الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة
- دراسة مقارنة -
اطروحة تقدم بها
إلى مجلس كلية التربية / ابن رشد في جامعة بغداد وهي جزء من متطلبات نيل درجة دكتوراه فلسفة في التربية / الفلسفة التربوية
صالح نهير راهي الموسوي
باشراف
الاستاذ المساعد الدكتور
مقداد اسماعيل الدباغ
1426هـ ... ... ... ... ... ... ... ... 2005م(1/1)
شكر وامتنان
... بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين واصحابهِ المنتجبين وبعد الانتهاء من كتابة الأطروحة، لابد للباحث ومن باب العرفان ان يقدم جزيل شكره وامتنانهِ العاليين إلى الاستاذ الفاضل الدكتور مقداد الدباغ، لتفضلهِ بقبول الاشراف على الأطروحة، ولتجشمه عناء القراءة الدقيقة والمتابعة العلمية، ولابدائهِ الاراء والملاحظات التي كانت عاملاً مهماً في أتمام هذهِ الدراسة ، فقد كان نِعم الاستاذ والأخ، وبفضل جهودهِ الدؤوبة وتوجيهاتهِ السديدة وصلت السفينة إلى شاطيء الأمان.
... كما أتقدم بالشكر والعرفان إلى الأساتذة اعضاء لجنة السمنار الذين قدموا افكارهم وطروحاتهم العلمية التي كانت عاملاً اساسياً في بلورة موضوع الدراسة وبناء هيكليتها، وهم (الاستاذ الدكتور عبدالله حسن الموسوي، والاستاذ المساعد الدكتور مقداد اسماعيل الدباغ، والاستاذ المساعد الدكتورة ابتسام محمد فهد).
... كذلك يتقدم الباحث بالشكر والعرفان للأخت الفاضلة العزيزة الدكتورة زينب مديح النعيمي لما قدمتهُ من جهودٍ علمية في اغناء الدراسة.
... ولايفوتني ان اتقدم بالشكر والتقدير لكل من ساهم في أكمال الدراسة، ولاسيما اساتذة كلية التربية / جامعة واسط وعلى رأسهم الدكتور مجيد خير الله والدكتور مهدي علوان والدكتور يوسف عناد والأساتذة رشيد ناصر واحسان علي وأنور سالم ، والسيد مازن الحلو، والسيد طالب عويد ، والسيد عماد جبار ، والأخ العزيز هيثم ياسر.(1/1)
ملخص
الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة
- دراسة مقارنة -
ملخص اطروحة دكتوراه تقدم بها
إلى مجلس كلية التربية / ابن رشد في جامعة بغداد وهي جزء من متطلبات نيل درجة دكتوراه فلسفة في التربية / الفلسفة التربوية
صالح نهير راهي الموسوي
باشراف
الاستاذ المساعد الدكتور
مقداد اسماعيل الدباغ
1426هـ ... ... ... ... ... ... ... ... 2005م
الملخص
... تناولت الدراسة هذهِ الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة وقد تضمنت ستة فصول:
... الفصل الاول:
... حاول الباحث في هذا الفصل ابراز مشكلة دراستهِ التي شملت امور عدة منها:
1- غياب الرؤية الواضحة للفلسفة التربوية العربية الاسلامية في المجتمعات العربية الاسلامية.
2- قلة أو ندرة الدراسات في مجال الفكر التربوي التي تناولت المدارس الاسلامية على الرغم من كثرة هذهِ المدارس وخصوبة ارائها في مجالات العلوم المختلفة.
... أما اهمية البحث فقد حاول الباحث ان يبين فيها اهمية الرجوع إلى التراث في بناء منهج تربوي يُعالج المشكلات التي تواجه المجتمع العربي الاسلامي، ثم بين ان التراث يحمل عناصر الأصالة والأبداع، وبعد ذلك حاول أن يعالج مسألة الرجوع إلى التراث وكيفية الأخذ منه. كما حاول الباحث ان يجري مقارنةً مابين الفكر الاسلامي والفكر الغربي، وضح من خلالها نقاط القوة التي يمتلكها الفكر الاسلامي ومصادر هذه القوة.
... بين الباحث اهداف الدراسة وحدودها ، والتي هدفت بالتعرف على الفكر التربوي العربي الاسلامي من خلال توضيح اراء كلٍ من مدرستي المعتزلة والأشاعرة خلال القرون الهجرية الأربعة من القرن الثاني الهجري إلى نهاية القرن السادس الهجري.
... أما منهجية الدراسة، فقد اتبع الباحث في دراستهِ المنهج الوصفي التاريخي التحليلي البنائي المقارن لغرض الوصف والرجوع إلى التاريخ وتحليل القضايا وتركيبها لمقارنة بعضها مع بعض .
... الفصل الثاني:(1/1)
... ضم الآطار النظري للدراسة وقُسمِّ على مبحثين، الاول : تناول الباحث فيهِ العوامل التي شكلت الأساس الفكري عند مدرستي المعتزلة والأشاعرة وهي (العوامل : الجغرافية، السياسية ، الاجتماعية، الاقتصادية ، الحضارية، الفكرية) . أما المبحث الثاني فقد عرض فيه الباحث دراسات تناولت الفكر التربوي عند مفكرين اسلاميين للأفادة منها في اتباع منهجية البحث نفسها.
... الفصل الثالث :
... ضم هذا الفصل مبحثين : تناول الباحث في الأوّل منهما مدرسة المعتزلة مبيناً سبب تسميتها ونشأتها وتطورها وأهم المدارس الفرعية التي انضوت تحت لوائها كما بين دورها في الدفاع عن العقيدة الاسلامية. اما المبحث الثاني فقد تناول فيه الباحث مدرسة الاشاعرة مبيناً سبب تسميتها ونشأتها وتطورها وأهم مفكري هذه المدرسة، ومن ثم حاول الباحث ان يبين دورها في الدفاع عن العقيدة الاسلامية.
... الفصل الرابع:
... ضم هذا الفصل ثلاث مباحث : تناول الباحث في المبحث الاول الاصول الاعتقادية لمدرسة المعتزلة متمثلةً بالأصول الخمسة ( العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . أما المبحث الثاني، فقد تناول الباحث فيه اهم الاصول الاعتقادية لمدرسة الاشاعرة ولاسيما ارائهم في صفات الباري - عز وجل - والافعال الانسانية والمنزلة بين المنزلتين . وكان المبحث الثالث نتيجة للمبحثين الاول والثاني ، اذ حاول الباحث فيه ان يُقارن بين الأصول الاعتقادية للمدرستين.
... الفصل الخامس:(1/2)
... كذلك ضم هذا الفصل ثلاث مباحث : تناول الباحث في الأول : الرؤية الفكرية للمعتزلة في الله والكون والطبيعة الانسانية ونظرية المعرفة ومكونات الفكر التربوي : كالأهداف التربوية والمعلم والمتعلم والمنهج الدراسي وطرائق التدريس ومبادئٍ تربوية) . اما المبحث الثاني فقد تضمن الرؤية الفكرية للاشاعرة في الله والكون والطبيعة الانسانية ونظرية المعرفة، ومكونات الفكر التربوي : كالأهداف التربوية والمعلم والمتعلم والمنهج الدراسي وطرائق التدريس ومبادئٍ تربوية). وقد جاء المبحث الثالث لمقارنة الاراء الفكرية والتربوية بين المدرستين وتوضيح أوجه التشابه والتمايز في اراء المدرستين.
... نتائج الدراسة :
اولاً: ... لقد توصل الباحث من خلال الدراسة الحالية إلى مجموعة أمور منها:
انَّ الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى المعتزلة والاشاعرة فكرٌ مستقى من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كما يتصف بأنه فكر عقلاني وواقعي وشمولي وبأنه فكر منفتح على الفكر الآخر تأثيراً وتأثراً ، وذلك لاعتمادهِ على العقل، ولنظرتهِ إلى الانسان نظرةً واقعية وشمولية في
ضوء علاقتهِ بخالقهِ وبالكون الذي يعيش وسطه وبأنفتاحهِ على الفكر العالمي.
ثانيا: ... حاول الباحث ان يضع مجموعة مبادئ تربوية عامة لفكر تربوي عربي اسلامي مقترح في ضوء نتائج الدراسة الحالية وفي ضوء قراءة سريعة وعامة جداً لسمات العصر الحالي وكانت الآتي:
... (( المبدأ الشمولي، المبدأ التكاملي، المبدأ العقلاني، المبدأ الواقعي، المبدأ الانساني، مبدأ العدل الاجتماعي، مبدأ التربية العلمية، مبدأ العمل، مبدأ الأصالة والأقتباس، مبدأ الأندماج الحضاري)) .
ثالثاً: ... التوصيات والمقترحات :(1/3)
... من اهم التوصيات التي جاءت في نتائج هذهِ الدراسة: إحلال القضايا التربوية المقام الأول من اهتمام ابناء المجتمع ومن ثم إشراك السلطات المحلية في شؤون التعليم وصيانة حرية الفكر، واثارة روح المبادرة والانتاج الشخصي والابتكار والابداع عند جميع القائمين على شؤون التربية. اما أهم المقترحات فهي: ضرورة اجراء دراسة مقارنة بين الفكر التربوي للمعتزلة أو الاشاعرة ومقارنتها مع احد مدارس الفكر العربي الاسلامي كالامامية أو الزيدية او الماتريدية، لمعرفة التأثر والتأثير مابين مدارس الفكر الاسلامي.(1/4)
اسم الطالب : صالح نهير راهي الموسوي
عنوانه : واسط / الكوت / حي الربيع
البريد الألكتروني : Salih AlMosaway.com
خلاصة البحث باللغة العربية والانكليزية
تاريخ مناقشة البحث : 11/9/2005(1/1)
إقرار المشرف
... اشهد أن إعداد هذه الأطروحة الموسومة بـ( الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة) التي تقدم بها الطالب صالح نهير راهي الموسوي قد جرى بإشرافي في كلية لاتربية – ابن رشد / جامعة بغداد ، وهي جزء من متطلبات نيل درجة دكتوراه فلسفة في (الفلسفة التربوية).
المشرف
أ.م.د مقداد اسماعيل الدباغ
التاريخ: ... / ... /2005
... بناء على التوصيات المتوافره ارشح هذه الاطروحة للمناقشة
أ.د. عبدالله حسن الموسوي
رئيس قسم العلوم التربوية والنفسية
التاريخ ... / ... /2005
إقرار لجنة المناقشة
... نشهد بأننا أعضاء لجنة التقويم والمناقشة إطلعنا على الأطروحة الموسومة (الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة) ، وقد ناقشنا الطالب صالح نهير راهي الموسوي في محتوياتها وفيما له علاقة بها، ونقرُّ بأنها جديرية بالقبول لنيل درجة دكتوراه فلسفة في الفلسفة التربوية .
الاستاذ الدكتور
الاستاذ الدكتور ... ... ... ... الاستاذ الدكتور
الاستاذ الدكتور
الاستاذ الدكتور ... ... ... ... ... الاستاذ المساعد الدكتور
... ... ... ... ... ... ... مقداد اسماعيل الدباغ
المشرف
... صدقت الإطروحة في مجلس كلية التربية/ ابن رشد – جامعة بغداد.
الاستاذ الدكتور
عبدالامير دسكن
عميد كلية التربية / ابن رشد ...
إقرار الخبير العلمي
... أشهد أني قد قرأت هذه الأطروحة الموسومة (الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة) التي قدمها الطالب (صالح نهير راهي الموسوي) إلى كلية التربية/ ابن رشد / جامعة بغداد ، وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكترواه فلسفة في التربية ( الفلسفة التربوية) ، وقد وجدتها صالحة من الناحية العلمية.
الاستاذ المساعد
الدكتور
قسم العلوم التربوية والنفسية
إقرار الخبير اللغوي(1/1)
... أشهد أني قد قرأت هذه الأطروحة الموسومة (الفكر التربوي العربي الإسلامي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة) التي قدمها الطالب (صالح نهير راهي الموسوي) إلى كلية التربية/ ابن رشد / جامعة بغداد، وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكتوراه فلسفة في التربية (الفلسفة التربوية) ، وقد وجدتها صالحة من الناحية اللغوية .
الاستاذ المساعد
قسم اللغة العربية(1/2)
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
صدق الله العلي العظيم
النحل : 125
الاهداء
إلى ...
- الغائب جسداً الحاضر روحاً ...
ابي رحمه الله ... براً
- التي بفضل صلاتها وقنوتها حققت ماكنت اصبو اليهِ ...
امي احساناً
- الكف المضيء الذي حملني طول مشوار الدرس ...
أخي أبو أيمن
- الزهور التي لايُملُّ عطرها ...
افراد عائلتي اعتزازاً
- التي ستشاركني ايام حياتي القادمة ...
زوجتي حباً
- شركاء الروح ...
اصدقائي وفاءاً
اهدي ثمرة جهدي المتواضع
الباحث(1/1)
الفصل الاول
التعريف بالبحث
- مشكلة البحث
- اهمية البحث والحاجة اليه.
- اهداف البحث.
- حدود البحث.
- منهج البحث.
- تحديد المصطلحات.
الفصل الثاني
الإطار النظري
المبحث الأول : العوامل الثقافية التي شكلت الفكر عند المعتزلة والاشاعرة.
المبحث الثاني: دراسات سابقة.
الفصل الثالث
المبحث الاول : مدرسة المعتزلة
المبحث الثاني : مدرسة الاشاعرة
الفصل الرابع
الاصول الاعتقادية
المبحث الاول: الأصول الاعتقادية عند المعتزلة.
المبحث الثاني: الأصول الاعتقادية عند الاشاعرة.
المبحث الثالث: مقارنة الأصول الاعتقادية عند المعتزلة والاشاعرة.
الفصل الخامس
المبحث الأول : الرؤية الفكرية للمعتزلة في : الله، الكون، الطبيعة الانسانية، نظرية المعرفة، الفكر التربوي.
المبحث الثاني: الرؤية الفكرية للاشاعرة في : الله ، الكون ، الطبيعة الانسانية ، نظرية المعرفة ، الفكر التربوي.
المبحث الثالث: مقارنة الرؤية الفكرية بين المعتزلة والاشاعرة.
الفصل السادس
- الاستنتاجات.
- الفكر التربوي المقترح.
- التوصيات.
- المقترحات.
المصادر(1/1)
مشكلة البحث :
... جلب تطور المجتمعات البشرية عبر العصور التاريخية حضارات وثقافاتٍ مختلفة ، وكان بالضرورة ان تتضمن نتاجات تلك الحضارات والثقافات محتوى الفكر البشري من تربية وعادات وعلوم وفنون وعقائد وفلسفات ... وغيرها من مكونات الثقافة ( أحمد ، 1966 : 26).
... ان نظرة متعمقة الى خارطة الفكر البشري، نجد الفكر العربي الاسلامي على مساحة واسعة من الخصوبة والنتاج بفعل نشاطات المدارس الفكرية في جوانب مختلفة. وفي غمار تلك الجوانب كان للفكر التربوي العربي الاسلامي دورٌ متميزٌ ، كانت نواتها المدارس والتيارات والحركات والشخصيات وكان لكل منها رؤاها ومناهجها الخاصة في البحث والتقصي عن الحقيقة ، واثر كل طرف في الآخر وتأثره به .
... وعلى الرغم مما كتب عن هذا الجانب في التراث العربي الاسلامي ، الا انه لم يتطرق الباحثون إليه إلا قليلا في مجال الفكر التربوي بالبحث والتنقيب في اعماق نتاجات المدارس والجماعات وآرائهم وأقوالهم في التربية والتعليم ومن تلك المدارس الفكرية مدرستي المعتزلة والأشاعرة بحسب علم الباحث.
... ومما يزيد المشكلة وضوحاً ما يؤكده كل من د. عبد الغني النوري ود. عبد الغني عبود ، اذ يقولان : (( إن التربية الاسلامية بمختلف جوانبها ، كانت موضع اغفال منا ومن غيرنا ، أو على الأقل كانت موضع عناية محدودة لا تليق بها ولا تليق بنا )) (النوري ، 1979 : 10) ، وهي لا تليق بها ، لأن في الاسلام فكراً تربوياً يجب ان يُدرس، ولو من باب العلم بالشيء، كما دُرس ويُدرس الفكر التربوي الإغريقي والروماني والمسيحي في العصور الوسطى، فالأحرى بنا اذا أردنا أن نبحث عن مبادئ لفكر تربوي ، فإننا يجب ان نبحث عنها في تراثنا (النوري ، 1979 : 10).(1/1)
... معنى ذلك إننا لا نزال في مرحلة الضعف عن تمثل تراثنا بشكل صحيح، ومن ثم القدرة على نقده وفحصه والإفادة من المنظومة المعرفية المنهجية التي انتجته، وعن بناء فكر معاصر يماثله (حسنة ، 1992 : 20)، أي ان معرفتنا بالفكر الغربي في قديمه وحديثه.. فلا نرحل آراء مفكر .. ولا نخلط بين الاراء، بل نكون من الوضوح في ذلك بحيث إذا ذُكر رأي عرفنا قائله أو أُشير الى مفكر تمثل لنا جملة ما انتهى اليه (مبارك ، 1986 : 31).
... يزاد على ذلك ان هناك عملية اقصاء تعسفي لدور الثقافة الاسلامية الأساس في التاريخ الثقافي العالمي ، واذا مال بعض المستشرقين الى الإنصاف صرحوا بأن المسلمين كانوا حلقة وصل بين اليونان وأوربا ، وهم يجعلون حلقة الوصل هذه ((مؤقتة)) استغنت عنها أوربا سريعاً للعودة الى الأصول اليونانية (الجابري ، 1987 : 52).
... ونتيجة لذلك تعرضت الأمة العربية الاسلامية الى سيطرة الأجنبي، وهيمنة الطغيان، إذ شهدت مكونات الأمة وعمقها الحضاري حالات من المد والجزر في الحركة والمقاومة، تبعاً لطبيعة الهجمات العدوانية التي لم تتوقف، والمستهدفة تقويض بنيانها، وإبعادها عن أساليبها في التنشئة والتكوين، من خلال أساليب هجينة في التربية والتعليم تحول بين الاجيال ومنابتها وجذورها الثقافية والحضارية ( الذيفاني ، 2001 : 46).
... يتضح مما سبق ان امتنا الاسلامية تعاني من تبعية فكرية للغرب، ولاسيما في جانب التربية، إذ لا يوجد فكر تربوي أصيل بل توجد آراء ونظريات تربوية لمجتمعات غربية نُقلت من أوطانها الأصلية وغرست في مجتمعنا الاسلامي (الجعفري ، 1999 : 38).(1/2)
... معنى ذلك إن غياب فلسفة واضحة للتربية في المجتمع الاسلامي يُعد سبباً في استمرار حالة التخلف في المجالات المادية التقنية والعلمية، وشيوع الكثير من الظواهر السلبية في أوساط المجتمع ، أي : ان وضوح مثل هذه الفلسفة وحضورها من شأنه أن يجنب الأمة التبعية التي وقعت فيها، والمخاطر المترتبة عليها، ويمكنها من المواجهة الواعية والمدركة لرياح الغزو والهيمنة القادمة من وراء حدود الأمة تحت مسميات وعنوانات ما أنزل الله بها من سلطان (الذيفاني ، 2001 : 78-79).
... وإننا اذا أردنا لتراثنا الاسلامي ان يلعب دوراً فعالاً، ويمثل طاقة ابداعية خلاقة في حياتنا الحاضرة ومستقبل أمتنا المأمول ؛ فلابد من أنْ نعي أولاً القيمة الحقيقية للتيارات الفكرية والمذاهب والمدارس والفلسفات التي يكُون مجموعها صفحات هذا التراث ( عمارة ، 1974 : 5).
... من خلال كل ما تقدم ، تتضح مشكلة الدراسة في الآتي:
أولاً: ... انَّ هناك مدارس ومذاهب فكرية في تراثنا الاسلامي لم تلق العناية الكافية من قبل الباحثين، ولاسيما في مجال التربية والتعليم كمدرستي المعتزلة والأشاعرة.
ثانياً: ... هناك إهمال للتراث الاسلامي، ويتضح هذا الإهمال في ميدان التربية اكثر من غيره من الميادين الأخرى.
ثالثاً: ... انّ مسألة إهمال التراث ولَّدت تبعية فكرية لدى ابناء المجتمع الاسلامي للتيارات الفكرية الأجنبية.
رابعاً: ... أدّت العوامل الثلاث السالفة الذكر الى غياب فلسفة واضحة للتربية في المجتمع الاسلامي.(1/3)
... وبناءاً على ذلك يحاول الباحث تسليط الضوء على جانب في غاية الأهمية من تاريخ الأمة الاسلامية وتراثها ممتد زمانياً من القرن الثاني الهجري الى القرن السابع الهجري، نموذجاً فكرياً ممثلاً بآراء المعتزلة والأشاعرة في مجال الفكر التربوي الذي خلفوه وموقفهم من بعض المفاهيم كالعقيدة ، والخالق، والكون والإنسان والمعرفة ، ومحاولة توظيفها بما يساعدنا في وضع تصور مقترح لفكر تربوي إسلامي معاصر.
أهمية البحث والحاجة إليه:
... لقد اثبت التأريخ حقيقة لا مفر منها ، ان هناك عملية صراع مستمر بين الحضارات، والنتيجة من هذا الصراع هي تألق الأمم والحضارات الأكثر حضوراً وامتلاكاً للمنهج الأقوم والأكمل، والأصلح للتربية وتنشئة الأجيال ، والأكثر إعمالاً للعقل، واستعمالاً للعلم.
... وتبعاً لذلك يُعد تسلح الأجيال بالعلم والمعرفة عن طريق بناء نظام تربوي شامل وقائم على أساس فلسفة تربوية محددة ، وواضحة ومرتكزة في مقومات بنائها على عناصر البيئة التي تعيش ضمنها الجماعة الإنسانية (طبيعية أكانت أم اجتماعية)، وما يتمخض عن ثقافة المجتمع من قيم ومعتقدات وأفكار تشكل في مجملها الأرضية التي يرتكز عليها المنهج، ويستوحي منها توجهه العام ومقاصده وغاياته الكلية والنهائية.
... فالتربية تُعد الركيزة الأساسية والمهمة لبناء الشخصية الانسانية وقوتها وهي على هذا الأساس تعد حاجة لا غنى عنها لأي مجتمع من المجتمعات، لأنها النواة التي تغذي الشخصية، وتعزز روح ثقافتها، وتؤكد استقلالها، وهي الرافد المهم من روافد تنمية ذاتها، واستمراريتها بالدلالات التي تحملها الشخصية على قاعدة ماتحمله الجماعة التي نشأت فيها ، وترتكز في حركتها ومآربها عليها (الذيفاني : 2001 : 1).(1/4)
... ويعتمد المجتمع إعتماداً حيوياً على التربية فهي وسيلة بقائه واستمراره بل هي وسيلة تطوره وتقدمه ، اذا ما أريد لهذا التقدم والتطور ان يكون عميق الجذور متأصلا في حياة الافراد ( عبد العزيز ، 1974 : 7) ، لذا نجد ان المجتمعات باتت تحرص على ان تكون ستراتيجيتها في التربية والتعليم منبثقة عن المجتمع ومصوغة من وسطه ومعبرة عن طموحاته ( الذيفاني ، 2001 : 167).
... لذلك يعد بناء منهج تربوي ، او نظرية تربوية أمرا مهماً وفعالاً في ضوء التحديات التي تواجه الأمة الاسلامية اليوم، والتي لم تكن مجرد تحديات ممكن ان نتغلب عليها بيسر وسهولة ؛ والسبب في ذلك راجع إلى أنها تحديات بلغت في هيمنتها وتمكنها من الأمة مبلغاً يجعل مواجهتها في مستوى بالغ الأهمية بمكان ، ومن ثم يتطلب الدخول في حلبة الصراع الطويل والمستمر مع من يمثل قوى المواجهة الاخرى .
(( إن أية أمة لا تستطيع ان تسير الى الأمام بقدم راسخة وثابتة ومستمرة ألا اذا وعت جذورها في تاريخها، وربطت خيوط حاضرها ومستقبلها بما ماثلها وشابهها في صفحات ماضيها، القريب منه والبعيد)) ( عمارة ، 1974 : 9).(1/5)
وفي المقابل أيضا ما من امة من امم الأرض كان لها الدور المتميز في بناء الحضارة الانسانية على الأرض إلا والتكوين الثقافي لشخصيتها يحملها على امتصاص ، ما انتهت اليه الأمم الاخرى لبناء حضارتها الخاصة، اذ ليس لهذا البناء ان يبدأ من فراغ، وليس لأمة أن تنقطع عن وجود الامم الاخرى في الاشعاع الفكري لها وفي صنع تاريخها والنهوض بدورها في بناء الحضارة البشرية. هكذا كان دور الامم القديمة من بابل حتى اثينا ... وهكذا كان المسلمون أيام زهو بغداد العلم والفلسفة والأدب والفن، وبناء الحياة بكل أبعادها منفتحين على تجارب أمم الأرض يغرفون من معينها ما يغني تجربتهم ويؤصّل صيرورتهم الروحية والحضارية، وهذه خاصية أصيلة في الشخصية الاسلامية يلزم الدارسون ان يقفوا عليها وجوداً ودوافعاً وأثراً (مبارك ، 1986 : 23).(1/6)
... لذلك إن بناء فلسفة تربوية شاملة وصالحة لنظام تعليمي شامل ومتكامل في مجتمعنا الاسلامي الذي ينشد الحياة الحرة لأبنائه ، وللإنسانية عموماً، تتمّ من خلال الاطار القيمي والتقاليد والعادات التي يؤمن بها المجتمع ، وكذلك بالرجوع الى التراث الفكري الاسلامي بصورة عامة، والتراث التربويّ الاسلامي بصورة خاصة ، وما يضمانه من آراء فكرية ، وتوجيهات تربوية أصيلة، ومن تفسيرات لنصوص الدين، وشروحات لممارسات تربوية عملية، والتي مازالت تحتفظ بقيمتها وحيويتها زيادةً على الانفتاح على تجارب الآخرين(التومي،1985: 101) ، أي ان للتربية مكانة مميزة ومهمة جداً، فهي تقف في القمة لمواجهة الأحداث العظمى والتغيرات الكبرى كلما زادت الحضارة رقياً وتعقيداً ( مدني، 1989 : 27) . وبعد الكثير من التجارب في الميدان التربوي ثبتت حقيقة مفادها : ان تربيتنا لا تستطيع ان تغض الطرف عن تراثنا الإسلامي، بل إنّ من واجبها أن تحرص عليه، وتتفاخر به، وتعمل على المحافظة على ما فيه من قيم مادية وروحية باقية مدى الدهر، وعليها بعد ذلك أن تنعم النظر في هذا التراث، فتحتفظ بالنافع منه، وتترك غير النافع، من غير أسف ولا تردد ( عبد العال ، 1977 :23) . فأن التراث بما يحمله من عناصر الأصالة يجعل الثقافة مستوعبة للماضي ومافيه من لمحات مضيئة ، وعلى ذلك يجعلها قادرة على التواصل مع المعاصرة، ولها القدرة على التطور في المستقبل. ومن هناك فإن التراث بجوانبه الايجابية يقدم للإنسان الاسلوب الأمثل للحياة، وذلك بتقديمه منظومة قيمية صحيحة، وانماط للسلوك السوي وعادات وتقاليد تجعله أكثر قدرة على مواجهة مخاطر الغزو الفكري.(1/7)
... ويرى د. محمد مبارك أن (( الأصالة لا تعني الانقطاع عن المجرى العام لحركة الانسان، كما لا تفيد الابداع عن لاشيء أو الخلق عن عدم ؛ وإنَّما تقوم في هذه القدرة التي تمتاز بها بعض الشعوب والجماعات على قراءة حاجاتها الحضارية ومطالبها الروحية عبر معطيات التجربة العامة لصيرورة البشر جميعاً ومن خلال فرز الخاص بها من هذه التجربة وإبداعه خلقاً جديداً وكينونة متفردة)) ( مبارك ،1986 : 31).
... أما المعاصرة فإنها قد تعني مجموعة مستحدثات في المتغيرات (تقنية وعلمية وثقافية واقتصادية وسياسية وتربوية) ، ولكي نستفيد من هذه المستحدثات علينا ان نتعامل معها بوعي مبني على رؤية صحيحة لدورنا في الحياة، وهذه بدورها ترتكز على ما لدينا من نظرة سليمة الى التراث.
... ونحن اذا أردنا لتراثنا الاسلامي ان يلعب دوراً فاعلاً، ويمثل طاقة ابداعية خلاقة في حياتنا الحاضرة، ومستقبل أمتنا المأمول، فما علينا ألا أن نعي أولاً: القيمة الحقيقية لدور التيارات والمذاهب والمدارس الفكرية التي تكوّن فلسفاتها ورؤاها صفحات تراثنا ، وان نعي أيضا علاقة كل ذلك بالأهداف التي تنشد امتنا الاسلامية تحقيقها وانجازها في حاضرها ومستقبلها ( عمارة ، 1974 : 5).(1/8)
... اذن العودة الصحيحة والسليمة الى الينبوع ، لا تكون بالعودة الى مظاهر المجد والزهو في حضارتنا ، بل بالعودة الى أسباب عظمتها، فالتاريخ لا يعود، ولكنه يُستعاد لاستخلاص قوانين حركته ( الراوي ، 1984 : 9). أي لابد لنا ان نفهم مكونات تراثنا، ونفهم دور مدارسه الفكرية، ومنشأ هذه المدارس، وكيف تحركت ونمت، او انتكست بفعل عوامل قاهرة؟ وماذا يصلح من كل ذلك كي يكون طاقات تسهم في دفع مسيرتنا الحالية نحو التقدم وحركتنا الرائدة صوب آمالنا المعاصرة والمستقبلة ؟ وماذا من صفحاته يدرس لمجرد الدرس الأكاديمي التاريخي؟ وماذا من اجزائه يُدرس لأخذ العبرة والفائدة منه؟ وماذا منه يُفحص لمجرد إدراك النقيض ؟ ( عمارة ، 1974 : 6).
... معنى هذا يجب ان لا يكون الحديث عن الوعي بتراثنا مجرد كلامٍ نظري عام ، وحديثاً يتسم بمجرد ذكر الأمثلة، وتقديم النماذج من صفحات هذا التراث، بل علينا ان نجسد ثمرة هذا الوعي في حياتنا المعاصرة والمستقبلة، فنحن اذا وعينا مثلاً المدارس الفكرية والمذهبية التي ضمّها تراثنا الحضاري ، بمعنى اذا ادركنا قيمة العقل والعقلانية في الصراع الحضاري ، الذي واجهته وتواجهه امتنا عبر مسيرتها الحضارية، عند ذلك نستطيع ان نحدد كيفية الافادة من تراثنا الاسلامي، وصفحاته المشرقة التي يحفل بها هذا الأرث.(1/9)
... وينقسم المفكرون في نظرتهم الى التراث على مدارس مختلفة، اذ نجد مدرسةً ترى ان التراث لا يستحق العناء؛فهو خالٍ من كل الهام، وان الوقوف عليه واستلهامه وتمثله ضرب من العبث والإضاعة للجهد والوقت . ومدرسة ثانية تتعصب للتراث تعصباً أعمى بعيد كل البعد عن الموضوعية والعقلانية، فنجدها ترفض وبشدة أي مناقشة للحقائق التاريخية ، حتى تلك التي تعرضت للتشويه والاستلاب، وعكست أخطاءً يفترض عدم تكرارها بأي حالٍ من الأحوال. ومدرسة ثالثة ترى في التراث السند القوي والمصدر الآمن لصياغة واقع أكثر أمنا ووضوحاً في مساره وغاياته؛ لرسم مستقبل واضح المعالم ، مشرق ، بارز ورصين في بنائه وقوي في قدرته على استيعاب مخرجات الحاضر، واحتضان نتائجه. ولكن مثل هذه المدرسة قد لاتمتلك حولاً ومنعة في مجريات الحاضر ؛ لذلك ربما تبقى هذه الرؤية حبيسة في صدرها وذاكرتها، وتكون صاحبة هذه الرؤية كشاعر يقف على الأطلال يصفها ويسأل الدار عن أهليها. أما المدرسة الرابعة فإنها تنطلق من حقيقة لا غبار عليها، ولكنها تقف عندها ولا تتجاوزها، مفادها ان الغرب الاستعماري، هو الذي يقدم لنا صياغة كما يريدها لتاريخنا، تناسب هواه وتتفق مع طموحاته ومخططاته، وهذه المدرسة كسابقتها مؤمنة بحقيقة نبيلة وتختزن في ذاكرتها وحاضرها مسلمة بديهية، ولكنها تكتفي– وللأسف – بالتمرد العاطفي والتشنج غير المستند إلى منهج وأهداف واضحة تؤمن بالتواصل التأريخي، وسمو الوجود الإنساني، على أساس استخلاف الأرض وإعمارها من قبل الانسان.(1/10)
اما المدرسة الخامسة فنجدها قد جمعت بين ما كانت تدعو إليه المدرسة الثالثة، اذ نجدها لا تقف على الأطلال ، ولا تتحدث بمنطق العاطفة وتجمع ايضاً ما بين المضمون الذي تدعو اليه المدرسة الرابعة؛ فهي تسير مسافات بعيدة جداً متمثلة في التذكير وإنعاش الذاكرة وتجديد الأمل وتعزيز القدرة وتحفيز الارادة، وتنشيط القصد الايجابي في عقل وفعل الانسان متمثلا في تحرير الارادة من القيد والوهمية والسعي في طريق صناعة محكمة لواقع جديد في ظاهره، اصيل في جوهره وابعاده، متصل بفعله وحركته الاجتماعية بالعمق الحضاري الاساس المنهجي للعقيدة شريعة الحياة، مستفيداً من كل معطيات العصر ونتاجاته العلمية والتقنية أياً كان مصدرها، متعاملاً معها بكفاءة عالية على اسس علمية لكي تكون النتائج لصالح المجتمع ومتفقة مع تطلعاته المنبثقة من الواقع والمستجيبة لمتطلباته ( الذيفاني ، 2001 : 160-161).
... إنّ تجاهل التراث وعدم الاهتمام به ، ادى الى خلل كبير في مناهجنا التربوية الحديثة والمعاصرة، نتيجة لتجاوز المنظومة القيمية التي يقدمها تراثنا الاسلامي ، واهميتها في بناء المجتمع الاسلامي بناءاً سليماً متماسكاً، وبالتالي اعطائه هويته الثقافية التي تميزه عن بقية المجتمعات مما ادى الى انحراف المجتمع الاسلامي عن منبعهِ الثر الاصيل ، والسعي خلف التيارات الفكرية الثقافية الضاغطة آخذاً بها منهجاً فكرياً واسلوب عمل في الحياة، وهذا ما ادى الى ان تكون مناهجنا التربوية مصابة بالجفاف الروحي، مما وسم مجتمعنا بالتمزق الداخلي وتخّلخّل البناء القيمي، واصبح المجتمع الاسلامي تابعاً فكرياً للآخر، ساعياً وراء اساليب الفكر التربوي العالمي وطرائقه، مما ادى الى تغريب الانسان المسلم روحاً وفكراً وسلوكاً (البريزات ، 1984 : 14).(1/11)
... لقد تعرضت الأمة الاسلامية إلى تيارات ومذاهب فكرية وافدة من الآخر ، جعلها تعيش مرحلة بالغة الخطورة من مراحل تطورها التاريخي، لان هذه التيارات والمذاهب استقطبت ببريقها وحداثتها (التي اتسمت بها على وفق زمن ظهورها) أهتمام اصحاب العقول، وكان من نتائج هذا الهجوم الفكري، إثارة الجدل مابين المفكرين في المجتمع الاسلامي (العدوان ، 1975 : 32).(1/12)
... ومسألة التحديات الفكرية التي تعرض لها المجتمع الاسلامي ليست بالأمر المستغرب، ولا تعدّ حديثة عهد ، فمنذ بزوغ فجر الاسلام في مكة المكرمة ووصوله إلى المدينة المنورة، تعرض بعض المشركين وكثير من احبار اليهود ، إلى نصوص القرآن الكريم مايخص منها (العقيدة والحياة العملية) بالتشكيك ، وذلك لزعزعة إيمان المسلمين بالاسلام، بوصفهم حديثي عهد به، كما ورد في آية المباهلة التي جرت بين الرسول واهل بيته الكرام ( صلوات الله علهيم أجمعين ) من جانب، وبين احبار اليهود من جانب آخر . وقد استمر هذا التحدي في زمن الخلافة الراشدة وزمن الدولة الأموية، والدولة العباسية، ولاسيما بعد أن دخل في الدين الاسلامي من اهل البلاد المفتوحة ممن حمل الاسلام اسماً ولم يؤمن به فكراً وسلوكاً ، وهؤلاء كانوا متأثرين بمذاهبهم القديمة، زيادة على اطلاع بعض منهم على اساليب الجدل الفكري التي كانت سائدة قديماً في المجتمع الاثيني والمجتمع المسيحي المتمثلة (بالمنطق والفلسفة) اذ تمثلت هذه التيارات الفكرية قديما "بالمانوية " (1) و" الغنوصية " (2) *) والصابئة " (3) ***) و " النساطرة " (4)
__________
(1) (*) ... المانوية: هم اتباع ماني ( القرن الثالث الميلادي) ، ويقولون بألهين – النور والظلمة – للخير والشر.
(2) (**) ... الغنوصية : نسبة إلى غنوصيص – حركة فلسفية ودينية نشأت في العصر الهلينستي وهي تقول بالخلاص عن طريق المعرفة.
(3) (***) ... الصابئة : ديانة قديمة عاش اصحابها في العراق ، واسهموا في الحركة الفكرية الاسلامية زمن الحكم العباسي.
(4) (****) ... النساطرة : هم اتباع نسطوريوس بطريرك القسطنطينية، الذي اعترض على تسمية مريم العذراء بأم الاله..(1/13)
****) ، لقد دخل المجتمع الاسلامي بصراعٍ طويلٍ وشاقٍ مع هذه التيارات والمذاهب الفكرية التي تتعارض مع مبادئهِ وتقاليدهِ ؛ وذلك بعد أن أحس مفكرو الاسلام ممن اخذوا على عاتقهم الدفاع عن مبادئ العقيدة الاسلامية، بأن الخطر يمس الهوية الثقافية، اذ نهض المسلمون ممثلين يومئذ في مدرسة " المعتزلة " ومن بعدها المدرسة " الأشعرية " ، وتسلحوا بأدوات المنطق الأرسطي، والفلسفة اليونانية ، واستخدموا هذه الادوات كسلاح، ضد هؤلاء الخصوم، بعد ان كيفوا أو طوعوا هذا السلاح على وفق مقتضيات العقيدة الاسلامية، اذ هذبوا وحذفوا بعض مسائل المنطق، كما اجروا عملية موائمة مابين الشريعة الاسلامية والفلسفة. أي انهم نظروا إلى الفلسفة من خلال الشريعة الاسلامية ؛ فما وافق الشريعة اخذوا به ، وما عارضها، أما أولوه أو لم يأخذوا به .
... لقد استمر هذا العداء الفكري للاسلام وتجلى ذلك بشكل واضح بعد ان اخفقت الحروب الصليبية من الناحية السياسية والعسكرية، فلم يتوقف تفكير الغرب في الانتقام من الاسلام والمسلمين ، بل بدأ بدراسة الاسلام ونقده.(1/14)
... وفي هذا الصدد يقول أحد الكتاب العرب المسلمين : لقد عُقدت الاجتماعات، ووضعت الخطط، ورسمت الاهداف؛ لضرب الاسلام وتشويه محاسنه، وتحريف حقائقه؛ من اجل ان يثبت المستشرقون لشعوبهم الخاضعة لزعامتهم الدينية؛ ان الاسلام هو الخصم الرئيس للمسيحية في نظر الغربيين، وانه دين لا يستحق الانتشار، لأنَّ المسلمين لصوص همج، يحثهم دينهم على الملذات الحسية الجسدية بحسب زعمهم ، وقد إزدادت حاجتهم إلى زعزعة العقيدة عند اتباعهم الغربيين، واخذ هؤلاء يشككون بكل التعاليم التي يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى؛ فلم يجدوا خيراً من تشديد الهجوم على الاسلام لصرف انظار الغربيين عن نقد ماعندهم من العقائد والكتب المقدسة، والحقيقة هم يعلمون من خلال الحروب الصليبية ما تركته الفتوحات الاسلامية في نفوس الغربيين من خوف من قوة الاسلام ، فاستغلوا هذا الوضع النفسي، وازدادوا نشاطاً في الدراسات الاسلامية، فأخذوا يهدفون إلى تشويه الاسلام في نفوس رواد ثقافتهم من المسلمين، لادخال الوهن إلى نفوسهم والتشكيك في العقيدة الاسلامية والتراث الاسلامي (ينظر : عزيز ، 1999 : 7-8).
... وهذا ما ذهب اليه د. محسن عبد الحميد، اذ يقول : (( واعتمدوا – أي الغرب – على الغزو الفكري في بلاد المسلمين ، واخترقوا حياة المسلمين ، واظهروا الاسلام مشوهاً أمام أجيالهم التي ترَّبت في ظل ثقافة المستعمرين على الذل والخضوع ، ومن خلال الاحتكاك الحضاري بالمسلمين في القرن التاسع عشر، تحت براقع العلمية والموضوعية، فاستطاع ذلك الغزو أن يمنع تسرب الاسلام إلى أوربا)) (عبد الحميد ، 1998 : 34).(1/15)
... لقد تم ما سبق من قبل الغرب بالاعتماد على حركات التبشير الدينية التي اعقبت الحروب الصليبية، والابن البار لها والذي حقق ماكانت تطمح اليه ألا وهو الأستشراق، والناظر لواقع العالم الإسلامي اليوم، وما اصابه من تشتت ، وتبعية، وابتعاد عن الإسلام وتقليد للغرب، يعرف ان اهداف الاستعمار قد تحققت، فالضعف المادي والمعنوي اخذ حظه من العالم الإسلامي، والغرب بدأ يضع الحواجز في طريق اندفاع الأمة الإسلامية في حريتها، وسيادتها، وارضها، وتراثها، وبعض ابناء الإسلام تبنوا الدفاع عن الغرب وحضارته اكثر من الغرب نفسه.
... وهذا مانجده في الصيحات التي تعالت من قبل دعاة التنوير والحداثة وفي طليعتهم لطفي السيد وطه حسين، وتفوقا عليهما عبد العزيز فهي وسلامة موسى في دعوتهما النكراء إلى استبدال العربية بالانجليزية ؛ ليكونا مثالاً واضحاً للانسلاخ التام المبكر عن الذات هذا الانسلاخ مبرر بحجة مفادها : ان الخط اللاتيني هو وثبة في النور نحو المستقبل وكأن الخط اللاتيني لم يكن حين كانت أوربا مثال التخلف والهمجية فيما كان المسلمون الذين لا يعرفون اللاتينية، قد استقروا في قمة السلم الحضاري (الخرفي ، 1990 : 10-25).
... ان عملية الغزو الثقافي لم تكتسب شموليتها من استيعابها لشرائح مجتمعنا وحسب، بل من استيعابها ايضاً لجميع العناصر التي تؤلف وعي الذات الجماعية حين وزعت انشطتها على محاور الثقافة الاسلامية بلا استثناء.
... اذ نجدها استهدفت الحس الأسلامي المتأصل من خلال استثارة الحس القومي المنفصل عن أي مقوم ديني، بل الناقم عليه، فأفرز العديد من الحركات القومية التي كان عامة مؤسسيها من النصارى، أو من اصول يهودية، او ممن تربى على يد الغرب واساليبهم الفكرية الهدامة كالحركات العلمانية، فكانت هذه الحركات كفيلة بتمزيق الحس الاسلامي، وروابطه المقدسة.(1/16)
... كذلك استهدفت لغة القرآن ، العنصر الرابط الجامع بين المسلمين ، في دعوات شيطانية ذات الوان : فمرة تدعو إلى تطوير اللغة القديمة واستبدالها بلغة جديدة تتفق مع متطلبات العصر، واخرى إلى جعل العامية هي وسيلة التفاهم بديلاً عن الفصحى، وثالثة إلى استبدالها بالانجليزية كما مر عند دعاة التنوير والحداثة.
... وعلى الرغم من ان الاساليب الثلاثة (1) التي استخدمها الفكر الغربي ، وما أدته من الوقوف بوجه المد الاسلامي لبعض الوقت ؛ احس الغرب بخطورة الاسلام – كنظام يتحكم في سلوك المسلمين، وبالجاذبية العالمية التي يتميز بها الدين الإسلامي (أي إندفاع غير المسلمين إلى اعتناقه) – وهذا ماتمثل في اتساع الصحوة الاسلامية في العالم الاسلامي، واعتناق اعداد كبيرة من الاوربيين والأمريكيين للأسلام . مما أكد عجز الغزو الثقافي، ونظريات اغتصاب العقول التي مورست ضد العقل المسلم ؛ عن احداث أي أختراقات حقيقية في المجتمعات الاسلامية (عزيز ، 1999 : 9).
... ونتيجة لذلك تمخضت الدراسات التي ترتبط بالسياسة الامريكية صاحبة المنهج الغربي الرأسمالي، ولاسيما بعد سقوط الشيوعية، كمنهج للحياة والعمل، والمتمثل بالفكر الاشتراكي في دول الكتلة الشرقية الأوربية والاتحاد السوفيتي (سابقاً) – بالعديد من الطروحات منها " النظام العالمي الجديد " ونظرية " نهاية التأريخ " ونظرية " صِدام الحضارات" ، وجميع هذه الطروحات قدمت الرأسمالية الغربية بعدها المنهج الأقوم والأصلح للحياة في ظل التطور المعرفي والتقني ؛ وبالتالي ماعلى دول العالم ، ألا دخول النظام العالمي الجديد المسمى بالعولمة، اذا ارادت هذه الدول ان تكون ضمن ركاب التطور والتقدم .
__________
(1) (*) ... الاساليب التي استخدمها الغرب لغزو الاسلام هي : التبشير والاستشراق والتغريب.(1/17)
... لذلك يروج فلاسفة التأريخ ومنظرو العولمة إلى فكرةٍ مفادها أن ستار البشرية سيسدل على المشهد النهائي لتأريخها على الأرض بالرأسمالية الديمقراطية الامريكية ، بعدما فشلت الماركسية كمنهج للحياة والاقتصاد والسياسة ؛ وان العالم سائر بشكل حتمي (1) نحو الرأسمالية الديمقراطية.
... ونحن نرى ان الرأسمالية ليست بافضل من سابقتها الماركسية، فهي مع ما تمتلك من نقاط قوة تجعلها تستمر لفترة أطول من عمر الماركسية الشيوعية، ألا ان هناك بذور ضعف وانكسار في داخلها، لأنها حضارة عرجاء تقوم على ساق المادة البحتة، والحتمية التي تؤمن بها فانها حتمية بشرية فانية اما حتمية الاسلام فانها ربانية دائمة فالله - سبحانه وتعالى - يقول { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ } (القصص : 5) ، { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ } (الانبياء:105) (المدرسي ، 1992 : 20-25).
... معنى ذلك إن المستقبل للاسلام ، لابوحي الأحلام والأوهام والأماني المجردة بل لاعتقادنا الجازم، أن سفينة البشرية التي تلاطمت بها أمواج (الماركسية) و (الرأسمالية) ستبحث عن الحل المناسب لها ويقينا ان الاسلام ونظريته في الحياة والسياسة والاقتصاد والتربية هو العلاج الشافي، فالبشرية التي عانت من ثغرات ومآسي ومشاكل الشيوعية، وثغرات ومآسي ومشاكل الرأسمالية، ستكون متطلعة إلى نظام شامل ومنهج قويم يحقق لها ما افتقدته في انظمتها الوضعية من صلاح وخير وتعاون وتآلف وهداية ونماء وسعادة وسلام (ينظر: الصدر ، 1998 :11-48).
__________
(1) (*) ... الحتمية التاريخية : هذا المصطلح استُخدم من قبل منظري الماركسية سابقاً، وكان الحتم التأريخي أن انتهوا إلى (متحف التأريخ).(1/18)
... نعم ، نحن بحاجة إلى قيم عالمية مشتركة يلتقي عليها ابناء الحضارات ، واتباع الديانات، لكن بالتأكيد ليست هذه التي تطرحها الرأسمالية التي تعاني من تصدعات نفسية وروحية واخلاقية واجتماعية وقيمية لا تجد لها حلاً.
... علينا أن نجنب أمتنا وحضارتها السامية، مأساة ذلك الانفصام الذي تشهده الحضارة الرأسمالية في اوربا وامريكا اليوم، تلك الهوة السحيقة بين التقدم الهائل في تطبيقات العلوم – التكنولوجيا – وما بين التخلف ، ان لم نقل الانحلال والانحطاط في القيم الانسانية ، اللذين يفترسان اغلب قطاعاتها الفكرية والبشرية ، إننا اذا شئنا ان نجنب امتنا وحضارتها ذلك الخطر وتلك المأساة وآثارهما المدمرة؛ لابد لنا من استلهام الصفحات المشرقة من تراثنا الاسلامي، والتي توجب الربط بين الايمان والعمل ، والعقيدة والحياة، والنظرية والتطبيق، والفكر والممارسة، لأننا اذا تمكنا من جعل التراث سراجاً ينير لنا الطريق في هذا المجال المهم في حياتنا تمكّنا من تجاوز المأزق الذي يعاني منه الآخرون، والذي يهدد روح حضارتهم وجوهر أنسانهم بالفناء والتحلل (عمارة ، 1974 : 17-18).
... ومن هنا يصبح التعامل مع التراث الاسلامي على اساس فهمه من داخله، ومع الفكر المعاصر على ذات الاساس ايضاً. أي اننا نفهم كل من التراث والمعاصرة، فهماً علمياً وموضوعياً الغاية منه تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا (ينظر: الشيرازي ، 2002 : 3-10 ) .
... قد يذهب الكثير من ابناء المجتمع الاسلامي إلى رأي مفاده : اننا خاضعون لتحولات دولية كبرى، لا نمتلك القابلية أو الكفاءة التي تؤهلنا للتعامل مع هذه التحولات او التغيرات في مجالات الحياة كافة ، وهذا الرأي ترسخ في اذهان البعض من ابناء المجتمع الاسلامي نتيجة للطروحات التي تنادي بالنظام العالمي الجديد، وتقبل كل ماتأتي به العولمة ؛ بوصفها العصا السحرية التي تضع الانسان في قمة السلم الحضاري (الشيرازي ، 2002 : 313).(1/19)
... وقبل ان نسترسل في الكلام حول هذا الموضوع لابد لنا من تذكر مقولة (ول ديورانت) صاحب كتاب قصة الحضارة التي يؤكد فيها : ليس بين الحضارة من ناحية، والجنس واللون والدم من ناحية أخرى أدنى أرتباط ، ومتى ما أتيح للشعب المتخلف ما أتيح للشعب المتحضر من عوامل، نهض وبنى واخترع وابدع، كما بزّ اليابانيون الاوربيين في حضارة العصر الحاضر (ينظر: ديورانت: د.ت ) .
... فالتخلف ليس قدراً ... والضعف ليس مركوزاً في النفس، والاحساس بالعجز ليس سمة لصيقة بنا، فالله - سبحانه وتعالى - يقول { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11) ، أي اننا ربما لانمتلك الكثير من اسباب القوة واساليبها لكن ليس معنى هذا أننا لانمتلك ارادة التغيير، او على الاقل إرادة الرفض والممانعة والمقاطعة لما هو ضد عقيدتنا وإرادتنا وأخلاقنا وهويتنا وشخصيتنا. ...
... لذا علينا استثارة روح المقاومة، وتوظيف مكامن القدرة على المواجهة، واذكاء الهمم لدى الافراد لكي يكونوا على مستوى العطاء والحوار والتفاهم والتكافؤ مع الأخر، كما كان اسلافنا في القرون السالفة من معتزلة واشاعرة. فليس كل وافد غربي هو أنموذجي، وواجب علينا الأقتداء به اذا أردنا ان نكون ضمن رحال العولمة أو العالم الجديد ، وهنا علينا التريث واتخاذ الموقف الحكيم في استقبال الوافد حتى يتبين ضرره من نفعه، وملائمته لثقافتنا وأخلاقنا أو اختلافه معهما (ينظر : الشيرازي، 2002 : 320).(1/20)
... والعولمة التي ينادي بها اصحابها ليست شعارات ، بل هي سياسات وخطط وبرامج واستراتيجيات ونظم ومناهج ؛ فالنفور منها والاستهجان بها ليس موقفاً صحيحاً، او معالجة ذات فائدة، بل لابد من ادراك حقيقة تلك السمات بتفعيل حركة الفكر، وجعل العقلانية هي الوسيلة المناسبة لوضع الحلول الصحيحة للتفاعل والمواجهة الحضارية مع الأخر (المدرسي، 1992 : 65) . ولنا في استعارة هذا المنهج من تراثنا الاسلامي وماخلفهُ لنا اسلافنا العظام من معتزلة واشاعرة وغيرهم ...
... وخلاصة القول ان تعاملنا مع العولمة يجب ان لايكون تعامل الانسان الضعيف أو المبهور؛ لاننا اصحاب حضارة ذات جذور عميقة جداً في التأريخ الانساني، ولنا ثقافتنا التي تميزنا كمسلمين من بقية أبناء المجتمعات الانسانية، ولنا رسالتنا السماوية الخالدة رسالة الاسلام المجيد ، ولنا مستقبلنا الذي يمتلك معالم واضحة ومحددة في تراثنا الاسلامي، وبناءاً على ذلك يجب ان يكون لنا انساننا الواعي الممتلك لذلك كله . فلا بد والحالة هذه – للتعاطي مع أي منجز انساني ثقافي أو علمي او حضاري – من أن نمتلك حرية الاختيار والانتقاء واصطفاء النافع المجدي ورفض الضار والتافه، وبذلك نحقق المقولة التي تقول (يجب علينا ان نؤصل حداثتنا ونحدث اصالتنا) .(1/21)
... والان لنعود إلى فوكوياما (1) وهنتنجتون (2) **)، واضعي نظريتي " نهاية التاريخ " و " صدام الحضارات " ؛ فقد بدا موقفهما مرتبك ومضطرب وقلق ازاء الاسلام على الرغم من ان الاول حاول ان يبرز فكرة مفادها أن التاريخ سيسدل ستاره على الرأسمالية الغربية ؛ باعتبارها المنهج الأصح لحكم العالم باسره. والثاني حاول ان يُبرز الصدام مابين الحضارات باعتباره السمة التي تميز القرن الواحد والعشرون.
... ومما يبدو ان النظريتين مرتبطتان ارتباطاً بيناً بالسياسة الأمريكية، وهذا مايشير اليه ارتباط كاتبيهما بالخارجية الامريكية . وعلى الرغم من اهتمامهما بتفسير التأريخ ، وترجيحهما لانتصار النموذج الديمقراطي الامريكي، ألا انهما قد خصصا عناية واضحة للاسلام اذ يعده (فوكوياما) : نسقاً عقائدياً قيمياً له القدرة على منافسة الديمقراطية الحرة . اما (هنتنجتون) فيقول: ان الاسلام هوية لحضارة من الحضارات البشرية التسع المميزة في التاريخ وان الحضارة المرتبطة به هي من الحضارات التي ظلت حية من دون ان تنكفيء على نفسها او تلحق بالغرب، بل هي من الحضارات التي تقوم ببناء الذات ، والاستعداد لموازنة قوة الغرب. والباحثان في نظريتيهما قد وصفا الاسلام وصفاً دقيقاً، وحددا مخاطره، ووضعا السبل المقترحة لمعالجة هذه المخاطر (عزيز، 1999: 9-10).
__________
(1) (*) ... فوكوياما : فرانسيس فوكوياما ، الباحث في وزارة الخارجية الامريكية، الياباني الأصل، طرح هذه الفكرة في سلسلة محاضرات في جامعة شيكاغو.
(2) (**) ... هنتنجتون : صموئيل هنتنجتون، مدير معهد (جون اولسن) للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد ، طرح فكرة الصدام كثمرة مشروع المعهد عن (البيئة الامنية المتغيرة والمصالح القومية الامريكية) ، ونشرها في مقال عام 1993.(1/22)
... يمكننا القول ان الباحثين قد ادركا على وفق ماتوصلا اليه من استنتاجات ، إنه في الوقت الذي يتجه فيه النظام الرأسمالي إلى الانهيار بفعل عوامل ذاتية فيه يُعبر عنها تراجع اهتمام الناس بالديمقراطية، ومشاركتهم في الانتخابات (ينظر: منظمة التحرير ، 1992 : 5) . بينما يعود النظام الاسلامي لاداء دور فاعل في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، مما جعله مصدر جذب لا للمسلمين فحسب بل للغرب نفسه – على الرغم من الإعلام الموجه ضده – وهو مابدأت تشير اليه احصاءات نسب الذين يعتنقون الاسلام في الغرب (عزيز ، 1999: 11).(1/23)
... وهكذا يتضح ان الموقف الغربي من الاسلام ، وعلى الرغم من ارتكازه على التفوق (السياسي والعسكري والاقتصادي والعلمي ) الذي يمتلكه الغرب، إلا انه يظل واقعاً في دائرة الخوف من الأقتحام الاسلامي، لأنه لم يفهم جوهر القوة الكامنة في الاسلام، والتي لم تأتِ فقط من تناسق منظومته العقائدية والقيمية، بل من رؤيته المستمدة من القرآن الكريم والقائمة على الركائز المعرفية ( الله والانسان والطبيعة) . لذلك فإننا بحاجة إلى رؤية معاصرة لتراث الاسلام، تستعين هذه الرؤية بمعطيات العلوم (التأريخ، الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، النفس، وغيرها من العلوم) ؛ لتقديم منظومة عقائدية قيمية تربوية تحقق بناء الانسان الحضاري الذي ظل أعجوبة مدهشة للعقل الغربي، كما يبدو ذلك واضحاً من اراء (مفكري الغرب) اذ يقولون: ولد الاسلام في منطقة من اكثر مناطق العالم القديم بدائية وتخلفاً، ولكنه سرعان ماتجاوز حدوده ، وتطور من ظاهرة محلية وعامل داخلي في حياة الأمة الاسلامية، إلى عقيدة كونية وقوة عالمية وذلك في عملية لايزال المؤرخون يختلفون حولها حتى اليوم. انها بالنسبة لاولئك الذين يدرسون الديناميكية الغامضة لهذه العملية ، لاتعد شرقية ولاغربية، كما لايمكن اعطاؤها أي تحديد جغرافي أو ثقافي، إنها فقط القوة المستمرة التي تشع من العقيدة الجديدة ومن الدولة التي إقامتها هذه العقيدة، والتي نمت في كل اتجاه، وانتجت حضارة موحدة إلى حدٍ يدعو إلى الدهشة؛ وذلك على الرغم من الاختلاف الشديد بين البيئات والمستويات الثقافية التي ازدهرت عليها (شافت، 1988 : 151).(1/24)
... اذن يروج مفكرو الغرب وفلاسفته لفكرة الصدام مابين الحضارات بوصفها سمة للقرن الواحد والعشرين، وبصورة علنية، وهذا مابدا واضحاً من خلال طروحات هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات، ومن خلال الكتاب الذي نشر لمؤلفه لسترثرو بعنوان المتناطحون (1) ، ومن خلال حديث الرئيس الامريكي جورج بوش (الابن) عُقيب الانفجار الذي حصل في مبنى التجارة العالمي في نيويورك بتاريخ 11/9/2001 ، اذ اعلن – وبخطاب موجه إلى شعوب ودول العالم والى الشعب الامريكي خاصة – نقل هذا الخطاب من قبل كل الأقمار الصناعية والفضائيات العالمية – ان الحرب الصليبية قد بدأت .
__________
(1) (*) ... المتناطحون : بعد ترجمة الكتاب للغة العربية اصبح عنوانه كالاتي " المتناطحون : المعركة الاقتصادية القادمة بين اليابان واوربا وامريكا " عن العنوان الانجليزي :
“Head to Head. The Coming Economic Battle Among Japan , Europe and America”(1/25)
... من خلال ماتقدم نقول ان سمة الفكر الغربي هي الصراع والمواجهة والمجابهة والتناطح أي أنه ليس من حوار أو لقاء بين الأمم من وجهة نظر الغرب ومفكريه، على الرغم من وسائل الأتصال وتقنياته التي يتسم بها القرن الحالي التي تسهل من مسألة الحوار مابين الحضارات والشعوب. بينما نجد ان الفكر الاسلامي يتسم بالمرونة والتعايش بأمان وسلام وتسامح وانفتاح على ماعند الغير والحوار الهادئ العقلاني المستنير المبني على المنطق السليم ، وهذا مايبدو واضحاً من قوله تعالى { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } (الحجرات : 13 ). فأننا نجد ان الآية تنهى عن العزلة والتقوقع والانكماش ، وتحثنا على الحياة الاجتماعية المشتركة مع ابناء الجنس البشري بغض النظر عن الطائفية والعرق. كذلك يدعو القرآن الكريم إلى الحوار ومخاطبة الجميع باسلوب حضاري كما في قوله تعالى { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا } (آل عمران : 64) والكلمة السواء – وكما هو واضح من الخطابات السياسية – النقاط المشتركة التي يتفق أو يلتقي عليها الجميع، وما اكثر هذه الالتقاءات الانسانية والدينية بيننا وبين اصحاب الديانات الأخرى ولاسيما السماوية منها.(1/26)
... كما أتسم الفكر الاسلامي بالأنتقاء والتميز والاستقلال ، وقد تشكلت هذه القدرة بمقتضى المعارف التي تأسست على الوحي ، وليس فقط على تراكم معرفي لمراحل سابقة . كما لم يكن العقل الاسلامي يرفض معطيات غيره، ولم يأخذ هذه المعطيات بأكملها اذ يشير د. عماد الدين خليل إلى هذا الأمر بقوله: كانت نظرة الحضارة الاسلامية للتراث الحضاري البشري نظرة احترام وتقدير ولم يكن العقل الاسلامي يتسم بالتشنج وينغلق على حدود الأنا . بل لقد علمته العقيدة التي صاغت تشكيله تقاليد الانفتاح المرن على كل حضارة أو انجاز مادام أنه قد يتضمن جانباً من الحكمة التي يتحرق العقل بحثاً عنها ، كما اكتسب من خلال العقيدة المقاييس الدقيقة والموازين العادلة التي يمرر من خلالها المعطيات الجديدة، فهو كان يمارس عملية بناء الذات الحضارية الاسلامية مستفيداً إلى اقصى حد من خبرات الآخرين (خليل ، 1989: 55-56).(1/27)
... اذ صاغ المتكلمون قواعد ومنطلقات التعلم وساهموا في تأسيس منهج المعرفة والادراك والعقل، أي وضعوا اسس المنظومة المعرفية الاسلامية، وكان المعتزلة اوائل المفكرين الذين تعرضوا إلى مسائل العقل والمعرفة، ووضعوا اسس المنهج العقلي – بعد ان استوعبوا المنطق اليوناني ومقولات الفلسفة - ، وكانوا يمثلون بحق العقلانية الاسلامية، ومن المعتزلة أخذت الفرق الأخرى الكثير من المعالجات وآليات العمل الفكري ؛ ولاسيما الاشاعرة اذ استعادوا الاعتزال، واستوعبوه ، واعادوا ترتيب المنظومة الاعتزالية على وفق نسق متطور ، ((فقد امتص اتباع ابي الحسن الاشعري منهج المعتزلة العقلي امتصاصاً تاماً ، بل ربما كان اهتمام الاشاعرة بالتنظير لهذا المنهج أعمق وأوسع، اذ دخلوا في نقاش وجدال مع المعتزلة، فتأثروا بهم بصورة واضحة، وتبنوا منهجهم كاملاً . علاوةً على اعتمادهم الاستدلال بالشاهد على الغائب كطريقة مثلى في النظر، تبنوا كثيراً من المقدمات التي وضعها المعتزلة كأصول عقلية لمذهبهم )) (الجابري، 1982 : 121).(1/28)
... كذلك تعتبر القدرة على الابتكار والخلق والابداع سمة من سمات الفكر الاسلامي، وهذا ماينقله لنا د. احمد شوقي الفنجري عن سارتون في كتابه (حياة العلم ) عن المعجزة الحضارية الاسلامية فيقول : ((ان قليلاً من الاغريق قد وصل إلى مراتب غير عادية بطريق تكاد تكون فجائية، وهذا مانطلق عليه – بالمعجزة الاغريقية – ولكن للمرء ان يتحدث كذلك عن معجزة حضارية اسلامية وان عملية خلق حضارة جديدة ذات صفة دولية، وقدر موسوعي خلال اقل من قرنين من الزمان .. لهي من الأمور التي يتعذر شرحها كاملاً )) (الفنجري، 1985 : 29) . فقيام الحضارة وانبعاثها من بيئة متخلفة حضارياً هو انجاز عملي وصورة تطبيقية لاعجاز القرآن النظري اذ نجح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الصحابة الكرام –رضوان الله عليهم – من خلال التلقي والتفاعل الصادق في تحقيق التجربة على ارض الواقع. ...
... والشمول والموسوعية ايضاً سمة امتاز بها الفكر الاسلامي ، اذ ضم الفكر الاسلامي جميع أوجه النشاط الانساني من الاجتماع والسياسة والاقتصاد والادارة والتربية والفرد والمجتمع والحياة والكون ، وكما هو معلوم ان المنطق بالنسبة للفلسفة كالرياضيات بالنسبة للعلوم التطبيقية وكان المفكرون الاسلاميون في تكافئ وموازنة مع استخدام المنطق والفلسفة أمام التقدم الذي احرزه الاسلاميون في مجال الجبر والميكانيك والفلك والطب وغيرها من ميادين العلوم المادية ، وما احرزه الفقهاء والعلماء في مجال العلوم الشرعية، فالعملية كانت تسير متناسقة ، ولكن النقل التأريخي المبتسر أو المجتزأ كان سبباً في تضخيم المنطق والفلسفة الذي طغى على علم الكلام وبالتالي ادى إلى غياب الجانب الآخر للتطور والتقدم العلمي في ميادينه الأخرى. وخير مثالٍ على ذلك فيلسوفنا أبن سينا اذ كان ضليعاً في كل مجالات العلوم في عصره.(1/29)
... كما اتسم الفكر الاسلامي بالاصالة والتفتح ، فالأصالة تعني ان هذا الفكر كان معبراً تعبيراً حقيقياً عن البيئة التي نشأ فيها ، وأنه نشأ نتيجة لتعامله بصورة صحيحة مع المشكلات والقضايا التي كانت تخيم على المجتمع انذاك، أما التفتح فبما ان الفكر الاسلامي حلقة من حلقات الفكر الانساني عموماً، فكان لزاماً الاطلاع على المنجز الحضاري للغير. ولم يرتكز إلى احد هذين المبدأين (الاصالة والتفتح) ، لان الارتكاز على الاصالة فقط يمحو التفتح، والتفتح فقط ينسخ الأصالة، فالتفتح من غير الأصالة يعني التطفل والتقليد الأعمى، والأصالة من غير التفتح تعني التقوقع والانكفاء على الذات (الموسوي ، 2000: 9).
... من خلال ماتقدم يتضح ان حركة الفكر في حياة الانسان، ولاسيما العربي سجلت لحظة الولادة الصحيحة بظهور الاسلام وانتصاره ومن ثم انتشاره، اذ اطلق حريات الانسان ؛ بتحطيمه القيود التي فُرضت على عقله وارادته، فقد انتقل بالعرب من الانتماء للعرق والقبيلة إلى الانتماء للعقيدة والأمة، ومن التعدد والفرقة إلى التوحيد والألفة، ومن حياة الجهل والخرافة والاسطورة إلى حياة العقل والعلم والمعرفة الصحيحة المبتناة على المنهج العلمي (العزب، 1979 : 10).
... ولذلك على المفكرين الاسلاميين المعاصرين ان ينظروا إلى الفكر الاسلامي برؤية معاصرة تعالج من خلالها مشكلات عصرنا التي خضعت لعقيدة الغرب، ووضعها الفكر الغربي ضمن منظومته الايديولوجية فلكل عصر خطاب يتجدد، ولكن يرتكز على نفس المؤسسة المرجعية التي جاء بها الاسلام وهي (الكتاب والسنة) ، وعصرنا الحالي يحتاج إلى فهم جديد يرتكز على مرجعية اكثر من أي وقت اخر، وهذا مما يتفق مع مبررات هذا البحث. ...(1/30)
... والفكر الاسلامي كان شاملاً لجميع انواع الفكر (كالفكر العسكري والفكر السياسي والفكر الاداري والفكر الاقتصادي، والفكر التربوي ... وغيرها) اذ لم يكن يختص في أي منها بل كان يعالجها معالجة شاملة بحسب مقتضيات الظروف، وما تتطلبهُ مصلحة المسلمين. وبما ان الفكر التربوي العربي جزء من الفكر الاسلامي لذلك يتسم بنفس السمات التي اتسم بها الفكر الاسلامي السالفة الذكر. وهذه السمات التي ميزت الفكر التربوي الاسلامي اعطت مفكرينا القدرة على اكتشاف المبادئ التربوية الصحيحة، ومن ثم بلورتها في منظور انساني يتفق مع الحقائق، وله من المرونة بحيث يتفق مع الطروحات التربوية والنفسية المعاصرة.
... لقد تشكل التراث الاسلامي والذي يشكل الفكر التربوي الاسلامي الجانب المهم فيه ، بما يضمه من اراء ومواقف تربوية صائبة نستطيع من خلالها تجاوز نقاط الضعف في معتقداتنا وممارساتنا التربوية ؛ نتيجة للجهود المتكاملة والمتظافرة لعلماء الأمة ومفكري المدارس الكلامية في هذا المجال (احمد، 1975: 27) .
... لذلك فإن معرفة مراحل تطور الفكر التربوي تُعد من الامور المهمة لمن اراد ان يفهم الانظار والاتجاهات والنظم التربوية التي نعيش اليوم وسطها، فإن هذه الانظار والاتجاهات والنظم مهما تطورت وتحدثت، هي تراكم علمي على امتداد التاريخ، وتجربة انسانية بعيدة الجذور؛ وهي تحمل دوماً وابداً شكل الاناء الذي ولدت فيه منذ القدم وتعبق برائحته ( عبدالدائم، 1978 : 6).
... وتبعاً لما مر يكون الهدف الأساس للفكر التربوي الأسلامي المعاصر، تأكيد الذات الحضارية الاسلامية، فإننا بحاجة إلى التعرف على ذاتنا، وتأمل ماحولنا من اراء وطروحات ونظريات تربوية ، وبالتالي ان نستخرج من كل هذا وذاك فكراً تربوياً اسلامياً ملائماً لواقعنا ، ومكانتنا التي يجب ان نرتقي اليها ضمن السلم الحضاري (نوفل، 1983 : 76).(1/31)
... وتأتي اهمية هذا البحث متفقة مع ما طرحه (د. علي خليل ابو العينين) اذ يقول : ولكي يكون لنا فكرنا التربوي الذي يميزنا من الآخرين، فكر اصيل وعميق ومتعايش مع روح العصر بكل أدواته وتقنياته، بل صانع لها موجهاً أياها التوجيه الاسلامي الصحيح من اجل حياة أفضل وواقع تربوي ممتليء حيوية ونشاطاً، علينا إعادة فاعلية هذا الفكر وسط اضطراب النظريات والأفكار الغربية (ابو العينين، 1983 : 9) .
... من خلال ماتقدم يرى الباحث ضرورة دراسة الفكر التربوي في تراثنا الاسلامي ؛ لتنوع وخصوبة وعظمة النتاج الفكري والتربوي ، فعلى الرغم من الاهتمام بالتراث وكثرة الدراسات فيه، لكن هناك جوانب منه متمثلة بالمدارس الفكرية التي ميزت الفترة الذهبية للحضارة الاسلامية ، لم تُدرس في مجال الفكر التربوي.
... لذلك سيحاول الباحث تسليط الضوء على جانب مهم من تاريخ الأمة الاسلامية ممثلاً بما تركته كلاً من مدرستي المعتزلة والأشاعرة من اراء كلامية فلسفية ، واراء تربوية، ورغبة في دراسة المدارس الأسلامية وتحليل افكارها، لاغناء الفكر التربوي الاسلامي المعاصر. ولاسيما اذا علمنا ان هاتين المدرستين لهما دور بارز وفعال في الدفاع عن العقيدة الاسلامية ومن ثم نشرها.
... ومما يعزز اهمية البحث فضلاً عن ما تقدم :
1- ان الرجوع إلى التراث من اجل بناء نظرية تربوية يُعد من الأمور المهمة والأساسية في هذا العصر (وفي كل عصر) ، ولاسيما ونحن نواجه اخطاراً متعددة وعلى رأسها التحديات الفكرية والثقافية الوافدة.
2- وتأتي اهمية هذا البحث من ان امتنا الاسلامية تمر الآن بأزمة حادة على مستوى القيم والمبادئ والافكار فهي الآن تتجاذبها التيارات الفكرية الوافدة اليها من الآخرين والتي لاتنسجم مع البيئة الاسلامية بتقاليدها وقيمها ومبادئها، مما يجعل ابناء الأمة يعانون من حالة الضياع والاغتراب وعدم الاعتزاز بالنفس ، وهذا متأتي من عدم الاعتزاز بالأجداد وماضيهم العريق.(1/32)
3- ابراز دور المدارس الفكرية في الاسلام ، وماقدمته من نظريات معرفية وتربوية ، فهناك الكثير ممن لايعرف معنى المعتزلة أم الاشاعرة زيادةً على جهلهم للدور الحقيقي الذي قامت به هذه المدارس في بناء المجتمع الاسلامي والدفاع عن الاسلام.
4- على الرغم من أهتمام الدراسات التي ظهرت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي بالتراث وتجديده والبحث عن الأصالة والربط بين الاصالة والمعاصرة ، لكن مع ذلك لايختلف اثنان حول ما أصاب التراث الاسلامي من تخلف وركود ؛ لذلك نحن بحاجةٍ ماسةٍ دوماً إلى اعادة فهم التراث والى إعادة كتابته.
5- ان هذا البحث محاولة للكشف عن خصائص العقل الاسلامي وقدرته على انتاج المنظومة المعرفية ومواجهة التحديات على وفق مقتضيات الواقع انذاك.
هدف البحث :
... يرمي البحث الحالي إلى : تعرف الفكر التربوي العربي الاسلامي من خلال :
1- تعرف الاسس الفكرية للمعتزلة ومبادئهم التربوية.
2- تعرف الاسس الفكرية للاشاعرة ومبادئهم التربوية.
3- مقارنة أوجه الشبه والاختلاف بين اراء المدرستين التربوية.
حدود البحث :
... لما كانت الدراسة الحالية ترمي إلى معرفة الافكار التربوية عند المعتزلة والاشاعرة ، لذا وجب ان ينظر إلى هذه الدراسة من بعدين :-
اولا: ... البعد التأريخي:
... تتطلب الدراسة التاريخية تحديد المدة الزمنية التي جرت فيها الاحداث المهمة التي تشكل السمات أو الملامح للظاهرة المدروسة، لأن هذا التحديد يساعد على استقراء وفهم الجزئيات والحقائق، التي شكلت الاحداث في تلك المدة الزمنية. وعلى وفق هذا التصور فإن الأطار التاريخي لهذه الدراسة يبدأ من بداية القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وقت ظهور فرقة المعتزلة وعلو نجمها وانتشار افكارها إلى نهاية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
ثانياً: البعد الفكري:(1/33)
... يتمثل هذا الأمر في الاراء والافكار التي خلفها المعتزلة والاشاعرة، والتي سارت بموجبها النقاشات الفكرية في مسائل العقيدة والعلوم الأخرى، لذا سيعتمد الباحث على مؤلفات المعتزلة على الرغم من قلتها وذلك لتعرضها للتلف والحرق (1) ، ومن ثم يعتمد على مادونه كتاب الملل والنحل والمذاهب الاسلامية والمؤرخون في مجال الفكر الاسلامي . وكذلك يعتمد على مؤلفات الاشاعرة وماتركوه من اراء وتوجيهات.
منهج البحث :
... لتحقيق اغراض الدراسة سيقوم الباحث باستخدام المنهج التاريخي الوصفي التحليلي البنائي المقارن (ديولبو ، 1985 : 273 ، 325 ) . اذ سيقوم الباحث بالرجوع إلى الفترة الزمنية التي جرت فيها الدراسة، وذلك لاستقراء المواقف الجزئية التي شكلت الفكر انذاك وهذا الامر يتطلب منهجاً تاريخياً ومن ثم يقوم الباحث بوصف مظاهر الحياة في تلك الفترة مما يتطلب الاعتماد على المنهج الوصفي ومن ثم بعد ذلك يتم التحليل والاستنتاج والبناء للتوصل إلى المبادئ الكلية لكي يتسنى للباحث مقارنتها مع بعض .
... وقد تم تطبيق المنهج على وفق الخطوات الآتية:
1- المنهج التاريخي: وذلك بالاعتماد على المصادر التاريخية او المصادر الاولية التي دونت الاحداث او الرجوع إلى المدة الزمنية التي هي موضوع الدراسة من خلال المصادر التاريخية.
2- المنهج الوصفي : وذلك بوصف الاحداث والمواقف التي شكلت سمة العصر موضوع الدراسة اذ يقوم الباحث بقراءة الاحداث في الكتب التي دونتها، لكي يتسنى له وصفها وصفاً يبين ظهور الحدث أو المشكلة.
__________
(1) (*) ... هذا ماذكرته لنا المصادر التأريخية ، فقد قام الخليفة القادر بالله بأصدار أوامره بتحريم النظر العقلي وايداع كل من يذهب إلى الراي والعقل في السجون وايضاً ماقام به السلطان محمود الغزنوي بحرق كتب المعتزلة والفلاسفة. (ينظر : حتي ، 1974 )(1/34)
3- المنهج التحليلي : وذلك بتحليل المواقف والاحداث التي شكلت سمة العصر، ويتم التحليل على اساس نظرة مبتناة على الدقة والشمول، ثم يقوم الباحث بتحليل النصوص التي تركها مفكرو مدرستي المعتزلة والاشاعرة، ويتم التحليل ايضاً على وفق نظرة تتسم بالدقة والشمول، اذ يقوم الباحث بقراءة النص قراءة مستفيضة لكي يتسنى له التحليل على وفق اهداف البحث، ليتوصل من خلال التحليل إلى بناء اراء وافكار تتسم وطبيعة المرحلة التي كونتها.
4- المنهج البنائي: ويتم ذلك ببناء الافكار والمبادئ ، اذ يقوم الباحث بجمع الجزئيات وتركيبها على وفق عنوانات البحث للتوصل إلى المفاهيم والافكار المراد توضيحها.
5- المنهج المقارن: وهو مقارنة الافكار والمفاهيم والمبادئ التي توصل اليها الباحث كنتيجة لدراسته، اذ يقوم بمقارنة الافكار على وفق العنوانات في البحث التي تم بناء وتركيب الافكار في ضوئها.
تحديد المصطلحات :
... لكي تكون الصورة واضحة عن العنوان، يحدد الباحث مفهوم كل من المصطلحات التي وردت فيه : ( الفكر ، الفكر التربوي، الفكر التربوي الاسلامي، المعتزلة ، الاشاعرة) .
1- الفكر :
... لغةً : هو اعمال النظر في الشيء (الفيروز ابادي، 1913 : مادة فكر ) . والتفكر : التأمل ، والاسم : الفكر (الرازي ، 1983 : مادة فكر) . والفكر اصطلاحاً : هو ترتيب أمور معلومة للوصول إلى مجهول (الجرجاني ، د.ت : مادة فكر ) . وهو اعمال العقل في الاشياء للوصول إلى معرفتها (صليبا، 1982: مادة ، فكر) . وقد عرفه المعتزلة : بأنه ((التأمل في حال الشيء، والتمثيل بينه وبين غيره، او تمثيل حادثةٍ من غيرها)) (القاضي، ج12، د.ت : 45).
... اما الاشاعرة فقد عرفوه: بأنه عبارة ترتيب مقدمات علمية أو ظنيه ليتوصل بها إلى تحصيل علمٍ أو غلبة ظن (الرازي ، د.ت : 205-207).(1/35)
... معنى ذلك أنه نشاط نوعي يميز الانسان عن باقي الكائنات الحية ، اذ يشمل عمليات الادراك والفهم والتذكر والمحاججة والتقليد والاستنباط وتظهر من خلاله عمليات الانسان الاجتماعية. فهو اذن نشاط هادف يقوم به الانسان نتيجة تعرضه لمواقف ومشكلات في البيئة التي يعيش فيها (عفيفي، 1975 : 207).
... والتعريف الذي يراه الباحث مناسباً للبحث : ان الفكر وسيلة من وسائل الدفاع عن الذات وعن المعتقدات التي يؤمن بها الانسان ، ولاسيما بعد احساسه بأن هويته الذاتية او معتقداته التي يؤمن بها معرضة للغزو الفكري او السحق الحضاري. لذلك والحالة هذه يبدأ الانسان بفتح قنوات متعددة من الحوار الفكري مع الذات ومع الآخر ومع الاشياء للوصول إلى حالة الاطمئنان والسلام.
2- الفكر التربوي :
... يُعرف الفكر عموماً بأنه (( الاراء والمبادئ والنظريات التي يطلقها أو يعتمدها العقل الأنساني في تحديده لموقف او مواقف تجاه الكون والانسان والحياة)) (محمد ، 1976 : 19) .
... وهذه المفاهيم والقضايا التي يتفاعل معها الفكر (الكون والانسان والحياة) هي نفسها التي تشكل مادة التربية او المنهج التربوي في أي مجتمع من المجتمعات وفي كل زمان.
... فالفكر التربوي اذن يمثل جزءاً مهماً من نتاج الفكر الانساني العام المتراكم عبر العصور يقوم بمهام تربوية متعددة ، كتحديد الغايات والاهداف التي ينبغي الوصول اليها (النجيحي، 1967: 15).
... ويذهب بعضهم إلى ان الفكر التربوي هو ((سجل للافكار في زمان ما ومكان ما قد عبر عن نفسه في تعاليم وكتابات ولدتها عقول اتسمت بالرزانة والحكمة في اطار من التأمل ابتغاء وجه الحق والخير والعدل والجمال)) (احمد ، 1975 : 25).
... لذلك نعرف الفكر التربوي : بأنه صورة من صور الفكر ناتج عن حركة المجتمع وتفاعلاته وبالتالي يكون الفكر التربوي مرآة تعكس لنا درجة تطور المجتمع ومدى تحضره . أي انه كلما كانت هناك حضارة كان هناك فكر تربوي يماثل تطورها.(1/36)
3- الفكر التربوي الاسلامي :
... لكي نقف على فهم حقيقي لهذا المدلول ينبغي لنا ان نستعرض بعض مفاهيم الفكر الاسلامي.
... فالفكر الاسلامي: هو جميع المحاولات العقلية التي قام بها علماء المسلمين لشرح الاسلام في مصادره الاصيلة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة (البهي، 1971 : 5).
... وبمعنى اخر هو التفاعل مابين العقل المسلم واحكام الدين ومتطلبات الحياة، أي ان الفكر الاسلامي يتضمن القضايا النظرية التي تخص الكون والانسان والحياة والطبيعة ومابعد الطبيعة ، ومسائل الشريعة.
... وبما أن التربية وبحكم دورها اذ تتجه إلى اجراءات عملية وخطوات تنفيذية، لابد لها أن تستند إلى فكرة او فلسفة أو (ايديولجيا) أي اطار فكري (علي، 1995 : 24) .
... ومن تعريفنا السابق للفكر التربوي والفكر الاسلامي نستطيع ان نعرف الفكر التربوي الاسلامي بأنه : النتاج الفكري النظري والتطبيق العملي الذي أنتجته المدارس الفكرية مرتكزاً على نظرة الاسلام للانسان والحياة والكون، ومعتمداً على ايمان الانسان كمنهج للسلوك والعمل ، لذلك كانت المسائل التربوية في الاسلام تقوم على قاعدة فكرية ورؤى فلسفية أياً كانت المدرسة التي صدر عنها هذا الفكر او المسائل العملية .
4- المعتزلة :
... لغوياً : مشتقة هذه الكلمة من الاعتزال ، والاعتزال كالعزلة بمعنى الانفراد ( الفيروز ابادي ، ج4 ، 1913: مادة اعتزال ) .
... أما فكرياً: فأن هذه الكلمة شاعت في اواسط القرن الثاني للهجرة اذ صارت علماً لفرقة اسلامية كبيرة ذات تيار فكري كلامي أصيل تدعى المعتزلة، ولاينصرف الذهن عن فهم هذه الفرقة عند استماع كلمة المعتزلة إلى سواها إلا بقرينة ولاسيما في اطار الحديث عن الفرق والمذاهب الاسلامية (البهادلي ، ج2 ، 1995 : 275).(1/37)
... والمعتزلة ارباب الكلام واصحاب الجدل والنظر والتمييز والاستنباط والحجج على من خالفهم والمفرقون بين المنقول والمعقول (الملطي، 1968 : 36) . وهم أول من ظهر من الفرق الاسلامية في صدر حضارة الإسلام بقواعد الأُصول، وفتح لأولي العلم باب النظر والتأويلات وانتصب للمجادلات والمناظرات (القاسمي ، ج2 ، د.ت : 24).
... فالمعتزلة فرقة اسلامية كبيرة اجمع اصحابها على القول باصول خمسة وان وقع بينهم خلاف في بعض الأمور الجزئية ، وهذه الاصول التي اجمعوا عليها هي : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بدوي، ج1 ، 1979 : 55).
... ومن خلال ماتقدم نستطيع ان نحدد معنى هذا المصطلح (المعتزلة) : بأنه يشير إلى أحد الفرق الأسلامية التي ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري وعبرت عن نفسها باصول خمسة واصبح الاقرار بهذه الاصول معياراً للحكم على الشخص اذا كان منتمياً إلى هذه الفرقة أم إلى غيرها من الفرق الاسلامية، وهي المدرسة الكلامية التي جعلت للاستدلال العقلي مكانة محترمة في الفكر الاسلامي.
5- الاشاعرة :
... هم اتباع ابي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري ، وينسب إلى الاشعري هذا اتجاه خاص في علم الكلام يعرف بالمذهب الاشعري ، وهو مذهب قائم على محاولة ايجاد طريق في العقيدة يجمع بين مذهب السلف من الوقوف عند حد النص، ومذهب اهل العقل من علماء الكلام وهم رجال الأعتزال.
... والاشعري هذه النسبة إلى أشعر ، وهي قبيلة مشهورة في اليمن، فأما أبو الحسن إنما لقُب بالاشعري لأنه من ولد ابي موسى ( السمعاني ، ج1 ، 1962: 266).
... فالاشاعرة اذن هم اتباع " أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري " ، وهم أغلبية ويطلق عليهم الآن " اهل السنة " وفكرهم يمثل الموقف " الوسط " في كثير من القضايا الفكرية المتنازع فيها بين الفرق الاسلامية(عمارة،1974:هامش21).(1/38)
... ويمكننا الآن ان نحدد معنى مصطلح الاشاعرة: بأنهُ يعبر عن احد الفرق الاسلامية التي كانت تنتهج موقفاً وسطاً في كثير من القضايا الفكرية التي كانت تشغل اذهان وعقول المسلمين وحاولت التوفيق بين العقل والنقل ، وهي أميل في منهجها للنقل في بعض المسائل الفكرية.(1/39)
المبحث الأول
العوامل الثقافية التي شكلت الفكر عند المعتزلة والاشاعرة
مقدمة :
... إن اية ظاهرة اجتماعية سواء أكانت عامة أم خاصة، في الماضي أم في الحاضر، لم تكن فرصة ظهورها على ساحة الواقع العملي متاحةً، ولا الطريق سالكا أمامها ألا ضمن جملة من العوامل الثقافية المتشابكة والمتداخله. ولعل في مقدمة هذه العوامل هو الشعور بالحاجة إلى تلك الظاهرة للقيام بوظيفة ما داخل المجتمع، ويأتي في سياق ذلك ايضاً علاقة التأثر والتأثير المتبادلة بين الحضارات الانسانية المتجاورة والبعيدة، بما في ذلك عمليات العطاء والأخذ والاقتباس والتقليد وتبادل الأفكار والخبرات، شرط ان لاتبلغ هذه العمليات حداً كافياً لجعل أمة ما من الانصهار والذوبان في كيان أمة اخرى.
... ((إن الفكر حاجة انسانية تتطلبها وتفرضها اوضاع البشر المادية في حياتهم الاجتماعية وتفرزها هذه الاوضاع بصيغتها التي تكون عليها، وليس هنالك في حياة البشر فكر عائم لاينتمي إلى زمان ومكان محدودين بالضرورة)) (مبارك، 1986 : 10).
... لذلك فإن من غير الصواب ان يُنظر إلى ظاهرة اجتماعية على مستوى تاريخي أو معاصر نظرة منفردة ومنعزلة عن مسار الظواهر الأخرى التي تحيط بها وتتفاعل معها. لأن مثل هذه النظرة ستكون بعيدة عن الموضوعية مالم تُدرس الظاهرة المقصودة ((في ضوء تركيبها التاريخي وارتباطها المباشر بتطور شخصية الأمة وثقافتها)) (هانس، 1966 : 16).
... اذا كانت الاديان بتعاليمها ومعتقداتها، والفلسفات بمُثُلها، تمثل الجانب النظري لكل فكر فأن الفكر التربوي بنظرياته وممارساته، وبأرائه وتطبيقاته يمثل الجانب العملي والتطبيقي لتلك التعاليم وتلك الفلسفات. وهناك أمر بديهي ، وهو إنه كلما استطاع الفكر ان يحقق التوافق والأنسجام بين النظر والعمل، وبين الرأي والعيان وبين الماضي والحاضر والمستقبل، كان هذا الفكر أقرب إلى النفوس وأحق وأولى ان يكون مرجعاً للفكر التربوي.(1/1)
... وكما هو معروف ان التربية لاتنبع من فراغ كما إنها لاتُمارس في الفراغ، وبالتالي فهي كممارسة وعمل، المجال التطبيقي لما هو نظري ، والفكر التربوي هو المجال النظري لما هو في العيان وفي الواقع لأن الفكر التربوي يعمل باتجاهين:
الاول: ... نظري يرتكز على المعتقدات والدعائم الاساسية للفكر (المثل او المبادئ العليا) متجهاً نزولاً صوب الواقع.
والثاني: عملي تطبيقي (واقعي) مرتكز على المعطيات الاجتماعية بكل جوانبها ومكوناتها ومتجه صعوداً صوب المثل. من هنا يبدو أن التربية جاءت لتُزيد الفكر وضوحاً وجلاءاً، والواقع تحسساً وتأثيراً. ومعنى ذلك إنه كلما كان هذان الاتجاهان متوافقين ومنسجمين، كانت التربية إلى العمل أقرب وبالفكر ألصق (شمس الدين ، 1985 : 9).
... وظاهرة الفكر التربوي والممارسات التربوية تبدو أكثر وضوحاً من بقية الظواهر في أي مجتمع نظراً لوقوعها في حقل التعامل مع العقول والنفوس واعدادها صقلاً وتهذيباً لتكون منسجمة مع واقع المجتمع، ولكونها جهداً منظماً ومقصوداً يؤديه المجتمع بمؤسساته المختلفة لايجاد سلوك ايجابي مقبول لدى الفرد أو تعديل سلوك قائم لديه.
... والفكر التربوي بوصفه صورة من صور المكون الفكري على وجه العموم، ليس مجرد مرآة تعكس سلبية مايحيط بها، إنما هو يشتبك في حركة جدل وتفاعل مع الظروف المحيطة به مثلما يتأثر بها، فهو يؤثر فيها كذلك، فيُثرى بخبرة الواقع وينمو بحركة الأحداث وينير لها الطريق ويفتح أمامها الأفاق (علي ، 1987 : 5).(1/2)
... وتُعد التربية عملية ترتبط أشد الارتباط بالثقافة وبنائها التراكمي، كما إنها وسيلة لحفظ الثقافة عِبر الاجيال المتتالية والتلاؤم معها، ومن خلال التربية تتم عملية التشكيل الفكري للافراد والجماعات، ولكن هذا التشكيل يختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر ومن عصر إلى عصر آخر بحسب الظروف الخاصة بكل مجتمع، والقوى والعوامل المؤثرة فيه، وتبعاً للتغيرات التي يفرضها كل عصر (عبود ، 1978 : 51-52).
... كذلك يصعب الحديث عن فلسفة التربية في أي مجتمع، من دون تمهيد لها بالقوى أو العوامل الثقافية التي أثرت وتأثرت فيها، وذلك لانها فلسفة تربوية وليدة بمجتمع معين له ظروفه الخاصة، التي تختلف عن تلك الظروف التي تحيط بمجتمعات أخرى (النوري، 1979 : 259).
... إن العوامل الثقافية تختلف بأختلاف العصور وتعاقبها، وتتطور أيضاً بتطور الظاهرة المدروسة بحيث لايمكن الاقتصار في البحث على تقصي تلك العوامل داخل أطارها الزمني أو ضمن فترتها التطورية، لأن كثيراً من الظواهر تمتد جذورها في العمق بعيداً عن زمنها لكن تأثيرها يبقى قائماً ملحوظاً.
... لعل من اهم شروط الدراسات المقارنة العلمية الموضوعية هو الوقوف على العوامل الحقيقية والاسباب التي تكمن خلف الظاهرة أو المشكلة المراد دراستها وتوضيحها، وبما ان هذه الدراسة هدفها التعرف على الفكر التربوي العربي الاسلامي من خلال الكشف عن الافكار التربوية عند كلٍ من المعتزلة والاشاعرة والوقوف على أوجه الشبه والاختلاف مابين الافكار التربوية عند كلٍ من المدرستين، للوصول إلى ملامح عامة للفكر التربوي العربي الاسلامي ، لذا تقتضي الحاجة إلى البحث عن هذه العوامل وكشفها وتحليلها وتبيان تأثيرها في تشكيل الاساس الفكري عند مفكري المدرستين.(1/3)
... وثمة شيء ينبغي الانتباه اليه قبل الحديث عن هذه القوى او العوامل الثقافية التي تشكل الاساس الفكري، ألا وهو (تشابك العناصر الثقافية)، معنى ذلك أنها ينطبق عليها ماينطبق على الثقافة من شمول وتكامل وتداخل في العناصر؛ بمعنى أن بعض جوانبها يؤثر في بعضها الآخر بدرجات متفاوتة، وانها جميعاً تتفاعل فيما بينها؛ لتكون في النهاية ذلك – النسيج العام – ((الذي نُطلق عليه ثقافة المجتمع، فكل عامل من هذه العوامل أو القوى ليس لهُ وجود بمعزل عن غيره من العوامل، وانما تتحدد ملامحه من خلال اتصاله بها، وتفاعله معها، فهذا التفاعل بين تلك العوامل هو الذي يشكل كل عامل منها ويبرزه على الصورة التي يبدو عليها تماماً، مثلما يشكل الثقافة العامة للمجتمع، فيفرق بين ثقافة مجتمع وثقافة مجتمع آخر)) (عبود ، 1974 : 54).
... وهنا وقف الباحث امام مشكلة معقدة تمثلت في صعوبة فصل العوامل أو القوى الثقافية التي شكلت الاساس الفكري عند رجال كل مدرسة، ودراستها منفردة، اذ إن مسألة فصل هذه العوامل ودراستها بصورة منفصلة أمر ضروري ومن أساسيات الدراسة المقارنة، ولكن لتلافي الوقوع في مآزقٍ كهذا بادر الباحث لأستشارة رجال الفكر والفكر التربوي خاصة، وقد حصل الاتفاق على ان يصار دمج العوامل الثقافية التي اثرت في رجال المدرستين ، وابرازها كمادة واحدة، كونهما يرجعان إلى فترة واحدة وينبعان من البيئة نفسها.
... هكذا يتم استعراض هذه العوامل مشتركة لاعطاء صورة عن الظروف التي انبثق منها فكر المعتزلة والاشاعرة ، وبالقدر الذي يناسب القصد ويتماشى مع طبيعة البحث وعلى النحو الاتي:
اولاً: العوامل الجغرافية :
... هنا سلط الضوء عن العوامل الجغرافية على كل من مدينتي البصرة وبغداد، باعتبار ان البصرة هي المكان أو البيئة التي نشأت فيها مدرسة المعتزلة ومن ثم الأشاعرة، أما بغداد فقد كانت البيئة الخصبة التي أحتضنت أفكار المعتزلة والأشاعرة.(1/4)
... يقسم العلامة ابن خلدون العالم على سبعة اقاليم، وتبعا لهذا التقسيم فان البصرة تقع في الاقليم الثالث، اما بغداد فانها تقع في الاقليم الرابع ( ابن خلدون ، د.ت : 59-69) واما المناخ في هذه الاقاليم فيكون ((الاقليم الرابع اعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس اقرب إلى الاعتدال ، اما الثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال ، والاول والسابع أبعد بكثير – فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والاقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع مايتكون في هذه الاقاليم الثلاثة (الثالث والرابع والخامس) المتوسطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر اعدل اجساماً والواناً واخلاقاً وادياناً ... )) (ابن خلدون، د.ت : 82). ((وأهل هذه الاقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فنجدهم في غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم واقواتهم وصنائعهم ... ويبتعدون عن الانحراف في عامة احوالهم، وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقيين ... )) (ابن خلدون، د.ت: 82) ، اما اهالي المدن العراقية فكانوا وافري العقول واسعي الحلوم ، ويقر بذلك لهم أهل الطاعة والفضائل (المقدسي، 1906 : 128).
1- ... البصرة :
... اختلفت المعجمات اللغوية والكتب الادبية في معنى البصرة ، إذ يُذكر في القاموس المحيط ولسان العرب: ان معنى البصرة الأرض الغليظة الرخوة الضاربة إلى البياض (الفيروز آبادي، ج1، 1913 : 333) (ابن منظور ، 1970: مادة بصرة).
... اما صاحب معجم البلدان فيذكر في معنى البصرة مايأتي: قال ابن الانباري: البصرة في كلام العرب الارض الغليظة، وقال قطرب: البصرة حجارة رخوة فيها بياض – وذكر الشرفي بن القطامي : إن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا اليها من بعيد وابصروا الحصى عليها فقالوا: ان هذه بصرة يعنون حصبة فسميت بذلك. ذكر بعض المغاربة: ان البصرة الارض الطيبة الحمراء (ياقوت الحموي ، ج1 ، 1956 : 430).(1/5)
... ويذكر لنا البستاني في سبب تسميتها رأياً ولعله الأرجح : إن عتبة بن غزوان كتب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستأذنه في تمصيرها فوصفها بقوله: إني أرى أرضاً كثيرة القضة في طرف البر إلى الريف ودونها منافع وفيها ماء، فقال عمر : هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمرعى والمحتطب (البستاني ، 1881 : مادة بصرة ). أما تأسيس المدينة فلم يكن لاعتبارات اقتصادية أو تجارية في البدء على الرغم من وصف الخليفة الثاني لها، بل جاء تأسيسها استجابة لمتطلبات عسكرية ستراتيجية مهمة في بداية الفتوحات الإسلامية (ابن حوقل، 1939 : 154).
... لقد جاءت التطورات العسكرية السريعة بنتائج مهمة على وضع البصرة، إذا افلحت الجيوش الاسلامية في السيطرة على كور دجلة وتم افتتاح مدن اصفهان وقم وقاشاب ابان ولاية ابي موسى الاشعري (17هـ-25هـ) فساعدت هذه الانتصارات على اجتذاب اعداد جديدة من المقاتلين ، فازداد حجم السكان واختلطت القبائل في المدينة بعضها ببعض لعدم وجود خطط مستقلة ، الامر الذي دفع الخليفة إلى ان ينصح الوالي الأشعري ان يجعل لكل قبيلة محلة وان يأمر الناس بالثناء (البلاذري، 1957 : 342). وانتظمت خطط المدينة أكثر حينما شب حريق فيها، فالتهم البيوت والوحدات العمرانية المبنية من القصب، فاستأذن أهل البصرة الخليفة ان يعيدوا بناء ما احترق باللّبن بدلاً من القصب فوافق على ذلك (الدينوري ، 1960 : 118) . وعند ذلك أخذت المدينة تنتقل من الوضع الريفي إلى مدينة منظمة تنظيماً عالياً.(1/6)
... اما المسجد الجامع الذي اختط في زمن عُتبة بن غزوان ،فقد تم إعادة بنائه باللبن والطين زمن ولاية ابي موسى الاشعري عام 17 هـ ، كذلك تعرض المسجد الجامع إلى عمليات التوسيع والزيادة خلال ولاية محمد بن سليمان في العصر العباسي، إذ أنه وسع الجامع سنة 161هـ، وفي خلافة هارون الرشيد جرى تعديل آخر إذ أدمجت دار الامارة بالمسجد فأتسعت رقعته بشكل أكبر (البلاذري، 1957 : 426-429) . وكذلك تعرض المسجد الجامع إلى تخريب وتصديع خلال هجمات الزنج والقرامطة على مدينة البصرة، الأمر الذي دفع ضامن المدينة أبو عبدالله البريدي في سنة 325هـ إلى انفاق مبلغ قدره الفا دينار لترميم المسجد، كما أنه تعرض للحرق سنة 624هـ، مما دفع والي البصرة باشكين اثناء خلافة المستنصر بالله إلى اعادة بنائه وتشييد اسطواناته (الطبري، ج8 ، 1985: 136).
... وكذلك دار الإمارة بُنيت بالقصب، وكان تأسيسها مع الوحدات الادارية الأخرى السجن والديوان وتبدلت مادة القصب اثناء ولاية الاشعري إلى اللّبن والطين كالمسجد الجامع. وقد تم نقل دار الإمارة سنة 54هـ إلى قبلة المسجد الجامع من قبل زياد بن ابيه (ينظر: الدينوري، 1960 : 119).
... لقد شهدت مدينة البصرة تطورات اجتماعية واقتصادية وفكرية كبيرة عبر قرون متعددة على الرغم من جميع الظروف الصعبة. فقد كانت مركز إدارة، مهماً للفتوحات الاسلامية في بلاد فارس ، وصارت المنطقة المحيطة بها من أهم المناطق الزراعية، ثم تحولت خلال الفترة العباسية إلى مرفأ وميناء تجاري، فتطورت العلاقات الأقتصادية داخل المدينة، إذ ظهرت البنوك والمصارف وتشجع التجار الى توسيع علاقاتهم مع الخارج، وأقبل عليها الناس من مختلف البلدان لمزاولة الأعمال، وقد نشطت الحركة التجارية للمدينة (ناجي ، 2001 : 170).(1/7)
... إلا انه في منتصف القرن الثالث للهجرة فصاعداً، واجهت المدينة، انتكاسات متعددة وتحديات سياسية أدت بمرور الزمن إلى ضعف اهميتها وتضاؤل حجم سكانها، فأعتداءات الزنج على المدينة وتخريبهم معالمها وقتلهم الأهالي وتخريب الأراضي الزراعية دفع الكثير من أهاليها إلى تركها والرحيل عنها إلى المدن المجاورة كالأبلّة (خسرو، 1945 : 146).
... إن احوال الأبلة قد تبدلت نحو الأحسن بمرور الزمن لاسيما بعد انتعاش الحركة التجارية في الخليج العربي بعد انتقال مركز الخلافة الاسلامية من دمشق إلى بغداد ، إذ إن التحولات الاقتصادية التي شهدها المجتمع الاسلامي خلال هذه الفترة زادت من النشاطات التجارية مع اقطار الخليج العربي والهند والصين وافريقيا سواء عبر الطريق النهري – البحري ابتداءً من بغداد – واسط – شط العرب – البصرة بواسطة نهر الأبلة – عبادان (بواسطة شط العرب ثانية) – الخليج العربي أوال – سيراف ثم الهند والصين (ناجي ، 2001 : 174).
... لقد وصف أكثر من باحث ومؤرخ اسلامي مدينة الأبلة فقد ذكر ابن حوقل خلال حديثه عن مدن البصرة، فأشار إلى عبادان والأبلة والمفتح والمذار ثم عقب على هذه المدن بأنها مدن صغيرة متقاربة في الكبر وان الأبلة أكبرها جميعاً (وافسحها رقعة) وكانت الأُبلّة دون غيرها من تلك المدن عامرة تشتمل على اسواق صالحة ( ابن حوقل، 1939 : 214).
... ووصفها المقدسي بعد ذلك بزمن قليل انها قرية عامرة كبيرة وتحتوي على جامع (المقدسي ، 1906 : 118) ووصفها ناصر بقوله إنها كانت تقع على نهر الأُبلّة وهي مدينة عامرة ثم قال بأنه رأى قصورا في المدينة واسواقاً ومساجد واربطة للدراسة والتعليم، وهي من الجمال، إذ لايمكن حدها او وصفها (خسرو ، 1945 : 150).(1/8)
... وامتدحها صاحب كتاب (الروض المعطار) بقوله : إنها حسنة الديار واسعة العمارة كثيرة السكان مياسير في خصب ورفاهية من العيش (الحميري، 1975 : 8) . ونظراً لما كانت تتمتع به الأُبلّة من جمال الطبيعة والرخاء والموقع التجاري الملائم وبُعدها عن مخاطر الهجمات البدوية من البادية، صارت المدينة المفضلة لسكن الامراء والمتنفذين والعمال والولاة (ابن الاثير ، ج9، د.ت : 137، 153، 160).
... وعلى الرغم من أننا لانملك احصائية دقيقة عن سكان المدينة، لكن يمكننا القول أن اعداداً غير قليلة من سكان البصرة قد اتخذوا دورهم ومساكنهم فيها لما توفره من طمأنينة وراحة بال من خطر هجوم القرامطة والقبائل البدوية (المقدسي، 1906 : 128 ). وبذلك استعادت الأُبلّة مكانتها.
2 - ... بغداد :
... كان الموضع الذي تأسست فيه مدينة بغداد في الأصل عبارة عن قرية كانت تُعقد فيها سوق تجارية منذ الفترة الساسانية وتسمى بالاسم نفسه تقريباً (بغداد) (ناجي، 2001 : 315).
... وقد اختلفت التفسيرات في أصل كلمة بغداد ، إذ ذكر الدكتور مصطفى جواد : أن اصل التسمية ربما يرجع إلى اللغة البابلية (بعل جاد) بمعنى معسكر الإلهة بعل وبمعنى معسكر الجيش البابلي ( جواد، 1985 : 18). ويرى بعض الباحثين ان اصل الكلمة كلداني مأخوذة من كلمة (بلداد) وهو اسم اله من الآلهة الكلدانية في حين ان هناك تفسيراً آخر يبين أن اصل الكلمة آرامي ويقصد بها بيت الغنم (الكبيسي ، 1979 : 44).(1/9)
... وفي الوقت الذي تباينت الآراء حول تفسير معنى كلمة (بغداد) ، كذلك تباينت الاراء ايضاً حول تحديد سنة تأسيسها، إذ ذكر بعضهم إن أبا جعفر المنصور قد بدأ في بنائها سنة (140هـ) ، وقيل سنة (141هـ) ، في حين يرى آخرون ان المدينة بُنيت سنة (144هـ) وذهب رأي آخر إلى ان سنة التأسيس هي (145هـ) وانتهى العمل فيها سنة (146هـ). ولعلّ السنة التي أجمع المؤلفون عليها سنة (145هـ) كبداية للتأسيس، وفي سنة (146هـ) انتهى العمل من بناء مجموعة القصر والمسجد الجامع (ناجي، 2001 : 317).
