بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
المجتمع المسلم كالجسد:
فإن المجتمع شأنه كشأن الفرد، وكما أن جسد الفرد يتكون من أعضاء يجمع بينها وينسق بين وظائفها الرأس، فيكون الكيان بجميع أعضائه موحداً يسعى إلى غايات محددة، فكذلك المجتمع لا بد من رأس ينسق بين تكويناته ويربط بين طاقات كيانه، وهذه حقيقة معلومة لكل ذي لب وإدراك.
وتمشياً مع هذه الحقيقة فقد عبرَّ عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارته الجامعة حين قال -كما في الحديث المتفق عليه-: { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد }^.
وكما أن الجسد السويّ لا يوجد بين أعضائه تنافر وفصام، فكذلك المجتمع السويّ لا يوجد بين تكويناته تنافر وفصام، وإنما انسجام ووئام.
وإذا وجد في جسد شذوذ في بعض الأعضاء ، أو تمرد في بعض الخلايا؛ فإن ذلك يعتبر مرضاً لا بد من الإسراع في معالجته، فإن حصل العلاج تعافى الجسد، وإلاَّ فإن الداء يستشري، وربما شمل الجسد كله وقضى عليه، كما في حال الخلايا السرطانية المتمردة على نظام الجسد ووئامه.
وهذا ما نرى مثيله في بلاد المسلمين، إذ نجد أن نمو الشذوذات والانشقاقات فيها قد أدّى إلى تسرطنات قضت على وحدة الكيان وقتلت ذاتيته، وجعلته نهباً للسيطرة الخارجية، تماماً كالأمراض القاتلة التي تقتل الجسد، وتجعله نهباً للجراثيم والديدان والكائنات الأخرى.
الجسد (الكيان) الإسلامي رأسه العلماء:
إن الجسد الإسلامي كان رأسه الخلافة التي تنظم نشاطاته وتربط بين تكويناته، والخلافة تجمع بين الولاية والعلم الشرعي؛ لأنها خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يجمع بينهما في حياته بحكم النبوة.
وأحق الناس بهذه الخلافة العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، كما في الحديث الذي رواه أحمد والأربعة وابن حبان عن أبي الدرداء، وذكر الألباني في (صحيح الجامع) أنه صحيح.(1/1)
وما كان يتولى الخلافة في دولة الإسلام إلا العلماء، ثم تطرّق الخلل في بعض أطوار التاريخ الإسلامي إلى الحكم، وتولىَّ غير العلماء الخلافة، فإنهم مع ذلك كانوا يجلُّون العلماء ولا يخرجون عموماً عن توجيهاتهم ومرجعيتهم، واستمرت هذه الحال إلى آخر خلافة حكمت المسلمين، وهي الخلافة العثمانية.
ولم تكن مرجعية العلماء محل نزاع؛ لأن الله أعطاهم هذه المكانة الرفيعة، وجعلها بعد مكانة النبوة، قال تعالى: (( يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ))[المجادلة:11]^.
التاريخ الإسلامي مملوء بأخبار العلماء الذين أوتوا العلم درجات:
والتاريخ الإسلامي مملوء بأخبار العلماء الذين كانت كلمة الحق منهم وأحكامهم على الحكام، كأخبار طاووس وابن طاووس والحسن البصري وسعيد بن جبير ورجاء بن حيوة وأبي حازم، وغيرهم مع ملوك بني أمية وأمرائهم.
وأخبار أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان والفضيل بن عياض وعبد القادر الجيلاني وغيرهم مع ملوك بني العباس.
وأخبار العز بن عبد السلام وابن تيمية والنووي وغيرهم مع ملوك المماليك.
وكان من الحكام من يعرف هذه المرجعية للعلماء؛ فيعطيهم حقهم، ومنهم من يتجاهل؛ فيفرضها عليهم العلماء إلى حد كبير ومعهم الرأي العام.
وصدق القائل :
إن الملوك على العباد حكومة وعلى الملوك حكومة العلماء
إن الأمة بخير ما دامت مرجعيتها إلى العلماء، فهي بتلك المرجعية محمية من الضلال والانحراف، محروسة من المستوردات الباطلة والأهواء، وهذه هي الضمانة التي جعلها الله للهداية في المجتمع الإسلامي، وبدونها يضل المجتمع حكاماً ومحكومين.(1/2)
وذلك كما هو الحال في آخر الزمان بسبب وقوع الموت والفناء على العلماء، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو: { إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً؛ اتخذ الناس رؤساء جُهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا }^.
