الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة و الهرسك
و تأثره بالسنة النبوية
كما يظهر من مؤلّفات الرئيس علي عزّب بيكوفيتش و أنصاره
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله كما ينبغي لجلاله ، و الصلاة و السلام على نبيّه محمّد و آله ، و بعد
فمصطلح الفكر الإسلامي أحد المصطلحات الحديثة ، التي لم ترد في كتب السابقين كمصطلح يدل على مُحدَّد ، و قد شاع هذا الاصطلاح للدلالة على
(( كلِّ ما أنتج فكر المسلمين منذ مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعارف الكونية العامة المتصلة بالله سبحانه و تعالى و العالَم و الإنسان ، و الذي يُعبِّر عن اجتهادات العقل الإنساني لتفسير تلك المعارف العامَّة في إطار المبادئ الإسلامية عقيدةً ، و شريعةً و سلوكاً ))(1)0
فالفكر الإسلامي إذن هو النتاج الفكري للمسلمين ذوي المنطلقات و الأهداف الإسلامية ، و بناءً على هذا القيد يُستثنى من اصطلاح الفكر الإسلامي نتاج غير المسلمين الفكري و إن عالج قضايا تخصُّ الأمة الإسلامية كأنظمة الحكم و الاقتصاد و الإعلام و غيرها 0
كما يُستثنى من هذا الاصطلاح أيضاً النتاج الفكري لأولئك
المنتسبين للإسلام الذين يتبنون دعاوى خارجة عن مفاهيمه ، و مضادة
لشرائعه و تعاليمه ، مما قد ينفي عن صاحبه الإيمان مُطلَقاً ؛ فيكون
صاحبها كافراً مرتداً و العياذ بالله ، أو يكون مؤمناً فاسقاً أو عاصياً ، كالحكم
__________
(1) ... محسن عبد الحميد : تجديد الفكر الإسلامي ، ص : 45 .(1/1)
بغير ما أنزل الله(1)، أو الدعوة إلى الأنظمة الوضعية كالاشتراكيَّة(2)،
و العلمانية(3)، و الديمقراطية(4)، بمفهومها الغربي ، فهذه الدعاوى الفكرية و و نحوها خارجة عن الإسلام ، و لا يمكن تصنيفها ضمن دائرة الفكر الإسلامي ، حتى و إن انطلقت من حناجر المنتسبين إليه ، أو وردت في كُتبهم و مُصنَّفاتهم ، إذ إن (( كلَّ فكرٍ بشريٍ نتج عن فكر مستقلٍ ، و لم ينطلق من مفاهيم الإسلام الثابتة القاطعة في القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ، لا يمكن وصفه بأنه فكر إسلامي ، بل هو فكرٌ عام ))(5)0
__________
(1) ... الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرأً مُخرجاً من الملَّة ، و قد يكون كفراً دون كُفر ، و لا يخرج صاحبه من الملَّة ، و لا يجوز تعميم أحد الحُكمين مالم تستبين حال الحاكم بغير ما أنزل الله و تُقم عليه الحُجة .
للتفصيل في هذه المسألة انظر : كتابنا : جلاء الظلمة في التحذير من سيادة الشعب و الأمة ، ص 77-85 0
(2) ... الاشتراكية Socialsim : هي نظام اجتماعي ، خال من الملكية الشخصية .
(3) ... العلمانية : ترجمة خاطئة لكلمة Secularite الإنجليزية ، أو Secularismالفرنسية ، و هي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم و مشتقاته على الإطلاق ، و الترجمة الصحيحة للكلمة هي
) اللادينية ( ، أو ) الدنيوية ( ، بمعنى ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضادّ 0
انظر : الدكتور :عبد الرحمن الحوالي : العلمانية ، نشأتها و تطورها و آثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة ( الطبعة الأولى ، دار مكة ، مكة المكرمة 1402هـ/1982م ) ص :21
(4) ... الديمقراطية : مُصطلح مشتق من الأصل اليوناني لكلمة Dimocracy التي تعني : حُكم الشعب للشعب ، و للاستزادة حول الديمقراطية بمفهومها الغربي ، انظر : كتابنا : جلاء الظُلمة ، ص : 15 و ما بعدها 0
(5) ... عيسى عبد الحميد : تجديد الفكر الإسلامي ، ص : 55 .(1/2)
و من المؤسف أنَّ بعض الكتاب في عالمنا العربي اليوم لم يقفوا عند حد التجرُّد من المفاهيم الإسلامية في فكرهم و كتاباتهم ، بل بالغوا في تنكرهم للإسلام و مفاهيمه ، حتى زجُّوا به في قفص الاتهام ، و اعتبروه السبب في تخلُّف المسلمين عن ركب الحضارة المعاصرة .
و الأنكى من ذلك و الأشد ، أنّ بعض الكتاب المسلمين – و منهم بشانقةٌ بارزون – قاموا يدافعون عن خصوم الفكر الإسلامي ، بدعوى التسامح و الحوار تارة ، و التؤدة و التأني تارة أخرى .
يقول الشيخ حسين جوزو(1): (( ينبغي أن لا نضيق ذرعاً ببعض الكتَّاب في الدول الإسلامية ، الذين ينكرون إسهام الفكر الإسلامي في بناء الفكر الإنساني العام و تطويره ، و يجعلونه السبب في تخلُّف المسلمين ... و منهم من يجاهر بالقول : إنَّ الإسلام عاجز عن التقدم بالمسلمين ، لأنه السبب فيما هم عليه الآن ... و إننا لن نخدم الفكر الإسلامي بتكفير هؤلاء ، و الحكم بردَّتهم ، و عدائهم للإسلام ، أو المطالبة بحظر كتبهم و محاكمتهم ، بل يجدر بنا أن ندرس هذه الظاهرة ، و نسعى لكشف جذورها ، بدلاً من ذلك ))(2).
و لتسليط الضوء على مدى تأثير السنة النبوية في الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة سأعمد في المبحثين التاليين إلى تحديد معالم هذا الفكر ، ثم عرضه على نصوص السنة للوقوف على ما بينهما من توافق أو تعارض – إن وجد ـ و الله الموفق .
المبحث الأول
الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة
__________
(1) 1 ... حسين جوزو ، هو : كبير علماء يوغسلافيا السابقة ، و رئيس المشيخة الإسلامية في سراييفو حتى عام 1980 م ، له نشاط واسع في الدعوة ، عرف بتأثره بمدرسة التجديد في مصر ، و سيأتي ذكر بعض آرائه لاحقاً إن شاء الله . ( الباحث ) .
(2) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 167، 168 .(1/3)
في الوسط الفكري الحديث لمسلمي البوسنة و الهرسك لا توجد أعمال فكريَّة لاقت من الشهرة و النجاح و القبول ما لاقته أعمال الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، الذي ملأت كتاباته الأرجاء ، و طوّفت البلدان ، و ترجمت إلى لغاتٍ أوروبيَّة و شرقيّةٍ عديدة ، حتى اعتبر نتاجه في البوسنة خاصَّة و منطقة البلقان عامَّة مدرسة فكريَّة إسلاميَّة لها دعاتها و معارضوها و طلاَّبها .
و هذا ما دفعني إلى تتبُّع عبارات الرئيس و كتاباته الفكريَّة ، و جمع مقالاته من مظانِّها ، ثمَّ استخلاص فحواها ، و عرضها مجرَّدة عن أي تعليقٍ أو تحليل فيما يلي :
يدور فكر الرئيس علي عزّت بيكوفيتش السياسي حول ستة محاور هي :
1) وجوب تحكيم الإسلام و تطبيق أحكام الشريعة في جميع أمور الحياة .
2) اعتبار الخلافة الإسلامية النموذج المنشود في سياسة الأمة الإسلامية ، و وجوب العمل على إقامتها .
3) التأكيد على سبق الإسلام في شتى مجالات الإصلاح و تفوقه على الأنظمة الوضعيّة .
4) ضرورة العمل على توحيد الأمَّة الإسلاميَّة في كيانٍ واحد .
5) العمل الجماعي من أجل نهضة المسلمين .
6) الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بإعادة العزة و التمكين للمسلمين .
و فيما يلي نتناول كلاً من هذه المحاور على حدة ، مستأنسين بما ورد من كلام الرئيس فيما نحن بصدده :
أولاً : وجوب تطبيق الشريعة :(1/4)
فيما يخص أول هذه المحاور ، و هو تطبيق الشريعة الإسلاميَّة ، يرى الرئيس أن الإسلام دين و دولة(1)، و (( أن التطور الإسلامي لا يمكن أن يقوم إلا على أساس ديني . و لا يمكن أن يكتب له النجاح بدون الثورة الإسلامية ))(2).
و يعلل تردي واقع المسلمين في العصر الحاضر بإقصاء الدين عن المجتمع ، و لا يفتأ يؤكد أن ( التفسير الديني المحض للإسلام ، الذي حصر الإسلام في دائرة رسالة دينية ، مهملاً و منكراً دوره في تنظيم و تغير العالم الخارجي ، عامل إضعاف داخلي لقوة و مناعة الأمة الإسلامية )(3).
و يعيب الرئيس على بعض المسلمين ما يعتبره مغالطة في تفسير الإسلام ، حين يبررون ـ أو يدعون إلى ـ فصل الدين عن الدولة فيقول :
(( لقد أكد المتصوفة باستمرار على الجوانب الدينية فقط للإسلام ، بينما أكد العقلانيون على الجانب الآخر ، و كلا الفريقين لم يكن طريقه مع الإسلام
ميسراً ))(4).
__________
(1) ... و هذا هو الشعار الذي رفعه الأستاذ حسن البنا و جماعته ( الإخوان المسلمون ) من بعده . فتأمل ، و قارن بما سيأتي عند البحث العمل الجماعي في فكر الرئيس .
(2) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(3) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 8 .
(4) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 35 .(1/5)
و إذا جاز أن يُقال : إنَّ الإسلام جاء ليحض على العبادة و تقويم السلوك ، و ليس لتقديم نظام سياسي ، فإنَّما يجوز ذلك عند من يرى الإسلام من خلال مرحلته المكيَّة ، و يجهل أو يتجاهل المرحلة المدنيَّة من تاريخ الدعوة الإسلامية ، حيث شُرع الجهاد و قامت دولة الإسلام ، و هذا يدُلُّ على تطوُّر الإسلام ، لا على جموده الذي يروِّجُ له دعاة فصل الدين عن الدولة فلقد (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء صائماً متنكساً متصوفاً حنيفاً ، و كان في مكة داعياً إلى فكرة دينية ، أما في المدينة ، فقد أصبح داعية إلى الفكرة الإسلامية ... فهناك و ليس في مكة بداية و مصدر النظام الإسلامي الاجتماعي كله ... لقد بدأ الإسلام صوفياً و أخذ يتطور حتى أصبح دولة ))(1).
و بسبب هذا التفسير الخاطئ للإسلام تم إقصاء الشريعة عن الحكم ، مما أدى إلى تردي أحوال الأمة و تأخرها ، ( و مع ذلك فإن المسلمين المخلصين يجدون السلوى في إدراكهم بأن الوضع القائم ليس نتيجة لتطبيق الإسلام ، بل هو على العكس من ذلك نتيجة لرفض الإسلام و إقصائه ، و ليس نتيجة لحضوره ، بل هو نتيجة لغيابه )(2). و بعد هذا الطرح يتساءل الرئيس : إذا كان تغييب الإسلام قد أدى بالمسلمين إلى التخلف و الفوضى و الفساد ، فهل تعني عودته إشراق روح جديدة و بزوغ عهد مشرق في حياة الشعوب الإسلامية(3)؟
و الجواب بالإيجاب طبعاً و هو ما حفز الرئيس على السعي الدؤوب و العمل على إعادة الإسلام إلى الحياة .
ثانياً : الخلافة الإسلاميَّة :
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 279 .
(2) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 24 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 24 .(1/6)
أما عن الخلافة الإسلامية و كونها المنارة المفقودة(1)، التي أجمع المسلمون على وجوب العمل على إقامتها ، كما اتفق المفكرون و العلماء على أن سقوطها هو النكسة الكبرى التي تعرضت لها الأمة الإسلامية عبر التاريخ ، فهذا أمر يقر به الرئيس و يتألم له أشد التألم ، و لكنه يجد بعض العزاء في أن الخلافة التي سقطت كانت متردية في دركات الانحطاط و الفساد مما أساء إلى سمعة الإسلام و إلى الخلافة الإسلامية الحقيقية .
فرغم أن ( الإسلام وضع نظام الخلافة ... انقلب الخليفة إلى ملك الملوك ... و أصبح الخلفاء يلهون في قصورهم بالحريم و الخدم خلف أسوار منيعة ، و بدلاً من رفع راية الجهاد صاروا يخططون للمداهمات و حروب السلب و النهب )(2).
و مع أن سقوط الخلافة يعتبر انحطاطاً رهيباً في مسيرة الأمة الإسلامية ، بل غاية ما يمكن تصوره من انحطاط و تخلف ، حيث لم تعد للمسلمين دولة تجمعهم و لا قيادة تسوسهم ، لم يخفف من وقع المصاب على الأمة غير أمل بعض رجالاتها – و منهم الرئيس علي عزت – في أن يكون زوال الخلافة قد أزال معه الاعتقاد بأن كلمات الذل و الهوان و العازة و البؤس و الجهل ترادف كلمة الإسلام
و المسلمين(3).
__________
(1) ... للدكتور عبد الله عزام شهيد الجهاد الأفغاني رحمه الله كتاب بعنوان ( المنارة المفقودة ) يتناول فيه قضية الخلافة و أبعادها السياسية و العقدية و ما يتعلق بها من أحكام فقهية ، و ما حيك لها من مؤامرات أدت إلى سقوطها و هو نفيس في بابه لذلك استعرت عبارة ( المنارة المفقودة ) من عنوانه .
(2) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 20.(1/7)
إلا أنه عاد ليقرر أنَّ ما أصاب الأمة بفقد الخلافة ، و ما ترتب على ذلك من فساد في أنظمة الحكم البديلة ، إنمَّا هو نتاج ما كسبته أيدي الشعوب ، فكل أمور الشعب تنبني على قاعدة ( كما تكونوا يُوَّلَّ عليكم ) ، و في ذلك يقول : (( إن طريقة حكم بعض الرؤساء و الملوك و الأمراء و أعوانهم من الذين عشعشت فيهم أنواع الفساد ، لتُؤَكِّد أن شيئاً ما قد تعفَّن جداً داخل الشعب نفسه ، لأنَّ السعادة حليفة الشجعان ، و لا يستحق غير الشعوب الصالحة و الطاهرة أن تنعم بالحكام الصالحين ))(1).
ثالثاً : سبق نظام الإسلام للأنظمة الوضعيَّة في مجالات الإصلاح :
فيما يخصُّ ثالث المحاور التي يدور حولها فكر الرئيس ، و هو سبق الإسلام للأنظمة الوضعية في مجالات الإصلاح ، نجده تارةً يسعى جاهداً للانتصار لمقولة ( اشتراكية الإسلام ) أو ( الاشتراكية الإسلامية ) تلك المقولة التي ترددت قبل نصف قرن من الزمن ، و انتصر لها غير واحد من دعاة الإسلام البارزين في تلك الحقبة(2)، و تارة يحاربها ، و يرى في النظام الإسلامي البديل المناقض لها .
و يبدو ذلك جليَّاً حينما ينسب الرئيس إلى الإسلام ركنين – هما المساواة بين الناس ، و تأميم موارد الثروة – من أركان الاشتراكية الثلاثة ، بينما يجند قلمه و فكره لتفنيد الركن الثالث و هو الإلحاد و إنكار الخالق ، و فيما يلي أبين موقفه من كل ركن من أركانها الثلاثة على حدة :
الركن الأوَّل : المساواة بين الناس :
يرى الرئيس علي عزت أن المساواة بين الناس مبدأ سام سعى الإسلام إلى تقريره ، و قرره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوجز و أبلغ عبارة حيث قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع :
(
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 22 .
(2) ... انظر على سبيل المثال كتاب : ( اشتراكية الإسلام ) للأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله .(1/8)
أيها الناس كلكم لآدم و آدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي ، و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )(1).
__________
(1) ... هذا الحديث ملفق من حديثين ، أحدهما من خطبة حجة الوداع كما قال :
أولا : حديث حجة الوداع ، و هو حديث صحيح ، و لفظه :
" يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، و لا لأحمر على أسود ، و لا أسود على أحمر إلا بالتقوى ، أبلغت ؟ " قالوا : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – ثم ذكر الحديث في تحريم الدماء و الأموال و الأعراض .
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في " مسنده " 5 / 411 ، و الطبري في " آداب النفوس " كما في تفسير القرطبي 16 / 342 – 343 ، عن إسماعيل ، حدثنا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى في أوسط أيام التشريق ، و هو على بعير له – فذكره .
وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في " المجمع " 3 / 266 .
إسماعيل هو : ابن علية . و سعيد الجريري ، هو : ابن إياس . و أبو نضرة ، هو : المنذر بن مالك .
و تابع إسماعيل : عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عند الحارث في " مسنده " ( 1 / 193 رقم 51 –
زوائد ) .
و جهالة الصحابي لا تضر ؛ فكلهم عدول ، و جاء مصرحا باسمه بسند فيه ضعف ، فيما أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 3 / 100 ، و البيهقي في " الشعب " 4 / 289 ( 5137 ) من طريق العلاء بن مسلمة الهذلي البصري ، قال : حدثنا شيبة أبو قلابة القيسي ، عن الجريري بالإسناد السابق ؛ لكن فيه تسمية الصحابي : جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - .
قال أبو نعيم : ( غريب من حديث أبي نضرة ، عن جابر ، لم نكتبه إلا من حديث أبي قلابة ، عن الجريري عنه ) .
و قال البيهقي : ( في هذا الإسناد بعض من يجهل ) .
قلت يشير إلى العلاء بن مسلمة ، لم يوثقه أحد ، قال فيه ابن حجر : " مقبول " . و إلى شيخه : شيبة أبو قلابة القيسي ، لم أجد من ترجمه .
ثانيا : حديث ( أنتم بنو آدم ، و آدم من تراب ) :
روي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسناد حسن ، و من حديث حذيفة - رضي الله عنه - بإسناد ضعيف :
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :
أخرجه أبو داود ( 5116 ) في الأدب ، باب : التفاخر بالأحساب ، من طريق ابن وهب ، و المعافى بن عمران ؛ و الترمذي ( 3956 ) في المناقب من طريق موسى بن أبي علقمة ، و الخطيب البغدادي , في " تاريخه " 6 / 187 من طريق المعافى ؛ ثلاثتهم عن هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : ( إن الله عز و جل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء، مؤمن تقي و فاجر شقي ، و الناس بنو آدم ، و آدم من تراب ) . =
= ... و هشام بن سعد صدوق حسن الحديث . انظر : تهذيب الكمال 30 / 208 .
و قد اختلف في إسناده على هشام بن سعد اختلافا لايضر ، حيث رواه سفيان الثوري و غيره ، عن هشام عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به ، فلم يذكروا ( عن أبيه ) . وذلك فيما أخرجه أحمد 2 / 361 و 523-524، و الترمذي أيضا ( 3955 ) ، و ابن سعد في " الطبقات " 1 / 5 ، و الحاكم في " علوم الحديث " ص 195 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 232 ، و في " الشعب " ( 5127 و
5128 ) .
و لفظ ابن سعد مختصر على : ( الناس ولد آدم ، و آدم من تراب ) .
قال الترمذي : ( حسن غريب ) . ثم قال معلقا على رواية موسى ابن أبي علقمة : ( و هذا أصح عندنا من الحديث الأول – يعني طريق الثوري و من تابعه - ، و سعيد المقبري قد سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - ، و يروي عن أبيه أشياء كثيرة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ) . و انظر : علل الدارقطني 8 / 157-159 (1478 ) .
