الفساد والإصلاح
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
((
عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ داود
الفساد والإصلاح
دراسة
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2003
بسم الله الرحمن الرحيم
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)، وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَالَكُم مِن دُونِ اللهِ مِنْ أَولِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ(113)، وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفَاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى للذَّاكِرِينَ(114)، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ(115)، فَلَولاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتُرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ(116)، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. } صدق الله العظيم .
سورة هود
إني رأيت أنه لا يكتب أحدٌ كتاباً في يومه إلا قال في غدِهِ:
لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل.
وهذا من أعظم العبَر، وهو دَليلٌ على استيلاء النقص على جُملة البَشَر.
العماد الأصفهاني
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير)
صدق الله العظيم
هود الآية 112(1/1)
الحمد لله مستحق الحمد الذي أَطعم وأنعم ويسر ورحم، الحمد لله الذي أيقظ من عباده من اصطفاه رحمة للعالمين وقائداً للغر المحجلين إماماً للمتقين وشفيعاً للمسلمين سيدنا حضرة رسول الله (محمد بن عبد الله) عليه وعلى آله الأخيار وصحابته الأبرار صلاة ربي وتسليمه ومن اتبع فعمل صالحاً ليحشر مع الأخيار، متجنبين أذى يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار.
أما بعد..
فلقد بات من الواضح أمام الوجود البشري منذ نشأته حتى يومنا الحاضر، أن كل سلوك لا يتوافق مع كل ما هو
(أخلاقي، قيمي، عقلاني)
في سلسلة العلاقات الإنسانية السوية، تعارف عليه اصطلاحاً (بالفساد) الذي عرفه علماء الأخلاق (على حد تعبير آ.د. محمد علي الفرا) بأنه:
(كل قول أو فعل ينافي ويتعارض مع الأخلاق والسلوك السوي)
وهو ما درسه النتاج الفكري الإنساني بشكل مستفيض وحاول الكثيرون منذ نشوء الخليقة تأطيره والعمل على علاجه بوصفه حالة لها آثارها المؤذية على الأفراد والمجتمعات. حيث نجد بوادر تشخيصها لدى الملك (حمو ـ رابي) في شريعته، ولدى (كونفوشيوس) في تعاليمه، ناهيك عن الكثير مما جاء بعد ذلك من آثار في الشأن المذكور. على أن ذروة سنام الأمر يتجلى تحديده في الرسالات السماوية وما أتى به (الرسل الكرام) من هداية للبشرية وإرشاد إلى الطريق السوي المستقيم، لإنقاذ الناس من اختلالات كثيرة في مجالات الحياة، كانت إحداها ظاهرة (الفساد) المقيتة، لما لها من تأثير غير محمود في ممارسات الإنسان تجاه أخيه الإنسان، بالالتجاء إلى سلب الحقوق، وإيثار النفس لتحقيق مآربها، خاصة على حساب آخرين من أبناء الجلدة، تركوا يعانون من ذلك الفعل غير النزيه الذي جره منصب استأثر به أحدهم فلم يصنه، أو مال أئتمن عليه فخانه ولم يحفظه، أو ولاية على أمر الناس لم يؤدها حقها وجار فيها.(1/2)
ولعل الأخذ بالأنموذج الإسلامي لتشخيص الظاهرة يدلنا في شواهده على الكثير من أشكال المعالجة والتطهير من هذا الوباء الذي يصيب النفوس فيردي حالها، وما حساب الخليفة الراشد الثاني سيدنا (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه وأرضاه) لعماله على البحرين، والبصرة عن أموال جرت في أيديهم بعد إسناد الولاية إليهم واسترداده إياها وإيداعها في بيت المال، إلا استشرافاً صحيحاً للظاهرة التي حددها القرآن العظيم والسنة المطهرة وسار عليها الآل الكرام والصحابة الأطهار لإصلاح حال الدنيا والسير بما يرضي الله والرعية، ذلك أنه ليس من شأن العامل على ولاية (أو منصب) مزاحمة الرعية في رزقها والانشغال بالأموال عن ما أسند إليه من أمر، حيث أن الولاية تعني الجلوس للقضاء، والإمامة في الصلاة، والقسمة بين الناس بالعدل، والزهد (وهو قمة الأمر) عن ما في يد العباد أو في بيت المال من أموال وممتلكات إذ أن المحافظة على الأمانة هو غاية الولاية ومن يغلّ في ذلك يحاسب حساباً عسيراً في الدنيا والآخرة.
كانت تلك هي الآثار التي تُركت من الأقدمين مما يدعونا للسير على منحاها القويم بعدها مناراً ربانياً وسلوكاً بشرياً نورانياً منظماً لحياة الناس وموجهاً ضد كل ما ينافي القيم الفاضلة.
إلا أن الانتقال إلى ما هو عليه اليوم، يكشف عن أهوال تركتها هذه الظاهرة، ومرارة في الحياة ألقتها على كثيرين عانوا من آثارها المدمرة.(1/3)
ذلك أن بلاد الله ذاقت الأمرين من استفحال الفساد على الرغم من قيام الدولة الحديثة بمؤسساتها التي (تشرع، وتنفذ، وتقضي، وتراقب) إذ المفروض أن تحد بآليات عملها من هذا السبيل المقيت غير أن الواقع ينذر بحال عكس ما هو مفترض أن يكون. يضاف إلى ذلك ما تحت وقع (العولمة) وأذرعها وسبل تحقيقها ما ينبئ بإطلاق ناقوس الخطر لاستشراء الفساد وتعولمه (هو الآخر) بعد أن كانت الظاهرة مقتصرة على الواقع الداخلي المحلي فحسب، إذ أصبحت تمارس على نطاق عالمي وغدت هنالك جهات تستفيد من زيادة سلوكها المنحرف وتعدد سبلها الملتوية، لا بل إن بعض الأفكار وجدت في (الفساد) الزيت الذي يسهل حركة عجلة التنمية وأنه ضرورة من ضرورات تصاعد وتائرها ونجاحها في مقاصدها.
وفي خضم هذا البحر المظلم المتلاطم الذي لا ينجو منه من يسبح فيه إلا القليل كون عمقه قادراً على ابتلاع موارد أمم وحصائل مجتمعات، يتطلب الحال بغية النجاة واللجوء إلى الدراسة المعمقة لظاهرة (الفساد) التي عرفتها كل بلدان البسيطة في الشمال والجنوب على الرغم من أن طبيعة استقرار المؤسسات وتطور المجتمعات المدنية وتعدد سبل الرقابة والرصد في الأولى قد تقوض (بعض الشي) من الانتشار المفرط للظاهرة، دون الأخيرة من البلدان التي تشكو الضعف في كل تلك المفاصل الأمر الذي يساعد في استشرائها، وهو ما يضطرنا للإحاطة الشاملة إلى أخذهما كليهما بنظر الاعتبار في التأصيل والبحث والدراسة للوقوف على الأمر وحقيقته.(1/4)
وبناء على ذلك فإن الأمانة العلمية تحتم علينا الانطلاق لدراسة الظاهرة بعدّها جهداً يشير ويؤصل للعديد من أبعادها وسبل انتشارها، ويقدم إسهاماً متواضعاً يستقرئ تجارب العالم الناجحة في إعلان الحرب على الفساد لتوظفها برؤية أكاديمية للحد منه والسير في مجال الإصلاح الذي أصبح ضرورة لا بد منها في عالم اليوم باتباع سبل (الشفافية والمساءلة والحكم الرشيد)، وبعد ذلك مشاركة قد تفيد في تجنب الإنسانية لويلات ألقت بظلالها عليها هذه الظاهرة. ولذلك اعتمدنا اتخاذ المنهج المقارن أسلوباً علمياً للدراسة كي نصل بالأمر إلى مبتغاه، وبشكل حوى كثيراً من الأمثلة والأنموذجات من شتى أصقاع الأرض. حيث لوحظ في الدراسات المتخصصة في الشأن المذكور اقتضابها واكتفاؤها بدراسة حالة الفساد في البلدان بشكل مفرد، من دون النظرة في الدراسة إلى الحال الجمعي (الدولي) برمته الذي أصبحت دراسته ضرورة في عالم يتعولم ويزداد اندماجه يوماً بعد آخر، وهو ما اضطرنا لاتخاذ المنحى الجمعي أنموذجاً للدراسة المقارنة في مسعانا هذا خاصة وأن الكثير من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية العاملة على الصعيد الدولي أخذت بالاهتمام ودراسة الظاهرة (على عاتقها) لاستئصال شأفة الفساد بالكشف عنه والحث على محاربته ضمن سياق أعمالها مما يفسر اتساع دائرة نفوذ الظاهرة.
وصفوة القول لا بد لنا من عرض هيكل الموضوع الذي نرجو أن يكون خطوة على الطريق الصحيح وكان على النحو التالي:
الفصل الأول ـ خصص لدراسة الأبعاد التاريخية وأبعاد المفهوم للفساد والإصلاح ومقارباتها اللغوية.
الفصل الثاني ـ درست فيه أنماط الفساد بمختلف صوره في محاولة لتسليط الضوء على تلك الأنماط وبيان الترابط فيما بينها.
الفصل الثالث ـ وخصص لمحاكاة متغيرات عرفتها تسعينيات القرن المنصرم أكثر من أي وقت قبلاً تؤثر في ازدياد رقعة الفساد في عالم الشمال واستشرائه في عالم الجنوب.(1/5)
الفصل الرابع ـ وجاء للتركيز على ما يتركه الفساد من آثار سلبية على التنمية، وسداد الدين، والنظام العام والكفاية وقيم المجتمع.
الفصل الخامس ـ وفيه تم مناقشة الإصلاح على الصعيد الداخلي والخارجي وكيفية الاستفادة من ذلك.
ثم لنختم الدراسة ببضع نقاط وجدنا أن أهميتها قد تجلت لدينا بعد هذا السفر بين نقاط عدة.
وختاماً ليس لي إلا أن أقول الحمد لله من قبل ومن بعد وهو المستعان سبحانه ومنه نستمد العون والتوفيق إنه حكيم بصير.
بغداد/ شتاء 2002
عماد الشيخ داود
***
الباب الأول
دراسة في الأبعاد التاريخية
وأبعاد المفهوم
لا بد للباحث عند الولوج في أي موضوع أن يستقرئ حوادثه السابقة وكذلك أن يعي معناه وللإحاطة بكلا الأمرين
يرتكز جهدنا في هذا الباب...
الفصل الأول
الفساد CORRUPTION
الفساد: ـ الكلمة التي كانت المساعي الخيرة وما زالت تسعى للحد منها،
كيف نشأت وتطورت؟
وما معانيها العمومية والتخصصية؟
تساؤلات سنتناول إجابتها في المطلبين الآتيين:
1ـ البعد التاريخي للفساد
لم تعرف الإنسانية تاريخاً محدداً لنشوء ظاهرة الفساد على وجه البسيطة. بل قد يكون الفساد ظاهرة نشأت مع بداية الخليقة على الأرض حيث نرى في الأثر قصة ولدي آدم (عليه السلام) (هابيل وقابيل) التي تدل على نشوئه منذ ذلك الزمن السحيق.