وقريب من موت العلماء وفنائهم ما يجري عليهم من العزل والإبعاد والإقصاء عن التأثير.
العلماء والمثقفون:
المقصود بالعلماء كما قال الشوكاني في (فتح القدير) في تفسيره لآية: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18]^، هم علماء الكتاب والسنة، وما يتوصل به إلى معرفتها، أي أنهم المتخصصون في العلوم الشرعية.
وليس هذا التعريف سائباً؛ فيدخل فيه كل من ادعاه، كلَّا: بل إنه لا يدخل فيه إلا من شهد له علماء الشريعة أنفسهم بشهادة أو إجازة وفق الضوابط الموضوعة عندهم لذلك، تماماً كالعلوم الأخرى لا يعتبر متخصصاً فيها إلا من شهد له أصحاب التخصص.
ولا يعتبر عالم الشرع عالماً حقاً إلا بعلمه، وفي مقدمة ذلك أن تتحقق فيه خشية الله، قال تعالى: (( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ))[فاطر:28]^.
وأما المثقفون فهم الذين حازوا الثقافة، وهي كما عرَفها مجمع اللغة العربية -كما في المعجم الوسيط-: العلوم والمعارف والفنون المطلوب الحذْق فيها.(1/3)
فالمثقف هو الذي عنده اطلاع على علوم ومعارفِ وفنونِ عصره، وليس بالضرورة أن يكون اطلاعاً عميقاً، وقد يكون متخصصاً في أحدها أو في بعضها، وقد لا يكون، فالمثقف في عصرنا مثلاً عنده اطلاع على التاريخ وعلى الأدب وعلى الجغرافيا والفلك، وعلى عادات الناس، وعلى السياسات وعلى الأنظمة والقوانين، وعنده معرفة بأسباب الصحة وأنواع الغذاء والوقاية من الأمراض، له نصيب من المهارات الشائعة المنتشرة، يعرف كيف يأخذ وكيف يردّ وكيف يتعامل مع الآخرين، وقد يكون متخصصاً في فن من الفنون: كالطب أو الفلك أو التاريخ أو الكتابة أو الصحافة، وقد يكون متخصصاً في علم الشريعة.
ومن الضروري أن يكون العالم الشرعي مثقفاً بثقافة عصره، ولا يلزم أن يكون المثقف عالماً.
وضرورة أن يكون العالم مثقفاً ضرورة تفرضها تبعاتُ ومسئوليات العلم الشرعي نفسه؛ لأن العالم لا بد لكي يكون مرجعاً للناس من أن يُلمّ بثقافة عصره، ويعرف واقعه معرفة كافية، فهذا جزءٌ من البصيرة الواردة في قوله تعالى: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ))[يوسف:108]^.
دور العلماء والمثقفين:
دور العلماء كما ذكرنا بمجموعهم هو دور القيادة والتوجيه في المجتمع المسلم ، ودور المثقفين الصالحين المتمسكين بدينهم – بما عندهم من قدرات – هو دور المعاونين للعلماء في نشر الوعي الإسلامي والالتزام بدين الله في] أواسط الحكام والمثقفين الآخرين ، وفي أوساط العوام ، ومع الأمم الأخرى بمثقفيها وعامتهم ، ويسعى الجميع بقياده العلماء لإعادة مكانة ووحدة المسلمين وخلافتهم .
وهناك سلبيات كثيرة بسببها ضاع دور العلماء أو كاد .
وضاع دور المثقفين كذلك، ومن هذه السلبيات: خلوّ! بعض العلماء من ثقافة عصرهم فلا يحسنون التعامل مع العصر.
ومنها : تهميش الحكام للعلماء .(1/4)
ومنها : تحالف القوى العلمانية في بلاد المسلمين مع القوى الكافرة الأجنبية لمحاربة العلم الشرعي والعلماء ، فهم يتمنون بقاء الأمة واستغلالهم لمقدّراتها .
ومنها : تفرق كلمة العلماء أنفسهم، فإلى اليوم لم يجتمع علماء العالم الإسلامي في مؤسسة واحدة وبصورة جادة، ليكون خطابهم الديني للأمة واحداً في القضايا الكبرى، وليقودوا الأمة.