... أما فيما يخص اختيار الموضع من قبل الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، إذ إنه ارتاد عدداً من الاماكن إلا انه لم يُعجب فيها بقدر ما أُعجب بموقع بغداد إلى الجانب الغربي من نهر دجلة ، إذ بعث رواداً يرتادون له موضعاً ينزل فيه، وقد تأكد بنفسه عن صحة الأوصاف التي ذكرها الرواد الذين ارتادوا المكان، فقضى في الموضع المنتخب ليلة وتأكد من طيب المبيت فيه ، فضلاً عن ذلك فقد استفسر من صاحب الدّير في المكان عن احوال الحر والبرد والأمطار والوجود والبق والهوام. ولم يكتفِ بذلك بل وجه جماعة من رجاله ليمكثوا ليلة في كل قرية من القرى المجاورة للموضع، فأجتمعت آراؤهم على هذا الموضع (الطبري، ج7 ، 1985 : 616). فضلاً عن المناخ الطيب الذي تتميز به مدينة بغداد، فقد كانت هناك مميزات اقتصادية وتجارية، يتمتع بها موقع مدينة بغداد، وهي مميزات أدرك المنصور اهميتها وضرورة توافرها في مجتمع شهد تطورات اجتماعية واقتصادية جديدة إذ يقول: هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء يأتينا فيها كل مافي البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وماحول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشام والرقة وماحول ذلك . (الطبري، ج7، 1985 : 614).(1/10)
... أما اليعقوبي فقد وصف بغداد قائلاً : أنها مشرعة الدنيا وبهجتها إذ تردها التجارات في دجلة من واسط والبصرة والأُبلّة والاهواز وفارس واليمامة والبحرين ومن الموصل وديار ربيعة وأذربيجان ( اليعقوبي، 1892 : 237) .
... لقد هيأ المنصور كل ماتحتاج اليه المدينة المدورة من الخشب بأنواعه المختلفة كالساج، وجلب لها الابواب من مدن واسط والشام والكوفة وجمع الصناع والفنيين من مدن مختلفة ثم اختار جماعة من الفنيين ممن له دراية وفضل بالفقه والأمانة والعدالة وجماعة آخرين ممن كان لهم معرفة بالأمور الهندسية للاشراف على البناء (الطبري ، ج7، 1985 : 618).
... إن أول ما ابتُني القصر في المدينة المدورة ثم بعد ذلك ابتنى المنصور المسجد الجامع بعد إكمال قصره وجعله ملاصقاً للقصر، وقد شهد المسجد الجامع في مدينة السلام عدة تطورات عمرانية كان أولها ماحدث في فترة هارون الرشيد إذ أمر هذا الخليفة بنقضه ثم إعادة بنائه بالآجُرّ والجص بدلا من اللّبن (ناجي ، 2001 : 326) . وقد ظل هذا المسجد الجامع باقياً في المدينة المدورة حتى فترة متأخرة، فقد ذكر ابن حوقل في منتصف القرن الرابع الهجري واصفاً اياه أنه أحد المساجد الجامعة الثلاثة الموجودة في بغداد ويقصد بذلك مساجد الرصافة والكرخ والمدينة المدورة (ابن حوقل ، 1939 : 216).
... أما الأسواق في المدينة المدورة فقد ابتعدت كثيراً عن مجموعة القصر والجامع ووزعت على اربعة أقسام ، وبقيت هذه المجموعات الأربع من اسواق بغداد لها أهمية اقتصادية واجتماعية فعالة، اذ تعدّ عاملاً مهماً في جذب اصحاب المهن والحرف والتجارات إلى المدينة، واصبحت عاملاً اساسياً في
تزايد السكان وتزاحمهم (الكبيسي ، 1979 : 65-70) مما ادى بالمنصور إلى إبعاد الاسواق عن المدينة المدورة إلى الكرخ سنة (157هـ) (الكبيسي، 1979 : 65-70).(1/11)
... وقد أحاط المنصور مدينته المدورة بسورين رئيسين، ثم حفر حول السور الخارجي خندقاً. وكان السور الأول (الخارجي) مدوراً يحيط بالمدينة تماماً ويتضمن اربعة ابواب هي باب الكوفة وباب البصرة وباب الشام وباب خراسان، اما السور الثاني الذي يلي السور الخارجي فقد كان يسمى بالسور الأعظم أو السور الداخلي (ناجي، 2001 : 331-332).
... أما مصادر المياه داخل المدينة فيذكر الخطيب البغدادي أن المنصور قد أجرى من نهر دجيل المتفرع من دجلة قناة ثم أجرى من نهر كرخايا المتفرع من نهر الفرات قناة أخرى أجراهما إلى المدينة المدورة في مجارٍ وثيقة محكمة بالصاروج (النواة) والآجُرّ ، فكان كل من هاتين القناتين يدخلان المدينة وينفذان في الشوارع والدروب والأرباض، وهما يجريان الماء صيفاً وشتاءاً (الخطيب البغدادي ، ج1، 1931 : 72-73).
... ولم تمضِ سنوات كثيرة على تأسيس المنصور للمدينة المدورة حتى بدأت تظهر نواقصها التمدنية الاجتماعية والعمرانية، لذا دفعت هذه العوامل المنصور إلى تطوير منطقة الكرخ وجعله موضعاً لسكن الأهالي والعامة، لأن المدينة المدورة التي تبلغ (5 كم) لم تكن مهيأة لاستيعاب اعداد كبيرة من الناس وانخراطهم في صنوف مختلفة من النشاطات التجارية والمهن والاعمال (ناجي ، 2001 : 333).
الكرخ :
... يُشير ياقوت الحموي إلى ان كلمة كرخ ترجع إلى أصل نبطي ،
فالتعبير كرخت الماء وغيره من البقر والغنم إلى موضع كذا تعني جمعته
فيه من كلّ موضع (ياقوت الحموي ، ج4 ، 1956 : 447) .
ومعنى كلمة كرخ في اللغة الآرامية الحصى (دائرة المعارف الاسلامية .
مقالة al-karkh ).(1/12)
... لقد شهد الكرخ تطورات تمدنية فتوسعت رقعته وتعددت اسواقه وتزاحم اهله، وبمرور الزمن صار يحتوي على ثلاثة تجمعات للأسواق في ثلاث مناطق هي الكرخ والمحوّل والحربية. ويقال ان سوق الكرخ الاصلي ظل متميزاً عن غيره من الاسواق لسبب جغرافي هو وقوعه على شبكة من الأنهر الكبيرة كنهر عيسى ونهر الصراة والانهار الفرعية . وقد سهلت هذه الانهار والقنوات وصول التجارات والبضائع وصارت بالفعل أماكن تجمع هذه التجارات. ومن بين الاسواق الرئيسة التي ورد ذكرها في الكرخ السوق العظمى التي كانت تمتد من قصر وضاح حتى سوق الثلاثاء وتقع محلاتها على جانبي الشارع الذي يبدأ من محلّة الشرقية حتى باب الكرخ ، وتتوزع التجارات والمحلات في هذا السوق الكبير وفقاً لأنواع التجارات والمهن (الكبيسي ، 1979 : ص 84).(1/13)
... وقد بقي لجانب الكرخ من بغداد أهمية كبيرة في الحياة الاقتصادية لمنطقة بغداد حتى فترة متأخرة اذ يقول ابن حوقل خلال منتصف القرن الرابع الهجري: إن الكرخ كان أعمر البقاع في مدينة بغداد وذلك لأنه مستقر التجارات والتجار (ابن حوقل ، 1939 : 217). وأشار المقدسي إلى الحالة نفسها بمدة قصيرة، اذ تحدث عن بغداد المدوَّرة وأنها صارت خراباً وان المسجد الجامع فيها لايعمر الا في الجُمع أوقات الصلاة، وان أعمر موضع فيها الكرخ في الجانب الغربي، فالعمارات والاسواق فيه أكثر (المقدسي، 1906 : 119). وقد تضرر الجانب الغربي من بغداد كثيراً إبان السيطرة البويهية والسلجوقية على بغداد وذلك بإثارة وتشجيع الفتن والنزاعات الطائفية والعنصرية بين أهالي الكرخ وغيرها من مدن وضواحي بغداد ، فاشتعلت الاضطرابات والفتن مما ادى إلى اضطراب الاحوال التجارية داخل أسواق الكرخ (ناجي، 2001 : 343) . ومع ذلك بقي الكرخ يتمتع بعمر أطول من المدينة المدورة، إذ اشار ياقوت الحموي في القرن السابع الهجري إلى وجوده معلقاً على ذلك أنه بينما كان في الفترات السابقة يقع وسط بغداد تحيط به المحلات، أصبح اثناء فترة ياقوت محلة واحدة مفردة في وسط خراب، وكان هناك عدد من المحلات المحيطة به لكنها منعزلة عنه (ياقوت الحموي، ج4 ، 1956 : 448).
الرصافة :
... تُفيد الروايات التأريخية ان الخليفة المنصور أمر ابنه المهدي ان يتخذ معسكره في الجانب الشرقي المقابل للمدينة المدورة، وامر ببناء الدور والمنازل وان يوطّن جنده فيه ويجعله معسكراً (ياقوت الحموي، ج3 ، 1956 : 46).
... وقد بُنيت الرصافة في الجانب الشرقي من نهر دجلة يربطها بالمدينة المدورة جسران، وقد اُبتُدِأ في الرصافة ببناء قصر للمهدي سنة (151هـ) وبعد ذلك شُرع ببناء السور والخندق والميدان والبستان (البلاذري، 1957 : 293).(1/14)
... ففي الوقت الذي كانت فيه وظيفة مدينة الكرخ أقتصادية معتمدة على الأسواق بالدرجة الأولى كان بناء الرصافة للاغراض العسكرية؛ لكنها بمرور الزمن اخذت تجتذب الأمراء والعامة ، فتزايد حجم سكانها واتسعت حركة البناء والعمران ، فبُنيت القصور وأُنشأت الأسواق، وانتعشت الحركة التجارية فيها، ونتيجة لذلك ازداد حجم المدينة (ناجي، 2001 : 349).
... ووصفها ابن حوقل بقوله : تزايدت احوالها العمرانية، وتزايدت كثافة سكانها بعد أن انتقل اليها كرسي الخلافة فصارت العاصمة، وقد ورد ان المهدي بعد إتمام أعماله العمرانية أقطع أخوته وقواده القطائع وتنافس الناس على الانتقال اليها حباً بالمهدي، كذلك لأن أرض الرصافة أرض واسعة تستوعب الوافدين اليها، فصار فيها حوالي اربعة آلاف درب وسكة وحوالي خمسة عشر الف مسجد وخمسة الاف حمام، وعلى الرغم من وجود عنصر المبالغة في هذه الأرقام لكنها بحد ذاتها تشير إلى اتساع بقعة الرصافة بعد ان صارت عاصمة (ابن حوقل، 1939 : 217).
... وقد ظل اسم الرصافة وذكرها مشهوراً حتى فترة متأخرة، إذ يصفها الرحالة ابن جُبير : اما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة وكفا بذلك شرفاً واحتفالاً، ويُضيف أنها كانت حافلة بالأسواق العظيمة المنظمة تنظيما جميلاً، وكان هذا الجانب مزدحماً بالسكان ويحتوي ثلاثة مساجد جامعة (جامع الخليفة وجامع السلطان وجامع الرصافة) ، وكان حافلاً بالمدارس والحمامات والقصور (ابن جُبير، 1968 : 182-183).(1/15)
... وجاء بعد ذلك الرحالة ابن بطوطة ليشيد باسواق الرصافة ولاسيما سوق الثلاثاء، بقوله إنه كان اعظم اسواقها إذ نُظمت الصناعات والمهن فيه كلٌّ على حدة. وكانت المدرسة النظامية تقع في وسطه وهي من المدارس العجيبة التي صارت مضرباً للأمثال بجمال بنائها، وتقع المدرسة المستنصرية اخره وهي مدرسة جليلة القدر ، كان لكل مذهب من المذاهب التي تُدرَّس فيها إيواناً فيه مسجد وموضع التدريس، وكانت تضم حماماً للطلبة وداراً للوضوء. ويصف ابن بطوطة جامع الخليفة في الجانب الشرقي بقوله إنه كان جامعاً كبيراً فيه سقايات ومطاهر للوضوء وكان جامع السلطان خارج البلد تتصل به قصور السلطان، اما جامع الرصافة فيبعد حوالي الميل عن جامع السلطان (ابن بطوطة، ج1، 1964 : 141-142).
... أما بشأن سكك ودروب الجانب الشرقي بضمنها الرصافة فقد قُدِّر عددها اربعة آلاف درب وسكة ، ومن المحتمل ان هذه الاحصائية ، التي توضح سعة الرصافة وتشابك طرقها، تشير إلى الآزقة الضيقة والدروب المتوسطة ثم الطرق الرئيسة والفرعية (ناجي ، 2001 : 354).
... اما الحمامات فقد اشتهر الجانب الشرقي من بغداد لكثرة الحمامات وقد حصرها اليعقوبي أنها كانت حوالي خمسة آلاف حمام، وقد علّق على هذه الاحصائية قائلاً: إن هذا العدد لايشمل الحمامات التي بناها الأهالي بعد ذلك (اليعقوبي، 1892 : 253). وقد ظلت هذه السمة باقية في الجانب الشرقي حتى فترة متآخرة ، إذ تعجب ابن جُبير من كثرة حمامات هذا الجانب بقوله (اما حماماتها فلا تحصى عدة) ، وأورد راوية عن بعض مشايخ البلد انهُ قد أحصيت حمامات الجانب الشرقي والجانب الغربي من بغداد آنئذٍ حوالي الفي حمام، وجميعها كان مطلياً بالقار الذي يُجلب من موضع بين واسط والبصرة (ابن جبير ، 1968 : 183).(1/16)
... ان هدف الباحث من ذكر هذه التفاصيل الجغرافية والتأريخية لمدينتي البصرة وبغداد تتعدى الهاجس الاكاديمي لديه إلى تقديم تفاصيل في غاية الاهمية تخص الارض التي بُذرت فيها بذرة المعتزلة والاشاعرة. والتي كانت لها الاهمية القصوى في نموها وتحولها إلى ثمرة يانعة عبر الحقب التاريخية المختلفة.
...
ثانياً: العوامل السياسية :
1 - ... الدولة الاموية :
... إن من نتائج معركة صفين وماجرى فيها من التحكيم إذ أصبح معاوية بن ابي سفيان في كفة والأمام علي - عليه السلام - في كفة ثانية، بعد أن كان الأول مجرد والٍ على بلاد الشام مُعين من قبل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذ بايع أهل الشام معاوية خليفة لهم، وبعد استشهاد الامام علي بن ابي طالب - عليه السلام - خلفه ابنه الحسن بن علي - عليه السلام - واستمرت خلافته ستة أشهر. وبعد ذلك عُقد صلحُ مابين الامام الحسن بن علي - عليه السلام - ومعاوية ومن أولى شروط هذا الصلح ان الامر سيؤول بعد معاوية إلى الامام الحسن او الامام الحسين (عليهما السلام) . وان أهل الكوفة لهم نفس حقوق اهل الشام. لكن الذي جرى خلاف ذلك كله، اذ سرعان مانقض معاوية هذه الشروط (ينظر :الطبري ، ج5 ، 1985 ).
... ولما توفي معاوية سنة 60هـ ، خلفه ابنه يزيد الذي وقعت في ايام حكمه مأساة كربلاء (61هـ) . ولما مات يزيد سنة (64هـ). خلفه ابنه معاوية الذي لم يكن يرغب في الحكم فتنازل عنه، ووقع تنافس على الحكم مابين الامويين والزبيريين ثم فاز مروان بن الحكم في الامر سنة (64هـ) وخلفه ابنه عبدالملك وبقي في الخلافة احدى وعشرين سنة توطد اثناءها سلطان بني امية (فروخ، 1972 : 197).(1/17)
... وفي ايام الوليد بن عبدالملك اتسع العمران في الشام واستبحرت الحضارة، ولكن بعد ان كانت الحركات الدينية والاحزاب السياسية قد أخذت تهدد حياة الدولة الاموية. فالى جانب الخوارج والمُرجئة كانت الدعوة العلوية تُرسخ قواعدها في الولايات الشرقية (خراسان وماحولها) (فروخ، 1972 : 197).
... ثم بعد ذلك وصل الحكم إلى مفخرة بني امية ونجيبتهم الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذي تولى الامر نحو سنتين ونصف إذ توفي سنة (101هـ) ، فكان تقياً عادلاً. ثم جاء بعد ذلك هشام بن عبدالملك الذي اتصف بالحزم والقسوة والبطش فمكث في الحكم عشرين سنة الا بضعة أشهر من سنة (105هـ) – (125هـ) وبعد ذلك جاء حكام أمويون اتسموا بالضعف وعدم امتلاك الحُنكة السياسية فسقطت الدولة الأموية عام (132هـ) على يد أبي العباس السفاح (الطبري، ج6 ، 1985 : 550-650).
... لعل من أهم النتائج التي اعقبت معركتي الجمل وصفين على مستوى الفكر ظهور بوادر المرجئة والخوارج .
... أما المذهب الشيعي أو الإمامي فكان سابقا لهذا الوقت في الظهور، فقد كان اوائل الشيعة هم المناصرون لعلي بن ابي طالب - عليه السلام - والذين ذهبوا إلى احقيته بالخلافة دون غيره من الصحابة ، كسلمان الفارسي والمقداد وابي ذر الغفاري وعمار بن ياسر واوائل المنادين بالنص والتعيين في الخلافة (ينظر: مغنية ، د.ت: 10-25).
... اما تسلم بنو أمية للحكم فقد كان من نتائجه الفكرية ظهور المذهب الجبري الذي جاء استجابة لما تقتضيه السياسة الأموية، ولقد اختلفت الاراء التي جاء بها جماعة القدرية عن الآراء التي آمن بها المجبرة. فالحركة القدرية جاءت كردّ فعل عنيف لما كان يقترفه الحكام والولاة والقادة الامويون من أعمال تحت ذريعة انهم مجبرون ولاحول لهم ولاقوة فيما يفعلونه.(1/18)
... والقدرية هم أسلاف المعتزلة أو اذا أردنا ان نكون موضوعيون فأن هناك تشابه في الاراء مابين القدرية والمعتزلة في قضايا منها : القول بالارادة الانسانية وبنفي الصفات عن الخالق - سبحانه وتعالى - ، والقول بخلق القرآن.
2 - ... الدولة العباسية :
... حكم العباسيون في بغداد خمسة قرون ، تباينت في مدى سيطرتهم على الحكم ؛ ولكي نقف على الدور الحقيقي للعنصر العربي في هذه القرون الخمسة لابد أن نجزءها إلى خمسة ادوار لاغراض البحث.
الدور الأول : دور القوة والتسلط العربي : (132هـ –247هـ)
وفي هذا الدور تتضح قوة الدولة العباسية، ويمتد من بدء الدولة إلى أواخر حكم المتوكل ، فيشغل نحو قرن من الزمان وبضع سنين بلغت فيه الخلافة اقصى قوتها ( المقدسي، 1980 : 79) .
... أي ان الحكام العباسيين الاوائل كانوا اصحاب بطش وقوة، فإنهم مع اتكالهم على الفرس لم يستسلموا لهم، بل ابقوا للخلافة العربية جلالها، وهذا واضح من فعل المنصور بأبي مسلم الخُراساني (أبو مسلم الخراساني كان داعياً للدولة العباسية ومن قادتها الاوائل واراد ان يستبد بالامر لنفسه فأحس به المنصور فقتله) (ينظر : الطبري، ج5 ، 1985، ج5 : 520) . حين خشي منه الطغيان (المسعودي، ج6، 1965 : 183) . وكذلك مافعله الرشيد بالبرامكة حين اخذته الغيرة من تعاظمهم وابّهه دولتهم ( ابن خلدون، د.ت، 16-17) ، فقد كانت سياستهم حفظ التوازن بين المضرية واليمنية والخراسانية منعاً لاستبداد فريق بالدولة ( ابن الأثير، د.ت : حوادث : 151).
... وقد عرف العباسيون للفرس دورهم الفعال في انتصار دولتهم، فاتكلوا عليهم في الإدارة والوزارة، ولذا رأينا نفوذهم يتعاظم ، وقد اصبح التنافس بينهم وبين العرب يشتد وهذا يتضح من قول الجاحظ، إذ يقول : دولة بني مروان (الامويين) عربية اعرابية ودولة العباسيين أعجمية خراسانية (الجاحظ ، ج3 ، 1949: 217).(1/19)
... بدأ نفوذ الفرس في الدولة العباسية عند نجاح الخراسانيين في الدعوة لبني العباس ومبايعة السفاح، ونتيجة لهذا الأمر تكافأت كفة الفرس وكفة العرب، ولكن رَجُحت كفة الفرس مرة اخرى عندما انتصرت خراسان وجلس المأمون على العرش سنة (198هـ) ( علي ، 1967 : 238).
... وفي الدور الأول كانت هناك حركة فكرية كلامية ممثلة برجال المعتزلة الاوائل كالنظّام وأبي الهُذيل العلاف ومن قبلهم اسلافهم زمن الامويين واصل بن عطاء وعمر بن عبيد . إلا ان الفترة الذهبية للمعتزلة كانت أيام حكم المأمون، اذ قرّب المعتزلة واعتمد عليهم في القضاء واعتنق آراءهم ولاسيما مسألة خلق القرآن لأن المأمون كان يتميز برجاحة العقل. كما اتسمت فترة حكم المأمون أنها العصر الذهبي للحضارة الاسلامية لأنها تركت اثاراً خالدة لتطور المسلمين العقلي في جميع الحقول الفكرية أي ان منجزاتهم لم تقتصر على فرع معين من فروع العلم والادب، بل شملت كل نواحي الفكر والعقل فازدهرت تلك الحقبة المجيدة وانتقل تراثها العقلي إلى اسبانيا الاسلامية والقسطنطينة المسيحية ، ومنها تحدرت إلى اوربا الحديثة.
... وقد أنشأ المأمون المدارس والكليات في جميع انحاء الدولة، كما أنشأ مجلساً استشارياً للدولة مؤلفاً من ممثلي الطوائف جميعاً اذ كان هذا المجلس يضم المسلمين واليهود والمسيحيين والصابئين والزرادشتيين على السواء (علي، 1967: 247).
... ويتضح من ذلك ان عصر المأمون عصرُ العلم والعقل والنظر العقلي والحرية الفكرية والدينية. فالافكار الحرة لاتنبت الا على ارض خصبة مترعة بالمياه، فلهذا رأينا ان عصر المأمون احتضن خلاصة الفكر الانساني. فكانت بغداد مركزاً للاشعاع الذي اضاء العالم حتى بعد قرون من سقوطها على يد المغول سنة 656هـ.
الدور الثاني: دور الاتراك (الجُند) : الممتد من 218هـ-334هـ(1/20)
... اتخذ المعتصم العباسي الاتراك جنداً له وقادة لجيشه وذلك لقرابتهم به من جهة الأمّ (الطبري، ج8 ، 1985: 667) . وكان في طباعه كثيراً من طباع الاتراك فدعته عصبيته إلى الاستعانة بالعنصر التركي ( ابن مسكويه ، ج5 : 212) . إذ وجه اهتمامه إلى الاتراك فخصص لهم مناطق معينة، عزلهم فيها عن غيرهم من السكان، ومنعهم من الاختلاط بالناس، ومن ثم قام بشراء جوارٍ تركيات وأمرهم بالتزويج منهن ومنعهم من التزاوج مع غيرهم (اليعقوبي، 1892 : 258).
... أما الفترة التي حكم فيها الواثق (227هـ –232هـ) اتسمت بالهدوء السياسي وبعده جاء المتوكل للخلافة واسمه جعفر بن محمد بن هارون (ابن العماد، ج2، د.ت : 75-76) ولكن الأخير اجرى اصلاحات ادارية سياسية في الحكم . إذ قام المتوكل بتقسيم ممتلكات الدولة العباسية بين اولاده الثلاث ، فاعطى المنتصر مقاطعة افريقية وغرب المغرب وللمعتز المقاطعات الشرقية من الدولة، في حين اعطيت مصر وسوريا للمؤيد ( الطبري ، ج9، 1985 : 175-176).
... لقد امتعض المتوكل من سيطرة ونفوذ الاتراك الموظفين الذين كانوا يحلمون باستعادة مجدهم الذي تمتعوا به في عصري المعتصم والواثق (الطبري، ج9، 1985 : 169).(1/21)
... مما مر يتضح ان المتوكل رئيس دولة حازم وله بُعد نظر، لذا أراد بهذه الاعمال والاصلاحات السياسية ان يُحكم سيطرته على المُلك، وهذا مايؤكد ان الاتراك كانوا وراء عملية اغتياله لانهم استاءوا من سيطرته وسطوته وقسوته في الحكم. إذ إنهم ادركوا أنه إذا غضب من احد فانه هالك لامحالة مثلما فعل بآثنين من وزرائه احمد بن داود ومحمد بن عبدالملك الزيات وكما قتل ايتاخ التركي لذا قتلوه عام (247هـ) (ابن الاثير، ج5 ، د.ت : 280- ومابعدها) وبعد ذلك اصبح الاتراك يتلاعبون في الخلفاء كيفما يشاؤون فيعزلون وينصبون بحسب رغباتهم وأهوائهم، إذ أجبروا المنتصر الحاكم العباسي بخلع اخويه من ولاية العهد المعتز والمؤيد، ولم يبق بعد ذلك في الحكم اكثر من ستة اشهر (ابن طباطبة ، د.ت : 38). ولم يكتفوا بهذا الامر بل عند وفاة المنتصر حولوا الامر من ولد المتوكل إلى ولد المعتصم، فبايعوا محمد بن احمد بن المعتصم ولقب بالمستعين سنة (248هـ) . وبعد أن أحسوا بخطر المستعين اخرجوا المعتز من السجن وعهدوا له الامر ولأخيه المؤيد ولاية العهد، ولم يكتفوا بهذا الامر بل قتلوا المستعين سنة (252هـ) في واسط (المقريزي ، ج1، 1854 : 319).
... وفي عام (295هـ) بايعوا المقتدر بالله أبا الفضل جعفر بن المعتضد وله ثلاث عشرة سنة ، وقد اختل النظام في وقته واصبح امر الدولة بيد القادة الاتراك واستمر في الخلافة حتى (320هـ) ( السيوطي ، 1965 ، 378-380).
... وفي هذا العهد حدثت فتنة الحنابلة بعد ان عظم امرهم في سنة (323هـ) وقويت شوكتهم في عهد القاهر ( ابن الاثير ، ج6 ، د.ت : 248) . حتى ان الشيخ أبا الحسن الاشعري كتب رسالته استحسان الخوض في علم الكلام كان بدافع الرد على الحنابلة، لانهم كانوا يحاربون الفلسفة والمنهج العقلي ويكفرون كل من يعتمد على العقل والمنهج العقلي في أمور الشريعة .(1/22)
... وبقي امر الدولة العباسية بيد الأتراك حتى جاء بنو بويه وفرضوا سلطانهم على بغداد سنة (334هـ) ، وبذلك بدأ الدور الثالث المعروف بالدور البويهي.
الدور الثالث : الدور البويهي (334هـ-447هـ)
... وفيه كانت السلطة الحقيقية في ايدي بني بويه ، إذ صارت الوزارة من جهتهم والاعمال اليهم، واصبح الخليفة لايملك شيئا من السلطة وكل مايملكه راتباً محدداً من قبل الامير البويهي ، وعلى الرغم من ذلك فانهم ابقوا للخلافة نفوذها الاسمي وصاروا يحكمون في الدولة ظاهراً بإمرة الخلفاء وهذا ينم على انهم كانوا اصحاب سياسة ودهاء، وبقوا على هذا الحال إلى ان ضعف سلطانهم وتغلب عليهم السلاجقة.
... ويرجع نسب ملوك هذه الدولة (البويهية) إلى ابي شجاع بن فنا خسرو من ولد يزدجر آخر ملوك الفرس ( ابن العبري، 1890 : 279) .
... وقد نشأت هذه الدولة في بلاد الديلم، واخذت بالتقدم حتى استولت على بغداد ، واصبح الأمر والنهي في يدها في العراق وفارس ( ابن العبري، 1890: 291).
... وعلى الرغم من ان هذه الدولة كانت (شيعية) المذهب إلا انها لم تتعرض للخلافة العباسية وهي (سنية) المذهب، وهذا يتضح في سلوك عضد الدولة الذي يُعد من اكبر رجال الدولة البويهية الذي كان يعظم الخلافة (ينظر: المقدسي، 1980 : 16-17).
... أما صاحب كتاب الفخري الذي يصف دولة بني بويه قائلاً : (( دوخت الامم واذلت العالم واستولت على الخلافة ، فعزلت الخلفاء وولتهم، واستوزرت الوزراء وصرفتهم وانقادت لأحكامها أمور بلاد العجم والعراق، واطاعتهم رجال الدولة بالاتفاق )) ( ابن طباطبة ، د. ت : 250).
... اتخذ بنو بويه (عماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة) بلاطات في حواضرهم ، واظهروا الترف وشجعوا الادب ، كما شجعوا جماعة اخوان الصفا. وكانوا يمالئون الفاطميين في مصر على العباسيين في بغداد (فروخ، 1972 : 240).
مميزات فترة حكم بني بويه :(1/23)
... " ادى حكمهم بوجه عام إلى رفاه الشعب وازدهار الآداب والعلوم .. ومن الادلة على سخاء الامراء الحمدانيين والبويهيين ورعايتهم الآداب والفنون، ذلك العدد من الرجال البارزين الذين تالق نجمهم في ذلك العهد ، كالمؤرخ المسعودي والفيلسوف أبي نصر الفارابي، والشاعر المتنبي وابي فرج الاصفهاني صاحب كتاب الاغاني وأبي القاسم التنوخي ، والدينوري ، وكثير غيرهم من الفلاسفة والعلماء والشعراء والقضاة ممن عاصروا المطيع لله ( علي، 1967 : 267) . وكذلك شجع كل من عضد الدولة وشرف الدولة (البويهيين) الروح الادبية وأحيا مدرسة بغداد التي كانت قد اصابها الاهمال اثناء الثورات التي قامت في وجه العباسيين (علي ، 1967 : 267) .
... وخلال الفترة البويهية قامت دولة علوية في مصر عام (358هـ) وبقيت هناك حتى ازالها صلاح الدين الايوبي عام (567هـ) . وهذه الدولة عظيمة الشأن تختلف عن سواها من الدول التي نشأت أيام العباسيين لانها قرنت المُلك بالدين فنشأت خلافة زاحمت الخلافة العباسية، وقد امتد نفوذها من مصر إلى افريقيا ثم سوريا والحجاز ، ثم اخذت بالانحدار ومازالت كذلك حتى استولى صلاح الدين على مصر ( المقدسي، 1980 : 17).
... وان الدولة الفاطمية أول دولة عربية اسلامية تعتمد المنهج العلمي وان المؤسسة التربوية لبت افكارها الدينية السياسية أي : انها اول دولة اسلامية تعتمد على المؤسسة العلمية لتربية الاجيال وهذا واضح من الهدف من بناء الجامع الازهر وبناء دار للحكمة أو دار للعلم (396هـ) وفي عهد الفاطميين تم البناء وازدهرت العلوم والفلسفة (فروخ، 1972 : 239).(1/24)
... وبينما كان الفاطميون ينشرون سلطانهم في كل ناحية، كان العزيز الذي خلف المعز قد استولى على حمص وحماة وحلب، واعترف بسلطانه اهل الجزيرة، كذلك كان مذهب المعتزلة ينتشر بسرعة (علي ، 1967 : 268) . " وفي هذه الاثناء كان القادر العباسي (381هـ) مجرداً من كل سلطة لكنه كان يترأس اجتماعات الفقهاء الذين كانوا يصدرون الفتاوى بتكفير الفاطميين وتحريم حرية الفكر، وقد وضع هو نفسه بعض الكتيبات يهاجم فيها المعتزلة والمذهب العقلي ، فكانت نتيجة ذلك كله إذكاء روح البغضاء بين الطوائف وصبغ المعتقدات بجمود جعل الاصلاح في منتهى الصعوبة فيما بعد ( علي ، 1967 : 268).
الدور الرابع : الدور السلجوقي (447- 590هـ)
... وفي هذا الدور قويَ نفوذ السلاجقة الترك واستولوا على بغداد ، وضربت باسم سلاطينهم النقود وخُطِب لهم على المنابر. وعلى الرغم من نفوذهم القوي إلا انهم حافظوا على هيبة الخلافة واظهروا لصاحبها التبجيل والأحترام ( المقدسي، 1980 : 8).
... وبدخول السلاجقة بغداد عام (447هـ) بعد ان طلب منهم القائم بأمر الله العباسي المعونة لأنه أحس بخطر البساسيري الذي كان ينوي تحويل الدولة والحكم من العباسيين إلى الفاطميين (الخطيب البغدادي ، ج9 ، 1931 : 400).
... وبذلك بدأت مرحلة جديدة من السيطرة التركية على امور الدولة العباسية واستمرت هذه السيطرة حتى عام (590هـ) وبعد ذلك ضعفت قوة السلاجقة فتكونت على انقاضهم الاتابكيات السلجوقية (العبادي، 1978: 193، 197) . وخلال هذه الفترة ظهر وزراء اتسموا بالحكمة والعقل والحنكة السياسية وعلى رأسهم نظام الملك الذي يُعد اقدر وزير انجبته آسيا، فقد انتشر الامن والسلام في ربوع السلطان، وازدهرت في عهده التجارة والصناعة والآداب والفنون، وزُينت مدن آسيا بالكليات والمستشفيات والمساجد والقصور وشقت الطرق والاقنية تسهيلا لحركة النقل والزراعة ( علي، 1967 : 277).
الدور الخامس : دور الاحتضار (590هـ –656هـ)(1/25)
... انتهت دولة السلاجقة وزالت من بغداد ايام الناصر، ومع زوالها انحلت الدولة العباسية إذ لم يبق بيد العباسيين إلا بعض انحاء العراق، وكانت الدولة العباسية تلفظ انفاسها الاخيرة، وفي هذه الاثناء، كانت قبائل المغول التتر تتقدم من جهة الشرق مكتسحة المدن والاقاليم الاسلامية، ومهلكة الحرث والنسل ومرتكبة أبشع الجرائم في تاريخ البشرية ، ومكنتهم اعدادهم الغفيرة من سحق كل انواع المقاومة، ثم وصلوا إلى بغداد وأستباحوها أياماً وأعملوا السيف في رقاب المسلمين وقتلوا الحاكم العباسي وافراد اسرته وبذلك انتهت الدولة العباسية وبإنتهائها طويت صفحة مشرقة من تاريخ المسلمين بالحضارة والعلم (علي، 1967: 325 -335).
... من خلال ماتقدم نستطيع القول : ان هذا التلاطم السياسي العنيف الذي هزَّ كيان الانسان العربي ادى إلى ظهور حركات فكرية، وهذه نتيجة تبدو بديهية لعالم مليء بالتناقضات السياسية المذهبية التي تؤدي بالتالي إلى الخلاف في الاراء الفكرية لتلك الشرائح المختلفة.
ثالثاً: العوامل الاجتماعية :
... من أهم الأحداث في تاريخ بلاد الرافدين، عملية الفتوحات الاسلامية في القرن السابع الميلادي، إذ تعد أمراً مهماً وفعالاً في تكوين البلاد عنصرياً وثقافياً، وهناك أمر مهم لابد من الاشارة اليه هو ان سكان بلاد وادي الرافدين كانوا يتألفون من العناصر الاتية:
1- أكثرية السكان وهم آراميون يتكلمون لغةً سامية قريبة من العربية وينتشرون في مختلف المدن والقرى من الشمال إلى الجنوب.
2- قبائل عربية تسكن بلاد الجزيرة وهي المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات وتسمى بلادهم ديار ربيعة. وكذلك هناك قبائل عربية من يشكر وباهلة وبني عنبر كانت تقطن أرض ميسان.
3- الاكراد : وكانوا يقطنون الجبال الواقعة في المنطقة الشمالية الشرقية يضاف إلى ذلك اقلية من اليهود كانت تنتشر في مدن وقرى متعددة في مختلف انحاء البلاد . وصابئة كانوا في واسط (ابن رستة، 1891: 95).(1/26)
... وقد ادت الفتوحات الاسلامية إلى تغيير اساسي وجوهري في تركيب السكان العنصري والثقافي ، فقد فتح العراق على مصراعيه امام القبائل العربية الاسلامية من جزيرة العرب، واصبحت هذه البلاد قاعدة للتوسع في إيران والشرق ومصرت مدن جديدة مثل البصرة والكوفة والموصل، وانشأت مدن بعدها مثل واسط وبغداد وسامراء، واصبحت هذه المدن قاعدة لاجتذاب عناصر عربية واخرى غير عربية من فرس وترك وغيرهم، وبودقة عنصرية ولغوية وثقافية، غلبت عليها اللغة العربية والثقافة الاسلامية والعقائد الجديدة، وكان من نتائجها المهمة أن دخلت اللغة العربية في صراع مع اللغات الأخرى ، فكانت الغلبة لها عليها، في حين دخل الدين الاسلامي في صراع آخر مع الديانات (المسيحية واليهودية والمجوسية) انتهى هذا الصراع بسيطرته عليها (الموسوي، 1982: 258-259).
... والسبب في ذلك يعود إلى أمور متعددة منها : ان الثقافة الجديدة واللغة هما ثقافة ولغة الفاتح الذي يمتلك القوة والسطوة والمكانة الاجتماعية المتميزة التي يطمح لها كل انسان يضاف إلى ذلك أمر مهم هو ان الدين الاسلامي يحقق المساواة والعدالة لكل الناس ويحقق سعادة الدنيا وسعادة الاخرة لذلك انتصر في صراعه على الديانات الأخرى.
... كذلك عاشت إلى جانب العرب المسلمين جماعات اعجمية (كالفرس والاتراك والعبيد) اتخذت لها خططاً ومنازل في المدن الاسلامية التي نشأت في بلاد وادي الرافدين خلال القرون الثلاثة الأولى ومابعدها كما كان لها دور اجتماعي فعال في التطور الثقافي والعلمي والسياسي والتجاري والاقتصادي والحضاري للدولة الاسلامية عبر تأريخها (الموسوي، 1982 : 276).(1/27)
... ان الفرس جلبوا إلى البصرة والكوفة كاسرى حرب ، ثم اعتنقوا الاسلام فاعتقهم أسيادهم ، فاصبحوا موالياً لهم (نيكلسون، ج1 ، 1972: 218) . وقد تجمعت في البصرة والكوفة اعداد ضخمة منهم وأصبحت لهم خطط ومنازل فيهما، وشاع استخدامهم بصورة فريدة قلما نجد بيتا في الكوفة والبصرة يخلو منهم، ويشير إلى ذلك المُبرد بقوله : يخرج الرجل من أهل الكوفة في العشرة والعشرين من مواليه (المبرد، ج1 ، 1956 : 323).
... وقد طغى العنصر الفارسي على البصرة في نهاية العصر الاموي، إلى درجة مؤثرة تجلت في شخصية المدينة وصبغتها بصبغتها، وهذا مانستشفه من قول ابي عمرو بن العلاء صاحب علوم اللغة وكان عربي النسب ، إذ قال لأهل الكوفة: لكم حذلقة النبط وصلفهم، ولنا دهاء الفرس وأحلامهم (الجاحظ، ج2 ، 1949 : 86).
... وقد بلغت الموجات الفارسية درجة المد العالي قبيل أو مع الدولة العباسية عندما اصبحت الكوفة مركزاً للدعوة العباسية، إذ كان انصار العباسيين جميعهم من الفرس ولاسيما الخراسانيين (المسعودي ، ج2 ، 1965 : 190) . وقد اشترك الفرس في الحياة السياسية في بغداد وكان اثرهم واضحاً في إدارة امور الدولة، إذ ارتقوا إلى منصب الوزارة وقيادة الجيش.
... أما دور الفرس في الحركة الفكرية والعقلية والثقافية فقد كان واضحاً جداً في المجتمع الإسلامي ، فرجال الحديث والفقه واللغة والادب والكلام والمنطق والفلسفة كثير منهم فرس ، وهذا مايذكره ابن خلدون في مقدمته إذ يقول ((ان حملة العلم في الملة الاسلامية أكثرهم العجم .. وكان صاحب النحو سيبويه منهم ، والزجاج من بعده، وكذا حملة الحديث وكذا علماء اصول الفقه، وكذا حملة علم الكلام، وكذا اكثر المفسرين )) (ابن خلدون ، د.ت : 543-544).(1/28)
... اما العنصر الثاني الذي عاش إلى جانب العرب في الحواضر العربية الاسلامية وترك أثراً اجتماعياً خطيراً في وضع العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في الدولة الاسلامية هو العنصر التركي الذي كانت سياسة اصطناعه تأسيس سامرا (الموسوي، 1982: 284) . أي في منتصف القرن الثالث الهجري.
... ولكن هذا لايعني ان الاتراك لم يكونوا ضمن المجتمع الاسلامي قبل هذه الفترة التاريخية ، إذ تشير المصادر التاريخية إلى ان عبيد الله بن زياد جلب الفين من الاتراك البخارية فاسكنهم البصرة لحراسة السجون وبيت المال وفي إخضاع بعض المتمردين من العرب المسلمين في اليمامة (ابن قتيبة، ج1 ، 1930 : 123). كذلك جعل الحجاج الثقفي للبخارية والخوارزمية الاتراك خططاً ومنازل في واسط (البلاذري، 1957 : 386).
... أما المعتصم فقد مال اليهم واعتمد عليهم في بناء دولته وتقوية سلطانه لأن أمهُ من الترك ولكن الذي حدث إن الناس تذمروا من وجودهم في بغداد وماكانوا يقومون به اثناء تجوالهم في الطرقات العامة إذ لم يُراعوا حرمة امرأة ولامكانة شيخ كبير ولاوجود طفل صغير ونتيجة لذلك اشتكى منهم عامة أهل بغداد إلى الخليفة ، ففكر بالخروج بهم إلى سامراء واتخاذها عاصمة له (المسعودي ، ج1 ، 1965 : 272).
... وازداد نفوذ الاتراك بعد ان مكنهم المعتصم بسامراء في دار الخلافة، واصبحوا – حسب رأي الجاحظ – مادة الاسلام وللخلفاء وقاية وموئلا وجنة حصينة وشعاراً من دون الدثار (الجاحظ ، 1930: 292).
... وبعد واقعة عمورية بدأ الوضع السياسي والاجتماعي في الدولة الاسلامية يصطبغ بالصبغة التركية لأن انتصار المسلمين كان بسبب وجود العنصر التركي في الجيش الاسلامي (أمين ، 1969 : 6) ولكن الامر تطور أكثر من هذا اذ تحكموا بالخلفاء وسيطروا على الخلافة وحياة الخلفاء (الاصطخري، 1927 : 232).(1/29)
... أما العبيد فهم من غنائم الحرب واعدادهم لاتُحصى، وهم مختلفون باختلاف البلدان والاقاليم التي فتحها المسلمون ، إذ كان هؤلاء الاسرى يوزعون على المحاربين كغنائم، الامر الذي ادى إلى انتشار العبيد وكثرتهم في بيوت البصرة والكوفة، ويشير البلاذري إلى عدد من المدن الفارسية التي فُتحت عنوة بحد السيف، كسوق الاهواز، ورامهرمز، واصطخر والترجان ... وغيرها ، فخلفت حاميات هذه المدن المقهورة للعرب استرقاقاً بالجملة ولكن من الصعب تحديد عددهم تحديداً دقيقاً (البلاذري، 1957 : 376 ومابعدها).
... ومن مصادر العبيد ايضاً (الشراء)، إذ كان الناس يجلبون العبيد من مناطق بعيدة وقد كان للنخاسين دور كبير في تصدير العبيد إلى البلاد الاسلامية، وكان في الكوفة سوق خاصة لتجارة الرقيق تسمى سوق السماسرة (ماسينون ، 1939 : 23). كذلك انتشرت تجارة الرقيق في بغداد ، فكانت فيها محلة تسمى دار الرقيق (الطبري ، ج8، 1985 : 47).
... وقد كوّن هؤلاء العبيد طبقة كبيرة في المجتمع الاسلامي، وكانت هذه الطبقة فقيرة معدمة إستخدمت في الخدمة وسخرت في الاعمال الوضيعة التي يأنف العربي من مزاولتها، ومن المهن التي زاولها العبيد حرفة الصناعة والنجارة والحياكة، والحدادة ، وصناعة الجلود والأواني (ينظر : تريتون ، 1967 : 65-75) .(1/30)
... وهذا الامر ساعد العرب المسلمين إلى الانصراف إلى الحرب والسياسة. وهذان الامران يتطلبان من الانسان ان يكون من اهل العلم والمعرفة والادب والشعر واللغة، لأنّه يجالس الخلفاء والأمُراء والسلاطين ويقود الجيش فيحتاج إلى شيء من الخطابة ومعرفة اخبار العرب القدماء وتاريخهم. لذلك نشأت حركة معرفية ثقافية علمية لمعرفة امور الدين الاسلامي وتعاليمه أملاً في أن يصبح الابن قاضياً او خطيباً او فقيهاً او والياً، إذ كانت بادئ ذي بدء في المساجد ولاسيما في العصر الراشدي ، إما في العهد الأموي ، فقد اتخذت شكلاً آخر إذ اصبحت في اماكن ملحقة بدُور الخلفاء والامراء والاغنياء تسمى بالصالونات الادبية أو الكتاتيب.
... وقد عُرف من الزنوج الصبر في العمل والقابلية على الكدح ، نتيجة لذلك جُلب الالاف منهم لغرض استخدامهم في مختلف مناطق العراق، ولاسيما الاراضي السبخة المحيطة بالبصرة، إذ حُشد العديد منهم، ولم تكن تفهم هذه الحشود من الزنوج أي شيء عن البيئة الجديدة أو عن ثقافتها، وكذلك ان تشغيلهم على هيأة جماعات كبيرة في محل واحد ادى إلى سوء وضعهم المعاشي وصعوبة عملهم، لذلك ثاروا في زمن المنصور ومن قبله في زمن الحجاج، لكن ثورتهم الكبرى كانت في بداية النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وقد اقلقت بني العباس (علي، 1969 : 12).
... أما فئة أهل الذمة وهم المسيح واليهود ، فقد كانت مؤثرة تأثيراً بالغاً في الحياة الاجتماعية أيضاً في المجتمع الاسلامي إذ ذكر البلاذري: ان الخليفة الثاني عندما أرسلت اليه سبايا الفتح جعل بعضهم رقيقاً ليتامى الانصار، وبعضاً كتاباً أدخلهم في خدمة الدولة (تريتون ، 1967 : 11) . كما أتخذ أبو موسى الأشعري في اثناء امارته البصرة كاتباً نصرانياً (البلاذري، 1957 : 147) .(1/31)
... وكان العباسيون يأذنون للنصارى باقامة بيع لهم ، فقد وافق الخليفة المهدي على تشييد بيعة للنصارى في محلة الروم في الجانب الشرقي من بغداد، وتقضي القاعدة الفقهية بترك البيع والكنائس لأهل الذمة وعلى المسلمين حقن دمائهم، كما يقاتل المسلمون من ناوأهم من عدوهم (أبو يوسف ، د.ت : 80).
... والى جانب المسيحيين عاش اليهود في الكوفة والموصل وبغداد ، فقد كان لهم منازل في بغداد، وقد استطاعوا ان يقيموا شعائرهم الدينية بحرية تامة في الاسلام (تريتون، 1967: 59) وقد كان لليهود ببغداد رئيس خاص يلقب احياناً بلقب ملك (متز، ج1، 1940: 58) . وقد كان المسيحيون في جميع البلاد الاسلامية يشتغلون بالصيرفة (ماسينون، 1939 : 23).
... اما اليهود فانهم عملوا في التجارة والصرافة والصياغة والحياكة وادارة السفن وصناعة الزجاج (تريتون، 1967 : 205).
... ان قراءة في الخارطة الاجتماعية تسفر عن نتائج اهمها : ان هذه الاخلاط البشرية المختلفة الاعراق والاديان والتوجهات السياسية التي دخلت المجتمع الاسلامي عن قصد أو لاسباب تحكمها ظروف خاصة لابد لها من ان تُحدث صدامات سياسية مذهبية بالتأكيد هي التي تؤدي إلى نمو تيارات فكرية في بيئة خصبة ومهيئة لرسم احداثيات الساحة الفكرية للمجتمع الاسلامي.
رابعاً: العوامل الاقتصادية(1/32)
... لقد حصل تغير كبير في حياة القبائل العربية بعد اعتناقها الاسلام وحملها لرسالته ونشرها بين اقطار الدنيا . ولاسيما بعد ان بلغت مسألة الفتوحات الاسلامية اقصاها، إذ إن احتكاك المسلمين بابناء البلدان والاقطار المفتوحة فرض عليهم الاستقرار في المدن والامصار، ونتيجة لهذا الاستقرار اصبح المسلم يطمح إلى الحياة الحضرية، وبذلك اصبحت القبائل العربية المسلمة مجتمعات مستقرة، لكنها مع ذلك لم تتخلص تماماً من المفاهيم والقيم القبلية ، بل تبلور في ذهن اغلب ابناء القبائل العربية أنهم أعلى شأنا من بقية ابناء الدول والبلدان من غير العرب، ومما عزز هذا الامر الانتصار الساحق الذي حققته أولى طلائع الفتح لجيوش المسلمين على جيوش الامبراطوريتين العظيمتين (الفارسية والبيزنطية) ونتيجة لما سبق اصبح العربي يأنف من كثير من الامور والاعمال التي تقتضي من الانسان جهداً عضلياً أو جسدياً كالحرف والمهن اليدوية، لذلك اصبح لزاماً الاعتماد في مثل هذه الامور والاعمال المهنية على غير العرب ، لكن مع ذلك فإن هذا الامر صرف ابناء القبائل العربية إلى الجهاد في سبيل الله أو إلى شيء آخر هو العلم والتعلم وذلك لغرض نشر مبادئ الدين الاسلامي الجديد، أو لاشغال مناصب مهمة وعالية في الدولة (كقاضٍ أو محتسبٍ أو كاتبٍ) وإن هذا الامر فرض على العوائل المسلمة ان تُرسل ابناءها إلى دور العلم والمعرفة لغرض اكساب الصبي العلوم والمعارف لكي يكون الولدُ ذا حضوة عند السلطان او الوالي او الخليفة مما يحقق له المستقبل الذي تطمح العائلة ان يحققه آبنها، لان الحياة الحضرية المستقرة فرضت على العائلة المسلمة ان تخطط لمستقبل ابنائها.(1/33)
... وبعد ان تحول المجتمع العربي المسلم إلى مجتمع متحضر يمارس مختلف الفعاليات المدنية كالزراعة والصناعة والتجارة، تكونت شبكة من المدن في العراق كالبصرة والكوفة والموصل وواسط وبغداد وسامراء والنجف وكربلاء، إذ بلغت هذه المدن درجة عالية من التقدم والتطور في كل نواحي الحياة، لان الفئات التي تقطنها تتكون من مالكي الاراضي واصحاب الحرف والصناعات والتجار الذين عرفوا احوال العالم يومئذٍ ، وامتلكوا الذكاء والجرأة والاستقلال . يضاف إلى ذلك امر في غاية الأهمية هو إن بلاد وادي الرافدين اصبحت حاضرة للخلافة الاسلامية في زمن الدولة العباسية (132هـ –656هـ) مما جعلها قبلة الدنيا ومحط انظار الناس . وسنحاول ان نسلط الضوء هنا على أهم مفاصل الاقتصاد في ذلك العصر الا وهي : -
1- الزراعة.
2- الحرف والاعمال.
3- التجارة.
1 - ... الزراعة :
... عُرفت الزراعة في العراق منذ القدم ، إذ تعدّ الحرفة الرئيسة لسكان البلاد وذلك نظراً لملائمة الظروف الطبيعية لها المتمثلة بالمساحات الكبيرة من الاراضي المنبسطة الصالحة للزراعة ، والمناخ المساعد للنمو المختلف شتاء وصيفاً والمعتدل ربيعاً وخريفاً فضلاً عن توفر الموارد المائية المتمثل في النهرين العظيمين دجلة والفرات، وهذا الامر ادى إلى تنوع الحاصلات الزراعية (الموسوي، 1982: 320).
... لقد ادرك العرب المسلمون عند دخولهم العراق هذا الامر، إذ اهتموا بالزراعة واصلاح الارض واحيائها . فنشأت حركة زراعية في العهد الراشدي والاموي واسعة النطاق، متمثلة : بشق الانهار لغرض الري، وغرس النخيل واشجار الفاكهة، وهذه الامور شجعت الناس على الانكباب على زراعة الارض الممنوحة لهم من قبل السلطة (البلاذري،1957 : 490) . ومع ذلك حذرت السلطة أو الدولة الناس من اتعاب الأرض وانهاكها (الجاحظ ، ج2، 1949: 226).(1/34)
... وإن هذا ينم عن ان الدولة او المسؤولين يمتلكون عقلية اقتصادية ستراتيجية متمثلة بالاهتمام بالاراضي الزراعية واحيائها وشق الانهر المناسبة، وكذلك تشريع قانون لحماية الارض من الإتلاف لانها ملك لجميع المسلمين:
... وكان سبب اهتمام الولاة والامراء المسلمين بشؤون الزراعة والري واصلاح الاراضي في العراق يعود إلى ان موارد الزراعة في هذا الاقليم كانت مصدراً مهماً من مصادر بيت مال المسلمين ، فقد ذكر الماوردي : ان يوسف ابن عمر كان يرسل سنوياً من ضرائب أرض العراق سبعين مليون درهم (الماوردي، 1960: 175 –176).
... أما في العصر العباسي فقد ازدهرت الزراعة وتنوعت المحاصيل الزراعية، فكانت كل مدينة محاطة برساتيق وقرى وبساتين ، مثل البصرة التي وصف الجغرافيون بساتين النخيل فيها، كأنها صف واحد يبلغ طوله أكثر من خمسين فرسخاً (225 ميل) (ابن حوقل، ج1 ، 1939 : 212) . كذلك شجع تدفق المياه من دجلة والفرات أهل بغداد على غرس النخيل التي حُملت اليهم من البصرة ، فصار ببغداد أكثر منه بالبصرة والكوفة والسواد (اليعقوبي، 1892 : 251) . كما حُملت النخيل أيام المعتصم إلى سامراء (اليعقوبي ، 1892 : 263).
... وغُرست النخيل ايضا ايام الحمدانيين (293هـ –367هـ) في بساتين الموصل (ابن حوقل، ج1 1939 : 239).
... أما زراعة الفواكه فقد انتشرت أيام العباسيين في معظم الدول الاسلامية، وكان الكروم من اشهرها ، وقد كثرت اصنافها وتعددت انواعها في البصرة والكوفة والموصل (المقدسي، 1906 : 122).
... وانتشرت زراعة القطن في كل من الموصل وواسط والبصرة، كما اشتهرت كل من البصرة وواسط بزراعة قصب السكر، إلى جانب هذا اشتهرت كل من بغداد والكوفة وواسط بزراعة الرز ( ابن مسكويه، ج5 : 294) . اضافة إلى ذلك انتشرت زراعة انواع الزهور والرياحين والأوراد كالنرجس والاقحوان والياسمين( ابن عبد ربه ، ج6 ، د.ت : 248).(1/35)
... إن تطور الزراعة في العصر العباسي يرجع إلى اهتمام رجال الدولة بالزراعة لاعتبارها مصدراً مهماً من مصادر الثروة للمسلمين ، وهذا مما جعل الدولة مهتمة اهتماماً جاداً في هذا الامر إذ شجع الخلفاء على استخدام الاسلوب العلمي في الزراعة وإصلاح الاراضي، وذلك بتشجيع الباحثين المسلمين لدراسة الوسائل التي تؤدي إلى خصوبة الأرض والبحث عن افضل انواع النباتات واختيار الاراضي والبيئة التي تلائمها (حسن ، ج2 ، 1984 : 317). فضلاً عن استخدام أحدث الاساليب في ترشيح المستنقعات وبأقل التكاليف (علي ، 1967 : 364).
2 - ... الحرف والاعمال :
... يُقاس تطور أي بلد من بلدان العالم ، بأنواع الاعمال التي يمارسها ابناؤه وبمستوى الانتاج والساعات التي يقضيها الانسان في العمل ، فالعمل كما هو معروف يعطي للانسان قيمة في الحياة، لاعتباره ضرورة اجتماعية تفرضها حاجات الانسان المعاشية، وبأعتبار ان الانسان الذي يعمل انسان منتج.
... وعندما قدم العرب المسلمون العراق فاتحين ، ظلت الحرف والصناعات الفنية فترة طويلة من الزمن في ايدي اهله، اذ سمح المسلمون لهذه الحرف بالاستمرار، والأكثر من هذا تتلمذ كثير من الصناع المسلمين على يد ارباب الصناعات الفنية في تلك البلاد (حسن ، ج2، 1984 : 312).(1/36)
... وقد جذبت الامصار التي انشأها العرب المسلمون في العراق كثيراً من الايدي العاملة لتوافر فرص العمل والكسب فيها، وحاجة المدن إلى وسائل الترف فانتقل حذاق اهل الصناعات اليها ( اليعقوبي، 1892: 251) . يضاف إلى ذلك تشجيع الخلفاء وحاشيتهم ونشاط التجارة العالمية التي كان العراق احد طرقها الرئيسة ومركزاً لتزويدها بسلع مهمة كالمنسوجات الفاخرة والزجاج والورق وغيره وتوافر المهارة الفنية ورؤوس الاموال (الموسوي، 1982: 327) ، وهذا مانلمسه واضحاً في قول ابن الفقيه الهمداني إذ يقول : قلب الارض وخزانة الملك الاعظم، وقل في عجائب بغداد ماشئت التي اجتمع ماهو متفرق في جميع الاقاليم من انواع التجارات والصناعات ( الهمداني، 1885 : 252).
... ويقدم لنا المقدسي وصفاً مفيداً لانواع الصناعات في العراق مع توزيعها الجغرافي إذ يشير إلى ان البصرة مشهورة بالخز والبز ، وانها كانت مدينة اللألئ والجواهر، كما انها ذات اقطان ، وان الكوفة تشتهر بعمائم الخز وصناعة العطور. وبغداد تنسج الطرائف وانواعاً من الثياب، واشار كذلك إلى شهرة السفن الواسطية والبصرية والقوارب البغدادية (المقدسي، 1906 : 118).
... كذلك يذكر لنا ابن خلدون في مقدمته : إن العباسيين أنشأوا مصانع للورق في بغداد والموصل والبصرة ، وجلبوا لهذه المصانع الصناع وارباب الحرف من مصر التي اشتهرت بهذه الصناعة منذ وقت بعيد (ابن خلدون، د.ت : 245) . وهذا يدلل على وجود حركة طباعة ونسخ للكتب والمؤلفات والمخطوطات العلمية في ذلك العصر . مما يجعلنا نستنتج ان هناك وعياً تاماً للعلاقة مابين الصناعة والحركة العلمية والثقافية آنذاك من قبل رجال الدولة (أي عملية تأثير وتأثر).
3 - ... التجارة :(1/37)
... ترتبط التجارة ارتباطاً مباشراً بالسياسة، ومع استقرار المجتمع الاسلامي، بدأت أهمية العراق تظهر من جديد كمنطقة عبور، وشغل وظيفة الممر كالسابق بين المقر الاسيوي والمقر الاوربي حتى اصبحت كلمة عربي بالافرنجية تعني تاجراً (حمدان، 1977 : 205).
... وبتحول العاصمة إلى بغداد، انتقل مركز الثقل السياسي والبشري من دمشق والشام الاموية إلى بغداد والعراق العباسية، وهذا الامر أدى إلى انتقال التجارة والاهمية الملاحية من طريق مصر البحر الاحمر إلى الخليج العربي (حمدان، 1977 : 74) .
... ونتيجة لذلك انتقلت الأهمية التجارية والملاحية إلى الخليج العربي ، لاسيما مع ردم العباسيين لخليج أمير المؤمنين لأسباب سياسية. فحلت موانيء الخليج العربي كسيراف والأبلة محل القلزم وعدن ، واصبح دور البحر الاحمر ثانوياً، ولكن في آواخر القرن الثالث الهجري اضعفت الحركات والفتن في جنوب العراق المتمثلة بحركتي الزنج والقرامطة النشاط التجاري في الخليج العربي، فعادت الأهمية مباشرة إلى موانيء البحر الأحمر وبخاصة في عهدي الدولتين الفاطمية والمملوكية (حمدان، 1977: 75).
... واصبحت بغداد مركز التجارة بعد تأسيسها مباشرة . فقد سكنها أناس من مختلف الامصار، وآثرها السكان الجدد على اوطانهم، فليس من أهل بلد إلا ولهم فيها محلة ومتجر ومتصرف، فاجتمع بها ماليس في مدينة أخرى وادى موقعها التجاري الممتاز وجريان نهري دجلة والفرات بقربها إلى ايصال المواد التجارية بأيسر السبل براً وبحراً حتى اجتمعت فيها بضائع المشرق والمغرب من أرض الاسلام وغيرها (الموسوي ، 1982 : 338) . فتأتيها التجارة من الهند والسند والصين والتبت وبلاد مارواء النهر والترك والخزر والحبشة وسائر البلدان (اليعقوبي ، 1892 : 234).(1/38)
... كذلك اتاح نظام الوظائف المدنية الذي يستطيع الرجل بمقتضاه ان لايدخل في صفوف المقاتلين في الجيش الفرصة لعدد كبير من ذوي النفوذ ان يستقروا في الامصار الاسلامية ، ويشاركوا بفعالية في حياتها التجارية كالامراء وعمالهم وموظفيهم (ابن قتيبة، ج1 ، 1930 : 175).
... من خلال ماتقدم يتضح ان هناك حركة تجارية واسعة في بلاد وادي الرافدين في العهد العباسي، وان اول ماتحتاج اليه العملية التجارية هو الايدي العاملة المؤهلة للعمل في التجارة، أي ان الحاجة تقتضي وجود مؤسسات علمية تأخذ على عاتقها إعداد افراد قادرين على العمل في هذا المجال.
... من ذلك يبدو ان حياة المجتمع الاسلامي اتسمت بالرخاء الاقتصادي ومما يؤكد هذا الامر مستوى الإنفاق العالي جداً من قبل المنصور على مدينته المدورة، وما كان يُعطى من اجور للعاملين في البناء مع ماكان موجوداً من رخص في الاسعار فقد انفق المنصور على بناء مدينة بغداد أربعة ملايين وثمانمئة وثلاث وثلاثين الف درهم ( ابن الاثير ، ج5 ، د.ت :21).
... وقد كان الأستاذ من الصناع يعمل يومه بقيراط إلى خمس حبات ، والعامل البسيط إلى ثلاث حبات، وسعر التمر ستين رطلاً بدرهم، والسمن ثمانية ارطال بدرهم ولحم البقر تسعين رطلاً بدرهم ولحم الغنم ستين رطلاً بدرهم (الخطيب البغدادي ، ج1 ، 1931 : 70).
... ومن عملية الموازنة هذه التي ذكرها لنا الخطيب البغدادي يتضح ان دخل الفرد كان عالياً جداً مقارنة بما كان موجوداً من اسعار للمواد الغذائية.
... كذلك مما يؤيد هذا الامر مايذكره لنا المسعودي إذ يقول: وقد قيل انه لم تكن النفقات في عصر من العصور ولا وقت من الاوقات مثلها ايام المتوكل (المسعودي، ج7 ، 1965 : 276) . إذ إن مجموع ماصُرف لبناء مدينة سامراء من اموال كان (294) مليون درهم (ياقوت الحموي، ج3 ، 1956: 18).(1/39)
... يضاف إلى هذا ماذكر عن الزراعة التي كانت متطورة جداً وماتدره من خيرات على المسلمين، وكذلك ماكان سائداً من حركة صناعية حرفية متطورة جداً ومنتشرة في المدن الاسلامية، فضلاً عن الحركة التجارية المزدهرة وماتُعطيه للإنسان من اموال وخبرات في مجالات الحياة المتطورة من خلال عملية أحتكاكه بأبناء المجتمعات الأخرى.
... وإن نظرة تأمل لهذه الحالة الاقتصادية المترفة التي تمتع بها المجتمع الاسلامي بعد استقرار الدولة الاسلامية في بغداد ومن قبلها في دمشق نستطيع ان نقول ان المسلم في ذلك العصر وبعد اشباع جميع حاجاته الاساسية بدأ في البحث عن اشباع حاجاته الكمالية، ومن أهم هذه الحاجات وأرقاها حصوله على التعليم والثقافة، ربما لا لشيء مادي يبتغيه منها ولكن لغرض الاحساس بالمتعة العقلية، كذلك بدأت تظهر في المجتمع الاسلامي تساؤلات عن مسائل عقائدية من قبيل هل إن الانسان مجبر ومسير في افعاله أم هو حر ومختار، ومن ثم هل إن الخير والشر من الخالق أم من المخلوق ... ومن ثم أنتقل الخوض في الكلام في مسألة صفات الخالق - سبحانه وتعالى - وهل هي قديمة أم محدثة . وكان نتيجة لهذا ان تكونت مدارس فكرية في المجتمع الإسلامي منها مدرستي المعتزلة والاشاعرة .(1/40)
خامساً: العوامل الحضارية :
... من المعروف ان بلاد العرب لم تكن في زمن الجاهلية خلواً من حضارة ما. وفي القرآن الكريم دليل على ذلك من ذكر امور التجارة وطرقها والصنائع والكتابة والنقود ... وغيرها كما في قوله تعالى : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ( - )إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ } (قريش : 1،2 ) . يضاف إلى ذلك ماتنقله لنا كتب التاريخ من قيام دويلات في ارض العرب ، يبرهن على انه للعرب قبل الاسلام اتصال بالعمران السائد يومئذ (المقدسي، 1980 : 29) .
... ولكن لما جاء الاسلام وتوسعت الفتوحات ازداد الاتصال وتنظم بوسائل متعددة ومتنوعة منها العقيدة الدينية ممثلة بالاسلام باعتباره دين للبشرية جميعاً، واللغة والتزاوج مابين العرب والقوميات الأخرى، والرقيق الذي يجلب من الفتوحات الاسلامية وماكان يؤديه من دور في الحياة الاجتماعية ، والأمر الآخر الاختلاط مابين العربي وبقية شعوب العالم ولاسيما ابن الحضارتين الرومانية والفارسية بعد ان تغلب الاسلام عليهما. وهذا مانلمسه من كلام معاوية بن ابي سفيان للخليفة الثاني عمر بن الخطاب، بعد ان استقبل الاخير عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة، فاستنكر الخليفة ذلك وقال : أكسروية يامعاوية؟ فقال : يا امير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو، وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة (ابن خلدون ، د.ت : 203).
... ولما انتقل مركز الخلافة إلى الشام خطا العرب المسلمون إلى الامام في سبيل الحضارة، فبعد أن كانوا في المدينة لعهدهم الاول يحسبون التجافي عن الرفاه والرخاء واجباً دينياً صاروا لما استقر ملكهم في الشام يتأنقون في اسباب الحياة الحضرية، فلبسوا الحلل المزركشة واقاموا الابنية الفاخرة، وانصرفوا الا القلائل منهم إلى الملاهي، ولم يكن هذا في دمشق فقط بل ظهر في كثير من الامصار الاسلامية كالكوفة والبصرة والمدينة ... وغيرها (المقدسي، 1980 : 31).(1/1)
... وفي ايام الوليد بن عبدالملك اتسع العمران في الشام واستبحرت الحضارة، وانغمس الامويون وانصارهم في شيء من الترف باتساع العمران ونشأت مجالس الغناء والخمر . ثم توسع الامويون وتأنقوا في المطاعم والملابس وفي أثاث المنازل كما كثرت رحلات الصيد وحلبات السباق (فروخ، 1972 : 197-199).
... ومن نتائج التطور الحضاري ايام الامويين نشوء دور التعليم وازدياد عدد المعلمين والمتعلمين تبعاً لحاجة المجتمع له اذ يشير ابن خلدون إلى ذلك (( لما جاء الملك للعرب وفتحوا الامصار وملكوا الممالك ونزلوا الكوفة والبصرة واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه، وتداولوه فترقت الاجادة به)) (ابن خلدون، د.ت : 420).
... ومما يؤيد انتشار التعليم في العصر الاموي نشاط حركة النسخ والتدوين اذ تذكر لنا المصادر التأريخية انه في معركة صفين رفع نحو خمسمائة نسخة من القرآن (المسعودي، ج4 ، 1965 : 378).
... والجاحظ المعتزلي يذكر لنا اصناف المعلمين اذ جعلهم ثلاث طبقات : مؤدبي اولاد الملوك ، ومؤدبي الخاصة، ومعلمي كتاتيب القرى. وكذلك يشير إلى كبار مؤدبي الاولاد في العصر الاموي مثل : الشعبي ، وكميت بن زيد ، وعبدالحميد الكاتب والحجاج بن يوسف عندما كان يعلم الصبيان في الطائف (الجاحظ ، ج2 ، 1949 : 210).
... يتضح من ذلك ان العرب المسلمين وبفضل ماكان يأمر به دينهم الحنيف من استعمال للمعرفة والعلم كمنهج في الحياة، ومن تأثرهم نتيجة الاحتكاك بسواهم ونتيجة لمتطلبات حياتهم اصبح فيهم ميل إلى المعارف والعلوم فزاد فيهم عدد المتعلمين، وكثر الاقبال على القراءة والكتابة، واصبح كثير من المساجد والدور العامة مراكز تعليمية للعلوم اللسانية والدينية والفكرية ... وغيرها.(1/2)
... يعدّ العصر الأموي عصر انتقال حضاري وعلمي فقد تطورت فيه عادات العرب المسلمين وعلومهم ومعارفهم وعقولهم إذ دخل كثير من المصطلحات في حياتهم السياسية والادارية والاجتماعية والفكرية والعلمية نتيجة للامتزاج أو التلاقح مابين العقول والافكار.
... ويعدّ الرخاء الاقتصادي الذي تمتعت به الاسرة المسلمة عاملاً مهماً في ذلك التطور ، إذ دفع ذلك الاسرة المسلمة إلى البحث عن الكمالات بعد ان اشبعت حاجاتها الاساسية، ولعلّ أول هذه الكمالات الحصول على المعارف والعلوم التي يحتاجها الانسان لكي يفهم معنى الكون والحياة ودور الانسان فيهما. ونتيجة لذلك ظهر القول في القدر وحرية الانسان وقدرته على الاختيار ومسألة صفات الخالق وتوحيده ، ولاسيما في دمشق والكوفة والبصرة موئل الفرق الفكرية والفلسفية وعلى رأسها المعتزلة اصحاب العقل والأشاعرة اصحاب النقل واخوان الصفا المتأثرون بالفلسفة اليونانية ... وغيرها .
... لقد اتسع العمران في العصر العباسي وتمثل ذلك في بناء المدن والقصور ثم استبحرت الحضارة بالتأنق والتفنن في المطعم والملبس والمسكن وباستجادة الصناعات الضرورية والكمالية وبانتشار العلم. وكان هذا نتيجة طبيعية لتعاظم الثروات مما ادى إلى طلب الترف في جميع ميادين الحياة يضاف إلى ذلك اتحاد الدوله بمناصبها السياسية والادارية شكلاً حضرياً مماثلاً نوعاً ما لما كان عند الروم والفرس قبل الفتح الاسلامي (فروخ ، 1972: 241).
... ومن ابرز مظاهر التأنق في الفنون الحضرية تشييد المنازل ونسج الثياب والمفروشات وطهو الطعام وبناء المراكب وصنع الالات الموسيقية . وما إلى ذلك من اسباب الحضارة، اذ اشتهرت بغداد والموصل بالصناعات الزجاجية التي أخذوها عن الفرس وبلغوا بها درجة كبيرة من الدقة والإتقان، وبلغ من مهارة الصناع ترصيعهم الزجاج بالجواهر وكتابتهم عليه بالذهب المجسم وصنعهم منه اقداحاً بديعة (مؤلف مجهول، د.ت : 221).(1/3)
... كذلك يشير صاحب الحوادث الجامعة إلى وجود صناعات كمالية كثيرة اشتهرت بها كل من البصرة والكوفة وواسط والموصل وانشأت لها محلات لصناعاتها واسواق لبيعها، ومن هذه الصناعات صناعة التحف المعدنية والفضية من قناديل وحلي نسائية واقمشة فاخرة من الحرير والصوف والقطن (مؤلف مجهول، د.ت : 79) .
... يضاف إلى ذلك انه كان للملوك دور في قصورهم لنسج اثوابهم تسمى دور الطرّاز، وكان القائم عليها ينظر في امور الصنّاع فيها وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم (ابن خلدون ، د.ت : 267) . كذلك أنشأ العباسيون مصنعاً للورق في بغداد وآخر في الموصل وثالث في البصرة، وجلبوا لهذه المصانع الصناع وارباب الحرف من مصر التي اشتهرت بهذه الصناعات منذ وقت بعيد ( ابن خلدون ، د.ت : 245).
... ومن ابرز نتائج الحضارة انتشار المدارس والعلوم ، فبعد ان استقر الامر للعباسيين زادت حركة التعليم والتثقيف وتنظمت دور العلم في الامصار المختلفة ولاسيما في بغداد ومصر والبصرة وغيرها، فكان تأسيس بيت الحكمة في بغداد زمن المأمون العباسي وعلى غراره أنشأ الفاطميون في مصر بيت الحكمة ودار العلم والأزهر وأوقفوا الاموال لها، فكانت دوراً للعلم والتربية، وبعد ذلك أنشأ نظام الملك الوزير السلجوقي المدرسة النظامية في بغداد التي كانت جامعة متطورة في زمنها ( حتي، 1974 : 482).
سادسا : العوامل الفكرية
1- ... العصر الاموي :
... اتسمت الحركة الادبية والفكرية بالتطور في العصر الأموي، ولاسيما الشعر والخطابة باعتبارهما الوسيلة الاعلامية المستخدمة من قبل الحركات المعارضة للدولة، كالشيعة والخوارج، زيادة على ذلك فإن البلاط الأموي لم يخلُ من الشعراء والخطباء .(1/4)
... وإن من يطلع على كتب الأدب الإسلامي يجد كثيرا من الأشعار والخطب في مجال السياسة ومجالات الحياة الأخرى، ومن هذه الكتب : الكامل في اللغة والأدب للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ المعتزلي والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ، والإغاني لأبي فرج الاصفهاني، ومعجم الادباء لياقوت الحموي ... وغيرها .
... اما حركة التأليف فقد بدأت في العصر الأموي ، ولعل من المؤلفين المتقدمين زياد بن ابيه (ت 53هـ) . وقد كان واليا لمعاوية بن ابي سفيان على البصرة والكوفة والذي ألف كتاباً في المثالب ( ابن النديم ، د.ت :131).
... ومن مشاهير المؤلفين المتقدمين عبيد بن شرية المتوفى في البصرة سنة (67هـ) وله كتاب الملوك وأخبار الماضين (ابن النديم ، د.ت : 132).
... وكذلك اشتهر ابو الاسود الدؤلي المتوفى في البصرة سنة (69هـ) انه أول من الف في النحو (حتي ، 1974 : 305) ، وبأمر من أمير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام - (ابن خلكان ، ج1، د.ت : 429).
... ويذكر ابن النديم في الفهرست مؤلفي العصر الأموي ومن بينهم : الحسن البصري ( ت 110هـ) وله كتاب في تفسير القرآن (ابن النديم ، د.ت : 23) الذي كان صاحب حلقة علم في مسجد البصرة ومن حلقته نبتت شجرة المعتزلة التي دافعت عن العقيدة الاسلامية ضد الهجمات الفكرية طيلة خمسة قرون من الزمن.
... ومن ألف في الفقه مكحول الشامي ( ت 116هـ) وله كتاب السنن في الفقه، وكتاب المسائل في الفقه ( ابن النديم ، د.ت : 318) . اما عبدالله بن عامر اليحصبي (ت 118هـ) فله كتاب مقطوع القرآن وموصوله، وكتاب اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق (ابن النديم ، د. ت : 43 –55).
... أما أعظم المظاهر الفكرية في العصر الأموي فهو نشوء علم الكلام، وسنسلط الضوء هنا على تسمية هذا العلم، ومن ثم نحاول ان نستعرض بإيجاز أهم الاسباب التي كونت هذا العلم، وبعد ذلك نبين أهم الفرق الاسلامية التي مثلت هذا العلم.
- علم الكلام
* ... التسمية :(1/5)
... يرى بعض المفكرين المحدثين ان هذا الفن اتخذ اسمه من الكلام الانساني ، لأن رجال هذا الفن كانوا يتجادلون على اساس من المنطق ، وربما اتخذ اسمه من الموضوعات التي عالجها باعتبار ان اهم قضية عالجها هذا الفن هي مسألة كلام الله - سبحانه وتعالى - أمُحدث هو أم قديم، لذلك يسمى علم الكلام ( ينظر: فروخ ، 1972 : 203-204 وينظر : الآلوسي ، 1992 : 150).
* ... العوامل التي ادت إلى نشوء علم الكلام والفرق الاسلامية:
... لقد تظافرت عوامل مهمة وجوهرية وتفاعلت مع بعضها البعض مما أدت إلى نشوء هذا الفن منها عوامل داخلية تخص البيئة الاسلامية ومنها عوامل خارجية :
أ - ... عوامل داخلية:
... تكونت هذهِ العوامل نتيجة لاسباب منها: ...
سبب ديني :
... الاسلام دين العلم والعقل فهناك آيات كثيرة تشيد وتعطي للعقل قيمة عليا وتعتبر الانسان خليفة الله في الأرض وبالتالي هو المسؤول عن اعمارها واصلاحها ومؤاخذ يوم القيامة اذا قصر في ذلك ، وواجب على الانسان ان يمعن النظر والفكر في الكون ، وان يقدم الدليل والبرهان عند الحكم على الاشياء ونتيجة لكل هذه الامور ظهرت في المجتمع الاسلامي بوادر النزعة العقلية
(ابن خلدون ، د.ت : 427).
سبب فكري :
... ويعود هذا السبب إلى ماورد في القرآن الكريم من آيات كثيرة تدور حول صفات الله تعالى، ظاهرها يُشعر بالتجسيم كقوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5 ) . بينما نجد ان هناك آيات أُخرى تذهب إلى التنزيه المطلق { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (الشورى : 11) . وقد اختلف المسلمون في موقفهم إزاء هذه الآيات ، فمنهم من كان يرى وجوب التأويل كالمعتزلة اصحاب المنهج العقلي ومنهم من لايرى وجوب التأويل كالمجسمة اصحاب النقل.(1/6)
... وهناك آيات أُخر يوهم ظاهرها بالتعارض والتناقض، فقوله تعالى { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (الانفال : 17) ، ظاهراً الآية تصرح بالجبر في حين نرى ظاهر الآية { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } (البلد : 10) . يشير إلى حرية الإرادة ، فكيف نستطيع هنا ان نرفع التناقض الظاهر في الآيتين . ونتيجة لذلك ظهر مايعرف في فكرنا الاسلامي بقضية " الجبر والاختيار " ( الجبر : هو نفي الفعل حقيقة عن العبد واضافته إلى الرب تعالى . اما الاختيار : فهو اصدار الأثر بالقدرة على مقتضى العلم وعلى حكم الإرادة، فالانسان هو الفاعل المختار وليس من افعاله مايصدر عنه بالعلية المحضة. وهذا هو مذهب المعتزلة اصحاب العقل أتباع واصل بن عطاء) ( الشهرستاني، ج1 ، د.ت : 108) .
... ثم ظهر بعد ذلك الخلاف حول موقف المتكلمين والفقهاء إزاء مرتكب الكبيرة ، وهل هو كافر أم مؤمن أم فاسق وكانت مواقفهم تستند على فهمهم لنصوص القرآن الكريم وعلى مواقفهم السياسية . فيترشح مما سبق وبحسب مايرى الشهرستاني قديماً وحديثاً: النشار والغرابي: ظهور ثلاث مسائل فكرية كانت مثار نقاش المفكرين والفقهاء واصحاب المدارس الفكرية كالمعتزلة والاشاعرة ... وغيرهم :
1- مشكلة الصفات الالهية
2- مشكلة القضاء والقدر
3- مشكلة مرتكب الكبيرة (الشهرستاني، ج1، د.ت : 138 . وينظر : النشار، 1952 : 53 . وينظر : الغرابي ، 1958 : 9) .
سبب سياسي :(1/7)
... وهذا السبب ربما يعود إلى اختلاف المسلمين في من يخلف الرسول محمد (( عليه افضل الصلاة والسلام )) أي من يجب ان يتولى الخلافة من المسلمين، أتكون الخلافة بالانتخاب ام بالتعيين والوصية ام بالوراثة، والذي نضَّج هذا الامر ماجرى من تطورات سياسية وفكرية واجتماعية في المجتمع الاسلامي، ولاسيما بعد مقتل الخليفة الثالث ونشوب حرب بين الامام علي - عليه السلام - واصحاب الجمل وكذلك نشوب حرب صفين بين الامام علي - عليه السلام - ومعاوية التي انتهت بالتحكيم وخروج الخوارج ، مما ادى إلى تفرق الامة الاسلامية سياسياً تبعه تفرق فكري إزاء مسألة الإمامة أو الخلافة، وحول حقيقة ايمان من تبع علياً - عليه السلام - أم معاوية ، وانتمى إلى احدى الفئتين، مما ادى إلى ظهور القول بمرتكب الكبيرة أهو من اهل الايمان أم من أهل الكفر كما مر معنا سابقا (فروخ، 1972 : 206).
ب - ... العوامل الخارجية :
... ان المسلمين بعد انطلاقهم خارج الجزيرة العربية مبشرين بالدين الجديد فتحوا بلداناً ذات ثقافات عريقة ، يدين ابناؤها بديانات قديمة، ويعتنقون مللاً ونحلاً فكرية مختلفة، وينتمون إلى مذاهب فكرية شتى تستند في الغالب – ولاسيما الفلسفة اليونانية – على اصول وثنية (( فلما انتمى ابناء تلك الملل والنحل إلى الاسلام وإذا كان هؤلاء قد غيروا دينهم في ليلة وضحاها، فمن غير المعقول ان تتبدل عقليتهم بمثل هذه السرعة، فالذي كان يعتقد ان في العالم الهين أو ثلاثة أو آلهة متعددة تبعاً لتعدد مظاهر الطبيعة أو ربما لايؤمن بإله ولاببعث ، وكان يعيش في نظام اجتماعي غير الذي جاء به الاسلام لم يكن مستغرباً منه أن يسأل علماء المسلمين اسئلة تساور نفسه، فهو أما كان يسأل ليطمئن او يريد ان يجادل
من اجل ادخال البلبلة إلى قلوب المسلمين )) ( فروخ ، 1972 : 208) فكان نتيجة هذا انبعاث علم الكلام وظهور الفرق ذات المنحى العقلي في الفكر الإسلامي.(1/8)
... فقد كان من نتائج الفتوحات الإسلامية: احتكاك المسلمين فكرياً وحضارياً مع حضارات الشرق والغرب، وأدى هذا الامر إلى عملية تلاقح فكري مابين الشعوب والحضارات نتيجة عملية التأثر والتأثير مابين العقل المسلم والعقل اليوناني والفارسي والهندي، ولاسيما بعد عملية الترجمة التي تمت في بيت الحكمة زمن المأمون العباسي الذي كان يهتم بالعلم والعلماء ويحضر مجالس المناظرة وكان في بعض الاحيان هو الذي يُدير المناظرة بنفسه، ومن مجالسته للعلماء والمتكلمين ادى به الامر إلى اعتناق مذهب المعتزلة عام (218هـ) وايدهم في مسألة خلق القرآن. وكانت بعض المناظرات التي تجري مابين المسلمين وابناء الديانات الاخرى. فقد ادى هذا الامر إلى دفع المفكرين المسلمين إلى الاطلاع على المنطق والفلسفة وذلك للرد على الخصوم باستعمال السلاح نفسه. لأن مفكري المسلمين القدامى ، أحسوا بالخطر الفكري الذي كان يُهدد العقيدة الاسلامية. لذلك نجد في هذه الحالة ، أن انبرت طائفة من مفكري المسلمين للتصدي للهجوم الفكري على الحضارة الاسلامية، يضاف إلى ذلك امور ومسائل كانت مدار اختلاف مابين المفكرين المسلمين انفسهم، وقد تطور هذا الاختلاف وتشعب مع تقدم الزمن. وفي ذلك دلالة على نضوج وتبلور الاجواء الفكرية في المجتمع الاسلامي لتسفر عن مثل هذه التيارات الفكرية العقلية كالمعتزلة الذين بزغت طلائع حركتهم في اول الامر ، وبعد ذلك ظهر الأشاعرة على ساحة الفكر الاسلامي.(1/9)
... ويصور لنا احمد امين ماسبق ذكره احسن تصوير إذ يقول : والحق ان المعتزلة هم الذين خلقوا علم الكلام في الاسلام وانهم أول من تسلح من المسلمين بسلاح خصومهم في الدين، ذلك أنه في اوائل القرن الثاني للهجرة ظهر اثر من دخل في الاسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهرية، وكثير من هؤلاء اسلموا ورؤوسهم مملوءة بأديانهم القديمة لم يزد عليها الا النطق بالشهادتين، فسرعان ما أثاروا في الاسلام المسائل التي كانت تثار في اديانهم، وكانت هذه الاديان قد تسلحت من قبل بالفلسفة اليونانية، فهاجموا الاسلام وهو الدين الذي يمتاز ببساطة عقيدته، فاثاروا حوله الشكوك، مما حدا بالمعتزلة ان يتسلحوا بسلاح عدوهم وان يجادلوهم جدلاً علمياً ويردوا ما أثاره اليهود والنصارى من شكوك (ينظر: امين ، ج1، 1969 : 249).
... وهذا بالتحديد كان هدف المعتزلة اصحاب العقل، مما ادى إلى ان يكون دورهم واسعاً في ساحة الفكر.
... من خلال ماتقدم يتضح لنا ان هناك أسباباً داخلية ادت إلى نشوء علم الكلام تفاعلت معها اسباب خارجية ادت إلى نضجه ، ولنا ان نقول ان علم الكلام الاسلامي أصيل النشأة وذلك لأعتكاف المسلمين على دراسة القرآن وتدبر معانيه، اما تطوره ونضجه فقد كان بفضل تفاعل العوامل الاجنبية الخارجية مع العوامل الداخلية.
* ... الفرق الاسلامية التي مثلت علم الكلام :
1 - ... الشيعة :
... يذهب معظم رجال الشيعة( النوبختي ، 1936 : 15) ، وبعض من أرخ لهذه الفرقة من فرق المسلمين إلى ان جذورها قديمة ترجع إلى زمن وفاة الرسول محمد (عليه افضل الصلاة والسلام ) وقد تبلور اتجاهها السياسي بعد مقتل الخليفة الراشدي الثالث (وجدي ، ج1 ، 1971 : 311 ).(1/10)
... والشيعة هم من تولى علياً - عليه السلام - وناصروه وقدموه وفضلوه على سائر اصحاب رسول الله (صلوات الله عليه) وقالوا في الخلافة انها مسألة دينية تكون بالنص والتعيين ومنكرها انما ينكر اصلاً من اصول الدين عُرف بالضرورة (كولدزيهر ، 1946 : 213) . فالإمامة عندهم ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الامة ويتعين القائم بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الاسلام ولايجوز لنبي اغفالها ولاتفويضها إلى الامة بل يجب عليه تعيين الامام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر ، وان علياً - عليه السلام - هو الذي عينه النبي (عليه افضل الصلاة والسلام) (ابن خلدون ، د.ت : 348) . ومن وافقهم في إن علياً - عليه السلام - افضل الناس بعد الرسول الكريم، واحقهم بالامامة وولده من فاطمة (عليها السلام) من بعده، فهو شيعي ومن خالفهم فليس شيعياً (ابن حزم ، ج4 ، د.ت : 113).
... والذي نُريد قوله هو إن هذه الفرقة استعملت الجدل والمناظرة والعقل في محاججاتها لخصومها واصبحت تياراً فكرياً ينادي بافكار دينية سياسية احتلت مساحة شاسعة من فكر الامة الاسلامية في قضايا الإمامة والقضاء والقدر وحرية الانسان، ومرتكب الكبيرة، اما في مسألة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كانت لهم مواقف يذكرها التاريخ منها واقعة الطف وثورة زيد بن علي الشهيد وثورة محمد ذي النفس الزكية.
... وعلى الرغم من ظهور اختلافات في المذهب الشيعي إلا ان جهود الاسماعلية افلحت في تكوين دولة لهم في بلاد المغرب ثم في مصر وامتداد رقعتها إلى فلسطين والشام والى بلاد الحجاز وغيرها، وأطلقوا على دولتهم اسم الدولة الفاطمية ولقب الحاكم الفاطمي نفسه لقب خليفة المسلمين، وخطب لهم في الموصل وبغداد (حسن ، 1984 : 229).(1/11)
... كذلك ظهرت حركات سياسية اتخذت مسألة الامامة وحق آل البيت شعاراً لها وستاراً تلوذ به أو لتكسب تأييد الرأي العام كالقرامطة التي ارتبطت بالحركة الاسماعلية . وكحركة الزنج التي قامت في جنوب العراق (علي ، 1967 : 259-261).
2 - ... الخوارج :
... كان هؤلاء الخوارج من مقاتلة جيش الامام علي بن ابي طالب - عليه السلام - في حربه مع معاوية وعندما كان التحكيم النتيجة النهائية لمعركة صفين، والذي اسفر عن عزل الامام علي - عليه السلام - وتثبيت معاوية، خرج نفر من جيش الامام علي - عليه السلام - وطلبوا منه ان يتوب إذ انه كفر على حد زعمهم بقبول نتيجة التحكيم، والتف حولهم كثير من الاعراب وأخذوا يقاتلون علياً - عليه السلام - بعد ان ناظرهم وقطعوا عليه القول واخذوا يقتلون كل من لم يشاطرهم رأيهم ويعترف بفكرتهم (الاشعري ، ج1، 1985 : 156) . ولم تكن مشكلة الخلافة وحدها هي التي أثارها الخوارج على مستوى المبادئ بدلا من الاشخاص وإنما أثاروا موضوعاً آخراً يتصل بالحكم على مرتكب الكبيرة، فقد كان الخوارج مناوئين لعلي - عليه السلام - وللدولة الاموية، وكان لابد ان يسوغوا خروجهم وحروبهم على اساس عقائدي، ولما كان بنو أمية غير جديرين – على حد زعمهم 0 من ناحية الافضلية الدينية، وان يكونوا للمؤمنين امراءً زيادة على انهم قد وصلوا إلى السلطة بالغصب والإكراه، بل لم يتورع بعضهم عن ارتكاب الكبائر من سفك الدماء واغتصاب الاموال، ونتيجة لذلك اعلن الخوارج تكفير فاعل الكبيرة حتى يُحل لهم قتاله ( الرازي، 1984 : 46).
... لقد استمر نشاط الخوارج طوال الفترة الأموية ولكن لم تُثمر جهودهم عن قيام دولة لهم إلا في الفترة العباسية سنة (442هـ) إذ استطاعوا ان يستولوا على ولاية عمان وأن يقصوا عمال البويهيين عنها، وانتشر مذهب الخوارج فيها (حسن، 1984 : 236).
3 - ... المرجئة:(1/12)
... وهي فرقة تقول بإرجاء الحكم عن مرتكب الكبيرة، وان الايمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان وانه لايضر مع الايمان معصية كما لاينفع مع الكفر طاعة (الملطي، 1968 : 139) ووقف المرجئة موقفهم من إرجاء الحكم على مرتكب الكبيرة هرباً من الثورة على بني امية على الرغم من انهم كانوا يعتقدون أن يزيد ونفراً من الأمويين فاسقون أو كافرون، ولكنهم لم يرغبوا أن يصارحوهم العداء (فروخ ، 1972: 212).
4 - ... المجبرة أو الجبرية :
... يذهب المجبرة إلى نفي قدرة الانسان على الاختيار، ومعنى ذلك ان الانسان مسلوب الإرادة فهو كالريشة في مهب الريح تتحرك إذا تحرك وتسكن إذا سكن ، وإن الله هو الذي قدر عليه افعاله (الحربي، 1998 : 19 ) ، وفسروا ظواهر الآيات القرآنية التي تنسب الافعال إلى فاعليها بأن ذلك على سبيل المجاز؛ لأنه ((لافعل لأحدٍ في الحقيقة إلا لله وحده، وانه هو الفاعل، وان الناس انما تنسب اليهم افعالهم على المجاز)) (الاشعري، ج1 ، 1985 : 279)
... وتشير الروايات إن معاوية بن ابي سفيان انه كان (( أول من قال بالجبر واظهره .. وأنه أظهر ان مايأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذراً فيما يأتيه، ويوهم أنه مصيب فيه، وإن الله جعله اماماً وولاه الامر)) (القاضي ،ج8 : 4).
... وإن معنى ذلك ان الدولة الأموية قد تبنت هذه الافكار لتبرر اعمالها ولتقنع الرأي العام أنها الحكومة الشرعية؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي ارادها ان تتولى إدارة شؤون المسلمين.(1/13)
... وهذه الفرقة قد بلغت بها درجة الغلو والاصرار على نفي القدرة عن الانسان وإنكار استطاعته وإرادته ومشيئته والعداء لمبدأ حريته واختياره حداً جعلهم ينسبون جميع الافعال، حتى ماكان منها قبيحاً وشنيعاً إلى ذات الله سبحانه وتعالى ، بل لقد بلغت ببعضهم الجرأة في ذلك إلى حد المناظرة والجدل، ففي سوق الوراقين ببغداد جاء أحدهم ليجادل أبا الهذيل العلاف المعتزلي، متوهماً انه سيفحمه عندما يسأله قائلا (( من جمع بين الزانيين ؟ ؟ )) ولكن ابا الهذيل قد أسرع إلى جوابه ببديهة يدعمها المنطق فقال : (( يا ابن أخي ، اما في البصرة (مركز الاعتزال) فإنهم يقولون : القوادون . ولا أحسب أهل بغداد يخالفونهم على هذا القول. فما تقول أنت ؟ ؟ ! )) فخجل الرجل وسكت (الشريف المرتضى ، القسم الاول ، 1954 : 180).
5 - ... القدرية :
... وهم القائلون بالقدر بمعنى القُدرة ، أي قدرة الانسان على اكتساب اعماله ، وسموا بهذا الأسم؛ لأنهم انكروا القدر ونفوه عن الله - سبحانه وتعالى - (عبدالحميد ، 1967: 257)، فهم يعتقدون بحرية الارادة والعمل وقدرة الانسان على خلق افعاله (الشهرستاني، ج1، د.ت : 31) .
... وإن أول من وسع القول في القدر غيلان الدمشقي، وكان يقول ان المعرفة الأولى اضطرار وليس بإيمان ، وان الإيمان هو المعرفة الثانية بالله تعالى والمحبة والخضوع والاقرار بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء من الله تعالى (فروخ، 1972: 213-214) .
... ومن القدرية الجعد بن درهم ، وكان من أهل دمشق يقول بالقدر وبخلق القرآن وينفي الصفات عن الله سوى الخلق والفعل، وقتل الجعد بن درهم يوم الاضحى سنة (105هـ). قتلهُ خالد بن عبدالله القسري ايام هشام بن عبدالملك (فروخ، 1972 : 214).(1/14)
... ومن هذا يتضح إن أفكار القدرية كانت بدايات إطلاق حرية العقل عند المسلمين وتعد النواة الاولى لافكار المعتزلة لاسيما فكرة خلق القرآن ونفي الصفات عن الخالق وإثبات حرية الإنسان ، لكن المعتزلة وسعوا البحث فيها وأدلوا الآيات القرآنية لإثباتها.
العصر العباسي:
... لقد اهتم العباسيون بالحركة العلمية وشجعوها ، وقدموا للعلماء كل التسهيلات التي جعلتهم يتفرغون للعلم ، فانتشر العلماء في مساجد بغداد وحوانيتها يعلمون الناس ويتدارسون بينهم مختلف العلوم الدينية واللغوية والعلمية. ونتيجة لهذا الاهتمام ظهرت المصنفات في مختلف العلوم الدينية والادبية والتأريخية والعلمية.
... ولقد ذهب العباسيون إلى أبعد من الدعم المالي والتشجيع لحركة العلم وذلك ببناء دار الحكمة أو بيت الحكمة لغرض تعريب العلوم الاجنبية وتدقيق تراجم العلماء السابقين ثم عرض نتاجاتها العلمية للمتعلمين لتوسيع العلم والمعرفة، وقد خصصوا لهذه الدار المجلدين والنساخين وزودوهم بأهم الكتب التي كانت معروفة آنذاك (السامرائي ، 1988 : 95).
... ففي عصر المأمون اخذت ترتقي طبقات أهل الحرف من أطباء ومحامين ومعلمين وكتاب وأمثال هؤلاء ؛ لأن المأمون كان يرعاها فصار لها مكانة مرموقة وسط المجتمع (حتي ، 1974 : 373).
... ومن مظاهر التطور الفكري في العصر العباسي الأول:
1- علوم الحديث والفقه: وهي كثيرة جداً، ولكن الذي وصل الينا منها نزر يسير فمن الفقهاء المتقدمين:
- ابو الوليد عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح الأموي (ت 150هـ).
- ابو عبدالرحمن محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة ( ت 159هـ).
- سفيان الثوري (ت 161هـ) (ابن النديم ، د.ت : 315 ومابعدها).(1/15)
- ولأبي حنيفة عدد من الكتب اشهرها كتاب الفقه الاكبر (ابن النديم ، د.ت : 285). ومن اشهر تلاميذ ابي حنيفة اثنان ابو يوسف يعقوب بن ابراهيم المتوفى سنة (182هـ) (ابن قتيبة ، 1960 : 251) ، وله كتب جزئية في الفقه: كتاب اختلاف الامصار ، كتاب الرد على مالك بن أنس ، رسالة في الخراج إلى الرشيد (ابن النديم ، د.ت : 286).
والتلميذ الثاني لأبي حنيفة هو أبو عبدالله محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) ويقال انه مُدون المذهب الحنفي وكتبه كثيرة منها : كتاب الجامع الكبير وكتاب الجامع الصغير وكتاب اصول الفقه وكتاب الاستحسان وكتاب الرد على أهل المدينة ( ابن النديم ، د.ت : 287).
- وللإمام مالك بن أنس كتاب الموطأ رواه عنه كثيرون اشهرهم يحيى الليثي الاندلسي (ت 234هـ).
- وللشيعة الإمامية كتب مشهورة في الفقه والحديث من أقدمها مارواه يونس بن عبدالرحمن، وكان من اصحاب الإمام موسى الكاظم - عليه السلام - (ت 183هـ) (ابن النديم ، د.ت : 308).
- وللإمام الشافعي كتب رواها عنه نفر من اصحابه اشهرهم ابو عبدالله الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني (ت 260هـ) والربيع بن سليمان المراوي (ت 270هـ) أما كتب الزعفراني فقد اندرس اكثرها، واما الربيع بن سليمان فروى عن الشافعي كتاب الأصول وكتاب المبسوط (ابن النديم ، د.ت : 297).
- أما الإمام أحمد بن حنبل (ت 242هـ) فقد وصل الينا منه كتاب المسند وهو كتاب جليل (فروخ ، 1972 : 251).
اما كتب الحديث : فقد اتفق علماء السنة على ان في الحديث ست مجاميع تأتي في المرتبة الاولى : وهي على ترتيب وفيات اصحابها:
- كتاب الصحيح لأبي الحسين بن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261هـ).
- كتاب الجامع الصحيح لأبي عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري (ت 265هـ).
- كتاب السنن لابي عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه ( ت 273هـ).
- كتاب السنن لأبي داود بن الاشعث السجستاني (ت 275هـ).(1/16)
- كتاب السنن لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ).
- كتاب السنن لأبي عبدالرحمن أحمد بن علي النسائي (ت 303هـ).
- ويُعدّ ابو سليمان داوود بن علي بن داوود بن خلف الاصفهاني (ت 270هـ) أول من استعمل قول الظاهر وأخذ بالكتاب والسنة والغى مادون ذلك من الرأي والقياس، وله كتب في الفقه منها : كتاب الإيضاح (اربعة آلاف ورقة) ، وكتاب الوثائق (ثلاثة آلاف ورقة) وكتاب الطهارة ، وكتاب الصلاة (ابن النديم، د.ت : 303-305).
- ولمحمد بن داوود الاصفهاني الظاهري كتب فقهية منها : كتاب الوصول إلى معرفة الاصول وكتاب الايجاز وكتاب الانتصاف من ابي جعفر الطبري (ابن النديم ، د.ت : 305 ).
- وللشيعة الباطنية كتب في الفقه لكنها مستورة منها : كتاب دعائم الاسلام للقاضي النعمان بن محمد التميمي المغربي (ت 363هـ) في الفقه الاسماعيلي يتناول العبادات والمعاملات ( فروخ ، 1972: 253).
2 - ... علوم التفسير :
... لقد عُني المسلمون بتفسير القرآن منذ أيام الخلفاء الراشدين، ولذلك اكثر الناس من التأليف في جميع علوم القرآن، وفي التفسير خاصة لمعرفة تفاصيل الاحكام التي جاءت فيه مجملة في الدرجة الاولى، وكان التفسير الأمثل للقرآن من أجل ذلك ، الاستشهاد بأحاديث رسول الله (عليه أفضل الصلاة والسلام) ويذكر اسباب النزول ، لقد انقسم المفسرون على قسمين : منهم من يفسر آيات القرآن الكريم بالحديث النبوي لاغير بما يروى عن الصحابة من ذلك، وقسم آخر لايرى بأساً من تفسير الآيات بالحديث وبالرأي مما تقتضيه البلاغة العربية والتخريج العقلي (فروخ ، 1972 : 253).
3 - ... علوم اللغة والآدب :(1/17)
... من أشهر رواة اللغة وعلمائها في العصر العباسي أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) وهو أحد رواة الاخبار والاشعار. ثم يأتي بعد ذلك حماد الراوية (ت 156هـ) وهو أشهر رواة الشعر واوسعهم، فمما رواه المعلقات السبع، ويقال إنه كان شاعراً والمفضل الضبي (ت 168هـ) وله المفضليات وهي أقدم ماجمع من الشعر ووصل الينا. ثم هنالك خلف الأحمر (ت 180هـ) وكان راوية للشعر عالماً به ومؤدباً، وعليه تخرج أبو نؤاس في الشعر . ويلحق بهؤلاء أبو عبيدة معمر بن المثنى ( ت 209هـ ) وهو كثير الرواية للاخبار والاشعار ، ثم هناك الاصمعي (ت 214هـ ) وهو أوسع الرواة حفظاً للاشعار والاخبار وأوثقهم واعلمهم باللغة وكانت له كتب كثيرة (فروخ ، 1972 : 248).
... أما الأدب والانشاء في العصر العباسي فقد تطور كثيراً بفضل التلاقح الفكري والامتزاج مابين الاسلام والحضارات الاخرى، ولعل عبدالله بن المقفع (ت 142هـ) خير من يمثل هذا الاتجاه لاسيما في كتابه " كليلة ودمنة " المنسوب لأصل فارسي مأخوذ عن اصل هندي . وتعد هذه المحاولة الأولى لمزج الثقافات مع بعضها (أمين ، ج1 ، 1933 : 218).
... أما الشعر فقد كان ميداناً للاراء المتضاربة من الفلسفات المتقدمة، مع ان الشعر يفتقد إلى عنصري التنظيم والتعليل ، لكن مع ذلك كان يعبر عن آراء اصحابه وميولهم الدينية والسياسية كشعر بشار بن برد ودعبل الخزاعي وأبي تمام (فروخ ، 1972: 250).
... أما النحو فقد نشأ فيه مذهبان منذ بداية العصر العباسي هما ( فروخ، 1972 : 249):
- ... مذهب أهل البصرة الذين يستخدمون القياس وخير ممثل له سيبويه (ت 180هـ) وله كتاب يسمى (الكتاب) كبير جمع فيه اقوال الذين سبقوه ورتبها وبوبها.
- مذهب اهل الكوفة الذين أجازوا السماع ويمثلهم الكسائي (ت 189هـ) وكان من القراء والنحاة ويعتمد على مايسمعه.
4 - ... علم التأريخ :(1/18)
... (( من الفنون التي نشأت من الحاجة إلى حسن فهم الدين فنّ التاريخ )) (فروخ، 1972 : 253) . وقد تنوع التأريخ عند العرب المسلمين وشمل :
- المغازي (تاريخ غزوات الرسول وسراياه) ولعل اشهر من ألف في هذا الجانب عبدالملك بن هشام ( ت 219هـ) فقد ألف كتاب السيرة النبوية التي تعرف باسم سيرة ابن هشام.
- الفتوح ( التي تتحدث عن توسع العرب المسلمين بالفتح أيام الخلفاء الراشدين والدولة الأموية) ومنهم أبو عبدالله محمد الواقدي (ت 207هـ) صاحب فتوح الشام وعبدالرحمن بن عبد الحكم (ت 257هـ) صاحب كتاب (( فتوح مصر والمغرب))، وأحمد البلاذري (ت 279هـ) صاحب كتاب ((فتوح البلدان)) الذي يُعدّ من الكتب الموثوقة ويتناول فيه الحياة الاجتماعية والادارية فضلاً عن اخبار المعارك والاستيلاء على البلاد.
- الطبقات (ذكر تراجم الصحابة او العلماء أو الأدباء مرتبة بحسب وفياتهم) ككتاب الطبقات الكبرى لصاحبه ابي عبدالله محمد بن سعد (ت230هـ) والمعروف باسم طبقات ابن سعد.
- التاريخ على السنين (سرد الحوادث مفردة سنةً سنةً) كتأريخ الرسل والملوك والمعروف بتاريخ الطبري لصاحبه ابي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) . وهو اعظم كتب التاريخ ويروي الحوادث من طرق مختلفة ، ولو اختلفت الروايات أو تناقضت ، أي أنهُ لايرجح رواية على اخرى بل يترك الأمر للقارئ او الباحث (فروخ، 1972 : 255) . وقد ذكر ابن النديم ان الطبري كان ضليعاً في علوم عدة منها علم القرآن والنحو والشعر واللغة والفقه (ابن النديم ، د.ت : 326) . وهذه دلالة واضحة على موسوعية وشمولية العلماء العرب المسلمين فلم يقتصروا على علم واحد بل انهم ولجوا ابواباً متعددة من العلم.
5 - ... علم الجغرافيا :(1/19)
... إن هذا العلم نشأ عند العرب المسلمين من الحاجة الدينية بالاساس لمعرفة طرق الحج من اقطار البلاد الاسلامية إلى مكة المكرمة، وللرحلة في طلب العلم وللتجارة (فروخ ، 1972 : 255 ) , وساعدت عملية الترجمة على نمو هذا العلم وتطوره، إذ ترجمت كتب الجغرافية مثل كتاب بطليموس الذي عرف عند العرب بالمجسطي (القفطي ، 1903 : 69). ان ترجمة هذا الكتاب كانت فاتحة عهد جديد في تاريخ علم الجغرافيا (ابن النديم ،د.ت: 327) .
- وأول من ألف في هذا العلم ابو جعفر موسى الخوارزمي (ت 232هـ) إذ قام بتأليف كتاب صورة الأرض ( ابن النديم، د.ت :61).