و قال المنذري في " الترغيب " 3 / 375 : ( رواه أبو داود و الترمذي ، و حسنه ، و البيهقي بإسناد حسن أيضا ) .
و أورد السيوطي لفظ ابن سعد في " الجامع الصغير " ( 9303 ) و رمز له بالحسن .
2 - حديث حذيفة - رضي الله عنه - ، و لفظه : ( كلكم بنو آدم ، و آدم خلق من تراب ، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان ) .
أخرجه البزار في " مسنده " 7 / 340 ( 2938 ) من طريق الحسن بن الحسين ، أخبرنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة ، عن المستظل بن حصين عنه .
قال الهيثمي في " المجمع " 8 / 86 : ( رواه البزار ، و فيه الحسن بن الحسين العرني ، وهو ضعيف ) .
و قال ابن حجر في " مختصر زوائد البزار " 2 / 224 ( 1746 ) بعد أن ذكر قول الهيثمي : ( وشيخه لين ) . قلت : يعني قيس بن الربيع .
و رمز له السيوطي في " الجامع " بالحسن ، فتعقبه المناوي في " فيض القدير " 5 / 48 بقوله : ( ليس كما ذكر فقد أعله الهيثمي بأن فيه الحسن بن الحسين العرني ، وهو ضعيف ) .(1/9)
و قد أحسن الرئيس حين وصف هذه الكلمات بأنها أبسط و أخلص و أروع ميثاق في حقوق و مساواة بني الإنسان(1).
و في هذا المجال يرى الرئيس علي عزت أن الغاية من إرسال الرسل لم تكن ( محصورةً في جانب إحياء الدين و تعاليمه المهجورة ، بل كان هدفها الأول إصلاح الخلل الذي نخر في النظام الأخلاقي و الاجتماعي )(2).
و عماد هذا الإصلاح هو تحقيق المساواة و القضاء على الرق و الطبقية في المجتمعات التي بعث فيها الرسل و أرسلت إليها الرسالات .
و لتعزيز هذا التصور يسوق عدة أمثلة مستوحاة من آيات القرآن الكريم :
فهو يرى أن رسالة كل من نوح و موسى و هارون جاءت بالحرب على الطبقية المستحكمة في نفوس أقوامهم ، حيث كان مجتمع قوم نوح مقسماً تقسيماً طبقياً لا يمكن قبوله ، و هو ما يدل عليه قول الملأ الذين كفروا من قومه : { ما نراك إلا بشراً مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود :88 ] .
و أما قوم موسى و هارون فكان فيهم الرق ، و استعباد الإنسان للإنسان ، قال تعالى : { ثم أرسلنا موسى و أخاه هارون بآياتنا و سلطان مبين - إلى فرعون و ملئه فاستكبروا و كانوا قوماً عالين - فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا و قومهما لنا عابدون } [ المؤمنون : 45-47 ].
و قد أفلح الإسلام في تطبيق مبدأ المساواة على أكمل وجه ، محرزاً بذلك قصب السبق في هذا المضمار . قال تعالى : { يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم
خبير } [ الحجرات : 13 ] .
__________
(1) ... انظر : مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 26 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 110 .(1/10)
فلم تعد المساواة مجرد نصوصٍ تتلى أو بيانات تنشر ، و لكنها تحولت إلى سلوك اجتماعي فريد ، فبينما تكرس الديانات المحرفة والأنظمة الوضعية الطبقية التفرقة العنصرية و الاستعباد – بطريقة أو بأخرى – نرى المسلمين يصطفون كالبنيان المرصوص في المساجد و غيرها ، حيث يستطيع (( الفقير و الأعمى أن يقفا جنباً إلى جنب مع ملك أو نبيل و قد يكونا عند الله أفضل منهما ))(1).
الركن الثاني : تأميم مصادر الثروة :
يذهب الرئيس إلى القول بأن الإسلام قد أمَّم مصادر الثروة في المجتمع ، فيقول : (( أعلن الإسلام صراحة أن ملكية الأرض تعود إلى المجتمع – أو الشعب – أي أن لجميع المسلمين حقا فيها ، و لكن الأقلية من الأثرياء و الوجهاء سطت على غالبية الأراضي ، تاركة ملايين الفلاحين لا يملكون قيد شبر من الأرض ))(2).
و لا يخفي إعجابه ببعض إنجازات الثورة ( الإسلامية ) في إيران ، و يستشهد بها على أن تأميم مصادر الثروة هو أحد معالم النظام الاقتصادي الإسلامي ، ( أو ما يسمى باشتراكية الإسلام ) ، فيقول :
(( لا يمكننا . . . أن ننسى ذكر دولة إيران . . . لقد تم في هذه الدولة التي تعرض كافة أحكامها و قوانينها على مجلس الفقهاء المتشدد ، تأميم البنوك ، و تأمين المناجم و مصانع الصلب و السيارات والأغذية و الأدوية . . . هذه التغييرات الكبيرة لم تجر باسم (ماركس ) و لكنها طبقت باسم القرآن الكريم ))(3).
الركن الثالث : الأساس العقدي لكلٍ من الإسلام و الاشتراكية (
بقيت الإشارة إلى النقطة الفاصلة بين نظام الإسلام و الاشتراكية بحسب رأي الرئيس و هي التي يتعذر أي التقاء حولها ، و هي العقيدة المحركة لكل من النظامين .
__________
(1) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 87 .
(2) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 158 . قلت : و ما ذكره من شمولية التأميم في إيران يخالف الحال القائمة الآن منها !!(1/11)
و مادام الإسلام ديناً يقوم على الاعتراف بوجود الله ، و تعيُّن تسيير أمور الحياة بحسب شرعه و هداه ، و يناقض فلسفة الإلحاد التي قامت عليها الاشتراكية ، فليس ثمة مبرر لإطلاق مصطلح ( الاشتراكية الإسلامية ) باعتبارها ممكنة ، فضلاً عن كونها واقعاً معاشاً ، لأن هذين النظامين قد بنيا على أساس فلسفتين
متناقضتين(1).
و هنا يجد الباحث نفسه أمام ثلاث نظرات إلى العلاقة بين الاشتراكية و الإسلام في فكر الرئيس علي عزّت بيكوفيتش تتباين في بعض وجوهها و تتكامل من بعض الوجوه .
فتارة ينظر إلى الاشتراكية و الإسلام على أنهما (( نظامان شاملان
متشابكان ))(2)، بحسب ما نادى به كل منهما من قبيل المساواة و القضاء على الطبقية و الاستعباد ، و عدالة توزيع الثروة .
و تارة ينظر إليهما نظرة (( لا يبقى معها مجال للمقارنة بين النظامين ))(3)باعتبار ما يستند إليه كل منهما من الفلسفة الوجودية لدى الاشتراكية ، و عقيدة التوحيد في الإسلام .
و تارة ثالثةً ينظر بترقب و تساؤل حول إمكانية التقاء النظامين في المستقبل ، إذا كان هذا اللقاء قد تعذر و لا يزال متعذراً فيقول : (( لا ندري هل ستقدر الأيام المقبلة على إيجاد ملتقى بين الدين و الاشتراكية ، لقيام نوع من اشتراكية متدينة ، أو اشتراكية إسلامية !! ... لعل بعض مستحيلات اليوم تغدو في المستقبل ممكنة
جداً ))(4).
__________
(1) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 158.
(2) ... المرجع السابق ، ص : 158 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 159 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 159 .(1/12)
و مع أنَّ الرئيس يرى بأنَّ الإسلام هو النظام السبَّاق في نواحي الإصلاح كافَّة فهو لا يقلل من إنجازات الآخرين ، بل على العكس من ذلك نراه يسعى للإفادة من تجاربهم ، و بخاصَّة في المجالات المادِّيَّة . و بحسب رأيه (( ينبغي للعالم الإسلامي أن يأخذ من الغرب روح العمل و التنظيم و الانضباط ، و أساليب البحوث العلمية ، و تطوير التقنية ، مع التأكيد على أن الغرب ليس قدوة فيما يتعلّق بالنظرة إلى الحياة و الأخلاق و الحياة الأسرية ، لأنَّ نمط الحياة الغربية في معظم هذه الأمور مثال لما يجب أن نتحاشاه في حياتنا ))(1).
و يضرب مثالاً لما يُمكننا محاكاة الأعداء فيه ، بل و التفوق عليهم و إن كانوا ـ بحسب الزمن ـ قد سبقونا إليه ، بالتضامن و الوحدة ، و لا يُخفي إعجابه من تضامن اليهود و تكاتفهم ، الأمر الذي كنَّا أولى منهم بالأخذ به ، و أحوج منهم إلى التضامن و الوحدة التي فقدناها منذ قرون(2).
إنها إذاً الحِكمة ( ضالَّة المؤمن ) التي يتعيَّن عليه تلمُّسها و المسارعة إليها ، و التقاطها ، و لو من تجارب الآخرين ، و ( لنتعلَّم من أعدائنا )(3).
رابعاً : ضرورة توحيد الأمَّة في كيانٍ واحد :
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 44 .
(2) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 83 .
(3) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 23 و 114 .(1/13)
على صلةٍ بقضيَّة الخلافة الإسلاميَّة التي سبق و تناولناها في ضوء الفكر الإسلامي لدى روَّاد هذا الفكر من البشانقة تقع قضيَّة الوحدة الإسلاميَّة ، بصفتها مطلباً لشعوب العالم الإسلامي ، التي ما فتئت تعاني من الفرقة و التمزق ، منذ سقوط الخلافة العثمانيَّة و حتى اليوم ، و لتجاوز المصاعب الحالية ، لا بد أن ينتظم مئات ملايين المسلمين في وحدة جامعة متينة(1)، لأنَّ أمَّةً ممزَّقة لا سيادة لها ، و علينا اليوم (( أن نتقدم بخطواتٍ واثقةٍ على طريق العودة إلى سيادة أنفسنا و مستقبلنا ... و إقامة مجتمع إسلاميٍّ موحَّدٍ من المغرب إلى إندونيسيا ))(2).
و ـ بحسب البيان الإسلامي ـ إنَّ إقامة المجتمع الإسلامي الموحد ليست فكرة أحد من البشر ، و ليست رغبة جامحة لأي كائن . و إنما هي دعوة تقوم على ما ورد في القرآن بأن المسلمين أخوة ، قال تعالى : ( إنَّما المؤمنون اخوةٌ )
[ الحجرات : 10 ] ، بل هي ضرورة يحتِّمها الواقع فالعالم الإسلامي اليوم رغم كونه متعدد الشعوب و الجنسيات و القوانين التي تحكمه ، يربطه شيء واحد هو القرآن الكريم ، الذي يقرأ في كل أصقاع العالم الإسلامي ، من الهند إلى الجزائر إلى نيجيريا 00 حيث يشعر الجميع بانتمائهم الإسلامي(3).
__________
(1) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(2) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(3) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .(1/14)
و ليتنا ـ إذ لم نستفد من تراثنا العريق في هذا المجال ـ نستفيد من تجارب الأمم الأخرى التي تغلَّبت علينا بوحدتها و فُرقتنا ، و في هذا السياق لا يُخفي الرئيس إعجابه من تضامن اليهود و تكاتفهم ، الأمر الذي كنَّا أولى منهم بالأخذ به ، و أحوج منهم إلى التضامن و الوحدة التي فقدناها منذ قرون(1).
و يرى الرئيس أن أي وحدة بديلة عن الوحدة الإسلاميَّة التي ينشدها المسلمون و يدعوا إليها علماؤهم فهي دعوة دخيلة ، و إن نادى بها بعض من ينتسب إلى الإسلام ، أو ينطق بلسان أهله ، سواءٌ في ذلك الدعوات القوميَّة أو الإقليميَّة أو الوطنيَّة ، و يضرب على ذلك مثلاً بالدعوة إلى القوميَّة العربيَّة في الدول الإسلامية ، و يعتبرها (( فكرة دخيلة أجنبية ، جاء بها عدد من المثقفين السوريِّين الذين أنهوا تعليمهم في أوروبا و أمريكا ، و سبقتهم بذلك تركيا ، على يد كمال أتاتورك ... إن هذه الفكرة القومية غريبة عنا ، بينما يظلُّ مفهوم الأمة الإسلامية هو
الأصيل ))(2).
و (( أمة الإسلام هي الوحدة الكبرى التي تتجاوز التجمعات البشرية كلها لتضم كل المسلمين في كل مكان ))(3).
و الحق أن الأستاذ محمد فيليبوفيتش ، أستاذ الفلسفة و علم الاجتماع في جامعة سراييفو هو رائد و مؤصّل فكرة ( القوميَّة الإسلاميًّة ) ، و قد وضع قواعدها انطلاقاً من تجربة الشعب المسلم في البوسنة ، حيث أن الأصول العرقية لهؤلاء المسلمين – كما هو معروفٌ – سلافية إيليرية ،شأنهم في ذلك شأن الشعوب المجاورة لهم .
__________
(1) ... انظر : مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 83 .
(2) ... انظر : انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(3) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 283، 284 .(1/15)
لكنهم بعد أن امتن الله عليهم بالإسلام أخذوا يتخلون عن ثقافاتهم القومية السابقة ، و ينسحبون من مجتمعاتهم ، رافضين التقاليد الاجتماعية و العادات التي تربوا عليها ، لأنها تتناقض مع الإسلام ، و لأن الدين الجديد الذي اختاروه بإرادتهم الحرة ، يعلمهم تقاليد و عادات بديلة ، و يكسبهم ثقافة مختلفة .
ويرى فيليبوفيتش أيضاً أن هؤلاء المسلمين الذين كانو متباينين عرقياً و قومياً ، حتى أضحى الإسلام يقربهم ، و أضحت تقاليدهم تختلف عن تقاليد الأقوام الأخرى و مع الصراعات السياسية و العرقية بينهم و بين الشعوب المجاورة التي اضطهدتهم و حاولت ردهم عن الإسلام ، نشأت مصالح و آمال و آلام عمَّقت و حدتهم و ترابطهم ، و قوَّت وشائج الأخوة بينهم ، و جعلت أساسها الوحيد هو الإسلام(1).
لقد أصبح الإسلام أخيراً في هذه البقعة من العالم الإسلامي ، قوميَّةً لشعبٍ جديد لم يكن له وجود يذكر من قبل ، كما يرى فيليبوفيتش و الرئيس علي عزت من بعده ، بل و جلُّ المثقفين المسلمين في البوسنة و الهرسك .
و هم بذلك يوافقون العلامة محمد الخانجي الذي يُعتبر أبرز علماء البوسنة في العصر الحديث ، و قد قال رحمه الله : (( و من خصال مُسلمي تلك البلاد حبُّهم لسائر المسلمين حباً بالغاً ، و اعتقادهم أن كلَّ مُسلمٍ و إن نأت به البلاد أخٌ لهم ... و لكلِّ جمعية أين كانت و متى كانت رابطةٌ ، و رابطة المسلمين هي الرابطة الإسلاميَّة وحدَها ، لا يعرفُ الإسلام قوميَّة و لا عصبيَّة جاهليَّة ))(2).
فلنعد إلى أصولنا ، كي نرقَ بأمَّتنا .
خامساً : العمل الإسلامي الجماعي :
__________
(1) 1 ... انظر : محمد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 125 ، 126 و 449 ، 450.
(2) ... الجوهر الأسنى ، للشيخ الخانجي ، ص : 19 .(1/16)
يدرك الرئيس علي عزّت أن العمل الجماعي المنظم أبلغ أثرا و أجدى نفعاً في عالم تتجاذبه التكتلات ، و ما للأفراد – و إن نشطوا – فيه من حول و لا قوة تذكر في مواجهة التيارات الجارفة ، مما يجعل المشاركة الحقيقيَّة في الحدث تعني مشاركةً في المجتمع ، و أيَّ نضالٍ هو النضال الجماعي المنظم(1).
و لعل قناعة الرئيس بضرورة العمل الجماعي الإسلامي ، و دور الجماعات الإسلامية الريادي في الحرب المنتظرة ، هو الذي حدا به في وقت مبكر إلى الإنخراط في صفوف جماعة الشبان المسلمين(2)
__________
(1) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19 / 3 / 1412 هـ الموافق 16 / 9 / 1992 م ) .
(2) ... حركة الشبان المسلمين : حركة خيرية إنسانية سياسية دينية أسسها قبل الحرب العالمية الثانية بعض علماء البوسنة الذين تلقوا العلم في الأزهر الشريف ، و تأثروا بالحركة الإسلامية في مصر ، و في مقدمتهم الشيخ محمد الخانجي ، و الشيخ قاسم دوبراجا ، و قد عملا على نقل تجربة الحركة الإسلاميَّة ( و خاصَّة جماعة الإخوان المسلمين ) في مصر إلى الشبان المسلمين في البوسنة ، و بعد الحرب العالمية استولى الحزب الشيوعي ، بقيادة ( تيتو ) على السلطة ، و كان أول أعماله نصب المحاكم العسكرية لعلماء الإسلام البارزين و أعضاء الجمعيات الإسلامية ، و بالأخص أعضاء حركة الشبان المسلمين ، حيث حظرت و اعتقل جميع أعضائها ، و أعدم عدد من أبرز قادتها ، و كان نصيب علي عزّت بيكوفيتش من أحكامها السجن خمس سنوات .
انظر : مقدمة الترجمة العربية لكتاب : الاسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 13، 14.
و : الدكتور عبد الحي فرماوي : الصربيُّون خنازير أوروبا ، ص :141.
و : الدكتور رشدي عزيز محمد : المسلمون في البوسنة بين الماضي و الحاضر ، ص : 142 .(1/17)
في البوسنة ، ذلك التنظيم الريادي الذي يعتبر امتداداً للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تأثر به الرئيس ، و دان له بالفضل ، و قال عنه : (( كان البرنامج الاجتماعي الاقتصادي الذي وضعته حركة الإخوان المسلمين برنامجاً ثورياً بتمام معنى الكلمة ))(1).
و إذا كان لجماعة أو لشخصية ما أن تؤثر في فكر الرئيس علي عزت ، فإن أبلغ الأثر في فكره كان للأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله و مدرسته الفكرية ، التي كثيراً ما كان يشيد بها و يقتبس منها الرئيس و خاصةً في باب : ( الحاكمية ) ، و من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر قوله : (( إن الشعارين الأساسين في الإسلام :
( الله أكبر ) و ( لا إله إلا الله ) هما أعظم القوى الثورية في الإسلام ، و يرى سيد قطب بحق أنهما ثورة ضد السلطة الدنيوية التي تغتصب الحق الإلهي في حكم العالم ، و يذهب سيد قطب إلى أنهما يعنيان ، انتزاع السلطة من الكهان و زعماء القبائل و الأغنياء و الحكام ، و إعادتها إلى الله ))(2).
أما على أرض الواقع فلعلّ الإحباط كان يلاحق الرئيس علي عزَّت على صعيد العمل الإسلامي الجماعي لأن غالبية المسلمين البوشناق كانت بعيدة عن الفهم الصحيح للإسلام ، أو العمل السياسي الناضج من أجل استعادة دوره الإصلاحي الريادي في مجتمع قوضته معاول الشيوعية و التغريب خلال عشرات السنوات ، و هو ما حال دون قيام حزبٍ إسلامي يتبنى مبادئ الإسلام و منهجه في الإصلاح ، و يدعو إلى تحكيمه و إقامة دولته .
__________
(1) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ص157 .
و قد أقضَّت جماعة ( الشبَّان المسلمين ) مضاجع الشيوعيين ، و تنبهوا إلى تأثُّرها بتنظيم ( الإخوان ) في مصر الأمر الذي صرَّح به تيتو في أحد لقاءاته مع صديقه الحميم جمال عبد الناصر .
انظر : صحيفة ( المساء ) بتاريخ 6/6/1992م .