ولإثراء البعد التاريخي لا بد أن نستذكر شواهده وكيف تمت الإشارة لهذه الظاهرة التي تعد آفة تعاني منها البشرية بأجمعها.(1/6)
وبادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى أن الأقوام التي استوطنت أرض العراق والتي تؤكد الشواهد التاريخية أنها أُولى الحضارات في العالم، قد عرفت ظاهرة الفساد، لذلك نرى إشارات إلى جرائم الظاهرة في القوانين التي عرفتها (أوروك) و(أورنمو) في الألواح السومرية ومحاضر جلسات مجلس (أرك)، حسب آراء (السير كريمر).(1) كما إن الوثائق التي عثر عليها وتعود بتاريخها إلى الألف الثالث (ق.م) تبين أن (المحكمة الملكية) آنذاك كانت تنظر في قضايا الفساد، مثل (استغلال النفوذ، استغلال الوظيفة العامة، قبول الرشوة وإنكار العدالة) حتى أن قرارات الحكم في جرائم مثل هذه كانت تصل إلى حد الإعدام(2).
ويلاحظ أن (حمو ـ رابي) ملك بابل الذي وسع المملكة، وصاحب التشريعات المهمة في التاريخ (شريعة حمورابي)، قد أشار في المادة السادسة من شريعته إلى جريمة الرشوة.
حيث شدد على إحضار طالب الرشوة أمامه ليقاضيه بنفسه وتوليه أمر اجتثاثه، مما يدل على اهتمامه الكبير بمكافحة آفة الفساد، وكذلك فإن الشريعة المذكورة كانت قد نظمت العلاقة بين الحاكم والمحكوم(3).
__________
(1) صموئيل كريمر/ من ألواح سومر/ د. طه باقر (مترجم)/ بغداد/ مكتبة المثنى/ 1975/ ص ص81-82.
(2) د. إبراهيم عبد الكريم الغازي/ تاريخ القانون في وادي الرافدين والدولة الرومانية/ بغداد/ مطبعة الأزهر/ 1973/ ص100.
(3) د. سعد العنزي/ في لقاء متلفز (برنامج شريعة حمورابي)/ تلفزيون العراق الساعة 6 مساء يوم 20/6/2000.(1/7)
وبانتقالنا من وادي الرافدين إلى وادي النيل نلاحظ أن لمصر الفرعونية إشارات ووصايا وتنبؤات في تنظيم الإدارة والعلاقات السليمة في الحكم والدولة، كما جاء في تشريع (حور ـ محب) على سبيل المثال(1). كذلك لم يغفل الإغريق اهتمامهم بمشكلة الفساد فقد حدد (سولون)(2) في تشريعاته التي أطلق عليها قانون (اتيكا) قواعد لإرشاد موظفي الدولة وضبط عملهم الإداري. وسعى لإدخال المثل الأعلى للمساواة الاجتماعية في بلاد مزقتها نزاعات الأغنياء والفقراء وقد سن تشريعاته إيماناً منه بتكريس سيادة القانون للحد من مظاهر الفساد التي بدت في ترف الأغنياء وبذخهم المثير للأحقاد(3).
وبعد ذلك كله لا بد من لمحة تاريخية نتطرق فيها إلى الصينيين القدماء حيث نرى أن تراث الفكر السياسي لدى (كونفوشيوس) قد شخص ظاهرة الفساد، ففي كتابه (التعليم الأكبر) يرد أسباب الحروب إلى فساد الحكم والذي مرده إلى فساد الأسر وإغفال الأشخاص تقويم نفوسهم، أما في كتابه (عقيدة الوسط) فهو يرى أن الحكم لا يصلح إلا بالأشخاص الصالحين والوزارة الصالحة التي توزع الثروة بين الناس على أوسع نطاق، وهو يشير لأخطار الفساد عندما يتطرق إلى القول إن تركيز الثروة يؤدي إلى تشتت الشعب(4).
__________
(1) فاروق سعد (المحامي)/ تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده/ بغداد/ مطبعة الانتصار/ 1988/ ص ص 210-214.
(2) سولون: أحد الحكماء السبعة عند الإغريق والذي نجد لديه بدايات المدينة الفاضلة التي نادى بها أفلاطون.
(3) م. ن.
(4) م. ن./ ص ص 216-217.(1/8)
جدير بالذكر أن أفلاطون في كتابه (الجمهورية) (والذي جاء بعد سولون، وكونفوشيوس، بفترة لاحقة) تطرق لظاهرة الفساد من خلال مناقشته لمشكلة (العدالة) الفردية والجماعية. حيث أشار إلى أن اللجوء إلى العدالة يستبعد مسألة المنفعة أو المصلحة والتي هي الأساس في ظهور الفساد واستفحاله، كما أنه ومن خلال معالجته للصيرورة السياسية للحكومات والتي هي في نظره صيرورة حتمية ودقيقة يرى فيها أن الحكومة تنتقل من (الأرستقراطية) إلى (التيموقراطية) ثم (الأوليغارشية) فـ (الديمقراطية) لكي تنتهي (بالاستبدادية) يحدد ويتهم (التيموقراطية) (Timo cratic) بأنها تستغل الفرصة لتقاسم الثروات واضطهاد من كلفوا بحمايتها. وفي ذلك تشخيص ضمني لمظهر من مظاهر الفساد في ذلك الوقت. حيث إنه يفلسف الحب المتزايد للثروة التي منشؤها السلطة والبحث عن المجد والمطامح ويعده سبباً من أسباب انتقال السلطة بين صور صيرورتها، وفي رأيه أن صاحب الثروة هو السيد المطاع والفقير هو الحقير المرتذل(1).
أما على صعيد كتابة (القوانين)(2) فنراه يحارب الفساد في جميع صوره، فهو يحارب الفساد الديني ويحث على الوحدة الأخلاقية لحاضرته المؤلفة من (خمسة آلاف وأربعين مواطناً) ونراه أيضاً يحاول الحد من الفساد الاقتصادي والإداري بحيث لم يسمح للملاّك بزيادة أموالهم إلا ضمن حد معين، وعزل الحاضرة عن البحر لتفادي تعاطي التجارة، وإقرار إنشاء هيئة موظفين واجبها مراقبة تصرفات المواطن(3).
__________
(1) جان توشار/ تاريخ الفكر السياسي/ د. علي مقلد (مترجم)/ بيروت/ العالمية للطباعة/ 1981/
ص31.
(2) كتاب القوانين هو نتاج شيخوخة أفلاطون.
(3) م. ن./ ص ص 35-37.(1/9)
وبانتقاله من أفكار (أفلاطون) إلى أفكار (أرسطو) نرى أنه شخّص الفساد السياسي من خلال تصنيفه للدساتير، حيث درس مع تلامذته (مئة وثمانية وخمسين) دستوراً لمدن وحواضر مختلفة، فقد درس (الحق العرفي) لدى البرابرة، وقوانين (سولون)، ومطالب الحواضر الإغريقية، ولذلك ضمّن كتابه (الأخلاقيات) (اتيك أنيكوماك) التأكيد على دراسة الدساتير ليلاحظ العناصر التي تحافظ على الحواضر، فضلاً عن العوامل التي تدمرها(1). فهو من خلال معالجاته يصنف المدينة التي يغويها هدف فاسد بأنها مدينة فاسدة، بل قد تفشل في أن تكون دولة على الإطلاق. في حين يرى أنّ الدولة الصالحة هي التي لا تكتفي بطلب الخير لها فحسب بل تطلب الخير العام، ويحدد ذلك بأن الحكم السليم لا يقوم على مجرد طلب الخير ما لم يكن الخير عاماً ومشتركاً بين جميع المواطنين(2).
إن أرسطو لم يكن مؤمناً بالحكم المطلق مهما كانت صفة الحاكم حتى لو كان فيلسوفاً، لذا نراه يشخّص ظاهرة الفساد لدى ذكره أنواعاً للحكم ثلاثة تتضمنها الدساتير بحسب عدد الحكام(3) والتي لكل منها شكله الفاسد، على أن الضابط لديه الذي يفرق بين الصالح والفاسد هو أنّ الدساتير الصالحة تمارس الحكم لصالح المحكومين والفاسدة تمارس الحكم لصالح أولئك الفاسدين(4).
بعد ذلك، وإذا ما انتقلنا من الإغريق إلى عهود المسيحية نجد أنّ نصوص (الكتاب المقدس) عالجت ظاهرة الفساد أيضاً، فهذه رسالة بولس الرسول الأول إلى أهل كورنثوس تورد ما نصه:
((لا تضلوا: المعاشرة السيئة تفسد الأخلاق الحسنة))(5).
__________
(1) م. ن./ ص37.
(2) د. عصام سليمان/ مدخل إلى علم السياسة/ بيروت/ دار النضال/ 1989/ ص37.
(3) الدستور الملكي، الأرستقراطي، والتيموقراطي وأشكالها الفاسدة التسلطي، الأوليغارشي، والديموقراطي.
(4) جان توشار/ تاريخ الفكر السياسي/ م س ذ/ ص38.
(5) الكتاب المقدس/ الإصحاح (15)/ الآية (33).(1/10)
والذي فيه دلالة على اهتمام المسيحية بالخلق القويم الذي يؤدي إلى تكوين مجتمع خال من الضلالة والعشرة السيئة اللتين ينجم عنهما الكثير من المفاسد.
كذلك نلحظ أن (الكتاب المقدس) يورد في نص آخر حب المال هو إصابة لأوجاع كثيرة وفيه تحديد للوقاية من الفساد بشكل غير صريح وهو ما نراه في النص الآتي:
((فحب المال أصل كل شر، وبعض الناس استسلموا إليه فضلّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة))(1).
إن نصوص المسيحية السالفة الذكر جاءت لتشخيص ثقل ظاهرة الفساد على الناس من خلال معالجات تبغي الرسالة السماوية من ورائها تقويم المجتمع وحثه على الطريق القويم الذي فيه النجاة من الإثم(2).
كل ما أشرنا إليه عرّف الفساد ودرس الظاهرة، إلا أن ذروة سنام الأمر في المعرفة والمعالجة جاء خلال الأثر الإسلامي، وما جاءت به الرسالة المحمدية المطهرة، حيث نجد في (القرآن الكريم) تنبيهاً وإشارات لظاهرة الفساد بكل أبعادها وأشكالها، ذكرت في أكثر من خمسين موضعاً بين صفحاته الشريفة(3).
