بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2]، وصلاةً وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
مما يُروى أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها عدة ملوك وبادوا.
فقال: هل بقي من نسل أولئك الملوك أحد؟
فقيل له: ما بقي منهم إلا رجلٌ واحد يأوي إلى المقابر، فدعا به، فلما حضر قال له: ما حملك على لزوم المقابر؟
قال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدت الكل سواء.
قال الإسكندر: هل لك أن تتبعني فأجيز لك بشرف آبائك إن كانت لك همة عظيمة؟
فقال: إن لي همة عظيمة بشرط إن كانت بغيتي عندك تبعتك.
قال: وما بغيتك؟
قال: حياة لا موت فيها، وشباب ليس معه هرم، وغناء ليس معه فقر، وسرور ليس معه حزن.
قال الإسكندر: ليس ذلك عندي ولا بيدي.
فقال: أي خير أرجوه عندك إن لم يكن عندك هذه الأشياء؟ فامض لشأنك ودعني أطلب ذلك ممن يملكه وهو عنده، ثم عاد إلى مكانه، ولم يلتفت إلى الإسكندر.
هكذا نظرة الناس إلى القبور تتفاوت من شخصٍ لآخر، فمن غافل ساه، ومن عالم متفكر، قال سبحانه: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 100].
قال مجاهد عن هذه الآية: «البرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة».
وقال أبو صخر: «البرزخ: المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون».
وفي هذه الآية تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ.
قال - عليه السلام - موجِّهًا أمَّته: «تعوذوا بالله من عذاب القبر».(1/1)
إن حياة البرزخ بما فيها من نعيم وعذاب غيب غاب عن عقول كثير من البشر مع المدنية المعاصرة، فهذه المدنية «تقوم على تعظيم المادة وحُب الدنيا والاستكثار من اللذائذ وتوجيه كل مخترع ومكتشف إلى التسابق فيها والتنافس عليها وجمع حطامها { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7]. هذا حال الغافلين عن مصيرهم ومآلهم.
يُروى عن عثمان - رضي الله عنه - أنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته.
فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا؟
فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه».
قيل لبعض الزُّهَّاد: ما أبلغ الموعظة؟ قال: النظر في محلة الأموات.
قال مجاهد: «أول ما يتكلم من ابن آدم حفرته، تقول: أنا بيت الدود، وبيت الوحدة، وبيت الوحشة، وبيت الظلمة، وبيت الغربة، هذا ما أعددته لك يا ابن آدم، فماذا أعددت لي؟
روي عن أبي الدرداء قوله: ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أدخل قبري.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لبعض جلسائه: يا فلان، لقد أرقت البارحة تفكرًا في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث ليال في قبره لاستوحشت منه بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتًا تجول الهوام فيه ويجري فيه الصديد وتحرقه الديدان مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وكان ذلك بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة خرَّ مغشيًا عليه.
والله لو عاش الفتى في عمره
ألفًا من الأعوام مالك أمره
متنعمًا فيها بكل لذيذة
متلذذًا فيها بسكنى قصره
لا يعتريه الهم طول حياته
كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي
فيها بأول ليلة في قبره(1/2)
أخي في الله: هل مررت في يوم من الأيام بجوار مقبرة لترى ذلك الفاصل بين الأحياء والأموات، فاصل لا يعدو أن يكون أمتار يسيرة يفصل بين حياتين: حياة البرزخ وما تضمه من نعيم وعذاب، والحياة الدنيا وما تحويه من بيع وشراء، وصدق وكذب، وأمانة وخيانة، وعبادة وفجور، وحزن وسرور، وغفلة ويقظة. كل ذلك يجري في حياة فانية تعقبها الحياة الباقية، والقبر صندوق العمل، فهو كما قال - عليه السلام - : «القبر أول منازل الآخرة»، وقال أيضًا: «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار»، وسبحان القائل: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه: 55].
أما كون القبر صندوق العمل، فإن الإنسان يقطف ثمرة عمله عند إدخاله قبره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا فيحصل له معها النعيم والعذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها، وقاموا من قبورهم لرب العالمين».
هنيئًا للعبد الصالح عند إدخاله قبره، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه؛ إنه ليسمع قرع نعالهم. قال: يأتيه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟
قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة.
قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - «فيراهما جميعًا».
قال قتادة: وذكر لنا أنه «يفسح له في قبره سبعون ذراعًا ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون».(1/3)
{ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [إبراهيم: 27].
ما أعجب حال الناس في دنياهم!
وما أشد غفلتهم عن مصيرهم!
امتحان شاق ينتظرهم لا ينفع معه حظ ولا شفاعة إلا من أتاه بعمل خالص موافق للكتاب والسنة، وما أجملها من لحظة يأتيك عملك في قبرك على «صورة رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجئ بالخير.