(2) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 281 .(1/18)
و كان البديل أمام الرئيس علي عزَّت و رفاقه تأسيس حزب يمثل المسلمين أكثر من تمثيل الإسلام نفسه ، و تمخض هذا الطرح عن تأسيس حزب العمل الديمقراطي برئاستة نفسه عام 1411هـ/1990م .
و طرح حزب العمل الديمقراطي التعددية العرقية و الدينية و المساواة بين الأعراق و الأجناس إلى جانب العلمانية و الديمقراطية في برامجه باعتبارها دعائم رئيسة لدولة عصرية متحضرة .
و نظراً إلى الثقة التي يحظى بها الرئيس علي عزَّت لدى غالبية أبناء شعبه فقد استطاع أن يقود من خلال حزبه البلاد إلى الاستقلال ، و يقود حكومتها خلال السنوات العشر الأولى بعد الاستقلال بما فيها سنوات الحرب العجاف .
إلا أن الحزب بدأ في التقهقر بعد ذلك ، و بالتحديد في الانتخابات البلدية التي أجريت في ربيع العام 1421 هـ / 2000 م ، و أسفرت عن عودة الشيوعيين من جديد ، حيث تقدموا على حزب العمل الديمقراطي في مناطق المسلمين خاصة ، الأمر الذي يرجع – كما يبدوا لي و الله أعلم – إلى بُعد الشقة بين مبادئ الإسلام و ما يتبناه الحزب في برامجه السياسية و الاجتماعية من المبادئ العلمانية ، التي لم يكن لها أن تدوم طويلاً(1).
__________
(1) 1 ... كان في لوائح الحزب للانتخابات البلدية عام 1421 هـ/2000 م عدد من العلمانيين ، الذين قدموا على قدم المساواة جنباً إلى جنبٍ مع ثلة من المسلمين الأجلاء المعروفين في أوساط مسلمي البوسنة و الهرسك ، كما كانت نسبة النساء ظاهرة في اللوائح ، ففي محافظة سراييفو : رشح الحزب ثماني نسوة – ليس بينهن محجبة – إلى جانب ثمانية عشر مرشحاً من الرجال ، و في محافظة زينتسا ( ثاني محافظات المسلمين ) : رشح الحزب إحدى عشرة امرأةً بينهن محجبة واحدة هي الدكتورة عذراء عمرغاغيتش ، إلى جانب ثلاث و عشرين مرشحاً من الرجال ، و كان الفشل الذريع أقرب إلى قوائم الحزب الذي تراجع أمام عودة الاشتراكيين .(1/19)
هذا علاوةً على سببين ماديين كان من شأنهما الحط من أسهم المسلمين ، و دعم منافسيهم من الشيوعيين و غيرهم ، و هذان السببان هما :
أولاً : التصدع في صفوف المسلمين ، و التنافس فيما بينهم على المناصب ، و لعل من هذا القبيل انحياز حارث سيلابجيتش بأكثر من عشرةٍ بالمئة من أصوات المسلمين ، صوتوا لحزبه الجديد المعروف باسم من أجل البوسنة و الهرسك . و ما دخلت الفرقة في أمة إلا أوهنتها ، و حطت من هيبتها أمام أعدائها .
ثانياً : ضعف الوازع الديني في نفوس المسلمين ، الذين تربوا تربية مادية أبعدتهم كثيراً عن الإسلام الذي لم يعد في نظر كثيرٍ منهم سوى قاموساً للأسماء ، و قومية ينتسبون إليها و يتباهون بها ، و جعلتهم أقرب إلى المادية الجوفاء .
و من شأن هؤلاء أن يميلوا إلى من يعدهم برغد العيش ، و طيب المقام ، و هو ما دفعهم إلى إيثار العودة إلى حكم الشيوعية على حكم حزب يمثل المسلمين ، و إن لم يكن الفارق بينه و بين غيره كبيراً ، كما أن الكثير من الشباب المنسلخ من الدين و الآداب يرى في حزب المسلمين ( و إن لم يكن حزباً إسلامياً ) حجر عثرة في طريق تحرره و تحضره ، بالمفهوم الغربي الغريب .
و أمام هذا الواقع ظل العمل الإسلامي الجماعي فكرة رائعة دعا إليها و عجز عن تطبيقها الرئيس علي عزَّت ، و ظلت متعذرة التطبيق في مجتمع تتنازعه الأهواء ، و لا يزال أبناؤه يسيرون في طريق العودة إلى الإسلام الطويلة .
فلعل بوادر الصحوة التي أعقبت مسيرة الجهاد البوسنوي في سبيل الله ، أن تكون إحدى المبشرات ببعث إسلامي ترفده تجمعات المسلمين و أفرادهم في البوسنة.
سادساً : الجهاد في سبيل الله :
مع مرور الزمن و إرساء مبادئ الشيوعيَّة في يوغسلافيا ، اطمأنَّ الشيوعيُّون إلى أن مجرد التفكير في الجهاد في سبيل الله لم يعد موجوداً في أذهان المسلمين البوسنويين ، الذين أخذوا عن عدد من علمائهم القول بانتهاء عصر الجهاد ، و رفع حكمه .(1/20)
فقد ظلَّ علماء المشيخة الإسلاميَّة المعيَّنون من قبل السلطات الشيوعيَّة في يوغسلافيا ، يدعون إلى التسامح الديني ، و التعايش مع الأعداء دون غضاضة ، و كان من أشهر هؤلاء الكتَّاب عثمان نوري حاجيتش ، الذي دعا في كتابه المسمى ( محمد و القرآن )(1)إلى التسامح ، و نفى فرضيَّة الجهاد في سبيل الله ، و دعا إلى تخلي المرأة المسلمة عن حجابها و جلبابها لتقف إلى جانب أخواتها اليوغسلافيَّات على قدم المساواة .
كما قام بعض الكتاب الآخرين بتفريغ الجهاد من مضمونه ، حينما جعلوا الغاية منه تحقيق رغد العيش ، و رفاهية المجتمع ، و ليس إقامة شرع الله ، و لا التمكين لدينه و عباده في أرضه .
يقول الشيخ حسين جوزو : (( إن المعنى العام للجهاد في الإسلام هو بذل الوسع و الجهد بالقدر الممكن من أجل تحقيق تقدُّم و رفاهية الفرد و المجتمع ، و هذا هو المعنى الحقيقي للجهاد ، لأنَّ كلمة الجهاد ، أصلها من الفعل جَهَد فلا بد لنا من إعداد الإنسان لبذل الجهد في سبيل ذلك ))(2).
لكن هذه النظرة إلى الجهاد ، و التوجُّه إلى تعطيله لم يكن عليها عموم المسلمين في البوسنة ، بل كانت فيهم قلة ممن يكتب و يؤسس و يعد ليوم يعود فيه الجهاد إلى حياة المسلمين ، و إلى هذه القلَّة كان ينتمي الرئيس علي عزَّت .
__________
(1) ... ظهر هذا الكتاب لأوَّل مرَّةٍ في بلغراد سنة 1349 هـ / 1931 م ، أي قبيل قيام الحكم الشيوعي في بلاده ، ثم أعيد طبعه في سراييفو سنة 1387 هـ / 1968 م .
(2) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 115 .(1/21)
لا شك أن الرئيس كان يدعو إلى الثورة على الواقع الذي يعيشه عموم المسلمين ، و بخاصة الواقعون منهم تحت السيطرة الشيوعية المباشرة ، كما هو حال المسلمين في البلقان ، و يسعى لغرس فكرة ( الجهاد ) في أذهان بني قومه ، و خاصة أجيالهم الشابة التي يعول عليها في الانتقال بالجهاد من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق العملي بالثورة في وجوه الكفرة المتسلِّطين ، ليصلوا الحاضر بالماضي ، و يقارعوا الجاهليَّة من جديد ، و يقدموا الدماء و الشهداء في سبيل ذلك (( لأن جذور الجهاد الإسلامي قديمة و تاريخية ، و قد سقطت قوافل الشهداء و هي تقابل
الجاهلية )) ، و إذا عادت الجاهلية اليوم فلتعد قوافل الشهداء أيضاً .
و الجهاد في فكره مبدأ سياسي و اجتماعي ، و ليس مجرَّد فكرة أو نظرية يرددها ، و في ذلك يقول : (( عندما أقرّ القرآن القتال ، بل أمر به بدلاً من الرضوخ للمعاناة و الظلم ، لم يكن يقرر مبادئ دين و أخلاق ، و إنما كان يضع قواعد سياسية و اجتماعية ، لقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مقاتلاً ، فقد ذكر في سيرته أنه كان له تسعة سيوف ، و ثلاثة رماح ، و سبعة دروع ، و ثلاثة تروس ، و أسلحة
أخرى ))(1).
و هو – و إن كان في الغالب يحجم عن الدعوة إلى الجهاد ، علانية قبل اندلاع الحرب الأخيرة في بلاده – يحرص في أبحاثه و مقالاته و خطاباته على إحياء الروح الجهادية في نفوس من يخاطبهم ، و ذلك بالتركيز على عدة أمور :
__________
(1) ... الإسلام بين الشرق و الغرب , ص : 286 .
قلت : ذكر العلاَّمة ابن القيم في زاد المعاد : 1/90، 91 عدد أسياف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و دروعه ، و تروسه ، وكلُّ ذلك موافق لما ذكره الرئيس ، أمَّا عدد رماحه - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر ابن القيِّم أنَّها خمسة .(1/22)
أوَّلها : تربية الأجيال منذ الطفولة على الجهاد في سبيل الله ، حيث إن الأمة – أياً كانت هذه الأمة – و هي تسعى إلى التحرر و الرقي ، و تبوئ أسمى المراتب بين الأمم لا بد أن ينهض فيها المربون الصادقون ، الذين يغرسون الفضائل و القيم في أجيالها الصاعدة ، و يعدونهم للمعركة الفاصلة .
و بحسب ما يقرره الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ثمَّة ثلاثة أمور تجب مراعاتها عند تربية الأجيال و هذه الأمور هي :
أولاً : الانتقال من التغني بالتاريخ و الماضي – على ما فيه من سلبيات – إلى الحث على العمل و العطاء ، و هنا ينكر الرئيس على أولئك الذين يحدثون الشباب عما كان عليه الإسلام في التاريخ ، و ليس عما يجب أن يكون عليه المسلمون اليوم فيقول : ( يعرف شبابنا الكثير عن قصور الحمراء و الفتوحات الماضية و بغداد – مدينة ألف ليلة و ليلة – و مكتبات سمرقند و قرطبة الزاخرة ... إن التاريخ مهم بلا شك ، و لكن ترميم مسجد بجوار بيتك أنفع للإسلام من معرفتك بأسماء جميع المساجد الشهيرة التي أقامها أسلافنا )(1).
ثانياً : تربية الشباب على الشجاعة و الإقدام ؛ بدلاً من التخاذل و الخضوع و الطاعة العمياء .
و في هذا المعنى يتساءل الرئيس مستنكراً : ( حينما كان أعداء الإسلام يستولون على الدول الإسلامية دولةً دولة . . . كنا نربي أجيالنا بأن يكنُّوا الخير للجميع ، و يستسلموا لطوارق القدر ، و يتحلوا بالطاعة العمياء لولي الأمر . . . لا أعرف بالضبط مصدر فلسفة الطاعة الكئيبة هذه ، و لكني على يقين أنها ليست من الإسلام في شيء . . . لأنها تميت الأحياء و تحشد حول الإسلام أجيالاً ماتت قبل أن تبدأ حياتها )(2).
__________
(1) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 103 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 102 .(1/23)
ثم يتأمل الرئيس واقع عالمنا الإسلامي اليوم ، فيجد قادة الشعوب الإسلامية رجالاً تربوا في الإسلام ، و لكنهم لم يفلحوا في قيادة شعوبهم ( لسبب واحد هو أنهم قد ربوا ليكونوا أتباعاً لا قادة )(1).
فإذا أردنا للأجيال القادمة أن تكون أحسن حالاً منا ، فلنرب أبناءنا على الشجاعة و القيادة ، لا الخضوع و الإذعان للواقع ، أو الاستسلام و التبعية للخصوم و على المربين أن ( يربوا رجالاً كاملين ، و ليحدثوهم عن العزة أكثر من الطاعة ، و عن الشجاعة أكثر من التواضع ، و عن العدالة أكثر من الشفقة ، ليخرجوا لنا جيل العزة و المهابة الذي يقف على قدميه ، و يمضي بثبات في طريقه . . . إن تقدم الإسلام سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين لا على أيدي الوديعين الخانعين )(2).
و إن لم ينهض المربون بهذا الواجب فسيكونون ( مشاركين في استعباد و اضطهاد شعوبهم في عالم يموج بالفتن و الرذائل و الملهيات و الرق و الظلم )(3).
ثالثاً : التحذير من الخلط بين الحقائق ، أو نسبة المفاهيم الخاطئة للإسلام تحت أي مبرر ، لأن ( من صريح التناقض أن تقدم لنا تربية الذل و الانصياع و الطاعة باسم القرآن )(4).
و في هذا من التغرير بالأجيال الصاعدة ، و الشبيبة الواعدة ، ما لايخفى لأن القرآن الكريم الذي يقرر مبدأ الجهاد و مقاومة الظلم في أكثر من خمسين موضعاً ، قد حرم الطاعة العمياء تحريماً قاطعاً ، و ( أقر نوعاً واحداً من الطاعة المطلقة ، هو طاعة الله وحده . . . و رتب على هذه الطاعة المطلقة حرية الإنسان و تحرره )(5).
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 102 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 104 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 105 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 103 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 88 ، 103 .(1/24)
و ثانيها : التذكير الدائم بحقيقة أن الإسلام و خصومه في حالة حرب شبه دائمة ، و أن المعركة الفاصلة لما تأت بعد ، و التذكير بالعداء الشديد الذي يكنه المستعمر الصليبي للمسلمين ، و هو ما أدى إلى اندلاع الحروب و قيام الثورات في أنحاء العالم الإسلامي ، حيث ( سجل التاريخ في القرنين الميلاديين التاسع عشر و العشرين قيام أكثر من ستين حرباً بين الدول الأوربية الاستعمارية التي حاولت فرض سيطرتها الكاملة على الدول الإسلامية و بين الشعوب الإسلامية التي دافعت عن حريتها )(1).
و الرسالة التي يوجهها الرئيس إلى شعبه من خلال كلامه هذا ، منصبة في الدرجة الأولى على تهيئتهم لحرب قادمة ، لا يعلم مداها و لا أوانها إلا الله ، و على البشانقة أن يدافعوا عن حريتهم ليلحقوا بالشعوب الإسلامية التي دافعت عن حريتها في أكثر من ستين حرباً خاضتها في مواجهة الدول الأوربية الاستعمارية .
و ثالثها : التركيز على البعد الديني عند تناول حروب التحرر التي خاضتها الشعوب الإسلامية في وجه الغزاة ، حيث تصدَّر كتائبَ المجاهدين العلماءُ و الأئمةُ و الدعاةُ و بالاستقراء نجد ( أن جميع الحروب التي خاضها المسلمون لتحرير دولهم ، ابتداءً من رأس القرن الميلادي التاسع عشر ، و حتى الحرب الأفغانية ، كانت تحت راية الجهاد )(2).
و يؤكد الرئيس على هذه الحقيقة بقوله : (( إنَّ العمل و الجهاد أساسان متينان من أسس الحياة الإنسانيَّة ، و تبقى كلُّ عبادةٍ أو وعظ – بدونهما – شكليَّة قريبة من النفاق ))(3).
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص147 .
(2) ... المرجع السابق ، ص148 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 66 .(1/25)
ثمَّ يسوق عدَّة أمثلة واقعية و شهادات تاريخية على دعواه هذه ، منها : انضمام المتطوعين و أغلبهم من العلماء و مدرسي الدين إلى الأمير الإندونيسي ديبونجارا . . . في مواجهة الاحتلال الهولندي لجزيرة جاوة ، ثم نشوب حرب المقاومة في جزيرة سومطرة تحت اسم ( حرب العلماء ) و في مقاطعة جبربون تحت قيادة بعض رؤوس الصوفية ، ثم قيام رابطة الإسلام ، و تنظيم الحزب المحمدية و غيرها من التنظيمات الإسلامية التي قادت حروب التحرير في إندونيسيا و أفغانستان
و غيرهما(1).
و إن كان المثال الأكثر وضوحاً ، على دور الحركات الإسلامية في قيادة الشعوب الثائرة هو المستخلص من تجربة الجزائر ، حيث ( كانت حركة الأمير عبد القادر الجزائري(2)حركة إسلامية أصيلة . . . و كان الأمير عبد القادر يبدو دائماً أنه لا يقود حرباً جزائرية و لا عربية ، بل يقود حرباً إسلامية . . . على مدى مائة و أربعين سنة )(3).
فإذا أحسن المربون القيام بواجبهم ، فإنَّ الأجيال المتخرِّجة على أيديهم ، ستحقق الكثير و الكثير من آمال الأمَّة التي يعتمد في تحقيقها على الأجيال الصاعدة .
__________
(1) ... انظر : المرجع السابق ، ص148-149 .
(2) 1 ... عبد القادر الجزائري ، هو : عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني ، أمير ، مجاهد ، عالم ، أديب ، ناظم ، ناثر ، صوفي ، حج مع أبيه فزار المدينة و دمشق و بغداد ، لما دخل الفرنسيون الجزائر بلاد الجزائر بايعه الجزائريون ، فقاتل الفرنسيين و صارعهم خمسة عشر عاما ، ثم نفوه إلى طولون ، و منها إلى أنبواز ، ثم أطلق سراحه ، فزار باريس و القسطنطينية ، و استقر في دمشق ، و مات بها سنة 1300هـ / 1883 م عن 77 عاما .
انظر ترجمته في : الأعلام للزركلي 4 / 170 ، اليواقيت الثمينة للأزهري 1 / 216-218 ، معجم المؤلفين 5 / 304 – 305 .
(3) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 149 .(1/26)
و في هذا المعنى ، يقول الرئيس علي عزت : (( نحن نرى بأن ذلك يعتمد على الأجيال المسلمة المقبلة ، هذه الأجيال التي تشكل مائة مليون شاب و شابة ولدوا في الإسلام ، و تربوا في مرارة الهزيمة التي تربض فيما بينهم و هم الذين سيرفضون العيش على ذكريات الأمجاد القديمة . . . لأنهم يحملون في داخلهم القوة و الطاقة القادرة على تحقيق المستحيل و سيواجهون بها الصعاب ))(1).
و رغم أنَّ الرئيس قد طرح دعوته إلى الجهاد بطريقة مبسطة ـ تحاشى فيها الصدام مع المتخاذلين من المنتسبين إلى هذه الأمَّة ـ رجاء أن تلقى القبول ممَّن بلغته و لو بعد حين ، فإنه حرصَ على تبصير القارئ الواعي بحقيقة خصوم الاتجاه الجهادي الذي يدعو إليه ، و يُصنِّفُهم إلى صنفين لا ثالث لهما :
الصنف الأول : المتصوفة ( و غالباً ما يسميهم بالدراويش جرياً على عادة مسلمي البلقان )(2)
__________
(1) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(2) ... ليسوا سواءً ، فمن الصوفيَّة في البوسنة من له في الجهاد في سبيل الله مواقف لا ينكرها إلاَّ مكابر ، أو متجاهل فقد كان بعضهم يشارك في الحروب و الفتوحات الكبرى أيَّام الدولة العثمانيَّة ، و يكفي للتمثيل على ذلك أن في سراييفو زاوية يرتادها المتصوِّفة للذكر و العبادة ، و هي معروفة باسم ( زاوية الغزاة ) و أخرى اسمها
( زاوية الغازي جمجي ) ، مما يدلُّ على اقتران التصوف بالجهاد في بعض مراحل تاريخ البوسنة .
انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 158 .(1/27)
الذين جردوا الدين من بعده السياسي ، و حصروه في الزوايا و التكايا ، و قصروا تعاليمه على الأذكار و الأوراد ، و كثير من البدع و الخرافات و الانحرافات ، و عليه فإن (( الفلسفة الصوفية و المذاهب الباطنية تمثل بالتأكيد نمطاً من أكثر الأنماط انحرافاً . و لذلك يمكن أن نطلق عليها ( نصرنة ) الإسلام . إنها انتكاسة بالإسلام من رسالة محمد إلى عيسى عليهما السلام ))(1).
والصنف الثاني : علماء السلاطين ، الذين يبررون انحرافاتهم باسم الإسلام ، و يقفون باسمه في وجه الجهاد و المجاهدين في سبيل الله ، و عن هؤلاء يقول الرئيس : (( إننا وجدنا خصوماً ينتمون إلى الدين الرسمي فقط ))(2).
و يجمع الرئيس بين هذين الصنفين و عموم الواقفين في وجه الإسلام فيقول محذراً : (( لقد انشطرت وحدة الإسلام على أيدي أناس اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية ... ذلك لأن المسلمين عندما يهملون دورهم في هذا العالم ... تصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها ، في حين يبدأ الدين ( الخامل ) يجر المجتمع نحو السلبية و التخلف ، و يشكل الملوك و الأمراء و العلماء الملحدون ، و رجال الكهنوت و الفرق الصوفية ، و الشعراء السكارى الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام ))(3).
__________
(1) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 287، 288 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 115 .
(3) ... المرجع السابق , ص : 287 .(1/28)
و يُدرك الرئيس أنَّ هناك فئة ثالثةً تناهض دعوته ، و تقتبس من كلامه ما يُمكن أن تستشهد به على وصم فكره بالتطرف ، و دعوته بالإرهاب ، و لذلك نراه يتحاشى ذكر الجهاد صراحةً في كثير من مقالاته ، و يستبدل مصطلح الجهاد بمصطلحاتٍ أخرى ( كالثورة و التجديد ) ، و لا يفتأ يستنكر الفِعال التي تُؤلِّبُ أعداء الإسلام عليه ، مُنطلقاً في ذلك من مبدأ (( الغاية لا تبرر الوسيلة ))(1)، و عليه فإنَّ (( الجهاد في سبيل الإسلام يسمح باستعمال كل الوسائل الممكنة . ما عدا جريمة الإرهاب ، و من غير المسموح به لأحد أن يلطخ وجه هذا الجهاد باستعمال القوة لإخضاع الآخرين باسم الإسلام ))(2).
و رغم المعارضة الواقعة و المتوقعة ، تبقى شخصيَّة المجاهد هي الشخصيَّة المثالية التي يسعى الرئيس لبنائها ، و لا يرى شخصيَّة تفوقها في المكانة و السمو إلاَّ شخصيَّة الشهيد ، لأنَّ (( أعظم شخصيَّة في الإسلام هي شخصيَّة الشهيد المجاهد في سبيل الله فهو راهبٌ ، و جُنديٌّ في شخصٍ واحد ))(3)، و (( المواطن في الدولة الإسلاميَّة يجب أن يكون قبل كلِّ شيءٍ مسلماً مؤمناً ثمَّ مجاهداً ))(4).
__________
(1) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(2) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(3) ... الاسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 305 .
(4) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .(1/29)
و أخيراً : هذه هي المعالم الأساسية لفكر الرئيس علي عزّت بيكوفيتش الإسلامي ، الذي يعيش من أجله ، و يجاهد من أجله في كتاباته و مقالاته ـ على الأقل ـ و ينطلق منه فيخاطب هيئة المحكمة التي قضت بإعدامه ، من وراء القضبان يوم محاكمته سنة 1404 هـ / 1984 م ، إلى جانب تسعة من رفاقه المتهمين بمحاولة إقامة دولة إسلامية في البوسنة تكون الدولة الإسلاميّة الأولى في أوروبا(1)قائلاً : (( إنني مسلمٌ و الحمد لله ، و سأعيش مسلماً ، و أموت مسلماً ، و لا أرى شيئاً يستحقُّ أن يعيش الإنسان من أجله ، و يموت من أجله سوى الإسلام ))(2).
المبحث الثاني
تأثر فكر الرئيس علي عزّت بالسنة النبوية
لا بد لنا ابتداءً من الوقوف عند حقيقة منطقية ثابتة و هي أن الرئيس ليس متبحراً في العلوم الشرعية ، و ليس مُحدِّثاً من باب أولى .
بل هو مفكر ينطلق في فكره ، و معالجة قضايا أمته من فهمه للإسلام ، أصاب في ذلك أم أخطأ ، رغم أنه يعتبر العلم الشرعي أحد الأمور واجبة التحصيل على المفكر ، ليكون فكره إسلامياً .
و بناءً على ما يقرره ، فإن (( كل مفكر إسلامي هو عالم دين ))(3)، و إننا (( نرى غالبية رجال الفكر الديني الكبار في الإسلام قد ألفُّوا كتباً في الفقه
و أصوله ))(4)، بمعنى أنهم كانوا يجمعون بين الفكر و الفقه في آن واحد .
و في مؤلفات الرئيس ؛ لا مجال للمقارنة بين عطائه الفكري الفيَّاض ، و المسائل الفقهية التي يتعرَّض لها أحياناً و هي معدودة و نادرة .
المطلب الأول ( مصادر التلقي المؤثرة في فكر الرئيس :
__________
(1) 1 ... انظر : المجزرة في يوغسلافيا ، ص : 35 .
(2) ... للمزيد من تفاصيل هذه المحاكمة ، انظر : عادل ذو الفقار باشا ، و الفاتح حسنين : الطريق إلى فوتشا ، من محن المسلمين في يوغسلافيا .
(3) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 282 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 334 .(1/30)
غالباً ما يصدر الرئيس في مواقفه عن آيات من القرآن الكريم الذي تعمق في علومه ، و شغف بسماعه كثيراً ، رغم أنه لم يكن ليفهم معانيه ما لم تكن مترجمة إلى اللغة البوسنوية .
و هاهو يحدث عن الحالة التي اعترته ـ و كثيراً ما كانت تعتريه ـ أثناء سماع آيات القرآن الكريم من أحد القرَّاء في أحد المؤتمرات التي شارك فيها قبل أكثر من عشرين سنة ، فيقول :
(( بعد لحظات من شروع القارىء في تلاوة الآيات القرآنية توقفت الحركة فجأة ، و هيمن الهدوء ، و أثناء توقف القارئ للتنفس لم يكن يسمع شيء ، بل خيل إلي أن الحاضرين قد توقفوا حتى عن التنفس 000 و كانت كلمات القرآن أشبه بنهر جار ، يجري هادئاً و صامتاً حيناً ، ثم لا يلبث أن يتحول إلى شلالات تأتي لتأخذك و تحملك بعيداً و لكن قمَّة الحدث الذي لا يوصف كانت في اليوم الأخير عندما 000 اختار القارىء تلاوة سورة الرحمن 000 أظنني إلى الآن عاجز عن وصف الحالة التي كنت فيها ، لم أكن أعرف معنى آيات هذه السورة ، ما عدا الآية المتكررة : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 13 و غيرها ] .
و لكنني شعرت بأني أفهم آياتها تماماً ، أنا و جميع المنصتين ، وبعد الانتهاء من التلاوة في كل مرة من أيام المؤتمر أجد نفسي أقترب أكثر فأكثر من الآخرين و كنت أقرأ هذا الإحساس في وجوههم ، كأنهم يريدون القول : ألا ترون ؟ ألسنا أخوة في الإسلام ؟)(1).
فلا غرو إذن في أن يكون القرآن الكريم المورد الأول الذي ينهل منه الرئيس فكره ، و يقتبس منه الشواهد و الأدلة ، بل و الأمثلة في كتاباته و مقالاته و
خطاباته .
__________
(1) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 124 .(1/31)
و مع ذلك فلا يمكننا القول : إن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي استقى منه الرئيس فكره ، و أودعه مقالاته و كتاباته ، فهو يشير إلى السنة النبوية باعتبارها مصدراً ملازماً للمصدر الأول ، بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، فيقول : (( يوجد للإسلام مصدران أساسيان هما : القرآن و السنة النبوية ، يمثلان معاً الإلهام و الخبرة ، الخلود و الزمن ، التفكير و الممارسة ، الفكرة و الحياة ، و الإسلام طريقة حياة أكثر منه طريقة تفكير ، و تشير جميع تفاسير القرآن إلى أنه بدون السنة النبوية ـ أي بدون حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ يتعسر فهم القرآن فهماً صحيحاً ))(1).
و يقول أيضاً : (( في الانبعاث الإسلامي علينا إدراك أمرين مهمين : الأول جاء في القرآن الكريم : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ] الرعد : 11 [ و الثاني : لنا قدوة في تجربة الإسلام الأولى و كفاح محمد - صلى الله عليه وسلم - ))(2).
و يظهر من كلامه هذا ، و من الشواهد التي يسوقها في أبحاثه ، أنه لا يكاد يتجاوز معنى السيرة النبوية في فهمه للسنة و تعامله معها ، فهو يستشهد و يستدل بالأحداث أكثر من استدلاله بالأحاديث ، و هو ما سنمثل له لا حقاً إن شاء الله .
و هو بذلك يوافق دعاة المدرسة العقلية الحديثة في مصر في تقديم السنة الفعلية على القولية من حيث الأخذ بها .
__________
(1) ... الاسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 304 .
(2) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .(1/32)
يقول الشيخ محمد رشيد رضا(1): (( إن سنته التي يجب أن تكون أصل
القانون هي ما كان عليه هو و خاصة أصحابه عملاً و سيرة ))(2).
و يقول أيضاً : (( العمدة في الدين هو القرآن و سنة الرسول المتواترة ، و هي السنة العملية ، و منها الصلاة و المناسك مثلاً ، و بعض الأحاديث القولية التي أخذ بها جمهور السلف ))(3).
__________
(1) 3 ... محمد رشيد رضا ، هو : القلموني ، البغدادي الأصل ، الحسيني ، محدث ، مفسر ، مؤرخ ، أديب ، سياسي ، ولد بقلمون من أعمال طرابلس الشام سنة 1282هـ / 1865 م ، و تعلم فيها و في طرابلس و بيروت ، ثم رحل إلى مصر ، فاتصل بمحمد عبده المصري و تتلمذ عليه ، و أصدر مجلة المنار ، ثم قصد سورية أيام فيصل بن الحسين ، و غادرها على إثر دخول الفرنسيين إليها ، فأقام بمصر مدة ، ثم رحل إلى الهند و العراق و الحجاز و أوربا ، و عاد فاستقر بمصر ، توفي فجأة بالقاهرة سنة 1865 هـ / 1935 م .
انظر ترجمته في : الأعلام للزركلي 6 / 361 ، المجددون للصعيدي 539 - 544 ، معجم المؤلفين
9 / 310.
(2) ... مجلة المنار ، العدد التاسع و العشرون ، ص : 104، 105 .
(3) ... مجلة المنار ، العدد العاشر ، ص : 852 .(1/33)
أما عن الإجماع ، فيتذرع الرئيس بخلاف العلماء في حدِّ الإجماع المنضبط لتبرير عدم الاعتداد به ، و هو ما يصرفه عن الاحتجاج و الاستدلال به ـ في حال ثبوته _ فيقول : (( إذا أضفنا إلى تحليلنا لهذين المصدرين ـ أي الكتاب و السنة ـ فكرة الإجماع فإننا نبقى في موقعنا و لا نبرحه ، فالإجماع عند الإمام الشافعي يعني : اتفاق جميع الآراء(1)، و عند الطبري و الرازي(2)يعني اتفاق غالبية الفقهاء(3)،
__________
(1) ... قال الشافعي في " الرسالة " ص 471 – 476 : ( فقال لي قائل : ...فما حجتك في أن تتبع ما اجتمع الناس عليه ، مما ليس فيه نص حكم لله ، و لم يحكوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ) . فاستدل رحمه الله ببعض الأحاديث ، مثل : (.. فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) ، إلى أن قال : ( و من قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ، و من خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها ) .
و انظر أيضاً : نفس الكتاب ، ص 402 و 403 .
(2) ... الطبري ، هو محمد بن جرير بن يزيد . و الرازي ، هو أحمد بن علي الحنفي ، المعروف بالجصاص : تقدمت ترجمتهما .
(3) ... قال ابن حزم في " الإحكام " 4 / 575 : ( ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا و حكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام ، وقال : إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي - رضي الله عنهم - ) .
و قال أيضا في 4 / 538 : ( و قالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد ، و قول الجمهور هو إجماع صحيح ، و هذا قول محمد بن جرير الطبري ) .(1/34)
و لم يكن الإسلام ليكون على ما هو عليه لو لم يجمع في ثنائيته بين مبدأ الصفوة و مبدأ العدد معاً ، ففي الإجماع توجد الصفوة النوعية : الأرستقراطية(1)، و يوجد في الجانب العددي : الديمقراطية ))(2).
أما بقية مصادر التشريع الإسلامي ، فلا نكاد نجد لها أثراً في كتاباته ، حيث إنه لم يكتب قط في الفقه و مسائله ليستدل بالقياس أو الاستصحاب أو غير ذلك من مصادر التشريع .
المطلب الثاني : الاستدلال بالحديث النبوي في كتابات الرئيس
... سبقت الإشارة إلى أن الرئيس ليس محدِّثاً ، بل و ليس فقيهاً أو عالماً في الشريعة ، و إنَّما هو مفكر يخاطب بكتاباته العامّة ـ غير المتخصصين في العلوم الشرعيَّة – فيستعمل اصطلاحات الفلاسفة ، و يسلك مسالكهم في الاستدلال في الدرجة الأولى لكونه يخاطب العقل المجرَّد غالباً .
... أمَّا الأدلَّة الشرعيَّة في كلامه فقليلة جداً ، و تتصدر هذه القلة آيات من القرآن الكريم يسردها الرئيس سرداً بدون أيِّ تعليق في الغالب ، ثم تغيب عن كتاباته بالكلية فلا تكاد ترد في ثنايا كلامه(3).
... و فيما يخص الحديث النبوي فهو في كلام الرئيس من الندرة بمكان ، و حول وروده في كتاباته يلاحَظ ما يلي (
... أوّلاً : لا يكاد الرئيس يشير إلى شيءٍ من الأحاديث إلاّ في معرِض حديثه عن محاسن الإسلام ، و سبق النظام الإسلامي للأنظمة الوضعية في إرساء مبادئ المساواة و العدالة الاجتماعيّة .
... ثانياً ( غالباً ما ترد الأحاديث النبوية في كتابات الرئيس مدرجة في عباراته ضمن أقواسٍ تحدّها ، أو كمبادئ و حكم لا تقترن بأيّ إشارة إلى كونها أحاديث تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... الأرستقراطية : طبقة خاصة ذات امتيازات .
(2) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 304 .
(3) ... انظر مثلاً : الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 305 – 308 .
... و : مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 54 – 67 و 92 – 94 .(1/35)
... ثالثاً ( لا تقترن الأحاديث النبوية المصرَّح برفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الواردة في كلام الرئيس بأيٍ من التخريجات ، أو الإشارة إلى حالها من حيث الصحة و الضعف .
... رابعاً ( تتميز أحداث السيرة النبويّة بين ما يورده الرئيس من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرتها نسبيّاً .
... و هذه الأمور الأربع تمكن ملاحظتها بوضوح في مجموعة مقالات الرئيس ، التي تقصّيتُ ما فيها ممّا له صلة بالسنّة النبوية فوجدته محصوراً في التالي (
( من قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } ] الحجرات : 10 [ و مجموع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رابطة الأخوّة الإسلامية التي جمع الله المسلمين عليها كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( (( المسلم أخو المسلم. ))(1)يستخلص الرئيس مبدءاً سامياً يدعوا إليه ، و يبين بعد الطبقات المستغلة في المجتمعات المادية عنه ، فيقول ( (( يقرر الإسلام مبدأ { إنما المؤمنون إخوة } ] الحجرات : 10 [ و لكننا نعلم علم اليقين أن الإقطاعي ليس أخاً للفلاّح . لقد قرر الإسلام وجود حق للفقراء في أموال الأغنياء ، و لو طبق هذا المبدأ لأدى بكل تأكيد إلى إزالة الفوارق الاجتماعية في مجتمعات المسلمين ))(2).
( و يستنكر الرئيس النظام الطبقي القائم على عمق الهوّة بين الأغنياء و الفقراء في مجتمعات مسلمي العصر الحاضر في مقال يدرج فيه حديثاً نبويّاً ، فيقول : (( يقرر الإسلام أنه ( لا يؤمن من بات شبعان و جاره جائع )(3)
__________
(1) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2442 ) في المظالم ، باب : لا يظلم المسلمُ المسلمَ ، و لا يسلمه ، و مسلم
( 2580 ) في البر و الصلة والآداب ، باب : تحريم الظلم .
(2) 2 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1387 هـ / 1967 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(3) 1 ... و هو حديث حسن بشواهده :
روي من حديث ابن عباس ، و أنس ، و عائشة - رضي الله عنهم - ، و مرسل محمد بن علي الباقر ، بأسانيد فيها مقال ، بعضها أصلح من بعض :
أولا : حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، و له عنه طريقان :
الطريق الأولى : أخرجها ابن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 628 ) ، و ابن عدي في " الكامل " 2 / 219 من طريقين عن علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن حكيم بن جبير ، عنه مرفوعا ، و لفظه عند ابن عدي : ( ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع ) . و لفظ ابن نصر : ( إن المسلم الذي يشبع و يجوع جاره ليس بمؤمن ) .
و فيه حكيم بن جبير ، و هو : ضعيف رمي بالتشيع ، كما في " التقريب " ( 1468 ) .
الطريق الثانية : أخرجها البخاري في " الأدب المفرد " ( 112 ) ، و في " التاريخ الكبير " 3 / 375 ، و ابن أبي شيبة في " المصنف " 6 / 164 ( 30359 ) ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 2699 ) ، و عبد بن حميد ( 694 – المنتخب ) ، و ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 346 ) ، و ابن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 629 ) ، و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1 / 27 و 28 ، و الطبراني في " الكبير " 12 / 154 ( 12741 ) ، و تمام الرازي في " الفوائد " 2 / 105 ( 1263 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 3 ، و في " الشعب " ( 3389 و 5660 و 9536 ) ، و الخطيب في " تاريخ بغداد " 10 / 392 ، من طرق عن سفيان الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عبد الله بن المساور ، قال : سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - فذكره مرفوعا بلفظ : ( ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره جائع ) .
و رجاله ثقات سوى ابن المساور ، فإنه مجهول لم يرو عنه غير عبد الملك كما قال علي بن المديني ، و الذهبي و انفرد ابن حبان فذكره في " الثقات " . انظر : تهذيب التهذيب 6 / 27 ، و الميزان 2 / 502 ترجمة ( 4598 ) .
و قال الحاكم : ( صحيح الإسناد ) .
و قال المنذري في " الترغيب " 3 / 234 ، و تبعه الهيثمي في " المجمع " 8 / 167 : ( رواه الطبراني و البزار و رواته ثقات ) .
ثانيا : حديث أنس - رضي الله عنه - ، و له عنه طريقان أيضا:
الطريق الأولى : أخرجها البزار في " مسنده " ( 1 / 76 رقم 119 – كشف ) ، عن محمد بن عثمان بن كرامة ، ثنا حسين بن علي الجعفي ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن علي بن زيد ، عن أنس - رضي الله عنه - فيما أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليس المؤمن الذي يبيت شبعان و جاره طاوي ) .
قال البزار : ( لا نعلمه يروى عن أنس إلا من هذا الوجه ) .
قلت : بل له وجه آخر يأتي . =
= وقال الهيثمي في " المجمع " 8 / 167 : ( إسناد البزار حسن ) .
و قال ابن حجر في " القول المسدد " ص 21 : ( رواه الطبراني و البزار بإسناد حسن ) .