ولو عدنا إلى سورة الإسراء بمفردها لوجدنا الإبداع الرباني ينبه الناس إلى كل أشكال الفساد بالحث على تفاديه، فجاءت النصوص بوحي منزلها (سبحانه وتعالى) مشيرة للفساد والإصلاح (في الوقت نفسه) لتعطي درساً بليغاً ينبه للسلوك القويم.
على أن الدلالات تظهر ذلك في الآيات المطهرات الآتية:
لقوله تعالى:
__________
(1) الكتاب المقدس/ الإصحاح (10)/ الآية (10).
(2) انظر في ذلك: منير بعلبكي/ مصابيح التجربة/ بيروت/ دار العلم للملايين/ 1986/ ص39.
(3) لقد وردت الإشارات في السور الآتية من القرآن الكريم وهي: (البقرة)، (آل عمران)، (المائدة)، (الأعراف)، (الأنفال)، (يونس)، (هود)، (يوسف)، (الرعد)، (النحل)، (الإسراء)، (الكهف)، (الأنبياء)، (المؤمنون)، (الشعراء)، (النمل)، (القصص)، (العنكبوت)، (الروم)، (ص)، (غافر)، (محمد)، (الفجر).(1/11)
بسم الله الرحمن الرحيم { وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيل في الكِتاب لتُفسدنَّ في الأرضِ مَرَّتَيْن ولتعلُنَّ علوّاً كبيراً } صدق الله العظيم(1).
حيث نجد أن الفساد في الآية المذكورة إنما جاء بمعنى القتل وإزهاق الروح، ليبين كيف يكون الناس قد ساروا في طريق الفساد، فبني إسرائيل قتلوا (زكريا) (عليه السلام) ثم أتبعوه بـ (يحيى) (عليه السلام) نتيجة لفسادهم وتكذيبهم لما جاءت به الرسالات السماوية.
وقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { وإذا أرَدنا أن نُهلِكَ قَريَةً أمرْنا مُترَفِيها فَفَسَقوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا القَول فدَمرناهَا تَدْمِيراً } صدق الله العظيم(2).
الذي نرى فيه الإشارة لفساد الخلق والفساد الاجتماعي.
وكلذلك قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: { ولاتقربوا الزنى إنه فاحشة وساء سبيلا } . صدق الله العظيم(3)
والتي فيها علاج وتشخيص للمفاسد الاجتماعية والحث على تجنب فعلها.
كما أن الإيفاء بالعهود والمواثيق ورد الأمانات وأشكال الفساد الاقتصادي واستغلال النفوذ تجسدت الإشارة إليها في النصوص الآتية:
لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { وَلاَ تَقْرَبوا مَالَ اليَتيمِ إلا بالَتي هيَ أحْسَنْ حَتى يَبْلُغَ أَشُدَّه وأوْفُوا بالعَهدِ إنَّ العَهدَ كانَ مَسْئولاً } صدق الله العظيم(4).
الذي فيه الدفع لصيانة الأمانة والحفاظ عليها وهي جزء من أعمال المسؤولية في يومنا الحاضر.
أما الفساد الاقتصادي فنرى تشخيصه لقوله تعالى:
__________
(1) القرآن الكريم/ سورة الإسراء/ الآية (4).
(2) القرآن الكريم/ سورة الإسراء/ الآية (16).
(3) القرآن الكريم – سورة الإسراء الأية: (32).
(4) القرآن الكريم/ سورة الإسراء/ الآية (34).(1/12)
بسم الله الرحمن الرحيم { وَأَوفُوا الكَيلَ إذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيم ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأويلاً } صدق الله العظيم(1).
حيث أنّ أقوات الناس أمانة في رقاب المسؤولين عليها وإنقاصها أو العمد إلى غشها هو من باب عدم إيفاء الكيل والذي أكدت عليه الآية المذكورة.
كذلك نرى أن السورة المطهرة قد نبهت لشكل استغلال النفوذ والتعالي على الرعية لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { وَلاَ تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحَاً إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً } صدق الله العظيم(2).
كانت هذه إشارات تدل على عمق التوجيه الرباني في النصوص القرآنية للتنبيه للفساد وعلاجه وكيف أنه ظاهرة مقيتة لا يحبها الله (سبحانه وتعالى) ولا يرضاها لعباده الصالحين.
ومن الجدير بالقول أنه عند بزوغ فجر الإسلام انبرت تعاليمه تنفض غبار الذل عن الناس رافعة الظلم والحيف اللذين لحقا بالبشرية وتبدّى الأمر جلياً في سلوك الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وسنته المطهرة التي حضت على اقتلاع الفساد من جذوره وأحاديثه الشريفة حافلة بمثل هذه التوجيهات من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : [لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم](3).(4)
__________
(1) القرآن الكريم/ سورة الإسراء/ الآية (35).
(2) القرآن الكريم/ سورة الإسراء/ الآية (37).
(3) رواه أبو داوود وأحمد والترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنهم) بسند صحيح.
(4) انظر/ الشيخ/ منصور علي ناصف/ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - / بيروت/ دار إحياء التراث العربي/ 1962/ الجزء 3/ ص56.(1/13)
كذلك يروى عن أبي حُميد (رضي الله عنه) قال استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني الأسد، يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمل على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة له خوار، أو شاة تبعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت، مرتين(1).
يضاف لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : [كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به] قيل وما السحت؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : [الرشوة في الحكم](2).
بعد ذلك وبانتقالنا من عصر صدر الإسلام إلى العصور الأخرى نلحظ أن الظاهرة استشرت في العصرين الأموي والعباسي حيث كان المال يبذل في العصر الأموي للجماعات والفرق المعارضة لضمان ولائها للأمويين، ولكي يحافظ الولاة الباذلين لذلك المال على مناصبهم.
__________
(1) المصدر نفسه/ ص54.
(2) نقلاً عن عبد العزيز عبد الله/ الرشوة/ عمان/ دار الوطن/ بلا تاريخ/ ص1.(1/14)
يذكر أيضاً تجلي ظاهرة الفساد (في العصور العباسية الأخيرة) بشكل واضح ومنتشر عند الخاطبين للمناصب الذين كانوا يسعون في الوساطات لدى القادة الأتراك ونساء القصور للوصول إلى مناصب الوزارة أو أية مناصب أخرى. ويبدو أن الفساد في هذا الأمر أثر على المراكز الوظيفية وأدى إلى حدوث موجة من الاضطراب الإداري الذي ينتهي بالخلل إلى جميع أركان الدولة حيث كان كل شخص يتولى منصبه الجديد (الخاطب له كما أشرنا) يسارع لإحاطة نفسه بحاشية موالية وحين يعزل تعزل حاشيته كلها(1) وهو أمر يزيد حالة الدولة سوءاً فيطغى الفساد وتتفشى الرشوة وتزداد المظالم.
إن الحوادث التي عرفت في العصرين المشار إليهما جعلت صاحب المقدمة (العلامة العربي ابن خلدون)، الذي جاء بفترة لاحقة يشخص ظواهر فساد أصحاب الدولة ووزرائهم والكتاب والشرطة، حيث يذكر أن الكثير من أصحاب الممالك والملك صار ينزع إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان، بما حصل في يديه من (مال الدولة)، والفرار إلى دولة ثانية لما يراه أنه أهنأ وأسلم في إنفاق ذلك المال والحصول على ثمرته، وهو يشير إلى أن في ذلك فساداً لأحوال البلاد والعباد ودنياهم(2).
ويذكر البعض أن ابن خلدون إذ يشخّص هذا التشخيص لظواهر الفساد فإنه يعزو ذلك إلى الطور الخامس من مراحل عمر الدولة حسب تصنيفه(3)،
__________
(1) د. قصي الحسين/ الفساد والسلطة/ بيروت/ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر/ 1997/ ص146.
(2) عبد الرحمن ابن خلدون/ المقدمة/ بيروت/ دار إحياء التراث العربي/ بلا تاريخ/ ص ص 283-285.
(3) مراحل عمر الدولة لديه: 1ـ النشوء على أنقاض دولة سابقة.
2ـ انفراد أصحاب الدولة بالحكم.
3ـ سيادة الراحة والطمأنينة.
4ـ تحول الراحة والطمأنينة إلى قناعة ومسالمة.
5ـ0 تحلل الدولة وزوالها.(1/15)
حيي يَكْثُرُ الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمعه السابقون في سبيل الشهوات والملاذ والإنفاق على بطانته، وبذلك يفسد كبار أوليائه ويخرب ما ابتناه أسلافه. وهذا الطور لا يؤدي إلا إلى انقراض الدولة حيث أن الانقراض يكون نتيجة للأزمة الاقتصادية التي تحل لنقص الأموال والحاجة إليها من قبل صاحب السلطان التي تجبره على السلوك الإكراهي في زيادة الضرائب على الأكرة والفلاحين وسائر أهل البلاد مما يدعو الناس إلى التقاعس عن العمل (بسبب فساد السلطان) وبالتالي تتفاقم الأزمة وتدخل الدولة في مرحلة الاضمحلال(1).
بعد هذه النظرة في تشخيص الفساد وأشكاله في العهود السالفة، وكذلك ما أشار إليه الأثر الإسلامي قرآناً وحديثاً وممارسة للسلطة وفكراً سياسياً اجتماعياً ولكون الدراسة تمتاز بكونها من النوع المقارن، فلا بد من إثراء البعد التاريخي بأمثلة من دول الشمال تسلط الضوء على الظاهرة، وسيكون التركيز في هذا المجال على الأنموذجين الإنكليزي والأميركي كأشكال للفساد في العصر الحديث.
ففي إنكلترا، إبان حكم ملوك (آل ستيوارت) وتحديداً عام (1660) للميلاد ظهر استخدام آلية (الفساد) للتأثير على أعضاء البرلمان من قبل الملك أو المعارضة ليحقق كل طرف غايته المنشودة وتحقيق مكاسبه بضم أصوات أولئك الأعضاء لجانبه، حتى أن البعض يذكر استمرار هذا الأسلوب لمراحل متأخرة من القرن التاسع عشر.
