن ذلك ليس من سبيل المؤمنات العاقلات السابقات، وتعلّم كل امرأة تتخذ خادمة في بيتها أن تسبيحها وتحميدها وتكبيرها لله تعالى هي وزوجها خير من خادم، وأعون على قضاء حوائج البيت وأعماله.
أما عن طاعتها لزوجها، فقد كانت تعلم وهي التي تربت في بيت النبوة والدين أن طاعة الزوج من موجبات دخول الجنة:
( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت الجنة بإذن ربها) ..
لما مرضت أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علي:
"يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك"..
فقالت: "أتحب أن آذن له؟"..
قال: "نعم"، فأذنت له..
قال الذهبي: "عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره"..
ونساء اليوم يغلب عليهن عصيان الزوج، والتعدي على حقوقه، كما أن الأزواج كذلك لهم نصيب من ظلم الزوجات، لكن عليا وفاطمة رضي الله عنهما كانا خير زوجين لبعضهما، كانا يلتمسان رضا بعضهما..
لما أراد علي أن يتزوج عليها ابنة أبي جهل، غضبت، وغضب لغضبها رسول الله، وقد كان يغضب لغضبها، ويقول: ( فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني)..
فترك علي الخطبة رعاية لها، فما تزوج عليها ولا تسرى حتى ماتت، والتعدد حلال بنص الكتاب، لكن رسول الله كره أن تجتمع ابنته وابنة عدو الله أبو جهل تحت رجل واحد، لما في ذلك من الأذى لفاطمة رضي الله عنها والعار، ولأنها أصيبت في أمها ثم أخواتها واحدة بعد واحدة فلم يبق لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر إذا تزوج عليها، فلذا كرهت ولأجلها كره رسول الله ذلك.
وقد كانت رضي الله عنها تحب الحشمة والستر، وتكره التبرج والخلاعة والسفور، قالت لأسماء بنت عميس:
"إني أستقبح ما يصنع بالنساء، يطرح على المرأة الثوب، فيصفها"..
تقصد إذا ماتت ووضعت في نعشها..
قالت: "يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة"؟..
فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة:
"ما أحسن هذا وأجمله، إذا مت فغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد".
هذه الطاهرة النقية تشعر بقلق خشية أن يبدو شيئا من وصف جسدها وهي ميتة، فكيف بها وهي حية؟..
وهذه رسالة بليغة لكل مسلمة رضيت أن تظهر زينتها ووصف جسدها لكل ناظر، وسارت أمام الرجال متبرجة سافرة.
رضي الله عنها، لم يصب أحد بمثل مصابها:
ماتت أمها خديجة رضي الله عنها، ثم إخوتها وأخواتها جميعا، ولم يبق لها من أهلها إلا أبوها، وفي يوم جاءت إليه فأسر لها بقرب رحيله، فبكت بكاء مرا، تخيلت نفسها وقد فقدت أعز الناس وصارت وحيدة من أهلها، فلما رأى رسول الله حزنها وبكاءها أسر لها بأنها أول من يتبعه من أهله، فزال حزنها وكربتها، وداخلها السرور، فضحكت..
وقد ذكر ابن حجر أن من أسباب فضلها على غيرها من النساء صبرها على وفاة أبيها، فإن كل بنات رسول الله متن في حياته فكن في صحيفته إلا هي فقد مات في حياتها فكان في صحيفتها، يدل على ذلك أنه لما رأى حزنها وبكاءها على قرب وفاته بشرها فقال:
(أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين)..
يعني إن صبرت واحتسبت، وفي رواية عند الطبري أنه قال لها:
(أحسب أني ميت في عامي هذا، وأنه لم ترزأ ـ تصب ـ امرأة من نساء العالمين مثل ما رزئت، فلا تكوني دون امرأة منهن صبرا)، فبكت، فقال: (أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم، فضحكت) .
---
ولما ثقل بالنبي جعل يتغشاه الكرب، فقالت: "واكرب أبتاه"، فقال: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)..
فلما مات حزنت عليه، وبكته، وقالت:
"يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه"..
وقالت بعد دفنه: "يا أنس، كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله"..
عاشت بعده حزينة مكروبة مريضة سبعين ليلة ثم ماتت بعده بشهرين أو ثلاث، كانت زاهدة رضي الله عنها، ماتت وعمرها ثمان وعشرون عاما، فهي أسوة حسنة لكل مسلمة في أخلاقها وصبرها وطاعتها وحشمتها وعفتها، هدى الله النساء للسير على سنتها.
أبو سارة
ـــــــــــــــ(1/84)
تربويات على الطريق
الحمد لله أستعينه وأستهديه وأتوكل عليه والصلاة والسلام على خير المستعينين وخير المستهدين وخير المتوكلين سيدنا محمد بن عبدالله الرسول الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين 0
إخوتي الكرام الأعزاء كما هو معلوم أن العمل التربوي هو جهد يحتاج لمزيد من المعارف والعلوم، ومزيد من القدرات والإمكانات والمواهب، ورصيد من التجارب والخبرات وأنا لست من هذا في شيء ، لذا رغبت في جمع وتدوين بعضاً من تجارب وخبرات أهل الأيادي البيضاء في عالم التربية والذين كان لهم السبق في هذا المجال ، وليس صواباً أن أُخفي عليكم كيف تم جمع وتدوين هذه التربويات ، فلقد استفدت من الاشتراك في خدمة الجوال لبعض المربين الفضلاء عن طريق الرسائل التي تُرسل عن طريقهم أو تحت إشرافهم لمن أراد الإشتراك ، ولما كثرت الرسائل المقترنة بالفوائد النّيرة القيمة في هذا الجهاز( الجوال ) خشيت والله أن تذهب سدى دون أن نتمكن من إيصالها بنفعها المتعدي للآخرين عن طريق الإنترنت ، مع تربويات أخرى من بعض الكتب المعروفة التي لا تخفى على الجميع ، ولما كانت المصادر مختلفة ، والآراء متعددة من هؤلاء الأفاضل لم أراعي مسألة الدقة في خصوصية الموضوع وإنما كونها تتعلق بالنواحي التربوية بشكلٍ عام وبمجالاتها المتعددة ، وقمت بتقسيمها في شكل سلسلة من التربويات تحت موضوعٍ واحد اسمه <تربويات على الطريق> ، وإنما كانت هذه السلسلة نظراً لاستمرار ورود هذه الرساثل ، ثم إني تخطفت من كل مصدرٍ عدداً من التربويات وليست واحدة ولذلك أشرت إلى المصادر في آخر كل صفحة دون توابعها من هذه النقاط ، وقد تجدون بعض التصرف الذي حرصت فيه على الإيضاح فقط دون الخروج عن المعنى ،،،
وأترككم مع السلسلة الأولى/
*** وقت ما قبل الفجرهو الوقت الذهبي لإنعاش الروح ، وقد دلت تجارب كثيرة من الأخيار على أن الإستيقاظ قبل أذان الفجر بأربعين دقيقة يومياً يوفر زاداً روحياً لليوم كله .
*** إن الهزائم تُنال من معنويات الفاشلين ، وتدفعهم إلى عدم المحاولة مرةً أخرى ، على عكس الناجحين الذين يحولون كل هزيمة وفشل إلى شيء إيجابي 00 لاتدخل معترك الحياة خائفاً من الفشل ادخل معترك الحياة لكي تفوز .
*** التربية الناجحة مبنيةٌ على بداياتها ، فإذا صحت تلك البدايات وروعيت أولوياتها أعقبها نتائج مشرقة ، وكما قيل : من كانت بدايته متعبة ، كانت نهايته مشرقة .
*** لن تسلم من نقد الناس ، ولكن خذ من نقدهم ما هو حق ، ولا تظن أن كل نقدٍ هو باطل ، وصحح خطأك واصبر فهكذا الحياة .
*** إن من حق المتحدث علينا أن نصغي إليه باهتمام ، وألا نصدر حكماً على ما يقول حتى يفرغ من كلامه ، وإن من المؤسف أن مجالسنا كثيراً ما تكون مشحونة بالمقاطعات والأحكام المستعجلة .
*** قبل اتخاذ القرار ناقش نفسك : ما هي الفوائد التي ستترتب على اتخاذ هذا القرار وما هي الأضرار من اتخاذه ، وما هي الفوائد من عدم اتخاذ القرار وما هي الأضرار أيظاً من عدم اتخاذه ، وحينها ستكون ناجحاً في اتخاذ جميع قراراتك العلمية - الدعوية - المالية - الأسرية - الوظيفية وغيرها ..
*** اكتساب السمو للنفس يكون عن طريق التدرج ، وذلك بالإبتعاد عن فعل ما لا يحل ، وما لا يليق ، وتكون ذروة ذلك حين يستوي سر المؤمن مع علانيته ، وهذا يحتاج إلى تنمية صفة الصدق العظيمة على نحوٍ مستمر .
*** إن الإيمان بالقدرة على تحقيق الأهداف يعد هدفاً رئيساً في تحقيق أي إنسان لأهدافه وتوقعاته ، فمن يعمل عملاً وهو لا يتوقع إنجازاً من ورائه لا يستطيع غالباً تحقيقه . فأنت تستطيع ولكن هل تؤمن بقدراتك ؟
*** العلم أودية ، كما قال ابن شهاب فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه ولكن خذه مع الأيام والليالي ، ولا تأخذ العلم جملة ، فإن من رام أخذُه جملة ذهب جملة ، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي .
*** إن كلمة (اقرأ) هي أول ما قرع الأسماع من كتاب الله وهي أول عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ، وهي التي وصلت الأرض بخبر السماء ، وهي مفتاح العلوم ، وغذاء الفهوم ، وباب الفقه في الدين ، ووسيلة من وسائل التدبر والتفكر ، فأين نحن منها ، وما نصيب أوقاتنا معها ، ومتى نكون من عشاقها .
*** من لم ينبع تفكيره من مبادئ الشريعة ضل ، ومن لم يستمد سلوكه من أخلاقها انحرف ، ومن لم يقيد عمله بأحكامها ظلم .
*** من عُرف عنه العجلة في الرأي والحكم ، أو عدم التثبت أو التبين ، ينظر إليه الناس على أنه أرعنٌ أحمق ، ومثل هذا يسحب الناس ثقتهم منه ، بل وينفرون منه ، ويكرهونه بشدة ، وإذا ذهبت الثقة ، وكان النفور والكراهية ، لم يعد في يد المسلم ما يكسب به الأنصار والمؤيدين .
*** كل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق ، فأهل المكر والحيَل المحرمة يُخرجون الباطل في القوالب الشرعية ، ويأتون بالصور دون الحقائق والمقاصد .
*** من أهم الأسباب في التفريط لعمل اليوم والليلة : هو ضعف أو تلاشي التصور الصحيح لحقيقة أجر المواظبة على هذا العمل فإن الاستمساك بالشيء والعظُّ عليه بالنواجذ مرتبط بالتصور الصحيح له ، وللمنافع أو الفوائد المرتبطه به .
*** يقول الشافعي : من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن تكلم في الفقه نما قدره ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في اللغة رق طبعه ، ومن نظر في الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .
*** <من استوى يوماه فهو مغبون> في هذا دعوة للإرتقاء بالنفس في العلم والعبادة والخُلُق والأدب والعمل للإسلام .
*** التدبر مفتاح حياة القلب ، ومن وُفق لتدبر القرآن ، فقد أمسك بأعظم مفاتيح حياة القلب لأنه لاشيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بتدبر وتفكر.
*** من جميل الأخلاق وصالح المعاشرة مراعاة مشاعر الناس والبحث عما يرضيهم والبعد عما يسخطهم ، ولكن لا يكون ذلك على حساب الدين ، وسخط رب العالمين ، والحرص فقط ألا يخسر الناس وألا يكون في موضع نقمتهم (من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس) صحيح0
*** أطوار الحياة ثلاثة : طورٌ مضى فلا تحزن عليه ، وطورٌ أنت فيه فجديرٌ باهتمامك واجتهادك وجدك ، وطورٌ يأتي فمن التكلف الاغتمام والخوف من غيبٍ تكفل الله به .
*** كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه ، فإن كانت نفسه شريفةٌ طاهرة صدرت عنه أفعالٌ جميلة وأخلاقٌ زكيةٌ طاهرة ، وإن كانت كدرةٌ خبيثة صدرت عنه أفعالٌ خبيثة .
*** علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعون إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أقوالهم للناس : هلموا ، قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له ، فهم في الصورة أدلّاء ، وفي الحقيقة قطاع طرُق .
*** أنفع الناس لك : رجلٌ مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيراً أو تصنع إليه معروفاً ، فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك ، فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر ، وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه ، فإنه عونٌ لك على مضرتك ونقصك .
*** ما يكاد يحب الاجتماع بالناس إلا فارغ ، لأن المشغول القلب بالحق يفر من الخلق ، ومتى تمكن فراغ القلب من معرفة الحق امتلأ بالخلق ، فصار يعمل لهم ومن أجلهم ، ويهلك بالرياء ، ولا يعلم .
*** شيءٌ جميل أن يتوضأ الإنسان قبل أن ينام ، ويتلو شيئاً من كتاب الله تعالى ليختم يومه بشيءٍ ينير قلبه ويعطر فمه ويزيد في رصيد حسناته .
*** خمسةٌ لا يفلحون أبداً : الطاغية الكذاب ، والعاق لوالديه ، والمغرور المبتلى بحب الشهرة ، والحقود الحاسد ، والمتزهد اتخذ الزهد شباكاً .
*** ترفيه النفس وممارسة بعض الأنشطة الرياضية مما يساعد على تجديد الروح وطرد السأم ، وقد ذكروا أن ابن مجاهد شيخ قراء بغداد خرج مع بعض إخوانه إلى أحد بساتين بغداد ، وصاروا يتريضون ويمزحون ، فرمقه أحدهم معترضاً فقال له ابن مجاهد : التعاقل في البستان مثل اللعب في المسجد .
*** الدعوة إلى الله ليست عملاً محدداً أو محتكرا ،ً بل هي نشاط توعوي عام ، وجهدٌ شامل لكل المجالات والاتجاهات والتخصصات ، فهي تمتد لتشمل كل المسلمين ، حتى من يصنفون أنفسهم من العصاة ، لأن الناس كلهم عصاة تجري عليهم أخطاء البشر .
*** لا يغرك من الرجل طنطنته وما تراه يفعل من صلاةٍ وصوم وصدقةٍ وعزلة ، إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين : حفظ الحدود ، وإخلاص العمل .
*** قيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار من أعظم الوقود الذي يشحن الطاقات ويغذي القلوب للإستمرار والصبر والثبات على الدين من غير انحرافٍ أو تردد .
*** نقل الخبر أمانةٌ تتطلب فطنة وتيقناٍ ، حفظاً وتثبتاً ، دقةً وصدقاً ، وإشاعة الأخبار بدون ذلك بين الناس يؤدي إلى إثارة الفتن وإيذاء المظلومين وفضح المستورين ، وكم من مصيبة حدثت بسبب كذبة أو فهمٍ مغلوط أو تسرعٍ في النقل ، قال تعالى ( إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة ) .
***يصادف الواحد منا في حياته أشكالا عديدة من الناس، فيهم الطيبون وفيهم الطفيليون الذين يريدون أن يعرفوا كل شيء عنك ، فإذا ابتليت بواحد منهم، فلا تتردد في أن تشعره بأنه تجاوز حدوده، ودخل في دائرة خصوصياتك. (د.عبدالكريم بكار) .
***إن البدن مطية الروح، ومن غير جسم قوي وصحيح، سنجد أنفسنا عاجزين عن أداء كثير من الأعمال التي نحلم بها، ومن المؤسف ما يلاحظ من أن أكثر ما يهمله القادة الناجحون هو العناية بصحتهم وأجسامهم، فلا تقتد بهم في هذا. (د.عبدالكريم بكار).
***العجب كل العجب أن يعلق بعض الناس قبولهم الحق على قول ذي جاه أو ذي نسب أو ذي مكانة في المجتمع، وهذا ما حال بين الأمم السابقة وبين الحق، فالعاقل يقبل الحق ولو لم يعرف قائله، ولو لم يكن قائله من أصحاب الوجاهات، فقط يكفي الحق أنه الحق. (أ.د.ناصر العمر)
*** جرب أن تسأل نفسك قبل أي ردة فعل تجاه موقف ما: ماذا لو كان النبي عليه السلام في مكاني ماذا عساه يفعل؟ عندها ستشرق لك الأخلاق المحمدية لتنير لك الطريق وتكون قادرا على اتخاذ التصرف الأمثل تجاه الموقف. (ياسر الحزيمي) .
*** ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين, وأن يرسل نظرات نافذة في جوانبها ليتعرف على عيوبها وآفاتها. (محمد الغزالي).
*** من عادة بعض الناس أنه حينما يقرأ أو يسمع شيئا من النصح، يظن أن المخاطب بذلك الأمر غيره، وأن المعني سواه، وأما هو فقد تجاوز القنطرة، ولم يعد بحاجة إلى ذلك النصح والتوجيه، وهذا مرض نفسي يصاب به الإنسان المتعاظم، وهو يؤدي غالبا لاستفحال المرض وتجذره. (أحمد الصويان) .
*** إن تتبع القصص القرآني وتأمله، والوقوف عنده، والاتعاظ به، وتدبر أحوال الأمم السالفة: كيف قامت، وكيف فنت؛ ليعود بثروة طائلة من العبر والعظات، تزيد العبد معرفة بربه ويقينا بقدرته وعظمته. (د.سعود الشريم) .
*** لاحظ كثير من الأطباء تأثير ابتسامة الطبيب واعتبروها جزءاً من العلاج! فعندما تقدم ابتسامة لصديقك أو زوجتك أو جارك إنما تقدم له وصفة مجانية للشفاء من دون أن تشعر، وهذا نوع من أنواع العطاء. (عبدالدائم الكحيل) .
*** تذكر أن لك ذنوباً امثال الجبال من نظرة حرام أو كلمة أو غفلة أو ما شابه، وأن الله بلطفه يختار لك الأسهل والأيسر من أذى الدنيا، ليكون كفارة لخطيئة أو رفعة لدرجة أو بلوغا لمنزلة ما كنت تبلغها بعملك الصالح. (د.سلمان العودة) .
*** ليكن هم كل واحدٍ منا أن يبلغ عن الله، ورسوله، ولو آية أو حديثاً، وألاّ يمتلكه الحزن الذي يُقْعِد عن العمل لدين الله، أو اتخاذ طرقا ليست مشروعة في التعامل، أو الشعور بعدم القدرة فيميل إلى المثالية والانتقاء، فيجد نفسه حكَمَاً وسلطاناً على أقوال وأعمال إخوانه، يلاحظ كل شاذة وفاذّة في صفوفهم. (د.سلمان العودة) .
*** اصنع من الآلام والانكسارات والشدائد حوافز نحو انطلاقات جديدة، وتذكر أنك لن تستطيع جبر قارورة تكسرت بين يديك، لكنك ربما صنعت من شظاياها تحفة جميلة، تسر الناظرين .
*** الكون يتغير، والنجوم تتألق ثم تأفل، والقمر يتسق ثم يتضاعف ثم يغيب، والليل يعقبه نهار، والشمس تشرق ثم تأفل، فلماذا تعتقد أيها المؤمن أنك مطالب بالمكث حيث أنت، تمر عليك الليالي والأيام وأنت جاثم لا تتحرك فلا تؤثر، ولا تتأثر، ولا تطور نفسك. (د.سلمان العودة).
*** الهزيمة النفسية الناتجة عن الرؤية السوداوية للحياة، لا تنتج عملا مثمرا للأمة، بل هي سبب لرواج المنكر واستقراره في النفوس دون عناء. (د.سلمان العودة ) 0
*** إن أفضل تخطيط للمستقبل يكمن في صواب قرارات اليوم والالتزام الدقيق بأداء الواجبات الشخصية .
*** إن لم تستطع أن تحقق هدفك في علم من العلوم أو منصب طمحت إليه بسبب خور عزيمة أو ظرف عارض أو قضاء مقدّر، فلا تحاول أن تثني غيرك عما عجزت أنت عن تحقيقه، فهو نسيج مختلف، ونفسية مختلفة .
*** الرجال العظام يعرفون قدر أنفسهم، ويعرفون أيضا أنهم يجهلون الكثير، كما يعرفون أن الحياة تتشكل باستمرار من خلال المعرفة الجديدة، ولهذا فإنهم لا يتوقفون أبدا عن القراءة والمطالعة والتعلم. (د.عبدالكريم بكار) .
*** حاول دائما أن تكون ودودا لطيفا، فقد تجاوز اللطف كل الاختبارات في كل الأزمنة والأمكنة، والشخص اللطيف يحسن إلى نفسه أولا، ويستطيع دائما أن يلقى المعاملة اللطيفة .
*** إنك لتعجب من أناس يحرصون على أداء الشعائر التعبدية، ويلتزمون بالمظاهر الشرعية، ويجتهدون في النوافل ثم لا يولون لجانب المعاملة للخلق اهتماما يذكر، ولا يرون لحسن الخلق مكانة تعتبر (د.علي بادحدح).
*** هناك فئة من الناس أصيبوا بالإحباط لسبب من الأسباب، ولهذا فإن هم قد أخذوا على عاتقهم الحد من حماس أي مقبل على مشروع أو متفائل بنجاح خطة، والرسالة التي يحبون إيصالها إليك هي: (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، (القيام بهذا العمل مستحيل)، (فكرتك قديمة، وجربها فلان وفشلت) حاذر أن تستمع لواحد منهم.
*** إن زيارة الموظفين في أعمالهم ليس من الأمور الجيدة، وهي محرجة ومضيعة للوقت، فإذا زارك أحد الأصدقاء من غير موعد، فسلم عليه وأنت واقف، ولا تدعه إلى الجلوس، وهو سيدرك في الغالب أنك غير مستعد لمحادثته واستضافته.
*** السجن الحقيقي ليس هو ذلك الذي يقيد حركة أجسامنا، لكنه سجن الروح الذي يصنعه الإنسان لنفسه من خلال التلطخ بالمعاصي والغرق في متع الدنيا وهمومها.
*** حين يعيش الإنسان في بيئة صعبة وقاسية فإن اليأس يسيطر عليه، ومن ثم فإن عقله يتجه في الغالب نحو إدراك الأبواب المقفلة ورؤية العوائق والحواجز التي تعترض سبيله، لهذا فإن تحسين البيئة العامة هو العمل الذي لا يغني عنه أي عمل آخر(عبدالكريم بكار) .
*** إن التفاؤل والابتهاج والتبسم والضحك ورؤية الجانب المشرق من الحياة والأشياء تشكل قوت الروح، فكن كريما مع روحك، وتذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (تبسمك في وجه أخيك صدقة) .
*** لدينا قدراتعظيمة مستترة ، لا نعرف عنها أي شيء وإن تحملنا للأشياء الكبيرة وإقدامنا على إنجاز الأعمال الجليلة هو الذي يتيح فرصة الظهور لتلك الإمكانات 0 د. عبدالكريم بكار .
*** قبل اتخاذ القرار : -التأني(التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)صحيح أبي داود -الاستشارة{وشاورهم في الأمر} -الاستخارة(كان عليه السلام يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها)
-العزيمة:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة* فإن فسادالرأي أن تترددا -التوكل{فإذاعزمت فتوكل على الله} -سؤال الله التوفيق وكان من دعائه عليه السلام(اللهم اهدني وسددني) .
*** حتى نحرص على تعلم الجديد، فإن علينا أن نتذكر أننا لا نعرف إلا أقل القليل عن كل شيء، وبما أن المعرفة تتضاعف تقريبا كل عشر سنوات، فإن هذا يعني أن جهلنا يزيد مهما حرصنا على التعلم .
*** المسلم الحق يكافح يوميا من أجل الاستمرار على الطريق الصحيح، وهو يعلم أنه يمضي في وسط معركة بين الخير والشر والصواب والخطأ، وكلما كانت يقظته نحو الأشياء السيئة شديدة كانت استقامته أكبر. (د.عبدالكريم بكار) .0
*** إذا امتلأت النفس بالعقد والرغبات المكبوته صعب على صاحبها النجاح في معاملة الناس؛ لأن قواه الخارقة لا تكون إذ ذاك نقية أو حرة في عملها فهي تختلط بما يتاخمها من العقد والعواطف المغلوطة وبذلك يضيع على صاحبها ما تنتج من كشف مبدع أو إنجاز رائع. (د.علي الوردي) .
*** اعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بيّناً ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
[اقتضاء الصراط لابن تيمية (ج 1 / ص 207)]
*** كم هو ضروري ألا يطيح المرء ببناءات الآخرين ولو كانت في نظره متهالكة، وألا يزدري جهودهم ولو كانت متواضعة، وألا يبالغ في احتمال المسئولية وإسنادها لنفسه، كما لو كان يفترض أن يكون هو المنقذ الذي يختصر الزمن، ويحرق المرحلة. (د.سلمان العودة)
*** أعرف كثيرا من الناس لا يعوزهم الرأي الصائب، فلهم من الفطنة ما يكشف لهم خوافي الأمور لكنهم لا يستفيدون شيئا من هذه الفطنة لأنهم محرومون من قوة الإقدام، فيبقون في مكانهم محسورين بين مشاعر الحيرة والارتباك! (محمد الغزالي)
*** المخدرات، والعنف الأسري، والبطالة، والفقر، والمبالغة في الندم وجلد الذات بسبب الأخطاء السابقة، يؤدي في كثير من الأحيان إلى المرض النفسي وإلى أمور لا تحمد عقباها. (د.عبدالله السكاكر)
*** قد يغضب المرء ويشتد غضبه لأنه لا يعرف الحقيقة، فإذا عرفها هدأ ولان كلامه، ولهذا فإن الجهل يكمن وراء كثير من مساوئ الأخلاق، وعوج المسالك، وانتقاص الآخرين. (محمد الغزالي)
***إن الدين الإسلامي جاء منحازا لجانب المعرفة والعلم بكل أنواعه، ففي القران إشارات جلية إلى الحث على طلب العلم والمعرفة والتأمل والتفكير والنظر والقراءة المدعومة باسم الله لتضمن هذه المعرفة والقراءة البعد عن الانحراف الأخلاقي والعلمي المادي الذي قد ينجرف إليه الإنسان بفعل أهوائه وأدوائه. (د.سلمان العودة)
*** حاول دائما أن تكون ودودا لطيفا، فقد تجاوز اللطف كل الاختبارات في كل الأزمنة والأمكنة، والشخص اللطيف يحسن إلى نفسه أولا، ويستطيع دائما أن يلقى المعاملة اللطيفة، اللطف يعبر عن سمو صاحبه وعن اهتمامه بغيره في آن واحد، وهو ضروري اليوم من أجل توفير أجواء السلم والسلام.جوال الإسلام اليوم باقة11)
*** إن معظم الثواب وأجزله من نصيب الجهد الذي نبذله في خدمة الناس والإحسان إليهم, وهذا واضح جدا إذا استعرضنا النصوص الدالة على مثوبة كفالة اليتيم ورعاية الأرملة والضعيف وعيادة المريض. (د.عبدالكريم بكار)
*** كنت أظن بالأمس وعلمت يقيناً اليوم أن كل الذين عانقوا المجد, ووصلوا إلى قمم النجاح, وذاقوا متع الحياة كما هي لذيذة, قوم عملوا وتعبوا وكتبوا من خلال عرقهم النازف أروع صور الانتصار على الذات, فلله درهم ما أصغرهم بالأمس, وما أكبرهم اليوم!.(أ.مشعل الفلاحي)
*** الكلمة الطيبة هي الصلة التي تربط بين الإنسان وأخيه، فمن المهم أن نتدرب ونعود أنفسنا ونشيع ثقافة الكلمة الطيبة بيننا؛ حتى تكون عادة وجبلة وجزءا من كينونتنا، يقول عزوجل (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)، والبخيل من عجز عن الكلمة الطيبة!. (د.سلمان العودة - الحياة كلمة)
*** وأنا أقرأ قصة امرأة فرعون في سورة التحريم كم استثارني العجب لقوة إيمان المرأة وشدة تعلقها بالله تعالى ورباطة قلبها عن هواتف الدنيا التي تعيش في وسطها وتمتزج بها, وكاتبة هذا النجاح أنثى! ومتى كان الإنسان في الإيمان يقاس بذكورة أو أنوثة؟!. (مشعل الفلاحي)
*** قال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) تشعر هذه الآية المسلم الذي وقع في ظروف حرجة بالطمأنينة، لسلامته من الإثم ما دام اتقى الله ما استطاع، كما أنها تستنهضه لمقاومة الظرف وبذل الوسع في الاقتراب من أقصى قدرته أكثر فأكثر ؛ وهو يفعل ذلك لشعوره برقيب ذاتي منبعه خشية الله سبحانه. (د.عبدالكريم بكار)
*** يخطئ كثير من الناس في حصر القدوة في المشايخ والعلماء فقط، وذلك تحجيم لمعنى القدوة، بل ينبغي أن يكون كل ناجح قدوة في مجاله ومضماره، كالإدارة والاقتصاد والتنمية والعلم والإعلام وسائر شؤون الحياة. (د.سلمان العودة)
*** خير موقع لك في بيئة دعوية أو وظيفية أو اجتماعية أن تكون مفيدا مستفيدا؛ فإنك إذا كنت مستفيدا فقط فاتك أجر الإنتاج ونفع الآخرين، وإن كنت مفيدا فقط فهذا جرس الإنذار بالنقص والتراجع. جوال زاد
*** كان عمر رضي الله عنه يقول: (لا تكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) ثمت متغيرات بين الأجيال يجب اعتبارها، لئلا تكون التربية قسرا وإكراها يقتل شخصية الولد ويفقده الثقة بنفسه. (د.سلمان العودة)
*** الوسطية كلمة تقول لكثير ممن يدعيها:دعوني!
-فهي لاتتحقق بالتساهل في المحرمات والإعراض عن الشرع لئلا يوصف بـ"الخروج عن الوسطية"
-ولاتكون بتمييع الدين والتشكيك في الأصول الشرعية -ولاتعني أن نتوسط دائما بين أي رأيين حتى لو ظهر صواب أحدهما وخطأ الآخر بل تعني إصابة الحق والاعتدال فيه دون غلو أو جفاء كما شرع الله{وكذلك جعلناكم أمة وسطا}جوال زاد
*** الخطاب الوعظي يوقظ الضمير، ويخاطب القلب ويزيده قربا من الله، والأصل فيه الرفق واللين وتغليب جانب الترغيب، ولابد أن يكون الواعظ ذا علم وحكمة، بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه، بعيدا عن التوبيخ والاستطراد في الأحاديث المكذوبة، وإبراز الجوانب السلبية، فالوعظ ليس أفيونا مخدرا عن العمل والإنجاز بل هو محفز عليه! (د.سلمان العودة - الحياة كلمة )
*** التجربة الحقة تؤكد أن الذي يؤثر في الإنسان ليس هو ما يفعله الآخرون أو يقولونه عنه، بل رد فعله الخاص تجاه ما يقوله أو يفعله الآخرون قال تعالى: ( قل هو من عند أنفسكم). (د.سلمان العودة)
*** من رزقه الله التفكر فيما بين يديه من النعم فقد فتح له باباً عظيماً من أبواب السعادة ومن ابتُلي بالتحسر على ما ينقصه من النعم فقد فُتح له بابٌ عظيمٌ من أبواب الشقاء(1/85)
ألم يجدك يتيماً فآوى . ووجدك ضالاً فهدى . ووجدك عائلاً فأغنى )0
*** سَئل أحد القادة المشهورين :
كيف استطعت أن تولد الثقة في نفوس أفراد جيشك !؟
فأجاب : كنت أرد بثلاث على ثلاث :
ـ من قال : لا أستطيع ، قلت له : حاول ،
ـ ومن قال : لا أعرف ، قلت له : تعلم ،
ـ ومن قال : مستحيل ، قلت له : جرب.
*** قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه-يقول:إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه, فإن الرب تعالى شكور.
<يعني أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه,وقوة انشراح وقرة عين,فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول."
<مدارج السالكين2/75 >0
*** إفراط الأبوين في التدليل يعرض الأولاد للجرأة عليهما وعدم المسئولية، والأنانية والإحباط في حياتهم الخارجية.
وكذا الإفراط في القسوة يعرضهم لكره الأبوين والانزواء والشعور بالذنب وقلة الثقة، فكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالشدة في موضعها، واللين في موضعه، وخير الأمور أوسطها. جوال زاد
.*** "من مدحك بما ليس فيك فهو مخاطب غيرك!"
إذا مدحك أحد بما ليس فيك فلا تغتر بذلك فأنت في الحقيقة لم تفعل شيئا وأنت أعرف بنفسك!
وليكن ذلك حاملا لك على اكتساب تلك الصفة الجميلة
كان أبوحنيفة ماشيا فسمع رجلا من ورائه يقول لآخر: هذا أبوحنيفة لا ينام الليل.
فقال أبو حنيفة:والله لايتحدث عني بما لم أفعل.فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعا. جوال زاد
*** لفتة تربوية في رفض السلف الخوض فيما لم يقع وإضاعة الوقت في مسائل لا تفيد:
سأل أحدهم الإمام مالكا عن رجل وطئ دجاجة ميتة، فخرجت منها بيضة،فأفقست البيضة عنده عن فرخ، أيأكله؟
فقال مالك:سل عما يكون ودع ما لا يكون.
وسأله آخر عن نحو هذا، فلم يجبه. فقال له:لم لا تجيبني يا أبا عبدالله؟!
فقال: لو سألت عما تنتفع به أجبتك.
(الموافقات4/290)
*** اطرد شبح اليأس تنفتح لك أبواب الحياة وأشغل نفسك بما يؤنسك ينشرح صدرك, وأكثر ذكر الله تأنس به. (عبدالرحمن الودعان)
***التغافل عن بعض الأخطاء يديم الألفة وقد قال تعالى في وصف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - : (عرَّف بعضه وأعرض عن بعض) .. قال الإمام أحمد : تسع أعشار العافية في التغافل .. فما أجمله مع قريب وصديق .. (د.سلمان العودة)
*** القاضي والمفتي والداعية
-المستشار والصديق
-الطبيب
-رجل الأمن
-المدرس الخصوصي
-المحاسب وموظف المصرف
-السائق والخادمة
يطلعون على كثير من أسرار البيوت والمؤسسات بمقتضى المهنة والحاجة
وفي الحديث(إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة)أي ليرى إن كان ثمة من يستمع فكأن المعنى:ليكن من في المجلس أمينا لما يسمعه ويراه، وحفظ الأمانة واجب. جوال زاد
*** العارف إنما يشكو إلى الله وحده, وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من تقصيره الذي كان من أسباب تسليط الناس عليه، ناظر إلى قوله{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}{وما أصابك من سيئة فمن نفسك}{قل هو من عند أنفسكم} فيعود إلى نفسه فحاسبها، ويرى مواطن الزلل فيها فيصلحها.(ابن القيم، بتصرف)جوال زاد
*** إن لله تعالى نسمات فضل إذا هبت على غافل.. أيقظته ونفحات لطف إذا نالت أسير حزن أطلقته.. ورحمات إذا أدركت غريقا في ذنوبه أنقذته.. ولطائف كرم إذا ضاق صدر عبد وسعته.. فاقتنصها قبل فواتها00
*** مما يلفت نظر الدارس لشخصية الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - التوازن الدقيق بين معالمها ويتمثل ذلك في الكم الهائل من الشمائل ومحاسن الأخلاق التي اجتمعت في شخصيته على نسق متعادل فلا تطغى صفة على صفة ولا توظف صفة في موقف لا تليق به، إنه الكمال البشرى الذي يزيد حب المسلمين وإعجابهم برسولهم الكريم مفاخرين الدنيا بأسرها أنهم أتباع سيد البشر0
حامد بن عواض العلياني
ـــــــــــــــ(1/86)
تأملات في البناء الدعوي
عبد الله المحتسب
يا إخوتي هيا بنا ولنصعد على بساط التأمل والتفكر .... ولنحلق في سماء الدعوة .... ولنمتع أبصارنا في تلك البساتين والحدائق الغنائة من أعمال دعوية وأنشطة تطوعية .... ولكي يكون لنا يداً في زيادة هذه الحدائق روعة وجمالاً .... فلنصلح ما جف منها ....ولنبادر بإحياءها وبعثها.... ولنساعد على علوها ورفعتها وثباتها ...
ومن هنا_ وكان الأجدر أن يقوم به من هو خير مني _ قمت واستعنت بالله وطرقت هذا الباب لأهميته ولقلة السالكين فيه فأسأل الله لي الإعانة والتوفيق والسداد .
هي تأملات .. وليست رسالة بحثية توصيفية ... أعملت النظر على ما نقوم به من أعمال دعوية .... فلعلها تنبه الغافل .... وتعلم الجاهل .... وتشد من عضد العامل ...وأقول للجادين العاملين (( امكثوا إني آنست نارا )) .
وحسبي أن أقول هي إشارات أو منارات تنير لنا مواضع أقدامنا حتى نسير على الجادة الصحيحة في الدعوة إلى الله ....
(( دعوة إلى الدعوة ... ))
دعوة إلى الدعوة إلى الله ... دعوة إلى الإحتساب ... دعوة إلى المبادرة والعمل في الأنشطة التطوعية ....
الدعوة إلى الله وظيفة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ... (( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ... ))
كل الكلمات تسقط وتبقى كلمة الداعية .... وكل العبارات تهوي وتسمو كلمة الداعية .... كل كل الأقوال تتوقف وتستمر كلمة الداعية ...
فيا رجال ويا نساء إن أبواب الدعوة مفتحة فكونوا أول السالكين .... وإن حبالها مرخاة فكونوا أول الصاعدين ...
الدعوة إلى الله من أعظم مايتقرب به إلى الله ...يقول بن القيم رحمه الله (( مقام الدعوة إلى الله أشرف مقامات التعبد ))
وقال بن تيمية رحمه الله (( الدعوة إلى الله واجبة على من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أمته يدعون إلى الله كما دعا إلى الله وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة وهو ما يسميه العلماء فرض كفاية ...))
قال تعالى (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ...))
فمنزلة الدعوة إلى الله منزلة عظيمة حري على كل من له همة وسمو أن يسمو بنفسه
وروحه لنيل هذه الشامة العلية ...
(( تسخير الطاقات ))
قال الله عز وجل (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) فالحكمة من وجودنا هو عبادة الله سبحانه وتعالى , وتحقيق هذه الحكمة والعمل بمقتضاها , وأن نسير سيراً صحيحاً على وسائلها وطرقها المؤدية إليها .
ومن هذه الوسائل الدعوة إلى الله جل في علاه , فعلينا أن نسخر طاقاتنا وجهودنا لتحقيق هذه الوسيلة التي بتحقيقها تحقيق للغاية التي من أجلها خلقنا.
أيها الإخوة ... إن لكل واحدٍ منا طاقة عظيمة وقوة لايستهان بها , فشتان بين من يسخرها لرضا الله عز وجل وبين من يسخرها في أنواع الظلم ... شتان بين من يسخرها في الخير والصلاح والدعوة إلى الله وبين من يسخرها في المعاصي والفجور والصد عن سبيل الله .
فوالله ما من عبدٍ سخّر جهده وبذل نفسه وضحى بحياته للدعوة إلى الله ولرضاه سبحانه وتعالى إلا قذف الله في قلبه نوراً وسعادةً وحبورا لايجد مثله ألبته .
لماذا أيها الإخوة ؟
لأنه آثر الله على كل من سواه , فهنيئاً لقوم وفقهم الله لذكره وشكره وحسن عبادته ...
فسخروا طاقاتكم وجهودكم وأموالكم وأفكاركم لله وللدعوة إلى الله .
(( هل نحن بحاجة إلى قدوات ؟ ))
إن الدعوة القائمة على ثوابت وركائز وأبنية قوية هذه التي تدوم , وأما الأخرى المتمثلة بالفوضوية هذه هي التي تجثو وتتوقف .
ساعدٌ مهم _ نشكو من الإفتقار إليه في هذه الآونة الأخيرة _ ألا وهو ذهاب القدوات .
أفردت هذه القضية بالحديث ... لإن تفسير وجود قدوة في أي عمل دليل نتاجها واستمراريتها ودوامها .
وهو من أقوى الدعائم للأعمال الدعوية (( وجود القدوة )) بكل مايحمله اسم القدوة من مسمى .
ولنعلم أن الدين الإسلامي قائم على أسس وأركان ... ولايقبل الله عمل عبدٍ حتى يكون عمله محيطاً بالتوجه الخالص لربه سبحانه وتعالى ومتبعاً وموافقاً لنهج النبي صلوات الله وسلامه عليه .
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو قدوتنا وأسوتنا (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...)) نتأسى به في أقوالنا وفي أفعالنا وفي جميع أمورنا .
فالقدوة ركن هام لنجاح الأعمال الدعوية , هو الذي يصحح المسار إذا حاد ... ويقومه إذا اعوج ... وينظمه إذا اختلطت الأمور وتشعبت .
كنت مع أحد الإخوة المربين نتناقش بعض القضايا الدعوية فقال لي : يا أخي نحن بحاجة ماسة إلى قدوات .. يقول .. العاملين كُثُر ولكن أين القدوات ؟
فيا أخي هل أعددت نفسك لتكون قدوة ؟
(( كيف أكون قدوة ؟ ))
سؤالٌ وإن كان مكوّن من ثلاث كلمات إلا أنه يحوي معنىً كبير... يحمل في طياته الصفحات والصفحات ... وكما قلنا هذه ليست إلا تأملات ولن أكتفي إلا بإشارات ... وكما قيل اللبيب بالإشارة يفهم .
كيف أكون قدوة ؟
سؤالٌ وإن كان قليل في مبناه إلا أنه كبير في معناه ... وجوابه سهل ... ولكن بعد قراءتك لما أقول ... إياك أن تتفحص في ركاكة ألفاظي ... أو تتمعن في قبيح أسلوبي ... دعك من هذا ... ولكن أريدك أن تجلس مع نفسك وتعزم عزيمة صادقة على أن تعمل وتطبق ما سأذكره ... لالشيء إلا لكي تكون أمة في قومك ... وقدوة لبني جلدتك .
أولاً : توجه إلى الله بإعمالك وأقوالك واجعلها خالصة له سبحانه وتعالى .
ثانياً : اتبع هدي نبيك - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأعماله وآدابه .
ثالثاً : اجعل بينك وبين الله خبيئة تتقرب بها إليه جل جلاله .
رابعاً : احرص على تربية نفسك وتزكيتها . (1)
خامساً : اطلب العلم الشرعي فهو سفينة النجاة .
سادساً : كن حسن الخلق .
سابعاً : كن لبقاً في تعاملك مع الناس .
ثامناً : كن متواضعاً ( لين الجانب ) .
تاسعاً : شارك أو أسس أعمال خيرية ( دعوية أو علمية أو إغاثية ) .
عاشراً : كن رجلاً مبادراً أو إيجابياً .
وما ذكرته هنا هو قليل من كثير ... وقطرة من بحر ... عشرة نقاط كافية _ إن شاء
الله _أن توصلك إلى ما تصبو وتأمل ... فانزعها وضعها في ميدان عملك واجتهادك ...
فبعدها سترى الثمار اليانعة ... والبساتين النضرة ... وبعدها ستكون قدوة إن شاء
الله .
(( وللعاطفة ميزان ))
إن مما يزعزع الجُدُرالدعوية تلك العاطفة الباردة التي تنساب على بعض المسؤلين خاصة والعاملين .(2)
العاطفة إحساس داخلي وشعور بالميل لشيء أثر فيه .... هي مما تمدح .... ولابد أن ينمي الإنسان مخزونه العاطفي في تعامله مع الأمور ...ولكن للعاطفة ميزان وقدر لا تتعداه وخاصة في العمل الإسلامي .
إن العمل الإسلامي بحاجة إلى عقول مفكرة , العمل الإسلامي بحاجة إلى تأني وتعقل في إرسال الأوامر والنواهي , العمل الإسلامي بحاجة إلى حزم في المشاركة في الأعمال الدعوية .
فلا نغرق في بحر العاطفة ولا نخرج ونعتكف عند شواطئها ... وكما قيل (( كلا طرفي قصد الأمور ذميم )) , بل بين بين وما أجمل التوسط والاعتدال في الأمور .
ومن الخطأ عند عند بعض الأفراد العاملة في الدعوة أن يغلبوا عاطفتهم على المصالح الدعوية المثمرة ؛ فمثلاً تجد مسؤولاً وقد اتفق مع أهل الحل والعقد في أمر من الأمور الدعوية وبعد حينٍ إلا وترى ما قد اتُفق عليه قد سافر إلى بلاد الأحلام .
ما السبب في ذلك ؟ هو أن المسؤول بعد جلسة الشورى تلك ... ذهب إلى بيته وزاره أحد أصدقائه وشحنه وحمسه لعمل آخر .... فألغى ذانك المسؤول العمل الأول .... أو أنه راكم العمل الثاني بالأول فقلل من الإنتاج المرجو .. والله المستعان .
فالعاطفة لابد أن توزن وأن تكبح ... والعاقل من يعرف مداخل نفسه ومخارجها فيظبط كل بحسبه .... وهنا أذكّر بالقاعدة الفقهية المعروفة وهي عند تزاحم المصالح في العمل أنه ( يُرَجح خير الخيرين بتفويت أدناهما ... وقد يقدّم المفضول على الفاضل في مواطن ...ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه )
أقول فلنضبط عواطفنا وحماسنا .... ولا تهيجنا بعض المواقف والأحداث فنتصرف بتصرفات هي عارية عن الصواب .
فلنعبىء أرصدتنا من العواطف ولكن لنجعلها في مكانها الصحيح العائد على أعمالنا الدعوية بالنجاح .
(( حقيبة الداعية ))
إن من نعم الله على عباده الصالحين العاملين أنِ اصطفاهم من بين خلقه ليذودوا عن حياض دينه ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة .
أولئك هم الرجال حقاً ... باعوا دنياهم لأجل دينهم فأكسبهم الله عزاً ومجداً وشرفا .
ولأنهم حافظوا على حقائبهم .... ففتح الله عليهم سبل الخيرات ...
أو تدرون ماهي الحقائب ؟ ..
أما عن حقيبة الداعية فهي مستودعه .. هي روحه .. هي زاده .. لا يستغني عنها .
منها الحسية والمعنوية ..
فأما الحقيبة المعنوية ... فهو أن يكون للداعية قلب رحب واسع ... يحب الخير ...
منافس على الطاعات ... غيور على دينه ... ينصح هذا ويوجه ذاك ... قد أشغل وقته
بما يعود عليه بالنفع والخير ..
أن يكون للداعية قلب مليء بزاد من التقى والعلم والهدى والحق ليدعوَ إلى الله
على بصيرة ...
أن يكون للداعية قلب شفاف يحترق على حال أمته ... فيبذل ... ويضحي ... لأجل
إعلاء كلمة الله .
هذه هي حقيبة الداعية وهي الأصل .
وهناك حقيبة حقيقية حسية يحملها الداعية معه للدعوة ولنشر الخير ..
أن تحتوي الحقيبة الدعوية على أشرطة وعظية ..ونشرات ومطويات وكتيبات ... وغيرها
مما تصلح للنشر والتوزيع .
وليس شرطاً أن تكون الآلة حقيبة ... لأن المقصد هو أن تكون الدعوة هم للإنسان وديدن له ..
لماذا؟
حتى نرقى بحال أمتنا الإسلامية ونعيدها إلى أن تتمسك بدينها ومن ثم تنال البشارة بالعز والشرف والسناء والمجد .
والحمد لله رب العالمين .
(( استثمار الأفكار في خدمة دين الله عز وجل ))
قام سلمان _ رضي الله عنه _ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشار إليه بحفر الخندق ... فنفع الله بفكرته واقتراحه الإسلام والمسلمين ..
بفكرة واحدة أعز الله دينه ... بفكرة واحدة رفعت أعلام النصر ... بفكرة واحدة أذل الله به أعداءه وأخزاهم .
كل هذا بفكرة واحدة ...
أيها الإخوة: فلنستغل ما حبانا الله إياه من عقل وفهم وعلم وتفكير ونسخرها في الدعوة إلى الله .... لا تحتقر من المعروف شيئا .
فكم من أعمال دعوية عظيمة نشاهدها وننبهر من روعتها وقوتها ...وهي لا تعدو أن تكون فكرة اهتُم بها فنمت وترعرعت فقامت على أكتافها أعمال أخرى ...
كل هذا بفضل فكرة واحدة ..
يا أخي أقل القليل أن نجعل من يومنا كله ساعة واحدة أو نصف ساعة نفكر فيها لله ولخدمة دينه والدعوة إليه ..
فلا نستهين ولا نستخسر هذه الدقائق الثمينة التي نفكر فيها لله جل وعلا ...
ولنختر وقتاً مناسباً لذلك يكون الذهن فيه صافياً ... والقلب حاضراً ...
والعزيمة وقادة .
فكم هي الأوقات التي أضعناها فيما لاينفع ... كم هي الأوقات التي ذهبت ولا ندري على أي حالٍ ذهبت .
ساعة واحدة احتسبها لله خالصة له سبحانه ...
انظر إلى سلمان _ رضي الله عنه _ لما باع روحه وجهده ووقته وفكره لله جل وعلا وفقه الله إلى أن يكون سبباً لنصرة هذا الدين ...
فلنكن مثل سلمان رضي الله عنه .
(( لا تكن كالزجاجة ))
إن طريق الدعوة إلى الله ... طريق لا يثبت عليه إلا الرجال ... أهل العزائم .
وهذه سنة الله .... أن يجعل السبيل الموصل إلى الجنة ... وعر و وصعب .... ولا يقوى عليه إلا من ذكرناهم آنفاً ... أهل الإيمان والتقوى .
فلهذا كان على السائر على طريق الدعوة إلى الله أن يقرأ الإرشادات والتنبيهات ... حتى يدعوَ إلى الله على بصيرة من أمره ...
ومن تلك التنبيهات والمزالق التي تعتري الداعية في طريقه ... هو أن يكون الداعية قليل الصبر في تعامله مع بعض المواقف التي يترصد لها أهل الضلال والفسق والإنحلال ... لإبطال الأعمال الدعوية وإلغائها من الوجود ... وهذا ما يرجون .
فيا أخي : لا تكن كالزجاجة ... تتأثر من أدنى موقف يعرض لك من جميع طبقات المجتمع
... فأنت لا تمثل ذاتك ونفسك وإنما تمثل ما تحمله من مهنج ودعوة .... فلتصبر ولتجاهد نفسك على أن تستمر على هذا الطريق وإن عرض لك ما عرض ... فلنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة وقدوة .... والجنة حفت بالمكاره ... فإن لم تصبر وتجالد .... فاذهب والعب مع اللاعبين ...
نعم لا تكن كالزجاجة .... بعملٍ لم تملك فيه نفسك وعاطفتك ستهدم أكثر مما تبني ... فاحذر من هذه المواقف ... ولاتخطو خطوة واحدة حتى تعرف أين تخطو ؟ ولماذا ؟ وما هي النتائج ؟
فبهذا نسلم من كثير من المتاعب والصعوبات التي نواجهها دائماً ... والله المستعان .
ومن أروع ما قرأت في ذلك ..أن عمر بن عبد العزيز _ أمير المؤمنين حقاً رحمه الله _ أنه كان في المسجد يذكر الله فمر رجل بجانبه فتعثر في مشيته .. فغضب الرجل فنظر إلى عمر بن عبد العزيز وقال له : أأنت حمار ؟ ( فسدد الله عمر ) فقال _ رحمه الله _ لا .
فيا أخي انظر إلى مدى التربية الجادة ... انظر إلى مدى السيطرة على النفس ... فلم تأخذه اللائمة على نفسه .... فعربد وأزبد .... بل كان حليماً وقوراً .
وهذا الذي نريده ونأمله ونرجوه في تعاملنا مع الناس أيٍ كانوا ؛ لكي تقوى الأبنية الدعوية ... ويدوم عطاؤها وبذلها للناس أجمعين .
(( الرؤية المستقبلية للأنشطة الدعوية ))
وكما أسلفنا في موضوع سابق(3) أنه لن يقوم أو يدوم أي عملٍ إسلامي إلا إذا كان يسير على خطة مرسومة وعقدٍ واحد مرتص منتظم .
وهنا لفتة مهمة للغاية ... قد تغيب عن الأذهان مع غمرة النشاط وأيام العمل ..... ونوردها في سؤال (( ما هي النظرة المستقبلية لأنشطتنا الدعوية ؟ )) .
نقطة حساسة هي جديرة بأن يقف المحتسب عندها ويجيب عليها بواقع ملموس في نشاطه .
نعم ...ما هي النظرة البعيدة التي نرنو لها من خلال هذه المؤسسة ؟ ماذا بعد ماجتزنا فترة من هذا البناء ؟ ماذا بعد ؟
هذا هو باختصار ما لابد أن يعتنى به ويراعى في أعمالنا ويخصص له وقت لنقاشه ومعرفته .
وهذه النقطة تعتمد أصالةً على ما يحمله العمل من أهداف وقواعد راسخة ...
فعمل بلا أهداف وغايات ... فراغ وعبث ... فلا نسخر الطاقات إلا في أعمال ذات قواعد متينة تحقق ما نرجوه من الثمرات لخدمة الدعوة إلى الله .
فالمقصود ... أن ننظر إلى ما نقوم به ... بأفق واسع وشمولية بجميع الجهات .
أذكر أنني جلست مع أحد الإخوة وقد عيّن ليكون مسؤولاً عن لجنة من اللجان الدعوية ...وكان مستاءً لحالهم ... سبب ذلك أنه تكلم مع المسؤول السابق عن ماهية اللجنة وعن أعمالها وأهدافها وما هي الخطط التي يسيرون عليها ... وللأسف كانت الإجابة محدودة وضيقة لا تتعدى أكتاف العاملين .
فزبدة القول : هو أن نعمل في محيط أبعاده معلومه وأهدافه واضحه ... فبمعرفتنا لهذا وتطبيقنا له ... ستُأتي مشاريعنا أُكُلها ونتاجها وثمراتها اليانعة بإذن
ربها ولو بعد حين .
(( نحو إنتاج مثمر ))
هل رأيتم يوماً سمكاً يطير أو طائراً يسبح .... أو هل رأيتم نملاً يسير بلا نظام أو نحلاً كان لب عسله من العظام .. ؟
الجواب : لا . لأن الله عز وجل قد أعطى كل كائن خصائص وقدرات تتناسب مع خلقته وبيئته فيسخر هذا الكائن طاقاته وجهوده فيما يقدر عليه ويستطيعه لكي يستمر إنتاجه في هذه الحياة ( وهكذا الدعوة إلى الله ) .
أيها الإخوة : إن أبواب الخير كثيرة ومجالتها وسعة والموفق من فتح الله عليه جميع الأبواب فقد ضرب بسهم في كل عمل صالح , ولكن الأجود من ذلك هو أن نوحد جهودنا وطاقاتنا في عمل واحد يتناسب مع قدراتنا ومواهبنا ... فمثلاً شخص فتح الله عليه في الخطابة وإلقاء الدروس والكلمات فيكرس في هذا الجانب , وآخر يسر الله له أن يكون مصمماً بارعاً فيكرس طاقته في خدمة دين الله .... وهذا لا يعني أن لا يشارك في أعمال أخرى بل يشارك في أكثر من عمل ومجال ولكن الجانب الذي رصيد إنتاجه فيه أكثر يكون سميره وأنيسه .
والسؤال الذي يفرض نفسه لماذا نوحد جهودنا في عمل خيري معين؟
الجواب :
أولاً / إن توحيد الجهود والطاقات وسيلة إلى الإنتاج المثمر وإلى بلوغ الهدف بأسرع وقت .
ثانياً / وأيضأ حتى لاتتعطل جوانب دعوية على حساب جوانب دعوية أخرى .
ثالثاً / هي من أنفع الأسباب التي تؤدي إلى تلقيح العقول والأفهام .
رابعاً / هي وسيلة إلى تنمية المواهب والقدرات في خدمة الدعوة إلى الله .
أقول : إن المقصود مما ذكر هو أن يوحد ويجمع كل شخص منا جهده في أعمال مختلفة ويركز على عمل واحد ليحصّل ثمرات ماسبق ذكره ... وليس المقصود أن توحد الأمة الإسلامية جهودها في شيء واحد هذا عبث وخطأ ومحال فعله .... ولأن المواهب مختلفة والمشارب متنوعة فيستحيل ذلك .
وأخيراً فلندع إلى الله في العمل الذي يلاءم ما حبانا الله به من قوة ومهارة فنستنزف جهودنا فيه لنثمر وننتج .
(( تنمية البناء الذاتي ))
إن تجدر الأبنية الدعوية في الساحة الإجتماعية لمن أقوى أسبابها الفاعلية الحركية لدى العاملين وذلك لتنميتهم قدراتهم وتوظيفها في محلها الصحيح وتسخيرها للبناء .
فالساحة الدعوية بحاجة إلى المنتجين العاملين الذين امتلكوا القوة الإيمانية والقوة البيانية فوجهوا كلا القوتين إلى الأعمال الخيرية فنمت القوة العملية .
فلا يصلح أن تقام مؤسسات ولو كانت أهدافهم سامية بدون أن يكون هناك أصحاب قوة علمية وعملية لإنهم هم الذين يرسمون السير الصحيح للنجاح أو خلافه .
فالدعوة إلى الله بحاجة إلى دعاة يدعون إليها على بصيرة وهدى وليس على ضلالة وتخبط وعمى .
فمن الفوائد التي نجنيها من تواجد كوادر قد حصلوا القوة العلمية والقوة العملية ..هو وجود روح الفاعلية نعم الفاعلية في العمل والأفكار والإنتاج , وأيضاً سلامة الأعمال من النقص والخلل أو بمعنى آخر وجود مثل هذه الطبقة المصطفاة العاملة يكون سبيلاً سريعاً للتدرج على سلم الكمال ومن الفوائد أيضاً سمك البناء وقوة التأثير وحسن الأداء ونجاح الأعمال منوط بوجود مثل هؤلاء بعد الله جل وعلا ..
فلنحرص على تنمية قدرات العاملين وتوظيفها في المكان الصحيح لنكون سائرين نحو الإنتاج والإبداع .
(( اللامبالاة والمزاجية ... تمرض الدعوة ))
داآن مآلهما وخيم إن تلبّس بهما من ارتدى لبوس أهل الدعوة والخير والصلاح ...
اللامبالاة والمزاجية صفتان مكروهتان يأباهما الشرع الموقر والعقل السليم لإنهما لايأتيان إلا بشر .
نعم إخوتي كيف تُكوّن المؤسسة الخيرية بناءها وأهل بيتها بدف الكسل وعدم الإكتراث للواقع واتباع الهوى والنفس يضربون .
أيها الإخوة : إننا - وبإختصار - في وقت نحن بحاجة فيه إلى نفوس أبية مالكة لجوامح النفس من غيرها .... إن البناء الدعوي لن يستقيم أحواله إن كان من بين عامليه صاحب هوى ومزاج متذبذب .
فكم من أنشطة قامت وبعد حين تدهور حالها بسبب ذلك ..
فيا من باع وقته لله ... اجتهد في العمل ودع حظوظ نفسك ...
ويا من باع نفسه لله ... دع ما تشتيه ... ولا تكسل فأنت قد بعت نفسك للعلي الأعلى .
إن الصور الكالحة التي تمثل هاتين الصورتين كثيرة ... فهلا تركناها وانحزنا وتقدمنا وبادرنا إلى ما ينفع الدعوة والدعاة ...
(( الفوضوية وتبعاتها ))
إن من الأمور التي تهدم ولا تبني وتفرق ولا تجمع وتبعثر الأعمال ؛ الفوضوية في التعامل مع مجريات الحياة عامة ومع الدعوة إلى الله خاصة .
فالفوضوية والعشوائية داء عضال يفتك بالأوقات فتكاً وينحره على غير قبلة فهو مرض زؤام - أجارنا الله منه - ابتلي به البعض فأصبح حال الواحد منهم في حيص بيص ... عمره ليس له فليس هو من يتحكم فيها بل واقعه المؤثر عليه هو من يسيره ...متخبطُ في مواعيده وجدولة يومه فكيف بأسبوعه وشهره وسنته....
وهنا أقول :
أيها المصلح من أخلاقنا **** أيها المصلح " الداء هنا "
نعم الداء هنا فعالج نفسك وتفحص ذاتك فبعض القوم لا يحب الإنضباط والترتيب وما يدري أن من دنت همته أحب التسيب والفكاك ... فليربأ الداعية بنفسه عن هذه السفاسف وليعلي همته وليكون سائراً على الطريق المرسوم والمحدد للنجاح والتوفيق ... وليعلم أن الوقت إن ترحّل عنه وهو في تخبط فلن يحصل شيئاً ..
وليس أضرار الفوضوية قاصرة عليه وعلى وقته فحسب فقد يتعدى ذلك إلى نشاطه ومركزه الدعوي ...فبالله كيف سيتعامل معه ... فلهذا لابد أن يكون للداعية منهجاً واضحاَ يسير عليه وخطة وجدولاً يثابر ويجد في تحصيل مافيه فبهذا يرتقي في أعماله .... ويرتقي في الإستفادة من أوقاته ..ويرتقي في التعامل مع الدعوة الحياة .
(( العمل للدعوة بين الواقعية والمثالية ))
قليل هم الذين يحملون هم الدعوة وقليل من هؤلاء القليل الذين يعملون للدعوة وقليل من هؤلاء القليل أيضاً الذين يعملون على بصيرة وهدى من أمرهم ...
نعم ما ألذ العمل لله والبذل والتضحية لنيل رضوانه ورحمته ..... فهذا مطلب عالٍ وسامٍ وشريف ...
فلذلك كان على الداعية إلى الله أن يتنبه لبعض الأمور ويكون بصيراً بها ويعطيها من النظر والفكر القدر الكاف ... فمن ذلك الواقعية في العمل مع تجنب شواذها ونادرها ....
كم هو حسن أن يتطلع الإنسان وتعلو همته لنيل أهدافه وبلوغ مرامه ولكن لا نجعل هذا التطلع والسمو عائقاً عن النظر في العوائق والعلائق والمتغيرات ...
فمن يعمل ويبذل للدعوة وقد وضع في ذهنه صورة علوية سامية لواقعه ومثالية زائدة عن مؤسسته فهذا لايلبث مع أدنى حادث إلا وهو في ركب المتقاعسين .... لإنه كان في دائرة الخيال يسعى .. ونحو السراب يجد في السير .
فمثلاً يقوم ذلك الخطيب وقد دبج خطبته بأغلظ العبارت وأعسرها ولا يدري أن الجمهور المخاطب هم من العوام ... أو أن تكون خطبته عن حرمة التدخين وأضراره والقوم المخاطبون أغلبهم قد جعلوا الصلاة ومحكمات الدين خلفهم ظهريا ..
فهذا لم ينظر لواقعه ولكن نظر للمادة الملقاة وسمكها ورصانتها , ولم يعطي المجتمع القدر الأوفى من عمله ..
فضرورة التعامل مع أعمالنا بواقعية تكمن في هذه الأمور ....
فإذاً فلتكن رؤيتنا للمواقف والأعمال شاملة وواسعة وبعيدة المدى , فهي تكسب العامل شحنة من الإصرار على النجاح وتلبسه روح التفاؤل ...
ومن الأخطاء أن يفهم الداعية مفهوم - التعامل بواقعية ووضوح - بطريقة مغايرة للمقصود ..في أنه يتواكب مع واقعه في الطرح والأسلوب والأداء والعمل .. فيفقد بعد ذلك تميزه وشخصيته المستقيمة ... أو أنه مع استمراره على هذا المفهوم الصحيح يصيبه نوع من البرود والكسل للعمل للدعوة ...(1/87)
فمن الأهمية تعقل هذا الأمر وفهمه الفهم الصحيح لكي يبحر سفين الدعوة بسلام ...
(( الإرتقاء بالبناء الدعوي ))
تحتل المؤسسات الخيرية جزء لا يستهان به في المجتمع ومعظم هذه المؤسسات بدأت تشق طريقها نحو النجاح والفلاح وما ذاك إلا بسبب الوعي بأهمية الأهداف والخطط وفهم لغة العمل والخطاب مع المدعوين .
أيها الإخوة فلا نجعل لأفكارنا وطموحاتنا حدود , ولأعمالنا الرسوب في مقدار معين وزمن محدود .
فلإرتقاء سمة العمل الناجح وشعار النشاط التواق .... فهلا جعلناه مرتسم على أعمالنا الجماعية والفردية ..
وهنا أذكر بعض النتائج والملحوظات :.
* أهمية الإرتقاء تظهر في المؤسسات التي استثمرت طاقات عامليها ومواهبهم وأفكارهم فيما يخدم أهدافهم بخلاف بعض الأنشطة التي جعلت من عامليها آلات وأدوات للعمل والتنفيذ وأهملوا تفعيل مستوياتهم الفكرية .
* السمو والإرتقاء بالمؤسسات مطلب جيد ومثمر ولكن هذا لايعني أن نتخطى القواعد والأسس بعجلة وننظر للمستقبل ونتجاوزه على حساب إهمال الحاضر من الأصول والبنى القوية .
* ومن الإرتقاء أيضاً .. الرقي بأسلوب العمل الإسلامي في مسيرته الدعوي بما يتوافق مع أصول شريعتنا الإسلامية .
وأخيراً فالإرتقاء بالبناء الدعوي وبالبناء الذاتي عند الداعية - خاصة في الآونة الأخيرة - لمن الأهمية بمكان وهذا داخل في إتقان العمل الذي يحبه الله وإذا أحب الله عمل عبدٍ بارك فيه وفتح الله عليه من الفتوحات التي لم يكن يخطر له على بال .
وختاماً .........
أيها الأحبة وبعد جولة ماتعة ونظرة خاطفة على ما نقوم به من أعمال الخيرية ...
فلنستفد من أخطاءنا ولنصحح مسارنا ولنقوي أبنيتنا الدعوية ...
وما ذكر إنما هي تأملات وإشارات من مسافرٍ زاده بخس وبضاعته مزجاة ...فأوفو له كيلاً من النصيحة والتوجيه .. وتصدقوا عليه بالدعاء في ظهر الغيب إن الله يجزل أجر المحسنين الصالحين ..
هذا وصلِ اللهم وسلم على النبي الأكرم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أخوكم عبد الله المحتسب
---------------
الهوامش :
(1) انصح بقراءة كتاب نافع ومفيد للشيخ عبد العزيز العبد اللطيف بعنوان (( معالم في السلوك وتربية النفوس )).
(2) لا أعمم ولكن أقصد أصحاب العواطف الباردة الذين يميلون مع كل مائل .
(3) المقال السابق بعنوان (( التخطيط أولاً .... ))
ـــــــــــــــ(1/88)
المشرفة الداعية
إعداد : إيمان فهيم & ليلى الصيفي
الحمد لله الكريم الرحمن , ذي العطايا الجزيلة والإحسان , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الهادي إلى أعظم سبل الخير والرضوان وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد :
إن الإشراف التربوي جهد بشري بين شخص وآخر لا يقف عند حد التشخيص والعلاج والتقويم والمتابعة بل يتجاوز إلى ما هو أسمى ذلك فهو وسيلة دعوية بالإحسان تنال به الدرجات وتضاعف به الحسنات بإذن الله تعالى . والمعلمة مرآة للدعوة تعكس التوجيه مترجماً أفعلاً على سلوك الطالبات. لذلك فهي بحاجة إلى مشرفة داعية ترشدها وتثبتها على طريق الصواب بالتوجيه والدعوة والمتابعة .
أختي المشرف : اسعي إلى أن تكوني داعية لدين الله وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولا تقولي (( للدعوة أهلها)) فأنه من واجبات كل مسلم ومسلمة أن يقوم بواجب الدعوة إلى الله فالدعوة لم يحدد لها نوعية بشر عملاً بأمر الله قال تعالى { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } سورة النحل - 125
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ( بلغو عني ولو آية ) أخرجه البخاري .
فابذلي الغالي والنفيس لتوجيه سلوك أو تعديل خطأ , وحاولي استكشاف طاقات و إمكانيات معلماتك لتوظيفها في المكان المناسب والوقت المناسب وارتقي بها من أن تكون مدعوة إلى أن تكون داعية , ومن أن تكون مقودة إلى أن تكون قائدة , ولا تنسي أننا خير أمة أخرجت للناس .
قال تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }.
وقبل البداية لا بد من محاسبة نفسك ومراقبتها والالتزام بصفات ضرورية ترتقي بك لتكوني مؤهلة للقيام بواجب الدعوة ومن تلك الصفات:
1- الإخلاص لله تعالى :
أخيتي لا يكن همك من عملك الرقي في الدنيا ونيل الشرف والثناء فكل ذلك مصيره إلى زوال قال تعالى (( وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا )) ولكن أبتغي بعملك وتوجيهك ودعوتك رضاء الله عز وجل ونيل الأجر قال - صلى الله عليه وسلم - (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )) .
2- القدوة الحسنة :
( خير من القول فاعله , وخير من الصواب قائله , وخير من العلم حامله ) مقوله تدعونا إلى تلمس طيب فحواها والسير على هداها وهي من أهم الصفات لمثلك ويجب أن تجعليها كالتاج للرأس فبدونها لن يكون لقولك القبول أو لدعوتك صدى فالالتزام بما تدعين إليه أهم من الدعوة إليه قال تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لما تقولوا ما لا تفعلون كبر مقتاًً عند الله مالا تفعلون )) وقال تعالى (( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )) كوني قدوة لمعلماتك ليصبحن بدورهن مربيات بالقدوة . يقول الشافعي : (( من وعظ أخاه بفعله كان هادياً ))
ولا تنسي قول الشاعر:
لا تنهى عن خلقً وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
3- التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة :
أختاه : تزين بجواهر الأخلاق الفاضلة تعكس منك ابتسامة صادقة وكلمة طيبة تتغلغل في القلوب وتأسر النفوس وقبل ذلك ترضي الرب المعبود وقدوة لكي في ذلك خير الأنام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأعظم الناس خلقاً قال تعالى(( وأنك لعلى خلق عظيم )) والخلق الحسن وسيله لزيادة الأجر , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار )) والتحلي بالأخلاق الفاضلة مع الناس عموماً والمعلمات خاصة يزيل الحواجز النفسية فيكون من السهل الاتصال وتبادل الحوار .