وقد نجح النصارى -على سبيل المثال- في أن تكون لهم مرجعية دينية واحدة تتمثل في مؤسسة الفاتيكان، مما جعلهم كتلة دينية، وأعطاهم ثقلاً عالمياً كبيراً، في حين يفتقد ذلك المسلمون اليوم.
ومنها: أن كثيراً من المثقفين الصالحين – فضلاً عن غير الصالحين– عندهم تشويش وتردّد وعدم تسليم بمرجعية العلماء الشرعيين وقيادتهم، فالحركات الإسلامية اليوم –وأتباعها بالملايين– منتسبوها كثير، منهم مثقفون صالحون -ولا نزكيهم على الله- ولكن لا يقودون هذه الحركات، شأنهم كشأن سائر الأعضاء غالباً.. فصوت العالِم كصوت أي عضو مثقف في أجهزة تلك الحركات المختلفة، سواء في القضايا العامة أم في القضايا الشرعية، وليس للعلماء مجالسهم الشرعية المرجعية الخاصة الفعّالة، باستثناء الروافض الذين لعلمائهم مجالسهم المرجعية النافذة، ولكن انحرافهم معلوم في جوانب أخرى.
وقد كانت نتيجة ذلك تهميش العلماء مرة أخرى، فبجانب تهميش الحكام للعلماء همّشتهم الحركات، فلم تجعلهم كقطاع علمي شرعي قيادي متميز.
وهذه سلبية كبيرة يجب على الحركات -وعلى العلماء أنفسهم- تلافيها.
فهذه الحركات التي تقدم نفسها اليوم بأنها تمثل دوراً طليعاً في الأمة، أولى بها أن تنتبه لذلك ، لا سيما بعد مرور عقود كثيرة على هذه الحركات تقارب القرن أو تجاوزه، وهي لم تحقق هدفها بعودة الخلافة وتمكين الدين، بل صار الغالب عليها التآكل والتساهل، وضعف الأدوار والتفاؤل، رغم ضخامة الأحجام والإمكانات، ووصول بعضها إلى الحكم.(1/5)
هذا الضعف الذي يعود –والله أعلم– إلى غلبة الطابع السياسي الجزئي الحزبي الضيق القاصر، على الطابع العلمي الشرعي الكلي الرحْب الرشيد الجامع للأمة؛ فقد ورثت تلك الحركات عن مؤسسيها رحمهم الله الجموع، وواصلت التجمع والتوسع، ولكنها لم تنجح في التوظيف والتصريف، كالقاصر الذي ورث الكنوز والأموال، ثم لم يتمكن من تصريفها في قضاء حاجاته، فيظهر في مظهر الفقير أحياناً وليس بفقير، ينقصه في الحقيقة الولي كامل الأهلية، ولا يعني هذا أن ننجس هذه الحركات جهودها في الإحياء الإسلامي في هذا العصر –معاذ الله– فهي جهود كبيرة مشهورة مشكورة.
تقديم العلماء لا يعني تقديس أشخاصهم:
إن تقديم العلماء إنما هو بسبب ما يحملونه من العلم الذي يحوي النصوص المعصومة، وهو علم الكتاب والسنة، فالتقديم في الحقيقة هو لذلك العلم الشريف الذي قال الله عنه لنبيه: (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ))[المزمل:5]^، وهو الذكر، والذين يقوون على حمله تشرفوا بشرف ذلك العلم أو الذكر، وأطلق عليهم أهل الذكر، فهم مرجعية الناس في معرفة ذلك الذكر؛ لكي يعمل الناس به (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ))[النحل:43]^.
وكل من تحمّل المشاق وتعلم الذكر؛ انضم إلى قائمة أهل الذكر، إذ ليست القائمة محتكرة على صنف من الناس، بل كل شخص عنده استعداد يمكنه أن يتعلّم ويصبح عالماً، وهذا يدل على أنه لا توجد قداسة ذاتية للعلماء.(1/6)
إن العلماء هم مرجعية الناس في الأمور الدينية التي تحكم حياتهم، كما أن المتمكنين من العلوم والفنون الأخرى هم مرجعية الناس في تلك العلوم والفنون، والناس لا يعترضون على مرجعية العلماء بالطب في مجال الطب، ولا على مرجعية العلماء بالهندسة في مجال الهندسة، ولا على مرجعية العلماء بالفلك في مجال الفلك وهكذا، فكذلك لا يجوز الاعتراض على مرجعية علماء الشرع والدين في المجالات التي نظمها الشرع والدين في حياة الناس.