- أبو حاتم السجستاني (ت 255 هـ ) وقد الف كتاب الشتاء والصيف، وكتاب الحر والبرد والشمس والقمر والليل والنهار ( ابن النديم، د.ت: 64).
- الكندي : ابو يوسف يعقوب بن اسحاق ( ت 252هـ) اشتهر بأنه فيلسوف العرب المسلمين ، ويقال إنه أول من اثبت ان سطوح الماء كروية مثل سطوح اليابسة (ابن النديم ،د.ت : 316) . وله مؤلفات كثيرة في الجغرافية منها : رسالة في سبب المد والجزر ورسالة في ان سطح الماء كروي (ابن النديم ، د.ت : 316).
- ابن قتيبة (ت 276هـ) اللغوي والمؤرخ له كتاب في الجغرافية يعرف بـ ( الانواء في مواسم العرب) ( ابن النديم ، د.ت :68).
- البلاذري ( ت 279هـ) في كتابه فتوح البلدان اشارات إلى كثير من المواقع الجغرافية.
- ابن خرداذبة : ابو القاسم عبيد الله ( ت 280هـ ) له كتاب معروف باسم المسالك والممالك ( ابن النديم ، د.ت : 172).
- ابن الفقيه : ابو عبدالله احمد بن محمد بن اسحُق الهمذاني ( ت 280هـ) له كتاب البلدان ويصف فيه الأرض والبحار في الصين والهند وبلاد المغرب ومابين النهرين وبلاد الروم . وقد أفاض في وصف البصرة (ابن النديم ، د.ت : 172 ).
6 - ... العلوم التطبيقية :
... وهي العلوم التي تعتمد المنهج التجريبي مصدر اساسي للوصول إلى الحقيقة كالكيمياء والطب والصيدلة والعلوم الرياضية.(1/20)
- ولعل جابر بن حيان الكوفي (ت 200 هـ ) تلميذ الامام جعفر الصادق - عليه السلام - (ت 148هـ) أول من استخدم المنهج التجريبي في الكيمياء.
- والجاحظ (ت 255 هـ) الذي كان من مفكري المعتزلة أيضاً استخدم الملاحظة والاستقراء والتجربة في كتابه الحيوان ولاسيما عند كلامه عن الحيوانات وطبائعها.
أما في الطب فقد اشتهر علماء كثيرون منهم :
- جبرائيل بن بختيوشع بن جورجيوس (ت 213هـ) كان طبيبا للمأمون العباسي له رسالة مختصرة في الطب (ابن جلجل ، 1955 : 64) .
- الكندي : ابو يوسف يعقوب بن اسحاق ( ت 252هـ) فضلاً عن نبوغه في الفلسفة ، فقد كان عارفاً بالعلوم القديمة ومنها الطب وألف عدداً من الرسائل فيه منها : كتاب في الغذاء والدواء، ورسالته في كيفية الدماغ (ابن النديم ، د.ت : 318).
- حنين بن اسحاق (ت 260هـ) كان بارعاً في الطب الف الكثير من الكتب في الطب منها: كتاب المسائل في الطب للمتعلمين وكتاب اختيار ادوية العين وكتاب تقاسيم علل العين ( ابن النديم ، د.ت : 353).
- اسحاق بن حنين بن اسحاق( ت 298هـ) له كتاب الأدوية المفردة، وكتاب تاريخ الاطباء (ابن النديم ، د.ت : 356).(1/21)
... وكذلك كان للعلوم الرياضية نصيب من اهتمام الحكام ؛ وذلك لحاجة الدولة اليها من مسح الارض المزروعة وتسهيل عملية جبايتها، فقد كان مجلس المأمون حافلاً بهؤلاء العلماء ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي (ت 232هـ) وهو رياضي وفلكي ولاه المأمون منصباً عالياً في بيت الحكمة واشتهر بكتابه الجبر والمقابلة الذي ألفه بتكليف من المأمون (ابن النديم ، د.ت : 233 ) . ولذلك يُعدّ أول من الف في علم الجبر، وفضل الخوارزمي انه وضع كلمة (( جبر )) للعلم الذي وسّعهُ حتى صار ينسب اليه، فهو أحد مؤسسي علم الجبر مستقلاً عن الحساب والهندسة، وكذلك هو الذي عرف الغربيين بنظام الترقيم الهندي ( فروخ ، 1972: 301). ويقول في كتابه الجبر والمقابلة : لقد شجعني المأمون على تأليف كتاب مختصر من كتاب الجبر والمقابلة، لملائمة حاجة الناس في مواريثهم ووصاياهم، وفي مقاسمتهم واحكامهم وتجارتهم، وفي جميع مايتعاملون به بينهم (فروخ ، 1972: 302).
... أما علم الفلك فقد حظي باهتمام الحكام، إذ كان المأمون يستعمل النظر في احكام النجوم وقضاياها وينقاد إلى موجباتها، واجتهد بمطالعة الكتب القديمة ودراستها (المسعودي، ج4 ، 1965 : 227) . وكانت مجالسه حافلة بأشهر الفلكيين أمثال سند بن علي الذي كلفه المأمون باصلاح مرصد الشماسية ببغداد (القفطي ، 1903 : 309).(1/22)
... كذلك نبغ المسلمون في علوم الكيمياء والفيزياء ومنهم ابو بكر محمد بن زكريا الرازي (ت 312هـ) والذي جمع بين الكيمياء والطب، إذ قام بتطبيق الكيمياء على الطب ، وله مؤلفات منها : المدخل البرهاني، وكتاب الحجر، وكتاب شرف الصناعة، وكتاب الاسرار ، وكتاب سر الاسرار (ابن النديم ، د.ت: 423). أما في الفيزياء الذي كان يسمى عند المسلمين (( الحيل )) فقد اشتهر عدد من العلماء في هذا المجال منهم الثلاثي المعروف محمد والحسن وأحمد ابناء موسى بن شاكر، إذ كانوا من ابرز المهندسين الذين اشتغلوا بالميكانيك ولهم تآليف تعرف بحيل بني موسى . (الأندلسي، د.ت : 55).
... وعلى الرغم من هذه اللمحة المختصرة لتاريخ العلوم في الاسلام يتضح لنا أمر وهو عمق العقلية الاسلامية وقدرتها على الابداع والاختراع بما يتفق ، وحاجاتها ومتطلبات حياتها، وقد لانغالي عندما نقول بانها كانت الأسس الحقيقية التي بنيت في اعقابها وبرزت في وقتنا الحاضر ابداعات الانسان الحالي في مجالات العلم المختلفة.
عصر انقسام الدولة العباسية إلى دويلات:
... لما ضعف شأن الخلافة وهان سلطانها واخذت الاقطار الاسلامية تنفصل عن بغداد شيئاً فشيئاً . ففي سنة (324هـ) اصبحت البصرة في يد ابن رائق . وفارس في يد علي بن بويه، واصبهان والري والجبل في يد ابي علي الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وربيعة في ايدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الاخشيدين، وافريقيا والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وماوراء النهر في يد السامانيين ، طبرستان وجرجان في يد الديلم، وخوزستان في يد البريدي، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة ، ولم يبق للخليفة إلا صفة الاسم (ينظر: الخضري ، د.ت : 30).(1/23)
... إلا ان هذه الانقسامات داخل الدولة الاسلامية لم تؤثر على النهضة الفكرية، بل على العكس فمثلما حرص كل أمير أو سلطان على الانفراد بما تحته من بلاد كان أحرص على ان يكون بلاطه ممتلئاً بالعلماء والادباء والشعراء والفلاسفة واصحاب الكلام والفقهاء ، والاكثر من هذا كان الامراء يتفاخرون بعدد العلماء والادباء والشعراء في قصورهم ويغدقون عليهم الهبات والعطايا ، ويُشير أحمد امين إلى ان انقسام المملكة الإسلامية وإن ادى إلى ضعف كبير في السياسة، وجعل العدو الخارجي كالروم يطمع فيهم، ويهاجمهم على كل حين ويستولي على بلادهم شيئا فشيئاً، إلا إن ذلك لم يؤدِ إلى ضعف النهضة الثقافية ، فهو يرى ان الحالة العلمية لاتتبع الحالة السياسية قوةً وضعفاً. فقد تسوء الحالة السياسية إلى حد ما ، وتزدهر بجانبها الحياة العلمية وذلك يرجع إلى أن كثرة الاضطرابات وانتشار الظلم في المجتمع قد يحمل كثيراً من عظماء الرجال، وذوي العقول الراجحة ان يتركوا العمل السياسي ويركنوا إلى العلم والمعرفة، لانهم يجدوا العمل السياسي يعرض ارواحهم للازهاق واموالهم للمصادرة، أما العمل العلمي يضفي عليهم جواً خاصاً هادئاً مطمئناً، يضاف إلى ذلك احترام الامراء والقادة للعلماء اذا لم يتعرضوا للسياسية (أمين ، ج1 ، 1969 : 96).
... وقد كانت مكانة العلم والأدب ، والنهضة العلمية والثقافية ، والتطور الحضاري بعد الانقسام واضحة مرموقة، فقد كانت هنالك مدن كثيرة تميزت بقوة الحركة العلمية والادبية، وكانت مناطق جذبٍ للعلماء والأدباء ، مثل بغداد والبصرة والكوفة في العراق، والري واصبهان في فارس، وبخارى في العهد الساماني، وغزنة في عهد السلطان محمود الغزنوني، وحلب في عهد الحمدانيين، ومصر وقرطبة ودمشق وغيرها.(1/24)
... ويصف لنا المقدسي هذه البلدان: فيصف العراق قائلاً: انه اقليم الظرفاء ، ومنبع العلماء ، لطيف الماء، عجيب الهواء، مختار الخلفاء، اخرج ابا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القرّاء، ومنه كان ابو عبيدة والفرّاء وحمزة والكسائي ، وكل فقيه واديب ، وسري وحكيم وأواه وزاهد نجيب، وظريف ولبيب، أليس به البصرة التي قوبلت بالدنيا وبغداد الممدوحة في الورى، والكوفة الجليلة وسامراء (المقدسي، 1906 : 113) . ثم تحدث عن بغداد قائلاً: بغداد لاهلها الخصائص والظرافة والقرائح واللطافة، هواء رقيق ، وعلم دقيق، وكل جيد بها وكل حسن فيها، وكل حاذق منها، وكل قلب اليها ، وكل حرب عليها، وهي اشهر من ان توصف، وأحسن من ان تنعت ، واعلى من ان تمدح (المقدسي ، 1906 : 119).
... واما اصبهان والري فقد كانتا كعبة يؤمهما العلماء، ورجال الأدب ولاسيما ايام الصاحب بن عباد الذي تقلد الوزارة لمؤيد الدولة البهويهي، ويتحدث المقدسي عن الري في العهد البويهي فيقول: ليست بعد بغداد في الشرق أعمر منها وقد خرجت كثيراً من العلماء المعروفين (المقدسي ، 1906 : 384).
... أما البلاط الساماني في بخارى فيصفه الثعالبي بهذه الكلمات : كانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد ، وكعبة الملك، ومجمع افراد الزمان، ومطلع نجوم ادباء الارض وموسم فضلاء الدهر ( الثعالبي ، ج4 ، 1986 : 95). وكانت مكتبة نوح بن نصر الساماني : عديمة المثل فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لايوجد في سواها ولاسمع باسمه (ابن خلكان ، ج1 ، 1948 : 152-153).
... وكذلك الدولة الغزنونية كانت مركزاً علمياً نبغ فيه كثير من رجال العلم والأدب، وقد اهتم السلطان محمود ببناء مدرسة تشمل على تصانيف الائمة الماضين من علوم الاولين والاخرين، يرتادها فقهاء دار الملك وعلماؤها للتدريس والنظر في علوم الدين ، وقد نسب إلى مدينة غزنه عدد لايحصى من العلماء (امين ، ج1 ، 1969 : 280).(1/25)
... والبلاط الحمداني في الموصل وحلب كان أعمر بالعلماء والادباء، فقد كان حضرة سيف الدولة : مقصد الوفود وموسم الادباء وحلبة الشعراء، ويقال إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وكان اديباً وشاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز لما يُمدح به (الثعالبي ، ج2 ، 1986 : 11).
... وأما مصر فقد تتابعت عليها حكومات متعددة كالطولونية والاخشيدية والفاطمية وأشتهر العصر الطولوني بمصر بطائفة كبيرة من العلماء المحدثين والمتصوفة والادباء والشعراء والمؤرخين منهم : القاضي بكار بن قتيبة ، وابو الفيض ذو النون المصري المتصوف ، والربيع بن سليمان، وابن عبدالحكم المؤرخ . أما الأدب فقد بلغ في العصر الطولوني درجة عالية من التقدم، فيقال: إن كتاباً لايقلّ حجمه عن اثنتي عشرة كراسة، وكان يحوي فهرسة شعراء ديوان ابن طولون ، فإذا كانت اسماء الشعراء من اثنتي عشرة كراسة فكم يكون عددهم وكم يكون مقدار شعرهم (المقريزي ، ج1 ، 1854 : 321).
... والعهد الأخشيدي (323هـ –358هـ) كان كثير الفقهاء والأدباء والمؤرخين والشعراء، ولم تكن هنالك مدارس في العهد الطولوني والاخشيدي وانما تلقى الدروس في المساجد كمسجد عمرو ، وابن طولون، وفي بيوت الامراء والوزراء والعلماء، وكانت هناك (( سوق الوراقين)) تباع فيها الكتب واحياناً تدور في دكاكينها المناظرات (امين ، ج1 ، 1969 : 164).(1/26)
... ولم يكن العهد الفاطمي (267هـ – 567هـ) أقل اهتماماً بالعلم والادب من العهدين السابقين، بل لعلّه كان أغنى وأكثر إذ اتخذ الفاطميون من قصورهم مراكز لنشر الثقافة الشيعية خاصة ، والاسلامية عامة . والحقوا بها مكتبات تحتوي على مئات الالوف من المصنفات تربو على 180.000 مجلداً في العلوم القديمة (المقريزي ، ج1 ، 1854 : 407) . فقد اسس الحاكم الفاطمي سنة (395هـ) دار الحكمة ، والحق بها مكتبة اطلق عليها ( دار العلم) حوت مالم يجتمع مثله في مكتبة من المكتبات واجرى على من فيها من العلماء الارزاق ، وجعل فيها مايحتاج اليه المطالعون والنُساخ من الحبر والاقلام والورق (المقري، ج1، 1968 : 318).
... وقد بقي العراق في العهد البويهي صاحب الصدارة في العلم والأدب والفلسفة، ونشطت حركة الفلسفة والنقل في العراق وكان من ابرز علمائه ابو سليمان المنطقي محمد بن طاهر السجستاني الذي وصفه تلميذه ابو حيان أنه أدق العلماء نظراً واصفاهم فكراً (التوحيدي ، ج1، د.ت : 33).
... أما الحركة الادبية في هذا العهد فقد كانت غزيرة الجانب مرفوعة اللواء، وقد خدم البويهيون العلم والأدب خدمة كبرى، فقد كانوا يحبون العلم والأدب ولا يستوزرون أو يستكتبون إلا العلماء والادباء، وقد كان وزراء هذا العهد مع قدرتهم الإدارية وحنكتهم السياسية فحول أدب ايضاً. ومن اشهرهم ابن العميد صاحب الشهرة العريضة والصيت الذي قيل فيه (بدأت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) (ابن خلكان ، ج1 ، 1948 : 200).
... والصاحب بن عباد المعتزلي وزير مؤيد الدولة فقد كانت مجالسه العلمية والادبية أشهر من أن توصف وكانت تضم من فحول العلماء وأساطين الادب والفقهاء مالايحصى كثرة ، والوزير المهلبي الذي كان وزيراً لمعز الدولة، فقد كان من ارتفاع القدر واتساع الصدر وعلو الهمة ، وفيض الكف على ماهو مشهور به وكان غاية في الأدب والمحبة لأهله (ابن خلكان ،ج1 ، 1948 : 200).(1/27)
... ومن خلال ماتقدم نقول ان هذه الفترة من تاريخ الدولة الاسلامية كانت وافرة العلم والادب، فقد أنتج هذا العهد كثيراً من العلماء في كل علم مثل ابراهيم المروزي والطحاوي، وابن سريج، والماوردي، وابي بكر الجصاص في الفقه، والدار قطني والنيسابوري وابن حبان وابن مندة والبيهقي في الحديث وابي علي الفارسي وابن دريد والنحاس والزجاج وابن درستويه، وابن السراج، والسيرافي والرماني في النحو واللغة، والمتنبي وابي فراس والنامي والناشيء، وابن حجاج وابن سكرة والسلامي وابن لنكك في الشعر، وابي اسحاق الصابي والخوارزمي وجحظة البرمكي، وبديع الزمان الهمذاني وعلي بن عبدالعزيز الجرجاني وابي هلال العسكري وابن العميد وابن عباد والشريف المرتضى والقاضي التنوخي والزوزني والأزهري صاحب الصحاح ، وابي الفرج الاصفهاني والشريف الرضي في اللغة والأدب . والطبري وابن زولاق والشابشي في التاريخ، وابن خرداذبة، والاصطخري وغيرهما في الجغرافية ، والجبائي ، وابي الحسن الاشعري، والكعبي، والبلخي ، وابي اسحاق الاسفراييني، وابي بكر بن فورك، وابي منصور الماتريدي، وابي الليث السمرقندي، والقاضي عبدالجبار الهمذاني في علم الكلام ، وابي سليمان المنطقي ، وابن بطلان، ويحيى بن عدي، وابي زرعة، وابن مسكويه، وابي بكر الرازي ، وابن الخمار، والفارابي، وابن سينا ، والبيروني في الفلسفة ، وابي منصور الحلاج وأبي طالب المكي وغيرهما في التصوف.
فكل هؤلاء وغيرهم كانوا يمثلون قمة الاتجاه العلمي والثقافي في الدولة الاسلامية وبفضل ابحاثهم القيمة وآرائهم الاصيلة بقيت جذوة العلم متقدة القرون في البلاد الاسلامية .
في عهد السلاجقة والأتابكة :(1/28)
... عندما كان السلاجقة يحكمون الجانب الشرقي الشمالي من العالم الإسلامي، كان الايوبيون ينشطون في الجانب الجنوبي والغربي من العالم الإسلامي، ولم يصطدم الايوبيون بالسلاجقة، فإن الاولين حلوا محل الفاطمين والاتابكة، بينما الاخيرون ورثوا البويهيين والدويلات التي عاصرت البويهيين في المشرق. إلا إن الأيوبيين والسلاجقة كانوا يقاتلون الافرنج الصليبيين كأنهم اصحاب دولة واحدة (حتي، 1974 : 762).
... أما الخصائص الفكرية لهذا العصر:
... فقد قلَّ الابتكار في هذا العصر وكثرت الموسعات في اللغة والنحو والبلاغة والشروح على الشعر خاصة وعلى النثر أيضاً . واتسع التأليف في الجغرافية والتاريخ، وبخاصة في طبقات رجال الادب والدين والطب والرياضيات والفلسفة . وكثر الشعر الديني في التصوف والبديعيات (مدح الرسول) وبرز الفن التعليمي في الحِكَم وفي نظم فنون العلم (فروخ ، 1972 : 538-539).(1/29)
... وإن من الادباء في هذا العصر : الخطيب التبريزي (ت 502هـ) وله شرح المعلقات . ومنهم ابن الهبارية البغدادي (ت 509هـ) ومنهم الطغرائي (ت 514هـ) الشاعر الحكيم وكان من المشتغلين بصناعة الكيمياء ومنهم الحريري (ت 516هـ) صاحب المقامات ومنهم الميداني النيسابوري (ت 518هـ) صاحب الامثال، وكمال الدين الانباري (ت 577هـ) صاحب كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف، ومنهم عبدالرحيم بن علي العسقلاني المعروف بالقاضي الفاضل (ت 596هـ) . ومنهم عماد الدين الاصفهاني (ت 597هـ) صاحب خريدة القصر وجريدة اهل العصر. ومنهم ابو البقاء العُكبري البغدادي (ت616هـ) وكان الغالب عليه النحو. ومنهم الأديب الشاعر ابن ابي الحديد (ت 655هـ) وكان فقيهاً معتزليا له شرح نهج البلاغة للامام علي - عليه السلام - . ومنهم الزمخشري (ت 513هـ) وكان اديباً شاعراً مترسلاً لغوياً، كما كان فقيهاً اصوليا متكلماً عارفاً بالتفسير والحديث صاحب تفسير (الكشاف عن حقائق التنزيل) وكان على مذهب المعتزلة. ومنهم هبة الله ابو القاسم بن الحسين المعروف بالبديع الاسطرلابي (ت 534هـ) اشتهر بعمل آلات الرصد (الاسطرلابات) . ومن العلماء ابو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني ( ت 548هـ) صاحب كتاب الملل والنحل، وكان على مذهب الاشاعرة . ومن المؤرخين الحافظ بن عساكر (ت 571هـ) محدث الشام ومن فقهاء الشافعية ، صاحب تاريخ دمشق – ومنهم ابو الفرج ابن الجوزي (ت 597هـ) صاحب المنتظم في تاريخ الامم. ومنهم الفخر الرازي (ت 606هـ ) وله المحصل (محصل افكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين) . وكان الفخر واعظاً كبيراً ومن فقهاء أهل السنة ومفكري الاشاعرة ينحو نحو الغزالي في كثير من الأمور (فروخ ، 1972 : 539 –543).
الفرق التي مثلت علم الكلام في الفترة العباسية:
... كان على رأس هذه الفرق المعتزلة اصحاب الجدل والكلام ومن ثم جاء الاشاعرة، وسنتكلم عنهما في الفصل القادم.(1/30)
1 - ... اخوان الصفا :
... يرجع نشوء اخوان الصفا إلى البصرة في مطلع القرن الرابع الهجري، أما اسمهم فأخذوه من باب الحمامة المطوقة في كتاب كليلة ودمنة ليدلَّ على صفوة الأُخُوّة (اخوان الصفا ، ج1 ، د.ت : 62).
... وكانت غايتهم بحسب مايصرحون اصلاح الدين والدنيا، والاقتداء بالحكماء الفيثاغوريين من الحكماء على الاخص، وان مذهبهم النظر في جميع العلوم الطبيعية والرياضية والإلهية ، وإنهم لايعادون علماً من العلوم ولامذهباً من المذاهب (فروخ، 1972 : 378) ، وقد استطاعت هذه الجماعة أو الطائفة ان توفق مابين العلم والدين وبين الفلسفة اليونانية والشريعة الاسلامية وتوحيد الثقافة في صورة دائرة معارف ولهم رسائل بلغت من عددها (52 رسالة) آخرها الرسالة الجامعة والذي يطلع على هذه الرسائل يرى أن مؤلفيها كانوا على درجة عالية من الرقي العقلي، ورسائلهم تقوم على العلم الطبيعي ( حسن ، 1984 : 341).
وقد كان اخوان الصفا يدعون إلى العيش في مدينة روحانية مشتركين في العلم والمال، تربطهم الصداقة والنصيحة وحسن المعاملة، ثم النظر في جميع الموجودات والبحث عن مبادئها وعلة وجودها وعن مراتب نظامها والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها. وإن الانسان الذي يطلب النجاة في الآخرة هو الجامع لفضائل الأمم والاديان كلها، والنجاة لاتكون بالعبادة والاخلاق فقط بل بالاحاطة بالعلوم والمعارف (فروخ ، 1972 : 380).
... وإن الذي يمعن النظر في رسائل الاخوان يرى إنهم اهتموا بالتربية باعتباراها الاداة الفاعلة في اعداد مجتمع فاضل يتسم بالحكمة والمعرفة، ومن ثم تكوين دولة الخير التي تأتي بعد دولة الشر، فهم اعتبروا مهمة اعداد المجتمع من الخطوات الاولى لقيام دولة صالحة وعولوا على التربية في ذلك .
2 - ... التصوف (المتصوفة) :(1/31)
... وهو حركة بدأت زهداً وورعاً ورغبة في البُعد عن ملذات الدنيا ثم تطورت، فاكتملت نظاماً شديداً في العبادة ثم اصبحت اتجاهاً نفسياً وعقلياً مبتعدة عن مجراها الأول وعن الاسلام في كثير من أوجهها المتطرفة (فروخ، 1972: 470).
... أما كلمة متصوف فيقال إنها مشتقة من الصوف ؛ لأن الزُهادّ والعُبادّ الاوائل كانوا يلبسونه، وهناك آراء تنسب الصوفي إلى الصف الأول من المؤمنين أو إلى المسجد النبوي ؛ لانه مأوى الفقراء. (العلاق ، 1997 : 38).
... ويُعدّ القرن الأول الهجري عصر الزهد ، وهو عصر الصحابة والتابعين، أما عصر التصوف في تاريخ الاسلام فقد بدأ في القرن الثاني للهجرة عندما جنح الناس إلى مخالطة ملذات الدنيا، ذهب نفر من الناس إلى العبادة أطلق عليهم الصوفية أو المتصوفة(عبدالحميد ، 1987 : 44).
... وقد مرّ التصوف بثلاثة أدوار فقد مثل الدور الأول كل من ابراهيم بن ادهم ورابعة العدوية (صاحبة العشق الإلهي) ومعروف الكرخي أما الدور الثاني فيمثله بشر الحافي وذو النون المصري وابو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي (الذي اخرج الزهد الديني إلى النظر العقلي) أما الدور الثالث الذي كثر فيه الشطح والشعوذة فيمثله الحسين بن منصور الحلاج (الذي قتل لآرائه السياسية) ومنهم علي بن محمد المزيّن (الذي يقول بالمشاهدة للعزة الإلهية ) ( فروخ ، 1972 : 471-472).
... من خلال كل ماتقدم من ذكر العوامل الثقافية يستطيع الباحث ان يستنتج مايأتي:
1- العوامل الجغرافية : ان البيئة الجغرافية التي نشأت فيها مدرستي المعتزلة والاشاعرة كانت تمتاز بخصائص منها:
أ- المناخ المعتدل : وهذا يُعد عامل مهم ومؤثر جداً في خلق روح الأبداع والابتكار عند الفرد، فضلاً عن ان هذا العامل يساعد على التأمل الفكري.
ب- الموقع الجغرافي : أمتازت مدينتي البصرة وبغداد بموقع جعلهما مناطق مهمة ومعابر رئيسة للتجارة ومكان لألتقاء وامتزاج الأفكار والثقافات.(1/32)
2- المكانة السياسية: أتسمت مدينتي البصرة وبغداد بمكانة مهمة جداً من الناحية السياسية، مما جعل هذا الأمر أن يكون هناك أهتمام مستمر ومتواصل بالمرافق الحيوية للمدينتين، وهذا الاهتمام كان عاملاً رئيساً لأجتذاب السكان أليهما من كافة الأعراق والاديان، مما جعلهما بودقة لصهر الافكار وتفاعلها مع بعض تحت غطاء الأسلام.
3- المستوى الاقتصادي: لقد بلغ المستوى الاقتصادي للمدينتين رقياً وتقدماً عالياً، وهذا مما أنعكس ايجابياً على دخل الاسرة، وجعلها تهتم بتعليم ابناءها.
4- العوامل الاجتماعية: لقد امتاز مجتمع البصرة وبغداد بأنه كان يضم اعراقاً مختلفة وثقافات متنوعة ، مما ادى بهِ إلى ان يكون مجتمعاً منفتحاً يتسم افراده بالروح الاجتماعية العالية التي جعلتهم يتفاعلون مع المجتمعات الأخرى مؤثرين ومتأثرين.
5- درجة التقدم الحضاري : تمتع المجتمع بدرجةٍ عالية من التقدم والرقي الحضاري لاسيما في العصر العباسي الذهبي ، زمن هارون الرشيد وأبنهِ المأمون، اذ اصبحت بغداد السلام تفوق مدن الأرض حضارة وتقدماً، وهذا التقدم من الطبيعي ان ينسحب على المدن الاسلامية الأخرى ، ولاسيما البصرة.
6- الحالة الفكرية: الفكر نتاج البيئة التي ينشأ فيها ، وبما ان البيئة التي نشأت فيها مدرستا المعتزلة والاشاعرة كانت تمتاز بخصوبتها وتميزها في نواحٍ متعددة ؛ لذلك جاء الفكر متنوعاً وخصباً.
... في ضوء ذلك نقول : ان التربية والتعليم في مدينتي البصرة وبغداد كانت على مستوٍ عالٍ من التقدم ، وكانت تتفق ودرجة التحضر والرقي الذي تميز به مجتمع المدينتين.
المبحث الثاني
دراسات سابقة(1/33)
... يتناول هذا المبحث الدراسات التي لها علاقة على نحو ما بالدراسة الحالية، ولم يألو الباحث جهداً في سبر غور المكتبات والبحث عن طريق الانترنت للكشف عن دراسات سابقة تتناول الموضوع الحالي بشكل مباشر، الا انه لم يتم العثور على مثل تلك الدراسات ، عدا تلك الدراسات التي اعتمدها الباحث في الرجوع لمعرفة المصادر الاولية عن دراسته، اذ تناولت المعتزلة والاشاعرة من جوانب مختلفة في ارائهم ونظرياتهم، والباحث لم يدرج هذه الدراسات ضمن الدراسات السابقة باعتبارها لم تكن دراسات اكاديمية (رسائل واطاريح) ، لذا سيعرض الباحث بعض الدراسات التي تناولت موضوع الفكر التربوي العربي الاسلامي عند شخصيات اسلامية وعلى وفق تسلسلها الزمني للافادة منها في منهجية البحث الحالي وكما يأتي:
1 - ... دراسة فهد ، ابتسام محمد 1995
... الموسومة بـ (( الفكر التربوي العربي الاسلامي لبعض فلاسفة العرب المسلمين بين القرنين الرابع والسادس الهجريين)) .
هدف الدراسة: تهدف الدراسة إلى تعرف الفكر التربوي العربي الاسلامي من خلال التعريف لاراء مفكرين اسلاميين خلال القرون الثلاثة.
منهج الدراسة: اتبعت الباحثة المنهج التاريخي الوصفي التحليلي المقارن، وقد عرضت العوامل الثقافية التي شكلت الفكر عند كل من المفكرين موضوع الدراسة كما عرضت الرؤية الفكرية لكلٍ من المفكرين في : الله والوجود، والطبيعة الانسانية بمكوناتها والاخلاق والمعرفة، ثم بعد ذلك الاسس والمبادئ التربوية بعد دراسة المصادر الأولية، وتحليل نصوص كتابات المفكرين الثلاث ومقارنتها لمعرفة أوجه الاختلاف والتشابه في الفكر التربوي خلال القرون الثلاثة.
نتائج الدراسة: لقد توصلت الباحثة إلى موقف المفكرين الثلاثة من عناصر العملية التربوية كالاتي:
أ- الاهداف التربوية : كانت الاهداف التربوية عندهم: توحيد الله ، تنمية واكساب المتعلم الاخلاق الحميدة ، تنمية القدرات العقلية عند المتعلم.(1/34)
ب- مراحل التعليم: اتفق المفكرون إلى تقسيم التعليم على ثلاث مراحل.
ج- المناهج: تنوع المنهج عند المفكرين بحسب مراحل الدراسة والاهداف التي يبغي في كل مرحلة تحقيقها.
د- طرائق التدريس: هناك طرائق متعددة منها : التلقين والتكرار ، المناظرة، الطريقة الصوفية، تجارب العرض، الطريقة الاستكشافية، التقليد، المحاضرة.
هـ- ... المعلم: حددوا له بعض المواصفات والشروط وأوجبوا عليه استيفاءها ليكون لائقاً لمهنته.
و- التطبيقات التربوية : أقر المفكرون الثلاثة مجموعة من التطبيقات هي : تكافؤ الفرص، اللعب والتربية البدنية ، مراعاة الفروق الفردية ، استعمال الوسائل التعليمية، التوازن بين العوامل النفسية والبيئية ، الميول واثرها في تكوين الشخصية، وقت الفراغ ، ضبط الدوافع واعلائها.
2 - ... دراسة الشيخاني، ندوة محمد محمد شريف 2003 م
... الموسومة بـ(( الفكر التربوي في الاندلس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين – الحادي عشر والثاني عشر )) .
هدف البحث: تعرف الفكر التربوي في الاندلس من خلال التعرف على الفكر التربوي لدى ثلاثة مفكرين هم : ( ابن عبد البر النمري القرطبي، ابن حزم الاندلسي، ابن باجة) ، ومعرفة اوجه التشابه والاختلاف بين المفكرين الثلاثة.
منهج البحث: اتبعت الباحثة المنهج التأريخي الوصفي التحليلي ، فعرضت العوامل الثقافية التي شكلت الفكر عند كل مفكر ثم عرضت حياة كل منهم ، ثم تناولت الرؤية الفلسفية لكل مفكر في المفهومات الآتية ( الله، الطبيعة الانسانية ومكوناتها ، والعلم والمعرفة مع اجراء مقارنات ضمنية لمعرفة التشابه والاختلاف فيما بينهم .
نتائج البحث: لقد توصلت الباحثة إلى موقف المفكرين الثلاث من عناصر العملية التربوية وكان الآتي:
1- الاهداف التربوية : يجب ان لايكون الهدف دنيوياً فقط بل يجب ان يشمل ارضاء الله والفوز في الآخرة، وتأكيد بناء شخصية المتعلم بكافة جوانبها.(1/35)
2- المعلم : حددوا له كفايات وأوجبوا عليه التحلي بها.
3- المتعلم : فقد اوصى المفكرون بجملة آداب على المتعلم ان يتحلى بها منها: ابتغاء طاعة الله وطلب العلم للانتفاع به والنفع به، والاقبال على العلم برغبة ودافعية ونشاط، وان يلتزم الموضوعية والدقة في اطلاق الاحكام.
4- المنهج الدراسي: يبنى في اعطاء الأولوية لعلوم الشريعة وان يعمل على تهذيب المتعلم ، وان يكون خاضعاً لملاحظة الحواس ويتضمن النحو واللغة والشعر والعدد والتاريخ وان يكون هناك ترابط وتكامل بين العلوم.
5- طرائق التدريس: أكدوا على الطرائق التدريسية التي تؤثر في المتعلمين وتمنحهم فرصة المشاركة في الدرس كطريقة الاستجواب، ورفضوا اسلوب الحفظ الببغاوي بوصفه يضر بالمتعلم ولايفيده.
6- مراحل التعليم: أكدوا ان تقدم الخبرات والعلوم حسب المراحل العمرية للمتعلمين وبما يناسب خصائص النمو وحاجاته.
... وكما وضعت الباحثة بعض الأولويات من المبادئ التي تحدد معالم الفكر التربوي العربي المنشود وهي:
... المبدأ الايماني – المبدأ الأخلاقي – مبدأ التربية المتكاملة – مبدأ الفكر الناقد – مبدأ الابداع – مبدأ العمل – المبدأ الديمقراطي – مبدأ التربية المستمرة – مبدأ الانسانية – مبدأ الارشاد والتوجيه.
3 - ... دراسة الزهيري ، عبدالكريم محسن 2003 م
... الموسومة بـ (( الفكر التربوي في العراق خلال القرن العشرين))
هدف البحث: يهدف البحث إلى تعرف الفكر التربوي في العراق خلال القرن العشرين من خلال تناول ثلاثة من مفكري العراق وهم : فهمي المدرس، محمد بهجة الأثري، عبدالعزيز البسام.
منهج البحث: اتبع الباحث المنهج الوصفي المقارن، فعرض العوامل الثقافية المؤثرة في الفكر التربوي في العراق، ثم تناول حياة كل مفكر وعرض الفكر التربوي لكل مفكر ثم بعد ذلك اجرى مقارنات بين المفكرين لمعرفة اوجه التشابه بين وجهات نظر المفكرين وأوجه الاختلاف.
نتائج الدراسة:
... توصل الباحث إلى :(1/36)
أ- تأكيد المفكرون الثلاثة على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وعدهما المصدر الرئيس في بناء الفكر التربوي العربي الاسلامي.
ب- ان المفكرين اهتموا باللغة العربية وأكدوا التعليم بالفصحى ولكافة مراحل الدراسة.
ج- ان المفكرين كانوا يتمتعون بفكر تربوي عربي اسلامي، وقد احسنوا الاقتباس في بعض الاحيان من النظريات الغربية بما يتلائم والمجتمع العراقي.
4- دراسة المشايخي ، اركان سعيد خطاب 2004
... الموسومة بـ : ( الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى الرازي والنووي وابن قيم الجوزية)) .
هدف البحث: هدف البحث إلى :
1- تعرف الفكر التربوي العربي الاسلامي لدى بعض أعلامه : فخر الدين الرازي، والنووي، وابن قيم الجوزية.
2- معرفة أوجه التشابه والاختلاف بين المفكرين الثلاثة.
منهجية البحث : اتبع الباحث المنهج التاريخي الوصفي التحليلي فقام بعرض العوامل الثقافية التي اثرت في كل واحد من المفكرين، ثم تناول حياة كل منهم وبعد ذلك قدم الرؤية الفلسفية لكل مفكر من المفكرين موضوع البحث في (الله والكون والطبيعة الانسانية، والعلم والمعرفة).
نتائج البحث: لقد توصل الباحث إلى موقف المفكرين من عناصر العملية التربوية كالاتي:
أ- الاهداف التربوية : لقد اتفق المفكرون على تحقيق العبودية الخالصة لله في حياة الإنسان ، وترسيخ الاخلاق والقيم الإسلامية ، وتعميق مهارات التفكير لدى الانسان، وتنمية العقل الناضج والمتفتح.
ب- المنهج الدراسي: لقد كان القرآن اولى مفردات المنهج ثم بعد ذلك تعلم العلوم الشرعية ومن ثم العلوم الاخرى مثل التفسير واللغة والحديث والفراسة والطب والشعر والبلاغة والرياضيات والهندسة، وحرموا تعليم السحر والتنجيم، وأكدوا على ضرورة الترابط بين العلوم المختلفة في المنهج.(1/37)
ج- المعلم: على الرغم من المنزلة العالية التي يشغلها، فقد حددوا له كفايات تعليمية، وأوجبوا عليه تحصيلها منها: أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، وان يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها، وان يقدم النصح والارشاد للمتعلم، وان ينتمي لمهنته ويحبها.
د- المتعلم: لقد حددوا جملة من الآداب الخلقية والسمات العقلية لطالب العلم منها: ان يطهر قلبه من الأخلاق السيئة ليكون صالحاً لتقبل العلم، وان يتواضع للعلم والمعلم، وان تكون همته عالية لتحصيل العلم وان يربط العلم بالعمل.
هـ- ... طرائق التدريس : اكدوا طريقة المحاضرة ومن ثم استعمال الامثلة لتثبيت المادة العلمية في ذهن المتعلم، كما أكدوا على طريقتي التحليل والاستنباط لانهما تؤديان إلى الأبداع.
و- المبادئ التربوية : لقد توصل الباحث إلى جملة من المبادئ التربوية منها : مبدأ الزامية التعليم – مبدأ التعليم المستمر مبدأ العمل بالعلم – مبدأ احترام الطفولة وحاجاتها – مبدأ تعليم المرأة – مبدأ الفروق الفردية – مبدأ الارشاد والتوجيه – مبدأ التعلم بالممارسة والعمل – مبدأ التعليم الحر.
... كذلك اقترح الباحث صورة لفكر تربوي عربي معاصر.
بعض اوجه المقارنة بين الدراسات السابقة مع الدراسة الحالية:
1- من حيث الهدف : استهدفت الدراسات كلها معرفة ملامح الفكر التربوي العربي الاسلامي من خلال تناولها شخصيات اسلامية ، وقد اتفقت معها الدراسة الحالية في تعرفها على ملامح الفكر التربوي العربي الاسلامي من خلال تناولها للفكر التربوي لدى مدرستي المعتزلة والاشاعرة.
2- من حيث المنهجية : اتفقت الدراسة الحالية مع الدراسات السابقة في اتباع نفس منهيجة البحث العلمي ، ولكن الدراسة الحالية اختلفت عن الدراسات السابقة بعرضها الاصول الاعتقادية لمدرستي المعتزلة والأشاعرة؛ لاجل تلمس نقاط التشابه والاختلاف بين المدرستين في جوانب الفكر وجوانب التربية.(1/38)
... وقد افاد الباحث من بعض الدراسات السابقة ولاسيما دراستي فهد والمشايخي ، اذ تناولت فهد في دراستها احد ابرز مفكري مدرسة الاشاعرة الا وهو الامام الغزالي، اما المشايخي فإنه تناول في دراسته الامام فخر الدين الرازي وهو يُعد من ابرز مفكري الاشاعرة المتأخرين.(1/39)
المقدمة :
... سيتناول الباحث في هذا الفصل مدرستي المعتزلة والأشاعرة ، وسيكون الحديث اولاً عن مدرسة المعتزلة مبيناً تسميتها، ونشأتها والمدارس التي انضوت تحت لواء هذه المدرسة الاسلامية، ومن ثَمّ الحديث عن دورها في الدفاع عن الاسلام ؛ وذلك لأتفاق هذا الأمر مع أهمية البحث وهذه المواضيع ستكون في المبحث الاول .
... أما المبحث الثاني فسيكون الحديث فيه عن المدرسة الاشاعرة ويتناول الحديث عن تسمية هذه المدرسة، وعن نشأتها وتطورها وأبرز أعلامها وكذلك عن دورها في الدفاع عن الاسلام .
المبحث الأول
مدرسة المعتزلة ، تسميتها ، نشأتها، المدارس التي انضوت تحت لواء هذه الفرقة الاسلامية، دورها في الدفاع عن الاسلام
تسميتها :
... اختلفت الروايات في سبب تسمية هذه الفرقة بالمعتزلة فمن هذه الروايات:
1- روايات تُرجع أصل الاعتزال الى الفترة التي اعقبت مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - متمثلة بعدد من الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الانصاري، واسامة بن زيد بن حارث الكلبي مولى رسول الله – عليه افضل الصلاة والسلام – وتبعهم عدد من المسلمين ، وهؤلاء اعتزلوا عن علي - عليه السلام - وامتنعوا من محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضاية به فسموا المعتزلة وصاروا أسلاف المعتزلة الى آخر الأبد وقالوا . لايحل قتال علي - عليه السلام - ولا القتال معه (القمي ، 1963 : 4-5).
2- وروايات اخرى تُرجع أصل الاعتزال الى موقف سياسي من القتال الدائر بين الامام علي - عليه السلام - ومعاوية بن ابي سفيان، بوصف القتال الدائر بين المسلمين فتنة، فيجب الاعتزال عن هذه الفتنة واللجوء الى العبادة (النوبختي ، 1936 : 5 ).(1/1)
3- روايات تذهب الى ان الاعتزال هو الانشقاق الذي أحدثه " واصل بن عطاء زعيم المعتزلة وواضع لبناتها الاولى " في موقفه ازاء قضية " مرتكب الكبيرة " مخالفاً بذلك شيخه واستاذه العالم الجليل الحسن البصري اذ قال : ان الفاسق من المسلمين في منزلة بين المنزلتين لامؤمن كمال الايمان ولا كافر حد الكفر. فقال الحسن ازاء هذا الرأي من قبل واصل اعتزلنا واصل فمنذ ذلك الحين عرف واتباعه بالمعتزلة (الشهرستاني، ج1، د.ت : 32).
4- وهناك روايات تقول بأن الاعتزال اسم مدحٍ اطلقه المعتزلة على انفسهم وتباهوا به ، قصدهم من ذلك اعتزال الباطل بحسب اعتقادهم (الرازي، 1938 : 39).
5- اما الاسماء التي يطلقها المعتزلة على انفسهم خلاف ماتقدم فهم يسمون أنفسهم " بالعدلية " لقولهم بعدل الله وحكمته أو "الموحدة " لقولهم لاقديم مع الله (الزيدي ، 1961 : 2).
... ويجب ان نقف أمام هذه الروايات المختلفة والتي ذهب أصحابها مذاهب شتى فيها:-
... ولنناقش الروايتين الاولى والثانية :
... فالذي يبدو منهما انه مجرد تطابق في التسمية ليس إلا وذلك :
1- لطول المدة الزمنية التي تفصل الواقعتين اللتين حصل فيهما اعتزال عدد من الصحابة المعركة وظهور الاعتزال كمدرسة فكرية على يد واصل بن عطاء في البصرة.
2- لايوجد تطابق في الافكار بين من اعتزل من الصحابة في الأحداث التي جرت في الجمل وصفين، وأفكار رجال المعتزلة، وبناءاً على ذلك يكون التطابق في التسمية فقط أما التسمية فلا تعود لهاتين الحادثتين.
... أما : الرواية الرابعة فتسقط بمجرد الأطلاع على الرواية الخامسة، فالمعتزلة لم يروا في اطلاق اسم المعتزلة مدحاً لهم أبداً بل كانوا يطلقون على أنفسهم اسم الموحدة أو العدلية، أما لقب المعتزلة فأطلقه عليهم خصومهم.(1/2)
... وبناءاً على ماتقدم وهو الأرجح بحسب ماتذكر لنا المصادر التأريخية ان التسمية الحقيقية لهم انبثقت مع أول اعلان مهم عن موقفهم ازاء مرتكب الكبيرة وذلك في حلقة الحسن البصري في مسجد البصرة بعد أن سُئل الحسن من قبل رجل في رأيه عّمن أرتكب معصية من المسلمين فتفكّر الحسن وقبل ان يجيب أجاب واصلٍ برأيه وهو المنزلة بين المنزلتين ، فعندها قال الحسن اعتزلنا واصل، فشاع هذا الاسم واصبح لصيقاً بكل من يجلس في حلقة واصل، واطلق الناس عليهم اسم المعتزلة منذُ ذلك اليوم (ينظر: الخياط ، 1925 : 164 بتصرف) .
نشأة المعتزلة وتطورها :
... مثّل المعتزلة الصورة الصحيحة للتعامل مع معطيات المرحلة التي مر بها المجتمع الاسلامي بعد الفتوحات الكبرى، ولاسيما بعد التلاقح الفكري والحضاري الذي حدث بين المسلمين من جهة وبين، ابناء الحضارات الاخرى التي سبقت الاسلام والتي عاصرته من جهة اخرى، فقد تمخضت عملية التلاقح مابين الثقافات عن تحديات كبرى واجهت العقيدة الاسلامية . فكانت البيئة الجديدة كثيرة المتغيرات ففرضت على المسلمين طابعاً جديداً في التفاعل مع الاخر عن طريق الحوار أو عن طريق الترجمة للكتب والمقالات ، فأصبحت طوراً مميزاً من الأطوار التي جربها العقل المسلم وهو في طريقه إلى النضوج فكان لابد والحالة هذه أن يتعامل معها العقل المسلم المتنور المنفتح على الاخر بواقعية وموضوعية وشمولية. ولعل المعتزلة خير من مثل الامة الاسلامية في هذا المضمار بعد الفلاسفة.(1/3)
... فالمعتزلة هم مفكروا الأسلام وحملة لواء العلم والمعرفة واصحاب الجدل والحِجاج، هم من فهم العقائد فهماً فلسفياً، وقاموا بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد كيد الزنادقة والملاحدة والكفار في نحورهم، وكان لابد من وجودهم ليقفوا بوجه الأفكار الهدامة التي تعرضت للعقيدة الاسلامية سواءٌ أكانت من الداخل أم من الخارج. فقد ضمت المدرسة الاعتزالية رجالاً امتازوا بالذكاء وسرعة البديهية وجراءة في القول وقدرة على فهم الاحداث السياسية والدينية ومن ثم بالتالي توظيف طاقاتهم الفكرية الخلاقة لايجاد علاقة موائمة وتكيف مابين الاسلام كدين سماوي وطروحات العقل البشري المتمثلة بالفلسفات الشرقية والغربية، فحاولوا من خلال الاصول التي توصلوا اليها بعد البحث والدرس والاستقراء والمناقشات والحوار مع الذات ومع الاخر – معالجة القضايا والاشكالات الداخلية والخارجية التي كان يعاني منها العالم الاسلامي (ينظر: ابو زهرة ، د.ت : 159). وقد نشأت هذه المدرسة في العصر الاموي، وازدهرت ونضجت في العصر العباسي ، وأخذت دوراً مهماً في الساحة الفكرية ومثلت بحق علم الكلام الاسلامي كما أشار إلى ذلك صاحب كتاب مفتاح السعادة بقوله ((أعلم أن مبدأ شيوع الكلام كان بأيدي المعتزلة والقدرية في حدود المائة من الهجرة)) (طاش كُبري زادة ، د.ت : 148) . وبعد ذلك اخذ الفكر المعتزلي بالنضوج والتطور كمدرسة منظمة لها فلسفتها الخاصة في جميع مناحي العقيدة (رمضان، 1986 : 75) ، ولها أتباعها وطلابها الذين يأخذون الاعتزال عن شيوخهم.(1/4)
... وكان ابتداء أمرهم في مدينة البصرة إثر اعتزال واصل بن عطاء وزميله عمرو بن عبيد حلقة الحسن البصري، فهما اللذان يعود اليهما وضع الاسس الفكرية أو الأصول لمدرسة المعتزلة ، وفي مجتمع البصرة نما ونضج فكر المعتزلة، والبصرة حينذاك كانت مرتعاً فكرياً خصباً ظهر على أرضها جهابذة العلم، وأساتذة الفكر، ودورها لاينكر في رفد الفكر الانساني والحضارة العالمية بمعطيات الثقافة. ثم انتقلت أفكار هذه المدرسة إلى بغداد علي يد بُشر بن المعتمر، استجابة للتحديات الفكرية القائمة انذاك والتي تمثلت بحركات الزندقة والشعوبية التي حاولت بعث الحياة في دياناتها القديمة وهدم الاسلام تحت غطاء الاسلام (الراوي، 1982 : 83).
... نضج الفكر الاعتزالي من خلال الأحداث والصراعات والتحديات ولم تظهر المعتزلة بصورة فجائية، بل كانت مدرسة فكرية ، انضوى تحت خيمتها كثير من المفكرين واصحاب الولاءات والانتماءات العرقية والطائفية وأصحاب الغلو فقد كان ((كثير من ذوي الالحاد يجدون في المعتزلة عشاً يفرخون فيه عقائدهم وأراءُهم ويلقون فيه دسهم على الاسلام والمسلمين حتى اذا ظهرت اغراضهم أقصاهم المعتزلة عنهم فابن الراوندي كان يعد منهم وابو عيسى الوراق وأحمد بن حائط وفضل الحدثي كانوا ينتمون اليهم وهؤلاء أظهروا أراء هدامة لبعض المقررات الاسلامية ، وكان منهم من اتهم بأنه استؤجر لليهود لافساد عقيدة المسلمين )) (ابو زهرة ، د.ت : 135) ، والذي لابد من قوله أن المعتزلة ورثت كلاً من القدرية والجهمية في بعض الاراء (( وان تعاليمها بقيت محفوظة في فرق المعتزلة التي أخذت تلك التعاليم ودرستها درساً وافياً وشرحتها وتوسعت فيها، ألا انها خالفت الجهمية في مسألة القدر)) (جار الله ، د.ت : 36).(1/5)
... أما عندما جاءت الدولة العباسية الى الحكم فقد وجدت في مدرسة المعتزلة ورجالاتها خير من يقف بوجه الزنادقة والملاحدة، وهذا الامر سمح للمعتزلة برواج افكارهم (ابو زهرة ، د.ت : 219) ثم تطور فكر الاعتزال خلال حكم المأمون العباسي ولاسيما الحرية الفكرية التي كفلها هذا الحاكم العباسي في أول أمرهِ (ينظر: بك ، 1988 : 232) مما أدى بالمعتزلة الى مضاعفة نشاطها الفكري في حلقات الدرس في المساجد ومن ثم الى مشاركة السلطة السياسية والتأثير فيها (الراوي، 1980 : 85) . ويرى دي بور : ان الفكر المعتزلي بلغ أوجه وعاش عصره الذهبي عندما نال هذا الفكر تأييد بني العباس من أيام المأمون الى عهد المتوكل، والأكثر من هذا انهم جعلوه عقيدة رسمية للدولة
(دي بور،1966: 51).
وعندما اصبح المأمون حاكماً للدولة العباسية عام (198هـ) بلغت حركة النقل لكتب العلم والفلسفة أوجها يضاف إلى ذلك أن المأمون نفسه كان عالماً ومفكراً. وبدأ يعتنق آراء المعتزلة، ولاسيما مسألة خلق القرآن منذ عام (212هـ)، وكان القاضي أحمد بن أبي دُؤاد يزين ذلك للمأمون ويحثه على ان يجعل الاعتزال مذهب الدولة (فروخ ، 1972 : 290) . أما في سنة (218هـ) بدأت المأساة الحقيقية لمدرسة المعتزلة وذلك بأن قام المأمون بنفسه في دمشق بامتحان رجال الدولة والعلماء في القول بالعدل والتوحيد وبخلق القرآن ، ، وتابع المأمون طريقه الى الرَّقة ، ومن هناك أرسل كتاباً الى اسحق بن ابراهيم صاحب الشرطة في بغداد يأمره فيه أن يمتحن القضاة في هذا الأمر فمن أقر أن القرآن مخلوق مُحدث اقره على عمله ، ومن أنكر ذلك أقصاه عن منصبه، وذهب المأمون الى أبعد من ذلك إذ أوجب بطلان شهادة من لم يقر بخلق القرآن من الفقهاء، والمشايخ وأهل الحديث وبتعذيب من لم يُقر بهذا الأمر ، ومن بين الذين عوقبوا الامام احمد بن حنبل فقد عُذب وسُجن ولم يقر بذلك (فروخ، 1972 : 290). وهذا الأمر عُرف (بمحنة خلق القرآن).(1/6)
... وكما هو معروف ان هذه المحنة امتدت من سنة (218هـ) وحتى سنة (234هـ) ، والذي تسجله المصادر ان هذه الفترة اتسمت بمزج الجدل والحوار والنقاش بالقوة لفرض الرأي بعد أن كان الحوار والنقاش وتقديم الدليل والحجة القوية المقنعة هي السبيل الوحيد عند المعتزلة الأوائل، أما اثناء هذه الفترة ((صاروا ممتحنين لعقائد الناس يحلون السيف محل الدليل)) (دي بور ، 1966 : 51) وهذا مما لاينسجم مع ماتذكره لنا المصادر التاريخية من سيرة فكرية حسنة للمعتزلة عبر تاريخهم الفكري حتى مع من كانوا يخالفونهم الديانة.
... وعندما وصل المتوكل الى الحكم أصدر أوامره بترك النظر والمباحثة والنقاش في مسائل العدل والتوحيد وخلق القرآن ((وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين باظهار السنة)) (ابن الاثير ، ج7، د.ت : 47).
... ونتيجة لذلك قامت الثورة ضد المعتزلة بعد أن كتب المتوكل الى ولاته وعماله في المدن الاسلامية يأمرهم ((بترك عقيدة المعتزلة والاتجاه إلى السنة والجماعة )) (السبكي، ج1، د.ت : 215). وبعد ذلك تقهقرت هيبة المعتزلة في نفوس الناس وبدأ العد التنازلي لمجدهم العالي الذي وضع لبناته الاولى شيخهم ومعلمهم الأول واصل بن عطاء الغزال في مسجد البصرة بعد انفصاله عن حلقة استاذه الحسن البصري. (( فقد كان هذا التحرك السريع من المتوكل ، قد وضع المعتزلة امام قدرهم، فقد أضاع عليهم مابنوه خلال مائة سنة، لتأخذهم نوبة من النوم طويلة لايفيقون منها، الا في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري )) (الراوي ، 1980 : 238).(1/7)
... لقد أدت الازمة السياسية التي مر بها المعتزلة إلى انطوائية حركتهم وتراجعها، اذ هبط نشاطهم الفكري هبوطاً واضحاً، مما أدى إلى كثافة الغزوات المتلاحقة التي تعرضوا لها ، ثم بعد ذلك عادوا إلى ممارسة عملهم في الخفاء، وكثرت الانقسامات بين مدارسهم البصرية والبغدادية، حتى أصبح الخلاف مابين البصريين أنفسهم الشغل الشاغل لهم ولاسيما في عهد ابي هاشم الجبائي، ولم يكن البغداديون أفضل حالاً من البصريين، هذا على الرغم من ان القاضي عبدالجبار يعد مسألة خلاف التابع للمتبوع اذا كانت في دقيق الكلام ليست بشيء مستنكر، ويحتج على ذلك بأن طلاب أبي حنيفة خالفوه (القاضي، 1974 : 304) . وكان دور أبي هاشم الجبائي مهماً ومتميزاً من خلال تفوقه على الأب الجبائي ومواجهته لمعتزلة بغداد، مما أدى إلى انتشار آرائه حتى اعتنقها الزيدية وجعلوه بمقام أئمتهم، ومن ثم تولت فرقته البهشمية زعامة المعتزلة طوال القرنين الرابع والخامس واثرت في المتاخرين منهم كالصاحب بن عباد، والقاضي عبدالجبار (الرازي، 1938 : 45).(1/8)
... وفي هذه المرحلة كثرت الاختلافات والانقسامات داخل الحركة الاعتزالية حتى وصلت إلى حد تكفير بعضها بعضاً (البغدادي، 1948 : 167) وربما كان أحد أهم الأسباب التي ادت إلى خروج ابي الحسن الاشعري عن المعتزلة الذي كان يرى رأيهم في التوحيد والصفات وخلق القرآن (الراوي، 1980 : 30) . وقد أدى انتشار ونجاح الفكر الاشعري إلى انحسار الفكر المعتزلي ، ولاسيما في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري فقد اصبحت الاشعرية بنموها السريع جبهة قوية وحصينة ضد الفكر المعتزلي، مما أدى هذا الأمر إلى انسحاب الحركة المعتزلية إلى مقارها السرية نتيجة تزايد الضغوط والتحديات من جانب الأشعرية، التي عقدت تحالفات مع السلطة العباسية والتي تولت الدفاع عن المنهج النقلي واصحابه (أبوريان ، 1973 : 206) . مما دفع هذا الأمر بالاعتزال إلى عقد محالفات تدفع عن رجاله مخاطر الحصار والتصفية ، فتوجه إلى المناطق والأقاليم التي حكمها بنو بويه ولاسيما في فارس فقام رجال الاعتزال بتوطيد علاقاتهم مع الشيعة، لان بني بويه يميلون إلى التشيع (ينظر: الحموي ، ج6، 1938 : 225 –251) .
... ثم برز في هذه الفترة الصاحب بن عباد (326-385هـ) الذي كان له بالغ الأثر في صحوة الاعتزال بعد عصر من الركود والانحسار استمر قرناً من الزمان ، ولاسيما في عهد وزارته التي استمرت ثمان عشرة سنة، فقد حقق للاعتزال نجاحات كثيرة وسلم لرجاله مواقع قيادية متقدمة في الادارة والقضاء (المقدسي، 1906: 439) مما مكن هذا الامر للمعتزلة نشر افكارهم.(1/9)
... وبعد فترة الانتعاش التي تمتع بها المعتزلة ايام الصاحب بن عباد تعرضوا إلى نكبة اخرى مماثلة لتلك التي كانت ايام المتوكل بعد موت الصاحب، اذ قامت السلطة البويهية بملاحقة رجالهم ومصادرة املاكهم وتعرض القاضي عبدالجبار إلى سخط الامير البويهي، الذي لم يكن مكتفياً بالقبض على القاضي واتباعه، بل أصدر حكماً جزائياً ينص بتغريم الجميع ثلاثة آلاف درهم (ياقوت الحموي، ج6 ، 1938: 248).
... كما تابعت السلطة اجراءاتها ضد التواجد المعتزلي ومراكزه المذهبية التي أصبحت عرضة للسلب والنهب لاتصالها العقائدي بالصاحب بن عباد والقاضي عبدالجبار (ابن الاثير ، ج9 ، د.ت : 67).
... ونتيجة لذلك انكمش الاعتزال ليعيش في الظل إثر الضربة التي تلقاها من قبل بني بويه ، كما قامت السلطة العباسية بتصفية رجاله جسدياً بعد التصفيات الفكرية المتلاحقة من قبل خصوم المعتزلة على امتداد تاريخهم كذلك أمر الحاكم العباسي القادر (381هـ-422هـ) إلى تصنيف كتاب في الاصول كفّر فيه المعتزلة وكل من يذهب إلى القول بخلق القرآن ، واعتبر هذا الكتاب وثيقة رسمية في ادانة الاعتزال وانصاره (الخطيب البغدادي، ج4، 1930 : 38) . ولم يكتفِ الحاكم العباسي القادر بهذا الاجراء في بغداد، بل أرسل إلى محمود الغزنوني (361-421هـ) صاحب خراسان يأمره بنشر مذهب أهل السنة، ونفي القول بخلق القرآن، ومطاردة المعتزلة، ولعنهم امام الناس من على المنابر (علي ، 1936: 85) . ولعل أعظم ماقام به الغزنوني هو حرق كتب المعتزلة وسائر كتب الثقافة في الفلسفة والعلوم، بحيث اشتعلت النيران ملتهمةً أوراق المعتزلي (ياقوت الحموي ، ج6 ، 1938 : 259) .(1/10)
... ونتيجة لكل ماسبق بقي التيار العقلي متمثلاً بالمعتزلة والفلاسفة هو المسيطر على الساحة الفكرية في المناقشات والمحاججات . إلى ان ظهر الشيخ أبو حامد الغزالي الذي اعتنق المذهب الأشعري، فأفنى عمره في ملاحقة أصحاب الكلام والجدل وأهل الحكمة والمنطق (ينظر: حسن ، 1964 : 219) ، وتعد كتاباته الحد الفاصل في انحسار التيار العقلي واصحابهِ عن الساحة الفكرية، فقد هاجمهم بأسلحتهم وأساليبهم سواء أكانوا متكلمين أم فلاسفة وقد حط من شأن الفلسفة وحقّرها، وهاجم العقل وضيق مجاله، وجعله منقاداً لصحيح النقل.
... ويرى الباحث ان أفول نجم المعتزلة فرسان العقل واصحابه وغيابهم عن الساحة الفكرية ضيع فرصة كبيرة على المجتمع الاسلامي في فهمه للدين والكون والحياة فهماً عقلياً، لان المعتزلة حولوا مسألة فهم هذه الامور من القبول والاتباع إلى التحليل والنقد والبرهان .
مدارس المعتزلة :
... انشطرت الحركة الاعتزالية جغرافياً إلى مدرستي البصرة وبغداد، وقد تبع هذا الانشطار الجغرافي انشطار فكري في بعض المسائل المهمة ولاسيما مسألة الامامة أو التمذهب (ان صح القول) ، لذلك أصبح يُطلق على معتزلة مدرسة البصرة (معتزلة السنة) ومعتزلة مدرسة بغداد (معتزلة الشيعة) . هذا مع ثبات المعيار العام عند المعتزلة ألا وهو وجوب الاعتقاد والعمل بالاصول الخمسة التي تعتبر شرط الانتماء لهم (الخياط ، 1925 : 126) .
1 - ... مدرسة البصرة :
... قامت مدرسة البصرة بوضع الاسس الفكرية للاعتزال التي تُعد القواسم المشتركة التي ميزت الاعتزال كمنهج فكري عن غيره من المناهج الفكرية الاسلامية، اذ نجح البصريون في صياغة بنائهم الفكري بالاصول الخمسة التي جُعلت معياراً ثابتاً للمعتزلة بحيث لايسمى الشخص (( معتزلياً بدونها )) (الخياط ، 1925 : 126).(1/11)
ومن ثم قامت باعداد وتهيئة الكوادر المدربة تدريباً فكرياً يؤهلها للقيام بمهمة الدعوة – للفكر المعتزلي في اقاليم العالم الاسلامي – التي بفضلها انتشر الفكر المعتزلي في البلاد الاسلامية (الزيدي ، 1961 : 22،44،53).
... وبعد ذلك أخذ رجال هذه المدرسة على عاتقهم مهمة الدفاع عن عقيدة التوحيد الذي يُعد أول الشروط الواجبة لحركتهم الفكرية ولعله الهدف الرئيس عندهم لذلك اطلقوا على انفسهم (( أهل التوحيد )) (الزمخشري ، ج1، 1966 : 18) ، وأنهم المدافعون عنه والداعون اليه والمعنيون به (الخياط، 1925 : 13-14).
... ولم يكن مبدأ (( العدل الالهي )) أقل اهتماماً بل أخذ مساحة واسعة من التفكير المعتزلي ازاء التفكير الجبري والسلطة الاموية التي تبنته لتبرير أعمالها تحت ذريعة القضاء والقدر، ونتيجة لهذا الأمر قال المعتزلة عن انفسهم بأنهم أنصار (( العدل الالهي )) ( ابن النديم، د.ت : 30).
وقد انضوت تحت لواء هذه المدرسة مدارس فرعية اكتسبت اسماءها من ابرز رجالها ، وهذه المدارس اختلفت في بعض الفروع وهذا راجع إلى اختلاف فهم رجالاتها ومقدرتهم على تأويل النصوص ، ومن هذه المدارس:-
1- الواصلية : وهم الذين وافقوا واصل بن عطاء الغزّال (80هـ-131هـ) الذي يُعد صاحب الفضل في ارساء القواعد الفكرية والمباديء الأساسية للاعتزال في البصرة، وهو شيخ الاعتزال والمدافع عن التوحيد والعدل (ينظر : ابن خلكان، ج1 : 60-64).
2- العمروية : وهم اتباع عمرو بن عبيد (80-142هـ) ، زميل واصلِ في حلقة الحسن البصري وأول من وافق واصلاً على رأيه في مرتكب الكبيرة كما شارك زميله (واصل) في تعزيز اصول الاعتزال والدفاع عن الاسلام (ينظر: الذهبي، ج1، 1960 : 139).(1/12)
3- الهذلية : وهم كل من ذهب مذهب أبي الهذيل العلاف (135-235هـ) في ارائه الكلامية، الذي يرجع اليه الفضل في شرح قواعد الاعتزال وغلبت على آرائه الكلامية اراء فلسفية ، وكان حاذقاً في المناظرة، ويقال: إنه كان يقطع مناظريه بأقل الكلام ، وانه أسلم على يديه أكثر من ثلاثة آلاف رجل (أبو زهرة، د.ت: 141).
4- النظامية : أتباع ابراهيم بن سيار النظام (160 – 231هـ) ، كان يعتبر من علماء المعتزلة ، ويقال فيه: لم يدرك في أهل الجدل مثله، وله دور لاينكر في مزج الكلام بالفلسفة الطبيعية والالهية، معنى ذلك انه وظف مقولات الفلسفة لخدمة العقيدة الاسلامية (البغدادي ، 1948: 79).
5- المعمرية : وهم أتباع معمر بن عباد السلمي (ت 220هـ) ، ويوصف بانه كان حاذقاً في الكلام (القاضي، 1972 : 37) .
6- الهشامية : وهم اتباع هشام بن عمرو الفوطي (ت 200 هـ) ، وكان صاحب ذكاء وجدال وذا مكانة عالية عند المأمون (القاضي، 1972 : 40-42).
7- الأسوارية : وهم كل من تبع ابي علي الأسواري، كان من أصحاب العلاف وأعلمهم ثم انتقل إلى النظام ووافقه بعض آرائه (القاضي، 1972 : 45).
8- الجاحظية : وهم اتباع عمرو بن بحر الجاحظ (150-220هـ) كان من أبرز متكلمي المعتزلة ونصر مذهبهم بكتابه (( فضيلة المعتزلة)) (ابن خلكان ، ج2 : 111) .
9- الجبائية : أتباع أبي علي محمد بن عبدالوهاب الجبائي (ت303هـ) ، وكان معروفاً بقوة الجدل، حاول أن يعيد للمعتزلة هيبتها ومكانتها بعد الانتكاسة التي تعرضت لها من المتوكل ، فعمل على بناء المذهب والحفاظ على وحدته اذ حاول أن يعود بالأعتزال إلى طبيعته الاولى . وهو شيخ ابي الحسن الاشعري (ينظر: القاضي، 1972 : 85-87).(1/13)
10- البهشمية : وهم اتباع أبي هاشم عبدالسلام الجبائي (ت 321هـ) ، وكان واسع المعرفة حاد الذكاء خالف أباه أبا علي الجبائي في مسائل فرعية، وقد اهتم بالفلسفة ، وحاول ان يرد بعض اراء ارسطو ، كما ردّ بعض آراء معتزلة بغداد . وقد تفوق على ابيه الجبائي في معالجته لأربع قضايا فرعية، وكان من نتيجة المناقشات مابين الابن والأب ان تبسطت اراء الاعتزال وعالجت قضايا فكرية متلائمة مع العصر منسجمة مع متغيراته (ابن خلكان، ج3 : 183).
11- العبادية : وهم كل من تابع الصاحب بن عباد في فروع المذهب المعتزلي ، والذي يُعرف بـ ( الصاحب ابو القاسم اسماعيل بن عباد) ، ولد سنة (326هـ) وتوفي سنة 385هـ . صنف كتاب في اللغة اسماه (المحيط) وله كتاب في الإمامة (ينظر: ابن خلكان، ج1، د.ت : 228-233).
12- الجبارية : هم اتباع القاضي عبدالجبار بن احمد أبو الحسن الهمذاني ، الذي آلت اليهِ رياسة المعتزلة واصبح شيخها بدون منازع ، وله تصانيف لأثبات الاراء الفكرية الاعتزالية منها (دلائل النبوة) ، و (شرح الاصول الخمسة) و (المغني في ابواب العدل والتوحيد) توفي سنة (415هـ) (ينظر: ابن العماد ، ج3 ، د.ت : 202-203).
مدرسة بغداد :(1/14)
... مثلما ولد الاعتزال البصري وسط تناقضات الاراء حول مواضيع سياسية دينية كالامامة، ومرتكب الكبيرة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوحيد والعدل الالهي، ولد الاعتزال البغدادي وسط تناقضات جدلية قائمة ما بين الاراء الفلسفية التي دخلت عن طريق الترجمة، ومابين اراء اهل المقالات والاديان من أصحاب الملل والنحل القديمة التي حاولت أن تبعث دياناتها من جديد تحت غطاء الاسلام، وما بين أهل الاسلام من متكلمين ومحدثين وفقهاء (الراوي، 1982 : 65) في ظل هذه المتغيرات الفكرية والثقافية والدينية ، انبثقت حركة الاعتزال البغدادي على يد زعيمها بشر بن المعتمر الهلالي الكوفي، الذي ربما ورث التشيع نتيجة لبيئته الكوفية العلوية (الراوي، 1982 : 83) والذي اورثه فيما بعد لتلامذته ورجال مدرسته البغدادية، فأصبح طابعهم، وسموا أنفسهم (( متشيعة المعتزلة)) (الخياط ، 1925 : 99-101) .
... لقد حاول بشر بن المعتمر ان يوجد علاقة تواءم وانسجام وتفاعل مابين أفكاره الاعتزالية واتجاهاته السياسية، وبهذا يُعد بشر متجاوزاً للأتجاه البصري المحافظ الذي اكتفى ببرنامجه الفكري (ينظر: الراوي ، 1980 : 21) أما الاتجاه البغدادي فقد كان حركياً وعملياً ونزل إلى الساحة السياسية والفكرية، فقد تمكن ثمامة بن الأشرس وأحمد بن أبي دؤاد من التأثير على المأمون فكرياً ومذهبياً مما أدى هذا الأمر إلى تحول في اتجاه الدولة العقائدي كان من نتائجه تعزيز الموقف الفكري للمعتزلة البغداديين ، اذ انتقلت مدرسة بغداد من تنظيماتها السرية، إلى ممارسة نشاطها، دعوةً وتنظيماً بصورة علنية، مما جعل لها موقفاً قوياً في التأثير على مشاعر الناس واستمالتهم للافكار الاعتزالية (الرفاعي ، 1927 :231).(1/15)
... فقد تغير ميزان القوى لصالح المعتزلة، فعلى شأنهم وتعزز موقعهم داخل السلطة العباسية، مما أتاح لرجالاتهم، حرية فكرية لانظير لها في تأريخهم، فأتجهوا إلى مضاعفة نشاطهم العقلي، فوسعوا بحوثهم وعمقوا مواقفهم الفكرية، في ظل هذه الحرية فبدأ الاعتزال بالانتشار من المساجد وحلقات الدرس إلى مشاركة السلطة السياسية والتأثير عليها (الراوي ، 1982 : 85).
... وقد أدت هذه المشاركة والصلات المتينة بالبلاط العباسي، إلى إعلان المأمون رسمياً ان الاعتزال مذهباً للدولة وتتولى أجهزة الدولة تطبيق مباديء الاعتزال عملياً (الطبري، ج11 ، 1985 : 132) . بعد أن بقيت هذه المباديء مجرد أفكار حبيسة في التصورات البصرية تُدّرس في الحلقات العلمية (الراوي، 1980 : 22).
... فقد بدأ البغداديون وعلى رأسهم بشر مراجعة شاملة للطروحات البصرية ولاسيما مبدأ العدل الالهي، فاستحدثوا قضايا جديدة كنظرية السببية وعلاقة الله بالانسان، معتمدين في معالجتهم لهذه القضايا والنظريات مبدأ المسؤولية والارادة الانسانية لنفي الجبرية ورفض الحتمية كطروحة لتفسير سلوك الانسان وتصرفاته وأفعاله، فقد اثبتوا حرية الارادة الانسانية، وقدرتها على الخلق والابداع ومسؤوليتها عن نتائج فعلها (الراوي ، 1980 : 22).
... وكذلك تصدوا لمعتزلة البصرة وقاوموا التيار الارجائي التوفيقي الذي ساد في صفوفها، وهذا الأمر يعكس حركية وفاعلية الاعتزال البغدادي وواقعيته ، كما عملوا على تعميق مباحثهم الفيزيائية ومزجوها بقراءاتهم الفلسفية وذلك للدفاع عن عقيدة التوحيد، ولاسيما في معالجة قضايا الجوهر والعرض والشيء والمعدوم (ينظر: الراوي ، 1974 : 236-296).(1/16)
... لقد كان المعتزلة حريصين على تنفيذ مبدأ النقد الذاتي المذهبي لايمانهم ان الخلاف في الفروع بينهم ليس بمستكره (القاضي ، 1972 : 102) وهذا الأمر أدى إلى ان تنقسم مدرسة بغداد إلى مدارس فرعية كل مدرسة تتبع استاذها مع اتفاقهم على خط فكري ميزهم عن معتزلة البصرة، ومن هذه المدارس:
1- البشرية : نسبة إلى رئيس معتزلة بغداد بشر بن المعتمر الهلالي ( ت 210هـ) ، والذي أرجع كافة المتولدات للانسان وفعله دون الله تعالى (القاضي، ج9 ، د.ت: 12) وهو بهذا يؤكد حرية الانسان ومسؤوليته عما يقوم به من عمل.
2- الثمامية : وهم اتباع ثمامة بن الاشرس (ت 213هـ)، الذي يعدّ من أول الدعاة إلى محنة خلق القرآن ومن الذين هيأوا النفوس اليها (ينظر: ابن طيفور ، 1968 : 118، 125) وكذلك أكد على ربط المعرفة بالايمان أي ان الكافر لايكون كافراً الا بمعرفة الشريعة، واذا عصاها باختياره وارادته وتحقق القصد فيها، أي ان الكفار هم العارفون بما أمروا ونهوا عنه، القاصدون إلى الكفر بالله والمعصية له، فمن كان كذلك فهو كافر، فأما من لم يقصد إلى معصية الله فليس بكافر (الخياط ، 1925 : 86).
3- المردارية : نسبة إلى أبي موسى المردار ( ت 226هـ) المعروف بـ " الناسك " أو " راهب المعتزلة " لورعه وزهده (الخياط ، 1925 :96) أخذ الاعتزال عن بشر بن المعتمر ويعدّ من أصحابه، وقد تولى رياسة معتزلة بغداد بعد وفاة مؤسسها بشر، وقد عُدّ من اعلام المعتزلة ، وقيل بفضله كان انتشار الاعتزال في بغداد (الزيدي، 1961: 70).(1/17)
4- الجعفرية : وهم أتباع كل من : جعفر بن مبشر (ت 234هـ) وجعفر بن حرب (ت 236هـ) . كلاهما تتلمذ على أبي موسى المردار، ولأنهما عاشا في زمنٍ واحد، لذلك عرفا بالجعفرين (المسعودي، ج3، 1965: 194) واللذان أكدا أن الانسان لايفعل خيراً أو شراً الا بقوةٍ اعطاه الله اياها، معنى ذلك ان الله يعطي للانسان التمكن على الفعل، أو مردودات الفعل للانسان ، وليست لله - سبحانه وتعالى - (الراوي، 1982 : 143) . وهما بذلك يقران حرية الانسان في الاختيار واتخاذ القرار في الامور التي تُعرض أمامه، ونتائج هذا الاختيار تعود على الانسان نفسه.
5- الاسكافية : وهم اتباع أبي جعفر الاسكافي (ت 240هـ) ، وهو محمد بن عبدالله أبو جعفر الاسكافي المعتزلي البغدادي (الزيدي، 1961 : 78)، يقال انه كان عالماً فاضلاً (القاضي، 1972 : 83) . وهو من معتزلة بغداد الأوائل الذين تصدوا لبحث المسائل الفلسفية كمسألة التناهي، والعلة، والجسم فضلاً عن مقالاته السياسية والكلامية (الراوي، 1982 : 156) ، كما تمتع بقدرةٍ فائقة في مناظرة المخالفين وأفحامهم، وكانت له في ذلك مجالس مشهورة . يرى الاسكافي ان الحسن من الطاعات حسن لنفسه، والقبيح قبيح لنفسه أيضاً لا لعلة ( ينظر: الزيدي ، ج2، 1971 : 54) وبهذا يؤكد الأسكافي حرية الارادة ، فالمعصية والطاعة لاتكون الا من خلال كائن حر الارادة يختار في نفسه هذه الصفة أو تلك .(1/18)
6- الخياطية : وهم اتباع ابي الحسين الخياط (ت 300هـ) ، هو أبو الحسين عبدالرحيم بن محمد بن عثمان الخياط (الزيدي، 1961 : 49) تولى رياسة المعتزلة في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري (القاضي، 1972 : 93)، لقد عالج الخياط العلاقة بين السببية الكونية ، والسببية الانسانية من خلال قضية " التولد " التي تُعد من بين القضايا التي أحدثتها مدرسة بغداد في عصرها المبكر، ويسوق لنا مثالاً لتوضيح العلاقة يقول فيه (( .. رجل نزع قوسه يريد الهدف، فلما خرج السهم عن قوسه أمات (الله) الرامي، فنقول : ان ذهاب السهم بعد الرمي – متولد – عن رميته، فهو منسوب اليه لا إلى غيره)) (الخياط ، 1925 : 77) . يريد الخياط هنا أن يؤكد تلازم الأسباب والمسببات وارتباطها ببعضها ارتباط ضرورة ومن خلال ذلك يؤكد مسؤولية الانسان عن افعاله وأعماله.
7- الكعبية : وهم أتباع أبي القاسم الكعبي (ت 319هـ) ، هو أبو القاسم عبدالله بن احمد بن محمود البلخي ، ويعرف بالكعبي (الزيدي، 1961 : 88) ، وكان يدعو الناس إلى الاسلام ويقال ان جهوده أثمرت حين أسلم على يديه عدد كبير من أهلها (ينظر: الزيدي ، د.ت : 2) . وهو الذي اعتمد الدليل في معرفة الله تعالى أي الاستدلال . وهو بهذا يؤكد ضرورة المعرفة لجميع المكلفين، لان ضرورتها ووجوبها يعين المكلف على اجتناب القبيح وفعل الحسن (القاضي، 1965 : 24).
دور المعتزلة في الدفاع عن الاسلام :(1/19)
... تمكن المسلمون – عبر معارك التحرير والفتح الاسلامي – من نشر الإسلام في ربوع الأرض وبسط نفوذه السياسي في أرجاء العالم انذاك. لكن المسلمين في ميدان الفكر والعقيدة قد واجهوا خصوماً الداء، وأعداءاً أشداء، كان همهم ومقصدهم التشكيك في عقائد الإسلام الصافية التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية، فلم تكن السطحية في الرؤية ، ولا السذاجة في التفكير، قادرة على التعامل مع هكذا خصم، ولم يكن مجرد الاعتماد على النقل ومايقدمه من حقائق كافياً لتحقيق الانتصار عليه.
... لذلك كانت الحاجة تستدعي من عقلاء الإسلام ومفكريه ان يكونوا بمستوى المسؤولية وبمستوى التحدي الذي فرضته ظروف الحياة في ذلك العصر، فتصدت منهم ثلة لهذا الأمر معتمدةً منهجاً عقلياً مبني على الدقة والعمق والموضوعية مؤطراً بالشرع الاسلامي، محاربة الخصم بسلاحه، منازلةً له في ميدانه ، وهذا هو ماقام به المفكرون المخلصون في المجتمع الاسلامي ومنهم رجال
المعتزلة الذين قدموا خدمة عظيمة للاسلام ، وأدوا دوراً مهماً كانوا أهلاً له أنذاك.
... لقد اعتمد المعتزلة في بناء منهجهم على العقل بصورة أساسية غير مبتعدين عن النقل (القرآن الكريم والسنة النبوية) بعدهِ مصدراً مهماً من مصادر المعرفة فمارس المعتزلة المنهج العقلي باستقراء الجزئيات وتتبع الأحداث، وصولاً إلى مبادئ عامة يستندون عليها في دفاعهم عن مبادئ الدين الاسلامي الاصيل وحمايته مما كان يهدده من طروحات فكرية وممارسات لاعقلية سواء أكانت من داخل المجتمع الاسلامي أم من خارجه. لذلك تمحورت دفاعات المعتزلة في جانبين هما:
اولاً: ... معالجة الأزمات الداخلية:
... لعل أهم الأزمات الداخلية التي كان يعاني منها المجتمع الإسلامي هي الخلاف حول الأمامة وهذا الأمر كما مر بنا سابقاً كان أهم العوامل الداخلية التي أدت إلى ظهور الفرق الإسلامية وحدوث الفتن ، ونتج عن الخلاف حول الامامة خلاف حول تسمية من ارتكب كبيرة من المسلمين.(1/20)
1 - ... قضية الامامة :
... أهم قضية فكرية دار حولها الخلاف والاختلاف بين المسلمين، لذلك يقول الشهرستاني " ماسُلَّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ماسُلَّ على الامامة" (الشهرستاني، ج1، د.ت : 22) ، والتي إلى الان تعاني منها الامة الإسلامية. لقد حاول المعتزلة معالجة هذه القضية التي كانت أساس الاختلاف بين الفرق والمذاهب الاسلامية، فاننا نجد أن المعتزلة كانت طروحاتهم في هذا المجال الحساس والمهم مبنية على أساس رؤيتهم العقلية ونظرتهم التي تتسم بالعمق والسعة آخذين بنظر الاعتبار وحدة المسلمين كهدف أعلى وغاية أسمى.
... لذلك نجد إن المعتزلة وافقوا أهل السنة والخوارج بقولهم ان الامامة تتم بأختيار الأمة، كما وافقوا الشيعة بقولهم إن اختيار الامام واجب على أهل كل عصر، وفي هذا الصدد يقول واصل بن عطاء الغزّال (( ان كل مسلم سواء أكان من قريش أم من غيرها، اذا كان من أهل العدالة والأيمان يجوز أن يقع عليه اختيار الامة، وكان ذلك منه ترضية للخوارج، وزاد على ماتقدم ان اختيار الامام واجب على أهل كل عصر ، فاقترب بهذا القول من الشيعة الذين يعتقدون بوجوب وجود الامام في كل وقت سواء أكان حاضراً أم غائباً )) (جار الله ، د.ت: 20).
... ورأي المعتزلة في قضية الامامة يعد محاولة جادة للوصول إلى قاعدة عامة يتفق عليها جميع المسلمين في اختيار من يصلح للامامة. والقاعدة التي وضعها المعتزلة لاختيار إمام المسلمين وخليفتهم هي مبدأ الاختيار من قبل المسلمين لشخص منهم يتصف بالعدالة والايمان، والغاية من وراء ذلك هو التقريب بين الاراء المطروحة من قبل التيارات الفكرية والسياسية والدينية على الساحة الاسلامية .(1/21)
... كذلك جاء رأي المعتزلة في قضية الأمامة وتحليلاتهم النقدية المنهجية لنظرياتها – ولاسيما طروحات المتأخرين منهم وبالتحديد القاضي عبدالجبار في الامامة في موسوعته العلمية (المغني في أبواب التوحيد العدل ) – ملتزماً بالخط الاسلامي العام الذي يفرضه الواقع الموجود انذاك بحيث نجد رأي القاضي في وجوب نصب الامام والحاجة الضرورية اليه نقطة محورية تجمعت من حولها معظم اراء الفرق الاسلامية، كالشيعة وأهل السنة والخوارج وجميع المعتزلة.
... يترشح مما سبق ان المعتزلة حاولوا وبكل جهدٍ معالجة الازمة التي كان يعاني منها المجتمع الاسلامي، والتي أحدثت تصدعات واضحة في بنيان المجتمع وفي وحدة الامة الاسلامية، والتي أهم اسبابها الاختلاف حول الامامة ومن الذي يصلح لهذا المنصب وكيفية اختياره.
2- ... قضية مرتكب الكبيرة :
... تباينت الاراء واختلفت ازاء من ارتكب ذنباً من المسلمين ، فذهب بعض المسلمين إلى ان امره يترك إلى الخالق هو الذي يحكم فيه وهؤلاء عُرفوا بالمرجئة، وطائفة ذهبت إلى انه كافر ويجب عقابه وهؤلاء هم الخوارج وتأرجحت اراء بقية الفرق الاسلامية مابين هذين الرأيين. وأخذت هذه القضية مساحة واسعة من عقلية المفكر المسلم خلال القرن الأول الهجري، ولعلها كانت اولى القضايا التي يُدار النقاش حولها في الحلقات العلمية في المساجد.
... حاول المعتزلة أن يوفقوا بين اراء الفرق في هذه القضية وذلك لمعالجة الفتن والاختلافات التي كانت تعتمل في صدور أبناء الامة الاسلامية فجاء أحد اصولهم لمعالجة هذا الأمر، وبالتحديد الأصل الفكري الثالث – المنزلة بين المنزلتين – فكان هذا الأصل استجابة للتحدي المطروح على الساحة الفكرية انذاك، والذي كان يشغل الرأي العام الاسلامي نتيجة للتطورات التي حدثت في المجتمع الاسلامي في ذلك الوقت.(1/22)
... والمتأمل في الرأي المطروح من قبل واصل بن عطاء في حلقة شيخه الحسن البصري، رداً على السؤال في تسمية ومصير من ارتكب الكبيرة من المسلمين، يجد ان واصلاً في تقريره لرأيه حيال هذا الأمر لم يكن يُريد الانشقاق به عن أهل السنة والجماعة، ولاعن شيخه الحسن البصري، كما صور ذلك بعض مؤرخي علم الكلام ( ينظر: البغداي ، 1948 : 94) . لان موقف الفرق الاسلامية ازاء من ارتكب كبيرة من المسلمين متباين ، فالمرجئة يسمونه (مؤمناً فاسقاً) واهل السنة ومنهم الحسن البصري يسمونه (منافقاً فاسقاً) ، والشيعة سيمونه (كافر نعمة فاسقاً)، والخوارج يسمونه (كافراً وفاسقاً). فتفكر واصل في هذه الاراء ثم أعطى رأيه أخذاً بما أجمعت الامة عليه بحسب اعتقاده تاركاً ما اختلفت فيه، فانتهى إلى ان صاحب الكبيرة يسمى فاسقاً وهو في منزلة بين منزلتين (منزلة الايمان ومنزلة الكفر )، فلا يُعد مؤمناً كمال الايمان ولا كافراً حد الكفر (ينظر: الخياط ، 1925: 164).
... والذي يتبين من خلال ماتقدم ان القول بالمنزلة التي ذهب اليها واصل كانت استجابة لما مطروح في الساحة الفكرية من اراء، والغاية من وراء ذلك هو التوصل إلى خطٍ مشترك مابين المذاهب الاسلامية، أي تثبيت نقطة مشتركة يلتقي عندها الجميع او يتفق عليها الكل، وذلك لتحقيق الاقتراب الفكري مابين المسلمين وصولاً إلى الوحدة الفكرية التي تُعد أساساً مهماً لوحدة الصف الاسلامي. معنى ذلك إن المعتزلة أرادوا برأيهم هذا معالجة أزمة داخلية يعاني منها المجتمع الاسلامي أنذاك.
ثانياً: ... التصدي للهجمات الخارجية :(1/23)
... لقد حتم الالتزام الديني والموقف المبدئي لرجال المعتزلة، ان يتولون باخلاص وجد ، مهمة حماية الدين والتضحية من أجله، والدفاع عن أصوله، وإبراز خصائصه ، بالحجة العقلية والبرهان المنطقي، في وجوه أعدائه، وذلك باسقاط مقالاتهم، وتفنيد دعاواهم (ينظر: الراوي، 1980: 13) . ولعل أولى المهام التي قام بها رجال المعتزلة تأسيس مدرسة كلامية قامت على المحاولة في التوفيق بين الوحي الالهي ، والعقل الانساني ، وبعملهم هذا استحقوا وبجدارة أن يُلقبوا بأنهم فرسان العقل ورواد علم الكلام، لذلك يقال عنهم ((هم أرباب النظر دون جميع الناس، وان الكلام لهم دون سواهم)) (الخياط ، 1925 : 72) ، ((وهم أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل والمنصفون في مناظرة الخصوم)) (الملطي ، 1968 : 36).
... وبعلمهم هذا حاولوا ومن خلال تفاعلهم ودراستهم للفلسفة أن يوفقوا بين الاسلام كدين وبين الفلسفة التي تُرجمت اليه فأقبلوا عليها يدرسونها بنهمٍ وشره؛ لأنها أشبعت تطلعاتهم ورغباتهم الفكرية، وعلى ذلك استخدموها كسلاح فعال يدافعون به عن عقائدهم وأفكارهم (ينظر: حسن، 1964: 17) . اذن تبدت المهمة الثانية في استعمال الفلسفة بعد مزج مباحثها بموضوعات علم الكلام للدفاع عن الاسلام ، لذلك يقرر البعض ان نشأت الفلسفة في الاسلام كانت بفضل الدور النشط للاعتزال البغدادي الذي عُرف بميله الشديد لحركة الترجمة الفلسفية، كالندوات العلمية التي كان يعقدها أحمد بن أبي داؤد البغدادي ( ت 240هـ) ، والتي يحضر مناقشاتها كبار مترجمي الفلسفة، والعلماء، ومتقدمي الاعتزال (الراوي ، 1980 : 19).(1/24)
... ان رجال المعتزلة احسوا بخطر الاعداء يهاجم عقائد المسلمين ، لذلك شمروا عن سواعد الجد ، وكرسوا طاقاتهم ، وسخروا جهودهم ، وانتدبوا أنفسهم، ووهبوا عقولهم للذب عن حمى الاسلام، فألفوا الكتب والرسائل، وعقدوا المناظرات ، وفتحوا أبواب الجدلُ والحوار مع خصومهم، وقاموا ببث الدعاة في أرجاء البلدان وسائر الأقاليم، فأسلم على أيديهم الكثير من اصحاب الديانات والملل والنحل الاخرى، وهذا ماتمثل في الأصل الخامس من اصولهم الفكرية وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
... فقد كان أمام الاسلام تحديات كبرى، تمثلت في الجبهة المعادية التي كان قوامها الحركات الثنائية (1) والاتجاهات المضادة التي حاولت مس القرآن، والتشكيك بنبوة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – فانتشرت تعاليمها الارتيابية في ارجاء العالم الاسلامي، حتى وصلت إلى شرائح المثقفين وطبقات المسلمين العامة على السواء بفضل البرامج المعدة فلسفياً، فأحدثت هذه الجبهة المعادية ، ثغرة في صفوف المسلمين، كانت سبباً في حمل الكثيرين على الزندقة، ولهذا كان أمام الاعتزال مهمة التصدي بقوة للفكر المعادي بكل الوسائل الجدلية الفلسفية، لإبراز مايكمن في الدين من القوى والفضائل (الراوي ، 1980 : 20).
... إذ شكل المعتزلة معارضة قوية، صانوا بها صفاء العقيدة من عبث المنحرفين وفساد المخالفين، وحملات أهل التشكيك والابتداع التي مثلتها قوى الشعوبية والردة الفكرية ، وصنوف الزنادقة ، ممن تبرقعوا ببراقع مختلفة ومتباينة ومتعددة يجمعها هدف واحد، وغاية مشتركة تريد محق الاسلام عقيدةً وتصوراً وديناً (عبدالحميد ، 1991 : 181).
__________
(1) (*) ... الحركات الثنائية: هي تنظيمات فكرية أظهرت الاسلام، وأبطنت الكفر والألحاد، وكان لها دور سلبي جداً في المجتمع الاسلامي .(1/25)
... ومما خدمت به المعتزلة دين الاسلام أنها حاورت الثنوية وردت مقالاتهم (الزيدي، 1961 : 5 ) . لذلك يقول عنهم أحد المستشرقين (( إنّهم من أشدِّ المسلمين دفاعاً عن الاسلام في ذلك الزمان وحمية على مخالفيه، ... ولم يكن أحد نجح نجاح النظام – أحد مفكري المعتزلة – في أبطال كلام الثنوية واسقاطهم عن مركزهم وشأنهم في الشرق الأدنى )) (نيبرج، 1925 : مقدمة الكتاب) .
... كذلك أثبتت طبقة ابي الهذيل العلاف والنظام كفاءتها الجدلية العالية (الزيدي، 1961 : 44-45) . في ادارة النقاش والحوار مع الجبهات المعادية وحسمه لصالح موقفهم الديني، فقد نجح أبو الهذيل في نشر الاسلام ، والعقيدة الاعتزالية بين صفوف الفرق المناهضة (الخياط ، 1925 : 142). فقد تولى أبو الهذيل العلاف مناظرة الزرادشتية في جبهات متعددة لما يمتلكه من دراية عميقة وخبرة عالية في المقالات والأديان ( الراوي، 1984 : 130) ، اذ أسلم على يديه أكثر من ثلاثة الاف رجل من المجوس لبراعته وقدرته على الاقناع (ابو زهرة ، د.ت : 141).(1/26)
... كذلك يُعد بشر بن المعتمر ، مؤسس المدرسة الاعتزالية البغدادية من اوائل المفكرين الذين تصدوا للفكر المادي متمثلاً (( بالدهرية )) الذي أراد اشاعة فكرة قدم العالم وأزليته، فحاول بشر اثبات حدوث العالم (ينظر: ابن النديم، د.ت : 162) . ويجب أن لاننسى الدور المهم لمؤسس الحركة الاعتزالية وزعيمها واصل بن عطاء في حملتهِ الفكرية التي شنها على الفكر الثنوي ونظرياته ممثلاً بالمانوية (1) ، وقد عبر عن هذه المواجهة الفكرية في كتابه " الالف مسالة" والذي كان مخصصاً لتفنيد دعاوى المانوية وارائها، ادراكاً منه للمهمة الخطيرة التي تنهض بها الثنائية في تخريبها للعقيدة الاسلامية وتحريف اصولها ( ينظر: القاضي ، 1972 : 48-49).
... ولعل واصلاً أول معتزليٍّ يفتتح المناظرات كوسيلة للدفاع عن الاسلام ضدّ خصومه لذلك يقال (( ليس أحد أعلم بكلام الزنادقة (* (2) والدهرية (** (3) والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم من واصل )) ( القاضي ، 1972: 42-43).
__________
(1) (*) ... المانوية: نسبة إلى (ماني بن فاتك بن بابك بن برزام) مزج بين المجوسية والمسيحية في دين واحد، وأكد عقيدة الثنوية ( ينظر: ابن النديم . الفهرست: 470-472 ، بيروت، ط1، د.ت) .
(2) (**) ... الزنديق: كلمة معربة عن الفارسية، وقد اصبحت الزندقة احدى الحركات الهدامة التي استهدفت هدم الاسلام. ينظر : السامرائي ، الغلو والفرق الغالية، بغداد، 1972، ص 79-80.
(3) (***) ... الدهرية : أنكروا الصانع المدبر، وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه لابصانع. ينظر: يوسف كرم وآخرون ، المعجم الفلسفي ، ط1، مصر ، 1966، ص76.(1/27)
... معنى ذلك ان الحركة الاعتزالية أولت مهمة مواجهة فرق الثنائية كل جهدها المتصل طوال حلقات تأريخها، وأصبح لها دورها الحاسم في حماية عقيدة المجتمع الاسلامي، فضلاً عن عملها المستمر في تطهير صفوفها من الاتجاهات التحريفية والارتيابية والمتطرفين ، فأنها كانت حريصة كل الحرص على متابعة النشاط الثقافي لهذه الاتجاهات ، ساعية إلى تطويقه بالمناظرة والجدل، إدراكاً منها للبعدَ وللتأثير الذي تهدف اليه هذه الاتجاهات في التفافها حول الثقافة الاسلامية والفكر الاسلامي (ينظر :نيبرج ، 1925 : 149-152).
... من خلال ماتقدم يتضح أنّ مدرسة المعتزلة كانت حاضرة ومتيقظة وأن رجالها اصحاب دور ريادي في الدفاع عن الفكر الاسلامي مناظرة وجدلاً عبر حياتهم العقائدية، والذي عُرفت بداياته منذ ظهور (واصل بن عطاء) وحتى نشاط (القاضي عبدالجبار) ومدرسته في توجيه واستثمار فكريات الأصل الخامس من اصولهم الفكرية (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) ولاسيما في تطويق مفاهيم الثنائية والزندقة والمجوسية.
... معنى ذلك ان المعتزلة اشتبكوا فكرياً وعلى الصعيد الخارجي مع الفكر المادي ممثلاً بالدهرية ومع الفكر الديني المسيحي ومع الفكر الديني الوضعي ممثلاً بالمانوية والزرادشتية والسمنية والمجوسية، أما داخلياً فانها عالجت بعض الازمات الحادة التي كان يعاني منها المجتمع الاسلامي انذاك فضلاً عن دفاعها عن التوحيد وتنزيه الذات الالهية واقصائها للمقالات الحسية المادية لذلك وجهت مناهجها العقلية النقدية صوب التصورات المتدنية للذات الالهية تفنيداً لاراء أصحابها من المشبهة والمجسمة والحشوية (ينظر: ابو ريان ، 1973 : 170) . ويذكر لنا الخياط المعتزلي قائمة النقوض التي قام بأعدادها كبار مفكري المعتزلة ومن خلالها تتضح لنا المواجهة مابين الاعتزال وخصومه (الخياط ، 1925 : 17،26) :
1- ابو عفان الرقي : التوحيد والرد على الملحدين.(1/28)
2- ابو الهذيل العلاف : اثبات التوحيد والرد على الملحدين.
3- الجاحظ: الرد على من ألحد في كتاب الله.
4- قطرب المستنير : الرد على الملحدين في متشابه القرآن.
5- الخياط : الرد على ابن الراوندي الملحد.
6- ابو علي الجبائي: نقض كتب ابن الراوندي الأربعة ( التاج ، الزمرد، قضيب الذهب، عبث الحكمة).
7- أبو هاشم الجبائي : نقض كتاب الفريد لابن الراوندي.(1/29)
المبحث الثاني
المدرسة الأشعرية
التسمية، النشأة والتطور، دورها في الدفاع عن الاسلام
التسمية :
... تنسب هذه المدرسة الفكرية إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، ولعل في كلام السبكي خير دليلٍ على ذلك (( اعلم ان أبا الحسن لم يبدع راياً، ولم ينشئ مذهباً، وانما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالانتساب اليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقاً ، وتمسك به ، وأقام الحجج، والبراهين عليه فصار المقتدي به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعرياً)) ( السبكي ، ج3 ، د.ت : 365) . معنى ذلك ان الذي يتأثر ويقتدي بأبي الحسن من المسلمين في طريقة التفكير في الصفات وفي خلق القرآن وفي رؤية الله - سبحانه وتعالى - وفي أفعال الانسان يسمى أشعرياً.
النشأة والتطور :(1/1)
... إنَّ المدرسة الأشعرية لم تظهر فجأة، وأنما مرت بسلسلة من عمليات الجدل والانضاج ولها أسلاف سبقوا أبا الحسن الأشعري، ولكنها تكاملت واتضحت معالمها على يديه، وان أهم سمة ميزت هذه المدرسة عبر تاريخها الفكري هي اثبات الصفات، ولذلك اطلق على أسلاف الأشاعرة " الصفاتية" وجاءت هذه التسمية مقابلة " للمعطلة " التي كانت تطلق على المعتزلة لانهم كانوا يعطلون وينفون الصفات وهذا مايذكره لنا الشهرستاني ((سُمّي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة فبلغ بعض السلف إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها، وماورد في الخبر فافترقوا فيه فرقتين منهم من أولها على وجه يحتمل اللفظ، ومنهم من توقف عن التأويل ، أما السلف فانهم لم يتعرضوا للتأويل حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلابي، وابي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف الا انهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين اصولية وصنف بعضهم ودرس بعض ، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية )) (الشهرستاني، ج1، د.ت: 118-119).
... ونحن نتابع التطور الفكري للمدرسة الأشعرية، نجد أن الأفكار تبدأ بدايات تحت غايات سليمة ونوايا حسنة، لكن ربما تفسير البعض لها يضعها في موضع غير الذي صيغت من أجله، وهذا راجع إلى أن لكل انسان زاويته التي ينظر من خلالها إلى الأشياء، ومرجعيته الفكرية التي يفسر من خلالها الامور.(1/2)
... فعندما بدأ جهم بن صفوان بتنزيه الله تعالى وانه " ليس كمثله شيء " وأوغل في الجبر من أجل أن ينفي مشاركة الانسان لله في الفعل ونفي الكلام أذ أصبح يقول : ان الله تعالى ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولايخلو منه مكان ولايكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولايتكلم ولاينظر اليه أحد في الدنيا ولافي الاخرة ولايوصف ولايعرف بصفة ولا بعقلٍ ولا له غايةٍ . ولانواحي ولاجوانب ولايمين ولاشمال ولاهو خفيف ولاثقيل ولاله لون ولاله جسم وليس هو بمعمول ولامعقول (ينظر: فروخ، 1972: 220-221) وهذه هي بداية للقول بنفي الصفات عن الخالق - سبحانه وتعالى - لذلك تحسس اصحاب الحديث والفقهاء من هذا الأمر واعتقدوا بأن هذه المقولة تخفي خلفها نفي وجود الله أصلاً ولاسيما الإمام أحمد بن حنبل (ينظر : محمود، 1970: 25) . على الرغم من انه كان متأخراً زمناً عن الجهم بن صفوان.
... وبجانب هذا الاتجاه في النفي والتعطيل، كان ينمو اتجاه التجسيم والتشبيه وهم الحشوية والمشبهة الذين انطلقوا بالاتجاه المعاكس للتعطيل فقالوا بالتجسيم وجعلوا الله تعالى يشبه المخلوقين، وازاء هذين الموقفين كان موقف أهل السنة يتسم بالانتقائية والتوفيقية، فكانوا يتفاعلون مع هذه الحركة الفكرية اذ ((ظهر أيام ذروة الاعتزال من كان على موقف أهل السنة في العقائد، ومن كان يقدم أدلة وبراهين عقلية زيادة على النصوص المنزلة ليثبت بها صحة العقائد الاسلامية ومن هؤلاء ابن كِلاب (ت 250هـ) والمحاسبي (ت 243هـ) والقلانسي (ت 308هـ) )) (محمود، 1970: 26).(1/3)
... وقبل هؤلاء الثلاثة كان هناك من تعرض لعلم الكلام ومباحثه واسلوبه المنهجي هو الامام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ). فقد عاش هذا العالم الجليل في عصر الفتن والصراعات وبدايات الفرق ونزاعاتها وتمرس في الجدل في اصول العقائد ((وقد استهواه في صدر حياته حتى بلغ فيه شأواً عظيماً، وصارت له طريقة في فهم اصول الدين، بل قد ثبت انه بعد انصرافه إلى الفقه كان يجادل احياناً في تلك الاصول)) (أبو زهرة ، د.ت : 25).
... ومن الائمة الذين تعرضوا لمسائل علم الكلام بعد الامام ابي حنيفة ، الامام الشافعي الذي ولد سنة (150هـ) وهي سنة وفاة ابي حنيفة وتوفي سنة (204هـ) ، وقد عاش الشافعي في عصر نضوج أفكار المعتزلة وازدهار الدولة العباسية، لذلك كان تأثير أفكار المعتزلة على الشافعي سلبياً بحيث اضطر إلى مهاجمة علم الكلام ، لاعتقاده بأن المعتزلة تتجاوز حدود المعقول في مسائل النظر في العقائد ، وقد اتبع الشافعي منهج السلف في الاعتقاد فيقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكان يعتقد رؤية الله يوم القيامة، ويؤمن بالقضاء والقدر خيرهِ وشرهِ وكان يقول الايمان تصديق وعمل يزيد وينقص ، وهو بارائهِ هذهِ يخالف ماذهب اليهِ المعتزلة في العقائد (أبو زهرة ، د.ت : 149).
... اما الامامان مالك بن أنس (ت 179هـ) وأحمد بن حنبل (ت 241هـ)، فقد كانا يمثلان الاتجاه المتشدد في عدم الخوض في الكلام والتأويل (ينظر: الشهرستاني، ج1 ، د.ت ) . لذلك لايمكن أن نُرجع تطور علم الكلام السني اليهما تماماً بعكس أبي حنيفة والشافعي فأن لهما فضلاً في تطور علم الكلام الذي تواصل تطوره من خلال الثلاثة الذين ذكرهم الشهرستاني وهم : ابن كلاب ، والقلانسي ، والمحاسبي، والذين عدهم أسلاف الأشاعرة.(1/4)
... فنحن نجد ان الاشعري ينقل عن ابن كلاب آراءه وأقواله في الأسماء والصفات، والفكرة التي أخذها الأشعري من ابن كلاب ان الصفات ليست عين الذات ولاغير الذات ، فقال عن ابن كلاب ((وكان يقول ان أسماء الله وصفاته لذاته لاهي الله ولاهي غيره وانها قائمة بالله ولايجوز أن تقوم بالصفات صفات)) (الأشعري، 1985 : 229).
... وهذا الكلام يثبت الصفات لله تعالى، ويحدد العلاقة بين الصفات والذات، على العكس من فكرة المعتزلة الذين نفوا الصفات وجعلوها عين الذات وكذلك رفض فكرة الجهمية الذين جعلوا الصفات غير الذات (ينظر: الاشعري ، 1985: 325).
... والذي يتضح من طرح ابن كلاب انه أراد اظهار مقدرة العقل المسلم على استيعاب علاقة الصفات بالذات، فربما لو قال ان الصفات عين الذات لأصبح العقل هنا يمتلك تصوراً للذات من خلال الصفة، أما لو قال ان الصفات غير الذات لمكن العقل هنا من تحديد مالاطاقة له به، وبالتالي هنا سيكون منفذاً لكل المناوئين للاسلام ان يتهموا من خلاله المفكرين المسلمين بأنهم أثبتوا قدماء غير الله كما عند بعضهم مثل النصارى.
... وكذلك نجد ان الأشعري ينقل عن أصحاب عبدالله بن سعيد القطان (أخي يحيى بن سعيد صاحب الجرح والتعديل) : ((ويقولون: ان اسماء الله سبحانه وصفاته لايقال هي غيره ولايقال : ان علمه غيره كما قالت الجهمية ، ولايقال: ان علمه هو كما قال بعض المعتزلة، وكذلك قولهم في سائر الصفات)) (الاشعري، 1985 : 325).