4- التواضع :
إذا ما أردت بذراً سريع الإنبات ونبتاً سريع الإناع وثمراً سريع القطاف فلتسقيه بماء التواضع .
عن قيس بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد )) وقال - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله أوحى إليَ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد )) فهذا شأن قائد الأمة شرفه الله لأعظم دعوة , وكان أكثر الناس تواضعاً أحبه الناس فأقبلوا على دعوته , فليكن لك القدوة الحسنة .
5- الصبر :
أختي المشرفة الداعية : إذا رفعة الدرجات فعليك بالصبر رداء يكن لك وقاء في تحل الصدود والنفور فلا بد أن تضعي في اعتبارك أن المعلمات طباعهن وأفكارهن وتقبلهن ونشاطهن وقدراتهن تختلف من واحدة لأخرى لذلك لن تكون ردة الفعل واحدة وبتالي جهودك ودعوتك لن تكون بنفس الأسلوب فلذلك يستدعى منك الصبر والتحمل في العامل والتوجيه واستعيني بالدعاء وطلب العون من الله . أختي : أيضاً عند قيماك بالدعوة لابد من مراعاة بعض القواعد التي تعينك في أداء الدعوة وتسهيل المهمة ومن ذلك :
1- الاستزادة من العلم
لابد أن تكون ركيزة الدعوة معرفة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكي تكون الدعوة على بصيرة وبذلك أمر الله نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى (( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) فالعلم يزيدك ثقة وثباتاً ويبعدك عن القول بدون علم .
2- تحسين مهارات الاتصال لبناء العلاقات
أختي المشرفة الداعية : عندما تكونين قادرة على التأثير في المعلمات واستخدمت أساليب متعددة وأحسنت التصرف معهن وتمكنت من إقناعهن باستخدام أساليب الاتصال اللفظي وغير اللفظي أصبحت قادرة على تحقيق أهدافك وحصد نتائجك متمثلة في قبول المعلمة دعوتك للخير وترجمت قبولها بقيامها هي أيضاً بواجب الدعوة نحو طالباتها .
3- طلب المشورة من أهل العلم
عندما يتشاور أكثر من شخص في أمر معين تتنوع الأفكار وتتعدد وجهات النظر للموضوع الواحد وبعد التحليل والتفصيل يسهل اختيار الأفضل وتوقع النتائج , لذلك يجب أن تحرصي على طلب المشورة ممن هم أهل لها حلاً لمشكلة أو مواجهة لعقبة وذلك أمر الله تعالى في قوله (( وشاورهم في الأمر )) وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت ( وشاورهم في الأمر ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أما إن الله ورسوله غنيان عنهما ولكن الله جعلها رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعد غياً )) ذكره الشوكاني
4- مراعاة أحوال المعلمة
يبغي على المشرفة الداعية أن تكون متيقظة لحال معلماتها في حين إقدامها على دعوة ما , فقد تمر المعلمة بظرف عائلي أو صحي يمنعها من الاهتمام بما يلقى عليها , فتخيري الأنسب لحالها من التوجيه والدعوة مع عدم الإطالة أو التأجيل .
5- التخطيط وترتيب الأولويات
أن مما يساهم في تشتت الجهود وتخبط المسير عشوائية الهدف وعدم التخطيط له بالتركيز بشكل مهم على ترتيب الأوليات . فالتخطيط يوفر الوقت والجهد ويوجه النشاط والإمكانيات نحو تحقيق الأهداف مما يمهد الطريق للنجاح مع ضرورة الأخذ في الاعتبار عند تحديد الأهداف واختلاف المعلمات في أمور كثيرة .
أختي الداعية : هناك بعض الأمور التي يجب أن تحذري منها عند قيامك بالدعوة ومن ذلك:
1- التسلط وفرض الإرادة
قد تصطدمي بمعارضة معلمة لموضوع ما عند توجيهك أو دعوتك لها , فلابد عندها من الحنكة في التصرف بالبحث عن الأساليب والآداب الملائمة لتوضيح وجهة نظرك إن كان الصواب جانبك دون تسلط أو جدال , يقول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) وقوله تعالى (( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى )) .
2- استعجال النتائج
إيّاك واستعجال نتائج قال تعالى (( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد )) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( التأني من الله والعجلة من الشيطان )) أخرجه البيهقي . فالعجلة في الدعوة طريق الفتور والركون , ولكن أبذري وتابعي ولا تنتظري إلا الأجر من الله .
3- أن يكون دور المعلمة متلقية فقط
فمن المهم أن تدفعي المعلمة للعطاء ولا يبقى دورها مستقبلاً فقط , فلابد من حفزها وزرع الثقة في نفسها لكي تقدم على دعوة طالباتها للتمسك بما أمر به الله والابتعاد عما نهى عنه وهنا نلقي الضوء على بعض الأساليب التي تفيد في أداء مهمة الدعوة :
من المهم أن تحرصي في الأساليب المستخدمة :
• ترجمتها للأهداف المخطط لها من قبلك .
• مناسبتها لطبيعة المعلمة .
• موافقة المضمون للكتاب والسنة .
ومن هذه الأساليب :
1- الهدايا : وسيلة محبة وطريقة دعوة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( تهادوا تحابوا )) أخرجه البخاري تخيري المناسب منها كشريط أو كتيب .............. الخ .
2- التوجيه للقراءة : وذلك بتوجيهيهن لقراءة كتاب أو موضوع للاستفادة منه بشرط وثوق مصدره وسلامة معتقد كتابه .
3- تخول المعلمات بالنصيحة : سبيلك للمتابعة ومد جسور الدعوة مع تخير أفضل القول وأيسره وعدم إطالة الكلمة وخذي من الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة .
4- الانترنت : من أكثر الوسائل إقبالاً من جميع فئات المجتمع , فأمدي المعلمة بأسماء مواقع تفيدها في دينها وعلمها وإرشادها إلى أفضل المنتديات في ذلك .
5- المطويات : إمداد المعلمات بالمطويات المعدة من قبلك بأفضل شكل وأطيب مضمون .
6- حفزهن للبحث : طرح موضوع بحثي لا يتجاوز الصفحة تجنباً لإرهاق المعلمة بما يتناسب مع طبيعة عملها ويرتقي بدينها , مثل البحث في الربط بين موضوع الكتاب وإعجاز الله في ذلك .
7- تفعيل الدعوة في الحلقات التنشيطية : توجيه المعلمات للتّخطيط للحلقات التنشيطية وتحديد أهدافها يسهم في رقى مستواهن العلمي والتربوي ومن الجميل أن يدرج ضمن الأهداف حلقة تفعيل الدروس في الدعوة .
وفي نهاية المطاف ليس لنا إلا التنبيه بأنك داعية في جميع أحوالك :
• فإخلاصك في عملك الوظيفي وحرصك عليه دعوة تستقى منه المعلمة إتقان العمل والحرص عليه والدقة في إتمامه وإنجازه .
• انضباطك في مواعيد العمل دعوة تؤدي بالمعلمة إلى مراعاة الله في السر والعلن واستثمار دقائق الحصص .
• مظهرك عامة حجاباً وزينة ولباساً دعوة به القدوة ترسم للمعلمة .
• حديثك وأقوالك دعوة تتعلم منها المعلمة الأدب وحسن إرادة الحوار واحترام الغير .
• نقدك المتوازن بين المدح والقدح دعوة تستقي منها المعلمة التوازن في أقوالها وأفعالها مع الطالبات وتستشعر ضرورة الموازنة في الثناء .
• عدلك بين المعلمات معاملة وتقييماً دعوة طريق لعدلها مع الطالبات .
• مشاركتك في الأنشطة دعوة تتعلم منها المعلمة عدم الركون والتغيير النافع .
انتهى
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــ(1/89)
تنبيه الأذكياء بأهمية الإقتداء
محمد حسن يوسف
تعاني الأجيال الشابة من المسلمين التي تحيا في ظل الصحوة الإسلامية المباركة من غياب القدوة. فهذه الأجيال تحيا الآن في ظل الدروس النظرية لعظمة الإسلام وريادة أجياله الأولى لمجالات الحياة المختلفة. إلا أنها حينما تتجه بناظريها إلى الواقع المعاش، فلا تجد من تقتدي أو تتأسى بهم، ولا تجد إلا حفنة من أرباب المادية العلمانية الذين تم تمجيدهم وتزيينهم للناس، وتقديمهم في صورة النماذج التي يجب أن يسير الناس وفقا لخطاها.
فلماذا نترك القدوات المعصومة من الأنبياء والمرسلين الذين يزخر بهم كتاب الله العزيز؟ ولماذا نترك شبابنا يتخذ من المهرجين والعابثين والمغنين واللاعبين قدوات لهم، ويتركوا هذا المعين الضخم الذي لا ينضب من القدوات الذين يزخر بهم تاريخنا الإسلامي، من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين؟!!
أسباب تراجع القدوات الإسلامية:
عدم العلم بهذه الشخصيات، وجوانب عظمتها، وكيفية الإقتداء بها. ذلك أن أجيال المسلمين شُغلت طوال سنوات الدراسة - وهي طويلة بما فيه الكفاية - باستذكار شخصيات بعينها منتقاة بعناية وكأنها هي الشخصيات التي يجب عليها الإقتداء بها.
التركيز الإعلامي بوسائله المختلفة - سواء المشاهدة أم المقروءة أم المسموعة - بتسليط الأضواء على مثل هذه الشخصيات حاليا ( التي تحتل مكان الصدارة في مجالات التمثيل والغناء والرياضة )، وكأن ثوابت المجتمع قد تغيرت. ففي بداية القرن الماضي وحينما بدأت تظهر السينما في مصر، كان لابد من وجود ممثلين. وفي ظل المجتمع المحافظ في ذلك الوقت، كان هؤلاء يوصفون ( بالمشخصاتية )، وترفض الأسر الكريمة الارتباط بهم أو الإقتداء بهم. وكانوا يُنعتون بأخس الصفات وأقبحها. وفي ظل توالي عمليات التجهيل بأصول الدين، وبسير أعلام الإسلام، تغيرت نظرة المجتمع لهذه الفئة لتحتل مركز الصدارة، وتصبح محط أنظار الجميع في الإقتداء بهم والوصول إلى " مكانتهم " المزعومة. وتبعتها في ذلك الفئة التي تعمل في مجال الغناء والرياضة.
في ظل تغير الثوابت المادية للمجتمع، بحيث أصبح رجل الدين لا يتعدى راتبه العشرات من الجنيهات، في حين يحظى صاحب المواهب الفذة " المزعومة " بالآلاف من الجنيهات، تحولت نظرة المجتمع نحو هذه الفئة، وأصبح الجميع يتهافت على الدخول في هذه المجالات " المربحة " للغاية!!
القدوة في القرآن والسنة:
أكثر القرآن الكريم والحديث النبوي من ضرب الأمثلة المتكررة لنماذج من البطولات، لكي تظل نموذجا حيا يُطلب من المسلمين الإقتداء بهم في حياتهم، والسير على نهجهم. ولنأخذ أمثلة على ذلك: فقد قال تعالى لرسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ? ] الأنعام: 90 [. أي يطلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بمن سبقه من الرسل في تحمل مشاق الدعوة إلى الله والصبر عليها. كما قال تعالى مخاطبا المسلمين: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ اْلآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ? ] الأحزاب: 21 [. فهنا يطلب الله تعالى من المسلمين أن تظل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - محط أنظارهم لا يحيدون عنها ويقتدون بها في كافة مجالات حياتهم. وقال تعالى: ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ? ] الممتحنة: 4 [. وقال تعالى: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ اْلآخِرَ ? ] الممتحنة: 6 [. فيطلب الله تعالى منا ضرورة الإقتداء بالأنبياء والفئات المؤمنة التي كانت معهم، إذ إن النجاة في هذا الإتباع.
وجاء في الحديث الشريف عن جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وفي رواية للترمذي: من سن سنة خير فاُتبع عليها، فله أجره، ومثل أجور من اتبعه، غير منقوص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة شر، فاُتبع عليها، كان عليه وزره ومثل وزر من تبعه، غير منقوص من أوزارهم شيئا.[1]
والحديث بهذا السياق من الأحاديث التي وقع خطأ في فهمها لدى كثير من الناس الذين ابتلوا بالأهواء والبدع، إذ أصبح يمثل السند الشرعي لكل من أراد أن يُدخل في الدين ما ليس فيه. فالسنة الحسنة ليست بدعة في الدين، وليست أمرا محدثا في الإسلام، وليست إضافة على السنة، أو اختراعا في العبادة، ولا فيما لا يَمُت للدين بصلة.[2] ولعل الرواية التي ساقها مسلم والنسائي تفسر لنا سياق الحديث حتى لا نخطئ فهمه:
فعن جرير رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار، أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر - فتمعر وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالاً، فأذن وأقام فصلى، ثم خطب، فقال: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ? ] النساء: 1 [. والآية التي في الحشر: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? ] الحشر: 18 [. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة.
قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة، كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تهلل كأنه مُدْهنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من سن في الإسلام .... الحديث.
قال النووي [3]: قوله: ( النمار ): ثياب صوف, و( العباء ): جمع عباءة. وقوله: ( مجتابي النمار ): أي: خرقوها وقوروا وسطها. قوله: ( فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ): أي: تغير. وقوله ( مذهبة ) ضبطوه بوجهين : أحدهما: ( مذهبة )[4]: أي: فضة مذهبة, فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه, والثاني: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود, وجمعها مذاهب, وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود, وتجعل فيها خطوطا مذهبة يرى بعضها أثر البعض. والثاني: ( مدهنة ): المدهن: الإناء الذي يدهن فيه, وهو أيضا اسم للنقرة في الجبل التي يستجمع فيها ماء المطر; فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء, وبصفاء الدهن والمدهن. وقوله: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ) إلى آخره, فيه: الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات, والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات, وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: ( فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها, فتتابع الناس )، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير, والفاتح لباب هذا الإحسان.
أهمية وجود القدوة في حياتنا:
ولأهمية القدوة في حياة البشر، حاول الأعداء - أثناء فترات استعمارهم [5] لبلادنا - ومن سار على نهجهم طمس جميع صور البطولات الفذة في تاريخ الإسلام، سواء في صدره أو فيما بعد. ودأب من سار على نهجهم على تشويه صور قادة الإسلام العظام في أعمالهم سواء المنشورة في الكتب أو المجلات أو الجرائد، أو المعروضة في غيرها من أجهزة الإعلام الأخرى. وإلا فلماذا يُصور الصراع فيما بين الصحابة منذ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحجم من الضخامة؟!! وما الحكمة من تصوير الفتنة التي وقعت بين رموز الإسلام في ذلك الحين وإبرازها على ما عداها من أعمال جليلة تميزت بها أعمالهم حينذاك؟!!
ولكي تكتمل حلقات المخطط، فقد تم فرض وجوه باهتة لتتصدر أجهزة الإعلام المختلفة بحيث تكون محورا لحديث الناس عنها ليل نهار. وحتى يكون للأمر قوته وتأثيره، تم إضفاء هالات كبيرة حول شخصيات بعينها، حتى يصعب نقدها، ويتخذها الناس مثلا عليا لا يستطيع أحد تجريحها أو الطعن عليها. فاُخترعت أسماء كبيرة، مثل: " عميد الأدب العربي "، و "كوكب الشرق "، و" العندليب الأسمر " ... الخ.
على أنه ينبغي معرفة أن مركز القدوة حساس دقيق جدا، ويجب ألا يوضع فيه إلا من كان مستعدا للأخذ بالعزيمة، والبعد عن الرخص، وإلا من كان يغلب عليه الجد والزهد والتجرد، ويشتاق إلى التعب والبذل، لأنه إمام لمن حوله يقلدونه، ولابد أن يكون فعله أبلغ في التعبير عن عقيدته ومعاني دعوته من قوله، لأن المنظر أعظم تأثيرا من القول. ومن ها هنا لما همّ إمام مصر، الليث بن سعد، بفعل مفضول ينافي العزيمة، قال له إمام المدينة، يحيي بن سعيد الأنصاري: " لا تفعل! فإنك إمام منظور إليك ".[6]
ومن هنا نفهم سر حكمة السيدة أم سلمة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لما دخل إليها غاضبا من عدم تنفيذ الصحابة لأمره بذبح هديهم وحلق شعورهم للتحلل من الإحرام بعد إبرام صلح الحديبية مع قريش، حيث قالت له: " يا نبي الله! اخرج ولا تكلم أحدًا منهم حتى تنحر بدنك، وتحلق شعرك ". ففعل. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا.[7] فهنا كان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له أكبر الأثر في تقليد الصحابة رضي الله عنهم، وامتثالهم لأمره.
سبل العلاج:
أولا: الإكثار من عرض نماذج للقدوات الفذة التي يزخر بها تاريخنا، حتى تكون بطولاتهم وأعمالهم نصب أعيننا، نحاول الإقتداء بها والوصول إليها. ونعرض فيما يلي بعض الأمثلة لذلك:[8]
* كان أبو إسحاق الشيرازي العالم الفقيه يكرر كل درس مائة مرة، ويكرر السطر الواحد من القياس ألف مرة.
* قال الفارابي: صعب عليّ كتاب، فكررته أربعين مرة.
* مكث الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المفسر في مسألة واحدة من صلاة العشاء إلى صلاة الظهر من اليوم الثاني في جلسة واحدة.
* سافر جابر بن عبد الله شهرا كاملا في طلب حديث واحد.
* جرب مكتشف الكهرباء توماس أديسون خمسة آلاف بطارية أخطأ فيها كلها، قبل أن يكتشف التجربة الصحيحة.
* أقسم المعتصم لا يغشى رأسه ماء من جنابة حتى يخوض معركة عمورية.
* كان سعيد بن المسيب إذا انتصف الليل أقام الليل لا ينام حتى الصباح.
* كان ابن تيمية إذا صعبت عليه مسألة استغفر الله ألف مرة فيفتحها الله عليه.
* صلى سعيد بن المسيب ستين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام في المسجد.
* مكث عطاء بن رباح ثلاثين سنة لا ينام إلا في المسجد طلبا للعلم.
* ختم عبد الله بن إدريس القرآن في زاوية بيته أربعة آلاف مرة.
* كان خالد بن معدان يسبح الله كل يوم مائة ألف مرة.
* قال ابن الجوزي: طالعت في شبابي أكثر من عشرين ألف مجلد.
* قال ابن معين: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما حفظناه.
* ذكر الذهبي أن ابن عطية المحدّث الأندلسي كرر في حياته صحيح البخاري سبعمائة مرة، وقرأ المزني الرسالة للشافعي خمسمائة مرة، وقرأ النيسابوري صحيح مسلم مائة مرة.
ثانيا: إعداد الدعاة إعدادا سليما شاملا لتحمل مسئولية الدعوة وقيادة الأمة معا، بحيث ألا يتبوأ عرش الدعوة إلا من تتوافر فيهم الصفات المثلى الإسلامية. ولننظر كيف كان حال الدعاة فيما مضى، حينما كانت الأمة في عزها وقوتها: في عهد السلطان ( سليمان القانوني ) أُعلن عن وظيفة إمام مسجد خالية ... أتدرون ماذا كانت الشروط المطلوبة في اختيار المرشح؟!
1- أن يجيد اللغة العربية والتركية والفارسية واللاتينية.
2- أن يكون دارسا وفاهما للقرآن الكريم والإنجيل والتوراة.
3- أن يكون عالما في الشريعة والفقه والسيرة النبوية وتاريخ الإسلام.
4- أن يكون عالما في الرياضة والطبيعة.
5- أن يجيد ركوب الخيل والمبارزة بالسيف للجهاد.
6- أن يكون حسن المظهر.
7- أن يكون جميل الصوت.
8- قبل هذا وبعده: أن يكون قدوة حسنة وأسوة صالحة.
هذه هي الشروط المطلوب توافرها في الداعية كما جاء ذلك في الإعلان التركي قبل أربعمائة سنة!![9]
ثالثا: ويرتبط بما سبق، ضرورة مطابقة العلم للعمل بالنسبة لمن يتصدى للعمل في مجال الدعوة. فالعمل متمم للعلم، فهو ثمرة العلم، ودليل على صدق الداعية. ولعل هذا هو السر في عقم جهد بعض الدعاة. إنه طيلة حياته يتكلم دون أن يرى أثرا يذكر من تغير اجتماعي أو تغيير في الأفراد. ولخطورة مخالفة القول الفعل، حذرنا الله منه، فقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا َلا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا َلا تَفْعَلُونَ ? ] الصف: 2-3 [.[10]
رابعا: تصميم برامج وأفلام تخاطب فئة الأطفال والمراهقين يتم بثها على الفضائيات الإسلامية. فالأطفال والمراهقون هم أكثر الفئات العمرية احتياجا لوجود القدوة في حياتهم، نظرا لاحتياجهم الشديد في هذه المرحلة العمرية لمن يقلدونه. كما أنهم أكثر المراحل العمرية تأثرا بمن يقتدون به. وحيث إن الساحة تزخر حاليا بوجود أفلام الكارتون الغربية التي تربي الأطفال على عادات وقيم الغرب، فإننا بحاجة لوجود مثل هذه النماذج الإسلامية في حياتنا.
6 من جمادى الأولى عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 13 من يونيو عام 2005 ).
-------------------------------
[1] صحيح. رواه مسلم في صحيحه (1017/69) و(1017/70) و(1017/71)، والنسائي في سننه (2553). والرواية الأولى هي رواية مسلم، وفي أخرى له: قال: " جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم ... فذكر بمعناه ". أخرجه مسلم. وأخرج النسائي الرواية الأولى، وليس عنده: " مُجتابي النمار، أو العباء "، وزاد " حفاة "، وقال: " مذهبة ". وانظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ح [4663]، 6/543-544. أما الرواية الثانية فقد رواها الترمذي في سننه وصححها (2675)، وابن ماجه في سننه (202)، وانظر جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ح [7319]، 9/523. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، 6305.
[2] د/ عمر عبد العزيز، أحاديث مقلوبة بين تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، ص: 37.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم: 4/112-113.
[4] قال السيوطي في حاشيته على سنن النسائي ( 5/79 ): ( كأنه مذهبة ): قال في النهاية: فإن صحت الرواية، فهو من الشيء المذهب، وهو المموه بالذهب، ومن قولهم: فرس مذهب، إذا علت حمرته صفرة، والأنثى مذهبة. وإنما خص الأنثى بالذكر، لأنها أصفى لونا وأرق بشرة.
[5] والأدق: استخرابهم!!
[6] محمد أحمد الراشد، المنطلق، ص: 238.
[7] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/90.
[8] عائض القرني، مفتاح النجاح، ص ص: 17-19.
[9] د/ عبد الودود شلبي، من شيخ أزهري إلى شيخ الأزهر: الأزهر إلى أين؟، ص ص: 133-134.
[10] د/ سعيد قابل، القدوة منهاج ونماذج، ص ص: 178-180.
ـــــــــــــــ(1/90)
مقومات الداعية الناجح
بقلم الدكتور
علي بن عمر بن أحمد بادحدح
مقدمة المؤلف
الحمد لله جعل الداعي إليه أحسن الناس قولاً ،والمجاهد في سبيله من أفضل الناس عملاً، والصلاة والسلام على أعظم من دعا باللسان، وأشجع من جاهد بالسنان، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان ، أما بعد ..
فإن الدعوة إلى الله سبب الهداية المأمول، وطريق السعادة المأهول، وبها يقع تذكير الغافل، وتحريك الخامل، وهي مفتاح الفهم، ومقدمة العلم، ومدخل العمل، وهي مهمة الأنبياء والمرسلين وسبيل أتباع النبي الأمين، وشرفها وفضلها معلوم، وخيرها وأثرها ملموس.
لا حاجة لبسط القول أو التدليل على أن الدعوة في عالمنا المعاصر تمر بمرحلة صعبة بل عصيبة لأن هذا الأمر ظاهر للعيان، وتعاني الدعوة مشكلات عديدة منها العداء الخارجي والتكالب العالمي الذي يسعى إلى وأد صوتها ومحاصرة نشاطها، ويهدف إلى تشويه صورتها وتجريم حملتها، فالدعوة إلى الله يجعلونها عنصرية تتنافى مع الإخاء، وعصبية تتعارض مع التسامح، والدعاة إلى الله يصورونهم على أنهم قساة غلاظ، لا مجال عندهم لرحمة أو رأفة، هذا إضافة إلى العمل الدائب للمواجهة المباشرة للدعوة والدعاة .
ومن جهة أخرى فإن للدعوة معاناة من بعض حملتها أو المنتسبين إليها، فواحد يسيء من جهة جهله، وآخر من جهة سوء فهمه وثالث من جهة ضيق أفقه، ورابع من جهة شدة أسلوبه وهكذا؛ إضافة إلى وجود بعض الخلل ونقص في العمل في صورة الشاملة الواعية للدعوة بحيث تواكب العصر بالاستفادة من معطياته، والتأقلم مع مستجداته، وحسن المواجهة لعقباته، وجودة التخطيط والإعداد لمتطلباته، كما تراعى الأصول وتستلهم التاريخ وتستنطق التجارب وتستفيد من الأعلام بما يجعل جذورها راسخة، وقواعدها واضحة .
ونظراً للظروف الآنفة الذكر يكون من الواجب إعمال الفكر وتبادل الرأي حول السبل الكفيلة لنجاح الدعوة وتحقيق أهدافها، وحمايتها من كيد الكائدين من الأعداء وجهل الجاهلين من الأحباء، ومن هنا كنت كثير التفكير في مثل الموضوع فكتبت حول نجاح الداعية وقبول دعوته وتأثير شخصيته مقالاً نشرته في إحدى الصحف، ثم في مناسبات متعددة تحدثت عن عناصر نجاح الدعوات، وما زلت أدندن حول هذه المفاهيم والأفكار وألقي عنها كلمات وأدوِّن فيها ملحوظات .
وهذا الكتاب الذي بين يديك هو صدى وترجمة لتلك الأفكار، وما كان ليرى النور لكثرة الأشغال، وتزاحم الأعمال، ولكنني دُعيت للمشاركة في أحد الملتقيات وطلب مني إعداد بحث بعنوان (( مقوِّمات الداعية الناجح )) فكانت هذه الصفحات، التي كتبتها وأنا في ظروف صعبة أثناء انشغالي التام بالمراحل النهائية لإعداد رسالة الدكتوراة، وللتوضيح أقول إن هذا البحث عددت مادته، ورتّبت فصوله وأتممت صياغته في أقل من شهر، وكنت أود قبل طباعته أن أضيف إليه وأزيد فيه ما استجد في الذهن من أفكار، وما تجمّع في الموضوع من نصوص ولكنني تركت ذلك لئلا تتأخر الطباعة، ولعل ذلك يكون في طبعة قادمة بمشيئة الله تعالى .
وحيث قد وصفت لك- أخي القارئ - ظروف البحث ومدة إعداد إضافة إلى ما هو معلوم من قصور الإنسان، لذا فإنني أرجو أن أحظى منك بما تراه من تصويب لخطأ، أو استدراك لنقص، أو فوائد وزوائد تتفضل بإهدائها لي، وهذا مما يسعدني ويثلج صدري، كما ينفعني ويغني فكري ويزيد علمي .
وأخيراً أرفع أجزل الشكر، وأعطر الثناء، وأعظم الحمد، للمولى جلّت قدرته على توفيقه وامتنانه، ثم أثني بالشكر لكل من ساعدني في الإعداد ونقل النصوص وأخص منهم زوجتي وبنات أخي الثلاث، وأشكر دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع على ما قامت به من جهود في تصويب النص وتصحيح أرقام الحواشي وحسن الإخراج، إذ كان البحث في صورته الأولى المستعجلة مليئاً بالأخطاء والاضطراب، كما أشكر من شرفوني بمطالعة البحث عسى الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، وأن يغفر لي ما لا يعلمون .
اللهم هذا جهد المقلِّ، وبضاعة المقصِّر تقبّلها بفضلك، وتجاوز عن نقصها بعفوك . وما كان في ذلك من إتقان وإحسان ففضل منك وإنعام، وما كان من خلل أو زلل فغفلة أو استزلال شيطان . فأقل - يا رب- عثرتي، واغفر زلّتي يا أرحم الراحمين .
أبو الحسن علي بادحدح
جدة 18/5/1417هـ
الفصل الأول : دلالة الموضوع وأهميته:
رأيت من المناسب الوقوف على عنوان البحث ومعرفة معاني مفرداته ودلالاته قبل الخوض في مضمون الموضوع وتفصيلاته .
عنوان البحث ((مقومات الداعية الناجح))، ومن هنا سنقف أمام مدلولات الكلمات الثلاث.
المبحث الأول : دلالة عنوان الموضوع :
أولاً : المقوّم
أصل الكلمة الثلاثي هو قَوَمَ وأحد معانية الانتصاب والعزم . معجم مقاييس اللغة (5/43) ومن أبرز الاستعمالات اللفظية بهذا الأصل((قيام)) والقيام يجئ بمعنى المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى ]الرجال قوامون على النساء[ لسان العرب (12/497) النساء [34] وقام الأمر: اعتدل وأقام الشيء أدامه القاموس المحيط (4/168)، وأمر قيم : أي مستقيم ( المحكم لابن سيده (6/366) ، وقوام الأمر (بالكسر) نظامه وعماده (لسان العرب (12/499) ، وقيم الأمر: مقيمه، والقيم: السيد وسائس الأمر(لسان العرب12/502)، ومقوم الشيء وقوامه بمعنى واحد .
فالمراد بمقومات الداعية الناجح الأمور التي هي العماد لنجاح الداعية ليقوم بالدعوة، منتصباً لها عازماً ومحافظاً عليها، مستقيماً معتدلاً في أدائها، قائماً بشؤونها سائساً لأمورها حتى يكون قيامه بها خير قيام يتحقق به المقصود.
ثانياً: الداعية
أصل الكلمة الثلاثي (دٍٍَِِعَوَ)والدعوة المرة الواحدة من الدعاء، والدعاء إلى شيءٍ ما هُو الترغيب فيه والحث عليه كما في قوله ]والله يدعو إلى دار السلام[ يونس [25] أي يرغب في الجنة ويقال دعا يدعو فهو داع والمرة منه دعوة وفي قوله تعالى ]وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً[ الأحزاب[46] أي داعياً إلى توحيد الله فالداعي هو الذي يدعو إلى أمر ما، والجمع دعاة وداعون والداعي والداعية واحد، والهاء فيه للمبالغة .
فالداعية إذن هو المؤهل القائم بترغيب الناس في الإسلام وحثهم على التزامه بالوسائل المشروعة .
وهذا يوضح أن موضوع الدعوة هو الإسلام كله عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملة، وأن المدعوون هم جميع الناس كل بحسبه فالكافرون يُدعون إلى الإسلام، والمقصرون يُدعون إلى صدق الالتزام، والعصاة يُدعون إلى ترك الذنوب والآثام وهكذا .
قال ابن تيمية في تعريف الدعوة :((والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله وبتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا))(مجموع فتاوى ابن تيمية (15/157) عرَّفها بعض المعاصرين بقوله ((تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم وتطبيقه في واقع الحياة))(المدخل إلى علم الدعوة (ص/17)، وأوجز الطبري القول وأبلغ في المعنى حين قال عن الدعوة: ((هي دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل))(تفسير الطبري (11/53).
ثالثاً : النجاح :-
أصل الكلمة الثلاثي ((نجح)) وهو أصل يدل على ظفر وصدق وخير(معجم مقاييس اللغة (5/390) والنُّجح والنجاح الظفر بالشيء ونجح المرء إذا أصاب طلبته ونجح الأمر إذا تيسر وسهل ورجل نجح :منجح الحاجات ورأي نجيح أي صواب (لسان العرب (2/612،611)، الصحاح (1/409)، القاموس المحيط (1/251) .
فالمقصود هو تحقيق غاية الدعوة، والتوفيق لحصول التيسير في الدعوة وقبولها، ومعلوم أن النجاح الأتم في الدعوة هو قبول الحق والعمل به، ورفض الباطل والإقلاع عنه، فهو قناعة نظرية واستجابة عملية ولكن حصول الإعراض وعدم القبول ليس دليلاً على عدم نجاح الداعية إذ أن الهداية من عند الله ]إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء[ القصص [56] ونعلم حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : ((يأتي النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد)) أخرجه البخاري ،كتاب الطب، باب: من كوى أو كوى غيره (10/155)، ومسلم في كتاب الإيمان ،باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (1/199) وهذا قطعاً لا يدل على عدم نجاح هؤلاء الأنبياء وإنما يدل على عدم وجود القابلية عند المدعوين وطمس الله لبصائرهم وطبعه على قلوبهم .
فالنجاح إذن هو القيام بالواجب على الوجه الأكمل وكثيراً ما تتحقق به النتائج وقد تتخلف لحكمة عند الله . وبهذا يتضح مدلول عنوان الموضوع ((مقومات الداعية الناجح)) وأن المراد تسليط الضوء على الأسس اللازم توافرها للداعية في شخصيته وممارساته ومفاهيمه التي تؤدي إلى حصول الهداية وتحقق أثر الدعوة.
المبحث الثاني : أهمية الموضوع :
مما يتقدم عرفنا أن الموضوع يتعلق بما يقوم بالداعية من صفات ومهارات يتحقق بها هدف الدعوة وتحصل الاستجابة، ولا شك أن الاستجابة للداعية ثمرة عظيمة لأنه مبلغ عن الله جل جلاله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومقرر لأحكام الإسلام، ومؤدي ذلك تحقق الاستجابة لله وللرسول، والالتزام بالإسلام ولهذا فإن لهذا النجاح آثار كبيرة محمودة تجعل للبحث في هذا المجال أهمية كبرى وإليك بعض ما ينبئ عن ذلك :
1_ الأجر الجزيل :
يقول الحق تبارك وتعالى :]ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من مسلمين[ فصلت [33] ، فهذا ثناء لمن دعا دون ارتباط بالنتيجة فكيف إذا حصلت الاستجابة، إن الأجر حينئذ أعظم وأجزل كما أخبر عليه الصلاة والسلام في قوله: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، باب: مناقب علي بن أبي طالب، الفتح (7/70) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب (النووي) (15/178) وهذا في هداية الواحد فكيف بهداية الجمع من الناس ؟ الأجر حينئذ يزداد ويتضاعف كما أرشد إلى ذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((من دعا إلى هدى فإن له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)) أخرجه مسلم في كتاب العلم،باب :من سن سنة حسنة أو سيئة (النووي 16/227).
2- انتشار الخير :
إن نجاح الداعية وانتشار الدعوة يزيد من انتشار الخير بكثرة ملتزميه والدعاة إليه، والثابتين عليه،وعندما تتزايد هذه الدوائر ويتكاثر أفرادها تكون سبباً من أسباب رضوان الله عز وجل وتنَزّل نصره، وحصول التغيير الصالح في الأمة ضمن السنة الإلهية الماضية: ]إن الله لا يغير ما قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[ الرعد[11] ، ومن جهة أخرى فكلما أقبل على الخير واستجاب للدعوة نفر من الناس بما يحققه الله من نجاح للدعاة فإن ذلك يورث عند الآخرين قناعة عميقة، وحماسة قوية للمتابعة من خلال كسر حاجز التردد أو الرهبة، وخوف التفرد بالالتزام ، ومخالفة التيار العام ، كما أن انتشار الخير يبرز صورة مشرقة للمسلمين الملتزمين من خلال سلوكياتهم في سائر شئون الحياة وهذا له أثر مضاعف في مزيد من الإقبال على الالتزام .
3- مغالبة الباطل:
إن كل نجاح للدعوة في فكر وسلوك إنسان هو هزيمة للباطل الداعي إلى طرق ومناهج الشيطان ، وإن كل وجود فاعل للدعوة في ميدان من ميادين الحياة هو غيظ ونكاية في أعداء الله، فالحرص على نجاح الداعية في غاية الأهمية لحماية الأمة من شرور الباطل، والعمل على تحجيم آثاره ، وتقليل أضراره ، وتوهين أنصاره .
ومن المعلوم أنه ((يجب محاربة المبادئ الهدامة من اشتراكية وبعثية وتعصب للقوميات وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة وبذلك يصلح الله المسلمين ما كان فاسداً، ويَردُّ لهم ما كان شارداً ، ويعيد لهم مجدهم السالف وينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض)) مجموع فتاوى ابن باز(1/392) ومن هنا يلزم (التأكيد على دعاة الإسلام وحملته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة والدعوة إلى الإسلام والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره وتبيين زيفه حيث إن الأعداء جنَّدوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم وأوجدوا المنظمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدس على المسلمين والتلبيس عليهم فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها وعرض الإسلام عقيدة وتشريعاً وأحكاماً وأخلاقاً عرضاً شيقاً)) مجموع فتاوى ابن باز (1/392)، فتوفر أسباب نجاح الداعية يعني غلبة الحق وانتصاره وهزيمة الباطل واندحاره .
4- الحماية من المفاهيم والأعمال الخاطئة:
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح وأسباب الفلاح قد يؤدي إلى الفشل والإخفاق ويتولد من أثر ذلك بعض المفاهيم والأعمال الخاطئة ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أ- الحكم العام بفساد الناس وذلك أن بعض الدعاة - لقلة في فهمه أو ضعف في إيمانه أو تقصير في عمله - يتوالى عليه الفشل ويلقى الإعراض والنفور من الناس ،وبدلاً من أن يصبر أو ينقد نفسه ويغير أسلوبه، ويعالج خطأه نراه ينحي باللائمة على الناس ، ويحكم عليهم بالفساد والاستعلاء عن الحق ، وأنهم أعداء لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك مما يحذر منه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الصحيح الذي قال فيه: ((إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم)) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب : النهي عن قول هلك الناس ، (النووي 16/17).
ب- حصول الإحباط واليأس في نفوس بعض الدعاة لتكرار الفشل، وانطوائهم بعد ذلك على أنفسهم ،ثم اعتزالهم الناس وتركهم الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وربما كان فشلهم في كثير من الأحوال ناشئاً عن جهلهم بأساليب وأسباب النجاح في الدعوة .
الفصل الثاني : عناصر التأثير :
المبحث الأول الميل العاطفي والمحبة القلبية :
إن لمحبة تقود إلى المتابعة للمحبوب، وتقديمه على من سواه ،وتلمس موافقة هواه، ولذا قيل في تعريف المحبة إنها ((إيثار المحبوب على جميع المصحوب ،وقيل :موافقة الحبيب في المشهد والمغيب وقيل :اتحاد مراد المحب ، ومراد المحبوب وقيل: إيثار مراد المحبوب على مراد المحب وقيل : هي بذلك المجهود فيما يرضي الحبيب)) روضة المحبين (ص:19-21) .((والحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والفعل الظاهر فيما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/541) ولذا فإن صاحب الرسالة يتحبب إلى المدعوين ، ويسعى إلى كسب محبتهم له وميل قلوبهم إليه ، لأن ذلك أعظم عون على قبولهم منه واتباعهم له ، وبدونه لا يحصل التأثير الإيجابي بالمتابعة ولو أقيمت الحجج ونصبت الأدلة لأن البغض للداعي يصد عن قبول دعوته وإن كانت حقاً :]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك[ آل عمران[159] فالاستجابة والمتابعة أعظم مقتضيات المحبة ،وهما في الوقت نفسه أعظم آثارها .
وإذا تمكنت المحبة فإنها تورث تعلقاً عجيباً بالمحبوب يدفع إلى فعل مقتضاها من الموافقة وإن كان في ذلك مضرة ظاهرة أو إعراض عن محبوبات أخرى هي أكثر أهمية، ويتحمل المحب في ذلك ما يلقي من المعارضة والملامة، وهذا ما يعرف من حال المحبين والعشاق وهو الذي يفسر ما ملئت به سيرهم من الأخبار والأحوال، وليس هذا في عشق ومحبة الصور المحسوسة من البشر، بل هو واقع في المعاني أيضاً فكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به، ولا يقبل فيه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم ، وأما عشاق العلم فأعظم شغفاً به ، وعشقاً له من كل عاشق بمعشوقه)) روضة المحبين (ص :69)وبالجملة ((فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة ،فهو أصل كل فعل ومبدؤه، كما أن البغض والكراهة مانع وصاد لكل ما انعقد بسببه ومادته))جامع الرسائل والمسائل (2/193).
ومما يقوي أثر المحبة من الموافقة والاتباع ((حصول اللذة والنعمة والفرح والسرور وقرة العين به على قدر قوة محبته وإرادته والرغبة فيه)) روضة المحبين (ص/156،155) ويلحق بذلك أن المحبة توقد نار الشوق فيبقى القلب بالمحبوب ومطلوبه مشغولاً، والعقل في أمره مفكراً (والشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال)) تهذيب مدارج السالكين (ص:525) .
وهكذا نجد للمحبة أثرها العظيم في الفكر والسلوك، (( والمحبة والإرادة أصل كل دين سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والإرادة أصل ذلك كله)) جامع الرسائل والمسائل (2/218) ، ((وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها)) المصدر السابق (2/235) علمنا أهمية هذا العنصر.
ومن منا كان الهوى في غير مرضاة الله خطراً عظيماً بل هو شرك محض وألوهية باطلة كما قال تعالى ]أفرأيت من اتخذ إلهه هواه[ الجاثية [23] ، وبالجملة فعاطفة المحبة من أعظم عناصر التأثير سلباً وإيجاباً ، ومن ثم كان الحرص على كسب القلوب واستجلاب المحبة في طاعة الله معيناً على الاستجابة للخير، والقبول للدعوة ، وإذا وجهت المحبة لله وطاعته فذلك غاية عظمى ، إذ أن محبة الله ((هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون ، وإلى عَلَمها شمر السابقون ، وعليها تفانى المحبون ، وبروح نسيمها ترّوح العابدون ، فهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون ، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات ، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام ، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام)) تهذيب مدارج السالكين (ص/509) ، والمقابل على الضد من ذلك ((فهو عن الخير صاد ، وللعقل مضاد ، لأنه يُنتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً ، ومدخل الشر مسلوكاً)) أدب الدنيا والدين (ص: 33) .
المبحث الثاني : الإقناع العقلي والحجة العلمية :
الهوى يهوي بصاحبه والعقل - بإذن الله -يعصمه ، والعقلاء يحكمون عقولهم في أهوائهم ، وهذا تصرف الرجال فقد يُحب القلب فعلاً معيناً وتهوى النفس سلوكاً محدداً ، فيعترض العقل بالنظر في البواعث ، والتأمل في العواقب ، فيكبح جماح الهوى إذ أنه ((لما كان الهوى غالباً ، إلى سبيل المهالك مورداً ، جعل العقل رقيباً مجاهداً، يلاحظ عثرة غفلته ، ويدفع بادرة سطوته ، ويدفع خداع حيلته ، لأن سلطان الهوى قوي ، ومدخل مكره خفي)) أدب الدنيا والدين (ص:35) ((وإذا كانت الدولة للعقل سالمهُ الهوى ، وكان من خدمه وأتباعه ، كما أن الدولة إذا كانت للهوى ، صار العقل أسيراً في يديه ، محكوماً عليه)) روضة المحبين (ص:10)((وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه ، وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت ، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، ومنهم من يكفه بخيط)) صيد الخاطر(ص:164) .
وربما لا تكون هناك محبة ولا ميل في النفس ابتداء ولكن الحجة والبرهان يحصل بها قناعة العقل التي تزين الفعل أو الرأي للنفس وتحببه إلى القلب ، فالقناعة لها تأثيرها الذي لا ينكر في دفع الإنسان لاتخاذ الموافق والآراء ، وممارسة الأفعال ، أو الامتناع من ذلك ، وتلك مزية العقل الراشد الذي هو من أهم البواعث ((فلا يسمي عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه ، ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ماله عقل)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/24) والمحبة والعقل إن اتفقا عظم الأثر وان اختلفا فمالت المحبة لما حكم العقل بفساده فمآل الأمر إلى غلبة أحدهما بقوته ، وتمكنه ، فقد يقرر العقل ضرر الفعل لكنه يضعف ويغلبه الهوى بباعث حب اللذة ، وقوة الشهوة (وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره وترك ما يعلم أنه ينفعه لما في نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال ، وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية ، لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده ، بل عنه وعما في النفس من حب ما ينفعها وبغض ما يضرها ، فإذا حصل لها مرض ففسدت به أحبت ما يضرها ، وأبغضت ما ينفعها ، فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/540) و ((مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة ، ويحث على الميل للشهوات عاجلاً ، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل ومنع اللذات في الأجل)) ذم الهوى (ص: 13،12).
وهذا يوضح أثر العقل وقناعته في توجيه الآراء والسلوكيات ، مع عدم إهمال أثر القلب وعاطفته ، إذ قد توافق فيقوى التأثير ويتمكن ، أو تخالف فتكون هناك المغالبة ثم الغلبة .
المبحث الثالث : القدوة الحية والنموذج المتحرك :
لا يخفى أبداً أثر القدوة فهي الصورة الحية للفكرة ، والتطبيق العلمي للدعوة ، والتوضيح الجلي للحجة ، ولا شك أنها من أعظم أسباب بذر المحبة في القلوب ، ووجود القناعة في العقول ((وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة ولا سيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها)) مجموع فتاوى ابن باز (3/110).
والعكس صحيح فلو وجدت المحبة ، وأقيمت الحجة ، وبذلت الدعوة كان لتخلف القدوة ووجود ما يعارض مقتضى الدعوة أثره في ضعف التأثير ونقص المحبة ، وزعزعة القناعة ومعلوم ((أن التأسي بالأفعال - بالنسبة لمن يعظّم في الناس - سرٌ مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون عن الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ولا سيما عند الاعتياد والتكرار)) الموافقات (4/248-249) ورحم الله ابن القيم حيث أبدع في بيان عكس هذه الحقيقة عندما قال : ((علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطريق)) ولله در هرم بن حيان حيث حذر من العالم الفاسق فكتب إليه عمر رضي الله عنه يسأله عن مراده فقال : ((يكون إمام يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق ، ويشبه على الناس فيضلوا)) نزهة الفضلاء (1/329،328).(1/91)
وفي كثير من الأحيان تكون القدوة الحسنة مغنية عن كثير من أساليب الترغيب والتشويق وأسباب تحصيل المحبة ، وكذلك تعفي من الاستكثار من الاستدلال ، وإقامة الحجة والمناظرة والجدال ، إذ يتحقق من خلال القدوة الكثير من ذلك بشكل تلقائي وبصورة أعمق وأثبت حيث أن القدوة ((تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي)) القدوة مبادئ ونماذج (ص :11) لأن ((المثال الحي المرتقي في درجات الكمال يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقرير والمحبة ، ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة والمنافسة الشريفة)) القدوة مبادئ ونماذج (ص:8 ) فيحصل التأثر والاقتداء وتكون الاستجابة قوية وهي في الوقت نفسه سهلة وتلقائية ، ((حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك من السؤال في كثير من الأعمال)) الموفقات (4/271،270) ولله در ابن القيم حيث قال : ((إن الناس قد أحسنوا القول فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبِّخ نفسه)) (الفوائد (ص:192) .
وبهذا تتكامل عناصر التأثير فإذا اجتمع مع محبة الفعل اقتناع العقل بثمرته وفائدته وأضيف إليهما قدوة يتمثل فيهما الفعل فإن التأثير يكون قد بلغ مبلغه .
ولا بد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة وخطورة انعدامه حيث ((يستطيع الإنسان أن يكون عالماً جهبذاً في الكيمياء أو العلوم أو الطب أو الهندسة أو غير ذلك من العلوم التي أمرنا الله بتعلمها لتعمر الدنيا ولكن هذه العلوم لا تتطلب منا قيداً سلوكياً ، فقد تكون عالماً في أي فرع من هذه العلوم وسلوكك تبعاً لهواك ولكن هذا لا يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك لأن النبوغ لا يضع قيداً على الأخلاق إلا علم الدين فإنك إن كنت من علمائه أو الداعين إليه أو المتدينين المخلصين لا بد أن تكون قدوة حسنة لما تدعو إليه وإلا ما استمع إليك أحد)) الدعوة قواعد وأصول (ص:111) .
ولله در القائل :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وحسب المسلم قول الله تعالى :]يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقول مالا تفعلون[ الصف [3،2] .
الفصل الثالث : مقومات النجاح في تكوين الداعية
في هذا الفصل أسلط الضوء على المقومات الشخصية اللازمة في تكوين الداعية ليتأهل للنجاح في دعوته ، فالمقصود هو بيان ما يلزم الداعية أن يتحقق به في ذات نفسه، وأن يوجده ويكلمه في سماته وصفاته كأساس لا بد منه قبل أي مقومات خارجية تتصل بالمدعوين أو بيئة الدعوة أو موضوعاتها .
وإن هذه المقومات كثيرة ويمكن أن يطول الحديث في سردها وعرضها وتكون بمثابة استعراض لواجبات وآداب الإسلام مما يفقدنا معرفة الأولويات والأهمية الكامنة في بعض المقومات ،ولذا اجتهدت بعد التأمل والتفكير، أن أسلط الضوء على أربعة مقومات هي الأكثر أهمية وشمولية ويندرج تحتها كثير من الصفات الأخرى .
المبحث الأول : التميز الإيماني والتفوق الروحاني :
إن التميز في مجال الإيمان عقيدةً صحيحةً ، ومعرفةً جازمةً ، وتأثيراً قوياً يعد- بلا نزاع - أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للداعية ، لكي يكون الداعية عظيم الإيمان بالله ، شديد الخوف منه ، صادق التوكل عليه ، دائم المراقبة له ، كثير الإنابة إليه ، لسانه رطب بذكر الله ، وعقله مفكر في ملكوت الله ، وقلبه مستحضر للقاء الله ، مجتهد في الطاعات ، مسابق إلى الخيرات ، صوام بالنهار قوّام بالليل ، مع تحري الإخلاص التام ، وحسن الظن بالله وهذا هو عنوان الفلاح ، وسمت الصلاح ، ومفتاح النجاح ، إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من الله فإذا بالداعية مسدد ، إن عمل أجاد ، وإن حكم أصاب ، وإن تكلم أفاد .
وهذا الباب واسع الجوانب متعدد المستلزمات ، وحسبي أن أبرز أهم هذه الجوانب :-
أولاً : عظمة الإيمان بالله :
أساس كل أمر هو تجريد التوحيد ، والبعد عن الشرك ولا بد أن يكون الداعية صحيح الإيمان ، خالص التوحيد ، عنده من العلم ما يعرِّفه بالله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وأن تستقر هذه المعرفة في سويداء قلبه ، وتملك عليه أقطار نفسه ، وتجري مع الدماء في عروقه ، وأن ينعكس ذلك على سائر أحواله فتنضبط به أفكاره وآراؤه ، وتُحكم به كلماته وألفاظه ، وتُقوَّم به أفعاله وأعماله ، ويجمع ابن القيم هذا المعنى في عبارة أشمل وأعمق حيث يقول في بيان المراد أنه ((التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده ، واجتناب نهيه ، ودوام الافتقار إليه ، واللجأ إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وعياذ العبد به ولياذه به ، وأن لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاءً ، وفيه أيضاً أنه عبد من جميع الوجوه : صغيراً وكبيراً ، حياً وميتاً ، مطيعاً وعاصياً معافى ومبتلى ، بالروح والقلب واللسان والجوارح ، وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما يملك لسيده ، وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت علي بكل ما أنا فيه من نعمة فذلك كله من إنعامك على عبدك ، وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك ، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده وإني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة)) الفوائد (ص:35،34) ، ولا يتصور للداعية نجاح وتوفيق ، أو تميز وقبول دون أن يكون حظه من الإيمان عظيماً ((إذ كيف تدعو الناس إلى أحد و صلاتك به واهية ومعرفتك به قليلة)) مع الله (ص: 188) .
وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب ، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال فإن ((عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه ، بحيث يصير ذكره وحبه ، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهم كله به ، والخطرات كلها بذكره ، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه ، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ، ولا ما يفرح به سواه)) زاد المعاد (2/87) ، كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار الإيمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها :-
1_ التحرر من عبودية غير الله :
الإيمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الأرض ، وكل شهوات الدنيا ، ويصبح حراً لا سلطان لأحد عليه إلا لله ، فلا يخاف إلا الله ، ولا يذل إلا لله ، ولا يطلب إلا من الله ، ولا يأمل إلا من الله ، ولا يتوكل إلا على الله ، وللإيمان تأثير كبير في أعظم أمرين يسيطران على حياة البشر وهما : الخوف على الرزق ، والخوف على الحياة .
أما الأول : فلا يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال ، وكم شغل الناس حبُّ المال ، وكم باع أناس مبادئهم ، وخانوا أمتهم وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذَّهب بأبصارهم وسبى قلوبهم ، أما المؤمن فحقائق الإيمان تملؤ قلبه فلا يتأثر بشيء من هذا لأن في قلبه قول الحق جل وعلا ]وفي السماء رزقكم وما توعدون[ الذاريات[22] ولأنه يعلم من بيده الرزق ]فابتغوا عند الله الرزق واعبده واشكروا له[ العنكبوت[17] وأنه لا يملك أحد من البشر من ذلك شيئاً ]إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً[ العنكبوت [17] وفوق ذلك يعلم حقيقة الرزق في الدنيا وقيمته المحدودة ويرتبط بقوله تعالى ]ورزق ربك خير وأبقى[ طه [131] وقوله ]إن هذا لرزقنا ماله من نفاد[ ص [54] وحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) أخرجه الترمذي كتاب الزهد ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله ، حديث رقم (2320) ومن هذه المنطلقات الإيمانية قال الشافعي رحمه الله :
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً
وأما الثاني : فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله ، وأنه لا ينجي حذر من قدر ، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وأن الموت ليس بالإقدام وأن السلامة ليست بالإحجام بل كما قال تعالى ]أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة[ النساء [78] ومن هنا يتميز المؤمن عن غيره ، فبينما ترتجف القلوب وتنسكب الدموع ، وتعلو التوسلات ، وتقدَّم التنازلات ، حرصاً على الحياة ، نجد المؤمن كالطود الشامخ يهتف مع خبيب بن عدي قائلاً :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ويتذكر قول علي بن أبي طالب :
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قُدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
ويتذكر المؤمن حال أنس بن النضر يوم شمَّ رائحة الجنة في أحُد فمضى في شوق إلى عناق الموت ، ويدرك عمق إيمان عمير بن الحمام عندما استطال - لأجل أكل تمرات - هذه الحياة ، ويقف على سرّ الإيمان العظيم عندما يهتف الشهيد قائلاً : فزت ورب الكعبة ، ولا ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهدَّودا بالموت هتفوا قائلين ]اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا[ طه [72] .
2- الخشية من الله :
وهي من أعظم آثار الإيمان وأبرز أوصاف المؤمنين ]الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون[ الأنبياء [49] ]الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله[ الأحزاب [39] وقدوتهم في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول : ((إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)) أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، كتاب الترغيب للنكاح (الفتح :9/104) ، ((والخشية أخص من الخوف ، فهي مقرون بمعرفة)) تهذيب مدارج السالكين (ص:269) وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن الغافلين والعابثين لأن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله ، فقهُ ذلك أنطق إبراهيم بن سفيان بالحكمة فقال: ((إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها)) تهذيب مدارج السالكين (ص:270) وقال الفضيل بن عياض :((من خاف الله لم يضره أحد ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد)) نزهة الفضلاء (2/661) وهذه الخشية دافعة للطاعة ((وما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله)) نزهة الفضلاء (1/513) والداعية له رتبة عليا من الإيمان ((تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة تخامر نفسه أمام ذي سلطان)) مع الله (ص:190) .
والخشية أساس مراقبة الله ترقي بالمؤمن إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه .
ثانياً : الإخلاص لله :
((الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله)) مع الله (ص:201) وهو ((في حقيقته قوة إيمانية ، وصراع نفسي ، يدفع صاحبه - بعد جذب وشد - إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية ، وأن يترفع عن الغايات الذاتية ، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكوراً)) صفات الداعية النفسية (ص:12) فالمخلصون ((أعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ،ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده)) تهذيب مدارج السالكين (ص: 68) والإخلاص للداعية ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر ، وهو استجابة لأمر الله ]وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين[ البينة [5] ، وفي تركه خوف من الحرمان برد الأعمال ومنع التوفيق لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) أخرجه مسلم ، كتاب الزهد ، باب الرياء (النووي)(18/115) وفيه وقاية من عذاب الآخرة الذي توعد به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من عمل بلا إخلاص عندما ذكر أول ثلاثة تسعّر بهم النار وهم قارئ وغني ومجاهد لم يقصدوا بأعمالهم وجه الله (أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب من قاتل للرياء والسمعة واستحق النار (عبد الباقي)(3/1514،1513).
فلا بد والأمر كذلك من تحري الإخلاص والحذر مما يضاده فإنه ((لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت)) الفوائد (ص:195) ((والمفروض أن الداعية العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه في الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق)) مع الله (ص:190) والإخلاص يجعل للكلمات حيوية مؤثرة ، وللدعوة قولاً سريعاً .
ثالثاً : حسن الصلة بالله :
والمقصود بها إقامة الفرائض ، والاستكثار من النوافل ، والاشتغال بالأذكار ، والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية ، والحرص على المناجاة الربانية ، وغير ذلك من القربات والطاعات ، لأن العبادة زاد يتقوى به الداعية ، فالصلاة صلة بينه وبين مولاه ، ولا مناص من تميزه في حرصه عليها ، وتبكيره إليها ، وخشوعه فيها ،وتطويله لها ، وشهودها مع الجماعة وله في ذلك قدوات سالفة فسعيد بن المسيب ((ما فاتته الصلاة في الجماعة أربعين سنة)) نزهة الفضلاء (1/370) ((والربيع بن خثيم كان يقاد إلى الصلاة وبه الفالج ، فلما روجع في ذلك قال : إني أسمع حي على الصلاة فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبواً)) نزهة الفضلاء (1/381) ، ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر مع ما ورد في أدائهما خصوصاً من تعظيم الأجر ، وما جاء في فواتهما من التحذير من الإثم والوزر ، وقد ترخص كثيرون في ذلك فلا يهمهم التبكير ، ولا يعنيهم إدراك التكبير ، ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي : ((إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه)) نزهة الفضلاء (1/468) وبماذا يعلقون إذا علموا أن سعيد بن عبد العزيز التنوخي ((كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى)) نزهة الفضلاء (2/611) والحقيقة أن الأمر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير ، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.
والذكر عظيم المنزلة فهو ((منشور الولاية الذي من أعطية اتصل ، ومن منعه عُزل ، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجسام لها قبوراً ، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق ، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منه القلوب)) تهذيب مدارج السالكين (ص:463) ، والذكر هو العبادة المطلوبه بلا حد يُنتهي إليه ]يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً[ الأحزاب [41] وبلا وقت تختص به ]ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى[ طه [130] وبلا حال تستثني منه ]الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم[ آل عمران [91]، والذاكرون هم السابقون إشارة إلى حديث أبو هريرة : ((سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) أخرجه مسلم ، في كتاب الذكر والدعاء ، باب الحث على ذكر الله تعالى (النووي)(17/4) ، في رياض الجنة يرتعون إشارة إلى حديث أنس بن مالك : ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر)) أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب . (انظر الترغيب والترهيب 2/ 408،407)، وبوصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يعلمون (إشارة إلى حديث عبد الله بن بشر ، أن رجلاً قال : ((يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به ؟ قال : لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (انظر الترغيب والترهيب 2/394) ، وبمباهاة الملائكة يسعدون ((إشارة إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جلسوا يذكرون الله ، حيث قال : ولكنه أتاني جبريل وأخبرني أنَّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) أخرجه مسلم، في كتاب الذكر ،باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر (النووي)(17/23).
والاستغفار من أعظم الأذكار وكان المصطفى عليه الصلاة السلام يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة .أخرجه البخاري في كتاب الدعوات ، باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة (الفتح11/101) وأخبر أمته أن ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب)) أخرجه أبو دواد في كتاب الصلاة ، باب الاستغفار (1518)(2/178) ولذا فلا بد للداعية من الأذكار ليحيي الله قلبه ، ولا بد له من الاستغفار ليمحو الله ذنبه .
وأعظم الذكر تلاوة القرآن التي هي من أقوى الصلات بالله التي يحتاجها الدعاة ، ولها أثرها في الواقع الدعوة والحياة ((ومن الصلة بالله إعزاز كتابه وإدمان تلاوته وتدبر معانيه ، وعقد مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها ، والواقع الذي ثوى الناس فيه لتكون هذه المقارنة حافزاً على تذكير الناس بالحق ، وقيادتهم إلى الله، وتأهيلهم . وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه وسكناً لفؤاده وشعاعاً لعقله، ووقوداً لحركته ومرقاة لدرجته)) مع الله (ص:191) والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:((ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ،وبنهاره إذا الناس مفطرون ،وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً)) الفوائد (ص:192) .
والخلاصة أن التميز الإيماني من أعظم أسباب نجاح الداعية ، إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ولا قوة البرهان ولا كثرة الأعوان ، بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه ولا شك ((أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى سبيله ، لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق ، وارتباطهم به أوثق ، وشغلهم به أدوم ، ورقابتهم له أوضح)) مع الله (ص:190) ونحن نريد روحانية إيجابية ، لا انعزالية ترتكز على العبادات والأوراد بعيداً عن التفاعل مع الحياة وما فيها من هموم ومعاناة ، نريد ((روحانية إيجابية تحفزه للتضحية وتستهدف الشهادة وتعمق الحاجة إلى رضا الله لتغدو هاجساً يومياً يلاحق كل مواطن رضاه في عملية تدقيق ومعاناة تجعله يعيش مع عقيدته في أفكاره ومشاعره وفي علاقاته ومطامحه ، فتتحول في داخل ذاته إلى هم يومي متحرك يراقب الأشياء من خلاله ، ويحدد موفقه منها على أساسه)) الحركة الإسلامية هموم وقضايا (ص: 14) .
وهناك تقصير ظاهر لدى بعض الدعاة والجماعات الإسلامية في العناية بهذا الجانب المهم وكثيراً ما يكون ذلك بسبب تضخم العناية بالجوانب الفكرية والسياسية وغيرها ، ولذا صار يرى بعض من ينتسبون إلى الدعوة وهم مقصرون في معرفتهم وصلتهم بالله .
المبحث الثاني : الرصيد العلمي والزاد الثقافي :
وهذا أساس لا بد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة التساؤلات ، وحلول المشكلات إضافة إلى ذلك هو العدَّة التي بها يعلِّم الداعيةُ الناس أحكام الشرع ، ويبصرهم بحقائق الواقع ، وبه أيضاً يكون الداعية قادراً على الإقناع وتفنيد الشبهات ، ومتقناً في العرض ، ومبدعاً في التوعية والتوجيه .
((وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلاَّ بالعلم الذي يدعو به وإليه ،ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي)) مفتاح دار السعادة(1/154) .
والخوض في غمار الدعوة وميادينها فيما لا علم للداعي به ، تترتب عليه آثار وخيمة لأن ((العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح)) مفتاح دار السعادة (1/130) ((ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : ((من عبَد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح))، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ((العلم إمام العمل والعمل تابعه)) ، وهذا ظاهر فإن القصد العمل ، والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى)) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/136،135) .
وطبيعة مهمة الداعي خطيرة ونظرة الناس إليه ، واعتدادهم به ، وأخذهم عنه يجعل أمر العلم ((أشد ضرورة للداعي إلى الله لأن ما يقوم به من الدين ، ومنسوب إلى رب العالمين ، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه ، وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه ، فإذا فقد العلم المطلوب اللازم له كان جاهلاً بما يريده ووقع في الخبط والخلط ، والقول على الله ورسوله بغير علم ، فيكون ضرره أكثر من نفعه ، وإفساده أكثر من إصلاحه وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحلّه الشرع وأوجبه وبما منعه وحرَّمه)) أصول الدعوة (ص:135) ومن أكثر الأمور التي يفتن بها عوام الناس التصرف الخاطئ الذي يصدر من بعض الجهلاء من أهل العبادة والصلاح لأن ((الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله)) مفتاح دار السعادة (2/12)، فهذا يقتدون به من أثر حاله ، فكيف بالداعية الذي يوجههم بحاله ومقاله ، إن افتتانهم به أكبر وأشد.
فضل العلم وثمرته :
لابد للداعية أن يوقن أن ((العلم أشرف ما رغب فيه الراغب ، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب ، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب)) أدب الدنيا والدين (ص:40) والآخذ بالعم آخذ بالبداية الصحيحة إذ العلم مقدم على القول والعمل كما قال تعالى ]فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك[ محمد [19] .(1/92)
وبالعلم يحوز الداعية الرفعة في الميزان الرباني وفق قوله تعالى ]يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات[ المجادلة[11]، والسعي في طلب العلم تحقيق للغاية التي أرادها الله ووجه إليها في قوله ]فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون[ التوبة [122] ،فقد جعل الله الأمة فرقتين ((أوجب على إحداهما الجهاد في سبيله وعلى الأخرى التفقه في دينه ، لئلا ينقطع جميعهم عن الجهاد فتندرس الشريعة ، ولا يتوفرا على طلب العلم فتغلب الكفار على الملة ،فحرس بيضة الإسلام بالمجاهدين ، وحفظ شريعة الإيمان بالمتعلمين ، وأمر بالرجوع إليهم في النوازل ومسألتهم عن الحوادث فقال عز وجل ]فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون[ النحل [43] وقال تعالى ]ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم[ النحل [43] .
وإذا سلك الداعية طريق العلم حظي بالخيرية الربانية الثابتة في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً من طرق الجنة)) سنن أبو داود ، كتاب العلم ، باب الحث على العلم (3641)(4/57) .
وإذا نال الداعية حظاً وافياً من العلم واندرج في سلك طلبة العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراساً يُهتدى به كما قال ابن القيم عن الفقهاء ((إنهم يكون الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يُهتدى في الظلماء ، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء)) إعلام الموقعين (1/9) ، وعندما يتحرك الداعية ناشراً علمه ساعياً بين الناس بالإصلاح ناعياً عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف الذي ذكره الإمام أحمد حين قال :((الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هَدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم)) إعلام الموقعين (1/9) ، وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد التاريخ أنهم ((هم من اهتدى بهم الحائر ، وسار بهم الواقف ، وأقبل بهم المعرض ، وكمُل بهم الناقص ، ورجع بهم الناكص ، وتقوى بهم الضعيف)) مدارج السالكين (3/304) .
ولأهل العلم في بيان شرف العلم وفضيلته مقالات رائعة منها : قول الخطيب في الفقيه والمتفقه : ((قد جعل الله العلم وسائل أوليائه ، وعصم به من اختار من أصفيائه)) الفقيه والمتفقه (2/71).
وأسند قبل ذلك عن محمد بن القاسم بن خلاد قال : ((يقال العقل دليل الخير ، والعلم مصباح العقل ، وهو جلاء القلب من صدى الجهل ، وهو أقنع جليس ، وأسرُّ عشيق ، وأفضل صاحب وقرين ، وأزكى عقدة ، وأربح تجارة ، وأنفع مكسب ، وأحسن كهف ، وأفضل ما اقتني لدنيا واستظهر به لآخرة ، واعتصم به من الذنوب ، وسكنت إليه القلوب ، يزيد في شرف الشريف ، ورفعة الرفيع ، وقدر الوضيع ، أنس في الوحشة ، وأمن عند الشدة ، ودال على طاعة الله تعالى وناه عن المعصية ، وقائد إلى رضوانه ، ووسيلة إلى رحمته)) الفقيه المتفقه (2/71).
وقال أبو هلال العسكري في ((الحث على طلب العلم)) : ((فإذا كنت - أيها الأخ الكريم - ترغب في سمو القدر ، ونباهة الذكر ، وارتفاع المنزلة بين الخلق ، وتلتمس عزاً لا تثلمه الليالي والأيام ، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام ، وهيبة بغير سلطان ، وغنى بلا مال ، ومنعة بغير سلاح ، وعلاء من غير عشيرة ، وأعواناً بغير أجر ، وجنُداً بلا ديوان وفرض ، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفواً وتلق ما يعتمد منه صفواً )) الحث على طلب العلم (ص:43) .
وقال ابن إسحاق بن أبي فروة : ((أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم وأهل الجهاد فأما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل ، وأما أهل الجهاد فجاهدوا على ما جاءت به الرسل)) الفقيه والمتفقه (1/35).
العلم المطلوب :
ليس بالضرورة أن يكون الداعية عالماً جامعاً لكل العلوم ، وليس من شرط الدعوة تمام العلم واستيفاء قدر بعينه منه ، وليست الدعوة مختصة بالعلماء وحدهم دون غيرهم بل كل من علم من أحكام الإسلام شيئاً دعا إليه ،وكل من علم منكراً وعرف دليل حرمته نهى عنه ، وإذا لم يكن الأمر كذلك تعطلت الدعوة ومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسبق أن أوضحنا أن الدعوة ((مشروط لها العلم ولكن العلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ ولا يتبعض ، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض فمن عَلم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية ، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل ، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئاً أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة ، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه)) أصول الدعوة (ص:302) ، وفعل الصحابة الكرام يدل على ذلك ، فالطفيل بن عمرو الدَّوسي ، وأبو ذر الغفاري ، وهما من السابقين إلى الإسلام قاما بمهمة الدعوة بما معهما من أصل التوحيد وبعض ما نزل من القرآن ، وهدى الله بهما فئاماً من الناس ، ولم يصل أبو ذر الغفاري إلى المدينة ويلحق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلاّ في العام السابع للهجرة وكان معه قبيلة أسلم ، وقبيلة غفار قدم بهما مسلمتين ، ونحن نعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : ((بلغوا عني ولو آية)) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (الفتح)(6/572) وقال أيضاً :((نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلِّغها ، فربِّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه الترمذي في كتاب العلم ، باب : ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2658)(5/34).