__________
(1) انظر في ذلك/ د. قصي الحسين/ م س ذ/ ص183.(1/16)
جدير بالذكر أن العديد من المصادر تشير إلى أن الفساد كان منتشراً في إنكلترا وإيرلندا بحيث أن مظهر شراء المناصب أصبح معروفاً في تلك البلاد وخصوصاً في القرن الثامن عشر لتولي وظائف في البحرية والجيش وإشغال أغلب مقاعد البرلمان من قبل أصحاب الأراضي المتنفذين، مما أثار حفيظة العديد من رجال المجتمع الإنكليزي التي نجم عنها مهاجمتهم لهذه الأساليب الفاسدة عام (1782)(1). وبانتقالها من الأنموذج الإنكليزي وصعيده إلى صعيد الأنموذج الأميركي (الولايات المتحدة الأميركية حصراً) نلاحظ مساهمة عوامل كثيرة في ازدياد الفساد في هذا البلد، فللنمو السريع والمجتمع المتحرك الذي يركز على الفردية والنجاح المادي أثر في ذلك. وتتحدث المصادر عن أنه خلال عهد الرئيس (كرانت Grant)(2) كانت مظاهر للفساد تعاني منها الحكومة الوطنية، فهنالك فضائح الكمارك، والعوائد المالية، وحيل الاستيلاء على الأراضي، وبروز فئة من الصناعيين ومهندسي السكك الحديد تستخدم الفساد لتمرير مصالحها، فضلاً عن تمرير أعضاء الكونغرس لمصالحهم الخاصة عن طريق المنفذ التشريعي، (التي هي مؤشرات لمدى استفحال الظاهرة آنذاك)(3).
__________
(1) David M. chalmers/ Corruption/ University of Florida/ Encyclopedia Americana corporation/ volume (23)/ 1980/ p. 22.
(2) كرانت. يوليوس سمبسون Grant. Ulysses Simpson) (1822-1885) الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة الأميركية حكم ما بين (1869-1877).
(3) Ibid/ p. 22.(1/17)
إن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية اللاحق يحدثنا عن الكثير من فضائح الفساد. فهنالك الفضائح الخاصة بالمساهمات المالية في الحملات الانتخابية التي ازدادت إلى الحد الذي جعل الحكومة تحدد الحدود القصوى لتلك المساهمات عام 1925، ثم لتتبعه عام 1972 بقانون يتطلب أن يكشف فيه المرشحون الفيدراليون بصورة كاملة عن عوائد حملاتهم ومصاريفهم في خطوة منها للحد من هذا السبيل الذي يفضي لازدياد الفساد في ذلك البلد. من الجدير بالذكر أن القانون المذكور تزامن مع فضيحة (وترغيت) التي أجبرت آثارها الرئيس (نيكسون Nixon)(1) على التخلي عن منصبه كرئيس للإدارة الأميركية بعد كشف النقاب عن قيامه بتجسس سياسي ضد معارضيه وقيامه بإخفاء مساهمات كبيرة ضخمة وغير شرعية قادمة من شركات وجمعيات عدة كان من المفروض عليه الإفصاح عنها، يضاف لهذا أيضاً وفي نطاق فساد القمة في الولايات المتحدة أن (سبيرو اكنيو) (نائب نيكسون) بعيداً عن فضيحة (وترغيت) استقال عام 1973 بعد التماس تقدم به بعدم إخضاعه للشهادة بسبب تهمة تهربه من ضريبة الدخل(2). (الذي جاء بدليل جديد على اتساع حجم الفساد في الحقبة المذكورة).
مما تقدم نخلص إلى أن أثر الفساد قديم قدم التاريخ حيث عرفه الإنسان منذ بداية الخليقة، ولا زال يكتشف في كل يوم شكل جديد ونوع جديد منه، ساهمت تعقيدات الحياة في زيادته وتعدد صوره التي تلقي بظلالها السيئة على المجتمعات.
2ـ بُعْدُ المفهوم
الفساد Corruption:
مفردة تناولها العديد من كتاب الأدب والتاريخ والسياسة، ووردت في الكتب السماوية لتنبيه الناس وتوعيتهم إلى جلل المصاب بهذه الظاهرة.
لهذا تعددت المشارب واختلفت التفسيرات في معناها، وسنعرض فيما يأتي لمفهوم هذه المفردة:
__________
(1) ريتشارد نيكسون. Richard Nixon الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة الأميركية تولى الرئاسة عام 1969 واستقال منها بسبب فضيحة وترغيت.
(2) Ibid.(1/18)
ففي اللغة/ يقال (فَسَدَ) الشيء، (يَفسُدُ) بالضم (فساداً) فهو (فاسد) و(أفسده ففسد) والمفسدة هي ضد المصلحة(1).
والفساد: يعني أخذ المال ظلماً، أو يعني التلف والعطب ويراد به لغوياً الجدب والقحط، ويراد بالمفردة أيضاً معنى التحلل العضوي للمادة بتحلل الجراثيم (كتفسير علمي صرف)(2).
كذلك فالتفسير لمعنى كلمة (Corruption) الإنكليزية يعني:
السبب في التغيير من الصالح إلى السيئ.
(Cause to change from good to bad)
أو بكلمة واحدة تعني المفردة:
مضاد النزاهة Dishonest، أو الأذى Wicked، أو السوء Bad.
وتعني كذلك:
تعفن الجثة بعد الموت.
(The corruption of the body after death) (3)
أو تعني أيضاً (على حد ذكر مصادر أخرى):
الفساد والإفساد، أو التعفن، أو العمل القابل للرشوة.
في حين أن كلمة (Venality) الإنكليزية تعني أيضاً:
(الفساد القابل للرشوة)(4).
بعد ذلك إذا ما انتقلنا من تفسيرات المراجع للمفردة إلى معناها الوارد في (القرآن الكريم) لأصبحنا أمام العديد من التفسيرات التي من الصعب استحضارها جميعاً، لذلك ولمتطلبات البحث سنتناول بعض آراء المفسرين لمعنى مفردة (الفساد) طبقاً للآيات الكريمة التي سنوردها ومن خلالها نحاول إعطاء المعنى من زاوية الرؤية الإسلامية التفسيرية للمفردة:
__________
(1) محمد بن أبي بكر الرازي/ مختار الصحاح/ الكويت/ دار الرسالة/ 1983/ ص503.
(2) د. خليل الجر/ المعجم العربي الحديث/ باريس/ مكتب لاروس/ 1973/ ص907.
(3) Virginia french allen & others/ long man, dictionary of American English/ n.y./ long man inc/ 1983 / p.155.
(4) انظر: منير بعلبكي/ قاموس المورد 86/ بيروت/ دار العلم للملايين/ ص1026.(1/19)
فشرح غريب(1) يفسر المفردة على أنها تعني (الخلل والخراب) لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { ظَهَرَ الفَسَادُ في البَر والبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيْدي النَاس ليُذِيقَهُم بَعْض الذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرْجِعُون } صدق الله العظيم(2).
أو أنها تعني (المعاصي) لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { فَأَكْثَروا فِيهَا الفَسَاد } صدق الله العظيم(3).
في حين أن ابن كثير يفسر المفردة لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { ظَهَرَ الفَسَادُ في البَر والبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيْدي الناس ليُذِيقَهُم بَعْض الذي عَمِلوا لَعَلّهُم يَرْجِعُون } صدق الله العظيم(4).
على أنه (انقطاع المطر والقحط) فانقطاع المطر عن البر يعقبه القحط وعن البحر يعني هلاك مخلوقاته.
أو أنه (القتل واغتصاب المال) لرواية محمد بن عبد الله بن يزيد عن مجاهد هو (ظَهَرَ الفَسَادُ في البَر) أي قتل ابن آدم و(البَحْر) أي أخذ السفينة غصباً.
أو أنه (العصيان لطاعة الله) لرواية (أبو العالية): من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض لأنه صلاح الأرض والسماء بالطاعة(5).
__________
(1) صخر (العالمية للحاسبات)/ برنامج القرآن الكريم (شرح غريب)/ المملكة العربية السعودية/ بلا تاريخ/ قرص ليزري مدمج CD.
(2) القرآن الكريم/ سورة الروم/ الآية (41).
(3) القرآن الكريم/ سورة الفجر/ الآية (12).
(4) القرآن الكريم/ سورة الروم/ الآية (41).
(5) انظر/ تفسير ابن كثير/ الإمام أبي الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي/ تفسير ابن كثير (ج/3)/ بيروت/ دار المفيد/ الطبعة الأولى/ 1987/ ص436.(1/20)
جدير بالذكر أن المفردة وردت في مواضع كثيرة بمعناها الصريح أو بالمعاني المقاربة في المصحف الشريف، وكذلك في الكتب السماوية للديانات الأخرى، إلا أننا لسنا هنا في معرض الإشارة لها جميعاً بل إن الغاية المرتجاة في هذا الموضع من بحثنا هو الإشارة لها فحسب لبيان البعض منها التي تقارب معانيها مغزى دراستنا هذه.
بعد التطرق للمفاهيم العمومية لمفردة (الفساد) لا بد من انتقالة إلى الخاص المبتغى من معاني الفساد، حيث أن المفردة بدأت تنتشر وتفهم مع تفاقم حالة سوء الإدارة، واستغلال المال العام واستغلال النفوذ تحقيقاً للنفع الخاص. ومن حيث انتهينا بالعموميات سنبدأ بالمعاني الخاصة.
فالقرآن الكريم في المعاني المقاربة لكلمة الفساد أكد على الشديد منها فجاءت مفردة (العثو) لتعبر عن أشد أنواع الفساد لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } صدق الله العظيم(1).
وللأثر الإسلامي مفردات مقاربة تدل على المعاني المتخصصة المقاربة لمفردة الفساد، كمفردة (السحت) ومفردة (الرشوة)(2) فالأولى تعني معنى الثانية، والثانية يراد بها أشد أنواع أكل الأموال بالباطل (لأنها دفع المال إلى الغير لقصد إحالته عن الحق) وقد شمل التحريم فيها أركان صنعها الثلاثة:
(الراشي) مقدم الرشوة، (المرتشي) آخذ الرشوة، (الرائش) الوسيط بين الاثنين. لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [لعن الله الراشي والمرتشي والرائش](3) الذي سبق وأن أشرنا إليه.
__________
(1) القرآن الكريم/ سورة البقرة/ الآية (60).
(2) انظر: الفصل الأول/ 1/ ص21.
(3) انظر/ عبد العزيز عبد الله/ الرشوة/ م س ذ/ ص3.(1/21)
إن تقادم الزمن أعطى لمفردة (الفساد) الكثير من (المرادفات) لعل مفردة (البرطلة) واحدة منها والتي تعطي معنى تخصيصياً للفساد، أخذ به الكثير من علماء المسلمين والعرب فهذا العلامة (المقريزي) يعرف مفردة (البرطلة) (على أنها الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد ومحتسبيها وقضاتها وعمالها بالقهر والظلم)(1). (أي بمعنى ما يأخذه الولاة وبقية المذكورين في التعريف من عامة الناس) وفي تعريفه قرابة من معنى الفساد في عالم اليوم وخصوصاً التفسيرات التي تنطلق من وجهة نظر إسلامية.
حيث يعرف الفساد على أنه (قبول صاحب السلطان مالاً أو هدية ذات قيمة مالية (رشوة) مقابل أداء عمل هو ملزم بأدائه رسمياً بالمجان أو ممنوع من أدائه رسمياً، أو هو قيام الموظف الرسمي بممارسة سلطاته التقديرية بطريقة غير مشروعة يشتمّ منها رائحة استغلال المنصب الإداري أو سوء استخدام السلطة الرسمية وترجيح المصلحة الشخصية على المصلحة العامة)(2).