... وسياق الأشعري لآراء ابن كلاب أو ابن سعيد القطان تدل على أن أقوالاً بهذا الوضع تتناول مشكلات بارزة جديدة فيها تأثر بالاسلوب العقلي أو الفلسفي في ابداء الرأي، مما يؤيد ان هذا الجيل من السلف اراد أن يرد على هجمة المعتزلة والفلاسفة نفاة الصفات كما يرد على هجمة غلاة التشبيه (الكردي ، 1989 : 123).(1/5)
... والذي يتصفح كتب العقائد والفرق والأديان يجد أن الأمر في مجال العقيدة الاسلامية خلال القرن الثالث الهجري استقر على ثلاث مدارس فكرية كبرى تمثل الجانب الاعتقادي لامة الاسلام، ومع هذه المدارس الثلاث كانت هناك آراء ومعتقدات تتداخل معها وتفترق عنها أحياناً، ولكن الأثر الواضح للمتابع للحركة الفكرية وتاريخ الفرق يمكن ان يحدد بسهولة هذه المدارس وهي المعتزلة التي كانت تمسك بمراكز القوة من خلال اعتناق بعض الخلفاء العباسيين لها في مدها الأول. وتبني هؤلاء الخلفاء للفكر الاعتزالي وتقريبهم لقادة الاعتزال ووضعهم في واجهات الدولة ومراكز التأثير . يضاف إلى ذلك القدرة الهائلة والبراعة في فن الجدل والمناظرة وتوظيف طاقات العقل بصورة عالية جداً مكنهم من كسب الكثير من المثقفين ممن بهرتهم طريقة المعتزلة في الكلام ، وكذلك قيامهم بإرسال الدعاة الذين يمتلكون القدرة على التأثير والاقناع إلى أطراف البلاد الإسلامية للدعاية لأفكار المعتزلة، وكان هؤلاء الدعاة يصرحون بأنهم أصحاب الحق ولايوجد في المسلمين من يدافع عن الدين غيرهم ، وان طريقتهم هي الصواب ومخالفيهم لادليل عندهم، ولامنهج صواب، وغاية ماعندهم تدافع بالأدلة وتناقض في الفهم، فقد ذكر أحد قضاتهم للملك فناخسرة، وقد طلب هذا الملك أن يستدعي أهل السنة لمجلسه، فقال هذا المعتزلي للملك : ((ان هؤلاء القوم عامة رعاع أصحاب تقليد وأخبار وروايات يروون الخبر وضده ويعتقدونهما وأحدهما ناسخ للثاني أو متأول ولا أعرف منهم أحدا يقوم بهذا الأمر)) (ابن عساكر، د.ت : 119).(1/6)
... فقد ظل الفكر الاعتزالي مسيطراً على الساحة الفكرية حوالي قرنين من الزمن، وذلك من مطلع القرن الثاني حتى نهاية القرن الثالث الهجري، وذلك لما تلقاه المعتزلة ومنهجهم من التأييد والتشجيع من قبل السلطة السياسية ، فالسياسة لها اثر كبير في نشر الفكر الذي يتلائم وتوجهاتها في الحكم، والناس تبع لملوكها في الدين كما يُقال .لكن على الرغم من هذا الأمر فقد ظهر فقهاء ومحدثون وقفوا بوجه الاراء والأفكار الاعتزالية حتى صار مايُعرف بمحنة خلق القرآن التي تُعد كما يُقال الحد الفاصل بين عصر الاعتزال الذهبي (المتمثل بالحوار الحضاري الفكري وتقبل الرأي الآخر) ، وانحسار المد الاعتزالي (المتمثل باستغلال الجانب السياسي ، واتباع طريق العنف والقوة حتى صاروا يضطهدون من يخالفهم في العقائد من المسلمين).(1/7)
... في وسط هذه الأحداث ظهر الاتجاه الاشعري بنبوغ علمه الاول الشيخ ابي الحسن الأشعري، فكانت المدرسة الأشعرية التي انبثقت من المحنة وتبلورت جذورها في المواجهة الفكرية ضد المعتزلة ((الذين موهوا على الملوك وقالوا لهم أن أهل السنة يفرون من المناظرة لما يعلمونه من ضعفهم عن نصرة الباطل وأنهم لاحجة بأيديهم وشنعوا بذلك عليهم حتى امتحن في زمانهم أحمد بن حنبل وغيره فأخذ الناس حينئذ بالقول بخلق القرآن حتى ماكان تقبل شهادة شاهد ولايستقضى قاض ولايفتي مفتٍ ، لايقول بخلق القرآن، وكان في ذلك الوقت من المتكلمين جماعة كعبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وعبد الله بن كلاب وجماعة غيرهم، وكانوا أولي زهد وتقشف لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطاً إلى أن نشأ بعدهم وعاصر بعضهم بالبصرة أبا الحسن الأشعري، وصنف في هذا العلم لأهل السنة التصانيف وقيل له كيف تخالط أهل البدع فقال هم اولوا رياسة منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لاينزلون أليّ ، فاذا كان هم لاينزلون الي ولا أسير أنا اليهم فكيف يظهر الحق ويعلمون أن لأهل السنة ناصراً بالحجة)) (ابن عساكر، د.ت : 116-117).
... أما المدرسة الثالثة فهي المدرسة التي أرسى دعائمها الأمامان أحمد بن حنبل ، ومالك بن أنس ، وقد تميزت هذه المدرسة بالتوقف وعدم الخوض في التأويل ، والوقوف عند النصوص ويطلق أتباعها على أنفسهم انها مدرسة السلف.
... ويقال ان ظهور ابي الحسن الأشعري أدى إلى تضاؤل دور المعتزلة وانحسار اثرهم الفكري ويردد الأشاعرة مقولة أبي بكر الصيرفي المشهورة التي يقول فيها (( كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فحجزهم في أقماع السمسم)) (ابن عساكر ، د. ت : 94). والحقيقة ليس ظهور الأشعري فقط كان وراء تدهور المدرسة الاعتزالية، لكن العوامل السياسية والفكرية كان لها اثرٌ فاعل في تضاؤل الفكر الاعتزالي.(1/8)
... وبقيت المدرسة الأشعرية في الحياة الفكرية وورثت المواقع التي كانت بيد المعتزلة، واستمرت الأشعرية تدير الحياة الفكرية في الامة الاسلامية تدافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد حصل تطور فكري في هذه المدرسة تم على مرحلتين : الاولى على يد أبرز رجالات هذه المدرسة الامام أبي بكر الباقلاني والتي مفادها : أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول، وهذا ما اصطلح عليه بالطور الأول لعلم الكلام السني، وقد تطرق ابن خلدون في مقدمته عن التطور التأريخي الذي حصل للمدرسة على يد رجالاتها قائلاً : ((وكثر أتباع الشيخ الأشعري فجاء القاضي أبو بكر الباقلاني وتصدر للامامة في طريقتهم ، وهذبها ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والنظار، وذلك مثل اثبات الجوهر الفرد والخلاء، وان العرض لايقوم بالعرض وأنه لايبقى زمانين، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الايمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها وان بطلان الدليل مؤذَن ببطلان المدلول )) (ابن خلدون ، د.ت: 249) . والمرحلة هذه التي جرت على يد القاضي الباقلاني تعني ((انه يجب على المعتقد أن يوقن بتلك المقدمات ونتائجها كما يجب عليه اليقين بما يؤدي اليه من عقائد الايمان ذهاباً منهم إلى أن عدم الدليل يؤدي إلى عدم المدلول )) (عبده، 1965 : 50).
... ثم لحق بالمدرسة تطور فكري اخر حصل على يد الامام الغزالي والامام الرازي فحواه ((ان بطلان الدليل لايؤذن ببطلان المدلول الذي يمكن أن يثبت بدليل اخر )) وقرروا أن دليلاً واحداً أو أدلة كثيرة قد يظهر بطلانها، ولكن قد يُستدل على المطلوب بما هو أقوى منها ، فلاوجه للحجر على الاستدلال (عبده، 1965 : 51). وهذا يُعد الطور الثاني من اطوار علم الكلام السني.(1/9)
... لقد انتشرت أفكار الأشاعرة في العالم الاسلامي لاسباب عدة منها: سبب سياسي : أي أن السلطات الحكومية قد نصرته بعد أن تخلت عن نصرة المعتزلة مما أدى إلى انتشار المذهب في العراق أبان العهد السلجوقي وذلك بفضل الوزير نظام الملك ولاسيما المدارس التي اسست لهذا الغرض والمسماة بالمدارس النظامية بنيسابور وبغداد ودمشق ، كما انتشر في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي ومن بعدهِ ملوك الأيوبيين، ووصل الفكر الأشعري إلى المغرب على يد أبي عبد الله محمد بن تومرت (عبدالرزاق ، 1966 : 292) . أما السبب الآخر: يعود إلى أتباع أبي الحسن الأشعري الذين جاءوا بعده، وما يمتلكونه من قدرة على الاقناع وهؤلاء اعتكفوا على المذهب ودعموه بالأدلة والبراهين، وكذلك مناصرة جمهور الفقهاء والمفسرين ومشايخ الصوفية للمذهب، بحيث لم ينقضِ القرن الخامس الهجري الا وكانت المدرسة قد بسطت هيمنتها الفكرية على الساحة العقدية (أمين ، ج2، 1969 : 66) . اما السبب الاخر والأهم على ما أعتقد فهو فكري راجع إلى اعتماد الأشاعرة على الأدلة السمعية في بعض امور العقيدة كصفات الخالق ورؤيته، وترجيحها على الأدلة العقلية، وهذا ماجعل الأفكار الأشعرية قريبة من تصور وفهم المسلمين وبالتالي كانت مقنعة اكثر لتساؤلات المسلمين لأنها تضع حد لشبهات العقل فهي ترتكز على الوحي والسنة النبوية ، فنحن مثلاً لو أخذنا السببين الأول والثاني وهما السياسي وكثرة الاتباع والدعاة لوجدنا ان المعتزلة امتلكت هذين السببين لكنها لم تنتشر في البلاد الاسلامية كما انتشرت الأفكار الأشعرية فاذن سبب الانتشار راجع بالدرجة الاساس إلى ان افكار الاشاعرة اشبعت حاجة يمتلكها الانسان المسلم ألا وهي الايمان بامور الغيب وعدم تعليلها تعليلاً عقلياً محضاً، لان الانسان المسلم على قناعة تامة بأن العقل عاجز عن أن يفسر بعض الامور ومايخص منها العالم الاخر او مايسمى حديثاً بالميتافيزيقيا.(1/10)
... ولكننا نرجع ونقول لولا تعاضد هذه الأسباب الثلاثة لما انتشرت الأفكار الأشعرية وأحكمت سيطرتها على الساحة العقدية، وبذلك أصبحت هذه الاراء والأفكار وعن طريق أصحابها عائقاً وجداراً يحول دون دخول الأفكار
الغربية للمجتمع الاسلامي، فكانت الحصن الحصين والسد المنيع بوجه الافكار الهدامة.
أبرز رجالات المدرسة الأشعرية :
... يتم الحديث اولاً عن الرائد الأول لهذه المدرسة والتي نسبت اليه وأخذت تسميتها من لقبه الا وهو الشيخ أبو الحسن الأشعري وسيتم الحديث عن حياته وسبب تحوله من المعتزلة، وشيء مختصر عن منهجيته. ثم بعد ذلك سنتناول وبشيء من الايجاز بعض اعلام المدرسة الاشعرية الذين مثلوا الطور الاول لتطور المدرسة الاشعرية، ونتناول ايضاً بعض الاعلام الذين مثلوا الطور الثاني لتطور المدرسة الاشعرية. لكي تتضح الصورة بعض الشيء عن هذه المدرسة وعن ابرز أعلامها.
أولاً: ابو الحسن الأشعري:
... هو (( علي بن اسماعيل بن أبي بشر واسمه اسحاق بن سالم بن اسماعيل بن عبدالله بن موسى بن بلال بن ابي موسى ابو الحسن الأشعري)) (ابن عساكر، د.ت : 35) . وابو موسى الصحابي الجليل واسم أبي موسى عبدالله بن قيس، ((ولد أبو الحسن الأشعري سنة ست وستين ومائتين وقيل سنة سبعين في البصرة وتوفي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وثلثمائة)) (المقريزي، ج2 ، د.ت : 359).
... وكانت ولادته في البصرة ونشأته فيها (ابن عساكر، د.ت : 35) لذا تُعد من العوامل المهمة في صياغة حياته الفكرية، لما امتازت به من مزيج من الألوان الفكرية التي كانت تزخر بها البصرة فلا عجب أن ينشأ أبو الحسن على مذهب زوج امه ابي علي محمد بن عبدالوهاب الجبائي أحد رجال الفكر الاعتزالي ومنظريه. فنشأ أبو الحسن تلميذاً للمعتزلة تربى بأفكارهم منذ نشأته الاولى وبقي يتتلمذ على زوج امه، ويحضر المجالس الفكرية والمناظرات التي كانت تُدار في البصرة منشأ الاعتزال ومعقله.(1/11)
ولشخصية أبي الحسن صفات عديدة منها ذكاؤه الحاد وسعة اطلاعه وثقافته، وكان عالماً بالتفسير والحديث وسمع ((زكريا الساجي وابا خليفة الجمحي، وسهيل بن نوح ومحمد بن يعقوب المقري وعبدالرحمن بن خلف الضبي المصري، وروى عنهم في تفسيره كثيراً، وكانت فيه دعابة ومرح كثير وقال مسعود بن شيبة في كتاب التعليم: كان حنفي المذهب ومعتزلي الكلام
لأنه كان ربيب أبي علي الجبائي، وهو الذي رباه وعلمه الكلام )) (المقريزي، ج2 ، د.ت : 359).
... واصل الأشعري مسيرته في الفكر الاعتزالي حتى صار إماماً من أئمة المعتزلة. والذي يبدو من المصادر التاريخية ان الأشعري حتى عندما وصل إلى هذه المنزلة العالية في الاعتزال كان قلقاً ولم يصل حد الاقتناع الكامل بما يقوله المعتزلة، وهذا نابع ربما من ذكائهِ العالي، وهمته وقدرته على البحث في مسائل الكلام، وبحثه عن الحقيقة، لكن أليس هذه الصفات كانت قاسماً مشتركاً . يجتمع عليهِ طلاب ورجال الاعتزال؟ فلماذا لم يتحولوا جميعهم عن الاعتزال؟ اذن لابد من أن نقف قليلاً عند هذهِ المسألة والنظر اليها من زوايا مختلفة.
مسألة تحول الأشعري عن آرائه الاعتزالية :
... يروي السبكي ((ان الامام الأشعري رحمه الله تعالى أقام على الاعتزال أربعين سنة حتى صار للمعتزلة اماماً، فلما أراده الله لنصرة دينه، وشرح صدره لاتباع الحق غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً، ثم خرج إلى الجامع، وصعد المنبر وقال : معاشر الناس ... إنما تغيبت عنكم هذه المدة لأني نظرت، فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ماكنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا، وأنخلع من ثوب كان عليه، ورمى به ، ودفع الكتب التي ألفها على مذاهب أهل السنة إلى الناس)) (السبكي، ج3، د.ت : 347-348).(1/12)
... والذي يتضح من رواية السبكي ان الأشعري كان يعاني من حالة عدم استقرار فكري ، ويتحدث الأشعري عن معاناته هذه بقوله ((وقع في صدري في بعض الليالي شيئاً مما كنت فيه من العقائد فقمت وصليت ركعتين وسألت الله تعالى ان يهديني الطريق المستقيم، ونمت فرأيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المقام فشكوت اليه بعض مابي من الأمر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك بسنتي فأنتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار، فأثبته ونبذت ماسواه ورائي ظهرياً)) (ابن عساكر، د.ت : 39).
... وتذكر المصادر أسباباً وصوراً متعددة لتغير الأشعري وتحوله من الاعتزال إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ونقلت رواية رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وأمره الأشعري بترك الاعتزال وسلوك سبيل السنة والرّد على المذاهب المبتدعة: نقلت هذه القصة بروايات متعددة . وهذا مما يجلعها عرضة للنقد كذلك وردت رواية اخرى أوردها ابن عساكر على لسان الشيخ الأشعري تحكي سبب تركه الاعتزال والظهور بمعتقد يخالف فيه المعتزلة ، ويوافق أهل السنة مدار الرواية حول مسألة رؤية الله تعالى. وهي من المسائل التي كانت مثار جدال بين أهل السنة والمعتزلة، ففيما كان أهل السنة يثبتون الرؤية كان المعتزلة ينفونها (ينظر: ابن عساكر، د.ت : 42-43) . ونحن نجد ان الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه مذاهب الاسلاميين لم يقتنع بهذه الرواية، كذلك جلال موسى اعتبرها رواية موضوعة ومحاولة من ابن عساكر لانطاق الاشعري (ينظر: بدوي،ج1 ، 1983: 179).(1/13)
... وان تعدد الروايات حول سبب التحول يتسم بالصناعة والسياق المفتعل بل والموضوع أحياناً وربما يرجع ذلك إلى الكره المستحكم للمعتزلة ولاسيما بعد محنة خلق القرآن ، فجاء تحول الأشعري تعبيراً عن الانتصار الساحق لأهل السنة والجماعة (من وجهة نظرهم) على المعتزلة، لذلك سيقت روايات متعددة تبين ان جدالاً ومناظرة بين الأشعري واستاذه الجبائي انتصر فيها الأشعري انتصاراً لم يدع فيه لاستاذه أي قدرة للدفاع عن نفسه منها مسألة الثلاثة المؤمن والكافر والصبي عندما يبعثهم الله يوم القيامة وهذه الرواية مشهورة في كتب العقائد . وهناك رواية يذكرها أحمد أمين : ((ان رجلاً سأل الجبائي هل يجوز أن يسمى الله عاقلاً .
... فقال الجبائي : لا لأن العقل مشتق من العقال والعقال بمعنى المنع والمنع على الله محال.
... فقال الأشعري : قياسك هذا لايسمي الله حكيماً لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج فاذا كان اللفظ مشتقاً من المنع والمنع على الله محال لزمت ان تمنع اطلاق حكيم عليه تعالى.
... فلم يجد الجبائي جواباً
... وسال الأشعري: ماتقول أنت قال اجيز حكيماً ولا اجيز عاقلاً لأن طريقي في مأخذ اسماء الله السماع الشرعي لا القياس اللغوي ، فأطلقت حكيماً لأن الشرع اطلقه ، ومنعت عاقلاً لأن الشرع منعه ولو أطلقه لأطلقته وهكذا سار بينهما الجدل حتى انفصل الاشعري عنه)) ( أمين ، ج2، 1969: 69).
... ويرى الدكتور جلال موسى ان هذه الرواية موضوعة أيضاً من قبل اعداء المعتزلة لغرض تشويه ارائهم (موسى، 1982 : 177).
... أما الذي يطلع على كتاب الابانة للأشعري فأنه يجد ان محنة خلق القرآن أثرت كثيراً على اراء الأشعري حتى بدا متعاطفاً مع علماء أهل السنة بسبب الظلم الذي وقع عليهم من قبل السلطة العباسية لذلك يصرح بأنه من أتباع الامام أحمد ابن حنبل ومن السائرين على طريقته وطريقة أهل الحديث(الأشعري،1977: 20).(1/14)
... من خلال ماتقدم يتضح أن مؤرخي علم الكلام السني حاولوا أظهار الأشعري بأنه كان باحثاً عن الحقيقة، وقد توصل اليها بعد المساعدة أو العون الآلهي، فأخذ يدعمها بأساليب الجدل والنقاش التي تعلمها على يد اساتذته المعتزلة. والباحث لايتفق مع هذا الرأي لأنه لايستطيع أن يقرر أي المدرستين المعتزلة أم الأشاعرة كان على صواب أم على خطأ ، بل يستطيع أن يقول إنَّ كليهما (المعتزلة والأشاعرة) اجتهد ولهما أجر المجتهد ، وكلاهما دافع عن الاسلام من خلال منهجيته التي اعتمدها وموقعه الذي شغله، وكلاهما له مواقف مشرفة ومحمودة في الدفاع عن الاسلام.
... قبل أن نغادر مسألة تحول الأشعري لابد لنا من عرض شخصية الأشعري على الدراسات الانثربولوجية : تؤكد هذه الدراسات ان الانسان أبن بيئته التي ينشأ فيها مع مايحمل من استعداد وراثي أي إن صراعات وتناقضات البيئة بتفاعلها مع العامل الوراثي هي التي تحدد شخصية الانسان، والأشعري هو ابن بيئة البصرة التي تحمل المتناقضات التي بينها بونٌ شاسعٌ ، كما يجب أن لا ننسى ان الأشعري عاش طفولته في بيت زوج امه ابي علي الجبائي المعتزلي والذي تتلمذ عليه الأشعري، فربما كان هناك نفور من الصغير في اللاوعي للأشياء التي يمارسها زوج الام بوصف ان هذه الأشياء مفروضة عليه قسراً كما كان مجبراً على العيش في بيت زوج الام، وبناءاً على ذلك يُعد تحول الأشعري عن أفكاره الاعتزالية مسألة طبيعية جداً لاسيما اذا أخذنا بنظر الاعتبار المظلومية التي كان يحس بها الأشعري والتي كانت واقعة على علماء السنة من قبل السلطة العباسية لرفضهم افكار المعتزلة والمتمثلة بمحنة خلق القرآن ( مع ان الأشعري لم يعاصر المحنة فهي انتهت قبل ولادته، لكنه كان متعاطفاً معها). لذلك كان الأشعري قلقاً ومضطرباً فكرياً عندما كان على الاعتزال، ولكن حين رجع عن اراء المعتزلة بدا أكثر استقراراً من السابق.
...
منهجيته في الكلام :(1/15)
... الأشعري كان يؤمن بأن مصدر العقيدة هو الوحي، والنبوة المحمدية، والطريق إلى معرفة الوحي هو الكتاب والسنة الصحيحة، وماثبت من الصحابة، وهذا ربما كان مفترقاً للطرق بينه وبين المعتزلة، أي انه يتجه في ذلك اتجاهاً معارضاً للمعتزلة اصحاب العقل، على الرغم من اعتقاده أن الدفاع عن هذه العقيدة السليمة وغرسها في قلوب الجيل الاسلامي الجديد محتاج إلى الحديث بلغة العصر العلمية السائدة، واستعمال المصطلحات العلمية ، ومناقشة المعارضين على اسلوبهم العقلي، وهذا كان ايضاً مفترقاً للطرق بينه وبين كثير من الحنابلة والمحدثين والذين كانوا يتحرجون من سلوك هذا الطريق (الندوي، 1960 : 32).
... ونتيجة لهذه الموازنة التي سار عليها الأشعري في حواراته ومناقشاته وابحاثه اصبح صاحب منهج معتدل كما يقول ابن خلدون ((وقام الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق)) (ابن خلدون، د.ت : 464). وكذلك كان الأشعري يذهب إلى ((أن حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع تكون مردودة إلى اصول الشرع التي طريقها السمع، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شيء من ذلك إلى بابه ولاتخلط العقليات بالسمعيات، ولا السمعيات بالعقليات)) (بدوي، 1983 : 23).
ثانياً: الاعلام الذين مثلوا الطور الاول للمدرسة الاشعرية:
1- ... القاضي ابو بكر الباقلاني :(1/16)
... (( القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني البصري المتكلم المشهور الملقب بشيخ السنة ولسان الامة ، والباقلاني نسبة إلى الباقلي وبيعه)) (ابن خلكان، ج4 ، 1970 : 269) . ولد بالبصرة وسكن بغداد ، انتهت اليه رياسة مذهب الأشاعرة ولد عام 338هـ وتوفي عام 403هـ (الزركلي، ج7، 1979 : 46). عُرف بالفطانة وقوة المناظرة كان في علم الاصول على مذهب الأشعري ، وكان موصوفاً بجودة الاستنباط وسرعة الجواب، وكان كثير التطويل في المناظرة ، وفي الفروع كان على مذهب الامام مالك واليه انتهت رياسة المذهب المالكي (ابن خلكان، ج4 ، 1970 : 269).
... يقال عنه : هو الملقب بسيف السنة ولسان الامة ورأس المتكلمين وصاحب المصنفات العظيمة ويعد من أكثر العلماء تصنيفاً في علم الكلام ، حتى انه كان لاينام كل ليلة الا بعد ان يكتب عشرين ورقة، لذلك انتشرت عنه تصانيف كثيرة منها التبصرة ودقائق الحقائق والتمهيد في أصول الدين وشرح الابانة وغير ذلك (ابن الأثير ، ج2 ، د.ت : 269).
... كان مجيء الباقلاني يمثل تواصلاً للمدرسة الأشعرية، فقد ولد بعد موت أبي الحسن الأشعري بسنوات قليلة، وفي نفس المكان الذي وهب لأهل السنة والجماعة علماً من اعلام الاسلام يهب مرة اخرى للأشعرية حيوية جديدة من خلال تاثر الباقلاني بالبيئة التي يعيش فيها وماتحمل من مؤثرات فكرية وعقائدية ثم بعد ذلك واصل الباقلاني مسيرته إلى بغداد وفي جامع المنصور لاستكمال بنائه الثقافي والفكري، ومنذ كان في البصرة بدأ صيته يعلو عندما كان شاباً (ينظر، ابن عساكر ، د.ت : 120).(1/17)
... وقد طوّر الباقلاني المدرسة الأشعرية واثراها بافكاره، وعمق فيها القدرة الكلامية ، وأدخل عليها مصطلحات فلسفية لم تكن قد وجدت فيها والغاية من هذا الأمر هي توظيف المصطلحات الفلسفية من أجل خدمة العقيدة الدينية وهذا يُعد انجاز للباقلاني في علم الكلام الاسلامي، لذلك يقول عنه ابن خلدون ((وأخذ عن الأشاعرة أبو بكر الباقلاني فتصدر للامامة في طريقتهم وهذبها ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والنظار وذلك مثل اثبات الجوهر الفرد والخلاء وان العرض لايقوم بالعرض وأنه لايبقى زمانين، وامثال ذلك مما تتوقف عليه ادلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الايمانية في وجوب اعتقادهم، لتوقف تلك الأدلة عليها وان بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول )) (ابن خلدون، د.ت: 465). وقد اشار إلى هذا الأمر كلٍ من الخضيري وأبو ريدة بقوليهما : (( أما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني، فقد كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناءاً منظماً لا من حيث الطريقة المنطقية الجدلية فحسب بل من حيث وضع المقدمات التي تبنى عليها الأدلة، ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها مع بعض على نحو يدل على امتلاك ناصية فن الجدل، وعلى طول اعتبار في اصول الاستدلال ، وعلى مِران في الاستنتاج الذي تجتمع فيه صورة الاستدلال وطريقته إجتماعاً منسقاً يدل على الخطوة الكبيرة التي خطاها الباقلاني وعلى تكوينه لبناء كلامي يوازي مايعرف في تاريخ الفلسفة الاوربية بالفلسفة المدرسية)) (الباقلاني، 1974 :15).(1/18)
... لذلك نستطيع القول إن المدرسة الأشعرية بدأت بسيطة على يد الأشعري بعيدة عن التعقيد والفلسفة والمنطق ثم تحولت على يد الباقلاني إلى علم الكلام الفلسفي معنى هذا ((لم يكن الباقلاني مجرد ناقل لتراث الأشاعرة المتقدمين عليه بل قد تمّ على يده توضيح بعض النقاط وتحديد بعض المفهومات، واضاف مباحث اخرى جديدة إلى علم الكلام كمباحث الجوهر والعرض ومايتعلق بهما من أحكام)) (رمضان، 1986 : 155).
... فقد تعامل الباقلاني مع الكثير من قضايا علم الكلام بقصد زيادة فاعلية أهل السنة والجماعة وتأهيل منهجية في النظر وعلم الكلام فوضع منهجاً متكاملاً وتوسع في التأويل، وعنده ((تدخل العقيدة كلها بجميع مسائلها في نطاق العقل، والجدل يدور في هذا النطاق والحجة تقرع الحجة على أساس العقل والمنطق، وبذلك تدخل القضايا المنطقية والبراهين الفلسفية في امور الدين ، وبذلك يتكون علم الكلام ويقوى لأنه الحجاج عن العقائد الأيمانية بالأدلة العقلية)) (موسى، 1982 : 320-321).
... من خلال ماتقدم يتضح ان دور ابي بكر الباقلاني في علم الكلام الاسلامي بعامة وفي نضوج المدرسة الأشعرية بخاصة كان دوراً بارزاً ومتميزاً بحيث أحدث نقلات نوعية في تطور علم الكلام وانضاج واضح للأفكار الأشعرية.
2- ... الشيخ أبو بكر بن فورك :(1/19)
... هو ابو بكر محمد بن الحسن بن فورك ، أقام في العراق في أول حياته حتى درس به مذهب الأشعري، ثم توجه إلى الري، وكان متكلماً اصولياً واعظاً وأديباً نحوياً (ابن خلكان، ج4، 1970 : 272). يذكر السبكي عن سبب أشتغال ابن فورك بعلم الكلام ، يقول ابن فورك ((كان سبب اشتغالي بعلم الكلام أني كنت بأصبهان اختلف إلى فقيه فسمعت أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فسألت ذلك الفقيه عن معناه فلم يجب بجواب شافٍ ، فأرشدت إلى فلان من المتكلمين فسألته ، فأجاب بجواب شاف، فقلت لابد لي من معرفة هذا العلم، فاشتغلت به )) (السبكي ، ج4، د.ت : 129 ) . والذي يتضح من هذه الرواية ان ابن فورك كان باحثاً عن الحقيقة، ولم يكتف بالحصول عليها بل اراد معرفة كيفية الحصول عليها وذلك بدراسة العلم الموصل اليها.
... وقد توفي الشيح رحمه الله سنة 406هـ في نيسابور ( ابن خلكان، ج4 ، 1970 : 272).
3 - ... الشيخ أبو اسحاق الاسفراييني :
... الفقيه الشافعي المتكلم الاصولي المتقدم في العلوم، الشيخ ابو اسحاق إبراهيم بن محمد بن ابراهيم بن مهران الأسفراييني الملقب بركن الدين (ابن خلكان ، ج1 ، 1970 : 28) . انصرف من العراق بعد المقام بها، وقد أقر له أهل العلم بالعراق وخراسان بالتقدم والفضل، ثم توجه إلى نيسابور ، ودرس في المدرسة التي بُنيت بنيسابور والتي لم يُبن قبلها مثلها (ابن عساكر، د.ت : 193).
... بلغ من الاجتهاد درجة عالية وتبحر في العلوم ، وأستجمع لشرائط الامامة من العربية، والفقه، والكلام، والاصول، ومعرفة الكتاب والسنة وكان من المجتهدين في العبادة المبالغين في الورع (ابن عساكر، د.ت : 244).(1/20)
... وقد أغنى المدرسة الأشعرية في مؤلفاته ومناقشاته مع الخصوم والرد عليهم، فله من المؤلفات: أدب الجدل ، والجامع الجلي والخفي في اصول الدين والرد على الملحدين ، والجامع المحلى في اصول الدين ... وغيرها (ابن العماد ، ج3، د.ت : 309) . أما من مناظراته يقال ((ان القاضي عبدالجبار المعتزلي دخل على الصاحب بن عباد وعنده الشيخ ابو إسحاق الاسفراييني ، فلما رأى الشيخ فقال:
سبحان من تنزه عن الفحشاء.
فقال الشيخ على الفور
سبحان من لايجري في ملكه إلا مايشاء.
فقال القاضي:
أيشاء ربنا أن يُعصى ؟.
فقال الشيخ:
أفيعصى ربنا قهراً؟.
فقال القاضي:
أرأيت إن منعني الهدى، وحكم علي بالردى أحسن إلي أم أساء؟.
فقال الشيخ:
إن منعك ماهو لك ، فقد أساء، وان منعك ماله هو ،فيختص برحمته من يشاء، فتعالى الله أن يكون في ملكه مالايشاء، أو يشاء مالايكون.. )) (السبكي، ج4، د.ت: 261-262). والذي يبدو من المناظرة السابقة ان كلاً من الاسفراييني والقاضي يدافع عن معتقده ونظريته في أفعال الانسان وعلاقتها بقدرة الخالق - سبحانه وتعالى - .
وقد توفي الشيخ رحمه الله سنة (418هـ) وقد نيف على الثمانين ودُفن بنيسابور (ابن العماد، ج3، د.ت: 209).
4 - ... الامام عبدالقاهر البغدادي :
... هو أبو منصور عبدالقاهر بن ظاهر بن محمد بن عبد الله البغدادي التميمي الفقيه الشافعي الأصولي الأديب (ابن خلكان، ج3 ، 1970 : 203) ولد ونشأ في بغداد ثم رحل مع ابيه إلى خراسان ، وسكن بنيسابور، وتفقه على أهل العلم والحديث حتى أصبح من فحول علماء الأشاعرة في الاصول( السبكي، ج5 ، د.ت: 137) ، وكان بارعاً في فنون عديدة منها علم الحساب، فانه كان متقناً له، وكان عارفاً بالنحو، والشعر (ابن خلكان ،ج3 ، 1970 : 203).(1/21)
... ويقال انه كان ذا مال وثروة قام بانفاقه على أهل العلم والحديث حتى افتقر، مما يدل على حبه للعلم والعلماء، ولم يكتسب بعلمه مالاً، وصنف في العلوم وأربى على اقرانه في الفنون، ودرس في سبعة عشر فناً، وقد تفقه على أبي اسحاق الاسفراييني ، فلما مات الأخير رحمه الله سنة (418هـ) جلس بعده للاملاء فأملى سنين (السبكي، ج5 ، د.ت : 350-351).
... وللامام تصانيف متعددة منها : كتاب (فضائح المعتزلة) والذي يبدو من اسم هذا الكتاب انه يحتوي على ردود ومؤخذات على النظرية الاعتزالية. وكتاب (الفرْقُ بين الفُرقَ) ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي ألفت في تاريخ الفكر الاسلامي وتفصيل لأهم الفرق الكلامية وتبيان لذكر نقاط الاختلاف مابينها وهو ينم عن معرفة ودراية للأمام باراء هذه الفرق. وله كتاب (الصفات) وله أيضاً كتاب (اصول الدين) (السبكي، ج5 ، د.ت : 140).
... ومن خلال ماتقدم من ذكر تصانيف الامام يتضح أن له دوراً بارزاً في الدفاع عن الاسلام بعامة وعن الاراء الأشعرية بخاصة.
... وفاته يقال : انه لما حدثت فتنة التركمانية في نيسابور خرج منها إلى اسفرايين، فابتهج الناس بمقدمهِ ابتهاجاً كبيراً، ولكنه لم يبق الايسيراً حتى مات فيها، وذلك سنة (429هـ) (ابن خلكان ، ج3 ، 1970 : 203).
5- ... إمام الحرمين أبو المعالي الجويني:(1/22)
... هو أبو المعالي عبدالملك بن الشيخ ابي محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب يوسف بن عبدالله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني الفقيه الشافعي المعروف بامام الحرمين (ابن خلكان ،ج3، 1970 : 167). سافر الامام إلى بغداد، ولقي بها جماعة من العلماء بعدها خرج إلى الحجاز، وجاور بمكة والمدينة المنورة أربع سنين يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب ، فلهذا قيل له أمام الحرمين ثم عاد إلى نيسابور في أوائل ولاية ألب أرسلان السلجوقي ، والوزير يومئذٍ نظام الملك فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور، وتولى الخطابة بها، وكان يجلس للوعظ والمناظرة ، وظهرت تصانيفه وحضر دروسه الأكابر من العلماء واستقامت امور الطلبة، وبقى على ذلك قريباً من ثلاثين سنة، وكان يجلس بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الائمة والطلبة (السبكي ، ج5، د.ت ، 170-171).
... اما دور امام الحرمين في تطور المدرسة الأشعرية لاينكر اذ ((أملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه ثم لخصه في كتاب الارشاد واتخذه الناس إماماً لعقائدهم)) (ابن خلدون ، د.ت : 465). لذلك يقال إنه له دور كبير في دخول واشاعة استعمال الاساليب الجديدة من فلسفة ومنطق في علم الكلام ، كما تخرج على يديه تلاميذ خدموا المدرسة ولعل ابا حامد على رأسهم حجة الاسلام الغزالي الذي لاينكر دوره في خدمة الشريعة الاسلامية على نحو عام والاراء الأشعرية على نحو خاص.
... لقد توفي هذا العالم الجليل سنة (478هـ) ودفن في نيسابور (ابن خلكان، ج3، 1970 : 170).
ثانياً: علماء الطور الثاني:
... نقصد هنا بالطور الثاني هو دخول الاساليب المنطقية والفلسفية في المدرسة الأشعرية فبعد أن مهد لها ابو بكر الباقلاني وشجع عليها الامام الجويني سنجد ان حجة الاسلام الغزالي اعتمد عليها اعتماداً واضحاً في محاججاته مع خصومه
وفي بناء افكاره، وكتابة مؤلفاته لذلك سيكون أبو حامد الغزالي أول رجال هذا الطور.(1/23)
1- ... حجة الاسلام أبو حامد الغزالي:
... هو محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الغزالي الملقب حجة الاسلام زين الدين الطوسي (ابن خلكان، ج4 ، 1970 : 216). ولد بطوس سنة (450هـ) لأسرة فقيرة كان والده يغزل الصوف (السبكي، ج6 ، د.ت : 191).
... درس الغزالي على يد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في المدرسة النظامية في نيسابور ، وكان الوزير نظام الملك قد بنى النظامية في نيسابور والنظامية في بغداد، وكان الغزالي قد بدأ دراسته الفقهية في مسقط رأسه طوس وفي جرجان ، لكن شهرة إمام الحرمين جذبته إلى النظامية التي كان يرأسها الجويني، فجلس عنده لطلب العلم فدرس عليه الفقه وأصوله والجدل والمنطق والفلسفة، وكان إمام الحرمين معجباً بفطانته وحكمته وذكائه وإتساع علمه فكان يقول عنه . بحر مغرق (السبكي، ج6 ،د.ت : 195-196).
... كان الغزالي يحمل علماً غزيراً وذكاءاً حاداً ومما يدلنا على ذلك مصنفاته في العلوم الدينية والمنطقية والفلسفية ، يضاف إلى ذلك مزجه بين التصوف كعلم وسلوك واسلوب تربوي وبين العلوم الشرعية ، وهي محاولة رائدة ضمنها في كتابه المشهور أحياء علوم الدين. أما في علم الكلام فقد كان الإمام الغزالي عالماً متمرساً في الحوار والنقاش متحلياً بالموضوعية في طرح الاراء مبتعداً عن التعصب والتقليد الأعمى، فعلى الرغم من انه كان يذم علم الكلام عندما لم تكن الحاجة اليه ويكون ترفاً فكرياً ولم يكن شيئاً منه مألوفاً في العصر الأول، وكان الخوض فيه بدعةً، ولكنه تغير حكمه فيما بعد إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة ماذوناً فيه بل صار من فروض الكفاية وصار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حماية لقلوب العوام عن اراء المبتدعة وأقوالهم (الغزالي، ج1، د.ت : 22).
... فنجده يذم كل من يدعو إلى التعصب ويرى (( ان العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر ومباينته ولو في شيء نزر ضلال مبين وخسر )).(1/24)
... فيقول له : ((فهون أيها الأخ المشفق المتعصب على نفسك، فأما أنت إن اردت أن تنتزع هذه الحكمة من صدرك وصدر من هو في حالك فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحد الكفر فأن زعم حّد الكفر مايخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم فأعلم أنه غرُّ بليد ، ولعله يميل إلى الاشعري ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي ، فأسأله من اين ثبت له أن يكون من الحق وقفاً عليه حتى اقتضى بكفر الباقلاني إذا خالفه في صفة البقاء لله تعالى وزعم انه ليس هو وصفاً لله تعالى زائداً على الذات ، ولِمَ صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني ... ثم يقول فأن تخبط في جواب هذا او عجز عن كشف الغطاء فيه فاعلم أنه ليس من أهل النظر وإنما هو مقلد ، وشرط المقلد أن يسكت ويُسكت عنه لأنه قاصر على سلوك طريق الحجاج ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفاً على واحد من النظار بعينه فهو إلى الكفر والتناقض اقرب، أما الكفر فلأنه أنزله منزلة النبي المعصوم عن الزلّل الذي لايثبت الايمان الا بموافقته ولايلزم الكفر إلا بمخالفته)) ( الغزالي، د.ت : 125-127).
... لقد بلغت شهرة الغزالي ومكانته العلمية في العالم الاسلامي أوجها ووصل الرجل أقصى مايصل اليه عالم في ذلك العصر من السمو والرئاسة وأقبل اليه الطلبة من الافاق وخضع له العلماء والامراء والوزراء، وبقي في عاصمة العالم الاسلامي يدرس ويفيد ويؤلف وكان في ذلك عالماً ومتعلماً يحرص على الافادة ونشر العلم (الندوي، 1960 : 159-160).(1/25)
... من خلال ذلك نقول إن الامام الغزالي أعطى للمدرسة الأشعرية صورتها الناضجة المتكاملة، اذ وصلت إلى ذروة مجدها وفاعليتها على يديه، فقد حاول الغزالي ان يوظف كل علوم عصرهِ من خلال سعة اطلاعهِ لنصرة علم الكلام والدفاع عن العقيدة الاسلامية، اذ مكنته ثقافته العالية زيادة على رصيده العلمي أن يظهر كشخصية علمية متميزة بابتعادها عن التقليد والتعصب واقترابها من الموضوعية، وبذلك نجد ان الأشعرية قد وصلت إلى أقصى مداها عند الإمام الغزالي ، فقد مثل منهجيتها وعبر عن أسلوبها في الإقناع والتأثير وأثبت تحررها من التعصب وفرض الاراء على المخالفين، وقد نجح الامام الغزالي في استخدام العقل في اثبات العقائد وفي مجال التأويل وكذلك في مجال الدفاع عن العقيدة والرد على الخصوم وهذا مانجده واضحاً من خلال ماتركه لنا من مؤلفات قيمة جداً ولعل من أهمها: قواعد العقائد ، فيصل التفرقة ، القسطاس المستقيم، تهافت الفلاسفة، وأحياء علوم الدين. أما وفاته فقد كانت يوم الاثنين الرابع عشر من جمادي الآخرة سنة (505هـ) ودفن بطوس (السبكي، ج6 ، د.ت : 201).
2 - ... الامام فخر الدين الرازي:(1/26)
... هو (( الإمام فخر الدين الرازي العلامة أبو عبدالله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل الشافعي المفسر المتكلم )) (ابن العماد، ج5 ، د.ت : 21). تربى الرازي في بيت علم، وكان والده الشيخ ضياء الدين خطيباً وعالم الري خير مؤثر في تكوين شخصية ولده العلمية والثقافية، فقد ساعدهُ في تحصيل شتى العلوم، وكان أول أمره فقيراً، ثم فتحت عليه الأرزاق، وانتشر إسمه، وبُعد صيته، وكان من أهل الدين والتصوف، وكان واعظاً ماهراً باللسانين العربي والفارسي، ترك الري وتوجه إلى خوارزم، فجرت بينه وبين المعتزلة مناظرات أدت إلى خروجه منها – وهذا دلالة على انتشار افكار المعتزلة ورجالها في خوارزم - ، ثم قصد بلاد ماوراء النهر ، فجرت له أشياء مثل ماجرى بخوارزم، فعاد إلى الري، كما ذُكر انه أقام بهراة، وكان يلقُب بها شيخ الاسلام ، وكان شديد الردّ على الحشوية (1) ( السبكي، ج8 ، د.ت: 86-87).
... للامام فخر الدين الرازي مصنفات كثيرة في مختلف العلوم والفنون يذكر أنها زادت على تسعين مصنفاً في كل من التفسير، وعلم الكلام ، وفي الحكمة، والعلوم الفلسفية ، وفي العلوم والاداب العربية، وفي الفقه وأصوله، وفي الطب ، وفي الطلسمات والعلوم الهندسية، وفي التأريخ (ينظر: الرازي، 1938 : 27) . ومن تصانيفه في علم الكلام (أساس التقديس) و (الأربعين في اصول الدين) و(محصل افكار المتقدمين والمتأخرين) و (إعتقادات فرق المسلمين والمشركين) (ينظر : السبكي، ج8، د.ت : 87).
__________
(1) (*) ... الحشوية: ويطلقون عليهم المجسمة في بعض الاحيان، لكن الحشوية تعني إنهم يحشون الاحاديث في كلامٍ يروق لهم ويتفق مع فكرتهم في التجسيم.(1/27)
... بناءاً على ماتقدم نستطيع القول ان الفخر الرازي كان شخصية مؤثرة وفاعلة في تأريخ الفكر الاسلامي لما يمتلكه من حصيلة علمية وفكرية أهلته ومكنته من أن يطرق ابواب مختلفة في العلم ، ولاسيما باب علم الكلام، اذ كان ضليعاً في هذا المضمار وخير شاهدٍ على ذلك كتبه التي ألفها فيه والتي أهمها كتابيه (المحصل) و(الاعتقادات) مما يدلُ على إنه كان على دراية كافية بأفكار من تقدمه في هذا الباب . وهذا الدور الذي قام به الرازي على مستوى الفكر الاسلامي ينسحب بالتالي على مكانته في المدرسة الأشعرية بوصفه من رجالها البارزين.
... أما وفاته فقد كانت سنة (606هـ) ( ابن خلكان، ج4، 1970: 252).
دور الأشاعرة في الدفاع عن الاسلام :
... لقد قام الأشاعرة بمهمة الدفاع عن العقيدة الاسلامية، منذ بزوغ فجرهم، وتعددت أساليب الدفاع عندهم وذلك من خلال المناقشة والحوار مع الأخر وجهاً لوجه، أو من خلال مناقشاتهم لاّراء من خالفهم في محاضراتهم ودروسهم التي يقدمونها إلى طلاب العلم، أو من خلال مؤلفاتهم التي الفوها لبيان عقائدهم وأفكارهم فيها والرد من خلالها على افكار من خالفهم وبيان التناقض فيها، وقد قام بهذه المهمة اقطاب هذه المدرسة أبتداءً بالأشعري ومروراً بالباقلاني والجويني والغزالي والرازي، وكلٌ منهم قام بدوره بحسب ما تقتضيه ظروف العصر وتحدياته التي عاش خلالها.(1/28)
... وقد اتسم الأشاعرة بروح البحث العلمية ، فقد أعتكفوا على دراسة تراث من سبقهم من الامم والفرق، ولاسيما اراء المعتزلة ، اذ استعادوا الأعتزال واستوعبوه ، وأعادوا ترتيب المنظومة الفكرية الاعتزالية على وفق نسق متطور يتفق وفهمهم للعقيدة الاسلامية، ((فقد امتص اتباع ابي الحسن الأشعري منهج المعتزلة امتصاصاً تاماً بل ربما كان أهتمام الأشاعرة بالتنظير لهذا المنهج أعمق وأوسع . لقد دخلوا في نقاش وجدال مع المعتزلة، فتأثروا بهم وتبنوا بصورة كاملة منهجهم. فضلاً عن اعتمادهم الاستدلال بالشاهد على الغائب كطريقة مثلى في النظر كما تبنوا كثيراً من المقدمات التي وضعها المعتزلة كاصول عقلية لمذهبهم)) (الجابري، 1984: 121).
... وقد تمثل دور الأشاعرة في الدفاع عن الاسلام في جبهتين:
أولاً: ... الجبهة الداخلية وكان على رأسها المعتزلة والحشوية.
ثانياً: ... الجبهة الخارجية وتمثلت في الردّ على بعض الفرق الخارجة على التوحيد أو المنكرة للنبوات والردّ على الفلاسفة.
اولاً : ... الجبهة الداخلية :
... ظهر الأشاعرة في فترة خصبة جداً لابل أخصب وانضج فترة من تأريخ الفكر الاسلامي، وسط تنوع أفكار المدارس وارائها، ولعل الذي كان يشغل الرأي العام منها أفكار المعتزلة الذين اسرفوا بعض الشيء في الاعتماد على العقل، وذهبوا إلى نفي الصفات بسبب تأثرهم بالفكر اللاهوتي النصراني، فجاء فكرهم معبراً عن ردة الفعل حتى لايقعوا بالقول باثبات ذوات متعددة قديمة كما قالت النصارى في الأب والابن وروح القدس. بينما ذهب الطرف الاخر ضدهم (ضد المعتزلة) أي بالاتجاه المعاكس، فألغوا دور العقل وغلبوا النقل وجعلوا العقل اسيراً للنقل ، حتى اثبتوا الصفات فجعلوا للخالق جسماً كالاجسام وهذه الصفات ترتبط صورتها الذهنية بما تدل عليه النصوص دلالة مباشرة وهذه الفرقة يطلق عليها المجسمة او الحشوية (ينظر: الكردي، 1989 : 182-185) .(1/29)
لذلك جاء ابو الحسن الأشعري ((وسلك طريقاً بين النفي الذي
هو مذهب الاعتزال وبين الاثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه فمال اليه جماعة وعولوا على رأيه)) (المقريزي، ج2،
د.ت : 359).
... معنى ذلك ان الأشعري أراد أن يسلك السلوك الوسط من أجل التنزيه، وبما يمتلك من قدرة عالية على التفكير ومهارة وخبرة متراكمة على النقاش اكتسبها من خلال الفترة الطويلة التي قضاها مع المعتزلة ، فأستخدم منهجاً عقلياً مؤطراً بالنقل، فتمكن من ادراك العلل والغايات، والربط ما بين الأدلة والايات فادرك بان النفي يؤدي إلى تعطيل فاعلية العقيدة في حياة البشر، وكذلك الاثبات المجسم يؤدي إلى تشويه عقيدة التوحيد.
... والذي يطلع على أسماء كتب الأشعري التي ذكرها كل من ابن عساكر في تبيينه والسبكي في طبقاته، يجد ان هذه الكتب الفت للرد على أقوال الفرق المعاصرة لزمن الأشعري، وهذا يبين دور المدرسة الاشعرية في الدفاع عن الاسلام.
... فالاشاعرة اذاً ((وضعوا السلاح الفلسفي للمعتزلة في خدمة السنة
النبوية)) ( بروكلمان ، ج4 ، 1974 : 38) ، أي انهم لم يبتعدوا عن
النقل كما فعل المعتزلة، ولم يبتعدوا عن العقل كابتعاد الحشوية (رمضان،
1986 : 95).
... من خلال ماتقدم يتضح ان للمدرسة الأشعرية دور في الدفاع عن العقيدة الاسلامية على المستوى الداخلي تمثل في الرد على المعتزلة والحشوية.
ثانياً : ... الجبهة الخارجية:
... تمثلت المواجهة الفكرية في هذه الجبهة على ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: ... الرد على الفرق الخارجة على التوحيد والتي تمثلت في :
اولاً: ... القائلون بفعل الطبائع ((أي ان موجد هذا العالم هو الطبيعة)) (الباقلاني ، 1974 : 34).
ثانياً: المنجمون ((والذين يذهبون إلى ان يكون صانع هذا العالم ومصوره، ومدبره ونافعه، وضاره ومبتليه: الافلاك السبعة التي هي الطوالع : الشمس والقمر والمريخ والمشتري وزحل وعطارد والزهرة )) ( الباقلاني، 1974: 48).(1/30)
ثالثاً: الثنوية: وهم الذين اثبتوا أصلين للعالم هما النور والظلمة ، فالنور إله الخير، والظلمة إله الشر (الباقلاني ، 1974 : 60).
رابعاً: المجوس : وهم فرقة من الثنوية إلا أنهم زعموا أن الأصلين ليسا قديمين، بل النور وهو الإله أزلي، والظلمة وهي الشيطان محدثة (الباقلاني، 1974: 70).
خامساً: النصارى :
... ((ذهبت النصارى إلى ان الباري - سبحانه وتعالى - عن قولهم جوهر، وأنه ثالث ثلاثة، وعنوا بكونه جوهراً أنه أصل للاقانيم ، والاقانيم عندهم ثلاثة: الوجود ، والحياة، والعلم ، ثم يعبرون عن الوجود بالأب ، وعن العلم بالكلمة ، وقد يسمونه إبناً، ويعبرون عن الحياة بروح القدس. ثم زعموا أن الكلمة إتحدت بالمسيح، وتدرعت بالناسوت منه، وإختلفت مذاهبهم في تدرع اللاهوت بالناسوت، فزعم بعضهم أن المعني به حلول الكلمة جسد المسيح، كما يحل العرض محله، وذهبت الروم إلى ان الكلمة مازجت جسد المسيح، وخالطته مخالطة الخمر اللبن)) (الجويني، 1950 : 49-50).
... وقد رد علماء المدرسة الأشعرية على هذه الفرق التي خرجت عن التوحيد ولعل أول من انبرى لهذه المهمة القاضي ابو بكر الباقلاني وذلك من خلال كتابه الموسوم (بالتمهيد في الرد على الملحدة (1) والمعطلة (* (2) ) ، فقد بين خطأ مقالتهم ووضح تناقض أدلتهم، اذ ناقشهم باسلوب علمي مبني على تقصي الأدلة المنطقية.
الاتجاه الثاني: ... تمثل في الرد على من أنكر نبوة سيدنا محمد
– عليه الصلاة والسلام - ، وطعن فيها من المجوس والصابئة والنصارى واليهود.
__________
(1) (*) ... الملحده : وهم كل من أنكر وجود الخالق.
(2) (**) ... المعطلة: وهم الذين امتنعوا عن القول بأن هناك صفات للخالق.(1/31)
... وهؤلاء جميعاً حاولوا زعزعة ثقة المسلمين بنبوة نبيهم محمد – عليه الصلاة والسلام - ، وذلك من خلال الطعن والتشكيك في صدقها، وهذه المسألة إلى الآن مازال معظم مفكري الغرب يحاولون الدخول من خلالها إلى نفوس المسلمين لاضعاف عقيدتهم وايمانهم، وذلك بتشكيكهم وزعزعة ثقتهم بنبوة محمد – عليه الصلاة والسلام – ، وبالتالي يقصدون من وراء ذلك إلى تشكيك المسلم بالرسالة الاسلامية ككل ، ويقولون إنَّ الاسلام ديانة منتحلة من ديانات سابقة ويستدلون على ذلك من خلال بعض النقاط العامة المشتركة التي تلتقي عليها الديانات السماوية، فاتهم ان سبب التشابه راجع إلى أن مصدر هذه الديانات واحد وهو الله - سبحانه وتعالى - .
... وقد تصدى لهذه الفرق جميعاً القاضي ابو بكر الباقلاني وذلك في كتابه التمهيد. واثبت نبوة نبينا محمد – عليه افضل الصلاة والسلام - ، وذلك لاحساسه بخطر هذه الطروحات الفكرية على المجتمع الاسلامي خاصةً والمجتمع الانساني عامةً ، على إعتبار إنَّ الاسلام رسالة لكل المجتمعات الانسانية.
... يبدأ الباقلاني بالاستدلال على ثبوت نبوة الرسول – محمد – عليه افضل الصلاة واتم التسليم اذ يقول : فإن قال قائل: قد دللتم على جواز إرسال الرسل – عليهم السلام – فما الدليل على إثبات نبوة نبيكم مع خلاف من يخالفكم في ذلك من النصارى واليهود وغيرهم من أهل الأديان ؟ قيل له : الدليل على ذلك ماظهر على يده - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، والحجج النيرة الخارقة للعادة، والخارجة عما عليه العادة وتركيب الطبيعة.
... والله - سبحانه وتعالى - لايظهر المعجزات، ولاينقض العادات إلا للدلالة على صدق صاحبها ، وكشف قناعهِ، وايجاب الاقرار بنبوته ، والخضوع لطاعته، والانقياد لأوامره ونواهيه (الباقلاني، 1974 : 132) ويسترسل في كلامه مدعوماً بالأدلة العقلية والنقلية لاثبات نبوة الرسول الكريم محمد – عليه الصلاة والسلام - .(1/32)
الاتجاه الثالث: ... وقد تمثل في الرد على الفلاسفة .
... تصدى لهذه المهمة حجة الاسلام أبو حامد الغزالي حاملاً راية الجهاد والدفاع عن العقيدة، فكان جل اهتمامه الرد على الفلاسفة واظهار تهافت وتناقض مقالاتهم فيما ذهبوا اليه وذلك في مسائل ثلاث وهي:
1- قولهم بقدم العالم (والذي يؤدي إلى تعدد القدماء).
2- قولهم ان الله – تعالى عن قولهم – لايعلم الجزيئات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن، وما كان ، ومايكون.
3- إنكارهم للبعث والحشر الجسمانيين.
... لقد رد الامام الغزالي على الفلاسفة بكل قوة وغيرة وحمية عن الدين وروح العقيدة الاسلامية، فألف كتاباً في الرد عليهم اسماه تهافت الفلاسفة قائلاً فيه: (( فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الاغبياء، إنتدبت لتحرير هذا الكتاب رداً على الفلاسفة القدماء، مبيناً تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالالهيات)) (الغزالي، 1962: 38-39).
... من خلال كل ماتقدم نستنتج ان للأشاعرة دوراً مهماً وعظيماً في الدفاع عن العقيدة الاسلامية، وقد توزع هذا الدور على جبهتين جبهة داخلية، وجبهة خارجية، وانهم بجانب الفرق الاسلامية الاخرى كالمعتزلة والامامية قد شكلوا جداراً قوياً وجعلوا من الاسلام قلعة حصينة تقف بوجه كل من أراد أو حاول ان يخترقها.(1/33)
المقدمة :
... أقتضت الدراسة الحالية التعرف على الأصول الاعتقادية عند كلٍ من المعتزلة والاشاعرة ومن ثم مقارنة بعض القضايا التي تستحق المقارنة وذلك لأمور عدة منها:
اولاً: ... لكي تكتمل الصورة عند من يريد ان يطلع على هذه الدراسة أو يُريد ان يتعرف على أهم المبادئ الفكرية عند المدرستين.
ثانياً: ... التعرف على أهم مسائل العقيدة الاسلامية من خلال عرض اراء المدرستين.
ثالثاً: ... تبيان نقاط الالتقاء والاختلاف مابين المدرستين.
رابعاً: ... ولعل هذا هو الأهم . ان هذهِ الاصول الاعتقادية عند رجال او أتباع أو طلاب كلٍ من المدرستين تعدُ توجيهات أو ارشادات مهمة ومؤثرة يتلقاها الأتباع أو الطلاب، وعلى ذلك تكون هي الموجه الحقيقي لسلوكهم أزاء كثير من القضايا الاساسية والفاعلة في حياتهم الدنيوية من خلال علاقتهم مع بعضهم بعضاً وعلاقتهم بالكون وعلاقتهم بخالقهم.
خامساً: ... ان هذهِ الاصول الاعتقادية عالجت كثير من القضايا التي كانت تُثار في ذلك الوقت، ونحن اذا لم نستفد منها (ربما لانها كانت وليدة ظروفها وبيئتها من وجهة نظر البعض) وهذا غير صحيح ؛ لانها مرتكزة على اساسٍ قوي ألا وهو القرآن الكريم ، فلعلنا نستفيد من الآلية التي من خلالها كانت هذهِ الأصول هي الدواء الشافي لكثير من العلل التي تصيب المجتمع.
... وبناءً على ماتقدم جاء هذا الفصل متكوناً من ثلاثة مباحث: ضم المبحث الأول الاصول الاعتقادية عند المعتزلة والتي تُعرف بالاصول الخمسة. في حين ضم المبحث الثاني أهم الاصول الاعتقادية عند الاشاعرة أو التي رد من خلالها الاشاعرة على المعتزلة . وجاء المبحث الثالث على وفق هدف الدراسة الحالية فكان عبارةً عن مقارنات في بعض القضايا الفكرية المهمة مابين المدرستين.
المبحث الأول
الأصول الأعتقادية عند المعتزلة(1/1)
... لقد أجمع شيوخ الاعتزال الكبار على خمسة اصول اعتقادية، وهذه الاصول اشبه ماتكون بالأعمدة الرئيسة التي لايُنال شرف الانتساب اليهم ألا من قام فكره على أساسها وقواعدها (عمارة ، 1984 : 43).
... وتعد الاصول الخمسة الجامع المشترك الذي التقى عليه قاطبة أهل الاعتزال فيما بعد ، بحيث اصبح اعتمادها سمة فارقة وعلامة مميزة يعرف بها رجال الاعتزال عمن سواهم، كما يذكر لنا ذلك الخياط المعتزلي ((وليس يستحق احد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاصول الخمسة : التوحيد والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاذا كملت في الانسان هذه الخصال فهو معتزلي)) ( الخياط ، 1925 : 126).
... وكما مر بنا في الفصل السابق فان الهجمة العقدية والتحديات الفكرية انذاك قد تركت أثرها في صياغة هذه الاصول فهم قد عدوها خمسة لأنهم رأوا فيها جماع القضايا المثارة والتي دار من حولها الجدل والصراع في الفكر الاسلامي.
... وهذا ما أجاب به القاضي عبدالجبار المعتزلي في كتاب شرح به هذه الأصول عن سؤال السائل : ولم اقتصرت على هذهِ الاصول الخمسة ؟ فيجيب : لاخلاف ان المخالفين لنا لا يعدو احد هذه الاصول ألا ترى ان خلاف الملحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في التوحيد ، وخلاف المجبرة باسرهم دخل في باب العدل ، وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد وخلاف الخوارج داخل تحت المنزلة بين المنزلتين ، وخلاف غالية الامامية داخل في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (القاضي ، 1965 : 124).
... وبهذه الأصول الخمسة وماتولد فيها وتفرع عنها كان قد أكتمل المذهب ونضجت الموضوعات، وسنعرض هذه الأصول بصورة موجزة:
اولاً: التوحيد :-
... شكل مبدأ التوحيد الإطار العام لفكر مدرسة المعتزلة ، فقد اكدت أهميته ووضحت مفهومه واعتبرته من أولى الشروط الواجبة لحركتهم الفكرية.(1/2)
... وقد ردّ المعتزلة كل شيء يتعارض مع وحدانية الله وأزليته فأنكروا ان يكون للهِ صفات قديمة خارجة عن ذاته، فاللهُ عالم بذاته، قادر بذاته حي بذاته، لابعلم وقدرة وحياة، هي معان قديمة قائمة بذاته، اذ لو شاركته هذهِ الصفات في القدم لشاركته في الوهيته ( الاشعري ، ج1، 1950 : 216) . والحق ان المعتزلة يعنون بالتوحيد التنزيه المطلق لله تعالى عن كل مايوهم تشبيهه بصفات المخلوقين، لذلك قامت فلسفة المعتزلة على مبدأ التنزيه، لذلك رفضوا كل مايتنافى مع هذا المبدأ، وسواء عليهم أأصابوا أم أخطأوا في نهجهم فالمهم لديهم هو تنزيه ذات الباري وصفاته، وقد قال الغزالي عنهم وهو يتحدث عن رؤيتهم ((وأما المعتزلة ... فهؤلاء تغلغلوا في التنزيه، محترزين من التشبيه)) (الغزالي، د. ت : 48) .(1/3)
... واحترازاً من الوقوع في خطر التشبيه جاء أصل التوحيد عند المعتزلة سالباً عن الله كل تصور بشري وهم بذلك يعارضون التصور اليهودي لله ويعارضون اراء المجسمة والمشبهة والحشوية، وينقل لنا الاشعري في مقالاته بعضاً من اراء المعتزلة في التوحيد : أجمعت المعتزلة على أن الله واحدٌ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ليس بجسم ولاشبح ولا صورة ولا لحم ولا دم (رداً على المجسمة) ، ولاشخص ولاجوهر ولاعرض (رداً على المسيحية التي ترى ان الله جوهر يتقوم بأقانيم) ولابذي لون ولاطعم ولا رائحة (رداً على اليهودية التي تقول أنه ذو وفرة سوداء أو بيضاء) ولا مجسة ولابذي حرارة ولا برودة ولارطوبة ولايبوسة (رداً على الحشوية المشبهة القائلين بأن النبي ليلة المعراج قد صافحه الله وأحس ببرد أنامله على كتفه ) ( الاشعري ، ج1، 1950: 216) ولاطول ولاعرض ولاعمق (رداً على المجسمة تصورهم الإله سبعة أشبار بشبر نفسه) ، ولا اجتماع ولا افتراق ولايتحرك ولا يسكن (تأويل منهم لكل آية تفيد نزول الله او عروجه) ، ولايتبعض فليس بذي أبعاض وأجزاء أو جوارح وأعضاء ( دحض لتصورات غلاة المشبهة الذين أجروا على الله كل الجوارح من صفات المخلوقين عدا الفرج واللحية) ( الشهرستاني، ج1، د. ت : 141).
... كذلك قالوا : ليس بذي جهات، ولابذي يمين وشمال وامام وخلف وفوق وتحت ولايحيط به مكان ( رداً على الصفاتية تصورهم الله في السماء ورداً على المشبهة تصورهم الله مماساً للعرش) ، ولايجري عليه زمان ولاتجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولايوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه ولايوصف بمساحة ولاذهاب في الجهات وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ... ولاتدركه الحواس ولا يقاس(1/4)
بالناس ... ولاتجري عليه الآفات ولاتحل به العاهات (رداً على اليهودية قولها أن الله ندم على طوفان نوح حتى مرض فعادته الملائكة) .. لاتراه العيون ولاتدركه الأبصار ولاتحيط به الأوهام ولايسمع بالأسماع ، شيء لا كالأشياء، عالم قادر لا كالعلماء القادرين الأحياء، وانه القديم وحده لاقديم غيره ولا اله سواه ولاشريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولامعين على انشاء ما انشأ وخلق ماخلق، ولم يخلق الخلق على مثال سابق (رداً على نظرية المثل الافلاطونية) ، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولايناله السرور واللذات ولايصل اليه الأذى والآلام (ينظر: صبحي ، 1976 : 85) .
... وتفرع عن هذا الأصل فروع عدة منها :
ا - ... الصفات الألهية :
... ولأجل التنزيه في أصل التوحيد ذهب المعتزلة إلى نفي الصفات الألهية على اعتبار نفي قيام الصفات بالذات أو استقلالها عنها لما يؤدي ذلك من تعدد القدماء بحسب رأيهم لذلك كانوا يقولون: ان اثبات صفات قديمة بجوار الذات هو اثبات الهين قديمين ومحال وجود الهين قديمين ؛ لأن القدم وصف لذات واحدة (الشهرستاني ، ج1، د . ت : 57).
... معنى ذلك ان حمل الصفات على انها معاني قائمة بالذات تجعل الله – بحسب تصور المعتزلة – جوهراً تلحقه الأعراض وهذا ماينكره المعتزلة بشدة حفاظاً منهم على التوحيد الخالص، أي ان نفهيم لصفات الله ليس بمعنى انكارهم لوجودها كما يتصور فهم أثبتوا عينية الصفات لكنهم نفوا عن أن تكون هذه الصفات زائدة على الذات وهذا مايؤكده ابو الهذيل العلاف بقوله: الله عالم بعلم وعلمه ذاته وقادر بقدرة وقدرته ذاته ... وهكذا في سائر الصفات ( البغدادي، 1948: 108).(1/5)
... يستخلص من ذلك ان الصفات الآلهية عند المعتزلة ماهي ألا اعتبارات عقلية لا وجود لها خارج تصور الذهن ( عبدالحميد ، 1991 : 236) والذي لابد من قوله ان فلسفة المعتزلة في هذه القضية قائمة على المنافحة عن عقيدة الاسلام ازاء التفسير المسيحي والرد على فكرة الاقانيم لدى النصارى فالقول بأن الذات الالهية جوهر يتقوم باقانيم – أي صفات – هي الوجود والعلم والحياة . قد انتهى إلى امكان استقلال الأقانيم عن الجوهر ، والى اعتبار الصفات اشخاصاً، فجاء المعتزلة ونفوا عن الله الجوهرية من جهة وعدوا الصفات قائمة بالذات متقومة بها من جهة اخرى وذلك لنفي ادنى تصور لإمكان استقلال الصفات عن الذات او مغايرتها لها ، ونتيجة لهذا الرأي فقد شن خصوم المعتزلة هجوماً عليهم في هذه المسألة وصوروها على غير ما هي عليه ، حتى قال احد الأشاعرة عنهم : ((فما اتفق عليه جميعهم من مساوئ فضائحهم نفيهم صفات الباري جل جلاله حتى قالوا انه ليس له - سبحانه – علم ، ولاقدرة ، ولا حياة ، ولا سمع ، ولا بصر، ولا بقاء ، وانه لم يكن له في الأزل كلام ولا ارادة ولم يكن له في الأزل اسم ولاصفة ... )) (الاسفراييني ، 1940 : 63) والاسفراييني هنا متحامل على المعتزلة فلم يكن منصفاً لهم .
... فالصحيح ان المعتزلة لم يقولوا ذلك ولم ينكروا الصفات كما بينا ولكنهم قالوا ان الذات والصفة واحد فالله عندهم عالم قادر سميع بصير بذاته لابصفاته، ولايلزم – كما ادعى الاسفراييني – من نفي المعنى الزائد ان لايكون الله عالماً وقادراً (الغرابي، 1959 : 69) .
ب - ... القول بخلق القرآن :(1/6)
... وانسجاما مع التنزيه في أصل التوحيد ذهب المعتزلة إلى القول بخلق القرآن ، ويأتي القول بخلق القرآن من وجهة نظر المعتزلة أتماماً لتصورهم عن التوحيد، وعدم القول به يعني نقصاً في التوحيد، لأن عدم القول بخلق القرآن يعني في نظرهم اثبات قدمه وكل ماكان قديماً فهو اله ، فالقرآن تبعاً لذلك آله، لأن انفراد الله بالقدم يحتم القول بحدوث القرآن.
... ولقد كان لقول المعتزلة بخلق القرآن واجتهادهم في نفي قدمه صلة وثيقة بصراعهم ضد فرق النصارى الذين استندوا إلى عقيدة قدم الكلمة (المسيح) في تأليه عيسى بن مريم - عليه السلام - ، اذ رأى المعتزلة في القول بقدم القرآن مايشبه القول بقدم الكلمة، لذلك فان قولهم بخلق القرآن قد جاء رداً على ركن من اركان المسيحية وهو الاعتقاد بان المسيح كلمة الله الأزلية (عمارة ، 1984 : 61).
... وقد استدل رجال المعتزلة على القول بخلق القرآن بأدلة عقلية ونقلية، فمن الأدلة العقلية : ان القرآن يتقدم بعضه على بعض، وماهذا سبيله لايجوز ان يكون قديماً اذ القديم هو مالايتقدمه غيره يبين ذلك ان الهمزة في قوله : الحمد لله متقدمة على اللام واللام متقدمة على الحاء، وذلك مما لايثبت معه القدم ، ولأن القرآن سور مفصلة وآيات مقطعة له أول وآخر ونصف وربع وسدس وسبع، ومايكون بهذا الوصف كيف يجوز أن يكون قديماً ( القاضي ، 1965 : 531).
... ومن الأدلة النقلية التي قدمها المعتزلة على خلق القرآن:
1- قوله تعالى : { ومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } (الانبياء: 2) . والذكر هو القرآن ، بدليل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر : 9) ، فقد وصفه سبحانه بأنه محدث ووصفه تعالى كذلك بأنه منزل والمنزل لايكون ألا محدثاً ( القاضي ، 1965 : 532).(1/7)
2- قوله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } (هود : 1) ، فقد بين سبحانه كونه مركباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه، ووصفه تعالى بأنه محكم والمحكم من صفات الأفعال، وقال تعالى بعد ذلك : ((ثم فصلت)) ومايكون مفصلاً كيف يجوز ان يكون قديماً (القاضي، 1965 : 532) .
... من خلال ماتقدم يتضح ان المعتزلة قد نفوا الكلام القديم الذي هو صفة الذات، ولم يثبتوا الا الحروف والاصوات قائمة بالأجسام لابذات الله تعالى وعلى وفق هذا يكون الباري - سبحانه وتعالى - قد كلم موسى تكليماً أي بمعنى سماعه حروفاً وأصواتاً قائمة ببعض الاجرام ( ينظر: السعدي ، 1988 : 90) ونتيجة لرأيهم هذا فقد تتبعوا كل الايات الموهم ظاهرها بقدم القرآن بالتأويل حتى يتفق ذلك مع أصل مذهبهم.
ج - ... نفي رؤية الله :
... والأمر الأخر الذي ترتب على أصل التوحيد هو استحالة رؤية الله في الاخرة لأنها تؤدي إلى التشبيه وتستلتزم ما من شانه التجسيم، والله تعالى ليس بجسم ، فالرؤية مستحيلة لملازمتها المستحيل (ينظر: السعدي ، 1988 : 96).(1/8)
... واعتبروا ان القول برؤية الله في الاخرة يستلزم المقابلة وكون المرئ في جهة وهذا من خصائص الأجسام والله - سبحانه وتعالى - منزه عنها، ولذا قالوا ان من قال بأن الله يرى بالأبصار على أي وجه فهو مشبه، واستندوا في ذلك إلى آيات عدوها محكمة كقوله تعالى : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } (الانعام : 103) ، واعتمدوا أيضاً على جواب الباري - عز وجل - لموسى حين طلب من ربه ان ينظر اليه { قَالَ لَنْ تَرَانِي } ( الاعراف : 143) ، وكذلك اتبعوا التأويل الذي كان منهجهم في التعامل مع القضايا والاشكالات المطروحة على الساحة الفكرية، فقد كان لهم قدم راسخة في التأويل فهم اساتذته وأول من اشتغل به من المفكرين المسلمين، والذي ساعدهم في ذلك طول باعهم في اللغة العربية واطلاعهم على تراث الامم التي سبقتهم. لذلك اولوا الآيات التي توهم افادة الرؤية كقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ( - )إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ( القيامة : 22-23)، فناظرة بمعنى منتظرة كما تقول : انا ناظر مايصنع بي أي منتظر (ينظر: الزمخشري، ج4 ، 1966 : 192) وذهب أبو علي الجبائي إلى أبعد من ذلك فقال : ان ((إلى)) في قوله تعالى : إلى اسم وليس حرف جر وجمعها آلاء وهي النعم فيصبح المعنى : ((لنعم ربها منتظرة)) (ينظر: ابن حزم، ج3، د. ت : 9) هذا بالنسبة للآيات القرآنية اما الأحاديث النبوية الشريفة التي تصرح بالرؤية اعتبروها أحاديث أحاد ولم يأخذوا بها.
ثانيا: العدل :-(1/9)
... أجمع المعتزلة على ان الله عدل ومعنى العدل عندهم هو ان الله لايحب الشر والفساد ولايخلق افعال العباد ولايصدر منه الفعل الا على وجه الصواب والمصلحة (الشهرستاني، ج1، د. ت : 52) والمعتزلة بهذا الأصل ارادو تنزيه الله - سبحانه وتعالى - عن الظلم، وانه لايفعل القبيح، وانه تعالى لم يخلق أفعال العباد ، بل يفعلون ما أمروا به ونهوا عنه، من خلال القدرة التي جعلها الله فيهم . وأنه لايأمر ألا بما أراد ولم ينه إلا عما كره وأنه تعالى ولي كل حسنة أمر بها برئ عن كل سيئة نهى عنها (القاضي ، 1965 : 132) .
... وأصل العدل عند المعتزلة جاء لبيان صلة الله بالانسان والعالم ، وان هذه الصلة من وجهة نظرهم يجب ان تكون قائمة على العدل ؛ لأنه أسمى الفضائل ، وبذلك اراد المعتزلة تنزيه الله عن الظلم وعن كل مايتنافى مع عدله، وقد رد المعتزلة من خلال هذا الأصل على الجبرية ((التي ترى ان الانسان لاقدرة له ولا ارادة ولا استطاعة وبالتالي فهو مسير في حياتهِ وتجري عليه الامور كما تجري على الجمادات)) (البغدادي ، 1948 : 128).
... أما المسائل المتعلقة بهذا المبدأ ، فهي ان الله لايكذب في خبره ، ولايجور في حكمه، ولايعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ولايُظهر المعجزة على الكذابين، ولايكلف العباد بما لاطاقة لهم عليه، بل يقدرهم على ماكلفهم به ، ويدلهم اليه (ينظر: القاضي ، 1965 : 133) .
... ولذلك يقول ابو ريان : ان الفضل يعود إلى مفكري المعتزلة في بناء وتعميق المنظومة الفكرية الاسلامية عن العدالة الالهية، وبما يتفق ودواعي العقل والمنطق ( ابو ريان ، ج1، 1973 : 166).
... وقد تفرع عن هذا الأصل فروع منها:
أ- نفي القدر .
ب- الحسن والقبح العقليان .
ج- الصلاح والأصلح .
أ - ... نفي القدر :(1/10)
... يرتبط هذا الفرع بأصل العدل ، وقد فسر المعتزلة هذا الأمر بما يؤكد حرية الأنسان، وقد وجد مفكرو الاعتزال في اراء الامام علي - عليه السلام - للقضاء والقدر اساساً لتفسير هذه الفكرة وتأكيداً لمبدأ العدل الألهي عندهم ، فقد أجاب الأمام علي - عليه السلام - عن معنى القضاء والقدر بقوله (( ان الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً واعطى على القليل كثيراً)) ، وبهذا الجواب يكون الامام علي - عليه السلام - قد أكد حرية ارادة الانسان في عمله ومسؤوليته عنه، فقال : ((ولعلك تظن قضاءاً واجباً وقدراً حتماً ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، ولما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ولامحمدة لمحسن)) (الشريف المرتضى، 1954 : 151).
... وقد ذهب القاضي عبدالجبار المعتزلي إلى هذا المعنى اذ يقول : ((لايكلف العباد بما لايطيقون ولايعلمون، بل يقدرهم على ماكلفهم ، ويدلهم اليه، ويبين لهم ، ليهلك منهم ببينة، ويحيي من يحيى عن بينة )) ( القاضي ، 1965 : 133).
... ومن أجل العدل وتنزيه الله عن الظلم قال المعتزلة بنفي القدر على معنى ان أفعال العباد صادرة من تصرفهم حادثة من جهتهم، وان الله - عز وجل - اقدرهم على ذلك ، فلا فاعل لها ولامحدث سواهم ومن اسند خلقها وأحداثها إلى الله فقد عظم خطؤه (ينظر : الشريف المرتضى ، ج1، 1971 : 262).
... وتعد حرية ارادة الانسان بالمعنى الذي قال به المعتزلة من أهم أصولهم بعد التوحيد ومن أجل ذلك جاء هذا المعنى مرادفاً له، لذلك يطلقون على أنفسهم أهل العدل.(1/11)
... وقد استدل المعتزلة على تقرير حرية ارادة الانسان بأدلة عقلية واخرى نقلية، فالعقلية تقوم على مايلزم من انكار هذه الحرية من تعارض مع العدل الالهي، فلو كان الظلم والفساد من قضاء الله لاتصف الله بذلك ، ولايصدر الشر أو القبح الا عن سفه او عن جهل وذلك غير جائز على الله - سبحانه وتعالى - . ولو كان الانسان مجبراً على أفعاله لكان امر الكافر بالايمان تكليفاً له بما لايطاق ( ينظر : الشريف المرتضى ، ج1، 1971 : 267-268).
... واما الأدلة السمعية فمنها قوله تعالى : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29 ) ، ومنها { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } (الكهف : 30) ، وغيرها من الآيات التي تتضمن مسؤولية الفرد عن فعلهِ (ينظر : الشريف المرتضى ، ج1، 1971 : 274).
... وتماشياً مع القول بحرية الارادة أوّل المعتزلة جميع الآيات التي لاتفيد ذلك كقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } ( المائدة : 41) ، ففسروها بقولهم : ان الله لايريد لأحد الغواية ولكن لاعذر للانسان بعد أن انذره الله بالرسل فعاند واستكبر، فكان ان تركه الله. فالفتنة غير مرادة لله ولاهي علة الغواية والاضلال، ولكنها نتيجة الاصرار على الضلال (ينظر: صبحي ، 1976 : 119).
... يترشح مما سبق ان المعتزلة كان قصدهم من هذا الأصل شيئين : الاول تنزيه الله، والثاني تصحيح وجهة نظر المسلمين عن التكاليف ، أي ان الله لو كلف العبد ولم يعطه القدرة على اتيان ماكلفه به لكان ظالماً له ، والظلم بل ارادة الظلم على الله محال لأنه العدل المطلق.(1/12)
... ولذلك توهم البعض في نظرية المعتزلة هذه واشكل عليه قولهم واختلط عليه الأمر فقالوا : ان المعتزلة ذهبوا إلى نفي قدرة الله على خلق الأفعال واثباتها للعباد انفسهم ( ينظر : الاسفراييني ، 1940 : 64).
... ولكن الصحيح ان المعتزلة مسلمون يؤمنون بالله القوي المقتدر فمن غير المعقول ان يذهبوا إلى جعل الباري - عز وجل - كما جعله الأغريق مقيد وعاجز امام إرادة الانسان، فالمعتزلة حين اثبتوا الاختيار للعبد لا على معنى انه اختيار مطلق يحد من قدرة الله على خلق الأفعال، ولكن على معنى اتيان العبد لفعله بالقدرة التي جعلها الله فيه. ... وبناءاً على ذلك فأن المعتزلة حكموا بأن الله عادل ، وعدله يقتضي أن يجعل للانسان قدرة وارادة ما دام مكلفاً بحيث يحدث الانسان افعاله بنفسه وبناءاً على هذه النظرية – نظرية العدل الالهي – فقد منع المعتزلة التكليف بما لايطاق ، وأوجبوا على الله تعالى فعل الأصلح للعبد تبريراً للعقاب الاخروي (ينظر: عبدالحميد ، 1991 : 262).
... والمعروف ان القول بحرية الارادة للانسان ونفي القدر عنه كان رداً على الجبرية المطلقة وعلى كل الاراء التي سلبت من الانسان كل ارادة وجعلته كالريشة في مهب الريح، فتنبه المعتزلة بهذا الأمر ورأوا ان في قول المجبرة خطراً على الدين . وان مقولتهم هذه ستفضي إلى رفع التكاليف وبالتالي التحلل من المسؤوليات ، فقالوا لأجل ذلك بحرية ارادة الانسان . والباحث يرى ان قول المعتزلة هذا جدير بالنظر والاعتبار في مباشرة المسؤوليات والاتيان بالتكاليف على وجهها الصحيح ولاسيما بعد التوفيق بين نصوص المشيئة الالهية المطلقة وحركة الانسان في نطاقها.
ب - ... القول بالحسن والقبح العقليين :(1/13)
... جاءت مسألة حسن الأفعال وقبحها تطبيقاً عملياً ثانياً لأصل العدل ، وقد أولاها المعتزلة اهتماماً لاينكر ، ولم تكن المعتزلة أول من بحث هذهِ المسألة في الفكر الانساني فقد سبقهم اليها فرق منها : الثنوية والتناسخية والبراهمة وجميعهم قالوا : ان العقل قد يحكم استقلالاً عن حسن بعض الأفعال وقبحها، وتارة ضرورة يحكم بحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار ( ينظر : الراوي ، 1982 : 40-41).
... والمعتزلة قد بحثوا هذه القضية واوسعوا فيها القول وبنوا اراءهم في هذه المسألة على بديهية اقروها على وفق منهجهم العقلي مفادها : ((أن الله عادل وأن أعماله لغاية وسبيله العدل اليها)) ، وكان من أولى الامور التي اثاروها مسألة الحسن والقبح في الأفعال ، فرأوا أن الحسن والقبح في الاعمال ذاتيان. معنى ذلك ان في الكذب قبح ذاتي جعله قبيحاً، وفي الصدق حسن ذاتي جعله حسناً. ومن ثم ان الله لايقول الا الصدق لما فيه من حسن ذاتي، ولايمكن أن يقول الكذب لما فيه من قبح ذاتي . وبناءاً على ذلك فأن الأفعال الحسنة (شجاعة ، تضحية ، اخلاص، جود ... الخ ) فيها حسن ذاتي جعلها كما هي عليه. مقابل الاعمال القبيحة ( جبن، خسة، خيانة ... الخ ) فيها قبح ذاتي جعلها قبيحة (القاضي، ج6 ، د.ت : 18).(1/14)
... وكان نتيجة لذلك ان قال المعتزلة بالحسن والقبح العقليين، لأن العدل الالهي عندهم يقتضي ان تهدف أفعال الله كلها إلى ماهو حسن ، ولذلك فالحكم على حسن الفعل أو قبحه انما يرجع لوجوه عائدة إلى الفعل أمر الله به ونهيه عنه، وليس العقل بحاجة إلى الرسل وتبليغهم، فحسن الفعل أو قبحه عقلي لاشرعي ، فما أدرك العقل حسنه جاء الشرع بطلب فعله، ولايمكن ان يطلب تركه، وما أدرك العقل قبحه جاء الشرع بطلب تركه ولايمكن أن يطلب فعله. هذه وجهة نظر المعتزلة - ، مما أدى بهم القول إلى ان الانسان مكلف قبل بعثة الرسل ، وان اهل الفترة التي سبقت بعثة الرسل ومن لم تبلغه الدعوة مكلفون بفعل ماهو حسن لذاته، والكف عما هو قبيح في ذاته ؛ لأن هذا هو حكم الله ومع التكليف تقع المسؤولية ومايترتب عليها من ثواب وعقاب. ولذا نجد الزمخشري يؤكد ذلك بقوله : بأن الحجة لازمة للعباد قبل بعثة الرسل ؛ لأن معهم ادلة العقل التي بها يعرف الله ، وقد اغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واما بعثة الرسل فمن جهة التنبيه على النظر والايقاظ من الغفلة لئلا يقولوا : كنا غافلين فلولا بعثت الينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل (ينظر: الزمخشري ، ج1، 1966 : 441 ).(1/15)
... ولذا نجد ان المعتزلة قد أوجبوا على الانسان النظر العقلي المؤدي إلى معرفة تجنبه الشرور والمعاصي، فالمعرفة واجبة بالعقل ؛ لأن الانسان اذا عرف بعقله أن له في الفعل منفعة أو مضرة وجب فعل الأول وترك الثاني، ومهما يكن فان المعتزلة ارادوا تحكيم العقل من حيث انهم جعلوه مدركاً للحكم لا انهم جعلوه حاكماً مطلقاً لأنه باتفاق الجميع فإن الحاكم هو الله سبحانه لاغيره ( ينظر: صبحي، 1976 : 124) . وهنا يجب الالتفات إلى نقطة مهمة وهي ان المعتزلة أكدوا على مبدأ تربوي مهم وهو دور العقل وأهميته في حياة الانسان، وان اعتماد الانسان على العقل يحقق له السعادة الدنيوية والاخروية، لذا نجد ان همهم وشغلهم الشاغل كان تربية الانسان تربية عقلية وهذا يُسجل لهم سبقاً في ميدان الفكر التربوي.
ج - ... الصلاح والأصلح :
... ذهب المعتزلة إلى انه مادام الله عادلاً، فلن يفعل الا ماهو أصلح لعباده، ولأنه خلق العالم لغرض وغاية وحكمة، ولأن العمل من دون غاية تبرره أو حكمة يتوجه اليها، ويستهدفها يصبح عبثاً ( القاضي ، 1965 : 120) . ولما كان الله حكيماً، عادلاً ، فأنه خلق كل شيء لصلاح الانسان، وصلاح عالمه ( القاضي ، ج14 ، د.ت : 18-19) . ولذا فأن كل أفعال الله صلاح للانسان (الحاكم، 1974: 64) .
... لذلك قال المعتزلة : بأن افعال الله تهدف إلى غايات محمودة في الحال أو المال وفسروا، كل مايقع من أفعال الله انما هي لمصالح العباد عاجلاً أم اجلاً، وانه انسجاماً مع العناية الالهية والعدل الالهي الذي تنزه عن كل ظلم، فواجب على الله أن يفعل مافيه مصلحة العباد، لأن عدم فعل المصلحة ظلم يُنزه الله عنه لذا قرر المعتزلة ان القول: بأن أفعال الله لاتقع ضمن حدود الواجب هو خروج بأفعال الله عن العدل والحكمة والنزاهة ( ينظر: القاضي ، 1965 : 345).(1/16)
... وخلاصة موقف المعتزلة في هذه المسألة : ان الله يفعل لغرض هو منفعة العباد وتحقيق مصالحهم وهو منزه عن العبث في أفعاله، وان افعاله انما تقع ضمن حدود ومعايير العقل الانساني في الحسن والقبح مثل اثابة المطيع ومعاقبة العاصي، وهكذا فأن الله لايفعل ألا الحسن بمقتضى عدله وتنزهه.
... وأخيراً لابد من القول ان مفكري المعتزلة قدموا نظرية الصلاح والأصلح في برنامجهم الفلسفي والتي اشتقت مقدماتها من أصلهم العقائدي الثاني العدل كان الهدف منها وضع التصور الصحيح لقضية الحرية والدفاع عن ارادة الانسان الفاعلة، وقدرته المؤثرة في أختيار الفعل أو تركه ، وذلك من اجل بناء الانسان الحر الواعي المسؤول مسؤولية كاملة عن تصرفاتهِ وأفعالهِ.
ثالثاً: الوعد والوعيد :
... ويرتبط أصل الوعد والوعيد بأصل العدل الالهي ، فالمعتزلة تعتقد أن الله عادل ، ولما كان عادلاً فلا بد هو منجز لوعده ووعيده، فالله - سبحانه وتعالى - ينفذ ماوعد به وتوعد عليه، وهو صادق في وعده ووعيده ( ينظر : الخياط ، 1925 : 126).
... ويعنون بذلك ان الله تعالى وعد وأوعد وعد المؤمن بالثواب والعوض وأوعد الفاسق بالعقاب والخلود في النار مالم يتب ، والله تعالى صادق في وعده ووعيده، فالمؤمن المطيع لابد من أن يدخل الجنة ؛ لأن الله تعالى وعد بهذا ، والعاصي ان مات على غير توبة لابد من أن يدخل النار لان الله تعالى توعد بذلك ولا تبديل لكلمات الله (ينظر: الشهرستاني، ج1، د.ت : 52).
... وبناءاً على ذلك فالمعتزلة يرون انه لايجوز العفو عن المعاصي التي لم يتب صاحبها منها، لأن في جواز ذلك اغراءاً للمكلف بفعل القبيح اتكالاً منه على عفو الله ، فالعقاب ضروري لأنه زاجر عن أرتكاب القبائح كما ان العفو تسوية بين المطيع والعاصي، وذلك ما لايتفق مع العدل (ينظر: صبحي ، 1976 : 128-129).(1/17)
... وقد جاءت الرؤية الاعتزالية لهذه المسألة متسمة بقدرٍ عالٍ من الوضوح العقلي، وبالتحديد في تصورهم ليوم الحساب، حيث يتضح المجال الاخلاقي لهذه الفكرة، والذي يستند على القاعدة الاخلاقية لفلسفة العدل ، وماتقتضيه العدالة الآلهية بأن يثاب الأخيار ويعاقب الأشرار (الراوي، 1984 : 93-94) . وبهذا يتلخص الفهم المعتزلي لليوم الاخر في لفظ " الاستحقاق " ، فالانسان يستحق بطاعته الثواب، وعلى معصيته العقاب. اذ ان استحقاق الثواب له مايقابله من معنى، وهو ان يكون (( سعادة دائمة)) ، مقرونة بالتعظيم . وفي حال استحقاق العقاب ينبغي أن يكون عذاباً دائماً مقروناً بالاستحقار ( القاضي ، 1965 : 644 –647).
... وأنسجاماً مع فلسفتهم في الوعد والوعيد وبناءاً على منهجهم العقلي فقد ذهبوا إلى أنكار شفاعة النبي لأهل ملته، وأنها ان ثبتت، فأنما تثبت للمؤمنين زيادة للثواب من دون الفاسقين من أمتهِ (ينظر: الشهرستاني، د.ت : 470) ولأجل هذا ومرة اخرى تعتمد المعتزلة اداة التأويل لرفع جملة الآيات الواردة في الشفاعة وان كل الذي تعنيه تلك الآيات انما هو زيادة منزلة وفضل للمؤمنين، وأما الاحاديث المستفيضة في شفاعة النبي لأهل الكبائر من امته فقد ردوها على اساس انها آحاد وانها تعارض آيات القرآن الكريم التي نفت الشفاعة (ينظر : الغزالي، د. ت : 328) كما في قوله تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (المدثر : 48) .(1/18)
... وعلى أية حال فالمعتزلة قالوا بان الله عدل ، وانه لابد من أن ينجز وعده ووعيده بناءاً على مبدأ اثابة المطيع وعقاب العاصي تحقيقاً للعدالة الالهية وتنزيهاً لذات الله سبحانه عن الظلم ، وتحقيقاً لمسؤولية العبد عن تبعات اعماله، وتصحيحاً للتكاليف من دون الاتكال على عفو الله سبحانه وشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام. ونحن اذا نظرنا للقضية من ناحية المقاصد والمعاني، نجد ان المعتزلة كانوا محقين في قضية بناء التكاليف الشرعية وعدم تهوينها كما فعلت المرجئة ، لكن يجب الاعتراف بأن المعتزلة لم يكونوا موفقين في اختيار اللفظ المهذب والمناسب، اذ انهم اوجبوا على الله فعل الأصلح للعبد في الحال والمآل، وهذا مما يؤخذ عليهم.
رابعاً: المنزلة بين المنزلتين :
... يُعد هذا الأصل من أولى القضايا التي تعرض لها المعتزلة، ولها ارتباط مباشر ووثيق بتأسيس مدرستهم (ينظر: الشهرستاني ، ج1، د.ت : 48) ويتلخص في أن مرتكب الكبيرة من المسلمين لامؤمن ولا كافر ، ولكنه في منزلة بين المنزلتين.
... وقد كان هذا الرأي موقفاً وسطاً بين الاراء ولاسيما منها رأي المرجئة (المتساهلين في احكام الشريعة) وبين رأي الخوارج (المتشددين في أحكام الشريعة) ، ففي رأي واصل ان صاحب الكبيرة (1) لايكون مؤمناً ولا كافراً بل : فاسقاً، معنى ذلك أن لصاحب الكبيرة اسم بين الاسمين (مؤمن – كافر ) وحكم بين الحكمين. لايكون اسمه الكافر ولا اسمه المؤمن وانما يسمى فاسقاً (ينظر: القاضي، 1965 : 138).
__________
(1) (*) ... قسمت المعتزلة الكبائر على نوعين :
I- ... كبيرة مطلقة وهي الشرك وان الله تعالى لايغفر لمرتكبها تطبيقا لقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } .
II- ... والكبائر الاخرى كالزنا والقتل ... الخ (ينظر: القاضي، 1965 : 695.(1/19)
... وبناءاً على ذلك لايكون حكم صاحب الكبيرة مثل حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يقرر له حكم ثالث وهذا الحكم وراء التسمية : المنزلة بين المنزلتين (الراوي، 1982 : 45) ، ذلك ان صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولامنزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما (القاضي، 1965 : 698).
... وقد أسس المعتزلة موقفهم في قضية مرتكب الكبيرة (الفاسق) على اصلهم الفكري الثالث الذي يقضي بصدق الوعد الالهي في اثابة أهل الطاعة ، ووعيده بالاقتصاص من العصاة وعقابهم (الراوي، 1980 : 279) مما دفع هذا الأمر المعتزلة إلى ضرورة ربط الايمان (الفكر) بعلاقة عملية (تطبيقية) ، وقرروا أنه لايغني الانسان ايمانه، إذا لم يصدق العمل الطيب هذا الايمان (وهذهِ التفاتة واضحة وتأكيد من قبل رجال المعتزلة للأخذ بمبدأ التربية العملية) ، كما انه لايغني عن العصاة يوم الحساب شفاعة الشافعين، وازاء هذه الحالة فانهم ميزوا بين الايمان بوصفه اعتقاداً بالتوحيد، وبين الفسق وهو معصية الشريعة (القاضي ، 1988 : 245) . ولما كان الفسق عملاً يقوم به العقل والأرادة الحرة، ولايقاس بالأفعال الخارجية ، فأنهم وجدوا من الصعب الحكم على حالة الفسق، اذ إن النيات لاتظهر دائماً والمسؤولية لاتتحقق الاّ على ( القصد ) والتنفيذ ( ينظر : نادر ، ج2، 1951 : 116).
... وخلاصة القول ان هذا الأصل كان في مقدمة الاصول الأكثر ارتباطا بواقع الفكر العملي الاخلاقي للاعتزال الذي كان تعبيراً عن الخلافات الدينية السياسية والاجتماعية في التساؤلات التي طرحت في مسألة صلاحية الحاكم الأعلى للدولة ومدى أهليته في رعاية الأمة وتولي مقاليد أمورها، كذلك طرح المعتزلة من خلال هذا الأصل أفضلية الامام علي - عليه السلام - على معاوية ، كما بينوا موقفهم من وراثية الدولة الأموية ( الراوي، 1980 : 442).
...
خامساً: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر :(1/20)
... وهو مبدأ اخلاقي عملي ارادوا به تحقيق اصولهم ، وقد أجمع المعتزلة على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان والسيف واليد كيف قدروا على ذلك (الاشعري ، ج1، 1950 : 311) . لقد اولت الحركة الاعتزالية هذا المبدأ اهتماماً كبيراً ومميزاً ، اذ جعلته فرضاً اخلاقياً عملياً . لايتصل بالبحث النظري، وانما يتصل بالنضال الدائم في سبيل الله واقامة أحكامه على كل من خالفه في أوامره ونواهيه سوا أكان كافراً أم مسلماً ( ينظر: القاضي ، 1988 : 248) وفي مواجهة الثنوية واجنحتها وإنفاذه بالمخالفين من الفسقة والمشبهة والجبرية، وكافة الاتجاهات المذهبية المناهضة للاصول الاعتزالية ( الراوي، 1980 : 434).
... وإن كان الوجوب على تنفيذ هذا المبدأ (بأمره ونهيه) متحققا بالأجماع (1) الاسلامي العام (ينظر: بن عباد ، 1963: 27) ، فان كيفية معرفته تنوعت بتنوع النظرات ، فيما اذا كان هذا الامر يُعلم عقلاً أم عن الطريق النقلي ؟ ففي الحال الذي اوجبه ابو علي الجبائي (عقلاً وسمعاً) اقتصر العلم به عند ابنه ابي هاشم بالطريق السمعي باستثناء الدفاع عن النفس والمال (ينظر : القاضي، 1965 : 142).
... واستند ابو علي في وجوبه استدلالاً وخبراً، إلى أن دلالة العقل تتلازم في هذا الأمر بالسمع والوحي، ويؤيد بهما بل يتفوق الوجوب العقلي على السمعي، اذ لو لم يكن الطريق إلى وجوب هذا الأمر عقلاً لكان يجب ان يكون المكلف مغرى بالقبيح ويكون في الحكم كمن أبيح له ذلك (القاضي، 1965 : 142-143) ويُعد موقف الجبائي انفراداً عن عموم المعتزلة التي تولت مبدأ الوجوب الشرعي وأقرته، فيما نجد ان القاضي عبدالجبار يشدد على الجانب السمعي من خلال وحدات النقل الشرعي ومصادرها الاولى والثانوية ((الكتاب والسنة والاجماع)) (القاضي ، 1988 : 248) ، وعلى النحو الاتي :
__________
(1) (*) ... دفعت طائفة من الحشوية وجوب هذا الامر.(1/21)
- المصدر النقلي الاول : الذي اثبتته الآية القرآنية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } (آل عمران: 110) .
- المصدر الثاني وثقته السنة النبوية : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان)) (صحيح مسلم، ج2، 1929 : 22).
- اما الاجماع فلا اشكال فيه ، لانهم قد اتفقوا على هذا الأمر (القاضي، 1965: 142).
... وعلى الرغم من انفراد الجبائي أبي علي بالوجوب العقلي، فأن هذه القضية لاتعتبر خلافية، إذ ان الهدف من المبدأ (امره ونهيه) هو ان لايضيع المعروف ان لايقع المنكر سواء علم بذلك عقلاً أم سمعاً ( الراوي ، 1980 : 435).
ب - ... شروطه :
... لغرض تنفيذ المبدأ الخامس (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تنفيذاً تطبيقياً، فثمة شروط يتوجب توفرها تعطي الشرعية الكاملة للقيام بمهام هذا الامر فيجب بوجودها وينتفي بزوالها، وكما حددها المعتزلة ( القاضي ، 1965 : 143).
- الوضوح الأكيد الذي يعطي المسألة بعدها الشرعي المطلوب فعلى الانسان أن يعلم أن المأمور به (معروف) وان المنهي عنه (منكر). ويعد هذا الشرط ضرورياً وواجباً في تجنب مغبة الخلط بين طرفي المبدأ في الأمر والنهي، لذلك وجب التمييز المحقق لكي لايأمر بمنكر أو ينهى عن معروف.
- يستدعي الشرط الثاني : العلم بالدليل المادي في تحقق المنكر وتعينه حسياً، وادراكه بالعين المجردة وعلى ارض الواقع، كأَن يرى آلات الشرب مهيأة والملاهي حاضرة، والمعازف جامعة.
- ضرورة أن يكون الامر صوب هدف تحكمه ضوابط قبلية ، لئلا يفضي إلى مضاعفات في مضرة أكبر منه ، فأنه لو غلب ظنه، أن نهيه عن شرب الخمر يؤدي إلى قتل جماعة من المسلمين او يحدث حريقاً في منطقة سكنية، فإن مثل هذا النهي لايجب وكل مالم يجب لايحسن.(1/22)
- يتعين التأكد علماً وبغالب الظن والاعتقاد ، ان لقول الآمر وتوجيهاته تأثيراً مباشراً وفاعلاً في أمره ونهيه.
ج - ... كيفية تنفيذه :
... لقد حدد المعتزلة طريقة تنفيذ هذا المبدأ ، وذلك على نحو يكون متدرجاً بخطوط تتوالى في ارتقائها، وعلى ذلك ينبغي انفاذ الامر – بالأسهل – فلا يجب تخطيه إلى الأمر – الأصعب – ويتحقق العلم بهذا التدرج التصاعدي عقلاً وشرعاً.
... اما من الناحية العقلية : اذا تمكن تحقيق هدف الأمر – بالسهل – فلا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب ( القاضي ، 1965 : 144).
... وأما من الناحية الشرعية: فان الاية القرآنية { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } (الحجرات : 9 ) ، فالخبر القرآني يوجب بأمره اصلاح اطراف الخصومة. وفض النزاع بينهم بالحسنى أولاً، ثم بعد ذلك بما يليه من وسائل إلى ان ينتهي بأمر القتال لصالح المعتدى عليهم (القاضي، 1965 : 144).
... هذا هو الأصل الخامس عند المعتزلة بحدوده وشروطه وكيفية تنفيذه. وقد اعتبر المعتزلة ان قضية الامام الحسين - عليه السلام - أبرز نماذج هذا المبدأ ، ومن بين أكثر تطبيقاته دلالة، اذ برهن بخروجه على السلطة الجائرة ، وبثورتهِ التي قادها حتى النهاية أمراً فريداً في مقاومة قهر الحكام الظلمة والسلطة المستغلة، وانتصاراً للمثل الاسلامية الحقيقية، وذلك بأن يدفع الانسان حياته معادلاً موضوعياً في تأكيد شرعية العدل الاجتماعي وضورة الاستقامة الاخلاقية التي يستوجبها مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ( القاضي، 1965 : 143).(1/23)
... ومع ان المعتزلة كانوا يدعون إلى مقاومة السلطة الظالمة ومقارعة حكامها الجائرين، وقد أوجبوا على عموم الناس الاصطفاف العملي في الخروج على السلطان المستبد ليس فقط احتجاجاً سلبياً، بل وباستعمال السلاح لازالة الحاكم الظالم تنفيذا للامر بالمعروف وضرورة النهي عن المنكر واقراراً للعدالة التي تقضي المحافظة على مصالح المجتمع عموماً ( الاشعري ، ج2، 1950 : 125)، فهم لم يتركوا الأمر فوضوياً لاعقلانياً ، بل يستند إلى شرعية دستورية وحيثيات أخلاقية في مقدمتها القرآن والسنة واجماع جماهير الاسلام، التي تدعو مجتمعةً إلى أزالة الحاكم الفاسق، الجائر، لشرط توافر القوة القادرة (الثورة) وان يكون قائدها عادلاً يتولى الاحكام ملتزماً بالشريعة مدافعاً عن العدل والتوحيد (ينظر: نادر ، ج2، 1951 : 156).
... من خلال ماتقدم يتضح : ان النظرية الاعتزالية نظرية عالجت قضايا اساسية ومهمة في حياة الانسان الا وهي علاقتهِ بخالقه وعلاقته بالعالم الذي يعيش وسطه، وقدمت هذه النظرية الاسلام كمنهج للحياة مبني على أساس النقد والتحليل والتعليل لاعلى اساس القبول والتقليد، ويرى الباحث أننا بحاجة ماسةٍ الآن وفي هذا العصر الذي يتسم بالتغيرات الحادة والعنيفة عصر العلم والثقافة عصر الاقوى عقلياً إلى هكذا طرائق في التفكير وفي النظر إلى الأشياء، ماهيتها، سكونها وحركتها، صدقها وعدمها، نفعها وضررها .(1/24)
المبحث الثاني
الأصول الأعتقادية عند الأشاعرة
... أختار الأشاعرة تقرير عقائدهم على أساس التوفيق بين اراء المدارس الاسلامية الاخرى، على ان الملاحظ على ارائهم انها كانت ردود على المعتزلة، كما انها كانت امتداداً لاراء السلف (اراء أهل السنة والجماعة).
اولاً: رأيهم في الصفات الالهية :
أ - ... الصفات الخبرية:
... وردت في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة نصوص تضيف إلى الباري - عز وجل - اشياء توهم التشبيه، كالاستوا والمجيء والنزول ؛ فجاء القرآن بما يناسب جميع العقول ويتفق مع استعداداتها الادراكية، وإذ ان بعض العقول عندها القدرة على ادراك الامور المجردة وبعضها يعجز عن هذه المرتبة ويقف عند إدراك المحسوسات فقط ، لهذا نجد القرآن الكريم يعبر تارة عن الله سبحانه تعبيراً يدل على بعده عن المحسوسات وعدم مشابهته لها كقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (الشورى : 11) وقوله تعالى : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ( - )وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (الاخلاص : 3-4) ، ويعبر عنه سبحانه تارة اخرى بما يوهم قربه منها كقوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (الفرقان: 49) وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (الفتح : 10) وقوله تعالى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } (الرحمن : 27) وقوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } (طه : 39) (ينظر: الغرابي ، 1959 : 11).(1/1)
... هذه الآيات التي يؤدي ظاهرها إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، كانت احد الاسباب المهمة التي دفعت علماء المسلمين ومتكلمي المدارس الكلامية الاسلامية إلى التفكير والبحث في محاولة فهمها على الوجه الذي لايؤدي إلى ان يُعتقد أن الله - سبحانه وتعالى - على صفة مشابهة للمحدثات ، وهذا لا يليق به سبحانه، وكذلك على الوجه الذي لايؤدي إلى الابتعاد عن مفهوم النص أو الاعتداء على قداسة النص.