ومع هذا البيان إلاّ أننا ندرك أن الداعية وقد تصدر للوعظ والإرشاد والتربية والتعليم مطالب بقدر من العلم والثقافة يعينه على مهمته ويؤهله لها وتلخيص المهم من ذلك يتركز في جانبين :-
الأول : الجانب الشرعي :
لا بد للداعية أن يعرف ((أن أولى العلوم وأفضلها علم الدين ، لأن الناس بمعرفته يرشدون وبجهله يضلون)) أدب الدنيا والدين (ص:44) ، وهنا لا بد أن تفرق بين ما يجب تعلُّمه ولا يسع أحداً أن يجهله ، وبين ما يكون تعلمه فرضاً كفائياً ، وقد قيل في بيان معنى كون العلم فريضة على كل مسلم أنه ((على كل أحد أن يتعلمه ما لا يسعه جهله من علم حاله ... وقال ابن المبارك : ((إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيءٍ من أمر دينه يسأل عنه حتى يعلمه)) الفقيه المتفقه (1/45) ثم أوضح الخطيب البغدادي ذلك فقال :(( فواجب على كل أحد طلب ما تلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه ، كل مسام بالغ عاقل من ذكر وأنثى حر وعبد تلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضاً ، فيجب على كل مسلم تعرف علم ذلك .
وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف ما يحل له وما يحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأموال فجميع هذا لا يسع أحداً جهله)) الفقيه المتفقه (1/46).
وأرى للداعية أن يكون عنده الحد الأدنى من العلوم الشرعية الأساسية وأقترح له ما يلي :
علم العقيدة الإسلامية :- أن يتعلم أصول العقيدة من كتاب معتمد مختصر على مذهب أهل السنة والجماعة ككتاب ((لمعة الاعتقاد)) لابن قدامة ، أو ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية ونحوها .
علم التفسير :- أن يطلع على تفسير موجز موثوق يشتمل على معاني الكلمات وأسباب النزول والمعنى الإجمالي ، ويفيد في ذلك بعض المصاحف المطبوع على هامشها أسباب النزول ومعاني الكلمات ، ثم يجعل له زاداً في دراسة متأنية لتفسير بعض السور والأجزاء المكية والمدنية من كتاب معتمد متوسط مثل ((تفسير ابن كثير)) .
علم الحديث :- أن يدرس كتاباً من كتب الحديث الجامعة المختصرة مثل ((مختصر صحيح البخاري)) أو ((مختصر صحيح مسلم)) ، ويمكن أن يطالع كتاباً من كتب الحديث العامة المصونة في جملتها من الأحاديث الضعيفة والمشتملة على أهم الأبواب التي يحتاج إليها في الإيمان والفضائل والآداب مثل كتاب ((رياض الصالحين)) ، ويحسن أن يطلع على بعض كتب الحديث المختصة بموضوعات معينة ففي أحاديث الأحكام ((بلوغ المرام)) وفي الأذكار ((أذكار النووي)) وفي الشمائل ((شمائل الترمذي)) ونحو ذلك .
علم الفقه :- أن يدرس مختصراً في فقه العبادات والمعاملات وقد يضيف ما يحتاجه من الأبواب على مذهب من المذاهب الأربعة المشتهرة .
علم السيرة والتاريخ :- أن يدرس مختصراً في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل ((تهذيب سيرة ابن هشام)) ومن الكتب المعاصرة النافعة ((الرحيق المختوم)) للمباركفوري ، وأن يطالع على الأقل تاريخ الخلفاء الراشدين .
مفاتيح العلوم :- أن يدرس مختصراً في أصول الفقه مثل ((مختصر الأصول)) للشيخ ابن عثيمين أو ((أصول الفقه للمبتدئين)) للأشقر ، وكذلك يدرس مختصراً في علوم الحديث مثل ((تيسير مصطلح الحديث)) للطحان أو ((مختصر علوم الحديث)) لابن عثيمين ، وفي علوم القرآن ((مباحث علوم القرآن)) للقطان ، وفي أصول التفسير ((مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية))وذلك بحسب الطاقة.
علوم اللغة :- أن يدرس مختصراً في النحو ((كالآجرومية)) أو((ملحمة الإعراب)) ، وكذا في البلاغة والأدب يحتاج إلى دارسة موجزة في مثل كتاب ((البلاغة الواضحة)) لعلي الجرام (يمكن النظر في برامج ومناهج لعلم وثقافة الداعية في كتاب ((ثقافة الداعية)) للدكتور يوسف القرضاوي، و ((جند الله ثقافة وأخلاقاً)) لسعيد حوى ، و ((العلم فضله وطلبه)) لأمين الحاج أحمد محمد وغيرها).
وهذه العلوم الأساسية يحتاج الداعية فيها إلى إرشادات عامة أهمها :-
1. التدرج في كل علم من الأدنى إلى الأعلى ، ومن الأيسر إلى الأصعب ، وليَعلم ((أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها ، ومداخل تفضي إلى حقائقها ، فيبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها ، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها ، ولا يطلب الآخر قبل الأول ، ولا حقيقة قبل المدخل ، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة ، لأن البناء على غير أساس لا يبني ، والثمر من غير غرس لا يجني)) أدب الدنيا والدين (ص:55) .
وهذا ابن خلدون يوضح لك الطريق فيقول : ((اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً)) مقدمة ابن خلدون (ص:533) وأفاض في بيان ذلك بما فيه الوفاء.
وقال ابن شهاب الزهري المحدث الإمام : ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة ، ولكن الشي بعد الشيء مع الأيام والليالي)) جامع بيان العلم وفضله (ص:138) .
2. الحرص على التلقي عن الشيوخ كل في فنه وألاَّ يعتمد على الاطلاع المجرد وحده ، فهذه العلوم ليست كالصحف والمجلات يُكتفي فيها بالقراءة والاطلاع ، وكما قيل : ((من كان شيخه كتابه فخطؤه اكثر من صوابه)) وصدق الشاعر حيث يقول :
يظن الغمرُ أن الكتب تَهدي أخا جهل لإدراك العلوم
وما علم الجهول بأن فيها مدارك قد تدق عن الفهيم
ومن أخذ العلوم بغير شيخ يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
وكتب السلف وتراجم العلماء مليئة بأسماء شيوخهم ، وسيرتهم مع من تلقوا عنهم ، وكتب أهل العلم طافحة بآداب الطالب مع شيخه مما يدل على بدهية ذلك عندهم .
وقال الشاطبي :((من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام)) الموفقات (1/9) وقد أفاض رحمة الله في تقرير ذلك وأفاد فليرجع إليه في موضعه .
3. الصبر والملازمة ، وترك الانتقال من علم إلى علم قبل تمامه ، ومن شيخ إلى شيخ قبل الاستفادة منه ، ومن كتاب إلى كتاب قبل إحكامه ، قال الزرنوجي :((ينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ ، وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن حتى لا يشغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول ،وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة فإن ذلك كله يفرق الأمور ويشغل القلب ويضيع الأوقات ويؤذي العلم)) تعليم المتعلم (ص:44).
الثاني : الثقافة الإسلامية :
إضافة لتحصيل العلوم الشرعية وآلاتها فإن الداعية يحتاج بشكل ملح إلى ثقافة الإسلامية العامة ، وكذلك الثقافة المعاصرة ، ولا شك ((أن حركة الداعية حركة واسعة ، وانتشاره كبير واتصالاته كثيرة وهو ولا شك يلتقي أنواعاً كثيرة من البشر كل له مزاجه وثقافته واطلاعه فلا بد للداعية أن يشبع هذه الثقافات ويلم بشيء منها حتى يشارك من يخاطبه كل حسب ثقافته كمدخل من مداخل الدعوة)) الدعوة قواعد وأصول (ص:71) .
ولا بد من الاعتراف بوجود الخلل في هذه الثقافة عند كثير من الدعاة ((فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع المعاصر ، فهناك جهل بالآخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين مع أن الآخرين يعرفون عنَّا كل شيء وقد كشفونا حتى النخاع ، بل هناك جهل بأنفسنا فنحن على اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا ولا نقاط الضعيف لدينا ، وكثيراً ما نضخم الشيء الهيّن ، وما نهون الشيء العظيم ، سواء في إمكانياتنا أم في عيوبنا)) أولويات الحركة الإسلامية (ص:21) .
ولهذا فلا بد من العناية بهذا الجانب وإعطاءه الأهمية اللازمة له ، وأسلط الضوء هنا على الموضوعات المهمة في هذا الجانب من خلال الآتي :
1. الثقافة العامة :
وأعني بها ما يتصل بإبراز محاسن الإسلام ، ومعرفة مقاصد الشريعة ، وتفنيد ورد مزاعم خصوم الإسلام وشبهاتهم ، وإظهار الكمال في أنظمة الإسلام الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، وبيان أنها ترعى جميع المصالح وتسد أبواب الفساد ، وأنها صالحة لكل زمان ومكان وأمثال هذه الموضوعات .
وهذه الثقافة يمكن تحصيل جزء جيد منها من خلال تحصيل العلم الشرعي سيما إذا توسع الداعية في طلبه وتحصيله ، ومع ذلك فهناك كتب جمعت مثل هذه المقاصد وهي كثيرة منها ((نحو ثقافة إسلامية أصيلة)) لعمر الأشقر ، و ((الخصائص العامة للإسلام)) للدكتور يوسف القرضاوي ، و ((المداخل إلى الثقافة الإسلامية)) لمحمد رشاد سالم ونحوها .
2. الثقافة المعاصرة :
وأعني بها عدداً من الجوانب منها :
1. المذاهب الفكرية المعاصرة :- كالشيوعية والرأسمالية ، والقومية ، والبعثية ، والماسونية ونحوها والكتب فيها كثيرة ومن أوسعها كتاب ((المذاهب الفكرية المعاصرة)) لمحمد قطب ، ومن أجمعها مع الاختصار ((الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة)) من إصدارات الندوة العالمية للشباب الإسلامي .
2. الواقع المعاصر :- من جهة الأعداء بدراسة الغزو الفكري ، والدور العلمي للصهيونية والماسونية ومخططاتهم وأسالبيهم ، والتنصير ومؤسساته وأدواره وهناك كتب نافعة في مثل هذه الموضوعات مثل((الغارة على العالم الإسلامي)) تأليف أ.ل . شاتليه ، وترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي ، وكتاب ((أفيقوا أيها المسلمون))لعبد الودود شلبي ، وكتاب ((بروتوكولات حكماء صهيون)) ترجمة خليفة التونسي ، و((أساليب الغزو الفكري)) للدكتور علي جريشة ومحمد شريف آل زيبق .
ومن جهة المسلمين بمعرفة أحوالهم ومتابعة أخبارهم وأوضاع أقلياتهم وهذا موفور في ((حاضر العالم الإسلامي ))للدكتور علي جريشة ، وكتب الأقليات وأحوال بلاد المسلمين .
وإذا توفر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان ذلك عوناً له في دعوته ورافداً من روافد نجاحه .
المبحث الثالث : رجاحة العقل وقوة الحجة :
للإيمان إشراقاته وآثاره ، وللعلم فاعليته ودوره ، ويبقى للذكاء والفطنة أهميتها التي لا تنكر ، وإيجابيتهما التي لا تخفي ، وتوفر الذهن الوقّاد والعقل السديد ميزة عظمى يتحلّى بها الداعية فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة ، بل عقل فطن يرجع إذا اختلفت الآراء ، ويحلل ويدلل إذا فقد الإدراك وغاب التصور ، ويتقن ترتيب الأولويات ، واختيار الأوقات ، وانتهاز الفرص والمناسبات ، ويحسن التخلص من المشكلات ، ويقوى على الرد على الشبهات ، والتكيف مع الأزمات .
وهناك أصناف من المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية لإثبات القضية ولعدم اكتفائهم بالأدلة الشرعية من هؤلاء :
1. الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة .
2. المعتدُّون بعقولهم المقدمين لها على النص النقلي .
3. المخدوعون بالشبهات .
4. المعاندون الذين يتّبعون الباطل تبعاً لمصالحهم ويسعون إلى إضلال غيرهم .
5. الواقعون تحت تأثير الأوضاع والأعراف الخاطئة حتى ألفوها ورأوها صواباً .
وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية واستحضار التفكر والتأمل .
وهذه جوانب من هذه الأساليب مع بعض الأمثلة عليها :-
(أ)أسلوب المقارنة :-
وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه ، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه ، وذلك باستشارة العقل للتفكر في كلا الأمرين وعاقبتهما للوصول - بعد المقارنة - إلى تفضيل الخير واتباعه ومن أمثلة ذلك :-
قال تعالى : ]أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون[ الأنعام [122].
قال ابن كثير في تفسيره : ((هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً ، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله ))تفسير ابن كثير (2/172) .
وقال تعالى :]أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين[ التوبة [109] .
وقال القرطبي : ((وهذه الآية ضرب مثل لهم ، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها ، وفي هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقي ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه)) تفسير القرطبي (8/265) .
ومن الأمثلة النبوية التي تبين خيرات الصلاح والصالحين مع مقارنتها بويلات المعصية والعاصين ما يأتي :-
1. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) أخرجه مسلم ، في كتاب البر والصلة ، باب : استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (النووي)(6/ 178) .
قال النووي : ((وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة)) .
2. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ،باب :استحباب صلاة النافلة في بيته (النووي)(6/68) .
ولا يخفى ما في المقارنة بين الحي والميت من إقرار العقل وترجيحه ورغبته لما فيه الحياة ، وهو الذكر الذي به الحياة القلب .
(ب) أسلوب التقرير :-
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى الإقرار بالمطلوب الذي هو مضمون الدعوة :-
من الأمثلة القرآنية على ذلك :-
1. قال تعالى ]أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون ، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ، أم لهم سلَّم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ، أم له البنات ولكم البنون ، أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ، أم عندهم الغيب فهم يكتبون ، أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون ، أم لهم إله غير الله سبحان الله وتعالى عما يشركون[ الطور[35-43] . قال ابن كثير في تفسيره : ((هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى ]أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون[ أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم ، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً)) تفسير ابن كثير (4/244) .
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية لأن ((وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطلق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل ، أمّا أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه ، ولا يدَّعيه مخلوق ، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن وهي أنهم من خلق الله جميعاً )) في ظلال القرآن (6/3399)، والتعبير بالفطرة مقصوده الأمر المقرر بداهة في العقل .
وتأمل هذا الإلزام بالإقرار بربوبية الله وألوهيته فيما ذكره السعدي في تفسيره حيث قال : (( وهذا استدلال عليهم بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق أو الخروج عن موجب العقل والدين ، وبيان ذلك أنهم منكرون لتوحيد الله مكذبون لرسوله ذلك مُستَلزم لإنكارهم أن الله خلقهم وقد تقرر في العقل مع الشرع أنّ ذلك لا يخلو من ثلاثة أمور :- إما أنهم خُلقوا من غير شيء أي لا خالق خَلَقَهم ، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد وهذا عين المحال ، أم هم الخالقون لأنفسهم هذا أيضاً محال ، فإنه لا يتصور أن يوجد أحد نفسه ، فإذا بطل هذان الأمران وبان استحالتهما تعين القسم الثالث ، وهو أن الله هو الذي خلقهم ، وإذا تعين ذلك ، عُلمَ أن الله هو المعبود وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى)) تفسير السعدي (7/195-196) .
2. قال تعالى ]واتل عليهم نبأ إبراهيم ، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين ، قال هل يسمعونكم إذ تدعون ، أو ينفعونكم أو يضرون ، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدولي إلا رب العالمين ، الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين[ الشعراء [69-81 ] .(1/93)
وهنا ستكون الإجابات بالنفي فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إنّ أصنامهم تسمع دعاءهم أو تجيب رجاءهم ، وهذا يؤدي إلى عدم جدوى هذه الأصنام وبالتالي الاستسلام العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي جاء في هذه الآيات وصف أفعاله سبحانه وتعالى .
ومن الأمثلة الحديثية :-
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال مستنكراً ومسترشداً : يا رسول الله ولد غلامٌ أسود ، فقال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال ما ألوانها ؟ قال : حُمر ، قال : هل فيها من أورق ؟ أورق :أي : أسمر- النهاية في غريب الحديث (5/175) قال : نعم ، قال :فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعه عرق ، قال : فلعل ابنك هذا نزعة عرق .أخرجه البخاري ، كتاب الطلاق ، باب إذا عرّض بنفي الولد (الفتح9/442).
فهذا الرجل جاء سائلاً مستفتياً عما وقع له من الريبة ، فلما ضرب له المثل أذعن ، وقال ابن العربي : ((فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظر)) فتح الباري (9/444).
2. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ((إن فتى من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أتأذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أدنه ، فدنا منه قريباً ، قال : فجلس ، قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال أتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله جعلني فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم قال : أتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالتهم ، قال فوضع يده عليه ، وقال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه ،وحصن فرجه ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) المسند (5/257) .
فهذا الشاب قرَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفض هذا الفعل في صور شتى ثم توصل في آخر الأمر إلى رفض ونفي ما كان يطلب الإذن فيه من الزنا .
ومثل ذلك ما فعلته أم سليم زوجة أبي طلحة كما روى أنس بن مالك : ((اشتكى ابن لأبي طلحة ، قال فمات وأبو طلحة خارج . فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت .فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح . وظنّ أبو طلحة أنها صادقة . قال : فبات . فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات ، فصلّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما)) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة ، (الفتح) (3/169).
(ج) أسلوب الإمرار والإبطال :-
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعاً للجدل والنزاع خلوصاً إلى حجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع.
ومن الأمثلة القرآنية :
1. قصة إبراهيم مع النمرود قال تعالى ]ألم تر إلى الذين حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين[ البقرة [258 ] .
نقل ابن كثير في تفسيره عن بعض السلف أن قول النمرود أنه يحي ويميت استَدل له بأن أتى برجلين استحقا القتل ، فأمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر ، ثم قال : ((والظاهر- والله أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ، ويوهم أنه فاعل لذلك وأنه هو الذي يحي ويميت)) ثم قال : ((إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذراته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلهاً كما تدعي ، فأت بها من المغرب ، فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت : أي خرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة)) وبين أن المقام الأول كالمقدمة للمقام الثاني ، وهذا الأسلوب يثبت بطلان ما ادعاه النمرود في ادعائه الأول .تفسير ابن كثير (1/313).
وقد أحسن صاحب الظلال في توضيح هذا الأسلوب حيث قال ((عرَّف إبراهيم ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، ولا يمكن أن يزعمها أحد ... و هذا الملك يسأله عمن يدين له الربوبية ، ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره ،قال ]ربي الذي يحي ويميت[ فهو من ثم الذي يحكم ويشرع))، ثم قال تعليقاً على قوله تعالى ]أنا أحي وأميت[: لم يرد إبراهيم عليه السلام أن يسترسل معه في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة ، حقيقة منح الحياة وسلبها ، هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً ، وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقة إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ، وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله ]ربي الذي يحي ويميت[ إلى طريقة التحدي ، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله)) الظلال (1/298).
وعلق بمثل قوله السعدي في تفسير فقال : ((فلما رآه الخليل مموهاً تمويهاً ربما راج على الهمج والرعاع قال إبراهيم ملزماً بتصديق قوله : إن كان كما يزعم ]فإن الله يأتي بالشمس ..[ الآية فأتى (أي إبراهيم) بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه)) تفسير السعدي (1/320).
2. قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، وهي نموذج مطول في هذا الأسلوب حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية وألوهية الله ، وذلك في الآيات من سورة الشعراء ، قال تعالى :]قال فرعون وما رب العالمين ، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ، قال لمن حوله ألا تستمعون ، قال ربكم ورب آبائكم الأولين ، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ، قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين[ الشعراء [23-29] .
فهنا أعرض موسى عليه السلام عن تهكم فرعون ومضى إلى غايته مقيماً حجته مقرراً قضيته ، ثم غض الطرف عن تهمة الجنون الباطلة ولم يستغرق جهده في إبطالها بل مضى في تقوية أدلته ونصرة قضيته ، حتى أخذ فرعون وحوصر وفشلت حيلته ، وانقطعت تهكماته واتهاماته ، وأفحم بالحجج فلجأ إلى القوة وهي حيلة العاجز في ميدان المناظرة والاحتجاج ، وهذا دليل على أنه هزم وهذا الأسلوب دليل على كمال عقل موسى عليه السلام وحسن تقريره .
ولا شك أن الداعية مطالب بتفهم هذه الأساليب والإفادة منها ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة وسرعة البديهة .
وهذه أمثلة لأئمة ودعاة كانت لهم أقوال ومواقف تبين رجاحة عقولهم وقوة حجتهم .
المثال الأول :
يذكر عن أبي حنيفة أنه حاج قوماً من الملاحدة الدهريين فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك في العقل ؟ قالوا : لا ، هذه شيء لا يقبله العقل .
فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها وتباين أكنافها ، من غير صانع وحافظ ؟ فهبت القوم وأفحموا (أنظر درء تعارض العقل والنقل (3/127) .
المثال الثاني :
طلب الحجاج الحسنَ البصري ، فلما دخل عليه قال له الحسن : يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب ؟ قال : كثير ، قال فأين هم ؟ قال : ماتوا ، فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن (البداية النهاية (9/135).
وهذا المثل على وجازته فيه استخدام العقل بالتفكير والتأمل والوصول إلى النتيجة التي فيها العظة والعبرة .
المثال الثالث :
سأل بعض النصارى القاضي أبا بكر الباقلاني بحضرة ملكهم فقال : ما فعلت زوجة نبيكم ؟ وما كان من أمرها بما رميت من الإفك ؟ فقال الباقلاني على البديهة : هما امرأتان ذكرتا بسوء ، مريم و عائشة فبرأهما الله عز وجل وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد ، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج ! البداية والنهاية (9/135) .
فكان هذا الجواب في غاية الروعة والإفحام ، لأن ذلك الخبيث أراد التعريض والإحراج بقصة حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها ، فأجاب الباقلاني بأن هذه فرية برأها الله منها ولكنه قرن ذلك بذكر مريم ، ليشير إلى أن براءة عائشة عقلاً أولى ، لأنه لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم أعظم ، فإن قبلتهم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة عائشة من باب الأولى .
المثال الرابع :
ما ذكره مفتي الديار السعودية سابقاً العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم في مجموع فتاواه (مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ (1/75) عن الشيخ عبد الرحمن البكري حيث قال ((كنت بجوار مسجد في الهند ، وكان فيه مدرس إذا فرغ من تدريسه لعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وإذا خرج من المسجد مرَّ بي ، وقال : أنا أجيد العربية ولكن أحب أن أسمعها من أهلها ، ويشرب عندي ماء بارداً ، فأهمني ما يفعل في درسه قال : فاحتلت بأن دعوته ، وأخذت ((كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونزعت غلافه ووضعته على رف في منزلي قبل مجيئه ، فلما حضر قلت : أتأذن لي أن آتي ببطيخة . فذهبت فلما رجعت .. إذا هو يقرأ ويهز رأسه عجباً فقال : لمن هذا الكتاب ؟ هذه التراجم شبه تراجم البخاري هذا والله نفس البخاري !! فقلت لا أدري ! ثم قلت : ألا نذهب لشيخ الغزوي لنسأله - وكان صاحب مكتبة - فدخلنا عليه فقلت للشيخ الغزوي كان عندي أوراق سألني الشيخ من هي له ؟ فلم أعرف ! ففهم الغزوي المراد ، فنادى من يأتي بكتاب (مجموعة التوحيد) فأتي بها فقابل بينهما فقال : هذا لمحمد بن عبد الوهاب ، فقال العالم الهندي مغضباً وبصوت عال : الكافر ! فسكتنا وسكت قليلاً ، ثم هدأ غضبه فاسترجع ثم قال : إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه ، ثم صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه)) . فهذه فطنة داعية وذكاء عالم .
المبحث الرابع : رجاحة الصدر وسماحة النفس :-
إن الداعية الحق شخصية متميزة فهو كالمنارة الهادية من بُعد لمن ضل أو حار ، وهو كالظل الوارف لمن لفحه حر الشمس والمسير في الهجير ، وبالتالي فهو نقطة تجمُّع بالنسبة للمدعوين ، ولذا فإنه يحتاج إلى أن يتحلى برحابة الصدر وسماحة النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق ((فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء)) الظلال (1/500-501) .
وهكذا كان قلب الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كانت حياته مع الناس ، ((ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية ، ووسعهم حمله وبره وعطفه ووده الكريم ، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلاّ امتلأ قلبه بحبه ، نتيجة لما أفاض عليه - صلى الله عليه وسلم - من نفسه الكبيرة والرحيبة)) في ظلال القرآن (1/500- 501) ، والنفس السمحة ليس فيها ضيق أو السماحة السهولة واللين . انظر القاموس المحيط (1/229) .
والناس مشاربهم شتى ، وسلوكياتهم متباينة ، واحتياجاتهم كثيرة ، واستفزازاتهم مثيرة ، وهذا لا بد أن يقابله الداعية بالاحتمال ، لأن الاحتمال - كما قيل - قبر المعايب .
هذه الخصيصة مهمة في تكوين الداعية ، يحتاج أن يجتهد في اكتسابها لأنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة القبول ، وتكبح جماح الانفعالات النفسية ذات الآثار السلبية ، وتتجلى هذه الخصيصة في عدد من الخلال توضحها وتبين أثرها ومن أهمها :
أولاً : الرحمة والشفقة :
((إن الداعي لا بد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس ، وإرادة الخير لهم والنصح لهم ، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام ، لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى فهو ذلك إليهم أيضاً)) أصول الدعوة (ص:344،343) .
وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس الحزن والأسى على حال المعرضين والعاصين ، ويتولد إثر ذلك قوة نفسية دافعة لاستنقاذهم من الخطر المحدق بهم ، والهلاك القادمين إليه ، وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفه عند الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ]فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا[ الكهف[6] وقوله تعالى ]لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين[ الشعراء [3] . تأمل هذه الآيات فإنه ((من فرط شفقته - صلى الله عليه وسلم - داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان ، فهوّن الله سبحانه عليه الحال ، بما يشبه العتاب في الظاهر كأنه قال له : لم كل هذا ؟ ليس في امتناعهم- في عدِّنا- أثر، ولا في الدين من ذلك ضرر)) لطائف الإشارات(1/377) .
وقال ابن القيم في تفسيره تفسير ابن كثير (3/72): يقول تعالى :]فلعلك باخع ...[ مسلياًَ لرسول - صلى الله عليه وسلم - في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه)) .
فهذه نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملئت رحمة وشفقة على هؤلاء حتى كاد يُهلك نفسه وهو يدعوهم ويحرص على هدايتهم ، ثم يخالط مشاعره الحزن عليهم والأسى لهم .
إن الداعية ينظر إلى المدعوين نظرة الطبيب إلى مرضاه ، يرحمهم ويشفق عليهم لعلمه بدائهم وخطورته ، ويتلطف في علاجهم ، وإن رأى منهم عزوفاً عن الدواء لصعوبته أو مرارته هاله الأمر واحتال بكل الطرق لتوصيل الدواء ، وإقناعهم بضرورة تناوله ، ولا يمكن أن يتركهم وشأنهم بحجة أنهم المفرطون ، وهكذا فإن (( الداعي الرحيم لا يكفُّ عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة ، وأن إعراضهم بسبب جهلهم ، فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم)) أصول الدعوة (ص:344) .
فالرحمة - كما ترى - باعث دافع ومحرك للدعوة استنقاذاً للناس من الهلاك ، وهي في الوقت نفسه عامل استمرار وإصرار وتوسيع لدائرة الاستيعاب والتأثير رغم الصد والإعراض .
ولا ينبغي أن تفهم الرحمة على أنها لين وتهاون بل تأتي الرحمة أحياناً كثيرة في ثنايا الحزم وفي أعطاف الشدة التي تهدف لصالح المدعو ، كما قد يشتد الطبيب مع مريضه الذي لا يدرك خطورة مرضه وعظمة الخطر في ترك التداوي أو التقصير فيه ((فليست الرحمة حناناً لا عقل معه ، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام ، كلا إنها عاطفة ترعى هذه الحقوق جميعاً)) خلق المسلم (ص:207) .
وإن في سيرة المصطفى الكريم - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأروع الأمثلة على الرحمة سيما في المواقف العصيبة التي بلغت فيها المعاناة أشد مراحلها التي تضغط بعنف على النفس لتشتد وتقسو ، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم ، ومع ذلك تبقي نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة كما حصل يوم رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أن ذهب إليها وفي قلبه أمل ، فلقي فيها أعظم مما كان يتصور من الإعراض فرجع كسير القلب ، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله جبريل ومعه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((بل أرجو أن يُخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً)) أخرجه البخاري ، في كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء (الفتح)(6/360) ، وفي صحيح مسلم كتاب الجهاد ، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين (عبد الباقي) (3/1420) وانظر الرحيق المختوم (ص:150).
وفي يوم أحد عندما شجّ وجهه الشريف ، وكُسرت رباعيته ، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه (انظر الرحيق المختوم (ص:314) ، وبينما الدم يسيل على وجهه يقول عليه الصلاة والسلام : ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) وفي صحيح مسلم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول :(( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) أخرجه مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة أحد (عبد الباقي) (3/1417) ، ومن هنا جاء الوصف الرباني العظيم في ثنايا الآيات التي نزلت في غزوة أحد :]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك [ آل عمران [159] .
((لقد أراد الله أن يمتنَّ على العالم برجل يمسح آلامه ، ويخفف أحزانه ، ويرثي لخطاياه ، ويستميت في هدايته ، ويأخذ يناصر الضعيف ، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ، ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنساناً سليم الفطرة لا يضري ولا يطغي فأرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - وسكب في قلبه من العالم والحلم ، وفي خلقه من الإيناس والبر ، وفي طبعه من السهولة والرفق ، وفي يده من السخاوة والندى ، ما جعله أزكى عباد الله رحمة ، وأوسعهم عاطفة ، وأرحبهم صدراً)) خلق المسلم (ص:204) .
نعم ((إن الرحمه كمال في الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها ، ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى ، هي كمال في الطبيعة ، لأن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة الحيوان ويسلبه أفضل ما فيه ، وهو العاطفة الحية النابضة بالحب والرأفة)) خلق المسلم (ص:203) .
ثانياً : الحلم والأناة :
في مسيرة الدعوة تمر بالداعية أحداث مثيرة ، وأفعال مستفزة ، والناس - باختلاف طبائعهم - تختلف مواقفهم إزاء المثيرات التي تعمل على دفعهم نحو الرعونة والطيش ، فمنهم من ((تستخفه التوافه فيستحمق على عجل ، ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقي على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه))خلق المسلم (ص: 106) .
والحلم ((فضيلة خلقية نافعة .. تقع في قمة عالية دونها منحدرات ، فهو أناة حكيمة بين التسرع والإهمال أو التواني ، وضبط للنفس بين الغضب وبلادة الطبع ، ورزانة بين الطيش وجمود الإحساس)) الأخلاق الإسلامية (2/325) .
والأناة عند الداعية إلى الله تعالى ((تسمح له بأن يُحكم أموره ، ويضع الأشياء في مواضعها ، بخلاف العجلة فإنها تعرضه للكثير من الأخطاء والإخفاق ، وتعرضه للتعثر والارتباك ، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق ، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرض لللتخلف والحرمان من تحقيق النتائج التي يرجوها)) الأخلاق الإسلامية (2/353) ، وقد امتدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الأشج فقال : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة)) أخرجه مسلم ، في كتاب الإيمان ، باب : الأمر بالإيمان بالله ورسوله (عبد الباقي)(1/48) ، فرحابة الصدر وسعة النفس تقتضي عدم الانفعال المخرج عن حد الصواب والاعتدال ، وجمهور الدعوة قد يقع منهم ما يدفع إلى الغضب ، وكثيراً ما يتصرفون بدافع من العجلة والرغبة في الحصول على النتائج السريعة ، ومجاراة الداعية لهم في الحالتين خلل في مسلك الدعوة ، لأن المسايرة قد تؤدي إلى عواقب وخيمة ، وقد يكون أولئك العامة مندفعين إلى تلك العواقب بحمية عصبية وحماسة استفزازية ، ((لكن المصلحين العظماء لا ينتهون بمصائر العامة إلى هذا الختام الأليم ، إنهم يفيضون من أناتهم على ذوي النزق حتى يلجئوهم إلى الخير إلجاءً ، ويطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء)) خلق المسلم (ص:107) .
ومن أمثله من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه أنس بن مالك حيث قال : جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس ، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب ماء أهريق عليه (أخرجه البخاري ، كتاب الطهارة ، باب صب الماء على البول في المسجد (الفتح) (1/324) .
ومواقف أخرى كثيرة تبين حمله الذي لا يندفع فيه مع مقتضى الطبع ، ولا يمضي معه وفق أعراف الجاهلية وانتصاراتها المبنية على الحمية لأن ((الجاهلية التي عالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محوها كانت تقوم على ضربين من الجهالة ، جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم ، فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد ، وأما الأخرى فكف ظلمها يعتمد على كبح الهوى ومنح الفساد ، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل بجهل أشد .
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (خلق المسلم (ص:109) .
ثالثاً : العفو والصفح :
ومن مستلزمات الحلم الذي فيه كظم للغيظ وضبط للغضب ، ثم الأناة التي فيها تبصر بالأمور وتأن في التصرف ، مع الاستناد للرحمة بالجاهلين كل ذلك يثمر العفو والصفح لأن ((القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبداً إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والاضطغان)) خلق المسلم (ص:204).
ومادام الداعي المسلم ينظر إلى من يدعوهم نظرة الرحمة والشفقة عليهم فإنه يعفو ويصفح عنهم في حق نفسه ، قال تعالى :]خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين[ الأعراف [199].
وإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنسبة لمن يدعوهم ويحتمل صدور الأذى منهم فإن عفو الداعي وصفحه عن أصحابه أوسع ، قال تعالى : ]فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر[ آل عمران [159] .
وعند ما وقعت حادثة الإفك ، كان وقعها على آل أبي بكر شديداً ، فلما نزلت البراءة حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة فأنزل الله في ذلك قوله تعالى : ]ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم[ النور [22] .(1/94)
والداعية الذي يهدف إلى استمالة القلوب وهدايتها لا يقسو لأن ((القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس لا يرتبط بمنطق ولا عدالة . إنها نزوة فاجرة تتشبع من الإساءة والإيذاء ، وتمتد مع الأثرة المجردة والهوى الأعمى))خلق المسلم (ص: 207) ، ومن أعظم مواقف العفو عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المشركين يوم فتح مكة . الرحيق المختوم (ص:480، 481) .
وهكذا فإن رحابة الصدر وسماحة النفس تنتظم الرحمة التي تدعو إلى الحلم الذي يقود إلى العفو فيكون من وراء ذلك التأثير التلقائي لأن الإنسان يتأثر بالإحسان :]ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم[ فصلت [34] .
وهذا أمر مشاهد حيث نرى أن من كان سمح النفس يستطيع (( أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له ، وثقة الناس به ، لأنه يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب ، والتغاضي عن السيئات والنقائص ، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه رقيقاً ليناً ، سمحاً هيناً ، يسر بالنصحية ، ولا يريد الفضيحة ، يسد الثغرات ولا ينشر الزلات والعثرات )) الأخلاق الإسلامية (2/443) .
وبعض الدعاة ممن لا يتحلون في أنفسهم بهذه السمة تجدهم يندفعون مع أدنى خطأ أو أقل عثرة ، وإذا بهم يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وكثيراً ما يواجهون الناس بالأحكام الدامغة الخطيرة من الفسق أو الابتداع أو التساهل ونحو ذلك ، وهؤلاء كثيراً ما يستزلهم الشيطان بهذه الحمية الزائفة التي لا تأتي في موضعها الصحيح ، والشيطان ينفخ في حميتهم بأن الحق أحق أن يتبع ، ويثير التساؤل أين الغيرة الإيمانية والحمية الإسلامية ؟ ليغطي على الأناة التي تنظر في عواقب الأمور والحلم الذي يضبط النفوس والرحمة التي تستميل القلوب ، بعض هؤلاء - وللأسف - يندفعون أحياناً خوفاً من أن يُتهموا بعدم الغيرة أو التميع والتساهل ، ولا يفهم من قولي أن كل فاعل لذلك مذموم ، ولا أن كل موقف يقتضي الحلم واللين فقد أشرت فيما سبق إلى ما ينقص هذا الفهم ولكني أنوه إلى صور في الواقع ناشئة من أفهام قاصرة وممارسات خاطئة .
الفصل الرابع : مقومات النجاح في ممارسة الدعوة:
في الفصل الماضي كان الحديث عن المقومات اللازم توفرها في شخصية الداعية وتكوينه الذاتي ، وهذا الفصل يركز على المقومات التي يحتاجها الداعية - وقد استكمل المقومات السابقة - أثناء ممارسته للدعوة وفي المواقف التي يمر بها .
المبحث الأول : المراعاة والتدرج :
إن تغيير النفوس ونقلها من ميولها ومألوفاتها أمر ليس سهلاً ، وإن الأعراف التي استقرت في العقول وتواطأ الناس عليها لا تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجَّه ، والعادات في السلوكيات التي تجذرت وترسخت لا يتصور اقتلاعها في يوم وليلة ولذا فلا بد من إدراك حقيقة مهمة للدعاة وهي أن المراعاة والتدرج لازمان للتغيير وحصول الاستجابة ، وكما قيل : ((إذا أردت أن تطالع فأمر بما يستطاع)) ، وهناك أمور كثيرة يلزم مراعاتها والأخذ بالتدرج فيها وهذه خلاصة نافعة في هذا الباب :-
أولاً : مراعاة الطبائع
إن الناس يختلف بعضهم عن بعض ، في علمهم وفهمهم وطبائعهم الشخصية وعوائدهم الاجتماعية ، وكل ذلك يحتاج الداعية إلى مراعاته ، وبالنسبة لطبائع الأشخاص فإن المدعوين على ثلاثة أنواع :
1. فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل قليل البصيرة فيحتاج على دعوته بالحكمة .
2. ومنهم المعرض عن الحق المشتغل بغيره فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب التنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة ، وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد .
3. الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة (مجموع فتاوى ابن باز(2/241-243)
ومن الناس من طبعه الحدة وسرعة الانفعال ، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال وكل له مدخل وأسلوب يناسبه ومراعاة ذلك مهمة في نجاح الداعية .
ثانياً : مراعاة الأفهام :
تفاوت الأفهام أمر معروف، وله أسبابه من قلة العلم أو اختلاف البيئة، أو استحكام العوائد ونحو ذلك .
قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى ]فذكر إن نفعت الذكرى[ : أي ((ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله)) تفسير ابن كثير (4/500) ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((يا عائشة لو لا أن قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير : بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين ، باب يدخل الناس وباب يخرجون)) أخرجه البخاري ، في كتاب العلم ، باب ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس (الفتح)(1/223) ، قال ابن حجر في الفتح : ((ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه ، وأنّ الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرّماً)) الفتح لابن حجر(1/225).
وروى الإمام البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا ، عن علي بن أبي طالب قال : حدِّثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ؟ صحيح البخاري ، كتاب العلم . وروى مسلم ابن مسعود : ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) أخرجه مسلم في المقدمة ، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/11) .
قال ابن حجر : ((ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي في ظاهرها الخروج على السُّلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب .
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم)) فتح الباري (1/225) .
ولذا ينبغي للداعية مراعاة ذلك وعدم مخالفته سيما بالنسبة للعوام ، ومن تقصر بهم الأفهام ، وقد عدَّ الشاطبي في الاعتصام هذا التجاوز ضرباً من الابتداع فقال : ((ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه ، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها ، وسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها- وهو الغالب- وهي فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق ، والعمل بالباطل ، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم)) الاعتصام (2/13).
وأوضح ذلك أيضاً في موافقاته ومثل له بأمثلة من إنكار الصحابة لذلك فقال : ((ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات ، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت : لم تقضي الحائض الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها : أحرورية أنت ؟ ، وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغاً لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالاً وفتنة وإن كان صحيحاً)) الموفقات (4/191) .
وهذه كلمات للشاطبي أضعها أمام عين كل داعية وأهتف بها في سمعه ليعلم أنه ((ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره إن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم : فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص)) الموفقات (4/189) .
وأزيد الأمر وضوحاً بذكر القاعدة الضابطة الرائعة التي ذكرها الشاطبي وأرشد إليها مخاطباً كل عالم وداعية حيث أوصاه أن يعرض مسألته على الشريعة فقال : ((فإن صحت في ميزانها فانظر في ماَلها بالنسبة إلى حال الزمن وأهله ، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة ، فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على المصلحة الشرعية والعقلية))الموفقات (4/191) .
ثالثاً : مراعاة المقاصد والنيات :
قد يتفق اثنان في عمل ما ومع ذلك يختلف الحكم عليهما باختلاف النوايا ، فهناك من يفعل الفعل ناسياً ، أو جاهلاً بحرمته ، أو متأولاً فيه ، أو مكرها عليه ولكلٍ حكمه ومنهم من يفعل الإثم قاصداً عالماً بالحرمة لكنه مغلوب بضعف عزمه ، ووسوسة شيطانه فلا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر ، ومنهم قاصد مصرّ ، وآخر محادٌّ الله ورسوله وهكذا ، ونحن نعلم أن النوايا مخفية في طوايا القلوب ، ولكن بعض القرائن والأحوال تدل عليها ، وقد تصرح بها الألسنه فتعرف بوضوح .
وفي المسائل الفقهية ما يوضح هذا المعنى سيما في أحكام الطلاق والأيمان والنذور إذ يسأل أصحابها عن مقاصدهم وما نووا بكلامهم ، ويعول في الحكم على نواياهم ويوكل أصحابها في صدقهم إلى تدينهم لله ، وما يعرف عنهم من قرآئن وأحوال ولنا الظواهر . ومراعاة مثل هذا من الأمور التي لا ينبغي إهمالها كما قال ابن القيم : ((إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه)). ومن أبز الأمثلة على اعتبار النيات حديث التائب الذي قال ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) أخطأ من شدة الفرح (أخرجه مسلم ، في كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها (عبد الباقي)(4/2103) فلم يؤاخذ بذلك ، ومثله حديث مسلم في قصة الرجل الذي أوصى أن يحرق ويذرّ رماده في البر والبحر خشية من عذاب الله ، فغفر الله له لهذا المقصد الذي استولى على قلبه (أخرجه مسلم ، في كتاب التوبة ، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (عبد الباقي)(4/2109) .
رابعاً : مراعاة الأحوال الخاصة :
سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية والنصيحة من بعض أصحابه فقال لأحدهم : ((لا تغضب)) أخرجه البخاري ، في كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب (الفتح)(10/535) ، وقال لآخر : ((قل آمنت بالله ثم استقم)) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب جامع أوصاف الإسلام (عبد الباقي)(1/65) ،وقال للثالث : ((لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب ما جاء في فضل الذكر (شاكر) (5/427) وما ذلك الاختلاف في الجواب إلا مراعاة منه - صلى الله عليه وسلم - للأحوال الخاصة بالسائلين إذ كان يعلم حاجة كل واحد منهم والجانب القاصر عنده ، والأمر اللائق به ، فأوصى كل واحد بما يناسبه .
وجاء شاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ((أقبل وأنا صائم ؟ قال : لا ، فجاء شيخ فقال : أقبّل وأنا صائم ؟ فقال : نعم ، فنظر الصحابة بعضهم إلى بعض (أي متعجبين من اختلاف الفتوى) فقال - صلى الله عليه وسلم - : قد علمت نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه)) مسند الإمام أحمد (2/185) ، وهذا واضح الدلالة في التفريق بين حال الشيخ وحال الشاب ومراعاة ذلك في الفتوى والمعاملة والتوجيه .
خامساً : مراعاة الأعراف والعوائد العامة :
إن كل بلد لها أعرافها وكل بيئة لها عوائدها ، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية ، من ضروب الحكمة وموافقة جوهر الشريعة ، وقد امتن الله على البشر بإرسال الرسل وخص بالمنة كون الرسل من البشر وامتن على الأقوام بأن جعل الرسل منهم وينطقون بألسنتهم ، فقال تعالى :]وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم[إبراهيم [4] فهذا ((من لطفه تعالى بخلقه أن يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به)) تفسير ابن كثير(2/522) ، ولذا ينبغي لداعية التنبه بذلك ، الحرص على معرفة الأعراف والعوائد في البيئة التي يدعو إليها لتكون دعوته مؤثرة في النفوس ، مقنعة للعقول ، محببة للقلوب ، مناسبة للظروف ، قابلة للتطبيق فإذا جاء في بيئة يغلب عليها الفقر ويشيع فيها الكسل فإن المطالبة بالزهد في الدنيا والترفع عن شهواتها غير مناسب للبيئة وأحوال الناس ، وإذا دعا قوماً فاضت الأموال في أيديهم وشغلت الدنيا أوقاتهم فالحديث عن ضرورة التمتع بالمباح من الدنيا والحث على ذلك غير ملائم كذلك ، كما لا ينبغي أن يطول الحديث في الإنكار على أمور لا وجود لها في بيئة الدعوة إذ لا نفع في ذلك ، بل ربما ترتب عليه ضرر من حصول تشويش واضطراب أو حصول تطلع وافتتان بتلك الأمور .
قال ابن القيم في إعلام الموقعين منبهاً على هذا الموضوع : ((ولا تَجمد على المنقول في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك)) إعلام الموقعين (3/78) ، ثم بين أثر ذلك وضرره فقال ك ((ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم)) إعلام الموقعين (3/78) .
وضرب ابن تيمية لذلك مثالاً علمياً فقال : ((ولو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم (أي الكفار) في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين ، والاطلاع على باطن أمرهم أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة)) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص: 173) .
سادساً : مراعاة الأولويات :
المراد بمراعاة الأولويات معرفة مراتب الأعمال ووضعها في مواضعها ، فإن المنهج الإسلامي قد جعل لكل عمل قدراً ، فإماطة الأذى وإن كانت من الإيمان فإنها في الرتبة الدنيا كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) " ولا إله إلا الله " يقاتل لأجلها كما أخبر الرسول الكريم ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) وإماطة الأذى لا يمكن أن تكون سبباً لقتال بل هي دون ذلك بكثير ويكفي فيها نصح ووعظ ، ولا يمكن المساواة بينهما ، في الدعوة إليهما والبذل في سبيل تحقيقهما .
وهذا ظاهر في بيان تفاوت عدد من الأعمال فيما تضمنه قوله تعالى ]أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون[ التوبة [19_20] .
ولا بد للداعي أن يعلم أن الأصول لا بد أن تقدم على الفروع ، والفروض تقدم على النوافل ، وفروض الأعيان مقدمة على فروض الكفايات ،وفروض الكفايات التي فيها عجز ظاهر أولى من التي انتدب لها غيره من المسلمين.
وللشيطان أرب في هذا الجانب لدى الدعاة فهو في معركة المراغمة يبدأ بالكفر فإن عجز فإلى البدعة ، فإن لم يفلح فإلى كبائر الذنوب ، فإن فشل فإلى صغائرها ، فإن لم يتمكن فإلى الاستكثار من المباح فإن ((تملص الداعية وسلَّ نفسه لم يكن استعلاؤه على الراحة والرغد كافياً لحصار الشيطان في زاوية اليأس ، بل للشيطان محاولة سادسة فيكون له التفاف واقتحام من ثغرة أخرى ، فينثر ترتيب قائمة الأولويات النسبية ، بعكس القواعد الشريعة في تفاضل الأعمال الإيمانية ويلهي المؤمن بالمفضول المرجوح ، فيقضي من له علم نافع عن جمهور المنتفعين منه ، يشغله بزيادة ركوع أو سجود ، هما جليلان ، لكن التعليم أوجب عليه بعد الفرض منهما ، وينقل آخر له وفرة قوة وبسطة في الجسم والذكاء وخبرة في السياسة والإدارة ، من تفاعله المنتج مع يوميات الخطة الجماعية ،ومن صولاته في ساحة الفكر إلى إشراف على بناء مدرسة أو إغاثة منكوب)) المسار (ص:19).
من المعلوم أن هناك مقاصد ضرورية مقدمة ، ومقاصد حاجية تأتي بعدها ، وهناك أيضاً مقاصد تحسينية تأتي في المرتبة الأخيرة ، ولا بد من مراعاة ذلك ومعرفة أن ((المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية)) الموفقات (2/17) ، ((وأن الضروري هو الأصل وأن ما سواه مبنى عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه ، ويلزم باختلاله اختلال الباقين لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر ، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه فإن ذلك من أوصاف القصاص ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصف)) الموفقات (2/18) .
والعقيدة هي أساس والشريعة هي البناء ، ولا بناء من غير أساس ولا عمل من غير توحيد وإخلاص ]وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثوراً[ الفرقان [23] ]ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك[ الزمر [65] ، وسائر الرسل والأنبياء كانت الدعوة إلى التوحيد عندهم هي أولى الأولويات وأهم المهمات وكلهم كان نداؤهم ]اعبدوا الله مالكم من إله غيره[ هود [50] ، ومن منطلق العقيدة الإيمان سعوا إلى علاج الانحرافات الواقعة في مجتمعاتهم كلٌ بحسبه ، فموسى عليه السلام عالج الطغيان السياسي الفرعوني وما ترتب عليه من إذلال الناس واستعبادهم على أساس الإيمان ، ولوط عليه السلام عالج الانحراف الخلقي والشذوذ الجنسي في قومه ، وهكذا سائر الرسل والأنبياء .
والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالإيمان والتوحيد ثم شرعت الشرائع وفرضت الفرائض ((والدعاة عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره بادئين بالأهم فالمهم ولكن إذا كان المجتمع مسلماً ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره)) بل يجب ذلك عليه ((لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله ، وتطهير أخلاقه مما يضر بالمجتمع ويضعف إيمانه ولا مانع من البدء بعض الأوقات بغير الأهم إذ لم يتيسر الكلام في الأهم ولا مانع أيضاً من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم إن رأى المصلحة في ذلك أو خاف إن هو اشتغل بهما جميعاً أن يخفق فيهما جميعاً)) مجموع فتاوى ابن باز (1/325) .
وهذا الأمر ينبغي أن يفهم فهماً صحيحاً ، وأن يطبق تطبيقاً سليماً من غير إفراط ولا تفريط ، فالمراد بالبدء بالعقيدة التركيز على أصولها وأركانها وهو ما يجب على المكلف اعتقاده ، إذ يجب عليه ((أن يؤمن بالله ورسوله ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وما أمر به الرسول ونهى ، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به فلا بد من تصديقه والانقياد له فيما أمر ، وأما التفصيل فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به وأمر به ، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ولم يمكنه العلم بذلك فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلاً وهو داخل في إقراره بالمجمل العام ، ثم إن قال بخلاف ذلك متأولاً كان مخطئاً يغفر له خطؤه ، إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان ، ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة ، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل)) مجموع فتاوى ابن تيمية (3/327-328) ، بالتالي فإن الداعية إذا علَّم الناس أصول الإيمان على الإجمال أو وجدهم بها عالمين كان الأولى به أن يركز لهم على مقتضيات الإيمان وآثاره وربط ذلك بواقع حياتهم ، وهذا أجدى وأنفع من المضي بهم إلى مزيد من المسائل والفروع التي لا يحتاجها إلا طلبة العلم بل ربما المتخصصين منهم.
سابعاً : مراعاة المصالح والمفاسد
وهذا الأمر في غاية الأهمية وذلك لأن ((الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ،وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل )) إعلام الموقعين (3/3) ، وهذا مبحث دقيق ينبغي في البداية التنبه إلى أن المراد بالمصالح والمفاسد ما كانت كذلك في حكم الشرع لا ما كان ملائماً أو منافراً للطبع ولا يكون تقريرها وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية (الموفقات (2/37-40) ثم النظر في تقرير المصالح والمفاسد وتقريرها والترجيح بينها يحتاج إلى تقوى لله صادقة ، بصيرة علمية نافذة ، ومعرفة بالواقع واسعة ، ليتمكن الداعية من تحقيق مقصود الشريعة التي ((جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/48) ، والدقة في هذا المبحث تكمن في أن المعروف قد يترك فعله والحض عليه ، والمنكر قد يترك النهي عنه والإنكار عليه ، بل قد يُدعى إلى ترك بعض أفعال الخير ، ويقصد إلى فعل بعض المنكر وكل ذلك باعتبار تحقيق المصلحة ودفع المفسدة ، فعند تحقيق أعظم المصلحتين تفوت أدناهما وهي من المعروف المطلوب فعله ، وعند درء أكبر المفسدتين يُرتكب أخفهما وهي المنكر المطلوب تركه ، والخلاصة أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها ، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصَّل إلا بها ، والحسنة تترك في موضعين ، إذا كانت مفوَّتة لما هو أحسن منها ، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها عن منفعة الحسنة)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/53) .
وفقه المسألة يزيل ما قد يعلق في العقول من عجب أوشك وبيانه أنه ((إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أو كدهما ، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً ، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة ، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/57) .
وهذه أمثلة عملية في هذا الباب أسوقها من كلام العلماء :(1/95)
المثال الأول : يقول ابن تيمية : ((فمن كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة ، مثل أن يصوم صوماً يضعفه عن الكسب الواجب أو تمنعه عن العقل أو الفهم الواجب أو يمنعه عن الجهاد الواجب ... وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها وأوقعته في مكروهات فإنها مكروهة وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى ]يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين[ فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة ، وهذا يسرد الصوم وهذا يجتنب النساء فنهاهم الله عن تحريم الطيبات من أكل اللحم والنساء)) مجموع فتاوى ابن تيمية (25/272-273) .
المثال الثاني : يقول ابن باز : ((أما إذا كان هجر الشخص قد يترتب عليه ما هو من فعله لأنه ذو شأن في الدولة أو ذو شأن في قبيلته ، فيترك هجره ويعامل بالتي هي أحسن ويرفق حتى لا يترتب على هجره ما هو شر من منكره وما هو أقبح من عمله والدليل على ذلك : أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعامل رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول بمثل ما عامل به الثلاثة وهم : كعب وصاحباه ، بل تلطف به ولم يهجره لأنه رئيس قومه ويخشى من سجنه وهجره فتنة للجماعة في المدينة ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفق به حتى مات على نفاقه نسأل الله العافية)) مجموع فتاوى ابن باز (4/235) .
المثال الثالث : قال العز بن عبد السلام : ((الكذب سيئة محرمة إلا أن يكون لجلب مصلحة أو دفع مفسدة كالكذب في حالة الإصلاح بين المتخاصمين لأن مصلحة تأليف القلوب أحسن من مفسدة الكذب، وككذب الرجل على زوجته لإصلاحها وحسن عشرتها ، وكالكذب على الأعداء كأن يختبئ عندك رجل مظلوم والظالم يسألك عنه ، حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع فما الظن بالصدق الضار)) قواعد الأحكام في مصلحة الأنام للعز بن عبد السلام (ص:84).
ثامناً مراعاة الأوقات :
والمقصود بمراعاة الوقت تخير الوقت الملائم للدعوة من حيث فراغ المدعوين واستعدادهم للتلقي ، وكذا المراعاة لأوقات المواعظ والدروس ، ومناسبة طول وقتها لأحول الناس ، ويندرج تحت ذلك مراعاة استعداد المدعو وبلوغه المرحلة التي يكون فيها الوقت مناسباً لتفاعله واستجابته .
وشاهد الضرب الأول ما روي عن ابن مسعود : ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)) أخرجه البخاري ، في كتاب العلم ، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا (الفتح) (1/161) قال ابن حجر معلقاً :ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد والعمل الصالح خشية الإملال ، وإن كانت المواظبة مطلوبة ولكنها على قسمين إما كل يوم مع عدم التكلف ، وإما يوماً بعد يوم ، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط ، وإما يوماً في الجمعة ، ويتخلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط (فتح الباري (1/163) ، وعن ابن عباس مثال آخر أشمل وأظهر إذ روي عنه أنه قال : حدث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ولا تملَّ الناس هذا القرآن ، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه (شرح السنة (1/314) .
وأما الضرب الثاني فيشهد له قول ابن مسعود : ((حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم)) ، فسئل عن علامة انصراف القلوب فقال : ((إذا التفت بعضهم إلى بعض ، ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم)) شرح السنة (1/313) ، ويضاف إليه ما روي عن عائشة أنها قالت لقاص أهل مكة عبيد بن عمير : ألم أحدَّث أنك تجلس ويُجلس إليك ؟ قال : بلى يا أم المؤمنين ، قالت : فإياك وإملال الناس وتقنيطهم (شرح السنة(1/314) وإملال الناس يكون بإطالة الحديث في كثير من الأحوال .
وأما الضرب الثالث فمثاله ما رواه البخاري ((عن حكم بن حزام رضي الله عنه قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع ، اليد العليا
خير من اليد السفلى)) أخرجه البخاري ، في كتاب الزكاة ،باب الاستعفاف عن المسألة (الفتح)(3/393) ، قال ابن حجر ((وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء في حاجته لتقع موعظته له الموقع)) فتح الباري (3/ 395) .
وهكذا نرى أمر المراعاة متشعباً ومهماً ، والحقيقة أن المراعاة ضرب من التدرج لأن المراعاة كثيراً ما تقتضي ترك أمر لعدم ملائمته إما للطبع أو الفهم أو الحال أو غير ذلك والاستعاضة عنه بغيره حتى يكون ممهداً لعرض الأمر المتروك فيأتي في وقته المناسب فمثلاً ((إذا كان الحكم مستغرباً جداً مما لم تألفه النفوس وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قلبه ما يكون مؤذناً به كالدليل عليه ، والمقدمة بين يديه ، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة عيسى عليه السلام وولادته من غير أب ، فإن النفوس لما أنست لولد من بين شخصين كبيرين لا يولد لهما عادة ، سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب)) إعلام الموقعين (4/163) .
وهذه أمثلة رويت عن عمر بن عبد العزيز في مراعاته لأحوال الأمة فيما سبقه من الزمن وحرصه على التدرج في الإصلاح .
1. حكي ((أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قال يوماً لأبيه عمر : مالك لا تُنفذ الأمور ؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق !! قال عمر : لا تَعجَل يا بني ، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة)) الموفقات (2/93-94) .
2. قال له ابنه ذات يوم ((يا أبت : ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل ؟ فو الله ما كنت أبالي لو غَلت بي وبك القدور في ذلك .
قال : يا بني ، إنِّي إنما أروِّض الناس رياضة الصعب ، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا من هذا ، ويسكنوا لهذا ))
3. روي أن ابنه دخل عليه فقال يا أمي المؤمنين : ما أنت قائل لربك غداً ، إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها ، أو سنة فلم تُحيها ؟ فقال أبوه : رحمك الله وجزاك من ولد خيراً يا بني ، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عُقدة عقدة ، وعروة وعروة ، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء ، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم ، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا هو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة ؟ تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص:240) وغني عن التنبيه أن التدرج يمكن أن يكون تهاوناً وتفريطاً وأن المراعاة لا يصح أن تكون مداهنة ونفاقاً .
المبحث الثاني : الجرأة والحكمة :
((الجرأة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن من الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد الذي يعتقده ، ومن الحق الذي يعتنقه ، ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به ، ومن القدر الذي يستسلم إليه ، ومن المسئولية التي يستشعر بها ، ومن التربية الإسلامية التي نشَّئ عليها .
وعلى قدر نصيب المؤمن من الإيمان بالله الذي لا يُغلب ، وبالحق الذي لا يُخذل ، وبالقدر الذي لا يتحول وبالمسئولية التي لا تكلّ ، وبالتربية التكوينية التي لا تمل ، وبقدر هذا كله يكون نصيبه من الجرأة والشجاعة وإعلان كلمة الحق التي لا تخشى في الله لومة لائم)) صفات الداعية النفسية (ص:23) .
والجرأة للداعية أمر مهم في زيادته وقيادته ، وفي تأثيره ومنفعته ، لأن الناس يتأثرون بالجريء المقدام ، لأنهم في الملمات يحجمون وتتقدم بالداعية جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التصرف فإذا هو المقدم الذي تشخص إليه الأبصار ، ويتعلق به القلوب .
فالجرأة سمه تقدم للداعية تنبئ عن قوة في القلب ، وعزيمة في النفس ، وصدق في المواقف ، وشموخ بالمنهج ، فعندما تنخلع القلوب هلعاً يبقى الداعية الجريء ساكن القلب رابط الجأش ، وعندما تخرس الألسن خوفاً تَنطق الجرأة على لسانه فيجهر بالحق لئلا تنطمس معالمه ، وعندما تحار العقول من هول المفاجآت أو صدمة الكوارث تعمل الجرأة عملها فإذا العقل حاضر ، والتفكير صادر ، ونحن في أعصر رق فيها الدين ، وكثر التساهل في الأوامر والنواهي ، وترخص كثيرون في الرضى بالمنكرات ، واستحيا آخرون من إظهار العمل بالصالحات ، حتى غدا المنكر معروفاً والمعروف منكراً في كثير من الأحوال ، وتدور دورة الحياة بمشاغلها ، وتبهر العقول بمفاتنها ، وتخطف الأبصار ببهارجها ، فتستقر الأوضاع الخاطئة وتستمر المنكرات الظاهرة وما ذلك إلا لقلة أهل الجرأة والشجاعة الذين يتقدمون لرفع راية الحق فيلتف حولهم آخرون ويكونون بؤرة تجمع ترفض الذوبان ، وتستعصي على التهجين ، إن لهذه الجرأة والشجاعة زاد من اليقين بـ(( أن حق الله لا بد أن يسود ، وأن هداه لا بد أن يعلو ، وأن نهجه لا بد أن تتضح معالمه وترسو دعائمه ، وأن المنتسبين إليه ما ينبغي أن تخفت أصواتهم ، ولا أن يغلبوا على تعاليمهم)) مع الله (ص:210) .
والحق أن ((الأمة جمعاء مكلفة أن تكون شجاعة في حماية الدين ، ورد العادين على حدوده من المجَّان والفجار)) مع الله (ص:210) وهذا هو وصف الصفوة المختارة لحمل الرسالة في كل عصر يتلفت فيه الناس من المسئولية ، ويتخلون عن التبعية ]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ المائدة [54] ، وعلى هذا بايع النفر الأوائل من الأنصار في بيعة العقبة كما قال عبادة بن الصامت : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ( أخرجه البخاري في كتاب الفتن ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدي أموراً تنكرونها (الفتح)(13/7) ، ولهذا أيضاً كان ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي (4244)(4/514) وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن ، باب ما جاء في أفضل الجهاد(شاكر)(4/471) .
وليست الجرأة تهوراً كما أن الحكمة ليست جنباً ، والمزج بينهما هو المطلوب الذي ينبغي اتصاف الداعية به في معاملته للآخرين وفي المواقف العصيبة ، وعدم وجود الجرأة والشجاعة يستلزم وجود ضدهما وهو الجبن والذلَّة اللذان لا يليقان بالداعية بحال لأنه ((إذا لم يكن الداعية المسلم شجاعاً مطيقاً لأعباء الرسالة ، سريعاً إلى تلبية ندائها ، جريئاً على المبطلين ، مغواراً في ساحاتهم فخير له أن ينسحب من هذا المجال وألاَّ يفضح الإسلام بتكلف ما لا يحسن من شئونه)) مع الله (ص:211) .
والجرأة تنبعث من اجتماع خلقين عظيمتين :-
أولهما : امتلاك الإنسان لنفسه وانطلاقه من قيود الرهبة والرغبة ، وارتضاؤه لوناً من الحياة بعيداً عن ذل الطمع وشهوة التنعم .
وثانيهما : إيثار ما عند الله والاعتزاز بالعمل له ، وترجيح جنابه على جبروت الجبارين ، وعلى أعطيات المغدقين ( مع الله (ص: 215-217) .
ولقد كان الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت ، فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: ((لم تراعوا ، لم تراعوا)) ، وهو على فرس لأبي طلحة عُري ما عليه سرج في عنقه سيف)) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (الفتح) (10/455) ، وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب في شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - (النووي)(15/67) وقد ترجم البخاري لهذا الحديث في بعض الأبواب فقال باب مبادرة الإمام عند الفزع (6/122) وقال النووي : فيه بيان شجاعته - صلى الله عليه وسلم - من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس (15 /68) .
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام في سائر الغزوات ففي يوم بدر يقول علي رضي الله عنه : ((لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)) أخرجه الحاكم في المستدرك(2/143) وصححه ووافقه الذهبي .
ويوم أحد انكشف المسلمون واضطربت صفوفهم فكان - صلى الله عليه وسلم - هو الثابت حتى اجتمعت حوله كوكبة الفداء الإيمانية .
ويوم حنين كان يقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وثبت حتى فاء الناس إليه وجاهدوا معه فكان النصر .
وفي غير المعارك كانت الجرأة في الحق سمة بارزة في حياته - صلى الله عليه وسلم - بل كانت حياته عملياً في تلقين الجرأة لتأخذ مسارها متجاوزة حواجز الحياء والمجاملة ، كما تجاوزت حواجز الخوف والجبن ، فها هي عائشة تقصُّ علينا خبر المرأة المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح فأهم قريش أمرها ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كلمه تلون وجهه عليه الصلاة والسلام وقال : أتشفع في حد من حدود الله ، فعرف أسامة الغضب في وجهه ، وأدرك خطأ فعله فقال : استغفر لي يا رسول الله ، ثم قام فخطب الناس فكان مما قال : ((إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (الفتح)(12/87) وقال ابن حجر في الفتح (12/96) وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولداً أو قريباً أو كبير القدر ، والشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه .
وأرى أن من المناسب أن نمضي في جولة نقف خلالها على مواقف جرأة وقعت من بعض أعيان الأمة وعلمائها ودعاتها ، لنرى آثار تلك المواقف ومنافعها ، وأهميتها في نجاح الداعية المقدام الجريء ، وهذه أمثلة من عصور مختلفة وفي ظروف متباينة:-
1. كانت المصيبة عظيمة ، والرزية فادحة ، بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصيب الصحابة الذين تعلقت قلوبهم به محبة ، وارتبطت حياتهم به قدوة بخطب جلل طاشت منه العقول ، وانخلعت القلوب ، واضطربت النفوس ، حتى أنكر الأشداء من أمثال عمر بن الخطاب موته عليه الصلاة والسلام ، ثم جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقرب المقربين ، وأحب الأحباء ، رفيق الغار والهجرة ، وسابق الإيمان والصحبة ، فكانت المصيبة عليه أعظم لكنها لم تنل حظها الوافر من قوة إيمانه ورباطة جأشه ، وفي ذلك الظرف العصيب ، والحيرة تشغل العقول ، والحزن يعتصر القلوب ، قام أبو بكر في جرأة نادرة وصاح بالناس : ((من كان يعبد محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)) ، ثم تلا قوله تعالى : ]إنك ميت وإنهم ميتون[ وقوله جل وعلا ]وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين[ ، ((فثاب الناس إلى رشدهم ، وعلموا حقيقة أمرهم)) البداية والنهاية (5/241) .
2. جاء أشراف بني أمية عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى الخلافة رجاء أن ينالوا منه الحظوة ، ويحصلوا على الولايات والأعطيات فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد ، فقال له رجل منهم : لم تعرض علينا ما لا تفعله ؟ قال : ترون بساطي هذا ؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى ، وأني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم فكيف أوليكم ديني ؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم ؟ هيهات هيهات ، فقالوا : لم ؟ أما لنا قرابة ؟ أما لنا حق ؟ قال : ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء ، إلا رجل حبسته عني طول الشقة ( نزهة الفضلاء (1/477-478) .
3. الإمام عبد العزيز بن يحي الكتاني المكي الذي عايش فتنة خلق القرآن وسمع بانتشارها ورواجها في بغداد فعز عليه ذلك فقدم على بغداد فهاله أنَّ ما رأى من أثر هذه البدعة أعظم مما سمع ، فجعل يفكر في عمل يعلن من خلاله عن الحق الذي خفت صوته ، وخاف الناس من إظهار اعتناقه ، قال : فأجمعت رأيي على إظهار نفسي وإشهار قولي ومذهبي على رؤوس الأشهاد والقول بمخالفة أهل الكفر والضلال والرد عليهم ، وذكر كفرهم وضلالتهم ، وأن يكون ذلك في المسجد الجامع في يوم الجمعة لأني رأيت - إن فعلت ذلك - أنهم لا يعجلون عليَّ بقتل ولا عقوبة بعد إشهار نفسي والنداء بالمخالفة على رؤوس الخلائق إلا بعد مناظرتي وسماع قولي ، وهذا هو مطلبي .
وصلى يوم الجمعة في الصف الأول أمام المنبر فلما سلم الإمام ، نهض قائماً على رجليه ليراه الناس ويسمعوا كلامه ، ونادى بأعلى صوته مخاطباً ابنه الذي اتفق معه أن يقف أمامه بين الصفوف ، فقال : يا بني ما تقول في القرآن ؟ قال : كلام الله منزل غير مخلوق ، فلما سمع الناس ذلك ولو هاربين ومن المسجد خارجين خوفاً وجبناً ، ولم يلبث أعوان السلطان أن أمسكوا به ، ولما مَثَل بين يدي كبير من كبرائهم فعنفه فسأله عن سبب صنيعه وجهره بقوله مع علمه بمخالفته لأمير المؤمنين قال : ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه ، وتم له ما أراد فناظر بشراً المريسي بين يدي المأمون وعلاه بالحجة ( مختصر من الدلائل النورانية (110-117) وهو عن الحيدة (3-14) ، فسر المسلمون بذلك وجعل الناس يجيئونه أفواجاً يهنئنونه ويسألونه عن المناظرة .
