الفوائد المربوعة
لذوي العقول المرفوعة
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
فهذه رسالة لطيفة، أقدمها للقاريء الكريم، اشتملت على جملة طيبة من الفوائد العلمية المتعلقة ببعض الجوانب العقدية والفقهية، يسر الله لي كتابتها رغم زحمة الأعمال، وكثرة الأشغال، وسميتها الفوائد المربوعة، لأن فيها من الفائدة ما لو كان شجرة لكانت مخضرة مبهرة، بعد أن أصابها الربيع، وهي ليست لأي أحد بل يختص بروعة جمالها، وقطف ثمارها، والاستظلال بظلها من لههم عقول مرفوعة، فهي محلقة في سماء العلم والتعلم، طالبة لمعالي الأمور لا لسفاسفها.
أسأل المولى سبحانه أن يجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم، والله المستعان.
فهد عبد الله
جامعة الإيمان- صنعاء
(1)
الديانات التوحيدية
انتشر هذا المصطلح في الفترة المتأخرة، ويقصد به: الإسلام واليهودية والنصرانية، ويعنون بالتوحيدية أنها تعبد إلها واحدا وهو الله بخلاف الأديان الأخرى، والتي تعبد المخلوقات، والمسماة بالأديان الوثنية.
ونحن لا ننكر وجود بعض الحق عند اليهود والنصارى، وأنهم في أصل ملتهم كانوا موحدين لله سبحانه، ولهذا كانت لهم أحكام خاصة عن غيرهم من الوثنيين.
إلا أن وصفهم بالموحدين وصف مجانب للصواب وبعيد عن الحقيقة كل البعد، لأن النصارى ببساطة لا يعبدون الله سبحانه وإنما يعبدون المسيح عيسى عليه السلام، ولهم في عقيدته هذه خلط كثير وخروج عن المعقول، ويسمون عقيدتهم بالثالوث الأقدس، فأين التوحيد هنا!!!
أما اليهود فهم وإن كانوا يوحدون الله سبحانه إلا أن منهم طوائف يجعلون عزيرا ابن الله { وقالت اليهود عزير ابن الله } ، ومنهم طوائف يؤلهون غير الله معه سبحانه.
إضافة إلى كونهم يصفون الله سبحانه بأوصاف لا يجوز أن تنسب إلى نبي من أنبيائه فكيف به سبحانه.(1/1)
فهم يجعلون من الله تعالى عن ذلك بشرا يعجز ويخاف ويُصرع ويتمشى على الارض...الخ هذه الترهات والمعتقدات الزائغة، بل حكى الله عنهم في القرآن بأنه وصفوا الله بالفقر وأنهم أغنياء { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } .
فكيف تكون هذه الأديان توحيدية وتقارن بالإسلام، الذي رأس أمره "شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
إنها دسيسة ولا شك، الهدف منها الوصول إلى مارب خطير وهو ما يسمى بتوحيد الأديان، او توحيد الديانات الإبراهيمية والذي يدعو إليه بعض المحرومين من أمثال "روجيه جارودي" الذي يوم ان أعلن إسلامه فرح الكثيرون وعدوا إسلامه ضربة للاشتراكية بل للحضارة المادية برمتها.
لكنه يقول بأنه دخل إسلام إبراهيم وله جملة معتقدات زائغة كإنكاره لخمسية الصلوات وقطعيات المواريث كأن يكون للرجل مثل حظ الأنثيين وله تخاريف في الزكاة وغيرها.
إن الإسلام هو دين التوحيد الوحيد الذي لا يضاهيه أو يقاربه فيه دين من هذه الأديان المحرفة، بل لا يضاهيه أي دين مطلقا وقد ثبت في السنة: "لو كان موسى حيا لما وسعه غير اتباعي".
(2)
التصوف طريق إلى التشيع
قد يستغرب البعض كيف يكون التصوف طريقا للتشيع والرفض في حين أن التصوف يغلب على الكثير من المنتسبين إلى أهل السنة.
والحقيقة ان المتتبع لنشأة وتطور التصوف سيجد أن التصوف لم يكن يوما من الأيام إفرازا إسلاميا.
بل إن التصوف عرف في الهند ومن ثم انتقل إلى فارس وتشكلت لدى كل بلد مدارس فلسفية تعنى بحب الحكمة والفناء فيها.
كما ظهرت فلسفة حب الحكمة لدى الفلاسفة الإغريق، لكن التأثير الآتي من الشرق كان كبيرا.
لقد كتب كاتب شيعي يدعى كامل الشيبي كتابا حول الصلة بين التصوف والتشيع، ولكني لم أطلع عليه، والذي أجزم به أن هناك صلة عميقة بينهما وإن كان البون أيضا شاسعا بينهما في جوانب أخرى.
وسأكتفي هنا ببيان ما يدل على ما ذكرت والذي أجمله فيما يلي:(1/2)
1- أن كثيرا من الطرق الصوفية ترجع سند طريقتها أو خرقتها إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي اله عنه، وأنه أخذه بدوره من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعللون انفراد علي بذلك أنه باب مدينة العلم، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: "من كنت مولاه فعلي مولاه..." وأنه أخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...الخ.
2- أن التصوف كالرفض يغلو في آل البيت غلوا يخرجه عن الاستقامة، بل قد يخرجه وهو كذلك على البدع العظمى.
3- كلنا يعلم أن الدولة الصفوية ليست سوى طريقة صوفية نشأت في أذر بيجان ثم كونت دولة وأخذت تتوسع في إيران حتى استولت عليها جميعا، وباتت إيران دولة رافضية بامتياز بعد أن كانت سنية.
4- توجد في مصر طريقة صوفية رافضية تعرف بالبكتاشية، أتى بها رافضي ألباني إلى مصر ونشرها فيها، فهذا والذي قبله يدل على وجود قدر كبير من التوافق بين المنهجين، وهذا مما لايتأتى بين المنهج السلفي الإسلامي والمنهج الرافضي الفارسي.
5- لاحظت كثيرا من مشايخ التصوف اليوم يميلون في أطروحاتهم إلى الرفض، بل تجاوز بعضهم مسلمات السنية التي يدعيها، وسأذكر نماذج لذلك:
أ كتب سعيد ممدوح صاحب كتاب التعريف والذي خلط وخبط في مقدمته لهذا الكتاب، كتب كتابا بعنوان "التبجيل في ترك القطع بالتفضيل" ومن العنوان لا تستطيع أن تعرف ماذا يريد بكتابه هذا وعن أي تفضيل يتحدث، وبعد قراءة فصوله الأولى يجلب هذه الرجل بخيله ورجله ليدلل على أن بعض الصحابة لم يفضلوا أبا بكر وأن منهم من لم يفاضل بين الصحابة، ويغفل تماما الإجماع الذي انعقد بعد ذلك على تفضيل الخلفاء الأربعة حسب ترتيبهم، وهو ما أيدته النصوص النبوية والآثار المروية، ومع هذا لم يكتف الرجل بهذا الكلام بل أظهر عن طويته حين عقد فصلا أخيرا يمتدح فيه مذهب الزيدية , وأنه مذهب لم يدخله دخن أو دخل كما حصل مع المذاهب الأربعة!!!(1/3)
لا تنس..إننا نتكلم الآن عن شخص يزعم السنية والتصوف والأشعرية، ويمتدح هذا المذهب الذي انحصر لبضعة قرون في مناطق محدودة في اليمن والذي لو يقرأ أي شخص منصف تاريخه في بلاد اليمن وما جره على مناطق واسعة من ويلات لاستغرب أشد الاستغراب مما كتبه هذا "المحدث".
لقد كان الغرض من هذا المدح أن يصل إلى شيء في نفسه، وهو نقل إجماع الزيدية و"العترة" على أن علي بن أبي طالب أفضل من الثلاثة!!!
وهو بهذا يعرب عن شيء يبطنه في نفسه لطالما حاول كتمه، وقد كان للتصوف دور كبير في بلورته واعتناقه له.
يقول ممدوح هذا الكلام وينقل الإجماع المزعوم، ويتجاهل ما في البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال : قلت لأبي : أي الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر، وخشيت أن يقول : عثمان . قلت : ثم أنت قال : " ما أنا إلا رجل من المسلمين " .