ويرى آخرون أن مفردة (الفساد) تعرف على أنها (علاقة تعاقدية غير مشروعة بين فاعلين يقع فعلهما تحت طائلة القانون، وهما (الفسَّاد) و(المفسُود) حيث أن الأخير هو كل شخص يحوز سلطة ويستعملها استعمالاً احتيالياً، و(الفاسد) هو كل من يحوز وسيلة مادية لشراء تلك السلطة، أو بالأحرى شراء قرار بعينه يمكن أن يصدر عن تلك السلطة)(3).
أما (صموئيل هانتنغتون Huntington)(4) فيذهب في تعريفه لمفردة (الفساد) على أنها:
(
__________
(1) د. قصي الحسين/ الفساد والسلطة/ م س ذ/ ص140.
(2) أ. أحمد إبراهيم أبو سن/ استخدام وسائل الترغيب والترهيب لمكافحة الفساد الإداري/ المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب/ السعودية/ المجلد ـ 11/ العدد ـ 31/ محرم 1417هـ/ص91.
(3) جورج طرابيشي/ ثنائي الديمقراطية والفساد/ صحيفة الحياة/ العدد 13273/ 11 تموز 1999/ ص20.
(4) صموئيل هانتنغتون/ كاتب أميركي صاحب كتاب (صدام الحضارات).(1/22)
سلوك الموظفين الحكوميين الذين ينحرفون عن القواعد المقبولة لخدمة أهداف خاصة)(1).
في حين أن (الشفافية الدولية Transparency International)(2) تعرّف (الفساد) على أنه:
(سوء استخدام السلطة العامة لربح أو منفعة خاصة)
أو أنه:
(عمل ضد الوظيفة العامة التي هي ثقة عامة)(3).
على أن (أ. د. محمود عبد الفضيل)(4) يذهب إلى تعريف المفردة بتقسيمها إلى نوعين:
1. الفساد الصغير: ويشمل: آلية دفع الرشوة والعمولة، وآلية وضع اليد على المال العام والحصول على مواقع للأقارب.
2. الفساد الكبير: ويشمل: صفقات السلاح والتوكيلات التجارية للشركات متعددة الجنسية)(5).
مستنداً في تقسيمه أعلاه إلى تعريف البنك الدولي للمفردة على أنها:
(استعمال الوظيفة العامة للكسب الشخصي)(6).
يذكر أنه لصندوق النقد الدولي (IMF) مفهومه الخاص (للفساد) الذي يرى فيه:
(علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف باستنتاج الفوائد من هذا السلوك، لشخص واحد، أو لمجموعة ذات علاقة من الأفراد)(7).
__________
(1) صموئيل هانتنغتون/ النظام السياسي لمجتمعات متغيرة/ سمية فلو (مترجمة)/ بيروت/ دار الساقي/ 1993/ ص77.
(2) منظمة دولية غير حكومية تناهض الفساد.
(3) Gerard Carney/ Conflict of Interest/ Ti working paper/ Berlin/ 1998/ p.1.
(4) أستاذ/ ورئيس قسم الاقتصاد/ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة/ أحد الاقتصاديين العرب المعروفين ومن الذين يهتمون بقضايا الفساد.
(5) أ. د. محمود عبد الفضيل/ الفساد وتداعياته في الوطن العربي/ المستقبل العربي/ العدد 243/ مايس 99/ ص ص 4-5.
(6) البنك الدولي للإنشاء والتعمير/ تقرير عن التنمية في العالم (1997)/ الحد من الفساد والتفرقات التحكيمية للدولة/ مركز الأهرام للترجمة والنشر (مترجماً)/ القاهرة/ 1997/ ص112.
(7) IMF/ Corruption Around the World/ Washington/ IMF Working Paper/ 1998/ p. 8.(1/23)
مما تقدم نخلص إلى حقيقة مفادها:
أنَّ الفساد ظاهرة عرفت تفسيرها معاجم اللغة والكتب السماوية وآراء المتخصصين، فهي تعني تحول الشيء من حالته الطبيعية المقبولة إلى حالة متفسخة غير مقبولة.
إنها استغلال فرد أو (مجموعة أفراد) ذوي منصب حكومي لوضعهم الوظيفي للحصول من ورائه على مردود يكون (مادياً، أو معنوياً) بقبول رشوة أو بتهيئة منصب لمحاسيبهم.
إنه ببساطة إساءة للثقة العامة واعتداء على النزاهة التي ترجى في الموظف العام، فهو النخر في جسد المجتمع الذي يفضي إلى تهتكه وسقوط القيم الأخلاقية فيه، الناجمة عن تفكيك وسائل السيطرة للنظم السياسية الفاقدة للمصداقية في ممارستها، المتجاوزة عن استغلال الحق العام للنفع الخاص.
((
الفصل الثاني
الإصلاح REFORM
1ـ البعد التاريخي للإصلاح
لاحظنا فيما سلف عند معالجة البعد التاريخي للفساد، أن الظاهرة عرفت منذ الأزل ومستمرة حتى يومنا الحاضر. وبغية إيجاد العلاج الناجح للخلاص من الأثر السلبي للظاهرة المذكورة عرف الإصلاح منذ القدم على وجه البسيطة أيضاً.
حتى أن التاريخ يحدثنا بأن الإصلاح ظهر مع ظهور أولى حالات الفساد في الأرض، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، وحيرته في أمر أخيه المقتول الذي يحمل جثته، حيث أرسل رب العزة (سبحانه وتعالى) (في درس إصلاحي للبشرية) غراباً لمواراة سوءة غراب آخر ميت، لكي يتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه (تعفن جثته وفسادها).
وعندما سأل قابيل نفسه السؤال المحير عن عجزه عن مواراة (سوءة أخيه)، برزت إلى حيز المعرفة الإنسانية ظاهرة (الإصلاح) كمعاكس للفعل الفاسد الذي أتت به يد ابن آدم هذا.
كما جاءت به الآيات البينات لقوله تعالى:(1/24)
بسم الله الرحمن الرحيم { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين } صدق الله العظيم(1).
فضلاً عما تقدم يحدثنا التاريخ أيضاً، أن السلالات السومرية (في أرض العراق) عرفت شكل الإصلاح، حيث عثر المنقبون في آثار (مملكة أشنونة) على رقم طينية (لم يتم التعرف على مشرعها) فيها الكثير من نواحي الإصلاح، كتحديد أسعار المواد، وتحديد أسعار العبيد، بالإضافة إلى قوانين عدة تنظم الحياة الاجتماعية.
بعد ذلك ومع تطور شكل الدولة ومعرفة القوانين يذكر لنا التاريخ بأن أهم إصلاحي عرفه (عند فجره) هو العراقي سادس ملوك سلالة بابل الأولى (حمو ـ رابي) الذي سن قانوناً موحداً للبلاد في مسلته الشهيرة مضمناً إياه العديد من المناحي الإصلاحية كمعالجة الاتهام بالباطل وشهادة الزور، وتغيير القاضي حكمه بعد إصداره، ومواد خاصة بالأموال والسرقات، بالإضافة إلى الأحوال الشخصية وتوجيه المجتمع ضد الفساد الاجتماعي(2).
جدير بالذكر وضمن ما يعرف اليوم بالشروط السياسية لمكافحة الفساد (كالمساءلة) و(حسن الحكم) عالج (حمو ـ رابي) كثيراً من المشكلات، حيث أولى (مساءلة) القضاة أهمية بالغة وعمل على مكافحة الرشوة في أوساطهم وكان يضرب بشدة على أيدي المتجاوزين، هذا فضلاً عن إجبار تشريعاته بعض حكامه على رد حقوق الآخرين، التي بها يكون قد أثبت مبدأ (حسن الحكم) المعروف في عالم اليوم(3).
__________
(1) القرآن الكريم/ سورة المائدة. الآيات (30-31).
(2) د. تقي الدباغ/ العراق في التاريخ/ بغداد/ دار الحرية للطباعة/ 1983/ ص ص 87-185.
(3) المصدر نفسه.(1/25)
وبانتقالة من حضارة وادي الرافدين إلى الإغريق يظهر لدينا أنهم عرفوا ظاهرة الإصلاح أيضاً على صعيد ممارستهم السياسية فهذا (سولون) الذي سبقت الإشارة إليه وفي نطاق الإصلاح نراه قد صاغ مبدأ يدعى (حق الجماعة) فيه أن أي جماعة لها عبادة مشتركة (أي مبدأ ما) لها أن تضع لنفسها قوانين تعترف دولته بصلاحيتها وشرعيتها. فكانت هذه الجماعات وطبقاً للمبدأ والحق المذكور هي النواة لما يعرف اليوم بالأحزاب، النقابات، والجمعيات(1).
جدير بالذكر أن بروز الأديان أشار إلى ظهور الإصلاح في الأرض بعد فسادها، لهذا نلحظ أن سيدنا موسى (عليه السلام) ما جاء إلا ليصلح فرعون الذي ادعى الألوهية لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد } صدق الله العظيم(2).
وعلى نفس السبيل جاءت رسالة سيدنا عيسى (عليه السلام) لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسراءيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظلمين من أنصار } صدق الله العظيم(3).
حيث نرى من الآية دعوة سيدنا المسيح (عليه السلام) الإصلاحية لبني إسرائيل لعبادة ربهم والسير في جادة الصواب.
يضاف لذلك أن المسيحية كانت تحذر وتحث على الإصلاح لهذا نرى أن (الكتاب المقدس) يحدثنا ما نصه:
((لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يتبع أحدهما وينبذ الآخر، فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال))(4).
__________
(1) انظر في ذلك: د. طه حسين/ نظام الاثنين/ القاهرة/ دار المعارف/ 1921/ ص 51-65.
(2) القرآن الكريم/ سورة الفجر/ الآيات (11-12).
(3) القرآن الكريم/ سورة المائدة/ الآية (72).
(4) اتحاد جمعيات الكتاب المقدس/ الكتاب المقدس/ الإصحاح السادس/ الآية (24)/ بيروت/ 1978.(1/26)
وفيه يظهر المعنى الإصلاحي بالحث على الارتقاء بالنفوس وخدمة (الله تعالى) أفضل من حب المال الذي لا يأتي من سبيل صالح عند حبه أكثر من المحبة لله تعالى.
أما الرسالة المحمدية المطهرة فقد جعلت الإصلاح مبدأً رئيسياً من مبادئها شأنها شأن سائر الأديان السماوية التي سبقتها في تقويم السلوك الإنساني ونشر عقيدة الطاعة لله وحده لا شريك له، ونبذ كل شكل من أشكال الفساد في الأرض وجعل العمل الصالح منهاجاً للحياة. لهذا نلحظ في النص القرآني الوارد في سورة الأعراف لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين } صدق الله العظيم(1).