قلت : بل فيه علي بن زيد ، و هو ابن جدعان ، قال ابن حجر في " التقريب " ( 4734 ) : ( ضعيف ) .
الطريق الثانية : أخرجها الطبراني في " الكبير" 1 / 259 ( 751 ) من طريق محمد بن سعيد الأثرم ، ثنا همام ثنا ثابت البناني ، عن أنس - رضي الله عنه - به مرفوعا .
قال ابن أبي حاتم في " العلل " 2 / 226 ( 2294 ) : ( قال أبي : هذا حديث منكر جدا ، و محمد بن زياد الأثرم لين الحديث ) .
و قال البرذعي : ( قلت لأبي زرعة : محمد بن سعيد الأثرم ؟ قال : ليس ، كأنه يقول : ليس بشيء . قلت : أي شيء أنكر عليه ؟ قال : عن همام و أبي هلال ، عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) . انظر : " تاريخ بغداد " 5 / 306 و " العلل المتناهية " 2 / 527 – 528 ( 873 )
ثالثا ... : حديث عائشة رضي الله عنها :
أخرجه الحاكم في " المستدرك " 2 / 15 من طريق عبد العزيز بن يحيى ، حدثنا سليمان بن بلال ن عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه عنها به مرفوعا .
قلت : و هذا إسناد موضوع ، فيه عبد العزيز بن يحيى ، و هو المدني نزيل نيسابور ، قال البخاري : ( ليس من أهل الحديث ، يضع الحديث ) . انظر : تهذيب الكمال 18 / 218 – 220 .
رابعا : مرسل محمد بن علي بن الحسين الباقر :
أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في زوائده على " البر و الصلة " ( 264 ) قال : أخبرنا الفضل بن موسى : حدثنا الوصافي عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .
و هو مرسل ضعيف ، الوصافي ، هو : عبيد الله بن الوليد " ضعيف " كما في " التقريب " ( 4350 ) .
· ... و في الباب من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ : ( لا يشبع المؤمن دون جاره ) .
أخرجه أخرجه ابن المبارك في " الزهد " ( 474 ) ، و أحمد في " المسند " 1 / 54 - 55 ، و الحاكم 4 / 167 ، و القضاعي في " مسنده " ( 895 و 896 ) ، و أبو نعيم في " الحلية " 9 / 26 .
قال الهيثمي في " المجمع " 8 / 167 : ( رجاله رجال الصحيح إلا أن عباية بن رفاعة لم يسمع من عمر - رضي الله عنه - )(1/36)
و لكن الاحصائيات تشير إلى أن نسبة المسلمين الذين يعانون من سوء التغذية تصل في بعض الدول الإسلامية إلى 20 بالمئة من مجموع سكانها ، و في الوقت نفسه ينام ( إخوانهم في الدين ) على الحرير و المخمل و الإستبرق ، من غير أن يؤرق نومهم – على الأقل – تأنيب الضمير من أجل معاناة إخوانهم ))(1).
( و حينما يتناول الرئيس نظام الحكم في الإسلام ، و ما آلت إليه حال ولاة المسلمين من الفساد و الجور و الاستبداد يورد أثراً و ينطلق منه في نقد الواقع فيقول : (( إن أمور الشعوب تنبني على : ( كما تكونوا يولّ عليكم )(2).
__________
(1) 1 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967 م / 1386 هـ باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(2) 1 و هو حديث ضعيف جدا :
أخرجه الحاكم في " التاريخ " – كما في الدر المنثور 3 / 46 - ، و من طريقه الديلمي في " مسنده " – كما في المقاصد الحسنة ص 326 – من حديث يحيى بن هاشم حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه أظنه عن أبي بكرة مرفوعا .
و أخرجه البيهقي في " الشعب " 6 / 22 - 23 ( 7391 ) من طريق الحاكم أيضا لكن بدون شك و بحذف أبي بكرة . و قال : ( هذا منقطع ، و رواية يحيى بن هاشم ، وهو ضعيف ) . كذا في نسخة " الشعب " المطبوعة ، و الذي في " المقاصد " : ( و راويه في عداد من يضع ) .
قلت : و يحيى هذا ، يسرق الحديث ، كذبه ابن معين ، و غيره . انظر : لسان الميزان 7 / 347 – 349 .
· ... وله طريق أخرى شديدة الضعف : أخرجها ابن جميع في " معجمه " ص 149 ، و القضاعي في " مسنده " ( 577 ) ، من جهة الكرماني بن عمرو حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا بدون شك .
و نقل المناوي في " فيض القدير " 6 / 61 عن ابن طاهر قال : ( و المبارك و إن ذكر بشيء من الضعف ؛ فالعهدة على من رواه عنه ، فإن فيهم مجاهيل ) .
و قال ابن حجر في " تخريج الكشاف " 4 / 25 ، و تبعه السخاوي في " المقاصد " : ( في سنده إلى مبارك مجاهيل ) .(1/37)
و إن طريقة حكم بعض الرؤساء و الملوك و الأمراء ، و أعوانهم من الذين عشعشت فيهم أنواع الفساد لتؤكد أن شيئاً ( تعفن جداً ) داخل الشعب نفسه ، لأن السعادة حليفة الشجعان ، و من حق الشعوب الصالحة و الطاهرة فقط أن تنعم بالحكام الصالحين ))(1).
( و يرى الرئيس أن في الالتزام بالأخلاق و الآداب الإسلامية وقاية من فساد الحكم الذي يشيع في القضاة و لا سبيل لمقاومته إلا بالإيمان بالله ، و يستدل على ذلك بحديث نبوي يحكم بمقتضاه ، بدون أن يصرح بكونه من السنة النبوية ، فيقول : (( يذكرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحكم العام على نظام القضاء هو : قاضيان في النار ، و قاضٍٍٍ في الجنة(2).
__________
(1) 2 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(2) 1 ... و هو حديث صحيح ، روي من حديث بريدة بن الحصيب ، و ابن عمر - رضي الله عنهم - ، و عجلان مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا ، ومن حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - موقوفا ، و له حكم الرفع :
أولا : حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - ، رواه عنه ابنه عبد الله و له عنه طرق ، و هي :
1- ... أخرجه أبو داود ( 3575 ) في الأقضية ، باب : في القاضي يخطئ ، و النسائي في " السنن الكبرى " 3 / 461 ( 5922 ) في القضاء ، باب : ثواب الإصابة في الحكم بعد الاجتهاد لمن له أن يجتهد ، و ابن ماجه ( 2315 ) في الأحكام ، باب : الحاكم يجتهد فيصيب الحق ، و وكيع محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 14-15 ، و البيهقي في " السنن " 10 / 116 ، و في " المدخل " ( 183 ) ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1657 ) ، و ابن حزم في " الإحكام " 6 / 214 من طرق عن خلف ابن خليفة ، حدثنا أبو هاشم الرماني ، حدثني ابن بريدة ، عن أبيه - رضي الله عنه - ، مرفوعا ، و لفظه : ( القضاة ثلاثة ؛ واحد في الجنة ، و اثنان في النار ؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، و رجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، و رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) . هذا لفظ أبي داود.
قال أبو داود : ( و هذا أصح شيء فيه ) . يعني : في طرق حديث ابن بريدة .
و قال الطبراني : ( لم يرو هذا عن أبي هاشم إلا خلف بن خليفة ) .
قلت : و خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر ، كما في " التقريب " ( 1731 ) .
2- ... و أخرجه الترمذي ( 1322 ) في الأحكام ، باب : ما جاء عن رسول الله في القاضي ، و وكيع في " أخبار القضاة 1 / 14 ، و الطبراني في " الكبير " 2 / 20 ( 1154 ) ، و ابن الأعرابي في " معجمه " ( 336 ) ، و الروياني في " مسنده " 1 / 94 ( 66 ) ، و ابن عدي في " الكامل " 2 / 459 ، و الحاكم 4 / 90 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 117 ، و في " الشعب " 6 / 73 ( 7531 ) من طرق عن شريك ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه - رضي الله عنه - به .
و ( سعد ) صحف في بعض المصادر إلى ( سهل ) .
قال الحاكم : ( صحيح على شرط مسلم ) .
قلت : بل فيه شريك ، وهو النخعي ، لم يحتج به مسلم ، و إنما أخرج له في المتابعات . و هو كما قال ابن عدي : ( الغالب على حديثه الصحة و الاستواء ، و الذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتي فيه من سوء حفظه لا أنه يتعمد ) . و قال الدارقطني : ( ليس بالقوي فيما ينفرد به ) . انظر : تهذيب الكمال 12 / 462 – 473 .
3- و أخرجه محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 15 ، و الحاكم 4 / 90 ، و ابن عبد البر في " جامع
بيان العلم " ( 1658 ) من طريق عبد الله بن بكير الغنوي ، عن حكيم بن جبير ، عن عبد الله بن بريدة
عن أبيه به .
قال الحاكم : ( صحيح الإسناد و لم يخرجاه ) . =
= ... قلت : ثم روى الطريق السابق . فتعقبه الذهبي بقوله : ( ابن بكير الغنوي منكر الحديث ) .
قلت : بل ضعفوه و لم يترك ، كما قال الذهبي نفسه في " الضعفاء " .
و فيه أيضا حكيم بن جبير ضعيف رمي بالتشيع ، تقدم كلامنا عليه .
4 – و أخرجه الطبراني 2 / 21 ( 1156 ) من طريق عبادة بن زياد الأزدي ، عن قيس بن الربيع ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه به .
و قيس بن الربيع : ضعيف يعتبر به في الشواهد و المتابعات . راجع ترجمته في " تهذيب الكمال " 24 / 25 - 37 .
و عبادة بن زياد : متكلم فيه ، لكن قال الذهبي في " الميزان " 2 / 381 : ( لا بأس به ) .
5 – و أخرجه ابن عدي في " الكامل " 6 / 151 من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل ، ثنا محمد بن جابر ، عن أبي إسحاق ، عن ابن بريدة ، عن أبيه به .
قال ابن عدي : ( و هذا لا أعلم رواه عن أبي إسحاق غير محمد بن جابر ) .
قلت : و هو الحنفي اليمامي ضعيف ، ضعفه غير و احد . انظر ترجمته في " تهذيب الكمال " 24 / 564 – 569 .
6 – و أخرجه محمد بن خلف وكيع في " أخبار القضاة " 1 / 15 أخبرنا إسحاق بن عبد الرحمن لؤلؤ : قال أخبرنا داود بن عبد الحميد ، قال : حدثنا يونس بن خباب أبو حمزة ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه به .
و حديث بريدة قال فيه الذهبي في " الكبائر " ص 103 : ( إسناده قوي ) .
و قال ابن حجر في " التلخيص " 4 / 185 : ( له طرق غير هذه قد جمعتها في جزء مفرد ) .
ثانيا : حديث ابن عمر ، و له عنه طرق :
1 – أخرجه الترمذي ( 1322 ) ، و أبو يعلى ( 5727 ) ، و الطبراني في " الكبير " 12 / 351 ( 13319 ) ، و " الأوسط ) ( 2750 ) ، و ابن حبان ( 5056 ) ، و ابن عبد البر تعليقا في " العلم " ( 1660 ) من طرق عن المعتمر بن سليمان ، عن عبد الملك بن أبي جميلة ، أنه سمعه يحدث عن عبد الله بن موهب ، أن عثمان بن عفان قال لابن عمر ، و فيه قصة ذكر فيها ابن عمر الحديث .
قال الترمذي : ( و حديث غريب ، و ليس إسناده عندي بالمتصل ، و عبد الملك الذي روى عنه المعتمر هذا هو عبد الملك بن أبي جميلة ) .
و عقب المنذري في " الترغيب " 3 / 132 على قول الترمذي بقوله : ( و هو كما قال ؛ فإن عبد الله بن موهب لم يسمع من عثمان - رضي الله عنه - ) .
و قال أبو حاتم كما في " العلل " لابنه 1 / 468 : ( عبد الملك بن أبي جميلة مجهول ، و عبد الله بن موهب هو الرملي على ما أرى ، و هو عن عثمان مرسل ) .
2 – و أخرجه أحمد 1 / 66 ، من طريق عفان ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، نا أبو سنان ، عن يزيد بن موهب أن عثمان - رضي الله عنه - قال لابن عمر - رضي الله عنه - – فذكره .
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 200 : ( رواه أحمد ، و يزيد لم أعرفه ، و بقية رجاله رجال الصحيح ) . =
= ... 3 – و أخرجه محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 15 ، و القضاعي في " مسنده " ( 317 ) عن الفضل بن يوسف – و عند القضاعي : ابن يزيد - الجعفي ، ثنا إبراهيم بن الحكم بن ظهير ، ثنا أحمد بن الفرات ، عن محارب ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به مرفوعا .
قلت : و فيه إبراهيم بن الحكم بن ظهير ، قال أبو حاتم : ( كذاب ، روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه ) . و قال الدارقطني : ( ضعيف ) . و قال الذهبي : ( شيعي جلد ) . انظر : لسان الميزان 1 / 136 .
و له عن محارب طريق أخرى : أخرجها محمد بن خلف أيضا 1 / 16 حدثني عبد الله بن زكريا بن يحيى ، حدثني ابن وكيع ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه عن محارب بن دثار به .
و فيه ابن وكيع و هو محمد : متكلم فيه .
رابعا : حديث عجلان مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - :
أخرجه عبد الصمد بن سعيد في " طبقات الحمصيين " من طريق عمرو بن شرحبيل الخولاني ، سمعت ابن عجلان ، عن أبيه به . قاله ابن حجر في " الإصابة " 4 / 464 .
خامسا: أثر علي بن أبي طالب :
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 4 / 540 ( 22963 ) ، و البخاري في " التاريخ الكبير " 3 / 326 ، و " الصغير " 1 / 225 ، و وكيع محمد بن خلف في " أخبار القضاة 1 / 18 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 117 ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1659 ) ، و البغوي في " شرح السنة " ( 2497 ) ، و في " الجعديات " ( 989 ) ، و ابن حزم في " الإحكام " 6 / 214 من طرق عن شعبة ، عن قتادة ، سمع أبا العالية ، عن علي به .
و تابع شعبة همام عند وكيع محمد بن خلف .
قلت : و هذا إسناد صحيح غاية .
و له عن علي طرقٍ أخرى .
انظر : التاريخ الكبير للبخاري 7 / 21 ، و الجرح و التعديل 6 / 408 ، و أخبار القضاة لوكيع 1 / 16، 19 .
سادسا : من قول كعب :
و له عنه طريقان : ابن بريدة عنه ، و عتبة بن عبد الله بن مسعود عنه . أخرجهما محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 16 .(1/38)
و ليس هناك شيء يمكنه مقاومة فساد الحكم و تأثيره التدميري في الشعب غير الإيمان بالله ، و الإحياء المتواصل للأخلاق الإسلامية السامية ، لذلمك يجب على الشعب أن يملك وسائل التمييز ليفك الأغلال ، و يضرب على القاضيين من أهل النار ))(1).
( و حينما يتطرق الرئيس إلى قضية تعليم المسلمين باعتبارها ضرورة للنهوض بالأمة و جعلها في مصافّ الأمم المتقدمة ، يؤيّد دعوته إلى التعليم بحدث من السيرة النبويّة ، و حدثٍ من التاريخ الإسلامي المجيد له ما يبرره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول :
(( كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يهتم بتعليم المسلمين حتى في أيام الحروب الضروس ، إذ يجعل تعليم عشرة من أبناء المسلمين فدية للأسير من أسرى معركة بدر(2)
__________
(1) 1 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(2) 1 ... و هو حديث صحيح :
أخرجه أحمد في " مسنده " 1 / 247 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 6 / 124 عن علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة .
قال الهيثمي في " المجمع " 4 / 96 : ( رواه أحمد ، عن علي بن عاصم ، وهو كثير الغلط و الخطأ ، و قد وثقه أحمد ) .
قلت : علي بن عاصم تابعه خالد بن عبد الله الطحان عند الحاكم في " المستدرك " 2 / 140 وصححه ، و عنه البيهقي في " السنن الكبرى " 6 / 322 . و باقي رجاله ثقات .
و أخرجه ابن سعد في " الطبقات " 2 / 26 عن عكرمة مرسلا ، بلفظ آخر مطولا ، قال : أخبرنا سليمان بن حرب ، أخبرنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، و فيه : ( حتى إن كان الرجل يحسن الخط ففودي على أن يعلم الخط ) . و رجاله كلهم ثقات ، و أيوب هو السختياني .
و رواه ابن سعد في " الطبقات " 2 / 22 عن الشعبي مرسلا من ثلاث طرق . و جاء في إحداها بيان سبب اختيار أولاد الأنصار ، و لفظه : ( و كان أهل مكة يكتبون ، و أهل المدينة لا يكتبون ، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم ، فإذا حذقوا فهو فداؤه ) .(1/39)
)(1).
و يقول في موضعٍ آخر مقارناً بين عناية حكام المسلمين الأوائل بالعلم ، و صدِّ متأخّريهم عنه : (( إن المسلمين الأوائل قد عملو جاهدين على ترجمة مكتبات كاملة من اللغتين اليونانينية و اللاتينية ، دونما خوف من كون هذه الكتب أصول الحضارة الوثنية ، لأن قاعدتهم في ذلك هي حديث ( الحكمة ضالة المؤمن ، أينما وجدها فهو أولى بها )(2)،
__________
(1) 2 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(2) 1 و هو حديث ضعيف جدا ، و إنما جاء في بعض الآثار :
روي هذا الحديث مرفوعا عن أبي هريرة ، و زيد بن أسلم مرسلا ، و علي بن أبي طالب ، و بريدة ، بأسانيد مدارها على المتروكين و المتهمين .
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :
أخرجه الترمذي ( 2687 ) في آخر كتاب العلم ، و ابن ماجه ( 4169 ) في ، باب : الحكمة ، و العقيلي في " الضعفاء "1 / 60-61 ، و ابن حبان في " المجروحين " 1 / 105 ، و القضاعي في " مسنده " ( 52 ) و ابن الجوزي في " العلل المتناهية " 1 / 95-96 من طريق إبراهيم بن الفضل المخزومي ، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : ( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث و جدها فهو أحق بها ) .
قال الترمذي : ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، و إبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه ) .
قلت : بل هو متروك ، قال البخاري و أبو حاتم و النسائي : ( منكر الحديث ) . و قال ابن حبان : ( فاحش الخطأ ) .
و قال ابن الجوزي : ( لا يصح ، قال يحيى : ليس بشيء ) . و عدّ العقيلي ، و ابن حبان ، و الدارقطني هذا الحديث من مناكيره . انظر : تهذيب التهذيب 1 / 131 .
مرسل زيد بن أسلم :
أخرجه القضاعي ( 146 ) أخبرنا أبو الحسن عبد العزيز بن محمد بن داود ، قال حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أبو قرصافة محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، مرفوعا : ( الحكمة ضالة المؤمن ، حيثما وجد المؤمن ضالته فليجمعها إليه ) .
قلت : فيه أبو قرصافة ، وهو العسقلاني ، ذكره الطبراني في " معجمه الصغير" 2 / 69 ضمن شيوخه بحديث قال : إنه تفرد به . و ذكره الذهبي في " الكنى "( 5128 ) ، و لم أجده في موضع آخر !!و من فوقه معروفون .
أما من دونه فلم أقف لأحد منهم على ترجمة بعد طول بحث !
و الصحيح الثابت : أنه من قول زيد بن أسلم ، وهذا يدل على نكارة الرواية المرفوعة ، حيث أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 19 / 289 من طريق أحمد بن عمرو بن السرح ، عن عبد الله بن وهب ، حدثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أنه قال : ( نعم الهدية كلام الحكمة يهديها لأخيه ، و الحكمة ضالة المؤمن إذا وجدها أخذها ) .
و تابع هشام بن سعد على وقفه على زيد بن أسلم : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، رواه عن أبيه من قوله . فيما أخرجه ابن المبارك عنه في " الزهد " ( 1079 ) .
حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : =
= ... أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 7 / 381 من طريق أبي الدنيا الأشج عثمان بن الخطاب ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - به مرفوعا .
قلت : و هذا موضوع على علي ، فأبو الدنيا الأشج ، قال فيه الذهبي في " الميزان " 3 / 33 : ( طير طرأ على بغداد ، و حدث بقلة حياء بعد الثلثمائة ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فافتضح بذلك ، و كذبه النقاد ) .
حديث بريدة - رضي الله عنه - :
أخرجه الروياني في " مسنده " 1 / 75 ( 33 ) حدثنا ابن إسحاق ، حدثنا ابن حميد ، حدثنا تميم بن عبد المؤمن الكوفي ، حدثنا صالح بن حيان ، عن أبي بردة ، عن أبيه - رضي الله عنه - مرفوعا به .
قلت : فيه ابن حميد ، وهو محمد الرازي ، حافظ ضعيف ، كذبه أبو زرعة و ابن وارة . انظر : التهذيب 9 / 131 .
و صالح بن حيان هو القرشي الكوفي ، متفق على ضعفه . انظر : تهذيب الكمال 13 / 33 .
وروي من قول ابن عباس بسند ضعيف عند البيهقي في " المدخل " ( 843 ) . و من قول كعب الأحبار بسند حسن عند أبي نعيم في " الحلية " 5 / 367 ، 6 / 26 .(1/40)
بينما ينادي أحد حكام المسلمين في هذا العصر – و باسم
الإسلام ! – بوضع حد لتعليم شعبه ))(1).
( و على صلةٍ بالعلم و التعليم يشير الرئيس إلى معاناة الإسلام من جهل أبنائه و فساد علمائه ، بقوله : (( إن الفلّاح الجاهل الفقير يحب الإسلام ، و قد لا يفهمه ، و الغني يظهر ولاءه للإسلام نفاقاً ، و يظل المثقف معادياً له أو غير مبالٍ به ، و قد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال : إن أخوف ما أخاف على أمتي عابد جاهل ، و عالم
فاجر(2))(3).
( أمّا عن مبدأ المساواة في الإسلام ، فلا يرى الرئيس أبلغ في تقريره من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته الشهيرة أثناء حجة الوداع : (( أيها الناس ! كلكم لآدم ، و آدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي ، و لا فضل لأبيض على أسود ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .
__________
(1) 1 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 23 .
(2) 2 ... لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ !! و إنما جاء بلفظ آخر بإسناد موضوع ، لفظه : ( رب عابد جاهل ، و رب عالم فاجر ، فاحذروا الجهال من العباد ، و الفجار من العلماء ؛ فإن أولئك فتنة الفتناء ) .
أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2 / 15 و 6 / 441 بإسنادين ، في الأول : بشر بن إبراهيم الأنصاري ، قال ابن عدي : ( هو عندي ممن يضع الحديث ) . و قال ابن حبان : ( كان يضع الحديث ) . و في الثاني : عمر بن موسى بن وجيه ، قال فيه البخاري : ( منكر الحديث ) . و قال ابن معين : ( كذاب ليس بشيء ) . انظر : لسان الميزان 5 / 322 .
و فيه أيضا محفوظ بن بحر ، قال فيه أبو عروبة : ( كان يكذب ) .
(3) 3 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1398 هـ / 1967 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 23 .(1/41)
ثمّ يتساءل قائلاً : هل هناك أفضل مكاناً و أحسن لحظة من تلك التي اختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليوجه هذه الكلمات العظيمة التي هي أبسط و أخلص و أروع ميثاق في حقوق و مساوات الإنسان إلى أمته(1).
( و في طريق العمل الإسلامي - الذي نذر الرئيس نفسه له - عقباتٌ و عقباتٌ تعترض طريق السائرين ، مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( حُفَّت الجنة بالمكاره ، و حفّت النار بالشهوات ))(2)، و هذا أمر غير خافٍ على الرئيس ، و خاصّة في ساعات الابتلاء الذي تعرّض له ، و ذكّره فحوى الحديث السابق الذي خاله أثراً يروى حينما قال ( ( أدركت معنى القول المأثور : إن الطريق إلى النار ممهد بالنوايا الحسنة )(3).
لكن ما يكتنف طريق العاملين للإسلام يهون عند من يستحضر نُصرة الله لأوليائه ، و يستلهم العبر من سيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه ، و هو ما يزيد المؤمن ثقة في نصر الله تعالى ، إصراراً على السير في سبيله قُدُماً .
و من معين السنّة النبوية يستقي الرئيس الشواهد لهذين الأمرين فيقول (
(( عندما اتخذت العنكبوت بيتها على مدخل غار حراء(4)،
__________
(1) 1 ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1398 هـ / 1967 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(2) ... الحديث أخرجه مسلم ( 2822 ) في صحيحه ، في أول كتاب الجنة و صفة نعيمها و أهلها .
(3) 3 ... من مقال بعنوان : هل نربي مسلمين أم جبناء ؟ نشر سنة 1391 هـ / 1971 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 101 .
(4) 1 ... قصة نسج العنكبوت على الغار ؛ إسنادها حسن :
أخرجها عبد الرزاق في " المصنف " 5 / 389 ، و من طريقه أحمد في " المسند " 1 / 348 ، و الطبري في " التفسير " 9 / 228 ، و أبو نعيم الأصبهاني في " دلائل النبوة " ص66 ، والخطيب في " تاريخ بغداد " 13 / 191 عن معمر ، قال : أخبرني عثمان الجزري ، أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره ، عن ابن عباس به .
قال ابن كثير في " البداية و النهاية " 3 / 181 : ( و هذا إسناد حسن ، و هو أجود ما زوي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار ) .
قال الهيثمي في " المجمع " 7 / 27 : ( رواه أحمد و الطبراني ، و فيه عثمان بن عمرو الجزري ، و ثقه ابن حبان و ضعفه آخرون ، و بقية رجاله ثقات ) .
و حسنه أيضا الحافظ ابن حجر في " الفتح " 7 / 18 .
و جاءت قصة نسج العنكبوت أيضا عن الحسن مرسلا بإسناد لا بأس به : أخرجه أبو بكر المروزي القاضي في " مسند أبي بكر الصديق " رقم ( 73 ) .
و جاءت من حديث أنس - رضي الله عنه - أيضا لكن بإسناد ضعيف ، وهو الآتي تخريجه في التعليق الذي عقبه .(1/42)
ثم وضعت الحمامة عشها لكي تعمي الطريق على المطاردين(1)، في تلك اللحظات المصيرية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
كلماته العجيبة لرفيقه أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : لا تحزن إن الله معنا )(2).
__________
(1) 2 ... قصة الحمامتين ضعيفة :
أخرجها الطبراني في " الكبير " 20 / 443 ، و بحشل في " تاريخ واسط " ص 257 ، و ابن سعد في " الطبقات " 1 / 229 ، و البزار في " مسنده " ( 2 / ق 231 ) ، و العقيلي في " الضعفاء " 3 / 422 ، و الفاكهي في " أخبار مكة " ( 2416 ) ، و خيثمة الطرابلسي في " فضائل أبي بكر " ص 136 ، و أبو نعيم في " دلائل النبوة " 2 / 419- 429 ، البيهقي في " الدلائل " 2 / 481 .
قال البزار : ( لا يعلم أحد رواه إلا عوين بن عمرو ، و هو رجل من أهل البصرة مشهور ، و أبو مصعب فلا نعلم حدث عنه هذا الحديث إلا عوين بن عمرو ) .
قلت : و هو مشهور بالضعف ، قال ابن معين : ( لا شيء ) . و قال البخاري : ( منكر الحديث مجهول ) . انظر : لسان الميزان 5 / 377 .
قال العقيلي : ( عوين بن عمرو القيسي لا يتابع عليها ، و أبو مصعب رجل مجهول ) .
و قال ابن كثير في " البداية و النهاية " 3 / 182 : ( و هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 6 / 53 : ( رواه البزار و الطبراني ، و فيه جماعة لم أعرفهم ) . ثم أعاده في 6 / 52 وقال : ( مصعب المكي ، و الذي روى عنه ، وهو عوين بن عمرو القيسي لم أجد من ترجمهما ، و بقية رجاله ثقات ) .
(2) 1 من مقال بعنوان : تأملات في الهجرة النبوية ، نشر سنة 1398 هـ / 1978م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 129 .(1/43)
و يقول أيضاً : (( يروى أن أبا طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار عليه بعدم تحدي أكابر قومه ، لأن ذلك يعرض حياته للمخاطر ، و يسبب المكاره لأقاربه ... و لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قال : يا عم ! و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته(1)
__________
(1) 2 ... إسناده ضعيف :
أخرجه ابن إسحاق في " المغازي " – كما في سيرة ابن هشام 2 / 101 – و من طريقه ابن جرير الطبري في " التفسير 2 / 67 ، قال حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدثه أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة – فذكره مع قصته .
و هذا إسناد معضل ، فإن يعقوب بن عتبة من ثقات أتباع التابعين ، ليست له رواية عن أحد من الصحابة .
و الثابت : ما أخرجه أبو يعلى في " مسنده " 12 / 176 ( 6804 ) ، و البخاري في " التاريخ الكبير " 7 / 50 ، و البزار في " مسنده " 6 / 115 ( 2170 ) ، و الطبراني في " الكبير " 17 / 191-192 ( 511 ) و " الأوسط " 8 / 252-253 ( 8553 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 3 / 668 ، و البيهقي في " دلائل النبوة " 2 / 186-187 ، و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 41 / 4-5 ، 66 / 315 من طريقين : يونس بن بكير ، و عبد الواحد بن زياد ، كلاهما عن طلحة بن يحيى ، عن موسى بن عقبة ، حدثني عقيل بن أبي طالب قال :
(
جاءت قريش إلى أبي طالب فقالت : إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا و مسجدنا فانهه عن إيذائنا ، قال : يا عقيل : ائت محمدا فادعه ، فذهبت ، فأتيته به ، فجاء في نصف النهار يتخلل الفيء ، فجلس عند أسكفة الباب ، و قريش عند أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم و مسجدهم ، فانته عن ذلك ، قال : فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء ثم قال : هل ترون هذه الشمس ؟ قالوا : نعم ، قال : ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا لي منها شعلة . قال : فقال أبو طالب : ما كذبنا ابن أخي ، فارجعوا . قال : فرجعوا ) .
قال البزار : ( هذا لا نعلمه يروى عن عقيل إلا من هذا الوجه ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 6 / 15 : ( رواه الطبراني في الأوسط و الكبير ، و أبو يعلى باختصار يسير من أوله ، و رجاله رجال الصحيح ) .
قلت : و هذا إسناد حسن لأجل يحيى بن طلحة فإنه " صدوق " كما قال الذهبي .(1/44)
(1).
و من مجموع ما تقدّم تظهر ندرة اعتماد الرئيس علي عزَّت على نصوص السنة النبويّة و قلّة استشهاده بها في كتاباته ، فضلاً عن ضعف ضبطه لما يورده منها .
و قد يكون لهذا ما يبرّره من كون الرئيس يخاطب في مقالاته و كتبه مجتمعاً بضاعته في العلم الشرعي مزجاة ، و مثقفوه أكثر اعتماداً على الحجج العقليّة ، و اقتناعاً بالفلسفة الماديّة من النصوص و الأدلة النقليّة .
فضلاً عن كون الرئيس – كما يظهر من كتاباته – أحد أنصار المدرسة العقليَّة الحديثة ، و أتباع منهجها في التعامل مع نصوص السنة النبويَّة ، و لذلك نراه يرد من الأحاديث ما لا يوافق عقله ، و ينسجم مع تفكيره ، كأحاديث المهدي ، حيث يقول : (( و نحن على ثقة بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه ( أرض الميعاد ) أو
( زمن المعجزات ) و لا يوجد المهدي الذي ننتظر و عده )(2).
أمّا أنصار الرئيس فما فتئوا يدافعون - و ينفون - عنه ردّ الأحاديث معلّلين ذلك بأنّه يهدف إلى شحذ الهمم على البذل و العطاء و العمل على تحرير المسلمين و إقامة دولتهم في الأرض بدلاً من التعلّق بالمغيّبات و إن كانت ممّا ورد في الآثار بغض النظر عن صحته أو عدمها .
و مهما يكن المسوّغ لما ذهب إليه الرئيس ، فإنه لا ينفي بعده عن الاعتماد على نصوص السنة النبوية في كتاباته ، بل و إعراضه عنها أحياناً .
__________
(1) 3 ... من مقال بعنوان : رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، نشر سنة 1401 هـ / 1981م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 141 .
(2) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19 / 3 / 1412 هـ / 16/ 9 / 1992 م ) .(1/45)
لكن عدم التصريح بالاستشهاد بنصوص السنة النبوية في كتابات الرئيس الفكرية لا يمكن اعتباره دليلاً على بعده عن السنة ، كما أن مجرّد إيراد نصوصها ضمن مؤلّّفٍ ما لا يعني بالضرورة تأثُّر مؤلفه بها إذ (( ربّ حامل فقه غير فقيه ))(1).
و لذلك يحسن عرضُ المحاور الرئيسة لفكر الرئيس علي عزَّت على ما قرّرته السنة النبويّة ، و إن لم يستشهد بها صراحة ، للوقوف على مدى تأثره فكره الإسلامي بها من خلال المطلب التالي (
المطلب الثالث ( المحاور الرئيسة لفكر الرئيس في ميزان السنة النبوية:
سأعرض في المقاصد الستة المدرجة تحت هذا المطلب – إن شاء الله – المحاور الرئيسية لفكر الرئيس على ما جاء في السنة النبوية الشريفة ؛ للوقوف على مدى تأثره بها في انطلاقته الفكرية على النحو التالي :
المقصد الأول ( وجوب تحكيم الإسلام و تطبيق أحكام الشريعة في جميع أمور الحياة
إن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمد عبده ورسوله ؛ فإن التحاكم إلى الطواغيت , و الرؤساء , وآراء و تشريعات الرجال و العرافين , و نحوهم ينافي الإيمان بالله عز وجل , و هو كفر و ظلم و فسق , يقول الله تعالى : { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ]المائدة : 44 [ .
و يقول : { و كتبنا عليهم فيها أ ن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ] المائدة : 45 [ .
و يقول : { و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ] المائدة : 47 [ .
__________
(1) ... قطعة من حديث صحيح : تقدم تخريجه .(1/46)
... إن عبادة الله تعالى - و التي هي مقصد الخلق - تقتضي الإنقياد التام لله تعالى و قولا و عملا ، و أن تكون حياة المرء قائمة على شريعته ، يحل ما أحل الله و يحرم ما حرم الله ، و يخضع في سلوكه و أعماله و تصرفاته كلها لشرع الله ، متجردا من حظوظ نفسه ، و نوازع هواه ؛ يستوي في هذا الفرد و الجماعة و الرجل و المرأة ، فلا يكون عابدا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته ، و خضع للمخلوقين في جوانب أخرى .
و هذا المعنى يؤكده قول الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
] النساء : 65 [ .
و قوله سبحانه : { أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ] المائدة : 50 [ .
و قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } ] النساء : 60 [ .
فمن خضع لله سبحانه و أطاعه و تحاكم إلى وحيه ؛ فهو العابد له ، ومن خضع لغيره و تحاكم إلى غير شرعه ؛ فقد عبد الطاغوت و انقاد له .
و قد حكى الله عن اليهود أنهم اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ؛ لما أطاعوهم في تحليل الحرام و تحريم الحلال ، قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ] التوبة : 31 [ .(1/47)
و قد جاء هذا المعنى في السنة ، فقد روي عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - (1)و كان نصرانيا فأسلم ، أنه ظن أن عبادة الأحبار إنما تكون في الذبح ، و النذر ، و السجود و الركوع لهم فقط ، و ذلك عندما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ، و سمعه يقرأ هذه الآية : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ] التوبة : 31 [ ، فقال : يا رسول الله ! إنا لسنا نعبدهم ، قال - صلى الله عليه وسلم - أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، و يحلون ما حرم فتحلونه )) قال : بلى . قال : (( فتلك عبادتهم ))(2).
__________
(1) 1 ... عدي بن حاتم - رضي الله عنه - ، هو : الأمير الشريف ، أبو وهب و أبو طريف الطائي ، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولد حاتم طي الذي يضرب بجوده المثل ، وفد عدي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة سبع للهجرة / 628 م ، فأكرمه - صلى الله عليه وسلم - و احترمه . نزل الكوفة مدة ، ثم خرج منها مع جرير البجلي و حنظلة الكاتب ، فنزلوا قرقيساء من بلاد الشام ، و قالوا : ( لا نقيم في بلد يشتم فيها عثمان - رضي الله عنه - ) . مات سنة 67 هـ / 687 م . =
= ... انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 6 / 22 ، تاريخ بغداد 1 / 189 ، أسد الغابة 3 / 392 ، تهذيب الأسماء و اللغات 1 / 327 ، سير أعلام النبلاء 3 / 162 .
(2) 1 ... حسن بشواهده :
أخرجه الترمذي ( 3095 ) في التفسير ، باب : و من سورة التوبة ، و البخاري في " التاريخ الكبير " 7 / 106 ، و ابن جرير الطبري في " تفسيره " ( 16631 و 16632 و 16633 ) ، و السهمي في " تاريخ جرجان " ص 541 ( 1162 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 166 ، و في " المدخل " ( 261 ) و ابن حزم في " الإحكام " 6 / 283 ، و المزي في " تهذيبه " 23 / 119 من طرق عن عبد السلام بن حرب ، أخبرنا غطيف بن أعين الجزري ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - به .
و أورده السيوطي في " الدر المنثور " 3 / 230 و زاد في عزوه : ابن سعد ، و عبد بن حميد ، و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ ، و ابن مردويه .
قال الترمذي : ( حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب ، و غطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث ) .
قلت : رجاله كلهم ثقات سوى غطيف بن أعين الجزري ، تقدم فيه قول الترمذي ، وذكره ابن حبان في " الثقات " 7 / 311 .
و نقل ابن حجر في " تهذيبه " 8 / 251 تضعيف الدارقطني له .
قلت : لكن قال الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3 / 336 ( 6668 ) عن غطيف الذي ضعفه الدارقطني : ( أظن ذا آخر ) .
قلت : قد جاءت آثار صحيحة ، تشهد لحديث عدي - رضي الله عنه - ؛ عن حذيفة بن اليمان ، و ابن عباس - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية بهذا المعنى ، و هي موقوفة ؛ لكنها في حكم المرفوع ، لكونها في " تفسير القرآن " ، و لذلك اشترط الحاكم في " المستدرك " 1 / 55 أن يخرج فيه التفاسير عن الصحابة .(1/48)
قال ابن كثير رحمه الله : (( و لهذا قال تعالى : { و ما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا } أي : الذي حرم الشيء فهو الحرام ، و ما حلله فهو الحلال ، و ما شرعه أتبع ، و ما حكم به نفذ . { لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } أي : تعالى و تقدس و تنزه عن الشركاء و النظراء و الأعوان و الأضاد و الأولاد ، لا إله إلا هو و لا رب سواه )) .(1)
و بناء على ما تقدم كان الحكم بما أنزل الله ، و خلع ما سواه أصلاً من أصول الدين مقرراً بنصوص الكتاب و السنة الصحيحة ، و التي انطلق منها الرئيس علي عزت في بناء فكره و دعوته .
المقصد الثاني ( اعتبار الخلافة الإسلامية النموذج المنشود في سياسة الأمة الإسلامية
لقد أوجب الله تعالى الإمارة على جماعة المؤمنين ،قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } ] النساء : 59 [.
و قال تعالى : { و إذا جائهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الله و الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ] النساء : 83 [ .
قال أبو المعالي الجويني(2): ((
__________
(1) 1 ... تفسير ابن كثير 2 / 349 .