لقد عنون ممدوح كتابه هذا بعنوان موهم يفهم منه ومن خلال الفصول الأولى منه بأنه لا يقطع لأحد من الصحابة بتفضيل على غيره، ثم يذكر في آخر الكتاب أن إجماع العترة على تفضيل علي!
وأن مذهب العترة لم يدخله دخل بخلاف مذاهب السنة!
فماذا تفهم من هذا؟!
ب عبد الله الحبشي الهرري الذي يزعم بأنه كان مفتي الصومال، وأنكر أهل الصومال ذلك، وهو الآن يقيم في لبنان يزعم أنه سني صوفي، ولكن تصوفه هذا قاده للرفض الذي ظهر في سبه لبعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمعاوية رضي الله عنه.
ت المدعو حسن السقاف والذي بدأ متصوفا ثم انتهى رافضيا يسب الصحابة وأئمة السنة، بل رغم دعواه أنه أشعري إلا أنه يسب ويضلل ويخطيء الباقلاني والنووي وغيرهم لا لشيء إلا لأنهم اختاروا السنة على بدعته الرافضية.
ث أحد المفتين في دبي يعرف عنه توجهه الصوفي، وإذا بي أسمع عنه ممن يعرفه أنه قد أصابته لوثة الرفض وأنه يجيز المتعة وإتيان الدبر.
ألا يكفي هذا كله لأن يكون دليلا على ما ذكرت؟(1/4)
علما أن ما سقته غيض من فيض، وأنت لو طالعت كتب المتصوفة لوجدت الكثير من تلك اللوثات والمعابر التي يمكن أن تكون سببا للانقياد للبدع الرافضية، ولو رأيت بعض التصوفة اليوم في مصر وغيرها لوجدت بعضهم فيه تلك اللوثة.
وهذا طبيعي، لأن البدع يقود بعضها إلى بعض، خاصة إذا تقاربت المشارب، والله المستعان.
(3)
عبد الله بن حمزة والمطرفية
يعتبر عبد الله بن حمزة من أئمة الزيدية الكبار، والذي هو بالنسبة لهم كابن تيمية لأهل السنة، وإن كان البون شاسعا بينهما.
تولى هذا الرجل إمامة الزيدية وكانت عاصمته ظفار، ثم استولى على صنعاء فأصبحت عاصمة ملكة.
وينتمي هذا الرجل إلى فرقة من فرق الزيدية الجارودية تسمى المخترعة، وسميت بهذا الاسم لقولها بأن الله اخترع الأفعال في الأجسام!!
وكانت المخترعة هي الفرقة السائدة بل لا يوجد غيرها في الجارودية، فلا تجد جاروديا إلا وهو مخترعي.
فظهر في بعض البوادي زيدي يدعى مطرف بن شهاب وكان فلاحا، فرغب في طلب العلم فترك فأسه وأدوات فلاحته واشترى الكتب وبدأ بالدراسة على مشايخ الزيدية المخترعة، فما لبث أن نازع المخترعة سلطانها وأنشأ فرقة أخرى نسبت إليه، تسمى "المطرفية".
انتشرت هذه الفرقة ومعتقداتها انتشار النار في الهشيم حتى خشي المخترعة من أن ينقرضوا إذا تركوا المطرفية وشأنها، فلما تولى ابن حمزة الإمامة أعلن تكفيره لهم وألف عدة رسائل رادا عليهم، فدعاه علماء المطرفية للمناظرة فإن كان محقا تبعوه وإن كانوا محقين تبعهم فوافق، وضرب لهم موعدا، فاجتمع من علمائهم حوالى 600 معمم، فانتظروه من الضحى إلى غروب الشمس لكنه لم يأت فعادوا أدراجهم، فما دروا إلا وجيوش ابن حمزة تغير عليهم فجر اليوم التالي!(1/5)
فأباد خضراءهم، وقتل رجالهم، وسبى نساءهم، وجمع جميع كتبهم في ساحة وأحرقها جميعا، ففر من فر منهم وعاد من عاد منهم إلى حضيرة المخترعة كابن عبد السلام صاحب كتاب نكت العبادات، والذي كان مطرفيا ثم عاد مخترعيا.
ولما ضج بعض علمائهم على ما فعله ابن حمزة من قتل وسبي وغدر بعد أن وعد بالمناظرة، وكيف استجاز لنفسه سبي النساء وخاصة الهاشميات منهن، فأجاب برسالة يزعم فيها أنه لم يستطع مناظرتهم لانشغاله بالجهاد في بعض نواحي اليمن!!!!!
وأما عن سبيه النساء بما فيهن الهاشميات فعلّله بأنهن مرتدات!
وقد ذكر ابن حمزة كما في مجموعه العقدي أسباب حكمه على هؤلاء بالردة، وذكر منها أنهم يجيزون الإمامة في غير القرشي، فقلت هنا مربط الفرس.
لقد عرف عن ابن حمزة تعصبه الشديد لمذهبه وطائفته ولعرقه، وله قصيدة (عصماء) في مدح نفسه وآله، يذكر فيها أنهم الدرر وكل من عداهم بعر...هكذا!!!
وعندما ثار عليه نشوان الحميري في تعز وادعى الإمامة لنفسه قال فيه ابن حمزة:
فحكمه عند جدودي فيه أن يقطعوا لسانه من فيه
فإذا كان هذا هو حكم جدوده فوالله ما هو بحكم الله.
أما قوله بأن المطرفية تزعم بأن الله خلق الطبائع الأربع أولا ثم تفاعلت فيما بينها فتكونت الموجودات فهذا اعتقاد معروف للفلاسفة، بيد أنا لا تستطيع الجزم بأنه معتقد المطرفية، خاصة بعد أن أُحرقت كتبهم، لكن وجد في معجم مخطوطات الجامع الكبير كتابين عقديين لمؤلفين مطرفيين لعلنا لو اطلعنا عليهما يمكننا أن نقف على كثير من صواب أو خطأ ما نسب إلى هذه الفرقة.(1/6)
ولكن أنبه هنا إلى أن ابن حمزة هذا عندما كان في أول أمره إماما على ظفار وما حولها عقد معاهدة صلح مع الباطنيين الياميين (نسبة إلى يام قبيلة من همدان) والذين كانوا يحكمون صنعاء وما حولها، بل وصاهرهم على الرغم من أن الزيدية تكفر الباطنية وبين هاتين الفرقتين سجال من الحروب والدماء كان آخرها أيام الإمام يحيى حميد الدين الذي اغتيل سنة ثمانية وأربعين من القرن الماضي.
أقول رغم هذا العداء إلا أن ابن حمزة صالح القرامطة وصاهرهم وتفرغ للجهاد "في سبيل الله" في مناطق تهامة السنية مستبيحا الأرض والعرض.
والسؤال الذي يطرح نفسه كيف أن ابن حمزة يفعل ما فعل بالمطرفية وهم من مخرجات فرقته، في حين يصالح القرامطة، أقول لعل نفي المطرفية لأن تكون الإمامة مقتصرة على العلوية، إضافة إلى الانتشار السريع والمذهل لهذه الفرقة سببان رئيسيان لفعلته تلك.
ومع هذا فقد أصبحت المطرفية على يد ابن حمزة أخبارا في الكتب وتاريخا يقرأ بعد أن كان واقعا ومجتمعا.
(4)
الرقابة الشرعية ضرورة دينية
من المسلم به والمعلوم بداهة لدى كل مسلم أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته، وأنه في سبيل ذلك بعث الرسل وأنزل الكتب لكيلا يكون لأحد حجة على الله سبحانه.
وكان الإسلام هو المسك الذي ختمت به الديانات، وكان القرآن هو الكتاب الأخير المنزل من الخالق على الخلق ليكون مرجعا لهم في حياتهم التي لا فصل فيها بين الديني والدنيوي، والتي ليس فيها مكان لغير الله سبحانه.
وكانت السنة الصحيحة هي البيان لما في القرآن مطلقا { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو } وبهذا كمل الدين { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام الدين } ولا يستقيم للمؤمن أن يرد ما أمر الله ورسوله به { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .(1/7)
وإن مما يميز هذا الدين الحنيف إضافة إلى كماله الذي لا يدانيه فيه دين آخر يضاف إلى ذلك شموله، فلا يشذ عنه شيء {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ولهذا كان من عقيدة المسلم أن لله سبحانه حكما في كل شيء كبر أم صغر، وأن هذا الحكم لا يخلو أن يكون واجبا يلتزم به، أو مندوبا يستحب له فعله، أو حراما يمتنع من اقترافه، أو مكروها، يفضل تركه واجتنابه، أو مباحا يخير بين فعله وتركه.