النهي الرباني عن أعمال وأشكال الفساد كافة حيث فيها النهي عن:
فساد عقيدة المؤمن.
وفساد الملك على الرعية.
وفساد الرعية نفسها.
(أي أن الخليقة والأرض أنشأها الله على الفطرة الصالحة التي لا يمكن أن تشوه بإفسادها وقد جعلها الله سبحانه وتعالى على الوجه الملائم لمنافع الخلق)(2).
كذلك في موضع آخر ورد مفهوم الإصلاح للإرشاد والتقويم والهداية عن القيام بأعمال الفساد لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { وإلى مدين أخاهم شعيباً قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنون، ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عقبة
المفسدين } صدق الله العظيم(3).
__________
(1) القرآن الكريم/ سورة الأعراف/ الآية (56).
(2) الشيخ عبد الكريم محمد المدرس/ مواهب الرحمن في تفسير القرآن/ المجلد ـ 3/ بغداد/ دار الحرية للطباعة/ 1992/ ص372.
(3) سورة الأعراف/ الآيات (85-86).(1/27)
حيث نرى وعلى لسان نبي هو سيدنا شعيب (عليه السلام) كيف توضح الآيات الكريمة سبل الإصلاح للناس، وسيدنا شعيب (عليه السلام) كان يوصف بأنه كثير المراجعة لقومه فيما فسد من أحوالهم وعمله على تقويمها وإصلاحها لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
[إن شعيباً ذاك خطيب الأنبياء عليهم السلام لحسن مراجعة قومه]
حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر قومه بتوحيد الله والالتزام بذلك (كما توضحه بداية الآية 85 أعلاه من سورة الأعراف) وهذا إصلاح لما فسد من عقيدة الإيمان بالإشراك والكفر، ثم ليربط الإصلاح (التوحيدي) بإصلاح المجتمع من فساد المعاملات، وهنا نجد بوادر الإصلاح الاقتصادي في الحث على عدم بخس الناس أشياءهم وعدم التطفيف في الكيل وكذلك عدم الإفساد في الأرض بالجور، والعدول عن نهج العدالة القويم في الأمور كلها بعد أن أصلحها الله بقدرته.
بعد ذلك نرى الآية التالية (الآية 86 من سورة الأعراف) تحث على إصلاح وضع فاسد يدل على عظم جريمة قطع الطريق وإرهاب الخلق وسلبهم أموالهم لما لذلك من أثر سيئ على العباد من ارتفاع أسعار البضائع، وسلب الحقوق. ثم لتنحو الآية منحى آخر في الحث على الإصلاح لترشيد الناس إلى عدم الصد عن سبيل الله أو منع من آمن بالله بالسعي في وجوه الخير التي تتضمن تكافل المجتمع، لتنتقل بعد ذلك الآية لتذكر الناس بفعل الفساد بأهله وكيف كانت عاقبتهم السيئة(1).
__________
(1) الشيخ عبد الكريم محمد المدرس/ مواهب الرحمن في تفسير القرآن/ م س ذ ص388.(1/28)
مما تقدم نرى القدرة الإلهية قد جمعت في آيتين فقط كثيراً من نواحي الإصلاح التي يحث الله تعالى الناس عليها لإصلاح أمرهم وتيسير حالهم(1).
وضمن سياق نظرة الإسلام إلى الإصلاح لا بد للباحث ولإغناء الموضوع من التطرق إلى آثار الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) في ذلك.
فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قال:
[إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا)(2).(3)
__________
(1) نرى مما ورد أن القرآن الكريم عالج الإصلاح في كل وجوهه اجتماعياً (دينياً)، اقتصادياً، إدارياً بل وحتى الإصلاح السياسي. وفي مواضع عدة سواء أكان ذلك بما استشهدنا به أو في سور أخرى من سور (القرآن الكريم). لقد وجدت الدراسة أن (القرآن الكريم) يحوي بين صفحاته المطهرة وعلى مستوى جذر كلمة الإصلاح (صلح) ذكر له في أكثر من (مئة وسبعين موضعاً) ذكرت فيها عبارات الصالحين، الصالحات، العمل الصالح،... إلخ. وذلك في السور الشريفة الآتية: (البقرة)، (آل عمران)، (النساء)، (المائدة)، (الأنعام)، (الأعراف)، (الأنفال)، (التوبة)، (يونس)، (هود)، (يوسف)، (الرعد)، (إبراهيم)، (النحل)، (الإسراء)، (الكهف)، (مريم)، (طه)، (الأنبياء)، (الحج)، (المؤمنون)، (النور)، (الفرقان)، (الشعراء)، (النحل)، (القصص)، (العنكبوت)، (الروم)، (لقمان)، (السجدة)، (الأحزاب)، (سبأ)، (فاطر)، (الصافات)، (ص)، (غافر)، (فصلت)، (الشورى)، (الجاثية)، (الأحقاف)، (محمد)، (الفتح)، (الحجرات)، (المنافقون)، (التغابن)، (الطلاق)، (التحريم)، (القلم)، (الجن)، (الانشقاق)، (البروج)، (التين)، (البينة)، (العصر)..
(2) رواه مسلم والنسائي.
(3) الشيخ منصور علي ناصف/ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول/ بيروت/ دار إحياء التراث العربي/ 1962/ ص50.(1/29)
الذي يستشف منه الحث على ضرورة صلاح الحكم في جميع مناحيه والقسط في ذلك.
جدير بالذكر أن بعض النظم السياسية اليوم تلزم أعضاء الحكومة والنواب فيها بتقديم كشف تفصيلي عن ممتلكاتهم قبل تولي المنصب وبعد تركهم له وهو أمر تناوله وعالجه الأثر الإسلامي منذ الصدر الأول لإصلاح حال العامل (الموظف المسؤول عن إدارة منطقة ما) لحديث رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ):
عن بريرة (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)(1).(2)
وهذا يعني أن للعامل أن يأخذ ما تحت يده مسكناً وخادماً لائقين به، وزوجة ما يلزمها إذا شاء فإن زاد فهو (غال) أي خائن، وهذا إذا لم يجعل له مال معين، وإلا فلا يجوز له أخذ شيء سواه لأنه أجره وقد رضي به.
__________
(1) المصدر نفسه/ ص52.
(2) رواه أبو داود والحاكم.(1/30)
لقد كانت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - البداية التي سار عليها من جاء ليحكم في النظام الإسلامي فيما بعد حيث نشهد (حسن الحكم) وحسن الإصلاح عند الخلفاء الراشدين المهديين، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه) عمل على إصلاح الدولة بإنشاء العديد من الدواوين التي تطور العمل بها في العهدين الأموي والعباسي فيما بعد(1).(2) فكان أن عمل الخليفة المهدي (ديوان الأزمّة) في العصر العباسي الذي يعنى (بالمساءلة) والتدقيق المالي والمحاسبي، وديوان (المظالم) الذي يعنى بشكاوى المواطنين ومظالم الولاة، يضاف إليهما أيضاً ديوان (الاستخراج) الذي كان يقوم على تتبع أخبار الوزراء والكتاب والحجاب والعمال المتهمين (بالمحسوبية والرشوة).
يتضح لنا مما تقدم أن هذه الدواوين تعنى بما يعرف اليوم بآلية (المساءلة) التي هي واحدة من ثلاثة شروط سياسية للإصلاح،(3) مضافاً إليها آلية الكشف عن المتهمين بالمحسوبية والرشوة والتي تعرف اليوم (بالشفافية).
أما النزاهة أو (حسن الحكم) كما يعرف اليوم فتتجلى ممارستها في اختيار (الكتاب) القائمين على هذه الدواوين الذين كان يشترط في قيامهم عليها إلمامهم بالعلم الديني والدنيوي وسرعة البديهة وتمتعهم بحسن الإدارة(4).
__________
(1) عبد الجبار عبد المصطفى/ الفكر السياسي الوسيط والحديث/ الموصل/ دار الكتب للطباعة/ 1982/ ص114-117.
(2) كان عند الأمويين دواوين مثل (الخراج)، (الرسائل)، (النفقات)، (الصدقات)، (الجند)، (البريد)، (الخاتم). وعند العباسيين ديوان (الأزمّة)، (المظالم)، (الصوافي)، (الموالي)، (الاستخراج)، (الخاصة).
(3) الشروط السياسية للإصلاح هي: ـ الشفافية، المساءلة، حسن الحكم.
(4) انظر/ أ. د. عبد العزيز الدوري/ النظم الإسلامية/ بغداد/ سلسلة بيت الحكمة جامعة بغداد/ 1988/ ص ص 146-158.(1/31)
بعد هذا الإيجاز ولإيلاء الجانب التاريخي الإحاطة العلمية لا بد من انتقالة إلى حركات الإصلاح التي انتشرت في أوربا.
لذلك نشير بداية للإيطالي (مكيافيللي) الذي نادى بفصل السياسة عن الدين انطلاقاً من مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) للحد من السلطة الدينية وإبراز السلطة الزمنية للحلول مكانها ضمن مسعاه الإصلاحي الذي يمثل أحد اتجاهين برزا في عصر النهضة(1).
أما الاتجاه الآخر فكان الاتجاه الديني الإصلاحي الذي رفض أن تكون الكنيسة وحدها وسيلة الوصول للسعادة الأبدية خصوصاً بعد تفشي روح الفساد في أوصالها (حيث اهتمام رجالاتها بالأراضي والممتلكات وبيع صكوك الغفران)، لذلك هاجمت الحركة الدينية الإصلاحية منحى الكنيسة في التملك والإثراء، داعية إلى أن الفرد يجب أن تكون علاقته بربه مباشرة دون أي وسيلة وأن يفسر الفرد الكتاب المقدس طبقاً لضميره. لهذا كله ظهرت أهمية بروز الحرية السياسية والحرية الدينية لدى الأفراد استجابة لتلك الأفكار(2).
__________
(1) انظر /فاروق سعد/ تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده/ م س ذ/ ص249.
(2) راجع في ذلك: عبد الجبار عبد مصطفى/ الفكر السياسي الوسيط والحديث/ م س ذ/ ص ص 61-64.(1/32)
إن الأفكار المشار إليها كانت لبنات أساسية عززتها لبنات مضافة أخرى جاءت لتصحيح الأوضاع وإحداث تطور في النظامين الاقتصادي والسياسي في أوربا. لهذا يرى البروفيسور (موريس دوفرجيه) أن بوادر الإصلاح ظهرت مع نشوء جمعيات (أي مجالس تمثيلية) كانت تجتمع بشكل عام لتقديم مساعدات مالية ثم ما لبثت أن طالبت الملكية بتسويغ طلباتها المالية، وراقبت الضرائب وجبايتها، وفي آخر المطاف ذهبت إلى التدقيق في الحسابات، ثم ارتقى مستوى عملها لتمارس الرقابة السياسية عبر صياغة شكاوى قبل منح المساعدات(1).