فيقول: أنا عملك الصالح.
فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي».
والقبر روضة من الجنان
أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيرًا فالذي من بعده
أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شرًا فما بعد أشد
ويل لعبد عن سبيل الله صد
معذرة، فإن حديث أنس - رضي الله عنه - لم يكتمل، قال - عليه السلام - : «وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقوله الناس.
فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين».
سبحان الخالق العظيم، كم تحت هذه الصخور والأتربة من عجائب وغرائب، قال الشاعر:
رب لحد قد صار لحدًا مرارًا
ضاحكًا من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
في قديم الأزمان والآباد
كم من متعبد بجوار متمرد؟ وكم من متنسك بجوار متهتك؟
كم من ميت يبكي عليه أهله وهو يبكي على حالهم، فهم موتى الأرواح، أما هو فقد بدأ حياة سعيدة نهايتها جنة عرضها السموات والأرض.
أما من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ألأماني؛ فقد خاب وخسر، واستحق العذاب، لأسباب قال عنها ابن القيم رحمه الله: «الأسباب التي تعذب بها أصحاب القبور فجوابها من وجهين: مجمل، ومفصَّل.(1/4)
أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحًا عرفته وأحبته وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدًا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده. فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما: يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول... وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار، وتعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا، وتعذيب أقوام برضخ رءوسهم بالصخر لتثاقلهم عن الصلاة، ومنهم من يسرح بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، ومنهم من تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.
ومن صور التعذيب: من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزواني، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يغمزون أعراض الناس.
فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله...»، ثم قال رحمه الله: «ولما كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب... تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارًا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارًا أنتم مسرعون إليها انتقالاً، عمرتم بيوتًا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتًا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبيدر الزرع، وهذه محل للعبر رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار».(1/5)
وقال رحمه الله: «ومن الأسباب المنجية من عذاب القبر: أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسرورًا بتأخير أجله...».
ومن أعظم الأسباب المنجية من عذاب القبر: المداومة على العمل الصالح من: صلاة، وصوم، وصدقة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله.
ومن الأسباب: ما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سورة الملك، { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك: 1] هي المانعة، وهي المنجية من عذاب القبر» فبادر أخي بقراءتها قولاً وعملاً، ثم تذكر قوله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت: 30-32].
إن حال البرزخ كما قال ابن القيم رحمه الله: «مثل النائمين في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه، وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك».(1/6)
إن المتأمل في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ليجد رحمة ورأفة بالأحياء والأموات، فقد شرع لنا - عليه السلام - زيارة القبور؛ لأنها تذكر بالآخرة، وتنفع الميت؛ لما فيها من الدعاء له، لقد كان - عليه السلام - يعلم أصحابه أن يقولوا عند زيارة القبور: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو بالبقيع، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون».
ولقد أحسن من قال:
زر والديك وقف على قبريهما
فكأنني بك قد حُمِلت إليهما
إن في القبور لدروس وعبر وعظات...
القبر رد على لذائذ الدنيا وغرورها ومتاعبها...
القبر داعية صامت ولكن هل من متعظ؟
قال الرافعي رحمه الله: «القبر على الأرض كلمة مكتوبة في الأرض إلى آخر الدنيا معناها، أن الإنسان حي في قانون نهايته، فلينظر كيف ينتهي؟...
إن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة...
القبر فم ينادي: أسرعوا أسرعوا فهي مدة لو صرفت كلها في الخير ما وفت به فكيف يضيع منها ضياعٌ في الشر أو الإثم؟..
لو ولد الإنسان ومشى وأيفع وشب واكتهل وهرم في يوم واحد، فما عساه كان يضيع من هذا اليوم الواحد؟
إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصر من يوم...
هنا قبر وهناك قبر وهنالك القبر أيضًا، فليس ينظر في هذا عاقل إلا كان نظره كأنه حكم محكمة على هذه الحياة، كيف ينبغي وكيف تكون؟». انتهى.
وإذا حملت إلى القبور جنازة
فاعلم بأنك بعدها محمول
يا صاحب القبر المنقش سطحه
ولعله من تحته مغلول(1/7)
مر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالمقابر، فوقف عليها قليلاً وقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، وبكم عما قليل راجعون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي في جميع أحواله عن الله تعالى.
ثم قال: يا أهل القبور، أما الزوجات فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى.