4. قام مصطفى كمال أتاتورك بأعظم جريمة ضد العالم الإسلامي عندما أصدر في 15 فبراير عام 1924م ثلاثة قرارات هي :
1. إلغاء الخلافة .
2. إلغاء وزارة الأوقاف والأمور الشرعية .
3. توحيد التعليم .
وقرر في الواقع العملي المنهج العلماني في فصل الدين عن الدولة ،ونادى بأن تركيا جزء من العالم الغربي ،ومضى يغير كل شيء له صلة بالإسلام في تركيا ،حتى أصدر في عام 1925م قانون الملابس الذي ينص على إبدال القبعة بالطربوش ،ويقرر عقوبة على من يلبس الطربوش الذي كان اللبس الشائع بين المسلمين ويلزم بلبس القبعة تأسياً بالغربيين وتشبهاً بهم ،وتعظيماً لهم .
وهنا برزت نماذج عديدة من جرأة العلماء العاملين والدعاة المصلحين ومن بينهم الشيخ عاطف أفندي الإسكيليبي الذي تصدى لهذه الهجمة التغريبية ،حتى ذكر في بعض كتبه ((أن بيعة المسلمين للخليفة أمر واجب وهو ثابت بالعقل والشرع)) ثم دلل على ذلك وقرر أن ((وجب تعيين الخليفة أمر ثابت بإجماع الأمة بطريق الأدلة الشرعية)) ، ثم كتب رسالة عن المرأة المسلمة وحجابها بعنوان ((التستر الشرعي)) وذلك في مواجهة التهتك العلماني الغربي ، ثم ألف رسالته الشهيرة ((تقليد الفرنجة والقبعة)) نعى فيها على المقلدين للغرب تقليداً أعمى ، والمتشبهين بالكفار وحكمهم وذكر القبعة مثالاً على ذلك وكان لهذه المواقف والرسائل أثرها الكبير في نفوس المسلمين ومواقفهم وصداها الواسع في منتدياتهم ومجالسهم ، مما حدا بأتاتورك وزمرته أن يقبضوا على شيخ عاطف ، وقدم بعد ذلك للمحكمة بخصوص رسالة القبعة في 26/يناير/1926م ، وصدر بحقه حكم الإعدام ونفذ فيه رحمة الله وتقبله في الشهداء (العثمانيون في الحضارة والتاريخ(ص:221-236) .
وهكذا فنحن نرى لمواقف الجرأة أثراً عظيماً في المجتمعات وخاصة في الأزمات ، والملمات وما لم يكن الداعية هو المتقدم الباذل فمن يكون ؟ .
كلا ليس لها إلا أنت أيها الداعية ، فما أجدى أن يكون الداعية ((صلب العود ، عظيم المراس ، لا يميل مع كل ريح ، ولا يضعف أو يلين أمام أي قوة ، ولا ينحني مع أي خلة ، ولا يندهش أمام أي مفاجأة ، أو يحزن عند أي مصيبة لتوجهه إلى الله بكليته ، واعتماده عليه في كل نائبة ، واحتباسه العوض منه عن كل شيء ،فحبيبه الأوحد هو الله ، وهو ذخيرته وملجؤه وهو هدفه وغايته ، وبذلك تكون شجاعته كاملة ، وبطولته خالدة ، وأخلاقه فاضلة ، وصبره معيناً لا ينفذ)) العثمانيون في الحضارة والتاريخ (ص:221-236) .
المبحث الثالث : الاستغناء والعطاء :
شعار عظيم رفعه على طريق الدعوة الرسل والأنبياء عندما تكرر في خطابهم لأقوامهم ]وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين[ الشعراء [109] ، والرجل المؤمن في سورة يس عندما دعا قومه لاتباع المرسلين علل لهم ذلك بقوله ]اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون[ يس [21] ، والدعاة سائرون على منهج الأنبياء فلا ينتظرون من أحد عطاء ، ولا يرقبون من إنسان مكرمة ، وأنى يكون ذلك ؟ وكيف يفكرون في مثل هذا الأجر الدنيء والعرض الزائل ؟ كلا إنهم لا تنشغل عقولهم بمثل هذا التفكير لأنها مشغولة بالرجاء في قوله تعالى ]ولأجرة الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون[ يوسف [57]، ولا تتعلق قلوبهم بشيء من حطام الدنيا وعطايا الناس لأنها متعلقة بقوله تعالى ]ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون[ النحل [41]إنهم يرغبون في نوع آخر من الأجر غير ممنون ولا مقطوع ]إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون[ الانشقاق [25] ،]وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ[ هود [108] .(1/96)
إن صورة الداعية لا تجمل ولا تكمل إلا باستغنائه عما في أيدي الناس وما من شيء يذهب أثر الدعوة ويمحو عزة الداعية مثل سؤال الناس أو انتظار عطائهم ، إنه حينئذ لا يكون داعية بل يصبح تاجراً فاجراً يتاجر بالدين ، يشابه فعل اليهود ]الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً[ آل عمران [77] وبهذا السلوك يكون الداعية ممن يصدون عن دين الله كما بين ذلك الله جل وعلا في قوله ]اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله[ التوبة [9] وذلك من أعظم البلاء ، ولذا ((ينبغي أن يتعفف الداعية عما في أيدي الناس ليظل عزيزاً مرفوع الرأس ، قادراً على أن يقول ما يريد وأن يبلغ ما يلزم إبلاغه دون أن يحمل منة في عنقه لأحد تجعله مغلول اليد أو مغلول اللسان ، وبقدر ما يستطيع الداعية أن يحقق لنفسه من العفة والورع بقدر ما يكتسب من تقدير وقدرة وإمكانية)) مع الله (ص:74) .
نعم لا بد أن يميز الدعاة ((زهدهم في زخارف الدنيا ، وفضول العيش ، ونهامة المادة ، ومرض التكاثر ، فإنهم لا يستطيعون أن يؤثروا فيمن يخاطبونهم ، ويحملون على إيثار الدين على الدنيا ، والآجلة على العاجلة ، وتلبية نداء الضمير والإيمان على نداء المعدة والنفس والشهوات )) وذلك لأن ((الناس ما زالوا ولا يزالون مفطورين على الإجلال لشيء لا يجدونه عندهم ... فإذا رأى الناس علماء ودعاة لا يقلون عنهم في حب المادة ، والجري ورائها ، والتنافس في الوظائف والمناصب, والإكثار من الثراء والرخاء ، والتوسع في المطاعم والمشارب ، وخفض العيش ولين الحياة فإنهم لا يرون لهم فضلاً عليهم ، وحقاً في الدعوة إلى الله ، وإيثار الآخرة على الدنيا ، والتمرد على الشهوات ، والتماسك أمام المغريات ، وقد قيل فاقد الشيء لا يعطيه)) بعض سمات الدعوة المطلوبة في هذا العصر ، ضمن أبحاث وقائع اللقاء الخامس لمنظمة الندوة العالمية لشباب الإسلامي (ص:410) .
هذا هو سمت أهل العلم والإيمان ذكره الله جل وعلا لنا في قصة قارون يوم خرج على قومه في زينته ، فتاقت إلى حاله ودنياه نفوس الضعفاء لأن قلوبهم خواء ، وجاء الجواب حاسماً من أهل العلم والإيمان لأن في قلوبهم غناء ]ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً وما يلقاها إلا الصابرون[ القصص [80] .
وتكتمل شخصية الداعية ويعظم تأثيره إذا ضم إلى الاستغناء العطاء ، وما الدعوة إلاَّ عطاء دائم يبذل فيه الداعية من مشاعره ومن وقته ومن ماله ومن جاهه ومن وقوته ومن حيلته حتى يبلغ الغاية ببذل نفسه وإعطاء روحه جهاداً في سبيل الله وتضحية من أجل الدعوة إلى الله ]لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون[ آل عمران [92] .
التاريخ يشهد أن الدعاة إذا اغتنت قلوبهم بالمعاني الإيمانية واستغنت عن المتع الدنيوية استسهلوا الصعب غير مستثقلين ، وركبوا الأخطار غير عابئين وواجهوا الأخطار غير خائفين ، لا تثنيهم رهبة ، ولا تستميلهم رغبة .
وانظر إلى ربعي بن عامر رضي الله عنه يوم قدم إلى أبهة الملك ، بما فيها من متاع الدنيا وزخرفها ، فوطئ الطنافس بأقدامه ، وخرقها برمحه ، واستغنى واستعلى بإيمانه ، وقال قولته المشهورة التي ما تزال تدوي في سمع الزمان : ((جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)) .
ويوم أسر عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ، قال له ملك الروم : هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي ؟ فقال : لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين ؟ ، قال : إذاً أقتلك ، قال : أنت وذاك ؟ سير من أعلام النبلاء (2/14) .
إنها المواقف التي رجمها الزبيدي شعراً عاصفاً رائعاً فقال :
خذوا كل دنياكمُ واتركوا فؤادي حراً وحيداً غريباً
فإني أعظمكم دولة وإن خلتموني طريداً سليباً
وصاغها الرافعي الأديب من قاموس الحكمة في كلمات في غاية القوة فقال : ((إذا رمتك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها ، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه)) نقلاً من المنطلق )وتكررت بعد جيل الصحابة مرات ومرات جددها أئمة الدعاة من الثقات الأثبات فهذا عيسى بن يونس حدث الأمين والمأمون فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها ، فظن أنه استقلها "أي رآها قليلة"، فأمر له بعشرين ألفاً ، فقال عيسى : لا ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهباً إلى السقف ، فانصرف من عنده)) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/357) .
وفي وقت اشتداد الأزمة إبان فتنة خلق القرآن دعي عفان بن مسلم للمحنة فلما حضر عُرض عليه القول ، فأبى أن يجيب ، فقيل له : يحبس عنك عطاؤك ، وكان يعطي في كل شهر ألف درهم ، فقال :]وفي السماء رزقكم وما توعدون[ الذريات [22] ، فلما رجع إلى داره عزله نساؤه ومن في داره ، قال الرواي : وكان في داره نحو أربعين إنساناً (نزهة الفضلاء (2/762).
وليس الأمر مقتصراً على الاستغناء عما في أيدي الأمراء بل هو كذلك بالنسبة للتعامل مع المدعوين والتلاميذ فقد وجه بعض مشايخ مرو إلى علي بن حجر بشيء من السكر والأرز وثوب فرد عليهم بقصيدة قال فيها :
جاءني عنك مرسل بكلام فيه بعض الإيحاش والإحشام
فتعجبت ثم قلت تعالى ربنا ذا من الأمور العظام
خاب سعيي لئن شريتُ خلاقي بعد تسعين حجة بحطام
أنا بالصبر واحتمالي لإخواني أرجِّي بحلول دار السلام
والذي سميته يزري بمثلي عند أهل العقول والأحلام
وأهدى أصحاب الحديث الأوزاعي هدية فلما اجتمعوا عنده ، قال لهم : أنتم بالخيار إن شئتم قبلت هديتكم ولم أحدثكم ، وإن شئتم حدثتكم ورددت هديتكم (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/357) .
وجمع الشيخ عاطف أفندي بين الموقفين مع أصحاب السلطان ومع عامة الناس ، فقد ((دعي إلى طعام الإفطار في رمضان مع السلطان وحيد الدين ، وتقدم السلطان بهدية للشيخ تقديراً له ورجاه أن يقبلها فاعتذر قائلاً : استسمحكم ألا تعودوني على تلقي الإحسان .
وذات يوم أهداه فرَّاش متقاعد ممن يحبونه ويجلونه بعضاً من الحلوى صنعها خصيصاً للشيخ فاعتذر منه وقال له : سامحني لأنني لم أستطع قبول هديتك ، سامحني فإن مهنتي والقضية التي أعمل لها حساسة للدرجة التي لا أستطيع معها تحمل مثقال وطأة المنفعة المادية)) العثمانيون في التاريخ والحضارة (ص:229-230) .
وبقدر أهمية الاستغناء تأتي أهمية العطاء الذي له أثره الأبلغ في النفوس لملامسته لمصالحهم ، وقضائه لحاجاتهم ، وقد كان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - -كما قال أنس- ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه وقال : يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (أخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب ما سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قط فقال لا (عبد الباقي)(4/1806) .
وهذا صفوان بن أمية رضي الله عنه يقول : لقد أعطاني النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي (الإصابة (2/187) .
وأبو بكر خرج من ماله كله بذلاً في سبيل الله ، ونصرة لدين الله ، وعمر أنفق في هذا السبيل شطر ماله ، وعثمان جهز جيش العسرة وكان رائداً للمنفقين ، وكذا كان عطاؤهم لدعوتهم ، ومثله عطاؤهم للناس عظيماً تقوى به الدعوة ، ويُتألف به المدعوين .
وليس العطاء محصوراً في المال ، بل هو أوسع من ذلك إذ يشمل كل عون يقدمه الداعية للمدعوين ، وكل معروف يسديه لهم ، فقد يعطيهم من وقته أو جهده أو فكره بل حتى من بشاشة وجهه وحسن استقباله ، وميدان العطاء بالنسبة للداعية فسيح ، وأثره كبير ، فينبغي أن يكون فيه مسابقاً ومنافساً ، ومحققاً لما أوصى به الشيخ البنا الداعية بقوله : ((أن تكون عظيم النشاط ، مدرباً على الخدمات العامة ، تشعر بالسعادة والسرور إذا استطعت أن تقدم خدمة لغيرك من الناس ، فتعود المريض وتساعد المحتاج ، وتحمل الضعيف ، وتواسي المنكوب ولو بالكلمة الطيبة وتبادر دائماً إلى الخيرات)) مجموعة رسائل البنا(ص:21) .
والدعاة ينبغي أن يحرصوا على الخدمات العامة ويخصصوا لها من أفرادهم وجهودهم ما يلائمها ، فلا بد أن يكونوا هم العاملين في الهيئات الإغاثية ، ومشاركة في اللجان الخيرية ، والمشاريع الصحية ونحو ذلك ، ليكونوا أكثر صلة بالناس وأشد قرباً منهم ، وليحوزوا من خلال الخدمة والعطاء استجابة المدعوين وتأثرهم ، إضافة إلى أنهم بذلك يبرزون صورة عملية لشمولية وتكامل الإسلام ، ولصدق وخيرية الدعاة .
ولقد أشارت خديجة رضي الله عنها إلى أثر الخدمة العامة والعطاء الدائم عندما نزل الوحي وقال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له : ((والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق)) فيا سبحان الله تأمَّل هذه الصور المتنوعة من العطاء وقد تحلى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته فكيف إذن كان بعدها ؟ .
المبحث الرابع : الاستمرار والابتكار
إن العمل المنقطع يتبدد أثره ، والعمل المتكرر يورث الملل ، ويفقد الحماس ، ثم إن توقف الداعية وعدم استمراريته في دعوته دليل خلل في فهمه ، أو ضعف في عزمه ، وتكراره وعدم ابتكاره يشير إلى قلة حيلته وضعف بصيرته ، وما هكذا يكون الداعية ، بل الداعية نشاط متدفق ، وتجديد متألق ، عمل لا يكل ، وتفكير لا يمل .
والدعاة لهم في هذا الباب مثل عظيم جداً في قصة نوح عليه السلام حيث لبث في قومه داعياً ]ألف سنة إلا خمسين عاماً[ العنكبوت [29] ، وكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائباً ، وتنويعاً متكرراً ]قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ، ثم إني دعوتهم جهاراً ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً[ نوح [5-9] ، رغم امتداد الزمن الطويل ، ما توقف عن الدعوة ولا ضعفت همته في تبليغها ، ولا ضعفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها ، قال الألوسي في تفسيره : ]رب إني دعوت قومي[ أي إلى الإيمان والطاعة ، ]ليلاً ونهاراً[ أي دائماً من غير فتور ولا توان ، ثم وصف إعراضهم الشديد، وإصرارهم العنيد ، ثم علق على قوله تعالى: ]ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً[ فقال :أي دعوتهم مرة بعد مرة ، وكرة غبَّ كرة، على وجوه مختلفة وأساليب متفاوتة، وهو تعميم لوجوه الدعوة، بعد تعميم الأوقات، وقوله ]ثم إني دعوتهم جهاراً[ يشعر بمسبوقية الجهر بالسر، وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو (تفسير الألوسي (10/89) .
فانظر إلى استمراريته في الدعوة رغم شدة الإعراض والعناد، لم يدفعه ذلك الإعراض إلى التوقف، ولا لممارسة الدعوة بصورة عادية لا روح فيها بل على العكس دفعه الإعراض ليواصل المحاولة مع تنويع الأساليب وابتكار طرق جديدة لتبليغ الدعوة، وتزيده حماسة على ((جعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدوء وراحة البال وهي أوقات الليل)) التحرير والتنوير(29/194) ، ((وتوخي ما يظنه أو غل إلى قلوبهم من صفات الدعوة، فجهر حيث يكون الجهر أجدى مثل مجامع العامة، وأسرَّ للذين يظنهم متجنبين لوم قومهم عليهم في التصدي لسماع دعوته)) التحرير والتنوير(29/197).
ولنا مثل في قصة يوسف عليه السلام لما دخل السجن مظلوماً، حيث انتهز الفرصة ومارس الدعوة .
والاستمرارية خير كما قال عليه الصلاة والسلام ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ)) قال المناوي: ((أدومها : أي أكثرها ثواباً، وأكثرها تتابعاً ومواظبة))، وذكر منافع ا
ـــــــــــــــ(1/97)
تقصير الداعية مع زوجته
ناصح للسعادة الأسرية
وصف المشكلة
قلة اهتمام الداعية بتربية زوجته، و انشغاله عنها، وتقصيره في أمرها بالمعروف و نهيها عن المنكر و تقوية ايمانها وتعليمها أمور دينها.
أسباب المشكلة :
1. عدم استشعار الزوج لمسؤوليته الشرعية تجاه أهل بيته وزوجته خاصة " ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" و " كلكم راع ... والرجل راع ومسؤول عن رعيته "
2. انشغال الزوج بأعماله الدنيوية وتوسعه في الانغماس فيها على حساب أهله.
3. كثرة أعباء الزوج الدعوية خارج محيط أسرته، مما لا يتيح له المجال للجلوس مع زوجته.
4. غلبة الأحاديث الدنيوية بين الزوج وزوجته مما يفوت الفرص لتوجيه إيماني أو حديث تربوي.
5. ضعف اهتمام الوسط الدعوي بضرورة قيام الداعية بدوره الشرعي تجاه أهله و أسرته.
6. ضعف التزام بعض الأزواج.
بعض المقترحات و الحلول :
1. وجود لقاء بين أفراد الأسرة لتدارس موضوعات إيمانية و آداب شرعية.
2. شراء الكتيبات و المجلات الإسلامية.
3. شراء الأشرطة الإسلامية وتكوين مكتبة سمعية مميزة..
4. استغلال فترات الأكل واللقاءات الأسرية الروتينية في التوجيه و الإرشاد. ( بأسلوب غير مباشر)
5. قيام الليل و صلاة الوتر ( الزوجين معا ).
6. التعاون على أداء الصلاة في أوقاتها لا سيما صلاة الفجر.
7. تخصيص صندوق للصدقات و المشروعات الخيرية وورد الذكر ونحوها.
8. حسن التعامل مع الزوجة والإبتعاد عن الألفاظ الجارحة و العبارات السيئة.
9. ربط الزوجة بالمؤسسات الخيرية ودور الذكر ونحوها من الحياض الإيمانية و اللقاءات التربوية.
10. طيب العشرة، وحسن التعامل، و القدوة الحسنة.
تعليق الأخ مهذب
بوركت إيها المفضال ( ناصح ) لا حرمك الله الأجر وأصلح لك الذرية .
شيخنا الكريم . .
هي مشكلة حقيقية . .
لكنها مشكلة فيها مشكلة !!
بعض الدعاة أو قل - بعض المنخرطين في برامج دعوية - يفترضون انفصاماً بين الدعوة خارج البيت وداخل البيت . .
فتجدهم إمّا أن ينخرطوا بين زوجاتهم وأبنائهم في جيئات وروحات وبرامج متنوعة . .
لكن لا تجد له أثرا حتى على جيرانه أو في مسجد الحي أو في برامج دعوية عامة خارج البيت . . .
كثير الإعتذار . .
كثير الإنشغال . .
ومنهم من ينخرط كلّية في العمل خارج المنزل . .
برامج . .
رحلات . .
محاضرات ..
لقاءات . .
لا يعلم ما يكون في بيته من قلّة وجوده في البيت وكثرة ارتباطاته !!
في البيت ..
خادمة ..!!
ومعلم للصبيان !!
وسائق !!
وأجهزة ( بلاي ستيشن ) للأطفال !!
كل هذا يحصل لما ذكره الشيخ من أسباب ولهذا السبب أيضاً . .
( افتراض الانفصام في العمل الدعوي خارج البيت وداخله ) !!
إن العمل الدعوي في البيت لا يعني بالضرورة . .
تلك اللقاءات والندوات والجلسات والمسابقات والرحلات . .!!!
إن الدعوة في المنزل ..
قلب رؤوف . .
وكلمة طيبة . .
ابتسامة مؤثرة . .
وقدوة حسنة !!
إن هذه الروح تجبر صاحبها على أن يرقى بأهله وابنائه . .
ولا يزال وهو بهذه الروح يسمو بدعوته في بيته وخارج بيته !!!
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - . .
خارج بيته معلما مربياً مجاهدا قاضياً ناصحا مشفقا خطيباً يسلب اللب . . .
وفي بيته . .
كان كما قالت عائشة رضي الله عنها ووصفته :
" كان يكون في مهنة أهله " !
" وكان خلقه القرآن " !!
إن عائشة رضي الله عنها لم تكن تشهد كل أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج البيت . .
لكنها كانت تشهد خلقه وفعله وقوله وسلوكه وهو في بيته فوصفته بأبلغ الأوصاف التي هي الكمال النبوي . .
" كان يكون في مهنة أهله " " كان خلقه القرآن " !!!
فما أحوج الدعاة اليوم أن يستشعروا هذه القدوة في المربي الأول . .
محمد - صلى الله عليه وسلم - !!
ليكونوا بحق أسعد الناس بأهلهم وأهلهم أسعد الناس بهم !!
فإن من الغبن . .
أن يكون أشقى الناس بك هم أقربهم إليك !!
ـــــــــــــــ(1/98)
أين أنتنَّ من هؤلاء
للشيخ / خالد الراشد
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ..
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ }..
{ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً }..
{ يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً سَدِيداً ، يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً }..
أما بعد :
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله ..
وخير الهدي هدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ..
وشرَّ الأمور محدثاتها ..
وكل محدثة بدعة ..
وكل بدعة ضلالة ..
وكل ضلالة في النار ..
معاشر الأحبة رجالاً ونساءً ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
حيَّا الله الجميع ..
أسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم في دار كرامته ..
وأن يحفظنا وإياكم بحفظه ..
وأن يستر علينا وإياكم بستره ..
أسأله سبحانه أن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين ..
حديث الليلة خاص إليكِ أنتِ ..
فأنتِ مدار الحديث كله ..
بصلاح المرأة صلاح المجتمع كله ..
وإذا قامت المرأة بدورها العظيم ..
فإنَّ النصر ، والتمكين يكون قريباً بإذن الله ..
أهلاً بك في لقاء بعنوان :
أين أنتنَّ من هؤلاء
قبل أن أبدأ أود أن أقول ما الدافع إلى هذا الموضوع ؟..
أولاً ..
حاجة المرأة إلى القدوة ..
حاجة النساء المسلمات اليوم إلى القدوة في زمن ضاعت فيه القدوات ..
من الدوافع أيضاً ..
رفع الهمم في زمن أيضاً ضعفت فيه همم كثيرات ..
ثم ..
الواقع الذي نعيشه اليوم ..
رغبة الناس في الدنيا ..
وعزوفهم عن الآخرة ..
فكان لا بدَّ من التذكير ..
تذكير النفس ..
وتذكير الآخرين والأخريات ..
بأنَّ ما أعدَّ الله للمؤمنين والمؤمنات خير من الدنيا وما فيها ..
ثم من الدوافع ..
أنه من أراد الوصول فعليه بالأصول ..
ومن سارت على الدرب وصلت بإذن الله ..
إننا أيتها الغالية ..
في أمّس الحاجة للنظر في سيرة أولئك الرجال والنساء ..
إننا أخية ..
في أمّس الحاجة لدراسة سيرة أولئك الرجال والنساء ..
إننا أخية ..
في أمّس الحاجة أن نتأسى بأولئك الرجال والنساء ..
قال ابن مسعود رضي الله عنه :
من كان متأسياً فليتأسى بمن مات ، فإنَّ الحي يُخشى عليه من الفتنة ..
أيتها الغالية ..
إننا حقيقة نحتاج إلى أن نصحح المسار ..
ونتخذ من حياة أولئك الرجال والنساء مثالاً لنا ..
إننا بحاجة إلى القدوة في زمن قلَّت فيه القدوات ..
إننا بحاجة إلى أن نتعلم منهم العزة في زمن قلَّ فيه المعتزون والمعتزات ..
إننا بحاجة إلى ان نتعلم منهم الثبات في زمن قلَّ فيه الثابتون والثابتات ..
أما تلاحظين أيتها الغالية ..
أنَّ المفاهيم قد تغيرت ..
حتى أصبح الممثلين والممثلات ، والمغنيين والمغنيات هم القدوات ..
كم تُصرف الأوقات والأموال لقراءة ومتابعة أولئك الغافلين والغافلات !!..
أكرر أخية ..
نحن بحاجة إلى أن نصحح المسار ..
وأن نعرف من هم القدوات ..
سيتكون الموضوع بعد المقدمة التي ذكرناها من ..
صورة من العزة والثبات ..
ثم المحبة ومعناها ..
ثم صورة من حبّ الله ورسوله ..
ثم صانعة الأبطال ..
ثم المؤمنة والحياء ..
ثم نختم بإذن الله ..
- أيتها الغالية ..
هل سمعت عن تلك التي قالت لقومها :
أي والله إني على دينه ..
ما شأنها ؟!..
وما قصتها ؟!..
وما خبرها ؟!..
إنها أم شُريك ..
إنها غزيّة بنت جابر ابن حكيم القرشية العامرية ..
التي كانت من أوائل من أسلم هي وزوجها ..
تحكي رضي الله عنها قصة حياتها ..
حياة الثبات والصبر على دينها رغم التعذيب القاسي ..
تقول : جاءني أهل زوجي ، فقالوا لي :
لعلك على دين محمد ؟!..
لعلك على دين محمد ؟!..
قلت : أي والله إني لعلى دينه ..
تأملي نبرة العزة ..
قلت : أي والله إني لعلى دينه ..
قالوا : لا جرم .. والله لنعذبنَّك عذاباً شديداً ..
ثم ارتحلوا بي على جمل هو شر ركابهم وأغلظ ..
يطعمونني الخبز والعسل ؛ ويمنعون عني الماء ..
حتى إذا انتصف النهار ، وسخنت الشمس ؛ نزلوا فضربوا أخبيتهم وتركوني في الشمس قائمة ، وفعلوا بي ذلك ثلاثة أيام ..
حتى ذهب عقلي ، وسمعي ، وبصري ..
قالوا لي في اليوم الثالث :
اتركي دين محمد وما أنت عليه ..
تقول قلت في نفسي : ليتهم رجعوا إلى أنفسهم بعد ماعاينوا صبري وقد ذهب عقلي وسمعي وبصري ..
لعلهم يرجعون عن غيهم وفعلتهم هذه ويدخلون في دين الله عز وجل ..
الدين الذي تذوقت حلاوته ..
نعم أيتها الغالية ..
إنها امرأة لا تملك من حطام الدنيا شيئاً لتفتدي به نفسها من ذلك العذاب ..
ولكنها تمتلك الإيمان ..
تمتلك الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب فامتلأت بحب علَّام الغيوب..
نعم ..
إنَّ الإيمان هو المحرك الحقيقي لهذا الإنسان ..
تقول غزيّة :
وما دريت والله ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة ..
كنت أشير بأصبعي إلى السماء _ علامة على ثباتها على معرفة الله الواحد
الأحد _ ..
تقول : فوالله إني لعلى ذلك وقد بلغ مني الجهد ولكن شاء الله عز وجل أن يلطف بي بعد ذلك البلاء المبين ..
أما قال الله سبحانه : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } ..
أما قال سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ..
تقول : وبين أنا على تلك الحال إذ وجدت برد دلو على صدري ..
فأخذته فشربت منه جرعة واحدة ..
ثم انتُزع فنظرت _ وهي التي فقدت بصرها _ فنظرت فإذا هو معلق بين السماء والأرض ، فلم أقدر عليه ..
ثم تدلى ثانية فشربت منه جرعة ..
ثم تدلى ثالثة فشربت حتى رويت وأرقت على رأسي ووجهي وثيابي ..
خرج أهل زوجي ونظروا إليَّ على تلك الحال ..
وقالوا : من أين لك هذا يا عدوة الله ..
فقلت بكل عزة وثبات ..
قلت بكل عزة وثبات ..
عدو الله غيري ..
إنه من خالف دين الله وعصى أوامره ..
ثم قلت : أمّا هذا الذي تتساءلون عنه فهو من عند الله عز وجل ..
رزق رزقنيه الله ..
الله الذي { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ..
الله الذي قال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } ..
قريب ..
أسمع وأجيب ..
وأعطي البعيد والقريب ..
وأرزق العدو والحبيب ..
قريب ..
أغيث اللهفان ..
وأُشبع الجوعان ..
وأسقي الظمآن ..
وأتابع الإحسان ..
قريب ..
عطائي ممنوح ..
وخيري يغدو ويروح ..
وبابي مفتوح ..
وأنا حليم كريم صفوح ..
قريب ..
يدعوني الغريق في البحار ..
والضال في القفار ..
والمحبوس خلف الأسوار ..
كما دعاني عبدي في الغار ..
قريب ..
فرجي في لمحة البصر ..
وغوثي في لفتة النظر ..
المغلوب إذا دعاني انتصر ..
سبحانه ..
اطلع فستر ..
وعلم فغفر ..
وعُبد فشكر ..
وأوذي فصبر ..
سبحانه لا إله إلا هو ..
قلت : أما هذا الذي تتساءلون عنه فهو من عند الله عز وجل ..
رزق رزقنيه الله ..
الله الذي { يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }..
هنا انطلق أهل زوجي سراعاً إلى قرابهم المملوءة بالماء وإلى أوعيتهم الأخرى يستجلون الخبر ، فعند القراب والأوعية الخبر اليقين ..
وجدوها موكوءة لم تُحل ..
فعادوا لها وقالوا : نشهد بأن ربك هو ربنا وإن الذي رزقك في هذا الموضوع وفي هذا المكان بعد أن فعلنا بك ما فعلنا هو الذي شرع هذا الدين العظيم ..
هو الإله الحق ..
ثم أسلموا وهاجروا جميعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
بثباتها ، وعزتها ، وموقفها الشديد أسلم القوم ..
أسلم القوم ، وظهر لهم الحق ..
إنه درس على الثبات والإيمان الذي جعل الؤمنات كالجبال الراسيات ..
فلا عذاب ولا تهديد يجعلهنّ يقدمنّ أي تنازلات ..
بل إباء ، وشموخ ، وثبات ..
أما قال بلال وهو الذي ذاق أمرّ العذاب لما سُأل : كيف تحملت كل هذا العذاب ؟؟..
قال : مُزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فطغت حلاوة الإيمان ..
كرر عليَّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
في الصحيح عن أنس بن مالك قال :
( ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان _ وفي رواية : ذاق حلاوة الإيمان _ ..
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ..
وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ..
وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار)..
أخية ..
إنَّ الإيمان ..
ليس بالتمني ولا بالتحلي ..
ولكن بما وقر في القلب ..
وصدقه اللسان ..
وعملت به الجوارح والأركان ..
يزيد بالطاعة ..
وينقص بالعصيان ..
أيتها الغالية ..
إن الإله هو الذي يألهه العباد ..
حباً ..
وذلاً ..
وخوفاً ..
ورجاءً ..
وتعظيماً ..
وطاعةً له ..
بمعنى : مألوه وهو الذي تألهه القلوب ..
أي تحبه وتذل له ..
أيتها الغالية ..
إنَّ العقول تحكم بوجوب ..
تقديم محبة الله ..
على محبة الناس ..
على محبة النفس والأهل والمال والولد وكل ما سواه ..
وكل من لم يحكم عقلها بهذا فلا تأبه لعقلها ..
فإنَّ العقل ، والفطرة ، والنظر تدعو كلها ..
إلى محبته سبحانه ..
بل إلى توحيده في المحبة ..
وإنما جاءت الرسل التقرير ما في الفطر والعقول كما قيل ..
هب الرسل لم تأتِ من عند
أليس من الواجب المستحق
فمن لم يكن عقله آمراً بذا
وإنَّ العقول لتدعو إلى
أليست على ذلك مجبولة
أليس الجمال حبيب القلوب
فيا منكراً ذاك والله أنت
ويا من يوّحد محبوبه
حظيت وخابوا فلا تبتئس
... ... ولا أخبرت عن جمال الحبيب
محبته في اللقا والمغيب
ما له في الحجا من نصيب
محبة فاطرها من قريب
ومفطورة لا لكسب غريب
لذات الجمال وذات القلوب
عين الطريد وعين الحريب
ويرضيه في مشهد أو مغيب
بكيد العدو وهجر الرقيب
- اسمعي أمة الله ..
اسمعي أماه ..
اسمعي أختاه ..
عن المحبات الصادقات ..
وتساءلي وقولي أين نحن من هؤلاء ؟!..
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشَّر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ..
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( أتاني جبريل فقال : يا رسول الله هذه خديجة أتتك ومعها إناء فيه طعام وشراب فإذا هي أتتك فأقرأ عليها من ربها السلام ومني )..
اله أكبر ..
ربها يقرؤها السلام ..
نزلت عليه - صلى الله عليه وسلم - آيات سورة المزمل بأمر الله عز وجل نبيه بقيام الليل ..
فقام _ بأبي هو وأمي _ وقامت معه خديجة وقام الصحابة اثنا عشر شهراً حتى انتفخت أرجلهم ..
ثم نزل التخفيف لما رأى الله صدقهم فقال سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } ..
أما قال عنها - صلى الله عليه وسلم - :
( آمنت بي يوم كفر بي الناس ..
وآوتني يوم طردني الناس ..
وصدقتني يوم كذبني الناس ..
وأعطتني مالها يوم حرمني الناس ) ..
فلا عجب أن يقرؤها ربها السلام ..
ها هي الصدّيقة بنت الصدّيق المبرأة من فوق سبع سماوات ..
يقول القاسم :
( كانت عائشة تصوم الدهر ) ..
وقال أيضاً :
( كنت إذا غدوت _ يعني إذا أصبحت _ أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها ؛ فأُسلّم عليها ، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } ..
تدعو وتبكي وتردد ..
فانتظرت حتى مللت الانتظار ..
فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت فإذا هي في مكانها قائمة تصلي تبكي وتردد : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} ) ..
تأملي يا رعاك الله ..
إذا كان هذا نهارها ..
فكيف تكون إذا جنَّ عليها الليل !!..
فإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد العابدين ..
فالصدّيقة العالمة بليله وقيامه ووتره سيدة المتهجدات ..
{ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } ..
أما بنت الفاروق حفصة فقال أنس : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( قال جبريل راجع حفصة فإنها صوّامة قوَّامة ) ..
وقال نافع : ماتت حفصة حتى ما تفطر ..
أخيه ..
من علمت وأيقنت أنَّ ..
آخر العمر إلى اللحد ..
لم تنشغل بتزيين المهد ..
- سؤال ..
ونحن في هذا المكان ..
كيف تكون أول ليلة في الزفاف والعرس !!..
اسمعي وقولي ..
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } ..
لما أُهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم ..
أدخله ابن أخيه الحمام ..
ثم أدخله بيتاً مطيباً فيه العروس ..
فقام يصلي حتى أصبح ؛ وقامت معاذة خلفه ..
فما أصبحا عاتبه ابن أخيه على فعله فقال له :
إنك أدخلتني بيتاً أذكرتني به النار ..
ثم أدخلتني على تلك العروس فتذكرت الجنة ..
فما زالت فكرتي فيها حتى أصبحت ..
لله درهم ..
كم علت بهم هممهم ..
وأي كلام يترجم فعالهم ..
امرأة تحي الله كله ليلة بنائها ..
فما بال النسوة في زماننا ؟!..
بل ما بال الرجال في هذا الزمان ؟؟!!..
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحيّ غير نسائها
كانت رحمها الله إذا جاء النهار قالت :
هذا يومي الذي أموت فيه ..
فما تنام حتى تمسي ..
فإذا أمست وجاء الليل قالت :
هذه ليلتي التي أموت فيها ..
فلا تنام حتى تصبح ..
اسمعي ما قاله ثابت البناني عن خبرها يوم أن بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها ..
إنها مصيبة عظيمة ..
لكن على المؤمنات أبداً ما تكون ..
فأتت النساء يواسينها في مصابها فقالت :
مرحباً بكن إن كنتن جئتن لتهنئنني ..
وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن من حيث أتيتن ..
الله أكبر ولله درها ..
أي صنف من النساء هذه التقية النقية ..
لا عجب ..
فهي تلميذة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ..
جئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع..
يقول الحسن :
لما مات زوجها شهيداً لم توّسد فراشاً بعده ..
قالت لابنتها من الرضاعة :
والله يا بنية ..
ما محبتي للبقاء في الدنيا ..
للذيذ عيش ..
ولا لرَوْح نسيم ..
ولكن والله أحب البقاء ..
لأتقرّب إلى ربي عز وجل بالوسائل ..
لعله يجمع بيني وبين أبي لصهباء وولده في الجنة ..
تقول عنها عفيرة العابدة :
لما احتضرها الموت _ يعني معاذة _ لما احتضرها الموت بكت ثم ضحكت ..
فقيل لها : بكيت ثم ضحكت ؛ فممَ البكاء ، وممَ الضحك ؟!..
قالت :
أما البكاء الذي رأيتم ..
فإني ذكرت مفارقة الصيام ، والصلاة ، والذكر ..
فكان البكاء لذلك ..
وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي ..
فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار عليه حلتان خضراوتان ، وكان في نفر والله ما رأيت لهم في الدنيا شبهاً ..
فضحكت إليه وضحك إلي ..
ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضاً معكم ..
قالت : فماتت قبل أن يدخل عليها وقت الصلاة التالية ..
سبحان الله ..
بكت لكن على ماذا بكت !!!..
بكت على فراق ..
الصيام ..
والصلاة ..
والذكر ..
وأنت أيتها الغالية على ماذا تبكين ؟؟!!..
وأنت أيتها الغالية على ماذا تبكين ؟؟!!..
ما هي همومك وفيما أحزانك ؟؟!!..
على ماذا تلك الدمعات الغالية ؟؟!!..
من أجل من تذرفينها ؟؟!!..
قومٌ مضوا كانت الأيام بهم نزهاً
ماتوا وعشنا فهم عاشوا بموتهم
... ... والعيد كالعيد والأوقات أوقات
ونحن في صور الأحياء أموات
- أخيه إن أول علامات الإيمان ..
هو حب الله جل وعلا ..
وحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ..
ولما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوة ..
قال سبحانه : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ..
فتأخر الخلق كلهم ..
وثبت أتباع الحبيب في ..
أفعاله ..
وأقواله ..
وأخلاقه ..
اسمعي يا رعاك الله ..
ماذا قالوا عن المحبة التي هي من مقتضى ومن شروط لا إله إلا الله ..
قال عبد الله القرشي :
المحبة : هي أن تهب كلك لمن أحببت ، فلا يبقى لك منك شيء ..
معنى كلامه أن تهبي ..إرادتك ، وعزمك ، وأفعالك ، ونفسك ، ومالك ، ووقتك لمن تحببنه ، وتجعلينها حبساً ووقفاً في مرضاته ومحابه فلا تأخذي لنفسك منها إلا ما أعطاك هو ..
فتأخذيه منه ، ومن أجله ..
قالوا : المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم ..
وقالوا : المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب ..
ومن أجمل ما قيل ما ذكره أبو بكر الكتاني ..
قال : جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم فتكلم الشيوخ في المحبة ، وكان الجنيد أصغرهم سناً ، فقالوا : هات ما عندك يا عراقي ؟!..
فأطرق رأسه ، ودمعت عيناه ثم قال :
المحب :
عبد ذاهب عن نفسه ..
متصل بذكر ربه ..
قائم بأداء حقوقه ..
ناظر إليه بقلبه ..
فإن تكلم ..فبالله ..
وإن نطق ..فعن الله ..
وإن تحرك ..فبأمر الله ..
وإن سكن ..فمع الله ..
فهو ..
بالله ..
ولله ..
ومع الله ..
فبكى الشيوخ وقالوا : ما على هذا مزيد ..
المحب الصادق ..
إذا تكلم ..فمن أجل الله ..
وإذا سكت ..فمن أجل الله ..
وإذا أعطى ..فمن أجل الله ..
إذا منع ..فمن أجل الله ..
فهو ..
بالله ..
ولله ..
ومع الله ..
فبكى الشيوخ وقالوا : ما على هذا مزيد ..
ذكر ابن القيم رحمه الله عشرة أمور توصل إلى محبة الله تبارك وتعالى :
أولها : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أُريد به ..
ثانياً : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض ..
ثالثاً : دوام ذكره على كل حال بالقلب واللسان ..
رابعاً : إيثار محابه على محابك ..
خامساً : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ..
سادساً : مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة ..
السابع : وهو أعجبها _ كما قال _ انكسار القلب بكيلته بين يدي الله تعالى..
ثامنها : الخلوة به وقت النزول الإلهي ، لمناجاته ، وتلاوة كتابه ، والوقوف بالقلب ، والتأدب بأدب العبودية بين يديه ..
تاسعاً : مجالسة المحبين الصادقين ، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم ؛ كما تنتقى أطايب الثمر ..
عاشراً: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل ..
- وإليك مزيد من أخبارهن ..
وقولي وكرري : أين نحن من هؤلاء ؟؟!!..
أيتها الغالية ..
أمّاً كنت ..
أم أختاً ..
على ماذا نربي أبناءنا اليوم ؟!..
وما هي الأمنيات التي نتمناها لهم ؟!..
أما قال سبحانه : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} ..
فوصى الآباء بالأبناء قبل أن يوصي الأبناء بالآباء ..
انظري حولك في واقع الأنباء في هذه الأيام لتعرفي مقدار المأساة !!..
أما أولئك كيف ربوا أبناءهم ، وماذا علموهم ، وماذا أعدوهم له ؟..
اسمعي وافتحي القلب قبل أن تفتحي الأذنين ..
جاء في السير ..
أنه كان في البصرة نساء عابدات ..
وكانت منهنَّ أم إبراهيم الهاشمية ..
فأغار العدو على ثغر من ثغور المسلمين فانتُدب الناس للجهاد ..
فقام عبد الواحد بن زيد البصري في الناس خطيباً فحضهم على الجهاد ..
كانت أم إبراهيم هذه حاضرة في مجلسه ..
وتمادى عبد الواحد في كلامه ..
ثم وصف الحور العين وذكر ما قيل فيهنَّ وأنشد في صفة حوارء ..
غادةٌ ذات دلال ومرح
خُلقت من كل شيء حسن
زانها الله بوجه جمعت
وبعين كحلها من غنجها
ناعم تجري على صفحته
... ... يجد الناعت فيها ما اقترح
طيب فالليت فيها مطّرح
فيه أوصاف غريبات المُلح
وبخد مسكه فيه رشح
نظرة الملك ولألاء الفرح
فهاج المجلس وماج الناس بعضهم في بعض واضطربوا ..
فوثبت ام إبراهيم من وسط الناس وقالت لعبد الوحد :
يا أبا عبيد ألست تعرف ولدي إبراهيم ورؤساء أهل البلد يخطبونه على بناتهم وأنا أضنّ به عليهم ..
فلقد والله أعجبتني هذه الجارية ..
وأنا أرضاها عروساً لولدي ..
فكرر ما ذكرت من حسنها وجمالها ..
فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء فأنشد ..
تولد نور النور من نور وجهها
فلو وطأت بالنعل منها على الحصى
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته
ولو تفلت في البحر شهد رطابها
... ... فمازج طيب الطيب من خالص العطر
لأعشبت الأقطار من غير ما قطر
كغصن من الريحان ذو ورق خضر
لطاب لأهل البرّ شرب من البحر
فاضطرب الناس أكثر مما اضطربوا ..
فوثبت أم إبراهيم وقالت لعبد الواحد :
يا أبا عبيد قد والله أعجبتني هذه الجارية ..
وأنا أرضاها عروساً لولدي ..
فهل لك أن تزوجه منها وتأخذ مهرها عشرة آلاف دينار ..
ويخرج معك إبراهيم في هذه الغزوة ..
فلعل الله يرزقه الشهادة فيكون شفيعاً لي ولأبيه يوم القيامة ..
فقال لها عبد الواحد :
لئن فعلت _ والله _ لتفوزنّ أنت وولدك وأبو ولدك ..
والله لتفوزنّ فوزاً عظيماً ..
فنادت ولدها : يا إبراهيم ..
فوثب من وسط الناس وقال لها :
لبيك يا أماه ..
فقالت : أي بني أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ببذل مهجتك في سبيل الله وترك العود في الذنوب ..
فقال الفتى : أي والله ..أي والله يا أماه رضيت أي رضاً ..
فقالت : اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي هذا من هذه الجارية ..
الثمن ببذل مهجته في سبيلك وترك العود في الذنوب ..
فتقبله هدية مني لك يا أرحم الراحمين ..
ثم انصرفت ..
ثم رجعت فجاءت بعشرة آلاف دينار ..
وقالت : يا أبا عبيد هذا مهر الجارية تجهز به وجهَّز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت فاشترت لولدها فرساً وسلاحاً جيداً ..
فلما خرج عبد الواحد ..
خرج إبراهيم رغم صغر سنه يعدو والقراء حوله يقرأون { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } ..
فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها ..
دفعت إليه كفناً وحنوطاً وقالت له :
أي بني إذا أردت لقاء العدو فتكفَّن بهذا الكفن وتحنَّط بهذا الحنوط وإياك ثم إياك أن يراك الله مقصراً في سبيله ..(1/99)
ثم ضمته إلى صدرها ، وقبلت بين عينيه وقالت :
يا بني لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة ..
قبلت بين عينيه وضمته إلى صدرها وقالت :
يا بني لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة ..
قال عبد الواحد : فلما بلغنا بلاد العدو وبرز الناس للقتال ، برز إبراهيم في المقدمة فصال وجال ، وكرَّ وفرَّ ..
تارة في الميمنة وتارة في الميسرة فقتل من العدو خلقاً كثيراً ..
ثم اجتمعوا عليه فقتلوه ..
فلما أردنا الرجوع إلى البصرة قلت لأصحابي :
لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها ؛ حتى ألقاها بحسن العزاء لئلا تجزع فيذهب أجرها ..
قال : فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا وخرجت أم إبراهيم مع من خرج..
فلما أبصرتني قالت : يا أبا عبيد هل قُبلت مني هديتي فأُهنّأ ، أم ردّت عليّ فأُعزى ؟!..
فلما أبصرتني قالت : يا أبا عبيد هل قُبلت مني هديتي فأُهنّأ ، أم ردّت عليّ
فأعُزى ؟!..
فقلت لها : قد قُبلت _ والله _ هديتك ..
الآنَّ إبراهيم حيّ يُرزق مع الشهداء إن شاء الله ..
فخرَّت ساجدة لله شكراً ، وقالت :
الحمد لله ..
وقالت :
الحمد لله الذي لم يخيب ظني وتقبّل نُسكي ..
ثم انصرفت ..
فلما كان من الغد أتت إلى المسجد فقالت :
السلام عليك يا أبا عبيد ..بشراك ..بشراك ..
فقلت : لا زلت مبشرة بالخير ..
فقالت له : رأيت البارحة ولدي إبراهيم ..
رأيته في روضة حسناء ..
وعليه قبة خضراء ..
وهو على سرير من اللؤلؤ ..
وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول لي :
أبشري أماه فقد قُبل المهر وزُفَّت العروس ..
أبشري أماه فقد قُبل المهر وزُفَّت العروس ..
انظري ..
تأملي أيتها الغالية ..
كيف تساهم المرأة المسلمة في إعداد الأبطال ..
انظري إلى همّ المرأة المسلمة ..
وهو نصرة الإسلام والمسلمين مهما كان الثمن ..
انظري إلى الدور العظيم الذي تستطيع أن تقوم به المرأة المسلمة إن هي صلحت أولاً ..
إنَّ الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هؤلاء الأمهات اللائي يرضعن أبناءهنّ مع اللبن حب الإسلام والتضحية في سبيله ..
فهل تكونين تلك المرأة !!..
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
كثيرات يدعين المحبة ..
لكن شتان بين الصادقين والصادقات ..وبين الكاذبين والكاذبات ..
في المصائب ..
في الآلام ..
في المواقف ..
في الشدائد ..
تظهر معادن الرجال والنساء ..
بعد معركة أُحد أُشيع أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل فخرج الناس يتلقون الجيش العائد من أرض المعركة والكل يسأل عن أخبار ذلك اليوم العظيم ..
خرجت من بينهنّ امرأة من الأنصار ..
خرجت لتسقبل الجيش ..
خرجت لتطمئن على الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ..
قيل لها : مات أبوك ..فاسترجعت وقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ..
ماذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟!..
فقيل لها : مات زوجك ..فاسترجعت وقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ..
ماذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟!..
فقيل لها : مات أخوك ..فاسترجعت وقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ..
ماذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟!..
فقالوا لها : هو بخير ..
قالت : والله لا يهدأ لي بال ولا يقر لي قرار حتى أراه بأم عيني ..
فلما رأته بكت ، وضحكت ، وتبسمت وقالت :
كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله ..
كل فقد غير فقدك يهون يا رسول الله ..
هل شاهدتِ مثل هذا الحب !!..
أرأيتِ كيف هان عندها فقد الأب ، والأخ ، والزوج ..
إنه الحب الصادق لله ولرسوله ..
كيف لا تحبه وهو الذي أنقذها الله به ..
من الظلمة إلى النور ..
ومن الكفر إلى الإيمان ..
ومن الجهل إلى العلم ..
ومن الضلالة إلى الهدى ..
ومن الشقاء إلى السعادة ..
ومن النار إلى الجنة ..
أنا أعرف أنك تحبينه ..
ولكن ما هو الدليل ؟!..
هل اتبعتي سنته ؟!..
هل أخذتي بهديه ؟!..
كم تذكرين اسمه وتصلين عليه في اليوم والليلة ؟!..
كم تحفظين من أحاديثه ؟!..
ماذا تعرفين عن سيرته ؟!..
أين أنت عن أوامره التي أمر بها ؟!..
وأين أنت عن نواهيه التي نهى عنها ؟!..
ماذا فعلت ؟!..
كم بذلت لنصرة هذا الدين والدعوة إلى دعوته ؟!..
قال - صلى الله عليه وسلم - :
( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ومن والده والناس أجمعين )..
نسينا في ودادكم كل غالي
تسلّى الناس بالدنيا وإنَّا
ولمّا نلقكم ولكن شوقنا
نلام على محبتكم ويكفينا
إن كان عزّ في الدنيا اللقاء ففي
... ... فأنتم اليوم أغلى ما لدينا
لعمر الله بعدكم ما سلينا
يُذكرنا فكيف إذا التقينا
شرفاً نُلام ولا علينا
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
- أخيراً ..
إليك هذا الخبر الذي يحمل صفة وخصلة لو حملتيها ولبستيها لصلحت لك جميع الأمور ..
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الحياء لا يأتي إلا بخير ) رواه البخاري ومسلم ..
وفيهما عن ابن سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدّ حياء من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه ..
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - :
( إن مما أردك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) ..
قال الجنيد رحمه الله :
الحياء رؤية الآلاء ، ورؤية التقصير فيتولد بينها حالة تسمى الحياء ..وحقيقتة خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق ..
وقال السري السقطي :
إنَّ الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا ..
وآخر قال :
والله إني أستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه ..
وقال الفضيل بن عياض :
خمس من علامات الشقوة ..
قسوة القلب ..
وجمود العين ..
وقلة الحياء ..
والرغبة في الدنيا ..
وطول الأمل ..
وقال يحيى بن معاذ :
من استحيى من الله مطيعاً ؛ استحى الله منه وهو مذنب ..
وقال ابن القيم :
من لا حياء فيه فليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة ؛ كما أنه ليس معه من الخير شيء ..
وقال ابن مسعود :
من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله ..
قيل لابن عبد العزيز عمر :
إذا ذهب الحياء ذهب نصف الدين ..
قال : لا !!.. إذا ذهب الحياء ذهب الدين كله ..
إن كان الحياء أخيه جميل في الرجال ..
فهو في المرأة أجمل وأزين ..
ووالله إذا فقدت المرأة حياءها ..
والله لباطن الأرض خير لها من ظاهرها ..
قال الشاعر :
إذا لم تخشى عاقبة الليالي
فلا والله ما في العيش خير
يعيش المرء ما استحيا
... ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
اسمعي كيف تضرب سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلاً للعفاف والحياء كما ينبغي أن يكون ..
اسمعيها وهي تقول وتحاور أسماء بنت عميس :
يا أسماء إني لأستحي أن أُخرج غداً على الرجال من خلال هذا النعش جسمي ..
_ كانت النعوش عبارة عن خشبة مصفحة يوضع عليها الميت ويطرح عليه الثوب فيصف حجم الجسم _ ..
خشيت فاطمة رضي الله عنها إذا هي ماتت أن تحمل على مثل هذه النعوش فيكون ذلك خدشاً لحيائها وحشمتها ..
قالت أسماء :
أوَلا نصنع لك شيئاً رأيته في الحبشة ..
فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه بما يشبه الصندوق ، ثم طرحت عليه ثوباً فكان لايصف الجسم ..
فلما رأته فاطمة فرحت به وقالت لأسماء :
ما أحسن هذا وأجمله سترك الله كما سترتيني ..
قال ابن عبد البر : هي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة ..
أرأيت أيتها الغالية وسمعت كيف تحمل المؤمنة همّ حياءها وعفافها وحجابها حتى بعد مماتها ..
تريد أن ..
تعيش عفيفة ..
وتموت عفيفة ..
وتحشر إلى الله وهي عفيفة ..
إنَّ الحياء والحجاب عند المؤمنة قضية لا تحتمل النقاش ، وهمّ لا يقبل المساومة ..
إنه طاعة لله ..
واستجابة لأوامر الله ..
وانقياد لحكمة الله ..
إنه الثغر الذي تتحصن به المسلمة ..
فلا تتسرب من خلاله رذيلة وفاحشة إلى المجتمع ..
ولا تستباح محرمات ..
ولا تدنس أعراض ..
إنه عنوان صلاح المرأة ..
ودليل اعتزازها بدينها ..
وشعارها الذي ترفعه في وجه أعدائها وكل من يخالفها ..
اسمعي إلى التي قالت :
لست من تأسر الحلي صباها
وحجاب الإسلام فوق جبيني
لست أبغي من الحياة قصوراً
... ... فكنوزي قلائد القرآن
هو عندي أبهى من التيجان
فقصوري في خالدات الجنان
انظري إلى الواقع من حولك أخيه ..
كيف تتفلت النساء من حيائهن وحجابهن ..
كيف يقلن أنَّ الحياء والحجاب تخلف ورجعية وتقييد للحرية ..
ولكن صدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - حين قال :
( بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) ..
قال سبحانه :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} ..
أيتها الغالية ..
هذه أخبار من أخبارهن ..
وقصص من قصصهن ..
كما استطعن هن ، أنت أيضاً تستطيعين ..
أنت أيضاً تستطيعين ..
فلو كان النساء كما ذكرن
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
... ... لفضّلت النساء على الرجال
وما التذكير فخر للهلال
إن كنَّ قد استطعنَ ..
فأنت أيضاً تستطعين ..
اسمعي هذه البشارة من رب العالمين ..{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } ..
اسمعي هذه البشارة من رسول رب العالمين ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( إذا صلت المرأة خمسها ..
وصامت شهرها ..
وحصّنت فرجها ..
وأطاعت زوجها ..
قيل لها ادخلي من أي أبواب الجنة شئت ) رواه الخمسة وابن حبان ..
إن كنَّ قد استطعن ..
فأنت أيضاً تستطيعين ..
المنبع واحد ..
والمصدر واحد ..
والطريق واحد ..
إنما يختلف الناس باختلاف الهمم ..
أرجل في الثرى ورؤوس في الثريا ..
اقرأي التاريخ فإن في التاريخ عبر ضلَّ قوم لم يعرفوا الخبر ..
استعيني بالصبر والصلاة ..
لا تحزني بقلة السالكين ..
ولا تغتري بكثرة الهالكين ..
أما قال ربك : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ..
أما قال ربك جلَّ في علاه : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } ..
أما قال سبحانه : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} ..
أما قال : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } ..
فليكن شعارك ..
التعاون على البر والتقوى ..
والتناهي عن الإثم والعدوان ..
سدد الله خطاك ..
وحفظك في دينك ودنياك ..
وجعلك ذخراً وحصناً للإسلام والمسلمين ..
اللهم فرج هم المهمومين ..
واكشف كرب المكروبين ..
واقضي الدين عن المدينين ..
ودل الحيارى واهدي الضالين ..
واغفر للأحياء وللميتين ..
اللهم اجمع شملنا ، وحد صفنا ، وأصلح ذات بيننا ، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين ..
أستغفر الله العظيم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
س 1 : سائلة تقول :
أعاني من مشكلة في حياتي وهي التحدث مع زميلاتي في المدرسة عن غيرنا وأعني هنا الغيبة ويصيبني الندم الشديد بعد الانتهاء من الحديث ..ما نصيحتك لي جزاك الله خيراً ؟..
الحمد لله ..
قضية التكلم في الناس وفي أعراض الناس وفي خصائص الناس ذنب عظيم وكبيرة من الكبائر ..
أنتِ قيسيها على نفسك ..
أترضين أن يُتكلم عنك بما لا تحبين ؟..
أتحبين أن تُذكري في غيابك بأشياء أنت لا تحبين أن تُقال عنك ؟..
فكما أنتِ لا تحبينه لنفسك فالناس أيضاً لا يرضونه لأنفسهم ..
والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن لا يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم ..
كم كلمة تتهاونين فيها ؟!..
كم كلمة تقولينها ؟!..
أقول _ بارك الله فيكِ _ اللسان إذا لم يُشغل بذكر الله انشغل في غير ذلك ..
الاجتماعات التي تجتمعينها مع هؤلاء البنيات إن لم تكن في طاعة فستكون في معصية الله ..
أترضين أن تقومي من مجلسك ذاك بسخط من الله وغضب !!..
أم تريدين أن تقومي يُقال لك : قومي مغفوراً لك بُدلت سيئاتك حسنات ..
أقول ..
إن كانت هؤلاء الفتيات هذا ديدنهن أقول ولله الحمد فهناك كثيرات يجتمعن على ذكر الله وعلى طاعة الله ..
غيري المجلس ..
بدلي الصاحبات والصديقات ..
ارتبطي بأولئك الذين يذكرون الله ولا تفتر ألسنتهم ولا قلوبهم عن ذكر الله جلَّ في علاه ..
سبحان الله ..
أننا نندم ..طيب لكن إيش بعد الندم !!..
أنت تقولين أنا أندم ..
لكن إيش بعد الندم !!..
لا بدَّ من إقلاع ..
إن كنتِ صادقة في توبتك تريدين أن تُقبل هذه التوبة ..
اعزمي ألا ترجعي إلى هذا الفعل ..
اصدقي مع الله جل في علاه ..
كوني جازمة ..
اتركي الذنب ..
واندمي فإن لم تفعلي فأنتِ تضحكين على نفسك ..
تكررين الخطأ مرات ومرات ..
ووالله ما كان شيء أصعب على الإنسان من حفظ لسانه ..
أصعب شيء أعيى الأولين وأعيى الأخرين حفظ هذا اللسان عن التكلم في الآخرين ..
لذلك هذا اللسان يستطيع أن يرقى بك في أعلى الجنان ..
وهذا اللسان يهوي بك في دركات النيران ..
إن أحسنت استعماله في ذكر ، وتسبيح ، وتهليل ..
رقيت في أعالي الجنان ..
وإن انشغلت به في لهو ، وضياع ، وغيبة ، ونميمة ، وسبّ ، وشتم ، ولعان..
كبّك على وجهك في النيران ..
فاتقي الله أمة الله ..
اتقي الله ..
ولا تستهيني بالكلمة تقولينها في عرض فلانة أو فلانة ..
زوجة من زوجات النبي ..عائشة قالت كلمة تظنها هينة ..
قالت : قلت زينب قصيرة ..
تظنيها بسيطة ..
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
( والله لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لغيرت طعمه ) ..
فلا تتهاوني بمثل هذه الكلمات واعلمي إنه { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ..
فإذا صلح اللسان صلحت أمور كثيرة ..
وإذا فسد هذا اللسان إيش قيمة العبادات والقربات التي نتقرب بها إلى الله إن لم يستقيم هذا اللسان ..
فاتقي الله أمة الله في الكلمة التي تقولينها ..
س 2 : فضيلة الشيخ ..
هل من كلمة لمن يلبسن اللثام ؟!..
الآن إيش المقصد من الحجاب والعباءة ؟!..
أنت تريدين تتخذينها زينة تتزينين بها أم تتحجبين بها ؟!..
إذا زينة فليس هذا المقصد من الحجاب ..
المقصد من الحجاب ومن العباءة أن تتستري ؛ أن تعفي نفسك ، وتحفظي نفسك وأن لا تكوني سبباً في فتنة الآخرين ..
اليوم العبايات أجمل مما تحت العباءة ..
اليوم العبايات يغرين ..
المعلقة على الأكتاف ..
والغطوات التي توضع على الرؤوس بمناظر عجيبة ..
سبحان الله ..
أصبحت العبايات منظر وزينة ننظر إليها ..
والله إنها تغري أكثر مما تغري الملابس التي تحت العباءة ..
فأيش المقصد أصلاً من وضع العباءة ، ووضع الحجاب ؟!..
إلا أنك تصوني نفسك وتحفظي نفسك ..
ولك _ والله _ في تلك التي ضربت مثل عجيب في حجابها ..
دكتورة وطبيبة من الطبيبات ..
أحسبها والله حسيبها تقية نقية زكية ..
خرجت مع زوجها إلى مؤتمر في بلاد الكفار ..
سبحان الله ..
حضرت المؤتمر بكامل حجابها لا يُرى منها شيء إلا السواد من رأسها حتى أخمص قدميها ..
سبحان الله ..
فكانت محط أنظار الجميع هناك ..
قالوا فيما بينهم البين _ النساء اللاتي التقين في ذلك المؤتمر _ قالوا فيما بينهم البين ..
قالوا : لو كانت جميلة لما تغطت ..
ما غطاها زوجها إلا لأنها قبيحة ..
غطَّى القبح الذي يختفي وراء هذا السواد ..
سبحان الله ..
فكلمنها بعد ما انتهت نقاط المؤتمر ..
فقالوا لها : ليش تضعين السواد و..و..الخ ؟!..
ليش يجبرك زوجك إلى مثل هذه الأمور ؟!..
فأخذتهم إلى مكان بعيد عن الرجال ثم كشفت عن وجه كفلقة القمر ..
ثم كشفت عن وجه كفلقة القمر ..
قالت : والله ما تغطيت طاعة له ..
إنما تغطيت طاعة لله ولرسوله ..
والله ما وضعت هذا السواد طاعة لزوجي ..
ووالله لو قال لي الزوج انزعي هذا الحجاب والله ما بقيت معه ساعة واحدة ..
فبدأت تحدثهم عن الإسلام ولماذا تتحجب المرأة ولماذا تصون المرأة نفسها ..
سبحان الله _ يقول من كتب هذه القصة ..
يقول : والله الذي لا إله إلا هو ما قامت من مقامها إلا وأسلمت سبعة من النساء ..
بإيش أيتها الغالية !!..
بحجابها ..
بعزتها ..
بتمسكها بدينها ..
بالسواد الذي يراه البعض تخلف ورجعية ..
كان السواد هذا سبب في إسلام الأخريات ..
وأنت اليوم ..
وأنت اليوم ..
مفتاح خير وإلا مفتاح شر ..
أنت اليوم لماذا تلبسين العباءة ، ولماذا تلبسين الحجاب !!..
حتى يكون منظرك جميل !..
حتى تفتني الآخرين !..
ما سمعنا والله عن العباءات المزركشة ولا الغطوات المزركشة إلا في هذا الوقت ..
وقت الفضائيات ، والقنوات ، والشاشات ..
أما في السابق فسواد لا يُرى منه شيء ..
وما ضرّ المرأة التي تتجمل بالسواد وتختفي خلف السواد ما ضرها قال فلان أو قال فلان ..
هي ترضي من ؟!..
ترضي ربها ..
فكوني مثلها بارك الله فيك ..
سبحان الله حتى الشباب ..
حتى الشباب ..
تلك التي تضع الغطاء اللثام وتضع العباءة على كتفها عندهم جرأة عليها ..
جربتها إحدى الفتيات ..
جربتها إحدى الفتيات ..
تقول : كنت في مجمع من المجمعات مع مجموعة من صويحباتي ..
تقول : سبحان الله ابتليت أنا بالعباءة التي على الأكتاف ..
لم يبقَ نوع ، ولا صنف ، ولا جديد من هذه العباءات إلا لبسته ..
سبحان الله ..
مرة في سوق من الأسواق وأنا في كامل زينتي ..
سبحان الله مش في عبايتي !..
مش في حجابي !..
أنا بكامل زينتي ، ورائحة الطيب تفوح مني تملأ المكان ؛ إذ جاءتني امرأة متحشمة متزينة بزينة الإيمان ..
قالت لي : أمة الله ..اتقي الله ..
اتقي الله لا تفتني نفسك وتفتني الآخرين ..
اتركي هذه العباءة ..
وتحجبي بحجاب الإسلام ..
تقول : فأخذتني العزة بالإثم ..
أخذتني العزة بالإثم ..
قلت لها : إذا تريديني ألبس الحجاب ، وألبس العباءة على الرأس ؛ عندي شرط واحد ..
تقول : أردت إضحاك صويحباتي وأنا أدري أن كلامها صح ، لكني أخذتني العزة بالإثم وأردت إضحاك صويحباتي ..
قلت لها : ما أتحجب إلا إذا قبّلت يدي ..
إذا قبّلت يدي سوف أتحجب ..
فقالت العفيفة الطاهرة قالت : أقبّل يدك ، وأقبّل رأسك إن كنت ستتحجبين ..
إن كنت ستتحجبين ، وتلبسين الحجاب الذي يرضي الله ؛ أقبّل يدك ، وأقبّل رأسك ..
تقول : قبّلت يدي ، وقبّلت رأسي ثم انصرفت وهي تدعو لي ..
أما أنا فجلست مع نفسي جلسة ..
جلست مع نفسي جلسة ثم أخذت أبكي على حالي ..
أخذت أبكي على حالي ..
سبحان الله من حينها قررت أن أترك هذا كله وأن ألتزم بالحجاب الشرعي ..
سبحان الله حاربوني صويحباتي ..
متخلفة ..
رجعية ..
إلى آخر كلامهن ..
لكن والله العظيم ..
تقول : والله وجدت في نفسي راحة وطمانينة واستقرار ..
سبحان الله رأيت الأثر يوم كنت أخرج إلى الأسواق بتلك الزينة ..
كم كان يتجرأ عليّ الباعة ..
كم كان يتجرأ علي الشباب ..
أما الآن فما أحد يستطيع أن يتطاول علي بكلمة واحدة ..
السبب أنها تزينت بزينة الإيمان ..
فأقول :
اتقي الله أمة الله ..
أنت تتعبدين الله بالحجاب ..
أنت تتعبدين الله طاعة لله ولرسوله ..
أسأل الله أن يحفظك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
ـــــــــــــــ(1/100)
إعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي"
إعداد
أ/إيهاب محمد أبو ورد
للمراسلة:
iabwaصلى الله عليه وسلمd@yahoo.com
iabwaصلى الله عليه وسلمd@hotmail.com
2004 م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
يحتل العظماء مكانة مرموقة في مجتمعاتهم لما يبذلونه من عطاء و تضحية من اجل رفعة أوطانهم و تقدمه، فلم تقتصر قائمة العظماء و المبجلين على الحكام و الأدباء المشهورين، بل احتوت على فئات عديدة، و من هذه الفئات " المعلم " الذي كاد أن يبجل في جميع الثقافات.
فالمعلم يلعب دورا كبيرا في بناء الحضارات كأحد العوامل المؤثرة في العملية التربوية، إذ يتفاعل معه المتعلم و يكتسب عن طريق هذا التفاعل الخبرات و المعارف و الاتجاهات والقيم.
و لقد شغلت قضية إعداد المعلم و تدريبه مساحة كبيرة من الاهتمام من قبل أهل التربية و ذلك انطلاقا من دوره الهام و الحيوي في تنفيذ السياسات التعليمية في جميع الفلسفات و على وجه الخصوص في الفكر التربوي الإسلامي، ففي هذه الورقة البحثية سيتضح الفرق بين هذه الفلسفات من حيث كونه كاهنا أم راهبا أم ساحرا أم فيلسوفا أم كما في الفكر الإسلامي بانيا للحضارة و هاديا للبشر و منيرا للطريق.
و لأن قيمة الإيمان تتحدد إلى حد كبير بقيمة العمل الذي يقوم به، و لما كان المعلم له قيمة عظيمة في التراث الفقهي و التربوي، احتل المعلم موقعا متقدما من حيث التقدير و التبجيل، مما جعل قضية تكوينه تتأثر باهتمام علماء التربية و الفقهاء.