وإذا كانت العلوم متفاوتة في أهميتها وفي مكانة كل علم منها، فكذلك تتفاوت أهمية ومكانة حاملي العلوم.
يدل على أنهم كالجسد رأس يقوم الجسد ويربط بين أجهزته وأعضائه، وهذا الرأس استحق تلك المكانة بحكم التخصص والمقدرة، وليس في ذلك إذلال ولا تحقير للأجهزة والأعضاء الأخرى، فكذلك المجتمع المسلم كيان وجسد له رأسه المتخصص وهم العلماء بالشرع، وإذا اتخذ المسلمون في مجتمعاتهم رؤوساً أخرى غير المتخصصين في الشرع، أو غير الذين لا يرجعون على الأقل إلى المتخصصين؛ فقد اتخذوا رؤوساً جهالاً -كما في الحديث المتفق عليه المذكور من قبل- { فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا }^، وذلك مثل ما لو اتخذ الناس قائد طائرة لم يدرس الطيران، أو طبيباً جرّاحاً لم يدرس الطب والجراحة؛ فيكون هذا الاتخاذ سبباً في جلب الإضرار والهلاك.
الأسباب التي ذهبت بالعلاقة السلمية بين العلماء والمثقفين:
كان العلماء محل إجلال واحترام سائر فئات المجتمع المسلم، بمن في ذلك المثقفون؛ لأن التربية الإسلامية صنعت فيهم ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: { ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه }^، رواه أحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت، وذكر الألباني في (صحيح الجامع) أنه حسن.(1/7)
فلما دخل الاستعمار بلاد المسلمين، ودخلت أفكاره في البلاد التي لم يدخلها من بلاد المسلمين؛ أخذ الفكر الاستعماري -الذي ستحق بعد رحيل المستعمر- يحارب العلماء ويقلل من شأنهم، ويعزلهم عن الأعمال القيادية في المجتمع، ويجهز لهذه الأعمال أشخاصاً علمهم -بلغته وثقافته- المناهضة للدين وللعلماء، ويعطيهم الصدارة، ويعمل على تجفيف التعليم الشرعي ، ويضايق العلماء في مرتباتهم وأرزاقهم، ويسخر منهم في وسائل الإعلام المختلفة التي يشرف عليها، ويجعلهم مع طلابهم موضع تندر وفكاهة.
وأذكر أنني مررت بالقاهرة أواخر القرن الجاري الماضي، فلفت نظري –أنني منذ خرجت من المطار إلى أن انتهيت إلى المكان الذي نزلت منه– انتشار صُوَر شيخ أزهري بعمامته ولحيته، وبجانبه علبة أو إبريق الشاي، ومكتوب تحت ذلك (شاي الشيخ الشِّرِّيب) أي: أن العالم الشرعي صارت صورته دعاية للشاي!! هل كان يمكن أن تستخدم صورةُ ذي وجاهة أو وزير مثلاً، ويوصف بذلك الوصف الذي وصف به الشيخ كمادة للدعاية المُسفة؟! كل ذلك يجري إضافة على السخرية من العلم الشرعي والدين نفسه ونشر الشبهات حوله في كل اتجاه، بأساليب متنوعة مما غير نظرة أبناء المسلمين للعلماء وللعلم الشرعي، فبعد أن كان يندب له أذكى الطلاب، ويعامل المتخرج منه أحسن المعاملة، ويرتقي في المجتمع حتى يصير مرجعاً للناس، أصبح لا يلتحق بالمنشآت التعليمية الشرعية -القليلة المتبقية التي شوهت- إلا الطلاب ذو الدرجات المنخفضة ، أو المصابون بعاهات إلا في بعض البلاد التي لم تتعمق فيها ثقافة المستعمر ، وقد عمت هذه السياسة معظم بلاد المسلمين ، ولولا القوة الذاتية للإسلام وحفظ الله له لكان قد قُضى عليه وعلى علمائه تماماً ، لكن الله سبحانه قيض علماء ودعاة وحلقات مسجديه ومؤسسات أهلية ، وكانت نتيجة ذلك تخرُّج علماء أقوياء لازالوا يشكلون مرجعية ، ويواصلون مسيرة العلم الشرعي والدعوة إلى الله قدر الإمكان .(1/8)