ويعتقد المسلم كذلك أنه في جميع ما سبق ينال الأجر الثواب والجزاء الجزيل إن فعل ما يطلب فعله أو ترك ما يطلب تركه امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته.
وهذه الأحكام تدخل في كل أعمال الفرد لا يشذ عنها شيء بما في ذلك كل ما يتوصل إليه العلم الحديث، أو التطور المتسارع، أو النواحي الجديدة والمتشابكة، سواء في كل ذلك: المال والأعمال والإدارة والأسرة والثقافة وغيرها.
ولهذا لا يقبل الإسلام من المسلم أن يكون مؤمنا في المسجد ملحدا في بيته أو عمله.
تقيا في صلاته شيطانا في تعامله.
بل لا بد أن يخضع جميع نواحي حياته لدين الله سبحانه.
هذا وقد وبخ الله اليهود وأنكر عليهم إيمانهم ببعض أحكام الله وجحدهم لأخرى فقال سبحانه: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة:85].
وأمر الله سبحانه المسلمين بأخذ الإسلام جملة فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } أي أخذه بكافة شرائعه.(1/8)
ولما كان الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه خطوة وطريقا من طرق الشيطان في الإغواء نهانا سبحانه عن اتباع الشيطان في هذه الخطوة والسلوك معه في هذا الطريق الموعر فقال سبحانه: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة:208]
ونظرا لضرورة معرفة حكم الله كان لزاما على الأمة أن توجد العلماء الأكفاء المؤهلين لاستنباط الأحكام الشرعية وتنزيلها على الوقائع، والقادرين على إيجاد الحلول الشرعية للمشاكل التي تعترض المسيرة الحياتية في كافة أشكالها ومظاهرها.
ومن هنا كانت النصوص رافعة لشأن العلم والعلماء وداعية إلى التفقه في الدين، لأنه بدون العلم الشرعي لن يكون هناك تعامل شرعي، وإن حاول البعض إدخاله قسرا في الشرع، لأنه سيكون حينئذ ناتجا عن جهل، والجهل لم يكن يوما حجة في دين الله.
وإنه بفضل الله سبحانه وبعد فترة قاتمة عاشتها أمتنا الإسلامية تحت ضل أفكار مستغربة بزت عقيدة الكثيرين، وساقته في دياجير حياة مظلمة كالحة، لا يعرف فيها المرء إلا الشهوة والشبهة، تلك الفترة التي حاول فيها البعض طمس معالم الدين وتهميش دور العلماء بل وتصفية حياتهم وميراثهم أحيانا، أقول بعد تلك الفترة كتب الله لدينه أن يعود، فكانت عودته مدوية أصمّت آذان المعرضين والمعادين.
وكان من نتائج تلك العودة أن قام لفيف من العلماء بمحاولة استدراك ما فات، وتبيين أحكام الله للناس وإيجاد الحلول التي أثبتت التجربة نجاحها بشهادة العدو قبل الصديق.
فكانت تجربة البنوك الإسلامية، والتي انتشرت في كثير من أقطار عالمنا الإسلامي، ووجد المسلم فيها ضالته التي لطالما بحث عنها وافتقدها.(1/9)
وقد تميزت البنوك الإسلامية فيما تميزت به ما يعرف بالهيئة الشرعية التي تقوم بالرقابة الشرعية على أعمال المصرف القائمة عليه، واعتماد التعاملات الصحيحة ونفي ما كان باطلا مخالفا للإسلام وتعاليمه، وإصلاح وتعديل ما يمكن إصلاحه وتعديله مما اختلط فيه الحلال بالحرام، والجائز بالممنوع.
ولقد لمسنا الآثار الطيبة لتلك الهيئات من خلال وفرة التعاملات النقية الحلال، والتي شجعت الكثيرين لوضع أموالهم مطمئنين لسلامة مسار تلك البنوك.
لقد كانت فكرة الهيئة الشرعية هذه فكرة موفقة للغاية تتوافق مع مبدأ المرجعية الذي حصره الإسلام في أهل العلم الشرعي فقال: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
وكان من حقها أن تنتشر وتمتد لتصل إلى كافة الجوانب الحياتية الأخرى، ولا تقتصر أو تقف عند المصارف الإسلامية.
والذي نطمح إليه أن تتوسع دائرة هذه الفكرة لتشمل المؤسسات المجتمعية المختلفة، وكما بدأنا بالاقتصاد فنثني الآن بالإعلام، وما أراه أنه رغم كثرة القنوات الإسلامية إلا أنها في معظمها إن لم يكن كلها ليس لديها هيئات شرعية على منوال ما في البنوك الإسلامية.
رغم ما للإعلام من خطورة وقدرة على التأثير وصياغة الأفكار وصنع القرار وتوجيه الكبار بله النشأ.
وحري بنا الآن بعد أن قطعنا أشواطا في صناعة المال وحققنا نجاحات جيدة تتطلب الاستمرار والمواصلة حري بنا الآن أن نلتفت إلى صناعة التوجهات وفق الشرع الإسلامي وهديه.
أقول هذا لأني وجدت بعض هذه القنوات كثيرا ما تنبو عن الشرع وأحكامه، مما يؤثر سلبا على قضية التدين لدى كثير من المشاهدين ذكورا وإناثا ، صغارا وكبارا، بل يحتج البعض لأعماله التي قد تكون مخالفة للشرع يحتج بما في هذه القناة أو تلك ممن تتبنى المنهج الإسلامي.
إن وجود هيئة شرعية للإعلام الإسلامي ضرورة يحتمها الشرع كي لا تحيد تلك الوسيلة الإعلامية أو تميد.(1/10)
وضرورة من أجل نماء المشروع الإسلامي في جوانبه المختلفة خصوصا فيما نحن بصدده، وهو الإعلام.
وضرورة من حيث استيعاب هذه الوسيلة واستغلالها الاستغلال الأمثل في نشر الدين وتعاليمه بين الناس.
كما أن في وجود تلك الهيئات سبيلا لتجديد كثير من المضامين الإعلامية بما يدعو أو يتوافق مع الشرع الحنيف، إذ إن هناك الكثير من القضايا والمواضيع التي ينبغي أو يمكن إخراجها في قوالب إعلامية متنوعة تعالج مشاكل فكرية أو اجتماعية، أو توضح جوانب معينة دينية أو ثقافية أو تاريخية أو غيرها.
- المستشفيات والمراكز الصحية:
وعلى صعيد آخر تكثر فيه المخالفات الشرعية عن عمد أو جهل وقد تبرر هذه المخالفات بحجج واهية، رغم خطورة الثغرة الذي يسده هذا المرفق ألا وهو المستشفيات ونحوها .
فتشكيل هيئات رقابة شرعية لتلك المستشفيات ضرورة دينية ودنيوية، والرابح الأول لوجود هذه الهيئات هي المستشفيات نفسها من جهات عديدة أهمها تعبيد هذا المرفق لله سبحانه والذي يساهم في نقاء ومشروعية أعمال وأرباح المشفى، والسمعة الطيبة التي سيتمتع بها من خلال إجراء تعاملاته وفق موافقة هيئة شرعية مما يساعد على نماء القاصدين له ونماء الاستثمار.
ومما لاحظت أن كثيرا من الإشكاليات التي تقع فيها بعض المستشفيات ناتج عن مخالفات شرعية، في حين لو تفادى المشفى تلك المخالفات لتفادى الكثير من المشاكل، ولجنب نفسه وغيره الكثير من المتاعب.
إذن في وضع هيئة شرعية أو حتى مستشار شرعي تحقق بعبادة الله حق عبادته وشكره تعالى على نعمه في هذا المجال، كما أنه ضمان لنمو المال الحلال، وتفادي المال الحرام الذي يمحق البركة في النفس والنسل والمال والعرض بل إنه قد يقضي على الدين.(1/11)
وأنبه هنا إلى قضية مهمة وهي أن الكثير بل الأغلب من الأطباء درسوا الطب بقالبه الغربي الذي لا يعترف أساسا بحكم الله على خلقه، ولا يؤمن أصلا بوجوب طاعة الإنسان لخالقه، ولا يصدق بوجود تشريع سماوي شامل لكافة مناحي الحياة.