... لقد أدت النصوص التي تضيف إلى الله تعالى الاشياء الموهمة للتشبيه إلى الاختلاف بين المنتمين للاسلام، فاختلفت المواقف فيها، اذ تحدثنا المصادر التاريخية، وكتب الفرق بما ذهب اليه كل منهم . فهذا ابن خلدون في المقدمة يذكر ((وردت في القرآن آيات توهم التشبيه مرة في الذات، واخرى في الصفات، فاما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا إستحالة التشبيه وقضوا بأن الايات من كلام الله فأمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل، وهذا معنى قول الكثير منهم : إقرؤوها كما جاءت: أي آمنوا بأنها من عند الله ، ولاتتعرضوا لتأويلها ولاتفسيرها لجواز أن تكون إبتلاء فيجب الوقف والإذعان، وشذ لعصرهم مبتدعة إتبعوا ماتشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه، ففريق شبهوا في الذات : باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك ، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق، وفريق ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كأثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحركة وأمثال ذلك ، وآل قولهم إلى التجسيم)) (ابن خلدون ، د. ت : 463-464).(1/2)
... أما الشهرستاني فقد عرض الأمر بدقة إذ يقول: ((إعلم ان جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله صفات خبرية مثل اليدين والوجه، ولايؤولون ذلك إلا انهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية، فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها، وماورد به الخبر فافترقوا فيه فريقين : منهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ، ومنهم من توقف عن التأويل)) ( الشهرستاني، ج1، د.ت : 92-93).
... وبناءاً على ذلك فقد انقسم المسلمون ازاء هذا الأمر على:
1- مذهب السلف.
2- مذهب المشبهة.
3- مذهب المؤولة.
... والذي يهمنا هنا هو مذهب المؤولة : (( ان التأويل في الاسلام، كمنهج عقلي يرتبط تأريخياً بالمعتزلة الذين أيقنوا إن ابعاد التصورات والصفات التي لاتتفق وطبيعة الألوهية لايكون إلا عن طريق تأويلها مجازياً، فقد وجدوا في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوصاً اذا اخذت حرفياً ادت إلى التشبيه والتجسيم ومايكون من ذلك من الصفات والعواطف والاحساسات البشرية ، وإذا ثبت عندهم بالدليل العقلي ان الله تعالى منزه عن الجسمية والجهة قالوا : لابد من حرف هذه الصفات عن معانيها الظاهرية الحرفية إلى معان اخرى مجازية لئلا يكون سبباً في الطعن في هذه النصوص ، واستعانوا على تأويلها بالقرآن نفسه في آيات اخر وباللغة يجدون فيها مايساعدهم في تقرير المعاني التي يرونها )) ( عبدالحميد ، 1991 : 203-204).(1/3)
... ولأهمية مسألة الصفات الخبرية ، فقد استعان عامة مفكري المدارس الاسلامية ماعدا ( بعض ائمة السلف، وجميع المشبهة) بالتأويل ، وذلك لصرف المعاني الجسمانية التي توهمها ظواهر بعض النصوص التي تضيف لله تعالى صفات شبيهة بصفات المخلوق، لذا نجد ان الرازي يؤكد هذا القول : ((جميع فرق المسلمين مقرون بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والاخبار)) (الرازي، 1935 : 79). وعلى هذا الرأي عامة المتكلمين ومنهم الأشاعرة ودليلهم في ذلك (( إن القرآن يجب أن يكون مفهوماً ، ولاسبيل اليه في الروايات المتشابهة الا بذكر التأويلات، فكان المصير اليه واجباً )) ( الرازي ، 1935 : 185) . ولكن هناك خلاف في مسألة التأويل مابين المعتزلة والاشاعرة، فالمعتزلة منحوا العقل كل ثقتهم وذهبوا معه إلى أقصى حدوده ، أما الأشاعرة فأنهم قيدوا العقل بضوابط وجعلوه تابعاً للامور الشرعية (النقلية) في كل شيء ، لذلك يقول الرازي : ((ان صرف اللفظ عن ظاهرة إلى معناه المرجوع لايجوز ألا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما اشعر به ظاهره ثم عند هذا المقام من جواز التأويل عدل اليه، ومن لم يجوز فرض علمه إلى الله تعالى )) (الرازي ، 1935 : 182).
... وبناءاً على ذلك فقد اتفق الأشاعرة على ان الصفات التي تدل على التشبيه والتجسيم يجب تأويلها صرفاً لها عن ظاهرها المفضي إلى مشابهة الله لمخلوقاتهِ، ووفقاً لقواعد اللغة العربية ، مستثنين (( الرؤية السعيدة )) التي اثبتوها من غير كيف، باعتبار ان النصوص المثبتة لها من المحكمات التي لايجوز تأويلها (ينظر: عبدالحميد ، 1991 : 263).
... ولنذكر الآن بعض النصوص المؤولة عند الأشاعرة:(1/4)
- فقد أولوا الاستواء بأنه فعل فعله الله تعالى في العرش وبذلك يقول عبدالقاهر البغدادي : ((إن استواءه على العرش سماه استواء، ولم يكن ذلك نزولا ولاحركة، وهذا قول ابي الحسن الأشعري )) (البغدادي، 1981 : 113) كذلك أولوا بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة وبذلك يقول : ((أستوى الملك على الأقليم اذا احتوى على مقاليد الحكم فيه ومنه قول القائل:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق ))
... ( الجويني ، 1969 : 553).
- وأولوا النصوص الموهم ظاهرها ان الله تعالى حال في السماء: كقوله تعالى : { أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } ( الملك : 16 ) يقول الامام الجويني : (( يجوز أن يقال : معنى قوله تعالى { ءأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } حكمه وامره وسلطانه، ويجوز أن يريد الله بقوله { مَنْ فِي السَّمَاءِ } ملكاً مسلطاً على عذاب مستوجب العذاب ، وقد حمله بعض المتأولين على جبريل - عليه السلام - ، فانه الذي جعله الله جعل قرى قوم لوط عاليها سافلها واقتلعها من حيث اراد الله)) ( الجويني ، 1969 : 556).(1/5)
- كذلك أولوا النصوص التي توهم ظاهرها التجسيم والتركيب : فقد أولوا ماجاء في اضافة الوجه إلى الله تعالى ، كقوله عز من قائل : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } (القصص : 88) وبهذا يقول البغدادي : (( المراد بقوله تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } بطلان كل عمل لم يقصد به وجه الله تعالى )) (البغدادي، 1981 : 110) ، وأولوا ماجاء في اضافة العين إلى الله تعالى، كما في قوله : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (القمر : 14) يقول الجويني : ((و المعنى بالاية انها تجري باعيننا، وهي منا بالمكان المحوط بالملائكة، والحفظ والرعاية يقال: فلان بمرأى من الملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته)) (الجويني، 1950 : 157) . وأولوا ماجاء في اضافة اليد إلى الله تعالى، كقوله تعالى : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (الفتح : 10) ، وقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ } ( ص : 75 ) ، وقوله تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } (الذاريات : 47) ، يقول الامام عبدالقاهر البغدادي : ((زعم بعض اصحابنا ان اليدين صفتان لله تعالى ، وتأولهما بعض أصحابنا على معنى القدرة، وقد تأول بعض اصحابنا هذا التأويل ، وذلك صحيح على المذهب إذا اثبتنا لله القدرة ، وبهذا خلق كل شيء)) ( البغدادي، 1981 : 111) (1) .
مذهب الأشاعرة في رؤية الله تعالى :
__________
(1) (*) ... وللمزيد من الأطلاع ينظر: عبدالقاهر البغدادي (اصول الدين) والجويني كتابي (الارشاد والشامل في اصول الدين).(1/6)
... (( لقد ذهب الأشاعرة إلى إنه تعالى يصح أن يرى ، فأما رؤيته تعالى في الدنيا فجائزة عندهم عقلاً، بمعنى انه لايوجد دليل عقلي يمنع ذلك واما في الاخرة فواجبة لورود الأدلة الشرعية المثبتة لها )) ( الايجي ، ج1، د . ت : 115) . وقدموا الأدلة النقلية والعقلية التي تثبت ذلك :
1 - ... الأدلة النقلية عند الأشاعرة التي تثبت الرؤية :
... ان مدار الكلام في الرؤية عند أكثر الاشاعرة على الأدلة السمعية، فهم يبنون اعتقادهم هذا على ماجاء في القرآن الكريم كقوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ( - )إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ( القيامة : 22) ، وسؤال نبي الله موسى - عليه السلام - { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } (الاعراف : 143) وهذا مما تمسك به الامام الأشعري في جواز رؤية الباري جل جلاله ووجه استدلال الأشعري في هذه الآيات التي تشمل سؤال موسى - عليه السلام - وجواب الرب تعالى (( لن تراني )) هو : (( إن نبي الله موسى - عليه السلام - أكان عالماً بجواز الرؤية أم كان جاهلاً بذلك ؟ فإن كان جاهلاً فهو غير عارف بالله تعالى حق معرفته، وليس يليق ذلك بجناب النبوة، وإن كان عالماً بالجواز فقد علمه على ماهو به ، والسؤال بالجائز يكون لا بالمستحيل، وجواب الرب لن تراني يدل على الجواز ايضاً، فإنه ماقال لست بمرئي ، لكن أثبت العجز، أو عدم الرؤية من جهة الرائي، ومن هذا قال : ((ولكن أنظر إلى الجبل فإن إستقر مكانه فسوف تراني)) (الأعراف: 143). اذ الجبل لما لم يكن مطيقاً للتجلي مع شدته وصلابته فكيف يكون البصر مطيقاً فربط المنع بأمر جائز ومع جوازه أحال المنع على ضعف الآلة لا على منع الاستحالة )) (ينظر: الشهرستاني، د.ت: 376-378).(1/7)
... ومن الأدلة النقلية التي احتج بها الأشاعرة على ثبوت الرؤية ماجاء في الحديث الصحيح : ((أن اناساً قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يارسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا : لا يارسول الله، قال : هل تضارون في الشمس دونها سحاب ؟ قالوا : لا يارسول الله. قال : فإنكم ترونه كذلك )) (صحيح مسلم ، ج3 ، 1929 : 17-18).
... كذلك مما استدل به الاشاعرة على ثبوت الرؤية هو الاجماع اذ يقول الباقلاني : (( إن أهل السنة والجماعة قد جوزوا الرؤية على الله تعالى شرعاً وعقلاً بلا خلاف بينهم، وانما وقع الخلاف في أن الرؤية هل تجوز في الدنيا، أم إنها في الآخرة خاصة، فكل الصحابة ومن بعدهم أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن الله تعالى يُرى في الجنة يراه المؤمنون)) (الباقلاني ، 1963 : 48).
2 - ... الأدلة العقلية للأشاعرة على ثبوت الرؤية :
... لم يكتفِ الأشاعرة على إثبات الرؤية بما سبق من الأدلة النقلية بل استعانوا بأدلة العقل، ذلك لأن خصومهم من المعتزلة النافين للرؤية اكثر اهتماماً بالجانب العقلي لاسيما وانهم أولوا الايات القرآنية بما يتفق ووجهة نظرهم في هذه المسالة زيادةً على تجريحهم لرواة الاحاديث التي تثبت الرؤية. فمن الاستدلالات العقلية عند الأشاعرة مايأتي:-
1 - ... مايسمى بدليل الوجود :
... ذهب الأشعري (( إلى أن كل موجود يصح أن يرى، فان المصحح للرؤية إنما هو الوجود ، والباري تعالى موجود فيصح أن يرى ، وقد ورد السمع أن المؤمنين يرونه في الاخرة غير أنه لايجوز عنده أن تتعلق الرؤية به على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع، أو على سبيل إنطباع فإن ذلك مستحيل )) ( الشهرستاني، ج1، د.ت : 131).(1/8)
... وقد تابع الباقلاني الاشعري في استدلاله هذا على اثبات الرؤية اذ قال : ((إنه تعالى موجود والشيء إنما يصح أن يرى من حيث كان موجوداً، فهو لايرى لجنسه لأنه لو كان يرى لجنسه لتمكنا من رؤية الأجناس المختلفة، ولايرى لحدوثه إذ قد يرى الشيء في حال لايصح ان يحدث فيها ، ولالحدوث معنى فيه إذ قد نرى الأعراض التي لاتحدث فيها المعاني )) ( الباقلاني ، 1957 : 266).
2- ويستدل الأشعري على جواز الرؤية عقلاً من طريق آخر اذ يرى ((أن الرؤية ليست مما يستحيل عليه تعالى لأن مالايجوز أن يوصف به الباري ويستحيل عليه فأنما لايجوز لأن في تجويزه إثبات حدوثه، أو اثبات حدوث معنى فيه، أو تشبيهه، أو قلبه عن حقيقته، أو تجويزه، أو تظليمه، أو تكذيبه، فلما لم يكن في جواز الرؤية احتمال قلب الله عن حقيقية بأن كان جائزاً أن نرى الظالم ومن ليس بظالم، والكاذب ومن ليس بكاذب والجائز ومن ليس بجائز ، فإنه ليس في جواز الرؤية جواز اتصاف الباري بشيء من هذه الصفات ولذلك فالرؤية جائزة عقلاً غير مستحيلة)) (الاشعري ، 1955 : 61-62).
3- أما الغزالي فأنه اثبت الرؤية بالدليل العقلي بقوله : (( إن الباري سبحانه موجود وذات، وله ثبوت وحقيقة وإنما يخالف سائر الموجودات في استحالة كونه حادثاً، أو موصوفاً بما يدل على الحدوث، أو بصفة تناقض صفات الالهية من العلم والقدرة وغيرهما فكل مايصح لموجود فهو يصح في حقه تعالى إن لم يدل على الحدوث ولم يناقض صفة من صفاته، والدليل عليه تعلق العلم به فإنه لم يؤد إلى تغيير في ذاته ولا إلى مناقضة صفاته ولا إلى الدلالة على الحدوث، والرؤية نوع علم لايوجب تعلقه بالمرئي بغير صفة، ولايدل على حدوث فوجب الحكم بها على كل موجود)) (الغزالي، د.ت : 30).(1/9)
... هذه هي الأدلة النقلية والعقلية التي قدمها الأشاعرة ازاء من خالفهم الرأي في مسألة رؤية الباري - عز وجل - ، وبناءاً على هذه الأدلة فقد تمسك الأشاعرة برأيهم في مسألة رؤية الله تعالى.
ب - ... صفات المعاني :
... إن مسألة صفات المعاني من أهم المسائل التي اختلفت فيها المدارس الاسلامية بين الاثبات والنفي والمقصود بصفات المعاني هي الصفات الثبوتية الحقيقية السبعة وهي : ( العلم ، والقدرة، والارادة ، والحياة ، والسمع، والبصر ، والكلام) ومعنى كونها صفات معاني هو انها : عبارة عن كل صفة قائمة بموصوف موجبة له حكماً (ينظر: اللقاني، د.ت : 56).
... لقد توسط الأشاعرة في مسألة اثبات صفات المعاني لله - عز وجل - ، فأثبتوا لله تعالى صفات بلا تشبيه، ونزهوه تعالى عما لايليق بلا تعطيل ، فلم يبتعدوا عن النقل كما فعل المعتزلة، وعن العقل كعادة الحشوية، لذلك هم (( مجمعون على أن الله تعالى حي بحياة، وقادر بقدرة، وعالم بعلم ، ومريد بارادة ، وسامع بسمع لابأذن، وباصر ببصر هو رؤية لاعين، ومتكلم بكلام لامن جنس الأصوات والحروف وأجمعوا على أن هذه الصفات السبع أزلية وسموها قديمة)) (البغدادي، 1981: 90).
... ويرى الباقلاني : ان الله - سبحانه وتعالى - لم يتصف في الأزل بأنه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم، ألا لأن له حياة وعلماً وارادة وسمعاً وبصراً وكلاماً (رمضان، 1986 : 475).(1/10)
... أما دليله على ذلك فيقول : لانه لو كان ، فيما لم يزل غير حي ولا عالم ولا قادر ولاسميع ولابصير ولامتكلم ولامريد لكان لم يزل ميتاً عاجزاً أخرس ساكناً – تعالى عن ذلك علواً كبيراً . ولو كان لم يزل موصوفاً بالموت الذي يضاد الحياة والعلم والقدرة ، لكان انما يوصف بذلك : لنفسه أو لعلة قديمة . ولو كان لنفسه كذلك ، لاستحال ان يحيا مادامت نفسه كائنة. وكذلك لو كان ... لعلة قديمة، لاستحال ان يحيا اليوم لاستحالة عدم موته القديم – لان القديم لايجوز عدمه . ولو استحال ذلك ، لاستحال أن يفعل ويوجد منه مايدل على انه اليوم حي قادر، وفي صحة ذلك منه ووجوده ، دليل على انه لم يزل حياً. كذلك لو كان لم يزل حياً، وهو غير متكلم ولاسميع ولابصير ولامريد ولاعالم ولاقادر، لوجب ان يوصف باضداد هذه الصفات في أزله: من الخرس والسكوت والصمم والعمى والاستكراه والسهو والجهل والعجز – تعالى عن ذلك أجمع – ولو كان لم يزل موصوفاً بهذه الاوصاف . لنفسه أو لمعنى قديم ، لاستحال ان يخرج اليوم عنها لما وصفنا من استحالة عدم القديم، ولوجب ان يكون في وقتنا هذا غير حي ولاعالم ولاقادر ولاسميع ولابصير وذلك خلاف اجماع المسلمين (الباقلاني ، 1957 : 28-29) .(1/11)
... وينقل لنا الشهرستاني رأي أبي الحسن الأشعري في هذه المسألة اذ يقول : ((قال أبو الحسن الأشعري: الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة، حي بحياة، مريد بأرادة، متكلم بكلام ، سميع بسمع، بصير ببصر، ثم قال : وهذه صفات أزلية قائمة بذاته، لايقال : هي هو ، ولاغيره، ولا لاهو ، ولا لاغير . والدليل على انه متكلم بكلام قديم، ومريد بارادة قديمة –قام : قال الدليل على انه تعالى ملك ، والملك من له الأمر والنهي ، فهو آمر، ناه، فلا يخلو: اما ان يكون امراً بامرٍ قديم، أو بأمر محدث ، فان كان محدثاً فلا يخلو: اما أن يحدثه في ذاته، أو في محل ، أو لا في محل . يستحيل أن يحدثه في ذاته، لانه يؤدي إلى ان يكون محلاً للحوادث وذلك محال . ويستحيل ان يكون في محل لانه يوجب ان يكون المحل به موصوفاً. ويستحيل ان يحدثه لا في محل ، لان ذلك غير معقول. فتعين انه قديم، قائم به، صفة له . وكذلك التقسيم في الارادة والسمع والبصر. ثم قال : وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات : المستحيل ، والجائز ، والواجب ، والموجود والمعدوم. وقدرته واحدة تتعلق بجميع مايقبل الصفات. وكلامه واحد هو : أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، ووعد ، ووعيد . وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه ، لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات ، اذ للألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الانبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي . والدلالة مخلوقة محدثه، والمدلول قديم أزلي )) (الشهرستاني، ج1، د.ت : 122-123).
... وسنتحدث عن هذه الصفات بشيء من الايجاز:
1 - ... صفة العلم :(1/12)
... استدل الأشعري على ان الله تعالى عالم بأدلة نقلية وعقلية، اما الأدلة النقلية فهي آيات من القرآن الكريم كقوله تعالى : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } (النساء : 166) ، وكذلك في قوله تعالى : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } (فصلت: 47) . اما أدلته العقلية التي قدمها فيقول : (( لايخلو أن يكون الله تعالى عالماً بنفسه أو بعلم يستحيل ان يكون هو نفسه علماً ويستحيل ان يكون العلم عالماً او العالم علماً. فلما استحال أن يكون الباري تعالى علماً استحال ان يكون عالماً بنفسه، فاذا استحال ذلك صح انه عالم بعلم يستحيل ان يكون نفسه )) ( الاشعري ، 1955 : 14).
... معنى ذلك ان الله - سبحانه وتعالى - عالم بعلم هي صفة زائدة على ذاته تعالى قائمة به، والرأي الذي أجمع عليه الأشاعرة هو : ((ان علمه تعالى يعم المفهومات – الموجودات والمعدومات – كلها الممكنة، والواجبة والمقنعة ... ويعلم سبحانه الكليات والجزئيات ومايكون قبل أن يكون ، ويعلم السر وأخفى بعلمٍ واحد لايتكثر، ولايتجزأ ، ولاينتقل من ذاته )) ( الايجي، ج8 ، د.ت : 79-80) والأشاعرة في هذا الرأي يخالفون بعض متكلمي الاسلام في مسألة علم الله في المعدوم، ويخالفون الفلاسفة في مسألة علم الله بالجزئيات.
... وخلاصة القول ان الاشاعرة يعتقدون ان ((علمه تعالى قديم لايتجدد ولايجوز شرعاً أن يطلق على علمه تعالى إنه مكتسب ؛ لان الكسبي لايكون ألا حادثاً ، والكسبي هو العلم الحاصل من النظر والاستدلال أو ماتعلقت به القدرة الحادثة وعليهما فلا بد من تجدده وحدوثه فيستلزم قيامه به تعالى قيام الحوادث بذاته وسبق جهله تعالى بما اكتسب علمه وهو محال. فما أوهم الاكتساب كقوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ } (الكهف : 12) ، مؤول عند الأشاعرة على جعل لامه للعاقبة والفائدة )) ( اللقاني ، د. ت : 60-61).
2 - ... صفة الارادة :(1/13)
... يستدل الأشاعرة نقلاً إن الله يتصف بهذه الصفة من الكتاب العزيز كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (يس : 82) وقوله تعالى { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } (البروج : 16).
... أما دليلهم العقلي : (( إن الحي اذا كان غير مريد لشيء أصلاً وجب أن يكون موصوفاً بضد من أضداد الارادات كالسهو والكراهة وسائر الآفات، كما وجب ان الحي إذا كان غير عالم بشيء أصلاً كان موصوفاً بضد من أضداد العلوم، كالجهل والسهو والغفلة ، أو الموت وما أشبه ذلك من الآفات فلما إستحال أن يكون الباري تعالى لم يزل موصوفاً بضد الارادة لأن هذا يوجب أن لايريد شيئاً على وجه من الوجوه، وذلك أن ضد الارادة اذا كان الباري تعالى لم يزل موصوفاً به يوجب قدمه، ومحال عدم القديم كما محال حدوث القديم، فاذا إستحال عدمه وجب أن لايريد الباري شيئا ويقصد فعله على وجه من الوجوه ، وذلك فاسد، وإذا فسد هذا صح وثبت إن الباري تعالى لم يزل مريداً)) (الاشعري ، 1955: 18).
... معنى ذلك ان لله - سبحانه وتعالى - أرادة وانها قديمة، ولم يزل الباري - عز وجل - يتصف بها، وهذا هو مذهب الاشاعرة في هذه الصفة.
3 - ... صفتا الحياة والقدرة :(1/14)
... استدل الأشاعرة على ان الله تعالى يتصف بهاتين الصفتين من الكتاب العزيز كقوله تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (البقرة : 255) وقوله { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (غافر : 65) . وهذان النصان يدلان على ان الله متصف بالحياة، أما قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة: 109) وقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } (فاطر : 44) ، فيدلان على ان الله تعالى متصف بالقدرة . وماسبق من كلام يمثل الدليل النقلي الذي قدمه الاشاعرة لاثبات صفتي الحياة والقدرة لله - سبحانه وتعالى - .
... أما دليلهم العقلي لاثبات هاتين الصفتين هو : (( لايجوز ان تحدث الصنائع إلا من قادر حي، لانه لو جاز حدوثها ممن ليس بقادرٍ ولاحي لم تدر لعل سائر مايظهر من الناس يظهر منهم . وهم عجزة موتى . فلما استحال ذلك . دلت الصنائع على ان الله تعالى حي قادر )) ( الاشعري ، 1955 : 10-11).
... ماسبق من كلام يؤكد وجهة نظر الأشاعرة في ان الباري - عز وجل - حيٌ وقادر وهاتان صفتان قديمتان للباري وهما الحياة والقدرة.
4 - ... صفتا السمع والبصر :
... الدليل النقلي الذي قدمه الاشاعرة لاثبات هاتين الصفتين لله سبحانه وتعالى، قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (الشورى : 11) وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (الحج : 75).
... اما الدليل العقلي الذي قدمه الأشاعرة لاثبات هاتين الصفتين هو : (( لو لم يتصف الله تعالى بالسمع والبصر لزم أن يتصف بضدهما، وإذا ثبت اتصافه بضدهما كان ذلك نقصاً ، والنقص عليه محال ، فثبت إتصافه بالسمع والبصر) (الايجي ، ج8 ، د.ت : 87).(1/15)
... مما تقدم يتضح ان السمع والبصر صفتان أزليتان قائمتان بذات الباري - عز وجل - من وجهة نظر الاشاعرة.
5 - ... صفة الكلام :
... وسنعرض هنا امرين أولاً: اثبات الاشاعرة ان الكلام صفة لله وثانيا: اثبات الاشاعرة ان الكلام صفة قديمة لله قائمة بذاتهِ .
اولاً: ... أثبت الأشاعرة ان الله متكلم ووصفوه بالكلام وذلك عن طريق النقل والعقل، فاما النقل: فانهم استدلوا على اتصافه تعالى بصفة الكلام من قوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء : 164) وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (الشورى : 51).
... اما دليلهم العقلي الذي قدموه لاثبات صفة الكلام لله تعالى : (( إن الحي اذا لم يكن موصوفاً بالكلام كان موصوفاً بضده كما إنه إذا لم يكن موصوفاً بالعلم كان موصوفاً بضده، وذلك إن الحي ذلك حكمه ، ولم تقم دلالة على حي يخلو من الكلام واضداده في الغائب كما لم تقم دلالة على حي يخلو من العلم، واضداده حتى يكون لا موصوفاً بأنه عالم ولابضد العلم، فقد اجتمع الأمر فيهما: أنه مستحيل حي غير عالم ولا موصوف بضد العلم ، وأنه مستحيل حي غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام ، ولما كان الله تعالى حياً منزهاً عن الاتصاف بضد الكلام وجب اتصافه بالكلام )) ( الاشعري، 1955 : 36-37).
... وقد أثبت الاشاعرة ما أثبته المعتزلة من الكلام اللفظي على اعتقاد أنه حادث ثم يثبتون معه كلاماً نفسياً قديماً، وهذا ما أكده الأيجي بقوله : (( والذي قالته المعتزلة لاننكره نحن بل نقول به ، ونسميه كلاماً لفظياً، ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ، لكنا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ونقول هو الكلام حقيقة، وهو قديم قائم بذاته تعالى )) (الايجي، ج8، د.ت : 93).(1/16)
... اذن الاشاعرة ميزوا بين الكلام النفسي وبين الالفاظ والحروف والاصوات لذلك فالكلام عندهم نوعان: كلام نفسي وكلام لفظي .
أ فالكلام اللفظي : ((وهو الحروف والأصوات وهذا حادث غير قائم بذاته تعالى)) (الايجي ، ج8 ، د.ت : 93).
ب الكلام النفسي : (( وهو القول القائم بالنفس الذي تدل عليه العبارات ومايصطلح عليه من الاشارات)) (الجويني ، 1950 : 104).
... معنى ذلك ان ((الكلام النفسي الذي اثبته الاشاعرة يعد مبايناً للكلام الذي اثبتته المعتزلة للباري ، فليس هو بصوت يحدث من إنسلال هواء أو اصطكاك أجرام، ولا بحرف ينقطع بأطباق شفة أو تحريك لسان إنما الكلام بمعناه النفسي هو الكلام الحقيقي لا الاصوات والحروف، اذ ليست تلك الاصوات والحروف إلا دلالات على العلم القائم بنفس المخاطب بدليل قول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً))
... (رفعت ، 1989 : 460-461).
... والجويني أكد ذلك اذ قالَ : (( والدليل على اثبات الكلام القائم بالنفس ان العاقل اذا امر عبده بأمر وجد في نفسه اقتضاء الطاعة منه وجداناً ضرورياً)) (الجويني، 1950 : 105) .
... والاشاعرة أكدوا ذلك بقولهم : ((إن العاقل إذا راجع نفسه، وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه تارة إخباراً عن أمور رآها على هيئة وجودها، وتارة حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم، ومشاهدتهم ثم يعبر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة ، وتارة نطقاً عقلياً بترديد الفكر إنه هل يجوز أن يكون الشيء كذا، أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى أن كل صانع يتحدث مع نفسه اولاً بالغرض الذي توجهت اليه صنعته، ثم تنطلق نفسه في حال الفعل محادثة مع الالات والادوات والمواد والعناصر، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل )) (الشهرستاني، د.ت : 321).(1/17)
... والاشاعرة هنا يربطون مابين الفكر واللغة ويجعلونها واحداً، اذ يطلقون على الفكر إنه نطق عقلي، أي ان العقل عندما يفكر في أمرٍ ما فأنه يتحدث من وجهة نظرهم.
2 - ... اثبات الأشاعرة ان كلام الله تعالى قديم :
... بعد أن أثبت الأشاعرة صفة الكلام لله تعالى ، وقدموا الأدلة على كونه متكلماً، واثبتوا له تعالى كلام النفس، وجب عليهم أن يثبتوا قدم كلامه تعالى ليردوا على من خالفهم الرأي في هذه المسالة.
... وبناءاً عليه فقد قدم الأشاعرة الأدلة النقلية التي تثبت قدم كلامه تعالى، فقد استدل الأشعري على ذلك بقوله : (( إن قال قائل : لم قلتم ان الله تعالى لم يزل متكلماً، وأن كلام الله تعالى غير مخلوق؟
... قيل له : قلنا ذلك لأن الله تعالى قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (النحل : 40) . فلو كان القرآن مخلوقاً، لكان الله تعالى قائلاً له ((كن)) والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولاً لأن هذا يوجب قولاً ثانياً، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالقول في القول الأول وتعلقه بقول ثان، وهذا يقتضي ما لانهاية له من الاقوال وهذا فاسد، وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقاً)) (الاشعري ، 1955 : 33-34).
... كذلك استدل الباقلاني نقلاً : بقوله تعالى : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (الأعراف : 54) ، فقال : ان الله تبارك وتعالى قد فصل بين الخلق والأمر ، فلو كان القرآن مخلوقاً لكان خلقاً لأن الخلق هو المخلوق فيصير الكلام في تقدير القول (( ألا له الخلق والخلق )) وذلك عي من الكلام مستهجن مستغث والله يتعالى عن التكلم والاخبار بما لافائدة فيه، فدل ذلك على ان الامر ليس بخلق (الباقلاني ، 1957 : 240) .
... أما الأدلة العقلية التي قدمها الأشاعرة لاثبات قدم كلامه تعالى متعددة منها:(1/18)
... (( الدليل على أنه متكلم بكلام قديم .. إنه تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمرناه، فلا يخلو إما أن يكون آمراً بامر قديم أو بأمر محدث وان كان محدثاً فلا يخلو إما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لافي محل ، ويستحيل أن يحدثه في ذاته، لأنه يؤدي إلى أن يكون محلاً للحوادث، وذلك محال ويستحيل أن يحدثه لافي محل لأن ذلك غير معقول، فتعين أنه قديم قائم به صفة له)) ( الشهرستاني، ج1، د.ت : 122).
... والدليل الآخر : (( إن كلام الله تعالى لو كان مخلوقاً لكان من جنس كلام المخلوقين، وغير خارج عن حروف المعجم، ولوجب أن تكون الالف منه مثل الالف من كلامنا، وكذلك الدال والواو وغيرها من الحروف ولوجب أن يكون الخلق قادرين على مثله وماهو من جنسه من حيث صحة قدرتهم على ضروب الكلام الذي لاتخرج جملته من حروف المعجم ، وقد أكذب الله تعالى من قال ذلك بقوله : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (الاسراء : 88) وابطل قول من قال : { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } (المدثر : 25) و { سِحْرٌ يُؤْثَرُ } (المدثر: 24) و { إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } ( الانعام : 25 ) ( الباقلاني ، 1957: 239).(1/19)
... وللأشاعرة استدلال عام لاثبات قدم كلامه تعالى وكونه نفسياً لاحسياً ينبني على تحديد صفة المتكلم وقد ذكره التفتازاني بقوله : (( إن المتكلم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام، ولو في محل آخر للقطع بأنه موجد الحركة في جسم اخر لايسمى متحركاً، فإنا اذا سمعنا قائلاً يقول : أنا قائم نسميه متكلماً، وإن لم نعلم انه الموجد لهذا الكلام، بل وإن علمنا ان موجده هو الله تعالى، كما هو رأي أهل الحق وحينئذ فالكلام القائم بذات الباري تعالى لايجوز أن يكون هو الحسي أي المنتظم من الحروف المسموعة لأنه حادث ضرورة أن له ابتداءاً وإنتهاءاً وأن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق بالأول مشروط بانقضائه وانه يمتنع إجتماع أجزائه في الوجود )) (التفتازاني، ج2، د.ت : 147) .
... وبعد أن أثبت الاشاعرة أن كلام الله تعالى أزلي قديم بينوا كيف يكون كلامه تعالى مسموعاً على الحقيقة، كما بينوا الفرق بين القراءة والمقروء والقرآن.
... فالباقلاني يقول: (( كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القارئ .. ودليل ذلك قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (التوبة : 6) ، فإن المسموع هو كلام الله القديم الذي هو صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قديم قبل سماع السامع لها، وإنما الموجود – الحادث – بعد أن لم يكن هو سمع السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى)) (الباقلاني ، 1963 : 94-95) .(1/20)
... أما الجويني فيقول : (( إن كلام الله تعالى مسموع في اطلاق المسلمين بدليل الآية المتقدمة ، ثم يقول: والذي يجب القطع به أن المسموع المدرك في وقتنا الأصوات ، فأذا سمي كلام الله مسموعاً، فالمعني به كونه مفهوماً معلوماً عن أصوات مدركة ومسموعة، فلو كان السامع لقراءة القاريء مدركاً لنفس كلام الله تعالى لما كان موسى صلوات الله عليه وسلامه مخصصاً بالتكليم وإدراك كلام الله من غير تبليغ مبلغ وإنباء مرسل )) ( الجويني ، 1950 : 133-134).
... أما بشأن التمييز بين القراءة والمقروء والقرآن ، فقد قال الغزالي : (هاهنا ثلاثة الفاظ قراءة ومقروء وقرآن.
... أما المقروء : هو كلام الله تعالى أعني صفته القديمة القائمة بذاته.
... وأما القراءة: فهي في اللسان عبارة عن فعل القاريء الذي كان ابتدأه بعد أن كان تاركاً له ، ولامعنى للحادث إلا أنه ابتديء بعد أن لم يكن.
... وأما القرآن فقد يطلق ويراد به المقروء فإن أريد به ذلك فهو قديم غير مخلوق وهو الذي أراده السلف رضوان الله عليهم بقولهم : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق أي المقروء بالألسنة وان اريد به القراءة التي هي فعل القاريء، ففعل القاريء لايسبق وجود القاريء ومالايسبق الحادث فهو حادث )) (الغزالي، د.ت : 58-59) . أي : ان الغزالي هنا يميز بين حكمين على القرآن : فمرةً يعتبره قديماً غير مخلوق ويعني به المقروء ، واخرى يعتبره حادثاً مخلوقاً ويعني به القراءة.
... من خلال ماتقدم يتضح ان اراء الأشاعرة في موضوع الصفات الآلهية اعتمدت على الجانب النقلي بوصفه أساساً في تكوين وجهة نظرهم ازاء مسألة ما، ثم يأتي دور العقل بعد ذلك لأثبات وجهة النظر هذهِ . معنى ذلك أن الدليل النقلي عند الأشاعرة هو المعتمد في بناء أفكارهم ومن ثم يأتي بعد ذلك
الدليل العقلي، وهذا يجعلنا نستنتج ان العقل عند الأشاعرة كان تابعاً للنقل وأسيراً له .
ثانياً: رأيهم في مرتكب الكبيرة :(1/21)
... جاء رأي الأشعري والأشاعرة بشكل عام في هذه المسألة متوسطاً بين رأي المرجئة القائلين: أنه من أخلص لله - سبحانه وتعالى - مرة في ايمانه لايكفر بأرتداد ولاكفر، ولايكتب عليه كبيرة أبداً. وبين رأي المعتزلة القائلين: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعته مائة سنة لايخرج من النار، فقد سلك الاشعري طريقه بينهما، وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنه، وإن شاء عاقبه بفسقه، ثم أدخله الجنة، فأما عقوبة متصلة مؤبدة فلا يجازي بها كبيرة منفصلة منقطعة (ابن عساكر، د.ت : 151).
... والذي يبدو من رأي الأشعري في قضية مرتكب الكبيرة إنه مبني على فهمه لمعنى الايمان، فالايمان عنده كما يذكره الشهرستاني : ((هو التصديق بالجنان أما القول باللسان، والعمل بالأركان ففروعه، فمن صدق بالقلب أي أقر بوحدانية الله تعالى ، واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً، ولايخرج من الإيمان إلا بانكار شيء من ذلك )) ( الشهرستاني، ج1، د.ت : 101) .
... لذلك نجد أن الأشعري يستدل باللغة اذ يقول : (( الايمان التصديق بالله وعلى ذلك اجماع أهل اللغة التي نزل بها القرآن قال تعالى : { وما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } (ابراهيم : 4) ، وقال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } ( الشعراء : 195) ، فلما كان الايمان في اللغة التي انزل الله تعالى بها والقرآن هو التصديق قال الله تعالى : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } (يوسف :17) ، أي بمصدق لنا وقالوا جميعاً: فلانا يؤمن بعذاب القبر والشفاعة يريدون : يصدق بذلك، وجب أن يكون الايمان هو ماكان عند أهل اللغة إيماناً وهو التصديق )) (الاشعري، 1955 : 123).(1/22)
... وبناءاً على ذلك فأن الأشعري يرى أن الانسان المؤمن اذا أرتكب كبيرةً لايخرج من دائرة الايمان، اذ يقول : (( الفاسق من اهل القبلة مؤمن بايمانه فاسق بفسقه وكبيرته، ثم يقول : وقد أجمع اهل اللغة أنه من كان منه ضرب، فهو ضارب، ومن كان منه فسق فهو فاسق، وكذلك من كان منه الايمان فهو مؤمن ، ولو كان الفاسق لامؤمناً ولا كافراً لم يكن منه كفر ولا ايمان ولكان لاموحداً ولا ملحداً ولا ولياً ولا عدواً، فلما إستحال ذلك استحال ان يكون الفاسق لامؤمناً ولاكافراً كما قالت المعتزلة)) (الاشعري، 1955 : 123-124) . أذن هو مؤمن بأيمانه فاسق بفسقه وكبيرته هذهِ هي تسميته عند الاشاعرة.
... أما الأدلة التي قدمها الأشاعرة على ان صاحب الكبيرة مؤمن بايمانهِ فاسق بكبيرته متعددة منها :
- مجموعة من الآيات الناطقة بأطلاق المؤمن على العاصي كقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 178) وقوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (الحجرات: 9 ) ، وقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } ( التحريم: 8).
- قوله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه( - )وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة: 7-8) . قالوا : إن هذه الآية تدل على عدم خلودهم في النار لأن نفس الايمان عمل خير لايمكن ان يرى جزاؤه قبل دخول النار، ثم يدخل النار فيخلد لانه باطل بالاجماع، فتعين إذن أن يكون جزاؤه على الايمان بعد خروجه من النار، فاذا ثبت ان المؤمن العاصي لايخلد في النار، فلا يصح ان يسمى كافراً لأنه لاخلاف في أن الكافر مخلد في النار ( ينظر: الدواني، ج2، 1957 : 626).(1/23)
- اجماع الامة من عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا على الصلاة على من مات من أهل القبلة من غير توبة، والدعاء ، والاستغفار لهم ، ودفنهم في مقابر المسلمين مع العلم بأرتكابهم الكبائر بعد الاتفاق على أن ذلك لايجوز لغير المؤمن ( ينظر: الدواني ، ج2، 1957 : 626).
ثالثاً: رأيهم في الأفعال الانسانية :
... ذهب الأشاعرة إلى أنه لاخالق للأفعال إلا الله ، وأنه قدر كل شيء قبل وقوعه، وهذه القدرة، أو الارادة الالهية، يقترن بها فعل الانسان، وهنا يقدم لنا الاشاعرة مذهبهم الذي يدين به جمهرة المسلمين، وهو مذهب الكسب، أي ان الافعال مخلوقة من الله مكسوبة من العبد ( ينظر: النشار ، 1954 : 78).
... والقول بالكسب يعود إلى الامام الأشعري، والذي اراد به أن يحقق مبدأ أن لاخالق ولامؤثر في الوجود ألا الله تعالى، وهو بذلك يمنع إشراك العبد في صفة الخلق التي تفرد بها الباري - عز وجل - ، فجاء قوله بالكسب لبيان إختصاص كل من الخالق والمخلوق، كما ان نظرته لمسألة الجبر والاختيار كانت توفيقية بين المعتزلة والجبرية، فمعرفته السابقة حول فكرة المعتزلة وردودهم على الجبرية أثمرت فكرة متوسطة بين الفريقين، ونجد ان وصفه لفعل العبد بكونه إكتساب من قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } ( البقرة : 286) ، فهو اذن يعتمد على القرآن في بيان رأيه في هذه المسألة.(1/24)
... لقد ذهب الاشعري إلى (( ان افعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله - سبحانه وتعالى - وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة وإختياراً ، فاذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله ابداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له )) ( الايجي ، ج8 ، د.ت : 145). ورأي الأشعري هذا يمثل وجهة نظر الاشاعرة في هذه المسألة، اما الادلة التي قدمها الاشاعرة لاثبات واقرار وجهة نظرهم في الافعال الانسانية فكثيرة ومتعددة منها نقلية واخرى عقلية.
أ - ... الأدلة النقلية :
... استدل الاشاعرة بعدة ادلة سمعية لتأييد مذهبهم ولعل أوضحها قوله تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (الصافات : 96) أي عملكم على تقدير أن ما مصدرية، او معمولكم على تقدير ما موصولة ، ومنها قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } ( النساء : 78) وقوله تعالى : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ } (المجادلة : 22) وقوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } (النجم: 43) وقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (يونس:22) . هذه الآيات مختلفة الاساليب في تأكيد ان الايمان وجميع الطاعات حاصلة من الله وبتكوينه لكونها نعماً لنا ومرادة له فهو الذي اثبت الايمان وأوجده في القلوب وهو الذي يوجد الضحك والبكاء وهو الموجد لسيرنا وحركاتنا (التفتازاني ، د. ت : 240-245) .
ب - ... الأدلة العقلية :
... أستدل الاشاعرة لأثبات رأيهم في الافعال الانسانية من عدة وجوه عقلية:
((1- ... إن فعل العبد في نفسه وكل ممكن مقدور لله تعالى لان قدرته تعالى(1/25)
شاملة عامة للممكنات بأسرها ولاشيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع إجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد .
2- لو كان العبد موجداً لأفعالهِ بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها ولما كان من المستحيل على الانسان الاحاطة بجميع وجوه الفعل إذ تصدر منه أفعال في غفلته وذهوله وهي على الانسجام والانتظام وصفة الاتقان والاحكام والعبد غير عالم بما يصدر منه وجب أن يكون الصادر منه دالاً على مخترعه – أي الله تعالى - .
3- إن العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه ، وإلا لم يكن قادراً عليه مستقلاً فيه، فلا بد أن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح، إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما، اتفاقاً لا اختياراً ويلزم ايضاً أن لايحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب وذلك المرجح لايكون منه أي من العبد بإختياره والإ لزم التسلسل والتسلسل باطل )) ( الايجي ، ج8 ، د.ت : 148-149).(1/26)
... من خلال ماتقدم يتضح ان الاشاعرة كانت أراؤهم في قضية القدرة الآلهية وصلتها بالافعال الانسانية وسطاً بين اراء المعتزلة القائلين: بأن الله عادل ، وعدله يقتضي ان يجعل للانسان قدرة وارادة مادام مكلفاً بحيث يحدث الانسان افعاله بنفسه وبالقدرة الحادثة التي منحها الله اياه، فهو الخالق الموجد لافعاله المتصرف باستطاعته الذاتية ، والمسؤول عما يفعل بمشيئته وارادته وحريته وبين الجبرية المحضة القائلين : بأن الله هو خالق افعال العباد، وان الانسان لاحول له ولاقوة فهو كريشة في مهب الريح، فجاء الأشعري بنظرية الكسب التي فحواها : ان الفعل الانساني خلق وايجاد من جهة الله، وكسب وتحصيل من جهة العبد، فعند ارادة العبد للفعل يخلق الله تعالى في العبد القدرة على اكتسابه فيكون الفعل خلقاً لله وكسباً للعبد ( ينظر: الباقلاني ، 1986 : 89). فالقدرة على اكتساب الفعل عند الأشعري تقترن بالفعل ولاتسبقه.
... أما فيما يتعلق بالارادة الالهية وعلاقتها بإرادة الانسان فقد بنى الاشاعرة اعتقادهم في هذا الأمر على اساس القدرة الالهية المطلقة على عكس المعتزلة الذين بنوها على اساس العدالة الالهية . لذلك يقول الاشعري : (( اذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لايشاركه في الخلق غيره فأخص وصفه تعالى هو القدرة)) (الشهرستاني، ج1، د.ت : 130). ولذا انسياقاً مع اراء الاشاعرة في العلاقة مابين القدرة الالهية المطلقة والافعال الانسانية يترشح مما يأتي (ينظر: الغزالي ، ج1، د.ت : 112)
1- تجويز التكليف بما لايطاق ، لأنه لو لم يجز ذلك لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا : { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } (البقرة:286).
2- لايجب على الله شيء وليس عليه ثواب الطاعة ولاعقاب المعصية، وان لله ايلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق.(1/27)
3- الافعال خيرها وشرها من الله خلقاً وايجاداً، والهداية والضلال كلها من الله.
4- الحسن والقبح شرعيان وليسا عقليين، ومعرفة الله وشكر المنعم وكذلك اثابة المطيع وعقاب العاصي تجب بالسمع دون العقل.
... ان ماسبق من كلام كان نبذة مختصرة للاصول الاعتقادية عند الاشاعرة وكانت تمثل هذه الاراء صلب المنهج الدراسي للاشاعرة، اذ كانت معظم بحوثهم وطروحاتهم تصب في هذه الافكار وتؤيدها ولو بخطوطها العامة، على ان ذلك لايمنع من ان هناك أختلافات في بعض الجزئيات أو التفاصيل الدقيقة حصلت بين المتأخرين والمتقدمين منهم، وهذه حالة طبيعية جداً وصحية في نفس الوقت، وذلك لان الفكر متغير تابع لتغير الظروف التي تشكله . وهذه الاراء تمثل أجتهادات مفكرين في عصور متعاقبة وحصيلة دراسات مضنية وشاقة ولسنواتٍ طويلة وجهاد مستمر للدفاع عن العقيدة الأسلامية ، وما دامت هذهِ الاراء حصيلة اجتهادات فكرية فبالتالي تكون نسبة الخطأ فيها واردة . ويجب ان لاننسى أنهم (أي الاشاعرة) مأجورون على اجتهادهم سواء ان أصابوا أم أخطأوا . لأن غايتهم من وراء ذلك هي التقرب لله - سبحانه وتعالى - والحفاظ على تعاليم الاسلام من الشبهات والدفاع عنها ونشرها.(1/28)
... واخيراً لابد لنا القول إن ظهور الاسلام ونزول القرآن بلغة العرب أثار في نفوسهم اعتزازاً بماضيم وحاضرهم، فمنذ نزول هذا النص المقدس رآينا كيف كانت تعقد الحلقات النقاشية في المساجد . حتى كان رسول الله – عليه أفضل الصلاة والسلام – ومن بعده ذريته والصحابة – رضوان الله عليهم – همزة الوصل بين القرآن وعباد الله. ويذكر لنا الدكتور نصر حامد ابو زيد في كتابه (الاتجاه العقلي في التفسير) : ان اعرابياً سأل أبا عبيدة صاحب كتاب مجاز القرآن عن التشبيه الواقع في قوله تعالى { كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } (الصافات : 65) فأعتقد ان هذا السؤال يتجاوز مجال اللغة والبلاغة إلى أمر أكبر يصوّر عقلية الشخصية الاسلامية ، وكيف تطورت هذه العقلية عبر حقب فكرية مليئة
بالصراع الذهني والعقائدي إلى ان وصلنا إلى الحقبة التي ظهر فيها المعتزلة والاشاعرة، وقد بينا ذلك في فصول الأطروحة السابقة.
... ولكن علينا ان ندعو إلى عدم الاستغراب من هذه الطروحات الفكرية التي جاءت بها المدرستان الفكريتان اللتان نحن بصدد دراستهما، لأن افكارهما كانت نتيجة لتطور فكري وعقلي للمجتمع الاسلامي.(1/29)
المبحث الثالث
الأصول الاعتقادية بين
المعتزلة والاشاعرة
اولاً: الصفات الالهية
... لقد آمن اوائل المسلمين من الصحابة الكرام بما جاء في الكتاب المبين والسنة النبوية المطهرة وسلموا لما جاء به فيما يتعلق بالصفات الالهية ولم يحاولوا الخوض في تفاصيل هذه الصفات ((حتى انه لم يرد قط عن احد من الصحابة - رضي الله عنهم - إنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات )) (ابو زهرة ، د. ت : 98)
... لكن اول من تكلم في مسألة الصفات في الاسلام الجعد بن درهم فإنه نفاها وقال بخلق القرآن ، وعن الجعد أخذ الجهم بن صفوان مقالته في نفي الصفات وقد ظهر الجهم بعد عصر الخلفاء الراشدين قبل نهاية المائة الاولى من الهجرة، وقد انكر المسلمون هذا الرأي وعدوه بدعةَ فضللوا الجهمية وحذروا الناس من الاستماع اليهم (جار الله ، 1947 : 62). خوفاً من انتشار ارائهم بين المسلمين.
... ولما ظهر المعتزلة أخذوا عن الجهمية قولها في نفي الصفات فكان واصل بن عطاء ينفيها أصلاً ؛ لانها تؤدي إلى الشرك عنده ، ولذلك كان يقول من اثبت لله تعالى صفةً فقد أثبت إلهين (الشهرستاني، ج1 ، د. ت :53) .
... (( اما المعتزلة الذين جاءوا بعد واصل بن عطاء اخذوا بتأثير الفلسفة اليونانية يفسرون قوله ويؤيدونه بالبراهين العقلية ... فقالوا : ان الله عالم بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص صفات الذات لشاركته في الالهية )) ( جار الله ، 1947 : 63).(1/1)
... وكان بين المعتزلة وبين السلف في كل زمان اختلافات في الصفات وكان السلف يثبتون صفات الباري معاني قائمة بذاته وكانوا يناظرون المعتزلة ويناضلونهم على قاعدة إقناعية معتمدين على نصوص القرآن والسنة، ولما ظهر الاشعري نصر مذهب السلف على قاعدة كلامية (ينظر: الشهرستاني، ج1، د.ت : 36) ، كان قد آخذها عن المعتزلة عندما كان واحداً منهم.
... وسنعرض الان اراء كلٍ من المعتزلة والأشاعرة في الصفات:
1 - ... الوجود (وجود الله - سبحانه وتعالى - )
... (( أجمعت العقول الصحيحة واخبرت الكتب السماوية المنزلة بأن كل مافي الكون من المكونات والمخلوقات والمحدثات والموجودات والمصنوعات والمصورات لابد لها من مكون وخالق ومحدث وموجد وصانع ومصور اذ من الممتنع المحال عقلاً وطبعاً ان يوجد شيء من الاشياء من غير أن يكون له موجد يوجده من القدم فذلك الموجد هو الله (بديع السموات والارض) وإلا لأختل النظام وتصادمت الأجسام ولزم الكون الفساد )) ( الواعظ ، 1954 : 7).
... والمعتزلة والاشاعرة جميعهم مقّرون معترّفون مؤمنون بوجود الخالق - سبحانه وتعالى - ومأثوراتهم تشهد بذلك ، وقد قدموا الادلة والبراهين ونافحوا المفكرين لوجود الخالق - سبحانه وتعالى - ، فهذا النظام المعتزلي يقدم دليلاً على وجود الله تعالى ويسمي دليله بدليل (قهر الطبائع) ، وفحواه أننا نشاهد في الأشياء طبائع مختلفة، متضادة، ونجدها تجتمع في الجسم الواحد فلابد من قاهر قهرها على غير طباعها ، أي جعلها مجتمعة مع ان طبعها التضاد والتنافر، وهذا القاهر هو الله ( ينظر: الالوسي : 99) . أما الباقلاني الأشعري فأنه يقدم ثلاثة أدلة لاثبات وجود(1/2)
الخالق وهي : الدليل الأول دليل الصنع وفحواه: كل ما هو محدث فله محدث بالضرورة ، فالكتابة لابد لها من كاتب، والصورة لابد لها من مصور، والبناء لابد له من بان، فوجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها، اذ كانت الطف وأعجب صنعاً من سائر مايتعذر وجوده لامن صانع من الحركات والتصويرات ( ينظر: الباقلاني ، 1957 : 23) ، والدليل الثاني يقوم على فكرة وجود نظام وترتيب في الموجودات ، ولايمكن ان يقع ترتيب ونظام بين امور متجانسة الا بمرتب ومنظم (ينظر: بدوي ، ج1، 1983 : 603) ، اما الدليل الثالث يقوم على فكرة العناية الالهية وفحواه : ان لكل شيء شكلاً معيناً مخصوصاً ،بحيث لايمكن ان يجمع في الشيء الواحد اشكال متضادة ، ولايمكن ان يكون هذا كذلك ألا بمؤلف الف شكل الشيء وقصد كونه كذلك (رمضان ، 1986 : 409) .
... على الرغم من الاختلاف في الأدلة التي قدمها كل من المعتزلة والأشاعرة ولاسيما دليل (قهر الطبائع) ودليل العناية الآلهية ، لكن يبقى الشيء المهم ألا وهو أن كلاً منهما حاول إثبات وجود الخالق - سبحانه وتعالى - بالطريقة التي يراها مقنعة للأخرين ومنسجمة مع المنهج الذي يتبناه في البحث عن الحقيقة ولنا أن نستفيد من الأدلة التي قدمها كل من المعتزلة والأشاعرة في اثبات وجود الخالق - سبحانه وتعالى - في مجال اختصاصنا العلمي ألا وهو بناء جيل مؤمن بالله تعالى كحقيقة موجودة ومسيطرة على تدبير شؤون الكون ، وهذا الايمان مصدره العلم والعقل.
2 - ... الصفات السلبية :
... لم تكن الصفات السلبية محل اختلاف بين المتكلمين اذ اقر بها الجميع وقالوا باتصافهِ تعالى بهذه الصفات، فقال بها المعتزلة والاشاعرة على حدٍ سواء، وهذه الصفات هي : ( القدم ، والبقاء ، والوحدانية، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس ) ، وسنعرض اراءهم في الوحدانية.
- الوحدانية :(1/3)
... قص علينا القرآن الكريم دعوة الانبياء عليهم الصلاة والسلام إلى عقيدة التوحيد فقال تعالى في محكم كتابه مخاطباً نبيه عليه افضل الصلاة واتم التسليم : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الانبياء : 25 ) معنى ذلك ان كل الانبياء والرسل مكلفون بدعوة الناس إلى توحيد الله - سبحانه وتعالى - إلا أن اكثر الاقوام كانوا ينحرفون عن هذه العقيدة إلى عقيدة الشرك وذلك عندما يغادرونهم الانبياء والمرسلون إلا أنه بمجيء الاسلام ظهرت هذه العقيدة على كل العقائد الباطلة ، اذ كتب الله لها الحفظ من الانحراف.
... لقد اتفق المسلمون من فلاسفة ومتكلمين على عقيدة التوحيد وتمسكوا بها وساروا على نهج القرآن في تقريرها وتوحدوا معه في بيان معناها إلاّ انهم قد اختلفوا في الطريق العقلي للاستدلال عليها.
... أما الفلاسفة فقد كانت طريقتهم في اثبات التوحيد بنفي التركيب والتعدد عن الباري سبحانه وتعالى، فاما نفيهم للتركيب فكان بقولهم : ((إن كل مركب محتاج إلى الجزء الذي هو غيره ، وكل محتاج إلى الغير ممكن لأن ذاته من دون ملاحظة الغير لايكون كافياً في وجوده، أما الله تعالى فغني عن الاحتياج لأن الأحتياج من صفات المحدثات، والله تعالى واجب الوجود)) (التفتازاني ، ج4 ، د. ت : 31).
... وأما نفيهم للتعدد فبقولهم : (( لو كان الواجب مشتركاً بين اثنين لكان بينهما تمايز لامتناع الاثنينية بدون التمايز، ومابه التمايز غير مابه الاشتراك ضرورة فيلزم تركب كل من الواجبين مما به الاشتراك وما به الامتياز وهو محال )) (التفتازاني، ج4، د.ت : 32).(1/4)
... أي انهم يذهبون إلى (( ان واجب الوجود لذاته لايجوز أن يكون اجزاء كمية ولا أجزاء حد قولاً ولا اجزاء ذات فعلاً ووجوداً. وواجب الوجود لن يتصور إلا واحداً من كل وجه فلا يتصور ولايتحقق موجودان كل واحد منهما واجب بذاته)) ( الشهرستاني، د.ت: 90-91).
... وأما المتكلمون من معتزلة واشاعرة فقد أعتمدوا في نفي التعدد واثبات الوحدانية دليل التمانع المستنبط من قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ( الانبياء : 22) . والاشعري يوضح لنا ذلك بقوله : (( فإن قال قائل : لم قلتم أن صانع الاشياء واحد ؟
... قيل له : لأن الاثنين لايجري في تدبيرهما على إحكام، ولابد أن يلحقهما العجز، أو واحد منهما لأن أحدهما إذا أراد أن يحيي أنساناً وأراد الأخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً، أو لايتم مرادهما أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، ويستحيل ان يتم مرادهما جميعاً لانه يستحيل أن يكون الجسم حياً ميتاً في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما، والعاجز لايكون إلها ولاقديماً فدل ما قلناه على أن صانع الاشياء واحد وقد قال الله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ( الاشعري، 1955 : 20-21).
... ان المتكلمين من معتزلة واشاعرة وان اتفقوا في هذه المسألة من حيث الاعتقاد وطريقة الاستدلال، فقد نلحظ بعض الاختلافات وبخاصة من حيث الوضع الاصطلاحي ومن حيث اوجه الوصف بأنه تعالى واحد.
... فالمعتزلة يتناولون هذه المسألة تحت اصل التوحيد كما انهم يطلقون على أنفهسم أهل التوحيد والعدل، ويعرف المعتزلة التوحيد بأنه : (( العلم بما يتوحد الله – جل وعز – به من الصفات التي يختص بها أو باحكامها دون غيره)) (القاضي، 1988 : 198).(1/5)
... أما الاشاعرة فانهم يطلقون مصطلح الوحدانية على إحدى الصفات الخمس السلبية التي يثبتونها لله تعالى ويتناولون ضمن مبحث الوحدانية سبل اثبات تفرده تعالى بالالوهية ونفي الشريك عنه . وتعني الوحدانية عند الاشاعرة (( أنه لاثاني له تعالى في ذاته ولاصفات ولا أفعالهِ)) (السنوسي، د.ت : 88-89) ، معنى ذلك انهم ينفون الشريك عن الله - سبحانه وتعالى - في الذات وفي الصفات وفي الأفعال.
... وخاتمة القول يمكن أن نشير إلى ان لعقيدة التوحيد فائدة عملية في حياة الانسان وبناء المجتمع المتعاون المتماسك الصالح، لان هذه العقيدة بها ترتفع الانسانية وتسمو وتطمئن قلوب العباد وتصفو، أي ان الانسان اذا وحّدّ ربه - عز وجل - وعرف وتيقن أن هذا الواحد لم يرد لهم الشر، ولابد وقد نظم لهم نظاماً يقوم به امرهم ويصلح به حالهم ويأمن به ضعيفهم من بأس قويهم ومظلومهم من ظالمهم وتحسن به معاملتهم معه أولاً ومع بعضهم ثانياً، فاذا آمن المخلوق به سبحانه وبرسله الذين بلّغوا هذه الأوامر الالهية أوقفه ايمانه عن تعدي هذه الحدود المحدودة فأمن الناس شره وصح نفعه لبني نوعه الأنساني وقام وقعد منقاداً لأوامر الله منتهياً عما نُهي عنه كما بُلغ على لسان النبي عليه الصلاة والسلام فعند ذلك سيكافأه الله بنعيم الجنة وسعادة الآخرة، وعلى الرغم من أننا وجدنا أن هناك أختلافات في التفاصيل الدقيقة مابين المعتزلة والاشاعرة في اثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، وابراز هذه الاختلافات يتفق مع منهجية البحث المقارن لكن لايتفق مع هدف البحث الحالي لذلك سنعتمد على النقاط المشتركة مابين المعتزلة والاشاعرة في اثبات عقيدة التوحيد وسنهمل ما اختلفوا فيه في هذه المسألة ، لأن الغاية هي بناء منهج تربوي لتربية أبناء المجتمع الاسلامي وتنشأتهم التنشأة السليمة وبما يتفق وتطورات الحياة في كافة المجالات.
3 - ... صفات المعاني :(1/6)
... ان هذه المسألة من المسائل التي شغلت المتكلمين ، فأفاضوا الكلام فيها، واختلفت وجهات نظرهم حول إثباتها ونفيها، ومن أهم من تكلم في هذه المسألة المعتزلة والاشاعرة، لذا سنعرض لارائهم في هذه المسألة .
أ - ... رأي المعتزلة :
... ذهب المعتزلة إلى نفي الصفات الثبوتية الحقيقية أي التي تثبت للذات معنى زائداً عليها، كالعلم والقدرة والارادة وغير ذلك فأنكروا أن تكون هذه الصفات أزلية زائد على الذات (الغرابي، 1959 : 95-96) وكان واصل بن عطاء شيخ المعتزلة يقول : ((بنفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة، والارادة والحياة وغيرها، وكان يشرع فيها على قول ظاهر ، وهو الاتفاق على استحالة وجود الهين قديمين أزليين قال : ومن أثبت معنىً وصفةً فقد أثبت إلهين)) (الشهرستاني، ج1، د.ت : 31).
... ويذكر لنا الشهرستاني الطريقة التي يعتمد عليها المعتزلة في الدفاع عن رأيهم في الصفات اذ كانوا يقولون : (( نحن لاننكر الوجوه والاعتبارات العقلية لذات واحدة ولانثبت الصفات إلا من حيث تلك الوجوه إما إثبات صفات هي ذوات موجودات أزلية قديمة قائمة بذاته هو المنكر عندنا فإنها اذا كانت موجودات وذوات وراء الذات فأما أن تكون عين الذات، وهو مذهبنا وحينئذ يبطل قولكم : إنها وراء الذات ، وإن كانت غير الذات فهي أما حادثة، وأما قديمة، وليس من مذهبكم إنها حادثة، وإن كانت قديمة فقد شاركت الذات في القدم والوجوب بالذات، ونفي الأولية، فهي آلهة اخرى، فإن القدم أخص وصف القديم، والأشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم)) ( الشهرستاني، د.ت :199).
ب - ... رأي الأشاعرة:(1/7)
... لقد أجمع الاشاعرة على ان الله تعالى حي بحياة ، وقادر بقدرة ، وعالم بعلم ، ومريد بارادة، وسامع بسمع لابأذن ، وباصر ببصر هو رؤية لاعين ، ومتكلم بكلام لا من جنس الاصوات والحروف، واجمعوا على أن هذه الصفات السبع أزلية وسموها قديمة ( البغدادي ، 1981 : 90) . فقد ذهب الأشاعرة إلى أن الصفات لاهي هو ولاهي غيره – أي ليست هي نفس الذات ولاغيرها – فقد نفوا العينية والغيرية (الدواني ، ج1، 1957 : 278) ، وقالوا : ((ان هذه الصفات كلها قائمة بذاته تعالى لايجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته سواء أكان في محل ، أم لم يكن في محل )) (الغزالي، د. ت : 65) ، وأضافوا ((إن الصفات كلها قديمة، فإنها إن كانت حادثة كان القديم سبحانه محلاً للحوادث وهو محال والدليل على استحالة كونه تعالى محلاً للحوادث: إن كل حادث فهو جائز الوجود والقديم الأزلي واجب الوجود، ولو تطرق الجواز إلى صفاته لكان ذلك مناقضاً لوجوب وجوده فإن الجواز والوجوب يتناقضان فكل ماهو واجب الذات فمن المحال أن يكون جائز الصفات)) ( الغزالي، د. ت: 66).
... معنى ذلك ، أن الاشاعرة قالوا : (( إن له تعالى صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته، فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بأرادة، وعلى هذا القياس فهو سميع بسمع بصير ببصر حي بحياة )) ( الايجي، ج8 ، د.ت: 44) وهذه الصفات ليست عين ذاته خلافاً للمعتزلة الذاهبين إلى أنها عين الذات بمعنى أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالمة إلى غير ذلك متمسكين بما حاصلة أنه يلزم على ثبوتها تعدد القدماء وقد بين الاشاعرة فساد ماذهب اليه المعتزلة من حيث أنه يلزم على قولهم إنه تعالى عالم بغير علم وقادر بغير قدرة ومريد بغير ارادة (بدوي، 1983 : 26)(1/8)
... وخلاصة القول في هذا الأمر ان الاشاعرة لم يفترقوا عن المعتزلة حين أثبتوا، أن العلم والقدرة والحياة صفات ذاتية لله ، غير أنهم من وجه آخر ، اثبتوا (أي الاشاعرة) صفات أزلية سبع (عالم ، قادر ، حي ، مريد ، سميع ، بصير، متكلم) حجتهم في ذلك بأنه يستحيل على الله احتواء هذه الصفات (ينظر: الاشعري، د.ت : 46).
... وازاء هذا التبرير يتضح افتراق الاشاعرة عن المعتزلة، لأنهم استهدفوا اثبات معاني الصفات، بينما قصدت المعتزلة التوحيد (المحض) ، فأستبعدت أي تصور يترتب عليه أثبات صفات مغايرة للذات مفارقة لها (ينظر: صبحي ، ج1، 1976 : 467).
... والذي نستخلصه هنا فان كلٍ منهما أجتهد بحسب رؤيته ومنهجه وبحسب العوامل التي شكلت وأنضجت الفكر عنده ، وإنهم اتفقوا في أثبات الصفات لله - سبحانه وتعالى - ، ولكنهم اختلفوا في انها عين ذاته أم انها معانٍ زائدة عن ذاته، واختلفوا كذلك في انها صفات حادثة أم قديمة.
... وأمتداداً لقضية الصفات عند الاشاعرة وأصلي التوحيد والعدل عند المعتزلة ترسخت عدة قضايا واصبحت مثار نقاش وجدال واختلاف مابين الاشاعرة والمعتزلة منها: رؤية الله، كلام الله ، والأفعال الانسانية والحسن والقبح وسنعرض لهذهِ القضايا عند كلٍ من المعتزلة والاشاعرة بالتدريج:-
- ... رؤية الله :
... أكد المعتزلة على عدم رؤية الله بالابصار في الدنيا، واستحالتها في الآخرة (القاضي، ج4، د.ت : 99) ، اذ لو تحققت هذهِ الرؤية في الدنيا، لتحقق – الحلول والمجاورة – من خلال اتصال رؤيتنا اتصالاً مادياً ، ولكان الله - سبحانه وتعالى - في صورة مادية محسوسة ( الراوي، 1980 : 281).(1/9)
... وبهذا البرهان اعترض المعتزلة على الاشاعرة الذين اجازوا رؤيته تعالى في الدنيا، واوجبوها في الاخرة (نقلاً وعقلاً) ، واستدل الاشاعرة على ذلك بأنه مادام الله موجوداً، ورؤيته لاتؤدي إلى إثبات نقص أو محال عليه، ومادام الله أخبر عن وقوع الرؤية للمؤمنين من عباده يوم الآخرة، فيجب الايمان بذلك واعتقاده خلافاً للمعتزلة (ينظر: الاشعري، د.ت : 13-20).
... ويحلل القاضي عبدالجبار المعتزلي (اطروحة الاشاعرة في اثبات الرؤية) بقوله: بأنه يجب علينا أن نسلم بأن مقومات الرؤية: الرائي، المرئي الشعاع المتصل بينهما، وبناءاً على هذا فالرؤية تعني هذا الأتصال بين الرائي والمرئي، ويشترط في تحقق هذا الاتصال بنية مادية ( ينظر: القاضي ، ج4 ، د.ت: 62). والذي يريد أن يقوله القاضي المعتزلي ان هذا الاتصال يحقق شرط التجسيم ويجعل الرؤية لله - عز وجل - ممكنه بإمتثالها المادي للرؤية الأنسانية وفي متناولها، وبتحقق الرؤية على وفق هذه المقومات المادية، فأن النتيجة ستكون اننا سنرى الله بصفاته: قديماً عالماً ، قادراً، حياً لانها أخص أوصافه، ومثل هذا الافتراض ليس ممكناً، كما أن وقوعه أو تحققه مستحيل ، وعليه فأن الله لايرى في الآخرة، كما ثبت أنه لايرى في الدنيا (ينظر: القاضي ، 1965 : 233).
... وخلاصة القول: ان الخلاف مابين المعتزلة والأشاعرة في مسألة الرؤية ليس فيمن أصاب ومن اخطأ منهما في تفسير الآيات (التي وقع اختلاف في تأويلها) بل ان الخلاف الجوهري بينهما في حقيقة الرؤية، لذلك نجد ان تعريف الاشاعرة للرؤية لايقوم على اساس علمي، أما تعريف المعتزلة لها هو الأصح علمياً ، ولو افترضنا ان الاشاعرة كانوا مصيبين في قولهم ان الرؤية لاتقتضي اتصال شعاع بين الرائي والمرئي، فهل هذا كافٍ لدفع حجة المعتزلة في أن الشيء اذا كان مرئياً كان محدوداً ( ينظر : جار الله ، 1947 : 83).(1/10)
... والذي نستفيده من هذه المقارنة في مسألة الرؤية في دراستنا الحالية هو ان المعتزلة أستخدموا مباحث الفيزياء او الطبيعيات في اثبات صحة ماذهبوا اليه على خلاف الاشاعرة الذين تمسكوا بالنص، وهذا يجعلنا نستخلص بأن الفكرة لاتصمد أمام النقد والتجريح ألاّ بعد أن تقوى بالدليل العلمي الواقعي وهذا يُعد مبدأً تربوياً متقدماً.
- ... كلام الله :(1/11)
... تعد مسالة كلام الله من أهم مسائل العقيدة التي كثر النقاش فيها بين مختلف المدارس الاسلامية حتى أن احد أسباب تسمية علم العقائد بعلم الكلام كما ذكرنا سابقاً هو الجدل الذي أدى إلى الحديث عن القرآن ، وعن كونه مخلوقاً أم غير مخلوق ، ((كثر القول حول القرآن في كونه مخلوقاً أم غير مخلوق ، وكانت إثارة هذهِ المسألة، وكما يرى البعض على ايدي النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الاموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي، فقد جاء في القرآن أن عيسى بن مريم - عليه السلام - كلمته القاها إلى مريم ، فكان هذا يبث بين المسلمين أن كلمة الله قديمة فيسألهم : أكلمته قديمة أم لا ؟ فإن قالوا لا ... فقد قالوا : إن كلامه مخلوق ، وإن قالوا: قديمة إدعى أن عيسى - عليه السلام - قديم، وكرد فعل لذلك وجد بين المسلمين من قال : إن القرآن مخلوق ليرد كيد هؤلاء، فقال ذلك الجعد بن درهم وقال الجهم بن صفوان ، وقاله المعتزلة، واعتنق هذا الرأي الخليفة المأمون العباسي، وأعلن أن المذهب الحق هو أن القرآن مخلوق، وسعى لحمل الناس على إعتقاد ذلك بالقوة، وعمل على إمتحان الفقهاء والمحدثين ومنهم الامام احمد بن حنبل، وحدثت المحنة المعروفة بمحنة خلق القرآن ، وامتدت بأحمد وغيره من المحدثين، ولم تنته بوفاة المأمون ، بل استمرت في حكم المعتصم ثم الواثق، فلما جاء المتوكل رفع المحنة وقرب الفقهاء والمحدثين ، واقصى المعتزلة)) ( ابو زهرة ، د. ت : 496-500) لذلك اختلف متكلموا المدارس الاسلامية في كلامه تعالى من حيث قدمه وحدوثه وحقيقة أهو كلام نفسي أم عبارة عن الحروف والاصوات على اتجاهات متعددة:
أ - ... رأي المعتزلة :(1/12)
... ذهب المعتزلة إلى ان كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل او النبي وهو حادث (الايجي، ج8 ، د. ت :92 –93) . وبناءاً على ذلك فالكلام عندهم ((حروف منظومة وأصوات مقطعة شاهداً وغايباً لاحقيقة للكلام سوى ذلك وهي مخلوقة قائمة بمحل اذا أوجدها الباري سمعت من المحل)) (الشهرستاني ، د.ت : 288) . وقدموا الادلة النقلية والعقلية التي تثبت وجهة نظرهم هذه ، وأولوا الايات القرآنية بما يتفق ووجهة نظرهم.
ب - ... رأي الاشاعرة :
... لقد أثبت الاشاعرة صفة الكلام لله تعالى، ووصفوه بأنه متكلم واستدلوا على ذلك من النقل والعقل، وقد أثبت الاشاعرة ما اثبته المعتزلة من الكلام اللفظي على اعتقاد أنه حادث ثم يثبتون معه كلاماً نفسياً قديماً، اذ يقولون : (( وهذا الذي قالته المعتزلة لاننكره نحن بل تقول به ، ونسميه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ، لكننا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ونقول هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته تعالى )) (الايجي، ج8، د.ت: 93).
... يستخلص من ذلك ان المعتزلة جاءت ارائهم في مسألة كلام الله متفقة مع وجهة نظرهم في التوحيد وان الله وحده القديم ولاقديم غيره، أما الاشاعرة فقد اثبتوا الكلام لله تعالى ، باعتبار ان الكلام مدح للانسان، فلماذا لايكون للباري - عز وجل - ، والباحث هنا لايستطيع ان يرجح أي رأي من الاراء في هذه المسألة ، لكنه يقول أن الفريقين اجتهدا ولهما الأجر. والذي نستفيده من هذه المسالة في دراستنا الحالية هو ان الاشاعرة قد اعتبروا الكلام النفسي القائم بالنفس هو الكلام الحقيقي، أي ان الفكر هو الكلام الحقيقي، أما عندما يُعبر عن الفكر بالالفاظ فيكون الكلام مجازاً وليس حقيقة.
...
- ... أفعال الانسان:(1/13)
... أرتبطت هذه المسألة عند المعتزلة بأصولهم التالية ( العدل – الوعد والوعيد – الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، اما عند الاشاعرة فانها ارتبطت بقضية الصفات ولاسيما منها صفة الارادة الالهية المطلقة وصفة القدرة الالهية المطلقة.
... فالمعتزلة كان رأيهم في هذا الامر وبناءاً على ان الله عادل وأنه يجازي او يعاقب الانسان على أفعاله في الدنيا وبما أن الانسان مكلف بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقد ذهبوا إلى ان الانسان خالق لافعاله بالقدرة التي أوجدها الله فيه وله مطلق الحرية في الاقدام على العمل أو تركه حتى يكون مسؤول مسؤولية كاملة على أفعاله.
... أما الأشاعرة فقد ذهبوا إلى ان الانسان لايخلق افعاله ؛ لأن الله هو الخالق ولا خالق سواه، أي ان الافعال مخلوقة من الله مكسوبة من الانسان معنى ذلك ان افعال الانسان واقعة بقدرة الله تعالى، فيكون فعل الانسان مخلوقاً لله ابداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد، وبذلك اراد الاشاعرة ان يحققوا أن لاخالق ولامؤثر في الوجود إلا الله تعالى، وهم بذلك يمنعون اشراك الانسان في صفة الخلق التي تفرد بها الباري - سبحانه وتعالى - فجاء قولهم بالكسب لبيان اختصاص كل من الخالق والمخلوق. وبالتالي فأن نظرتهم لمسألة الجبر والاختيار كانت توفيقية بين نظرة المعتزلة والجبرية.
... والذي نستخلصه هنا : ان المعتزلة جعلوا الانسان أكثر فاعلية في الحياة، ومن ثم أعطوه المكانة والأهلية التي تجعله مبدعاً في الحياة، وبالتالي يصبح عنصر فعال في تطور وتقدم المجتمع، وهذا يُعد مبدأً تربوياً متقدماً تسعى كل الأنظمة التربوية المعاصرة إلى تنشئة انسان بهذا المستوى من العطاء، وقد تنبه المعتزلة إلى هذا الأمر قبل غيرهم.
- ... الحسن والقبح:(1/14)
... الحسن ماكان فاعله مستحقاً لمدح الله تعالى في الدنيا وثوابه في الاخرة، والقبح ما استحق فاعله الذم عاجلاً والعقاب اجلاً، وهذا كفعل الطاعات وفعل المعاصي، والحسن والقبح بهذا المعنى هو محل خلاف بين المتكلمين.
... فقد ذهب المعتزلة : إلى ان في الافعال حسناً ذاتياً وقبحاً ذاتياً، وان حسن الافعال وقبحها يستقل العقل بأدراكها، ولايتوقف ادراكها على الشرع، وليس العقل بحاجة إلى وساطة الرسل وتبليغهم، وحسن الفعل أو قبحه أمر عقلي لاشرعي، فما أدرك العقل حسنه جاء الشرع بطلب فعله ولايمكن أن يطلب تركه، وما أدرك العقل قبحه جاء الشرع بطلب تركه ولا يمكن أن يطلب فعله، وهذا بايجاز تصور المعتزلة لهذهِ المسألة وقد بنوا على هذه الفكرة، أن الانسان مكلف قبل بعثة الرسل، وان أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة مكلفون بفعل ماهو حسن لذاتهِ، والكف عما هو قبيح في ذاته لأن هذا هو حكم الله ومع التكليف تقع المسؤولية ومايترتب عليها من ثواب وعقاب.
... اما الاشاعرة فأنهم يقولون : أن الحسن والقبح يثبتان بالشرع لا بالعقل، وأن الاشياء ليس لها حسن ذاتي ولاقبح ذاتي، وان الحسن ما أمر به الشرع، وأن القبح مانهى عنه، وما العقل الا ألة لفهم الخطاب، وعلى هذا فلا تكليف الا بما اقتضاه الشرع، وبالتالي لايطالب الانسان بفعل ما أدرك حسنه بعقله، ولابترك ما أدرك قبحه قبل بلوغ الدعوة، ولاحكم لله في افعال العباد قبل بعثة الرسل ، وحيث لاحكم فلا تكليف وحيث لاتكليف فلا حساب ولامدح ولاثواب ولاذم ولاعقاب (ينظر: الجويني، ج1، د.ت : 87).(1/15)
... من خلال ماتقدم يتضح: ان المعتزلة أعطوا للعقل مكانة مهمةً ودوراً فعالاً، اذ أناطوا له مهمة اكتشاف مافي الاشياء من أمور حسنة أو قبيحة ، وبناءاً عليه فأن الثواب أو العقاب للانسان يكون على ضوء افعاله وتصرفاته النابعة من قدرتهِ على التمييز مابين الافعال الحسنة والافعال القبيحة. أما الاشاعرة فأنهم قيدوا العقل بالشرع وجعلوه تابعاً له في معرفة مافي الاشياء من حسن أو قبح.
ثانياً: مرتكب الكبيرة :
... الكبيرة: هي كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف، وحذار ندم كالمتهاون بأرتكابها والمتجريء عليه اعتياداً، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة ومايحمل على فلتات النفس، أو اللسان، وفترة مراقبة التقوى، ولاينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لايمنع العدالة وليس هو كبيرة (صحيح مسلم ، ج1، 1929 : 85).
... وقد اختلف المفكرون المسلمون في تسمية صاحب الكبيرة والحكم عليه فذهبوا في ذلك مذاهب شتى فالمعتزلة قالت بأنه في منزلة خاصة بين منزلتي الايمان والكفر، أما الاشاعرة فقالوا انه مؤمن بايمانه فاسق بكبيرتهِ، ورأيهم هذا مبني على فهمهم للايمان فالمعتزلة ترى ان الايمان اذا لم يُصدقه العمل، فلا يكون ايماناً صحيحاً ، اما الايمان عند الاشاعرة فهو تصديق بالجنان أما القول باللسان والعمل بالاركان ففروعه.
... من خلال هذهِ المسألة نستطيع الافادة في مسألة ربط الايمان بالعمل ( وهذا قول المعتزلة) في ميدان التربية العملية. كذلك تُعد هذه المسألة مهمة في تقييم سلوك الانسان في الدنيا ومصيره في الاخرة فهي تُعد بمثابة تهذيب اخلاقي للمجتمع وبناء منظومة قيمية صحيحة.
ثالثاً: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر:(1/16)
... اعتبر المعتزلة هذه المسألة اصل من اصول الدين الاسلامي لذلك جاء هذا المبدأ ضمن الاصول الخمسة للنظرية الاعتزالية وكما بينا في المبحث الأول ووضعوه أخر اصل من اصولهم الفكرية، باعتباره المحصلة النهائية لمن يُدين بالاعتزال فكراً، فجاء هذا الاصل بمثابة التطبيق العملي للاصول التي سبقتهُ. فهو من وجهة نظرهم واجباً أخلاقياً عملياً يتوقف عليه صلاح الشريعة والمجتمع.
... أما الاشاعرة فأعتبروه فرعاً من فروع الدين الاسلامي.(1/17)
المبحث الاول
الرؤية الفكرية للمعتزلة في
1- ( الله) .
2- العالم الطبيعي ( الكون) .
3- الطبيعة الأنسانية.
4- نظرية المعرفة.
5- الفكر التربوي .
1- ... (اللّه) :
... تترشح من خلال نظرية الاصول الخمسة عند المعتزلة قضايا اساسية ومهمة فمن التوحيد والعدل تتضح طبيعة الله وحرية الانسان ومن الوعد والوعيد تتضح طبيعة الانسان ومصيره، ومن المنزلة بين المنزلتين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضح الواقع السياسي والأخلاقي للمجتمع ( ينظر: كوربان، ج1، 1966 : 170).
... فالله عند المعتزلة قديم ليس كمثله شيء وما دونه حادث ( الخياط ، 1925: 14) ، لذلك اسقط المعتزلة كل صفة تتعارض مع وحدانية الله وذاتيته فأنكروا ان يكون لله صفات زائدة على ذاته، فالله عالم بذاته، حي بذاته، قادر بذاته، فليس ثمة صفات قديمة قائمة في ذاته، اذ لو شاركته هذه الصفات في القدم لشاركته في الوهيته (الاشعري ، ج1، 1950 : 216).
... لقد بلغت افكار المعتزلة في التوحيد وتصوراتهم للذات الالهية ، قدراً عالياً من التجريد ، والتنزيه ، واتسمت دفاعاتهم عن هذا الاصل المبدئي بتنوع براهينهم العقلية وحججهم الجدلية والنقلية ضد تيارات المشبهة الحشوية التي عجزت عقولهم ان تسمو بتصور الذات الالهية، عن حدود الموجودات الحادثة المخلوقة ( ينظر: القاضي، 1965 : 154).
... وقد تضمن برنامج الاعتزال أبرز قضايا التوحيد جدلاً وحيوية ، ابتداءاً بمعرفة الله ، وبراهين وجوده ومروراً بصفاته الأخص الذاتية، وصفات فعله، ثم اتصالاً بنظرية الخلق، والبراهين التي تثبت خلق العالم ( الراوي، 1980 : 239).(1/1)
... واذا كان المعتزلة قد جعلوا معرفة الله مدخلاً، لتقديم براهينهم على وجوده تعالى، فقد كان همهم ان يعمقوا تصوراتهم للصفات بما ينسجم مع موقفهم المبدئي العام وهو التنزيه المحض، لذلك رفضوا أي نوع من انواع الفصل او التعدد بين صفات الله وبين ذاته، لان الله قديم وصفة القدم أخص صفاته، فاثبتوا وحدة الذات الالهية، ونفوا الصفات الزائدة لانها في رأيهم تؤدي إلى الشرك، فالله عالم بذاته، لابعلم زائد عليها وهو قادر بذاته لابقدرة خارجة عنها وتنزيه الله عن المماثلة والتشبيه بصفات الانسان، كان دعوة إلى تأويل كافة آيات التشبيه في القرآن ، فأنكروا رؤية الله في دار الاخرة، كما استحالت في الدنيا لأن رؤيته تقتضي التشبيه والتسجيم ( ينظر: القاضي ، 1971 : 174-178).
... أما معرفة الله عند المعتزلة فقد قامت على مبدأ الوجوب العقلي الذي حددوا قوامه بالتفكير والنظر والاستدلال، ومبدأ الوجوب هذا لايتعين في الدار الاخرة لان النظر والاستدلال منفيان عن أهل الجنة لكونهما يؤديان إلى التنغيص والتكدير (ينظر: القاضي، 1965 : 58) . وعلى هذا فأن الحس لا يصلح أداة للمعرفة اليقينية ولايمكن له أي الحس ان يكون طريقاً للعلم ، لان معرفة الله تستند إلى العقل نظراً وتأملاً لا اضطراراً (الراوي، 1980 : 244).(1/2)
... ونظرية المعتزلة هذه جاءت انطلاقا من ان العلم متولد من نظرنا واذا تم اثبات ذلك فأن النظر فعل انساني، وبذلك تكون المعرفة فعلاً أنسانياً ايضاً فانها من نظرنا. فاذا كان العلم من فعلنا فانه لم يكن ضرورياً، لان الضروري برأي المعتزلة هو فينا، أي انه لايستند إلى الفعل الانساني بل إلى مبدأ بالقوة الخارج عن الفعل الانساني ، أي ان المعرفة تأتي بحسب قصدنا ، وهذا تأكيد على مبدأ الاختيار الانساني الذي ينفي بدوره الاضطرار . ان نفي المعتزلة لمبدأ الاضطرار دفعهم إلى تفنيد الدعاوى التي تمكست بالتقليد أو الاتباعية التي عدها متبنوها طريقاً للمعرفة بخلاف النظر العقلي أو الاستدلال المنطقي، ودعاوى التقليد هي قبول القول او اتباعه من غير مطالبة صاحبه بالحجة أو الدليل، ولذلك لايمكن ان يكون التقليد بديلاً عن العقل في معرفة الله . فالمعتزلة يتصورون ان المقلد محاكٍ لاصحاب المذاهب كلها ولايمكن ان يكون عكس ذلك بمعنى ان المقلد يأخذ بمذهب دون غيره لانتفاء المزية والاختصاص، كما انه، أي المقلد، لاياخذ بالمذاهب كلها لأنها تؤدي إلى الاعتقادات المتناقضة، وهكذا أكد القاضي عبدالجبار على عدم جدوى التقليد ولايمكن له ان يكون طريقاً لمعرفة الله (ينظر : القاضي ، 1965 : 63-69) .(1/3)
... من خلال ذلك يتضح ان منهج المعتزلة في معرفة الله تعالى منهجٌ عقليُ، اذ انهم فهموا العقيدة فهماً دقيقاً، فمعرفة الله تعالى عنهدهم لاتنال الا بحجة العقل، باعتبار ان العقل عندهم المقياس الشرطي للحقيقة كما انه طريق المعرفة اليقينية (القاضي ، 1965 : 88) ، وبناءاً على ذلك فقد اشترط المعتزلة على الانسان الكيفية التي يتم بها معرفة الله ألا وهي النظر في حوادث الاجسام مع ملاحظة التغيرات الحاصلة فيها ، لان الحدوث عندهم يفضي إلى حصول العلم بأن لها محدث وهو بقياس الشاهد على تصرفاتنا، ولان المحدث لايمكن ان يكون الانسان نفسه أو مماثلاً له ، لذلك سيكون له محدثاً يخالف المواصفات الانسانية وان هذا المحدث في قياسات المعتزلة هو الله تعالى ( الراوي، 1980 : 250).
... فالدليل على اثبات وجود الخالق عند المعتزلة هنا يتصل بخلق العالم وحدوثهِ، والبرهان على حدوثه يبتدئ من العالم ذاتهِ، من خلال الاجسام التي تتصل بعلمنا اتصالاً حسياً مباشراً، ونعلم من صفاتها أنها لايمكن أن تكون قديمة ومحدثة في وقت واحد، فينبغي ان تكون على احدى الصفتين (( أما محدثة أو قديمة)) والذي يحسم القضية ويفصل بها، هو العقل منهجاً في النظر والتفكر والاستدلال ( القاضي، ج1، 1961 : 174).
... وعلى ذلك فالله واحد كما نطق به القرآن ودل عليه العقل، ولايعني هذا أنه واحد في الوجود، لأنه قد ثبت أن غيره موجوداً من المحدثات . بل العلم بوجودها أظهر من حيث المشاهدة، فهو واحد في صفاته التي تميزه عن كافة الموجودات والمعلومات ( الراوي، 1980 : 240) . لذلك كان على المعتزلة أن يبرهنوا على استحقاق الله تعالى الصفات على نحو مختلف عن الصفات التي يوصف بها الانسان المخلوق ، ومن اجل ذلك قالوا: إنه موجود قديم مقابل الوجود المحدث، والقادر بذاته ازاء القادر بقدرة ... الخ (القاضي، ج1، 1971: 174).
2 - ... العالم الطبيعي (الكون) :-(1/4)
... تُعد فلسفة الاعتزال الفيزيائية الطبيعية بابنيتها المتقدمة، أولى مقدمات استقرار المنهاج العلمي ، وقيام الفلسفة الاسلامية على الرغم من أن الطروحات الفلسفية للمعتزلة لم تكن بمنأى عن الدين أو خارج حدود الاسلام ، وانما كانت نتيجة للنظر العقلي والتجربة العلمية، اللذين أعتمد عليهما كلٍ من العلاف والنظام وبشر بن المعتمر، والمعتزلة الاخرين، الذين استمدوا فلسفتهم الطبيعية من اصلي التوحيد والعدل ، فبدأوا يفسرون العالم على نحو نموذجي لم يسبقوا اليه اسلاميا ومذهبياً (الراوي، 1980 : 283) ، (( فالله هو الذي خلق العالم، واذا كان العالم مخلوقاً ، فانه محدث، وإن كان كذلك ، فلابد له من محدث، موجود قبل المخلوقات وسائر المحدثات)) ( بينس، 1946 : 20) .
... اتخذ الاعتزال موقفاً خاصاً برؤيته ازاء قضية الصلة بين الله والعالم على وفق منهجيته العقلية وفي ضوء مفهومه المبدئي للتوحيد، واستعانته بالتجارب الفكرية في هذا المجال فقد رصد المعتزلة عموم الاتجاهات الفكرية التي قدمت طروحاتها بصيغ كلامية وفلسفية انتقائية في هذه القضية.(1/5)
... لذلك يعد أبو الهذيل العلاف أول مفكر مسلم حاول حل المشكلة الطبيعية من خلال تساؤلاته عن مشكلة العالم ، الذي اعتقده متغيراً غير ثابت (وطرح العلاف هذا يُعد سابقاً لطرح الفلسفة البراجمانية وتصورها للكون) ، وان معالجة تلك المشكلة اوحت لابي الهذيل العلاف الاهتمام بنظرية الجزء الذي لايتجزأ ، أو مايعرف لاحقاً بالمذهب الذري. ولقد اعتقد أغلب الباحثين ان هذه النظرية يونانية خالصة (ينظر: النشار، ج1، 1977 : 271). اخذ بها العلاف وطورها تطوراً يتناسب وعقيدته الدينية، وعلى الرغم من ان نظرية العلاف لم تصل كاملة. الا أن تأثيراتها واضحة على جميع متكلمي المسلمين من معتزلة واشاعرة وان الغاية التي يتوخاها العلاف من هذه النظرية هي الوصول إلى ان العالم حادث وانه يحتاج إلى محدث وهو الله تعالى، فالعالم عنده يتكون من جواهر فردة يتفق عندها العالم في التجزء ولايتعداها، واذا كان العالم له أول وجزء ينتهي اليه كان العالم حادثاً ( الغرابي، 1949 : 53) .
... وان العالم يتكون من عدد من الذرات أو الجواهر الفردة او الاجزاء التي لاتتجزأ . وهذه الجواهر او هذه الاجزاء بسيطة لاتركيب فيها. يتصل بعضها ببعض، أي يتصل كل جزء منها بالجزء الاخر ولايفارقه أي انه يتحرك ويسكن ويتفرد ( النشار، ج1، 1977: 471).
... فالعلاف اذن يعتبر الحركة شرطاً لتكون الاشياء وتعينها (ينظر: الكرماني، 1973 : 12) ومع اقراره بحدوث العالم، وان الله خلقه من عدم ، وانه أول ما خلق الجواهر الفردة ثم ركب منها الاجسام، فانه يقول بمبدأ الحركة والسكون ، ففي رايه انه لابد منهما لاثبات حدوث العالم، وجعلها من الاوصاف الطبيعية للجوهر الفرد حتى يتأتى منه تكون الاجسام ( ينظر: الغرابي، 1949: 54).(1/6)
... وعلى الرغم من تأثر العلاف بارسطو الذي جعل مبدأ العالم الهيولى والصورة بشرط وجود الحركة والسكون، فلا يحدث كون ولافساد الا بالحركة ، ولا نمو ولانقصان الا بها (كرم ، 1970 : 141) لكن الفرق بين ارسطو والعلاف هو ان الاول جعل الحركة تنتهي إلى محرك لايتحرك ، بينما العلاف جعل للحركة مبدأ فتكون حركة نقلية من مكان إلى مكان آخر (الغرابي، 1949: 54) . وبذلك تعد محاولة أبي الهذيل العلاف اولى خطوات البحث الفلسفي التي تولى وضع مقدماتها المعتزلة، في اعتماد (( العلة الفالعة)) في اثبات خلق العالم وحدوثه والبرهان على الوجود الالهي، والذي انتهى إلى اثبات محرك اول لايحركه آخر، وعده السبب الاول لكل حركة، وهذا المحرك الاول هو الله (ينظر: نادر، ج1، 1951 : 120).
... أما النظام فقد استعان بمقدمات أستاذه العلاف في حدوث العالم وتناهي موجوداته، التي تقضي بِّعدَّ كل حركة هي حركة متناهية الأمر الذي يستدعي ضرورة حدوثها ، ولما كانت جميع الحركات مقاسة بالنسبة إلى زمان ومكان فهي اذن متناهية، وعلى ذلك فهي محدثة بالضرورة ، ولان العالم متناهٍ محدود، فهو محدث، وكل محدث يحدث من علة، إلا انه لايمكن التسلسل في العلل إلى مالانهاية، فينبغي القول بعلة اولى قديمة غير محدثة (ينظر: ابو ريدة ، 1946 : 131-139).(1/7)
... واذا كان العقل هو المحور المركزي لبراهين الحركة الاعتزالية في اثبات حدوث العالم والبرهان على قدم الله واثبات وجوده، فان القاضي عبدالجبار الذي استرشد بالعقل ، لم يتخلص منهجياً من صيغة المتكلمين التقليدية، في اثبات خلق العالم ، والموصول منه إلى خالقه الله (ينظر: عثمان، 1971 : 158-159) . فأن النقطة الاولى التي يستدل بها على خلق العالم وحدوثه هي افعال الله مستخدماً بذلك الاستدلال العقلي على وجوده تعالى، ولذلك يبقى العقل بالنسبة للمعتزلة هو المرتكز الاساس في مجمل طروحاتهم ، فالاسترشاد بالعقل طريقهم في معاينة قدم الله وحدوث العالم، والتي اعتمدت اصلاً على ان لكل فعل فاعلاً ولكل حادث محدثاً، وهكذا يصبح الطريق عند القاضي لمعرفة الله هي تلك الافعال والتي عاينها من خلال قياس الغائب على الشاهد ، وهكذا يصل إلى افتراضه الذي يؤكد فيه ان العالم مُحدَث ولابد له من مُحدِث هو الله ( ينظر: الراوي، 1980: 290).
... اما الافعال التي استدل بها القاضي عبدالجبار على قدم الله وحدوث العالم هي على نوعين:-
النوع الأول: ... مالا يدخل جنسه تحت مقدورنا ، ولقد عدها القاضي ثلاثة عشر نوعاً وهي : الجواهر، والأكوان، والطعوم، والروائح، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والحياة، والقدرة، والشهرة، والنقرة، والفناء، وهذه جميعها استدلالات على وجود الله، باستثناء الفناء، فان طريق معرفته السمع (القاضي، 1965 : 90).
النوع الثاني: ... مايدخل جنسه تحت مقدورنا : وهي عشرة انواع ، خمسة من افعال الجوارح ، وخمسة من افعال القلوب، فاما افعال الجوارح ، فهي الاكوان ، والاعتمادات، والتأليفات، والاصوات، والالام. وأما افعال القلوب، فهي ، الاعتقادات، والارادات، والكراهات، والظنون، والانظار، وهذه الانواع في نظر القاضي لايمكن الاستدلال بها على الله (القاضي، 1965: 90).(1/8)
... وخلاصة القول في هذا الأمر ان المعتزلة نظروا إلى العالم الطبيعي نظرة علمية دقيقة وحاولوا من خلال توظيف مقولات الفلسفة الطبيعية اثبات حقيقة يؤمنون بها تقوم على اساس عقيدة التوحيد الذي يُعد اصلاً من إصولهم الفكرية وهي : ان الله واحد ازلي قديم ومادونه حادث مخلوق، لذلك جاءت براهينهم واستدلالاتهم لاثبات واقرار هذه الحقيقة والتي تُعد صلب ومرتكز منهجهم الفكري الذي قدموه للمسلمين.
3 - ... الطبيعة الانسانية :
... لقد عدَّت الحركة الاعتزالية الانسان قظيتها الاولى ومقولتها الاساسية التي تستند إلى اصولها المبدئية الخمسة ، اذ حاولت عبر قضاياها الاصولية ومسائلها الجانبية ، ان تفسر الالوهية توحيدا وعدلا ، من اجل الا نسان والدفاع عن حقوقه في العقل والحريه ، ومن اجل اثبات انسانيته ورسم دوره الصحيح والفاعل في الحياة.
... لذلك جاءت قضية الطبيعة الانسانية في مجمل القضايا التي تصدى لها المعتزلة بالبحث والتحليل ليس فقط بوصفها قاسماً مشتركاً بين المادي واللامادي (بين الفيزياء والميتافيزياء) ، لكن لدورها العملي والاخلاقي في الحياة وماينسحب عليه من سعادةٍ وشقاء في الدنيا والاخرة.
... والطبيعة الانسانية هي الوجود الحقيقي الواقعي للانسان وليس الوجود الذهني الاعتباري ، والمتكونة من الجوانب الاتية:
... البنية الجسمانية (أي تركيب الانسان) ، ومفهومي الخير والشر، ومبدأ التخيير والتسيير، وخاصيتي الوراثة والبيئة، والسمة الفردية والاجتماعية والنوع.
... لذلك فإن الحكم على الانسان ((يتحدد من خلال سلوكه ، ونشاطه ومن خلال اختياره وارادته وقدرته على التنفيذ متخذا من العمل سبيلاً ومنهجاً يلتزم به، ومن الايمان مصدر انطلاق وثبات )) ( مرسي، 1969: 262).
... وعليه فقد تناول المعتزلة في طروحاتهم الفكرية بصورة مباشرة او غير مباشرة جميع جوانب الشخصية الانسانية وعلى النحو الآتي:
أ - ... الجسد والروح :(1/9)
... لم يهمل المعتزلة أي جانب من جوانب الطبيعة الانسانية فقد عرفوا الانسان بأنه : (( هو الذي يُرى ، وهو شيء واحد لاروح له ، وهو جوهر واحد ... وان النفس هذا البدن بعينه لاغير)) (الاشعري،ج2، 1985 : 24) . وكذلك قالوا ((الانسان هو الجسد المرئي الظاهري الذي له يدان ورجلان)) (الاشعري، ج2، 1985 : 25) . وقالوا ان الانسان : (( هو الجملة التي نشاهدها ، لا أنه خارج عنها أو شيء بداخلها، وأوضح دليل عليه هو الاشارة إلى البنية المخصوصة)) (القاضي، 1965 : 25).
... وقد قامت رؤية المعتزلة هذه على الدليل النقلي الذي يؤكد العنصر المادي في الانسان: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ( - )ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ( - )ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } ( المؤمنون : 13) . وعلى ذلك فالانسان كما ورد في الآية ليس ألا كوناً مادياً. والمعتزلة هنا أكدوا على الجانب المادي في الانسان ( ينظر : القاضي، 1965 : 251) . وانسجاماً مع هذه الرؤية للانسان فقد تحدث المعتزلة عن الحواس وجعلوها خمساً كما هي عند الفلاسفة وهي : البصر والسمع والشم والذوق واللمس وقد اشاروا إلى أمرٍ مهم في هذا الموضع وهو مايعرف بقانون عتبة الاحساس أو الحد الذي ضمنه تقوم الحاسة بأداء عملها على أحسن وجه بأدراكها للمحسوسات ، فاذا تجاوزت هذا الحد لم تُعد تدرك، وهذا ما أكدته الدراسات الحديثة سواءاً أكانت النفسية أم العلمية الفسلجية التي تناولت هذا الأمر ، اذ يقولون : (( ان لكل حاسة قوة فاذا امتلأت تلك القوة من محسوسها لم تجد ورائها طعماً ولاريحاً، وعاد عليها بالضرر، فبعض النظر يعمي ، والصوت الشديد يصُم ، والرائحة النتنة تبطل الشم ، والاطعمة الحارة المحرقة تبطل حاسة اللسان)) ( الجاحظ ، ج1، 1969 : 141).(1/10)
... أما جانب الروح فقالوا فيه : والنفس أو الروح جسم لطيف مداخل للجسد ، وان المسؤول عن افعال الانسان نفسه لاجسده، لان القوة الفاعلة في الجسد أنما هي النفس ، أما الجسد فهو آلة لتنفيذ أوامر النفس فقط ( فروخ، 1972: 294) . وكذلك تحدثوا عن قوى النفس ، وهي الاحساس والعقل والذاكرة والنطق اذ يقولون : ((تأمل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الانسان اعني الفكرة والوهم والعقل والحفظ وسائر ذلك .. ففكر فيما أنعم الله على الانسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما يضمره ويفهم عن غيره مافي نفسه ، ولولا ذلك كان بمنزلة البهيمة التي لاتميز عن نفسها بشيء ولاتفهم عن مخبر شيئاً)) (الجاحظ ، 1958 : 8).
... وقد أشاروا إلى ان هناك علاقة تبادلية وتفاعلية مابين الجسد والروح، اذ اعتبروا ان الانسان جسداً وروحاً معاً ( ينظر: الاشعري ، ج2، 1985 : 25) ، وانه بمثل هذه الثنائية تتعين فاعلية الانسان، ووحدة ارادته، أي انه من وجهة نظرهم لايكون الانسان حياً ألا باجتماع العنصرين المادي والروحي (الجسد والروح) ( ينظر: نادر، ج2، 1951: 81) . وقد أكدوا هذه العلاقة التفاعلية بقولهم : أما النفس فهي الذات، وانها بنظرهم مركز الحاجات التي يشعر بها الانسان كالحاجة إلى الغذاء والحاجة إلى الطمأنينة والحاجة إلى الجنس والحاجة إلى اليقين والمعرفة، وفي النفس قوى تعمل على تلبية هذه الحاجات (ينظر: الجاحظ، ج1، 1949 : 200).
... يتضح من ذلك ان المعتزلة يتفقون مع الرؤية الاسلامية الصحيحة المنبثقة من القرآن الكريم: وهي ان الروح والجسد كلاهما محتاج لوجود الآخر، أي ان الجسد لافائدة منه من دون قيام الروح فيه، وان الروح مبهمة ولايمكن التعرف عليها ألا من خلال الجسد، وبناءاً عليه فأن اجتماع الروح والجسد معناه وجود الحياة والفعالية للانسان ، اما افتراقهما معناه الموت والفناء.
ب - ... العقل :(1/11)
... إنّ المعتزلة هم اصحاب العقل بلا منازع في الفكر الاسلامي ؛ لذلك جاءت نظريتهم في الاصول الخمسة وفروعها مبنية على النظر العقلي المستند إلى ماجاء في القرآن الكريم من اشارات لطيفة إلى دور العقل في حياة الانسان.
... ويميز المعتزلة بين نوعين من العقل هما : العقل الغريزي المطبوع وهو مجموعة العلوم البديهية الفطرية، وهي علوم لاينفك عنها العقل المُكلّف ، ولاتؤثر فيها عوامل الزمان والمكان والبيئة ، وبالتالي تُعد من كمال العقل، اذ يقولون : ((ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات، وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم ، وكفر النعمة، والكذب الذي لانفع فيه ولادفع ضرر، ويعلم حسن الاحسان والتفضل، ويعلم وجوب شكر المنعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة ، والانصاف ، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع ، وحسن الذم على الاخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع، وانما يجب حصول هذه العلوم ، لأنها لو لم تحصل لم يحصل للمُكلف الخوف من ألا يفعل النظر، وابتداء التكليف متعلق به، ولأنه لايصح منه العلم بالعدل إلا معه، لأنه متى لم يعرف الفرق بين الحسن والقبيح لم يصح أن ينزه القديم تعالى ... عن المقبحات، ويضيف إليه المحسنات )) ( القاضي، ج11، د.ت : 384).(1/12)
... وبناءاً على ذلك فالمعتزلة يؤكدون على ان المكلف يحتاج إلى هذا العقل ((لأن به يعلم الكثير مما كُلف ، نحو وجوب رد الوديعة وشكر المنعم وقبح الظلم وحسن الاحسان)) (القاضي، ج11 ، د.ت : 483) . ويقولون : (( ان العلم بالمدح والذم واستحقاقهم على الافعال .. من كمال العقل )) ( القاضي، ج11، د.ت : 483) وان هذا الكمال للعقل لاينبني على تجارب سابقة او مماثلة أي انه يعلم هذه الامور ضرورة لا أكتساباً ، فيقولون : ((وليس بموقوف على ان ذلك قد وقع ، بل لو خالط الناس ولم يقع من احد معصية لما وقع الذم ولو لم يقع منهم طاعة لما وقع المدح على جهة، ولم يؤثر ذلك في كون ماذكرناه من كمال العقل)) ( القاضي، ج11، د.ت : ص 484 ) ، ثم بعد ذلك يؤكدون على أمرٍ مهم جداً وهو ان الانسان حتى لو خُلق في ارض خالية من البشر فأنه سيكون مكلفاً متى ما كَمُل عقله ، اذ يقولون : (( وكذلك القول فيه لو خلق في أرض فلاه في أنه يحسن ان يُكلف متى كَمُل عقله وعلم مكان الحمد والذم، وإن لم يعلم فاعلاً لهما )) (القاضي ، ج11 ، د.ت : 484).(1/13)
... أما العقل الثاني فهو العقل المكتسب وهو مجموعة العلوم النظرية الاكتسابية التي يحصل عليها الانسان نتيجة التعلم والنظر والاستدلال ، وهذه العلوم لاتحصل في الانسان ألا على اساس العلوم الضرورية، معنى ذلك ان العقل المكتسب لايكون في الانسان ألا على أساس العقل الغريزي، اذ يقولون في تعريف العقل انه : (( عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ماكلف )) (القاضي، ج11، د.ت : 372). كذلك ان العقل الغريزي لايكمل في الانسان ألا بمعاونة العقل المكتسب اذ يقولون : (( وقد أجمعت الحكماء ان العقل المطبوع والكرم الغريزي لايبلغان غاية الكمال ألا بمعاونة العقل المكتسب ، ومثلوا ذلك بالمصباح والدهن، وذلك ان العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة ، وانما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك )) (الجاحظ ، ج4 ، 1979 : 96).