إن تلك الممارسات العملية الإصلاحية عززها بروز مبدأ (فصل السلطات) (Separation of Powers) الذي جاء به المفكر (مونتسكيو) أو بالأحرى تبلورت فكرته على يده،(2) الذي كان له الأثر في تحقيق مزايا التخصص ومنع إساءة استخدام السلطة (نزاهة الحكم ـ Good Governance) التي سوف تستغل إذا ما اجتمعت بوظائفها الثلاث (تشريع، تنفيذ، قضاء) في هيئة (يد) واحدة.
أي بعبارة أخرى لما كانت (السلطة مفسدة) فإن فصلها إلى مؤسسات متميزة لممارسة وظائفها المختلفة يصبح أمراً ضرورياً لصيانتها من التسلط.
__________
(1) موريس دوفرجيه/ المؤسسات السياسية والقانون الدستوري، الأنظمة السياسية الكبرى/ ترجمة جورج سعد/ بيروت/ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع/ 1992/ ص30.
(2) تشير الدراسات السياسية إلى أن نظرية (فصل السلطات) قال بها آخرون سبقوا (مونتسكيو) في الظهور منهم (أرسطو)، (شييشرون)، (مارسيليو)، (لوك).(1/33)
إن المبدأ المذكور يعطي حقاً شرعياً ومتساوياً لكل هيئة (تشريع، تنفيذ، قضاء) في ممارسة تخصصها في النظام السياسي مستنداً إلى فكرة (المراقبة والتدقيق Check and Balance) الذي يسمح بتدخل السلطات الثلاث بمهام بعضها البعض وبنسبة ترجع إلى شكل وطبيعة النظام السياسي القائم(1).
جدير بالذكر أن العملية الإصلاحية بعد ذلك استمرت بالتصاعد فمثلاً خلال القرن السابع عشر، نلحظ في أنكلترا أن البرلمان لم يعد ينتزع صلاحيات من الملك، بل إن الملك ونتيجة للتدرجية (التي أخذت فترة من الزمن) في تحديد صلاحياته قد استبدل بجهاز حكومي آخر يمتلك السلطة التنفيذية، مؤلف من رئيس للحكومة وأعضاء يترتب عليهم نيل ثقة البرلمان للبقاء في مناصبهم(2).
لقد استمرت وتيرة الإصلاح تلك بالتقدم خلال القرن الثامن عشر حيث شهد القرن المذكور إصدار ثلاث شرعات (Bills) في الأعوام (1832)،
(1867)، (1884-1885) على التوالي حيث تم توسعة قاعدة المنتخبين وإزالة عدم المساواة في التمثيل (البرلماني)، وكانت الشرعة الأخيرة قد خلقت المساواة في مناطق الانتخاب وإعطاء حق التصويت إلى أكبر عدد(3).
أما القرن العشرون فقد شهد اكتمال ذلك الإصلاح بزيادة أعداد الناخبين حيث أصبح الاقتراع عملياً لكل الرجال فوق الواحد والعشرين عاماً، والنساء فوق الثلاثين عاماً في عام 1918، ثم ما لبث أن أعطيت للنساء عام 1928 حقوق الاقتراع بنفس مواصفات الرجال العمرية(4).
__________
(1) د. حافظ علوان حمادي الدليمي/ النظم السياسية في أوربا الغربية والولايات المتحدة الأميركية/ بغداد/ مجموعة مذكرات في النظم السياسية غير منشورة/ 1991/ ص42.
(2) موريس دوفرجيه/ المؤسسات السياسية والقانون الدستوري/ م س 1/ ص21.
(3) David M. Chalmers/ Corruption/ Opcit. P. 316.
(4) J. Jean Hecht/ Encyclopedia international/ Philippines/ 1979/ p. 342.(1/34)
بقي أن نذكر أن الإصلاحات في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا كانت تسير بنمط آخر يستقي روحه من النظام الإنكليزي ولكن بصيغ وألوان أخرى. حيث تجدر الإشارة إلى أن آباء التأسيس الأوائل للولايات المتحدة الأميركية فسروا أفكار مونتسكيو عام (1748) ببرلمان يمنح سلطة تشريعية بوجه سلطان يجسد التنفيذ ولا تستطيع الجمعيات عزله.
وإذا ما انتقلنا من النظام السياسي للولايات المتحدة الأميركية إلى النظام السياسي الفرنسي نلحظ أن الإصلاح عرف في جميع مراحل تطور ذلك النظام وتحديداً منذ نشوب الثورة الفرنسية (برغم العديد من السلبيات التي شهدها). تجدر الإشارة إلى أن إعلان (حقوق الإنسان) كان خطوة إصلاحية جاء بها المنحى الإصلاحي للثورة المذكورة سار على هديه الكثير من النظم السياسية. لقد ظهر في مقدمة ذلك الإعلان الصادر عام (1789) المنحى الإصلاحي بشكل واضح وذلك طبقاً للنص الآتي:
"إن ممثلي الشعب الفرنسي المكونين للجمعية الوطنية لما كانوا يعتبرون جهل حقوق الإنسان، أو نسيانها أو ازدرائه، هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة، ولفساد الحكومات، فقد عقدوا العزم على عرض حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة والتي لا يمكن التنازل عنها".
الذي تزامن معه تحويل ملكية لويس السادس عشر المطلقة إلى ملكية يحدها البرلمان، في خطوة إصلاحية مهمة(1).
مما تقدم نكون قد عرضنا لبعد الإصلاح التاريخي بشكل موجز منذ عصور فجر التاريخ إلى العصر الحديث وتاريخنا المعاصر، بتوصيف أثر المنهج المقارن في الدراسة لتنتقل بعد ذلك لبيان بعد المفهوم لمفردة الإصلاح بعرض يغني المادة العلمية للبحث.
2ـ بعد المفهوم
__________
(1) موريس دوفرجيه/ المؤسسات السياسية والقانون الدستوري/ م س ذ/ ص ص 37-39.(1/35)
لقد بينا فيما سبق مفهوم ظاهرة الفساد وعرضنا لبعدها التاريخي بالإضافة إلى عرضنا للجانب التاريخي للإصلاح بهيئة توضح مبتغى غايتنا البحثية في هذا الفصل. وبغية إعطاء موضوع الإصلاح كل أبعاده واستكمالاً لغايتنا ولأغراض الإحاطة العلمية ببعد المفهوم وما يقاربه من مصطلحات نقول إن الإصلاح أخذ معاني ومفاهيم كثيرة تناولتها مراجع اللغة، والقواميس، والكتب التخصصية حتى بات عملاً تنادي به كل جهة تعاني من مشكلات في آلية عملها لتعطيه مفهوماً يختلف بعض الشيء عن مفهوم آخر له، لذلك أصبح هناك (إصلاح سياسي) و(إصلاح اقتصادي) وإداري واجتماعي وثقافي وصحي... إلخ.
وعندما نتناول مفهوم (الإصلاح Reform) بالتعريف لا بد من استخدام نفس منهجية تعريفنا (للفساد) من العام الشامل إلى الخاص المبتغى لإكساب المفهوم كافة أبعاد صورته وعلى النحو الآتي:
ففي اللغة/ يعرّف الإصلاح من خلال جذر الكلمة (صلح) و(صلاحاً) و(صلوحاً):
أي الشيء الذي زال عنه الفساد.
فعندما يقال (صلحت حال الرجل) أي زال عنها (فسادها)(1).
و(الصلاح) هو ضد الفساد عند (محمد بن أبي بكر الرازي) وبابه (دخل) و(الإصلاح) هو ضد (الإفساد) و(الاستصلاح) هو ضد (الاستفساد).(2)
وتعرّف المفردة المقابلة لكلمة (الإصلاح) بالإنكليزية وهي مصطلح
(Reform) على أنها العمل الذي يحسن الظروف.
(An actions that improves conditions)(3)
أو تعني إعادة التشكيل أو تشكيل الشيء وتجميعه من جديد أو هو تحسين الحالة أو تصليحها.(4)
أو تعني التحسينات بتصحيح الأخطاء.
(
__________
(1) د. خليل الجر/ المعجم العربي الحديث/ م س ذ/ ص749.
(2) محمد بن أبي بكر الرازي/ مختار الصحاح/ م س ذ/ ص367.
(3) Virginia French allen & others/ Longman, Dictionary/ opcit/ p. 568.
(4) منير بعلبكي/ قاموس المورد (86)/ بيروت/ دار العلم للملايين/ 1986/ ص770.(1/36)
To improve by correcting errors)(1)
أما على صعيد تعريف المفردة ومعناها (من خلال الأثر الإسلامي) المذكور في (القرآن الكريم)(2) فالمفردة تعني (بالاستناد في البحث إلى جذر الكلمة) (صلح) الآتي:
1) عمل الصالحات ويعرّف على أنه أداء الفروض والنوافل واستقامة الحال لقوله تعالى:
... بسم الله الرحمن الرحيم { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار.... } . صدق الله العظيم.(3)
2) العمل بشريعة الله لقوله تعالى:
... بسم الله الرحمن الرحيم { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . صدق الله العظيم(4).
3) إقامة العدل في الأرض. لقوله تعالى:
... بسم الله الرحمن الرحيم { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } صدق الله العظيم(5).
4) أو تنمية الأموال لليتامى. لقوله تعالى:
... بسم الله الرحمن الرحيم { في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير... } صدق الله العظيم(6).
5) أو هو صلاح أمر الرعية لخلل فيها. لقوله تعالى:
... بسم الله الرحمن الرحيم { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } صدق الله العظيم(7).
__________
(1) Webster’s II/ new riverside dictionary/ n.y./ Houghton Mifflin company/ 1984/ p.588.
(2) يرجى الرجوع الفصل الأول من هذا المبحث للتعرف على السور التي ذكر فيها الإصلاح.
(3) القرآن الكريم/ سورة البقرة/ الآية (25).
(4) القرآن الكريم/ سورة البقرة/ الآية (62).
(5) القرآن الكريم/ سورة البقرة/ الآية (182).
(6) القرآن الكريم/ سورة البقرة/ الآية (220).
(7) القرآن الكريم/ سورة الأعراف/ الآية (142).(1/37)
جدير بالذكر أن ما عرضنا له من معان لمفردة الإصلاح في الأثر الإسلامي هي أقرب ما وجدته الدراسة من أمثلة تتطابق مع منهجها حيث أن التفسيرات كثيرة وتعالج مواضيع عدة لذلك رشفنا منها ما أشرنا إليه الذي يدخل في صميم دائرة الاهتمام.