(2) 2 ... أبو المعالي الجويني ، هو : الملقب بإمام الحرمين ، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ، الطائي ، السنبسي ، الجويني ثم النيسابوري ، ضياء الدين ، الإمام الكبير ، شيخ الشافعية ، صاحب التصانيف ، ولد سنة 419 هـ / 1028 م . اشتغل بعلم الكلام ، و وقعت منه هفوات ، نفي بسببها ، فجاور بمكة و تعبد و تاب منها ، و رجع إلى مذهب السلف في الصفات و أقره ، و قال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بعلم الكلام ) ، توفي سنة 448 هـ / 1056 م .
انظر ترجمته في : ذيل تاريخ بغداد لابن النجار ص 85 – 95 ، وفيات الأعيان 3 / 167 – 170 ، الطبقات الكبرى للسبكي 5 / 165 – 222 ، سير أعلام النبلاء 18 / 468 ، العقد الثمين 5 / 507 .(1/49)
الذي صار إليه جماهير الأئمة أن وجوب نصب الإمام مستفاد من الشرع المنقول ، غير متلقى من قضايا العقول ))(1).
فالإمارة من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين و لا الدنيا إلا بها ؛ لأن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، و لا بد لهم عند الاجتماع من رأس(2)
و إذا تعددت الإمارة تحت إمام و احد(3)جاز ذلك بالاتفاق ، أما إذا تعددت الإمارة ، و ليس ثمّة هناك إمام يرجعون إليه ، و نظر متحد رابط يجمعهم ، فعندها تتفرق الآراء ، و تتجاذب الأهواء ، و يتحزب الأمراء ، فيصير الخلاف و الفرقة و النزاع ، كما هو واقع المسلمين الآن ، و هو ما نهى الله عنه في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : { و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا } ] آل عمران : 103 [ .
و جاء ت في السنة أحاديث كثيرة ، بمنع تعدد الأئمة ، و التصريح بأن ذلك يفضي إلى الفرقة و الاختلاف ، منها :
عن عرفجة - رضي الله عنه - (4)، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ))(5).
__________
(1) 3 ... انظر : غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني ص 24 ، فقرة ( 20 ) .
(2) 1 ... انظر : مجموع الفتاوى ، لابن تيمية 28 / 390 .
(3) 2 ... الإمام ، هو : الواحد الذي به ارتباط المسلمين أجمعين . كما في " غياث الأمم " للجويني ص 177 ، فقرة ( 259 ) .
(4) 3 ... عرفجة - رضي الله عنه - ، هو : عرفجة بن شريح ، أو شراحيل ، أو شريك الأشجعي ، صحابي ، اختلف في اسم أبيه .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 6 / 30 ، أسد الغابة 3 / 40 ، تهذيب الكمال 19 / 555 .
(5) 4 ... الحديث : أخرجه مسلم ( 1852 ) ( 59 ) في الإمارة ، باب : حكم من فرق أمر المسلمين و هو مجتمع ، و أبو داود ( 4762 ) في السنة ، باب : في قتل الخوارج ، و النسائي 7 / 93 في تحريم الدم ، باب : قتل من فارق الجماعة .(1/50)
و في رواية : (( إنه ستكون هنات و هنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة و هي جميع فاضربوه بالسيف ، كائناً من كان ))(1).
و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، و إنه لا نبي بعدي ، و ستكون خلفاء فتكثر )) قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : (( فُوا ببيعة الأول فالأول ، و أعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ))(2).
قال النووي في شرح هذا الحديث : (( و في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و معنى هذا الحديث إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها ، و بيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ، و يحرم عليه طلبها ، سواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين ، و سواء كانا في بلدين أو بلد ، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل ، و الآخر في غيره ، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا ، و جماهير العلماء ، و قيل : تكون لمن عقدت له في بلد الإمام ، و قيل : يقرع بينهم ، و هذان فاسدان ، و اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد ، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا ))(3).
__________
(1) 5 ... أخرجه مسلم أيضاً ( 1852 ) ( 60 ) .
(2) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 3455 ) في أحاديث الأنبياء ، باب : ما ذكر عن بني إسرائيل ، و مسلم
( 1842 ) في الإمارة ، باب : وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول ، و ابن ماجه ( 2871 ) في الجهاد باب : الوفاء بالبيعة .
(3) 2 ... شرح صحيح مسلم ، للنووي 12 / 231 – 232 .(1/51)
و استطرد النووي فنقل قول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، و تعقبه فيه فقال : (( و قال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد(1): قال أصحابنا لا يجوز عقدها لشخصين ، قال – أي إمام الحرمين – و عندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد ، و هذا مجمع عليه ، قال : فإن بعد ما بين الإمامين ، و تخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال ، قال : و هو خارج من القواطع ))(2).
قال النووي : (( و هو قول فاسد مخالف لما عليه السلف و الخلف ، و لظواهر إطلاق الأحاديث ))(3).
و قال الماوردي(4)في " الأحكام السلطانية " : (( و الصحيح في ذلك أن الإمامة لأسبقهما بيعة و عقداً ))(5).
و قال أبو يعلى(6)
__________
(1) 3 ... الإرشاد ، هو : الإرشاد في أصول الدين كتاب للجويني في علم الكلام ، و هو مطبوع عدة طبعات .
(2) 4 ... المرجع السابق : 12 / 232 . و قال إمام الحرمين هذا الرأي بمعناه أيضاً في " غياث الأمم " فقرة ( 256 ) .
(3) 1 ... المرجع و الصفحة السابقين .
(4) 2 ... الماوردي ، هو : علي بن محمد بن حبيب البصري ، الماوردي ، الشافعي ، ولي القضاء ببلدان شتى ، ثم سكن بغداد ، له مصنفات كثيرة في الفقه و التفسير و أصول الفقه و الأدب ، قال عنه ابن الصلاح : ( متهم بالاعتزال ، و كنت أتأول له ، و أعتذر عنه ، حتى وجدته يختار في بعض الأوقات أقوالهم ) . توفي سنة 450 هـ / 1058 م ، عن 86 سنة .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 12 / 102 ، المنتظم 8 / 199 ، معجم الأدباء 15 / 52 ، وفيات الأعيان 3 / 282 ، ميزان الاعتدال 3 / 155 ، سير أعلام النبلاء 18 / 64 .
(5) 3 ... الأحكام السلطانية ، للماوردي ، ص : 9 .
(6) 4 ... أبو يعلى ، هو : محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي ، ابن الفراء ، شيخ الحنابلة ، القاضي ، صاحب التصانيف المفيدة في المذهب ، كان متعففاً ، نزيه النفس ، كبير القدر ، ثخين الورع ، توفي سنة 458 هـ / 1066 م .
انظر ترجمته : تاريخ بغداد 2 / 256 ، طبقات الحنابلة 2 / 193 – 230 ، سير أعلام النبلاء 18 / 89 ، البداية و النهاية 12 / 94 .(1/52)
في " الأحكام السلطانية " : (( و إن كان العقد لكل واحد منهما على الإنفراد ، نظرت ، فإن علم السابق منهما بطل عقد الثاني ))(1).
و رحم الله عبد الله بن المبارك إذ يقول ، و كأنه ينظر إلى حالنا :
لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل و كان أضعفنا نهباً لأقوانا(2)
فهذا هو ذهب إليه أهل السنة ، و قالوا به معتمدين على نصوص الوحيين ، و هو ما سار عليه الدعاة الصادقين في كل عصر و مصر ، و منهم رواد الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة .
المقصد الثالث ( التأكيد على سبق الإسلام في شتى مجالات الإصلاح و تفوقه على الأنظمة الوضعيّة .
لقد ختم الله موكب النبوة في تاريخ البشرية بمحمد - صلى الله عليه وسلم - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين } ] الأحزاب : 40 [ .و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا العاقب فلا نبي بعدي ))(3).
و جعل الله تعالى رسالته - صلى الله عليه وسلم - للإنسانية كلها قال تعالى : { قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } ] الأعراف : 158 [ .و يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، و بعثت إلى الناس كافة ))(4).
__________
(1) 5 ... الأحكام السلطانية ، لأبي يعلى ، ص : 25 .
(2) 6 ... انظر : التمهيد لابن عبد البر 21 / 275 .
(3) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 3532 ) في المنافب ، باب : ما جاء في أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ( 4896 ) في تفسير سورة الصف ، و مسلم ( 2354 ) في الفضائل ، باب : أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - .
(4) 2 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 335 ) في التيمم ، باب : التيمم ، و ( 438 ) في الصلاة ، باب : قو النبي - صلى الله عليه وسلم - ( جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً ) ، و ( 3122 ) في الجهاد ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أحلت لكم
الغنائم ) ، و مسلم ( 521 ) في أول كتاب المساجد ، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .(1/53)
و هذا و ذاك يقتضيان بالضرورة كفالة مصادر الشريعة لحل مشكلات الحياة في العصور كلها ، حيث لن تأتي رسالة سماوية أخرى تسد حاجة البشرية ، و تفي بمطالبها المتجددة .
و من كمال الشريعة أنها لم تحوج إلى وجود محدثين و ملهمين كالذين كانوا في الأمم قبلنا بكثرة , و إنما تحتاج إلى فقهاء يغوصون في أسرارها , ويجتهدون في استنباط الأحكام للمسائل المستجدة من النصوص و قواعدها ، بعد أن استيقنوا بأن كتاب الله و سنة رسوله قد و سعا كل ما يحتاج إليه البشر من هداية في أمور الدين و مصالح الدنيا ، فقد قال تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ] الأنعام : 38 [ و قال أيضاً : { و نزلنا عليك الكتاب تبيناً لكل شيء } ] النحل : 89 [
قال الأوزاعي ، في تفسير هذه الآية : (( أي بالسنة ))(1).
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لقد تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ))(2).
... و قد جاء الإعلان الصريح في آخر نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإكمال هذا الدين ؛قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً } ] المائدة : 3 [
قال ابن كثير : (( هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة ، حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ، و لا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله و سلامه عليه ، و لهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء ، و بعثه إلى الجن و الإنس ))(3).
... و عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - (4)،
__________
(1) 1 ... تفسير ابن كثير 2 / 502 .
(2) 2 ... صحيح : تقدم تخريجه .
(3) 3 ... تفسير ابن كثير :2 / 14 .
(4) 4 ... طارق بن شهاب - رضي الله عنه - ، هو : الأحمسي البجلي الكوفي ، رأى النبي ، و غزا في خلافة أبي بكر و عمر ، و مع كثرة جهاده كان معدوداً من العلماء .
انظر ترجمته في : مشاهير علماء الأمصار ترجمة ( 319 ) ، أسد الغابة 3 / 70 ، تهذيب الأسماء و اللغات
1 / 251 ، البداية و النهاية 9 / 51 .(1/54)
قال : قالت اليهود لعمر - رضي الله عنه - : إنكم تقرؤن آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية ؟ قالوا : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام
ديناً } ] المائدة : 3 [ قال عمر : و الله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و الساعة التي نزلت فيها ، نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة في يوم جمعة(1).
و قد صدّق سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يهودياً قال له : (( قد علمكم نبيكم كل شيءٍ حتى الخراءة )) أي : آداب قضاء الحاجة ، فقال سلمان : (( أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ))(2).
فأي دليل أبلغ من هذا في الدلالة على شمولية الإسلام و سبقه إلى كل خير فيه صلاح الأفراد و الجماعات ، و نقضه كل شر يضر بهم ، و هذا ما قرره – أسوة بغيره من الكتاب و المفكرين المصلحين – علي عزت بيكوفيتش .
المقصد الرابع ( ضرورة العمل على توحيد الأمَّة الإسلاميَّة في كيانٍ واحد :
لقد سما الإسلام فوق الأجناس و الألوان ، و خاطب جميع القبائل و الشعوب ابتغاء توحيدها في أمة واحدة متآخية ، لا فضل فيها لعربي على عجمي ، و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى و العمل الصالح ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ] الحجرات : 13 [
... و دعا القرآن الكريم إلى وحدة إسلامية قوامها أخوة المسلمين ، فقال سبحانه : { إن هذه أمتكم أمة و احدة و أنا ربكم فاعبدون } ] الأنبياء : 92 [ .
... و ربط سبحانه بينهم برباط الأخوة الإيمانية قال تعالى : { إنما المؤمنون
إخوة } ] الحجرات : 10 [ .
__________
(1) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 4606 ) في تفسير سورة المائدة ، و مسلم ( 3017 ) في أول كتاب التفسير .
(2) 2 ... صحيح : تقدم تخريجه .(1/55)
و أوجب عليهم الولاء و النصرة ، قال تعالى : { و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض } ] التوبة : 71 [ .
و أمرهم بالاعتصام بحبله ، و نهاهم عن الفرقة في أكثر من موضع من كتابه قال تعالى : { و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم } ] الأنفال : 46 [ ، و قال تعالى : { و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا } ] آل عمران : 103 [ .
قال الطبري في تفسير هذه الآية : (( و تمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، و عهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة و الاجتماع على كلمة الحق و التسليم لأمر الله تعالى ))(1).
و بمثل هذا جاءت نصوص السنة النبوية القولية و الفعلية مؤكدة أهمية الوحدة بين المؤمنين ، و حذرت تحذيراً شديدا من الفرقة بينهم .
فكان أول ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بناء المسجد ؛ أن آخى بين المهاجرين و الأنصار على اختلاف قبائلهم ، و ذلك ليذهب عن المهاجرين و حشة الغربة ، و يؤنسهم عن مفارقة الأهل و العشيرة ، و ليشد أزر بعضهم ببعض ، فقويت بذلك عصبة المسلمين ، و هابهم القريب و البعيد ، و شعر المهاجرون بالسكينة و الطمأنينة و أحبوا المدينة و أهلها ، و صاروا جميعاً في إخاء و صفاء ، و تفانى الأنصار في حب إخوانهم المهاجرين و إكرامهم .(2)
و مما جاءت به السنة القولية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب قوله : (( مثل المؤمنون في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى ))(3).
__________
(1) 1 ... تفسير الطبري 3 / 378 .
(2) 2 ... انظر : الروض الأنف لأبي القاسم السهيلي , ص 242 .
(3) 3 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 6011 ) في الأدب ، باب : رحمة الناس و البهائم ، و مسلم ( 2586 ) في البر و الصلة ، باب : تراحم المؤمنين و تعاطفهم و تعاضدهم ، من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - .(1/56)
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) و شبك بين أصابعه(1).
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، و من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ))(2).
و نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاف ، فمما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله : (( لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ))(3).
فهذه النصوص ، و غيرها كثير مما لم نورده خشية الإطالة ، توجب على المسلمين العمل على توحيد المسلمين ، و جمعهم على الحق ، و تأليف قلوبهم عليه ، و إصلاح ذات بينهم .
__________
(1) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 481 ) في الصلاة ، باب : تشبيك الأصابع في المسجد و غيره ، و ( 6026 ) في الأدب ، باب : تعاون المؤمنين بعضهم بعضا ، و مسلم ( 2585 ) في البر و الصلة ، باب : تراحم المؤمنين و تعاطفهم و تعاضدهم ، و النسائي 5 / 79 في الزكاة ، باب : الخازن إذا تصدق بإذن مولاه ، من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
(2) 2 الحديث : أخرجه البخاري ( 2442 ) في المظالم ، باب : لا يظلم المسلم المسلم و لا يسلمه ، و مسلم ( 2580 ) في البر و الصلة ، باب : تحريم الظلم ، و الترمذي ( 1426 ) في الحدود ، باب : ما جاء في الستر على المسلم ، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - .
(3) 3 ... الحديث أخرجه البخاري ( 2279 ) في الخصومات ، باب : ما يذكر في الأشخاص و الخصومة بين المسلمين و اليهود ، و ( 3476 ) في الأنبياء ، باب : ما ذكر عن بني إسرائيل ، و ( 5062 ) في فضائل القرآن ، باب : اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .(1/57)
و إذا جمعنا النصوص الآمرة بالوحدة ، المحذرة من الفرقة و الاختلاف إلى ما تقدم من النصوص الدالة على وجوب تنصيب الخليفة و إقامة دولة الإسلام : اتضحت صورة النظام السياسي الذي ننشده ، و نسير في سبيل إقامته خلف كل مخلص ، و هذا ما ألفيت عليه الرئيس علي عزت و العصبة المناصرة له روّاد الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة و الهرسك .
المقصد الخامس ( العمل الجماعي من أجل نهضة المسلمين .
إن التعاون بين المسلمين إذا كان على فعل الخير ـ و دفع الشر ، و القيام بما يفيد الأمة و يصلح أمرها ، و يبعد الأذى عنها و الضرر عنها ؛ فهو حياة الأمة و سبب قوتها و تقدمها و سعادتها ، و انتصارها على أعدائها ، و المحافظة على مجدها و استقلالها ، و لذلك أوجبه الله على هذه الأمة ، و ألزمها به ، فقال تعالى : { و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله إن الله شديد العقاب } ] الأحزاب : 60 و 61 [ .
... وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) و شبك بين أصابعه(1).
... و قال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : (( يد الله على الجماعة ))(2).
__________
(1) 1 ... صحيح : تقدم تخريجه .
(2) 2 ... صحيح :
روي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر ، و ابن عباس ، و عرفجة الأشجعي ، و أبو سعيد الخدري ، و عمر بن الخطاب و خباب بن الأرت ، و سمرة ، و أسامة بن شريك - رضي الله عنهم - :
1 – حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : و لفظه : (( إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، و يد الله مع الجماعة ، و من شذ شذ في النار )) .
2 – حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - : و لفظه : (( لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبداً ، ويد الله مع
الجماعة )).
و قد تقدم تخريج حديث ابن عمر و ابن عباس من هذه الرسالة و الكلام على رواتهما .
3 - حديث عرفجة الأشجعي - رضي الله عنه - : و لفظه : (( سيكون بعدي هنات و هنات ، فمن رأيتموه فارق الجماعة ، أو يريد أن يفرق بين أمة محمد و أمرهم جميع فاقتلوه كائناً من كان ، يد الله على الجماعة ، و إن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض )) . =
= ... أخرجه النسائي 7 / 92 – 93 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4577 ) ، و الطبراني في " الكبير " 17 / 144 ( 362 و 368 ).
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 221 : ( رجاله ثقات ) .
4 – حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : و لفظه : (( لا تبدوا فإن في البدو الجفاء ، يد الله مع الجماعة ، و لا يبالي شذوذ من شذ )) .
أخرجه الخطيب البغدادي في " الموضح " 2 / 441 . ...
5 - حديث عمر - رضي الله عنه - : و لفظه (( احفظوني في أصحابي ... فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ؛ فإن يد الله على الجماعة ... )) .
أخرجه الطبراني في " الأوسط " ( 7249 ) ، و الضياء في " المختارة " ( 157 ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 225 : ( إبراهيم بن خالد المصيصي ، وهو متروك ) .
و رواه الطبراني في " الأوسط " من وجه آخر عن عمر بلفظ : (( إن يد الله على الجماعة ، و الفذ مع الشيطان ، و إن الحق أصله في الجنة ، و إن الباطل أصله في النار )) .
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 225 : ( فيه جماعة لم أعرفهم ) .
6 – حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - : و لفظه فيه طول .
أخرجه الطبراني في " الكبير " 4 / 80 ( 3709 ) .
7 – حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - : و لفظه : (( طعام الواحد يكفي الاثنين ، و طعام الاثنين يكفي الأربعة ، و يد الله تعالى على الجماعة )) .
أخرجه البزار في " مسنده " ( 2874- كشف ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 21 : ( رواه البزار و فيه أبو بكر الهذلي ، و هو ضعيف جداً ) .
8 – أسامة بن شريك - رضي الله عنه - :
أخرجه الطبراني في " الكبير " 1 / 225 ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 81 ) .