كما أنه كثيرا ما يغفل الجوانب الأخلاقية والعرفية.
أما عن موقفه من الإسلام فشيء لا يحتاج إلى بيان، ولهذا ليس غريبا أن تجد بعض الأطباء يتصرف وكأنه في دولة غربية زاعما أن بعض المحرمات الشرعية كالخلوة بالأجنبية أو كشفه أو فحصه الطبي لها إنما هو مجرد تقاليد بالية، وقد يجهل بعض هؤلاء أن هذا حكم الشرع الذي يجب تنفيذه، ولا يجوز رده، وأن الواجب عليه ألا يقدم على ما فيه معصية الله ولو كان بموافقة المريض، وأن عليه توجيه المريض للأسلوب الأمثل المتوافق مع الشرع كي يصون دينه ودين مرضاه، ويحوز الأجر والثواب والسمعة الطيبة والقبول الواسع.
وهناك مشكلة أخرى وهي أنه مما زاد الطين بلة أولئك الأطباء المستقدمون والذين يغلب عليهم الإلحاد فتسببوا بمخالفات شرعية فادحة في مظاهر عدة.
والضرورة نفسها تقال في الشركات والمؤسسات التجارية والخيرية، العامة والخاصة.
وكما يوجد مستشار قانوني لا بد من وجود مستشار شرعي، بل قد يكون هذا واجبا لأنه لا يتم معرفة المباح من غيره خاصة في الجهات التي تتعقد وتتنوع تعاملاتها إلا بمستشار شرعي وعليه فوجوده واجب شرعا.
(5)
من أحكام المال الحرام
كثيرا ما يسأل الناس بما فيهم طلبة العلم عن مسائل متعلقة بالمال الحرام، فارتأيت أن ألخص هنا جملة من هذه المسائل لمريد الفائدة، ومحب الإفادة، خاصة أن كثيرا من هذه المسائل منثورة بين طيات الكتب وقد يصعب على البعض العثور عليها في مظانها.
يرجع سبب المال الحرام إلى الأسباب التالية:
1- لم يأذن به الشرع، ولو أذن به مالكه: كالربا والرشوة والسرقة والتجارة فيما يحرم المتاجرة فيه كالخمر والمخدرات وغيرها.
2- لم يأذن به مالكه: كالغصب.(1/12)
ولا يطهر هذا المال لصاحبه المسلم بل هو مال حرام يجب التخلص منه.
أم الكافر لو أسلم وفي يده مال حرام ناتج عن ربا مثلا أو غيره فلا يطالب بالتخلص منه، لأن الإسلام يجب ما قبله، قال تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } فيجوز له التصرف في هذا المال.
وهذا بخلاف ما لو قبض المال الحرام بعد إسلامه فمنا اختلف الفقهاء على قولين:
- الجمهور على عدم جواز أخذه، للآية السابقة التي تدل على تجاوز ما حدث أثناء الكفر أما ما وقع بعد الإسلام وهو هنا أخذ المال فإنه لا يجوز أخذه لأنه لا يدخل تحت معنى الآية.
- في حين ذهب بعض المالكية إلى جواز ذلك ونظروا إلى العقد وقالوا بأن هذا المال ثمرة لعقد وقع في الكفر، وقد تجاوز عنه الشرع فيلحق بها القبض لأنه أثر من آثاره.
وهنا يرد سؤال كثيرا ما يستفتى عنه وهو وضع المال في البنك الربوي وأخذ الفائدة عنه خاصة من شخص كان يفعل ذلك ثم تاب.
والجواب على ذلك ما يلي:
أولا: يحرم على المسلم أن يضع ماله في بنك ربوي، لأنه تعاون على الإثم والله يقول: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ولأنه أيضا يعرض نفسه للوقوع في الحرام، وهو أخذ الربا (الفائدة).
ويستثنى من هذا ما لو انعدم مصرف إسلامي في بلده أو مكان آمن يستطيع حفظ ماله فيه حينئذ يجوز له إيداع ماله في بنك ربوي شريطة أن يأخذ الفائدة الربوية ويتخلص منها بتوزيعها على الفقراء والمساكين أو أن يبني بها مرفقا عاما ينتفع به المسلمون كدور أيتام ونحو ذلك إلا المسجد فلا يكون إلا بمال طيب حلال.
أما إذا خاف على نفسه الميل لأخذ الربا خاصة إذا كان مبلغا طائلا فلا يجوز له حينئذ أخذها.(1/13)
ثانيا: ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أن من وقعت منه هذه الكبيرة فعلية التوبة والإقلاع عنها والندم والعزم على عدم العودة لفعل هذا المنكر، ويكون المال الزائد (الفائدة) ربا حراما يجب التخلص منه لقوله سبحانه وتعالى: { َوإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة:279].
ثالثا: إذا أخرج المال الحرام فعاد فقيرا يجوز له أن ينفق منه على نفسه وعياله ويخرج الزائد، كما يجوز له أن يقتطع منه مبلغا يبدأ به حياة جديدة بما يكفيه دون زيادة، فلو كان تاجرا فيجوز له أن يأخذ مالا يستطيع أن يفتح به تجارة يكفيه ريعها.
ولو كان مزارعا يجوز له شراء أرض ليزرعها بحيث يكفيه ريعها عامه كله.
ولو كان عاجزا عن عمل أي شيء فيجوز شراء بيت ينتفع بريعه الذي يكفيه ولا يأخذ بيتا له ريع زائد عن حاجته، وهو في كل ذلك إنما يأخذ المال بمسمى الفقر والمسكنة لا لشيء آخر، كما أنه خاص بالمال الذي لا يُعلم عين مالكه، أما المال الذي يعلم مالكه فلا يجوز التصرف فيه بل الواجب رده إلى صاحبه.
النفقة على العيال من المال الحرام:
سأل طالب في أحد دروس المنهاج عن شخص مصدر كسبه حرام كبعض المغتربين في أمريكا الذين يبيعون الخمور ولحم الخنزير في بعض المتاجر الأمريكية، ويرسلون لأولادهم المال هل يجوز لهم أخذه؟
وكان الجواب: أننا نقسم من يعولهم هذا الشخص على قسمين:
الأول: الأطفال الصغار أو العاجزين عن الكسب فهؤلاء يجوز لهم أخذه، لأنهم مضطرون على ذلك.
الثاني: الكبار القادرون على الكسب أو كان لهم مال حلال فهؤلاء لا يجوز لهم أخذه، لأنه مال حرام.
اختلاف الدور لا يحلل الحرام:
وهنا يذكر البعض قول أبي حنيفة من أنه يجوز للمسلم أن يرابي في بلاد الكفر، وعليه فيجوز أخذ الربا في البلاد الأجنبية.
ويجاب على هؤلاء بما يلي:(1/14)
1- أن هذا القول على جلالة قائله ضعيف لأنه مخالف للدليل وهو قوله تعالى: { وحرم الربا } ولم يفرق بين دار الإسلام ودار الحرب فهو عام يجب العمل بعمومه حتى يأتي المخصص.
2- أن الجمهور –تبعا للدليل- من السلف والخلف على خلافه.
3- أن دليل أبي حنيفة في هذه المسألة حديث ضعيف لا يصح هو: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب"
4- أن الدور لا تأثير لها في الأحكام خاصة فيما يتعلق بالقيم كالربا.
5- أن أبا حنيفة خصه بدار الحرب ولم يعم دار الكفر وفرق بين الدارين.
6- يلزم هؤلاء الفرحين بهذا القول أن يلتزموا الأحكام الأخرى المتعلقة بدار الكفر ومنها: قطع التجارة معهم، وحرمة دخولها إلا لحاجة، ومن دخلها لغير حاجة سقطت عدالته...الخ.
7- أن هذا القول غفلة عن واقع الاقتصاد اليوم الذي ينبني على الوفرة المالية، والتي تعني بالنسبة للبنوك زيادة الأرباح تبعا لزيادة المودعين، فهذا يعني تنشيطا لتلك البنوك وأنه هي الرابح الأكبر من هذه العملية لا ما قد يتخيله هؤلاء من أن المسلم هو الرابح الأكبر، زد على ذلك ما يترتب على هذا القول من هروب لرؤوس الأموال الإسلامية وهجرتها إلى بلدان أخرى مما يعني ضربة موجعة لاقتصاد بلاد الإسلام وإسهاما في تدوير النشاط الاقتصادي الأجنبي.