أمام التشويه المذكور ضعفت مكانة العلماء -كما ذكرنا- وكادت تضيع، وجاء الفكر الديمقراطي المذوق إضافة إلى ضعف الوعي الإسلامي ليعمق قضية المساواة بين غير المتساوين، جاء ذلك الفكر ليسوي بين العالم القوي المتمكن والجاهل المغرور المتعلق، بل يسوي بين المسلم وغير المسلم، وأصبح يُنظر إلى تلك التسوية أنها مكسب عظيم للإسلام، وأنه صار للعالم فرصة أن يتكلم، ويعرض ما لديه بدلاً من السخرية منه، أو رميه في أحد السجون، وأنه يمكنه أن ينافس الآخرين وينزل بدعايته وشهادته وصوره مثلهم إلى الشوارع وإلى المكاتب، ثم قد يسمح له ولقليل من أمثاله، بعد جهد جهيد وبذْلٍ ليس وراءه مزيد، يسمح لهم بفرص محددة محسوبة للوصول إلى بعض الكراسي أو المواقع؛ لكي يطرحوا بعض ما لديهم مما يسمح به الفكر الديمقراطي وبضوابطه، لكي يطرحوا بعض ما يحملونه من النصوص الشرعية المعصومة بجوار ما يطرحه الآخرون مما قد يتناقض مع ذلك، ويكون الطرحان على قدم المساواة.
وهنا تأتي المفارقة، ففي حين يفرح الفرحون بما يضنونه الفرصة الذهبية لعرض بعض الحق كيفما كان العرض، يصاب بالغم ذوو النظر الآخر؛ إذ يجدون الظلم بلغ مداه في التسوية بين العالم وغير العالم، والتسوية بين طرح نصوص الوحي وطرح ما قد يعارضها من كلام البشر جنباً إلى جنب للاختيار، وقد يومض في ذهن بعض المغتمين مثل السياق القرني الذي وردت فيه الآيات: (( قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ))[الشعراء:96]^ * (( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ))[الشعراء:97]^ * (( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:98]^، وتُلح عليهم ضرورة البحث والسؤال عن مدى التقارب أو التباعد بين التسويتين والصورتين.(1/9)
فأين هذه النظرة الديمقراطية للعالم الشرعي التي تسمح بمنافسته ونزوله مع الآخرين للمفاضلة ونحو ذلك مما سبق، مع النظرة التي كانت سائدة من قبل في المجتمع الإسلامي تجله العالم المبنية على التربية الإسلامية الأصيلة التي يظهر شيء منها خلال هذا الأثر الذي رواه ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) بسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: [[ أن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال ، ولا تُعْنتَهُ في الجواب .... إلى أن يقول: وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى ، ولا تجلس أمامه -يعني لا تتقدم عليه- وإن كانت حاجة سبقت القوم إلى خدمته ]]^.
إن مجموع ما ذُكر وغيره قضى على العلاقة السلمية بين العلماء وبين المثقفين وبقية أفراد المجتمع، بحيث صار المثقف وغيره عموماً لا يعرفون للعالم حقه إلا من رحم الله، ولا يتعاونون مع العالم التعاون المطلوب، ولا ينضوون تحت توجيهه وإشرافه في التربية والتزكية والتعليم ونشر الدعوة، وصار العلماء عموماً أيضاً إلا من رحم الله يصبرون على الناس -بمن فيهم المثقفون- للوصول بهم إلى مستوى ذلك المنهج الرفيع، وإنما يسايرون الأوضاع، وقد يؤصلون للمستوردات الغربية، وقد يخطبون وُدّ المتنفذين سواء كانوا في جهات رسمية أم داخل جماعات؛ يسايرون لأنهم يستصعبون الموقف القدوة لخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم الذي من المفترض أنهم يرثونه ويقتدون به في كل أحواله، ومن ذلك موقفه حين ألحت عليه البيئة التي حوله في أن يسودوه على طريقتهم أو يملكوه أو يموِّلوه ...إلخ، ولكنه عليه الصلاة والسلام رفض المسايرة، وأبى الالتزام بخصوصية المنهج في غايته ووسائله، حتى وصل بفضل الله إلى النجاح المثالي.(1/10)
اليوم يتنازل بعض السائرين المستعصيين للموقف النبوي وخصوصية المنهج، فيقبلون طريقة الآخرين ويسايرونهم فيما يزعمونه من تحقيق مكاسب في السلطة والسيادة والمال، ويظنون أنهم بذلك سوف يخدمون الإسلام.