... وبناءاً عليه فان العقل على الرغم من انه يولد مع الطفل لكنه يحتاج إلى عناية وتعهد وتربية لكي ينمو، فاذا ما أُهمل فأنه سيضعف وينحرف ويُصاب بالعلل وفي هذه الحالة يكون من الصعب علاجه، أي ان العقل يكون ((اطول رقدة من العين وأحوج إلى الشحذ من السيف ، وأفقر إلى التعهد وأسرع إلى التعبير وادواؤه أقتل ، وعلاجه افضل )) (الجاحظ ، 1979 : 101).
... والعقل عند المعتزلة اعلى منزلة من الحواس وهو الحاكم عليها على الرغم من أنه مبنٍ عليها، اذ يقولون : (( فلا تذهب إلى ماتريك العين واذهب إلى مايريك العقل، وللأمور حكمان : حكم ظاهر للحواس وحكم باطن للعقول والعقل هو الحجة )) (الجاحظ ، ج1، د.ت : 207).(1/14)
... وأكد المعتزلة على أمرٍ مهم وهو وجوب توفر الحرية للعقل لكي يؤدي دوره بصورة صحيحة اذ يقولون : ان العقل اذا أكره عمى (الجاحظ، ج4، د.ت: 452) ويؤكدون هذا الامر بقولهم : ان الحرية بالنسبة للعقل ، كالنور بالنسبة للعين (الراوي، 1984 : 8) معنى ذلك ان العقل محتاج إلى الحرية لكي يصل إلى الحقائق كما تحتاج العين النور لكي تبصر الاشياء. وهذه تعد التفاتة هامة من قبل المعتزلة ، وسابقة تسجل لهم في تاريخ الفكر الانساني ، والميدان التربوي.
ج - ... التكامل بين العقل والجسد والروح :
... لم يغفل شيوخ الاعتزال هذا الأمر بل أولوهُ عناية واهتمام بالغين ، واشبعوه بحثاً ودراسةً، فهم يؤكدون ويوجبون التكامل والتعاضد مابين العقل والجسد والروح، لكي يتمكن الانسان من اداء دوره بصورة صحيحة في الحياة ولكي يصل إلى السعادة التي ينشدها في الدنيا والآخرة.
... لذلك يرى المعتزلة ان في الانسان قوتين تتصارعان هما العقل والشهوة (الروح والجسد) ، وهو لايكون حراً ألا اذا تساوت قوتا العقل والشهوة، وكذلك لايكون الانسان حراً ألا اذا كان مستطعياً ، والاستطاعة تفرض شروطاً
هي صحة الجسم واعتدال المزاج والمعرفة بالامور موضوع الفعل ( الجاحظ ، 1979 : 19).(1/15)
... أما التكامل مابين هذه الاجزاء فأنه يتضح من قولهم: العلم حياة العقل، والعقل حياة الروح ، والروح حياة البدن، وان الغذاء اذا فضل عن مقدار الحاجة عاد ذلك ضرراً ، فالروح وسط بين العقل والبدن ... فالعلم اذا زاد مقدار عن العقل، كالطعام اذا زاد عن الجسم يعود ضرراً ( الجاحظ، 1979 : 254). معنى ذلك ان هناك تلازم وثيق مابين اللامادي والمادي ما بين العقل والروح ومابين الجسد ، مابين العلم والحاجات البايولوجية للجسد، لذلك نجد ان المعتزلة قد ربطوا مابين الحاجات البايولوجية والعلم والعقل بقولهم : أما الغرائز فهي حاجات تلح على صاحبها في الاستجابة لها لترتوي ( أي تُشبع) ، فالغضب والحسد والبخل والجبن والغيرة وحب الشهوات والنساء والعجب والخيلاء هي طباع في الانسان مفطور عليها ولايستطيع إنكارها أو تجاهلها ، وهي شريرة ، اذا تمكنت من الانسان قادته إلى الهلاك وبالتالي إلى فساد الدين والدنيا معاً (ينظر: الجاحظ، 1969 : 155) ، أي فساد المجتمع .(1/16)
... ثم يرسم لنا المعتزلة منهجاً تربوياً في غاية الروعة والدقة، وهو ان هذه الحاجات يمكن تهذيبها بالتربية والتعليم والافادة من التجارب السابقة، والاحتكاك بالآخرين والتعلم منهم ، مما يؤدي إلى عقلنة هذه الحاجات وترشيدها، وكيف ان الانسان اذا ربط حاجاته بعقله، فأن هذه الحاجات ستصبح دافعاً وحافزاً بطلب المزيد من العلم والتعلم، فيقولون : ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج ... ويقولون : لو ان الناس تركوا وقوى غرائزهم ولم يهاجموا بالحاجة إلى طلب مصلحتهم والتفكير في معاشهم وعواقب امورهم وألجأوا إلى قدر خواطرهم التي تولدها مباشرة حواسهم دون ان يسمعهم الله خواطر الأولين وأدب السلف المتقدمين، وكتب رب العالمين لما ادركوا من العلم الا اليسير ولما ميزوا من الامور الا القليل (ينظر:الجاحظ، 1969: 249-250). هنا نلمح ان المعتزلة يشيرون إلى الانسان المتحضر المتعلم، صاحب العقل، ويميزون بينه وبين الانسان الساذج الغير متعلم والذي تكون حواسه مصدر لحاجاته لاعقله. وهذا التمييز مانجده واضحاً الآن مابين المجتمعات المتقدمة المتطورة صاحبة المنهج العلمي في الحياة، وكيف انها ترتقي بحاجاتها إلى درجات سامية، ومابين المجتمعات المتخلفة التي لاتمتلك وربما لاتستطيع ان تمتلك المنهج العلمي في الحياة، وذلك لسذاجتها في التفكير ولأنها لاترتقي بحاجاتها إلى مستوى العقل ، بل ان مصدر حاجاتها حواسها. لذلك فيكون همها في يومها ولايتعداه إلى غدها. ومن هنا تبدو نظرة المعتزلة المتقدمة التي تهدف إلى بناء الانسان العاقل المتعلم ومن ثم بناء المجتمع المتعلم المتطور.(1/17)
... من خلال ماتقدم يتضح: ان نظرة المعتزلة لجوانب الجسد والروح والعقل في الانسان، كانت متفقة مع الرأي الاسلامي كما يصورهُ القرآن الكريم ، وهذا ان دل على شيء فأنما يدل على ان المعتزلة يستقون آراءهم وطروحاتهم في هذه القضية من المنهج الاساس لكل المسلمين وهو القرآن الكريم .
د - ... الخير والشر :
... انسجاماً مع مبدأ الوعد والوعيد ومبدأ العدل الالهي يرى المعتزلة ان الانسان هو المسؤول عن نتائج افعاله، وهو مصدر الخير أو الشر في أعماله، وإن القول بأن الخير أو الشر مركوز في النفس الانسانية وان الانسان مجبور على فعل الخير او الشر ينافي مبدأ الوعد والوعيد ولاينسجم مع العدل ألالهي.
... وبناءاً على ذلك فقد ذهب المعتزلة إلى ان الأنسان هو مصدر الخير أو الشر في أفعاله اذ يقولون : اما الغضب والحسد والبخل والجبن والغيرة وحب الشهوات والنساء والعجب والخيلاء، وهي طباع فيه فطر عليها ولايستطيع إنكارها أو تجاهلها (الجاحظ، 1969: 155) وهذه الغرائز شريرة اذا استبدت بالإنسان قادته إلى الهلاك، والى فساد الدين والدنيا معاً ( الجاحظ، 1969 : 154) ويقولون: ان في الانسان قوتان تتصارعان هما العقل والشهوة وهو لايكون حراً الا اذا تساوت قوتا العقل والشهوة ( الجاحظ، 1979: 19).
... ومن خلال ماتقدم يتضح ان مصدر الشر في الانسان هي حاجاته أو رغباته، ولاسيما وان هذه الحاجات اذا تمكنت من الانسان قادته إلى فعل الشر، أما مصدر الخير فهو عقله لذلك فأن مهمة العقل هي السيطرة على
هذه الغرائز والحاجات وترويضها بما ينسجم وسعادة الانسان في الدنيا
والآخرة.(1/18)
... لذلك فأن الانسان لاخير بطبعه كما يقول افلاطون قديماً وروسو في العصر الحديث (ينظر: النوري، 1979 : 116-117) ، ولاشرير بطبعه كما يقول هوبز (كرم ، 1970: 55) فهو اذن بداخله مصدر الخير ومصدر الشر ، والبيئة او التعليم والتهذيب هما اللذان يجعلان الانسان خيراً أو شريراً . وقول المعتزلة هذا ينسجم مع رؤية القرآن للانسان، والتي تتجسد في الآية القرآنية الآتية { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا( - )فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا( - )قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا( - )وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ( الشمس : 8 ، 9 ، 10) . معنى ذلك ان في داخل الانسان استعدادات وقدرات لها القابلية ان تتشكل بجانب الخير وعند ذلك يوصف الانسان بأنه خير ، كذلك لها نفس القابلية ان تتشكل بجانب الشر فيصبح الانسان شريراً، ولكن هذا لايتعارض مع ارادة الانسان وقدرته واختياراته ( ينظر: مرسي، 1979: 292) . أي ان شخصية الانسان هي مزيج من خياراته وقدرته على الاختيار ومن تأثيرات البيئة المادية الطبيعية والاجتماعية التي يعيش وسطها، فللتربية دور فعال في تشكيل السلوك عند الانسان وفي بناء شخصيته على وفق استعداداته وميوله ورغباته.
هـ- ... مبدأ التخيير والتسيير :
... ونعني به هل ان الانسان مجبر في أفعاله وله القدرة والارادة على مايُريد، أم انه مسير ولايمتلك القدرة والأرادة على أي عمل يقوم به . وهذه تُعد مشكلة تحدت تفكير الانسان منذ القدم، لذلك تكون تياران متناظران في الفكر الانساني عموماً، اولهما يرى أن الانسان مخير والثاني يرى أن الانسان مسير . ومابينهما تقع تيارات فكرية متعددة تحاول ان تبني اراءها بالموائمة والموافقة مابين الرأيين.(1/19)
... أما رأي المعتزلة في الحرية الانسانية، فقد صاغوه وتحدثوا عنه واوسعوه بحثاً ودرساً وتحليلاً تحت اصل من اصول مذهبهم سموه (العدل) ، لأنهم رأوا في الجبر نسبة الظلم إلى الله - عز وجل - ، لأنه يحاسب ويثيب ويعاقب من لاذنب له ولافضل في معصية أو طاعة، وان حرية الانسان وقدرته ومسؤوليته نفياً لهذا الظلم عن الباري سبحانه، واثباتاً لما يجب ان يثبت له من العدل ( عمارة ، 1974 : 138).
... لقد تناول المعتزلة قضية العلاقة مابين الانسان وبين الفعل الصادر عنه، كما تناولتها بقية المدارس الفكرية في الاسلام وقد تميز موقفهم في هذه القضية بالجرأة على الطرح والرؤية العقلية، فمن خلال النصوص الكثيرة التي خلفوها لنا فأننا نلمح مجموعة من القضايا والصياغات الفكرية والنظرية التي يؤدي بنا تتبعها إلى معرفة وجهة نظرهم في هذه المسألة والتي تؤكد مسؤولية الانسان عن أفعاله، وصنعه لها ، بل وخلقه لهذه الأفعال.
... وقد اتفق جميع المعتزلة على ان افعال الانسان غير مخلوقة لله ، فقالوا : (( وان من قال ان الله سبحانه، خالقها ومحدثها، فقد عظم خطؤه)) ( القاضي، 1965 : 333) . وقالوا : (( ان افعال العباد من تصرفهم، حادثة من جهتهم)) (القاضي، ج8 ، د.ت : 3) . أي ان الانسان محدث لما يصدر عنه (القاضي، 1965 : 340).(1/20)
... وانهم على عكس الكثيرين من الذين خاضوا في هذا الموضوع،قد رأوا ان وصف الانسان بأنه فاعل لافعاله، أنما هو وصف على جهة الحقيقة، وليس على جهة المجاز، ورفضوا ان يكون ذلك امراً خاصاً بالله سبحانه، فقد قالوا صراحة: انه اذا سألنا سائل فقال : (( افتصفون غير الله بأنه فاعل على الحقيقة؟ قيل له : نعم)) (القاضي، ج20، د.ت: 189) ، وأكدوا (( ان العبد يفعل الارادة والمراد وسائر مايحل في جوارحه من الأكوان والاعتمادات وغيرهما، وان المتولد (الفعل غير المباشر) هو من فعل الانسان حل في بعضه أو في غيره)) (القاضي، ج9، د.ت: 12) وذهبوا إلى ((ان افعال الجوارح من الحركات والاعتمادات والتآليف والآلام والاصوات)) وما شابهها جميعاً داخلة في نطاق ((مايقدر عليه الانسان ويفعله)) وكذلك ((نقدر على افعال القلوب كالفكر والارادة والاعتقاد)) (القاضي، ج9، د.ت:13).
... وبناءاً على ذلك فأن الانسان خالق لأفعاله وهو مسؤول عن افعاله المباشرة وغير المباشرة (أي المتولدة من فعله المباشر) ، بل لقد بلغت الجرأة الفكرية بالمعتزلة إلى الحد الذي اجازوا فيه وصف الانسان بالمخترع، فقالوا : (( ان كون القديم مخترع ومحدث لم يثبت انه مما يختص به ولايشركه فيه أحد)) ، ورأوا ان في الحكم للانسان باحداث أفعاله السبيل الوحيد للتوصل (( إلى معرفة الله أصلاً ... وهذا يسقط ماتعلقوا (أي خصوم المعتزلة) به ومايهذون به من ان حقيقة الاختراع اذا كانت حقيقة واحدة فلا يصح ان يخترع العبد الشيء ألا ويجب ان يخترع كل شيء بعد، ولان حقيقة المقدور حقيقة واحدة ، ولايجب اذا قدر العبد على شيء ان يكون قادراً على كل شيء)) ( القاضي، ج8، د.ت: 143) . معنى ذلك ان نظرة المعتزلة للانسان نظرة عميقة وانها مبنية على وفق مايمتلك من طاقات وقابليات تؤهله لأن يكون بمستوى المسؤولية التي خُلق من أجلها في هذا الكون وهي بناء مجتمع متحضر متطور يمتلك لاساليب الحياة السعيدة.(1/21)
... ويجب الاشارة هنا إلى أمر مهم هو انه على الرغم من الجرأة الفكرية التي امتاز بها المعتزلة ألا انهم لم يكونوا قد اساءوا الادب في حق الذات الالهية ، او تجاوزوا على نطاق الحرية التي يتصف بها الباري - سبحانه وتعالى - ، أو قللوا من اتساع دائرة الاشياء التي لايقدر على خلقها سواه، فهم قد فرقوا دائماً بين نوعين من القدرة والقادرين ، قدرة الذات الالهية ، وقدرة الانسان التي هي اثر من اثار خلق الله ، لذلك هم يسمون الله سبحانه ((القادر لنفسه)) (القاضي، ج8، د.ت: 143) ويسمون الانسان ((القادر بقدرة)) ( القاضي، ج8، د.ت : 295) أي ان الانسان قادر بقدرة هي من خلق الله فيه .(1/22)
... كذلك تناول المعتزلة بالنقاش بعض المصطلحات المتعلقة بمفهوم الحرية، التي يرى بعضهم انها لاتدع للانسان مجالاً للاختيار كمفهومي (اللطف والالجاء)، فقالوا ان اللطف هو الظروف الموضوعية الخارجية التي تحيط بالانسان، والتي هي بمثابة ضرورات ودواعٍ للافعال الطيبة والحسنة (القاضي، 1965: 915) . أما الالجاء فهو قوة الدواعي التي تجعل الانسان يُقدم على الفعل أو على الترك، وان كان المعتزلة قد بلغو في تأكيد حرية الانسان وقدرته على الاختيار درجة جعلتهم لايرون في الألجاء ماينفي قدرة الانسان على الاختيار، وان كان يضيق نطاق هذا الاختيار، وناقشوا في ذلك الكثير من الأمثلة ، مثل من يضطره ظهور الوحش الكاسر إلى الهرب ، أمختار هو في هروبه ام غير مختار ؟ وراؤا ((ان الالجاء لايخرج الملجاء من ان يكون على الفعل قادرٌ وباختياره متعلق ، لأن المشاهد للسبع اذا خاف على نفسه، فهو ملجأ إلى الهرب ، وهربه يقع باختياره لانه متى عرض له في الهرب طرق ، اختار سلوك احدها ، وفعل ذلك بحسب قدرته، لانه يعدو على حسب مايقدر عليه في السرعة والابطاء، ويفعل السلوك بحسب علمه في قرب الطريق وبعده فليس يخرجه الالجاء ان يكون قادراً على مايقع منه، وان حرفه عن فعل إلى فعل )) ( القاضي، ج12، د.ت: 317) معنى ذلك ان المعتزلة أخذوا بنظر الاعتبار ان الانسان يعيش وسط بيئة طبيعية واجتماعية وأنها تؤثر عليه في قراراته واختياراته، وبالتالي أقروا بأن حرية الانسان غير مطلقة إلى الحد الذي تنتفي فيه عنه كل القيود والالزامات، وهذا يجعلنا نقول ان فكر المعتزلة في مسألة حرية الانسان كان فكراً واقعياً وليس مثالياً.(1/23)
... كذلك ان الانسان عند المعتزلة يتميز بقدرته واستطاعته على الفعل والاختيار، ويترتب على القدرة والاستطاعة وجود العقل، فهم يقولون : ((إن الفرق بين الانسان والبهيمة، والانسان والسبع والحشرة، والذي صبر الانسان إلى استحقاقه قول الله - عز وجل - { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } (الجاثية : 13) ، وليس هو الصورة ، وأنه خُلق من نطفة وأن اباه خُلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه ، لان هذه الخصال كلها مجموعة في البله والمجانين والاطفال والمنقوصين، والفرق أنما هو الاستطاعة والتمكين. وفي وجود الاستطاعة وجود العقل والمعرفة وليس يوجب وجودهما وجود الاستطاعة)) (الجاحظ، ج5، د.ت: 542-543).
... وهذه الاستطاعة التي يمتلكها الانسان يجب أن تتوافر فيها شروط منها الحالة الصحية الجسدية والنفسية للانسان يجب ان تكون سليمة وجيدة، وكذلك يجب ان تتوفر في الانسان الدراية الكافية بنتائج فعلهِ أي المعرفة بالأمور موضوع الفعل اذ يقولون : لايكون الانسان حراً ألا اذا كان مستطيعاً، والاستطاعة تفرض شروطاً هي صحة الجسم واعتدال المزاج، والمعرفة بالامور موضوع الفعل (الجاحظ ، 1979 : 19).(1/24)
... اذن رأي المعتزلة هو ان الانسان حر مختار مسؤول عن نتائج أفعاله، أما نوع الحرية والقدرة التي يمتلكها فهي مقيدة بالبيئة التي يعيش فيها، والقدرة التي يمتلكها الانسان مصدرها الله - سبحانه وتعالى - ، وهذه القدرة أو الاستطاعة مقرونة بشروط يجب توافرها داخل الانسان وهي الصحة الجسدية والنفسية والمعرفة بنتائج الفعل. وذهب المعتزلة إلى هذا الرأي لانهم يعتقدون أنه : لو كانت الافعال الانسانية من خلق الله - سبحانه وتعالى - لبطل الأمر والنهي، وبعثة الانبياء والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولقبحت مسألة الثواب والعقاب، وبالتالي يكون لاوعد ولاوعيد، وبناءاً عليه تصبح دعوة النبي للكفار غير شرعية، لان الله هو الخالق للكفر فيهم المانع لهم عن الايمان. فلا سبيل إذن الا القول بحرية الارادة الانسانية وأثباتها دعماً للعقل وللواقع ، والغاء لكل التصورات الجبرية وتنزيهاً للذات الالهية عن كل نقص ( ينظر: القاضي، 1974 : 199).
... وراي المعتزلة هذا فيه جانب تربوي متقدم جداً، وهو ان للتربية دوراً مهماً وفعالاً في تشكيل السلوك ، وبناء شخصية الانسان وبالتالي يكون للبيئة التي يعيش فيها الانسان نفس هذا الدور، وهم بذلك قد سبقوا المدرسة السلوكية التي يتزعمها واطسن والتي ترى ان السلوك الانساني يتشكل على وفق مؤثرات البيئة التي يتفاعل معها الفرد ، وان هذا السلوك ممكن ان يقوى عن طريق التعزيز اي الثواب ، وممكن ان ينطفأ عن طريق العقاب، فالمعتزلة كذلك قرنوا الفعل الانساني بمسألة الثواب والعقاب، وكانوا بارعين في هذا المجال، بحيث
أكدوا ان الانسان يستحق الثواب والعقاب في ضوء مايقدمه من اعمال بمحض ارادته.
و - ... الوراثة والبيئة :(1/25)
... شخصية الانسان هي عبارة عن تفاعل عاملي البيئة والوراثة منذ تكوين الانسان في الرحم إلى نهاية العمر، فسلوك الانسان في أي موقف في حياته هو مزيج من تفاعل العوامل الوراثية البايولوجية والعوامل البيئية الطبيعية والاجتماعية ( ينظر:زهران ، 1977: 9-10) .
... لم يهمل المعتزلة تأثير عاملي الوراثة والبيئة على سلوك الانسان وشخصيته اذ يقولون : ان في الانسان قوتين تتصارعان هما العقل والشهوة، وهو لايكون حراً الا اذا تساوت قوتا العقل والشهوة ، وكذلك لايكون الانسان حراً الا اذا كان مستطيعاً، والاستطاعة تفرض شروطاً هي صحة الجسم واعتدال المزاج والمعرفة بالامور موضوع الفعل ( الجاحظ، 1979 : 19) ، والمقصود هنا بالعقل (هو تجارب الانسان المكتسبة من مواقفه السابقة في الحياة أي معنى ذلك تأثير العوامل البيئية الطبيعية والاجتماعية على الانسان ) ، اما المقصود بالشهوة (فهي مجموعة العوامل البايولوجية أو الاستعدادات الوراثية داخل جسد الانسان) ، أما كلمة حر معناها يستطيع الانسان ان يسلك لكن بشرط اذا كان مستطيعاً ، والاستطاعة مبنية على امور منها : صحة الجسم وهذا عامل وراثي، واعتدال المزاج (أي الحالة النفسية للانسان وهو أمر مشترك مابين الوراثة والبيئة) ، ثم معرفة بالأمور موضوع الفعل وهذا عامل بيئي.
ز - ... الفردية والاجتماعية :
... تباينت اراء المدارس الفكرية في الفكر الانساني ازاء نظرتها للمجتمع والفرد، فمنها من أعلت من شان الفرد على حساب المجتمع ( المدرسة البراجماتية، ولعل من أبرز تطبيقاتها الرأسمالية الليبرالية) ، ومنها من سحقت الفرد داخل المجتمع وجعلته مجرد آلة لتشكيل المجتمع ( المدرسة الماركسية ، ومن ابرز تطبيقاتها الشيوعية الاشتراكية).(1/26)
... والذي ينظر في تراث المعتزلة الفكري الذي خلفوه لنا يعتقد للوهلة الأولى أنهم اهتموا بالفرد فقط وأهملوا المجتمع، وذلك لكثرة طروحاتهم وبراهينهم لاثبات حرية الفرد، وأما المتتبع للنصوص التي جاءوا بها سيجد تأكيدات مهمة في هذا الجانب على تنمية الروح الجماعية بداخل الفرد اذ يقولون : ((حاجة بعض الناس إلى بعض صفة لازمة في طبائعهم وخلقة قائمة في جواهرهم وثابتة لاتزايلهم)) (الجاحظ، ج1، د.ت: 42) . معنى ذلك تأكيدهم على أن الحاجة إلى الاجتماع البشري انها حاجة فطرية بداخل الانسان وهذا ماتؤكد عليه مدارس علم الاجتماع الحديث من خلال دراستها للمجتمع الانساني.
... وفي ذمهم للتفرد والفردانية ومحاولة الاستبداد في كل شيء وتعدي حدود التخصص العلمي، اذ يقولون : إن (( من أراد ان يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه ؟ ! فأن ذلك انما تصور له بشيء اعتراه ؟ !)) (الجاحظ ،ج1، د.ت: 59).
... أما في تأكيدهم على الروح الاجتماعية فأنهم يفضلون العمل للاخرين ومساعدتهم على العبادة فيقولون ان العبادة ((لاتعدو قمم رؤوس العابدين، بينما أثر الاعمال العامة يخص ويعم ، وان العبادة لاتدله ولاتورث البله ألا لمن آثر الوحدة وترك معاملة الناس)) ( الجاحظ، ج2، د.ت :349).
... وكذلك وصفوا الفعل الانساني بالعدل والحكمة اذا كان متعلقاً بالاخرين، فيقولون : ((وأما مايفعله الفاعل منا بنفسه لمنفعة أو دفع مضرة، فأنه يوصف بذلك )) ( القاضي، ج6، د.ت: 48) وان العدل (( هو توفير حق الغير واستيفاء الحق منه)) (القاضي، 1965 : 301).(1/27)
... وبناءاً على ذلك نقول ان المعتزلة اهتموا بالمجتمع وبنائه، كما اهتموا بالفرد وحريته، وان رأيهم في هذا الموضوع متفق تماماً مع الرأي الاسلامي العام وهو ان الفرد هو الوحدة المهمة والفعالة والاساسية في بناء المجتمع وان المجتمع عبارة عن مجموعة من الافراد تربطهم مصالح مشتركة وقضايا مصيرية، فلا الفرد يعلو على المجتمع ولا المجتمع يسحق الافراد بداخله، بل هناك حركة دينامية داخل المجتمع متكونه من تفاعل الافراد مع بعضهم.
ح - ... النوع في الطبيعة الأنسانية :
... ونقصد به : الذكر والانثى وهما الجزءان المتقابلان اللذان بأجتماعهما تستمر الحياة في الكون كما في قوله تعالى : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( الذاريات : 49) . وكذلك يذكر لنا القرآن الكريم ان المجتمع الانساني يتآلف من وحدات ولعل في مقدمة هذه الوحدات اجتماع الذكر والانثى كما في قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات : 13) . ونلمس في هذه الآية انه لافرق بين انسان وانسان ولافرق بين ذكر وانثى الا بالتقوى (أي العمل الصالح فهو المعيار للحكم على تفاضل الناس على بعضها).
... والمعتزلة لم يخرجوا عن هذا الجو الفكري، فهم لم يفرقوا بين وحدات المجتمع الاساسية، بل كانوا ينظرون إلى دور المرأة في بناء المجتمع الصالح ، فقد عرض المعتزلة للمرأة ووضعها في المجتمع ودعوا إلى النهوض بها وتثقيفها وكذلك فعلوا بالنسبة للقبان، فوصفوا الحالة التي كُنَّ عليها من خلاعةٍ ومجون وأرجعوا سببب ذلك إلى البيئة ( ينظر: المنظمة العربية، 1988 : 299).(1/28)
... وفي هذا دلالةٌ واضحة على ان المرأة اخذت مساحة لايستهان بها من تفكير المعتزلة، فهم قد درسوا وضعها وحالتها في المجتمع وأوصوا بضرورة تعليمها وتثقيفها، أما النساء اللواتي يُطلق عليهنَّ (قيان) ، فقد تعرضوا لحالتهن بالبحث والدرس ووضعوا الحل المناسب لهن ، وهو اصلاح البيئة التي يعشن بها.
4 - ... نظرية المعرفة عند المعتزلة :
... نظرية المعرفة : فرع من فروع الفلسفة يبحث في أصل وبنية ومناهج المعرفة (ينظر : غلاب، د.ت :219-220) . ونظرية المعرفة عند الفيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أياً كانت الحقيقة المعروفة (محمود ، 1969: 8) . فموقف المفكر اذن لاينفصل عن مذهبه العام في الوجود وطبيعته، لذلك ((يتأسس رأي كل فيلسوف في المعرفة على مذهبه في النفس تأسيساً ذاتياً، فاذا كان فيلسوفاً مادياً.. كانت المعرفة الحسية عنده هي المصدر الوحيد للمعرفة، واذا كان فيلسوفاً روحياً فأنه يضع القوة الناطقة على رأس الملكات الانسانية، واذا كان فيلسوفاً واقعياً يعتمد على الحواس، فأنه يرى أن للمعرفة وسائل وادوات أساسها الحس ونتاجها العقل ( غلاب، د.ت: 220-221).(1/29)
... وقد استوقف هذا الموضوع فلاسفة المسلمين ومتكلميهم، وبحثوه بحثاً عميقاً، فالفلسفة الاسلامية ((بحثت نظرية المعرفة بحثاً مستفيضاً ، ففرقت بين النفس والعقل، والفطري والمكتسب، والصواب والخطأ ، والظن واليقين)) (مدكور، ج1، 1968 :20). اما المتكلمون فقد كان لهم رأي في هذا الموضوع، فالقاضي عبدالجبار المعتزلي خصص جزءاً كبيراً من موسوعته العلمية ((المغني)) سماه النظر والمعارف، تحدث فيه بالتفصيل عن النظر والعلم والمعرفة وطرقها وانواعها وطريق وجوب المعرفة (القاضي، ج12، د.ت ) . كما تحدث عن الدليل العقلي والدليل السمعي. وكذلك لمتكلمي الاشاعرة طروحات فكرية رائدة في هذا المجال لاسيما الباقلاني في كتابه التمهيد (الباقلاني ، 1957 ) والبغدادي في كتابه أصول الدين (البغدادي، 1981)، والرازي في كتابه المحصل (الرازي، 1984) ، والغزالي في المنقذ من الضلال (الغزالي، 1979) ... وغيرهم.
... وسنتناول نظرية المعرفة عند المعتزلة من خلال:
أ- تعريفهم للعلم والمعرفة.
ب- امكان العلم والمعرفة.
ج- اقسام العلم والمعرفة.
أ – تعريف العلم والمعرفة :
... العلم في اللغة بمعنى الشعور، لذلك يقول العرب : (( ماعلمت بخبرك ماشعرت به )) (الزمخشري، 1979: 653 )، ويأتي بمعنى الأثر والعلامة أو ما يوضع في الطريق ليهتدى به كالعلم فيها، فيقول العرب: ((خفيت معالم الطريق، أي أثارها المستدل بها عليها)) (الزمخشري، 1979: 653).
... أما المعرفة في اللغة تأتي من مادة عرف دالةً على المجازاة متضمنة العلم بحال المجازي وقدرة فيقول العرب: ((لأعرفن لك ماصنعت ، أي لأجازيك به )) ( الزمخشري، 1979: 624-625). ومن خلال ذلك نلاحظ تقارباً بين المعنيين بأن كلاً منهما يعني علامة أو دلالة على شيء.(1/30)
... أما المعتزلة فيعرفون العلم بأنه (( اعتقاد الشيء على ماهو به )) (القاضي،ج12، د.ت : 13) ، ويقولون بأنه (( اعتقاد الشيء على ماهو به مع سكون النفس إليه)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 13) . ويقولون بأنه : (( حركة في القلب عند وجود الشيء كما وجد وعرف)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 22) . ويعرفونه بأنه : (( المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم إلى ماتناوله، وبذلك ينفصل عن غيره، وان كان ذلك المعنى لايختص بهذا الحكم إلا اذا كان اعتقاداً معتقده على ماهو به واقعاً على وجه مخصوص)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 13). وهنا يميز المعتزلة بين العلم والاعتقاد فيقولون بأن كل علم اعتقاد، ولكن ليس كل اعتقاد علماً (ينظر: زيني، 1978: 57)، اما العلم اليقين عند المعتزلة مشروط بشرطين كما مر احدهما : موضوعي ومعناه مطابقة الاعتقاد للواقع، والثاني ذاتي متوقف على حصول حالة نفسية معينة تتسم بالخلو من الانفعال والاضطراب اللذين يقارنان الجهل أو الشك مثلاً، فلا يدفعان إلا بالاستزادة من العلم المقتضي لسكون النفس.
... أما علاقة العلم بالمعرفة عند المعتزلة فأنهم : يرون ان العلم والمعرفة مترادفان : إذ العلم بالنسبة للعباد تبين وتحقق وأستبصار ، وكلاهما يعني ذلك المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم إلى ما تناول، وهذا المعنى الذي يقتضي سكون النفس يسمى معرفة، كما يسمى علماً، ولافرق بين المصطلحين ولابين فائدتيهما، لذلك يسمى كل عالم عارفاً ( القاضي،ج1 ، د.ت : 16).
ب - ... امكان العلم والمعرفة :(1/31)
... معنى ذلك هل ان العلم والمعرفة ممكنان للانسان أم لا ، واذا كانا ممكنين مامصدرهما. نستطيع ان نتلمس رأي المعتزلة في هذا الأمر من خلال نقاشاتهم مع السوفسطائيين الذين يقولون لاعلم ولاحقيقة فينقل لنا القاضي عبدالجبار المعتزلي محاورة المتقدمين مع الشكاك اذ يقول : (( وان كان من المتقدمين من ناقضهم بأن قال: ابعلم قلتم ؟ أنه لاعلم ولاحقيقة، فان قالوا : نعم ، ثبتوا العلم وان قالوا : لا لم يستحقوا جواباً، وان أظهروا الشك، قيل لهم : أتعلمون انكم شاكون أم لا على سبيل ماتقدم)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 41) . ثم بعد ذلك يرى أكثر من اشتغل بمناهج العقل وانظاره من المعتزلة ، أنه لامناظرة مع الشكاك اذ يقولون : ((انه من الغلط مناظرتهم والرد عليهم، لأن من يزعم أنه لايعلم أيناظر ام لا . بل لايدري أموجود هو أم لا كيف يرد عليه؟ وهل مخاطبته إلا كالسكوت عنه، ولايجوز فيمن هذا حاله إلا التأديب دون غيره)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 41).
... والذي نستخلصه من النصين السابقين ان المعتزلة أكدوا على ان العلم والمعرفة ممكنان للانسان، لذلك نجدهم يدافعون عن مصدري العلم والمعرفة وهي الحواس والعقل.
... ففي دفاعهم عن الحواس يقولون : (( الحواس انما لاتضبط الوارد عليها عند حصول لبس )) (القاضي، ج12 ، د.ت : 161). أي عند وجود عائق أو مانع يعيق عملية الادراك الحسي.(1/32)
... كذلك أرجع المعتزلة غلط الحس إلى المخيلة ، فالحس عندهم لايغلط (ينظر: نادر ، ج2، 1951: 32)، اذ يقولون : ((إن الادراك في الحقيقة لم يخطأ، وإنما أخطأ المدرك الاعتقاد)) (القاضي، ج12 ، د.ت :45) فالحواس لاتتناول كون الشيء صحيحاً أم فاسداً ، فذلك من باب العقليات، وليس من باب الادراك ( ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 55-56) . وقالوا في السراب الذي يتوهمه الناظر اليه في الصحراء ماء ، ان الحس لم يخطيء أن عناصر الحس بالماء لم تنطبق تماماً على تحسس السراب ماء، فاللمس لم يحس السراب ماء، وكذلك حاسة الذوق لم تتذوقه ماء ( ينظر : القاضي، ج12 ، د.ت :45) .
... اما دفاعهم عن العقل كأداة للمعرفة فقالوا : (( ولسنا ننكر أن يخطئ بعض العقلاء في النظر، إلاّ أنه ينفصل عن النظر الصحيح )) (القاضي، ج12 ، د.ت : 151) . ويؤكدون على اعتمادهم العقل آلة للنظر فيقولون: ان الآراء الخاطئة والمواقف الفاسدة لاتؤثر على اعتمادنا العقل آلة للنظر مثلما لايؤثر صغر أصابع اليد في الكتابة ( ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 152) ، وكذلك نجد ان المعتزلة يميزون بين النقص الناجم عن الآراء الخاطئة وبين النقص الناجم عن الجنون، فالأول لايُخرج العقل عن دوره كآلة للنظر بخلاف الثاني الذي يخرج العقل عن هذا الدور (ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 152).
... وبناءاً على ذلك نقول ان المعتزلة قد أثبتوا إمكان العلم والمعرفة ، وكذلك أثبتوا ان الحواس والعقل كلاهما مصدرٌ مهم للمعرفة الانسانية.
ج - ... أقسام العلم والمعرفة:
... سنعتمد هنا التقسيم الذي استقراءه حسن زيني في دراسته للعقل عند المعتزلة ، وهو يقول : تنقسم العلوم عند المعتزلة على ضرورية تكون الاساس والقاعدة للبناء ، ومكتسبة تستند اليها (ينظر: زيني، 1978 : 58-59).
... ... ... ... ... المعرفة الانسانية
... ... ... العلم الضروري ... ... العلم المكتسب
... ...
... ... المدركات ... ... البديهيات
الادراك الحسي ... الاختبار والعادات الاستبطانية ... العقلية(1/33)
1 - ... العلم الضروري :
... يعرفه المعتزلة بأنه : (( العلم الذي يحصل فينا لامن قبلنا ولايمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه )) (القاضي، ج1 ، 1965 : 6) . وهو العلم المباشر الذي يصل فيه العقل إلى المعلوم دون توسط دليل أو برهان ( ينظر : زيني، 1978: 59) ، وسمي ضرورياً (( لتعذر انتفائه على كل وجه))
(القاضي، ج12، د.ت : 63) معنى ذلك اننا في حال العلم الضروري لانملك أن لا نعلم كما لانستطيع نفيه بالاستدلال والأصل في ذلك ان العلم الضروري ليس مقدوراً للانسان كالمكتسب ، بل هو من فعل الله فينا (ينظر: القاضي، ج9 ، د.ت: 59). وهذا العلم (أي الضروري) لايختلف فيه أثنان إلا ان يكون أحدهما كاذباً فلا تصح محاجته لأن (( لادليل على ما أنكره فنذكره)) (ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت: 42).
... وينقسم العلم الضروري على قسمين : المدركات والبديهيات ، والمدركات تُعد أساس للبديهيات. والمدركات تنقسم على :
أ الادراك الحسي .
ب الاختبار والعادة .
أ - ... الادراك الحسي:
... الادراك هو طريق العلم اذا كان الشخص المدرك عاقلاً، واللبس عن الشيء المُدرك زائلاً (ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 59) . أي ان عملية الادراك الحسي متوقفة على وضوح الاشياء المدركة وعلى قوة المدركات (سلامة الحواس) لذلك يقولون : ان الانسان (( يفصل بين الألوان المنفردة بأكثر من فصله بين الألوان المختلطة، ويفصل بين المتضادات بأكثر من فصله بين مالايتضاد)) (القاضي، ج13 ، د.ت : 254) ، ويؤكد المعتزلة على ان لكمية أو درجة الاثارة دورها ايضاً في عملية الادراك فنحن نميز بسهولة اكبر الحلو من المر والحار من البارد (ينظر: القاضي، ج13 ، د.ت : 255) . والذي نستفيده هنا هو اننا اذا أردنا أن نوصل شيئاً إلى المتعلمين عن طريق الحواس ان نجعل هذا الشيء واضحاً وبارزاً ونقدمه ونقرنه بشيء مضاد له .(1/34)
... وناقش المعتزلة مسألة خطأ الحواس وقالوا : لايجوز الخطأ في الادراك، بل قد يحصل التباس يمنع من سكون النفس (القاضي، ج12 ، د.ت : 161) وان هذا الالتباس يحصل نتيجة لخطأ في قراءة العقل لمعطيات الادراك الحسي (زيني، 1978: 61) ، أي ان الخطأ في الاعتقاد وليس في الادراك، لهذا يذهب المعتزلة إلى ان ليس كل اعتقاد علماً لاسيما اذا كان الاعتقاد لايطابق الواقع.
ب - ... الاختبار والعادة :
... وهي المعرفة التي تحصل للانسان من خلال الادراك للاشياء المحيطة به، ومن خلال علاقاته مع العالم الخارجي، فنحن مثلاً نعرف الصنائع عند الممارسة لمرات متعددة ، ونستطيع التعرف على الاخرين بمخالطتهم، ونعلم من امرهم مايمكن وما لايمكن (زيني، 1978: 62). لذلك يشير المعتزلة إلى هذه المعرفة بقولهم: ((فالعربي يعرف مقاصد العربي بالاختبار.. ويعرف الأخرس بالاشارة من حال صاحبه مالا يعرفه غيره لأنه اختبر من ذلك مالم يختبره غيره، والوالدة ربما عرفت من اغراض الصبي الصغير مالايفهم من القول مالايعرفه غيرها لفضل اختبارها )) (القاضي، ج16 ، د.ت :37). هذا النوع من المعرفة ضروري وليس مكتسب ويجوز فيه اختلاف احوال العارفين على العكس من العلم بالبديهيات ( ينظر : القاضي، ج16 ، د.ت :37).
... أما البديهيات فتنقسم على :
أ البديهيات الاستبطانية .
ب البديهيات العقلية.
أ - ... البديهيات الاستبطانية :
... وهي علم الانسان بنفسه ومايختص بها ، نحو كونه مريداً، معتقداً، ساكن النفس، ناظراً أو شاكاً ، وهذه المعرفة متعلقة بالوعي أو الشعور الانساني ( ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 5).
ب - ... البديهيات العقلية :(1/35)
... وهي التي يطلق عليها المعتزلة بكمال العقل وهي جملة علوم مخصوصة يمتاز بها العاقل (ينظر: القاضي، ج11 ، د.ت :383) . ويوجد هذا النوع من المعرفة ابتداءاً في العقول، ولكن ليس قبل العلم بالمدركات (ينظر: زيني، 1978: 64) . فالادراك الحسي يُعد أول العلم بالمدركات، وهو بذلك يعد مقدمة للعلوم الضرورية (البديهيات العقلية) التي هي من كمال العقل أو التي هي العقل عند المعتزلة . واذا كانت غاية المعرفة هي معرفة الله لمعرفة أوامره ونواهيه (التكليف) ، فأن المعرفة الادراكية تحتاج لقدر آخر من المعارف التي يعتبرها المعتزلة معرفة ضرورية اذ يقولون: (( ومن كمال العقل أن يعرف من حال المدركات التي هي الاجسام ماتحصل عليه: من كونها مجتمعة أو متفرقة، ومن استحالة كونها في مكانين، لأن متى لم يعلم ذلك لم يسلم له من العلوم مايجري مجراها، ولايصح منه الاستدلال على اثبات الاعراض وحدوثها، وحدوث الأجسام، وتعلق الفعل بالفاعل ، لان كل ذلك يستند إلى هذا العلم )) (القاضي، ج11 ، د.ت : 383) . أي يستند إلى البديهيات العقلية التي ترتكز على المدركات.
... اذن المعرفة عند المعتزلة تكون كالاتي :
... العلم بالمدركات يؤدي إلى البديهيات العقلية + النظر العقلي يؤدي إلى العلم المكتسب أو النظري .(1/36)
... أي اننا لايمكن ان ننتقل من مرحلة العلم بالمدركات إلى العلم النظري بدون المرور بمرحلة البديهيات العقلية، لان هذا يسبب خللاً في المعرفة ويخل بها ، لذلك يقولون: ان المعرفة بحال المدركات (أي المعرفة في مرحلة البديهيات العقلية) ، بعد العلم بها (أي الادراك الحسي) تعد ضرورية لارتباطها بأدلة التوحيد لأنها مقدمة لأثبات جواز الاجتماع والافتراق على الاجسام، وبالتالي أثبات حدوثها. ويؤدي اثبات حدوثها إلى اثبات صانع مخالف لها غير مُحدثَ، ومن ثم لابد ان يكون قديماً (وهذه المعرفة تسمى نظرية أو مكتسبة) ( ينظر: ابو زيد، د.ت : 64) . ويجب ان نشير هنا إلى أنه لايمكن للانسان الانتقال من العلوم الضرورية إلى العلوم النظرية ألا بشرط تحقق النظر العقلي اذ يقولون : (( فلا شيء من العلوم المكتسبة إلا ويرجع أصله إلى النظر)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 67-68).
2- ... العلم المكتسب (العلم النظري) :-
... وهو العلم الذي يحصل عليه الانسان نتيجة للنظر ويكون مقدوراً للانسان بشرط تحقق العلم الضروري الذي يُعد اساس للعلم النظري من وجهة نظر المعتزلة.
... وقد تحدث المعتزلة عن هذا العلم من حيث الموضوع، ومن حيث المنهج ومن حيث موقعه من بنية العقل.
- من حيث الموضوع فهو : (( العلم بجزئيات الوجود كالعلم بأن زيداً من الناس قادر)) ( زيني، 1978: 65).
- من حيث المنهج فهو : (( العلم الذي لايفعله الواحد منا إلا عن نظر، أو ذكر نظر ، كالناظر في الاجسام ليعرف الله )) ( زيني، 1978 : 65).
- من حيث موقعه من بنية العقل فهو : (( العلم بالفروع والذي يبنى على الاصول الضرورية)) ( زيني، 1978 :65).
... وقد اهتم المعتزلة بالنظر وحددوا ماهيته وذكروا شروطه ، لانهم يعتقدون ان العلم المكتسب نتيجة له اذ يقولون : (( فلا شيء من العلوم المكتسبة إلا ويرجع أصله إلى النظر)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 67-68).
... ماهية النظر :(1/37)
... يشير هذا اللفظ إلى معانٍ متعددة منها : النظر بمعنى التنظير والتأمل ، وبمعنى الاستدلال ( ينظر: زيني، 1978 : 66) . ويقولون : حقيقة النظر هو الفكر، والفكر هو التأمل في حال الشيء ، والتمثيل بينه وبين غيره ، أو تمثيل حادثة من غيرها ( ينظر : القاضي، ج12 ، د.ت :45).
... شروط النظر :
أ- لعل أهم الشروط من وجهة نظر المعتزلة هي وجود الشك اذ يقولون : ((ومن حق النظر ان لايصح ألا مع الشك في المدلول )) (القاضي، ج12، د.ت : 11)، بل أن المعتزلة أوجبوا وجود الشك كخطوة أولى للنظر (التفتازاني، ج1، د.ت : 256).
ب- ان يكون الناظر عاقلاً ، فلا يصح ان ينظر من لم يكمل عقله لأنه لم يحصل أصول العلم ( ينظر : القاضي، ج12 ، د.ت : 98) .أي ان غير العاقل لم يحصل العلم الضروري.
ج- ان يكون غير ساهٍ عن المنظور فيه وعالماً بالدليل على الوجه الذي يدل (ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 11) ، أي تحقق الانتباه.
د- ان ينظر في الشيء لغرض سواه كالعلم أو غلبة الظن (ينظر: القاضي، ج12 ، د.ت : 9).(1/38)
هـ- ... كما أوجب المعتزلة وجود الداعي والخاطر لدى الناظر لكي تتحقق المعرفة بصورة صحيحة وتؤدي الغرض منها : فالنظر هو أول مراحل التكليف العقلي، ويتم هذا التكليف عن طريق مثير وباعث أي داعٍ وخاطر يسلطه الله على نفس المكلف ( ينظر: ابو زيد ، د.ت : 65) ، اذ يقولون: ((وتلك الأمارة هي تنبيه الداعي والخاطر، لأنهما يفيدانه مايخاف عنده من العقاب بترك النظر ، ويدلانه على ما ترتب في عقله من الخوف الذي يجده فاعل القبيح والنقص الذي يختص به . فإنه لا يأمن من مضرة عظيمة تستحق به، فيخاف عند ذلك )) (القاضي، ج12 ، د.ت :287) . اذن دور الداعي والخاطر هو تخويف المكلف وتنبيهه على ماترتب في عقله من ضرورة حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع ، فعند ذلك يخشى الانسان، إن هو لم يستجيب للداعي والخاطر في حسن النظر، أن يكون بترك النظر واقعاً في قبيح يستحق عليه السلام ، مما يدفعه هذا الخوف إلى اثارة الشك في نفسه .
... الداعي والخاطر عند المعتزلة ودورهما في عملية التعلم:(1/39)
... الداعي والخاطر يخيفان الانسان من أن يكون على باطل، ومن أن يكون جاهلاً بالحقيقة، وهذا الخوف يثير الشك في داخل الانسان مما يؤدي إلى حصول حالة توتر نفسي داخلي ، واثارة احتمالات مختلفة في الذهن، وهذه الاحتمالات تكون باعثاً يدفع الانسان للنظر والتأمل والاستدلال حتى يصل إلى الحقيقة التي تسكن اليها نفسه ويهدأ لها باله ، لذلك يقولون : ان مهمة الداعي والخاطر هي بيان وجه الضرر الذي يلحق بالمكلف اذا ترك النظر اذ يتوجه اليه قائلاً (أي الداعي والخاطر يخاطب الانسان) : (( أنظر لتعلم أن لك صانعاً صنعك ومدبراً دبرك، وتعلم استحقاق الثواب من جهته على فعل الواجب والعقاب على فعل القبيح. ومتى لم تعرفه وتعرف هذا الثواب والعقاب كنت إلى فعل القبيح اقرب، لأنك تجد شهوته فيك ، وانت اذا عرفته كنت إلى التباعد منه أقرب لأنك تجد استحقاق الذم على القبيح مع مايؤثر من غم ونقيصة)) (القاضي، ج12 ، د.ت : 431-432) . ويقولون : ان العاقل اذا خوف بأمارة صحيحة خاف لامحالة (القاضي، 1965 : 68) ويقصدون بالأمارة الداعي والخاطر.
... أما كيف يؤدي الشك إلى اليقين فيقولون : (( لم يكن يقيناً قط حتى كان قبله شك ، ولم ينتقل أحد عن أعتقاد إلى أعتقاد غيره حتى يكون بينهم حال الشك )) (الجاحظ،ج6 ، د.ت : 36) . وحالة الشك هنا تعني وجود احتمالات في الذهن وعن طريق النظر أو الاستدلال يختار أحدهما.(1/40)
... وبناءاً على ذلك تقوم المعرفة عند المعتزلة على اساسين : اساس نفسي هو الخوف من ان يكون على خطأ أو على جهل قد يهدد مصير الانسان في الحياة الدنيا والحياة الاخرة. وأساس معرفي هو الشك فيما يعتقده، وتجويز ان يكون الواقع على خلاف مايعتقد . وبناءاً على هذين الاساسين تتحدد الغاية الدينية للمعرفة وهي غاية ذات شقين : غاية دنيوية اخلاقية هدفها ان تجنب الانسان فعل القبيح الذي يترتب عليه استحقاقه للذم وان تؤدي به إلى فعل الحسن الذي يستحق به المدح أي عملية التكيف الاجتماعي ، وغاية آخروية تهدف إلى خلاص الانسان من العذاب الذي قد يلاقيه نتيجة جهله بخالقه وتقصيره في اداء ماكلف به . اذن اساس المعرفة الخوف والشك وغايتاها الدنيا والاخرة غير منفصلتين ، وكلاهما تفضي إلى الاخرى من وجهة نظر المعتزلة .
... ما حكم النظر عند المعتزلة ، وهل كل نظر يؤدي إلى تعلم ؟
... اتفق المتكلمون على ان النظر المؤدي إلى معرفة الله واجب ، لكنهم اختلفوا في طريق ثبوته، فالمعتزلة يرون أن طريق ثبوته هو العقل ، وقد استدلوا على ذلك : بأن كل عاقل اذا رجع إلى نفسه، يرى ان عليه نعماً لاتحصى ومن المعلوم ان من أنعم الله عليه بمثل هذه النعم ، ولم يلتفت إلى المنعم (الله) ، ذمه العقلاء قاطبة، وشكر المنعم لا يتصور من الشاكر إلا بعد معرفة المنعم، ومعرفته انما تكون بالنظر، والنظر يؤدي إلى المعرفة التي يتوقف عليها الشكر، الذي هو واجب فالنظر مما يتوقف عليه الشكر بالواسطة، وما توقف عليه الواجب فهو واجب ايضاً، فالنظر نتيجة لذلك واجب ( ينظر : الأيجي، ج1 ، د.ت: 269-270) .
... والذي نستفيده من النص المتقدم ان المعتزلة ينادون بمبدأ التعلم الذاتي او التربية الذاتية، أي ان عقل الانسان أو المتعلم هو الذي يوجب عليه البحث عن المعرفة.(1/41)
... أما ردهم على التساؤل السابق (هل كل نظر يؤدي إلى تعلم؟ ) : فأنهم أنكروا ان يؤدي النظر إلى الجهل وان جوزوا ان يؤدي إلى غالب الظن أو أن يؤدي إلى الشك مرة أخرى . ولكنه اذا كان نظراً من عاقل في دليل معلوم ، فلا بد أن يؤدي إلى العلم اذ يقولون : (( ومن حق النظر ان يكون فيه مايولد العلم، إذا كان نظراً من عاقل في دليل معلوم له على الوجه الذي يدلّ ، ويكون فيه مالايولد العلم ، بل يقتضي غالب الظن في أمور الدنيا، وقد يكون فيه مالايحصل عنده الوجهان جميعاً. ولايصحّ ان يكون فيه مايولد الشبهة أو الجهل ... وكما لا يجوز ان يولد الجهل، فكذلك لايجوز أن يولد غير الاعتقاد من أفعال القلوب )) (القاضي، ج12، د.ت : 11) . معنى ذلك انه ليس كل نظر يؤدي بنا إلى العلم ، لكن النظر الذي يحصل من العاقل في دليلٍ معلوم على الوجه الذي يدل يولد العلم، أو الشك مرة اخرى . اما عدم الوصول بالنظر إلى مرحلة العلم يرجع إلى خطأ في استعمال الدليل ، أو في معرفة وجه الاستدلال .
طرائق المعرفة عند المعتزلة :
... ان مصادر المعرفة عند المتكلمين ثلاثة (( الحواس ، الخبر الصادق ، العقل)) ( التفتازاني، د.ت: 40) ، أما الخبر الصادق فيندرج تحت الحواس لأنه يصلنا عن طريق السمع.
1 - ... الحواس:-
أ - ... الحواس والمعرفة :
... أستُعمل لفظ الحواس من قبل مفكري الاسلام وقصدوا بها الحواس الخمس الظاهرة (ينظر: الايجي، ج1، د.ت: 235) والحاسة ((قوة طبيعية في الجسم ، وبها يدرك الانسان والحيوان الاشياء الخارجة عنه ومايطرأ على جسمه من تغيرات ، والحواس في العرف العام خمس وهي : البصر والسمع والشم واللمس والذوق)) (صليبا، د.ت : 65).(1/42)
... وقد ثبت عند المتكلمين القول بالحواس الخمس بناءاً على أن هل اللغة لايعرفون الا هذه الحواس الخمس، والمتكلمون لايثبتون غيرها، أما الحواس الباطنة فقد قال بها الفلاسفة (التهانوي، ج2، 1966 : 302) . واتفق المعتزلة على انكار وجود حاسة سادسة ( ينظر: نادر، ج2، 1951 : 92).
... لقد أكد مفكرو الاسلام ان الحواس تُعد من ألات الادراك (الفارابي، 1989: 20) ، وان الحس يأخذ دور الآلة إلى جانب العقل المدرك في تكوين العلم ( التفتازاني، د.ت : 40) . فيقولون : إن الاحساس هو ادراك الشيء بأحد الحواس ( الجرجاني، 1987: 11).
... وقد أكد المعتزلة: ان الحواس هي مصادر المعرفة بالعالم الخارجي ومكوناته المحسوسة فيقولون : (( ان النفس تدرك المحسوسات من هذه الخروق التي هي الأذن والفم والانف والعين)) ( الاشعري، ج2، 1985 : 31) . اذن هناك علاقة بين المعرفة والحواس من وجهة نظر المعتزلة. لذلك قالوا : بان المعرفة الحسية لاتقوم بدون تأثير المحسوسات على الحواس ( ينظر : نادر ، 1951 : 73).
ب - ... الأدراك الحسي عند المعتزلة :
... ذهب المعتزلة إلى تفسير الادراك الحسي تفسيراً مادياً اذ يقولون : ((لايرى إلا جسم ولايسمع ألا جسم لأن الأصوات اجسام عندهم)) (الاشعري، ج2، 1985: 66) . لذلك فأن الألوان والطعوم والأرايج والآلام والبرودة واليبوسة اجساماً لطيفة ( الاشعري، ج2، 1985: 63). ويقولون : لايدرك المدرك الشيء ألا أن يطفر البصر إلى الشيء المدرك فيداخله(ينظر:الاشعري،ج2،1985: 63).(1/43)
... وقالوا أن الانسان لايدرك المحسوس بحواسه ألا بالمداخلة والاتصال والمجاورة ، فمثلاً الشم لايكون ألا إذا دخل الحس جزيئات من الجسم المشموم (الاشعري، ج2، 1985 : 63) . أما في تفسيرهم لكيفية سماع الانسان للصوت فيقولون : (( ان الكلام جسم لطيف منبعث من المتكلم ويقرع أجزاع الهواء ... ، ثم يقرع العصب المفروش في الأذن . ثم يصل إلى الخيال فيعرض على الفكر العقلي فيفهم)) (الشهرستاني، د.ت : 318).
... ونظرية المعتزلة في الادراك الحسي تقترب من النتائج التي توصلت اليها البحوث العلمية في ميدان علم النفس الحديث ولاسيما في مسألة الاحساس بالروائح، اذ اثبتت البحوث العلمية ان الانسان المزكوم لايستطيع ان يتحسس الروائح وذلك لتكون طبقة مخاطية على الانف تمنع من وصول جزيئات الجسم المشموم إلى عضو الحس . أما في تفسيرهم لسماع الانسان للاصوات فأنه كذلك يقترب من التفسير الحديث لهذه الظاهرة.
ج - ... المعرفة الحسية عند المعتزلة:
... لقد نالت المعرفة الحسية اهتمام المتكلمين بوصف الحس أحد اهم اسباب العلم . لذلك نجد ان المعتزلة : أثاروا فيها بعض الطروحات التي لاتزال قائمة حتى يومنا ( ينظر : نادر، ج2، 1951 :11).
... فقد أكد المعتزلة : أن علوم الحس أصل لعلوم العقل (القاضي، ج12، د.ت: 58) ، وقد اعتبروا أن ((المعرفة الحسية المرحلة الاولى للعلم وتليها المعرفة العقلية)) ( نادر، ج2، 1951 : 36) اذ يقولون : ((لولا العلم لما يدرك بالحواس لما صح ان يعلم الانسان سائر الأمور )) (القاضي، ج12، د.ت :56) أي المعرفة الحسية تشكل عندهم نقطة البدء في المعرفة الانسانية ومن خلالها يتحسس الانسان صدق وضرورة بديهيات ومبادئ العقل، لذلك نجد انهم عدوها ضمن المعارف الضرورية.(1/44)
... لكننا نجد أن المعتزلة مع تصنيفهم للمعرفة الحسية ضمن المعارف الضرورية لكنهم وضعوا لها ضوابط منها: سلامة الحاسة وأرتفاع الموانع التي قد تخدع الحواس أو تظللها ، فاذا كانت الحاسة سليمة والموانع مرتفعة وجب اثبات مايدركه الانسان ، اذ يقولون : (( إذا ماكان طريق العلم به الادراك بالحواس وجب نفيه اذا لم يدرك مع سلامة الحاسة وارتفاع الموانع)) (القاضي،ج4، د.ت : 326).
... والضابط الآخر لعمل الحواس هو العقل، فالحواس عندهم لاتغني عن العقل وأن كانت أصلاً لأن : ( العقل هو المعيار على الحواس)) (القاضي، ج2، د.ت : 163).
... أما حدود المعرفة الحسية عندهم فأنها تختص بظاهر الاشياء المحسوسة اذ يقولون : ((ان الحواس ليس بأمكانها إدراك خاصية الشيء، بل إدراكها لايتعدى معرفة ظاهر الاشياء)) (نادر، ج2، 1951 : 172).(1/45)
... لكن مع تحديدهم لحدود المعرفة الحسية نجد أنهم اثبتوا هذه المعرفة واعطوها موضوعيتها اذ يقولون: ((إعلم أنه لاطريق للعلم بالشيء أوضح من الادراك . فمتى تناول الادراك شيئاً فقد استغنى في اثباته عن دليل ، لأن نهاية مايبلغه المستدل على اثبات الشيء أن يرده إلى المدرك. فاذا حصل الشيء مدركاً فالواجب في اثباته أن يكون أصلا وأن يستغني عن دليل)) (القاضي،ج13، د.ت : 229-230). معنى ذلك ان المعرفة الحسية تختلف عن المعرفة العقلية (النظر العقلي) في أنها أكثر وضوحاً وبياناً، وتأكيد المعتزلة على ان المعارف الحسية واضحة، وان الاشياء التي ندركها موجودة وجوداً حقيقياً، له مايبرره من وجهة نظرهم، على الرغم من الاعتراض القائل أنه: لا حقيقة للاشياء في نفسها وحقيقتها، وان المُدرك هو الذي يحدد حقيقة الشيء حسب مايعتقده ويدركه (ينظر: القاضي، ج2، د.ت : 47) . بمعنى أخر: ان الاشياء ليس لها وجود مستقل عن مدرِك يعطيها (عن طريق عملية الادراك) وجودها الذي لاينفصل او يستقل عن معتقداته وأفكاره، فقد تصدى المعتزلة لهذهِ الطروحات وميزوا بين المدرك والشيء المُدرّك وقالوا : أن عملية الادراك لادخل لها في تحديد طبيعة الشيء او تحديد صفاته. وهذا التمييز بين طرفي الادراك هو مايثبت عند المعتزلة وجود الواقع الخارجي الذي من خلالهِ نستدل على وجود الصانع، وقد ألزم المعتزلة اصحاب هذا الرأي الوقوع في التناقض على أساس أن ((هذا يوجب أن يصح منا الجسم والقدرة اذا أعتقدنا ذلك فيها، بل يوجب ان يكون تعالى موجوداً ومختصاً بسائر ماهو عليه من جهتنا اذا اعتقدنا كونه كذلك ، بل يوجب اذا اعتقد المعتقد في الشيء، جوهراً وسواداً، ان يحصل بهذه الصفة، وقد بينا فساد ذلك، بل يجب على هذا صحة كون الشيء الواحد بياضاً سواداً اذا اعتقد المعتقد أن ذلك فيه، وقديماً محدثاً، وموجوداً معدوماً ، وقد بينا ان العلم باستحالة ذلك ضروري )) (القاضي، ج12، د.ت :48).(1/46)
... وخلاصة القول : ان المعرفة الحسية هي معرفة ضرورية ، وتعد أول معارف الانسان بالبيئة المحيطة بهِ، وهي تكون أساس للعلوم العقلية.
2- ... العقل :
... العقل هو المصدر الثالث من مصادر المعرفة عند المتكلمين ، وهو المعيار الذي من خلاله نحكم على صدق المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس أو الخبر . لذلك نجد إن المفكرين المسلمين أهتموا أهتماماً بالغاً في العقل ، حتى انهم أفردوا له مكاناً في مؤلفاتهم . وجعلوه مناط التكليف الالهي.
... أما المعتزلة فقد كان اهتمامهم به ، أن جعلوه أساساً لكل ارائهم ولاسيما أصولهم العقائدية، فقد جاءت نظريتهم في الاصول الخمسة مبنية على أساس فهم العقل للعقيدة الاسلامية، (( وهكذا كان العقل المسلمة الاولى في فكر الاعتزال، فلا معنى للعقل عندهم اذا لم يكن حراً ، فحرروه، وأجازوا له البحث لافي الشؤون الانسانية وحسب، بل في الأمور الغيبية وقضايا الكون، وفوضوه الأمر كله وساروا معه إلى النهاية القصوى في البحث المنهجي المنظم )) ( الراوي،1982: 5).
... لان المعتزلة ترى ان القول بقدرة الانسان على الفعل والاختيار ومسؤوليته عن هذا الفعل يوجب الاعتراف بوجود قوة مميزة لدى الانسان تدفعه للاختيار بين الممكنات المختلفة، ومن ثم تحدد مسؤوليته عن اختياره ( ابو زيد، د.ت : 46) وهذه القوة هي العقل.
... وسنتناول هنا وجهة نظر المعتزلة في العلاقة بين العقل والنقل ومن ثم منهج النظر عندهم.
أ- ... العلاقة مابين العقل والنقل :(1/47)
... لايعدّ المعتزلة أن هناك ثمة تناقض بين قدرة العقل وقدرة الله ، أي ان قدرة العقل لاتحد من قدرة الله ولا تنافيها، فالعقل السليم اذا تدبر الأدلة على الوجه الصحيح ، ساقته إلى قبول السمع ( أي طريق النقل) ، لانه يصدر عن عقل حكيم لا يريد مايقبح في عقلنا – وهو المركب له ( أي لعقلنا ) على صورته الحالية – ولايفعله ولايأمر به ( زيني، 1978 : 122) لذلك قالوا أن ((دليل العقل اذا منع من الشيء فالواجب في السمع إذا ورد ظاهره بما يقتضي ذلك الشيء أن نتأوله لأن الناصب لأدلة السمع هو الذي نصب أدلة العقل فلا يجوز فيهما التناقض)) ( القاضي، ج13 ، د.ت: 280).
... معنى ذلك ان اساس عدم التناقض مابين العقل والنقل هو ان الله - سبحانه وتعالى - هو الذي نصب أدلة العقل وأدلة السمع ( أي النقل).
... أما في تأكيدهم لنفي التعارض مابين العقل والنقل فهم يقولون : ((ليس في القرآن إلا ما يوافق طريقة العقل، ولو جعل ذلك دلالة على أنه من عند الله من حيث لايوجد في أدلته الا مايسلم على طريقة العقول ويوافقها، إما على جهة الحقيقة أو على المجاز لكان أقرب)) (القاضي، ج16، د.ت :403).
... وقالوا ايضاً ان العقل له القدرة على ادراك كليات الأحكام المتصلة بالله وصفاته من التوحيد والعدل ووجوب شكره، كما له القدرة على معرفة الحسن والقبح على الجملة. اما الشريعة (أي النقل) ، فأنها تكشف وتوضح للانسان الطرائق التي يستطيع عن طريقها أن يؤدي هذه الواجبات العقلية عن طريق الصوم والصلاة والزكاة ومواقيتها، وهي أمور لايستطيع العقل ان يعرضها، فلذلك تأتي الشريعة وتبين له كيف يؤدي هذه الطاعات، فهم يقولون : ان المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية، أما دور الشريعة النبوية توضيح مقدرات الاحكام ومؤقتات الطاعات التي لايتطرق إليها عقل، ولايهتدي اليها فكر (الشهرستاني، ج1، د.ت: 81).(1/48)
... وخلاصة القول ان المعتزلة ترى ان العقل اهم مصدر من مصادر المعرفة وبه نحكم على صدق المعرفة الآتية عن طريق الحواس أو عن طريق النقل، فهو المعيار عند المعتزلة لقبول المعارف، ولكن على الرغم من عده معياراً
للحكم على المصدرين الآخرين للمعرفة لكنه محتاج لهما في الوصول إلى الحقيقة.
ب- ... منهج النظر عند المعتزلة:
... إن النظر العقلي واجب على الانسان لضرورة معرفة الله توصلاً إلى معرفة التكاليف الشرعية ( ينظر : القاضي، ج16، د.ت :142) . وهذا النظر يقوم على أساس الشك المنهجي أو المرحلي للوصول إلى اليقين لذلك نجد أن المعتزلة يؤكدون هذا الأمر بقولهم : (( لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك ،
ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك ))
( الجاحظ ، ج6 ، د.ت : 35).
... وقد جعل المعتزلة الشك جزءاً من النظر العقلي اذ يقولون : أول الواجبات الشك ( ينظر : الجويني، 1969 : 32) . ومما يؤكد رأيهم في ان هناك علاقة وثيقة بين الشك والنظر العقلي قولهم : (( ومن حق النظر أن لايصح الأ مع الشك)) ( القاضي، ج12 ، د.ت : 11).
... وبناءاً على رأيهم هذا فقد ابطلوا التقليد في العقائد اذ قالوا ان التقليد ((هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة، وما هذا حاله لايجوز ان يكون طريقاً للعلم )) ( القاضي، 1965 : 61).
... اذن طريق العلم والمعرفة عند المعتزلة في العقيدة يبدأ بالشك ثم النظر العقلي الموصل إلى اليقين وهو سكون النفس واطمأنانها لما وصلت اليه، وليس التقليد وأتباع الغير، وهذا الأمر يُعد مبدأً تربوياً مهماً يشجع المتعلمين على اتباع المنهج الصحيح الموصل إلى الحقيقة.
... وخلاصة القول : ان المعتزلة يعتمدون على مصادر المعرفة الثلاثة وهي الحواس والخبر الصادق والعقل للوصول إلى الحقيقة، وهم برأيهم هذا لم
يخرجوا عن الجو الاسلامي الذي كان سائداً انذاك بل لم يخرجوا عن منهج القرآن الكريم.
5- ... الفكر التربوي عند المعتزلة:(1/49)
... لقد صاغ المعتزلة اراءهم التربوية من خلال نظريتهم في الأصول الخمسة ومن خلال رؤيتهم الفكرية لكلٍ من : الخالق - سبحانه وتعالى - والكون والانسان، والشيء الأكثر أهمية من وجهة نظرهم وهو المعرفة والتي من خلالها يحدد الانسان علاقته بالخالق والكون لكي يعيش بسعادة في الدنيا والآخرة .
... إن المعتزلة كما مر بنا في البحث اصحاب مدرسة كلامية ولهم أصولهم العقائدية التي انضجوها بالبحث والدرس في الحلقات العلمية والندوات الفكرية التي تُدار في المساجد والبيوت، أي انهم اتخذوا التربية والتعليم وسيلة لنشر ارائهم الفكرية في البلاد الاسلامية، معنى ذلك انهم اصحاب مذهب تربوي يتشكل من اهداف تربوية ومعلم ومتعلم وطرائق تدريس ومبادئ تربوية.
اولاً: الأهداف التربوية :
... إن التربية عند المعتزلة تهدف إلى تحقيق مجموعة من الاهداف التي تتعلق بالانسان وعلاقته بالخالق - سبحانه وتعالى - والكون والمجتمع ، وبناءاً على ماتقدم من كلام في وريقات البحث يستطيع الباحث ان يستخلص جملة من الأهداف هي :
1- وصول المتعلم إلى معرفة الله - سبحانه وتعالى - بكل صفاتهِ من التوحيد والعدل.
2- تمكين المتعلم من معرفة اوامر الخالق ونواهيه بعد معرفة صفاته.
3- بعد ان يتعرف المتعلم على صفات الخالق من التوحيد والعدل ومن ثم يتعرف على أوامره ونواهيه يتمكن من اداء التكاليف الشرعية التي تؤدي إلى الثواب وتُعصم من العقاب، على احسن وجه.
4- تقريب الانسان من الله سبحانه وتعالى، وذلك بدراسة العلوم لتحقيق هذا الامر.
5- تنمية الشخصية الانسانية المنفتحة للفرد المسلم ، وجعله يعيش ويتفاعل ضمن اطار اجتماعي له قيمه وآدابه ونظامه.
6- اصلاح الانسان في دنياه وآخرته.
7- غرس الدين (العقيدة) في نفوس المسلمين عن طريق العقل والدليل والحجة المقنعة.
8- توجيه طاقات ابناء الأمة الاسلامية توجيهاً سليماً.
9- تربية النفس على الفضيلة.
10- تهذيب قوى النفس الانسانية.(1/50)
11- اكساب النفس الانسانية ، الاخلاق الفاضلة والعادات السليمة.
12- نشر الدين الاسلامي.
13- الوصول إلى الحقيقة وتحصيل العلوم.
14- تثبيت الايمان عن طريق العقل .
15- تشكيل الشخصية المتوازنة.
16- تكوين مجتمع متحضر يتلقى العقيدة والمعرفة عن طريق النظر العقلي والبحث والدرس وليس عن طريق التقليد والاتباع.
17- تكوين الشخصية العلمية الباحثة عن الحقيقة.
18- الدفاع عن العقيدة الاسلامية.
ثانياً: المعلم :
... إن من الأركان المهمة في العملية التعليمية وجود معلم يمتلك كفايات تؤهله أن يؤدي مهمته على أحسن وجه.
... والمعتزلة لم يغضوا الطرف عن هذا العنصر الفعّال والمهم لنجاح المهمة التي كانوا يخططون لها والغاية التي ينشرونها ، لذلك أوجبوا عدة أمور توفرها بالمعلم الناجح منها:
1- التخصص العلمي : معنى ذلك ان يكون لكل علم من العلوم مختص به ، لديه القدرة على العطاء والمنح، اذ يقولون : ((وجدنا لكل صنف من جميع ما بالناس إلى تعلمه حاجة ، معلمين ، كمعلمي الكتاب والحساب او الفرائض والقرآن ، والنحو والعروض والأشعار، والأخبار والآثار )) (الجاحظ، ج3 ، 1979: 32-33).
2- ان اختيار المعلم لمهنة التعليم يجب ان يخضع لضوابط وشروط منها : الاخلاص في العمل، له القدرة على تقويم الابناء، وهذه الامور يتم التأكد منها باختباره من قبل أناس ذوي خبرة (ينظر : الجاحظ ، ج3، 1979 : 31-32).
3- يجب ان لايكون المعلم ردئ الطبع بطيء اللفظ (ينظر: الجاحظ، ج3، 1979 : 40).
4- على المعلم الابتعاد عن التكبر والغرور ( ينظر: الجاحظ، ج3، 1979: 27).
5- كما أكدوا على ضرورة ان يطور المعلم معلوماته وأن لاينقطع عن المذاكرة اذ يقولون : (( مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها)) (الجاحظ، ج3، 1979 : 29) . وهنا اشارة واضحة إلى مبدأ التعليم المستمر.(1/51)
6- ومن الأمور المهمة التي ينبغي توفرها في المعلم قدرته على ان يدخل إلى عالم الأطفال وذلك بالتحدث معهم أو مناغاتهم لكي يصل إلى مستوى تطور عقل الطفل ، اذ يقولون : ان المعلم (( لو ناطق طفلاً أو ناغى صبياً، لتوخى مقادير عقول الصبيان، والشبه لمخارج كلامهم، وكان لايجد بداً من أن ينصرف عن كل مافضله الله به بالمعرفة الشريفة، والألفاظ الكريمة، وكذلك تكون المشاكلة بين المتفقين في الصناعات)) ( الجاحظ، ج3، 1979: 29).
7- الابتعاد عن الغرور لأنه يؤدي إلى الجهل اذ يقولون : (( وقد يكون الرجل يُحسن . الصنف والصنفين من العلم ، فيظن بنفسه عند ذلك أنه لايحمل عقله على شيء إلا نفذ به فيه، وبذلك يخرج من الجهل إلى مقدار لايبلغه أحد ألا بخذلان الله تعالى ، فلا حرمنا الله تعالى عصمته ، ولا ابتلانا بخذلانه )) (الجاحظ ، ج3، 1979: 44).
8- وهناك شروط اساسية يضعها المعتزلة ينبغي توافرها في المفسر لآيات القرآن الكريم نستطيع هنا الأفادة منها في مجال مواصفات المعلم من وجهة نظر المعتزلة ، لاسيما اذا علمنا ان لكل مفسر حلقة علم يجتمع فيها طلاب العلم ومُريدوه لأخذ العلم عن الشيخ أو المفسر، وخصوصا وأن القرآن الكريم كان يُعد المنهج الاساسي في كل الحلقات العلمية، وهذه الشروط منها (ينظر: القاضي، 1965 : 606-608) :
أ- ان يكون عالماً باللغة العربية وعلومها ذا دراية بالنحو والرواية.
ب- ان يتميز بثقافته الفقهية الشاملة لأحكام القرآن وأصوله.
ج- ان يكون مستوعباً لقضايا التوحيد والعدل فهما يُعدان معياران أساسيان لأجازة المفسر.
د- له القدرة على فهم المحكم والمتشابه من آيات القرآن الكريم ، ومن ثم ردّ المتشابه إلى المحكم.(1/52)
... وهذه الشروط التي يضعها المعتزلة ويقولون بوجوب توافرها في المعلم، هي كفايات ينبغي على المعلم امتلاكها أو تحصيلها لكي يكون مؤهلاً لاداء عملهِ على أحسن وجه، وهذا ماتؤكده الدراسات الحديثة في مجال فلسفة اعداد المعلم وهو وجوب امتلاكه لبعض الكفايات منها علمية ومهنية وادارية وبنية شخصية وغيرها من الأمور الاخرى.
... أما واجبات المعلم:
... فالمعتزلة يضعون مهاماً أمام المعلم للقيام بعملهِ ولكي يؤدي رسالته على الوجه الأحسن وهذه المهام هي ( ينظر: الجاحظ، ج3، 1979 : 28 ، 35):
1- ان يدرّس المتعلمين القرآن.
2- ان يأخذ المتعلمين بالصلاة في الجماعة.
3- أن يهذب ألسنة المتعلمين برواية القصيد والأرجاز.
4- ان يعاقبهم على التهاون والتقصير في اداء الاعمال.
5- يجب ان لايتأخر في اكسابهم المهارات، وأن يتأكد من اتقانهم لها.
ثالثاً: المتعلم :
... المتعلم هو غاية التربية ومادتها الرئيسة، فمن أجلهِ وضعت النظريات التربوية وتعددت الاراء وتشعبت ، ومن اجله بُنيت المناهج الدراسية، أي من أجل اعدادهِ وتأهيلهِ لكي يكون عنصراً فعالاً في المجتمع . ومن أجل ايصال المادة العلمية للمتعلم وصيِّغت الاساليب المناسبة لذلك ، أي الطرائق التدريسية.
... والمعتزلة على الرغم من انهم لم يتركوا مؤلفاً في التربية، لكننا نلمح اشارات هنا وهناك إلى المتعلمين . علماً ان اهتمامهم انصب ومنهجهم وضع للمكلفين، والمكلف هو من كان تام العقل واجبٌ عليه صحة الايمان والمعرفة (ينظر: البغدادي، 1981 : 257) . لكننا مع ذلك نجد أن هناك التفاتات إلى من هم دون مرحلة التكليف الشرعي .
أ - ... مرحلة الطفولة والصبا :
1 - ... حاجات الطفل الحيوية هي التي تحدد معارفه:(1/53)
... فقد ذكر المعتزلة عن لسان أحد الحكماء : ((وقيل لأحد الحكماء: متى عقلت ؟ قال : ساعة ولدت . فلما رأى انكارهم لكلامه قال أما أنا فقد بكيت حتى خفت، وطلبت الأكل حين جعت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكتُّ حين أُعطيت: يقول هذه مقادير حاجاتي ومن عرف مقادير حاجاتهِ إذا منعها وإذا أعطيها، فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى اكثر من ذلك العقل )) ( الجاحظ، ج7، د.ت: 56) . والمعرفة هنا يعني بها المعتزلة الاحساس بما يريد ويحتاج .
2 - ... أن الصبي يمتلك قدرة التمييز بين الاشياء:
... يذهب المعتزلة إلى ان الصبي يمتلك القدرة على الاختيار والتمييز بين الاشياء اذ يقولون : (( ان من لاعقل له – يقصدون به الصبي الغير تام العقل - ، قد يعرف الافعال ويميزها )) (القاضي، ج12، د.ت : 299).
3 - ... كذلك يقول المعتزلة ان الصبي يمتاز بما يأتي:
أ- ((يعرف مايختص هو به من الحال نحو كونه مريداً وكارها ومعتقداً)) (القاضي، ج11، د.ت :382).
ب- ((عالم بالمدركات)) (القاضي، ج11، د.ت : 380) والتي قسمها المعتزلة كما مر إلى : الادراك الحسي، والاختبار والعادات.
ج- ان الصبي يقوم بالفعل نتيجة لقصدٍ أو داعٍ بخلاف الساهي والنائم اللذين يقدمان على الفعل بغير قصدٍ أو داعٍ ( ينظر : القاضي، ج6، د.ت : 186-187).
4- وقد ألتمسوا العذر للصبي الذي يخطأ في عملية الاستدلال بقولهم : إن الشهوة تغلب على الصبي فلا يتهذب له تمييز الحجة من الشبهة التي تقوى بتقوية الشهوة (ينظر: القاضي، ج11، د.ت : 292) . وهذا يدل على ان المعتزلة يراعون حاجات الصبي أذ انها هي المسيطرة عليه ولابد من اشباعها.
5- وبينوا كيف ان الطفل يتعلم اللغة عن طريق التكرار أو الاعادة اذ يقولون : (( على حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلم لغة والديه، اذا تكررت منهما الاشارات)) (القاضي، ج15، د.ت : 106) . وهذهِ تُعد ايضاً اشارة إلى ان التكرار والاعادة طريقة تدريسية عند المعتزلة.(1/54)
6- وكذلك قالوا في تعلم الصبي : (( الصبي عن الصبي أفهم وبه أشكل )) (الجاحظ، ج3، 1979 : 37) . أي أن الأطفال يتعلمون نتيجة تفاعلهم مع بعض بصورة اكثر فاعلية . وهذه اشارة إلى فكرة التعلم التعاوني.
7- ومن اهتمامات المعتزلة بمرحلة الصبا، نجد إنهم يراعون هذه المرحلة ، لذلك لم يوجبوا أن يكون الصبي ملزماً برد الدين أو العهد أو غيره حتى بعد تمام عقله، اذ يقولون: ((ومتى كان قد أودع أو دين قبل العقل لم يلزمه عقلاً عند كمال عقله أن يرد الوديعة ويقضي الدين)) (القاضي، ج6، 1965: 20).
... من خلال ذلك نقول ان المعتزلة اهتموا بمرحلة الطفولة والصبا، اذ بينوا انها مرحلة يختلف فيها المتعلم عن بقية المراحل العمرية ففيها يتعلم المعارف الاضطرارية كالعلم بالمدركات (أي ماتأتي به الحواس، او نتيجة التكرار والعادة والاختبار لبعض الاشياء)، على اعتبار إن لدى الطفل قدرة على التمييز مابين الاشياء، ولكن هذهِ القدرة ليست بمستوى العقل الناضج، كذلك ان الطفل يفعل الأشياء لداعٍ او لقصد، وكذلك ان معارف الطفل مرتبطة بحاجاته الفسيولوجية والنفسية. وبالتالي ان هذه المرحلة تُعد من وجهة نظر المعتزلة اساساً لما سيأتي بعدها، لان فيها تتكامل العلوم الضرورية التي تُعد اساس للعلوم النظرية او المكتسبة.
ب - ... مرحلة النضوج أو تمام العقل:
... لم يحدد المعتزلة سن ثابتة لنضوج العقل ووجوب المعرفة ( معرفة الخالق بصفاته من التوحيد والعدل ... ) وصحة الايمان، لكنهم قرنو ذلك بقدرة الانسان على عملية التوافق الاجتماعي وهذا الأمر مرتبط بدور ((العقل ووظيفته الاساسية في قمع الشهوات عند الفرد لكي يكمل عملية التوافق الاجتماعي ويستحق أن يوصف بأنه عاقل)) (زيني،1978: 38) . وهنا نلحظ ان العقل وظيفته تبصير الفرد بما ينفع وما يضر، وبالتالي هو وسيلة تحقق للفرد البقاء والاستمرار في الحياة ووسط الجماعة .(1/55)
1- الصفات التي يتميز بها العاقل والمكلف شرعاً بالنظر وتحصيل المعرفة : اذن هي صفات المتعلمين منها :
أ- يعرف البديهات ( القاضي، ج11، د.ت : 383) ، والتي منها : ان الكل اكبر من الجزء، وان الشيء يوجد في مكان واحد ... وغيرها.
ب- يعلم بالدليل على الوجه الذي يدل (القاضي، ج11، د.ت :380).
ج- يعلم الفعل على وجه يصح الإقدام عليه والتحرز منه ، وهذا لايعني انه يختار الطاعة دون المعصية (القاضي، ج12، د.ت : 151).
د- يعلم بأحوال الفعل كالعلم بقبح القبيح وحسن الحسن على جهة الجملة (القاضي، ج11، د.ت :198).
2- خضوع الطالب المعتزلي لاختبار معقد وطويل، لكي يكون الطالب بالمستوى الذي يؤهله ليكون داعياً للافكار الاعتزالية فمثلاً: مرحلة اعداد قاضي القضاة عبدالجبار المعتزلي استمرت زمناً طويلاً من أجل اختبار قدراته، ومؤهلاته التي اقنعت شيخه بضرورة اعداده اعداداً جيداً وتدريب ليصبح في طليعة تلاميذه حتى قالوا فيه انه فاق الأقران ( ينظر: الحاكم ، 1974 : 365) . وهذا يدل على ان شيوخ الاعتزال كانوا يولون عناية خاصة بالطالب الذي يحمل صفات وخصائص علمية جيدة.
3- تقويم معلومات الطالب من قبل شيوخه على وفق المعيار الذي وضعه كبار منظري الاعتزال وهو (الاصول الخمسة) ، فقد روي أن أحد الشيوخ سأل أحد الطلبة عن المغايرة بين صفتي الشكر والكفر في الآية : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } (الانسان : 3) ، فأجاب الطالب : ان نعم الله على عباده كثيرة، وكل شكر يأتي في مقابلها قليل وكل كفر يأتي في مقابلتها عظيم ، فجاء شكور بلفظ ( فاعل ) وجاء كفور بلفظ (فعول) على وجه المبالغة، فتهلل وجه الشيخ بوصف أن تفسير الطالب يتفق ورأيه المذهبي المعتزلي (ينظر: الزركشي، ج2، 1957 : 514).(1/56)
4- كذلك اهتم شيوخ الاعتزال بمستوى ثقافة الشباب وبناء عقليتهم للدفاع عن الاسلام ، وهذا أحد شيوخ المعتزلة بتوجه إلى الشبيبة المعتزلية مطالباً إياهم بضرورة الثقافة الفقهية واستيعاب اصول أحكامها لمواجهة خصوم الاعتزال والذين شهروا بهم وأتهموهم : بقلة العلم ونسبوا إليهم ماليس لهم فيقول : واردت أن ينظر شباب اصحابنا فيما بينت ... والفقه لايكادون يلتفتون إليه .. وخصومهم يتسلقون عليهم، وكذلك يقولون : إن المُكلف اذا عرف الأصول لزمه معرفة الفقه والشرع ( ينظر: القاضي، 1965: 126).
5- ومن اهتمامات المعتزلة بالمتعلمين ومتابعتهم ، فأنهم كانوا يمنعون أي تأثير يجدونه غير متفق مع تعاليم الاسلام،فقد ذكر الاصفهاني ان عمرو بن عبيد المعتزلي قال لأحدهم : (( بلغني أنك تخلو بالحدث من احداثنا فتفسده وتستذله وتدخله في دينك ، فأن خرجت من مصرنا، والا قمنا فيك مقاماً أتى فيه على نفسك )) ( الاصفهاني، ج1 ، 1905: 24) . أي تحصين عقول المتعلمين من الغزو الفكري أو المد الثقافي المعادي.
... من خلال ماتقدم يبدو ان المعتزلة اهتموا بالمتعلم وبينوا الخصائص التي يتصف بها ، ثم بعد ذلك وضعوا معياراً ثابتاً لتسمية المتعلم معتزلياً، كذلك اولوا عناية خاصة بالطلبة ذوي المهارات العالية والقدرات العقلية الفائقة، وايضاً حرصوا على تحصين عقول وافكار المتعلمين من الافكار المعادية . فاذن المتعلم عند المعتزلة كان غاية هدفهم التربوي.
رابعاً : المنهج الدراسي:
... هو مجموعة خبرات تقدم للمتعلم لغرض اعداده اعداداً يجعله متلائماً مع البيئة التي يعيش فيها. والمعتزلة اصحاب منهج دراسي انضجوه بالبحث والتمحيص وبنوه على وفق نظرة العقل للشريعة الاسلامية، وعلى الرغم مما عُرف عنهم أنهم اصحاب الكلام واساتذتهِ لكننا نجد أن لهم التفاتات لايمكن غض الطرف عنها للمنهج الدراسي وفائدته للمتعلمين.(1/57)
... فمن اهتماماتهم في الكتاب ودورهُ في عملية التعلم يقولون : (( وخير الكتب ما إذا أعدت النَّظر فيه زادك في حسنه ، وأوقفك على حده)) (الجاحظ ، ج3 ، 1979 :42) وهذهِ اشارة إلى اهمية الكتاب في عملية التعلم وتأكيد على ان أعادة القراءة والنظر في الكتاب لها دور فعال في معرفتهِ واستيعابهِ لانها تبين ملامح ومحاسن الكتاب، ومن ثم ان هذهِ المحاسن لها دور في جعل المتعلم اكثر تقبل وفهم للمادة العلمية.
... أما في فائدة الكتاب وأهميته للمجتمع فيقولون (( ولولا الكتاب لأختلت أخبار الماضي، وانقطعت آثار الغائبين، ... ولولا الكتاب ماتم تدبير، ولا استقامت الامور، وقد رأينا عمود صلاح الدين والدنيا إنَّما يعتدل في نصابه ، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب)) ( الجاحظ ،ج3، 1979: 27-28).
... أما رأيهم في المنهج الدراسي ففي رياضة الصبي يقولون : ((أما النحو فلا تشغل قلبه منه ألا بقدر مايؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعرٍ إن أنشده ، وشيء إن وصفه، ومازاد على ذلك فهو مشغلةٌ عما هو أولى به )) ( الجاحظ ، ج3، 1979 : 38) وهنا نلمس ان المعتزلة تنبهوا إلى ان المادة الدراسية تعطى للمتعلم بحسب الحاجة اليها وان الزيادة فيها تكون غير مفيدة. كذلك نجد انهم ربطوا ما بين حاجة الانسان ومابين مايُقدم له من مادة دراسية اذ يقولون : (( فمن الرأي أن يعتمد على حساب العقد (1) دون حساب الهند ودون الهندسة وعويص مايدخل في المساحة، وعليك في ذلك بما يحتاج إليه كفاة السلطان وكتاب الدواوين)) ( الجاحظ ، ج3، 1979 : 39).
__________
(1) (*) ... حساب العقد : تعليم الصبي العد بأصابع اليد بالاعتماد على العقد الموجودة في الأصابع (ينظر: الجاحظ، ج1، د.ت : 33).(1/58)
... كذلك أكدوا على أهمية تعلم مادة الحساب أكثر من غيرها اذ يقولون : ((ان البلوغ في معرفة الحساب الذي يدور عليه العمل والترقي فيه والسبب اليه ، أرد عليه من البلوغ في صناعة المحررين ورؤُس الخطاطين، لأنَّ في أدنى طبقات الخط مع صحة الهجاء بلاغاً، وليس كذلك حالُ الحساب )) ( الجاحظ،ج3، 1979: 39).
... وعلى الرغم من اعتماد المعتزلة على علم الكلام وعده منهجاً اساسياً يُقدم إلى المتعلمين وقولهم فيه : (( إن صناعة الكلام علق نفيس وجوهر ثمين وهو الكنز الذي لايفنى ولا يبلى ، والصاحب الذي لايُملَّ وهو العيارُ على كلِّ صناعة، والزمام على كل عبارة ، والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شيء ورجحانه ... والذي أهل كل علم عليه عيال، وهو لكل تحصيل آلة ومثال)) (الجاحظ ،ج4، 1979 : 244) . وعلى اعتمادهم على نظريتهم في الاصول الخمس اذ اعتبروها منهجاً اساسياً لعقيدة الانسان المسلم ، غير انها لاتعد قائمة بذاتها، وانما تتصل جدلياً بغيرها، التي تقضي بضرورة معرفة الفقه والشرع (ينظر: القاضي، 1965: 126). إلا اننا نجد إن لديهم اشارات إلى مواد دراسية اخرى اعتبروها مهمة للمتكلم اذ يقولون : وينبغي على الفقيه المتكلم أن يكون ملماً بعلوم القرآن والسنة والرجال، واختلاف الفقهاء، مقتدراً على فحص مواقفهم وتشخيص أنتماءاتهم، كما يستلزم قدراً عالياً من الثقافة، ومعرفة بالكلام والملل والنحل واحداث التاريخ (الراوي،1980 : 163).(1/59)
... من خلال ماتقدم نستطيع القول أن المنهج الدراسي عند المعتزلة أشتمل على : النحو والشعر والحساب ، وعلم الكلام، ونظريتهم في الأصول الخمس، وعلوم القرآن والسنة النبوية وعلم الرجال (رجال الحديث) ، وكتب الفقه المقارن، واصحاب المقالات (الملل والنحل) ، والتأريخ لأن هذه العلوم في نظرهم مهمة جداً لأعداد المتكلم وجعله بالمستوى المطلوب. فضلاً عن القرآن الكريم بوصفه الكتاب الأول عند المسلمين، ولا سيما المعتزلة ، اذ تنقل لنا المصادر التأريخية ان واصل بن عطاء شيخ المعتزلة كان يقرأ القرآن في الليل ، وكان كلما صادفته آية فيها حجة أو دليل دوَّنها ليعتمد عليها في نقاشاته.
خامساً: طرائق التدريس :
... اعتمد المعتزلة طرائقاً متعددة لنشر اراءهم وافكارهم منها :
1 - ... طريقة الجدل ( الحوار أو النقاش ) :
... المعتزلة هم اصحاب الجدل والنقاش والحوار في الاسلام ، ويُعد واصل بن عطاء أول من أعتمد على هذهِ الطريقة لنشر عقيدته المذهبية وذلك باقناع الخصم باستعمال الحوار والنقاش . وتذكر لنا المصادر التي آرخت للفكر الكلامي عن كثير من المعتزلة مِمن استعملوا هذهِ الطريقة لنشر الاسلام كأبي الهذيل العلاف والنظام ... وغيرهم.
2 - ... طريقة الرسائل :
... اعتمد شيوخ الاعتزال على تأليف رسائل لنشر أفكارهم ومبادئهم أو للتصدي للافكار المعادية، وهذهِ الطريقة تُعدّ فعالة بالنسبة للعهد الذي استعملت فيه، ونستطيع ان نقول أنها تُعد بداية للتعليم بالمراسلة.
3 - ... طريقة أرسال الدعاة :
... اعتمد واصل بن عطاء على هذهِ الطريقة وذلك بأرسال اشخاص أكفاء تتوافر فيهم الصفات التي تؤهلهم ليكونوا أهلاً لهذهِ المهمة وبفضل هذه الطريقة تم نشر الافكار الاعتزالية وبالتالي نشر الاسلام . ونستطيع القول ان هذه الطريقة تُعد نواة للمدرسة المتنقلة التي أستعملت في العصر الحديث في استراليا وغيرها من دول العالم.
4 - ... الطريقة التجريبية (اجراء التجارب) :(1/60)
... وهذهِ الطريقة اعتمد عليها الجاحظ المعتزلي، ويذكر ان شيوخ المعتزلة أعتمدوا عليها في الوصول إلى الحقيقة، وذلك بأجراء التجارب على الحيوانات ومن ثم الاستفادة منها في المجال الانساني ، وكذلك اعتمد عليها بعض المعتزلة في العلوم الطبيعية كاثبات الحركة والسكون بالنسبة للاجسام ولاسيما بشر بن المعتمر البغدادي والنظام ... وغيرهم من شيوخ الاعتزال ( ينظر : القاضي، 1974 : 302).
5 - ... طريقة التآليف:
... على الرغم مما فُقد من التراث الذي خلفوه لنا شيوخ الاعتزال ، لكننا نجد ان المصادر التاريخية تذكر لنا ان المعتزلة تركوا تراثاً ضخماً من الاراء والافكار عن طريق التآليف في مجال العلوم المختلفة، فالذي يطلع على كتاب الفهرست لابن النديم يستطيع الوقوف على ماتركه المعتزلة من مؤلفات، لذلك نستطيع القول ان طريقة التآليف كانت مستعملة من قبل المعتزلة لنشر العقيدة الاسلامية. وبذلك تُعد من الطرائق التدريسية.
6 - ... طريقة الاملاء :
... وهذه الطريقة كانت تُستخدم من قبل العلماء والمشايخ في الاسلام ، وكذلك اعتمد المعتزلة على هذه الطريقة في ايصال المادة العلمية إلى المتعلمين، فتذكر لنا المصادر ان القاضي عبدالجبار قضى زماناً طويلاً في التدريس والاملاء.
7 - ... طريقة التعلم التعاوني:
... وهذه الطريقة تُعد فعالة ومهمة ومن الطرائق الحديثة وتتم بتقسيم المتعلمين على مجاميع ويتم تقسيم المادة على افراد هذه المجاميع ويكون التعلم هنا أجدى وأنفع . وقد تنبه المعتزلة قديماً إلى هذه الطريقة كما مر معنا وذلك بقولهم : الصبي عن الصبي أفهم ، فتُعد هذه التفاتة مبكرة إلى فكرة التعلم عن طريق المجاميع.
8 - ... طريقة التكرار أو الاعادة:
... وقد اشار اليها المعتزلة بوصفها من طرائق التعليم، فقد ذكروها في تعلم الطفل للغة والديهِ عن طريق التكرار والأعادة، وكذلك ذكروها عندما قالوا : ان اعادة النظر في الكتاب تمكن من استيعابه والوقوف على حدهِ.(1/61)
... من خلال ماتقدم يتضح ان المعتزلة اعتمدوا على طرائق تدريس متنوعة لايصال المادة العلمية إلى المتعلمين منها : طريقة الجدل ، طريقة الرسائل ، طريقة ارسال الدعاة ، طريقة اجراء التجارب، طريقة التاليف ، طريقة الاملاء، طريقة التعلم التعاوني، طريقة التكرار أو الأعادة .
سادساً: بعض الاراء أو المبادئ التربوية :
1 - ... رفض التقليد في المعرفة:
... رفض المعتزلة التقليد كطريق للمعرفة، لان التقليد كما يكون في الحق يكون في الباطل ، وكما يكون في الصحيح يكون في الفاسد، وكما يكون فيما ثبت بالدليل يكون فيما لا دليل عليه، فالتقليد، عندهم : ((ليس بطريق للعلم لان الباطل كالحق في ذلك )) ( القاضي، 1972 : 170) وهذا مبدأٌ مهم يجعل المتعلم يبحث عن المعرفة والمعلومة بنفسه وهذا ماتنادي به المدارس التربوية الحديثة كالمدرسة البراجماتية.
2 - ... التأكيد على الاستعداد العقلي عند المتعلم في عملية التعلم :
... وفي هذا الجانب يقول المعتزلة : (( ان الكتب لاتحيي الموتى، ولاتحول الأحمق عاقلاً، ولا البليد ذكياً، ولكن الطبيعة اذا كان فيها ادنى قبول . فالكتب تشحذ وتفتق ، وترهف ، وتشفي )) (الجاحظ، ج1، د.ت: 59) معنى ذلك ان الكتاب وحده لايؤدي إلى حصول عملية التعلم ألا اذا كان مقروناً بالاستعداد العقلي للتعلم ( الطبيعة) عند المتعلم.
3 - ... التأكيد على التخصص العلمي:
... لقد أكد المعتزلة على التخصص العلمي وعدم الانشغال بموضوعات اخرى واعطائها نفس الأهمية من المتابعة والدراسة، لان من شاء ان يعلم كل شيء فهو لاشك مريض يستحق العلاج لان هذا غير ممكن على وفق القابليات أو القدرات التي يمتلكها الانسان، معنى ذلك ان المرء يجب أن يختص ببعض الفنون يوسعها بحثاً واستقصاءاً حسب قدراته ، ثم يحيط علماً بالضروري من المعارف والفنون الاخرى أي ان يعرف كل شيء عن شيء ثم يعرف شيء عن كل شيء وهذا هو مفهوم الثقافة في وقتنا الحاضر اذ يقولون : (( فيكون عالماً بخواص(1/62)
ويكون غير غافل عن سائر مايجري فيه الناس ويخوضون فيه)) ( الجاحظ ،ج1، د.ت:60).
4 - ... الاهتمام بالعلم وتقديمه على العبادة:
... اعطى المعتزلة دوراً بارزاً للعلم في طروحاتهم الفكرية ولاسيما العلم النافع للانسان المفيد لحياتهِ ولبناء المجتمع بناءاً علمياً سليماً اذ يقولون : ان مثل هذا العلم ((يتفرغ للجدال فيه الشيوخ الجلة والكهول العلية، وحتى يختاروا النظر فيه على التسبيح والتهليل، وقراءة القرآن ، وطول الانتصاب في الصلاة ، وحتى يزعم أهله أنه فوق الحج والجهاد ، وفوق كل بر واجتهاد)) ( الجاحظ ، ج1، د.ت: 216، 217).
5 - ... تأكيدهم على انتقاء الالفاظ المستحسنة والمقبولة في عملية التعليم:
... معنى ذلك انهم أكدوا على المربي ان يختار الالفاظ التي تقرب المعنى لذهن المتعلم، وفي هذا المجال يقول عمرو بن عبيد عندما أجاب عن سؤال ما البلاغة؟ فقال : ((انها تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤنة على المستمعين ، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الاذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة)) (ابن قتيبة، ج2، 1930 : 171) . وهنا نلتمس عدة مبادئ تربوية منها :
أ- تربية ذوقية جمالية.
ب- شد انتباه المتعلمين لمادة الدرس بانتقاء الألفاظ المناسبة.
ج- تحقيق سرعة استجابة المتعلمين للمادة العلمية.
د- تهيئة اذهان المتعلمين لتقبل المادة العلمية وذلك بنفي الشواغل
عنهم.
هـ- ... الاعتماد على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لتحقيق ماتقدم.
... وبهذا نستطيع القول ان اراء المعتزلة هذهِ في ميدان الفكر التربوي تُعد نقطة سبق لهم في هذا الميدان.
6 - ... حرية الفكر :(1/63)
... لقد كان اغلب شيوخ الاعتزال يؤمنون بحرية التفكير وتعدد الاراء وتنوعها، فكانوا يدعون إلى حرية كل طائفة في اعتناق المذهب الذي تريد ويرون أن الهدف هو أجتماع الكلمة أذ يقولون : (( لا ان طائفة تلزم العدول عما اختارته من مذهب وعقيدة، واجتبته من نحلة، ضالة أو رشيدة، فالخلاف متقادم بين الجماعة ، لايرتفع إلى قيام الساعة )) ( بن عباد، د.ت : 93) . وكذلك يقولون : يجب ان لايكون ((اعتراض لذي مذهب على صاحبه بل كل فرقة تجتمع إلى زعمائها، وتذهب إلى مذاهبها وارائها.. ثم هذه المذاهب لا اجبار فيها، من شاء اختار منها ماشاء، سر ذلك صاحبه أم أساءه، والاختلاف فيها موروث على الايام، منقول على وجه الزمان )) ( بن عباد ، د.ت :184) . لذلك فسحوا المجال أمام العقل للبحث في أمور الحياة وأمور الدين واشترطوا لذلك توفر الحرية اذ قالوا : الحرية بالنسبة للعقل ، كالنور بالنسبة للعين ( ينظر : الراوي، 1984: 8) أي ان العقل اذا لم يتمتع بالحرية لم يكن متمكناً من الوصول إلى الحقيقة ، وحاجة العقل للحرية كحاجة العين للنور لكي ترى الاشياء بوضوح.
7 - ... ان العلم يحقق الفائدة والمنفعة للانسان :
... يرى المعتزلة ان من اوليات العلم وبديهياته ((اجتلاب النافع ودفع الضار ... ولو لا ذلك لكان طلب العلم جهلاً ))(القاضي ، ج2، 1968 : 532) لذلك نجد ان المعتزلة جعلوا طلب العلم والمعرفة واجباً على المكلف لتحقيق السعادة في دنياه وآخرته.
8 - ... التراكم المعرفي ودوره في نضوج المعرفة:(1/64)
... يرى المعتزلة ان المعارف تتغير نتيجة لتراكم خبرات المتعلم وقدرته على الاستفادة من هذه الخبرات فيقولون : ((فحال المعارف يتغير بانضمام المعارف بعضها إلى بعض )) (القاضي ، ج12 ، د.ت : 225) أي ان المتعلم هنا يقوم بعملية موائمة بين مايكون مخزوناً في الذاكرة وبين ماسيأتي من معارف وخبرات جديدة، وتأكيداً على هذا الامر قالوا : ان النظر يولد العلم او شيئا من حيز المعرفة (ينظر : القاضي، ج12، د.ت : 104).
9 - ... المعرفة حاجة تلح على المتعلم ناتجة عن الجهل:
... يرى المعتزلة ان الجهل أو الشك يسبب حاجة داخل المتعلم وان عدم اشباعها يؤدي إلى التوتر وضيق الصدر، لذلك ((يستروح العاقل إلى إزالته بطلب البصيرة والكشف )) (القاضي، ج15، د.ت :405) . ويحاول المتعلم ان يزيل التوتر بحصول العلم الضروري، أو بحصول اعتقادات وتقوم هذه الاعتقادات بدور الدواعي (أو الدافعية ) التي تدعوه إلى النظر والأستدلال (ينظر: القاضي، ج12، د.ت : 128).
10- ... أثر البيئة الاجتماعية على تربية الانسان:(1/65)
... تحدث المعتزلة عن اثر التعايش والتفاعل بين الاجناس المختلفة، وقالوا إن الاشتراك في اللغة والثقافة والولاء للحضارة الجديدة يولد اخلاقاً وشمائل جديدة ومتحدة، وان هذه الروابط تقوم مقام النسب والولادة من رحم واحدة فقد اشاروا إلى ذلك : ان العرب قد جعلت ((اسماعيل، وهو ابن اعجميين ، عربياً، لان الله فتق لهاته بالعربية المبينة، ثم فطره على الفصاحة، وسلخ طباعه من طبائع العجم. وسواه تلك التسوية، وصاغه تلك الصياغة، ثم حباه من طبائعهم ومنحه من اخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفهم وهممم على أكرمها، فكان أحق بذلك النسب وأولى بشرف ذلك الحسب ... وان العرب لما كانت واحدة فأستووا في التربية وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنف والحمية، وفي الاخلاق والسجية، فسبكوا سبكاً واحداً ، وكان القالب واحداً، تشابهت الاجزاء وتناسبت الاخلاط ، وحين صار ذلك أشد تشابهاً في باب الاعم والأخص ، وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب ، وصارت هذه الاسباب ولادة اخرى ، حتى تناكحوا عليها وتصاهروا من أجلها، وامتنعت عدنان قاطبة من مناكحة بني اسحق ، وهو أخو اسماعيل ، وجادوا بذلك في جميع الدهر لبني قحطان، وهو ابن عابر، ففي اجماع الفريقين على التناكح والمصاهرة ، ومنعها من ذلك جميع الامم كسرى فما دونه . دليل على أن النسب عندهم متفق، وأن هذه المعاني قد قامت عندهم مقام الولادة والارحام الماسة. وان الموالى بالعرب أشبه ، واليهم أقرب ، وبهم أمس، لان السنة جعلتهم منهم ... ان الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني، لانهم عرب في المدعى والعاقلة، وفي الوراثة. وهذا تأويل قول الرسول : ((مولى القوم منهم )) و ((مولى القوم من أنفسهم)) و ((الولاء لحمة كلحمة النسب))، وعلى شبيه ذلك صار حليف القوم منهم ، وحكمه حكمهم ..(1/66)
واذا عرف ذلك سامحت النفوس ، وذهب التعقيد ومات الضغن، وانقطع سبب الاشتغال ، ولم يبق الا التنافس)) ( الجاحظ، ج1، 1979: 29-31) . ويُقصد هنا بالتنافس الحر الشريف المبني على اساس مايمتلك الانسان من مؤهلات علمية ومعرفية وعقلية تؤهله لكي يتقدم على غيرهِ أو تؤخرهُ وليس التفاخر بالانساب والاحساب .