معاملة أصحاب المال الحرام:
سأل أحدهم عن عمله يعطيه وأخاه مالا وهدايا، والأخوان يعلمان أن مصدر مال عمهما حرام، ويخشيان غضب عمهما إذا رفضا أخذ تلك الهدايا، فهل يجوز لهما أخذها؟
وللإجابة على ذلك كان ينبغي سؤالهما سؤالين:
الأول: هل لعمهما مصدر حلال أم كل مصادر كسبه حرام، فأجابا بأن جميع كسبه حرام.
الثاني: عما إذا كانا فقيرين، فأجابا بالنفي.
وعليه كان الجواب بعدم جواز أخذ هذا المال، لأنه مال حرام، وفي حالة خشية حدوث مشاكل إذا رفضا فيجوز حينئذ الأخذ ثم التخلص منها بإعطائها للفقراء والمساكين.
لكن قالوا بأنه يريدنا تناول بعض تلك الهدايا المطعومة أمامه.(1/15)
فأجازنا لهم تناولها شريطة إخراج ثمنها، والله أعلم.
إن مسألة العامل مع حائز المال الحرام مسألة تشكل على كثيرين، وخلاصتها، أننا نقسم التعامل مع حائز المال الحرام على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: التعامل معه في عين المال الحرام، وهذا لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون هذا المال نقدا، كما لو قامر أحدهم فربح مبلغا ماليا ثم أراد أن يشتري بعينه شيئا فلا يجوز حينئذ التعامل معه، لأن في هذا إقرار للفعل الحرام، وتصحيحا لملكه ذلك المال.
الحالة الثانية: أن يكون عرضا أي غير نقد كسيارة غصبها ثم أراد بيعها أو هبتها، فهذه كذلك يحرم قبولها أو التعامل معه بعينها، للعلة السابقة، ولأن في ذلك تفويتا لمالكها الأصلي بل الواجب على الغاصب أو من أعطيت له إرجاعها لصاحبها وإلا فهو معين له في الإثم وغاصب لها كذلك.
القسم الثاني: التعامل مع من اختلط ماله الحلال بالحرام، وفي هذه المسألة عدة أقوال هي:
القول الأول: يجوز معاملة من أكثر ماله حلال ويحرم إذا غلب الحرام اعتبارا بالأغلب، وهذا قول الحنفية والمالكية واختيار الشيخ ابن تيمية.
القول الثاني:يجوز معاملته مطلقا سواء قل الحرام أو كثر وهذا قول الشوكاني محتجا بجواز معاملة الكفار وأموالهم يغلب عليها الحرام فكيف لا نجيز التعامل مع المسلم.
وفي هذا القول نظر ظاهر، إذ هناك فرق جلي بين حكم الكافر الذي لا يؤمن بالإسلام وتعاليمه فيقر على ما في يده قبل الإسلام وبعد إسلامه، والمسلم الذي يؤمن بالإسلام وتعاليمه ويجب عليه الالتزام بها ولهذا يجب عليه التخلص من المال الحرام في كل أوقاته.
القول الثالث: حرنة التعامل معه مطلقا لا بيعا ولا شراء ولا يجوز قبول هديته ولا أكل طعامه، وهذا قول أصبغ من فقهاء المالكية، وعلله قوله بشيوع المال الحرام في المال كله مما يتعذر تمييزه وعليه يكون المال كله حراما.(1/16)
القول الرابع: يكره مبايعة من أكثر ماله حرام وقبول هديته وأكل طعامه، أما إذا كان كل ماله حراما فلا يجوز التعامل معه.
وحجة هذا القول أن الأصل في المال والتعامل به الإباحة، ولا يثبت التحريم بالاحتمال، كما أن الاحتمال قائم أن يقع التعامل بالحلال، والظاهر أن الإنسان يملك ما بيده حتى يظهر خلافه.
وهذا هو القول السديد في المسألة وهو قول فقهاء الشافعية.
القسم الثالث: من وقع الشك في وقوع الحرام في ماله:
فهذا يجوز التعامل معه حملا له على السلامة ولأن الأصل هو الحل، وما كان وراء ذلك من شكوك لا تقوم على قرائن مجرد وساوس لا ينبغي مجاراتها، والسؤال عن مصادر أموال الناس بدعة لم تكن في عهد السلف.
وبناء على هذا أجبت عن سؤال أحدهم والذي مفاده أن شخصا أعطاه مالا ليعتمر به، وقال السائل بأنه قيل له أن الرجل المعطي يتعامل باشياء محرمة وأنه لا يجوز له قبول هذا المال ولا أداء النسك به؟
فأجبته بأن الشك هنا لا يحرم التعامل، وأنه يجوز له أخذ المال ,اداء النسك به، وليس عليه من إثم صاحبه شيء إذا كان كما قيل.
خاصة وإن تيقن بوجود المال الحرام فهو غير متيقن ما إذا كان قليلا أم غالبا وفي كلتا الحتين يجوز له أخذه كما قررنا آنفا.
وبع سؤاله ما إذا كان لصاحبه هذا دخل حلال يعلمه، قال: نعم، وعليه فالتعامل مع من هذا حاله جائز.
أداء الحج ونحوه بالمال الحرام:
وهذا السؤال يقودنا إلى قضية أخرى وهي أداء النسك لمن كان ماله حراما، هل يصح حجه أو لا؟
عندما يتناقش بعض الناس في هذه المسألة يذهب الجمهور منهم إلى النفي.
لكن عندما تعرض المسألة على الفقهاء نجد الجمهور منهم على الإيجاب، بمعنى تصحيح هذا النسك، لعلة بسيطة جدا، وهي أننا عندما نتكلم على الحج نعدد له شروطا وأركانا، ولا يكون منها كون المال حلالا.(1/17)
بعبارة أوضح نقول بأن المال الحلال شرط في الوجوب وليس شرطا في الصحة، لأن الحج هو عبارة عن أقول وأعمال مخصوصه، فلا تلازم بين هذه الأعمال وما ينفقه الحاج من مال.
وعليه تبرئ ذمته، لكنه يأثم بإنفاقه المال الحرام.
كان هذا هو قول الجمهور، في حين ذهب مالك وأحمد في رواية إلى عدم صحة حجة، وعدم براءة ذمته تبعا لذلك، مستدلين بقوله تعالى: { إنما يتقبل الله من المتقين } .
وأجيب عن استدلالهم بأنه ليس نصا في المسألة.
بناء المساجد بالمال الحرام:
ذكر أحدهم أن مغنيا بنى مسجدا في قريته، فرفض الناس الصلاة فيه محتجين بأنه مبني من مال حرام وهو المال الناتج عن غناء المغني، وهو الآن يسأل عما إذا كان هذا الموقف سليما أم أنه يجوز أداء الصلاة فيه دون حرج؟
وكان الجواب أن الفقهاء اختلفوا في حكم بناء المسجد بالمال الحرام على قولين:
الأول: الجواز إذا لم يكن المالك معلوما كما في الحالة المسؤول عنها، وعللوه بأن المال الحرام إذا كان مجهول المالك يصبح من حق الفقراء والمساكين والمصالح العامة.
الثاني: عدم الجواز، وأن مصرفه الشرعي الفقراء والمساكين فقط، لأن المال الحرام مال خبيث لا يصح أن يدخل في بيوت الله.
وإذا رجحنا هذا القول نفصل: بأن يقال إذا كان له مصر حلال آخر فيجوز وتصح الصلاة فيه، وإلا بأن كان ماله متمحضا حراما فلا.
والذي أراه جواز الصلاة فيه مطلقا، إلا إذا كان المال الذي بني به كالأرض والأحجار ونحوها معلومة المالك فلا يصح الصلاة فيه ردعا للغاصب وأمثاله كي يكف عن غصبه ويكون عبرة لغيره، فالحرمة هنا من باب سد ذريعة الفساد.
وإلا فالصلاة في الأرض سواء كانت مغصوبة أم لا صحيحة كما هو مذهب الجمهور، إذ إن حلّ الأرض ونحوها ليس من أركان أو شروط الصلاة.