والعلماء الماضون في هذه المسايرة يفتقدون وراثة النبي صلى الله علية وسلم على النحو المطلوب، ويفتقدون مكانة الرفعة والإجلال وخصوصية المنهج، ولا يجنون سوى الوهم والسراب، وتضيع في أثناء ذلك العلاقة السلمية بين العلماء والناس، وهي علاقة التلقي والتعلم والاحترام والاستجابة، وتحل محلها علاقة الندية وعدم التقديم، وأنه ليس أحد أولى من أحد في الأخذ عنه أو التلقي منه.
الاستغلال السياسي للطاقات المثقفة لضرب العلماء:
لقد قامت الحملات المعادية للدين الصادرة من تحالف العلمانيين في بلاد المسلين مع القوى الأجنبية بإثارة نعرة التمرد عند المثقفين على مرجعية العلماء، وجندت فئات من المثقفين من الكتاب والصحفيين والمحامين والمدرسين وأساتذة الجامعات والأطباء والباحثين والموظفين والدبلوماسيين والضباط وغيرهم من كافة التخصصات للوقوف معها، واتهام مرجعية العلماء بأنها نوع من الكهنوت والتسلط، وأن سيطرة العلماء تعنى حظر مظاهر الحضارة والانفتاح والتمدن، أو على الأقل تقليصها، وأن الالتزام بالدين لمن يرغب في الالتزام يمكن أن يتم من خلال الاطلاع الشخصي، وأن الدين سهل ويمكن أن يفهمه كل أحد، ولا يحتاج إلى مرجعية، إلى غير ذلك من الشبهات في هذا الباب، والتي تحولت في بعض البلاد إلى ثقافة شاملة، وإلى كتب ومناهج تعليمية، وإلى مادة لوسائل الإعلام، وشعارات وثوابت يتغنى بها ويحرسها الكثير.
هذه الثقافة جعلت كثيراً من العلماء يقفون في موقف الدفاع، ومن أجل التخلص من التهم قد يبالغ بعضهم في المسايرة والموافقة والتأصل للمساواة بين غير المتساوين، بين العالم وغير العالم.(1/11)
وقد استفاد بعض السياسيين إلى حد كبير وعملوا على تعميقها؛ لأنها تكفل لهم البقاء في بعض المواقع التي لا يجوز أن يشغلها شرعاً ومنطقاً إلا علماء متخصصون في الشرع.
وظل العلماء الحريصون على استعادة مكانة العلم الشرعي يعانون من الإقصاء والإبعاد ومصادرة الحقوق والاضطهاد الفكري، وربما القمع والمحاكمات بتهمة الشذوذ والتطرف!! وأخيراً تم تعميم مصطلح الإرهاب وقائمة الإرهاب من أجل مزيد من الملاحقات والاختطافات وحتى الاغتيالات؛ وذلك من أجل مزيد من الإرهاب لهذه الشريحة، حتى في مؤسساتها التعليمية المتبقية القليلة.
ومع اتساع دوائر العداء والابتلاء وانحسار دائرة العلماء وطلاب العلم الشرعي؛ تضافرت الطاقات لتسديد الضربات على العلماء ومن معهم من كل حدب وصوب، وانطلقت مؤامرة القوى الأجنبية مع حلفائها من العلمانيين على معظم المثقفين في بلاد المسلمين، بمن فيهم كثير من مثقفي الحركات الإسلامية كما ذكرنا من قبل، ولم يُعد الأمر في الفترات الخيرة مقتصراً على التقليل من أهمية العلماء ومرجعيتهم، وإنما تعداه عند بعض الحركات إلى حد إهمال الدفاع عن هؤلاء العلماء وخذلانهم، وتركهم يواجهون الدعايات والتهم الكاذبة بمفردهم، واتخاذ مواقف شبيهة بالتبرؤ منهم والله المستعان.