... القبر صندوق العمل
يا من بدنياه اشتغل
وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة
والقبر صندوق العمل
هكذا الحياة «من كان له بصر يرى وعقل يدرك رأى أن حياة الإنسان مراحل، فلقد كان يومًا منطويًا على نفسه مكومًا في بطن أمه يعيش بين أحشائها، ولو كان يفكر يومئذ لظن أن هذه هي الحياة فهو يتمسك بها ولا يخرج منها إلا مرغمًا، ولو كان ينطق لحسب هذا الخروج موتًا ودفنًا في الأعماق مع أنه ولادة وانتقال إلى عالم أرحب هو هذه الدنيا، والذي نراه نحن موتًا وخروجًا من هذه الدنيا هو في الحقيقة ولادة وانتقال إلى عالم أرحب إلى عالم البرزخ... البرزخ بين الدنيا المادية الفانية والحياة الآخرة الباقية».
أطوار يمر بها الإنسان في رحلته إلى الدنيا يحمل في طياتها أفراح وأتراح وعبر وعظات مرصودة الحركات والسكنات { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، بل حتى مثقال الذرة لا يغادر { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7، 8].(1/8)
أخي: هل وقفت مع نفسك متأملاً في الهاتف النقال، ما تصدر منه مكالمة أو ترد إلا وهي مسجلة محصاة في زمنها ومدتها ووقتها بل بالإمكان تحديد الموقع، وهذا من صنع البشر واختراعهم فكيف بمن علم الإنسان ما لم يعلم؟ { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك: 14] سبحانه وتعالى.
هذه مكالمات أحصيت عليك وتم حسابك، إن شئت أن ترفع رصيدك أو تخفضه فهذا أمر عائد لك؛ وكذا صندوق عملك قبرك أيها الإنسان شبه لك بالصندوق حتى ترتسم لك الصورة واضحة فصناديق الدنيا وخزائنها معلومة وما يودع فيها معروف. ولك أن تتخيل شخص أرصدته خاوية وقيل له يا فلان املأ هذه الصناديق المالية مما هو معروض أمامك، وكان العرض يحتوي على مبالغ مالية ولآلئ وجواهر ودرر وفي المقابل نفايات فاسدة وجيف منتنة.
ترى أين سيتجه العقل؟ وماذا سيختار؟!
يا للأماني كيف يلهين الفتى
حتى يمر العمر لمحة ناظر
إن كان يعذرني الشباب وزهوه
فالشيب إن يأت فليس بعاذري
يقول الشيخ الزنداني: «لقد ثبت أخيرًا ثبوتًا قاطعًا أنه ما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات إلا وهي مسجلة في سجل الكون ومدونة في كتاب الوجود، فليس شيء منها ضائعًا ولا يمكن لشيء منها أن يزول. ولقد صنعت آلة تصوير حديثة تمكن بها الباحثون أن يصوروا أحداثًا بعد ساعة من وقوعها... وإن كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود فلماذا سجلت الأعمال إذن؟ ألا تجد العقول جوابًا إلا أن تقول سجلت الأعمال لإعادة عرضها ولكنا لا نرى الإعادة في الدنيا إذًا لابد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وقال المرسلون».
يقول ابن القيم رحمه الله: «اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصه وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير».
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا(1/9)
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
ومما ينبغي الإشارة إليه «أن حياة الميت في قبره بعودة الروح إليه لا تعني الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى طعام وشراب ولباس، إذ كان ذلك خطأ، وكان الحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص الشريف، على حين أن الحياة الأخرى التي يتمكن معها الميت من الشعور بالنعيم والعذاب والقدرة على فهم السؤال والإجابة عنه هي بلا ريب غير هذه الحياة الدنيا، وهي حق بدلالة النص الصحيح الصريح من قول رسول الله عليه الصلاة والسلام على أن قوله: «ثم تعاد روحه في جسده» لا يدل على حياة مستقرة وإنما يدل على إعادة لها إلى البدن وتعلق به، والروح لم يزل متعلقًا ببدنه وإن بلي البدن وتمزق.
وسر ذلك: إن الروح له بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم حنينًا.
وثانيها: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
وثالثها: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه آخر.
ورابعها: تعلقها به في البرزخ فإنها مهما فارقته وتجردت عنه لم تفارقه فراقًا كليًّا بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتة.
وخامس التعلقات التي للروح بالبدن: تعلقها به يوم بعث الأجساد..».
إن المسلم حقًا لا يعتريه شك في عذاب القبر ونعيمه فقد تواترت الأدلة العقلية والنقلية على ثبوته؛ ولذا انبرى العلماء في قديم الزمان وحديثه لتحذير الأمة من هذا المصير، فهنيئًا لمن عرف قدر الحياة فاستكثر من الأعمال الصالحات والصفات الطيبات ليجدها كنوزًا مدخرة في صندوق عمله وبيت غربته.
وختامًا: أسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لي ولوالدي ولجميع المسلمين إلفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، والله ولي التوفيق.
جمعه وأعده
علي بن عبد الله بن عجيم
أبها – ص.ب 961(1/10)