(6)
إياك والانشغال بغير الواقعات(1/18)
لقد قفزت التقنية قفزة هائلة في العصر الحديث، وتسارعت التطورات تسارعا مهولا، مما يستدعي ويتطلب معالجة هذه المستجدات والتطورات معالجة فقهية، كي يتبين للمسلم ما يباح له وما يحرم عليه.
وهذا يعني ضرورة استيعاب الفقيه لواقع عصره استيعابا يستطيع من خلاله تنزيل الأحكام الشرعية، وهذا يستغرق وقتا وجهدا كبيرين في المطالعة لكتب المتقدمين والمتأخرين ومتابعة التطورات والمتغيرات التي تؤثر على تنزيل الحكم الفقهي.
لكن من المؤسف أن البعض يهتم بمسائل لا علاقة لها بالواقع ويشغل تفكيره ويمضي وقتا غير قليل في حل إشكالات غير واردة من ذلك مثلا المسائل المتعلقة بالعبيد.
إن هذه المسائل من الكثرة بحيث تأخذ حيزا كبيرا في تراثنا الفقهي، ورغم أن هذا الحيز يأخذ من أموالنا وأوقاتنا في مطالعته أو المرور عليه إلا أن البعض يحلو له أن يفهم كل صغيرة وكبيرة من تلك المسائل وقد يذكر بعض الإشكالات ويحاول حلها ويبحث في الشروح والحواشي فينجح أحيانا ويخفق أحيانا أخرى.
إن هذا الوقت والجهد المهدرين لو أحسن استغلالهما فيما هو مفيد وواقعي وفيما تحتاج الأمة حل إشكالاته لربح وربحنا الكثير.
إن الأبواب الفقهية اليوم من السعة بحيث يصعب على المتخصص الإلمام بجميعها سواء على المستوى المذهبي أم المقارن، فلو زدت إلى ذلك ما ينبغي معرفته من مستجدات فإن الأمر سيغدو صعب المنال.
ومن هنا ذهب الجماهير من أهل العلم إلى القول بتجزؤ الاجتهاد بمعنى أنه يمكن للمجتهد أن يكون مجتهدا في بعض مسائل الفقه، وليس شرطا لوصول رتبة الاجتهاد أن يكون مجتهدا في أصول وفروع الفقه الإسلامي.
لقد قالوا هذا ولم تظهر بعد العلوم والنظريات المعاصرة التي ينبغي للمتخصص الإلمام بها، والتي هي من الكثرة بحيث يصعب حصرها.(1/19)
ولهذا ذهب البعض إلى أن تجزؤ الاجتهاد اليوم يمكن أن ينظم بطريقة تخصصية، فمثلا يدرس مريد التفقه جميع أبواب الفقه الإسلامي، ثم يتخصص تخصصا دقيقا في باب من أبوابه، كالشركات وما يتعلق بها، أو يكون بصورة أعم كالمعاملات المالية.
والتخصص في هذا الجانب يقتضي دراسة معمقة في علوم معاصرة لم تكن موجودة سابقا كالمحاسبة، والقانون [التجاري] والإحصاء، وعلم النفس...وغيرها.
فإذا شغل الطالب نفسه بقضايا العبيد ونحوها فمتى يتفرغ لدراسة هذه العلوم والإطلاع عليها؟
وهنا أشير إلى أن البعض يقول بأن كون العبيد غير موجودين اليوم لا يعني ألا نقرا المسائل المتعلقة بهم، كما أن حذفها من التأليف الفقهي المعاصر يعني الوقوع في إشكالات حين تنتصر الدولة الإسلامية ويروج سوق العبيد.
والجواب على ذلك أن الشرع لا يحبذ العبودية بل لقد جعل عتق العبيد كفارة لكثير من الخطايا، ولهذا استثنى الفقهاء كثيرا من المسائل من أصول كلية لكونها تتعلق بالعبيد.
ثم إن حذف مسائل العبيد لا يعني بالضرورة حذفه من التراث ككل، فمن أراد فليرجع إلى تلك الكتب، وكذلك يقال إذا ما تغيرت الأوضاع وراج سوق الرقيق.
ثم من قال بأن انتصار الدولة الإسلامية يستلزم منه نشوء الرق؟
هذا خطأ محض جر البعض إليه الممارسات القديمة في الحروب والتي كانت الدولة الإسلامية تقابل فيها المثل بالمثل.
(7)
قراءة كتب الفروع
إن قراءة كتب الفروع من الأهمية بمكان عال بالنسبة لطالب العلم ومريد التفقه والوصول لمرتبة الاجتهاد بأي نوع من أنواعه.
وتكمن هذه الأهمية في كونها تدرب الطالب على النظر والاستدلال، والقدرة على توليد المسائل والتنظير لها، كما تمكن المتفقه من بناء المسائل الفقهية بعضها على بعض، وعدم التضارب والتصادم بين الفروع في كتب الفقه المختلفة.
فالفروع الفقهية وسيلة وهدف في ذات الوقت:(1/20)
وسيلة لأنها بمثابة تطبيقات وتمارين لما يدرسه الطالب من أصول المسائل، ولما تعلمه من أصول الاستنباط وقواعده.
وهي هدف لأن في معرفتها معرفة لأقوال أهل العلم بحيث لو سئل عن بعضها أجاب بأقوال أهل العلم بدلا من الاجتهاد الذي كثيرا ما قد يخطئ بالنسبة لمن ليس مؤهلا بعد.
ومن هنا ندرك خطأ الزعم بأن قراءة كتب الفروع ما هو إلا مضيعة للوقت دون فائدة، وأن في القرآن والسنة الكفاية.
ومع تسليمنا بأن القرآن والسنة هما مصدرا التشريع إلا أنن ننازع في قدرة طالب العلم على التعامل المباشر مع القرآن والسنة دون امتلاك ناصية الاجتهاد المتمثل بمعرفة القرآن والسنة واللغة والقواعد الأصولية والعرف، وغيرها، إضافة إلى التمرس فيما كتبه المتقدمون من تخريجات وتفريعات لأصول المسائل بحسب آرائهم.
وربما يسأل سائل عن أفضل كتاب يعالج هذا الجانب.
والذي أحبذه أن على طالب العلم أن يقرأ مذهبا وأحبذ أن يكون مذهب أهل بلدته ما لم يكن مذهبا بدعيا كالإباضي والإمامي، فالتمذهب بمثل هذه المذاهب لا يجوز نظرا لما فيها من أضرار عقدية وسلوكية وفكرية على الطالب، والذي لربما لا يلمسه إلا بعد فترة من الزمن، وربما يكون حينئذ قد فات الأوان بعد أن أشرب قلبه هوى تلك المذاهب.
إضافة إلى أنها مذاهب لا تنتهج الاستدلال السوي، ولا تعتمد الأدلة الشرعية، فالإباضية والإمامية مثلا لا يعترفون بكتب السنة الصحيحة كالبخاري ومسلم، بل يعتمدون كتب آبائهم ممن لا يعرف له اهتمام بالسنة.
وعلى كل حال فإن المذاهب التي كتب لها الانتشار والقبول وملأت كتبها الأفاق هي كتب الأئمة الأربعة وأتباعهم، فننصح بقراءة أي منها بتدرج وأخذا بالأدنى فالأعلى.
بيد أن بعض المذاهب تتميز كتبها وخاصة الفروعية منها بالترتيب والتنظيم، بحيث يسهل قراءتها والبحث عن المسائل في مظانها، كما يسهل تلخيصها، ونقل عبارات منها وغير ذلك.(1/21)
وأسعد المذاهب بهذا هو مذهب الشافعي، إذ اعتنى أئمة المذهب بترتيب الأبواب والمسائل والتخريجات والتفريعات بما لا تجده في مذهب آخر.
ومن أروع كتب الشافعية الفروعية كتاب روضة الطالبين للإمام النووي، الذي اختصره من كتاب فتح العزيز شرح الوجيز لعبد الكريم الرافعي، وهما كتابان جليلان في المذهب.
ثم تأتي كتب الحنابلة كالمغني لابن قدامة وهو كتاب مفيد وشيق يسوق المسائل ويفرع عليها، ويدلل ويعلل مع ذكر الخلاف، لا يستغني عنه طالب العلم مطلقا.