11 - ... محاربة الخرافات والشعوذة :
... المعتزلة هم اصحاب المنهج العقلي، ولهم جهود كبيرة في حرب الخرافة والشعوذة في المجتمع الاسلامي، فقد اسهموا اسهاماً عظيماً في اعلاء شأن العقل وتوجيه السهام إلى فكر الخرافة الذي شاع في المجتمع ... كما اسهموا ، بالتأليف والمناظرة، وفي أفحام المنجمين الذين راجت بضاعتهم على الخاصة والعامة في ذلك التاريخ (ينظر: القاضي، ج2، 1968 : 538-539).
12 - ... مبدأ النقد الذاتي:
... يرى شيوخ المعتزلة ان الخلاف في الفروع ليس بمستكره ، أي ان الاختلافات الفكرية بين المعتزلة لاتعني شيئاً ، لان مخالفة التابع للمتبوع في دقيق الكلام ليس بمستنكر ، لذلك كان الكعبي مثلاً ينتقد استاذه الخياط وربما يخالفه (ينظر : القاضي، 1972 : 102) . معنى ذلك ان المعتزلة تربي طلابها على مبدأ النقد الذاتي للأفكار الاعتزالية ، وهذا ينسجم مع فكرة التطور والتحديث في الافكار وعدم الجمود والوقوف امام ما أنتجه الأسلاف وكأنه شيء مقدس لايأتيه الباطل ، وهذهِ تُعد التفاتة قيمة في ميدان الفكر التربوي ، وبذلك سبق المعتزلة في هذا المضمار المدارس التربوية الغربية بمئات السنين في اشاعة هذا المبدأ عند المتعلمين.(1/67)
المبحث الثاني
الرؤية الفكرية للاشاعرة
في
1- ( الله) .
2- العالم ( الكون) .
3- الطبيعة الأنسانية.
4- نظرية المعرفة.
5- الفكر التربوي .
1- ... (اللّه) :
... من اهم المسائل التي طرحها الأشاعرة اثبات وجود الخالق - سبحانه وتعالى - . والذي يطلع على التراث الذي خلفوه يجد انهم مزجوا مابين العقل والنقل في اثبات وجود الخالق، ولعلهم قدموا النقل على العقل، فجاءت أدلتهم كلها مستقاة من القرآن الكريم مبنية على تصور العقل . وقدموا أدلة متعددة منها :
أ- الدليل الذي يذكره ابو الحسن الأشعري على وجود الله يقوم على عجز الانسان عن تحول نفسه من النطفة إلى المضغة والمضغة إلى العلقة والعلقة إلى اللحم واللحم إلى العظم والدم، وكذلك عجزه عن تحويل نفسه (أي الانسان) من الطفولة إلى الشباب ومن الشباب إلى الكبر. ومن الواضح ان الاشعري في دليله هذا قد اعتمد على الآيات القرآنية التالية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ( - )ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ( - )ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون : 12-14).
ومن ثم نجده يمزج هذا الدليل بدليل عقلي استدلالي بالرد على من ادعى ان النطفة قديمة، فيقول : فأن قالوا: فما يؤمنكم ان تكون النطفة لم تزل قديمة ؟ قيل لهم : لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز يلحقها الاعتماد والتأثير ولا الانقلاب والتغيير، لان القديم لايجوز انتقاله وتغيره، وان تجري عليه سمات الحدث ومالم يسبق المحدث، كان محدثاً مصنوعاً فبطل بذلك قدم النطفة وغيرها من الاجسام (الاشعري، 1975 : 12).(1/1)
ب- اما الدليل الذي يقدمه ابو بكر الباقلاني فيقوم على فكرة ( الصنع ) ومضمونه : كل ماهو مُحدث فله مُحدِث بالضرورة، فالكتابة لابد لها من كاتب والصورة لابد لها من مصور، والبناء لابد له من بان، فوجب ان تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ( ينظر: الباقلاني، 1957 : 23)، وهذا الدليل يرتكز في معناه على الآيات القرآنية التي كثيراً ما لفتت أنظار الناس إلى التأمل في ملكوت السموات والأرض ومايجري فيهما بأتقان واحكام ونظام دقيق لكي يهتدوا بذلك إلى الايمان بخالق ومبدع هذا الكون، وفي هذا الصدد يذكر لنا الكتاب العزيز : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (البقرة : 164).
ج- والدليل الآخر الذي يقدمه الباقلاني : يبنى على فكرة وجود نظام وترتيب في الموجودات ، ولايمكن ان يقع هذا الترتيب والنظام بين الامور المتجانسة ألا بمرتب ومنظم : وفي هذا المعنى يقول الباقلاني : (( ان علمنا بتقدم بعض الحوادث على بعض وتأخر بعضها عن بعض ، مع العلم بتجانسها، ولا يجوز ان يكون المتقدم منها متقدماً لنفسه وجنسه لانه لو تقدم لنفسه لوجب تقدم كل ماهو من جنسه. وكذلك لو تأخر المتأخر. وفي العلم بان المتقدم من المتماثلات لم يكن بالتقدم اولى منه بالتأخر منها لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم اولى منه بالتأخر دليل على ان له مقدماً قدمه وجعله في الوجود مقصوراً على مشيئته)) ( بدوي، ج1، 1983: 603).
د- وقد قدم الجويني ادلة متعددة لاثبات وجود الله - سبحانه وتعالى - منها :(1/2)
دليل الصنع والاحداث :
... يستدل الجويني على وجود الله بدليل الصنع والاحداث كما يفعل المتكلمون جميعاً، فالدليل على أن العالم له صانع، انه قد صح حدوث العالم فالحادث جائز الوجود، اذ يجوز تقدير وجوده بدلاً عن عدمه، ويجوز تقدير عدمه بدلاً عن وجوده، فلما اختص بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز افتقر إلى مخصص وهو الصانع تعالى (الجويني، 1965 : 80-81) . والجويني اعتمد على فكرة الممكن عند الفلاسفة المشائين ليستدل بها على حدوث العالم (شرف، 1989 : 399) . لكنه عارضهم في الاحاطة بطبيعة هذا الصانع فيذهب إلى استحالة، كون مخصص العالم الطبيعة كما صار اليه الطبائعيون، ويستحيل ان يكون علة موجبة كما صار اليه الاوائل ، لان تلك الطبيعة لاتخلو : أما أن تكون قديمة أو حادثة. فأن كانت قديمة، لزم قدم حدوثها، فأن الطبيعة عند مثبتها لا اختيار لها، وهي موجبة أثارها عند ارتفاع الموانع وقد صح حدوثها. فأن كانت ( الطبيعة) حادثة، افتقرت إلى طبيعة اخرى، ثم الكلام في تلك الطبيعة ، كالكلام في هذه الطبيعة . وينساق هذا القول إلى اثبات حوادث لا أول لها ، وقد تبين بطلان ذلك فوضح بذلك ان مخصص العالم: صانع ، مختار ، موصوف بالاقتدار والاختيار
( الجويني ، 1965: 81).
دليل التمانع :
... ويعتمد الجويني في دليله هذا على صفة ثبوتية لله تعالى وهي الواحدية أي انه واحد اذ يقول : صانع العالم واحد عند اهل الحق والواحد الحقيقي: هو الشيء الذي لاينقسم ، والدليل على وحدانية الأله : أنا قدرنا الهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين وقدرنا أرادة أحداهما لاحد الضدين وارادة الثاني للثاني فلا يخلو من أمور ثلاث:-
... أما ان تنفذ أرادتهما
... أولا تنفذ أرادتهما
... أو تنفذ اراداة احدهما من دون الآخر(1/3)
... واستحال أن تنفذ أرادتهما، لاستحالة أجتماع الضدين . وأستحال ايضاً ألا تنفذ أرادتهما لتمانع الالهين، وخلو المحل عن كلا الضدين فاذا بطل القسمان تعين الثالث : وهو ان تنفذ ارادة احدهما ، من دون الاخر، فالذي لاتنفذ ارادته فهو المغلوب المقهور المستكره. والذي نفذت ارادته فهو الاله القادر على تحصيل مايشاء، وهذا مضمون قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الانبياء: 22) (الجويني ، 1950 : 53).
دليل التفرد بالخلق :
... ويقصد الجويني بذلك ان : ((الرب سبحانه متفرد بخلق المخلوقات، فلا خالق سواه ، ولامبدع غيره، وكل حادث فالله تعالى محدثه))
(الجويني،1965 : 106) ويستمد الجويني هذا الدليل من القرآن الكريم مثل قوله تعالى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } (النحل : 17) .
وخلاصة القول : ان الله - سبحانه وتعالى - عند الاشاعرة موجود، وهو مدبر هذا الكون وصانعه ومحدثه بقدرتهِ الازلية القديمة وان سمة الترتيب والتنظيم في هذا الكون راجعةً إلى وجود منظم لهذا الكون وهو الله - سبحانه وتعالى - .
2 - ... العالم ( الكون ) :
... يعّرف الاشاعرة العالم بانه عبارة عن كل ماسوى الله تعالى ( ينظر: الجويني ، 1965 :76) . معنى ذلك أنه كل ماخلق الله - سبحانه وتعالى - من سماوات ومافيها ومن أرض وبحار وماتحتوي عليها ، وقد قدموا أدلة متعددةً لاثبات حدوث هذا العالم، وكان قصدهم من ذلك اثبات مُحدِث لهذا العالم وهو الله العلي القدير الحكيم الصانع المدبر القديم، ومن هذه الأدلة:(1/4)
أ- تغير هذا العالم من حال إلى حال ومن صفة إلى صفة وماكان هذا سبيله ووصفه كان محدثاً (ينظر : رمضان ، 1986 : 361) ، وقد اعتمد الاشاعرة على القرآن الكريم لتوضيح هذا الدليل ، أو في الأصح أنهم استقوا دليلهم هذا من القرآن الكريم، فالاشعري اعتمد على الآيات القرآنية التي تصف تغير الانسان عبر مراحل حياته وان هذا التغير يحدث بعلة فاعلة أزلية، أما الباقلاني فانه يعتمد على الآيات القرآنية التي تخص تغير الموجودات وتحولها من حالة إلى حالة (ينظر: رمضان ، 1986 : 360-361) .
ب- تقسيم العالم إلى جواهر وأعراض (ينظر: الجويني، 1965: 76) ، فقالوا: ان الجوهر : هو مايقبل العرض لصفة هو في نفسه عليها (محمود، 1970: 167) ، أما العرض فقالوا فيه : هو مايطرأ على الجوهر من تغير، كالالوان والطعوم والروائح والعلوم والقدر والارادات الحادثة واضدادها والحياة والموت ( ينظر : الجويني ، 1965 : 77) . ويرى الاشاعرة ان العقل يحكم بداهة على ان الموجودات تنقسم على قسمين : ماليس له اول ومفتتح وهو الله تعالى، وماله اول ومفتتح وهو الموجود الحادث، هذا الموجود الحادث ينقسم قسمة بديهية على جوهر وعرض . وبناءاً على ذلك يكون كل موجود سوى الله تعالى هو الجواهر والأعراض ( ينظر : محمود ، 1970 : 159).
اذن الاشاعرة قد صرحوا بتقسيم الموجود العيني (المشاهد) إلى موجودين هما : الجوهر والعرض، وهذا يدل على سمو العقلية الفلسفية لديهم،
ويدل على ان الغرض من هذه القسمة هو التوصل إلى إثبات حدوث هذا العالم.
ج- ان كل ماسوى الله ممكن لذاته : يقول الاشاعرة : (( ان الموجود اما واجب لذاته، واما ممكن لذاته، وثبت ان الواجب لذاته واحد فثبت ان ماسواه ممكن لذاته، وثبت أن الممكن لذاته لايوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته. وأذا كان الأمر كذلك كان تعالى رباً لكل شيء)) ( الرازي، ج14، د.ت : 12).(1/5)
... وبناءاً على ذلك يثبت ان كل ماسوى الله ممكن لذاته، أي محتاجاً في وجوده إلى ايجاد الواجب لذاته، وايضاً يثبت أن الممكن حال بقائهِ لايستغني عن المبقي وهو الله تعالى . الذي اخرج الممكنات من العدم إلى الوجود ، وهو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها (ينظر: الرازي، ج1، د.ت : 229).
... فأذن الله تعالى هو الذي اخرج كل شيء من العدم إلى الوجود، وان الممكن لذاته لايوجد الا إذا أنعم عليه الواجب بالوجود . ولاشك ان مكونات العالم ممكنة فهي غير قديمة، لان الله هو الذي اعطاها الوجود بعد ان كانت معدومة ، والاشاعرة هنا قصدهم من اثبات وجود العالم وحدوثه وهو اثبات مُحدِث لهذا العالم وهو الله - عز وجل - ، معنى ذلك أنهم أرادوا قياس الغائب على الشاهد في مسألة الوجود.
3 - ... الطبيعة الانسانية :
... جاء رأي الاشاعرة في مكونات الطبيعة الانسانية كالاتي :
أ - ... الجسد :
... يتحدث الاشاعرة عن عملية الخلق الانساني ، فنجد إنهم يذكرون الجانب المادي في هذه العملية : فيقولون في تفسيرهم للآية الكريمة { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (الحجر : 29) ، ان التسوية هي العملية التي تقع على المادة فتجعلها صالحة لتقبل الروح، فالتسوية هي فعل الله في المحل القابل (الطين) للروح في حق آدم - عليه السلام - ، أما النطفة في حق أولادهِ، فتتم بالتصفية، وذلك بعد تركيب الطين الكثيف من تردد في اطوار الخلقة حتى يصير نباتاً فيأكله الآدمي، فيصير دماً فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان صفوة الدم الذي هو أقرب إلى الأعتدال فيصير نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها في المرأة، فتزداد عند ذلك اعتدالاً ثم ينضجها الرحم بحرارته فتزداد تناسباً في الصفاء واستواء نسبة الاجزاء إلى الغاية التي تكون عندها مستعدة لقبول الروح ( الغزالي، د.ت: 148).(1/6)
... ويقولون في تأكيدهم على الجانب المادي في الطبيعة الانسانية : (( اعلم ان جسد الانسان مخلوق من المني ودم الطمث ، وهما جوهران حاران رطبان، فبدن الانسان مادام يكون حاراً ورطباً والحرارة اذا عملت في الرطوبة أصعدت عنها الحرارة بسبب تصاعد تلك الاجزاء البخارية عن ذلك الجوهر، فبسبب ذلك يقع فيه الذبول والانحلال ، فدبر الخالق الحكيم في تدارك ذلك فأودع فيه القوة الغاذية حتى انها تورد من اجزاء الغذاء مايقوم بدل تلك الاجزاء المنحلة)) ( الرازي، 1948: 75). ثم يتحدثون عن حاجة الجسد إلى مزيد من القوى لكي ينمو ويبقى على قيد الحياة اذ يقولون : (( لابد من وجود قوة جاذبة للغذاء وقوة ماسكة له لتبقى تلك الاجزاء المجذوبة، ومن قوة يتصرف فيها ويحللها إلى موافقة بدل المغتذي، ومن قوة دافعة لتدفع الاجزاء الفضلية التي هي غير ملائمة لبدن المغتذي )) ( الرازي، 1948: 75).
... وكذلك يذكرون ان هناك قوى مهمتها صيانة الجسد وحمايته ومن ثم تلبية طلباته والعمل على تحقيق هذه الطلبات اذ يقولون : أن ((هناك قوى مثل القوى المصورة والمولدة أو النافية وباقي القوة المنطبعة كلها خدام للجسم)) (الغزالي، 1970 : 101) . وفي كيفية عمل هذه القوى واداء دورها يقولون (ينظر: الغزالي، 1964 : 201) :
1- إن هناك قوى مهمتها الحث، ودورها هو العمل على جلب النافع المفيد كالشهوة ، أو دفع الضار المؤذي كالغضب.
2- وهناك قوى مهمتها التحريك ، وهي تعمل على تحريك الاعضاء لتحصيل المنافع ودفع المضار.
3- وهناك قوى مهمتها التعرف على الاشياء، وهي قوة البصر والسمع والذوق واللمس .
... وبأجتماع هذه القوى مع بعضها البعض يستطيع الجسد من اداء دوره في هذه الحياة .
... وبناءاً على ماتقدم نستطيع القول ان الاشاعرة اهتموا بالجانب المادي للطبيعة الانسانية وهو الجسد ولم يهملوه في معرض حديثهم عن الانسان.
ب - ... الروح او النفس :(1/7)
... يرى الاشاعرة ان الأنسان عالم صغير متكون من جسم وروح، وان الجسم مركب من المادة والصورة وهو خاضع لعوامل التغّير والفساد أما الروح فهي نور ألهي لاتتغير أو تفنى (الغزالي، ج8 ، د.ت : 1382) : والروح ليس بجسم ولاعرض ، بل هو جوهر ثابت دائم لايقبل الفساد ولايضمحل ولايفنى أو لايموت، بل يفارق البدن وينتظر العودة اليه ويتولد منه صلاح البدن وفساده
( الغزالي، 1968 : 83).
... وقد أعطى الاشاعرة للروح معاني مختلفة منها:
1- الروح الحيواني : جسم لطيف كأنه سراج مشتعل موضوع في زجاجة القلب ، والحياة ضوء السراج، وينبع من تجويف القلب، وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر اجزاء البدن، وهو الذي يفيض الحياة والحس والحركة والبصر والشم على أعضاء الجسم، كما يفيض ضوء السراج على اجزاء البيت ( الغزالي، ج8، د.ت : 1344).
2- الروح بمعنى النفس: ويراد بها حقيقة الآدمي وذاته فان نفس كل شيء حقيقته، وهو الجوهر الذي هو محل المعقولات ( الغزالي، 1980 : 15) وهي نفس الانسان وذاته ولها احوال مختلفة، فاذا سكنت وزال عنها الاضطراب سميت النفس المطمئنة كما في قوله تعالى : { يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( - )ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } (القمر : 27) ، وتسمى النفس اللوامة التي تلوم صاحبها عند تقصيره في العبادة كما في قوله تعالى : { وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } (القيامة: 2) ، والنفس الأمارة بالسوء ، وهي التي تطيع الشهوات ودواعي الشيطان (الغزالي،ج8، د.ت : 1345).(1/8)
3- الروح بمعنى النفس الناطقة، أو اللطيفة العالمة المدركة من الانسان (الغزالي،ج8،د.ت : 1345) . ويكون دورها في حياة الانسان مهماً فبواسطتها يبصر بالعين ويسمع بالآذن ويشم بالمنخرين ويذوق باللسان وينطق بالفم ويمسك باليدين ويعمل الصنايع بالاصابع، ويمشي بالرجلين، ويبرك بالركبتين ، ويقعد على الاليتين، وينام على الجنبين، ويستند بالظهر، ويحمل الاثقال على الكتفين، ويتخيل بمقدم الدماغ ، ويفكر بوسط الدماغ ويتذكر بمؤخر الدماغ، ويصوت بالحنجرة ، ويستنشق بالخيشوم، ويمضغ بالاسنان، ويبتلع بالمريء ، والمقصود في كل هذه الالات والادوات ان يتحلى بالعلم (الرازي، 1948: 83).
... وقد قسم الاشاعرة النفس على ثلاثة أقسام:
- النفس النباتية : وهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي من جهة ما يغتدي وينمو ويولد.
- النفس الحيوانية: وهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي من جهة مايدرك الجزئيات ويتحرك بالارادة.
- النفس الانسانية : وهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي من جهة مايفعل الأفاعيل بالاختيار العقلي والاستنباط بالرأي ( ينظر : الرازي، 1948 : 75-77).
... اما قوى النفس فقد قسموها على :
- قوى نباتية : وهي القدرة على الاغتذاء والنمو والتوليد ( ينظر: الرازي، 1948: 75) . وهذه يشترك فيها النبات والحيوان والانسان.
- قوى حيوانية: وهي القدرة على الحركة والفعل والادراك (ينظر: الغزالي، ج8 ، د.ت : 1461) . وهذه القوى يشترك فيها الحيوان والانسان.
- قوى انسانية: وهي القدرة على الاختيار مابين الاشياء والاجتهاد والاستنباط ( ينظر: الغزالي، 1980 : 50-56) . وهذه القوى يختص فيها الانسان.(1/9)
... مما سبق يبدو ان نظرة الاشاعرة للروح أو النفس متأثرة بالقرآن الكريم ، أما تقسيماتهم للنفس وقواها فقد جاءت متأثرة بالفلسفة وتقسيماتها للنفس والروح عند الاشاعرة هي التي تفيض الحياة على الجسد ، اما النفس وقواها فمهمتها المحافظة على سلامة الجسد وديمومته في الحياة ، وان الجسد مصدره المادة أما الروح فهي جوهر آلهي ، وبالتقائهما تتكون الحياة الواقعية ، أي ان الجسد بدون الروح لافائدة منه، والروح من غير الجسد لايمكن الاستدلال عليها.
ج - ... العقل :
... ان العقل عند الاشاعرة منبع العلم ، ومطلعه واساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس ، والرؤية من العين (الغزالي،ج1،د.ت : 82) . وقد اطلقت تسميات كثيرة على العقل وأعطي تعاريف عدة فسموه : فكراً وذهناً ونفساً وروحاً وقلباً وضميراً وشعوراً، وهذه الالفاظ وان تعددت لكنها تدل على أمر مشترك وهو الفارق بين الانسان المدرك المميز وبين المجنون أو الحيوان الأعجم أو الطفل الرضيع وهو يشبه نوراً يسطع على حياتنا الباطنة فيضيئها (البهلوان، د.ت : 173) .(1/10)
... ويقولون : ان العقل قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الامور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب ، وقد يطلق ويراد به المدرك للعلوم ، كما في الحديث النبوي الشريف : (( اول ماخلق الله العقل، قال له اقبل فأقبل ثم قال له ادبر، فأدبر، قال الله - عز وجل - : وعزتي وجلالي ماخلقت خلقاً اكرم علي منك بك آخذ، وبك اعطي، وبك اثيب، وبك أعاقب )) (الغزالي، ج1، د.ت: 183) . ولذلك يقولون: ((اول مراتب الخلق هو العقل )) ( الرازي، ج2، د.ت: 284) . وهم يعدون العقل قوة من قوى النفس اذ يقولون : ((ان النفس الانسانية مختصة بقوة اخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الاشياء كما هي ، وهي التي يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه، وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ، ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي)) ( الرازي،ج1،د.ت : 284).
... وكذلك قال الاشاعرة في العقل بأنه مناط التكليف ، وفسروا مناط التكليف بأنه العلم ببعض الضروريات (ينظر: الايجي، د.ت : 146) . وعرفوا العقل بأنه: ((علم ضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأستحالة كون الشيء الواحد قديماً وحديثاً)) (الاعسم ، 1984 : 283) . وقالوا ان العقل: صفة غريزية يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الالات ( الرازي، 1984 : 78) . وهنا يقصدون بالعقل بأنه مجموعة من العلوم والمعارف الضرورية التي تحصل عند الانسان نتيجة لاستعداده البايولوجي ولأحتكاكه في البيئة التي يعيش وسطها. وتعد هذه العلوم والمعارف الضرورية اساس للعلوم المكتسبة.(1/11)
... اذ يقولون : هناك تعقلات فطرية وتعقلات نظرية ، أما الاولى فواجبه الحصول عند سلامة الاحوال ، على الرغم من انها ليست من لوازم جوهر الانسان لأنه حال الطفولة لم يكن عالماً البتة. اما الأخرى فتكون مكتسبة نتيجة النظر والتفكر وتبنى على الاولى والثانية يعتريها الزيغ لذلك يحتاج الانسان إلى مرشد، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة ( ينظر: الرازي، ج23 ، د.ت : 228).
... فالعقل اذن عند الاشاعرة : نور فطري حبا الله به الانسان ليكون وسيلة للمعرفة، أي انه يضم بحكم فطرته علوماً لايقدر ان يصل اليها بمفرده، وهي مايسمى بالمعرفة الغريزية الفطرية والتي تكون اساس للعلوم النظرية المكتسبة (موسى، 1982 : 375-376).
... وخلاصة القول ان العقل ليس شيئاً مادياً محسوساً بل هو قوة من قوى النفس يمتلكها الانسان وعند امتلاكها لايستطيع الانسان ألاّ ان يعلم مجموعة اشياء أو علوم تعد ضرورية، ومن خلال هذه القوة تميز بين الانسان العاقل والمجنون، والبالغ والرضيع.
د - ... التكامل بين الجسد والروح والعقل :
... لم يُهمل شيوخ الاشاعرة مسألة التكامل بين مكونات الطبيعة الانسانية، فقد تحدثوا عن الانسان قائلين : (( اعلم ان الانسان جوهر مركب من النفس والبدن ، فالنفس الانسانية اشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي، وبدنه اشرف الاجسام الموجودة في العالم السفلي ، وتقرير هذه الفضيلة في النفس الانسانية هي ان النفس النباتية قواها الاصلية ثلاث : وهي الاغتذاء والنمو والتوليد ، والنفس الحيوانية لها قوتان: الحاسة سواء أكانت ظاهرة أم باطنة والحركة والاختيار ، فهذه القوى الخمس أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس الانسانية ، ثم ان النفس الانسانية مختصة بقوة اخرى هي القوة العاقلة)) (الرازي،ج1،د.ت: 284).(1/12)
... وقد أكدوا على وحدة النفس وتعاون وظائفها بقولهم : ان هناك في النفس البشرية قوى متعددة وهذه القوى تدعو إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية، أي انها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية، وأما العقل فهو قوة واحدة وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله وطلب السعادات الروحانية، اذ ان استيلاء هذه القوى المتعددة اكمل من استيلاء القوة الواحدة، ولاسيما ان هذه القوى المتعددة تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفاً، وهي من بعد قوتها من الصعب جعلها ضعيفة ( الرازي،ج14 ، د.ت: 43) . لذلك قالوا في تأديب هذه القوى وتهذيبها وتربيتها وتعليمها: ان القوى العقلية لايحتاج الانسان إلى تأديبها وتهذيبها لانها من جواهر الملائكة ومن نتائج الارواح القدسية العلوية، وانما المحتاج إلى التهذيب تلك القوى المتمثلة في القوى الشهوانية البهيمية التي ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية، وكذلك تحتاج القوة الغضبية إلى التهذيب لانها تسعى ابداً في ايصال الشر والبلاء والايذاء إلى سائر الناس (الرازي ، ج20، د.ت: 104).
... أما لتأكيد العلاقة مابين الجسد والنفس قالوا : (( ان كل عضو من اعضاء البدن، فهو آلة النفس بحسب فعل خاص من أفعالها، فآلة النفس في الإبصار هي العين ، وفي السماع هي الاذن وفي النطق هي اللسان))
(الرازي، 1948 : 78).
... أما طبيعة هذه العلاقة بين الجسد والنفس ومن منهما تابع للآخر فقالوا : ان البدن كالمدينة والنفس الناطقة كالملك والحواس الظاهرة والباطنة كالجنود والاعضاء كالرعية ، والشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في اهلاك رعيته، فإن قصد الملك قهر ذلك العدو استقامت المملكة، وان لم يقهره اختلت مملكته وضاعت وصار عاقبة امره الهلاك (الرازي، 1948 : 81).
... وخلاصة القول : ان نظرة الاشاعرة إلى ان العلاقة مابين الجسد والروح والعقل نظرة شاملة، وبالتالي فأن الشخصية الانسانية هي نتيجة التفاعل(1/13)
والتعاضد مابين هذه المكونات، اذ ان الروح هي التي تفيض الحياة على الجسد، وان قوى النفس سواء أكانت نباتية أم حيوانية أم انسانية ، فأن مهمتها حماية الجسد واعطائه القدرة على الاستمرار في الحياة، معنى ذلك ان هناك تكاملاً مابين الجسد والروح والعقل، أذ من غير الممكن ان تكون الحياة مستمرة وطبيعية وسليمة بفقد أي منهما.
هـ- ... الخير والشر :
... ان اقوال الاشاعرة في هذه المسألة تبدو مرتبكة للوهلة الأولى، وان هناك تضارباً في الاقوال، فنجد انهم يؤكدون ان الخير موروث وان الشر موروث اذ يقولون : ان الارواح قسمان: منها ماتكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. ومنها ماتكون في أصل
جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية والاخلاق الفاضلة
(الرازي، ج14 ، د.ت : 144).(1/14)
... وتحدثوا عن الميول داخل النفس الانسانية وقالوا : أنها مختلفة ومتعددة وان هذا الاختلاف جوهري ذاتي لايمكن ازالته ولاتبديله، فمنها ماتكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة ، متباعدة عن احوال الغضب ، ومنها ماتكون شديدة الميل إلى امضاء الغضب وتكون متباعدة عن اعمال الشهوة ومن النفوس ماتكون عظيمة الرغبة في المال دون الجاه ومنها ماتكون عكس ذلك ... ولهذا امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة إلى افعال الفجور ان تصير نفساً مشرقة بالمعارف الالهية والأخلاق الفاضلة (الرازي، ج14 ، د.ت : 145) . وهذا الرأي يتقاطع مع مهمة ودور التربية والتنشئة بتأثيرهما على الانسان لكننا نجد رأياً اخر للاشاعرة اكثر قبولا من السابق يذهبون فيه إلى ان هناك اثراً للتربية والتهذيب على اخلاق الانسان ودوافعه وغرائزه ، اذ يقولون : ان التطبع قد يقلل من غلواء الطبع، وان يعجز عن اقتلاع الطبع نفسه . وقد عبروا عن هذا المعنى بقولهم: ان مفعول المجاهدة والتخلق يمس الظواهر الخارجية للخلق ، اما الخلق ذاته فمن المستحيل تبديله: فالجبان مثلاً يستطيع بالمران ان يقضي على مظاهر الجبن كالرعدة ومحاولة الهرب ، ولكنه لايقدر على محو جوهر الجبن من نفسه ، فقد يبدو ثابت الجأش قوي الجنان بينما قبله بتقطع رعباً (الرازي، ج1، د.ت : 155) .
... وهناك رأي اخر للاشاعرة يذهبون فيه إلى ان الفطرة الانسانية خلقت محايدة لاخيرة ولاشريرة، ولكن البيئة التي يعيش وسطها الانسان هي التي تؤثر عليه وتصقل شخصيته وتوجهها الوجهة التي ترضاها، اذ يقولون : (( واذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه والى القبائح ، فكيف لاتستلذ الحق. وقد وردت اليه والتزمت المواظبة عليه، بل ميل النفوس إلى هذه الامور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى اكل الطين فأما ميله إلى الحكمة وحب الله ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فأنه مقتضى طبع(1/15)
القلب، لأنه أمر رباني وميله إلى السوء ومقتضيات الشهوة غريب ))
( الغزالي، ج9، د.ت : 1552) . أي ان الانسان يمتلك الاستعداد لتقبل الخير وتقبل الشر بنفس المقدار مع ان الخير أقرب إلى فطرته. لذلك قالوا : ((ان الفطرة الانسانية قابلة لكل شيء، فالخير يكتسب بالتربية وكذلك الشر )) (طوقان، د.ت: 74) . وكذلك لتأكيد أثر التربية والارشاد والتوجيه قالوا: (( ان النفس الناطقة خلقت في مبدأ الفطرة خالية عن العقائد والاخلاق، واستماع الكلام ممن يعظم الاعتقاد في صدقه يوجب ان يجعل الاعتقاد في حسن ذلك الشيء .. فاذا تكرر التحسين طول عمره ، فقد تكرر ذلك الموجب)) (الرازي، ج2، د.ت: 176-177) . وقالوا ايضاً لتأكيد دور التربية والبيئة في اخلاق الانسان وانه يولد مزود بالاستعداد والقدرة على تعلم الخير أو الشر : ((ان الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً وانما ابواه يميلان به إلى أحد الجانبين)) ( الغزالي، ج3، د.ت: 374) . ولعل رأي الاشاعرة هذا هو الذي يتفق مع وجهة النظر الاسلامية الصحيحة المرتكزة على القرآن الكريم والسنة المطهرة.
... من خلال ماتقدم يتضح : ان اراء الاشاعرة في اصل الفطرة الانسانية كانت متأثرة بالأفكار والطروحات السائدة في عصرهم، لذلك جاءت متنوعة ومتعددة. والباحث هنا يرى ان الرأي الذي يتفق مع المنهج الذي استعمله الاشاعرة لنشر افكارهم ومبادئهم من خلال حلقاتهم العلمية ومناقشتهم لخصومهم ومن خلال الكتب التي الفوها ، هو الرأي الثالث الذي يرى ان الطبيعة الانسانية محايدة لاخيرة ولا شريرة ، فضلاً عن ان هذا الرأي يتفق مع المنهج القرآني والسنة النبوية في النظر إلى الطبيعة الانسانية.
و - ... مبدأ التخيير والتسيير :(1/16)
... لقد جاء رأي الاشاعرة في هذا الامر وسطاً بين رأي الجهمية القائلين بالجبر ، ورأي المعتزلة القائلين بالاختيار . فقد توسط الاشعري مابين الرأيين وجاء بمفهوم الكسب ، الذي أراد ان يحقق به مبدأ ان لاخالق ولامؤثر في الوجود الا الله تعالى، وهو بذلك يمنع إشراك العبد في صفة الخلق فقال : (( ان افعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله - سبحانه وتعالى - وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارٌ ، فاذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله ابداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير ان يكون هناك منه تأثير، او مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له )) ( الايجي، 890، د.ت : 145). والاشعري هنا يجعل الانسان كالظرف او المحل لوقوع الفعل ، وبالتالي يكون دور الانسان هنا سلبياً. ولكننا نجد ان هذا المفهوم تغير عند الاشاعرة المتأخرين.
... فقالوا : (( ان الافعال واقعة بالقدرتين، لكن لا على ان تؤثر في اصل الفعل ، بل على ان تؤثر القدرة القديمة في أصل الفعل وتؤثر القدرة الحادثة في وصفه ككونه طاعة أو معصية )) ( الايجي، ج8، د.ت : 147) . ويقصدون بالقدرة القديمة قدرة الله - سبحانه وتعالى - ، أما القدرة الحادثة فهي القدرة التي احدثها الله في العبد.(1/17)
... وأكدوا على ان ((أفعال العباد الأختيارية واقعة بمجموع القدرتين، قدرة الله تعالى وقدرة العبد)) (الايجي، ج8، د.ت : 146) . لذلك حاولوا أثبات القدرتين على فعلٍ واحد مع اختلاف وجه تعلقها فقالوا: (( لامانع ان يكون مقدوراً بين قادرين لأن وجه تعلق القدرتين بالفعل يختلف، فقدرة العبد تتعلق به كسباً، وقدرة الله تتعلق به خلقاً واختراعاً)) ( الغزالي، د.ت: 82-84) ، وهنا يجعل الاشاعرة لقدرة العبد تأثيراً في الفعل ، وعند ذلك قالوا : ((إنا لانقول ان العبد ليس بقادر ، بل نقول انه ليس خالقاً)) ( الرازي، 1982 : 68).
... من خلال ماتقدم يبدو ان الاشاعرة لايقولون بحرية الارادة حرية مطلقة، ولابعجزها العجز المطلق، أي ان الانسان عندهم تقع افعاله وتصرفاته تحت القدرة الآلهية أو المشيئة الالهية، فهو مسؤول عن افعاله وتصرفاته من جهة أنه مكتسب لها. وليس من جهة انه خالقها ومحدثها لأن الخالق عند الاشاعرة هو الله - سبحانه وتعالى - وحده ولايشركه احد في صفة الخالقية.
ز - ... الوراثة والبيئة :
... لم يهمل الاشاعرة تأثير كلٍ من الوراثة والبيئة على سلوك الانسان واخلاقه فقد جاءت نظرتهم في هذا الميدان متفقة مع الرأي الاسلامي العام وهو ان اخلاق وسلوك الانسان وشخصيته مزيج من اثر الوراثة والبيئة .(1/18)
... اذ يرى الاشاعره ان فطرة الانسان قابلة لكل شيء، لانها تخلو من أي شيء قبل عملية التربية والتهذيب والتوجيه، فهم يقولون : (( ان قلب الطفل جوهرة نفيسه ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش ومائل إلى كل مايمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر وأهمل اهمال البهائم شقي وهلك )) ( الغزالي ، ج8 ، د.ت :1353) . لذلك يقولون : ان الخير مكتسب والشر مكتسب وان السعادة والشقاء ناتجان عن كل ما تقدمه البيئة التي يعيش وسطها الانسان، فكل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه، وهذا نتيجة للتعلم والتنشئة والتربية (ينظر: الغزالي ، ج8 ، د.ت : 1353) والمقصود هنا بالفطرة هي الاستعدادات الوراثية التي يمتلكها كل انسان، وهي القابلية على اكتساب الاخلاق والاداب والافكار.
... ونتيجة لتبنيهم هذا الرأي فقد نظروا إلى اختلاف الناس في اخلاقهم وعقائدهم انما يعود إلى عاملين: هما الوراثة والتي اطلقوا عليها اسباب داخلية والبيئة والتي اطلقوا عليها اسباب خارجية أي تأثر الانسان بالمحيط الاجتماعي الذي يعيش وسطه (ينظر : الرازي ، ج2، د.ت : 176-177) . وبناءاً على ذلك فأن سلوك الانسان يكون نتيجة لتفاعل عاملي الوراثة (الفطرة) والبيئة (الاكتساب) وفي هذا المعنى يقولون : ((ان الاخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، وتارة باعتماد الافعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الافعال الجميلة ومصاحبتهم، وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاثة حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلّماً ، فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلّم منهم وتيسرت له أسباب الشر ، فهو في غاية البُعد عن الله - عز وجل - )) (الغزالي، ج8، د.ت: 1447) .(1/19)
... ونتيجة لذلك نجد انهم أكدوا على الجانب الارشادي والتأديبي والتربوي لتهذيب سلوك الانسان وبناء شخصيته بناءاً صحيحاً اذ يقولون : (( لو كانت الأخلاق لاتقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات)) ( الغزالي، ج8، د.ت: 1439).
... وخلاصة القول ان الاشاعرة يذهبون إلى ان سلوك الانسان هو نتيجة لتفاعل عاملي الوراثة والبيئة، وعلى الرغم من ذلك فقد أكدوا ان السلوك ممكن ان يتشكل على وفق البيئة التي يعيش وسطها الانسان لذلك نجد انهم أكدوا على التربية والتهذيب لأنهما يلعبان دوراً اساسياً في تشكيل سلوك الانسان.
ولعل رأي الاشاعرة هذا يتفق مع وجهة نظر علم النفس إلى تشكيل السلوك الأنساني .
ح - ... الفردية والاجتماعية :(1/20)
... بين الاشاعرة ان الانسان كائن أجتماعي الطبع ، وان هذهِ السمة تميزه عن كل انواع الحيوان اذ يقولون : (( ان هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها، لو تفرقت آراؤهم ، وتنافرت طباعهم تنافر الوحوش، لتبددوا وتباعدوا ، ولم ينتفع بعضهم ببعض، بل كانوا كالوحوش لايحويهم مكان واحد ولايجمعهم غرض واحد، فأنظر كيف ألف الله بين قلوبهم، وسلط الأنس والمحبة عليهم، ولاجل الألفة وتعارف الأرواح أجتمعوا وائتلفوا ، وبنوا المدن والبلاد ، ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة ، ورتبوا الاسواق والخانات وسائر اصناف البقاع مما يطول احصاؤه)) (الغزالي، ج12، د.ت : 2262). وواضح هنا ان الروح الاجتماعية في الانسان هي العامل المهم في بناء المجتمعات، ومن ثم هي الركيزة الاساسية لجعل المجتمع متحضر. وكذلك نجد انهم تحدثوا عن التخصصات المهنية وتعددها وان المجتمع يتكامل بناؤه وتطوره بتنوع المهن والحرف والاعمال التي يقوم بها ابناؤه اذ يقولون : في تقسيم الناس إلى فئات بحسب أعمالهم فمنهم النجارون والحدادون والجزارون وغيرهم وكذلك هناك الجنود الذين يقومون بالحراسة والولاة الذين يتولون شؤون الحكم .. إلى غير ذلك مما يحتاجه بناء المجتمع الانساني ( ينظر: الغزالي، ج9، د.ت : 1723).
... وعلى الرغم من حديثهم السابق عن المجتمع لكنهم مع ذلك لم يغضوا الطرف عن حاجات الانسان وحريته في هذه الدنيا وأن له كياناً خاصاً به، فقد تحدثوا عن الفردية الانسانية ونصيبها من الدنيا بقولهم : (( ان الدنيا عبارة عن اعيان موجودة للانسان فيها حظ وله في اصلاحها شغل، فالأرض فراش للادميين، ومهاد ومسكن ومستقر، وماعليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح)) ( الغزالي، ج9، د.ت : 1742-1743).(1/21)
... اما عن العلاقة بين الفرد والجماعة فقالوا ان هناك روابط اجتماعية تقوى لحسن الخلق وسموها الألفة التي هي ((ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحلي والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد)) ( الغزالي، ج8، د.ت : 924) . وقالوا ايضاً : ان العلاقات الاجتماعية تقوم على المنفعة المتبادلة مابين الفرد والجماعة، وأنه من الضروري ان تسود هذه العلاقات القيم والمبادئ الصحيحة لكي يتحقق المجتمع الفاضل (ينظر: الرازي، ج9 ، د.ت : 94-95).
... من ذلك يتضح : ان رأي الاشاعرة في هذا الأمر كان رأياً معتدلاً موازناً مابين فردية الانسان ومابين صفته الاجتماعية أي اجتماعية الانسان، فهم لم يسحقوا الفرد تحت نطاق المجتمع مثلما فعلت بعض المدارس الاشتراكية (1) ، ولم يعلوا من شأن الفرد إلى الحد الذي يجعله فوق المجتمع كما فعلت بعض المدارس الغربية (2) . معنى ذلك ان الفرد لايُسحق ضمن المجتمع ولافرديته تطغى فوق المجموع، لكن الفرد هو النواة الاساسية لبناء المجتمع، لذلك جاء الاهتمام بشخصية الفرد بما يتناسب ومكانته ضمن المجموع، كما جاء الاهتمام بالمجموع بما يحقق نمو الافراد جميعهم وكل حسب طاقته وعطائه.
خ - ... النوع في الطبيعة الأنسانية :
__________
(1) (*) ... المدارس الاشتراكية : كالمدرسة الماركسية التي غلبت جانب المجتمع إلى درجةٍ ان سحقت الفرد ضمن المجموع ، مما ادى إلى فشلها كمنهج في الحياة، كما في الشيوعية كمثال تطبيقي عليها.
(2) (*) ... المدارس الغربية: كالمدرسة البراجماتية: التي غلبت الفرد إلى درجة ان جعلت حريته ورغباته فوق الجميع، كما في الرأسمالية كمثال تطبيقي عليها
ومانراه من تفسخ في المجتمعات الغربية ماهو ألا دليل على نتائجها وفشلها كمنهج في الحياة.(1/22)
... لم يفرق الاشاعرة بين الذكر والأنثى، فقد اعترفوا بمكانتهما وقيمتهما في الحياة على السواء، لذلك اوجبوا على الرجل ان يحسن الخلق مع زوجته وان يتحمل الأذى منها اذ يقولون : (( انه ليس حسن الخلق مع المرأة كف الاذى عنها، بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها)) ( الغزالي، ج8، د.ت : 1525) . ونجد انهم ذهبوا إلى ابعد من ذلك فقد ارادوا ان ينظموا الحياة الزوجية فقد أوجبوا على الرجل امور منها : (( ان من أحب ان يكون مشفقاً على زوجته رحيماً بها، فليذكر ان المرأة لاتقدر أن تطلقه، وهو قادر على طلاقها متى شاء، وانها لاتقدر ان تأخذ شيئاً بغير إذنه، وهو قادر على ذلك وانها ما دامت في حياله لاتقدر على زوج سواه، وهو قادر على ان يتزوج عليها، وانه لايخافها وهي تخافه، وانها تقنع منه بطلاقة وجهه وبالكلام اللين وهو لايرضى بجميع افعالها)) (الغزالي، ج8، د.ت : 1526) . وكذلك اوجبوا على المرأة أمور منها : ان تكون قليلة الكلام مع جيرانها، وان لايكثر صعودها على سطح الدار، وان تحفظ زوجها في غيبته وحضرته ، ولاتخونه في نفسها ولافي ماله ، وان لاتخرج من بيتها إلا بأذن زوجها، وأن تكون متنظفة في نفسها وفي منزلها ( ينظر : الغزالي، ج8، د.ت : 1526).
... وبناءاً على ذلك نقول : إن الاشاعرة لم يفرقوا بين الذكر والانثى في نظرتهم إلى الطبيعة الانسانية ، فنجد انهم أهتموا بالمرأة ولم يهملوا دورها في حياة الرجل ومن ثم دورها في المجتمع ، لذلك جاءت طروحاتهم الفكرية بخصوص تنظم الحياة الزوجية وتوضيح حقوق وواجبات كلٍ من المرأة والرجل والاشاعرة بارائهم هذه قد سبقوا الغرب بمئات السنين.
4 - ... نظرية المعرفة عند الاشاعرة :
... سنتناول نظرية المعرفة عند الاشاعرة من خلال :
أ- تعريفهم للعلم والمعرفة.
ب- امكان العلم والمعرفة.
ج- اقسام العلم والمعرفة.
أ - ... تعريف الأشاعرة للعلم والمعرفة :(1/23)
... يعرف الاشاعرة العلم بأنه : ((صفة يصير بها الحي عالماً)) (البغدادي،1981: 5). وهذا التعريف كان رداً على كل من اجاز وجود العلم في الاموات والجمادات (البغدادي،1981: 5) وعرف بعضهم العلم بأنه : ((معرفة المعلوم على ماهو به ، وربما قال العلم هو المعرفة)) (الباقلاني ، 1957 : 6). والذي يلاحظ على هذا التعريف انه يمزج مابين العلم والمعرفة ويعدهما شيئاً واحداً ويؤكد هذا الشيء بقوله (( وقد ثبت أن كل علم تعلق بمعلوم، فأنه معرفة له وكل معرفة لمعلوم فأنها علم به )) ( الباقلاني ، 1957 : 6).
... وقد رد شيخ الاسلام الغزالي على التعريف السابق وقال بأنه غير سديد اذ يقول : (( لأنهما عبارتان عن معبر واحد ، ثم أن المعرفة خلاف العلم في اللغة، لأنها لاتتعدى الا إلى مفعول واحد ، بينما العلم يتعدى إلى مفعولين)) (الغزالي، د.ت : 39) . ورد الغزالي هذا يبين لنا ان الفكر الاشعري فكراً منفتحاً يقبل التجديد والتطوير والأبتكار، وهذا يُعد رأياً تربوياً متقدماً جداً ، وهو تشجيع المتعلمين على الجرأة الفكرية وطرح الجديد من الاراء.
... وقد عرّفوا العلم بأنه : (( تصور النفس الناطقة المطمئنة ، حقائق الاشياء وصورها المجردة عن المواد )) ( الغزالي، 1970 : 98) ، وبينوا أن العلم ليس بحاجة إلى تعريف، لأنه أوضح عندنا وفي نفوسنا من أن يعرف، ذلك لأن الانسان يعي ضرورةً حالة العلم التي هو عليها، اذ يقولون: أن كل واحد منا يعلم بالضرورة وجود نفسه، وأنه يعلم أنه ليس على السماء، ولا في لجة البحر ، والعلم الضروري بكونه عالماً بهذه الاشياء علم بأتصاف ذاته بهذه العلوم ... ولما كان العلم الضروري حاصلاً كان العلم بماهية العلم حاصلاً، وإذا كان ذلك كذلك كان تعريفه ممتنعاً (ينظر: الرازي، ج1، 1985: 282، 283).(1/24)
... اما المعرفة فقد قالوا فيها إنها : (( العلم الذي لايقبل الشك، اذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته)) (الغزالي، 1964 : 175) . وقالوا إن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الحاصلة بالبرهان الذي لاشك فيه ولايتصور الشك فيه، مثل العلم بأن الاثنين اكثر من الواحد (الغزالي، ج1، د.ت: 72-73).
صلة العلم بالمعرفة عند الاشاعرة :
... لقد ميز الاشاعرة بين العلم والمعرفة من وجوه :
1- ان المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني الجزئية في حين ان العلم أخص بالمعقولات والمعاني الكلية، ولهذا لايقال عن الله - سبحانه وتعالى - أنه يعرف أو انه عارف، بل ينبغي ان يقال بأنه يعلم او انه عالم (التوحيدي، 1929: 272).
2- ان المعرفة تعني ادراك الجزئيات، اما العلم فهو ادراك الكليات، وقيل ان المعرفة هي التصور (وهو أول مراتب العلم) ، أما العلم فهو التصديق، ولذلك تقول : عرفت الله ولاتقول علمته، لأن من شرط العلم أن يكون محيطاً بالمعلوم إحاطة تامة، ولذلك وصف الله تعالى نفسه في كتابه الكريم بالعلم لا بالمعرفة (ينظر: الرازي، ج2، 1985 : 223).
... وخلاصة القول . ان الاشاعرة اهتموا بالعلم بدراساتهم وأبحاثهم وافردوا له فصولاً خاصة من مؤلفاتهم، ولم يكتفوا بما وجدوه من مفاهيم تخص العلم ، وكذلك نجد انهم ميزوا مابين العلم والمعرفة، والملاحظ ان اراءَهم في هذا الموضوع تستند على ماجاء في القرآن الكريم، من آيات مباركة تخص العلم ولاسيما في مسألة صلة العلم والمعرفة.
ب - ... امكان العلم والمعرفة :(1/25)
... لقد رد مفكرو الأشاعرة على ادعاءات السوفسطائيين وشكوكهم في العلوم والمعارف وقد ذكر لنا التفتازاني وهو احد علماء الاشاعرة ومفكريهم المتآخرين ابرز الاتجاهات الرئيسة لهؤلاء السوفسطائيين اذ يقول : (( ان منهم من ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها أوهام وخيالات باطلة وهم العنادية، ومنهم من ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقاد حتى ان إعتقدنا الشيء جوهراً فجوهر أو عرضاً فعرض وهم العندية، ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء ولاثبوته ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهلم جراً وهم اللاأدرية)) ( التفتازاني، د.ت: 20-21). اما ردود الاشاعرة على هؤلاء فقد اتخذت اشكالاً منها :
1 - ... الامتناع عن مناظرتهم :
... وذلك لانهم لايعترفون بإمكان النظر العقلي في الوصول إلى معرفة حقيقية، والمعروف ان المناظرة تتضمن اعترافاً ضمنياً بالامكان المعرفي للنظر العقلي ، اذ يقولون : (( وإلا فالسوفسطائي كيف يناظر؟ ومناظرته في نفسه اعتراف بطريق النظر )) ( الغزالي، 1960: 241). وكذلك قالوا : والمناظرة معهم قد منعها المحققون لأنها تكون افادة للمجهول بالمعلوم، وبما ان الخصم لايعترف بمعلوم لاثبات مجهولٍ به ، فالاولى ان لايُناظر (الايجي، ج1، د.ت : 188).
2 - ... يجب معاملتهم بالضرب والتأديب :
... لقد اقترح الاشاعرة ان يُعامل السوفسطائيين بالضرب والتأديب وأخذ الاموال منهم لانكارهم المعارف (البغدادي ، 1981 : 6) . وربما جاء هذا الاقتراح في الرد على هؤلاء الشكاك من باب تصحيح فطرتهم حتى تعود إلى رشدها، ولذلك جاء التأكيد على الاعتماد على العقوبة بدل المحاججة العقلية لان هؤلاء الغوا عقولهم. حتى وصفوهم بأنهم مصابون ((بأفات تصيب
العقل ، فيجري مجرى الجنون، ولكن لايسمى جنوناً )) ( الغزالي، 1960 : 242).(1/26)
3 - ... جاء الرد على هؤلاء الشكاك في الدفاع عن إمكان العقل في تحصيل المعرفة، لذلك نجد ان مفكري الاشاعرة اجمعوا على ابطال التقليد وأيجاب النظر العقلي ( ينظر : الايجي، ج1، د.ت: 26) . وقالوا : ان على من يُنكر النظر العقلي يجب ان يأتي بدليل غير النظر لاثبات قولهِ اذ يقولون : (( مع ماليس لمن ينكر النظر على دفعه دليل سوى النظر، فدل ذلك على لزوم النظر فيما به دفعه)) ( الماتريدي، 1970 :10).
4 - ... جاء الرد عليهم في اثبات قدرة الحواس كأداة للمعرفة :
... لقد تنبه الاشاعرة إلى ان الشكاك اعتمدوا على حالات استثنائية وشاذة، فقد ترجع بعض حالات خداع الحواس إلى حالات مرضية، لذلك نجد أنهم أنتقدوا تعميم الشك في الحواس على تلك الحالات الخاصة قائلين إن : ((غلط الحس في بعض لأسباب جزئية لاينافي الجزم بالبعض بانتفاء اسباب الغلط)) (التفتازاني، د.ت: 22). وذهبوا إلى ابعد من ذلك اذ اكدوا على ان علم الحس لايختلف الا باختلاف احوال الحواس، فبالحاسة يعلم خلاف الحقيقة عند حدوث آفة شيء عرضي او معيق كالمرض – تمنع الحواس من الحصول على احساسات صحيحة (ينظر: التفتازاني، د.ت : 25-36).
... من خلال ماتقدم يتضح : ان الاشاعرة اثبتوا قدرة الانسان على المعرفة، وان العلم والمعرفة ممكنين للانسان بما زوده الله - سبحانه وتعالى - من آلات لتحصليهما وبناءاً عليه قالوا بتضليل نفاة العلم كالسوفسطائيين الذين ينفون العلم وينفون حقائق الاشياء.
ج - ... اقسام العلم والمعرفة :
... يقسم الاشاعرة العلوم على ضرورية ونظرية (مكتسبة) ، أي ان العلوم التي يحصلها الانسان اما ان تكون علوم ضرورية او ان تكون علوم نظرية:
1 - ... العلوم الضرورية :(1/27)
... وقالوا فيه ان العلم الضروري هو : (( علم يلزم نفس المخلوق لزوماً لايمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه ولايتهيأ له الشك في متعلقهِ ولا الأرتياب به )) ( الباقلاني، 1957 : 7). وينقسم هذا العلم على قسمين : أحدهما علم بديهي ، والثاني علم حسي ، والبديهي ينقسم على قسمين : احدهما علم بديهي في الاثبات كعلم العالم منا بوجود نفسه.. وغير ذلك ، وثانيهما علم بديهي في النفي كعلم العالم منا بأستحالة المحالات .. وأن شيئاً واحداً لايكون قديماً ومحدثاً في آن واحد .. وغير ذلك (البغدادي، 1981 : 9).
... واضافوا ايضاً ان العلم الضروري : هو العلم الذي لايدري الانسان من أين حصل وكيف حصل، كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لايكون في مكانين في آن واحد .. وغير ذلك، فان هذه العلوم يجد الانسان نفسه منذ الصبا مفطوراً عليها ولايدري متى حصل له هذا العلم ، ولامن إبن حصل له (الغزالي ، ج3، د.ت : 16).
... وقد أكدوا على صحة هذهِ العلوم وانها غير مشكوك فيها، وهي من خواص العقل ، أي أن بها نميز مابين الانسان العاقل والمجنون ثم بينوا أنها تنبني على عضو الحس لكنها غير صادرة عنه ولاسابقة عليه، اذ يقولون : ان العلوم الضرورية من خواص العقل إذ يحكم الإنسان بأن الشخص الواحد لايتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منه على كل شخص، ومعلوم أنه لم يدرك بالحس ألا بعض الاشخاص فحكمه على جميع الأشخاص زائدٌ على ما أدركه الحس (الغزالي، ج3 ، د.ت : 382) . أما الاعتراف بصحة ووضوح المعارف الضرورية الأولية أمر لايشك فيه إلا بزوال الذهن عن الفطرة السليمة (ينظر: الغزالي، 1960 : 247).
طرق العلوم الضرورية:
... يذهب الاشاعرة إلى ان العلوم الضرورية تأتي من ستة طرق:(1/28)
1- تأتي عن طريق الحواس الخمس: كالسمع والبصر والذوق والشم واللمس، وهذه تسمى العلوم الحسية وهي عندهم جزء من العلوم الضرورية اذ يقولون : ((فكل علم حصل عند ادراك حاسة من هذه الحواس – الخمس – فهو علم ضرورة يلزم نفس المخلوق لزوماً لايمكن معه الشك في المدرك ولا الارتباب به )) (الباقلاني، 1957 : 7).
والاشاعرة يذهبون إلى اننا بالحواس ندرك كل موجود ، اذ إن كل حاسة تختص بأدراك جنس أو أجناس، فحاسة السمع يدرك بها الكلام والأصوات، وحاسة البصر تدرك بها الألوان والاكوان والاجسام، وحاسة الشم تدرك بها الأراييح ، وحاسة الذوق تدرك بها الطعوم، وحاسة اللمس وكل عضو فيه حياة تدرك بها الحرارة والبرودة واللين والخشونة، والرخاوة والصلابة (البغدادي، 1981 : 9).
... وهم يميزون بين عضو الحس والاحساس اذ يقولون : ليس قصدنا من الحواس الأجسام المادية، بل قصدنا أن الحواس حقيقة هي الادراكات الكامنة في الاجسام المادية، وأما اطلاق الحواس على هذه الاجسام فعلى سبيل التجوز والأتساع (ينظر: الباقلاني، 1957 : 37).
... ويشترط الاشاعرة لحصول الاحساس الظاهر شروطاً هي القرب والمماسة اذ يقولون : (( فالحس لايدرك الاشياء إلا بمماسة أو بقرب منها، فالحس المعزول عن الادراك أن لم تكن مماسة ولاقرب ، فان الذوق واللمس يحتاجان إلى المماسة، والشم والسمع تحتاج إلى القرب، وكل موجود لايتصور فيه المماسة والقرب، فالحس معزول عن إدراكه في الحال )) ( الغزالي، د.ت : 45).(1/29)
2 - ... أما الطريق السادس: فهو ضرورة تخترع في النفس ابتداءاً من غير ان تكون موجودة في عضو الحس، وينقسم العلم بهذه الطريقة على : العلوم الاستبطانية كعلم الانسان بوجود نفسه، ومايجده فيها من الصحة والسقم واللذة والآلم ... والقدرة والعجز والارادة والكراهية ... وغير ذلك . والعلوم الفطرية أو المقولات المنطقية كالعلم بأن الضدين لايجتمعان، وان الاجسام لاتخلو من الأجتماع والافتراق. والعلوم التي تحصل عن طريق العادات او الاختبار، كالعلم بأن الثمر لايكون الا من شجر وان اللبن لايكون الا من ضرع. والعلوم التي تحصل بالنفوس عن طريق تواتر الاخبار، كالعلم الواقع عن اخبار المخبرين عن الصين وخراسان ... وعن ظهور موسى وعيسى ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وغير ذلك من الأخبار الحاصلة بالتواتر . فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس ،
وجدت هذه الحواس ومايوجد بها من الادراكات أو لم توجد (ينظر: الباقلاني، 1957 : 7-9).
... والعلوم الضرورية عند الاشاعرة تتميز : بأنها صحيحة ولاريب فيها ، ولايستطيع الانسان الانفكاك عنها ، لانها ليست من فعله بل من خلق الله مباشرة، وان هذه مستغنية عن النظر وبالتالي فهي غير واقعة تحت التكليف، اما العلوم التي تقع تحت التكليف فهي العلوم التي تحتاج إلى نظر واكتساب وهي العلوم الاكتسابية النظرية (ينظر : رمضان ، 1986 : 296-270).(1/30)
... وخلاصة القول : ان الاشاعرة يرون ان العلم الضروري يلازم الانسان منذ صباه أو طفولته ولا يستطيع الانسان ان لايعلم هذا العلم ، وكذلك يقسمون هذا العلم على اقسام حسب طرائقهِ أو مصادره، ومن ثم يُعد هذا العلم اساس للعلم النظري اذ يقولون : والعلوم الكسبية يمكن تحصيلها بواسطة العلوم البديهية ، أي انه لابد من سبق لهذه العلوم البديهية ، ويقولون : ان هذه العلوم البديهية لم تكن حاصلة قبل الولادة في نفس الانسان، لكنها حصلت بعد عدمها بفضل اعانة الحواس، أي ان وجود الحواس يكون احد الاسباب المؤدية إلى حضور ماهيات المحسوسات كما في حالة الطفل اذا رأى شيئاً مرة بعد أخرى فينقطع في مخيلته ماهية ذلك الشيء ( ينظر : الرازي ، ج2، د.ت : 89). وهذه تعد التفاتة من قبل الاشاعرة إلى تعلم المفاهيم والمصطلحات من قبل الاطفال ، والطفل
هنا لايجهد نفسه في تحصيل هذا العلم لانه لايدري من اين حصل ولاكيف
حصل.
ثانياً: العلوم النظرية :
... وهي العلوم التي تحصل بعد استدلال وتفكر ونظر وتسمى مكتسبة ، أي ان الانسان يكتسبها بعد عناء وجهد وبحث ، والاشاعرة يقولون في العلم النظري بأنه: (( علم يقع بعقب استدلال وتفكر في حال المنظور ، أو تذكر نظر فيه، فكل ما أحتاج من العلوم إلى تقدم الفكر والروية وتأمل في حال المعلوم فهو الموصوف بالعلم النظري )) (الباقلاني ، 1957 : 8).
... وقد ميزوا بين العلوم النظرية والعلوم الضرورية، اذ يقولون : والفرق بين العلمين : ((من جهة قدرة العالم على علمه المكتسب واستدلاله عليه ووقوع الضروري من غير استدلال منه ولاقدرة له عليه )) ( البغدادي، 1981 : 8) . وقالوا : ان من حكم العلوم النظرية جواز الرجوع عنها والتشكك في متعلقها (الباقلاني ، 1963 : 14) على العكس تماماً من العلوم الضرورية فأنه لايمكن الشك فيها ولا الارتياب بها (الباقلاني ، 1957 : 7).(1/31)
... ويشترط الاشاعرة لحصول العلوم النظرية وجود مرحلة وسطى بين العلوم الضرورية والعلوم النظرية لابد من أجتيازها وهي مرحلة النظر والاستدلال . وقد عرفوا الاستدلال بأنه : ((نظر القلب المطلوب به علم ماغاب عن الضرورة والحس)) ( الباقلاني ، 1963 : 14) . وقالوا : ان حصول المعرفة بعد النظر يكون بطريق (جري العادة) ، معنى ذلك ان الله - سبحانه وتعالى - جعل سننه تتكرر بحيث اذا نظر الانسان أو اذا تحققت شروط معرفته حصلت له هذه المعرفة (ينظر: الايجي، ج1، د.ت : 241).
... أما النظر فقد قالوا فيه : (( هو الفكر الذي يطلب به علم او غلبة ظن )) (الجويني ، 1950: 14) وقالوا في درك العلم وظيفتان ، أحداهما : احضار الأصلين في الذهن (أي البديهيات والمحسوسات) وهذا يمسى فكر، والثانية: تشوقك إلى التفطن لوجه لزوم المطلوب من ازدواج الاصلين وهذا يسمى طلباً (الغزالي، د.ت : 14) . وقالوا في النظر والفكر : ان النظر والفكر عبارة عن ترتيب مقدمات علمية أو ظنية ليتوصل بها إلى تحصيل علم أو غلبة ظن (الرازي، د.ت : 205-207).
حكم النظر :
... يرى الاشاعرة ان النظر المؤدي إلى معرفة الله واجب على كل مكلف وطريق وجوبه الشرع اذ يقولون : (( ان الواجبات كلها سمعية والعقل ليس يوجب شيئاً ولايقتضي تحسيناً وتقبيحاً فمعرفة الله تعالى بالعقل تحصل وبالسمع تجب )) (الشهرستاني، ج1، د.ت: 133) ويستدلون بقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (الاسراء: 15).
منهج الشك والنظر عند الاشاعرة :(1/32)
... أكد الاشاعرة على انه ((لايصح اسلام احد حتى يكون بعد بلوغه شاكاً غير مصدق)) (ابن حزم ، ج4 ، د.ت : 41). ولذلك جاء القول بهذا النوع من الشك عندهم مقترناً باتفاقهم على ابطال التقليد كطريق للمعرفة، وعلى ايجاب النظر العقلي والاستدلال ليكونا طريقاً لتقرير المواقف (ينظر: عبدالحميد، د.ت : 35). وبناءاً عليه نجد انهم قد اوجبوا الشك بوصفه منهجاً في النظر، اذ يقولون : ((فمن لم يشك لم ينظر ، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة)) (الغزالي، 1964 : 406) .
... والاشاعرة عدوا الشك اول درجة في المعرفة التي تتدرج عبر درجات متصاعدة لتبلغ القمة وهي اليقين وهذهِ الدرجات هي : الشك والظن، والاعتقاد واليقين، معنى ذلك ان الشك عندهم منهجاً ينتهي إلى اليقين الذي لايلابسه شك (ينظر: الغزالي، ج1، د.ت : 72-73).
... والذي نستخلصه من تأكيد الاشاعرة على الشك وعدِّه اول خطوات البحث العلمي عن الحقيقة،هو التأكيد على قدرات العقل في الوصول إلى الحقيقة ومن ثم افساح المجال والحرية الكافية للانسان للبحث عن المعرفة ، وهذا ماتُشدد عليه المدارس التربوية المعاصرة، وهو ان المعرفة لاتسكب في ذهن المتعلم ، بل تتم المعرفة بافساح المجال الكافي امام المتعلم وجعله باحثاً عن المعرفة لامتلقياً لها، لأنه عندما يكون باحثاً عنها يكون موقفه ايجابياً في عملية التعلم، اما عندما يكون متلقياً لها فقط فيكون موقفه سلبياً. وهذا ما أكد عليه الاشاعرة من انكار تقليد المعلم أو الشيخ، فلا يجوز عندهم ان تقوم المعرفة على اسقاط الارادة وحرية النظر العقلي أو على علاقة بين مُقلَد ومُقلِد ، فليس للمعرفة ألّا اداتها المعروفة وهي النظر والاستدلال .
مصادر المعرفة عند الاشاعرة :
... استعمل المتكلمون في منهجهم الكلامي الوصول إلى الحقيقة نوعين من الأدلة : أدلة نقلية ، وأدلة عقلية :
أ - ... الادلة النقلية : وتنقسم على :
1 - ... دليل القرآن الكريم :(1/33)
... وهو النص المقدس الذي لايلامسه الباطل من أي جهة، وهو أصل اليقين عند كل مسلم. أما المتكلمون فقد تعاملوا معه كمصدر اساسي ومهم جداً من مصادر المعرفة، مستندين على حجية القرن بقوله تعالى آمراً باتباع كتابه، والرجوع إلى مافيه من حجة مقنعة والى مافيه من تبيان وتوضيح لكل شيء { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (محمد : 24). وقوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء : 82) وقوله : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ( النحل : 89) . وقوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } ( الانعام : 38) . والاشاعرة بوصفهم تيار مهم من تيارات الفكر الاسلامي فقد تمسكوا بالقرآن الكريم وعدوه اول مصدر من مصادر معرفتهم، لذلك نجد انهم أخذوا بظاهر النص القرآني اذا كان لايتعارض مع مذهبهم، أما اذا كان ظاهر النص يتعارض مع مذهبهم، فأنهم يلجأون إلى التأويل العقلي بشرط أن لايكون هذا التأويل متعارضاً مع أصول الدين ( ينظر: الاشعري، 1975 : 35).
2 - ... السنة النبوية :
... تشكل السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر المعرفة النقلية . وقد استدل المتكلمون على حجية السنة النبوية وعلى اتباع اوامر ونواهي الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر : 7 ) وقوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى( - )إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم : 3،4) .(1/34)
... ولكنهم وضعوا ضوابط للأخذ بالسنة، اذ قسموها على متواتر وآحاد ، أما المتواتر : فهو الثابت على ألسنة قوم لايتصور تواطؤهم على الكذب، وهو موجب للعلم الضروري ( ينظر: التفتازاني، د.ت : 29) . وأما خبر الاحاد فهو ((ان الراوي له واحد فقط لا اثنان ولا أكثر من ذلك ، وهو خبر قصر عن ايجاب العلم، ولكن يوجب العمل )) ( البغدادي، 1981: 12).
... معنى ذلك ان الحديث المتواتر الذي رواه اكثر من واحد ولايُعرف عنهم الكذب يكون طريقاً للعلم والمعرفة في الاعتقادات والعبادات، اما الحديث الذي رواه شخص واحد فقط فيكون غير موجباً للعلم في الاعتقادات ولكنه يوجب العمل بالعبادات.
ب - ... الادلة العقلية :
... وتنقسم هذه الادلة على :
1 - ... دليل قياس الغائب على الشاهد :
... هذا الدليل من اهم الادلة العقلية عند المتكلمين ولاسيما عند متكلمي الاشاعرة، ويطلق المتكلمون اسم الغائب على الله - سبحانه وتعالى - لكونه غائباً عن الحس (ينظر: الايجي، ج2، د.ت: 127-132) . وهذا القياس أي قياس الغائب على الشاهد هو القياس الاصولي ، فالمقيس عليه عند المتكلمين هو الأصل عند الاصوليين، والمقيس هو الفرع، والجامع بين الأصل والفرع أو بين الشاهد والغائب هو العلة عند الاصوليين (ينظر: النشار، 1984 : 132).
... أما الاشاعرة فقد ذكروا أن هناك أربعة جوامع بين الشاهد والغائب هي : العلة ، والشرط ، والحقيقة، والدليل ( الجويني، 1950 : 83-84).
... وقد بينوا ان الجمع بالعلة يكون في ثبوت كون الحكم معلولاً بعلة شاهداً وقامت الدلالة عليه، لزم القضاء بأرتباط العلة بالمعلول شاهداً وغائباً، حتى يتلازما وينتفي كل واحد منهما عند انتفاء الثاني ، وهذا نحو حكمنا بأن كون العالم عالماً شاهداً معلل بالعلم (الجويني، 1950 : 83).(1/35)
... أما الجمع بالشرط فقالوا فيه : اذا تبين كون الحكم مشروطاً شاهداً، ثم تبينت من ذلك الحكم غائباً ، فيجب القضاء بكونه مشروطاً بذلك الشرط اعتباراً بالشاهد، كما في حكمنا بأن كون العالم عالماً مشروطاً بكونه حياً، فلما تقرر ذلك شاهداً اطرد غائباً (الشهرستاني، د.ت : 186).
... وكذلك قالوا في الجمع بالحقيقة: اذا تقررت حقيقة شاهداً في محقق، أطردت في مثله غائباً، وذلك نحو حكمنا بأن حقيقة العالم من قام به العلم (الجويني، 1950 : 84).
... اما الجمع بالدليل فقالوا فيه: اذا دلّ دليل على مدلول عقلاً لم يوجد غير دال شاهداً وغائباً كدلالة الاحداث على المحدث ( ينظر : الجويني، 1950 :84-85).
... ان هذا القياس – قياس الغائب على الشاهد قد اشتهر عند المتكلمين ولم يأخذ به الاشاعرة وحدهم بل اعتمد عليه المعتزلة، وفي هذا الصدد يقول ابن رشد ((أما المعتزلة فلم يصل الينا من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه ان تكون طرقهم من جنس طرق الاشاعرة ))( ابن رشد، 1964 : 45) . والجابري اكد هذا الأمر (ينظر : ينظر : الجابري، 1987 : 157-158). كما في نفيهم رؤية الله تعالى مبني على هذا القياس، لان الرؤية تقتضي في الشاهد مسافة بين الرائي والمرئي، واتصال شعاع من باصرة الرائي والمرئي، وغير ذلك من اللوازم التي اوجبوها للغائب كما وحببت للشاهد (ينظر : الايجي، ج2، د.ت : 29).
... من خلال ماتقدم يبدو ان هذا الدليل كان معتمداً من قبل المتكلمين كطريق من طرق المعرفة النظرية أو الكسبية وقد اعتمد عليه كل من المعتزلة والاشاعرة في مباحثهم العلمية وفي تقصيهم عن الحقائق .
...
2 - ... دليل السبر والتقسيم :(1/36)
... وهو الدليل الاخر من الادلة العقلية التي اعتمد عليها الاشاعرة في الوصول إلى المعرفة، اذ يقولون : ومن الأدلة (( أن ينقسم الشيء في العقل على قسمين ، أو اقسام يستحيل أن تجتمع كلها في الصحة والفساد ، فيبطل الدليل أحد القسمين ، فيقضي العقل على صحة ضده، وكذلك أن أفسد الدليل سائر الاقسام صحح العقل الباقي منها لامحالة، نظير ذلك ، علمنا باستحالة خروج الشيء عن القدم والحدوث، فمتى ما قام الدليل على حدوثه بطل قدمه ولو قام على قدمه لأفسد حدوثه)) ( الباقلاني، 1957 : 11-12).
... وشرحه الامام الغزالي اذ يقول فيه : هو قيامنا بحصر الأمر موضوع البحث في قسمين (أي افتراضين) ثم نبطل احدهما فيلزم منه ثبوت الثاني، كما في قولنا : العالم إما حادث وإما قديم، ومحال ان يكون قديماً، فيلزم منه أن يكون حادثاً لامحالة ، وهذا اللازم توصلنا إليه من عملين هما :
- احدهما : العالم إما حادث واما قديم.
- والثاني : محال أن يكون قديماً.
... ومن هذين العملين توصلنا إلى اللازم أو النتيجة وهي أن العالم حادث (ينظر: الغزالي، د.ت : 12-13) . معنى ذلك : القيام بحصر الاوصاف الموجودة في الاصل والتي تصلح للعلية في بادئ الرأي ثم ابطال مالايصلح منها لقيام الدليل على عدم صلاحيتها (ينظر: 1984 : 120) . أو هو : أن نحصر الاوصاف في الأصل ، ومن ثم الغاء بعضها ليتعين الباقي للعلية ( ينظر: الجرجاني، 1987 : 116) .(1/37)
... وقد نبه السيوطي إلى ان هناك مثيل لهذا الاسلوب من الاستدلال في القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ } (الانعام : 143) اذ يقول : ان الكفار لما قالوا بتحريم ذكور الانعام تارة ، وإناثها اخرى، ردّ عليهم الله - سبحانه وتعالى - بطريق السبر والتقسيم فقال : إن الخلق لله تعالى، اذ يخلق من كل زوج مما ذكر ذكراً وأنثى، فمن أين جاء تحريم ماذكرتم ؟ أي ما سبب أو علة التحريم .. ولايخلو أما أن يكون من جهة الذكورة أو من جهة الانوثة، أو اشتمال الرحم الشامل لهما، او لايدري له علة وهو طريق التعبد بأخذ ذلك عن الله تعالى، والأخذ عن الله تعالى، إما بوحي، وإرسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه، فهذهِ وجوه التحريم لاتخرج عن واحد منها والأول يلزم عليه أن يكون جميع الذكور حراماً والثاني يلزم عليه أن تكون جميع الاناث حراماً، والثالث يلزم عليه تحريم الصنفين معاً، فبطل بذلك مافعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة لأن العلة على ماذكر تقتضي إطلاق التحريم، والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدعوه، وبواسطة رسول كذلك لأنه لم يأت اليهم رسول قبل النبي محمد – عليه افضل الصلاة والسلام – وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعي، وهو أن ما قالوه إفتراء على الله وضلال ( السيوطي، ج2، 1987 : 379-380).
3 - ... الاستدلال بالشبيه :(1/38)
... وهو الدليل الثالث من الادلة العقلية، وتأتي المعرفة عن طريق هذا الدليل باعطاء الشيء حكم نظيره، وقد أشار الاشاعرة إلى هذا الدليل بقولهم : (( ومن الأدلة أن يستدل بصحة الشيء على صحة مثله وماهو من معناه ، وباستحالته على استحالة مثله وما كان بمعناه، كاستدلالنا على إثبات قدرة القديم سبحانه على خلق جوهر ولون مثل الذي خلقه، واحياء ميت مثل الذي احياه ، وخلق الحياة فيه مرة أخرى بعد ان اماته، وعلى أنه محال منه خلق شيء من جنس السواد والحركات لافي مكان في الماضي كما استحال ذلك في جنسها الموجود في وقتنا هذا )) (الباقلاني ، 1975 : 12).
العلاقة مابين العقل والوحي :
... ان الأشاعرة الاوائل قدموا النقل على العقل، أما متأخروا الاشاعرة كالغزالي والفخر الرازي فقد نظروا إلى هذا الأمر نظرة مختلفة عن اسلافهم ، فأنهم ذهبوا إلى أنه اذا حصل تعارض مابين المنقول والمعقول وجب تأويل المنقول ليوافق احكام العقل اذ يقولون : في حال توهم تعارض بين النقل والعقل لزوم الرجوع إلى الدلائل العقلية والعمل بمقتضاها ولايجوز القدح في الدلائل العقلية فذلك قدح بالنقل ايضاً (الرازي، 1935: 172) . وعلى الرغم من نظرة الاشاعرة هذه للعلاقة مابين العقل والنقل لكنهم لم يقدموا العقل بالترتيب
على النقل اذ كان ترتيب الادلة عندهم: القرآن الكريم والسنة النبوية والاجماع والعقل .(1/39)
5 - ... الفكر التربوي عند الاشاعرة :
... يُعد الاشاعرة من اهم تيارات الفكر الاسلامي ، اعتمدوا منهج الجدل والحجة والدليل في الدفاع عن ارائهم وافكارهم، استوعبوا اراء ومبادئ الذين سبقوهم، واضافوا اليها الشيء الكثير على مستوى الفكر والعمل ، فضلاً عن تمثلهم لقيم ومبادئ الدين الاسلامي الحنيف.(1/1)
... فالاشاعرة اصحاب منهج كلامي مرتكز على القرآن الكريم والسنة النبوية، مدعماً بالحجج العقلية المقنعة، معتبرين علم الكلام علماً له اصوله ومبادؤه المذكورة في القرآن الكريم . لذلك حاولوا الدفاع عنه حيال كل من كان يرى ان الكلام بدعة يُحاسب عليها الانسان في اخرتهِ ؛ فقد كتبوا رسالةً في استحسان الخوض في علم الكلام ، محتجين بأن الرسول الكريم محمد (( عليه افضل الصلاة وأتم التسليم)) أول من استعمله في الدفاع عن الاسلام ومن بعدهِ الصحابة رضوان الله عليهم مضيفين إلى ذلك ان الله - سبحانه وتعالى - ذكر في كتابه العزيز على لسان انبيائه محاججات بينهم وبين الكفار وهذا مما يؤيد شرعية الكلام . اذ يقولون : ((ان طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف ، والتقليد ، وطعنوا على من فتش عن اصول الدين ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا إن الكلام في الحركة والسكون والجسم، والعرض، والالوان ، والاكوان ، والجزء ، وصفات الباري - عز وجل - بدعة وضلالة ، وقالوا : لو كان هدىً ورشاداً لتكلم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخلفاؤه وأصحابه)) ( الاشعري ، ج1، 1983 : 15-17) .(1/2)
وقد ردوا عليهم قائلين : (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجهل شيئاً مما ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض والحركة والسكون والجزء، وان لم يتكلم في كل واحد من ذلك كلاماً معيناً ، وكذلك الفقهاء ، والعلماء من الصحابة، غير أن هذه الاشياء التي ذكرتموها معينة أصولها، موجودة في القرآن والسنة جملة غير مفصلة، أما الحركة، والسكون ، والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن وهما يدلان على التوحيد وكذلك الاجتماع والافتراق، قال الله تعالى مخبراً عن خليلهِ ابراهيم صلوات الله عليه وسلامه في قصة أفول الكواكب والشمس والقمر وتحريكهما من مكان إلى مكان مادل على أن ربه - عز وجل - لايجوز عليه شيء من ذلك، وإن من جاز عليه الأفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله، وأما الكلام في أصول التوحيد فمأخوذ ايضاً من الكتاب، قال الله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ( الانبياء: 22) . وهذا الكلام موجز فيه على الحجة بأنه واحد لاشريك له ، وكلام المتكلمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع فإنما مرجعه إلى هذه الآية)) ( الاشعري، ج1، 1983: 15-17).(1/3)
... كذلك يقولون : ((كيف يكون ذكر الحجة ، والمطالبة بها، والبحث عنها محظوراً، وقد قال الله تعالى { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } ( البقرة: 111) . وقال - عز وجل - : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ } (الانفال: 42) ، وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } (البقرة : 258) . اذ ذكر سبحانه احتجاج إبراهيم ومجادلته ، وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه)) (الغزالي، ج1، د.ت : 165).
... هذا الذي ذكر عن علم الكلام عند الاشاعرة فضلاً عن اصولهم العقائدية التي ذكرت في متن البحث زيادةً على نظرتهم إلى الله - سبحانه وتعالى - ، والكون والطبيعة الانسانية والمعرفة يتضح ان الاشاعرة اصحاب فكرٍ تربوي
متكون من اهداف تربوية ومن معلم ومتعلم ومنهج دراسي وطرائق تدريس ومباديء تربوية.
أولاً: ... الأهداف التربوية :
... نرى جملة من الاهداف التربوية تترشح هنا من خلال سياق نظرة الاشاعرة إلى الانسان وعلاقته بخالقه وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه ، وكذلك المنهج الذي يستعمله الانسان لكي يعيش في هذا الكون ألا وهو منهج المعرفة.
... ومن خلال المنهج الذي يستعمله الانسان للوصول إلى معرفة خالقه ، فالاشاعرة ربطوا مابين الخالق والانسان والكون والمعرفة بنظرة كلية شمولية بحيث لم يفصلوا مابين هذه الامور في علاقتها مع بعضها مؤكدين غاية اساسية ألا وهي ان الانسان والكون والمعرفة من خلق الله - سبحانه وتعالى - وبالتالي فهي واقعة تحت تدبيره غير خارجة عن ارادته وحكمهِ. وبناءاً على ذلك كانت اهدافهم التربوية كالآتي:
1- معرفة الخالق بصفاته.(1/4)
2- معرفة كيفية اثبات التوحيد والدفاع عنه.
3- الدفاع عن العقيدة الاسلامية.
4- اثبات المعارف والحقائق.
5- جعل العمل مقروناً بالمعارف والحقائق.
6- تهذيب اخلاق المسلم من خلال الشرع والعلم.
7- التأكيد على البحث عن المعرفة.
8- الاهتمام بكل جوانب شخصية الانسان.
9- رفض التقليد والاتباع للغير.
10- تحديد العلاقة مابين العبد وخالقه.
11- التأكيد على دور الفرد في المجتمع بوصفه النواة الاساسية لبناء المجتمع الصالح.
12- تحقيق السعادة للانسان في الدنيا والاخرة عن طريق معرفة الشريعة.
13- العمل الجاد والدؤوب على نشر الدين الاسلامي.
14- تربية الانسان على الاستقلالية.
ثانياً : ... المعلم :
... يُعد المعلم من العناصر المهمة في العملية التربوية ولايمكن الاستغناء عنه في العمل التربوي مهما تعددت وتطورت الوسائل التعليمية . والاشاعرة قديماً تنبهوا لهذا الامر ؛ لذلك نجد إنهم مارسوا مهنة التعليم والتدريس في الحلقات العلمية والمساجد والمؤسسات التربوية والأكاديمية، وقد اتصفوا بمواصفات في حلقاتهم العلمية وفي تصديهم لمهنة التعليم والاملاء تستحق ان تؤخذ بنظر الاعتبار، بوصفها مواصفات او كفايات للمعلم في أي عصر ، هذا فضلاً عن تحديدهم جملة من المواصفات التي يجب ان يتحلى بها المعلم :-
1- من الصفات التي كان يتحلى بها شيوخ الاشاعرة حسب مايذكر لنا كتاب السير والتراجم عنهم ، اذ يقولون : ومنهم ((أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم .. كان ورعاً لم تحفظ عنه زلة ولانقيصة، وكان باطنه معموراً بالعبادة والديانة)) (الحنبلي، ج3 ، د.ت : 169) . اذن اولى الصفات التي يجب ان يتحلى بها المعلم هي الورع ومعناها الأبتعاد عن المحارم، يضاف إلى ذلك ان لاتحفظ عن المعلم زلة ولانقيصة في المجال العلمي والمجال الاخلاقي . فضلاً عن أن يكون داخله مبني بالعبادة والدين.(1/5)
2- يجب على المعلم ان يعظم من لهم اسبقية الفضل في العلم والمعرفة كما في قول الباقلاني : (( وقد قيل له إن كلامك أفضل ، وابين من كلام أبي الحسن الاشعري، فقال : والله إن أفضل احوالي أن افهم كلام أبي الحسن)) ( ابن عساكر، د.ت: 125).
3- المواظبة على التدريس والدرس، اذ يقولون (( كان الامام الاشعري يجلس أيام الجمعات في حلقة الشيخ أبي اسحق المروزي ليأخذ عنه مذهب الشافعي ، ويأخذ المروزي عن الاشعري علم الكلام ))
( ابن خلكان، ج3 ، 1881 : 284) . معنى هذا أن على المعلم ان يطور قابلياتهِ العلمية في تخصصات اخرى لكي يكون موسوعي المعرفة ويلبي كل احتياجات الطالب العلمية. وهذا ماتسعى الآن الأنظمة
التربوية إلى تحقيقه من كفايات في المعلم تمكنه من اداء وظيفته بكفاءة عالية.
4- على المعلم أن ينبه طلابه ويحذرهم من الجديد والوافد من الافكار، وان يضع لهم منهجاً في تقبل هذا الجديد اذ ينقل لنا السبكي عن الشيخ ابي بكر بن فورك انه كان ينصح تلامذته قائلاً: (( كل موضع ترى فيه إجتهاداً، ولم يكن عليه نور، فاعلم إنه بدعة خفية)) ( السبكي، ج4، 1964 : 134). وربما هنا يقصد من النور اطمئنان النفس إلى هذا الجديد أو وجود أصول واساسيات في التراث لهذا الجديد. وفي كلا الحالين فهو هنا بعمله هذا يوجب على المعلم ان يحصن افكار طلبتهِ من اثار الغزو الفكري الوافد.
5- يجب على المعلم ان يتحلى ويتصف بحبه للعلم والمعرفة لذات العلم وللمتعة العقلية اذ كانوا يقولون عن إمام الحرمين ابي المعالي الجويني ((كان رحمه الله يجد لذته ولهوه وتنزهه في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان )) (ابن عساكر ، د.ت : 281) . ويقول فيه احدهم : ((مارأيت عاشقاً للعلم أي نوع كان مثل هذا الأمام فإنه يطلب العلم للعلم وكان كذلك )) ( ابن عساكر ، د.ت : 283) .(1/6)
6- يجب على المعلم أن لاينحاز إلى العلم الذي يُعلمهُ على العلوم الأخرى : ان على المعلم ان لايحبب في نفس المتعلم بعض العلوم على حساب بعض، بل يجب عليهِ ان يسعى إلى جعل المتعلم أن لاينفر من أي علم ، ويغرس في نفس المتعلم حب جميع انواع العلوم والمعارف اذ يقولون : ينبغي على المعلم أن لايقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة مثلاً يقبح علم الفقه، ومعلم الفقه يقبح علم الحديث والتفسير ومعلم الكلام
ينفر المتعلم عن بقية العلوم. وهذا الأمر غير مقبول (ينظر: الغزالي، ج1، د.ت: 95).
7- يجب على المعلم الابتعاد عن العنف والقسوة مع المتعلمين : معنى ذلك انه كلما كان المعلم ذا اسلوب مرن تمكن من بناء علاقات حسنة مع طلابه، وان هذه العلاقات الطيبة تجعل المتعلم مقبلاً على العلم، لاننا نتعلم أصعب الاشياء ممن نُحب ولانتعلم اسهل الاشياء ممن لانحب، أي انه على المعلم أن يبني جسور محبة ومودة مع طلابه لأن هذه الجسور المتينة كفيلة بنجاح العمل التربوي ، لذلك يقول الاشاعرة : (( ان الهادي إلى الحق لابد ان يكون رفيقاً لطيفاً يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن الايراد على سبيل العنف يصير مانعاً من الاستماع والقبول)) ( الرازي، 1985 : 313) . وهذا يُعد سبقاً تربوياً للاشاعرة في ميدان الفكر التربوي سبقوا به مدارس الغرب التربوية بمئات السنين .(1/7)
8- على المعلم مراعاة التطور المعرفي والعقلي للمتعلم : ان يأخذ المعلم بنظر الاعتبار التطور المعرفي والعقلي للمتعلم ، فان اغفال هذا الامر يُعد عاملاً اساسياً في عدم نجاح العملية التعليمية، ويؤدي بالمتعلم إلى حالة من النفور وعدم الأقبال على المعرفة، وعليهِ يجب على المعلم ان يقف على المستوى الحقيقي للمعارف التي يمتلكها المتعلم ومن ثم نموهِ العقلي، وفي هذا الصدد يؤكد الاشاعرة بقولهم : (( على المعلم ان يقتصر بالمتعلم على قدر فهمهِ، ولايلقي اليه مالايبلغه عقله لأن ذلك ينفره ويسبب له الاحباط في التعلم)) (الغزالي، ج3، د.ت : 357) . ويقولون : ويجب ان لاتقدم معلومات للمتعلم لايدركها عقله ، كمعرفة صفات الله ( الغزالي، ج3، د.ت: 356) . وكذلك نجد انهم يذهبون إلى ابعد من ذلك في هذا الأمر ، اذ يقرنون مابين عملية تقديم العلم للمتعلم وعملية تقديم الغذاء للطفل الرضيع، فبما ان الطفل الرضيع لايستفيد من الغذاء الذي لايتناسب وقدرته على هضمه، كذلك ان المتعلم اذا كان دون مستوى هضم وفهم وتمثل المعرفة فأنه لايستفيد منها وربما تكون مضرتها عليهِ كضرر الغذاء غير المناسب للطفل الرضيع (ينظر : الغزالي، ج4، د.ت: 635).
9- على المعلم ان يكون على معرفة كافية ودراية واسعة بأحوال وشؤون المتعلمين : لكي يكون المعلم ناجحاً في عملهِ التربوي عليه ان يلم بمعلومات اساسية ومهمة عن طلابه ، لأن هذا الامر يجعل المعلم أكثر قدرةً على التفاعل الايجابي مع المتعلمين ، ومن ثم يكون قادراً على التأثير فيهم، اذ يقولون: ان يكون خبيراً بأحوال الناس ومعاملاتهم وافعالهم (ينظر: الغزالي، ج4، د.ت : 651) . ولعل هذا الأمر يُعد معياراً اساسياً في تحديد كفاءة المعلم ونجاحه في مهنته .(1/8)
10- أما معلم علم الكلام فقد حددوا له مواصفات ، وأوجبوا عليه الالتزام بها ، أي إنه لايجوز لأي شخص ان يشتغل بمهنة تعليم الكلام مالم تتوفر فيه كفايات حددوها من خلال خبراتهم في هذه المهنة بوصفهم من اساتذة علم الكلام ومن المشتغلين فيه، وهذا إن دلّ على شيء فانما يدل على ان الاشاعرة ربطوا جيداً مابين اهمية العلم أو المهنة ومواصفات الشخص الذي يمتهنها ، لذا يقولون : ان على المشتغل بتعليم علم الكلام ان يتصف بهذه الصفات (الغزالي، ج1، د.ت : 170-171).
أ- ان يكون في طبعه الصلاح والديانة والتقوى.
ب- الذكاء ، والفطنة، والفصاحة.
ج- التجرد للعلم ، والحرص عليه.
11- وكذلك لم يغفل الاشاعرة معلم الصبيان (1) من ان يتصف ببعض المواصفات ، فقد اوجبوا عليه . ان يبدأ بتهذيب نفسه وإصلاحها، وذلك لأنه معيار القبول والرفض بالنسبة اليهم، فهم ينظرون إلى تصرفاته ويصغون إلى كلماتهِ، فالحسن عندهم ما استحسنه، والقبيح ما أستقبحه، ويجب عليه ان لايكثر الضرب والتعذيب، ويكون اغلب تأديبهُ لهم بالرهبة ويقبح عندهم الغيبة، ويوحش في نفوسهم الكذب والنميمة، ويعلمهم الطهارة والصلاة، وان يترفع عما يقدمونه له من أشياء (الغزالي، 1979 : 15-16).
12- أما معلم الكبار وهو العالم الذي يترأس حلقة نقاشية او صاحب حلقة علم يلتقي فيها الطلاب الكبار الباحثون عن المعارف والحقائق فقد أوجبوا عليه: ان يقترن علمه بعمله، وان يبدو عليه الوقار، وان لايتكبر على المتعلمين، وان يبين المسائل العلمية لمن لايستوعبها، وان يقبل الحجة المقنعة ولو كانت من الخصم (الغزالي، 1979 : 13-14).
__________
(1) (*) ... الصبي: هو من تجاوز عمره السابعة إلى حد عمر السابعة عشرة أو سن البلوغ او التكليف الشرعي ، أي الاعمار المحصورة بين ( 7-14 سنة).(1/9)
... وخلاصة القول : نجد ان الاشاعرة اهتموا اهتماماً بالغاً بالمعلم، حتى إنهم ميزوا مابين معلم علم الكلام ومعلم الصبيان ومعلم الكبار ، فضلاً عن وضعهم لمجموعة معايير وشروط اوجبوا على المعلم التحلي بها لكي يكون جديراً بمهنته، بوصف ان مهنته اشرف المهن لانها تهدف إلى الكمال الانساني ولأن المعلم يتعامل مع أشرف ماموجود في الكون وهو الانسان لابل والذي خُلق لأجلهِ الكون ومافيهِ (ينظر: الغزالي، ج1، د.ت : 23).
ثالثاً: ... المتعلم :
... لقد شغل المتعلم مساحة واسعة من تفكير وأهتمام الاشاعرة، لذلك نجد ان اهتماماتهم به كانت على النحو الاتي:
1 - ... اختيار الأم المناسبة:
... حدد الاشاعرة مواصفات الام المناسبة لانجاب الأولاد المرغوب فيهم، اذ يقولون في هذا الأمر : يجب ان تكون صاحبة دين وتقوى، حسنة الخلق،
فالخلق الحسن يُعين على الدين، حسنة الوجه ، قليلة المهر، ان لاتكون من القرابة القريبة، فان ذلك يؤدي إلى انجاب اطفال ضعفاء (الغزالي، ج4، د.ت : 715-716).
2 - ... عند الولادة :
... اي بداية مشوار الانسان في حياته ، وهي المرحلة المهمة جداً في تكوين شخصيته، لذلك نجد انهم اهتموا بها وأوجبوا على الاباء فيها واجبات تجاه ابنائهم منها : ان لايبدو عليه الحزن عندما يكون المولود انثى، ولايكثر الفرح عندما يكون المولود ذكر لانه لايعلم الخير والصلاح في أي منهما، أن يختار للمولود اسماً حسناً وهذا يدل على إنهم تنبهوا لما لاختيار الاسم من تأثير كبير وفعال على تكوين نفسية وشخصية الطفل، ان يؤذن في اذن الولد، ان يعق عنه والده بشاة سواء اكان ذكر المولود أم انثى، أن يحنكه بالتمر أو شيء فيه طعم حلو (الغزالي، ج4، د.ت : 739-741).
3 - ... مرحلة التنشئة الاولية (من الولادة – إلى عمر 7 سنوات قبل دخوله المكتب):(1/10)
... اهتم الاشاعرة بهذه المرحلة العمرية التي يمر بها المتعلم ، بوصفها حلقة مهمة من حلقات تكوين شخصية المتعلم لذلك اوجبوا على الاباء والامهات فيها مايأتي:-
أ- يجب ان تُستعمل في حضانته وارضاعه أمرأة صالحة صاحبة دين، تأكل من حلال ، لأن اللبن الحاصل من الحرام لابركة فيه ، اذ تنقل لنا المصادر التأريخية : ان والد امام الحرمين ابي المعالي الجويني، اشترى جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطعمها من كسب يده ايضاً إلى ان حملت بامام الحرمين وهو مستمر على تربيتها من كسب الحلال، فلما وضعته اوصاها أن لاتمكن أحداً من أرضاعه، فاتفق انه دخل عليها يوماً وهي متألمة والصغير يبكي، وقد أخذته إمرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها، فرضع منه قليلاً ، فلما رأه شق عليه ذلك، وآخذه اليه، ونكس رأسه، ومسح على بطنه، وأدخل اصبعه في فيه، ولم يزل يفعل به ذلك حتى قاء جميع ماشربه وهو يقول: يسهل علي أن يموت، ولايفسد طبعه بشرب لبن غير لبن امه، ويحكى عن امام الحرمين أنه كان تلحقه بعض الاحيان فترة في مجلس المناظرة فيقول : هذا من بقايا تلك الرضعة ( ينظر : ابن خلكان ، ج3 ، 1881 : 169) . وهذا تأكيد على ان الاشاعرة اهتموا بفترة رضاعة الطفل ومصدر اللبن الذي يشربه، اذ ان له تأثيراً كبيراً في بناء شخصية الانسان.
ب- ان يلقن في أول انطلاق لسانه كلمة (( لا إله الا الله )) ( الغزالي، ج4، د.ت : 740).
ج- اذا لوحظ من الطفل بوادر الحياء وشيء من التمييز في قبح بعض الاشياء وحسنها، فيجب ان يعلم الأب ان عقل هذا الطفل فيه إشراق ( الغزالي، ج8، د.ت : 1468). وهذا يدل على أن الاشاعرة تنبهوا إلى مسألة في غاية من الاهمية ألا وهي الكشف عن مواهب الاطفال، وذلك لتوجيههم التوجيه الصحيح ورعايتهم، وهذا ماتحاول الآن الدول المتقدمة ان تطبقه في انظمتها التربوية وهذا يُعد نقطة سبق تُسجل للاشاعرة في ميدان الفكر التربوي.(1/11)
4 - ... مرحلة الصبا من عمر سبع سنوات فما فوق :
... نجد ان هناك التفاتات مهمة من قبل الاشاعرة للصبيان منها:
أ- يجب الحاق الصبي في مكتب لتعليم الصبيان، لكي يتعلم القرآن
والحكايات والروايات التي تخص الابرار، ويتعلم حب الرجال الصالحين وينشأ النشأة الصحيحة (الغزالي، ج8، د.ت : 1469).
ب- يجب على الاباء أو الشيوخ ان يعلموا الصبي: كيفية الجلوس ، وان لايتكلم إلا جواباً، وان يُحسن الاستماع، وان لايبصق في مجلسه، ولايتثائب في حضرة غيره ( الغزالي، ج8 ، د.ت : 1470) .
ج- يجب منع الصبي من قرناء السوء لكي لايتعلم الالفاظ البذيئة كاللعن والسب ( ينظر: الغزالي، ج8 ، د.ت : 1471).
د- أكد الاشاعرة في هذه المرحلة على تعويد الطفل على المشي والحركة وتأدية الألعاب والرياضة، وأكدوا على وجوب السماح للطفل بعد انتهاء الدرس بممارسة الالعاب التي يفضلها ، لان منعه من ذلك يميت قلبه ويقتل الابداع بداخله ويكدر حياته ( ينظر: الغزالي، ج8 ، د.ت : 1470-1471).
5 - ... مرحلة طالب العلم والتي تبدأ من سن البلوغ ولم يحددوا نهاية لها (فهد ، 1994 : 146):
... المتعلم هنا يكون قد بلغ سن التكليف الشرعي ( معنى ذلك مسؤوليته عن مايقوم به من اعمال امام خالقه) ، وهو قادر على تحديد مايناسبه من علوم، وعليه ان يتحلى بآداب عامة تمكنه من الأقبال على العلم والاستفادة منه ومن هذه الآداب:
أ - ... ان يكون ذا نفسٍ فاضلة مبتعدة عن الرذائل :
... على طالب العلم ان يقدم (( طهارة النفس عن رذائل الاخلاق ومذموم الاوصاف )) ( الغزالي، ج1، د.ت : 58) ، معنى ذلك ان الاشاعرة يوجبون على طالب العلم والمعرفة التحلي بالاخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، لأن الشيء الذي يطلبه يستحق ان يوصف طالبه بالنبل والخلق العالي.
ب - ... الانقطاع للعلم :(1/12)
... اوجب الاشاعرة على طالب العلم ان يقلل ((علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبتعد عن الاهل والوطن، وذلك لان العلائق شاغلة وصارفة )) (الغزالي، ج1 ، د.ت : 58). أي ان على طالب العلم ان يتفرغ للعلم، لان الانسان لايستطيع ان يوفق بين امور الدنيا ومشاغلها وبين العلم والمعرفة، فلا بد أن يكون هناك من تقصير في واحدة منها على حساب الثانية، وبناءاً على ذلك اجاز الاشاعرة لطالب العلم الرحيل عن الأهل والوطن لطلب العلم والمعرفة، وهذا الأمر من وجهة نظرهم يزيد من دافعية المتعلم واصراره في سبيل تحصيل العلم والمعرفة.
ج - ... الاطلاع على المعارف والعلوم المختلفة:
... يوصي الاشاعرة طلابهم بالاطلاع على العلوم والمعارف المفيدة اذ يقولون: ويجب على المتعلم ان لايدع فناً من العلوم المحمودة ولانوعاً من انواعه الا وينظر فيه نظراً يطلع به على مقصدهِ وغايتهِ (الغزالي، ج1، د.ت : 85) ، معنى ذلك إن على المتعلمين ان يطلعوا على اساسيات المعرفة ومن ثم يفهموا غاياتها ومقاصدها وماتقدمه للمجتمع من خدمةٍ وفائدة.
د - ... ان يستوعب من علوم عصره الأهم:
... أي بعد ان يطلع على أساسيات المعرفة عليه ان يبحث عن الأهم من هذه العلوم والمعارف والذي يحقق الفائدة لاسيما ونحن نعلم ان لكل عصر علوماً مناسبة لحاجات المجتمع ، فقد تنبه الاشاعرة لهذا الأمر، لذلك نجدهم يقولون : على المتعلم أن لايخوض في فن من الفنون دفعة واحدة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم ( الغزالي، ج1 ، د.ت : 59).
هـ- ... على المتعلم ان لايخوض في أي فن حتى يستوفي الذي قبله:(1/13)
... أكد الاشاعرة على ضرورة ان يكون هناك منهجاً للطالب يسير عليهِ في تحصيله للعلوم لان العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً، أي انها مترابطة ومتداخلة، وهذا مانجده الآن في المنهج المحوري الذي يُقدم للمتعلمين بأعتبار أن هناك علوماً تغذي بعضها البعض، اذ يقولون : ويجب على الطالب ان لايخوض في فن حتى ((يستوفي الفن الذي قبله وذلك لأن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض ، والموفق من راعى الترتيب والتدريج)) ( الغزالي، ج1، د.ت: 88).
و - ... ان يكون متواضعاً للمعلم والعلم:
... يجب ان يتحلى المتعلم بالتواضع لمن يأخذ منه العلم وان يكون على درجة عالية من الأدب مع معلمهِ، وان يظهر له الاحترام والتقدير، لأن هذا الأمر سيعلي من شان المتعلم ويجعل العلم محترماً والمعلم مُهاباً اذ يقولون: وعلى المتعلم ان لايتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم بل يلقي اليه زمام امره بالكلية في كل تفصيل (الغزالي، ج1، د.ت : 59).
رابعاً: ... المنهج الدراسي:
... نجد إن المنهج الدراسي عند الاشاعرة يقسم بحسب تقسيمهم لمراحل التطور المعرفي والعقلي للمتعلم، لاسيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان المنهج مجموعة خبرات القصد منها تغيير سلوك المتعلم وبناء شخصيته بصورة متكاملة بناءاً صحيحاً، فعند ذلك تُعد التوجيهات التي وضعها الاشاعرة لاختيار الام المناسبة جزءاً من المنهج لان القصد منها كان تكوين او ايجاد اطفال تتوفر فيهم الصفات المرغوبة والجيدة أو القصد منها كان خلق البيئة المناسبة لتنشئة الاطفال.(1/14)
... وبناءاً على ذلك تكون أولى مفردات المنهج : غرس القيم النبيلة داخل الاطفال، وذلك بتأديب الطفل وتعليمه محاسن الاخلاق (الغزالي، ج1، د.ت:24) . وهذا لايكون ألا من اُمٍ صالحة مؤمنةً أو يوضع في حضانة امرأة صالحة (الغزالي، ج4 ، د.ت : 715). معنى ذلك ان الاشاعرة تنبهوا إلى دور الأم أو المربية الصالحة واثرهما في بناء شخصية الاطفال لأنهما يمتلكان القدرة على العطاء ولعل هنا العطاء مختلف بعض الشيء أي إنهما اذا لم يستطيعا تطبيق الاشياء التي يُراد غرسها في الطفل بصورة طبيعية وبدون تكلف عند ذلك يفشلان في مهمتهما ، لذلك نجد ان الاشاعرة أكدوا على مسألة اختيار الام أو المربية الفاضلة اللتان تؤمنان أو تتمسكان بهذهِ القيم بوصفها جزء من شخصيتهما، لأن الطفل هنا يتعلم عن طريق التقليد والمحاكاة . وكذلك يعلمه والده في أول نطقهِ كلمة لا أله ألا الله كما مر بنا سابقاً.
... اما المرحلة الأخرى فهي الذهاب إلى المكتب وفيها يتعلم الأطفال :
... القراءة والكتابة كما هو معروف عند العرب ( ينظر: حتي، 1974 : 480). ثم يوصي الاشاعرة بتعليم الاولاد قراءة القرآن الكريم وتعليمهم السنة النبوية (احاديث الرسول الكريم) ، واخبار السلف الصالحين ( الغزالي، ج1، د.ت: 27-28).
... أما علوم اللغة العربية فيقولون فيها : ((فأختصر من شائع علم اللغة على ماتفهم من كلام العرب وتنطق به ، ومن غريبه على غريب القرآن ، وغريب الحديث، واقتصر على النحو على مايتعلق بالكتاب والسنة)) (الغزالي، ج1، د.ت: 67).
... أما المرحلة الثالثة والتي تبدأ من سن التكليف الشرعي:(1/15)
... ففي هذه المرحلة يكون المنهج عملياً بتأدية الفرائض الشرعية كالصلاة والصوم ... وغيرها من عبادات تحدد علاقة العبد مع خالقه. ثم يبدأ المتعلم باستكمال ماحصله من علوم في مرحلة الكُتاب، ويدرس الفقه والتفسير (ينظر: شمس الدين ، 1985: 56) . أما علم الكلام فقد كان منهجهم الاساس، وكما مر بنا سابقاً في الرسالة التي كتبوها في استحسان الخوض في الكلام ، ووضعهم لمواصفات خاصة لمعلمي علم الكلام هذا فضلاً عن قولهم فيهِ : إنه ( المقصود علم الكلام) اشرف العلوم وأكملها لانه يختص بمعرفة ذات الله - سبحانه وتعالى - وصفاتهِ وافعالهِ واحكامه وأسمائهِ، لذلك اهتموا به في دراستهم وجعلوه اساس منهجهم (ينظر: الرازي ، ج13 ، د.ت :80).
... أما الفلسفة فقد ذموها ولم يوجبوا تعليمها في حلقاتهم العلمية لانها ربما تؤدي إلى الكفر (فهد، 1994: 133) . بخلاف الطب والحساب فهما ضروريان: الاول لصحة الأبدان والثاني في المعاملات التجارية وقسمة الوصايا والمواريث (ينظر : الغزالي، ج1، د.ت : 15).
... وفي هذه المرحلة يدرس المتعلم الاصول الاعتقادية للمدرسة الاشعرية، ولاسيما اذا عرفنا ان المدرسة النظامية والتي اسسها الوزير السلجوقي نظام الملك بنيت لهذا الغرض ( ينظر: حتي، 1974 : 482) أي نشر الافكار الأشعرية.