فالمعلم ليس خازن للعلم يغترف منه التلاميذ المعارف و المعلومات، و لكنه نموذج و قدوة. ولأن المعلم أمين على ما يحمل من علم كان لا بد له من صياغة و أن يحافظ على كرامته و وقاره، و لا يبتذل نفسه رخيصة، فذلك من شأنه أن يحفظ هيبته مكانته بين الناس
و من الشعر فيما يروي عن القاضي عبد العزيز الجرجاني: (9)
و لم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا و أجنيه ذلة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
و لو كان أهل العلم صانوه صانهم و لو عظموه في النفوس لعظما
و لكن أهانوه فهان و دنسوا محياه بالأطماع حتي تجهما
لذا كان للعالم المسلم بدر الدين بن جماعة (13) رأيه السديد في أن المعلم هو العامل الأساسي في نجاح العملية التعليمية و أنه من أهم عناصر التعليم، حيث يرى أن التعليم لا يتغير بغير المعلم و أن عناصر التعليم تفقد أهميتها إذا لم يتوفر المعلم الصالح الذي ينفث فيها من روحه فتصبح ذات أثر و قيمة و يستشهد على أهمية المعلم في حدوث تعلم جيد بقوله:
" قيل لأبي حنيفة رحمه الله:في المسجد حلقة ينظرون في الفقه" فقال: ألهم رأس ؟
قالوا: لا ، قال: لا يفقه هؤلاء أبدا.
و من هنا كان اهتمام هذا البحث في النظر إلى اهتمام الإسلام في إعداد المعلم و علاقته بالتغيرات الحديثة، و مدي تأثير هذه التغيرات على بنيته و انعكاسها على تنمية عقول المتعلمين و خلقهم و مهاراتهم و إكسابهم المعارف و الآداب المختلفة.
مشكلة الدراسة:
في ضوء ما سبق يمكن أن تتحدد مشكلة الدراسة من خلال التساؤلات التالية:
1. ما دواعي الحاجة لصيغة جديدة للمعلم في الفكر التربوي الإسلامي؟
2. ما مقومات الصيغة الملائمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي؟
3. ما أهم الحاجات التكوينية اللازمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي؟
أهداف الدراسة:
تهدف الدراسة إلى:
1. بيان دواعي الحاجة إلى معلم ينهج الفكر التربوي الإسلامي
2. الكشف عن مقومات الصيغة الملائمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي.
3. تحديد الحاجات التكوينية الأزمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي.
أهمية الدراسة:
تكتسب الدراسة أهميتها من خلال:
1. بيان موقع المعلم الهام في العملية التربوية.
2. تقديم صيغة متوازنة لتكوين المعلم الإسلامي العربي.
3. توضيح جوانب الضعف في تكوين المعلم بين الشخصية و المهنة.
منهج الدراسة:
يستخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي الذي يقوم على التسلسل المنطقي للأفكار، و ذلك من خلال الوقوف على كفايات المعلم في الفكر التربوي الإسلامي و إعداده للمهنة و تحسين أدائه التربوي ثم التركيز على بعض المقترحات لتحسين أدائه في ظل الفكر التربوي الإسلامي.
مصطلحات الدراسة:
* المعلم الرسالي: هو ذلك المعلم الذي يحمل الفكر الإسلامي كرسالة يريد أن يؤديها.
* الحاجات التكوينية للمعلم: هي المتطلبات التي يجب أن يراعيها المعلم المسلم في بناء شخصيته و ذلك لملائمة التغيرات الحادثة.
* الاتجاهات الحديثة في نظم تربية المعلم: تعني الخبرات التي تتفق مع منهج الله و التي يمكن تطبيقها في نظام اعداد المعلم ، أو طبقت بهدف تحقيق أهدافه بصورة أفضل.
* الثقافة الإسلامية: هي دراسة القوانين الوضعية في ضوء الشريعة الاسلامية.
الدراسات السابقة :
1. أجري (عسقول،1998 ) دراسة هدفت إلى ابراز ملامح برنامج إعداد المعلم في كلية التربية بغزة و قدمت الدراسة نموذجا لإعداد المعلم ، و أوصت بوضع فلسفة خاصة بإعداده و ذلك وفقا لمعايير أكاديمية و مهنية و نفسية و جسمية. (15)
2. أجري (أبو دف، أبريل) دراسة هدفت إلى بلورة صيغة جديدة لتكوين المعلم العربي على أعتاب القرن الحادي و العشرين في ضوء الواقع الثقافي و الإجتماعي، و قدمت الدراسة نموذجا لبرنامج لتكوين المعلم العربي ، حيث راعت فيه توافر التكامل و التوازن بين الجوانب الثلاثة ( الأكاديمي ، المهني و الثقافي ).(5)
3. أجرى (الحريقي، 1994 ) دراسة هدفت إلى التعرف على مدي فاعلية الإعداد التربوي في الموقف المهني لعينة من المعلمين و المعلمات قبل التخرج حيث استخدم الباحث المنهج التجريبي لإجراء التجربة و أوصى الباحث بضرورة الإهتمام بالجانب المهني التربوي للمعلمين و المعلمات، و ذلك لمواكبة التطورات العلمية التكنولوجية. و يأمل الباحث بإعادة تقييم برنامج الإعداد التربوي لطلاب و طالبات كلية التربية في جامعة الملك فيصل. (8)
4. أجرى (البزاز،1989) دراسة هدفت إلى ايجاد اتجاهات حديثة لإعداد المعلم بعدما تطرق إلى واقع المعلم في الدول العربية عامة و الخليجية خاصة في إعداده و أساليب تكوينه. و من هذا المنطلق اقترح الباحث إيجاد عدد من المقترحات و التوصيات تتناول فيها المعلم و تربيته ،مثل المنهج و تحقيق عنصر التوازن فيه، طريقة التدريس و الاتجاه نحو الاستفادة منها، و التطبيقات العملية في ممارسة مهنة التدريس.
كما تحدث الباحث عن دور سياسة القبول و التشريعات التربوية و بنية مؤسسات إعداد المعلم. (4)
أولا: الحاجة لوجود معلم ينهج الفكر التربوي و الإسلامي.
إن الناظر في حال مجتمعاتنا الإسلامية و العربية يلمح بوضوح أنواعا من الخلل قد انتظمت كافة مناحي الحياة و شرائح الأمة، فالخلل واضح و القصور فاضح سواء كان على الأداء السياسي، أم على الأداء الاجتماعي و كذلك على الاقتصادي و التعليمي، حيث تدني مستوي التعليم و الذي يرجع إلى ضعف القائمين على التعليم بشكل عام والمعلم بشكل خاص.
فدور المعلم خطير حيث أنه حلقة الوصل بين المتعلم و الكتاب ، و يجب أن يكون قدوة ، مربي ، مدرب ، موجه مرشدا، فالتعليم واحد من مؤسسات مجتمعاتنا التي أصابها الخلل نتيجة الأفكار التي يحملها المعلمون.
و أيضا من الأسباب التي أدت إلى وجود أزمة في العملية التعليمية حسب رأي (الأغا،1992) عدم تأهب المعلمين للتدريس و غياب الإعداد المسبق ، فدخولهم الفصل في هذه الحالة يفقدهم السيطرة على الطلاب و على المادة الدراسية .
كما أن عدم كفاءة بعض المعلمين للتدريس في المستوى الذي وضعوا فيه و عدم اجتهادهم لإثبات أنفسهم في هذا المستوى و قصور النمو الأكاديمي للمعلم الذي يخضع للعشوائية و الذاتية، بالإضافة إلى قلة الإطلاع و لا سيما في الموضوعات التربوية و عدم امتلاك المعلمين المهارات الأساسية كالتمهيد و استخدام الوسائل و الأسئلة و التعزيز و إدارة الفصل و التلخيص ، كلها تجمعت و ساعدت على ضعف العملية التعليمية لذا كان لا بد من بيان منزلة المعلم في الفكر التربوي الإسلامي (3)
فالمعلم في الفكر التربوي الإسلامي يتسم بعدة صفات منها:
* النية الخالصة في أداء واجبه ، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلي الله عليه و سلم قال: " لا تعلم و العلم لتباهوا به العلماء ، و لا لتماروا به السفهاء و لا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار" أي أن لا يقصد المعلم دنياه فحسب بل و الآخرة أيضا ، قال تعالي : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" البقرة:198 و يضع التعليم كرسالة لا مجرد وظيفة .
* يحمل هم أمة ، فالمعلم الرسالي يتفاعل مع قضايا أمته
* أن يكون المعلم المسلم قدوة لغيره لما له من تأثير على غيره
* أن يكون عطاء لا ينتظر الثناء ، قال تعالى: " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" يوسف:55
* أن يراعي الفروق الفردية و تخصصه، حيث لا نجد ذلك في باقي الفلسفات و الثقافات الأخرى، و هناك الكثير من سمات المعلم المسلم الذي يحمل الفكر التربوي الإسلامي حيث نلاحظ اهتمام الإسلام المتوازن الشامل الكامل في شتى جوانب شخصيته و التي أدت إلى الحاجة لمعلم ينهج الفكر الإسلامي، و يقوم بإحياء هذه الأمة و التي سبق و أن أوضحت أهمية مهنة التعليم في بناء الحضارات و الثقافات و مواجهة التحديات التي تتكالب على العرب المسلمين و ضربهم في عقر دارهم وما نلاحظه من سياسات تغيير المناهج و ضرب المعلم في شتى بقاع المسلمين لإخراج جيل غير واع بما يدور حوله و إنتاج شعوب تابعة مستهلكة لا تعرف لماذا نحيا بل كيف تأكل.
و يدلل ابن جماعة في كتابه تذكرة السامع و المتكلم (14) على أن تحقيق أهداف التعليم منوطة بحسن اختيار المعلم بقوله " و اذا سبرت أحوال السلف و الخلف لم تجد النفع يحصل غالبا و الفلاح يدرك طالبا إلا إذا كان للشيخ( المعلم) من التقوى نصيب وافر ، و على شفتيه و نصحه دليل ظاهر"
لذا فليس كل أحد يصلح للتعليم، إنما يصلح من تأهب له و أعد إعدادا طيبا فالإنسان لا ينتصب للتدريس إلا إذا كان أهلا لذلك ، يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"
و تعتبر هذه دعوة صريحة لاختيار أفضل المعلمين للتعليم و بخاصة الذين تتوفر إليهم غزارة المادة العلمية و حسن إلمامه بها و سيطرته على مختلف مهاراتها ،و توافر حد من الثقافة العامة لديه لكي يعينه على توجيه المتعلمين و رعاية مصالحهم، كما يعينه على ارشادهم إلى مصادر المعرفة المختلفة ثم معرفته الكاملة بخصائص المتعلمين و صفاتهم
كما أن من دواعي ضرورة إيجاد معلم ينهج الفكر التربوي الإسلامي التحديات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية.
إن العصر الذي نعيشه ملئ بالتحديات، فكل يوم يظهر على مسرح الحياة معطيات جديدة تحتاج إلى خبرات جديدة و فكر جديد و أساليب جديدة و مهارات جديدة و آليات للتعامل معها بنجاح، أي أنها تحتاج إلى إنسان مبتكر و مبدع، بصيرته نافذة، قادرة على التكيف مع البيئة وفق القيم و الأخلاق و الأهداف المرغوبة.
و هذا كله يحتاج إلى تربية لمعلم في ظل انتهاج تربية متقدمة لتستنفر جميع طاقاتها البشرية و المادية إلى أقصى ما يكون، ألا و هي التربية الإسلامية.
بعض التحديات التي تواجه المعلم في ظل تربية إسلامية: (11)
* التحديات التي تتعلق بواقع تربية المعلم.
و من هذه التحديات التي عمد الغرب على نشرها في المجتمع الإسلامي هو إعدام الهوية الإسلامية و ذلك بسرقة الحضارة و تدميرها عند المسلمين، و أهم مظاهر سرقة الحضارة تجريد الأمة من لغتها حتى أصبح المعلم لا يجيد التحدث باللغة العربية لغة القرآن و كنتيجة لذلك أصبح ولاة الأمور في العملية التعليمية ليس أهلا لها فاعتري برامج التعليم الضعف و القصور مما أدى إلى ضعف إعداد المعلم، وعدم تلبية حاجات الطلاب المعلمين. و بالتالي عمل ذلك على عدم تنمية القدرة على التفكير السليم و التعبير و عدم بناء الطلاب المعلمين في النواحي الشخصية و الاجتماعية
* تحديات تتعلق باختيار المعلم.
إن اختيار المعلم يضع الأساس لاعداده ممارسة مهنته، فإن اختير على الوجه الحسن و روعي متطلبات مهنته في هذا الاختيار،يؤدي ذلك إلى إيجاد معلم قوي مفكر و ناقد ، و لكن ما نراه الآن من عدم اقبال الطلاب المتفوقون على دخول كليات التربية (مهنة التعليم) إنما يرجع إلى عدة أسباب، منها
1. احتقار المجتمع لمهنة التعليم و عدم تقديرها لها.
2. القيود التي تضعها السلطات المسؤولة على كاهل المعلم.
3. تدني رواتب الموظفين في قطاع التعليم.
4. كثرة الأعباء الملقاة على المعلم ..... و غيرها
لذلك عزف الطلاب المتفوقون عن دخول كليات اعداد المعلمين مما أدى ذلك إلى تدني مستويات القبول في تلك الكليات و عدم التقيد بمعايير للقبول و نتج عن ذلك ضعف الطلاب المعلمين. و الطلع على أدبيات اختيار المعلمين في الاسلام، فلا بد من توفر شروط في المعلم و أولها الالتزام بالاخلاق الاسلامية و ثانيها اتقان مهارة التعبير باللغة العربية الفصحى و ثالثها اتساع ثقافته الاسلامية خاصة و العلمية عامة. هذا بالضافة إلى الرغبة في العمل بمهنة التعليم و الثبات الانفعالي و الثقافة التكنولوجية .
* تحديات تتعلق بتزايد حملات الغزو الثقافي
و لكي يسيطر المعلم على هذا التحدي يجب أن يعمل على اكتساب مهارة:
- مساعدة المتعلمين على التمسك بالعقيدة الاسلامية و العمل على تربيتهم تربية اسلامية
- مساعدة المتعلمين على إدراك أن الدين الحنيف يستوعب جميع نواع العلوم التقنية و مختلف عوامل الحضارة طالما لا تتعارض مع القيم الإنسانية الفاضلة.
- ترسيخ مجموعة من المعايير عند المتعلم لمقاومة البرامج المختلقة و تقييمها في وسائل الاعلام. لذلك فإن التحديات التربوية التي تواجه العاملين في حقل التربية خاصة في العالم الاسلامي و العربي كثيرة و صعبة و تحتاج إلى صبر و مثابرة ، و يتحمل المعلم العبئ الأكبر في هذا كله ، فلا عودة لمهابة المسلمين و لا جمعا لشملهم و لا تحقيقا لتقدمهم إلا بالعودة إلى التربية الإسلامية التي تعمل على تحكيم شرع الله و تحقيق التكامل بين المسلمين.
ثانيا :كفايات المعلم في الفكر التربوي الإسلامي:
و تنقسم كفايات المعلم إلى كفايات علمية و مهنية و أخلاقية و جسدية. (9)
1. الكفايات العلمية:
و يقصد بها إلمام المعلم بتخصصه العلمي و مادته التدريسية، فاهما لمعانيه، ليس مدعيا لذلك بل متحققا من ذلك، فإذا تم له الإلمام بمادته حيث محتواها من تفاصيل و فروع، مستوعبا لها متفهما لأمورها، يمكنه ممارسة مهنة التعليم.و يشير ابن جماعة لضرورة تنمية الكفاءة العلمية أثناء الخدمة، فينصح المعلم " بدوام الحرص على الازدياد بملازمية الجهد و الاجتهاد و لاشتغال قراءة و إقراء و مطالعة و تعليقا و حفظا و بحثا و لا يضيع شيئا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم إلا بقدر الضرورة ".و لم يكتف المفكرون بذلك يل طالبوا المعلم ان يكون ذا ثقافة واسعة في غير تخصصه ايضا و ربما كانت هذه شائعة في العصور الإسلامية الأولى حيث كانت الموسوعية سمة العلماء و المفكرين ، فينصح ابن جماعة بالمعلم لأن يكون مبدعا في فن من الفنون ليخرج من عداوة الجهل.
و أن يكون غزير المادة العلمية ، يعرف ما يعلمه أتم معرفة و أعمقها و على المعلم ألا ينقطع عن التعليم و أن يداوم على البحث و الدراسة و تحصيل المعرفة " دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد و الاجتهاد و الاشتغال قراءة و إقراء و مطالعة و تعليقا و حفظا و تصنيفا و بحثا و لا يضيع شيئا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم إلا بقدر الضرورة" (14)
و يستدل ابن جماعة بقول سعد بن جبير (( لا يزال الرجل عالما ما تعلم ، فإذا ترك التعليم و استغنى ، و اكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون ))
يقول بعض العرب في إنشادهم:
و ليس العمى طول السؤال و إنما تمام العمى طول السكوت على الجهل
فالمعلم إذا شاء أن ينجح في تعليمه فلا مفر له على أن يقبل على الاستزادة من العلم بمادته و تخصصه و لتكن همته في طلب العلم عالية و عليه أن يبادر أوقات عمره إلى التحصيل و لا يغتر بخدع التسويف و التأمل.
2. الكفاءة المهنية:
و يقصد بها مهارات التدريس التي يجب توافرها في المعلم لكي يستطيع أن يؤدي عمله على أكمل وجه لتحقيق أهدافه التربوية. و من هذه المهارات
(أ) استثارة الدافعية عند التلاميذ و وجودها عنده، فالمفكرون التربويون ينصحون المعلم بأن يثير دافعية المتعلم و أن يرغيه في العلم في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله للعلماء من منازل الكرامات و أنهم ورثة الأنبياء و على منابر من نور يغبطهم الأنبياء و الشهداء، و يحبذ الزرنوجي أن تكون الدافعية نابعة من المتعلم بنفسه" فينبغي للمتعلم أن يبعث نفسه على التحصيل " و يقول : "و كفى بلذة العلم و الفقه و الفهم داعيا و باعثا للعاقل على تحصيل العلم" ( 16)
(ب)مراعاة الفروق المهنية: فلا ينبغي للمعلم أن يشرك الطالب عالي التحصيل مع متدني التحصيل و ذلك لاختلاف قدرة كل منهما، ففي ذلك عدم إنصاف
و يؤكد الغزالي بقوله بضرورة " ضرورة مخاطبتهم على قدر عقولهم".
(ج) طريقة التدريس: حيث أشار المفكرون لأهمية طريقة التدريس للمعلم بأن لا ينقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم.
و يؤكد ابن جماعة على المعلم أن يقرب المعنى للتلاميذ و يحتسب إعادة الشرح و تكراره و يبدأ بتصوير المسائل و توضيحها بالأمثلة، و ما ورد في مجامع العرب بأن العلم هو ( ما حوته الصدور لا ما طوته السطور) مع عدم الحفظ الصم دون وعي و إجادة.
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا و غابت عنك أشياء
و من طرق التعليم التي استخدمها المعلمون المسلمون أمثال ابن سينا هو التعليم التعاوني فيقول " إن الصبي عن الصبي ألقن و هو عنه أخذ به و آنس"
(د)إدارة الصف: و هي مهارة يجب أن يتمتع بها المدرس حني يستطيع تحقيق أهدافه في أحسن جو و أن يصون مجالس درسه في الغوغاء و اللغط و سوء الأدب و أن يعامل طلابه بأدب، فهذا ابن سحنون يروي عن الرسول صلى الله عليه و سلم بأنه قال: " أريما مؤدب ولى ثلاثة صبية من هذه الأمة و لم يعاملهم بالسوية فقيرهم و غنيهم حشر يوم القيامة مع الخائنين"
(هـ) الثواب و العقاب: و هناك مسألة خلافية كبيرة بين مفكرين العصر و مفكرين الثقافة الإسلامية حيث أن الإسلاميين وضعوا ضوابط للعقاب حتى لا يساء استخدامه من قبل المعلم و أن لا يلجأ للعقوبة البدنية إلا عند الضرورة القصوى و يجب أن لا يكثر من استخدامها حتى لا تكون روتينا عند التلاميذ فتفقد أهميتها، و أن يكون مؤدبا في عقابه رحيما.
و قد وضح الإسلام العلاقة بين المعلم و المتعلم في ضوء الفكر التربوي الإسلامي، فقد أخذ القابسي بالقاعدة التي تقول:" إن الله ليملي للظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالعفو أسبق من العقاب، و الصبر مقدمة الحساب.
فأمر المعلمين بالرفق مع الصبيان و إن كان العفو مع الذنبين من الكبار واردا، فهو مع الصبيان واجب لصغر سنهم و طيش أعمارهم وضيق حلومهم و قلة مداركهم.
فالمعلم ينزل من الصبيان منزلة الوالد، فهو المأخوذ بآدابهم و القائم على زجرهم و هو الذي يوجههم إلى ما منه مصلحة أنفسهم وهذا التوجيه يحتاج إلى سياسة و رياضة حتى يصل المعلم بالطفل مع الزمن إلى معرفة الخير و الشر. (8)
3. الكفايات الأخلاقية: و من الكفايات الأخلاقية التي يجب توافرها في المعلم المسلم:
( أ )القدوة يقول الشاعر
لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيما
يجب أن يكون المعلم قدوة حسنة لتلاميذه في تعليمه للأخلاق، فالمعلم في فكر التربوي الإسلامي بإشراط الغزالي على المعلم أن يعمل بعلمه و استشهد بقوله تعالى:
" أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم "
و يشير ابن جماعة إلى أثر القدوة الحسنة بقوله " و يسلك - أي التلميذ - في الهدي مسلكه - أي مسلك العلم - و يراعي في العلم و الدين عاداته و عبادته و يتأدب بآدابه و لا يدع الإقتداء به"
و لقد حرص الغزالي على أن يبين أن التمسك بالمبادئ و العمل على تحقيقها يجب أن يكونا من صفات المعلم المثالي، فنصح المعلم بأن لا ينادي بمبدأ و يأتي أفعالا تتناقض مع هذا المبدأ و لا يرتضي المعلم لنفسه من الأعمال ما ينهى عنه تلاميذه، و إلا فالمعلم يفقد هيبته و يصبح مثارا للسخرية و الاحتقار فيفقد بذلك قدرته عل قيادة تلاميذه و يصبح عاجزا على توجيههم و إرشادهم.
يقول الغزالي: "مثل المرشد من المسترشدين مثل النفس من الطين بما لا نقش فيه و متي يستوي الظل و العود أعوج ؟؟ "
(ب) الزهد و التواضع
و يتمثل ذلك في أن يقتصد المعلم في ملبسه و مطعمه و مسكنه و حدها ابن جماعة بأن يكون ( من غير ضرر على نفسه و عياله).
فالتواضع من صفة العلماء و أن لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن يعلمه سواء كان دونه منصبا أو نسبا أو سنا.
(ج) الوقار و الهيبة
ينصح ابن جماعة المعلم بأن يتجنب مواضع التهم و إن بعدت و لا يفعل شيئا يتضمن نقص مروءته أو ما يستنكر ظاهرا و إن كان جائزا باطنا فإنه يعرض نفسه للتهمة و عرضة للوقيعة.
و أن لا يضحك مع الصبيان و لا يباسطهم لئلا يفضي ذلك إلى زوال حرمته عندهم، كذلك ف، مشية المعلم يجب أن تكون مشية العلماء و أن ينزه نفسه عن المهن الوضيعة و أن يصطحب الوقار و الهيبة مع إخلاصه في العمل ليكون رزقه حلالا.
و يظهر ذلك جليا في أفكار المسلمين الأوائل فعند أخوان الصفا المعلم له شروط و صفات أوجزها في ( الزهد في الدنيا و قلة الرغبة في ملاذها مع التهيؤ الفعلي في العلوم و الصنائع، صارفا عنايته كلها إلى تطهير نفسه قادرا على تحمل كافة المشاق من أجل العلم و أن يكون مشتملا برداء الحلم، حسن العبادة أخلاقه رضية، و آدابه ملكية، معتدل الخلقة، صافي الذهن خاشع القلب)
4. الكفايات الجسدية:
يهتم الفكر التربوي الإسلامي اهتماما بالغا في الجانب الجسدي عند المعلم فيصف القلقشندي المعلم بأنه" حسن القد، واضح الجبين، واسع الجبهة " (9)
و يبدوا أن ابن جماعة كان أكثر موضوعية كان أكثر موضوعية حيث وصف المعلم أن يكون دائما بالمظهر المناسب من حيث نظافته ونظافة ثيابه و تطيبه لإزالة كريه الرائحة ، فالمدرس إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الخبث و تنظف و تطيب ولبس أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه قاصدا بذلك تعظيم العلم(1/101)
و يبدو أن ذلك مستوحى من اهتمام الدين الإسلامي بالصحة و النظافة بشكل عام فالوضوء و الاغتسال و أخذ الزينة عند كل مسجد مظاهر تأثر بها المفكرون في التربية الإسلامية و حرصوا عليها لأن النظافة من الإيمان.
فقد قال ابن جماعة مختصرا المعلم بأنه:" هو الذي كملت أهليته و كان أحسن تعلما - أي كفايته العلمية- و أجود تفهما - أي الكفاية المهنية - و ظهرت مروءته و عرفت عفته - أي الكفاية الأخلاقية-
و لعلنا مما سبق عرضه لاحظنا بأن النظريات العلمية و الإنسانية الحديثة قد ظهرت عند علماء التربية العرب و المسلمين منذ مئات السنين حيث ظهرت إسهاماتهم جلية بعيدة عن اجتهاد الجهال و نزوات المخلفين، بل بذلوا عصارة فكرهم في بيان أصول التربية و فلسفتها و طرق تدريسها فظهرت عدة خلاصات و إيضاحات منها:
1. النظرة الخاطئة نحو التعليم كوسيلة ارتزاق حيث بين الإسلام أهمية هذه المهنة و وظيفتها.
2. بيان أهمية مهنة التعليم في الإسلام بعد أن تحقرت عند المجتمعات كمهنة إنشاءات و خطابات.
3. توضيح العلاقة بين الكم و الكيف في إعداد المعلم في ظل الفكر التربوي الإسلامي
و هذه البنود الثلاثة هي التي تحدد المعلم الرسالي من المعلم العادي.
ثالثا: الحاجات التكوينية اللازمة للمعلم في ظل الفكر التربوي الإسلامي.(6)
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من سمات للمعلم و التي يجب أن تكون في المعلم الذي ينتهج الفكر التربوي الإسلامي لكي يكون متكاملا قدر الإمكان، فهناك عدة أمور يجب توافرها في المعلم ليكون معاصرا، منها:
1. مواكبة التغيرات الحادثة: فالتغير سمة من سمات الكون و ناموس التغير وارد في القرآن الكريم، قال تعالي: " كل يوم هو في شأن" الرحمن:29، فالثورة التكنولوجية الحادثة حاليا جعلت هناك تدفقا هائلا للمعرفة الدقيقة و إرسال كميات هائلة من المعلومات، يجب على المعلم في ضوئها أن يحسن استخدامها، و يسخرها داخل عمليته التعليمية لمواكبة التطورات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، مما يساعده على محاربة جميع التحديات التي باتت تغزو بلاد المسلمين.
لقد أصبحت الثقافة العامة الآن بعدا هاما من الأبعاد الأساسية لإعداد المعلم و التي تزيده سعة و تعمقا في الفهم و ميولا عقلية تدفع بصاحبها إلى البحث و الاستزادة من العلم و قدرة على متابعة الجديد و تفسير الاتجاهات و تفهمها.
و من هنا كان توجيه ابن جماعة للمعلم "بأن لا يدع فنا من الفنون أو علما من العلوم إلا نظر فيه ، فإن ساعده القدر و طول العمر على التبحر فيه فذاك ، و إلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العمل، و يعتني من كل علم بالأهم فالأهم."(2)
2. تحديد مصادر برامج إعداد المعلمين وفق الفكر الإسلامي: لأن النظام التعليمي ينمو و يترعرع في ظل فكر فلسفي يغذيه، و يتم تحديد الأهداف لتكوين المعلم في ضوئها مما يساعد لمعلم على الحكم السليم في معالجة المشكلات. و من المصادر التي يجب أن ينبثق عنها إعداد المعلم:
o القرآن الكريم و السنة المطهرة، لما لها من أصالة في توجيه المعلم و الإقتداء بالرسول المعلم و المربي عليه أفضل الصلة و السلام بحيث يصبح مثله الأعلى في بناء شخصيته.
o التراث العربي الإسلامي، فعلى المعلم أن يجتهد في الانفتاح على ثقافات العرب و المسلمين الغنية في شتي المجالات و ضرورة الاستفادة من القيم و العادات و التقاليد الاجتماعية الصالحة لمواكبة العصر.
o نتائج الدراسات العربية و الإسلامية السابقة.
o الانفتاح غير المطلق على ثقافات الآخرين.
o الجمع بين التربية المستمرة و النمو الذاتي للمعلم، فمهنة التعليم في ظل الإسلام يتطلب نموا مستمرا، لمواكبة التطور العلمي و التكنولوجي، و الزيادة المتراكمة في مجال المعرفة.
3. إعداد المعلم الباحث: و ذلك بامتلاك المعلم وسائل المعرفة العلمية و التقنية، ويتم ذلك من خلال تنمية المهارات العلمية، و محو الأمية التكنولوجية لدي المعلم و في مقدمتها التعامل مع الحاسوب لمواجهة المشكلات و حلها بطرق علمية صحيحة
و قد قام ( سليمان ،1982) (10) بإجمال بعض النقاط التي يجب أن تتوفر في المعلم الناجح وهي :
- من يتوفر لديه الشعور بالمسئولية و يتفانى في أداء واجبه
- هو الذي يعيش في مجتمعه بكل كيانه و مقوماته
- الذي يستجيب لتطورات الحياة من حوله
- هو الذي يشعر تلاميذه نحوه بالتقدير و الاحترام
- هو القدوة الحسنة لتلاميذه في مظهره و هندامه و تصرفاته
- أن يكون متمتعا بصحة جسمية و نفسية
- أن يكون مجيدا لمادة تخصصه و أن يلم بطبيعتها
- أن يكون متعاونا
لذا فقد اقترح ( البوهي وغبن) (7) بوضع برنامج تدريبي أثناء الخدمة و ذلك لـ:
* رفع مستوى أداء المعلمين في المادة و الطريقة و تحسين اتجهاتهم و تطوير مهاراتهم التعليمية و معارفهم و زيادة قدراتهم على الابداع و التجديد
* زيادة المام المدرسين بالطرق و الأساليب الحديثة في التعليم و تعزيز خبراتهم في مجالات التخصص العلمية
* تبصير المعلمين بمشكلات النظام التعليمي القائم ، ووسائل حلها و تعريفهم بدورهم و مسئولياته في ذلك.
أهم الاتجاهات الحديثة المناسبة لتربية المعلم للمجتمع المسلم:(11)،(12)
1. التأكيد على تأهيل المعلم لتربية تلاميذه تربية إسلامية
و هذه العبارة تعني في جوهرها توجيه سلوك المتعلم بمساعدة المعلم على أن ينمو بشكل كامل و شامل و متوازن، و منها اكتساب الخبرات الخاصة بالقيم الالهية و الخبرات البشرية مما يجعل سلكه قولا وعملا وفق منهج الله.
قال تعالى: " ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" الأعراف:129
و يقول أيضا: "فمن يعمل مثقال ذرة خير يره و من يعمل مثقال ذرة شر يره" الزلزلة:7،8
2. العناية بتزويد المعلم بالثقافة الإسلامية
فالثقافة الإسلامية هي الأساس التي يبنى عليها نظام المجتمع و يقوم عليها البناء التعبدي و هي منطلق تحرر النفس الإنسانية من العبودية لغير الله و لذا فهي تستنفر المعلم لتربية تلاميذه و توجيههم و ارشادهم و حفز هممهم نحو دفع الأمة إلى الإنطلاق الحضاري تحت راية دين الله الحنيف و تعريفهم بماضي أمة الإسلام و حاضرها.
3. العناية بالتوجه الإسلامي للعلوم و بإسهامات العلماء المسلمين فيها
4. تمكين المعلم من مهارات التعبير باللغة العربية الفصحى و من التعليم فيها
و يدخل في اطار هذا البند الاتجاه نحو تعريب جميع المعلومات و رفع مستوى المعلم فيها و تقوية المعلم في التحدث باللغة العربية لما لها من اسهامات في تقوية المعلم و انعكاسها على شخصية الطالب في اللغة.
5. الأخذ بمبدأ التعليم مدى الحياة و النظر إلى تربية المعلم في إطار نظام موحد.
و ذلك لكي يبقى المعلم متصلا بعالم التربية و العلم و مطلع على التجديدات الحديثة
6. رفع مستوى برامج تربية المعلم و تكاملها و تنوع خبراتها
لأن برامج اعداد المعلمين هي الركيزة الأساسية لنواة تكوين المعلم ، لذلك من الضروري على الجامعات و الجهات المختصة أن تقوم يتعديل خطة إعداد المعلم و الاهتمام به في جميع الجوانب، المهنية، العلمية، الاجتماعية ، الأخلاقية .
7. الأخذ بالتطورات المعاصرة في التقنية التربوية و محو الأمية التكنولوجية
لأن عصرنا الحاضر هوزمن التقدم العلمي و التكنولوجي ،تطورت معها طرق تدريس المواد ، و تقدمت أساليبها لمراعاة تغيرات العصر كما أسلفت آنفا.
لذلك كان من الضروري تمية قدرات المعلمين على الأخذ بالتطورات العحاصلة في العالم شريطة ألا يتنافى ذلك مع الشريعة الإسلامية.
8. التأكيد على البحوث و تطبيقاتها الميدانية
و ذلك لما لها من أهمية في تقدم العلوم و الارتقاء بشخصية المعلم.
المراجع:
1. ابن جماعة، بدر الدين (1994) : تذكرة السامع و المتكلم في أدب العالم و المتعلم ، رمادي للنشر، الدمام.
2. ابن جماعة، بدر الدين . المرجع السابق.
3. الأغا، احسان خليل (1992): ازمة التعليم في قطاع غزة ، الجامعة الإسلامية ، غزة
4. البزاز، حكمة(1989): اتجاهات حديثة في إعداد المعلمين، مجلة رسالة الخليج العربي، المجلد 9 ، العدد 28.
5. أبو دف ، محمد خليل (أبريل) : صيغة مقترحة لتكوين المعلم العرب على أعتاب القرن الحادي و العشرين ، مؤتمر الدور المتغير للمعلم العربي في مجتمع الغد، كلية التربية ، جامعة أسيوط.
6. البوهي، فاروق و بيومي، محمد غازي: دراسات في إعداد المعلم، دار المعرفة الجامعية.
7. البوهي، و غبن ، لطفي : مهنة التعليم و أدوار المعلم ، دار المعرفة.
8. الحريقي، سعد بن محمد (1994): فاعلية الإعداد التربوي في الموقف المهني للمعلمين و المعلمات قبل التخرج، مجلة مركز البحوث التربوية، المجلد 11 ، العدد2 ، الرياض.
9. الصاوي، محمد وجيه (1999): دراسات في الفكر التربوي، مكتبة الفلاح ، الكويت.
10) سليمان ، عرفات عبد العزيز(1982): المعلم و التربية ط2 مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة
11) شوق ، محمود أحمد و مالك، محمد (2001) : معلم القرن الحادي و العشرين ، دار
الفكر العربي ، القاهرة.
12) شوقي، محمود أحمد (1995): تربية المعلم للقرن الحادي و العشرين، مكتبة العبيكان، الرياض.
13) عبد العال، حسن إبراهيم (1985):فن التعليم عند بدر الدين بن جماعة، مكتب
الربية العربي لدول الخليج.
14) عبد العال، حسن إبراهيم. المرجع السابق.
15) عسقول ، محمد عبد الفتاح (1997) : الإعداد المهني للمعلم في كلية التربية بالجامعة الإسلامية بغزة ، مؤتمر التربية في فلسطين و تحديات المستقبل، كلية التربية الحكومية،غزة.
16) على، سعيد إسماعيل (1991) : اتجاهات الفكر التربوي الإسلامي، دار الفكر العربي ، عين شمس.
ـــــــــــــــ(1/102)
إليك يا زوجي
أبو جهاد سلطان العمري
المقدمة
من زوجتك الغالية 000 كما أخبَرَتْني بذلك
من زوجتك التي عاشت معك طوال الأيام والشهور والسنين التي مرت 000
أهدي إليك هذه الرسائل0
هي كلمات دفعني إلى كتابتها ما رأيته من تغير عليك
الهدف منها الإصلاح والله يعلم سريرتي 0
زوجي / نحن بحاجة إلى مثل هذا التناصح لأن السكوت عن العيوب
يجعل في النفس بعض الكراهية 0
أرعني سمعك وكن معي بقلبك
هيا سوياً إلى هذه الرسائل
الرسالة الأولى :
السعادة
كنت أقرأ في إحدى الكتب فاستوقفني هذا السؤال : هل أنت سعيد ؟
تأملت في هذه الأحرف ، عدُتُ إلى نفسي وسألتها هذا السؤال
يانفس هل تشعرين بالسعادة ؟ بدأت أسأل عن السعادة ....
ثم قلت لنفسي : نعم أنا أشعر بالسعادة فعندي وظيفة ، ومنزل وأتمتع بجمالي، ويؤانسني زوج له مكانته
في المجتمع أنا سعيدة فعندي(3) أبناء و(3) بنات كلهم لهم رواتب جيدة ويُهدون لي بين الحين والآخر.
مرت الأيام ، لكن شعوري بالسعادة بدأ يقل ويقل ، وفجأة استوقفتني هذه القصة التي سمعتها من إمام الجامع .
إليك يا زوجي هذه القصة :
جاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله و سأله : متى يجد العبد طعم الراحة ؟
فقال الإمام أحمد: عند أول قدم توضع في الجنة.
لم أنم تلك الليلة ، وبدأتْ تلك الكلمة تتردد علي ( عند أول قدم توضع في الجنة ) .
رجعت إلى نفسي ....ونظرت في المرآة .... وتأملت في نفسي وسألتها : هل تشعرين بالسعادة ؟
فلم تجبني..... تأملت في ملابسي .....في أثاث منزلي الذي هو أغلى الأثاث 00
زوجي
اسمح لي بأن أُصارحك .....عفواً فالكلمة قد تكون قاسية لكن لابد من سماعها
( كل ما قدمته لي لم يجلب ليَ السعادة )
نعم
أنا أشكرك على ما قدمت لي لكن قلبي لم يشعر بالسعادة .....إن سعادة القلب وطمأنينة الروح
ليست في كل ما أملك....نعم أنا فقيرة ...... نعم فقيرة .....أتدري من ماذا ؟
أنا فقيرة من الإيمان ومن القرآن ومن الخشوع ومن التواضع ومن مراقبة الله عز وجل....
كم هي الوجبات الغالية التي قدمتها لي ... وكم هي الهدايا الثمينة التي أهديتها لي
ولكن وبصراحة
كم هي المواعظ الإيمانية التي قدمتها لي
صحيح أنك اشتريت لي أجمل الملابس
لكنك غفلت عن أعظم لباس لم تحضره لي{ ولباس التقوى ذلك خير}
زوجي .... أين السعادة ؟ نعم أريدها .... خذ مالي ... خذ أبنائي وبناتي ....خذ جميع ممتلكاتي
ولكن أريد أن أتذوق طعم الإيمان ولذة الهداية
كما وجدتها التائبات والعائدات إلى الله.
الرسالة الثانية :
زوجي
إنك عندما تُصاب بسوء من مرض أو هم ونحو ذلك لاتعلم كم أهتمُ لذلك ولاتعلم كم دمعة ٍذرفت
من عيناي حزناً على مرضك وأتمنى أن المرض تخطاك وأصابني 0
هذه مشاعري بصدق
ولكني صُدمت لما أصابني ذلك المرض فرأيتك غير مبالٍ بي ...
ولامُكترثٍ بحالي ...
بل إنني سمعتُك وقد أطلقت عبارات الشكوى إلى أهلك
وتُصدر كلمات الملل مما أصابني .....
ومما زادني مرضاً وهماً لما علمت بأنك قد عزمت الزواج علي وتطليقي
لأنك لا تريد امرأة مريضة
لا إله إلا الله .....
لقد هدمت الآمال والأماني التي رسمتها طوال حياتي
زوجي ..
لو كنت أنت المريض فوالله لن أتخلى عنك ولن أرغب في أحدٍ سواك
بل والله ستجدني خادمة لك ...
ساهرة عليك ...
قائمةٌ بين يديك
بل والله الذي لاإله إلا هو لو أردت العافية التي لدي لم أبخل بها عليك.
فلماذا هذه القسوة ؟
وأين الرحمة ؟
ألم تقرأ في مناهج الدراسة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
( من لا يرحم لا يُرحم ) ، ( والراحمون يرحمهم الرحمن) ،
( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) 0
الرسالة الثالثة :
زوجي العزيز
كثيراً ما أسمعك تدندن وتقول إن للزوج حقوق ، وأنا الذي فعلت وفعلت 00
فأقول لك :
وأنا أيضا ًلي حقوق، فلماذا تطالبني بحقوقك عليّ وتنسى حقوقي عليك.
إن الحقوق الزوجية من الضروريات التي يجب على الطرفين مراعاتها....
فلماذا لا يحاول كل واحدٍ منا أن يتعرف على ما يريده الآخر فيقوم بما يستطيع.
زوجي
هذه ورقة وقلم ........
اكتب فيها كل ما تحب أن أعمله من أجل رضاك علي 00
نعم أنا أريد رضاك فاكتب في هذه الورقة ما تحب
وسوف أبذل ما بوسعي لكي أقوم بذلك 00
عفواً يازوجي وسوف آخذ القلم لكي أكتب ما أريده منك وأرجو منك
أن تؤدي ما أحبه منك0
الرسالة الرابعة:
زوجي/ إننا ننظر إلى أفعالك وتصرفاتك ونتأثر بها....
فأتمنى أن نرى فيك القدوة الحسنة.......
زوجي : هل تظن أن بقائك في البيت والناس قد تسابقوا إلى المسجد
لكي يفوزوا برحمة الله ؟
هل تظن أن بقائك لا يدعو الأبناء إلى التأخر عن الصلاة ؟
بلى والله .......
إنك تستطيع أن تغير البيت إلى أفضل مستوى دينياً، وتربوياً ,
بحسن عملك وكونك قدوة حسنة لنا ,
إنك عندما تأخذ المصحف لتقرأ فيه....
إنك بعملك هذا تجعلني أعود لنفسي وأقول لها : لماذا لا أقرأ أنا
وأكسب من الأجر مثله 0
إنك لم تتكلم بكلمة
ولكن عملك الصالح هو أعظم دعوة لنا
وما أحسن تلك اللحظة التي رأيتُك فيها وقد هجرت النوم
وقمت في أخر الليل لكي تُناجي ربك 0
لقد تأثرت بك كثيراً ..
ويعلم الله أنك بعملك هذا تزرع الإيمان في قلبي
فأوصيك بأن تكون قدوة حسنة لي ولأبنائك...
فمن سوف يؤثر فينا إن نحن فقدنا التأثير منك ؟
الرسالة الخامسة :
زوجي العزيز
أتمنى أن أرى فيك الحرص الشديد على ديني ..... فلماذا لا أراك تنصحني ؟
ولماذا لا تجلس معي لحظات إيمانية ..
أشعر فيها بأننا في مجلس ذكر لله تحفنا الملائكة ويذكرنا الله فيمن عنده؟
إنني في شوق كبير أن أراك وقد دخلت علينا بابتسامةٍ صادقة ....
ثم أعقبتها بجلسةٍ معي أنا وأبنائي فأخبرتنا بقصة من قصص سيد البشر عليه الصلاة
والسلام ... أو ذكرت لنا حكاية فيها العبرة والفائدة
أو أخبرتنا ببعض الأحكام الشرعية 00
قد تقول لي : ليس لدي ذلك العلم الذي يجعلني أعمل ذلك .
فأقول : يكفي أن تجلس معنا وتأمر أحد أبنائك بقراءة شيء من القرآن
أو بعض ما قاله علماء الإسلام0
إن رؤيتنا لك ليست بالأمر الهين ، فأنت سر سعادتنا يا أعز مخلوق0
الرسالة السادسة :
زوجي العزيز :
أتمنى أن أراك جميل الملبس نظيف الثياب حسنَ الرائحة.............
إنني عندها أشعر بسعادة تغمر روحي لأني أراك على هذا الحال ...........
ولو تعلم كم أتألم عندما أرى فيك ضد ذلك من اللامبالاة من عدم الاهتمام بمظهرك00
زوجي
كما تُحب مني أن ألبس لك الجميل وأن تكون رائحة العطر الجميل قد ظهرت علي فإني كذلك أُحب ُمنك ذلك ..
وفي يوم من الأيام ........
وقع بصري على أية من كتاب الله فلما قرأتها قلت أين زوجي عنها ؟
لعلك تقول وما هي الآية ؟
فأقول إنها قول الله تعالى{ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }
لقد قال ابن عباس رضي الله عنه: " إني أُحب أن أتزين لامرأتي كما أُحب أن تتزين لي ".
زوجي....
إني لا أطالبك بالغلو في ذلك , لكنه يكفيني بعض الاعتناء 00
إن المرأة لا تريد أن ترى أحداً من الناس إلا ومظهر زوجها أحسن منه
قد تتعجب من ذلك، ولكني أُخبرك بما نعتقده نحن النساء 0
زوجي العزيز ...
لقد تعجبت لما رأيتُك وأنت ذاهب إلى إحدى الولائم وقد لبستَ أجمل الثياب 0
فقلت في نفسي لماذا لا يكون هذا الاهتمام معي ؟
الرسالة السابعة
زوجي العزيز :
لا يخفى عليك أنه لا يخلو بيت من وجود ما يعكر صفوه من حدوث بعض الاختلافات حول وجهات
النظر ,أو حدوث بعض المشاكل...وهاهو بيت الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم من ذلك....
ولكن يا زوجي الغالي :
هل سألت نفسك عن سبب وجود هذه المشاكل ؟
قد أكون أنا السبب وهذا صحيح فقد أقع في الخطأ كما يقع غيري ...
ولكني أُحب أن أطرح عليك بعض الكلمات حول هذا الموضوع :
إن الذنوب لها صلة بالمشاكل الأُسرية ، وهذا ليس تهرباً من أن أكون أنا سبب في بعضها...
زوجي العزيز:
قد تكون تلك النظرة لتلك المرأة التي نظرت لها في ذلك الفلم أو ذلك السوق قد تكون هي سبب
ما حدث 00
لا تتعجب فربُنا سبحانه يقول{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } ويقول تعالى { قل هو من
عند أنفسكم }.
وهذا أحد السلف يقول: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلق دابتي وامرأتي 00 ومعنى ذلك أنه
يرى أثر عقوبة الذنب 000
زوجي :
أتذكر لماَ أضعت صلاة الفجر في ذلك اليوم وما إن جئت بعد صلاةالظهر إلا وجاءت معك الخلافات
ورفع الأصوات ،،
وقفت وقلت في نفسي 00
لعل هذا الخلاف " عقوبة لتركك لصلاة الفجر"
وقد رأيت أنك كلما حافظت على طاعة الله وحافظتُ أنا كذلك على طاعة الله كلما رأينا السعادة
والطمأنينة 0
نعم إن البيت السعيد هو من كان أهلة يتقربون إلى الله تعالى ...
أريد منك أن تحاسب نفسك بعد كل قضية خلاف تحدث بيننا
" ما هو الذنب الذي أحدثتُه لكي أتوب منه "؟؟؟
الرسالة الثامنة :
أيها الزوج الكريم
إحذر هذه اللحظة...
زوجي
أنا من البشر والخطأ مني متوقع وفي أي لحظة ...
ولكن أرجوك لا تغضب ...
نعم عليك بضبط النفس والهدوء وكن صبوراَ على زلاتي وأخطائي
إنك عندما تغضب قد لا تتمالك نفسك .
وقد تنطق بتلك القٌنبلة التي تدمر أُسرتنا وحياتنا ...
إنها كلمة ( أنتِ طالق )
وأنا لستُ في صدد الحديث عن صحة طلاق الغضبان .
وهل يقع أم لا ؟
ولكن تذكرأنك بهذه الكلمة تهدم بيتاً كانت فيه السعادة والهناء.
بيتاً كنا فيه في أيام مضت تغمرنا المودة والرحمة ..
بيتاً فيه نشأ أبنائنا ....
فكم من ضحكة ضحكناها على طفلنا الصغير لما بدأ في المشي والكلام
زوجي
لقد طلقتني ... والسببُ لا يستحقُ ذلك.....
من أجل ذلك الموقف : ضاع أبنائنا ، وتشتت أُسرتنا...
من أجل ذلك الموقف : رجعتُ إلى بيت والدي وأنا حزينة .....
قد قطع البكاء قلبي، وجلست عند النافذة فأرسل القمر نوره ....
فتذكرتُ لما كنا سوياً في ليلة كان القمر بدراً ..
لما كنا على شاطئ البحر في بداية زواجنا...
فذهبت بي الخواطر ولكنها رجعت بأمواج من الأحزان .....
أما الأبناء ...
فذلك الابن قد تعرف على صحبة سيئة وقبض عليه معهم
وهو متعاطي للمخدرات .
أما ابنتي . التي فرحنا فرحا شديداً بقدومها ،
فها هي تخرج إلى الأسواق وتذهب مع صديقاتها
( عذراً )
بل مع أصدقائها .
إنه الطلاق .... وكفى ....
فمن لنا ؟؟؟
فمن لنا ؟؟؟
الرسالة التاسعة :
زوجي :
إن الخلافات والأمور التي هي نقاطاً سوداء في الحياة الزوجية
لها فقهاً في التعامل ....
واسمح لي بإبداء بعض الخواطر حول ذلك ...
" إن الحوار الناجح يُساعد على تفهم وجهات النظر "
ما أجمل المصارحة بيننا ولكن بأدبٍ وحكمة
ليس في كل وقت يكون الحوار ناجحاً
فالحوار لحظة مجيئك من العمل قد لا يكون مناسباً ....
للإرهاق الذي قد حل بك .
زوجي /
احِذر من الحوار أمام الأبناء فهذا من أكبر الأخطاء
فمهما رأيت من خطأٍ علي أو مُلاحظة فاهدأ حتى يخرج الأبناء
من الغرفة ثم تفضل مشكوراً بإبداء ما يحتاجُ إلى إصلاح وتغيير .
زوجي العزيز /
هل سبق لكَ أن قرأت في فن العلاقات الزوجية ؟
نعم... إن الثقافة في هذه الأمور من مهمات الأمور...
وكما عودتنا على رؤيتك وبيدك الجرائد الرياضية والاقتصادية فنريد أن نرى في يدك كتاباً عن وسائل نجاح الحياة الزوجية .
الرسالة العاشرة
قد تكون معي في البيت وهذا مما يجلب السرور لي ....
ولكن أحياناً أراك في البيت مشغولاً عني إما بالصحف والمجلات..وإما بمشاهدة المُباريات،
وإما برؤية ما تبثه القنوات ,وإما بالجلوس على الحاسب الآلي والبحث في الإنترنت .
زوجي :
كم أفرحُ لما أراك وقد دخلت إلى بيتنا الذي هو السكنُ لناوهو مَجمعُ حياتنا وسعادتِنا .
لكنْ ,لماذا لا تُهدي إلي تلك الكلمات المعبرة عن شوقك وحبك لي ؟
لماذا لا تُرسل لي نظرات المودة والتقديرمن عينيكَ الجميلتين ؟
لماذا لا تُريني تلكَ الابتسامةِ الصادقة؟
لماذا تتجاهلُ وجودي وتتغافل عني ؟
لماذا لا أشعُر بقربكَ مني؟
إنك تتفاعل مع قضايا الآخرين ولكن أين تفاعلك مع قضيتي..
أنا زوجتك
أنا بين أربعة جدران أُقلبُ طرفي فيها كل يومٍ وليلة .
فلماذا لا تشعُرُ بحاجتي لجلوسك معي ؟
وحديثك العاطفي تجاهي... أجبني بصراحة لماذا .....؟
صحيح قد تكون ناجحاً في عملك، أو إدارتك ،
ولكن للأسف أنت لستَ ناجحاً في إدارة أسرتك وعائلتك .
الرسالة الحادية عشر :
عفواً لعلي أكثرتُ عليك ولكن هي خواطر الحب التي في فؤادي .
فهل تسمح لي بإبداء صفحاتٍ من تلك الخواطر.....
شكراً لك ، وهذا ظني فيك :
زوجي :
إن من دواعي سروري قيامي بخدمتك وخاصة عندما يأتيك صديقٌ عزيز أو ضيف ٌ عابر
وهذا شيءٌ أفتخرُ به......
ولكني أراك في أحيان قليلة لا تبالي بصحتي عندما يقدم عليك الضيوف فقد أكون مُتعبة أو قد
أكون في أيام التي لا أُصلي فيها ....
وتعلم أنها أيام حرجة من الناحية الصحية للمرأة ....
ولكن لماذا لا تنظر لضعفي و مرضي وتقدر ذلك ؟
هي سبعة أيام تقريباً في كل شهر أرجو منك المراعاة في ذلك .
وأيضاً ألاحظ كثرة الضيوف الذين يدخلون عليك وأنا لا أعترض لكني امرأة من جنس البشر
يُصيبني الملل والضجر عندما يكثرُ علي مثل ذلك .....
فهل من الممكن أن تُقلل من هؤلاء الضيوف لأجلي ؟
نعم لأجل زوجتك التي هي أغلى ما تملك ....
كما اعترفت لي بذلك أكثر من مرة ....
ثم هل تسمحُ لي بإبداء سؤال طالما كنتُ أُحِبُ أن أسألك :
في أي شيٍ تُحِبُ أن تقضي وقتك مع صديقك ؟
هل تقضيه معه في أمرِ يُحِبُهُ اللهُ تعالى ورسوله ؟
أم أنك تقضيه في أُمور محرمة ؟
زوجي الكريم :
إنْ الصديقَ يؤثر كثيراً على المرء ، وللأسف فإني لا أراك قد تغيرت إلى الأفضل بل أراك في انحدار وتراجُع .
لا عجب فالمرء على دين خليله .
الرسالة الثانية عشر: الميزانية
تعلم يا زوجي أن المال عصبُ الحياة وأن ظروف الحياة المعاصرة تتطلب شيئاً من المال ........
فهل فكرت تفكيراً جاداً مدروساً في كيفية التعامل مع المال في ظل مطالبي كزوجة ومطالب البيت
والأبناء ؟؟
هل فكرت فيما بعد التعاقد كيف ستكون الميزانية العائلية ؟؟؟
هل توقعت الطوارئ والمُفاجئات في الحياة وكيف سنواجهها ونحن لا نبالي في صرف المال ؟؟؟؟
صحيح أن الله هو الرازق ، ولكن لماذا هذا الإسراف في المشتروات ؟؟؟؟
ولماذا ذلك التضييع للمال في كماليات الحياة ؟؟؟
إن الذي أمرك بالبحث عن الرزق الحلال نهاك عن إضاعة المال وعن التبذير والإسراف 0
زوجي / فكر جيداً في كيفية التعامل مع المال وأنا على أتم استعدادلمشاركتك بالرأي والمشورة الصادقة0
الرسالة الثالثة عشر:
زوجي العزيز :
لقد عشتُ معك أيامي الأولى معاني الحُب والتضحية و الاحترام ولكن ما إن مضت تلك الشهور
الأول وشعرت بفقدي لها .
وأقول في نفسي :
يا ترى ما هو السبب ؟
هل عملت شيئاً يستدعي ذلك ؟
ولكن لا زلتُ أدعو ربي أن يُعيدَ ذلك الحُب وتلكَ العِشرة التي أنسيتني فيها حتى أحبَّ الناسِ
إلي والديَّ وإخوتي .
زوجي الغالي :
لك في القلب مكان ومهما بدر منك من قصور فلا زلت أنت الحبيب الأول وأنت الرجل الأول في
حياتي ....
يا من وجدتُ السعادةَ معهُ .....
مهما قصرتُ في حقكَ أو أخطأتُ عليك ، فلا تظنُ أني أتعمدُ ذلك.
بل والله إني نادمة على كل لحظةِ خطأ كانت مني تجاهك........
ولو تعلم كم هي الدموع التي تحدرت من عيني حُزناً على تلك اللحظات السوداء لعرفت
ما لك من المكانة في فُؤادي ....
فأطلب منك العفو والسماح والصفح عما كان فأنا لستُ معصومة
( كلُ ابن آدمَ خطاء وخيرُ الخطائين التوابين )
وإن كان قد صدر مني ما يزعجك فأتمنى أن تغمض عينيك عنه ، وتقابل تلك الإساءة بالإحسان ،
وهذه الصفة يا زوجي هي من علامات أهل الإيمان كما قال جل وعلى { ويدرءون بالحسنة
السيئة أولئك لهم عقبى الدار }
الرسالة الرابعة عشر:
زوجي العزيز :
أتسمحُ لي بإبداء بعض المُلاحظات التي رأيتها عليك وهي قليلة في بحار حسناتك علي ...
ولكن دفعني حبي لك أن أُخبرك بها فأرجو أن تقبلها بقبولٍ حسن ....
ولا أدْعيِ العصمة لنفسي ولكن هذا ما تعلمناه من نبينا عليه الصلاةُ
والسلام لما قال ( الدين النصيحة ..... ) رواه مُسلم.
فإليك هذه النصائح يا زوجي العزيز :
- لقد تضايقتُ لما رأيتُكَ نائماً عن صلاه الفجر والناسُ يُصلون في المسجد ، ولما نظرتُ إلى
النافذة فرأيتُ ذاك الرجلُ الذي بلغ من الكبر عتيا وهو يمشي بعصاهٍ في البرد والهواء وإذا بي
ألتفتُ إليك فأراك نائماً.......
فَدمعتْ عيناي حُزْناً عليك وخوفاً عليك من عذاب الله تعالى ...
فلماذا يا زوجي هذا النوم ، والناسُ يتسابقون إلى أبواب المغفرة ؟؟
- وتعجبتُ أكثر لما رأيتُك بعد لحظات وإذا بك تستيقظُ فزعاً
خوفاً من أن تكون قد تأخرت على عملك ...
- يا سبحان الله أين إيمانُك بالله ؟
- أين محبتُك لله تعالى ؟
- أتخافُ أن تُعاقب من قِبل رئيسك في العمل؟
- ولا تخافُ أن تُعاقبَ على ذنبك وتكاسلك عن الصلاة ؟
- أنسيتَ أن الله توعد المتخلفين عن الصلاة؟ فقال تعالى
{ فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}.
زوجي / أتدري ما هو( غيا ) إنه وادٍ في جهنم والعياذُ بالله من جهنم وأوديتها .
زوجي / أنسيت قول الله تعالى { فويلٌ للمُصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون }
يازوجي الغالي : جاهد نفسك في القيام إلى الصلاة....
فهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة...
الرسالة الخامسة عشر:
زوجي العزيز :
لا يخفى عليك أن هذا اللسان أداة للتعبير عما في القلب وهذا اللسان صغيرٌ حجمه عظيمُُ ُأمره ...
أتذكُرُ لما تكلمت علي وعلى أبناؤك بكلامٍ جارح لما قصرتُ في أعمال المنزل .
صحيح أن تقصيري خطأ .
ولكن هل السب والشتائم وجرح المشاعر هو الحل ؟
إنك بسوء كلامك تجعل بيني وبينك حاجز منيعا يمنع الحب والتقدير. والاحترام
زوجي : لا يكن خطأي سبب لارتكابك خطأ أعظم منه ....
أين هدوءك وأين تفهُمك لما جرى ؟؟
لماذا لم تسألني عن سبب تقصيري.؟؟؟
دعني أُرسل لك الإجابة من قلب طالما دمرتهُ بكلماتك ...
إن السبب الذي جعلني أُقصرُ في عمل المنزل هو أبنك الذي كان مُصاباً ببعض الآلام فذهب الوقتُ
ولم أشعُر بذلك ،،
وفي ذلك اليوم كان السبب أيضاً هو أنني كُنتُ في السبعةُ أيام التي يتغير ُفيها كلُ شيءٍ بالنسبةِ لي
فلا أشعُرُ إلا بالإرهاق وسوء المزاج وتدهور صحتي .
زوجي / قدركَ كبير ويجب علي أن أسعى لخدمتك ....
فرجاءً لا تظن أن تقصيري هو تجاهل لحقك علي لا والله ...
ولكن أرجو منك قبل أن تُصدر عباراتك الجارحة أن تسبقها بعبارة : لماذا يا زوجتي الغالية ؟؟
الرسالة السادسة عشر :
أمي أين أبي؟ :
زوجي / أُهدي إليك هذه القصة.....
اقرأها قبل أن تنام ، ثُم لا أظن أنك ستنام ...
زوجي :
كانت هناك أسرة تعيش في سترٍ وهناء ، لكن الوالدُ كان مشغولاً بكسب الرزق فلم يكن يعود إلى
البيت إلا في ساعات مُتأخرة من الليل فجاء إليه الشيطان وقال له لماذا لا تُحضر لأبنائك جهاز
الدش لكي يقضوا فراغهم فيه ، فلقد أصابهم الملل في بُعدك عنهم ؟
فاستجاب ذلك الأب لداعي الشيطان ، واحضر جهاز الدمار لأسرته المُحافظة .
فبدأت القنوات تبث ُسمومها في أرض الفطرة النقية لدى تلك القلوب البريئة .
فتحركت الغريزة لدى إحدى البنات ، وأشتعل فتيل الشهوة ،فبدأت تبحثُ عن صديق تبادله شعور
الحب والعشق المتبادل ...
فرفعت سماعة الهاتف ووقعت في حبال الذئاب البشرية ..
أحبته وأحبها، عشقته وعشِقها.... ولا بد من اللقاء .
ذهب والدها بها إلى باب الكلية وودعها ...وما علم أنه يودع شرف ابنته وعرضها .
كان الذئب ينتظرها .....
ركبت معه وكان الشيطان ثالثهما فما ظنك بالنتيجة ؟
بدأ مسلسل الدمار، والخزي، والعار ، حب... غرام...
قاد السيارة إلى منزل ( الانحلال والدمار )
فتح الباب... دخلت معه بعد أن نزعت الحياء والدين والخشية من رب العالمين ...
وحصل الأمر الذي لم تكن تتوقعه ...
صاحتْ ،، بكت ،، سال الدمع من قلبها لا من عينها ...
يا للعار.. يا للنار.. فاجأها.. اطمئني فسأتزوج بك بعد أيام ..
خادعها فانخدعت ،، عادت وهي تحمل الذنب الكبير ...
فأين الحب الكبير يا غافلة ؟؟
دخلت البيت ، ومرت الأيام ، وشعرت بالآلام ...
دخل الأب ....
قالت : أنا مريضة ، وذهبا إلى المستشفى ...
لابُد من تحليل الدم ..
وتأتي الممرضة مُبشرة للوالد.... مبروك بنتك حامل ..
بنتي حامل ؟؟ لا لا ....
صُعِق الأب ، بكى الأب ، وبدأ يضربُ ابنته....
يُريدُ قتلها أو قتل جنينها .. لكنها لم تمت ....
تتوالى الضربات حتى قُبيل الولادة ...
وتدخل المستشفى وبدأت تُعاني من الطلق ...
وخرج الجنين .. بل خرج العار .. بل خرجت الجريمة ..
خرجت الفضيحة .
دخلتْ الأم ، قالت لها أبنتها ، أمي أين أبي ؟؟
......................................
زوجي /هذه هي القصة التي أحببت أن أخبرك بها ....
فيكفي جرياً وراء الحطام ، يكفي بحثاً عن المال فهو سبب
شقاءنا....
زوجي
إن كانت هذه قصة فانتبه لنا حتى لا نكون نحن قصة تروى
زوجي ... نحن نُريدك لا نُريدُ مالك ... نحن نُريدك لا نُريدُ بيتك ...
نحن نُريدُك معنا في البيت ,, أين حُبك لنا ؟
نحن لا نراك ........
أبناءُك يشتكون من كثرة خروجك . لو تعلم كم مصيبة وقعت في
غيابك عن بيتك ، لعرفت ثمن البقاء في البيت .
فأتمنى أن تفكر جيدا في الحرص على البقاء معنا في البيت...
قبل أن تسمع خبرا قد لا يسرك....
الرسالة السابعة عشر :
• الرزق الحلال:
زوجي / لاشك أن كل امرأة تطمع أن تلبس أحسنَ اللباس وأن ترى أبنائها وقد توفر لهم
كل ما يحتاجونه من متاع الحياة الدنيا ....
نعم نحن نطمع في ذلك كله ، وهذا في فطرة الإنسان قال تعالى { وتحبون المال حُباً جما } ....
ولكن لا يعني ذلك أن تبحث عن المال من أي باب ومن أي طريق سواء كان حلالاً أو حراماً ..
اتق الله يا زوجي فيما تُطعمنا ، وأتق الله فيما تُدخله في بيتنا ....
إن درهم حلال خيرٌ من الحرام ....
إننا نفضل أن نعيش على الكفاف واليسير بشرط أن يكون حلالا ً....
لقد سمعتُك وأنت تُكلم بالهاتف ، وكان لديك صفقه تُجارية وسمعتُ منك ما يدل على أنك سوف
تسلك طرقاً محرمة في ذلك كالغش والكذب والخداع .
زوجي / أحفظ هذه الكلمات : نحن نصبر على الجوع ولا نصبر على النار ....
ابحث عن الحلال فالحلال طيبٌ مُبارك والله لا يقبل إلا طيب ونحن لا نُريد ُالغنى إن كان
مصدره شبهه فكيف لو كان حراماً ...
لماذا أراك مُتلهف على جمع المال من هنا وهناك ؟؟(1/103)
رويداً ، تمهل فلن يكون إلا ما كتبه الله لك .. ولماذا لا ترفع يديك إلى ربك قبل أن تسلك
طريق التجارة وتدعو ربك وتسأله التوفيق
الرسالة الثامنة عشر:
المُساعدة
زوجي يا كبير القلب ..
يا عالي القدر عندي...
أتسمح لي بإهدائك هذا الحديث الشريف : ( كان - صلى الله عليه وسلم - يغسل ثوبه ويخصف نعله ).
فقلتُ في نفسي إن زوجي يُحبُ الله ويحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأعتقد أنه لو يعلم
بهذا الحديث لكان من أول القائمين به .
زوجي :
إن خدمتي لك طريقٌ لي إلى دخول الجنان وهذا ما يدعوني لخدمتك ولكن أتمنى أن أراك
أحياناً لا دائماً تغسلُ ثوبك أو تكنسُ بيتك...
عفواً لا أقول ذلك آمراً لا بل الأمرُ لك ،،
لكن فعلك هذا يجعلني كامرأة أشعرُ بقربك مني وحبك لي...
إن فعلك هذا يدعوني إلى التفاني في القيام بما تُحب...
أنا لا أنسى أنك تقوم ببعض ذلك ولكني أُذكِرُك باحتساب الأجر ..
فأشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم - كان يتعاون مع أهله في شؤون
بيته .
الرسالة التاسعة عشر:
وجائت الإجازة ...
زوجي :
إنك لا تعلم كم عدد الأيام التي نترقبُ فيها لتلك الإجازة السنوية تلك اللحظات التي تُساعدْ على
تنمية الحُبْ بيننا ...
تلك اللحظات التي ننسى فيها روتين الدوام الرسمي إنها لحظات إشتياق ، وساعات تذوق لكل
معاني الحب والتقدير0
لكني سأطرحُ عليك بعض هذه الأفكار قبل أن تبدأ الإجازة :
- لقد نجح أبنائنا بتفوق فما رأيُك لو إشترينا لهم بعض الهدايا
التشجيعية ؟
- ما رأيُك لو ذهبنا إلى مكة لأخذ العمرة فالعمرة لها فضل كبير؟
- ما رأيُك لو رتبنا ميزانية السفر من الآن حتى لا تذهب أموالنا
هدر ؟
- أقترح لو أخذنا معنا بعض أدوات المطبخ حتى نأكل من صُنع
أيدينا فالأكل من المطاعم كله ضرر من الناحية الصحية وضياع
للأموال،ونحنُ بحاجة للمال كما تعلم .
- تعلم يا زوجي أن صلة الرحم من أفضل الأعمال فما رأيُك لو قمنا بزيارة لأهلي وأهلك؟
- هل تسمحُ لي بشراء هدية لوالدتي وإخوتي الصغار ؟
أشكرك فهذا ما أتوقعه منك ياصاحب الجود والكرم .
- أقترح أن نأخذ معنا أشرطة إسلامية نافعة حتى نستمعُ إليها في الطريق .
- أطفأ جهاز المُسجل فإن الغناء حرام يا زوجي ، وما موقفك لو فاجئك ملك الموت الآن وأنت
على حالتك هذه ؟؟
- ونحنُ عائدون من سفرنا أشكرك على هذه الإجازة فقد إستمتعنا بها.
الرسالة العشرون:
حروف من المدح .....
إني امرأة أهفو لأن أسمع كلمة مدح....
إنها كلمة يسيرة وحروفها قصيرة ... لكن أثرها في القلب كبير....
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخدم أسلوب المدح أحيانا مع الصحابة الكرام...
بل ومع نسائه ..إن المدح له تأثير نفسي كبير
زوجي :
هل يضرك أن تتفوه بتلك الكلمة التي تدفعني بها إلي مزيد من العناية بالبيت أو الطعام
أو حتى بنفسي ؟
ربما دخلتْ البيت فرأيتهُ مُرتباً ورائحته جميلة فلماذا لا تقول ما أجمل البيت وما أحسن
هذا الترتيب وما ألطف هذه العناية ... ثم ترفع يديك داعياً لي : ( أسأل الله أن يحفْظك لي ).
بصراحة
هل تذكر لما تجملتُ لك وتعطرتُ لكي تشُمَ الرائحة الجميلة ... ولكنك تجاهلت ذلك وأعرضت عن النظر إلي لانشغالك بأمر من أمور دنياك ؟؟
عجباً لك يا زوجي :
أتعلمُ لو أنك نظرت لي نظرة مودة ثم أعقبت ذلك بكلمة تمدحني فيها إنك بعملك هذا تصنع الحُبْ لك
في قلبي ..