أما كتب الحنفية والمالكية فلم تلق رعاية من أصحابها فهي لا تزال تعاني من عدم الوضوح في التبويب وترتيب المسائل، وكم شكا لي البعض من صعوبة الوصول إلى بعض المسائل في مظانها!
(8)
تكييف النوازل والواقعات
لا يكفي أن يحفظ المرء كتب الفروع الفقهية ويطلع على مسائلها حتى يكون فقيه النفس يستطيع تكييف النوازل والواقعات في إطارها الفقهي، وتنزيل الأحكام المتعلقة بذلك الإطار على المسألة المبحوثة.
أقول هذا رغم أني أستبعد أن يعجز قارئ كتب الفروع الفقهية ودارس الكتب الأصولية عن القدرة على تكييف المسائل الحادثة ووضعا في مكانها الصحيح.
أقول هذا لأني وجد البعض ممن قرأ شيئا جيدا من كتب الفقه والأصول يعجز أو لا ينتبه إلى هذه النقطة المهمة، وأرى بعضهم يكيفها تكييف يتبع العرف أو نحوه، وسأسوق مثالا على ذلك:
كنت أتحدث أنا وبعض الزملاء عن الوظائف وبعض إجراءات التعيين في مرفق أهلي [خاص] فقال بعضهم مستنكرا ما يجري في هذا المرفق من عدم وجود عقود بين الموظف وصاحب العمل، فرد آخر من عدم ضرورة وجود عقد، لأن هذا تعيين، فمدير المؤسسة –مثلا- يعين شخصا في مؤسسته ويُكتفى بهذا فما الداعي للعقد، خاصة وأن هذا شيء معروف!!
والحقيقة أن القائل بضرورة وجود عقد يربط العلاقة بين الموظف وصاحب العمل ضرورة شرعية وعرفية وإدارية.(1/22)
أما الشرعية فلأننا لو كيفنا عمل العامل الآن لوجدناه داخلا في إطار المعاملات، وبالأخص عقد الإجارة، فالعامل أجير استأجره رب العمل لفترة زمنية معينة وهو ما يسميه الفقهاء بالأجير الخاص [أجير كل الوقت].
فيكون تكييف هذا التعامل بين العامل أو الموظف ورب العمل هو أنه عقد إجارة تنزل عليه أحكام الإجارة، أو ما يسميه فقهاء القانون بـ"عقد العمل" ويجعلونه مستقلا عن عقد الإجارة.
وعلى كل لا بد من عقد يدل على رضا الطرفين بما تعاقداه، ويذكر فيه كل الشروط الواجب توافرها لصحة هذا العقد.
وأما العرفية فلأن الناس جميعا لا يتعاملون بمثل هذا المعاملات إلا بعقود، لأن العقد هو الرابطة بين الطرفين والمبين لإرادتهما.
وأما الإدارية فلأنه لا يمكن أن يعتبر شخص ما موظفا في مرفق ما إلا بعقد يحكم هذه العلاقة، ويحتكم إليه عند الخلاف.
أما الزعم بأن هذا تعيين، فلا أدري في أي باب من أبواب الفقه نصنفه، فهل يوجد في كتب الفقه عقد اسمه تعيين حتى نصنف التوظيف فيه.
إننا في مجال العقود نقسم العقود على قسمين:
1- عقود مسماة: وهي التي لها أسماء معينة واستقرت في كتب الفقه بهذه الأسماء ووضعت لها الشروط والضوابط والقيود، وحددت معالمها بحيث يمكن ضبطها، وتنزيلها على مسائل كثيرة لا حصر لها.
2- عقود غير مسماة: وهي التي لم يخصص لها أسماء معينة، نظرا لقلتها وعدم شمولها، وقلة فروعها أو صورها، وكمثل تقريبي على ذلك: عقد المقاولة، فإنه عقد غير مذكور في كتب الفقه بهذا الاسم بل كانت بعض صورة داخلة في الإجارة والأخرى في السلم والاستصناع، وبعضها في الجعالة، وبعض صور المقاولة لم يكن لها اسم، لعدم إمكانية إدخالها في الأبواب السابقة أو غيرها.
وهذه العقود لا يتوسع في تسمياتها، لأنها من الكثرة بحيث يصعب حصرها، إلا إذا اشتهرت وكثرت صورها وفروعها فحينئذ لا مانع على الأصح من قولين لأهل العلم في استحداث عقد جديد باسم جديد، كما في عقد المقاولة.(1/23)
ولهذا لزم على طال بالعلم أن يتنبه لهذه القضية المهمة وهي تكييف الحوادث أو العقود وإدخالها في أبوابها المعروفية ليتمكن بعد ذلك من معرفة صحة هذا العقد من بطلانه من خلال تنزيل الأحكام المتعلقة بهذا العقد وتوافر الشروط وانتفاء الموانع، وإلا فلن يستطيع الوصول إلى الحكم الصحيح وستلتبس عليه المسائل، ويغرد عكس السر لا خارجه فقط.
(9)
المعاصَرة في كتب الفقه المعاصِرة
تميز عصر الاجتهاد وما تلاه من العصور بأننا نجد الفقه الإسلامي يلامس حياة الناس وواقعهم ويوجد الحلول لكل ما يعترض طريق المسلم من إشكالات اصطلح الفقهاء على تسميتها بالنوازل،ن ومن خلال قراءة كتب الفقهاء المتقدمين نجد الفروع الكثيرة والمتنوعة في كتب الفقه المختلفة بما فيها كتب الفتاوى والتي تصبح بعد ذلك مصدرا من مصادر التأليف في الكتب الفقهية.
ورغم أن تلك المعالجات أمر ضروري وبدهي للمتفقه إلا أننا نجد في عصرنا الحاضر شحة في هذا المجال، وخاصة فيما يتعلق بالفقه الفروعي أو الموسوعي.
ورغم أن البعض قد يعيب كثرة تفريعات المتقدمين في مسائل العبيد، علما أن هذا ليس عيبا بل على العكس إنه شهادة واضحة على قدرة المتقدمين في معالجة النوازل الواقعة في عصرهم، أقول رغم عيب بعض الناس لهذا إلا أنهم عجزوا عن أن يجاروا الفقهاء المتقدمين في تصنيف المصنفات الفقهية الفروعية بما يتلاءم وعصرنا الحاضر.(1/24)
ورغم أني قد طالعت العديد من الكتب الموسوعية الفقهية المعاصرة إلا أنني خلصت إلى أنها –على أهميتها وفائدتها- قد خلت في معظمها أو في غالب ما جمعت من مادة علمية قد خلت من أن تفرع فروعا معاصرة وتنزل حوادث نازلة كل في موضعها من تلك الموسوعات، حاشا نتفا هنا وهناك، وكلاما لا يعدو العناوين الكبيرة كنظرية العقد ونزع الملكية الخاصة وشيئا من التعاملات المالية الظاهرة وغيرها مما لا تشفي الغليل ولا يحس معها القاريء بأنه يقرأ كتابا موسوعيا في الفقه الإسلامي لكاتب معاصر.
بل إن بعضها تستنتج من خلال قراءته بأنه مجرد محاولة معاصرة لإنتاج التراث، باستغلال المرتبة العلمية ونحوها كدليل على عصرية الكتاب رغم أنه في حقيقة الأمر عبارة عن قص ولصق في مجملة لما كتبه الأوائل.
فأحدهم يكتب كتابا ضخما من بضع عشرة مجلدا في الفقه ومع هذا تجد في بعض المباحث والأبواب يغلب على محتواها النقل من كتاب البدائع، فهل كتاب هذا حاله يكون عصريا.
زد على ذلك عدم التحري في نقل أقوال المذاهب الفقهية، وعدم بيان مواطن النزاع وتحريرها بصورة جلية واضحة، ففي الكتاب الآنف الذكر لا تجد إلا نقولات تتبع عناوين المذاهب دون مقارنة وبيان الاستدلال وضرب الأمثلة من الواقع المعاصر، إضافة إلى ما ذكرت سابقا من مجرد القص واللصق.
وإنني أقف أحايين كثيرة لأتساءل ما بالنا لم نستطع أن نكتب كما كتب المتقدمون، وأن نفرع كما فرعوا وأن نلحق كل صورة بنظيرها، ونضعها في بابها.