خطوات مطلوبة من العلماء والمثقفين لإعادة العلاقة السلمية:(1/12)
فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل -كما في الحديث الصحيح- وأن يصبروا ويزدادوا ثباتاً على ذلك المنهج، فإن العاقبة في الآخرة بإذن الله لهم، وكذلك في الدنيا إن شاء الله لمن طال بهم العمر؛ لأن الدلائل والإرهاصات والتمايز إلى فسطاطين وإفلاس كل الطروحات، كل ذلك يشير إلى أن الالتزام بالمنهج الشرعي السليم هو الملاذ للأمة، وأنها تُدفع إليه دفعاً، هذا بالإضافة إلى النصوص القرآنية والنبوية المبشرة بظلم في آخر الزمان، وبعودة الخلافة الراشدة التي قوامها مرجعية العلم الشرعي، وأنها سوف تعم الأرض كلها، ويظهر الإسلام على الدين كله بصورة لم يسبق لها مثيل (( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ))[التوبة:33]^، { ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر }^رواه أحمد والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وذكر البنا في (الفتح الرباني) أن سنده جيد ، وذكر الوادعي أن بعض رجاله ليسوا عند البخاري في صحيحه، ولم يعترض على التصحيح.
ثانياً: المطلوب من العلماء المسايرين للأوضاع:
أن يتقوا الله؛ فإنهم سوف يندمون في الدنيا قبل الآخرة على تساهلاتهم وتنازلاتهم ومسايراتهم للتيار في غير مواضع الرخصة، وأن يدركوا أن التأصيل من بعضهم للانحراف هو نوع من التحريف لدين الله، وإذا لم يقدروا على قول كلمة الحق؛ فلا يجوز لهم أن يقولوا الباطل باسم الدين، ولن نسوق لهم الأدلة من النصوص؛ فهم على علم بها، وليعلموا أنه لن يتحقق غرضهم في الدنيا بتمكين الدين بغير منهجية الدين، وإذا لم يرضوا الله؛ فلن يرضوا الناس، ولا يمكن أن يهادنهم الأعداء، ولا أن يقبلوا منهم، ولا يليق بهم أن يصيروا بتساهلاتهم وفتاواهم فتنة للناس، ومن فقد الاتزان صار في النهاية عبرة للآخرين.(1/13)
فهرول ما بين هذا وذا فلا ذا تأتىَّ ولاَ ذَا حصل
ويجب على العلماء جميعاً في ديار المسلمين -العاملين في جهات رسمية، أو المنتظمين في جماعات ظلوا معتزلين- أن يمدوا الجسور فيما بينهم، وأن يكثفوا الحوارات في أوساطهم، دون أن يستأذنوا في أداء واجبهم من أحد أو ينتظروا توجيهاته؛ فإن الله كلفهم ومنحهم الإمامة في الدين، وأخذ عليهم الميثاق، وحذرهم من التهاون، فإذا اجتمعوا جمعوا كلمتهم أو قاربوا، وإذا فعلوا ذلك؛ وحدوا الخطاب الديني أو كادوا، وأغلقوا الطريق على الذين يزعمون تمثيل هذا الخطاب وليست لهم شرعية كافية ولا أهلية وافية.
إن اجتماع العلماء أو معظمهم مع تحررهم من التبعية الرسمية والحزبية يجعل الناس تلقائياً تبعاً لهم، فيأخذون بأيديهم بأذن الله إلى سواء السبيل.