... من خلال ماتقدم يتضح ان المنهج الدراسي يبدأ تطبيقه على المتعلم منذ بدء نطقهِ بالكلام إلى أن يصبح عالماً، وعند ذلك يضم كل الخبرات والمعلومات المقدمة للطفل من قبل الأسرة كلفظ لا آله الا الله ثم تعليمه القيم الفاضلة والاخلاق الحسنة، ثم القراءة والكتابة، وقراءة القرآن والسنة النبوية المطهرة ومناقب الرجال ثم علوم اللغة العربية ثم اصول الفقه ثم علم التفسير، ثم بعد ذلك علم الكلام ، والحساب والطب. والاصول الاعتقادية الاشعرية.
خامسا: ... طرائق التدريس :(1/16)
... تعددت طرائق التدريس عند الاشاعرة حتى كان لكل مرحلة من مراحل عمر المتعلم طرائقها التي تناسبها ، ومن هذهِ الطرائق:
1 - ... طريقة التلقين :
... وهذا ما مر بنا من توصية الاشاعرة بتلقين الطفل عند بدء نطقهِ. اذ يلقنه والده كلمة (( لا آله الا الله )) ، وبهذا تكون طريقة التلقين اول طريقة تدريسية تستعمل من قبل الاشاعرة. لكنهم حذروا من استعمالها في مراحل التعليم المقبلة وذلك لانها من وجهة نظرهم تقتل الابداع داخل المتعلم وتجعله مقلداً لمعلمهِ او شيخهِ، ولاتبني بداخل المتعلم الشخصية الباحثة عن العلم والمعرفة بل انها تبني الشخصية المقلدة للأخرين (ينظر: الرازي، ج1، د.ت : 268) . وبذلك هم يحاولوا ان يجعلوا المتعلم داخل العملية التعليمية متلقٍ ايجابياً وليس متلقياً سلبياً وهذا يُعد مبداءاً تربوياً فعالاً في التعليم.
2 - ... طريقة التقليد والمحاكاة :
... ويتم التعليم بهذهِ الطريقة في مرحلة التنشئة الأولية، اذ يتعلم الطفل من والديهِ أو من مرضعتهِ العادات والاخلاق الحسنة وذلك نتيجة معايشته معهما وتقليده لهما، وقد تنبه الاشاعرة لهذا الأمر وأدركوا دوره في بناء شخصية الانسان المسلم ؛ لذلك نجد انهم وضعوا مواصفات للأم وللمربية، وكذلك قالوا بأن الطفل يقلد والده في ادائهِ للفروض والعبادات كالصلاة وغيرها. اذن تعد طريقة التقليد والمحاكاة من طرائق التعليم التي اكدها الاشاعرة في ارائهم عن دور الاسرة في تنشئة الطفل. ولكن هذهِ الطريقة التدريسية تكون فقط للسنوات الاولى
أما في مراحل العمر المقبلة أي بعد أن يصل المتعلم إلى سن التكليف
الشرعي فتُعد هذهِ الطريقة غير صحيحة من وجهة نظر الاشاعرة كما مر بنا سابقاً
3 - ... طريقة التكرار والاعادة والتي تسمى حديثاً المحاولة والخطأ :(1/17)
... يذهب الاشاعرة إلى ان المتعلم يتمكن من اتقان الكتابة نتيجة محاولاته المتكررة، وكلما كرر الانسان محاولته تمكن من اتقان مايُريد تعلمه وذلك لان تكرر الافعال سيكون سبباً لحصول ملكة داخل الانسان اذ يقولون : (( ان من اراد تعلم الكتابة، فكلما كان اتيانه بعمل الكتابة اكثر كان اقتداره على عمل الكتابة أتم، إلى ان يصير بحيث يقدر على الاتيان بالكتابة من غير روية ولافكرة ، فهذهِ الهيأة النفسانية، لما تولدت من تلك الاعمال الكثيرة، كان لكل واحد من تلك الاعمال أثر في حصول تلك الهيأة النفسانية )) (الرازي، ج31، د.ت: 94-95). وهذه من الطرائق التدريسية الفعالة والمهمة جداً، فهي تعتمد على التطبيق العملي والواقعي وعلى عدد المحاولات ، وكلما زاد عدد المحاولات كان حصول التعلم أتم ، لان لكل محاولة دوراً وأثراً مهماً في حصول الملكة داخل المتعلم. وبهذا يُعد الاشاعرة أول من آلتفت إلى اثر أو عدد المحاولات في تقليل الاخطاء وحصول الملكة او التعلم بصورة أتم ، وقد سبقوا عالم النفس ثورندايك في هذا الأمر .
4 - ... الطريقة التدريسية التي وضعها الاشاعرة لغرس العقيدة في نفوس المتعلمين:
... والتي تبدأ بتلقين قضايا العقيدة الاسلامية إلى المتعلمين، وبعد ذلك يتم حفظها من قبل الصغار، ثم يقوم المعلم بتقديم الأدلة والبراهين لكي تساعد المتعلم على فهم ماحفظهُ حتى يتم عنده الاعتقاد والتصديق ، اذ يقولون: والدين يجب ان يقدم إلى الصبي في أول نشوئه يحفظه ثم بعد ذلك ينكشف له معناه شيئاً فشيئاً، فابتداؤه بالحفظ ثم الفهم وبعد ذلك يتم الاعتقاد والتصديق بهِ ( ينظر: الغزالي، ج8، د.ت: 1414).
5 - ... طريقة الإملاء:
... تذكر لنا المصادر التأريخية ان اغلب شيوخ الاشاعرة استعملوا هذهِ الطريقة التدريسية في حلقاتهم العلمية، وذلك بالقيام بإملاء المعلومات للمتعلمين . فقد ذكروا ان عبدالقاهر البغدادي تفقه على يد ابي اسحاق الاسفراييني ،(1/18)
فلما مات الأخير جلس بمكانه بمسجد عقيل فأملى سنين ( ينظر: ابن خلكان ، ج3، 1881 : 203) . وهذا دليل على ان هذهِ الطريقة التدريسية كانت متبعة من قبل شيوخ الاشاعرة .
6 - ... طريقة الحوار أو المناظرة:
... وهذهِ تُعد من الطرائق التدريسية المهمة جداً، ولعل ابي الحسن الاشعري أخذها عن المعتزلة بعد ان كان على مذهبهم سنين طويلة قبل انتقالهِ عنهم . وقد استعمل هذهِ الطريقة كل شيوخ الأشاعرة في نشر افكارهم والدفاع عن الاسلام اذ كان اغلب شيوخ الاشاعرة عندهم مجلس خاص للمناظرة كالباقلاني والجويني والغزالي والرازي ( ينظر: ابن خلكان، ج3، 1881: 169). ومما يُذكر عنهم انهم كانوا بارعين جداً في النقاش والجدل، وهذا مما يدّلُ على ان هذهِ الطريقة التدريسية المهمة جداً في خلق الابداع الفكري والجرأة وتقوية الثقة في النفس كانت متبعة في الحلقات العلمية التي يعقدها شيوخ الاشاعرة لنشر العلم والمعرفة. اذ يقول ابن خلدون في مقدمته: ثم مارس اتباع ابي الحسن الاشعري كالباقلاني وابن فورك والاسفراييني والبغدادي والجويني والغزالي والرازي ... وغيرهم الجدل مستمدين أوليات هذا السلاح للدفاع عن العقيدة من المعتزلة، إذ كان الاشعري أحد تلاميذ ابي علي الجبائي المعتزلي، فأخذ يرد على المعتزلة ، ويفند آراءهم وينازلهم في ميادين الجدل والمناظرة منازلة إعتمد فيها على دليل العقل لأنه رأى ان هذهِ الوسيلة المثلى لنشر الافكار (ينظر: ابن خلدون ، د.ت : 465-466).
7- ... أتباع المنهج القرآني في التدريس:(1/19)
... اتبع شيوخ الاشاعرة المنهج المتبع في القرآن الكريم لنشر افكارهم ومبادئهم سواء أكان في حلقاتهم العلمية أم في كتبهم الكلامية، كما في حكاية الأقوال الفاسدة وشبهها، ثم ذكر البراهين والأدلة لنفيها، اذ يقولون : كيف يكون ذكر الحجة والمطالبة بها والبحث عنها محظوراً، وقد قال الله تعالى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } ( البقرة : 109) ، وقال - عز وجل - : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } (الانفال : 42) ، وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } (البقرة : 258) ، لقد ذكر - سبحانه وتعالى - رد ابراهيم واحتجاجه ومجادلتهِ ومن ثم افحامهِ لخصمه في معرض الكلام (ينظر : الغزالي، ج1، د.ت: 165) ، وهنا دليل على ان الاشاعرة استعملوا الشواهد القرآنية كأمثلة لتقريب الافكار من ذهنية المتعلم أو القاريء.
8 - ... طريقة التصنيف والتأليف:
... لقد برع الاشاعرة في تصنيف وتأليف الكتب والرسائل في مجالات العلوم المختلفة ، ولاسيما العلوم الدينية اذ صنفوا في الفرق والعقائد والأديان ، وفي الفقه، وأصول الدين ، وعلم الكلام والفلسفة ... وغيرها من العلوم والمعارف، وكانت لهم أساليبهم الخاصة في هذا المجال، ولعل الغاية الرئيسة من التأليف والتصنيف الدفاع عن الدين الاسلامي ومن ثم نشر العلوم والمعرفة بين ابناء المجتمع الاسلامي. وبناءاً على ذلك تُعد مسألة تصنيف الكتب والرسائل من الطرائق التدريسية المتبعة من قبل الاشاعرة في التعليم.(1/20)
... من خلال ماتقدم يتضح ان الاشاعرة استعملوا طرائق تدريس متعددة تتفق والمستوى العقلي والمعرفي للمتعلمين فضلاً عن اتفاقها مع المادة التي تقدم للمتعلمين.
سادساً: ... بعض الاراء أو المباديء التربوية :
1 - ... عدم التطرف في نقد الآخرين:
... لقد كان الاشاعرة يربون تلامذتهم وأتباعهم على ان لايكونوا متطرفين في نقد الآخرين، لانهم كانوا يذهبون إلى ان الاختلاف الحاصل بين الفرق والمذاهب أنما هو اختلاف في المفاهيم والمصطلحات ليس ألاّ، فهذا أبو الحسن الاشعري يوصي تلامذته وأتباعه قبل وفاته اذ يقول : (( أني لا أكفر أحداً من أهل هذهِ القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا كله إختلاف العبارات))
( ابن عساكر ، د.ت :149) . ولعلنا نحن اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هذا الرأي الذي يحمل في مضمونه دلالات قيمة تنم عن نظرة دقيقة واعية لما يحصل من تعدد في الاراء والمذاهب الاسلامية، فضلاً عن إنه يحمل في طياته دلالة واضحة لوحدة الأمة الاسلامية وعدم تفرقها ألا وهي ان هناك قاسماً مشتركاً بين جميع ابناء الامة الاسلامية وهو المعبود الواحد، أي ان الهدف أو الغاية التي يسعى اليها الكل واحدة ومادامت الغاية واحدة فلا ضير في تعدد الوسائل أو الطرائق للوصول إلى هذهِ الغاية. أما الأمر الأخر الذي أراد الاشاعرة تأكيدهُ لتلامذتهم خاصة ولابناء المجتمع الاسلامي عامةً، فهو عدم التطرف والمغالاة في ابداء الرأي حيال الأخرين وإن كانوا يختلفون معهم في الرأي وهذا يسمى بالاعتدال في وصف الاخرين . والغاية التي ينشدها الاشاعرة من كل ذلك الوصول إلى وحدة الصف والكلمة بين ابناء المجتمع الاسلامي.
2 - ... الانفتاح الفكري على الآخرين وعدم الانغلاق:(1/21)
... كان الفكر الاشعري فكراً منفتحاً على الأفكار الأخرى، فكرٌ يؤثر ويتأثر في الجوانب الايجابية، وهذه السمة ميزت أغلب مفكري الاشاعرة. ولعلنا نتلمس هذا الأمر في ردّ الاشعري عندما سألوه لماذا تخالط أهل البدع وتقصدهم بنفسك فيقول: اذا كانوا هم أولو رياسة منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لاينزلون إلي، فاذا كانوا هم لاينزلون إلي ولا أنا أسير اليهم فكيف يظهر الحق ( ينظر: ابن عساكر ، د.ت : 116-117).
... وهذا يُعد مبدأً تربوياً مهماً جداً وهو وجوب ايصال ماعندك من اراء وافكار إلى الأخر، وذلك بعدم الانطواء على النفس والانكفاء على الذات، لا بل يجب الأنفتاح على الاخر والتحاور معه. وهذا يدل على إن الأشاعرة كانوا يتبنون فكرة الحوار والتعايش السلمي مع الآخرين، وعدم وضع العقبات والحواجز بينهم وبين الآخرين، وان الانسان يجب ان يعيش وسط ابناء المجتمع الانساني ويتفاعل معهم ويتأثر بهم ، وهذا هو الفهم الصحيح للعقيدة والفكر ولعلنا اليوم احوج من أي وقت لهكذا فهم، ولاسيما ونحن نعيش اليوم وسط قرية كونية بفضل ما تقدمه لنا شبكة الاتصال الحديثة من خدمات.
3 - ... الابتعاد عن الذاتية في اصدار الاحكام:
... اوجب الاشاعرة على الانسان العاقل الباحث عن الحقيقة، ان يقوم بفحص الاشياء فحصاً دقيقاً، وان لايتحيز لفكرة سابقة تعلمها ، وان يبتعد عن اصدار الاحكام النابعة من ذاته ، اذ يقولون : ان الانسان اذا تأكدت نفرته عن شيء صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء ومانعة عن أبصار محاسنه وفضائله ( ينظر: الرازي، ج32، د.ت: 12) . معنى ذلك ان على الانسان ان لايدع الاحكام المسبقة أو مزاجه مانعاً له عن الوصول إلى ادراك حقائق الاشياء ومعرفتها، وهذا يُعد مبدأً تربوياً مهماً يجب ان يتحلى به كل انسان باحث عن المعرفة.
4 - ... تأكيد روح البحث العلمي والتقصي عن الحقائق عند المتعلمين :(1/22)
... أكد مفكرو الاشاعرة اشاعة روح البحث العلمي بين المتعلمين، وأوجبوا على المتعلمين تتبع المعرفة بالاساليب المنهجية وإنها هي السمة التي يجب ان يتسم بها المتعلم ؛ لذلك نجد ان الاشاعرة كانوا يذمون كل إنسان يرى ان البحث عن أصول الدين بدعةٍ وضلالةٍ اذ يقولون : ان طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف والتقليد وطعنوا على من فتش عن أصول الدين ونسبوه إلى الضلال
(الاشعري ، ج1، 1983 : 15-17) وهذا يُعد من المبادئ التربوية المهمة التي تؤكدها المناهج التربوية المعاصرة.
5 - ... على الباحث الألتزام باسا سيات المعرفة وأصولها:
...
من المبادئ التربوية التي أكدها الاشاعرة عدم خلط المعرفة مع بعضها البعض، أي ان لكل نوع من انواع المعارف أصل أو مصدر يجب الألتزام به عند البحث عن هذه المعرفة، اذ يقولون : ينبغي لكل عاقل مسلم يبحث عن المعرفة أن يرد حكمها إلى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة، لان حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع ان تكون مردودة إلى أصول الشرع الذي طريقه السمع. وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شيء من ذلك
إلى بابه، ولاتخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات
( فروخ، 1972 : 336).
6 - ... التفرغ للدراسة والعلم:
... يؤكد الاشاعرة مسألة في غاية الأهمية وهي عدم الانشغال بأمور أخرى تؤثر على استيعاب المتعلمين وتؤدي إلى ابعادهم عن تتبع العلم والمعرفة، ولاسيما مسألة التزويج المبكر للمتعلمين ، فإنها تكون سبباً لعدم تحصيلهم المعرفة تحصيلاً جيداً وكذلك عرجوا على مسألةٍ في غاية الخطورة، وهي ان بعض المتعلمين يحاول اشباع شهواته بطرائق غير مشروعة فإن هذا الأمر يكون اخطر من
سابقهِ على تحصيل المتعلمين العلمي والمعرفي ، اذ يقولون : (( شغل العيال نتيجة متابعة الشهوة بالحلال ، فما ظنك بقضية شهوة الحرام )) (ابن خلكان ، ج4، 1881: 272).(1/23)
7 - ... مراعاة المستوى العقلي للمتعلم:
... من المبادئ التربوية التي أكدها الاشاعرة مراعاة المستوى العقلي للمتعلم، أي يجب ان تقدم العلوم والمعارف حسب فهم وادراك المتعلم لها، لانها اذا كانت صعبة ومعقدة تؤدي إلى ابتعادهِ عن الدرس وتنفره عن العلم، اذ يقولون : ان من اول الواجبات على المعلم ان يعلم الطفل مايسهل عليه فهمه ، لان الموضوعات الصعبة والمعقدة تؤدي إلى إرباكه العقلي وتنفره من العلم (بركات، د.ت : 42).
8 - ... مبدأ الفروق الفردية :
... يؤكد الاشاعرة على ان الناس مختلفون في قدراتهم العقلية وافكارهم واخلاقهم، وان اسباب هذا التباين والاختلاف منها ماهو داخلي ومنها ماهو خارجي. أما الاسباب الداخلية فهي:
أ- اختلاف النفوس البشرية في الطبيعة والماهية.
ب- اختلاف امزجة الناس .
ج- اختلاف شكل اعضاء الجسم الانساني.
... وأما الاسباب الخارجية فتعود إلى:
أ- اختلاف البيئة الطبيعية والاجتماعية التي يعيش وسطها الانسان والتي تُعد سبباً في أختلاف الافكار والأخلاق بين الناس.
ب- حب الانسان للظهور وهو يُعد طبعاً غريزياً يدفعه لاشعورياً إلى الأقدام على أعمال خاصة أو الابتعاد عن اعمال اخرى .
ج- همة الفرد ومثابرته ودافعيتهِ على تحصيل العلم تجعله اعلم بالحق من غيره.
... ومع هذا فالناس يختلفون في الوصول إلى الحقائق، على الرغم من تساويهم في العلوم، وهذا راجع إلى تباين استعداداتهم الأصلية ( الرازي، ج2، د.ت: 176-178).
معنى ذلك ان الاختلاف مابين الافراد راجع إلى تفاعل هذهِ العوامل (الداخلية والخارجية) مع بعضها البعض ، ونتيجة لهذا التفاعل تتكون سمات شخصية الفرد التي تميزه عن باقي الافراد، ومن ثم ان هناك اختلافاً مابين الافراد في التحصيل العلمي يرجع إلى اختلاف استعداداتهم الأصلية وهذا يُعد مبدأً تربوياً مهماً وهو ان هناك فروق فردية وتباينات مابين المتعلمين ويجب مراعاتها في العملية التعليمية.(1/24)
9 - ... مبدأ الارشاد النفسي والتوجيه التربوي :
... أكد الاشاعرة على مبدأ تربوي مهم في العملية التعليمية، هو مبدأ الارشاد والتوجيه، ووضعوا له شروطاً وأوجبوا مراعاتها من قبل المعلم أو الشيخ عند الشروع في هذا الأمر لكي تتحقق الفائدة المرجوة منها. معنى ذلك ان علمية الارشاد النفسي والتوجيه التربوي تبنى على مجموعة اسس وضوابط يجب الأخذ بها من قبل المشرفين على هذهِ العملية، اذ يقولون: ان على الشيخ الذي يطيب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي الا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ، مالم يعرف أخلاقهم ، وأمراضهم، وكما ان الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وفي سنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته ( الغزالي، ج8، د.ت : 1442) . وهذهِ تعد التفاتة مهمة جداً في التربية والتعليم، ونقطة سبق تسجل للاشاعرة في ميدان الفكر التربوي وهو الأخذ بمبدأ الارشاد النفسي والتوجيه التربوي.
10 - ... مبدأ التعلم الشرطي:
... تنبه الاشاعرة إلى أمر في غاية الأهمية وهو ان اقتران بعض المدركات الحسية ببعضها يثير الاستجابات نفسها، اذ يقولون : إن سبب نفرة الانسان السليم الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون لانه وجد الأذى مقروناً بهذه الصورة، فتوهم ان هذه الصورة مقرونة بالآذى (الغزالي، ج1، د.ت: 59) . معنى ذلك ان اقتران شيء بشيء أخر مشابه له يؤدي إلى حصول الاستجابة نفسها من الانسان، وهذا مايسمى بالتعلم الشرطي أو الاستجابة الشرطية التي عدها علماء النفس المحدثون وعلى رأسهم العالم الروسي بافلوف ، كأحد الطرائق المهمة في التعلم، وهذهِ تُعد سابقة في ميدان الفكر التربوي للاشاعرة في هذا الأمر.
11 - ... مبدأ التربية العملية :(1/25)
... أكد الاشاعرة أهمية ربط العلم بالعمل على اعتبار ان هذا الأمر يحقق الفائدة والمنفعة للفرد والمجتمع، اذ يقولون : ان سعادة الانسان لايمكن ان تتحقق الا بتظافر العلم والعمل، اذ يكون الناتج عنهما تغيير سلوك الانسان نحو الأفضل، ومن ثم بعد ذلك يعم الخير المجمتمع كله (ينظر: الغزالي، 1964 : 328) . معنى ذلك ان التطبيق العملي للمعارف والعلوم والنظريات سيحقق فائده تعود على الفرد والمجتمع وهذا ماتسعى ان تحققه المناهج التعليمية في الوقت الحاضر، فقد تنبه له الاشاعرة قبل مئات السنين.
12 - ... على الانسان ان يتفاعل تفاعلاً بناءاً ازاء مايُستجد من قضايا وأمور :
... وكذلك من المبادئ التي أكدها الاشاعرة، تأكيد فاعلية الانسان في الحياة ودوره ازاء مايُستجد من احداث ومواقف في جميع المجالات، وعلى الانسان أن لايلتزم موقف الصمت والترقب حيال مايجري حوله من أحداث لانها تمس حياته سواء أكانت بصورة مباشرة ام بصورة غير مباشرة، لذلك نجد انهم كانوا يذمون كل من كان يتوقف عن التحدث في قضايا العقيدة والفكر ويحتجون عليه بقولهم : (( لو حدث في أيام النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام في خلق القرآن وفي الجزء والطفرة بهذه الالفاظ لتكلّم فيه (الرسول) وبينّه كما يبين سائر ماحدث في أيامه من تعيين المسائل والتكلّم فيها ... فان قال قائل فأنا اتوقف في ذلك ، فلا اقول (عن القرآن) مخلوقاً ولاغير مخلوق ، قيل له فأنت في توقفّك في ذلك مبتدع ضالّ، لان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل ان حدثت هذه الحادثة او تلك بعدي توقفوا فيها ولاتقولوا فيها شيئاً)) (فروخ، 1972 : 336).(1/26)
المبحث الثالث
مقارنة الرؤية الفكرية بين المعتزلة والاشاعرة
أولاً: نظرتهم إلى الله :
... يتفق المعتزلة والاشاعرة على أن الله موجود والدليل على وجودهِ حدوث الاشياء وخلقها من العدم . ولكننا نجد أنهم أختلفوا نوعاً ما في استعمال الادلة لأثبات وجود الخالق، فقد أعتمد المعتزلة على الادلة العقلية لأثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، اما الأشاعرة فقد مزجوا مابين العقل والنقل، وفي بعض الأحيان يقدمون دليل النقل على العقل لأثبات وجود الخالق، وقد لاحظنا أن ادلة الاشاعرة لأثبات وجود الخالق كانت متعددة وكثيرة ومستقاة من القرآن الكريم.
ثانياً: نظرتهم إلى الكون :
... جاءت طروحات المعتزلة والاشاعرة في هذا الموضوع متقاربة من حيث المضمون اوانها بالاحرى تُعبر عن حقيقة واحدة وهي ان كل ماسوى الله - سبحانه وتعالى - فهو مخلوق حادث ولابد له من خالق ومحدث وهو الله - سبحانه وتعالى - .
- فقد اتفقوا على ان الكون متغير ومتحول من صورة إلى أخرى وبطرحهم هذا سبقوا الفلسفة البراجماتية.
- اتفقوا على نظرية الجواهر والاعراض او الجزء الذي لايتجزء.
- لتأكيد حقيقة ان العالم حادث وكل حادث لابد له من مُحدِث. استعملوا الدليل العقلي (قياس الغائب على الشاهد).
... اما اختلافهم فقد كان الآتي :
... ان المعتزلة البسوا طروحاتهم رداء الفلسفة الطبيعية ومقولات العقل لأثبات أفكارهم وعقائدهم، اما الاشاعرة فقد أطروا طروحاتهم بأدلة القرآن الكريم ممزوجة بدليل العقل.
ثالثاً: نظرتهم إلى الطبيعة الأنسانية:
1 - ... الجسد والروح :
... اتفق المعتزلة والاشاعرة على أهمية الجانب المادي (الجسد) والجانب الروحي وعلى ضرورة تلازمهما وتفاعلهما لاستمرار حياة الإنسان.
... وقد بدى واضحاً تأثير الرؤية القرآنية على أفكار المعتزلة والاشاعرة في هذا الأمر على الرغم من امتزاج اراء الاشاعرة في هذا الامر بالفلسفة.(1/1)
... واتفقوا على ان هناك قوى مهمتها حماية الجسد وصيانته . كذلك نجد أن الاشاعرة في هذا الموضوع كانت اراؤهم اكثر دقة، فقد قسموا النفس على ثلاثة اقسام، وكذلك قسموا قوى النفس على ثلاثة أقسام، وكذلك قالوا ان الجسد مصدرهُ المادة اما الروح فمصدرها ألهي ، قالوا ان الروح جوهر ثابت لايقبل التغير، وقد اعطوها عدة معانٍ، اما الجسد فأنه متغير وفانٍ ومتبدل. والحقيقة اذ أردنا النظر إلى الأمر نظره موضوعية، فأن الاشاعرة كانت اراؤهم في هذا الأمر اكثر نضجاً وأوضح من اراء المعتزلة. وربما يعود السبب إلى ان الاشاعرة المتأخرين كالغزالي والرازي تأثروا باراء الفلاسفة في هذا الأمر، لأن الفلسفة في نهاية القرن الخامس الهجري دخلت في مباحث علم الكلام .
2 - ... العقل :
... أتفق المعتزلة والاشاعرة على ان العقل هو مناط التكليف ، وقسموه على عقل غريزي وعقل مكتسب، وقالوا ان العقل المكتسب لايحصل في الأنسانِ ألا على اساسا العقل الغريزي ، وان العقل الغريزي لايبلغ الكمال الا بمعونة العقل المكتسب .
... وقد أختلف المعتزلة عن الاشاعرة في أمور منها:
أ ذهب المعتزلة إلى ان العقل الغريزي لايحتاج إلى تجارب سابقة لكي يعلم مجموعة امور كحسن الاشياء أو قبحها.
ب كما ذهب المعتزلة إلى ان الأنسان اذا كمل عقله سيكون مكلفاً بالعبادات حتى لو لم يبلغ دعوة الأنبياء والرسُل.
... اما الاشاعرة فأنهم قالوا : ان العقل قوة من قوى النفس الانسانية تسمى بالقوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء، وكلام الاشاعرة هذا يقترب من كلام الفلاسفة.
3 - ... التكامل بين الجسد والروح والعقل:
... اشار كل من المعتزلة والأشاعرة إلى التكامل بين الجسد والروح والعقل، واكدوا ان الغرائز إو الحاجات الأنسانية يجب ان تهذب وتسيطر عليها القوة العاقلة في الأنسان ، لان هذا الأمر مهم جداً ويؤدي إلى تكوين انسان متوازن مستقر ومن ثم متطور.
4 - ... الخير والشر :(1/2)
... يتفق المعتزلة والاشاعرة على أن الأنسان يولد وهو مزود بالاستعداد لتقبل الخير والشر ، وان البيئة التي يعيش وسطها الانسان هي التي تشكل شخصيته، وان للتربية دوراً فعالاً ومهماً جداً في بناء شخصية الفرد.
5 - ... مبدأ التخيير والتسيير :
... أختلف المعتزلة عن الاشاعرة في مسألة حرية الأنسان وارادته، فقد ذهبوا إلى ان الأنسان حرّ مختار، فاعل على الحقيقة وليس على المجاز . اما الاشاعرة فأنهم قالوا ان الأنسان مسؤول عن افعاله وتصرفاته من جهة انه مكتسب لها وليس محدثها وفاعلها على الحقيقة. والمعتزلة ارادوا بذلك ان ينزهوا الذات الألهية عن كل ظلم ، اما الاشاعرة أرادوا بذلك أن لايضعوا حدود للمشيئة الآلهية. اذن الشيء الذي اتفقوا عليه هو الدفاع عن الذات الالهية والقدرة الآلهية كلٌ على طريقتهِ ومنهجهِ.
... لكننا اذا أردنا أصدار الحكم في هذا الامر فأننا نستطيع القول: ان اراء المعتزلة في هذا الامر كانت واضحة وان طروحاتهم كانت تتسم بالواقعية والموضوعية. وأنهم لم يقدموا رجلاً ويؤخروا أخرى في هذا الأمر بل كانوا جريئين في أثبات الحرية الأنسانية والدفاع عنها . وان المعتزلة قد سبقوا المدارس الفكرية الغربية التي تنادي بحرية الأنسان . وكذلك تحدث المعتزلة عن أثر البيئة في حرية الأنسان.
6 - ... الوراثة والبيئة :
... أتفق المعتزلة والاشاعرة على ان سلوك الأنسان وشخصيته مزيج مابين عاملي الوراثة والبيئة . وان للتربية والبيئة التي يعيش وسطهما الأنسان دوراً اساسياً وفعالاً في بناء وتشكيل شخصية الأنسان.
7 - ... الفردية والأجتماعية :
... اكد المعتزلة والاشاعرة على فردية الأنسان وحريته، وبينوا الروح الأجتماعية بداخل الأنسان وقالوا بأنها حاجة في تركيب كل بني البشر. معنى ذلك انهم لم يهملوا أي جانب من الجانبين فقد اكدوا على الفرد والمجتمع في آنٍ واحد.
8 - ... النوع في الطبيعة الأنسانية :(1/3)
... لقد اتفق المعتزلة والاشاعرة في هذا الامر : اذ لم يفرقوا بين الرجل والمرأة في نظرتهم إلى الطبيعة الأنسانية ولكننا نجد ان أراء الاشاعرة في هذا الأمر كانت اكثر وضوحاً، اذ اشاروا إلى دور المرأة في بناء الأسرة ووضعوا للحياة الزوجية مجموعة شروط منها واجبات للرجل وواجبات للمرأة ، وبينوا حقوق كل منهما لكي تستقيم الحياة الزوجية.
رابعاً: نظرية المعرفة:
1 - ... تعريفهم للعلم والمعرفة:
... لقد جاءت أراء المعتزلة والاشاعرة وتعريفاتهم للعلم والمعرفة متشابهة من حيث المعنى وان كان هناك أختلاف في الالفاظ.
... اما علاقة العلم بالمعرفة فقد كانت عند المعتزلة مختلفة عن الاشاعرة، اذ كان المعتزلة يقولون بترادف المعنى مابين الأثنين وانهما يعنيان شيئاً واحداً. اما الاشاعرة فقد فرقوا بين معنى العلم ومعنى المعرفة، فقد قالوا ان المعرفة اول درجات العلم وهي التصور، اما العلم فهو التصديق. وقالوا ان المعرفة تختص بالجزئيات اما العلم فأنه يختص بالكليات ، ولهذا يقال عن الله بأنه عالم ولايقال بأنه عارف كما جاء في القرآن الكريم . ويبدوا أن أراء الاشاعرة
كانت أدق في قراءتهم لمفهومي العلم والمعرفة وانها مبنية على ماجاء في الكتاب العزيز .
2 - ... إمكان العلم والمعرفة :
... لقد اتفق المعتزلة والاشاعرة على ان العلم والمعرفة ممكنان للأنسان، وان بأستطاعة الانسان تحصيلهما بما زوده الله من الالات كالحواس والعقل. وقد ردوا على من انكر العلم والمعرفة والسوفسطانيين، وقالوا يجب ان لايُناظر مثل هؤلاء، ويجب ان يأدبوا بالضرب. واشاروا إلى قدرة العقل والحواس كأدوات للمعرفة على الرغم مما يعتريهما من حالات .
3 - ... أقسام العلمِ والمعرفة :(1/4)
... أتفق المعتزلة والاشاعرة على تقسيم العلوم على فطرية ومكتسبة، وقالوا ان العلوم الفطرية هي اساس للعلوم المكتسبة، واتفقوا على ان هناك مرحلة تقع بين هذه العلوم ولابد من حصولها وهي مرحلة النظر العقلي، وقالوا ان النظر العقلي لايكون ألاّ بعد ان يكون الانسان شاكاً، واتفقوا على ان الشك هو المرحلة الاولى من مراحل العلم.
... وقسّموا العلوم الفطرية على : البديهيات والحسيات، وقالوا ان المعارف الضرورية غير مشكوك في صحتها وهي من خواص العقل، وانها لاتحتاج إلى نظر وجهد وانها تحصل فينا لامن قبلنا، وانه لايمكن الرجوع عنها.
... وقد اختلفوا في هذا الامر في مجموعة قضايا جزئية منها :-
أ- قال المعتزلة بضرورة وجود الداعي أو الخاطر لدى الانسان لكي تحصل المعرفة.
ب- وقال المعتزلة ان العلم النظري يتولد نتيجة للنظر، اما الاشاعرة فقالوا ان حصول المعرفة بعد النظر بطريق جري العادة.
ج- يرى المعتزلة ان النظر واجب على كل انسان عاقل وطريق وجوبه العقل، اما الاشاعرة فيرون ان طريق وجوبه الشرع.
د- تحدث المعتزلة عن طرائق المعرفة وقالوا بإنها الحواس والخبر الصادق والعقل ، اما الاشاعرة فقد تحدثوا عن مصادر المعرفة وقالوا بإنها الأدلة النقلية والادلة العقلية، وذهبوا إلى ضرورة تلازمهما واتفاقهما على الرغم من انهم قدموا دليل النقل على دليل العقل.
هـ- ... العقل عند المعتزلة كان طريقاً مهماً جداً من طرائق المعرفة حتى انهم قدموهُ على النقل وعلى الخبر الصادق. وقالوا لايوجد تعارض مابين العقل والنقل. لأن الناصب لادلتهما هو الله - سبحانه وتعالى - ، واذا وجد تعارض فيجب ان نتأول النقل لكي يتفق مع العقل. وهناك حقيقة يجب الأقرار بها في هذا الأمر وهي : ان هناك أراء متقدمة جداً لكل من المعتزلة والاشاعرة في نظرية المعرفة ، ولانغالي اذا قلنا إنهم قد أشبعوا هذا الموضوع بأرائهم القيمة وطروحاتهم الواقعية.(1/5)
... ولقد لمسنا أثر القرآن الكريم واضحاً في طروحاتهم في هذا المجال، لذلك جاءت اغلب أرائهم فيه متفقة ، وهذا دليل واضح على أنهما ينهلان من المنهل نفسه.
خامساً: الفكر التربوي :
1 - ... الاهداف التربوية:
... جاءت الاهداف التربوية عند كل من المعتزلة والاشاعرة متفقة في المعنى والمضمون على الرغم من اختلاف الالفاظ، وهذا الأتفاق يرجع إلى جملة من الامور منها : انهما يستقيان افكارهما من المنبع نفسه او المصدر وهو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كذلك تشابه الظروف او العوامل الثقافية التي شكلت الفكر عند الاثنين والسعي لتحقيق الغايات نفسها ، البعيدة وهي الدفاع عن العقيدة الاسلامية ومن ثم نشر الدين الاسلامي هذا كله ادى إلى تشابه الاهداف التربوية عند كل من المعتزلة والاشاعرة.
2 - ... المعلم :
... أتفق المعتزلة والاشاعرة على مجموعة شروط ينبغي توافرها في الأنسان لكي يكون مناسباً لمهنة التعليم وهذه الشروط هي كفايات أساسية ينبغي على المعلم تحصيلها لكي يمتهن مهنة التعليم . ومن هذه الشروط:
أ- التخصص العلمي.
ب- الاستمرار في تحصيل العلم والمعرفة.
ج- الالتزام الأخلاقي.
د- الأبتعاد عن التكبر والغرور.
... اما الأختلافات فقد كانت كالآتي :
... لقد حدد المعتزلة مجموعة شروط ينبغي توافرها في المفسر لكي يستطيع تفسير القرآن الكريم وتعليمه للمتعلمين كذلك حددوا مجموعة واجبات على المعلم اداؤها لكي يؤدي رسالته على الوجه الأحسن.(1/6)
... اما الأشاعرة : فان اراءهم في المعلم كانت اكثر دقة من نظرائهم المعتزلة، حتى انهم ميزوا مابين معلم علم الكلام ووضعوا له مواصفات، ومعلم الصبيان ايضاً وضعوا له مواصفات خاصة ينبغي له التحلي بها ، وكذلك عرجوا على معلم الكبار ووضعوا له مجموعة مواصفات ايضاً. وهذا ماتسعى له الآن المدارس التربوية الحديثة من ان تكون هناك مؤسسات تربوية اكاديمية متخصصة لاعداد معلم رياض الاطفال واعداد معلم المرحلة الابتدائية واعداد من يعمل للمرحلة الثانوية واعداد استاذ جامعي. وكل له مواصفات خاصة تمكنه من اداء عملهِ على احسن وجه .
3 - ... المتعلم :
... أتفق المعتزلة والاشاعرة على تقسيم المراحل العمرية عند المتعلمين، واهتموا أهتماماً بالغاً بهذه الشريحة المهمة من شرائح المجتمع. لكننا نجد ان هناك اختلافات واضحة في وجهة نظر كل من المعتزلة والاشاعرة.
... فقد قسم المعتزلة المتعلمين على مرحلتين زمنيتين هما :
أ مرحلة الطفولة والصبا : وقد وضعوا مجموعة مواصفات خاصة لهذه المرحلة ينبغي مراعاتها من قبل المعلمين والأهل.
ب مرحلة النضوج او تمام العقل: وقد وضعوا لها مجموعة خصائص وواجب على المعلم ان يراعيها .
اما الاشاعرة فقد كانت تقسيماتهم تتميز بأنها اكثر دقة من سابقيهم ، اذ كانت اهتماماتهم بهذه الشريحة كالآتي:
أ- أختيار الأم المناسبة.
ب- مرحلة الولادة.
ج- مرحلة التنشئة الأولية
د- مرحلة الصبا.
هـ- ... مرحلة طالب العلم.
وبناء عليه نجد ان اراء الاشاعرة في هذا الامر كانت تتسم بالدقة والشمول وانها غطت كل مراحل النمو لهذهِ الشريحة ، أي انها استوعبت كل المراحل التي يمر بها المتعلم، وهذا ماتسعى الآن الانظمة المعاصرة العمل بمقتضاها.
4 - ... المنهج الدراسي :(1/7)
... لقد كان المنهج الدراسي عند المعتزلة يضم النحو والشعر والحساب ، وعلم الكلام ونظريتهم في الأصول الخمس وعلوم القرآن والسنة النبوية وعلم الرجال (رجال الحديث) وكتب الفقه المقارن، واصحاب المقالات (الملل والنحل) والتاريخ. وهناك امور اكد عليها المعتزلة في تقديم المنهج للمتعلمين منها : ان المادة الدراسية تعطى للمتعلم بحسب الحاجة اليها، وان الزيادة فيها تكون غير مفيدة. كذلك ربطوا بين حاجة الانسان وبين ما يقدم له من مادة دراسية. واكدوا تعليم مادة الحساب اكثر من غيرها لأنها مفيدة في حياة الأنسان، وهذا يدل على ان المعتزلة تنبهوا إلى ان هناك مواد دراسية تكون مناسبة لحياة الانسان . ويجب نصحة إلى تعلمها. اما الاشاعرة فقد تقسم عندهم المنهج حسب المراحل العمرية للمتعلمين ، فعند ذلك ان المنهج الدراسي عندهم يضم كل الخبرات والمعلومات المقدمة إلى الطفل من قبل مؤسسات المجتمع كالأسرة والمدرسة وغيرها، ثم القراءة والكتابة، وقراءة القرآن والسنة النبوية المطهرة ومناقب الرجال، ثم علوم اللغة العربية ، ثم اصول الفقه ثم علم التفسير، ثم بعد ذلك علم الكلام، والحساب والطب والأصول الاعتقادية الاشعرية. وقد اكدوا تعليم الطب والحساب لأنهما ضروريان فالأول لصحة الابدان والثاني في المعاملات التجارية وقسمة الوصايا والمورايث. وهذا يدل على ان الاشاعرة راعوا الظروف والاحتياجات للأنسان في وضع المنهج ، ثم راعوا أمر في غاية الأهمية وهو التطور العقلي للمتعلمين في وضع المنهج الدراسي.
5 - ... طرائق التدريس :
... لقد اتفق المعتزلة والاشاعرة على مجموعة طرائق تدريسية منها:
أ- طريقة الحوار والمناقشة.
ب- طريقة الإملاء.
ج- طريقة التصنيف او التأليف.
د- طريقة التكرار او الاعادة.
... وقد اختلف المعتزلة عن الاشاعرة في مجموعة طرائق منها:
أ- طريقة الرسائل .
ب- طريقة ارسال الدعاة.
ج- الطريقة التجريبية.
د- طريقة التعلم التعاوني.(1/8)
... اما الاشاعرة فقد اختلفوا في مجموعة طرائق تدريس منها :
أ- طريقة التلقين.
ب- طريقة التقليد والمحاكاة.
ج- الطريقة التدريسية التي وضعها الاشاعرة لغرس العقيدة.
د- طريقة اتباع المنهج القرآني في التدريس.
6 - ... الاراء والمباديء التربوية :
... أتفق المعتزلة والاشاعرة على مبدءاً تربوياً واحداً وهو : التأكيد على الاستعداد العقلي عند المتعلمين وقد اختلفوا في مجموعة مباديء تربوية منها:
أ المباديء التربوية التي اختلف فيها المعتزلة عن الاشاعرة هي :
رفض التقليد في المعرفة ، التأكيد على التخصص العلمي، الأهتمام بالعلم وتقديمه على العبادة، حرية التفكير ، ان العلم يحقق الفائدة والمنفعة للأنسان، التراكم المعرفي ودورهُ في نضوج المعرفة ، المعرفة حاجة تلح على المتعلم ناتجة عن الجهل، اثر البيئة الاجتماعية على تربية الأنسان ، محاربة الخرافات والشعوذة ، مبدأ النقد الذاتي.
ب اما الاشاعرة فقد اختلفوا عن المعتزلة في مجموعة مباديء تربوية منها: عدم التطرف في نقد الآخرين، الانفتاح الفكري على الآخرين ، عدم الانغلاق ، الابتعاد عن الذاتية في اصدار الاحكام ، تأكيد روح البحث العلمي، والتقصي عن الحقائق ، الالتزام بأساسيات المعرفة واصولها، التفرغ للدراسة والعلم ، مبدأ الفروق الفردية، مبدأ الارشاد النفسي والتوجيه التربوي ، مبدأ التعلم الشرطي ، مبدأ التربية العملية ، التفاعل البناء ازاء مايستجد من قضايا وأمور.(1/9)
الفصل السادس
اولاً: ... الاستنتاجات
لقد توصل الباحث من خلال الدراسة الحالية إلى مجموعة امور منها :
1- ان الفكر التربوي العربي الاسلامي عند المعتزلة والاشاعرة فكر مستقى من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
2- يتصف الفكر التربوي عند المعتزلة والاشاعرة بأنه فكر عقلاني ، أي انه يعتمد على العقل اساساً في التنظير ومنهجاً للوصول إلى الحقيقية.
3- كذلك يتصف الفكر التربوي عند المعتزلة والاشاعرة، بأنه فكر واقعي ، أي ان مفكري المعتزلة والاشاعرة كانوا ينظرون إلى الانسان نظرة واقعية أخذين بنظر الاعتبار الواقع الذي يعيش فيه الفرد ، فقد عالجوا الكثير من القضايا والمشكلات التي أعترضت سبيل الفرد والمجتمع على وفق مواقف الحياة.
4- كما يمتاز الفكر التربوي العربي الاسلامي عند المعتزلة والاشاعرة ، بأنه فكر منفتح، معنى ذلك إن المفكرين المسلمين معتزلةً واشاعرة تحاوروا مع نظرائهم من ابناء الحضارات الأخرى، فأثروا وتأثروا بهم، وهذهِ سمة ايجابية أتسم بها مفكرونا ألا وهي التفاعل الحضاري ومن ثم التعايش السلمي.
5- كذلك كان الفكر التربوي العربي الاسلامي عند المعتزلة والاشاعرة فكراً شمولياً ، أي أنه نظر إلى الانسان ضمن منظومة معرفية متكونة من الموقف من الله - سبحانه وتعالى - والكون والانسان، ثم وضع له المنهج المعرفي المناسب الذي يوضح له علاقته بخالقه وبالكون الذي يعيش فيه.
ثانياً: الفكر التربوي العربي الاسلامي المقترح:
... بناءاً على كل ماتقدم ومن خلال النظر إلى واقعنا الراهن يمكننا وضع تصور للفكر التربوي العربي الاسلامي.
... فعند الشروع في وضع تصور لفكر تربوي عربي أسلامي معاصر، علينا استيعاب الأرهاصات التي شكلت ملامح العصر الذي نعيش فيه، أو أعطت صورة للعالم الذي نعيش وسطه.(1/1)
... فالعالم اليوم هو عالم جديد تغير فيه بنيان المعرفة، وطبيعة المجتمعات الأنسانية ، والنظام الاجتماعي ونظام التفكير ، بل لقد تغيرت فيه فكرة المجتمع والثقافة نفسها، وان الانسانية لاتستطيع الاستمرار في البقاء فيما كانت عليه في الماضي، وان ماهو جديد في هذا العالم ليس جديداً بمعنى إنه لم يكن موجوداً في السابق، وإنما هو جديد لأنه تغير نوعاً وان الشيء الجديد الوحيد في هذا العالم هو الاحساس في الجدة والتبدل في معيار التبدل ومداه . حتى عمر الانسان لم يُعد يقاس بمفهوم النمو البسيط أو بإعادة تنظيم خبراته وتهذيبها التي يحرزها في طفولته ، وإنما صار يقاس بدرجة الأنقلاب فيه . وكذلك إنه في جيل واحد استطاعت المعرفة بالعالم الطبيعي ان تحيط بمعارف السابقين علينا أجمعين، وان تهزها إلى الاعماق، وان تتمم ما كان فيها من نقص ، كما إن الفنون التي تعيش بها وبينها تضاعفت وتشابكت حتى أرتبط الكون ببعضه أرتباطاً وثيقاً في النواحي كافة.
... وبناءاً على ذلك فان النوعية الكونية للعالم أصبحت جديدة فمعرفتنا وتعاطفنا مع شعوب بعيدة ومتنوعة وأرتباطنا معها في قضايا فعلية والتزامنا لهم ومعهم بعلاقات أنسانية، أصبحت حاجة ملحة وضرورية للأندماج الحضاري.
... اذن العصر الذي نعيش فيه عصر مشاريع مدروسة منظمة محدودة واضحة الهدف وبينة المعالم، ولذلك كان من واجب الأمة العربية الاسلامية ان تقف لتحدد أهدافها وترسم لها الطرائق والوسائل المناسبة لتحقيقها؛ فتحديد الهدف في أنه يجعل للعمل معنىً ويرسم له اتجاهاً ويحدد له الوسائل والطرائق الملائمة ، لان الانسان الذي لاهدف له لايعرف لذة العمل ولايتذوق طعم الحماس وهو بعد ضائع لايعرف اين المنتهى ولايستطيع الجزم بأفضلية طريقة على طريقة ووسيلة على اخرى.(1/2)
... وعلى الرغم من ذلك فأن العديد من المشكلات الأساسية المتعلقة بحاضر الانسان يمكننا التغلب عليها من خلال التربية، وذلك عبر اللحظات التي يتحقق لنا من ثناياها القدرة على اكتشاف إحساسنا بالغرض السليم الذي يبرر العمل التربوي . فإذا كان للتربية غايات كثيرة وأنواع متعددة، واذا كانت الأمم والشعوب تشترك في معظم هذه الغايات وتهتم بهذه الانواع ؛ فإن حاجات الأمم المختلفة وظروفها المتباينة، واختلاف درجة رقيها يحتم عليها ان تختلف في الأهداف وأن تزيد عنايتها ببعض الانواع على اهتمامها بالأنواع الاخرى.
... ولا جدال في ان الوقت قد اصبح مواتياً الآن للتفكير في كيفية الاستفادة من انشطتنا التربوية على افضل صورة ممكنة خلال السنوات القادمة، بحيث نحقق خدمات أكثر فعالية للمجتمع الانساني، فيما ان عالمنا يبحث عن علاج لمشاكلهِ المتعلقة بعدم المساواة والاستغلال والنزعات الاستعلائية ، والحروب المدمرة ، وبؤرة التوتر الحاد التي حطت من قدر الجنس البشري.
... لذلك فان الاهمية الوظيفية للتربية في إطار عالم الغد يمكننا ان نبينها في ضوء آراء مدارسنا الفكرية ومنها المعتزلة والاشاعرة؛ لكونها تمثل الاصالة من أجل تدعيم القيم المتصلة بمجتمع سريع التغير، لاسيما اذا كان الشيء المهم الذي ينقصنا لمساعدة التربية على ان تصبح أداة مؤثرة وفعالة بصورة حقيقية، هو القرارات الاجتماعية المطلوبة لاحياء وانعاش مصدر ومورد من اليقين بالنسبة لأغراضها.
... ان أغلب المختصين في ابحاث وسياسات المستقبل يتفقون حول واحدة من مهام المجتمعات الانسانية هي أن تحدد ماتبحث عنه في الواقع خلال الحقبات الزمنية المقبلة، وماذا تعني نواحي الطموح هذه بالنسبة للمدارس ، إنها لناحية قصور عميقة في حقوق المتعلمين أن نجعلهم يمضون خلال العملية التربوية دون تحفيزهم على أن يسألوا أنفهسم بعض التساؤلات الجادة، عن علة(1/3)
إتباعهم لاتجاه معين في الحياة دون آخر ، وعن المبررات الكامنة وراء
وجود الحياة، وعن دواعي نظرتهم لبعض الظواهر بأنها تفوق في قيمتها ظواهر آخرى.
... وبناءاً على ماسبق يجب على التربية ان تزود المتعلمين بوعي كامل عن عالمهم المتسم بسرعة التغير، ومن ثم تنمية وتطوير قواهم على الاختيار في نوع المستقبل المحتمل ، وهذا من أجلهم هم بصفة ذاتية ، ومن أجل مجتمعاتهم ، وان تنمي قواهم على اصدار الأحكام ، بأن تجعلهم يفكرون بعمق وجدية في القضايا الدائمة ؛ وكيف نعيش، ومالشيء الذي نعيش من اجله، وهذا يعني بناء وعي مستقبلي في حيز ثقافتهم.
... معنى كل ماسبق ان التربية يجب أن تكون قوة اجتماعية لدى الانسان ليمتلك القدرة على تقرير مصيره ومصير مجتمعه، وهذهِ التربية من وجهة نظر الباحث تتأتى في ظل فكر تربوي نستطيع تلمس ملامحهِ من خلال ماجاء من اراء فكرية وتربوية عند المعتزلة والاشاعرة وغيرهما، ومن ثم تبني المبادئ التربوية التي اقرها كل فريق مع استنتاجات من قبل الباحث لأبراز هذه المبادئ ، لانها ذكرت جملة غير مفصلة.
... وهذه المبادئ هي :
1 - ... المبدأ الشمولي :
... أي النظر إلى الانسان نظرة شاملة من حيث وجوده في الكون الفسيح وعلاقته بخالقهِ - عز وجل - ؛ وبذلك تؤكد هذهِ النظرة الشمولية على تربية وتنشئة الانسان من جميع جوانب شخصيته السلوكية والاخلاقية والاجتماعية وبصورة متوازنة ومتكافئة لتوافق بين متصلبات الروح والجسد وبين ملذات الدنيا ومتطلبات الآخرة.
2 - ... المبدأ التكاملي :(1/4)
... النظر إلى الانسان نظرة متكاملة ، ومن ثم تكوين انسان جديد من خلال الاهتمام بجميع قدراتهِ العلمية والفكرية والوجدانية والروحية والخلقية والجسمية وتنميتها، لان الاهتمام بجانب واحد، أو جوانب محددة يؤدي إلى انتاج صورة مشوهة غير متكاملة للأنسان، وهذا المبدأ لكي تحققه التربية عليها أن تهيء الفرص المتساوية لابناء المجتمع كي يعبر كلٍ منهم عن إمكاناته وطاقاته الكامنة، مما يحقق بناء الشخصية المتكاملة.
3 - ... المبدأ العقلاني :
... الايمان بقدرة العقل الانساني وجعله اساساً لوضع منهج تربوي عقلاني يمكن الانسان من استكشاف الكون المحيط به وتطويعه لأرادته ، ومن ثم اخضاع مشاكل حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للتحليل العقلاني بعيداً عن اساليب القسر أو التعليلات الغيبية والعاطفية.
... فالمنهج العقلاني المبني على فكرة النظام الثابت لعمل الكون وفكرة الطريقة الصحيحة التي تؤدي إلى فهم سياقات السبب والنتيجة في تحليل وقوع الظواهر الطبيعية والإجتماعية على حدٍ سواء، يؤدي إلى الايمان بقدرة الانسان على ان يتعلم من خلال معرفتهما كيف يتقدم لانظرياً فحسب بل أخلاقياً وعملياً أيضاً في شؤون الحياة كلها ، وأنه بفضل الطريقة العقلانية يمتلك الانسان زمام نفسه، كما يتعلم السيطرة على بيئته الطبيعية والاجتماعية، ويجب ان نُثبت ان تأكيد النزعة العقلانية وتبنيها في مناهجنا التربوية لايهدد الحياة الروحية للفرد بل تتسامى معها.
... لذلك تأتي المطالبة بتدعيم النزعة العقلانية في العملية التربوية وجعلها أساس بناء شخصية الفرد العربي المسلم، إنما هي تعبير عن حاجة ملحة للانسان؛ لفهم نفسه بصورةٍ أفضل ، ومن ثم فهم العالم الذي يعيش فيه وبعد ذلك يجب ان يسيطر عليه من دون هدر طاقته في الذهاب وراء ذلك، فيما لايمكن اختضاعهِ للبحث العلمي.(1/5)
... وكل هذا يتطلب منا ان نربي المتعلمين على منهج عقلي مستوعب للمشاكل الطبيعية والأنسانية، أي يجب أن يكون الاحتكام إلى العقل والاعتراف بالحقائق المتوفرة سواء اكانت مادية أم انسانية ... مادة التفكير في مشكلات الحياة ومنفذاً إلى التماس الحلول لهذه المشكلات.
4 - ... المبدأ الواقعي:
... التأكيد على الواقع الذي يعيش فيه الانسان ، أي الاعتراف بأن ليست هناك ثوابت مطلقة في كل شيء في واقع الانسان الاجتماعي والطبيعي ، بل إن اغلب الاشياء متحركة في توسع نظامي مطرد. وان التسليم بهذا المبدأ سيكون ضمانة حياتية لمن يريد أن يحيا في هذا العالم الجديد. وكذلك ان القيمة الحقيقية لأي شيء تكمن في مشاركة الانسان فيه، فلا قيمة لشيء من دون تدخل العمل الانساني فيه.
... وبناءاً عليه لابد ان نربي القوة الناقدة في نفوس ابناء المجتمع العربي الاسلامي لكي يستطيعوا في ضوئها وبواسطتها أن يفكروا في تصاميم إجتماعية أفضل من تلك التي يعيشون في ظلها الآن والتي قد تصلح لعقد من الزمان ثم لاتصلح للعقد الذي يليه.
5 - ... المبدأ الانساني:
... التأكيد على مفهوم الكرامة الانسانية لأنه مفهوم دقيق جداً ، ولابد من توفر جملة شروط اخلاقية واجتماعية لازمة لتحديد معناها تحديداً عملياً، تحديداً يجعل من الانسان قيمة مركزية تسخر المؤسسات الاجتماعية المختلفة في كل مايؤدي إلى ضمان حقوقه في الأمن والحرية.
... أما تربوياً فيجب ان يكون الانسان موضوعاً رئيساً تتعامل معه المناهج والكتب والمؤسسات التعليمية برؤى ايجابية ، ومن ثم اعتباره الغاية الاساسية التي من اجلها وضعت هذه المناهج والكتب والمؤسسات.
6 - ... مبدأ العدل الاجتماعي :(1/6)
... وهو الايمان بالانسان كقيمة مركزية في هذه الحياة، وهذا يتطلب منا تربية ترى بأن في داخل كل فرد مهما كان اصله الاجتماعي أو العرقي طاقات ابداعية مميزة له، ومن ثم يجب تركيز الجهود التربوية على تحريرها من قيودها الاجتماعية والثقافية، ومعنى هذا يجب ان تكون رؤيتنا لطبيعة العملية التربوية قائمة على التسليم بأن ليس بيننا من يعرف مقدماً ماهو قادر على القيام به حتى يحاول القيام بهِ، أي اننا نبتعد عن مفهوم التربية المقننة مسبقاً (أي القوالب الجامدة) ، ونتحول إلى مفهوم التربية المرنة المتنوعة التي تتيح لكل متعلم أن يتعلم ماهو قادر على تعلمه ومايستطيع الابداع فيه أكثر من سواه من دون مفاضلة اجتماعية مجحفة.
7 - ... مبدأ التربية العلمية :
... التسليم بأن المعرفة بذاتها قوة ، أو إن القوة المعاصرة هي نوع من أنواع المعرفة، أي أننا لانستطيع مواجهة العالم بثقافة منقوصة، ثقافة لاتعتمد المعرفة العلمية أساساً لها، فالثقافة اللفظية والثقافة التأريخية العاطفية لم تُعد تُجدي نفعاً في التنافس الفكري الذي يشهده عالمنا المعاصر. لاسيما بعد أن اتضح لنا ان من اهم سمات العصر الراهن ، سرعة عجلة التطور بكل مجالات الحياة المبنية على أُسس علمية سليمة والمعرفة المتطورة.
... وبناءاً على ذلك يجب ان تسعى نظمنا التربوية بجميع اجهزتها وطاقاتها إلى تنمية الفكر الانساني وتحريره من قيد الجهل والتقليد، وتنويره بالعبر والأحداث وحثهِ على التأمل في دقة الكون وانظمته؛ ليخلص بذلك إلى الايمان بالله خالق الكون، وواهب الحياة ... ايمان عن تدبر واعتقاد عن حجة ، ويقين عن دليل ؛ لتشرق بذلك في عوالم النفس اضواء العقيدة الواعية التي تدفع الانسان إلى التسابق في ميادين البر ومجالات الخير من جهة والى ساحات العمل بهمةٍ عالية من جهة اخرى.
8 - ... مبدأ العمل :(1/7)
... يجب التأكيد على ان قيمة الانسان تأتي من رؤيته لقيمة العمل ، لان العمل هو مقياس الثروة وخالقها. وتأكيد ان قيمة الاشياء تكمن في العمل الذي يؤدي إلى إنتاجها ، ونحن اذا كنا نفكر في قيمة الإنسان أم في قيمة الاشياء فإن العمل هو مصدر الإثنين .
... وبناءاً عليه يجب ان تنبني مناهجنا التعليمية بشكل يؤكد النظرة الايجابية للعمل ومعرفة قيمته الحقيقية .
9 - ... مبدأ الأصالة والأقتباس :
... ان الأصالة في التربية تعني جودتها وابتكارها وعراقتها، أما الاقتباس فيعني قدرة التربية على الآخذ عن الآخرين وتعلمها من تجاربهم والاستفادة من خبراتهم. ولايشترط في أصالة التربية أن تكون عناصرها مخلوقة من العدم كخلق الشيء من لاشيء، وانما يشترط فيها ان تكون مطبوعة بطابع خاص لايشاركها فيه غيرها ، ويعني بهذا الطابع الخاص غاية التربية وصورتها وملائمة هذهِ الصورة لمنازع المجتمع وحاجاته، ومشاكلتها لحاجاتهِ وتقاليده في ماضيه وحاضرهِ، وموافقتها للمثل العليا التي يريد ان يحققها في مستقبله، وهي ايضاً لاتستغنى عن الاقتباس لان حقائق التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع كغيرها من حقائق العلوم مشاع بين الأمم ، لايأنف اللاحقون من اخذها عن السابقين، ولايمنعهم من اقتباسها دين ولاجنس ولالسان. فلولا استفادت بعض الأمم من تجارب بعضها الآخر لما سارت في طريق التقدم، ولما اجتازت مرحلة التقليد والأتباع إلى مرحلة الابتكار والابداع، بل ان التقدم الانساني رهن بإشاعة الحقائق ونشرها في جميع اللغات. فمن الواجب على كل مجتمع ان يقتبس ماعند غيره من الحقائق ، وان يضيف عليها من تجاربه ماينضجها أو يكملها، فليس بين الأصالة والاقتباس تناقض ، بل ان الأصالة موجهة للاقتباس ، والاقتباس مكمل للأصالة.(1/8)
... ولعلنا اليوم احوج من أي وقت مضى إلى فكر تربوي أصيل يُعبر عن حاجات المجتمع الاسلامي وقيمه العليا ومن ثم لديه القدرة على الاقتباس والأفادة من تجارب الأخرين في ميادين التربية .
10 - ... مبدأ الأندماج الحضاري :
... تأكيد حقيقة مفادها ان المسلمين يقفون أمام واقع العصر وروحه وقفة ايجابية، وان هذا الأمر يحتم عليهم الإختيار ولكنه لايلزمهم باستعارة نمط معين أو استجابة معينة بقدر مايلزمهم بفهم روح العصر وتقرير الانتساب اليه وتجنب الإنعزال عنه لأن العزلة الحضارية تعني السقوط من حركة التاريخ.
... ونحن اليوم يكفينا ضغط الاحياء، ولانريد صراحةً أن نحكم بالأموات. لقد اجتهد المجتهدون الأوائل بما فيه الكفاية بقدر ماسمحت به ظروفهم وثقافتهم، وكانوا مجتهدون حقاً لأنهم جابهوا قضاياهم وعرفوا كيف يحلونها. أما نحن فما زلنا نترسم خطاهم ونبحث عن حلول مشاكلنا عندهم وهم غير قادرين على حلها لأختلاف الزمان والمكان والبشرية. ولقد آن الأوان للاجتهاد والتجديد بما تقتضيه روح العصر الحديث، وعلى وفق معطيات العلم المتجددة والظروف الموضوعية المتغيرة وإعادة النظر بالتراث القديم والقيام بحركة علمية عامة تتحرى آثار السلف وتُخضع نصوصها لقواعد النقد العلمي وتقييمها من جديد.
... ويجب تأكيد ان حلول أي آزمة إنسانية لابد ان تستخلص من طبيعة تلك الأزمة ذاتها، واذا كانت المعضلة الاولى في أزمتنا التربوية هي العزلة الحضارية فأن المنطلق الطبيعي إلى تجاوزها يكمن في التماس الوسيلة للانتساب إلى حضارة العصر الذي نعايشه ويجب ان نحيا فيه ، وهذا الأمر يتطلب قدراً من الهمة والشجاعة والأقدام والصراحة مع النفس.
ثالثاً: التوصيات :
... في ضوء نتائج البحث تترشح توصيات عدة منها :(1/9)
1- على المؤسسات التربوية ان تهتم بتدريب طلبتها على اسلوب التفكير العقلي والنقدي البناء ، وذلك بالاعتماد على مناهج تخاطب العقل وتُثير فيه القدرة على التساؤل عن الظواهر الطبيعية والأجتماعية.
2- يجب احلال القضايا التربوية المقام الاول من اهتمام ابناء المجتمع، ومن ثم اشراك السلطات المحلية والمدنية في شؤون التعليم وصيانة حرية الفكر، واثارة روح المبادرة والانتاج الشخصي والابتكار والابداع عند جميع الافراد.
3- عند الشروع بوضع خطة عمل لتطوير التربية العربية الاسلامية ، على المختصين في مجال فلسفة التربية ان يركزوا على منابع الثقافة العربية الاسلامية، وواقع الأمة العربية الاسلامية المعاصر وموقعها ودورها وعلاقتها بواقع الثقافات العالمية المعاصرة.
4- التأكيد على الاراء الفكرية والتربوية لمدرستي المعتزلة والاشاعرة ضمن مادة الفكر التربوي العربي الاسلامي التي تقدم لطلبة الدراسات العليا في كليات التربية.
5- الأخذ بما ورد من اراء تربوية ونفسية في هذه الأطروحة وتضمينها في مادة فلسفة التربية التي تعتبر أحد مفردات المنهج الذي يقدم لطلبة كليات التربية وكليات المعلمين ومعاهد اعداد المعلمين.
6- الاستفادة من طريقة المعتزلة في الأهتمام بإعداد الدعاة للفكر في اصلاح دور ومعاهد المعلمين ورفع شأن المعلم، لأن مدار الأمر كله، انما على المعلم ، بوصفه الاساس في كل اصلاح تربوي ، فاذا اعددناه اعداداً نفسياً واجتماعياً وتربوياً هيئنا بذلك اسباب التقدم الاجتماعي.
7- الاعتماد على الطريقة التدريسية التي وضعها الاشاعرة لغرس العقيدة الاسلامية ، لتدريس مادة التربية الاسلامية ولغرس عقيدة التوحيد في ذهن الطفل .
رابعاً: المقترحات:(1/10)
1- يقترح الباحث اجراء دراسة مماثلة لمدارس فكرية اسلامية اخرى . مثلاً: كالفكر التربوي العربي الاسلامي عند الأمامية والزيدية بأتباع نفس المنهج للتوصل إلى معرفة اراء المدرستين الفكرية والتربوية ومن ثم التوصل إلى تعرف الفكر التربوي العربي الاسلامي.
2- اجراء دراسة مقارنة بين الفكر التربوي للمعتزلة او الأشاعرة ومقارنتها مع أحد مدارس الفكر التربوي الغربي الحديث.
3- اجراء دراسة مقارنة بين الفكر التربوي للمعتزلة أو الاشاعرة ومقارنتها مع أحد مدارس الفكر العربي الاسلامي كالماتريدية أو الامامية او الزيدية، لمعرفة التأثر والتأثير مابين مدارس الفكر الاسلامي.(1/11)
قائمة المصادر
1- القرآن الكريم
2- ابن الاثير ، عز الدين علي بن محمد (د.ت) . الكامل في التاريخ، ط1، القاهرة – مصر ، المطبعة المنيرية.
3- ابن بطوطة ، ابو عبدالله محمد بن ابراهيم اللوائي (1964) . تحفة النظار غرائب الامصار وعجائب الأسفار، بيروت.
4- ابن جبير ، محمد بن أحمد بن جبير الكناني (1968) . رحلة ابن جبير، بيروت.
5- ابن جلجل، ابو داود سليمان بن حسان (1955) . طبقات الاطباء والحكماء، مصر.
6- ابن حزم ، ابو محمد علي بن أحمد الظاهري (د.ت) . الفصل في الملل والاهواء والنحل، بيروت ، لبنان ، دار المعرفة.
7- ابن حوقل ، ابو القاسم محمد بن علي (1939) . صورة الارض جزءان، تحقيق كريمرز ، لندن.
8- ابن خلدون، ولي الدين ابو زيد عبدالرحمن بن محمد بن خلدون (د.ت) . المقدمة، بيروت – لبنان ، دار الكشاف.
9- ابن خلكان، ابو العباس شمس الدين أحمد بن محمد (د.ت) . وفيات الاعيان وانباء الزمان. تحقيق: احسان عباس ، لبنان – بيروت ، مطبعة الغريب.
10- ابن رسته، ابو علي احمد بن عمر (1891). الاعلاق النفيسة، ليدن.
11- ابن رشد ، ابو الوليد محمد بن احمد (1964). الكشف عن مناهج الأدلة ، ط2، تحقيق د. محمود قاسم ، مصر ، مطبعة الأنجلو المصرية.
12- ابن طباطبا ، محمد بن علي بن طقطقة (د.ت). الفخري في الآداب السلطانية، القاهرة ، مطبعة محمد علي.
13- ابن طيفور (1968) . بغداد ، ط بغداد.
14- ابن عبد ربه ، ابو عمر احمد بن محمد الاندلسي (د.ت) . العقد الفريد ، ط3 ، شرح وتصحيح : احمد أمين وآخرون ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
15- ابن العبري (1890) . مختصر الدول.
16- ابن عساكر ، ابو القاسم علي بن الحسن الدمشقي (د.ت) . تبيين كذب المفتري فيما نسب للامام ابي الحسن الاشعري، نشره المقدسي ، دمشق ، مطبعة التوفيق.(1/1)
17- ابن العماد ، الحنبلي (د.ت) . شذرات الذهب في اخبار من ذهب، بيروت – لبنان، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ودار الكتب العلمية .
18- ابن قتيبة ، ابو محمد عبدالله بن مسلم الدينوري ( 1930) . عيون الاخبار، نشر دار الكتب المصرية.
19- ابن قتيبة ، ابو محمد عبدالله بن مسلم الدينوري (1960) . المعارف، ط1، تحقيق : د. ثروت عكاشة، القاهرة.
20- ابن المرتضى ، احمد بن يحيى (1961) . طبقات المعتزلة، تحقيق: سوسنة ريفلد فلزر، ط بيروت.
21- ابن المرتضى، احمد بن يحيى (د.ت) . المنية والامل في شرح كتاب الملل والنحل، طبعة حيدر اباد، الهند.
22- ابن منظور ، ابو الفضل محمد بن مكرم الانصاري ( 1970) . لسان العرب، بيروت.
23- ابن النديم، ابو الفرج محمد بن ابي يعقوب اسحاق المعروف بالوراق (د.ت) . الفهرست في اخبار العلماء المصنفين من القدماء والمحدثين واسماء كتبهم. تحقيق: رضا تجدد ، طهران.
24- ابو ريان ( 1973) . تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام ، ط1، مصر.
25- ابو ريدة، محمد عبدالهادي (1946) ابراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية، ط1، مصر.
26- ابو زهرة، محمد (د.ت) . ابو حنيفة، دار الفكر العربي.
27- ابو زهرة، محمد (د.ت) . تاريخ المذاهب الاسلامية، الجيزة – مصر، دار الفكر العربي.
28- ابو زهرة ، محمد (د.ت) الشافعي ، دار الفكر العربي ، مصر.
29- ابو زيد ، نصر حامد (د.ت) . الاتجاه العقلي في التفسير ، بيروت – لبنان، دار التنوير.
30- ابو العينين، علي خليل مصطفى (1983) . الفكر التربوي الاسلامي، مجلة: رسالة الخليج العربي، العدد العاشر ، السنة الثالثة.
31- ابو يوسف ، القاضي يعقوب بن ابراهيم الانصاري (د.ت) . الخراج، القاهرة، نشر المطبعة السلفية.
32- أحمد أمين (1933) . ضحى الاسلام، ط7 ، مكتبة النهضة المصرية.
33- أحمد أمين (1969). ظهر الاسلام، ط5، بيروت – لبنان، دار الكتاب العربي.(1/2)
34- أحمد أمين (1969) . فجر الاسلام ، ط10، بيروت – لبنان، دار الكتاب العربي.
35- أحمد علي (1969) . ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد . بيروت.
36- أحمد ، سعد مرسي (1975). تطور الفكر التربوي ، القاهرة، عالم الكتب.
37- أخوان الصفا (د.ت). رسائل اخوان الصفا ، بيروت، دار صادر.
38- الاسفراييني ، ابو المظفر (1940) . التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، تحقيق محمد زاهر الكوثري، مكتب نشر الثقافة الاسلامية.
39- الأشعري، ابو الحسن (1977) . الابانة عن اصول الديانة، ط1 ، تقديم وتحقيق، د.فوقية حسن محمود ، مصر، دار الانصار.
40- الاشعري، ابو الحسن (1983). رسالة استحسان الخوض في علم الكلام، ضمن كتاب مذاهب الاسلاميين الدكتور عبدالرحمن بدوي، دار العلم للملايين ، بيروت.
41- الاشعري، ابو الحسن (1955) . اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، تحقيق : د. حمودة غرابة، مطبعة مصر.
42- الاشعري، ابو الحسن ( 1950) . مقالات الاسلاميين ، ط مصر.
43- الاصطخري، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد (1927) . مسالك الممالك بعناية ديفوية ، ليدن .
44- الاصفهاني، ابو فرج (1905). الأغاني، ط التقدم بمصر.
45- الأعسم ، عبد الأمير (1984) . المصطلح الفلسفي عند العرب ، منشورات مكتبة الفكر العربي، بغداد.
46- الألوسي ، حسام الدين (1992). دراسات في الفكر الاسلامي، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد – العراق.
47- الألوسي، عبدالحميد (د.ت) . نثر الآلي على نظم الامالي، بغداد، مطبعة الشابندر.
48- الأندلسي ، صاعد (د.ت ) . طبقات الامم ، مطبعة السعادة.
49- الايجي، عضد الدين (د.ت) . المواقف ، بشرح السيد الشريف الجرجاني، ط1، مصر، مطبعة السعادة.
50- باشا ، شفيق (د.ت) . الرق في الاسلام.
51- الباقلاني ، القاضي أبو بكر ( 1963). الانصاف فيما يجب اعتقاده ولايجوز الجهل به، ط2، تحقيق : الشيخ محمد زاهر الكوثري، مصر، مطبعة الخانجي.(1/3)
52- الباقلاني ، القاضي أبو بكر (1957). التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة، تحقيق ريتشارد يوسف مكارثي ، بيروت ، المكتبة الشرقية.
53- بدوي ، عبدالرحمن ( 1983). مذاهب الاسلاميين، ط3، بيروت، دار العلم للملايين.
54- بروكلمان، كارل (1974) . تاريخ الأدب العربي، ط3، نقله إلى العربية، د. عبدالحليم النجار، مصر ، دار المعارف.
55- البريزات، عبدالحفيظ احمد (1984). نظرية التربية الخلقية عند الأمام الغزالي، عمان، منشورات دار الفرقان.
56- بركات، لطفي (د.ت) . في مجالات الفكر التربوي ، بيروت – لبنان، دار الشروق.
57- البستاني، بطرس (1881) . ، دائرة المعارف ، لبنان – بيروت.
58- البغدادي، أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي (1981). اصول الدين، ط1، بيروت ، لجنة إحياء التراث العربي في دار الافاق الجديدة.
59- البغدادي، أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي (1948). الفرق بين الفرق، القاهرة.
60- البلاذري، احمد بن يحيى (1957). فتوح البلدان، القاهرة، نشر صلاح الدين المنجد.
61- بك ، محمد الخضري (1988). الدولة العباسية ، ط1، لبنان، دار القلم.
62- بك ، محمد الخضري (د.ت) . تاريخ الأمم الاسلامية ، ط8.
63- بن عباد ، الصاحب ( 1963 ) . الابانة عن مذهب أهل العدل، تحقيق : علي سامي النشار ، القاهرة.
64- بن عباد ، الصاحب ( د.ت ) . رسائل الصاحب بن عباد ،ط1، تحقيق
د. عبدالوهاب عزام، د. شوقي ضيف ، القاهرة.
65- البهادلي ، احمد (1999) . محاضرات في العقيدة الاسلامية، بغداد، مطبعة شركة الحسام.
66- البهلوان، علي (د.ت) . مشكلة المعرفة عند الغزالي، تونس، مطبعة الارادة.
67- البهي ، محمد (1971) . الفكر الاسلامي في تطوره، ط1، دار الفكر.
68- بينس (1946) . مذهب الذرة عند المسلمين، ط1، ترجمة محمد عبدالهادي ابو ريدة، القاهرة، مصر، مكتبة النهضة العربية.
69- البيهقي (د.ت ) . شرح عيون المسائل (مخطوط).(1/4)
70- تريتون ، ارثرستانلي (1967). أهل الذمة في الاسلام، ترجمة الدكتور حسن حسني ، القاهرة.
71- التفتازاني، سعد الدين (د. ت) . شرح العقائد النسفية ، شركة الصحافة العثمانية، دار سعادت.
72- التفتازاني ، سعد الدين (د.ت). شرح المقاصد ، ط1، مصر، المطبعة الخيرية.
73- التهانوي، الشيخ المولوي محمد علي (1966) كشاف اصطلاحات الفنون، بيروت، شركة خياطة للكتب والنشر.
74- التوحيدي ، ابو حيان (د.ت). الامتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين، بيروت، مكتبة الحياة.
75- التوحيدي ، ابو حيان (1929). المقابسات، طبعة السندوبي.
76- التومي، عمر محمد (1985). الفكر التربوي بين النظرية والتطبيق، ط1، طرابلس- ليبيا.
77- الثعالبي، أبو منصور (1986). يتيمة الدهر، ط1، بيروت، لبنان.
78- الجابري ، محمد عابد (1987). بنية العقل العربي، ط2، بيروت – لبنان.
79- الجابري، محمد عابد (1987). التراث وتحديات العصر عن منشور ضمن ندوة فكرية نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت.
80- الجابري، محمد عابد ( 1984). تكوين العقل العربي ، بيروت، دار الطليعة.
81- الجاحظ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1969). اثار الجاحظ ، تحقيق عمر أبو النصر، بيروت، مطبعة النجوى.
82- الجاحظ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1949). البيان والتبيين، ط3، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، بغداد، مكتبة الخانجي.
83- الجاحظ ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1979) . التربيع والتدوير.
84- الجاحظ ، ابو عثمان عمرو بن بحر (د.ت). الحيوان، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة.
85- الجاحظ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1958) . الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير، حلب، المطبعة العلمية.
86- الجاحظ ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1979) . رسائل الجاحظ، ط1، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، القاهرة – مصر، مكتبة الخانجي.
87- الجاحظ ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1979) . رسالة كتمان السر وحفظ اللسان ضمن رسائل الجاحظ.(1/5)
88- الجاحظ ، ابو عثمان عمرو بن بحر ( 1979) . المعاد والمعاش ضمن رسائل الجاحظ .
89- الجاحظ ، ابو عثمان عمرو بن بحر (1903) . مناقب الترك ، نشر فان فلوتن.
90- جار الله ، زهدي حسن (1947). المعتزلة ، القاهرة، منشورات النادي العربي في يافا.
91- الجرجاني، علي بن محمد (1987). التعريفات، ط1 ، تحقيق عبدالرحمن عميرة، بيروت.
92- الجعفري، ماهر اسماعيل (1999). نحو فلسفة تربوية عربية ، مجلة دراسات فلسفية ، بيت الحكمة ، بغداد ، العدد الثالث، تموز.
93- الجويني ، امام الحرمين (1950) . الارشاد إلى قواطع الأدلة في اصول الاعتقاد، تحقيق د. محمد يوسف موسى، وعلي عبدالمنعم، طبعة السعادة بمصر.
94- الجويني، امام الحرمين (د.ت). البرهان في اصول الفقه، ط1، تحقيق د. عبدالعظيم ديب، قطر.
95- الجويني، امام الحرمين (1969) . الشامل في اصول الدين ، تحقيق علي سامي النشار، نشأة المعارف بالاسكندرية.
96- الجويني، امام الحرمين (1965). لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، ط1، تحقيق: د. فوقية حسين محمود، القاهرة ، الهيئة العامة للكتاب.
97- الحاكم (1974). شرح عيون المسائل (طبقات المعتزلة)، ط تونس.
98- حتي ، فيليب (1974). تاريخ العرب، ط5، الناشر، دار غندور للطباعة والنشر.
99- الحربي، عبدالرزاق أحمد (1998) . الفكر الاسلامي ، مكتب اسلام بغداد.
100- حمدان، جمال (1977). جغرافية المدن.
101- حسن ، ابراهيم حسن (1964) تاريخ الاسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ط11، القاهرة.
102- حسنة، عمر عبيد (1992) . مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، ط2، الرياض، الدار العالمية للكتاب الاسلامي.
103- الحميري ، محمد بن عبدالله (1975). الروض المعطار في خبر الاقطار، ط1، تحقيق: احسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة.(1/6)
104- الخرفي، صالح (1990) . اللغة العربية هويتنا القومية في من قضا اللغة العربية المعاصرة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس.
105- خسرو ، ناصر (1945). سفر نامة . ترجمة وتعليق الدكتور يحيى الخشاب، القاهرة.
106- الخطيب البغدادي، الحافظ ابو بكر احمد بن علي الخطيب (1931). تاريخ بغداد ، القاهرة.
107- الخليل، عماد الدين (1989). تشكيل العقل المسلم، ط1، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الاتحاد الاسلامي العالمي.
108- الخياط المعتزلي، أبو الحسين عبدالرحيم بن محمد بن عثمان (1925). الانتصار والرد على ابن الراوندي، تحقيق: د. نيبرج، القاهرة ، دار الكتب المصرية.
109- دائرة المعارف الاسلامية (د.ت) . مقالة Al-Karkh .
110- الدواني، الشيخ جلال الدين (1957) . شرح العقائد العضدية، عيسى البابي الحلبي، دار احياء الكتب العربية.
111- دي بور (1966). تاريخ الفلسفة في الاسلام ، ترجمة : ابو ريدة.
112- الدينوري، ابو حنيفة احمد بن داود (1960). الاخبار الطوال، تحقيق عبدالمنعم عامر، القاهرة.
113- ديورانت ، ول (د.ت). قصة الحضارة ، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
114- ديولبو، فان دالين (1985) . مناهج البحث في التربية وعلم النفس، ترجمة محمد نبيل نوفل، وسليمان الخضري الشيخ، وطلعت منصور غيربال، مراجعة سيد احمد عثمان ، القاهرة ، مكتبة الانجلو المصرية.
115- الذيفاني، عبدالله (2001) مقررات الهوية بين محاولات التطبيع ومستوى المواجهة (بحث مقدم لندوة التطبيع، المخاطر وسبل المواجهة). قسم الدراسات الاجتماعية ، بغداد، بيت الحكمة.
116- الذيفاني ، عبدالله (2001). الشباب العربي والمعاصرة من منظور فكري وتربوي، العراق – بغداد، بيت الحكمة.
117- الرازي ، فخر الدين (د.ت) . الاربعين في اصول الدين، حيدر آباد بالهند.
118- الرازي ، فخر الدين (1935). اساس التقديس، القاهرة ، مطبعة مصطفى الحلبي.(1/7)
119- الرازي، فخر الدين (1985). اسرار التنزيل وانوار التأويل ، تحقيق محمد احمد محمد، وآخرون.
120- الرازي، فخر الدين (1982). اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، تحقيق د. علي سامي النشار، بيروت، دار الكتب العلمية.
121- الرازي، فخر الدين (د.ت) . التفسير الكبير، ط2، طهران، دار الكتب العلمية.
122- الرازي ، فخر الدين (1948). محصلّ افكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، ط1، مراجعة وتقديم: طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي.
123- الرازي ، ابو بكر (1983). مختار الصحاح، دار الرسالة، الكويت .
124- الرازي، فخر الدين (1985). مفاتيح الغيب، ط3، دار الفكر للطباعة والنشر.
125- الرازي ، فخر الدين (د.ت) . المطالب العالية .
126- الرازي ، فخر الدين (1948). النفس والروح وشرح قواهما، تحقيق: محمد صغير حسن المعصومي، القاهرة – مصر.
127- الراوي، عبدالستار عز الدين (1982). ثورة العقل، بغداد، دار الرشيد.
128- الراوي ، عبدالستار عز الدين (1980) . العقل والحرية (دراسة في فكر القاضي عبدالجبار المعتزلي) ، ط1 ، بيروت – لبنان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
129- الراوي ، عبدالستار عز الدين (1984) . فلسفة العقل، ط1 ، بغداد، دار الحرية للطباعة.
130- الراوي، عبدالستار عز الدين (1974). مدرسة بغداد في القرن الثالث الهجري (رسالة ماجستير) ، جامعة الاسكندرية.
131- الرفاعي، احمد فريد (1927) . عصر المأمون ، ط1، مصر.
132- رفعت ، فاطمة احمد (1989) . مذهب اهل السنة والجماعة ومنزلتهم في الفكر الاسلامي، ط1، دار المعرفة الجامعية.
133- رمضان ، محمد (1986). الباقلاني واراؤه الكلامية، بغداد ، مطبعة الامة.
134- زاده ، طاش كوبري (د.ت) . مفتاح السعادة ومصباح دار السيادة، تحقيق: كامل بكري وعبدالوهاب أبو النور، القاهرة ، مصر ، دار الكتب الحديثة، ومطبعة الاستقلال.(1/8)
135- الزركشي (1957). البرهان في علوم القرآن، ط1، مصر – القاهرة.
136- الزركلي، خير الدين (1979). الأعلام، ط4 ، بيروت – لبنان، دار العلم للملايين.
137- الزمخشري، ابي القاسم محمود بن عمر (1979). اساس البلاغة، بيروت، دار صادر.
138- الزمخشري، أبي القاسم محمود بن عمر (1966). الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل، ط1، مصر – القاهرة.
139- زهران ، حامد (1977). علم نفس النمو والطفولة والمراهقة، ط4 ، القاهرة، عالم الكتب.
140- الزيدي، يحيى بن الحسين (1971). رسائل العدل والتوحيد، ط1، مصر.
141- زيني، حسن (1978): العقل عند المعتزلة، ط1، بيروت.
142- السامرائي، خليل ابراهيم (1988). تاريخ الدولة العربية الاسلامية في العصر العباسي، ط2، دار الكتب للطباعة والنشر.
143- السبكي (1964) . طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق محمد الطناحي وعبدالفتاح الحلو، القاهرة، دار احياء الكتب العربية.
144- السعدي، عبدالملك عبدالرحمن (1988) . شرح النسفية ، ط1، دار الانبار.
145- السمعاني (1962) . الانساب، ط1، حيدر اباد، مطبعة المعارف العثمانية.
146- السنوسي، ابو عبدالله محمد (د.ت) . شرح ام البراهين، ط2، مصر، المكتبة الأزهرية.
147- السيوطي، جلال الدين (1987). الاتقان في علوم القرآن، ط1، بيروت، دار احياء العلوم.
148- السيوطي، جلال الدين (1965). تاريخ الخلفاء، مصر.
149- الشافعي ، محمد بن احمد بن عبدالرحمن الملطي (1968). التنبيه والرد على اهل الاهواء والبدع، بغداد، مكتبة المثنى.
150- شافت ، وبوزورث (1988) . تراث الاسلام ، ط2، ترجمة : محمد زهير السمهوري واخرون، كويت، عالم المعرفة.
151- شرف ، محمد جلال (1989). الله والعالم والانسان في الفكر الاسلامي، الاسكندرية، مطبعة دار المعرفة الجامعية.(1/9)
152- الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي العلوي (1954). امالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) ، ط1، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية.
153- الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي العلوي (1971). انقاذ البشر في الجبر والقدر : ضمن رسائل العدل والتوحيد، تحقيق د. محمد عمارة، القاهرة، دار الهلال.
154- شمس الدين ، عبدالامير (1985) . الفكر التربوي عند ابن سحنون والقابسي، بيروت، دار اقرأ.
155- شمس الدين ، عبد الامير (1985) . الفكر التربوي عند الغزالي، بيروت، دار اقرأ.
156- الشهرستاني، عبدالكريم (د.ت) . الملل والنحل ، تحقيق محمد سيد كيلاني، القاهرة.
157- الشهرستاني، عبدالكريم (د.ت ) . نهاية الاقدام في علم الكلام، حرره وصححه الفردجيوم، بغداد، منشورات مكتبة المثنى.
158- الشيرازي، السيد محمد الحسيني (2002) . فقه العولمة، ط1 ، لبنان – بيروت، مؤسسة الفكر الاسلامي.
159- صالح عبدالعزيز (1974). تطور النظرية التربوية ، القاهرة، دار المعارف.
160- صبحي ،احمد محمود (1976). في علم الكلام، ط2 ، مصر – القاهرة.
161- الصدر ، آية الله الشهيد محمد باقر (1998) . فلسفتنا، ط2 ، بيروت – لبنان، دار التعارف للمطبوعات.
162- صليبا، جميل (1982). المعجم الفلسفي، دار الكتب، لبنان – بيروت.
163- الطبري، محمد بن جرير (1985) . تاريخ الرسل والملوك، ط1، بيروت – لبنان، مؤسسة عز الدين.
164- طوقان ، قدري حافظ (د.ت) . مقام العقل عند العرب، دار القدس، بيروت – لبنان .
165- عبدالحميد، عرفان (1991) . دراسات في الفكر الاسلامي، ط1 ، الاردن، دار عمار.
166- عبدالحميد ، عرفان (د.ت) . الفلسفة في الاسلام ، ط1، بغداد.
167- عبدالحميد ، محسن (1998). ازمة المثقفين تجاه الاسلام، ط3، مطبعة وزارة التربية.(1/10)
168- عبد الرزاق ، مصطفى (1966). التمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، ط1، مصر، وزارة الارشاد، لجنة التأليف والترجمة والنشر.
169- عبدالعال، حسن (1977). التربية الاسلامية في القرن الرابع الهجري، القاهرة، دار الفكر العربي.
170- عبدالدائم، عبدالله (1978). التربية عبر التاريخ، بيروت، دار العلم للملايين.
171- عبده ، محمد (1965). رسالة التوحيد ، مصر.
172- عبود ، عبدالغني (1976). الأيديولوجيا والتربية في الاسلام – الكتاب السنوي في التربية وعلم النفس – باقلام نخبة من اساتذة التربية وعلم النفس – القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر.
173- عبود ، عبدالغني (1978). دراسة مقارنة لتاريخ التربية، القاهرة ، دار الفكر العربي.
174- عبود ، عبدالغني (1974). التربية المقارنة، ط1، عالم الكتب.
175- عثمان، عبدالكريم (1971). نظرية التكليف عند القاضي عبدالجبار، ط1، بيروت.
176- عزيز ، مؤيد (1999). بحث بعنوان : الاسلام والغرب، مجلة الموقف الثقافي، دار الشؤون الثقافية العامة ، السنة الرابعة.
177- العزب ، مرسي محمد (1979) . حرية الفكر، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
178- العدوان ، احمد مشاري (1975). في الفكر الاسلامي من مجلة عالم المعرفة، المجلد السادس، العدد الثاني بالكويت.
179- عفيفي ، محمد الهادي (1975). التربية والتغير الثقافي، ط4 ، مكتبة الأنجلو المصرية.
180- العلاق ، مجيد صادق (1997) ، دور الحلقات الدراسية في تطور الفكر التربوي العربي الاسلامي في العصر العباسي، اطروحة دكتوراه (غير منشورة) ، جامعة بغداد ، كلية التربية ابن رشد .
181- علي ، سعيد اسماعيل (1995). فلسفات تربوية معاصرة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 198 ، الكويت.
182- علي ، سعيد اسماعيل (1987). الفكر التربوي الحديث، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.(1/11)
183- علي ، سيد أمير (1967). مختصر تاريخ العرب، ط2، تحقيق : البعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين.
184- علي ، محمد كرد (1936) . الاسلام والحضارة العربية، ط1، مصر.
185- عمارة ، محمد (1974). نظرة جديدة إلى التراث، بيروت – لبنان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
186- العبادي، احمد مختار (1978) . في التاريخ العباسي والاندلسي، بيروت ، دار النهضة العربية.
187- عبدالحميد ، محسن (1987). الفكر الاسلامي تقويمه وتجديده، ط1 ، بغداد.
188- الغرابي، علي مصطفى (1949). ابو الهذيل العلاف، ط1، مصر – القاهرة .
189- الغرابي، علي مصطفى (1959). تاريخ الفرق الاسلامية ونشأة علم الكلام عند المسلمين ، ط2، مصر، مطبعة محمد علي صبيح.
190- الغزالي، ابو حامد (د.ت) . الاجوبة الغزالية في المسائل الآخروية (المضنون الصغير) ، ضمن كتاب القصور العوالي من رسائل الغزالي، تحقيق : محمد مصطفى أبو العلا ، مصر ، مكتبة الجندي.
191- الغزالي، ابو حامد (د.ت) ، احياء علوم الدين، القاهرة – مصر، مطبعة دار الشعب.
192- الغزالي ، ابو حامد (1979) . الأدب في الدين، ط1، تحقيق جميل ابراهيم حبيب، بغداد، مطبعة التحرير.
193- الغزالي، ابو حامد (د.ت). الاقتصاد في الاعتقاد ، بغداد، مكتبة الشرق الجديد.
194- الغزالي، ابو حامد (1962). تهافت الفلاسفة، بيروت ، المطبعة الكاثوليكية.
195- الغزالي ، ابو حامد (1970) . الرسالة اللدنية (مجموعة القصور العوالي)، ط2، القاهرة، مكتبة الجندي.
196- الغزالي، ابو حامد (د.ت) . فيصل التفرقة، ضمن كتاب القصور العوالي من رسائل الغزالي.
197- الغزالي، ابو حامد (د.ت) . المستصفى من علم الاصول، مصر، المطبعة الأميرية.
198- الغزالي، ابو حامد (1980). معارج القدس، ط4، بيروت، لبنان ، منشورات دار الافاق الجديدة.
199- الغزالي، ابو حامد (1960) . معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، مصر، دار المعارف.(1/12)
200- الغزالي، ابو حامد (د.ت) . المقصد الاسنى في شرح معاني اسماء الله الحسنى، الدار البيضاء، دار الطباعة الحديثة.
201- الغزالي، ابو حامد (د.ت) . المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو.
202- الغزالي، ابو حامد (1979). المنقذ من الضلال، ط1، بيروت، دار الكتاب اللبناني.
203- الغزالي، ابو حامد (1968). منهاج العارفين ، تحقيق: فؤاد الدين السيد خوام السامرائي.
204- الغزالي، ابو حامد (1964). ميزان العمل ، ط1، تحقيق: سليمان دنيا، مصر، دار المعارف.
205- غلاب ، محمد (د.ت) . المعرفة عند مفكري المسلمين، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
206- الفارابي، ابي نصر (1989). الجمع بين رأيي الحكيمين افلاطون الالهي وارسطو طاليس، ضمن كتاب الثمرة المرضية في الرسائل الفارابية ، تصحيح دينريهي، طبعة ليدن.
207- فروخ، عمر (1972). تاريخ الفكر العربي الى ايام ابن خلدون، ط3، بيروت، دار العلم للملايين.
208- الفنجري ، احمد شوقي (1985). العلوم الاسلامية، ط1، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
209- فهد، ابتسام محمد (1994). الفكر التربوي العربي الاسلامي لبعض فلاسفة العرب المسلمين في القرنين الرابع والسادس الهجريين، اطروحة دكتوراه، ( غير منشورة)ن كلية التربية ( ابن رشد) جامعة بغداد.
210- الفيروز ابادي ، مجد الدين محمد بن يعقوب (1913) . القاموس المحيط ، مصر – القاهرة ، مطبعة دار السعادة.
211- القاسمي ، جمال الدين (د.ت) . تاريخ الجهمية والمعتزلة، ط1، مصر، مطبعة المنار.
212- القاضي ، عبدالجبار المعتزلي (1986). تثبيت دلائل النبوة، ط1، تحقيق: د. عبدالكريم عثمان، بيروت.
213- القاضي، عبدالجبار المعتزلي (1965) . شرح الاصول الخمسة، ط1، تحقيق عبدالكريم عثمان ، مصر – القاهرة.
214- القاضي، عبدالجبار المعتزلي (1971) . طبقات المعتزلة ، ط1، مصر.
215- القاضي ، عبدالجبار المعتزلي (1974) . فضل الاعتزال ، ط تونس.(1/13)
216- القاضي ، عبدالجبار المعتزلي (1965). المحيط بالتكليف، ط1، تحقيق: عمر عزمي، مصر.
217- القاضي ، عبدالجبار المعتزلي (1988). المختصر في اصول الدين، ط2، مطبوع ضمن رسائل العدل والتوحيد، دار الشروق.
218- القاضي ، عبدالجبار المعتزلي (د.ت) . المغني في ابواب التوحيد والعدل، ط1، مصر.
219- القزويني، ابو زكريا محمد بن محمود (1960). آثار البلاد واخبار العباد، بيروت.
220- القفطي (1903) . تاريخ العلماء باخبار الحكماء، نشر البرت ، ط ليبزك.
221- القمي (د.ت) . المقالات والفرق.
222- الكبيسي، حمدان (1979). اسواق بغداد حتى بداية العصر البويهي، بغداد.
223- الكردي، راجح عبدالحميد (د.ت) . علاقة صفات الله بذاته.
224- كرم ، يوسف (1970) . تاريخ الفلسفة اليونانية، ط5، مصر.
225- كولدزيهر ، اجناس(1946). العقيدة والشريعة في الاسلام، ط1، مصر – القاهرة ، دار الكتاب المصري.
226- الكرماني (1973) . الفرق الاسلامية ، ط بغداد.
227- كوربان، هنري (1966). تاريخ الفلسفة الاسلامية، ط1، ترجمة: مفيد مرة وحسن خميس ، لبنان – بيروت.
228- اللقاني، عبدالسلام (د.ت). اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، مع تعليقات محمد يوسف الشيخ على جوهرة التوحيد، ط1، مصر، عيسى البابي الحلبي.
229- الماتريدي، ابي منصور (1970) . التوحيد، تحقيق: د. فتح الله خليف، بيروت – لبنان، دار المشرق.
230- ماسينون (1939). خطط الكوفة وشرح خريطتها، ترجمة تقي المصحبي صيدا.
231- الماوردي، ابو الحسن علي بن محمد (1960) . الاحكام السلطانية والولايات الدينية ، بغداد.
232- مبارك، محمد (1986). نظرات إلى التراث، ط1، بغداد.
233- المبرد، ابو العباس ، محمد بن يزيد (1956). الكامل في اللغة والادب والنحو والتصريف، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم ، القاهرة.(1/14)
234- متز ، آدم (1940) . الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبدالهادي ابو ريدة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف.
235- محمد ، فاضل زكي (1976). الفكر السياسي العربي الاسلامي بين ماضيه وحاضره، ط2، سلسلة الكتب الحديثة (105) ، بغداد، وزارة الثقافة والاعلام.
236- محمود ، زكي نجيب (1969) . نظرية المعرفة، ط1، القاهرة، مكتب الانجلو المصرية.
237- محمود ، فوقية حسين (1970) . الجويني امام الحرمين، ط2، مصر، مطبعة الهيأة العامة للتأليف والنشر.
238- المدرسي ، آية الله محمد تقي (1992). التمدن الاسلامي (اسسه ومبادئه)، ط1، انتشارات مدرسي.
239- مدكور، ابراهيم (1968) . في الفلسفة الاسلامية (منهج وتطبيق) ، ط2 ، مصر ، القاهرة، دار المعارف.
240- مدني، عباس (1989). التوعية التربوية في المراحل التعليمية في البلاد العربية ، مكتب التربية العربية لدول الخليج.
241- مرسي، محروس سيد (1979) . التربية والطبيعة الانسانية في الفكر الاسلامي ، اسيوط – كلية التربية .
242- المسعودي ، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (1965). مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت.
243- مسلم بن الحسين (1929). صحيح مسلم (ط2) ، ط مصر.
244- مصطفى جواد (1985) . دليل خارطة بغداد، بغداد.
245- مغنية، محمد جواد (د.ت) . الشيعة والحاكمون، مكان الطبع غير موجود.
246- المقدسي ، شمس الدين ابو عبدالله محمد بن بكير المقدسي البشاري (1906) . احسن التقاسيم في ذكر الاقاليم ، ليدن.
247- المقدسي، انيس (1980) . امراء الشعر العربي، ط13، بيروت، دار العلم للملايين.
248- المقري، احمد بن محمد (1968) . نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، تحقيق احسان عباس ، بيروت، دار صادر.
249- المقريزي، تقي الدين ابو العباس أحمد بن علي (د.ت) . خطط المقريزي (كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) ، القاهرة، طبعة دار التحرير.(1/15)
250- المقريزي ، تقي الدين ابو العباس أحمد بن علي (1854) . المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار، القاهرة، مطبعة بولاق.
251- الملطي، محمد بن احمد بن عبدالرحمن الشافعي (1968). التنبيه والردّ على اهل الاهواء والبدع، بغداد ، مكتبة المثنى.
252- منظمة التحرير الفلسطينية (1992) . تحديات نهاية القرن، ملف خاص، الاعلام الموحد، وهو ترجمة لملف صدر ضمن العدد 1422 من مجلة (نوفيل ابرفاتور) تحت عنوان الفكر.
253- المنظمة العربية للتربية والثقافة (1988). من اعلام التربية العربية الاسلامية، المجلد الثالث، مكتب التربية العربي لدول الخليج.
254- الموسوي، صالح نهير (2000) . الفكر التربوي عند الحسن البصري، رسالة ماجستير (غير منشورة) ، كلية التربية (ابن رشد) ، جامعة بغداد .
255- الموسوي، عباس (1982). العامل التأريخي لنشأة وتطور المدن العربية الاسلامية، دار الرشيد للنشر.
256- موسى ، جلال محمد عبدالحميد (1982) . نشأة الاشعرية وتطورها، بيروت ، دار الكتاب اللبناني.
257- مؤلف مجهول (د.ت) . الحوادث الجامعة ، بغداد.
258- ناجي ، عبدالجبار (2001) . المدن العربية الاسلامية، ط1، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
259- نادر ، البير نصري (1951). فلسفة المعتزلة ، بغداد.
260- النججي، محمد لبيب (1967). في الفكر التربوي، القاهرة ، دار النهضة المصرية.
261- النشار ، علي سامي (1952). الفكر الفلسفي في الاسلام، مكتبة النهضة المصرية.
262- النشار ، علي سامي (1984) . مناهج البحث عند مفكري الاسلام، ط3، بيروت، دار النهضة العربية.
263- النشار ، علي سامي (1954). نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
264- النوبختي، ابو محمد الحسن بن موسى ( 1936) . فرق الشيعة، النجف ، المطبعة الحيدرية.
265- النوري، عبدالغني (1979) . نحو فلسفة عربية للتربية، ط2، القاهرة، دار الفكر العربي.(1/16)
266- نوفل ، محمد نبيل (1987). العالم العربي وازمة الفكر التربوي العربي، مجلة الفكر التربوي العربي ، اتحاد التربويين العرب، العدد الاول، بغداد .
267- نيكلسون (1972). تاريخ الادب العربي، ترجمة د. صفاء خلوصي، بغداد.
268- نيبرج (1925) . مقدمة كتاب الانتصار للخياط المعتزلي ، القاهرة ، دار الكتب المصرية.
269- الندوي، ابو الحسن علي (1960) . رجال الفكر والدعوة ، دمشق ، مطبعة جامعة.
270- هانس ، نيقولا (1966) . التربية المقارنة ، ترجمة : يوسف ميخائيل أسعد، سلسلة الالف كتاب ، القاهرة، دار النهضة العربية.
271- الهمداني، احمد بن محمد (1885). مختصر كتاب البلدان، ليدن ، المكتبة الجغرافية العربية، مطبعة بريل.
272- الواعظ ، الشيخ نجم الدين (1954). الدين الحنيف ، بغداد.
273- وجدي ، محمد فريد (1971). دائرة معارف القرن العشرين، ط3، بيروت – لبنان، دار المعرفة.
274- ياقوت الحموي ، شهاب الدين ابو عبدالله ياقوت بن عبدالله (1938). معجم الادباء ، ط مصر .
275- ياقوت الحموي، شهاب الدين ابو عبدالله ياقوت بن عبدالله (1956). معجم البلدان، بيروت.
276- اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب بن واضح الكاتب (1892) . البلدان، ليدن.(1/17)
المحتويات
الموضوع ... الصفحة
العنوان ... أ
الآية ... ب
الأهداء ... ت
شكر وتقدير ... ث
الملخص ... ج-ذ
الفصل الاول : ... 1-32
التعريف بالبحث
مشكلة البحث ... 1-3
اهمية البحث والحاجة اليه ... 4-25
هدف البحث ... 26
حدود البحث ... 26
منهج البحث ... 27
تحديد المصطلحات ... 28-32
الفصل الثاني : ... 33-111
الاطار النظري
المبحث الاول:العوامل التي شكلت الفكر عند المعتزلة والاشاعرة ... 33-104
اولا: العوامل الجغرافية ... 37-48
ثانيا: العوامل السياسية ... 48-57
ثالثاً: العوامل الاجتماعية ... 57-63
ربعاً : العوامل الاقتصادية ... 63-70
خامساً : العوامل الحضارية ... 71-74
سادساً : العوامل الفكرية ... 74-104
المبحث الثاني : دراسات سابقة ... 105-111
الفصل الثالث : ... 112-169
المبحث الاول : مدرسة المعتزلة ... 113-139
تسميتها ... 113-115
نشأتها وتطورها ... 115-122
مدارس المعتزلة ... 122-130
اولا: مدرسة البصرة ... 122-125
ثانيا: مدرسة بغداد ... 126-130
دور المعتزلة في الدفاع عن الأسلام ... 130-138
المبحث الثاني:
المدرسة الاشعرية ... 139-169
التسمية ... 139
النشأة والتطور ... 139-147
ابرز رجالاتها ... 147-163
دور الاشاعرة في الدفاع عن الاسلام ... 163-169
الفصل الرابع : الاصول الاعتقادية ... 170-217
المبحث الاول : الأصول الاعتقادية عند المعتزلة ... 171-191
اولاً: التوحيد ... 172-177
ثانياً: العدل ... 177-184
ثالثاً: الوعد والوعيد ... 184-185
رابعاً : المنزلة بين المنزلتين ... 186-187
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 187-191
المبحث الثاني: الاصول الاعتقادية عند الاشاعرة ... 192-217
اولا: أ- رأيهم في الصفات الالهية ... 192-197
ب- مذهب الاشاعرة في رؤية الله ... 197-210
ثانياً: رأيهم في مرتكب الكبيرة ... 211-213
ثالثاً: رأيهم في الافعال الانسانية ... 213-217
المبحث الثالث:الأصول الاعتقادية بين المعتزلة والاشاعرة ... 218-232
اولاً: الصفات الآلهية ... 218-226
- رؤية الله ... 226-229
- افعال الانسان ... 229-231
ثانياً: مرتكب الكبيرة ... 231-231
ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 232(1/1)
الفصل الخامس : ... 233-372
المبحث الاول : الرؤية الفكرية للمعتزلة ... 233-295
1- الله ... 233-236
2- العالم الطبيعي ... 236-240
3- الطبيعة الانسانية ... 240-256
4- نظرية المعرفة ... 256-275
5- الفكر التربوي ... 275-295
المبحث الثاني : الرؤية الفكرية عند الأشاعرة ... 296-360
1- الله ... 296-300
2- العالم الطبيعي ... 300-302
3- الطبيعة الانسانية ... 302-317
4- نظرية المعرفة ... 317-333
5- الفكر التربوي ... 334-360
المبحث الثالث: مقارنة الرؤية الفكرية بين المعتزلة والاشاعرة ... 361-372
1- نظرتهم إلى الله ... 361
2- نظرتهم إلى الكون ... 361-362
3- نظرتهم إلى الطبيعة الانسانية ... 362-365
4- نظرية المعرفة ... 365-367
5- الفكر التربوي ... 367-372
الفصل السادس : الاستنتاجات ... 373-384
المصادر والمراجع ... 385-407
الملخص باللغة الانكليزية(1/2)