لقد جاء الدور علينا بعد أن فعل المتقدمون ما عليهم، فهل يا ترى نحن عاجزون، أم هو القعود عن المحاولة؟ وإذا كنا عاجزين فما هو سبب العجز؟
في رأيي والله أعلم أن المعاصرين من أهل العلم لا يعدو الأنواع التالية:(1/25)
النوع الأول: علماء تبعوا المذاهب، وقرؤوا في كتب الفروع، وعرفوا الأول المذهبية والتخريج عليها، لكنهم في المقابل أعرضوا عن مخرجات العصر وما طرأ فيه من تطورات ونزلت فيه من نوازل، فإذا ما أراد التأليف أو وجه إليه سؤال في قضية عصرية، تجده يتلكأ وبالكاد يجيب، وإذا ما أجاب فبالكاد يغلب على ظنه صحة الجواب، لأنه لم يتصور السؤال حق تصوره، والحكم على الشيء فرع تصوره.
النوع الثاني: علماء لم يتمذهبوا، بل لربما رأى بعضهم التمذهب بدعة لا تجوز، وزعم بأنه سيتبع الدليل، وأخذ يقرأ هنا وهناك، ثم يتفرغ لقراءة الكتب المعاصرة بفروعها المختلفة إذا ما تيسر له، أو أن يقرأ في تخصص منها وهذا الغالب، وتجده يشارك مشاركات جيدة، إلا أنه لا يستطيع أن يخرجا على مذهب تخريجا سديدا وإن زعم ذلك، كما تجده ينتقد بعض المذاهب في مسألة ما لسقم فهمه، وقلة معرفته بقيود وضوابط ونظرات وأصول هذه المذاهب، ورأيت منهم من يفعل ذلك فإذا ما بين له يقول إذا كان كذلك فنعم أو نحو هذا، أليس حريا بهؤلاء أن يقرؤا أولا قبل أن ينتقدوا، وأن يفقهوا قبل أن يُفَقهوا.
وعل كل لهؤلاء كتابات متناثرة هنا وهناك، هي في معظمها جيدة إلى حد كبير، بيد أنهم يعجزون في الغالب أن يجمعوا من تلك البحوث وغيرها مما كتب في العصر الحاضر في كتاب فقهي فروعي موسوعي كما فعل الأوائل، بحيث يتيسر لطالب العلم اليوم أن يجد كتابا فقهيا شاملا لأبواب الفقه الإسلامي يعالج –لا أقول كل أو معظم بل بعض- القضايا المعاصرة ضمن الأبواب الفقهية المعروفة، بلا من أن "يلاحق" كل بحث جديد، وخاصة فيما يخص بعض المراحل التعليمة المعينة، فإن هذا الجمع يفيد جدا للطلاب المتوسطين في سلم علم الفقه الإسلامي.(1/26)
النوع الثالث: علماء جامعون بين علم الفروع وتخريجها على الأصول والقواعد والمعاصرة المتمثلة في استيعاب جوانب وتصور الكثير من القضايا والنوازل العصرية، والإلمام بالمعارف أو ببعض المعارف المتعلقة بهذا النوازل كالدراسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والإدارية وغيرها.
وهؤلا نوادر جدا جدا إن لم يكونوا معدودين على أصابع اليد الواحدة حسب علمي والله أعلم.
فبالنسبة للنوع الأول والثاني رأينا لهم جهودا طيبة وثرية يمكن أن تكون أساسا لما تتلوها من جهود موسوعية لا يمكن أن يحققها إلى النوع الثالث السابق ذكرهم، ورغم أنهم قلة إلا أنهم يمكن أن يسدوا فراغا في هذا الجانب، وأن يقدموا الشيء الكثير، كما يمكنهم كذلك القيام بعمل مشاريع تخرج لنا هذا النوع من أهل العلم الذين نفتقدهم اليوم بعد أن رأينا الساحة تكاد تخلو من النوعين الأوليين.
نعم هناك جامعات لها مخرجات جيدة لكنها –جزما- ليست في المستوى المطلوبن مما يعني ضرورة الاعتناء بهذا الجانب والقيام عليه وبذل الجهد في تخريج الفقيه العصري بكل المقاييس، والحمد لله.
(10)
كيف يكون التفسير عصريا
رأيت برنامجا في إحدى القنوات بعنوان "التفسير العصري للقرآن الكريم" لداعية معروف، وكنت قبل رؤيتي لمضمون البرنامج أتلهف لما سيتضمنه البرنامج من مادة وعرض وتنزيل وبيان معنى يتجلى فيه –حقا- عنوان "التفسير العصري للقرآن الكريم".
لكن بعد سماعي للبرنامج ألفيته برنامجا جيدا جدا فيما يتعلق بالوعظ في القرآن الكريم، وهذا جانب مهم، في التفسير القرآني، لكنه لا يمكن أن يتحقق فيه العصرية في تفسير القرآن.
والذي أراه والله أعلم، أن العنوان يمكن تحقيق معناه من خلال الاعتناء بالنقاط التالية:(1/27)
أولا: المادة، لا يقتصر في تفسير القرآن على الجانب الوعظي بالمعنى الخاص، وإغفال الجوانب الأخرى، كالبحث حول ما تتضمنه الآيات من معارف وسبق في جوانب مختلفة، فمثلا عندما يمر على القصص القرآني يبيم فيما يبين الجوانب الأدبية التي احتوتها القصة، ودلالات هذه الفوائد وأبعادها القريبة والبعيدة، وعندما يمر بآيات تتعلق بالجوانب النفسية يبين المفسر هذه الجوانب في الآية وما تعنيه في ياقها الخاص، وما يستفاد منها في الواقع العملي، وهكذا يقال في الجوانب التشريعية والعلمية (بالمعني العصري) وما يتعلق بجوانب مثل علم الحفريات والآثار، والتاريخ، والسنن الإلهية في الكون والحياة والأنف والأفراد والجماعات، والدول وغيرها.
ثانيا: أن يكون هذا البرنامج مخاطبا لأهل العصر بلغتهم العامة والخاصة.
العامة التي يفهمها كل الناس بحيث تكون سهلة قريبة، بلا ابتذال ولا تقعر.
والخاصة التي يفهمها المتخصصون، ولا يمل منها غيرهم، ويكون بهذا قد حقق مقصدا قرآنيا مهما وهو مخاطبة الناس على حسب مستوياتهم العلمية، هذا الأسلوب الذي اشتمل عليه القرآن بصورة عجيبة معجزة، وهو المقصود بكلام اهل العلم بأن لألفاظ القرآن دلالتان: أصلية وثانوية، أما الأصلية فما يفهمه كل الناس، وأما الثانونية فما يفهمه المتخصصون سواء في العلوم الشرعية أم في غيرها.
ثالثا: الاستفادة من وسائل الإيضاح المعاصرة، إذ لا بد ان تظهر المعاصرة في الوسائل المبينة للمعنى القرآني وما أكثرها اليوم، والمفسر باتباع هذه الوسائل يحقق هدفين مهمين:
الأول: الوصول السريع والسهل إلى عقول وقلوب المشاهدين، من خلال لمسات فنية معينة في توصيل الرسالة المراد غلصالها من خلال الآيات القرآنية.
الثاني: يكون قد خاطب الناس بشيء يفهمونه ويعرفونه، ويعجبون به، إضافة إلى ما تضيفه هذه الوسائل الإيضاحية من جوانب جمالية وتشويقية للبرنامج.(1/28)
ذلك أن الاقتصار على الطريقة الرتيبة في عرض الدروس غير المتخصصة مما يمل منه المستمع، خاصة بعد غلبة وسيلة "الكرسي والطاولة" على البرامج الدينية مما جعل الكثيرين يزهدون في بعضها، للتكرار الحاصل في أسلوب العرض غالبا إن لم يكن في المضمون كذلك.
رابعا: معالجة أمراض العصر وما أكثرها من خلال القرآن الكريم، وسواء كانت هذه الأمراض أمراض شهوة أم أمراض شبهة، فكلها تصب في مصب واحد وهو مرض القلب، والذي تسعى جهات عدة في نشره وتوسيع نطاقه وتنوعيه بحيث يسيطر على فئات كبيرة من الناس، وخاصة مع تطور وسائل الاتصال.
هذه نقاط هي من وجهة نظري مهمة جدا لتكوين برنامج يستحق اسم "التفسير العصري للقرآن الكريم".(1/29)