ياترى هل سأسمع منك ذاك مُستقبلاً ؟
الرسالة الحادية والعشرون :
المُنكرات
زوجي :
إني أشكُرك شُكراً جزيلاً على عنايتك بجمال بيتنا والاهتمام به ،لكني فكرت في بعض ما رأيت في
البيت , فرأيت بعض المُنكرات والمُحرمات التي لا يرضاها الخالق جل وعلى رأيتُ الصور
المعلقة..فهذه صورة والدك وهناك صورتك لما حصلت على شهادة التخرج ،,,
وفي غرفة النوم رأيتُ ألبوم الصور ..
هذا غير صور الأطفال...
كُنتُ أظن أن هذا لا حرج فيه ، لكن قرأت فتوى لعلمائنا الأفاضل عن إدخال الصور للبيت
وتعليقها والاحتفاظ بها للذكرى ,
فكان الجواب : يحرم تعليق ذات الأرواح ، كما يحرم الاحتفاظ بالصور للذكرى ، لأن الرسول
- صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لعن الله المصورين ) وقال ( لا تدخل الملائكة بيت فيه كلب
أو صورة ) رواه البخاري (3986 ) ، ( وقال كلُ مصورٍ في النار) رواه مسلم (3945 ) .
وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له لا تدع تمثالاً إلا
طمسته وفي رواية ولا صورة إلا طمستها رواة مسلم ( 1609) وفي رواية : ولا صورة في بيت إلا طمستها رواه النسائي ( 2004) .
ومما يدخله بعض الناس لبيوتهم الألعاب لأطفالهم التي تحتوي على صور للحيوانات كالعرائس
والتماثيل الصغيرة المصنوعة من القطن ونحو ذلك .
زوجي ...
ها أنت سمعت هذه الفتوى وقرأتها ورأيت الأدلة على تحريم اقتناء الصور فهل ستخرج هذه الصور؟
أم أنك ستُصر علي الإثم والحرام ؟
..............................
ومن المنكرات التي رأيتها في البيت : المجلات الخليعة .
لقد تضايقتُ جداً لما رأيُتك داخلاً بها ..
عجباً لك لماذا تدفع المال من أجلها ؟
وما هي الثمرة التي تجنيها من قراءتك لها ؟
كم هي المعاصي التي بداخلها ؟
صورٌ شبه عارية ، مبادئ هدامة ، ثقافات ساقطة ..
عجباً لك أأنت الذي ستُربي أبنائي وبناتي ، أأنت الذي سيغرس العفة والحياء في قلوب أبناِئنا وبناتنا؟
عجباً لك ماذا ننتظر منك ؟
هل ننتظرُ منك أن تُذكرنا بآخر الصيحات الغربية في عالم الأزياء ؟
أم هل ننتظرُ منك أن تحفنا بقصيدة حب وغرام بعثها محبوب لعشيقته في المجلة ؟
زوجي / لا أكادُ أُصدق ما أرى
ساعات طويلة......... والمجلة بيدك .......تُقلب بصرك لتكسب الآثام ..... يا حسرتا ..
ما الذي غرني فيك ، أين خوفك من الله .. ألم تعلم بأن الله يرى ..
الرسالة الثانية والعشرون:
الاعتذار
زوجي :
أعتذر عما جرى مني قبل قليل ....
فهل تقبل الاعتذار؟
لقد قصرتُ كثيراً تجاهك....
لقد ندمتُ على ما بدر مني .... أنا أعتذر عن ما قلتُه وعما فعلته .
زوجي :
صحيح أني قد طلبتُ الطلاق أكثر من مره بشكل صريح ............ ومرات أُخرى طلبته بالتلميح.....
وقلتُ لك أذهب بي إلى أهلي .....
أنا أعترف بذلك ، ولكن لا تنسى ( أننا ناقصاتُ عقل ودين )
تمرُ علينا لحظات ننسى فيها عواقب الأمور ونجهل ما بعد الموقف ..
وأضرب لك مثلاً : أتذكر لما حدثت بيننا تلك المشكلة....
وارتفعت الأصوات ...
وقلت لك أذهب بي إلى أهلي وكنتُ عازمة على أن لا أعود
وذهبتَ بي ، ودخلتُ منزل أهلي ومر يومان وهدأت نفسي .
وذهب والدي إلى عمله ، وذهبت والدتي إلى جارتها ...
نظرتُ لأخوتي فإذا بهم يلعبون ورأيتُ أخي الصغير يحبو بين يدي.
عادت الذاكرة....
وأقلعت تلك الهموم من مطار الأحزان والندم على متن طائرة الأسى والحُزن والألم...
وهبطت في بيتي الأول ....
تذكرتُ زوجي ... وأبنائي .... نزلت الدموع من عيني وعيني
سقطتُ على ذلك اللباس الذي أهديتهُ لي قبل أسبوع ..
فكرتُ وقلت لنفسي : ما أشد جهلي ، من لي الآن ؟؟؟
لا زوج يُؤنسني ولا أخ يحدثني ...
عاهدُت نفسي وأعاهدك أن لا أطلب ذلك مرة أخرى
زوجي / أقبل عذري ..
هل قبلت ؟
نعم قبلت .
ما أروعك وما أعلى قدرك ..
الرسالة الثالثة والعشرون:
الغيرة :
زوجي ... رأيتُك وقد أخذت كوباً من الشاي وبيدك الأخرى ريموت القنوات الفضائية وأنا بجانبك ...
وفجأة وإذا بصورة رجل في أحسن لباس يظهر في الشاشة قلتُ في نفسي .
الآن سأعلمْ مدى خُلق الغيرة عند زوجي ،10 دقائق ، نصف ساعة ، ساعة تمر .
وصورة الرجل تمر.. واكتشفت أن زوجي عديم الغيرة ،، يا حسرتاه ،، وأسفاه ..
هل أنت رجل ؟؟ أخبرني ما معنى الرجولة ؟
أهي في القوة ورفع الأصوات ؟
يارجل عفواً فلست في مقياس الدين برجل عذراً أن أقول لك يا زوجي :
إن الخنزير لا يغار .
تراني ألبس النقاب وقد ظهرت عيناي وأنت لم تُحرك ساكناً ..
تراني والعباءة على الكتف وقد أظهرت تفاصيل جسدي ولا أرى غيرتك.
بل تشتري لي بنفسك العباءة المُطرزة الضيقة حتى أفتن الناس هل أنت غيور ؟
تراني أنظرُ للرجال في التلفاز والمجلات والمحلات في كل مكان ..
ولا حياة لمن تُنادي .
نعم أنا ناقصةُ عقلٍ ودين قد أطلبُ كل ما سمعت من عباءة ضيقة أو على الكتف
وقد أطلب النقاب ..... ولكن لا يبرر ذلك عدم غيرتك علي ...
كُن رجلاً ،قل لي لا وألفُ لا ...
أريدُ أن أرى دلائل غيرتك علي...
أين أنت من قول الله تعالى { الرجالُ قوامون على النساء}.
....................
وجاء الليل بسكونه رأيتُك نائماً قمت وصليت ركعتين ودعوت الله أن يرزق زوجي الغيرة علي ...
لأنني فقدتها في زمن الغربة .
الرسالة الرابعة والعشرون:
هيا سوياً إلي السوق :
زوجي ....
أشكرك على نفقتك علي ...
ويعلمُ الله كم أشعرُ بالسعادة عندما أراك وأنت تُدخل يدك في جيبك لتخرج المال لشراء ما أُحب ...
ولكن عندي بعض الهمسات ؟
فهل من الممكن أن تصغ سمعك لي :
- إذا خرجنا من البيت فلا تسمح لي بلبس النقاب ولا العباءة الضقية
ولا العباءة التي على الكتف لأنها مُحرمة .
- قد تقول لماذا أنتِ لا تتركين لبسها ؟
- أقول لك أنا امرأة عندي ضعف في الإيمان قد تدعوني نفسي
الأمارة بالسوء إلى ذلك فلا تستجب لمطالبي ولا لرغبتي كن أقوى مني ولا تأبه بإلحاحي ...
فليس من الرحمة بي طاعتي في ذلك .
- إذا ركبنا السيارة فأريدُ منك أن أشعر بفرحك لركوبي معك .
- لا تضع الشريط في المسجل بمجرد ركوبي معك .
عُذراً لطلبي هذا . فأنا أشتاق للحديث معك...
قل بسم الله قبل قيادتك للسيارة .
- لا تزاحم الناس فسوف نصل بإذن الله تعالى .
- وصلنا إلى السوق ...
تفضل كن بجانبي ولا تتقدم علي .
- تكلم عني مع البائع ولا تدعني أُكلم الرجال ..
قل لي بصوتٍ خافض ماذا تُريدين هذه أم هذا ؟
- قد لا يُعجبني ذلك المحل فلا تضجر إذا قلتُ لك هل من الممكن
أن نذهب إلى محل آخر ...
أنا سأحاول ألا أُطيل لأني أُقدرُ وقتك .
- لا تُكثر علي من قولك: هيا بسرعة لأن ذلك يجعلني لا أفرح بالخروج معك..... دعني
حتى أختار ما يُناسبني ، والله لو كان معك صديق لما مللت من التجول معه فلماذا أنت
معي متضجر غضبان تنظر إلى الساعة باستمرار .
- لا تمن علي بشرائك ، فالمنان لا خير فيه لو لم تشتري ذلك اللباس لكان أفضل لأني لا أُريدُ رجل
منان ...
ونحنُ عائدون شكراً لك فلقد إستمتعتُ بالخروج معك 0
الرسالة الخامسة والعشرون:
قل لهم أنا مشغول :
زوجي الكريم :
أنا أُقدرُ أعمالك وأشغالك لذلك لا أطلبُ منك شيء في تلك الأوقات التي تنشغل فيها .
ولكن مما يُحزنني أنك لا تُقدر الأوقات التي جعلتها لي .
أتذكر لما اتفقنا للخروج بعد صلاة العشاء للنُزهة...
كنتُ أنتظرُ تلك اللحظة بالأشواق ولكن فوجئت بأنك تأخرت
وإذا بك تأتي بصديقك إلى البيت .
زوجي :
أنت على موعد معي أنسيت لماذا تنسى موعدنا ؟
لماذا لم تقل له أنا مشغول ؟
أم يا تَرى حيائُك يمنعك من ذلك ؟
بحثتُ لك عن عُذر فلم أجد .
ولكن ليست هي المرة الأولى التي تعدني وتخلف أرجو منك أن
تُقدر مواعيدي في المُستقبل .
الرسالة السادسة والعشرون:
زوجي العزيز :
أراك تتضايق مني إذا لم تشم رائحة العطر الجميل وتصيح وتقول أنتِ لا تُبالينْ بمحبتي للرائحة الجميلة .
عجباً لك يا زوجي المُدخن :
مُنذ أن تزوجتُك ورائحة الدخان الخبيثة مُنْتنة ولم أُظهر لك أني أتضايق منها, لأني أُحبك
ولا أحب أن أتفوه بكلمة تُزعجك .
بصراحة
إذا ركبتُ معك في السيارة وأشعلتَ تلك السيجارة لا تعلم كم أحزن لذلك ..
ولا تعلم كم أبكي لحالي معك ؟
إن رائحة الدخان كريهة جداَ...
أولادي معي في السيارة فلماذا لا تُقدر ذلك ؟
إنك تُدمر صحتك وصحتنا ..
لقد دفعت كثير من الأموال عليها...... لو أنك أنفقتها على الفقراء أو علينا لكان خيراً لك ..
إنك تُصلي وتقابل ربك وخالقك ورائحة الدخان تفوحُ منك .أما علمت أن الملائكة تتأذى مما يتأذى
منه الإنسان ..
زوجي : اصدق مع الله ....... وأترك ذلك الدخان .....
وأستعن بالله ........ وسأدعو لك في صلاتي بأن يوفقك الله في تركه.
أتركه لأجل الله وسترى الخير بإذن الله فمن ترك لله شيء عوضه
الله بخيرٍ منه .
تذكر زوجتك التي دائماً تشمُ منك هذه الروائح المُنتنة ..
وتذكر أبنائك أنت قدوتهم ....
يا حسرتاه عليك ....
أتمنى أن تعود إلى البيت وتُخبرني بأنك قد عزمت على تركه اليوم ..
الرسالة السابعة والعشرون :
الهدية
زوجي الكريم
إن الهدية تجعل في القلب أثراً كبيراً وهي سبب من أسباب المحبة والمودة كيف لا ؟
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول : تهادوا تحابوا 0
لقد أصابني حُزنٌ في قلبي لما قدمتَ من سفرك وأنت صفر اليدين من الهدية ..
إن الهدية ليست بقيمتها المادية .....
ولكن قيمتها بالنسبة لي كزوجة شيءً ثمين لا يُقدر بمال ولو كانت من أقل القليل00
وفي ذلك اليوم لما رزقنا بمولود كنت أنتظر منك أن تأتي لنا بهدية بهذه المناسبة , ولكني تفاجئت بأنك لم
تلق لذلك بالا...
قلت في نفسي لعله نسي........
ولكنها أيام بل شهور مرت ولم أر شيء ....
فلماذا يازوجي الغالي؟؟
إن أيام المناسبات , ولحظات الفرح جميلة في الحياة ... ولكن الأجمل منها هو تفاعلك معها وإهادئك لي
فيها بهدية ...
لازالت أمامك فرصة , والأيام الجميلة تنتظرنا إن شاء الله .......
فأتمنى أن نرى فيها ( هدية ).
الرسالة الثامنة والعشرون:
• حلقة تحفيظ القرآن الكريم :
زوجي الغالي
إتصلتْ عليّ صديقتي وأخبرتني بأنها قد دخلت دار تحفيظ القرآن النسائية وأخبرتني عما رأت
وعما شعرت به في تلك المجالس الإيمانية ..
تلاوة للقرآن ... زيادة في الإيمان .... سعادة في الروح ، أُنساً بالله ، لذةٌ عجيبة ،
دُروس مُفيدة ، وفتاوى لعلمائنا الكرام ..... تُشعِرُ بالسكينةِ في القلب .
وتقول إنني أنتظرُ الوقت حتى يمر لأذهب لتلك الحلقات ....
وما إن وضعتُ سماعة الهاتف إلا وضعتُ يدي على خدي وطأطأتُ رأسي ..
قلتُ لنفسي :
يا حسرتا على ليالٍ ذهبت في القيل والقال ..
يا أسفا على ساعات مضت في مُتابعة الموضات ومشاهدة القنوات .
حاسبتُ نفسي : كم سورة أحفظها ؟
صلاتي لا أُجيدُها بل أكثرها أخطاء ...
إهتماماتي كُلها تافهة...
إما مجلة جديدة أو سوق أتجول فيه أو مُكالمة مع إحدى الصديقات والكلام في أعراض الناس ..
مضت تلك الليلة بما فيها.
ولكن أقول لك يا زوجي : لقد قررت هذا القرار يجب أن تذهب بي لكي أُسجل في حلقات
التحفيظ للقرآن الكريم .
لا ترفض أرجوك ...
يكفي ذنوبا ُوضياعاً للأوقات ...
صديقاتي منهن من حفظت القرآن الكريم كاملاً..
وأنا لازلتُ أمام شاشة التلفاز...
بإذن الله لن يكونوا أفضل مني ..
زوجي / أرجوك أن تشجعني على هذه الهمة ولا تثبط عزيمتي...
أما الأولاد فأريدُكَ أن تجلس معهم حتى أعود من الحلقة ....
أو تسجلهم في حلقات التحفيظ بالمسجد الذي بجوارنا ...
لا تقل أنا مشغول .
أجعل عملك لما بعد المغرب ...
أصبر فأنا في جلسات القرآن والإيمان ....
لا تحرمني الأجر والثواب...
غداً سوف نذهب بإذن الله .
أشكرك شكراً جزيلا يا زوجي الحبيب وجزاك الله كل خير .
الرسالة التاسعة والعشرون:
زوجي ....
ومما أحزنني بل دمرني
ذلك الجهاز الخبيث ( الدش )
ذلك الجهاز الذي يزرع حُبْ الشهوة ...
ذلك الجهاز الذي حرك دواعي الفاحشة في نفسي .....
نعم لقد أزال عني نقاء الفطرة التي نشأتُ عليها ، نعم لقد ضيعتُ الصلاة من أجله ..
لقد أصبحتُ في بُعدٍ عن الله تعالى ....
أشعُر بضيقٍ في صدري ... لا تعلم كم مرةٍ جاءني الشيطان لكي أرفعُ سماعة الهاتف أبحثُ
عمن أُبادلهُ مشاعر الحُبْ والغرام ...
بل والله لقد جاءتني خواطر للخروج من البيت للبحث عن شاب أركبُ معه لكي أتذوق طعم العشق الذي رأيتُهُ في ذلك الفلم ...
زوجي / هل سمعت بقصة تلك الفتاة التي خرجت من بيتها في ساعة مُتأخرة من الليل بعدما
رأت فلماً ماجناً ....
فرأت شاباً بسيارته أوقفته وركبت معه ..
ولكن من حُسن حظها أن ذلك الشاب كان ممن يخافون الله ...
يقول الشاب ذهبتُ بها إلي بيتي وأدخلتُها على زوجتي ثم سألتها عن سبب خروجها ...
قالت ودموعها تسبقُ حروفها: رأيتُ فيلماً فلم أصبر ولم أتمالك نفسي ، فأدرتُ اللقاء بأحد الشباب الذين يفعلون مثل تلك الأفعال ....
قام ذلك الشاب وأخذ رقم هاتف والد تلك الفتاة وأتصل بهِ وكلمهُ قائلاً :
السلامُ عليكم أنت أبو فلانة ؟
قال نعم .. ومن أنت ؟
وما شأنُك بها ؟
أبحث عنها ؟ وسأتصلُ بك بعد دقائق .
جُن جُنون الأب ، وصاح إبنتي ... بحث عنها فلم يجدها .
إتصل الشاب على الوالد ، هل وجدتها ؟
قال الأب .. من أنت ؟ وأين إبنتي ؟
قال الشاب إبنتك في أمان لا تخف .. ولكن لن تستلم إبنتك إلا بعد أن تكسر جهاز الدش .
قال الأب سأصنعُ ما تُريد...
أخذ الرجلُ زوجتهُ وتلك الفتاة ووقف أمام منزل والدها وقال السلامُ عليكم ,
إبنتُكَ لم تُصبْ بسوءٍ ولله الحمد ، لا تلمها...... لُمْ نفسك أنت ...
.....................
زوجي / أنا امرأة ضعيفة أتأثر بما أرى وأسمع فلا تجعل الشيطان يُدمر إيماني وينزع حيائي ..
أخرج ذلك الجهاز فوالله ما رأينا الخير منذُ دخل علينا ...
المصدر : موقع ياله من دين
http://www.deen.ws/
ـــــــــــــــ(1/104)
كيف يكون بيتك سعيداً
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان - اليمن
إخواني
كلنا يبحث ويريد البيت المسلم السعيد البيت الذي فيه المأوى الكريم والراحة النفسية البيت الذي ينشأ في جنباته جيل صالح فريد ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))الروم21فيا ترى هذا البيت السعيد ما هي سماته وما هي صفاته .
إخواني
البيت نعمة لا يعرف قيمته وفضله إلا من فقده وعاش في ظلمات سجن أو في غربة أوفي فلاة قال تعالى : (( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا))
البيت نعمة من نعم الله على عباده يجد المسلم راحته وهدوء باله وفيه السكن والراحة والمودة في خضم مشاكل الحياة .
إخواني
إنّ طريق الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة لا يبدأ إلا بِصلاح البيوت وتربيتها على الإيمان والقرآن والذكر .
أما الخسارة فستكون فادحة وعظيمة يوم يخسر الإنسان أهله ويُضّيع من يعول : ((قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ))الزمر15
إخواني
إن العلاقة الزوجية ليست علاقة دنيوية مادية ولا شهوانية بهيمية فهي أسمى وأعلى من ذلك إذ هي علاقة روحية كريمة إذا ترعرعت ونمت امتدت إلى الحياة الآخرة بعد الممات .
((جنات عدنٍ يدخلونها ومن صلح من أباءهم و أزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب))غافر
البيت السعيد أخوة الإسلام أمانة يحملها الزوجان وبهما تنطلق مسيرة هذا البيت فإذا استقاما على منهج الله قولاً وعملاً وتزيناً بزينة النفوس ظاهراً وباطناً .
وتجملا بحسن الخلق والسيرة الطبية أصبح هذا البيت مأوى النور وإشعاع الفضيلة وأصبح منطلقاً لبناء جيل صالح وصناعة مجتمع كريم وأمه عظيمة وحضارة راقية يبدأ من صلاح الزوجين فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .
إخواني
البيت السعيد هو البيت الذي جعل منهجه الإسلام قولاً وعملاً .
البيت السعيد هو حصانة للفطرة من الإنحراف ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((كُلُّ مَوْلود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانَهُ أَوْ يُنَصِّرَانَهُ أَوْ يُمَجِّسَانَهُ، كَمَا تَنْتُجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ))متفق عليه
قال ابن القيم وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدنيا وسننه فأضاعوهم صِغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً .
إخواني
ما أجمل أن يجمع الأب أبناءه فيقرأ عليهم القرآن ويسمع ويسرد عليهم من قصص الأنبياء والصحابة ويغرس فيهم الأخلاق العالية .
إخواني
إن أهم رسالة للبيت المسلم هي تربية الأولاد التربية الصحيحة لا غبش فيها ولا تشوه ولا تربية لا بتحقيق القدوة الحسنة في الوالدين .
القدوة في العبادات والأخلاق القدوة في الأقوال والأعمال القدوة في المخبر والمظهر فيأمر الأب أولاده بالصلاة وهو أول المصلين ويأمرهم بالأخلاق وهو أعلاهم خُلقاً ويحثهم على الصدق وهو أصدقهم
مشى الطاووس يوماً باختيال
فقلّده بمشيته بنوه
فقال علام تختالون فقالوا
بدأت به ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوداه أبوه
فالأولاد مفطورون على حب التقليد وأول من يقلد الطفل أباه وأمه لكن عندما انشغل الآباء عند تربية أبناءهم والقيام بالقوامة على نساءهم والحفاظ على أبناءهم من قرناء السوء والضياع والدمار عند ذلك تحطّمت الأسر والبيوت وضاع جيل بعد جيل : فليتق الله كل الأباء
البيت السعيد من صفاته أنه يرد الأمور عند الخلاف إلى الله ورسوله ولسان حالهم :
((فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ))النساء59وقال تعالى : ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ))الأحزاب36
البيت السعيد سعادته وأنسه ولذته في ذكر الله ففي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)) .وفي الصحيح ايضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ))
وقال صلى الله عليه السلام : (( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ))
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ))
في هذه الأحاديث وغيرها دليل على مشروعية إحياء البيوت وتنويرها بالتسبيح والتهليل والتكبير وقراءة القرآن وصلاة النافلة وإذا خلت البيوت من الصلاة ومن الذكر كانت قبوراً موحشة ولو كانت قصوراً
فبدون الذكر تغدوا البيوت مكاناً للشياطين سكانها موتى القلوب وإن كانوا أحياء .
((وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ))طه124 وقال عز وجل : ((ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قريناً )) الزخرف
البيت السعيد هو البيت البعيد عن المشاجرات والمهاترات وضرب الوجه والإهانة والإذلال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ما حق امرأة أحدناعليه قال أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسبت ولا تقرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلى في الفراش ))
قال تعالى : ((وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ))النساء
البيت السعيد ليس شرطاً أن يكون قصراً ليس شرطاً أن يمتلأ بالأموال والمأكولات والمشروبات .
ولكن يكفيه الكفاف والرضا بالمقسوم شعاره قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(( من بات أمتاً في سربه معافى في بدنه معه قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )) جاء العباس : عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به قال يا عم سل الله العافية في الدنيا والآخرة .
يرحم الله هارون الرشيد الذي ملك الدنيا وكان أميراً للمؤمنين جلس ذات يوم فعطش فطلب الماء فلما أحضر الكأس قال له قاضي القضاه يا أمير المؤمنين لو أنك مُنعت هذه الشربة ماذا ستفعل قال سأدفع نصف ملكي .فأعطاه فشرب ثم قال له يا أمير المؤمنين لو مُنعت هذه الشربة من الخروج ماذا ستفعل قال سأدفع نصف ملكي قال قاضي القضاه تباً لملك لا يساوي شرب ماء أدخالها وإخراجها .
وكان على رضي الله عنه عند الحاجة يقول في نفسه يا لها من نعمة منسية قليل شاكرها .
فيا عبد الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة لك ولأهلك ولإحبابك .
البيت السعيد يتعاون أفراده على الطاعة والعبادة فضعف إيمان الزوج تقويه الزوجة ،وإعوجاج سلوك الزوجة يقوّيه الزوج تكامل وقوة ونصيحة وتناصح قال - صلى الله عليه وسلم - (( رحم الله رجلاً قام من الليل فصل ثم أيقظ زوجته فإن أبى نضح في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقضت زوجها فإن ابى نضحت في وجهه الماء )) أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له.
البيت السعيد يؤسس على علم وعمل بيت تُقام فيه حِلق الذكر والعلم فيتعلم الجميع آداب الطهارة وأحكام الصلاة وأداب الإستئذان والحلال والحرام .
البيت السعيد أساسه قائم على الحياء فهو يزرع في قلوب ابناءه وبناته الحياء والحشمة .
فلا يليق بالبيت المسلم أن يخدش حياءه ويهتك سترة بالأفلام الخليعة والمسلسلات الخبيثة والمجلات الفاسدة .....
قال تعالى : (( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيراً أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم )) .
البيت السعيد أسراره محفوظة وخلافاته مستورة لا تُفشى لا من قبل الزوج ولا من قبل الزوجة .
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من شرار الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم يصبح وينشر سرها ))
في ظل هذه المعاني يقوم البيت المسلم السعيد عامراً بالصلاة والقرآن تُظلله المحبة والوئام وتنشأ الذرية الصالحة فتكون قُرة عين للوالدين ومصدر خير لهما في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : (( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) غافر
إخواني
البيت السعيد بسيط في كل جوانبه ما دية ومعنوية بعيد عن الإسراف في المأكل والمشرب .
قال تعالى : (( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )) الأعراف
البيت السعيد هو البيت الطاهر النظيف ظاهراً وباطناً فيه أناس يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين .
البيت السعيد يقوم على قواعد ثابته من السكينة والهدوء والمودة والرحمة وهو بعيد عن الضوضاء ورفع الأصوات هذا البيت شعاره : (( واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )) لقمان
البيت السعيد هو الذي فيه يعلم الزوج أن للزوجة حقوق وعليها الحقوق ومن أول هذه الحقوق للزوجة معاشرتها بالمعروف امتثالاً لقوله تعالى : (( وعاشروهن بالمعروف ))
كيف تكون الراحة والطمأنينة في البيت إذا كان رب البيت ثقيل الطبع سيء العشرة بطيئ في الرضا سريع في الغضب فلو تأخر عنه الغداء أو العشاء دقائق ملأ أجواء البيت سباً وشتماً إذا دخل البيت فكثير المنّ وإذا خرج فمسيء الظن قليل المزاح والملاحظة مع زوجته يظن أن المزاح مع زوجته مسقط للهيبة مذهب للمروءة .
يطالبها بالتجمل والتزين له ويأتي لها بثياب خلقة ورائحته نتنة يرى أن مساعدتها في البيت عمل مشيناً مع أن خير الخلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خيارهم لنساءهم )) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
ومن حقوق الزوجة كف الأذى عنها وذلك مراعاة شعورها فلا يمدح امرأة أمامها ولا يرفع يده عليها خاصة أمام أهله وأهلها كما عليه أن يسترما بينه وبينها من مشاكل وأسرار ومن أبشع الأمور وأفضعها ضربها أمام أولادها .
ومن فعل ذلك تصغر الأم أولادها وتضعف شخصيتها فلا تقدر على تربية أبناءها
أخي الزوج
تذكر قبل أن ترفع يدك على زوجتك أن الله أقوى منك فإذا دعتك قدرتك عليها فتذكر قدرة الله عليه .
ومن حقوق الزوجة أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وتبصيرها بأمور دينها وذلك عن طريق الكلمة الطبية والموعظة الحسنة النافعة
إخواني
الزوج المثالي هو الذي يعطي زوجته حقها من التلطف والمزاح .
الزوج المثالي هو الذي يحسن الحديث مع زوجته بالكلمة الطيبة وليعلم أنه بالكلمة الطيبة سيصلح أحوال زوجته .
الزوج المثالي هو الذي ينفق على أهله في اعتدال فلا يسرف ولا ينجل : (( لينفق ذو سعة من سعته )) وليعلم أن أفضل الصدقة دينار ينفقه على أهله .
اللهم أصلح بيوتنا ونورها بالإيمان والتقوى يارب العالمين
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين وأجعلنا للمتقين إماما
ـــــــــــــــ(1/105)
أثر التربية الإسلامية (الأمن الأسري)
الباب الثاني في تربية الأسرة
وفيه وفي هذا الباب فصلان:
الفصل الأول: ضرورة وجود الأسرة المسلمة وأساس بنائها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ضرورة وجود الأسرة المسلمة
المبحث الثاني: أساس بناء الأسرة المسلمة
المبحث الأول:
ضرورة وجود الأسرة المسلمة
إن النظام الأسري قانون فطري عام في جميع المخلوقات، فالحيوانات العجماء تقوم حياتها على نظام أسري غريزي، فطرها الله تعالى عليه، ولهذا تجد الأنثى من الحيوان تحبس نفسها على ولدها الجديد، تحرسه وتغذيه بالوسيلة التي فطرها الله عليها وأتاحها لها، وتنظف جسمه كذلك، وإذا كان في حاجة إلى مكان أمين يحتمي به من العاديات، صنعت له ذلك صنعا عجيبا يناسبه،كالعش الذي تستمر الطيور-إناثا وذكورا-زمنا غير يسير تجمع مواده وتحكم بناءه، وقد يكون المناسب له جحرا في الأرض، أو ثقبا في خشب، أو شقا في صخر، فتجد كل حيوان يصنع لأولاه المنزل الآمن الذي يناسبه، مع شدة حراسته والعناية بتغذيته.
وهكذا تجد الحيوانات تسير في الأرض أسرا وجماعات تتكون من تلك الأسر، قد تتصارع فيما بينها، ولكنها تكون يدا واحدة على ما يعتدي عليها من غير جنسها، وهذا أمر فطري يدركه الإنسان في الحيوانات، أليفة كانت أم متوحشة، في الطيور والوحوش وغيرها.
والنظام الأسري أشد ضرورة للبشر من سائر الحيوانات، وبخاصة في رعاية الطفل الذي تطول مدة طفولته أكثر من أي حيوان آخر، وحاجته إلى الرعاية والعناية أعظم من أي حيوان، لما يترتب عليها من عمارة الأرض عمارة خير و صلاح ، كما أن الإنسان لا تستقيم حياته بدون أسرة، يعرف فيه الأبَ والأمَ والأقرباءَ، من ابن وأخ وجد وغيرهم، ليحصل بينهم التكافل.
ولهذا كان حفظ النسب من الضرورات التي اتفقت عليها أمم الأرض، وإن خرج بعضها على ذلك شذوذا وحنوحا.
وإذا كان قد وجد في الأناسي من شذ عن هذه الفطرة، بوضع تصور يدعو فيه إلى عدم اعتبار ضرورة الأسرة-كما هو الحال عند الشيوعيين- فإن ذلك لا يؤثر فيما تواطأت عليه فطرة الأمم والأجيال. وفساد فطر بعض من اجتالتهم الشياطين وشذوذهم عن تلك الأمم، يجعل هذا الشذوذ وهذا الخلل محصورا فيهم، لفساد فطرهم.
والحقيقة أن هذا الشذوذ لم يكن طبيعيا-أي لم تختره الأسر اختيارا- وإنما جاء بوضع قوانين من سلطة انحرفت عن الفطرة، بل عن غريزة الحيوان، وأكرهت الناس إكراها على تنفيذ قوانينها الفاسدة الشاذة
وإذا كان نظام الأسرة وقانونها ضرورة للبشر كلهم، فإنه أشد ضرورة للمسلمين، لأن الإسلام جاء لتثبيت ما فطر الله الخلق عليه وتأصيله ورعايته.
وقد بني على نظام الأسرة أحكام وتشريعات حاسمة لا يجوز التفريط فيها، بل إن في التفريط فيها اختلالا في حياة الأسرة والمجتمع كله، ولا يمكن تطبيق تلك الأحكام إلا بوجود الأسرة ورعايتها، وفقا لشريعة الله الخاتمة، التي وضعت قواعد معينة محكمة لقيام الأسرة ورعايتها.
وكثير من أبواب الفقه الإسلامي وضع للعناية بأحكام الأسرة من أجل حمايتها وإحكام بنائها، كالنكاح، والطلاق، والرجعة، والعدة، والحضانة، والرضاعة، والولاية، والنسب، والنفقة، وغيرها.
فوجود الأسرة ضرورة شرعية، وحاجة فطرية.
ولهذا تجد في القرآن الكريم سورا تكثر فيها أحكام الأسرة وآدابها، كما في سورة البقرة، والنساء، والنور، والأحزاب، والمجادلة، والطلاق، وغيرها من السور التي يذكر فيها شيء ما مما يتعلق بالأسرة، من ذكر أب، وأم، وأخ، وزوج، وامرأة ...
قال سيد قطب رحمه الله: " نحن في هذا الدرس [وهو يتفيأ في ظلال آيات سورة البقرة، من آية 221 إلى 242] مع جانب من دستور الأسرة، جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي، هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية، جهدا كبيرا، نراه متناثرا في سور شتى من القرآن، محيطا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى .... وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعا، وللمخلوقات كافة، تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى: ?ومن كل شيء خلقتا زوجين لعلكم تذكرون? [سورة الذاريات: 49] ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان، فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان، ثم الذرية، ثم البشرية جمعاء: ?يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا? [النساء:1]?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا? [سورة الحجرات: 13]
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وأرواحها، وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل ... والطفل الإنسان هو أطول الأحياء طفولة، تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى، وذلك أن مرحلة الطفولة، هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب، للدور المطلوب من كل حي باقي حياته.
ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور، امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل، من ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر، وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان تكوينه ودوره في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجارب العلمية أن أي جهاز آخر غير الأسرة، لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة، لتكوين الطفل وتربيته ..." [في ظلال القرآن 2/234-235]
قلت: وفي العناية الربانية بنظام الأسرة في سور شتى من القرآن العظيم، الدلالة الواضحة على أن الأسرة في الإسلام، هي أصل المجتمع الإسلامي وجذره، وأنه لا يقوم هذا المجتمع بدونها. [راجع مطالب حفظ النسل من كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة]
(37)
المبحث الثاني من الفصل الأول:
الأساس في بناء الأسرة المسلمة
إن الأسرة المسلمة الصالحة، هي التي يتربى أفرادها تربية إسلامية، تثمر في نفوسهم الأمن والاطمئنان والسكينة والحب، ولا سبيل إلي إلى ذلك إلا بوجود زوجين صالحين تربى كل منهما على العلم النافع، والعمل الصالح.
ولهذا كان الواجب الأول عند إرادة الزواج، أن يبحث الزوج الصالح عن المرأة الصالحة ذات الدين الحق، وأن يختار ولي الأمر للمرأة الصالحة الزوج الصالح، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر، وتتحقق بينهما المودة والرحمة، وتنشأ ذريتهما على التقوى والخلق الحسن، تحقيقا لقول الله عز وجل:?ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون? [سورة الروم: 21]
وإذا كانت هذه المعاني قد توجد بين زوجين مسلمين أو غير مسلمين، لالتقائهما على الفطرة التي اقتضتها حكمة الله في الذكر والأنثى، فإنها لا توجد بحدها الأعلى إلا في الزوجين المسلمين الصالحين، لاجتماع الفطرة الغريزية، والتوجيه الشرعي الرباني فيهما.
ومن أعظم صفات المرأة المسلمة الصلاح وما يشمله، من عبادة الله، وحفظ حقوق الزوج، وحقوق الأولاد، قال تعالى: ?فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله? [سورة النساء:34]
وقد أجمل الله تعالى صفات المرأة الصالحة في أعلى صورها في هذه الآيات التي وجه إليها نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وهن قدوة نساء المؤمنين، قال تعالى: ?يا أيها النبي قل لأزواجك إن كن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما. يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، وكان ذلك على الله يسيرا. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين، وأعتدنا لها رزقا كريما. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا. إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقات والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما? [سورة الأحزاب: 28-35]
إن صفات الخير التي وجه الله تعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات، هي مطلوبة من نساء المؤمنين كلهن، وإن كان لنساء الرسول - صلى الله عليه وسلم - خصوصية في مضاعفة الثواب لهن على طاعتهن، ومضاعفة العقاب لهن على معصيتهن، لمكانهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي ينزل عليه الوحي في بيوتهن وفي جوارهن، وهو يعلمهن ويزكيهن مباشرة بما يوحيه الله تعالى عليه من الآيات والحكمة، كما أن ما يؤمرن به من الطاعة آكد من أمر غيرهن، وما ينهين عنه من المعصية، آكد من نهي غيرهن، ولكنهن قدوة لبقية نساء المؤمنين في فعل صفات الخير، وترك فعل الشر.
وإن الآية الأخيرة قد جمعت الصفات الأساسية لجميع المسلمين، رجالا ونساء، وهي تبين أصول الصلاح المطلوب في الفرد المسلم والأسرة المسلمة، وكذا المجتمع المسلم.
(38)
تابع للمبحث الثاني : الأساس في بناء الأسرة
ومما يدل على هذا الأساس نهي الله تعالى المسلمَ أن ينكح المشركة، ونهي المسلمة أن تنكح المشرك، حرصا على بناء الأسرة المسلمة الصالحة، لأن المشركين من أهل النار ويدعون إليها صدا عن سبيل الله، والمسلمين من أهل الجنة ويدعون إليها، تحقيقا لدعوة الله.
وأباح سبحنه وتعالى عند الضرورة -أو الحاجة القريبة منها-أن يتزوج المسلمُ الحرُ أمةً مؤمنةً، وإن كان في ذلك رقُّ أولاده منها، فهي مفسدة تهون في جانب مفسدة الزواج بمشركة، لأن رق الأولاد -بسبب الزواج بأمة مؤمنة-هو رق حسي، لأنهم في عبوديتهم الحقة لربهم أحرار من عبودية غيره، بخلاف أولاد المشركة، فقد يكونون أحرارا حسا، أرقاء في واقع الأمر رقا ذليلا لغير الله تعالى، إذا ما هي أفسدتهم بالشرك بالله.
كما أباح سبحانه زواج المرأة المسلمة الحرة بالعبد المؤمن، إذا لم تجد مؤمنا حرا، قال تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آيات للناس لعلهم يتذكرون} [سورة البقرة: 221]
ولهذا رجح بعض الفقهاء والمفسرين عدم جواز نكاح المسلم العفيف المسلمة الزانية، إلا إذا أظهرت توبتها من ذلك، مستدلين بقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين} [سورة النور: 30] وهذا هو الراجح من مذهب الحنابلة. [راجع المغني لابن قدامة 7/140-142]
ويرى الأئمة الثلاثة -أبو حنيفة ومالك والشافعي- رحمهم الله جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وحملوا النكاح المنهي عنه في الآية على أن المراد به الوطء بزنا. ..." [المرجع السابق 7/141، والتفسير الكبير للرازي 23/151] ورجح ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره: 18/75]
والذي يظهر من قواعد الشريعة ونصوصها، أنه لا يجوز نكاح الزانية قبل التوبة من الفاحشة "لأنها إذا كانت مقيمة على الزنا، لم يؤمن أن تلحق به ولد غيره وتفسد فراشه. [المغني: 7/141]
ومهما يكن الخلاف في هذه المسألة، فإن السنة قد أكدت اختيار المرأة الصالحة، وهي ذات الدين، وإذا أطلق هذا اللفظ: "الدين" في الشرع، فالمراد به التقوى والصلاح والورع والإحسان الذي يجعل صاحبه يعبد ربه كأنه يراه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [البخاري (6/123) ومسلم (2/1086)].
وجعل - صلى الله عليه وسلم - المرأة الصالحة خير متاع الدنيا، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) [مسلم (2/1090)].
وأهل الفطر السليمة والعفة لا يرغبون في نكاح الزواني الفاسقات، ويتركون الصالحات [راجع التفسير الكبير للرازي (23/150)].
(39)
والمرأة الصالحة خير كنز للمرء، لما فيها من صفات الخير العائدة عليه بالبركة في حياته، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفيه: ((ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)) [أبو داود (2/305-306)] ثلاث صفات في المرأة الصالحة جمعت خصال الخير التي تدوم بها المودة وحسن العشرة بين الزوج وامرأته، وهي خير ما يكنز في حياته
الخصلة الأولى: تجملها له وتزينها وظهورها أمامه بمنظر حسن يسره النظر إليها، وهي خصلة تدل على شدة حرصها على إدخال السرور عليه والعناية به، وقد لا تكون مفرطة في الجمال، ولكن تزينها له وحسن هندامها يجعلها أمامه خيراً من المفرطات في الجمال اللاتي لا يعتنين بأزواجهن مثلها.
الخصلة الثانية: المسارعة في طاعة زوجها وتنفيذ رغباته المشروعة، والمؤمن الصالح لا يأمر زوجته بما فيه معصية لله تعالى، ولا شك أن المرأة التي تطيع زوجها ولا تعصيه كنزٌ ثمين غال لا يحصل عليه إلا من أسعده الله به.
الخصلة الثالثة: حفظ حقوقه في غيبته: في نفسها وأولادها وماله غيرها، وهذه الخصلة أهم الخصال وأفضلها، لأنها لا توجد إلا في ذات الدين التي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالظفر بها. فهي المرأة الأمينة على نفسها التي يطمئن الزوج عليها في تربية أولاده، فلا تربيهم إلا على طاعة الله وطاعة الوالدين في غير معصية الله، وتربيتهم على الصدق والأمانة وحَسَن الأخلاق، كما يأمنها على نفسها فلا ترتكب محرماً في غيبته عنها ولا تفتح بابه لمن يكره، ولا تدخل في نسبه من ليس منه، ويأمنها على ماله فلا تنفقه فيما حرم الله ولا تبذر بشيء منه.
أي كنز يوازي هذا الكنز من متاع الدنيا، وأي أمن يوازي هذا الأمن لمصاحب للإنسان في حياته كلها في منزله الذي لا يفارقه إلا ليعود إليه؟ "إنه خير ما يكنز" كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن قدامة رحمه الله: "ويستحب لمن أراد التزوج أن يختار ذات الدين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه. ويختار الجميلة، لأنه أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأدوم لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح .." [الكافي (2/659)].
(40)
وإذا اجتمع الرجل الصالح بالمرأة الصالحة على سنة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله بدأ بهما تَكَوُّن الأسرة الصالحة التي هي نواة المجتمع الصالح، حيث ينجب الأولاد ويعنى بتربيتهم جسمياً وعقلياً وروحياً، على هدى من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبالقدوة التي ينشأ فيها الطفل هي التي تحدد نشاطه وتصرفاته واتجاهاته في مستقبل حياته في الأعم الأغلب، لأن ما ينبت في نفسه وهو صغير، وينمو معه في منزله من أبويه يصبح عادة متمكنة يصعب تغييرها بعد كبره.
لهذا كان الواجب على الولدين أن تكون تصرفاتهما كلها قدوة حسنة لأولادهما، مع التوجيه النظري والتعليم، فإن التعليم لا ينفع إذا كانت القدوة سيئة، فإن الفعل يتمكن في النفس أكثر من القول، لاسيما إذا كان الفعل عادة يشاهدها الطفل في أبويه باستمرار، وتتعاون القدوة السيئة في المنزل، مع الأفعال السيئة التي شاهدها الولد في خارج المنزل، فينشأ محباً للشر مبغضاً للخير.
وقد ذكّر الله المسلمين بأهمية القدوة الحسنة بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ..? [الأحزاب: 21].
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه أن يقتدوا بأفعاله في أهم الأعمال وأفضلها، كقوله لهم في الصلاة: ((صلوا كما رأيتموني أصلي ..)) [البخاري (1/155)] وكان يعلّمهم الصلاة بالفعل مع القول.
وقال لهم في الحج: ((لتأخذوا عني مناسككم)) [مسلم (2/943)].
وعندما أمرهم بالإحلال في الحديبية، إذ صدهم المشركون عن الطواف بالبيت، لم تطب نفوسهم حتى أحلّ هو - صلى الله عليه وسلم - فتبعوه [البخاري (3/182)].
وإذا كانت القدوة مؤثرة في الكبار، فإنها في الصغار أشد تأثيراً، ومن هنا كان واجب الوالدين عظيماً في أن يهتما بأن تكون تصرفاتهما إسلامية ينشأ عليها ولدهما، وإلا كانا سبباً رئيساً في انحرافه بانحرافهما أو انحراف أحدهما، وبخاصة الأم التي لا يفارقها الطفل في أغلب أحيانه.
قال محمد قطب وفقهه الله: "ومرة واحدة من القدوة السيئة تكفي، مرة واحدة يجد أمه تكذب على أبيه، وأباه يكذب على أمه، أو أحدهما يكذب على الجيران .. مرة واحدة تكفي في تدمّر قيمة الصدق في نفسه، ولو أخذ كل يوم وساعة يرددان على سمعه النصائح والمواعظ والتوصيات بالصدق، مرة واحدة يجد أمه وأباه يغش أحدهما الآخر، أو يغشان الناس في قول أو فعل .. مرة واحدة كفيلة بأن تدمر قيمة الاستقامة في نفسه، ولو انهالت على سمعه التعليمات، مرة واحدة يجد في هؤلاء المقربين إليه نموذجاً من السرقة كفيلة بأن تدمر في نفسه قيمة الأمانة، وهكذا في كل القيم والمبادئ التي تقوم عليها الحياة الإنسانية السوية.
وقد يغفر الطفل للآخرين أن يكذبوا ويخدعوا ويسرقوا ويغشوا ويخونوا ... أو لا يتأثر به كثيراً، أو لا يتأثر به على الإطلاق، إذا كان يأوي إلى ركن ركين من القيم والمبادئ متمثلة في أبويه، وخاصة حين يبيّن له أبواه بالقدر الكافي من الإبانة والتوضيح أن تلك نماذج سيئة لا ينبغي له أن يحاكيها، مستندين إلى النموذج الطيب الذي يقدمانه هما لطفلهما. ولكنه لا يغفر لأبويه أبداً شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يمر شيء منه بغير تأثر عميق في نفسه، وقد يبقى بقية العمر كله لا يتغير.
(41)
ومن هنا كان حرص الإسلام الشديد على أن يكون الأبوان في ذاتهما مسلمين، أي ممارسين لحقائق الإسلام وقيمه ومبادئه، وحرصه على تربية الناس على منهج الإسلام، لكي يكونوا هم القدوة المباشرة لأبنائهما في الفترة التي ينحصر عالم الطفل بهم، فتتكون في نفوس الأطفال - بالالتقاط والمحاكاة - تلك القيم والمبادئ الإسلامية بغير جهد يذكر، وتنشأ في نفوسهم منذ الصغر، فتكون عميقة الجذور، ثن يزيدها التعليم رسوخاً، ويزيدها المجتمع الإسلامي قوة، حتى يكبر الطفل، فيتلقى التعليم، ثم يكبر أكثر فيحتك بالمجتمع، ويأخذ منه ويعطي.
ومن هنا كذلك كان حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على توصية الرجل وهو يتزوج أن يظفر بذات الدين، فيقول له: ((تنكح المرأة لأربع ...)) الحديث، وقد سبق تخريجه.
"فذات الدين هي الركن الركين في إقامة لبيت المسلم والأسرة المسلمة وفي تنشئة الأطفال بالقدوة قبل التلقين على قيم الإسلام ومبادئه منذ نعومة أظفارهم، فتصبح عادة لهم وطبيعة، وتصبح جزئاً من كيانهم ليس من السهل أن يحيدوا عنه، حين تحاول أن تلويهم الأعاصير، وحين توجد القدوة الحسنة متمثلة في الأب المسلم والأم ذات الدين، فإن كثيراً من الجهد الذي يبذل في تنشئة الطفل على الإسلام يكون جهداً ميسراً وقريب الثمرة في ذات الوقت لأن الطفل سيتشرب القيم الإسلامية من الجو المحيط به تشرباً تلقائياً، وستكون تصرفات الأم والأب أمامه في مختلف المواقف مع بعضهما البعض ومع الآخرين، نماذج يحتذيها ويتصرف على منوالها ..." [منهاج التربية الإسلامية لمحمد قطب (2/118)] إن هذا هو أساس الأسرة المسلمة: الزوجان المسلمان.
إن هذا هو أساس الأسرة المسلمة: الزوجان المسلمان.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
ـــــــــــــــ(1/106)
نصيحة لمديري المراكز والمشرفين ولإخواني الطلاب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد ..
لم يكن أمر الدولة والدعوة و الجهاد والأهل وغيرها بشاغل لرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام عن أمور العبادة من الذكر وصلاة الليل والنوافل وقراءة القرآن الكريم وتعليم الناس وتوجيههم .. لقد كان التوازن ومعرفة أفضل الأعمال في كل وقت هو واقع السنة وعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فما لنا لا نتبع السنة عند الانشغال وازدحام الأعمال عموما في حياتنا الخاصة أو حياتنا الدعوية..
فمثلا عند انشغالنا كمشرفين للمركز عن الأذكار ما بعد الصلاة في بعض الأحيان وعن المحاضرات في المراكز وغيرها ؛ لعل من الإجابات الدارجة التي نعلل بها أنفسنا : (أمر مستعجل) (أمر ضروري) (من المهم أن ننتهي منه الآن) وغيرها من الإجابات والتي هي غير المتوافقة لما كانت عليه حال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام من الانشغال الكبير والاهتمام بأوقات العبادات والعلم ..
إذا أردنا أن نكون فعلا فاعلين في التربية فعلينا أن نكون قدوة في جميع الجوانب .. وأن نتجنب - قدر المستطاع - ما يخدش القدوة من الأعمال ولو كانت صالحة .. فلا يقوم المشرف بعد الصلاة مباشرة ليعد أمرا في مقر الأسرة أو في الإدارة ولو كان مهما في رأيه لأن ذلك سيخدش أمر القدوة عنده وسيكون سببا لخروج الأعداد الكبيرة من الطلاب من مصلى المركز بل وضعف الشعور بأهمية ومكانة الصلاة في نفوسهم ..
وحتى نتجاوز هذه العقبة فأرى أنه ينبغي علينا القيام بالتالي :
• أولا مدير المركز :
1- على مدير المركز التأكيد على المشرفين بالاهتمام بالصلاة وما بعدها من الأذكار و النوافل وحضور الدروس العلمية المناسبة للمشرفين ، وذلك لأن المشرف قدوة لجميع الطلاب وتقصيره مؤثر على الجميع .. فينبغي أن يؤكد مدير المركز على المشرفين على الاهتمام بأوقات العبادات والدروس الشرعية وما كان مهما يمكن أن يقضى في أوقات أخرى قدر المستطاع
2- إضافة إلى ذلك فإن مدير المركز مطالب بتهيئة الأوضاع المناسبة لقراءة القرآن الكريم للمشرفين كما هيأها للطلاب ، فيمكنه وضع هذا الوقت بين الأذان والإقامة واعتباره وقتا مهما خاصا بقراءة القرآن للمشرف . وتتم تهيئة هذا الوقت بمساعدة المعلم (وبالتعاون مع مشرفي اللجان العاملة بالمركز) على ضبط الطلاب بعد الأذان مباشرة وسرعة توجههم للمصلى حتى يتفرغ المشرف لقراءة القرآن الكريم بتدبر .
3- وعلى المدير متابعة المقصرين من المشرفين في ذلك والتعرف على أسباب التقصير للوصول إلى أفضل الأوضاع التربوية في المركز . وينبغي أن يكون بالطرق المناسبة والمؤثرة في نفوس المشرفين وما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه.
4- إن من آثار تأخر المشرف والطلاب عن الحضور مبكرا لمصلى المركز يتعدى أثره على إدارة المركز والعاملين به حيث أن هذا المتأخر سيكون سببا في تأخير الطاقم الإداري عن التبكير لحضور الصلاة .
أعتذر للمدير والمشرفين من هذه النصيحة المباشرة .. ولكن السبب يكون في الأسئلة التالية : لماذا نركز في المراكز على الطالب وننسى أهم وسائل التربية ألا وهي المشرف المربي الذي يتولى التربية والقدوة . أليس هو أولى بالتوجيه والإعداد ، أليس هو أولى بالدورات والدروس ، أليس هو أولى بالنصيحة والتوجيه ؟
• ثانيا المشرف :
1- يقال للمشرف ما يقال عن المدير مع التأكيد على أنه قدوة ملاصقة بالطلاب ، فينبغي عليه الاهتمام بأمر القدوة وخطورتها وأثرها على طلاب المركز عموما وعلى الطلاب خارجه أيضاً .
2- على المشرف عدم إشغال الطلاب بأي أمر من أمور المركز في أوقات العبادات والأذكار الفاضلة والمحاضرات والدروس العلمية .
3- بل عليه التأكيد على الطلاب عموما والنجباء خصوصا الاهتمام بهذه الجوانب الإيمانية والعلمية وترك ما يشغلهم في تلك الأوقات .
4- وعلى المشرف متابعة الأبناء في تحصيلهم العلمي والإيماني كما يتابعهم في أنشطتهم الأسرية وينمي التنافس بينهم على العبادات والذكر كما كان ينمي بينهم التنافس في المسابقات الثقافية .
• ثالثا الطلاب :
أخي الطالب أنت هدف العملية التربوية في المركز فلا تكن سببا في تعطيلها ولا يكن تقصيرك سببا في تقصير غيرك عن الأوقات الفاضلة للعبادة والعلم ، بل كن المحرك و الشعلة النشطة في الأسرة في أنشطتها وفي المسجد بعباداتك وفي الحلق بحفظك وفي الدروس العلمية بذهنك حتى تنتفع فيما تسمع طوال عمرك ..
أسأل الله أن تكون هذه الكلمات تصيب الحقيقة والنفع لنا جميعا .. والله أعلم .
أخوكم أبو أحمد ..
م2 - صيف1423
ـــــــــــــــ(1/107)
كن مشعلا ...
لبنى شرف / الأردن
حال المسلمين اليوم يشهد بأنهم أولى من غيرهم بالدعوة إلى الله وإلى الإسلام من جديد ، ذلك بأنهم ابتعدوا عن شرع الله ، وهجروا قرآنهم فأظلمت قلوبهم ، وفسدت حياتهم .
ومهمة الدعاة اليوم - كما يقول الإمام حسن البنا - هي توصيل التيار من المنبع الأصيل - وهو القرآن - إلى قلب كل مسلم ، حتى يشتعل ويضيء. قال تعالى في سورة الأنعام ( 122) :" أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها .." .
لم نعرف الإسلام إلا دعوة = وضاءة تحيي الأنام وتلهم
فكيف للداعية أن يصل إلى القلوب ؟
لابد أن يكون الداعية ابتداء علرفا بالله ، متصلا به ، وأن ينظر إلى أهل الهوى والمعاصي على أنهم مرضى ، فيعطف ويشفق عليهم ، ويحتال لعلاجهم بما لا ينفرهم منه ومن دعوته . قال بعض الصالحين من السلف : أهل المحبة لله نظروا بنور الله ، وعطفوا على أهل معاصي الله ، مقتوا أعمالهم ، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم ، وأشفقوا على أبدانهم من النار .
ولابد أيضا أن يكون الداعية قدوة حسنة ، يطبق ما يقول ، وإلا فلن يتأثر الناس بقوله ، شأنه شأن المعلم ...
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها = فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى = بالقول منك وينفع التعليم
وأن تكون سيرته حسنة بين الناس ، وأن يكون ذو خلق حسن ...
أكرم بذي الأخلاق من الناس = شبهته في الناس بالنبراس
به يستضاء إذا ظلام دامس = ساد الوجوه فذاك خير الناس
وإذا سعى فالخير مقصود له = وإذا دعا فالحق خير أساس
ولابد وأن تكون له أياد بيضاء عند الناس ، من البر والإحسان ، فبالبر يستعبد الحر ...
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم = فطالما استعبد الإنسان إحسان
إذا ، فلابد من القدوة قبل الدعوة ، ومن الإحسان قبل البيان .
ولكي يستطيع الداعية أن يصل إلى قلب المدعو ليأخذ بيده إلى منابع الخير والنور ، لابد أن يكون هذا الداعية مشحونا بالحق والنور ، وبعاطفة قوية جياشة . يقول الشيخ المودودي - يرحمه الله - : اسمحوا لي أن أقول لكم ، أنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم ، فإنكم لابد أن تبوءوا بالفشل الذريع ... ، عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات الكبيرة .
ثو لابد من الرحمة ومن الرفق ، فقد قال عليه السلام :" فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " . والرفق مطلوب ومتعين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . قال سفيان الثوري : لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال : رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى ، عالم بما يأمر عالم بما ينهى ، عدل بما يأمر عدل بما ينهى . وروي أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - مر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه ، فقال : أرأيتم لو وجدتموه في قليب ، ألم تكونوا مستخرجيه ؟ قالوا : بلى . قال : فلا تسبوا أخاكم ، واحمدوا الله الذي عافاكم . فقالوا : أفلا تبغضه ؟ فقال : إنما أبغض عمله ، فإذا تركه ، فهو أخي . ومر فتى يجر ثوبه ، فهم أصحاب صلة بن أشيم إن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا ، فقال صلة : دعوني أكفكم أمره ، ثم قال : يا ابن أخي ، إن لي إليك حاجة . قال : ما هي ؟ قال : أحب أن ترفع إزارك . قال : نعم ونعمى عين ، فرفع إزاره . فقال صلة لأصحابه : هذا كان أمثل مما أردتم ، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم .
ومن مقومات الداعية الأخرى أيضا ، وهج الروح ، ووضاءة الوجه ، ودقة الشعور ، وحسن الهندام ، فضلا عن الإيمان العميق ، والفهم الدقيق ، فهذه -كما يقول الداعية عباس السيسي - ثروة الداعية .
وللداعية الصادق تأثير أبعد من الخطابة والكتابة ، بقلبه وعاطفته وفعله ، فهو يقدم دعوته للناس وكأنها هدية ... فكيف تكون الهدية ؟ .
فيا أيها الداعية المسلم ...
كن مشعلا في جنح ليل حالك = يهدي الأنام إلى الهدى ويبين
ـــــــــــــــ(1/108)
كيف أصبح رجلاً !!!
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه . . .
أما بعد :-
تأملت في يوم قادم يقف فيه شاب أمامي ويلح في السؤال: كيف أصبح رجلا؟ واحترت في الجواب من الآن! واسترجعت الذاكرة بعد مشاورة، واستهديت بالآية والحديث، واستوعبت السؤال كاملا.. فإذا الإجابة طويلة ومتشعبة، وكل صاحب معرفة يسير بك في واد، ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق!
أيها الشاب:
ستمر بك الأيام عجلى، وتتوالى عليك الليالي سريعة، فإذا بك تقف ممتلئا صحة ونشاطا تطاول أباك طولا وقد منحك الله بسطة في الجسم.
وإن مرت بك الأيام وسلمت من عاديات الزمن وطوارق الأيام فسوف تمر بمراحل العمر كلها - بإذن الله - قال الله تعالى: ونقر فى الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم وإن قدر الله لك أمرا آخر فأنت ممن قال الله فيهم: ومنكم من يتوفى .
ولا أخالك أيها الشاب وهذه المراحل السريعة تمر أمامك إلا مسارعا للإمساك بها، والتزود من مراحلها. وها هي قدمك بدأت تخطو الخطوات الأولى في مرحلة الشباب والنضج، وهي مرحلة مهمة خصها الرسول بالحديث المشهور: { لا تزول قدم ابن ادم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عموه فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه.. } [رواه الترمذي].
وخص النبي مرحلة الشباب هذه لكثرة الإنتاج والعطاء والبذل والإبداع فيها.
أيها الشاب:
مقاييس الرجولة تختلف حسب نظرة المجتمع والأسرة والشاب نفسه، فرجولة المهازيل إضاعة الوقت وازجاء الزمن دون فائدة، ورجولة المرضى والسفهاء السعي وراء الشهوات المحرمة!
أما رجولة أهل الهمم والمعالي: فهي السعي الحثيث إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ومن متطلبات هذا السعي أن تكتسب من العلم أوفره، وأن تنال من الأدب أكثره، ومن معالي الأمور وجميلها ما يزين رجولتك، ويجعلك محط الآمال ومعقد الأماني، بعيدا عن عثرات الطريق ومزالق المسير.
تصبح رجلا أيها الشاب إذا اكتملت فيك مقومات الرجولة الظاهرية من ارتواء الجسم ونضارته وقوة الشباب وحيويته وظهور الشوارب واللحى! وهذه كلها تشترك فيها أمة مثلك من الشباب.. صالحهم وطالحهم، ومسلمهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم.. وبعض الحيوانات تشترك مع الإنسان في هذه الصفات من عضلات وقوة تحمل!
لكنك رجل مميز وشاب متفرد.. نريدك رجلا مسلما لا رجلا مجردا!! ولكي تكون كذلك فالآفاق أمامك مفتوحة، ودروب الخير سهلة ميسورة، وحصاد العلم قد دان وقرب، وغراس الخلق ينتظر الجاني.. فهيا لتنال نصيبا وافيا من ذلك فتكون رجلا كما نريد، وكما تريد، بل وكما يريد الله عز وجل ذلك، فالأسرة والمجتمع والأمة بحاجة إلى شباب صالحين مصلحين، فهذا الدين يحتاج إلى رجل.. ولكن ليس رجل فحولة فحسب، بل رجل بطولة وصبر، يحمل هم الدعوة ويقوم بها ويصبر على ما يلاقيه، يسعى جادا لنيل العلم والارتقاء في درجاته، عفيف اللسان نزيه الجوارح.. تسارع قدمه إذا سمع الأذان.. ويتردد بين جنباته آيات القرآن. وبعيدا عن التنظير والكلمات الإنشائية أذكرك بأمور إن تمسكت بها وأخذت بأطرافها فزت ورب الكعبة:
أولاً: خلقت لأمر عظيم فاحذر أن يغيب ذلك عن بالك طرفة عين فالله عز وجل يقول في محكم التنزيل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
ثانيا: الصلاة.. الصلاة! فإنها عماد الدين والركن الثاني العظيم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فلا تتهاون ولا تتكاسل ولا تتشاغل عن أدائها في وقتها مع جماعة المسلمين، يقول الرسول : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر }، وأراك تغتم وتهتم لفقد أمر من أمور الدنيا من ضياع قلم أو فقد محفظة.. ولا تهتم بأن تفوتك تكبيرة الإحرام أو الصلاة مع الجماعة، ووالله لن يفلح من تركها!!
ثالثاً: ما أضاع ساعات الزمن وأيام العمر.. مثل حياة الفارغين، وأصحاب الهوايات الضائعة والأوقات المسلوبة، ممن همهم إضاعة الساعات والأوقات في لهو وعبث، فاحرص على وقتك فإنه أغلى من المال، وإن كان مالك تستطيع أن تحافظ عليه وتنميه وتستثمره، فإن الوقت قاتل وقاطع والأنفاس لا تعود.
رابعاً: العلم طريق الوصول إلى خشية الله عز وجل فسارع إليه وابدأ بالعلم الشرعي الذي تقيم به أمور دينك، وما نلت من علم دنيوي تحتاجه الأمة فاجعل نيتك فيه خدمة الإسلام والمسلمين حتى تؤجر عليه.
خامساً: حسن الخلق كلمة لطيفة طرية على اللسان، ولكن عند التطبيق تتباين الشخصيات ويفترق الرجال إلى أصول وفروع! ولا يغيب عن بالك أن حسن الخلق من صلب هذا الدين؟ فبر والديك، وارفق بأخيك، وأحسن إلى صديقك، وتعاهد جارك.
سادساً: مع تنوع المعارف والعلوم لابد أن يكون لك سهم من تلك الطروحات حتى تكون قوي الفكر، ثابت المعلومة، على اطلاع واسع لتنمي ثقافتك، ومثلك يحذر الطروحات الفكرية التي يدعيها بعض الموتورين والمرجفين ممن لا يذكرون الله إلا قليلا!
سابعاً: القدوة علم تسير خلفه وتستظل بآرائه وتستلهم طريقه، فمن قدوتك يا ترى؟ ولا أعرف لابن الإسلام قدوة سوى محمد وصحبه الكرام وسلفه الصالح.
ثامناً: أنت - ولا ريب - تتطلع إلى غد مشرق وسعادة دائمة وظل وارف، فعليك بتقوى الله في السر والعلن فإنها وصية الله للأولين والآخرين وطريق النجاة يوم الدين: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .
تاسعاً: لتكن قوي الإرادة، ماضي العزيمة، وألق ما تقع عليه عينك من المحرمات، وابتعد عن الرذائل ومواطن الشبه والريب، ولتكن لك قوة داخلية تسخرها لتزكية نفسك وصفاء سريرتك وذلك بمراقبة الله عز وجل على كل حين ومداومة العمل الصالح.
عاشراً: الدعاء هو العبادة، وكم أنت فقير إلى ربك ومولاك، فبالدعاء يكون انشراح النفس وطمأنينتها وطلب العون من الله عز وجل، فلا تغفل عنه، واحرص على البعد عن موانع الإجابة، وكلما غفلت تذكر كثرة دعاء الأنبياء لأنفسهم وحرصهم على ذلك.
أيها الشاب:
لا تستوحش من إقبال الزمان ودورته، وسيقف ابنك أمامك بعد زمن ليسألك: كيف أصبح رجلا يا أبي؟ وأعتقد - وأنت معي في ذلك - أن نقطة البداية لهذا الجواب هو ما تسير عليه اليوم وترسمه غدا، فالقدوة مثل أعلى لمن هم حولك، فابدأ واستعن بالله، وأراك قد أصبحت رجلا ينطلق في مضمار الحياة لا ترهبه هبوب الرياح ولا تثنيه مسالك الطريق الوعرة.
وفي الختام: قد يطرق قلبك سؤال مفاجىء تصوبه نحو قلمي: كل ما ذكرت كلمات وعظية مكررة نسمعها بين حين وآخر!
وجوابي لصوتك الحبيب: أيها الرجل الشاب! يا من استقبلت الدنيا بوجهك.. إنها كلمات وإن كانت مكررة فأبشر وأمل أن وقعت في نفسك موقعا، فعندها تكون رجلا ولا كل الرجال، بل رجل أثنى الله عز وجل عليه في مواضع عدة من كتابه الكريم. وحسبك هذا الثناء لتكون رجلا.
عبدالملك القاسم
دار القاسم
ـــــــــــــــ(1/109)
واجبات الأم الدعوية نحو أبنائها
أول واجبات الداعية إلى الله في بيتها يتعلق بأبنائها الذين يجب أن يشبوا مسلمين، ومسلمات، لا يعتزون بشيء مثلما يعتزون بانتمائهم إلى الإسلام،
وأن يتمثلوا أخلاقه، وآدابه في كل ما يصدر منهم من كلام أو عمل أو تعامل فيما بينهم، أو مع أقرانهم في البيت أو المسجد، أوالمدرسة، أو غيرها.
هذا الواجب المتمثل في انتماء الأبناء للإسلام، وتمثل أخلاقه، وآدابه، منوط بالمرأة المسلمة ربة البيت بصور مباشرة، وبشكل ألصق من وجوبه على الرجل، لأن الأم ترعى هذا النشء منذ الطفولة المبكرة، وتسهم أكثر من غيرها في تشكيل أخلاقهم، وميولهم، واتجاهاتهم بطول مخالطتها لهم، على حين ينشغل الأب غالباً بعمله، فيغيب عن البيت فترات ليست بالقصيرة.
فماذا تفعل ربة البيت مع هؤلاء الصغار الأحباب؛ ليلتزموا بأخلاق الإسلام ويحسنوا الانتماء إليه، فيعود ذلك عليهم، وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه بالنفع في الدنيا والآخرة؟
هذه أمور على جانب كبير من الأهمية، نذكرها على الإجمال لتضعها الأخت الداعية نصب عينيها، وتعمل بها.. وهي كالآتي:
1- أن تعطي من نفسها القدوة لأبنائها، فتحرص تماماً على أن تتمثل فيها كل صفة، تحب أن تجدها في أبنائها، فكلما التزمت بأخلاق الإسلام وآدابه في قولها، وفعلها، وكلما اعتزت بانتمائها للإسلام، نشأ أبناؤها على التحلي بهذه الصفات.
كما أن هذه القدوة توجب عليها أن تتخلى عن أي صفات لا تحب أن تراها في أبنائها، سواء أكانت هذه الصفات أخلاقية، أم شكلية تخص الملبس والمأكل والحركة والسكون.
2- أن تحرص الأم الحرص كله منذ أن يعي أبناؤها ما يستمعون إليه، فتحكي لهم القصص المختارة، التي تهدهدهم بها، أو تسليهم، أو تكون لهم القيم، وتغرس في نفوسهم فضائل الأخلاق.
وأفضل القصص ما ورد في القرآن، ووصفه الله تبارك وتعالى بقوله: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، (يوسف: 3).
3- أن تحرص كذلك وبخاصة عندما يشب أبناؤها، ويصبحون أكثر وعياً على تحدثهم عن المسجد، وأثره في المجتمع، وأن تهيئهم، وتؤهلهم للذهاب إلى المسجد بصحبة الأب، أو الأخ الأكبر، بمجرد أن يكونوا قادرين على ذلك وحدود هذه القدرة هي معرفة الوضوء، والطهارة في الثوب، ومعرفة الصلاة... إلخ فإن المسجد جزء أصيل من شخصية المسلم، وعامل مهم من عوامل تربيته.
4- أن تحرص على أن تكوِّن في بيتها مكتبة إسلامية ملائمة لأعمار أبنائها، وأن تختارها بعناية، بحيث تلبي احتياجاتهم في مجالي الثقافة والتسلية لمن يعرفون القراءة من الأبناء.