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 218 : ( فيه أسامة بن أبي المساور و هو ضعيف ) .
و لا ريب أن الحديث بمجموع طرقه و شواهده يرتقي إلى درجة الصحة .(1/58)
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من خرج من الطاعة و فارق الجماعة فمات مات ميتة
جاهلية ))(1).
... و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، و
مناصحة ولاة الأمر ، و لزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ))(2).
__________
(1) 1 ... الحديث : أخرجه مسلم ( 1848 ) في الإمارة ، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و في كل حال ، و تحريم الخروج على الطاعة و مفارقة الجماعة ، من حديث أبي هريرة .
(2) 1 ... صحيح :
روي من حديث زيد بن ثابت ، و جبير بن مطعم ، و عبد الله بن مسعود ، و أنس بن مالك ، و غيرهم - رضي الله عنهم - .
أولاً : حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - :
أخرجه أبو داود ( 3660 ) في العلم ، باب : فضل نشر العلم ، و الترمذي ( 2656 ) في العلم ، باب : ما جاء في الحث على تبليغ السماع ، و حسنه ، و أحمد 5 / 183 ، و الدارمي ( 229 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 67 ) ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 94 و 1087 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 4890 و 4891 ) ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 184 ) .من طرق عن شعبة بن الحجاج ، حدثني عمر بن سليمان بن عاصم ، عن عبد الرحمن بن أبان ، عن أبيه ، عنه .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
قال ابن عبد البر في " التمهيد " 21 / 275 : ( هذا حديث ثابت ) .
ثانياً : حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - :
أخرجه ابن ماجه ( 3056 ) في المناسك ، باب : الخطبة يوم النحر ، و أحمد 4 / 80 و 82 ، و الدارمي ( 227 و 228 ) ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 7413 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 1541 ) ، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 10 ، و الحاكم 1 / 86 – 87 ، و صححه على شرطهما .
و حسنه المنذري في " الترغيب و الترهيب " 1 / 62 .
ثالثاً : حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :
أخرجه الترمذي ( 2657 و 2658 ) في العلم ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع ، و الحميدي في " مسنده " ( 88 ) ، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 10 ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1086 ) ، و الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ص 322 ، و الخطيب في " الكفاية " ص 29 و 173 ، و البغوي في " شرح السنة " 1 / 233 .
قال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح ) .
و قال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر " 1 / 364 : ( هذا حديث صحيح ) .
رابعاً : حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :
أخرجه الطبراني في " مسند الشاميين " ( 87 ) ، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 11 ، و الحاكم في " المدخل " 1 / 85 – 86 ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 198 ) .
و قال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر " 1 / 375 : ( هذا حديث حسن ) .(1/59)
قال ابن عبد البر القرطبي : (( قوله : لا يغل عليهن قلب مؤمن . معناه : لا يكون القلب عليهن و معهن غليلاً ، يعني : لا يقوى فيه مرض و لا نفاق إذا أخلص العمل لله و لزم الجماعة ، و ناصح أولي الأمر ، أما قوله : فإن دعوتهم تحيط من ورائهم . فمعناه عند أهل العلم : أن أهل الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ، و لم يكن لهم إمام ، فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام(1)و موضعه إماماً لأنفسهم ، اجتمعوا عليه و رضوه ؛ فإن كل من خلفهم و أمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام ، إذا لم يكن معلناً بالفسق و الفساد ، معروفاً بذلك ، لأنها دعوة محيطة بهم ، يجب إجابتها ، و لا يسع أحداً التخلف عنها ، لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة ، و فساد ذات البين ))(2).
فبذلك و جب على الأمة أن تتحد كلها استجابة لتعاليم ربها ، على هدي نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، حتى ينصرها الله على أعدائها .
... و إن في و حدة المسلمين الأولين بقيادة الرسول الكريم أسوة و قدوة لمن بعدهم ، و لقد بارك الله و حدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و صحبه و أثنى عليها و بين قوتها و فضلها ، بقوله عز وجل : { و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم لم أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } ] الأنفال : 62 و 63 [ .
... هذه هي الجماعة الأم ، جماعة المسلمين التي توافرت الأدلة و أقوال العلماء في الدعوة إلى لزومها و عدم الخروج عليها .
__________
(1) 1 ... حضرة الإمام : أي المكان الذي يقيم فيه .
(2) 2 ... التمهيد لابن عبد البر 21 / 277 – 278 .(1/60)
... أما ما نجده في كلام بعض المعاصرين – و منهم مفكروا البوسنة – من الاستدلال بما تقدم على ضرورة العمل الجماعي الذي يريدون به تشكيل الأحزاب و الجماعات و التنظيمات التي كثرت في العصر الحاضر ، و تعددت أنماطها ، و تباينت مناهجها ، و اختلفت مسمياتها ، فلا نقر من يقول بوجوب الانضواء تحت أي منها مهما كانت حجته ، و غاية ما يمكن الذهاب إليه أن الانتساب إلى بعضها بغية إقامة واجب شرعي قد يكون مشروعاً و حسب .
... فإن قيل : إن إقامة الخلافة فرض ، و لا سبيل إليها إلا بعمل جماعي منظم
( حزبي ) سرّاً أو علناً ، قلنا : إن ذلك غير مسلّم ، و لم يقل به أو يذهب إليه أحد ممن يعتد بقوله من العلماء السابقين ، و إن سلِّم كونه ضرورة في هذا الزمان ، فالضرورة تقدر بقدرها ، و لا تصير أصلاً بحال .
... و ما عرفناه من تأثر الرئيس علي عزت بيكوفيتش و رفاقه بدعوة ( الإخوان المسلمين ) في مصر ، و النسج على منوالهم في تشكيل تنظيم مناسب في البوسنة فقد كان ما يبرره – بحسب رأي – قبل حصول البوسنة على استقلالها المحدود ، و تحرر أبنائها إلى حد بعيد من قيود حكم الفرد و الحزب الشيوعي ، و لذلك دعوت و أدعو إلى توسيع قاعدة التعاون بين مسلمي البوسنة و المهتمين بشأنها من غير أبنائها ( مجاهدين و دعاة و إغاثيين ) ، و خلع الولاءات الضيقة ، إيثاراً للحق على الخلق ، و تقوية لشوكة المسلمين ، ففي الجماعة العزة و التمكين ، و في التحزب و التشرذم الضعف و الهوان ، و الله المستعان .
المقصد السادس ( الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بإعادة العزة و التمكين للمسلمين .
... لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، و أيده الله بنصره و بالمؤمنين ، أذن الله لهم في القتال .
قال الشوكاني : (( أول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة
اتفاقاً ))(1).
__________
(1) 1 ... نيل الأوطار ، للشوكاني : 7 / 174 .(1/61)
فكان أول ما نزل قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور } ] الحج : 39 و 40 و 41 [ .
و قد بين الله في هذه الآيات أنه أذن للمؤمنين في القتال بسبب الظلم الواقع عليهم و إخراجهم من ديارهم و أموالهم بغير موجب إلا أنهم يدينون بدين الله .
قال ابن كثير في قوله تعالى : { و إن الله على نصرهم لقدير } : (( أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال و لكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته )) .
ثم بين سبحانه من حكمة الإذن في القتال أنه لولا أن الله يدفع أهل الباطل و الشرك بأهل الإصلاح و الخير لغلب أهل الفساد ، و بغوا على الصالحين و أهلكوهم و صار لهم السلطان في الأرض ، و لهدموا المعابد التى يذكر فيها اسم الله كثيرا , فكان من رحمة الله بعباده , و فضله عليهم أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين ,و البغاة الظالمين .
ثم بين الله أنه لا ينصر بمقتضى سنته إلا من ينصر دينه و يتقيه , و من إذا مكن لهم في الأرض و حكموها أطاعوا الله , فأقاموا الصلاة و آتوا الزكاة , و كانوا دعاةَ خير و معروف , و نهاةً عن كل منكر و فساد , و الله يعلم المفسد من المصلح و إليه مرد الأمور و نهايتها .
... ففي الجهاد في سبيل الله رد للاعتداء ، و دفع للظلم و الإيذاء قال تعالى : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ] البقرة : 190 [ .
... و ذكر التمكين في الأرض بعد الإذن بالقتال ، إشارة إلى أن إقامة فريضة الجهاد في سبيل الله سبب للنصرة و التمكين فيها .(1/62)
و في السنة الثانية من الهجرة فرض الله القتال بقوله تعالى : { كتب عليكم القتال و هو كره لكم و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون } ] البقرة : 216 [ .
... و أصبح الجهاد فرضاً للدفاع عن الدعوة الإسلامية ، و مقاومة من يحاول فتنة أهلها ، أو الوقوف في طريقها ، قال تعالى : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } ] البقرة : 193 [ .
و فُرض أيضاً لمقاومة من ينكثون العهد و ينقضون المحالفات ، و لا يحترمون ما بينهم و بين المسلمين من معاهدات و يشوهون حقائق الإسلام ، و ينفرون الناس منه ، قال تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } ] التوبة : 12 [ .
... و فرض أيضاً لتخليص المستضعفين من المؤمنين من الضيم ، و الذل ، و الهوان ، قال تعالى : { و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك و لياً و اجعل لنا من لدنك نصيراً } ] النساء : 75 [ .
... و لقد كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سلسة متصلة من الجهاد في سبيل الله ، فقد غزا من حين هجرته إلى حين و فاته سبعاً و عشرين غزوة ، و بعث من السرايا قريباً من سبع و أربعين سرية(1).
__________
(1) 1 ... الغزوة : في اصطلاح المؤرخين ، و كتّاب السيرة تطلق على جيش قاده الرسول بنفسه ، سواء حصل فيه قتال أو لم يحصل . =
= ... أما السرية : فتطلق على طائفة مختارة من الجيش ، يرسلها النبي لإرهاب أعدائه ، أو لاستكشاف أحوالهم ، أو لغير ذلك ، قال ابن الأثير في " النهاية " 2 / 363 : ( هي طائفة من الجيش ، يبلغ أقصاها أربعمائة ، تبعث إلى العدو ،سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر و خيارهم ) .
قال النووي في " شرح مسلم " 12 / 195 : ( اختلف أهل المغازي في عدد غزواته و سراياه ، فذكر ابن سعد ، و غيره عددهن مفصلات على ترتيبهن فبلغت سبعاً و عشرين غزوة ، و ستاً و خمسين سرية ، قالوا : قاتل في تسع من غزواته ، و هي : بدر ، و أحد ، و المريسيع ، و الخندق ، و قريظة ، و خيبر ، و الفتح و حنين ، و الطائف ) .(1/63)
... و جائت نصوص السنة القولية متظاهرة متضافرة على عظم فضل المجاهد ، و ما أعده الله له من الثواب ، و حسن الجزاء ، نذكر طرفا ًمنها :
( عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الناس
أفضل ؟ فقال : (( مؤمن يجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله ))(1).
( و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز و جل ؟ قال : (( لا تستطيعوه )) قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً . كل ذلك يقول : (( لا تستطيعوه )) و قال في الثالثة : (( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام و لا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى ))(2).
(
__________
(1) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2786 ) في الجهاد ، باب : أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله و ( 2786 ) في الرقاق ، باب : العزلة راحة من خلاط السوء ، و مسلم ( 1888 ) في الإمارة ، باب : فضل الجهاد و الرباط ، و أبو داود ( 2485 ) في الجهاد ، باب : في ثواب الجهاد .
(2) 2 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2787 ) في الجهاد ، باب : أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله مسلم ( 1878 ) في الإمارة ، باب : فضل الشهادة في سبيل الله تعالى ، و أحمد في " المسند " 2 / 459 .(1/64)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( تضمن الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي ، و إيماناً بي ، و تصديقاً برسلي ، فهو ضامن أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ، نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة ))(1).
( و عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها ))(2).
... وكما أن من أهم أسباب النصر و العزة و التمكين الجهاد في سبيل الله ، فإن من أهم أسباب الذل و الهوان ترك الجهاد في سبيل الله ، و الركون إلى الدنيا ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا تبايعتم بالعينة ، و أخذتم أذناب البقر ، و رضيتم بالزرع ، و تركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ))(3).
__________
(1) 1 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2787 ) في الجهاد ، باب : فضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله و ( 3123 ) في فرض الخمس ، باب : قول النبي ( أحلت لكم الغنائم ) ، و مسلم ( 1876 ) في الإمارة ، باب : فضل الجهاد و الخروج في سبيل الله ، و النسائي 6 / 16 في الجهاد ، باب : ما تكفل الله عز و جل لمن جاهد في سبيله .
(2) 2 ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2792 ) في الجهاد ، باب : الغدوة و الروحة في سبيل الله ، و ( 2796 ) باب : الحور العين و صفتهن ، و ( 6568 ) في الرقاق ، باب : صفة الجنة و النار ، و مسلم ( 1880 ) في الإمارة ، باب : فضل الغدوة و الروحة في سبيل الله .
(3) 3 ... صحيح بمجموع طرقه :
روي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ، و له عنه طرق :
الطريق الأول :
أخرجه أبو داود ( 3462 ) في البيوع ، باب : في النهي عن العينة ، و ابن عدي في " الكامل " 5 / 360 ، و الدولابي في " الكنى " 2 / 65 ، و أبو نعيم في " الحلية " 5 / 208-209 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 5 / 316 من طرق عن حيوة بن شريح ، عن إسحاق أبي عبد الرحمن ، أن عطاء الخراساني حدثه ، أن نافع حدثه ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قال أبو نعيم : ( غريب من حديث عطاء ، عن نافع ، تفرد به حيوة ، عن إسحاق ) .
و قال المنذري في " مختصر السنن " 5 / 102-103 : ( في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني ، نزيل مصر ، لا يحتج بحديثه ، و فيه أيضاً عطاء الخراساني ، و فيه مقال ) . =
= ... و قال ابن القيم في " تهذيب السنن " 5 / 104 بعد أن حسن إسناده : ( عطاء الخراساني ثقة مشهور ، و حيوة كذلك ، و أما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ ، روى عنه أئمة المصريين ، مثل حيوة ، و الليث ، و يحيى بن أيوب ، و غيرهم ) .
و ضعف ابن حجر في " تخريج أحاديث الهداية " 2 / 151 إسناد الحديث من هذا الطريق .
و لهذا الطريق وجه آخر عن نافع ، فقد رواه فضالة بن حصين ، عن أيوب السختياني ، عن ، نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - . ذكره أبو نعيم في " الحلية " 3 / 319 ، و رواه ابن شاهين في " الأفراد " 1 / 1 – كما في " السلسلة الصحيحة " للألباني 1 / 16 - .
قال ابن شاهين : ( تفرد به فضالة ) .
قلت : و هو ضعيف ، قال البخاري و أبو حاتم الرازي : ( مضطرب الحديث ) .
انظر : لسان الميزان 6 / 14 .
الطريق الثاني :
أخرجه أحمد في " المسند " 2 / 28 ، و في " الزهد " – كما في " الوهم و الإيهام " 5 / 296 - ، و الطبراني في " الكبير " 12 / 432 ( 13583 ) ، و أبو أمية الطرطوسي في " مسند ابن عمر " ( 22 ) ، و البيهقي في " الشعب " ( 4224 ) ، من طرق عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قال البيهقي : (( كذا قال : ( عطاء ) يعني : ابن أبي رباح ، و روي من وجه آخر ضعيف عن عطاء ، و هذا الحديث يعرف من حديث حيوة بن شريح ، عن إسحاق أبي عبد الرحمن ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن
عمر )) .
و قال ابن القطان في " الوهم و الإيهام " 5 / 295-296 بعد أن ذكر بعض طرقه : ( و للحديث طريق أحسن من هذا ؛ بل صحيح ، كل رجاله ثقات – فذكره ) .
قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " 3 / 19 : ( و عندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً ؛ لأن الأعمش مدلس ، و لم يُنكر سماعه من عطاء ، و عطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني ، فيكون فيه تدليس التسوية ، بإسقاط نافع بين عطاء ، و ابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول ، و هو المشهور ) .
قلت : احتماله بأن عطاء هنا هو الخراساني بعيد لأنه جاء منسوباً بابن أبي رباح .
و قال ابن حجر في " تخريج أحاديث الهداية " 2 / 151 عن هذا الطريق : ( إنه أجود و أمثل ) . يعني من الطريق الأول . و قال في " بلوغ المرام " ( 3 / 41 – مع السبل ) : ( رجاله ثقات ، و صححه ابن
القطان ) .
و قال ابن القيم في " تهذيب السنن " 5 / 104 عن هذا الطريق و الذي قبله : ( هذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر ) ، ثم تكلم عن هذا الطريق ، فقال : ( رجاله أئمة مشاهير ، و إنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء ، أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر ) . =
= ... الطريق الثالث :
أخرجه أبو يعلى في " مسنده " ( 5659 ) ، من طريق ابن علية ؛ و الطبراني في " الكبير " 12 / 433
( 13585 ) ، و البيهقي في " الشعب " ( 10871) من طريق عبد الوارث بن سعيد ؛ كلاهما عن ليث ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قال البيهقي : ( رواه جرير بن عبد الحميد ، عن الليث ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، و رواه جرير بن حازم ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عمر ) .
و رواية جرير بن عبد الحميد التي أشار إليها البيهقي أخرجها الروياني في " مسنده " ( 1422 ) ، و تابع جرير : أبو كدينة البجلي عند أبو نعيم في " الحلية " 1 / 313-314 و 3 / 318-319 .
و قال أبو نعيم : ( هذا حديث غريب من حديث عطاء ، عن ابن عمر ) .
قلت : هذا الاختلاف على الليث ، و هو ابن سليم ، اضطراب منه ، فإنه ضعيف .
قال ابن القطان : ( و إنما لم نقل لهذا : صحيح ؛ لمكان ليث ؛ فإنه ابن أبي سليم ، و لم يكن بالحافظ ، و هو صدوق ضعيف ) .
الطريق الرابع :
أخرجه أحمد في " المسند " 2 / 42 و 84 ، و الخطيب في " تاريخ بغداد " 4 / 307 ، من طريقين عن أبي جناب يحيى بن أبي حية ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
و ( ابن عمر ) صحف عند ابن كثير في " التفسير " 2 / 344 ، إلى ( ابن عمرو ) ، قال ابن كثير : ( و هذا شاهد للذي قبله ) . قلت : يشير بـ ( الذي قبله ) إلى الطريق الأولى عندنا .
و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 2 / 151 : ( و من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد بإسناد ضعيف ) .
قلت : و لم أقف عليه في المسند لأحمد ، و لا لغيره عليه ، و أخشى أن يكون قوله ناتجاً عن تصحيف أيضاً .
و قال ابن القيم : بعد أن ذكر الطرق الثلاثة الأولى : ( و هذا يبين أن للحديث أصلاً ، و أنه محفوظ ) .
قلت : و للحديث شاهد من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، بدون ذكر الجهاد :
أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2 / 22 من طريق بشير بن زياد الخراساني ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر - رضي الله عنه - به .
قال ابن عدي : ( بشير بن زياد الخراساني غير مشهور ، في حديثه بعض النكرة ) .
و قال الذهبي في " الميزان " 1 / 328 : ( منكر الحديث ، و لم يترك ) .(1/65)
... فلن يعود للأمة عزتها و كرامتها ، و يرفع عنها الذل إلا بالرجوع إلى دينها ، و إقامة ذروة سنامه ، و هو الجهاد في سبيل الله .
و أخيراًًً : فبعد عرض المحاور الرئيسية لفكر الرئيس علي عزت على ما قررته السنة النبوية فيها ، يتبين موافقته لها في الغالب ، و تأثره بها ، و إنْ ندر اعتماده عل نصوصها و استشهاده بها ، بل وقع منه الإعراض عنها أحياناً أخرى .
و في هذا القدر كفاية و الله أعلم .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين
سبحانك اللهم و بحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك(1/66)