ثالثاً : المطلوب من المثقفين:(1/14)
المطلوب من المثقفين الملتزمين -بالذات سواء الذين لم يرتبطوا بجماعات، أم الذين يشكلون جمهور الجماعات- أن يتقوا الله، وأن يعلموا أنهم يمارسون احترام التخصص بشكل يومي في كل صغيرة وكبيرة، فإذا مرض أحدهم لجأ إلى الطبيب، وإذا احتاج لعملية جراحية اتجه إلى الجرَّاح، وإذا أراد بناء بيت طلب من المهندس وضع المخطط والإشراف على البناء، وإذا تعطلت سيارته أو جهاز من أجهزة البيت أو العمل أو آلة من الآلات ذهب إلى المختص، ولا يجد في شيء من ذلك غضاضة ولا استنكافاً، ولا يعتبر ذلك تسلطاً من ذوى الاختصاص أو كهنوتية يمارسونها عليه، كما أنه لا يدعي أن هذه التخصصات بسيطة، وأنه يمكن له ولأي أحد أن يقوم بعمل الطبيب أو الجراح أو المهندس، كذلك لا يدعي أنه يستوي العالم بالطب مع غير العالم بأي فن مع الذي لم يتخصص فيه، بل إنه إذا عرضت قضية طبية أو عملية جراحية أو قضية عسكرية تحتاج إلى عدد من الأطباء أو الجراحين أو الضباط الكبار؛ فإنه يجتمع معهم في التصويت سواهم، ولا يطرح أحد هنا حجة المساواة بين الناس؛ لأن المساواة معهم في التصويت سواهم، ولا يطرح أحد هنا حجة المساواة بين الناس؛ لأن المساواة بين غير المتساويين، بين غير المختص وغير المختص ظلم شنيع وخلل فظيع.(1/15)
فإذا كانت هذه الأمور محل تسليم منطقاً وشرعاً؛ فلماذا لا تسري كذلك على المختصين بالعلم الشرعي؟ فيتم احترامهم واحترام تخصصهم، والرجوع إليهم دون غيرهم في الأمور التي نظمها الدين؛ لأنهم أعلم بها، ويكون لا رجوعاً بدون حساسية ولا أنفة، وإذا احتاج الأمر إلى أن يتداولوا فيما بينهم في مجالسهم؛ انحصر التصويت فيما بينهم دون مشاركة من ليس منهم، وخرجوا للناس بالحلول الشرعية، فهذا هو المنهج الذي رضيه الله لعباده في هذا الباب وبلغه رسوله، والعلماء ورثة الأنبياء (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))[النساء:65]^.
ومن أراد الالتحاق بالعلماء أهل الحل والعقد فلا حجر عليه، ولكن لا بد من أن يحقق شرط الشرع، وهو العلم كما فعل عمر رضي الله عنه لما ألحق ابن عباس رضي الله عنهما بمجلس شوراه، فلما سمع من يقول: [[ لماذا يدخل هذا ولنا أبناء مثله ؟]]^؛ أراد عمر أن يظهر كفاءة ابن عباس فسأل الجميع عن الغرض من نزول سوره النصر، فكان ذلك الجواب المتميز من ابن عباس الذي دل على توفر شرط العلم لديه، مما جعله مؤهلاً ليكون مع علماء الصحابة في مجلس شورى عمر، وذلك كما هو ثابت في الحديث الذي رواه البخاري.
وإذا اقتنع المثقفون بذلك -ولا بد أن يقتنعوا إذا أرادوا الالتزام الصحيح بدينهم- فسوف يتحلون جميعاً بمختلف طاقاتهم للالتزام والاقتناع بمكانة العلماء: الكاتب منهم والصحفي والمحامي والضابط والاقتصادي والاجتماعي وهكذا.(1/16)
وسيجدون أن العالم الشرعي نفسه يمارس احترام التخصص عند لجوئه إلى الطبيب للعلاج، وإلى الصحفي الثقة لأخذ الخبر والتحليل الصحفي، وإلى السياسي الكفء لإدراك الموقف السياسي السليم، وهكذا، تماماً كتسليم الأعضاء في الجسد للرأس بالتوجيه، واستجابة الأعضاء له الاستجابة التامة، رغم احتياج خلايا الرأس على الدم الذي يضخه القلب، والهواء الذي يأتي من الرئتين، والغذاء القادم من جهاز الهضم، وهلم جر... في تعاون وتكامل وتنسيق مع خضوع كلي تام لخلايا الرأس ذي المكانة والطبيعة القائدة، والمؤمنون كالجسد الواحد كما بين عليه الصلاة والسلام.
هذه بعض خطوات يمكن أن يمضي فيها العلماء والمثقفون لإعادة المياه إلى مجاريها، أوردناها بعد شيء من التشخيص وإلقاء الضوء على الفصام الواقع في زماننا بين العلماء والمثقفين، ونسأل الله تعالى أن يرد الأمة بمجوعها إلى دينها ردًّ جميلاً، وأن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.. آمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،(1/17)