أما الذين لم يتعلموا القراءة بعد فلا يُهملوا، وإنما تستطيع الأم الداعية أن تحقق لهم الثقافة، والتسلية أيضاً، عن طريق إسماعهم بعض الأشرطة المسجلة، ومشاهدة الأشرطة المرئية، التي سجلت عليها مواد نافعة.
5- أن تحرص ربة البيت على ضبط أبنائها في النوم واليقظة، بحيث لا يسهرون فيضرون أبدانهم، وأخلاقهم إذا كانت السهرة مع التلفاز في أحد أفلامه، أو مسرحياته التي تستأصل القيم الفاضلة في نفوس الشباب صغارًا وكبارًا، وتتحدى الإسلام، وقد تشجع على الرذائل، أولا تعرض من الظواهر الاجتماعية إلا السيئ منها.
6- أن تحرص على ألا تقع أعين أبنائها في البيت على شيء يغضب الله، أو يخالف شيئاً مما أمر به الإسلام، من تمثال وغيره، أو كلب يعايش الأولاد في البيت، أو صور لا يسمح بها الإسلام، فإن وقوع أعين الأبناء على هذه الأشياء في البيت يعودهم التساهل في أمر دينهم وعبادتهم.
7- أن تحرص الأم على أن تكون مصادر ثقافة أبنائها نقية لا يشوبها شيء من الترهات، والأباطيل، أو المغالطات، وذلك بأن تجعل من القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيرة الرسول ص أساساً لمصادر هذه الثقافة، وأن تضيف إلى ذلك الكتب المختارة المبسطة الملائمة لأبنائها في شرح هذه المصادر الأساسية.
8- تزويد الأبناء بالإجابات الصحيحة عن كل سؤال يطرحونه في طفولتهم، وبخاصة في فترات معينة من سني أعمارهم وهي سنوات التطلعات لما حولهم، ومحاولة إيجاد علاقات بين الموجودات، والاستفسار عما يحدث لبعض أجزاء أجسامهم من نمو.
9- كما أن على الأم الداعية أن تختار صديقات بناتها وفق معايير الإسلام، وأخلاقه، وآدابه، وأن تتابع هذه الصداقات، وتحيطها دائماً بالرعاية والاهتمام، وأن تحرص على أن تستمر هذه الصداقة في مجراها الطبيعي المشروع لا تتجاوزه إلى غيره، مما يتهامس به المراهقات.
10- أن تخصص الأم لأبنائها وقتاً بعينه في يوم أوأيام الأسبوع، تجلس إليهم، ولا تنشغل بسواهم من الناس أو الأمور، وأن تقيم علاقتها بهم على أساس من الود، والاحترام، وأن تتعرف من خلال هذه الجلسات مشكلاتهم، وما في أنفسهم من متاعب أو مسائل لا يجدون لها حلاً.
إنها إن لم تفعل، وإن لم تنتظم في ذلك سمحت لهذه المشكلات والمتاعب، والمسائل أن تنمو في غير الاتجاه الصحيح، وقد تصل في بعض الأحيان إلى حد الأزمة، أو المشكلة المستعصية على الحل.
المصدر : مجلة المجتمع
ـــــــــــــــ(1/110)
أخلاقنا.. بين الواجب والمبادرة!
خالد عبداللطيف
الميدان الفسيح..!
من أوسع ميادين التربية والتزكية التي يرتع فيها رعاة البيوت (آباءً وأمهات) ميدان الأخلاق؛ كونها الميدان الذي لا يكاد ينفك عنه إنسان لحظة، لا في سكون ولا حركة، فهو بين خلق وآخر. هذا مع المنزلة الكبيرة للأخلاق في الإسلام؛ حتى إن أحسن الناس خلقا هم أقرب الناس مجالسا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة.
الواجب والمبادرة..!
إذا كان الواجب على رعاة البيوت من الآباء والأمهات غرس الأخلاق في نفوس الأولاد، بحثهم على حسن الخلق وكف الأذى؛ فإن هذا هو الحد الأدنى لإبراء الذمة وأداء الأمانة.
أما بيوت الهمم العالية فلها شأن آخر مع غرس المبادرة إلى بذل المعروف، وإعانة الناس، والمسارعة إلى سائر الفضائل، في ظلال توجيه تربوي حكيم يراعي الفروق العمرية والمراحل السنية.. مع رفع شعار العبودية وأن: "كل هذا يا بني للواحد الأحد؛ فلا تنتظر المقابل من أحد"!
القدوة القدوة..!
يتكرر الحث على القدوة دائما؛ لأنها النموذج الحي المشاهد الذي يؤثر في الطفل ويعلمه في الوقت نفسه؛ ويستثمر عادة التقليد فيه في أبرك وأفضل مواضعها؛ الأخلاق.
كما أنها مسؤولية تصديق الفعل للأقوال التي لامناص ولا فكاك منها، والله الموفق والمستعان.
حروف الختام..
من أعظم الدلائل على منزلة الأخلاق الرفيعة في دين الإسلام: أثرها البين على العبادات، وارتباط صلاح العابدين بحسن الخلق؛ كما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وقال إني مسلم؛ من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" (صحيح الجامع 3043).
خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
ـــــــــــــــ(1/111)
أبرز صفات المعلم السلوكية في الفكر التربوي الإسلامي ؟
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد :
فلا شك في أن المعلم يحظى في فكرنا التربوي الإسلامي بمنزلةٍ رفيعةٍ، ومكانةٍ ساميةٍ جعلت منه وريثاً شرعياً للأنبياء ( عليهم السلام ) في أداء رسالتهم الخالدة المتمثلة في هداية الناس وتعليمهم و إخراجهم من الظلمات إلى النور . وقد أشارت مصادر فكرنا التربوي الإسلامي إلى كثيرٍ من النصوص و الشواهد التي تُنوه بفضل المعلم ؛ و تُشير إلى كثيرٍ من صفاته و خصائصه التي تُميزه عن غيره ، وتُكسبه هويته الإسلامية المتميزة .
ومن أبرز هذه الصفات و الخصائص ما يُمكن أن نسميه ( الصفات الخُلُقية و السُلوكية ) التي نُجملها في ما يلي:
1) أن يكون المعلم مُخلصاً في قوله و عمله و نيته : و معنى ذلك ألا يقصد المعلم بعلمه و عمله غير وجه الله سبحانه، طاعةً له و تقرباً إليه . كما يستلزم الإخلاص أن يبذل المعلم قُصارى جهده في الإحاطة بمختلف الجوانب التربوية و التعليمية التي تجعل منه معلماً ناجحاً، متصفاً بالإخلاص في السر و العلن.
2) أن يكون متواضعاً لله عز وجل ؛ متذللاً له سبحانه و تعالى فلا يُصيبه الكبر ولا يستبد به العُجب لما أوتي من العلم ؛ فإن من تواضع لله رفعه ؛ ولأن المعلم متى تحلى بالتواضع وقف عند حده ، وأنصف غيره ، وعرف له حقه ، ولم يتطاول على الناس بالباطل .
3) أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، متصفاً بالعقل و الروية ، و حُسن التصرف، و الحكمة في أمره ونهيه ؛ لأن ذلك كله نابعٌ من حرصه على حب الخير للناس ، و حرصه على دعوتهم إلى الخير و الصلاح.
4) أن يكون حسن المظهر جميل الهيئة ؛ إذ إن لشخصية المعلم و هيئته تأثيراً بالغ الأهمية في سلوك الطلاب و تصرفاتهم الحالية و المستقبلية . ثم لأن العناية بالملبس وأناقته دونما سرفٍ ولا مخيلةٍ مطلبٌ هام للمعلم حتى ترتاح لرؤيته العيون ؛ وتسعد به النفوس ، ويتأثر به الطلاب في هذا الشأن.
5) أن يكون صابراً على معاناة مهنة التعليم و مشاقها ؛قادراً على مواجهة مشكلات الطلاب و معالجتها بحكمةٍ و روية ؛ دونما غضبٍ ، أو انفعالٍ ، أو نحو ذلك.
6) أن يكون مُحباً لطلابه مُشفقاً عليهم ، مُتفقداً لهم في مختلف أحوالهم ، مشاركاً لهم في حل مشكلاتهم حتى تنشأ علاقة قوية وثيقة بينه و بينهم ؛ تقوم على الأخوة و الحب في الله تعالى.
7) أن يكون عادلاً بين طلابه ؛ متعاملاً معهم بطريقةٍ واحدةٍ يستوي فيها الجميع ؛ فلا فرق عنده بين غنيٍ و فقير ، ولا قريبٍ ولا غريب ، ولا أبيض ولا أسود . ثم لأن العدالة صفةٌ لازمةٌ ينبغي للمعلم أن يتحلى بها و أن يمارسها مع جميع طلابه ؛ فيعُطي كل طالب من طلابه حقه من الاهتمام ، والعناية ، والدرجات ، ونحو ذلك دونما ميلٍ أو محاباةٍ أو مجاملةٍ لطالبٍ على حساب الآخر.
وختاماً؛ فإن خلاصة الصفات الأخلاقية و السلوكية السابقة يمكن أن تجتمع في ضرورة أن يكون المعلم قدوةً حسنةً في قوله و عمله ؛ و سره و علنه ؛ و أمره و نهيه ؛ و جميع شأنه لأن القدوة الحسنة هي جماع الصفات الأخلاقية و السلوكية اللازمة للمعلم ؛ وخير ما ينبغي أن يتحلى به من سمات و صفات ؛ ثم لأن طلابه يعدونه المثل الأعلى لهم فهم يقلدونه ويتأثرون به في كل صغيرةٍ و كبيرةٍ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ؛ فكان واجباً عليه أن يكون قدوةً حسنةً في إخلاصه وتواضعه ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وقدوةً حسنةً في حُسن مظهره ، وصبره على طلابه ، وحبه لهم ، وشفقته عليهم ، و عدله بينهم .
وفق الله الجميع لما فيه الخير و السداد ، و الهداية و الرشاد ، و الحمد لله رب العباد.
ـــــــــــــــ(1/112)
أخلاقيات مشرف التربية الإسلامية وأثرها على المعلم
علي بن عبدالعزيز الراجحي
خلاصة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فهذا خلاصة ورقة العمل التي بعنوان (أخلاقيات مشرف التربية الإسلامية وأثرها على المعلم) وهي تشمل على ثلاثة محاور :
المحور الأول : أخلاقيات مشرف التربية الإسلامية وهي ما يلي :
الإخلاص لله ، والقدوة الحسنة ،و الصدق ،و التواضع ،و التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة ، و العدل والمساواة ، والشجاعة ، و الصبر واحتمال الغضب ، و التشجيع ، والتعاون ، و الشورى ، والمسؤلية ، والرحمة .
المحور الثاني : العلاقات بين مشرف ومعلم التربية الإسلامية:
ويحتوي على تعريف العلاقات ، وأسس التي تبنى عليها العلاقات الإنسانية ، وأهدافها ، و المبادئ التي لابد للمشرف التربوي من تطبقها لبناء العلاقات في العمل الإشرافي ، وسلبيات عدم ممارسة العلاقات ، ومعوقات العلاقات .
المحور الثالث : مجالات العملية الإشرافية التي يمكن أن تطبيق فيها العلاقات الإنسانية من تلك المجالات ما يلي :
1. المقابلة الفردية للغير .
2. الاجتماع المشترك .
3. الزيارة الصفية .
4. اللقاءات التربوية .
5. زيارة المدرسة0
6. زيارة المعلم للفصل .
7. المقابلة الفردية بعد الزيارة .
8. الاجتماع بالهيئة التعليمية.
9. الدروس النموذجية .
10. الاجتماع بمعلمي المادة
المقدمة
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أمَّا بعد :
فلا يخفى ما لمشرف التربية الإسلامية من أثر في البيئة المدرسية إذا هو تخلق بالأخلاقيات الجيدة ، لا سيما على معلمين التخصص .
وبناء على ذلك تم إعداد هذه الورقة بعنوان (أخلاقيات مشرف التربية الإسلامية وأثرها على المعلم) وهذه الورقة تشمل على ثلاثة محاور :
المحور الأول : أخلاقيات مشرف التربية الإسلامية .
المحور الثاني : العلاقات بين مشرف ومعلم التربية الإسلامية .
المحور الثالث : بعض المجالات العملية الإشرافية التي يمكن أن تطبيق فيها العلاقات الإنسانية
هذا الله أسال أن ينفع بما كتبنا ، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى ، من الأقوال والأعمال ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى صحبه أجمعين .
محبكم
المحور الأول : أخلاقيات مشرف التربية الإسلامية
قبل ذكر أهم الأخلاقيات التي ينبغي للمشرف أن يتحلى بها يستحسن ذكر تعريف الإشراف التربوي فهو:
"عملية فنية شورية قيادية إنسانية شاملة غايتها تقويم وتطوير العملية التعليمية و التربوية بكافة محاورها " فعلى المشرف التربوي أن يتذكر أن طبيعة عمله تقوم على هذه الأخلاقيات والتي من أهمها ما يلي :
[1] الإخلاص لله :
أن هذا الخلق من الأخلاقيات التي ينبغي للمشرف التربوي التحلي به فضلاً عن مشرف التربية لإسلامية وذلك لأن هذا الخلق هو أساس الإعمال والأقوال ولهذا ثبت من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " . ولذا كان حري بالمشرف التربوي أن يغرس في نفسه هذا الخلق العظيم وهو إخلاص العمل لله ، وابتغاء الأجر والثواب منه ، وإن حصل بعد ذلك مدح وثناء من الغير فذلك فضل من الله ونعمة ، ومدار ذلك كله على النية .
[2] القدوة الحسنة :
من سمات مشرف التربية الإسلامية أن يظهر أمام الغير بالقدوة الحسنة لا سيما إمام المعلمين وذلك بكل ما يحمل هذه الخلق من معاني ، وذلك من خلال مطابقة القول للعمل قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) . ومطابقة القول العمل ، أسرع في الاستجابة من مجرد القول بمفرده .والمشرف هو من أحوج الناس إلى التزام هذا الخلق في واقع حياته فضلاً عن عمله الذي يتطلب منه هذا الخلق وذلك لأنه قدوة يحتذى به.
[3] الصدق :
أن إتصاف المشرف التربوي بصفة الصدق عند قيامة بعمله من أهم الصفات وذلك لأن عمله يقتضي منه ذلك ، ولهذا أثنى الله على الصادقين ، ورغب المؤمنين أن يكونوا من أهله بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وأرشد المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الصدق يهدي إلى الجنة كما ثبت من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال " إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " وعند تأمل السيرة النبوية ، نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمى بالصادق الأمين ، ولقد كان لا تصافه - صلى الله عليه وسلم - بالصدق أثراً كبيراً في دخول كثير من الناس في دين الله ، فمشرف التربية الإسلامية أولى بهذه الصفة عن غيره من المشرفين . وثمرة صدقه يدعو المعلم إلى الثقة به وبما يقول ، ويجعله يكسب احترام المعلمين ، ويرفع من شأنه في عمله ، ويتمثل صدقه في المسئولية الملقاة على عاتقه ، والتي منها نقل المعرفة بما فيها من حقائق ومعلومات للمعلمين ، فإن لم يكن المشرف متحلياً بالصدق فإنه سينقل لهم علماً ناقصاً ومبتوراً ، وحقائق ومعلومات مغايرة للصورة التي يجب أن ينقلها ، وتجارب تربوية غير واقعية ، وربما يُسقط من أعين غيره .
[4] التواضع :
أجمل هذا الخلق الحميد الذي يضفي على صاحبة إجلالاً ومهابة ، ومشرف التربية الإسلامية في أمس الحاجة ، إلى التخلق بهذا الخلق العظيم ، لما فيه من تحقيق الاقتداء بسيد المرسلين ، ولما فيه من الرفعة له لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال" ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" .
ولهذا كان حاجة المشرف إلى التواضع مطلوبة وهي سمه لابد من توفرها في المشرف التربوي .لأن عمله التوجيهي يقتضي الاتصال بالمعلمين والقرب منهم حتى لا يجدوا حرجاً في سؤاله ومناقشته البوح له بما في نفوسهم من مشكلات تتعلق بعملهم ، ولأن النفوس لا تستريح لمتكبر أو مغتر بعمله .ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد " ، وقوله تعالى (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
ومن آضرار عدم التواضع الذي قد يصيب بعض المشرفين جحوده للحق وعدم الخضوع له ، والغرور بما لديه من علم وخبره ، وعدم وصوله إلى أهداف عمله ،ولا يعرف ما تحقق منها في البيئة المدرسية لأنه بعيد عن مخالطة المعلمين .
[5] التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة .
لا شك أن الكلمة الطيبة والعبارة الحسنة تفعل أثرها في النفوس ، وتؤلف القلوب ، وتذهب الضغائن والأحقاد من الصدور ، ولهذا كان التعبيرات التي تظهر على وجه المشرف تحدث مردوداً إيجابياً أو سلبياً لدى المعلم ، وذلك لأن انبساط الوجه وطلاقته مما تأنس به النفس وترتاح إليه . وخلاف ذلك مما تنفر منه النفوس وتنكره ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أطيب الناس روحاً ونفساً ، وكان أعظمهم خلقاً يقول الله تعالى عن خلق أشرف الأنبياء والمرسلين( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ولم يكن فظاً غليظاً حاد الطباع بل كان سهلاً سمحاً ليناً رءوفاً بأمته كما قال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) .
والمشرفون التربويين حري بهم أن يترسموا خطى المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ، في التحلي بالأخلاق الفاضلة والأدب الرفيع ، وهي من أنجع الوسائل في التأثير ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل ، وصائم النهار " ولأن حسن الخلق سجية تعمل عمل السحر في أسر القلوب ، واستمالة النفوس ، وإشاعة المحبة بين أفراد المجتمع ، ومشرفين التربية الإسلامية هم أولى الناس بذلك ، لا سيما في مجال عملهم .
[6] العدل والمساواة :
من سمات التربوي أن يتحلى بهذه الصفتين ، قال تعالى :( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآي ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي لعلكم تذكرون ) ، وقال تعالى : ( وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى ) . فالعدل الذي أمر الله به ، يشمل العدل في معاملة الخلق بالعدل التام وبهذا يتبين أن القيام بالقسط والعدل بين الناس ، وهو مطلب من مطالب الحياة السليمة ، ويتأكد العدل في عمل المشرف في تقويميه للأقوال والأعمال التي يسمعها أو يشاهدها ، فلا مجال لمحاباة أحد ، أو تفضيل أحد على أحد سواء لقرابته أو معرفته أو لأي أمر كان ، فإن هذا من الظلم الذي لا يرضاه الله وصاحبه متوعد بالعقوبة .إن اختلال هذا الميزان عند المشرف ، أي وجود التميز بين المعلمين ، كفيل بان يخلق التوتر وعدم الانسجام والعداوة والبغضاء بين المشرف والمعلم .
[7] الشجاعة :
قد يستغرب ورد هذا الخلق ، والشجاعة المقصودة به ، فهي شجاعة الكلمة ، والاعتراف بالخطأ ، وهذا لا يكاد يسلم منه أحد ، ولو كان على حساب النفس ، وهذا والله ليزيد المسلم عزاً ورفعة ، ولا ينقص من قدره شيئاً ، ومن ظن غير ذلك فقد حاد عن جادة الصواب . والمشرف بحكم وظيفته ، معرض لمثل هذه المواقف ، فيا ترى ماذا يقول المشرف إذا جانب الصواب ، ثم بان له الصواب ، فهل يبادر إلى استدراك ويعترف بالخطأ لغيره .
[8] الصبر واحتمال الغضب :
الصبر منزلة رفيعة لا ينالها إلا ذوو الهمم العالية ، والنفوس الزكية . والغضب هو ثورة في النفس ، يفقد فيها الغاضب اتزانه ، وتنقلب الموازين عنده ، فلا يكاد يميز بين الحق والباطل ، وهي خصلة غير محمودة . ووجه تعلق هذا الخلق بالإشراف التربوي ، هو أن المشرف يتعامل مع أفراد يختلفون في الطباع ، والأفكار ، فمنهم الجيد ، ومنهم الضعيف ، وهذا الخلق ليس سهل المنال ، بل إنه يحتاج إلى طول ممارسة من المشرف حتى يعتاد ذلك ويألفه . وفقدان الصبر يوقع المشرف في حرج شديد ، خصوصاً إذا كان ذلك أثناء ممارسته لعمله ، فإن المشرف يواجه عقليات متفاوتة في الإدراك والتصور ، والاستجابة ، إلى غير ذلك . بل إن من أشدها وقعاً وأثراً على المشرف وهو ما إذا تعرض المشرف لكلمة نابية من غيره ، وليس ذلك بمستغرب من البشر لاختلافهم في الطباع ، والإدراك ونحو ذلك .
إن احتواء الغضب والسيطرة عليه ، علامة قوة شخصية للمشرف ،ودليل على أتزانه ، وليست علامة ضعف ، خصوصاً إذا كان ذلك المشرف قادراً على إنفاذ ما يريد ، وقدوته في ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بذلك بقوله كما في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه : " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " .
[9] التشجيع :
قال الله تعالى (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) فالمشرف التربوي لابد أن يختار من أساليب التشجيع ما يناسب المعلم وعمله مراعية في ذلك الفروق الفردية .
[10] التعاون :
قال تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) فلابد للمشرف التربوي أن يشجع العمل الجماعي وإشعار المعلمين بأنه واحد منهم .
[11] الشورى :
قال تعالى (وشاورهم في الأمر ) وللشورى أهمية عظيمة لأنه يفيض على العمل جو العلاقات الإنسانية بتقوية رابطة الألفة والمحبة بين المشرف والمعلمين وتحقيق الراحة والرضا والطمأنينة لهم مما يؤدي إلى سرعة تقبل القرار والعمل على تنفيذه بالصورة المطلوبة .
[12] المسؤلية :
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " فالشعور بالمسئولية يؤدي إلى الإحساس بالإيثار وحب الآخرين .
[13] الرحمة :
قال تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...) فالرحمة بين العاملين في المجال التربوي تعتبر من الصفات التي ينبغي للمشرف التربوي أن يتصف بها فعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - " لايرحم الله من لايرحم الناس "
المحور الثاني : العلاقات بين مشرف ومعلم التربية الإسلامية
لا يخفى على أحد أهميئة العلاقات بين البشر لا سيما بين الأشخاص في مجتمع العمل الواحد ولا يمكن للمشرف التربوي أن يترك أثراً في عمله الإ من خلال العلاقات التي جاءت في النصوص الشرعية ولهذا بعث الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفات التي تعتبر مبادئ وركائز انبثقت منها العلاقات في الإسلام ، حيث وصف الله تعالى رسوله بقوله تعالى( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ، وقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
وثبت من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ، وعن أنس رضى الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " .
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من يحرم الرفق يحرم الخير كله "
فعندما تكون العلاقه بين المشرف والمعلم علاقة ود واحترام متبادل يؤدي ذلك الى انتاج مثمر فى العمل و يلاحظ ذلك بزيادة العطاء والمشاركة فى الأعمال والأنشطة نتيجة لحسن تعامل المشرف .
والعلاقات الانسانية ليست مجرد كلمات مجاملة تقال للاخرين وانما هي بالاضافة الى ذلك تفهم لقدرات الافراد وطاقاتهم وظروفهم ودوافعهم وحاجاتهم واستخدام كل هذه العوامل لحفزهم على العمل .
ويمكن أن نعرف العلاقات :
( بأنها سلوك مثالي من المشرف مع من تحت إشرافه من حيث المعاملة الحسنة لما يحقق الأهداف المشتركة بينهما ) .
فينج عن ذلك الجو القائم المبني على المعاملة الطيبة والأخلاق والقيم الإسلامية والاحترام وتقدير المسؤلية والتعاون والمساواة والعدل والصدق والأمانة والمحبة والألفة بين المشرف والمعلم .
أسس العلاقات الإنسانية :
1. إيمان المشرف التربوي بقيمة كل معلم وإحترامه وبأن لكل معلم قدراته الخاصة
2. احترام رغبات المعلمين وإعطائهم الفرصة للمشاركة بالرأي واتخاذ القرارات في ما يتعلق بالمواقف التربوية في الحياة العملية .
3. تشجيع العمل الجماعي من خلال التعاون بين المعلمين
4. العدل والمساواة في معاملة المعلمين ومراعاة الفروق الفردية بينهم .
5. العمل على النمو المهني والتربوي والتخصصي لكل من المشرف ومعلميه عن طريق الإطلاع ،وتبادل الزيارات، والندوات ، والاجتماعات ، والورش التعليمية ، والدورات التربوية والتخصصية فمن خلالها يتم اكتساب المعرفة والسلوكيات ، وتنمو العلاقات الإنسانية بالممارسة الفعلية.
أهداف العلاقات الإنسانية :
1. تحقيق التعاون بين العاملين في المجتمع الواحد وتعزيز الصلات الودية والتفاهم الوثيق وتقوية الثقة المتبادلة .
2. زيادة الإنتاج وهي نتيجة مترتبة على زيادة التعاون .
3. إشباع حاجات الأفراد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وتحقيق أهداف التنظيم الذي يعملون فيه.
4. رفع الروح المعنوية بين أفراد المؤسسة التربوية ومن ثم يتوافر الجو النفسي العام لصالح العمل والإنتاج.
5. تضمن للمعلمين الرضا الوظيفي .
المبادئ التي لابد للمشرف التربوي من تطبقها لبناء العلاقات في عمله الإشرافي :
1. تقدير المشرف لجميع المعلمين واحترام آرائهم ومقترحاتهم وإشراكهم في القرارات التي تتخذ داخل نطاق العمل وبالتالي الاستفادة من جوانب القوة لدى المعلمين وتصحيح جوانب الضعف عند البعض الآخر.
2. امتداح وتشجيع العمل الجيد الذي يصدر من المعلم ورفع معنويات المعلمين وتشجيع التجديد والابتكار بين المعلمين .
3. التعرف على المشاكل التي تضايق المعلمين والاشتراك معهم في إجراء البحوث التربوية التي تعالج هذه المشاكل .
4. أن يعمل المشرف على تحقيق الانسجام بين المعلمين وتوزيع المسؤليات بينهم بطريقة عادلة .
5. توفير المناخ الصالح الذي يجعل المعلمين يعملون بنفس مطمئنة .
6. الابتعاد عن تصيد وتتبع أخطاء المعلمين .
7. رعاية المعلم الجديد .
8. إتاحة الفرصة للمعلمين للتعبير عن وجهات النظر .
9. مراعاة الفروق الفردية بين المعلمين في القدرات الشخصية والظروف المختلفة .
10. الاهتمام بالمشكلات الشخصية والعملية للمعلم .
11. توثيق الروابط بين المعلم وزملاه .
12. تشجيع المعلمين على العمل التلقائي المنتج .
13. كسب الثقة عن طريق العدل والأنصاف واشراك المعلم في تقويم نفسه .
14. تقدير اوجه نشاط المعلم داخل الفصل وخارجه .
سلبيات عدم ممارسة العلاقات الإنسانية :
1. التخوف والقلق من زيارات المشرف التربوي .
2. التلون والرياء في المعاملة .
3. التنفيذ الوقتي من المعلم .
4. اخفاء الحقائق والمشكلات وتفاقمها .
5. الكراهية والعدوانية والمنافسة والاغتياب والوقوع في الاخطاء .
6. ضعف العلاقة الإنسانية بين المشرف والمعلم .
7. عدم تقبل المشرفين للنقد وكذلك من المعلم .
معوقات العلاقات الإنسانية :
1. بعد المشرف التربوي عن تعاليم ومبادئ الإسلام
2. التحيز لفئه من المعلمين ومراعاة خواطرهم لسبب من الأسباب .
3. مواجهة المشرف التربوي لمعلمهم بالنقد واللوم أمام الأخرين .
4. عدم توفر نظام مناسب للاتصال بين المشرف والمعلمين في المدرسة .
5. الأعباء الكثيرة التي يعاني منها المشرفين والمعلمين.
المحور الثالث : بعض مجالات العملية الإشرافية التي يمكن أن تطبيق فيها العلاقات الإنسانية
في إطار العملية الإشرافية يمكن التأكيد على مبدأ العلاقات الإنسانية من خلال ما يلي :
1. المقابلة الفردية.
2. الاجتماع المشترك.
3. الزيارة الصفية .
4. اللقاءات التربوية .
5. زيارة المدرسة 0
6. زيارة المعلم للفصل .
7. المقابلة الفردية بعد الزيارة .
8. الاجتماع بالهيئة التعليمية.
9. الدروس النموذجية .
10. الاجتماع بمعلمي المادة .
علي بن عبدالعزيز الراجحي
alt1@maktoob.com
مشرف التربية الإسلامية
بوزارة التربية والتعليم
0504425136
المراجع
1. أسس الإدارة التربوية والمدرسية والإشراف التربوي ، تيسير الدويك وحسين ياسين وغيرهما ،دار الفكر .
2. الإدارة التعليمية أصولها وتطبيقاتها ، د محمد منير مرسى (1404هـ) عالم الكتب .
3. الإدارة والإشراف التربوي ، محمد عدس ومحمد الدويك وغيره .
4. الجامع الصحيح المختصر (صحيح البخاري) ، أبو عبدالله البخاري ، دار ابن كثير، 1407هـ، بيروت ، الطبعة الثالثة .
5. خبرتي في الادارة المدرسية ، فايز بن عبدالله السويد ، 1416هـ ، الطبعة الأولى .
6. التوجيه التربوي ، د. عبدالحليم بن ابراهيم العبداللطيف ، 1416هـ ، دار المسلم ، الطبعة الأولى.
7. العلاقات الأنسانية في الإسلام ، خالد المنصور ، مكتبة التوبة ، الطبعة الثانية، 1423هـ .
8. صحيح مسلم ، مسلم بن الحجاج ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
9. الأشراف التربوي ، د.محمد الأفندي ، عالم الكتب ، الطبعة الثانية .
10. سنن أبي داود ، سليمان بن الأشعث أبو داود ، دار الفكر .
11. موقع وزارة التربية والتعليم .
ـــــــــــــــ(1/113)
كيف تكون قيادياً وتُحرك الناس؟
الشيخ علي العمري
يعرّف الإداريون القيادة بأنها :"القدرة على تحريك الناس نحو هدف معين".
وقيادة الناس أمانة، وهي من أصعب الأمور، وذلك بسبب اختلاف طبائعهم، والأمور المحيطة بهم، ويحتاج القائد إلى فن في التعامل، ورُقي في أسلوب المحاورة للوصول إلى الهدف المنشود.
وحتى يكون القائد بهذه المثابة، فلا بدَّ من أن يكون صاحب تجربّة فذّة، وممارسة لهذه الصنعة.
والمتتبع للقادة المهرة، يجد أنهم شاركوا في ميادين العمل كثيراً، وصاغتهم التجارب منذ أن كانوا مقودين متبوعين ينصتون للأوامر، إلى أن أصبحوا قادة يُشار إليهم.
وما من شك في أن صحة العزائم، والصبر المتواصل، وشيئاً من الصفات النفسية والخُلُقية والخَلْقية، ودُربة على القيادة متدرجة، تكفل نجاحاً للقائد بإذن الله، وبالتالي ؛فإن القيادة لا تشترط سناً بعينها، أو من له سلالة عريقة.
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن صفات قائد عظيم، هو طالوت. قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]. وجاء في تفسير الآية الكريمة "قيل عن طالوت: كان سقاء، وقيل: دباغاً، ولم يكن من سبط النبوة أو الملك، بل إن الله اصطفاه، وزاده بسطة في العلم الذي هو ملاك الإنسان، وأعظم وجوه الترجيح، وزادة بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر أثناء الملمات" [فتح القدير: الشوكاني 1/338]. فأمر القيادة لا يُورّث إذاً، ولكن يُعطى لمن له خبرة ودُربة، وحُبي بصفات أهّلته لذلك.
وقد يعجل بعض الدعاة باختيار قائد لم تصهره الشدائد، ولم يعرف حقيقة التعامل مع الناس، فيخلط بين الواجب والمندوب، وقد يسيء أكثر مما يصلح. وهناك خطأ آخر مكرور، وهو تعيين قائد صغير لم يتمرّس على هذه الصنعة، ومعه من هو أعلى منه قدراً وفهماً ووعياً وعلماً!.
ونظن أنه بهذه الطريقة نستطيع أن نكوِّن القدوات، ولو على حساب عثرات كبيرة، مستأنسين بشاهد السيرة المشهور، من قيادة أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- في بعثه لغزو الشام ومعه أبو بكر، وعمر، وكبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين!.
ونقول: لعلنا قد استعجلنا، ولم ندرك حقيقة الأمر. فعلى صغر سن أسامة - رضي الله عنه - وقد بلغ ثمانية عشر عاماً، ومعه كبار الصحابة كأبي بكر وعمر، وقد تولى قيادة جيش المسلمين لغزو الروم، إلا أن فنون القيادة، ومهارة القتال كانت واضحة عنده.
فمما يرويه الإمام الذهبي عنه : "أنه كان خفيف الروح، شاطراً، شجاعاً، ربّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحبّه كثيراً".
فهذه الصفات التي رواها الإمام الذهبي -رحمه الله- عن أسامة بن زيد، بيّنت لنا كثيراً من الأمور التي نغفلُ عنها عند النظر في تعيين صغار القادة على الكبار.
فأسامة رضي الله عنه كان "خفيف الروح"، يستطيع بهذه النفسية التأثير على الناس، وتحريكهم نحو ما يريد.
كما أنه كان "شاطراً"، فطناً، ذكياً، ألمعياً، فاهماً لمجريات الأمور، ذا إدراك عميق للمواجهات، والتحديات التي تقابله.
وكان "شجاعاً" قوياً، قدوة لإخوانه وقت الأزمات والملمات.
وتربية النبي - صلى الله عليه وسلم - له، تبيّنُ لنا أن هذا القائد أخذ كثيراً من صفات القيادة، عن طريق القدوة، كما أنه تعلّم كثيراً من فنون التعامل، وحسن التوجيه، والتخطيط السليم، والنظر العميق. وهذا ما عناه الإمام الذهبي بقوله عنه: "رباه النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وأضف إلى ذلك جملة الأخلاق الكريمة الفاضلة، والمعاملة الحسنة مع ربه ومن ثم إخوانه.
ومن التأملات في هذه الحادثة أنه عندما نختار القائد الواعي ذا الصفات المؤهلة للقيادة، فإن علينا أن نوكل له مهام القيادة، وإن كان هناك من هو أكبر منه. وقد تكلم الناس في قيادة أسامة رضي الله عنه إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ عليهم ظنّهم السيئ فيه، وعدم قدرته على القيادة.
ومن هنا نرى أنَّ من الخطأ أن نتدخل في أمر القائد، واختياره لبعض الأمور التي قد يخالف فيها إخوانه، وذلك في الأمور الاجتهادية، التي يرجع الحكم النهائي فيها لوجهات النظر. فلا يزال القائد هو الفيصل النهائي لهذه المسائل، ولا يصح أن يُعاتب عليه، في مسائل اجتهادية لا تأثير فيها.
وهنا لا نعني إلغاء أمر الشورى بين القائد ومن معه، كلا، ولكن نعني إعطاء الحرية في عمله القيادي بقدر ما. لذا فإن من الضرورة الاهتمام بتربية النشء الذين يكتسبون صفات القيادة، ويملكون شيئاً منها، وذلك بالتربية المنظمة في درجات القيادة، حتى ينشأ لدينا قياديون مهرة ذوو خبرة وإمرة جيدة.
ـــــــــــــــ(1/114)
كيف تصنعين طفلاً يحمل هم الإسلام؟
تحقيق: أمل المجيش
تعد تربية الأطفال وإعدادهم إيمانيًا وسلوكيًا من القضايا الكبرى التي تشغل حيز واهتمامات الأئمة المصلحين على كرّ الدهور ومر العصور, وإن الحاجة إليها في هذا العصر لهي أشد وأعظم مما مضى، نظرًا لانفتاح المجتمعات الإسلامية اليوم على العالم الغربي حتى غدا العالم كله قرية كونية واحدة عبر ثورة المعلومات وتقنية الاتصالات مما أفرز واقعًا أليمًا يشكل في الحقيقة أزمة خطيرة وتحديًا حقيقيًا يواجه الأمة.
من هنا ... كان هذا التحقيق الذي نسلط فيه الضوء على مشكلات الأطفال والعوامل التي تؤثر بشكل سلبي على سلوكهم وأخلاقهم .. ثم أخيرًا الخطوات العملية التي من شأنها أن تسهم بشكل فعال .. بإذن الله في صناعة طفل يحمل هم الإسلام.
إذا أردنا أن نزرع نبتة .. فإننا نقوم بغرس بذرتها الآن .. ونظل نسقيها ونعتني بها كل يوم .. من أجل شيء واحد .. ألا وهو الحصول على ثمرة حلوة .. تلذ لها أعيننا وتستمتع بها أنفسنا.
ولكن!! ماذا لو كان الهدف أسمى .. والحلم أكبر .. وأبناؤنا .. زهور حياتنا .. أين نحن من صناعة هدف غال وعزيز لمستقبلهم؟! أين الأم من رعاية فلذة كبدها بقلبها الرؤوم ليلاً ونهارًا .. من أجل حلم فجر مشرق .. [ابن وابنة يحملان هم الدعوة بين جنباتهم البريئة] ... يرفعان جميعا راية الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
كم من أم تحمل هذا الهدف .. إن مستقبل أمة الإسلام .. أمانة تحملها كل أم .. كل مرب .. وكل مسؤول عن فلذات الأكباد,لذا قمنا بإجراء تحقيق مع بعض الأمهات، وقد لمسنا فيه سرعة التجاوب معنا في كل أبوابه، وكأننا طرقنا باباً كان ولا شك عند كل أم مفتاحه.
أول سؤال وجهناه إليهن كان: هل أنت ممن يهتمون بتربية أبنائهم تربية صالحة؟
وكم أسعدنا مستوى الوعي الذي وجدناه والذي تمثل في مئة إجابة بنعم من بين مئة استبانة تم توزيعها على الأمهات بمختلف مستويات تعليمهن.
ولأن كل هدف عظيم لا بد فيه من عمل جاد ودؤوب لتحقيقه، سألناهن عن خطواتهن العملية التي اتبعنها لتحقيق هذا الأمل.
معظم الإجابات كانت متمثلة في حث الأبناء بكل جد على القيام بأداء الصلوات الخمس في أوقاتها، مما يعكس مستوى الوعي الذي وصلت إليه الأمهات في الاهتمام بهذه الشعيرة المهمة، وكان الحرص على إلحاق الأبناء بدور التحفيظ له النصيب الأكبر في الاختيار بعد أداء الصلاة ثم الحرص الكبير على اختيار رفقة صالحة للأبناء ومعرفة رفقائهم...
التنشئة المبكرة:
مريم محمد .... 48 سنة .. منذ صغر أبنائي وأنا أشجعهم على الانضمام إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم .. كما أتبع معهم أسلوب معرفة الله سبحانه وتعالى وغرس محبته في أنفسهم .. ودعائي لهم المستمر بالهداية .. كما أشجعهم دائمًا على طلب العلم الشرعي ليتقربوا من الله عز وجل بمعرفة أحكامه.
العبادة الشرعية منذ الصغر:
أم صهيب .. 42 سنة .. أحرص على أداء الصلوات الخمس في وقتها، وبالنسبة للأولاد يبدؤون في تأدية الصلوات الخمس في المسجد من المرحلة الابتدائية .. وأحرص على الرفقة الصالحة لهم سواء داخل المدرسة أو خارجها ... وبناتي ألبسهن الحجاب والعباءة على الرأس من سن مبكرة حتى يتعودن عليها بعد ذلك.
أم وصديقة!!
غادة .. 26 سنة ... تعمل إدارية ..
أولاً: لا بد أن أكون صديقة لأبنائي قبل أن أكون أمهم .. كي أكسبهم ويكون لي تأثير بإذن الله عليهم ..
ثانيًا: أبدء بإصلاح نفسي ... حتى لا يروا مني أي خطأ يهز ثقتهم بي ..وحتى يكون لنصيحتي الصدى الأقوى عليهم .. وأحببهم بأماكن الخير .. وأجعلهم يتعاونون معي لنشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تنافس شريف:
أم عبد العزيز.. 30 سنة: أحرص على تحقيق التنافس فيما بينهم في حفظ بعض السور والأدعية، وأشجعهم عندما يقومون بتصرف حسن .. ليستمروا عليه .. واقتناء بعض الأشرطة التي تعلمهم الآداب الإسلامية وأشتري أقراص الكمبيوتر الهادفة [بابا سلام].. وأحكي لهم قصصًا هادفة مفيدة..
جلسة حوار:
أم عبد الله .. 33 سنة: أجلس مع أبنائي جلسات جوار بناء وأتحدث معهم بكل واقعية ومصداقية عن كل الأمور التي لا يفهمونها .. ولدينا أيضًا جلسات ممتعة على [النت] مع مواقع هادفة تحوي كل ما يهم الأطفال من الأسئلة والقصص.
أساعد أطفالي:
أم محمد .. أزرع الوازع الديني في أطفالي، وأوضح لهم الحلال والحرام والجنة والنار، وأساعد أطفالي على اختيار الصديق المناسب لهم، ودائمًا أستمع إليهم، وأوجههم بدون كلل أو ملل .. وأخاطبهم بصوت هادئ ومنخفض ولا أستخدم العقاب الشديد عند الخطأ.
قدوتهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
زبيدة الصالح 38 سنة معلمة: أربي أبنائي على أذكار الصباح والمساء وأجعلهم يتخذون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة لهم في جميع تصرفاتهم .. وأهذب من سلوكهم سواء داخل المنزل أو خارجه .. وأخيرًا أشتري لهم القصص والأشرطة الدينية الهادفة.
التربية الصالحة أساس تأسيس طفل يحمل هم الإسلام:
ولكن كيف نغرس في أبنائنا حب الدعوة إلى الله؟
أجابت عن سؤالنا الأستاذة فاطمة السابر .. رعاها الله:
جميل أن نغرس حب الدعوة في عروق أبنائنا منذ الصغر، فالدعوة ثمرة من ثمار العلم، والأجمل من ذلك أن نحلق مع أبنائنا ليكونوا دعاة إلى الله يدعون أنفسهم ويدعون الآخرين ... وهذه همسات بسيطة لمن تهفو نفسها لأن ترى أبناءها دعاة صالحين:
1ـ ليكن لديك اهتمام بالتغذية الفكرية الصائبة فالدعوة بلا علم دعوة بلا رصيد، فلا بد أن نغذي الطفل برصيد من المعلومات بقدر ما يحتاجه لكي يثبت في كل خطوة، فالطفلة التي تمتنع عن ارتداء الملابس القصيرة أو البنطال، لا بد أن تعرف لماذا تركتها، وأن تدعو زميلاتها أيضًا إلى ذلك.
2ـ قص القصص من القرآن الكريم والسنة والسلف الصالح، وتذكيرهم بمواقف صغار الصحابة في الدعوة إلى الله .. إضاءات جميلة لها أثرها في نفوس أبنائنا.
3ـ استثمار أوقات الزيارات في عمل برامج مسلية يتخللها مسابقات مفيدة مع توفير هدايا بسيطة يقدمها ابنك للأطفال.
4ـ قد نحتاج لمرافقة أبنائنا في بعض الأماكن كالأسواق والمستشفيات، فما أروع أن نعود أبناءنا توزيع بعض الأشرطة والكتيبات أثناء هذه الجولات.
5ـ ما أجمل أن يتحلق الأطفال [كل حسب جنسه] وأن يكون من بينهم من يقص عليهم ما سمعه من شريط أو ما قرأه من كتيب.... وحتى ينجح الطفل في جذب زملائه فليكن له محاولات في المنزل تقيمينها بنفسك.
6ـ إشراكهم في المكتبات العامة التي تنمي فيهم روح العلم والمعرفة، وبالتالي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
7ـ زيارة المراكز الاجتماعية ودور الأيتام وتقديم الهدايا لإخوانهم .. لها أبلغ الأثر في نفوس الطرفين..
العوامل التي تؤثر سلبًا على تربية الأبناء .. تكتبها الأمهات بأنفسهن:
أـ نجوى .. 43 سنة:
1ـ كثرة التوجيهات والأوامر من غير إقناع ومحبة وكأنها أوامر عسكرية تطبق بلا فهم لأهميتها.
2ـ غياب غرس الرقابة الربانية والخوف من الله .. بحيث يطبق الأبناء العبادات من صلاة ونحوها في حضور الوالدين .. ويفعلون ما يريدون في غيابهم .. مع الأسف.
ب ـ أم إبراهيم:
1ـ الاختلاط السيئ في الأسرة وخارجها.
2ـ الدش والإنترنت.
3ـ السفر للبلاد غير المتمسكة بالإسلام.
ج ـ أم خالد 45 سنة .. ربة منزل:
1ـ القدوة السيئة أمامهم.
2ـ الإهمال وعدم متابعتهم.
3ـ أصدقاء السوء من حولهم، وقد يكونون من القرابة، وهذا يكون تأثيره أقوى عليهم.
وذكرت لنا العديد من الأمهات الأسباب التالية:
1ـ ابتعاد الآباء عن أبنائهم وعدم مصاحبتهم.
2ـ كثرة مشاهدة التلفاز وألعاب [البلاي ستيشن].
3ـ الفراغ وعدم وجود الصديق الصالح.
4ـ عدم الاستمرار على الأمور والعادات الحميدة.
5ـ المجلات والقنوات الفضائية التي تعرض صورًا مثيرة.
6ـ اختلاف الوالدين في طريقة التربية.
7ـ وجود الخدم.
8ـ عدم تفعيل المحاضرات والإعلان عن الأشرطة التربوية التي تسهم في تثقيف الوالدين.
9ـ عدم وجود برامج إعلامية هادفة.
10ـ عدم الاستقرار الأسري وإثارة المشكلات ومناقشتها أمام الأبناء.
11ـ عدم مراقبة الأبناء بشكل دائم، والملل من التوجيه والنصح.
12ـ عدم تثقيف الأبناء بدينهم بالشكل الصحيح.
13ـ تقليد الأبناء لأقرانهم.
14ـ نهي الأبناء عن أمور سيئة، ثم قيام الوالدين بعلمها.
15ـ عدم معرفة رغبات الأبناء، وعدم محاولة التركيز على الجوانب الإيجابية فيها وتنميتها.
ولنا وقفة واقعية مع أطفال بدأت غراس التربية الحميدة تعطي ثمارها فيهم .. فهذا طفل يأمر بالمعروف .. وتلك طفلة تنهى عن المنكر.
لنترك هذه القصص الواقعية تتحدث عن نفسها .. وروعة معانيها:
1ـ سارة 19 سنة، طالبة جامعية: قالت لي أختي الصغيرة موجهة الخطاب لي: كل شيء في غرفتك جميل ... ما عدا هذه الصورة التي تمنع الملائكة من دخول الغرفة .. حقًا كان وقع كلماتها البريئة عليَّ كبيرًا في نفسي.
2ـ صديقة لي كانت تحكي لطفلها عن امرأة إفريقية تعمل عندهم وتحاول أن تتكلم بطريقتها... وبعد هذه القصة بفترة قال لها الطفل أحكي لي الحكاية مرة أخرى، وكانت المرأة موجودة .. في نفس المكان .. فأشارت الأم إليها بعينها .. أي قالت له: عندما لا تكون موجودة .. فقال الطفل: حرام يا ماما .. أنا وأنت الآن .. ندخل في الآية: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
3ـ وفي نفس الموضوع تروي لنا أشراق أحمد 22 سنة، أنها كانت تتحدث مع امرأة من أقاربها وكانت هذه تغتاب وتكذب، فرد ابنها الصغير وقال لها: يا أمي لا تكذبي فالكلام الصحيح كذا وكذا [من كذب تكتب عليه سيئة].
4ـ طفلة صغيرة كان تتمشى مع أبيها بالسيارة رأت بجانبها سيارة كان سائقها يدخن فتحت نافذة السيارة، وقالت للرجل: [عيب، الدخان حرام ... استحي من ربك]. فرمى الرجل السيجارة .. هذه الطفلة لا يتعدى عمرها الثلاث سنوات.
5ـ الجوهرة معلمة 42 سنة .. بالنسبة لي ابني دائمًا ينهر أخته الكبرى ويأمرها بالحجاب الشرعي .. وعدم لبس الملابس الضيقة.
6ـ مريم محمد تحدثنا عن موقف رائع لن تنساه .. حيث كانت في زيارة لإحدى صديقاتها .. وأرادت إحدى الزائرات أن تضع شريطًا غنائيًا فقام أحد أطفال المضيفة، ورمى بالشريط الغنائي ووضع بدلاً منه شريط القرآن .. أثار هذا الموقف إعجابي به .. ما شاء الله.
7ـ أثير 17 سنة طالبة مرة كنت أشوف الدش .. فضغطت على قناة كلها أغانٍ .. وكان معي بنات عمي الصغار جاءت بنت عمي وعمرها خمس سنوات تريد أن تخرج من الغرفة، قلت لها: سارة أين تذهبين؟ قالت لي: أريد أن أخرج: قلت: لماذا؟ ردت: لا أريد أن أسمع أغاني وأنت الله يدخلك النار لأنك تسمعين أغاني .. كانت بمعنى كلامها تريد مني أن أغير هذه القناة.
لقطات سريعة:
ـ طفلة صغيرة تدخر من مصروفها الشخصي وتودعه في صناديق التبرعات وتحث من هم أكبر منها على هذا العمل.
ـ طفل كلما فتح أبوه التلفاز، يطلب منه أن يخفض صوت الموسيقى عند الفاصل، وبعدم النظر إلى النساء.
ـ خلود في الصف الرابع رأت صديقتها لا تعرف كيف تؤدي الصلاة .. فوجهتها للمصلى وعلمتها كيف تؤديها .. ثم جاءت إلى أمها وسألتها ماما .. أنا لي أجر في ذلك؟
فقالت لها الأم: نعم, وشجعتها كثيرًا على ذلك.
ـ طفل نصح أقاربه الأولاد بعدم سماع الغناء .. وقرأ عليهم الآية الكريمة {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فقالوا: ينقصك ما شاء الله لحية.
ـ أم خلود .. سألتني ابنتي عن إحدى قريباتي هل هي من أوروبا؟ قلت لها: لا! بل هي مسلمة مثلنا .. فقالت: لماذا لا تغطي وجهها إذا كانت مسلمة!! هذا الذي تعلمته منك ومن المدرسة .. فذهبت إليها وقالت لها: إذا كنت مسلمة غطي وجهك .. لأن إظهار الوجه من التشبه بالكافرات، وأنت مسلمة.
لقاء مع طفل:
لقاء مع طفل بدأ يحمل هم الإسلام في قلبه، ويدعو إلى الله .. عن تجربة البداية .. بدأ أسيد معنا هذا اللقاء..
اسمي .. أسيد قاضي .. عمري إحدى عشرة سنة .. أدرس في الصف الخامس .. وأحفظ من القرآن الكريم ثلاثة وعشرين جزءًا ولله الحمد.
ـ من شجعك على طلب العلم؟
أسيد: بفضل الله ثم بفضل أبي وأمي وكذلك مدرستي.
ـ من تصاحب يا أسيد وكيف تؤثر في الآخرين؟
أصاحب الناس الطيبين .. وأؤثر في الآخرين بأن أنصحهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأبين لهم طريق الخطأ، وأضع في بالي أنه إن استجابوا لي فسوف آخذ أجرهم ولا ينقص من أجورهم شيئًا لأن الدال على الخير كفاعله.
ـ وما هو هدفك في الحياة؟
طاعة الله ورسوله لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ـ وأخيرًا ما هي أمنيتك؟
أن أصبح إمام مسجد لأن الله تعالى يقول: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فإني أسأل الله أن يجعلني إمامًا للمتقين.
وبع تلك الجولة المتميزة مع تلك النماذج الرائعة، التي نسأل الله لها التوفيق والاستمرار على طريق الدعوة، لتكون نبراسًا شامخًا لهذه الأمة ودعاة صالحين في المستقبل .. كان للأستاذة أسماء الرويشد .. حفظها الله هذا التعليق على هذا التحقيق:
توظيف قدرات الطفل لخدمة دينه:
من الضروري أن يهتم المربون بمساعدة الطفل على أن يفهم نفسه، وعلى أن يستعمل إمكاناته الذاتية وقدراته المهارية واستعداداته الفطرية، لتحقيق إسلامه وخدمة دينه، فيبلغ بذلك أقصى ما يكون في شخصيته الإسلامية وفاعليته الاجتماعية.
إن تربية الطفل التربية الإسلامية الصحيحة هي التي توظف طاقات الطفل لكي يمارس تأثيره في مجتمعه وفق ما تعلمه وعمل به من دينه؛ إذ لا بد أن يوجه الطفل لعبادة الله وحده، وهو أول ما يجب عليه أن يتعلمه ويلتزم بأدائه. ثم توجيه طاقاته إلى أداء حقوق الآخرين والإحسان إليهم، مع تعويده على ممارسة الدعوة إلى ما تعلمه وفهمه، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الطفل إذا شب ودأب على ممارسة الدعوة إلى الله على حسب فهمه واستيعابه، وهو حصيلة تربيته الدينية، فبعون الله وتوفيقه يجني الآباء والأمهات ثمرات ذلك ناشئًا مؤهلاً للقيام بأعباء الدعوة حاملاً هم الإسلام والمسلمين... فالأطفال متى ما تربوا على هذا الدين قادرون على أن يمارسوا مهمة الدعوة مع أقرانهم وزملائهم وإخوانهم وأسرهم، بل حتى في الطريق كما في موقف الطفلة مع المدخن.
لكن ينبغي للمربين أن يوضحوا للأطفال مفهوم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان آدابه وأساليبه اللائقة، حتى لا يقعوا في حرج المواقف الصعبة، وتذكيرهم بالأجر والصبر إن حصل شيء من ذلك، مع مراعاة عدم إشعارهم بالتخذيل والتخويف من القيام بتلك المهمة.
المصدر : مجلة المتميزة
ـــــــــــــــ(1/115)
صفة لباس الرجل والمرأة أمام أولادهم
كنت كتبت حول مسألة لباس المرأة بين النساء وأمام المحارم ، ثم كتبت إحدى الأخوات تسأل عن صفة لباس الرجل والمرأة أمام أولادهم .
فأقول :
لا عجب أن يهتم الإسلام بالأولاد صغاراً كانوا أم كباراً ، فالإسلام دين الكمال .
دينٌ كامل كمّله الله ، وامتنّ على هذه الأمة بكمال الدِّين ، وبتمام النّعمة ، فقال الله جل جلاله :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ )
قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أي آية ؟ قال :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ )
قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة . رواه البخاري ومسلم .
فَدِين الله عز وجل تضمّن ما يهم المسلم في جميع مناحي الحياة ، دقّها وجلّها ، جليلها وحقيرها
بل نظّم الإسلام علاقة الإنسان بالحيوان !
وحول هذا الموضوع جاء التوجيه الرباني في قوله عز وجل :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن . فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولاحجال في بيوتهم ،فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ، ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .
قال ابن كثير رحمه الله : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما .
ثم جاء التوجيه الرباني :
( وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته ، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث . قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : إذا كان الغلام رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال ، وهكذا قال سعيد بن جبير ، وقال في قوله
( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه . انتهى .
وقال ابن الجوزي رحمه الله : فالبالغ يستاذن في كل وقت ، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث .
فالخطاب بالنسبة للأطفال توجّه للأبوين .
قال القرطبي رحمه الله :
( لِيَسْتَأْذِنكُمُ ) لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين . اهـ .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذنه حتى يُصلي الغداة ، واذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك .
ولأن الطفل لو رأى شيئاً مما يقع بين الزوج وزوجته لرسخ ذلك في مُخيّلته ، ولكان له الأثر السلبي على حياته ، إذ أنّ أمه وأباه هم القدوة في حياته ، ثم يراهم على ذلك الوضع !
فيجب أن يُعوّد الأطفال على ذلك ، وأن يؤمروا أن لا يدخلو غرفة نوم والديهم إلا بعد الاستئذان ، وقرع الباب ، فإن أُذِن له وإلا فليرجع ولا يدخل .
يقول الأستاذ عدنان با حارث في كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة :
ويحذر الأب كل الحذر من نوم الولد بعد السنة الأولى من عمره في غرفة نومه الخاصة به مع أهله ؛ خشية أن يرى الولد ما يكره من العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة . اهـ .
وأما اللباس المعتاد للرجل في بيته ، فهو ما يستر عورته ، وإذا كان مِن عادته أن يُخصص للبيت لباساً فليحرص أشدّ الحرص على أن يكون اللباس ساتراً للعورة ، أو أن يلبس تحته ما يستر العورة ؛ لأن الطفل إذا شاهد تساهل والده في ستر العورة حذا حَذوه ، وسار بسيره ، وربما يُفاجأ الأب في يوم من الأيام إذا انتهر طفله ( ذكراً أو أنثى ) آمراً إياه أن يستر عورته ، ربما يُفاجأ بما لم يكن في حسبانه من ردّ الطفل : وأنت تفعل هذا !
يعني أنك محلّ قدوة ، وتفعل هذا !
وكيف تنهى عن أمر أنت تفعله ؟!
وربما ظن بعض الآباء أن الطفل لا يُدرك ، ولكن لو ألقى سمعه لبعض همسات طفله لمن هم في مثل سِنِّه لسمع ما لم يكن يتوقعه !
فالطفل شديد العناية بتصرفات والديه ، دقيق الملاحظة لكل ما يصدر منهما .
وأما لباس المرأة فإنه يجب أن يكون أشدّ عند الصغار ؛ لأنهم ربما نقلوا ما اطّلعوا عليه من عورات النساء !
قالت أم سلمة رضي الله عنها : دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي مخنث ، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان ، فإنها تُقبل بأربع وتُدبر بثمان ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل هؤلاء عليكم . رواه البخاري ومسلم .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث ، فكانوا يَعدّونه من غير أولي الإربة . فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة . قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا ! لا يدخلن عليكن . قالت : فحجبوه .
قال الإمام البخاري : تقبل بأربع وتدبر : يعني أربع عِكن بطنها ، فهي تُقبل بهن ، وقوله : وتدبر بثمان : يعني أطراف هذه العكن الأربع ؛ لأنها محيطة بالجنبين حتى لَحِقَتْ .
فهذا من غير أولي الإربة من الرجال ، ومع ذلك تفطّن لما يتفطّن له الرجال ، وانتبه لما ينتبه له الرجال عادة !
وفي هذا إشارة وتنبيه إلى بعض النساء اللواتي يتساهلن في اللباس أمام الأطفال !
فقد تتساهل المرأة في لباسها في بيتها بحجة أنها في بيتها ، وأمام زوجها تُريد أن تتزيّن له ، وهي لا تشعر بلحظ الأطفال لكل حركة وسكنة !
أو في حال رضاع الصغير ، ونحو ذلك .
وربما تحدّث الطفل عند الكبار مما رأى !
إن بإمكان المرأة أن تتجمّل لزوجها وأن تتزيّن له في غرفة نومه ، حفاظاً على مشاعر الأطفال الذين ربما أثّر فيهم ما يرون من تساهل أمهم باللباس ، وربما ورِثته البنت عن أمها.
ومما تتساهل به بعض الأمهات أن تخرج من غرفتها إلى دورة المياه أحياناً شبه عارية ، غير مُبالية بنظرات الصغار ، وربما نظرات احتقار وازدراء !
ورأى طفل سوءة امرأة لم تهتم به بحجة أنه طفل ، فجاء يُحدّث أهله بما رأى وقد اجتمعوا على العشاء ! ثم شبّه سوءة تلك المرأة بسوءة أخته التي كانت هي الأخرى لا تهتم بنظر الطفل الصغير !
فأخذت تحثو التراب في وجهه ، وكانت أحق به وأولى !
وشاب دخل البيت نهاراً فرأى ما لا يسرّ من علاقة أبيه بأمه ! فلما اجتمعوا في الليل : سأل أباه عما كان يفعل بأمه ؟! فأخذت أمه تحثو عليه التراب !
لقد كانوا في غنى عن ذلك السؤال !
وربما يظن بعض الناس أن الطفل لا ينتبه ، بينما هو شديد الملاحظة ، حادّ النّظرة ، ربما يَخزن المعلومات فتكون الفضيحة وقت إبراز ذلك المخزون !
وربما تمنّت المرأة أو تمنّى الرجل وقتها أن الأرض انشقّت وابتلعته ولم يسمع عَرْضَ تلك الفضيحة ، ولم يسمع ذلك القول على الملأ !
الطفل فطرته سليمة ، فيجب أن تبقى على هذا النقاء ، وأن يُحافظ على ذلك الصفاء ، لا كما يدعو إليه من لا خلاق له بوجوب تعليم الأطفال الجنس ، ويزعمون أنه من باب تثقيف الأطفال !
ولذلك في المدارس الأوربية - غالباً - لا توجد أبواب للمراحيض في المدارس !
فيذهب الحياء ويذهب معه كل خُلُق فاضل ، وينشأ الذكور والإناث على حياة بهيمية لا تُتستر فيها عورة ، ولا يُستحيا فيها من إبداء سوءة !
إن لباس نساء سلف هذه الأمة في البيوت يُغطي الساقين والذراعين ، ولا يظهر منها إلا ما يظهر حال المهنة والخدمة ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
ثم ليتذكّر المسلم والمسلمة أن الله ستّير يُحب الستر
ففي المسند والسنن من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك . فقال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال : إن استطعت أن لا يراها أحد فأفعل . قلت : والرجل يكون خاليا ؟ قال : فالله أحق أن يستحيا منه .
كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
ـــــــــــــــ(1/116)
التربية الدينية للأطفال
خولة درويش
لقد أثبتت التجارب التربوية أن خير الوسائل لاستقامة السلوك والأخلاق هي التربية القائمة على عقيدة دينية.
ولقد تعهد السلف الصالح النشء بالتربية الإسلامية منذ نعومة أظافرهم وأوصوا بذلك المربين والآباء؛ لأنها هي التي تُقوّم الأحداث وتعودهم الأفعال الحميدة، والسعي لطلب الفضائل.
ومن هذا المنطلق نسعى جميعا لنعلم أطفالنا دين الله غضاً كما أنزله تعالى بعيدا عن الغلو، مستفيدين بقدر الإمكان من معطيات الحضارة التي لا تتعارض مع ديننا الحنيف.
وحيث أن التوجيه السليم يساعد الطفل على تكوين مفاهيمه تكويناً واضحاً منتظماً، لذا فالواجب إتباع أفضل السبل وأنجحها للوصول للغاية المنشودة:
1- يُراعى أن يذكر اسم الله للطفل من خلال مواقف محببة وسارة، كما ونركز على معاني الحب والرجاء "إن الله سيحبه من أجل عمله ويدخله الجنة"، ولا يحسن أن يقرن ذكره تعالى بالقسوة والتعذيب في سن الطفولة، فلا يكثر من الحديث عن غضب الله وعذابه وناره، وإن ذُكر فهو للكافرين الذين يعصون الله.
2- توجيه الأطفال إلى الجمال في الخلق، فيشعرون بمدى عظمة الخالق وقدرته.
3- جعل الطفل يشعر بالحب "لمحبة من حوله له" فيحب الآخرين، ويحب الله تعالى؛ لأنه يحبه وسخر له الكائنات.
4- إتاحة الفرصة للنمو الطبيعي بعيداً عن القيود والكوابح التي لا فائدة فيها..
5- أخذ الطفل بآداب السلوك، وتعويده الرحمة والتعاون وآداب الحديث والاستماع، وغرس المثل الإسلامية عن طريق القدوة الحسنة، الأمر الذي يجعله يعيش في جو تسوده الفضيلة، فيقتبس من المربية كل خير.
6- الاستفادة من الفرص السانحة لتوجيه الطفل من خلال الأحداث الجارية بطريقة حكيمة تحبب للخير وتنفر من الشر.
وكذا عدم الاستهانة بخواطر الأطفال وتساؤلاتهم مهما كانت، والإجابة الصحيحة الواعية عن استفساراتهم بصدر رحب، وبما يتناسب مع سنهم ومستوى إدراكهم، ولهذا أثر كبير في إكساب الطفل القيم والأخلاق الحميدة وتغيير سلوكه نحو الأفضل.
7- لابد من الممارسة العملية لتعويد الأطفال العادات الإسلامية التي نسعى إليها، لذا يجدر بالمربية الالتزام بها "كآداب الطعام والشراب وركوب السيارة..." وكذا ترسم بسلوكها نموذجاً إسلامياً صالحاً لتقليده وتشجع الطفل على الالتزام بخلق الإسلام ومبادئه التي بها صلاح المجتمع وبها يتمتع بأفضل ثمرات التقدم والحضارة، وتُنمي عنده حب النظافة والأمانة والصدق والحب المستمد من أوامر الإسلام.. فيعتاد أن لا يفكر إلا فيما هو نافع له ولمجتمعه فيصبح الخير أصيلاً في نفسه.
8- تستفيد المربية من القصص الهادفة سواء كانت دينية، واقعية، خيالية لتزويد أطفالها بما هو مرغوب فيه من السلوك، وتحفزهم على الالتزام به والبعد عما سواه.
وتعرض القصة بطريقة تمثيلية مؤثرة، مع إبراز الاتجاهات والقيم التي تتضمنا القصة، إذ أن الغاية منها الفائدة لا التسلية فحسب.
وعن طريق القصة والأنشودة أيضاً تغرس حب المثل العليا، والأخلاق الكريمة، التي يدعو لها الإسلام.
9- يجب أن تكون توجيهاتنا لأطفالنا مستمدة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ونشعر الطفل بذلك، فيعتاد طاعة الله تعالى والإقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم - وينشأ على ذلك.
10- الاعتدال في التربية الدينية للأطفال، وعدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به، والإسلام دين التوسط والاعتدال، فخير الأمور أوسطها، وما خير الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
ولا ننسى أن اللهو والمرح هما عالم الطفل الأصيل، فلا نرهقه بما يعاكس نموه الطبيعي والجسمي، بأن نثقل عليه التبعات، ونكثر من الكوابح التي تحرمه من حاجات الطفولة الأساسية، علما أن المغالاة في المستويات الخلقية المطلوبة، وكثرة النقد تؤدي إلى الجمود والسلبية، بل والإحساس بالأثم".
11- يترك الطفل دون التدخل المستمر من قبل الكبار، على أن تهيأ له الأنشطة التي تتيح له الاستكشاف بنفسه حسب قدراته وإداركه للبيئة المحيطة بها وتحرص المربية أن تجيبه إجابة ميسرة على استفساراته، وتطرح عليه أسئلة مثيرة ليجيب عليها، وفي كل ذلك تنمية لحب الاستطلاع عنده ونهوضا بملكاته. وخلال ذلك يتعود الأدب والنظام والنظافة، وأداء الواجب وتحمل المسؤولية، بالقدوة الحسنة والتوجيه الرقيق الذي يكون في المجال المناسب.
12- إن تشجيع الطفل يؤثر في نفسه تأثيراً طيباً، ويحثه على بذل قصارى جهده لعمل التصرف المرغوب فيه، وتدل الدراسات أنه كلما كان ضبط سلوك الطفل وتوجيهه قائماً على أساس الحب والثواب أدى ذلك إلى اكتساب السلوك السوي بطريقة أفضل، ولابد من مساعدة الطفل في تعلم حقه، ماله وما عليه، ما يصح عمله وما لا يصح، وذلك بصبر ودأب، مع إشعار الأطفال بكرامتهم ومكانتهم، مقروناً بحسن الضبط والبعد عن التدليل.
13- غرس احترام القرآن الكريم وتوقيره في قلوب الأطفال، فيشعرون بقدسيته والالتزام بأوامره، بأسلوب سهل جذاب، فيعرف الطفل أنه إذا أتقن التلاوة نال درجة الملائكة الأبرار.. وتعويده الحرص على الالتزام بأدب التلاوة من الاستعاذة والبسملة واحترام المصحف مع حسن الاستماع، وذلك بالعيش في جو الإسلام ومفاهيمه ومبادئه، وأخيراً فالمربية تسير بهمة ووعي، بخطى ثابتة لإعداد المسلم الواعي.
ـــــــــــــــ(1/117)
أسرة الداعية كيف ينبغي أن تكون ؟
هناك أمور كثيرة وملحّة لطرح مثل هذا الموضوع قد تأتي الإشارة إليها ...
لكن من المهم الذي ينبغي أن نعرفه أن الداعية لا بد أن يكون متميزاً في أسرته متميزاً في التعامل معهم ، متميزاً في اختيار أسرته ، تميّزا لا يخرجه عن المألوف أو عن الحدود الشرعية وإنما تميزا في ظل الشريعة الغراء ، فإن أهل السنة قلّة في الناس ، والدعاة منهم الى الحق قلّة فيهم ، لذلك لزم تميّزهم عن غيرهم لا لذواتهم وإنما للحق الذي معهم الذي يدعون إليه ..
وهذه سلسلة حول موضوع : أسرة الداعية ، ومهمّات الداعية إلى الله تجاه أسرته :
الحلقة الأولى : أهمية الأسرة المسلمة - عموماً _ الأسرة مملكة مصغّرة ، هي نواة المجتمع وأساسه ، باستقرار الأسرة تستقر أحوال المجتمعات ، وبصلاحها صلاح الأمم ، وبفسادها فساد المجتمع . ولأجل ذلك عظّم الله شأن الأسرة ورفع مكانتها .
والداعية إلى الله بحاجة إلى أن يعيش حياة الاستقرار التي تعينه على القيام بأعباء دعوته ، والاستمرار في خدمة عقيدته ، وحتى يكون كذلك فقدكان الزواج سبيلاً وطريقاً هنيئاً مريئاً - لمن يسره الله له - لأن يعيش الداعية حياة العطاء المستمر والعمل الدؤوب ،حيث يجدمن يشاطره همّه ، ويبادله أمره وشأنه .
أهمية الأسرة تكمن في أمور :
1 - أن الناكح يريد العفاف يسهل له أمره : ومن هنا ندرك الحكمة في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه - بأبي هو وأمي - :" ثلاثة حق على عونهم.. .... -وذكر منهم -: الناكح يريد العفاف .." ، والله جل في علاه قد قال في كتابه : " .. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله .." عهد على الله ووعد منه لمن أراد النكاح للعفاف أن ييسره الله عليه ، وذلك مما يدل على أهمية العناية بالأسرة من جهة الشريعة .
2- أن الله جل وتعالى بيّن في كتابه الهدف الأسمى من النكاح وذلك في قوله : " وجعل بينكم مودة ورحمة .." فالنكاح لا لإشباع الغريزة السبعية في الإنسان وإنما لتحقيق " المودة والرحمة " بكل ما تعنيه هذه الصفات .
3 - أن الله جل وعزّ عظّم شأن الأسرة فأنزل سورة كاملة بيّن فيها الحقوق الأسرية من حين تكوينها إلى ما يكون بعد انتهاء أحد طرفيها ( بالموت ) ،وذلك في سورة عظيمة اسمها سورة النساء ، وقد افتتحها الله تعالى بقوله : "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " ، وللأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله كلام نفيس حول هذه الآية فلينظر إليه .
وإتماما لرعاية حق الأسرة فقد أنزل سورة أخرى تسمى ( بالنساء الصغرى ) بيّن فيها ما يتعلق بالأسرة إذا انتهت ( بالطلاق ) ، فأنزل هذه السورة العظيمة ، ولشدة رعاية أمر الأسرة فقد كرر الله فيها الأمر بالتقوى في أكثر من خمس مرات ، ويعيد ويذكّر بالتقوى في أكثر من أربعين موضعاً - تلميحاً - في السورة نفسها على قصر آياتها ،وكل ذلك تعظيماً لشأن هذه الأسرة والحفاظ عليها ،ولعل الإنسان حين يقرأ قول الله تعالى ك" وكأيّن من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذّبناها عذاباً نكرا ، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً .." يستغرب وله أن يتساءل ، ما علاقة ضرب هذا المثل في معرض الكلام حول الطلاق وما يتعلق به ، والناظر المتأمل يجد في الآية قوة في الأمر بالحفاظ على الأسرة ، وبيان ذلك:
أن الله جل وعز يذكّر الرجل الذي جعل الله في يده القوامة والأمر ، بأن يحسن عشرته مع زوجه التي هي ( أسيرة بين يديه ) فإن أحسن شأنها وأمرها فإن الله يبارك له ، أما إن تسلّط وتجبّر مستغلا ما أعطاه الله من السلطة والأمر ، فإن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر ، فكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فلم تلتزم أمر الله ورسله فإن الله يحاسبها حساباً شديدا ، وفي هذا أمر شديد ووعيد رهيب في تضييع الأسرة وتفككها دون أي مسبب شرعي ، وتلك حكمة من الله بالغة .
الحلقة الثانية من الموضوع : أهمية الاستقرار الأسري بالنسبة للداعية .
الداعية الى الله الصادق في دعوته بحاجة إلى من يعينه على أعباء الدعوة ومتطلباتها ، وحين يكون هذا المعين قريباً من الداعية كان ذلك أسكن لنفسه وأقر لعينه ، ولذلك لما بعث الله موسى عليه السلام إلى فرعون قال : " رب اشرح لي صدري . ويسر لي أمري . واحلل عقدة من لساني . يفقهوا قولي . واجعل لي وزيراً من أهلي . هارون أخي . أشدد به أزري . وأشركه في أمري . كي نسبحك كثيراً . ونذكرك كثيراً . "
ويعجب المتعجب حين يقرأ هذا الكلام الرباني ، ويقرأ فيه تعطف موسى عليه السلام ورجاءه ربه أن يجعل له وزيراً من أهله . لماذا ؟
لشدّ الأزر ، وتكون النتيجة : " كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً "
الداعية إلى الله في قلبه همّ عظيم ، هم الدعوة وإيصال الخير للناس ،وهذا الهمّ قد يتملك لب الداعية ووقته وجهده ، فحين يجد من يسنده ويؤيده يبارك الله له في عمله وجهده .
وتبرز أهمية الأسرة بالنسبة للداعية في أمور :
1 - أن الأسرة توفّر للداعية الصادق نصف الجهد ، وتعينه على النصف الآخر .
2- يُبرز أهمية الأسرة للداعية قصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه جبريل عليه السلام في الغار وضمه إليه ، فجاء إلى خديجة رضي الله عنها فأخبرها الخبر ، فهدأت من روعه ، وطمأنت نفسه ، وسعت في تفريج ما حلّ بزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الحقيقة أن هذه القصة بحاجة إلى مزيد تأمل وخصوصاً من زوجات الدعاة إلى الله وذلك لاستخراج درر الدروس ونفائس العبر من هذه الحادثة التي كانت بداية الجهاد والدعوة ، والوقوف على أهمية الدور المنشود من الزوجة الداعية .
دواعي طرح الموضوع :
1 - أن الأسرة هي مملكة الداعية الأولى ومنطلقه ، ( وانذر عشيرتك الأقربين ) ، فحين تصحّ هذه المملكة ، ويستقيم أمرها فإنها تصير مدرسة للدعاة .
2 - انشغال كثير من الدعاة إلى الله بدعوة الناس والسعي في مصالح العباد ،وإهمال الأسرة من زوجة وأولاد ، فزوجات الدعاة إلى الله من أشقى الناس بأزواجهم - إلا من رحم الله وقليل ما هم _ في بيت الداعية لا تعرف الزوجة أبجديات في أمور دينها ، في بيوت الدعاة شباب حيارى وبنات متسكعات - إلا من رحم الله - ... في بيوت الدعاة ..........
فكم تسمع عن أبناء الدعاة أنهم من أبعد الناس عن الله - وغالباً ما يكون ذلك بتفريط الدعاة أنفسهم في حقوق أبنائهم - . سيأتي مزيد بيان لهذه النقطة .
ولذلك صار من الأهمية بمكان طرح مثل هذا الموضوع تنبيها للغافل ، وتحذيراً من عواقب إهمال الأسرة وجعلها في مهب الريح .
3 - قلّة العناية بطرح مثل هذا الموضوع من قبل المختصين ، من الموجهين والمربين والدعاة .
4- كثرة المشاكل الأسرية في بيوت الدعاة ، وعدم استقرار الحياة الزوجية في بيوت الدعاة إلى الله ، مما ينعكس سلباً في أداء الداعية .
5- أن بعض المحسوبين على الدعوة والدعاة يدخلون إلى الحياة الزوجية على جهل بأعباء هذه الحياة ومتطلباتها ، وعدم تقدير لمسئولية الأسرة مما ينتج عنه مشاكل أسرية .
6 - التساهل في أداء الحقوق الزوجية ، أو تضييعها بحجة الانشغال بالدعوة وأعمال البر . - وخصوصاً بعد دخول هذه الشبكة العنكبوتية داخل البيوت ، فكم يقض الداعية خلف هذه الشاشة من الوقت وعلى حساب من ؟ _
فهل يصح أن نسوّغ ضياع الأبناء ، وجهل الزوجات بالانشغال بالدعوة ؟؟!
7 - ومن أهم دواعي طرح هذا الموضوع - في المقابل - أننا صرنا نرى ونسمع أن الزواج صار مقبرة للدعاة فكم من داعية نشيط ، دؤوب العمل ، لا يمل ولا يكل ، فلما تزوج قيل : ( مات في أحضان زوجته ) فما تراه عن العمل إلا معتذراً أو متهرباً ، يتحجج بمشاغل الأهل ومسئولية البيت ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان له من الأزواج تسع ، ومع ذلك فقد كان وسطاً في الأمور كلها .فداه أبي وأمي .
وكذلك الأمر ينطبق على الداعيات من النساء ، ما إن تتزوج حتى تتخفف من مسئولية العمل لهذا الدين ، في الأمس كانت لها الصولة والجولة ، واليوم يُترحّم عليها في عداد المفقودات من ساحة العمل الدعوي .
فيا أيها الدعاة إلى الله ( رجالا ونساءً ) انتبهواااااا واستيقضوا !!
لهذه الأسباب ولغيرها كان طرح هذا الموضوع مهماً جداً بالنسبة للدعاة ،والعناية به من آكد ما ينبغي أن يعتنى به في هذه الأزمان ، لأننا صرنا وللأسف نشهد ظاهرة سيئة وهي أن بيوت الدعاة صارت تخرّج المخربين من طائشين ، وحملة مبادئ هدامة _ نسأل الله الحماية _ وهذا مما يؤسف له والله المستعان .
والكلام في هذا الباب يأخذ محورين أساسين .
المحور الأول : التعامل بين الزوجين .
المحور الثاني : تربية الأبناء .
وسيأتي تباعاً بيان ذلك .
الحلقة الثالثة : مقومات شخصية الزوج .
قبل الشروع في بيان محوري الأسرة الناجحة ، لا بد من هذه التقدمة المهمة التي نبيّن فيها مقومات أساسية لابد وأن تتوفر في شخصية الزوج حتى يكون أهلاً للقوامة التي كلفه الله بها ، وحين يتخلف أحد هذه المقومات تتأخر السعادة الزوجية والاستقرار الأسري على قدر تخلف هذه المقومات . وهي سبع مقومات :
المقوّم الأول : القدوة .
ومعناها وحقيقتها : أن يوافق الفعل القول ، وهو المعنى الذي أشار الله اليه بقوله : " يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لاتفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقووا ما لا تفعلون "
فاقتران الفعل للقول أبلغ في التأثير ، وأدعى للإستجابة والتوقير .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة في ذلك ، فما كان يأمر بأمر إلا كان أسبق الناس إلى تطبيقه والعمل به .
وذلك كثير في السنة النبوية ، ولنأخذ مثلاً واحداً من السيرة يبيّن أثرالقدوة وتأثيرها على النفس :
المثال هو : ما حصل في يوم الحديبية حين أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بأن يحلوا ، ويحلقوا رؤوسهم فتأبوا عليه ، فدخل منزعجاً إلى زوجه أم سلمة رضي الله عنها وذكر لها ما يجد من أصحابه ، فقالت له : أخرج فأمر الحلاق أن يحلق لك رأسك .. ففعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ففعل الصحابة بعده لفعله واقتداءً به - صلى الله عليه وسلم - .
هذا المثل يبيّن لنا أثر القدوة على نفس الآخرين ، وكيف أن القدوة من أسهل الطرق لكسب الآخرين واقناعهم بما تقول .
ولذلك ينبغي على الزوج أن يكون قدوة في بيته ، قدوة تقتدي به زوجه وأبنائه ، وحين يكون الزوج كذلك فإنه يكبر في عين من هم حوله ( زوجه وبناته وابنائه ) ، وحينها يسهل التأثير عليهم وتربيتهم تربية صالحة .
محترزات .
وهنا ينبغي على الزوج أن يحترز من محترزات تخل بالقدوة ، وهذه المحترزات تأخذ مظاهراً عدّة في حياتنا اليومية منها :
- الأمر بالمعروف من ( صلاة ، أو ذكر ، أو توجيه ...) وعدم فعله ، والأدهى من ذلك أن يأتي ما ينهى عنه فكيف تستقيم زوجة لزوجها حين يأمرها بالصبر - مثلاً - لكنه في الواقع يسخط ويزفر حتى من أتفه الأسباب والأحوال ، كم من زوج هجر زوجته لأجل أنها لم تحسن كي ( الغترة أو الشماغ ) ، أو أنها ما أصلحت الطعام ، أو لأنها أتلفت أثاثاً أو .. ، ومن أعجب ما سمعته في هذا : زوج محسوب على المربين والدعاة يأمر أهله بالصلاة والمحافظة عليها ، ثم لما توقظه زوجه للصلاة يسخط عليها وينفر حتى صارت تتحرج من إيقاظه للصلاة ... ، وغير ذلك من مظاهر الإخلال بالقدوة في الأمر والنهي ، والكلام في ذلك مع الأبناء أغص وأمرّ والواقع شاهد على ذلك .
- عدم تزكية النفس وترقيتها في سلم الكمال البشري ، والاكتفاء بالحال على ما هو الحال ، والشعار : ليس بالامكان أكثر مما كان .. وهنا مشكلة يجب أن يتنبه لها أهل الدعوة ، وخصوصاً في هذه النقطة ، وذلك حين يجد الرجل من زوجته أنها تقارنه بفلان من الناس ، وأن فلاناً أحسن منه علما وتديناً وحرقة على دينه ، وعملا لأجل دعوته ومبادئه ، فإذا وصلت الزوجة إلى هذه المرحلة فهي مرحلة خطرة على استقرار الحياة ، والواجب على الزوج هنا أن يكون محل قدوة لزوجته لا أن يكون غيره من أصحابه وخلانه مكان القدوة لها ، ومن هنا يلزم الزوج أن يجاهد نفسه في الترقي ، والتزكية لا لهذا الغرض فحسب بل تقوى لله ورغبة فيما عنده ودفعاً لما قد يكون سبباُ من أسباب التفكك الأسري ، فإن المرأة بطبعها - بل البشر عموماً - يعجبون بالانسان العامل الذي يترقى في سلم المال البشري ، ومن هنا كان من مظاهر الإخلال بالقدوة العجز والكسل عن تزكية النفس والترقي بها . فكيف يريد الداعية من زوجته أن تكون داعية فاضلة بين بنات جنسها ، وهو ليس كذلك ..- والله المستعان - .
المقوّم الثاني : المودة والرحمة والمحبة .
وهذا المقوم سر من أسرار الزواج الناجح ، وسر من أسرار الأسرة المستقرة الفاعلة ، ولذلك جعل الله هف الزواج تحقيق هذه المودة والرحمة بين الزوجين .
وهذا المقوّم مهم في باب إقناع الزوجة وكسب قلبها ، والداعية الصادق بحاجة إلى أن يكسب قلب زوجه ، وأن يجعلها أشد اقناعاً بما هو عليه .
كثيراً ما تتذمر زوجات الدعاة من كثرة انشغال أزواجهم بالاعمال الدعوية ، وانصرافهم عنهم ، وبصراحة أكثر : يتذمرون من قلّة جلوس أزواجهم معهم والخروج بهم في نزهة قصيرة ، ..
والداعية الصادق قد ينشغل جلّ وقته في أمور دعوته ، وأحياناً - أو غالباً- ما يؤجل وعوده لزوجته وابنائه بسبب عمل دعوي ، أو برنامج خيري يستلزم وجوده .
وهنا يبرز أهمية هذا المقوّم في إقناع الزوجة بهذا العمل ، وأنه إنما يقوم لله ، وأنها تؤجر على صبرها وجهادها معه ، فإن كان الرجل محباً لزوجته ، يغمرها بمودته ورحمته إياها ، وهو صادق في قوله وفعله فالكلمة الصادقة التي تخرج من القلب تقع في القلب مباشرة .
أما حين ينعدم الحب - أو يقل - بين الزوجين فما عسى أن يقنع هذه الزوجة .
ولكم أن تتخيلوا موقف المرأة في حال أن زوجها يشعرها بحبه ومودته ، وفي حال أن الزوج لا يشعر أهله بالحب والمودة والرحمة ، وذلك إن أراد زوجها الزواج بامرأة ثانية ؟!!!
اتصور أن الزوجة التي تشعر بحب زوجها ومودته لها ورحمته بها ، لن تجد ممانعة قوية في نفسها من إقدام زوجها على الزواج بأخرى ، لأنها تشعر في قرارة نفسها أن زوجها لن ينسى حقها وحبه لها ( وهو الأمر الذي يتخوف منه كثير من الزوجات ) .
أما الزوجة الثانية التي لا تشعر من زوجه بحب ولا رحمة ، فإنها في هذا الموقف سوف تمانع وتجادل حتى تطلب من زوجها الطلاق والفراق ، وما ذاك إلا لشعورها بأن زوجها الذي ما أشعرها يوما برحمة أنه سوف يتركها عظما بد لحم .
هذا مثل بسيط لأثر المودة والرحمة والحب بين الزوجين ، وكيف يعمل هذا الحب وهذه الرحمة على سهولة الإقناع .
وإننا ما نجد مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب مع زوجاته وابنائه ، ولنأخذ بعض النصوص والحوادث :
- كان - صلى الله عليه وسلم - مع عائشة رضي الله عنها هيناً ليناً ما هوت شيئاً إلا تابعها عليه .
- ينيخ لها ظهره - صلى الله عليه وسلم - لتصعد وتنظر إلى لعب الأحابيش .
- تكسر الصحفة بين يديه وعنده بعض أصحابه ، فما يزيد عن أن يتبسم - صلى الله عليه وسلم - .
- يجلس مع عائشة تحدثه الحديث الطويل ( حديث أم زرع ) فلا يضجر أو يمل بل يتابع معها حديثها ولو طال وتعقّدت كلماته .
- يترافع يوما - صلى الله عليه وسلم - هو وإياها إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه ، فيقول لها : أتكلم أو تتكلمين ، فتقول وهي مغضبة : بل تكلم أنت ولا تقل إلا حقاً ، فيصفعها أبوها على وجهها ، فيقف - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين زوجته يحميها ، ويقول : ما لهذا دعوناك ، ثم ما يلبث أن يتباسط وإياها فيضحكها وتضحكه ........
مع الأبناء :
- يرتحله حفيده : الحسن أو الحسين وهو ساجد في الصلاة فلا يرفع رأسه حتى ينزل الغلام .
- ينزل يوما من على المنبر ليأخذ حفيده بين ذراعيه ثم يصعد به على المنبر ويكمل خطبته .
- يداعب الأطفال ويعطيهم الهدايا والعطايا .
وكثير ذلك في كتب السنة والسيرة . وبحق هو ( إنك لعلى خلق عظيم )
من مظاهر المودة والرحمة بين الزوجين :
- التفاعل مع حال الزوجة في فرحها وحزنها ، في عافيتها ، ومرضها ، في حيل انشراحها وضيق صدرها ومراعاة تقلب أحوالها ، فمن الناس من يرعى لزوجته حقها ويرحمها حين تكون في حال رخاء ونعماء ، أ/ا حين ضراءها وبلواءها فهو من أبعد الناس عنها ، وهذا من الظلم والغبن .
- العناية بأهل الزوجة ، وتفقدهم ومراعاة أحوالهم ، وإدخال السرور عليهم ، فإن ذلك مما يزيد الحب والمودة بين الزوجين . ( صدقة على أهل بيتك صدقة وصلة ) .
- المبادلة ، بادلها الضحكة بالضحكة ، والأنس بالأنس ، والتجمّل بالتجمل ... فلماذا نطلب من زوجاتنا أن يكنّ ملكات جمال ، ولا نسعى في تجملنا لهن كما نريد منهن - هذا جانب في ذلك - والذي ينبغي أن يبادل الزوج زوجته ما يريد منها ، فكما تحب أن تكون لك كنّ لها - في حدود المشروع - .
- النظرة الواقعية للزوجة ، فلا ينظر إليها - وإن كانت برفسورة - أنها أكمل نساء الدنيا ، ولا ينظر إليها أنها هي هي ، فإن هذه النظرة غير الواقعية تقلب الحياة سعيراً ، إذ أن الزوج بحكم نظرته يريد أن يرى زوجته كما ينظر إليها هو ، والمقياس الشرعي : أن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " المرأة كالضلع ، إن أقمتها كسرتها وإن استمتعت بها ، استمتعت بها وفيها عوج " قال ابن حجر رحمه الله : فيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن ، وإن من رام تقويمهن ، فاته الانتفاع بهن .. مع أنه لا غنى للانسان عن امرأة يسكن اليها ويستعين بها على معاشه ، فكأنه قال : الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها .. أ . هـ ووصف المرأة بالضلع بجامع الاعوجاج فيهما ، ففي الضلع حقيقة ، وفي المرأة مجازاً ، ووصف للضلع في خٍلقته ، ووصف للمرأة في خُلقها .
قواعد :
وها هنا أذكر قاعدتين مهمتين في هذا الباب ( باب الحب والمودة ) - وآمل من الجميع ابداء الرأي في صحة تطبيقها :
القاعدة الأولى : " أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما " وهذه القاعدة أثراً عن علي رضي الله عنه ، ورفعه بعضهم .
فما هو مقدار الحب الذي يكون للزوجة ، وما معنى هذا الأثر ؟؟
وهل يصح تطبيقه على حال الزوجية ؟
القاعدة الثانية : ليس بالحب وحده تقوم الأسر ، ولا يمكن أن تستمر مع البغض والكره .
بمعنى أن هناك أسراً تقوم وليس هناك حب بين طرفيها ، كما أنه ليس هناك بغض بينهم ، والمعنى بشكل أوضح : أنه من الممكن أن تقوم أسر - لكن ليست هي الأسرة المثالية التي نطمح إليها - وتبقى بدون أن يكون هناك حب بين طرفيها .
مثال ذلك : أسر بعض الأعراب الذين يعيشون في البوادي فمن هذه الأسر من تقوم ولا يعرف الزوج و لا زوجته معنى الحب ، وإنما الحياة بينهم قائمة على مصالح الخدمة بينهما ، فالزوج يريد من زوجته المأكل والمشرب والملبس وما يريد الرجل من المرأة ، والزوجة تريد من زوجها أن يوفر لها سكناً ومأكلاً ومشرباً وما تريد المرأة من الرجل ، ولا يربط بينهما حب كما أنه لا يعتريهما البغض والكره ...
ونكمل ما تبقى في حلقات أخر
المقوّم الثالث : العدل .
وهو الأمر الذي قامت عليه السماوات والأرض ، قال الله جل في علاه :" وإذا قلتم فاعدلوا .."
وقال : " اعدلوا هو أقرب للتقوى .." ...
والظلم من أعظم الذنوب خطراً على الفرد والمجتمع ، فقد قيل : إن الله يقيم الدولة الكافرة بالعدل ، ويهلك الدولة المسلمة بالظلم .
وتلك سنة الله جارية في كونه وخلقه ، فإن الله لا يحب الظلم والظالمين ، ويحب القسط والمقسطين الذين يقومون بالعدل بين الناس .
والعدل في الحياة الزوجية من أهم أسباب بقاء الأسر وعدم تفككها .
ومعنى العدل في الحياة الزوجية يشمل كل شئون الحياة .
فكم هدّم الظلم من بيت ، وكم شرّد من أطفال ، وكم رمّل من نساء ... كل ذلك بسبب الجور والظلم .
لكن الله للظالم بالمرصاد :
تنام عينك والمظلوم في كمد يدعو عليك وعين الله لم تنم
وإذا ذكر العدل في الحياة الزوجية فبادئ ما ينصرف إليه الذهن العدل بين الزوجات ، وهو أمر عظيم ..
فالله .. الله بالعدل .. وإياكم أن يأتي أحدكم يوم القيامة وشقه مائل - نسأل الله الحماية -
يُذكر أن رجلاً تزوج من امرأتين وكان شديد الحرص على أن يعدل بين زوجتيه في كل شئونهما ، وقدر الله جل وعز أن يتوفى زوجتيه في ليلة واحدة ، فغسلهما وكفنهما ، فلما أراد أن يخرجهما من المنزل احتار كيف يقدم واحدة على الأخرى في الخروج ، والباب لا يتسع لمرور جنازتين في آن واحد ، فما كان منه إلا أن كسّر ماجاور الباب من الجدار حتى يتسع الباب لإخراجهما سويا وفعل حتى دفنهما ...
وفي المنام رأى إحدى زوجتيه تقول له : لماذا أخرجتني من جهة الجدار الذي تكسر ، وأخرجت ضرتي من الباب ...، ففزع من نومه وحزن لذلك حزنا شديدا كاد يفتك به .
وبغض النظر عن تفاصيل هذه الحادثة أو صحتها - إنما هي للتمثيل - فإن الزوج المؤمن -وخصوصاً الداعية إلى الله - مطالب بأن يعدل بين أزواجه ، ولا يجوز له بحال أن يفضل واحدة على أخرى في الأمور المشتركة بينهما ، وحين يتخلف العدل من بيوت الدعاة والأزواج الصالحين ، تسقط هيبتهم بين الناس ، ويزيد أمر التعدد تعقيداً وممانعة من النساء والآباء .
يحدثني أحدهم ويقول : أن له قريبة مطلقة ، تقدم لخطبتها أحد الدعاة إلى الله ففرحنا به فزوجناه إياها ، وقد كان أبي حريصاً على أن لا يزوجها رجلاً معدداً ، فما برحت أقنع والدي أن يزوجه لما يُعرف عنه من العلم والصلاح والسمعة بين الناس ، وبعد أشهر من الزواج وجدت أن هذا ( الشيخ ) لا يعطيها حقها بل وصل الأمر إلى تهديدها وتهديد أهلها بما لا يسوغ ذكره هنا ... فحصلت لأبي صدمة كبيرة جداً ، وخصوصاً أنه كان يرى في هذا الرجل : ( أنه الشيخ الجليل ، العابد ، الناصح ) لكنه في بيته لا يرعى حق المسكينة الضعيفة مما ولّد عند والدي كراهة المتدينين الذين يعددون في الزواج ... ولا أدري إلى متى تبقى هي تغالب أعاصير الحياة في بيتها ، ولا أدري إلى متى يبقى والدي يفريه الهمّ والغمّ من شدة ما يجد ....
هذه حادثة من حوادث كثر .... ولعل القارئ الكريم يعرف أحوالا وأحوال ، والمحاكم خير شاهد على ذلك .(1/118)
ليس الغرابة في الحادثة أن لا يعدل الرجل بين زوجاته ، ولكن الغرابة أن يحدث هذا الظلم والحيف والجور من إنسان يعرف ما يفعل ، وفعله مؤثر بين الناس !!
من صور العدل في الحياة الأسرية :
- أن يعامل الرجل زوجته كما يحب أن يعاملوه . وكذلك الزوجة ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) .
- العدل في نشر الحنان والحب بين الأولاد .
- العدل في حل مشاكل الأسرة مع الآخرين ( الوالدين ، الجيران ... )
سؤال : كيف تتصرف ؟
- تعود إلى بيتك فتجد والدتك بانتظارك وهي تزفر من الغضب تشكوا إليك زوجتك ، ثم تدخل على زوجتك فتجدها هي الأخرى أشد زفراً وغضباً تشكوا إليك أمك ... فكيف تتصرف ؟!
- بعد صلاة العصر يأخذك جارك على انزواء يشكوا إليك ابنك بأنه قد شج رأس ابنه الذي يصغره بسنة .
- في الليل تدخل بيتك فإذا شجار قائم بين ولديك ؟
كيف تتصرف في هذه المواقف ؟؟
- العدل في تقييم الخطأ ، فلا تميل إلى والدتك مثلاً إن الحق مع زوجتك ، ولا تمل إلى عاطفة البنوّة إن كان ولدك قد أخطأ على ولد الجيران ... وهكذا ، يبقى الأمر في طريقة التصحيح ومعالجة الخطأ ، وذلك يخضع لاعتبارات تلابس الحادثة نفسها ، لكن ينبغي أن يراعى العدل في تقييم الخطأ فلا يُبالغ في تضخيم الخطأ الصغير ، ولا يُتهاون في تصغير الخطأ الكبير ...
- العدل في الوقت . فكم تأخذ من الوقت تُجمّ فيه نفسك وترفهها .. فلا تنس شريكة الحياة ، لا تنس نفسك وأنت خلف هذا الجهاز فتقضي الساعات الطوال ثم ( تنطرح على فراشك كأنك ..!!! )
- من العدل :لا تذكّر زوجتك بالأخطاء الماضية المنتهية ، وكأنك تطرح بين يديها كشف حساب ، فقد تعاملك هي أيضاً بذلك .
المقوّم الرابع : الحكمة في التصرف والتقويم .
قال الله تعالى : " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً .."
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، الحزم حين يكون الحزم ، واللين في موضع اللين .
إذا غضبت على ولدك فلا يكن غضبك حين يتلف الأثاث أو يكسر الزجاج أعظم من غضبك عليه حين يتأخر عن الصلاة أو يتركها ..
ولا يكن غضبك على زوجك حين تخطئ في غسيل أو طبخ أو كي أعظم من غضبك عليها حين تغتاب أو تذكر جارتها بسوء ...
لا تكثر العتاب في كل شاردة وواردة ، فالنظرة أحياناً تكفي ، والإشارة في أحوال تشفي ، والتجاهل في مرات يغني عن الخوض والعتاب .
قال الغزالي رحمه الله : " لا تكثر على الصبي العتاب ، فإنه يهوّن عليه سماع الملامة ! "
المقوّم الخامس : المخالطة .
مخالطة الأسرة ، وإشعارهم بالقرب ، والعطف عليهم ، وهذه المخالطة مما يزيد الأبناء حبا واقتداء بوالدهم ، كما أن المخالطة تزيد الحب بين الزوجين .
كم نسمع عن أزواج يرهقون أنفسهم خارج المنزل بالأعمال ، ثم إذا حضر إلى البيت ما يبحث عن شئ إلا الفراش ، وكم تسمع عن ذلك الذي ما إن يحط رحاله في أرض حتى يطير إلى أخرى ، دون اهتمام أو شعور بما عليه من مسئولية الأسرة .
المقوّم السادس : القيام بأعباء الأسرة ومسئولياتها .
فلا يكون عاطلاً ، عاجزاً ، كسلاً .. قعيد بيته ينتظر إحسان المحسنين ، أو راتب زوجته آخر الشهر .. ذليلاً خاضعاً تحركه زوجه كيفما شاءت .... انسلخت منه القوامة فصارت بيد زوجته ...
كم نرى هذا المنظر المخجل - والمؤسف حقاً - رجل ممشوق القامة ،عريض المنكبين ثم هو يدفع أمامه عربية التسوق وزوجه من أمامه تشتري وتبايع البائعين وتماكسهم - فوااااااااااا عجباً !!_
والمقصود أن يكون الزوج على قدر المسئولية التي كلفه الله بها فلا يضيعها .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخصف نعله ، ويصلح دلوه ، ويكون في مهنة أهله .
المقوّم السابع : الدعاء .
وهو سلاح المؤمنين الصادقين .
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاء
ومن دعاء عباد الرحمن قولهم : " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً "
وأحسب أن أمر الدعاء أمراً قد صار يغفل عنه الصالحون ، فكم من زوج يريد السعادة والاستقرار ويطلبها من غير مظانها ؟؟
وكم من والد يطلب تربية أبنائه في دورات ودورات ثم النتيجة ... نخب هواء ..
وتغافلنا عن اللجأ إلى الله ، والله جل وعز يحب من عبده أن يلجأ إليه ، وينطرح بين يديه .
حادثة : أخ يقول : لي أخ لا يعرف الله في ليله ولا نهاره ، مجون وفسق وفجور ، وقد كنت أنصحه وأوجهه لكن كأنني أحرث في بحر ، وفي ليلة من الليالي قمت في ثلث الليل الآخر أدعو الله واتضرع إليه بأن يهدي أخي ، ويرده إليه ردّا جميلاً .. ثم نمت ، وبعدها سمعت طرقاً على باب غرفتي فاستيقظت فإذا هو أخي يوقظني لصلاة الفجر .. يا سبحان الله هذا الفاسق الفاجر ، أصبح اليوم هو العابد الذاكر ... اللهم لك الحمد لا نحصي ثناء عليك !!
الحلقة الخامسة :
المحور الأول : السلبية والإيجابية في التعامل بين الزوجين
وفي هذا المحور نشير إلى أهم ست عوامل لحياة زوجية أفضل .
وهذه العوامل قد يسرف المرء في الأخذ بها فتنقلب عليه سلباً ، وقد يتطرف في العمل بها فتكون حياته جحيماً والوسط خير الأمرين .
الأول : القول الحسن .
أنزل على عباده قوله جل وتعلى : " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم .."
وقال في أسلوب التعامل مع الوالدين : " .. وقل لهما قولا كريما .."
ونجد في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة المثلى في هذا التعامل مع أفراد البيت ، لنأخ مثلا واحداً ، وهو: قصة الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه - خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين لم يقل لي لشئ فعلته لم فعلته ! ولا لشئ لم أفعله لم لم تفعله ..!
ولنا أن نتصور كم كان عمر هذا الصحابي الجليل حين كان خادما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
اتوقع أنه لم يتجاوز 14 عاما أو نحوها ، .. فإذا كان في نحو هذا السن ألا يكون مظنة للخطأ والتقصير - باعتبار صغر سنه - الجواب : نعم .
ومع ذلك لم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً يقبّح فعلاً فعله ، أو يلومه على فعل لم يفعله ...
فأي خلق هذا الخلق - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ...
وقالت عائشة رضي الله عنها : " لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً .." ..
فواجب الزوج إذن أن يعامل زوجته بالقول الحسن اللين الذي لا فحش فيه ولا صخب ... وهو عامل مهم في سعادة الأسرة واستقرارها .
والقول الحسن ينبغي أن يشمل كل أحوال حياة الزوجين ، في الغضب والرضا ، في الفرح والحزن ، ولذلك كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أسألك كلمة الاخلاص في الرضا والغضب .."
فالانسان قد يفرط في الثناء حين الرضا فيطغى ويخرج عن المألوف ، وقد تعلو قلبه غشاوة حين الغضب فيجحف في حق الآخرين ... لذلك كانت الوسطية هي جانب الإيجاب في هذا التعامل .
ولنركز الكلام حول نقطتين مهمتين في هذا الجانب :
الأولى : معالجة فضول المرأة .
المرأة في طبعها تحب الفضول - الا من رحم ربك وقليل ما هم - تحب أن تعرف عن كل شئ يفعله زوجها ..
أين تذهب ؟
لماذا؟
ومع من؟
ومتى تعود ؟
وماذا لو كان كذا ؟ ......
ووابل من الأسئلة والتحقيقات ، وهذا أمر طبعي من الزوجة - خصوصاً تلك التي تشعر بانطوائية زوجها - .
المقصود :ما هو جانب الإيجاب وجانب السلب في التعامل مع معالجة هذا الفضول ؟
أما جانب الإيجاب : فهو معالجة هذا الفضول بالقول الحسن ، والمداراة ، حتى ولو اضطر الأمر للكذب - وذلك في أضيق نطاق - وهذا من الكذب الذي أباحه الشرع للإنسان ،وذلك من أجل مصلحة استمرار الحياة الزوجية وعدم تفككها ..
أما جانب السلب فيها : هو مجابهة الزوجة بالتحجيم ، والكبت وإغلاق منافذ الحوار مما يولد الشك ، والريبة فتتكاثر المشاكل ،والخصومات بين الزوجين .
فليس من القول الحسن .. السكوت عن تقصير الزوجة في فرائضها وواجباتها ..
كما أنه ليس من القول الحسن مدح الزوجة والثناء عليه بوجه يستحيل عليها نقص أو خطأ ..
وليس من القول الحسن مقابلة النكران بالنكران ..
وليس من الحسن أن يدلل الولد فلا يعاتب أو يلام على جريرته وذنبه ..
وإن من القول الحسن :
- إعلام الزوجة بالحب .
- الصبر على شكايتها ، ونكرانها وكفرانها .
- الدعاء لها وإشعارها بذلك .
- توجيه الأبناء بالأسلوب السليم من غير تنفير .
وإني هنا أطلب من الإخوة ، حصر بعض المواقف النبوية في تعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع زوجاته في هذا الجانب .
الثانية : السرية .
الزوج الداعية إلى الله بحاجة إلى أن يكون عنده شئ من السرية في بعض ما يتعلق بخططه وبرامجه ، بل حتى في أموره الخاصة ، ففي الأثر ( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ) ..
وجانب التعامل الإيجابي هنا : يكون بالحرص على قدر من السرية وعدم كشف الأوراق - فإن من طبيعة بعضالنساء إن لميكن جلّهم نقل الكلام هنا وهناك ..- ويكون هذا الحرص بحيث لا يولّد ريبة أو شكاً عند الزوجةأو يولّد عند المرأة فضولاً ..
وقد كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ورّى بغيرها .
ونجده يوم الهجرة حريصاً على ذلك يوم طلب من أبي بكر رضي الله عنه أن يُخرج من عنده ...
وذلك مشهور معروف .
أما جانب السلب فإنك تجد من الناس من لا يكاد يترك شاردة ولا واردة الا وقد تخفف منها وبددها ، فهو كما يقال في المثل العامي ( ما يتبلى على فم حبة فول ) .. وهكذا .
وهذا من الخطورة بمكان . واللبيب بالإشارة يفهم ..
حادثة : يذكر أن رجلاً اتفق مع زوجته على شفرة معينة ، بحيث أنه إن شفر لها بها تقوم بعمل معين .
المهم أن الرجل قبض عليه .. فطلب منهم أن يتصل بأهله ليطمئنهم بوصوله ، فاتصل عليهم وأشار لهم بما اتفقوا عليه ،وفعلاً فعلت زوجته ما أراد .. وحضر الجنود بيته فلم يجدوا شيئاً إذ أن الزوجة قد قامت بالدور على وجه حسن ، لكن ما الذي حصل ؟؟
الذي حصل أن الرجل أوقف في السجن ومعه أحد الناس ، فانفرط يفتخر أمام السجين الذي معه بأنه قد اتفق وزوجته على كيت وكيت .. فوصل أمره ووقع في الشراك .. - والله يعينه -
فهذا مثل يوضح أهمية السرية والكتمان إذا أراد الإنسان أن يقضي أمراً في أي شأن من شئون حياته ..
والحقل الدعوي والتربوي مليئ بالتجارب والأحداث .
المقصود أن أعظم عوامل بقاء العشرة ودوامها القول الحسن بين الزوجين ، وهذا التعامل له جوانب مشرقة إيجابية ، وفيه جوانب سلب قد يقع فيها بعض الأزواج .
وهنا ينبغي أن نعلم أن القول الحسن في الحياة الزوجية يتعدى إلى الأبناء ..
العامل الثاني : العشرة .
قال الله جل وعز : " وعاشروهن بالمعروف " بالمعروف : أي بما عُرف حسنه في الشرع .
وهنا باختصار نشير إلى جوانب حسن العشرة بين الزوجين :
- تربية الأبناء على احترام الوالدين ، باحترام كل طرف للآخر ، فليس من حسن العشرة أن يعوّد الأب ابنائه على هوان أمهم ، فإن قال الأب : لا ينبغي على الأم مراعاة هذا التوجيه لأبنائه فلا تقول لهم : نعم ، وإن قالت الزوجة : نعم فعلى الزوج أن يراعي هذا الجانب فلا يقل : لا ... ليكسب جولة أما أبنائه ضد أمهم .
- ذكر الزوجة بالخير أمام الغير ، وخصوصاً أمام أهلها ، فما أحسن أن يقول الزوج مخاطباً والد زوجته : ما أحسن تربيتكما ، فقد وجتها عطوفاً حنوناً هينة لينة ً طائعة ... ، أمّا ذكر الزوجة أمام الأصحاب فإن كثيراً من الأزواج يتحرج أن يذكر زوجته بخير أمام أصحابه .
وأقول : إن الأمر يخضع بحسب الحال ، فإن حصل حال يستلزم ذكر الزوجة بخير فلا حرج ..
سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوماً : من أحب الناس إليك ؟
قال : عائشة .
فذكر الزوجة أمام الغير بالخير من حسن العشرة والمعاشرة ، ولا يعني ذلك أن ينفرط الأمر فيذكر الزوج ما يحصل بينه وبين زوجه في بيته فيقع في النهي والمحذور .
- أخذ مشورة الزوجة
فالمشاورة مما يطيب الخاطر ، ويؤلف بين القلوب ، وقدكان - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بمشورة زوجاته ، وما حادثة يوم الحديبية إلا شاهد على ذلك .
والسلب في جانب المشورة .. أن لا يقضي الرجل أمراً إلا بأخذ رأي زوجته فيه ، حتى فيما تجهل حاله وووصفه ، تبعية للزوجة وعدم خروج عن آرائها ، وقد جاء في الحديث : " الولد مجبنة مبخلة "
- تلبية طلبات الأهل من حسن العشرة ، وليس من حسن العشرة تلبية جميع طلبات الأهل .
العامل الثالث : الإهداء .
تهادوا تحابوا ... ومنأعظم سهام صيدالقلوب وأسرها الهدية حال الرخاء والشدة ، عند الفرح وبعد الخصومة .
الحلقة السادسة : العامل الرابع : التعليم .
وفي حديث ما معناه : " من عال جاريتين أو أكثر فأدبهما وأحسن تأديبهما كانتا له حجاباً من النار "
ونخن كثيرا ما نهمل هذا الجانب في بيوتنا ، آباءنا وامهاتنا بعضهم لا يجيد قراءة الفاتحة ، وبعضهن لا يعرفن أحكام الطهارة المتعلقة بالنساء ، وبعض زوجاتنا لا يعرفن أبجديات في أمور الدعوة والتعليم ...
وهكذا يبقى المنزل غارقاً بالجهل ...
فوا اااا اسفى على نساء الدعاة هم أشقى الناس بأزواجهم - الا من رحم الله -
والله جل في علاه أول ما أمر نبيه بالدعوة قال : " وانذر عشيرتك الأقربين " وفي حديث " إبدأ بمن تعول " وفي حديث آخر " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " .....
ونصوص كثيرة تبيّن جانب أهمية العناية بالاسرة تعليما وتربية وتوجيها .
وفي المقابل من الدعاة من يفرط في هذا الجانب ، فيفترض الانفصام بين الدعوة العامة للناس وبين تعليم الأهل ودعوتهم ، فيقصر كل جهده مع أهله وبنيه .. لا يشارك أو يقترح أو يفكر في دعوة الآخرين بحجة تعليم الأهل ودعوتهم وإصلاحهم ، وكثير من البطالين الخاملين يتذرعون بمثل هذه الذرائع ، وفي الحقيقة لا تجده هنا ولا هناك فيصير كما يقول القائل ( عذر أقبح من ذنب ! ) .
والواجب أن لايغفل الداعية عن تعليم أهله وتوجيههم بترتيب الدروس لهم ، أو إشراكهم في الدورات النسائية ، أو دور التحفيظ ، أو مراكز الدعوة النسائية والعمل على تيسير الأمور لهن بالتنازل عن بعض الحقوق حتى يتسنى لهن تحصيل العلوم والمشاركة في البرامج الدعوية المنوعة .
أما حبس المرأة وقعودها في قعر بيتها جاهلة .. لاهمّ لها إلا الطبخ والغسيل فهذا من تضييع الأمانة - والله المستعان - !
العامل الخامس : إظهار العبادات في المنزل .
وهذا من أهم عوامل تربية الأسرة ، ومن فنون التعامل مع الزوجة والأبناء ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل ، ويذكر الله ، ويستغفر ويصلي من النوافل ما شاء في بيته تعليما لأهله ، وهو القائل في حديث صحيح : " صلوا في بيوتكم .." أي النوافل ، وفي حديث آخر " لا تجعلوا بيوتكم مقابر .. إن الشيطان لينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة .."
فماذا يكون موقف الزوجة حين ترى زوجها قائم في الليل لله خاشعا يبكي ويتدبر كلام الله !!
وماذا يكون موقف الابن حين يرى اباه كذلك !!!
وهناك كثير من العبادات التي يمكن إظهارها في المنزل :
- النوافل من الصلاة .
- قيام الليل .
- الصيام .
- قراءة القرآن .
- الذكر .
- القيام بمهنة الأهل .
- الوضوء .
وغيرها كثير ...
العامل السادس : رباطة الجأش .
والمقصود تربية الزوجة والأبناء على هذه الصفة الحميدة ، رباطة الجأش وعدم انفلات الأعصاب والتهور .
وسير الصحابيات عليهن رضوان الله ورحمته ، تضرب لنا أروع الأمثلة في رباطة الجأش والتصبر والحكمة من مثل سيرة :
- نسيبة المازنية .
- خديجة رضي الله عنها .
- الخنساء .
رضي الله عنهن أجمعين .
لكن الذي ينظر إلى واقع غالب نساء اليوم يجد أنهن عن ذلك أبعد ، تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل ( صرصور ) أو قط أو فأر ...واليكم هاتين الحادثتين المتقابلتين :
الأولى : امرأة تتصل بزوجها وهو في مقر عمله تطلب منه بعض حاجيات المنزل ، ثم فجأة تصرخ ويختفي صوتها ، فيقلق الزوج فيخرج من عمله مسرعاً بسيارته يسابق الزمن ، معرضاً نفسه للخطر والموت ثم لما وصل الى بيته فزعاً تقابله زوجه ليعرف أن سبب صراخها أنها رأت فأراً كبيراً .. فما كان من الزوج الا أن رمى عليها الطلاق غضباً وانتقاماً .. - لا حول ولا قوة الا بالله - .
الثانية : هذا رجل هو وزوجته معهم سيارة ( جمس ) وهم في طريقهم إلى مدينة القصيم ، تشعر المرأة بالارهاق والتعب فتطلب من زوجها أن يقف لتنتقل إلى مؤخرة السيارة فتنام ، وكذلك فعل .
وبعد مسافة من الطريق يقف الرجل في محطة وقود ( بنزين ) ... وخرج الرجل من السيارة ليدخل دورة المياه ، وقامت المرأة هي كذلك ونزلت من السيارة لتدخل دورة المياه ، المهم أن زوجها عاد إلى السيارة ولم يتنبه أن زوجته غير موجودة في السيارة ، فتحرك وانطلق ظناً منه أن زوجته نائمة في مؤخرة السيارة .
خرجت المرأة من دورة المياه فلاحظت أن سيارة زوجها غير موجودة ، لم تر أمامها إلا العاملين في المحطة فأسقط في يدها ...
ماذا تفعل ؟؟
هل تصرخ وتستنجد بالعاملين ؟؟ لعلهم يؤذونها !!
فما كان منها إلا أن رجعت إلى دورة المياه واقفلت على نفسها باب الدورة ، وبقيت تنتظر ختى سمعت أصوات نساء في الخارج ففتحت الباب ، وكلمتهن في أمرها .
فما كان منهن إلا أن كلمن ولي أمرهن في أمرها فأخذوها معهم ليلحقوا بزوجها على الطريق فأدركوه .
المقصود أن هاتين الحادثتين تبين لنا أهمية هذا العامل في استقرار الحياة الزوجية ( رباطة الجأش ) ترى لو هذه المرأة قامت لتستنجد بأولئك العمال هل سيكون أمرها كما آل اليه ؟!! لا أعتقد .
والداعية إلى الله بحاجة إلى أن يربي أهله على ذلك ، فهو بحاجة إلى أن يعلمهن الحكمة في التعامل مع الأمور الطارئة المختلفة ، فرب طيش زوجة يودي بزوجها إلى الهلاك ، ورب تهور في التعامل مع الحدث يأتي بأمور لا تحمد عقباها مستقبلاً .
الحلقة الأخيرة :
المحور الثاني من الموضوع: تربية الأبناء .
الأبناء هم العمر الثاني للأب ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : .... ولد صالح يدعو له .."
فواجب تربية الأبناء من أعظم واجبات الوالد المسلم والأب الغيور على دينه وأمته .
الأبناء هم مستقبل الدعوة وأملها .
هم عدّة الأمة ورجاؤها بعد الله .
وها هنا أمرين متقابلين في واجب التربية لا تعارض بينهما - على أن الكثيرين يفترضون التعارض -
الأول : قول الله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء "
الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .."
يظن كثير من الآباء افتراض التعارض بين الأمرين ، فيفرط في تربية ابناءه وأولاده ويقول : " إنك لا تهدي من أحببت .." وطائفة أخرى من الآباء يغالون في الاهتمام بالابن مغالاة تصل به إلى حدّ مهين ويقول : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته "
والواجب على الأب المسلم أن يبذل ما يستطيع من وسع وجهد في تربية أبنائه مسترشداً بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، حريصاً عليهم ، ثم إذا لم يكن له ما أراد فلا ييأس وليعلم أن الهداية بيد الله ، لكن ذلك لا يمنع أن يحاول الكرّة بعد الكرة - من دون تضييع للحقوق الأخرى - لعل الله أن يكتب له الهداية ز
وهنا نعرض إلى طريقة القرآن في تربية الأبناء ، وذلك على ضوء وصايا لقمان لابنه في قول الله تعالى /: "
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظام عظيم . ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصالله في عامين أمن اشكر لي ولوالديك إلي المصير . ون جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون . يا بني إنا ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو ف ي السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير . يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور . ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور . واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير "
لقد حوت هذه الآيات الكريمات وصايا عظيمة ، بيّن فيها القرآن المنهج السوي في تربية الأبناء ، ولنقف في نقاط حول هذا المنهج القرآني لنستخلص منه الطريقة المثلى في تربية الأبناء :
أولاً : ينبغي مراعاة مراحل الابن ( العقلية والجسدية والتكليفية ) في التوجيه والتربية .
نأخذ ذلك من قوله جل وتعالى : " وهو يعظه ..) فإن الوعظ مرحلة سابقة على التعنيف والتأديب ، هو أول ما ينبغي أن يسلكه الوالد في تربية ابنه وخصوصاً في مراحل عمره ( الادراكية الأولى ) فالطفل في هذه المرحلة لا يعنّف التعنيف الشديد ، ولا يضرب أو يقسى عليه في التوجيه بل يؤخذ بالوعظ واللين والملاينة والصبر عليه نظراً لما هو عليه من خفة العقل وعدم التكليف .
ثانياً : أول مهام تربية الابن .
أي ما أول ما ينبغي أن يعتني به الأب في تربية ابنه ، وبماذا يبدأ في تربية ابنه ؟
على ضوء المنهج القرآني يتبين لنا أن أول مهام التربية للأبن تكون في :
- المهمة الأولى : تربيته على الأدب مع الله ، وذلك يظهر في الآيات بشكل واضح في قوله ( يا بني لا تشرك بالله ..) ) أقم الصلاة ..) ( إنها إن تك مثقال حبة من خردل ..) وتربية الابن على الأدب مع الله يشمل عدّة جوانب في التربية :
1 - تعميق صلة الطفل بربه ، وأنه جل وتعالى هو أهل الثناء والشكر ، وهذا التعميق يمكن أن يكون بعدّة طرق منها :
- ايقاظ الفطرة في نفس الطفل . والطفل في مبدإ الأمر يكون وعيه ضئيلا وإدراكه في أضيق حدود ، ولكن غير صحيح أنه لا يعي علةى الإطلاق ! فهو يعي النظرة الحانية ، ويرتاح لها وتطمئن لها نفسه ، كما أنه ينزعج ويبكي من غضب أبيه وأمه ..
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة .." والفطرة هي الاسلام كما فسرها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه .
وايقاظ الفطرة يكون باستغلال الحدث ، وتعليم الطفل وترعيفه على ربه :
من خلقك ؟ من أعطاك اليد ، اسمع ، البصر ...
- تعريف الطفل بنعم الله عليه ، وخصوصاً تلك النعم التي يحسها ويشعر أنها طارئة عليه ، فلا يشعر بادئ الأمر أنها من الله ، فهنا يأتي دور الأب في نسبة النعم إلى الله ( الأكل ، الملبس ، المسكن ، الجوارح ، اللعبة التي يلعب بها ) حين يرغب الطفل في لبس جديد أو أكل معين أو لعبة يلعب بها لا يشعر حين تلبي له طلبه أنها نعمة من الله وهنا لا بد أن تستغل هذا الحدث فتذكره بنعمة الله عليه .(1/119)
- اغرس في الطفل مراقبة الله . لا تجعله يخافك من دون الله ، قد يمتنع ابنك عن الكذب لكن ليس لأنه يعرف أن الكذب شنيع ، وإنما لأنه يخاف منك أن تضربه أو تؤذيه ، حاول أن تبعث في نفس الولد مراقبة الله : لا تكذب لأن الله لا يحب الكاذبين ، من قال الصدق فإن الله يدخله الجنة ... هكذا ..
- حبب إليه العبادة . بترغيبه فيها ، وأداءها بخضور منه ، وهذا ثمرة من ثمرات اظهار العبادات في المنزل ، علمه كيف يتوضأ فتضأ أمامه ، خذه معك إلى المسجد وحلقات العلم .... وهذا ينتج عنه
- أنه يحافظ على العبادات ( فاجعله يحافظ على العبادة بعد أن تحببه فيها ) ايقظه لصلاة الفجر - ولا تشدد عليه - علّمه أن يتوضأ قبل أن ينام ، علّمه الصيام وشجعه على ذلك .....
- لا تجعل المردود المادي هو الذي يفكر فيه الطفل .
يخطئ كثير من الآباء حين يطلب من ابنه أن يصلي ليعطيه مبلغاً من المال ، أو قل الصدق ولك كذا من المال ، أو افعل كذا - من العبادات - ولك كذا ، فإن هذا الأسلوب من الخطورة بمكان في تربية الابن لكن هذا لا يمنع أن تكافئه على عبادة أدّاها من غير أن تعده بها ، بل علّق أمره بالله .. والدار الآخرة .
- المهمة الثانية : التربية على معاني أركان الإيمان ( الإيمان بالكتب ، والرسل ، واليوم الآخر ..)
- ويستخدم الآسلوب القصصي - مثلا - في التربية على ذلك . بعرض سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتعريفه بنبيه ، أو عرض قصص أخرى مهمة في تربية الأطفال .
-
- المهمة الثالثة : التربية مع النفس .
وتأخذ عدة جوانب منها :
- علّم ابنك كيف يتحمل المسئولية ، علّمه كيف يأكل بنفسه ، كيف يلبس ثيابه وكيف يخلعها ، كيف يقضي حاجته وكيف يتنزه منها ...
- علمه على أن يحل مشاكله بنفسه - مع تعميق صلته بالله - وأن الله هو القادر على أن يرفع عنه ما هو فيه من البلاء أو المشاكل ، وأن الله هو الذي قدر عليه ذلك .
كثير من الآباء حين يجد ابنه - مثلاً - وقع في مشكلة مع أخيه فسرعان ما يتدخل هو في حل المشكلة .
لماذا لا يعلمه كيف يحل هذه المشكلة مع أخيه بالأسلوب النبوي الواضح البين .!!
- عوّد ابنك على تحمل تبعة خطأه .
إن كسر زجاجاً اجعله هو الذي يرفعه عن الأرض ، إن بلل مكاناً أو وقعت عليه قذارة اجعله هو الذي يزيل ما فعل من خطأ ، كثير من الأمهات إن كسر ولدها زجاجا أو وسّخ مكاناً سرعان مما تسارع لإزالة ما اتلفه الابن .. هنا الابن يتعود على عدم تحمل تبعة الخطأ فيزيد من تهوره وطيشه ، لكن حين يعلم ويتعود الطفل على أن الخطأ عليه تبعات قد تكون محرجة نوعاً ما له فهنا لن يقدم على الخطأ إلا بعد أن يحسب له حساب - هذا إن لم يمتنع عنه أصلاً _
- انزع منه حب التملك واغرس فيه عدم الاعتداء على حقوق الآخرين .
من المواقف المحرجة للوالدين حين يرون ابنهما الصغير يمتنع عن أن يشرك ولد الجيران معه في لعبة ، وأخرج من ذلك حين يعتدي ابنهما على لعبة ولد الجيران فيأخذها منه
بعض الآباء هنا يتصرف بتهور وثورة فيقوم بضرب الابن بكل قسوة لأنه أحرجه أمام الآخرين ، فهو هنا حقيقة لم يرد تربية ابنه ، وانما أراد الانتقام لنفسه .
والواجب أن يعوّد الأب ابنه على عدم حب التملك ، وذلك بالقدوة ، والهدية والجائزة ، كما ينبغي أن يربيه على عدم الاعتداء على حقوق الآخرين ، وأن يتشدد معه في هذا الجانب أكثر من تشدده على حبه لتملك حقه ..
- عوّد ابنك على الحياء .
لا تغضب حين يدخل ابنك على مجموعة انت فيها ثم هو يخجل أن يتكلم بينهم ، فذلك من الحياء هذّب فيه هذا الجانب .
علّم ابنك على أن يستر عورته وأن يستحيي أشد الحياء حين تكشف له عورة .
علّم ابنك على أن لا يتمادى في المزح مع الكبير .
- أزل منه صفة الكذب ، وشجع منه موقف الصدق .
إن فعل ابنك خطأ وجرما ثم هو يعترف لك بذلك فلا تعنفه بل شجع منه هذا الموقف الصادق ، فإنك حين تشجعه على الصدق فإنه لن يكذب ، خوّفه بنار جهنم وععاقبة الكذب إن حاول أن يكذب ..
- أشبع حاجة الإبن حتى لا يضطر أن يقع في المحذور .
وفّر له ما تستطيع من رغبات نفسه توفيراً لا يضطر بخلقه وسلوكه ، لان الطفل حين يجد ما يسد رغبته فإنه لن ينظر إلى ما عند غيره - وإن كان ذلك أمر طويل الذيل قليل النيل - لكن حاول جهدك
- المهمة الرابعة : الأدب مع الآخرين :
- مع الوالدين وكيف يحترمهما ويبر بهما .
- مع اخوانه كيف يخترم الصغير الكبير ويرحم الكبير الصغير .
- مع الجيران كحيف يتأدب في التعامل معهم .
- مع المسلمين عموماً وما لهم من حق الحب والولاء .
- مع الكافرين وما يكون معهم من البغض والمعاداة والبعد عن التشبه بم .
- مع الشيطان وأنه عدو الإنسان . ووسائل دفعه وكبته .
- مع الحيوان وكيف يرفق به فلا يؤذيه .
- مع أصناف الناس : الفقير ، والمسكين وكيف يعطف عليه ويرحمهم ... الى غير ذلك
هذا ما استطعت أن اطرحه ، ولا أحسب أني قد وفيت الموضوع حقه ، لكني أحسب أني فتحت باباً لكل مخلص وغيور ليتموا ما نقص - وهو كثير - أسأ ل الله بمنه وكرمه أن يغفر لي زللي وخطأي .
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا ..
مهذب
منتدى أنا المسلم
ـــــــــــــــ(1/120)
تربية القادة لا تربية العبيد
سعيد عبد العظيم
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالقيادة شأنها عظيم وخطير، حتى عدَّ البعض ضعف القيادة من أعظم مشاكل المسلمين المعاصرة، وقال: المسلمون إلى خير، ولكن الضعف في القيادة، وقال الآخر: القيادة شطر القضية، وشطرها الآخر الأمة بمجموع أفرادها.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وحين أنكر الخوارج ضرورة الخلافة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرة قد عرفناها (وهي ما كانت على منهاج النبوة) فما بال الفاجرة؟، فقال: تُقام بها الحدود، وتأمن السبل، ويخشاها العدو، ويُقسم بها الفيء.
وقد سمعنا عن مدارس تخريج القادة، وتكلم آخرون عن صفات القائد الذي لا يقر ولا يستقر، ولا يعرف كللاً ولا مللاً، ولا يطلب راحة ولا هدوءً دون تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، وأن هؤلاء قلَّة في العالم، ولو كانوا كثيرين لأحدثوا في كل يوم انقلاباً، ويذكرون لنا الأمثلة على هؤلاء القادة كنابليون بونابرت، وهتلر، وجيفارا، وماوتس تونج، وكاسترو....
ولا تكاد تسمع إلا أسماءً ليس لله فيها نصيب، وكثرة ممن كتبوا عن القيادة، إذا ذكروا اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأدخلوه في مصاف القادة العظام، فلابد عندهم من تعريته من صفة الوحي والنبوة، ولذلك كان لابد من مراجعة وتدقيق وتمحيص، فما هو مفهوم القيادة، ومن الذي رباهم، وما هي مناهج تربيتهم، فقد لا يصلح ذلك كله لتربية الجنود فضلاً عن القادة.
والميزان في هذا وغيره هو هذا المنهج الكامل الشامل لكل ناحية من نواحى الحياة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فموازين القيادة الحقَّة محفوظة في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا تتعداها لغيرها، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وما ترك الصادق المصدوق-صلوات الله وسلامه عليه-خيراً يُقرب الأمة من ربها إلا ودلَّها عليه، ولم يترك شراً يُباعد الأمة عن الله-عز وجل- إلا حذرها منه، ونهاها عنه وأمرها باجتنابه، وإذا ورد شرع الله بطل نهر معقلٍ، فهل من يعقل.
وما علينا إلا أن نقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، نريد قيادة ترضى ربها، وتضع الإسلام نُصب عينها، تأتلف حولها القلوب، وتتحقق على يديها للبلاد والعباد خيرات الدنيا ونعيم الآخرة، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة منهج الأنبياء والمرسلين {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
أما أن يلعن القادة الأتباع، والأتباع القادة، ويسفك بعضهم دماء بعض، فلا خير فيهم، وباطن الأرض خير لهم من ظاهرها.
بعث ربنا -جل وعلا- للبشر رسلاً، كانوا هم القدوة والقادة:
انظر في قصة نبي الله نوح عليه السلام واجه أمة كافرة، ظلَّ يدعوها ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال لهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وفى هذا خيرهم وسعادتهم في العاجل والآجل، فكانوا يؤذونه حتى يُغمى عليه، فإذا أفاق دعاهم إلى الله وحده، لم تضعف عزيمته، بل واصل الليل بالنهار، ودعاهم سراً وعلانية، وفى النهاية ما آمن معه إلا قليل، والقادة الحقيقيون لا يُعرفون بكثرة الأتباع ولا بقلتهم، ولكن بمقدار قربهم للحق، وانشغالهم بمعالي الأمور وأشرافها، وهكذا كان نبي الله نوح، فمهمته هي أعظم مهمة، وعزيمته تضعف أمامها الجبال.
وقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام أمة وحده {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 120، 121]، تعرف ذلك من دعوته لأبيه ومواجهته لقومه، ومناظرته للنمروذ، وتسلميه لأمر الله، وإقامته لدين الله.
وانظر إلى دعوة نبي الله موسى عليه السلام، لقد واجه فرعون والملأ، وصبر على دعوة بني إسرائيل وتعبيدهم لله -جل وعلا-، ارتحل إلى مدين، وقد تجمَّعت فيه معاني القيادة: القوة والأمانة، ولذلك قالت ابنة شعيب لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وكان لسان حالها ينطق قبل مقاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
ونبينا هو سيد القادات، وقائد السادات، دعوته وسيرته وأخلاقه... هي الأسوة والقدوة لتربية القادة، وقيادة الدنيا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، فقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - علماءً ورجالاً وقادةً لا كالقادة، لهم أوفر الحظ والنصيب، مِن واقعه الذي نطق: "والله لو جعلوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أوأهلك دونه"، استعلوا على الدنيا وحطامها الفاني، فكانوا سادة وقادة.
يقول أبو بكر الصديق: أينقص الإسلام وأنا حيّ، قاتل المرتدين وقال: والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت لواءً عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما صحب الأنبياء مثله رضي الله عنه، يقول عنه عمر: "رحم الله أبا بكر، كان أعرف منى بالرجال".
وتولى عمر الفاروق الخلافة من بعده، وهو القوي في دين الله، سار بالعدل في الرعية، وكان محدثاً، وافق الوحي في أكثر من موضع، وكان يتخوف أن تتعثر شاة بوادي الفرات فيُسأل عنها يوم القيامة لماذا لم يمهد لها الطريق، قال يوماً: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل, أقضيتُ ما عليَّ؟ قالوا: نعم،قال: لا، حتى أنظر في عمله، أقام بما أمرته أم لا.
وسيرة خالد بن الوليد في قيادة الجيوش وفتوحاته معلومة لدى العدو قبل الصديق، تولَّى يوم مؤتة بعد موت القادة الثلاثة من غير إمرة ففتح الله عليه، وعزله عمر رضي الله عنه عن القيادة فقاتل جندياً، وفتح قنسرين هو وثلة من أصحابه، وكان قادة الروم يسمعون بمجيء خالد فيفرون من المعركة.
ومن تتبع سيجد الكثير من صور القيادة الفذة، يحكون عن هارون الرشيد أنه بعث إلى نقفور ملك الروم يقول له: "أما بعد، فمن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، فإن الأمر ما ترى لا ما تسمع"، وكان هارون الرشيد يحج عاماً، ويغزو عاماً، ويخاطب السحاب، ويقول: "سيرى أينما شئت أن تسيري فسيأتيني خراجك".
وكان صلاح الدين الأيوبي كالوالهة الثكلى، فقدت وحيدها، يتململ في فراشه ويتقلب فيه، ولا يجد النوم سبيلاً إلى جفنيه، يقول لوزيره ابن شداد:"أما أسر لك حديثاً، إني أتمنى إن فتح الله عليَّ بيت المقدس أن أركب البحر أقاتل في سبيل الله كل من كفر بالله حتى يظهرني الله أو أموت".
نحن بحاجة لإعادة صياغة، وأن نتربى تربية إيمانية تصل الدنيا بالآخرة، والأرض بالسماء، تربية القادة لا تربية العبيد، تربية يُشارك فيها الرجال والنساء، والكبار والصغار، وما فاتنا وضعف فينا، نحاول تداركه في أبنائنا، فنحن لا ندري من الذي سيفتح على يديه بيت المقدس، ومن الذي سيقود الدنيا بدين ربها.
دخل رجل على هند بنت عتبة، وهي تحمل معاوية، فقال لها: "إن عاش معاوية ساد قومه"، قالت: "ثكلته إن لم يَسُد قومه"، وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر يقول: "أنا ابن هند".
وكان علي رضي الله عنه يقول: "أنا الذي سمتني أمي حيدرة" (والحيدرة من أسماء الأسد).
ويقولون: وراء كل رجل عظيم امرأة، والمرأة لها دور كبير في تخريج القادة إذا تأسَّت بالصحابيات الفضليات، أما إذا أصبحت همتها في الرقص والغناء، ومتابعة الموضات، وارتياد شواطئ البحر، ودور السينما والمسرح أضاعت نفسها وأضاعت الأمة من حولها، وخلفت أشباه الرجال ولا رجال، شباب قنع، لا خير فيهم، وبورك في الشباب الطامحين.
والفارق كبير بين تربية السادة وتربية العبيد، لقد وُجدت أجيال تربَّت على سموم الفرعونية والبابلية والوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية، ولم تعرف شيئاً عن دينها، فهل يُقال عن هؤلاء قادة المستقبل وجنود معركة المصير؟!.
إن الواحد من هؤلاء قد لا يصلح لأن يقود نفسه أو بيته فكيف يُطلق عليه وصف القائد والزعيم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالقيادة ليست تسلطاً ولا قهراً ولا جبروتاً، ولكنها أمانة وكفاءة بصيرة بالأمور وعلو همة، صبر وثبات وثقة بنصر الله، وطمأنينة إلى تأييده، نحرص على توافر الشروط الشرعية فيمن يقود، فالخليفة والحاكم ينبغي أن يكون ذكراً حراً عاقلاً عدلاً مجتهداً في دين الله، على معرفة بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمي،ن لا تأخذه رقة في إقامة الحدود الشرعية...
فالخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، والولاية والإمارة تكون للأمثل فالأمثل، ولابد فيها من القوة والأمانة، ولا يجوز الترأس بالجهالة، ولذلك قالوا: تفقهوا قبل أن ترأسوا، وقالوا: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي قبل أن تصبحوا سادة وقادة، أما الاكتفاء بمعرفة البروتوكول في تناول الطعام والشراب والمشي، وقراءة كتاب الأمير لميكافيللي، فهذه الأمور لا تصلح لتربية الجنود فضلاً عن تخريج القادة.
ومع حرصنا على الأخذ بالأسباب الشرعية لابد وأن تعلم أنَّ القيادة من قبل ومن بعد فضل من الله يؤتيه من يشاء، فالمؤهلات والقدرة وتذليل الصعاب ومحبة الرعية لقائدها وانقيادها له، كل ذلك محض فضل وتوفيق من الله، وهذه الأمة قد أنيط بها إقامة الحق وقيادة البشرية بأسرها {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فإذا كنا قد أصبحنا غثاءً كغثاء السيل، فهذا لا يمنعنا من النهوض والأخذ بالأسباب لوراثة الأرض بالحق والعد، وإقامة خلافة على منهاج النبوة، وهذا يتطلب منَّا إيجاد المسلم بمفهومه الحقيقي، بحيث تتوافر فيه الصبغة الإلهية والثبات على الحق، ومعاني العزة والمجاهدة والبصيرة والأوبة إلى الله وإدراك الغاية من الحياة، وغير ذلك من المعاني التي تؤهل المسلم لأن يناطح السحاب، تهتز الجبال ولا تهتز معاني اليقين في نفسه، يصنع كما صنع ربعي بن عامر عندما دخل على رستم قائد الفرس فسأله: من بعثكم؟، فأجابه ربعي: "ابتعثنا الله لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
ولو استقامت الموازين لعلمنا أن القيادة بحق كانت لربعي المغمور لا لرستم المشهور، فالقائد يجب أن يُخلص عمله لله ويتواضع لجنابه سبحانه.
والتنازع على القيادة يُفسد النوايا، وتضيع به البلاد والعباد، فالمركب تستقر في قعر المحيط إذا بويع لخليفتين، وحسبك أن تطيع قائدك في غير معصية الله، حتى وإن كنت أهلاً للقيادة والإمارة، فمن الجائز إمامة المفضول للفاضل، والخلاف شر كله، ولا تُبالي إذا وضعوك في المؤخرة، أو خفي حالك على الخلق، فأنت ممن يتعامل مع الله.
قيل عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-: إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك، وكان من الصلاة والقوة في دين الله بمكان.
والدال على الخير كفاعله، ومن نفس المنطلق قد تجد مخايل النجابة وعلامات القيادة المبكرة في ولدك أو في غيره، فتعاهده، كقوله للصبيان: من يكون معي؟، وتعالوا:أكن أميركم، ومن ذلك ما حكاه نضراً الهلالي قال:كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظروا إلى صبى دخل المسجد، فتهاونوا به لصغر سنه فقال سفيان: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94]، ثم قال: يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة من نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، وأنا أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهرى وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلتُ المجلس، قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير، أوسعوا للشيخ الصغير.
وعلى كل حال فمن وجد توفيقاً وتسديداً فالله يوفقه {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وعليه أن يزداد طاعة وعبودية لله، ويؤدي شكر النعمة التي امتن بها سبحانه عليه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه
سعيد عبد العظيم
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
إعداد وتنسيق:
براحة الدورات الشرعية والبحوث العلمية
بمنتدى البراحة
بالتعاون مع موقع صيد الفوائد
ـــــــــــــــ(1/121)