وبالانتقال من المعاني العامة إلى المفاهيم المتخصصة نلحظ أن الإصلاح:
(مفهوم يطلق على التغيرات الاجتماعية أو السياسية التي تسعى لإزالة الفساد)
(Reform means social or political change that seeks to remove corruption)(1)
أو كما يعرفه بعضهم على أنه:
(تعديل غير جذري في شكل الحكم أو العلاقات الاجتماعية دون مساس بأسسها وهو (خلافاً لمفهوم الثورة) ليس سوى تحسين في النظام السياسي الاجتماعي، القائم دون المساس بأسس هذا النظام. إن الإصلاح يشبّه بالدعائم الخشبية المقامة لمحاولة منع انهيار المباني المتداعية ويستعمل للحيلولة دون الثورة أو لتأخير وقوعها)(2).
على أن الفكر الغربي يعرّف (الإصلاح) طبقاً لرأي (صموئيل هنتينغتون):
بأنه (تغيير القيم وأنماط السلوك التقليدية، ونشر وسائل الاتصال والتعليم، وتوسيع نطاق الولاء بحيث يتعدى العائلة والقرية والقبيلة ليصل إلى الأمة، وعلمنة الحياة العامة، وعقلانية البنى في السلطة، وتعزيز التنظيمات المتخصصة وظيفياً، واستبدال مقاييس العزوة (أي المحاباة) بمقاييس الكفاءة، وتأييد توزيع أكثر إنصافاً للموارد المادية والرمزية).(3)
__________
(1) Websters II/ New Riverside Dictionary/ op. cit. p. 588.
(2) د. عبد الوهاب الكيالي/ الموسوعة السياسية/ بيروت/ الدار العربية للدراسات والنشر/ 1974/ ص55.
(3) صموئيل هنتينغتون/ النظام السياسي لمجتمعات متغيرة/ م س ذ/ ص121.(1/38)
بعد هذا التقديم لمعنى مفردة الإصلاح لغوياً ودينياً وتخصيصاً لا بد للدراسة من الانتقال إلى المفاهيم المقاربة للإصلاح أو بالأحرى الشروط السياسية لمكافحة الفساد وهي (الشفافية)، (المساءلة)، (النزاهة أو حسن الحكم). التي سنعرض لمعانيها العامة ثم التخصصية طبقاً للمنهج الذي سرنا عليه وكما يأتي:
فالشفافية/ في اللغة تعني/ طبقاً لجذر الكلمة (شفف) الخفة ورقة الحال، أو الشيء القليل (جمع أشفاف)، و(الشف) هو ستر القليل(1).
على أن المفردة (Transparency) الإنكليزية تعني:
الحالة التي تكون شافة ويمكن الرؤية من خلالها.
(The state of being transparent which that can seen through).(2)
إنها الوضوح (Obvious)(3)، أو هي الشيء الجلي، أي هي كما الصورة المرسومة على زجاج يجلى للعين من خلال نور يشع خلفها حسب ما يوصف(4).
أما انتقالنا إلى المفاهيم المتخصصة فيقودنا إلى أنها تعني:
(الشفافية)/ (مفهوم يطلق على ما يمكن استيعابه بسهولة وفهمه أو ما يمكن استيضاحه بسهولة واكتشافه)
(Readily understandable, Easily detected) or
(Easily understood, unmistakable, undoubted).(5)
أو هي على حد تعبير (د. صلاح سالم زرنوقة)(6):
__________
(1) د. خليل الجر/ المعجم العربي الحديث/ م س ذ/ ص716.
(2) Viginia French Allen & others/ longman Dictionary/ op. cit. p. 718.
(3) Websters II/ New Riverside Dictionary/ op. cit. p. 729.
(4) منير بعلبكي/ قاموس المورد (86)/ ص985.
(5) Oxford/ English Readers Dictionary/ London/ Oxford Press/ 1959/ p. 464.
(6) د. صلاح زرنوقة/ أستاذ في جامعة القاهرة/ وخبير بمركز دراسات وبحوث الدول النامية/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.(1/39)
آلية الكشف عن الفساد بأن يكون، الإعلام (والإعلان) من جانب الدولة عن أنشطتها كافة في التخطيط والتنفيذ(1).
أو كما يعرفها آخرون على أنها:
(التمييز بوضوح بين القطاع الحكومي وباقي القطاعات، وبموجبها تحدد بدقة الأدوار السياسية والإدارية داخل الحكومة. وأن يتم بوضوح وفق آلية يطلع عليها الجمهور تحديد توزيع المسؤوليات بين مختلف مستويات الحكومة، وكذلك توزيعها بين كل من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية)(2).
أو هي من وجهة نظر اقتصادية سياسية تعني:
(الانفتاح على الجمهور فيما يتعلق بهيكل ووظائف القطاع الحكومي/ ونوايا سياسات المالية العامة وحسابات القطاع العام الذي من شأنه تعزيز (المساءلة) وكذلك تعزيز (المصداقية)، وحشد تأييد أقوى للسياسات الاقتصادية السليمة من قبل جمهور على علم بمجريات الأمور. على أن انعدامها (الشفافية) في السياسات يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وعدم الكفاءة، والافتقار للعدالة)(3).
في حين أن (المساءلة) (Accountability) تعني:
الحساب عن أعمال معينة (أي المسؤولية عن أداء العمل وتولية المنصب)، ومنها المسؤولية الوزارية أمام البرلمان(4)، (أو هي كفاءة ممارسة النفوذ والتأثير على قضايا شؤون الدولة والمجتمع)(5).
__________
(1) د. صلاح سالم زرنوقة/ الشروط السياسية للتنمية الاقتصادية/ مجلة النهضة/ العددـ1/ 1999/ ص156.
(2) انظر: فيتوتانزي/ مشروع دليل شفافية المالية العامة/ واشنطن/ صندوق النقد الدولي/ أكتوبر 1998/ ص87 وما بعدها.
(3) Kopits & Caring/ Transparency in government operation/ Washington/ IMF/ Occasional Paper No. 158/ 1998.
(4) منير بعلبكي/ قاموس المورد (86)/ م س ذ/ ص23.
(5) أ. غادة موسى/ الشفافية والمساءلة في ألمانيا/ بعد الوحدة/ في مصطفى كامل السيد (محرر)/ الفساد والتنمية/ القاهرة/ مركز دراسات وبحوث الدول النامية/ 1999/ ص84.(1/40)
أما الحكم الجيد أو (حسن الحكم Good Governance) فيعني:
(ممارسة القوة في مجموعة متنوعة في محيط وبيئة المؤسسات، بهدف التوجيه والسيطرة وتحديد وتنظيم الأنشطة بما يخدم المواطنين)(1).
على أن حسن الحكم لا يتحقق إلا بالمشاركة والشفافية والمساءلة.
مما تقدم نخلص إلى أن الإصلاح ومقترباته تعني:
أن الإصلاح هو المفهوم المضاد للفساد، وآلية تدعيم ركائز ما تداعى وهرم من بنى ومؤسسات الدولة أي بعبارة أخرى هو عملية حقن مواد التصلد في أساسات ذلك البناء، لإعادة تمتين تلك الركائز، وذلك باتباع آليات نبذ التخلف وتحرير المجتمع ومحاربة أساليب العزوة والمحسوبية، واختلاف الامتيازات بين أفراد المجتمع.
إن الإصلاح يتطلب استخدام آلية (الشفافية) عن طريق فتح القنوات للجمهور للاطلاع على سياسات الحكومة وتعزيز (المساءلة) وذلك بإشراك الجمهور بعد الاطلاع على سياسات الحكومة بإبداء رأيه بتلك السياسات وجعله المسؤول الأول عن تقييم الرؤساء الإداريين وسياستهم.
كل ذلك يعطي للإصلاح ضرورة التفاعل مع (حسن الحكم) والامتزاج مع ذلك المفهوم للعمل بآلية هادئة لا تقود إلى العنف مطلقاً ولا تؤدي إلى الفوضى لإصلاح جدار المجتمع ثم طلائه بجميل الطلاء على أنْ لا يكون ذلك الطلاء لتغطية النخر من غير إصلاح، إنها عملية الترميم بكل وجوهها.
(((
الباب الثاني
أنماط الفساد
ملامح الفساد وطبيعته
The Shape &
Nature of Corruption
خلال هذا الباب سنعرض لأربعة أنماط من الفساد لتشكل لنا قاعدة نشرح من خلالها نوعية وشكل كل نمط لأغراض التوضيح، ثم لننتقل بعدها إلى تناول مفردات أخرى في فصول لاحقة تتعلق بالأنماط المذكورة بغية إعطاء الموضوع ترابطه المطلوب.
حيث بدون فهم دقيق لهذه الأنماط يصبح من العسير الوقوف على حقيقة الفساد وتداعياته. الأمر الذي سيفصح عن حقيقته تباعاً في ثنايا هذه الدراسة.
الفصل الأول
الفساد الاجتماعي
__________
(1) المصدر نفسه ص86.(1/41)
بادئ ذي بدء فإن الحديث عن الفساد الاجتماعي يقود دارسه لاستقراء أساليب الانحراف وحياد بني البشر عن الطريق القويم للفطرة الإنسانية والتجرد من المثل الأخلاقية التي أفرزها الوجود الإنساني على وجه البسيطة.
وعليه فإن ذروة سنام الحديث عن الفساد الاجتماعي لا بد أن ينطلق من نقطة مركز هي (حسن الخلق) وكيفية دراسة الأخلاق وبنائها، على أن الشروع في ذلك يكون على أفضل صوره عندما ينطلق من الرؤية الإسلامية في الدراسة، حيث التوجيه الإلهي لهذا المنهج يجعله أفضل سبل البحث. لذلك كان التوجيه الرباني لخاتم الأنبياء سيدنا محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) يقوم على إتمام ما أتى به إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) لإقامة الدين على الأسس القائمة على العدل والمحبة والسلام وعدم اتخاذ الدين أداة للتفرقة وإن هذه المبادئ كلها تدل على الأخلاق الكريمة الواجبة لبني البشر(1).
ولهذا جاء النص القرآني: بسم الله الرحمن الرحيم { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } صدق الله العظيم(2).
لقد ورد التأكيد الإسلامي على الأخلاق عندما خاطبت الآية الكريمة حضرة شخص الرسول محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { وإنك لعلى خلق عظيم } صدق الله العظيم(3).
وما جاء من توجيه نبوي للأمة بالأحاديث الشريفة يعزز ما عرضه القرآن الكريم من دعوة إلى التخلق بالخلق القويم، لحديث رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ):
[
__________
(1) عفيف عبد الفتاح طبارة/ الخطايا في نظر الإسلام/ لبنان/ مطبعة العلوم/ 1985، ص7.
(2) سورة الشورى: الآية (13).
(3) سورة القلم/ الآية (4).(1/42)
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق](1)
وما كان يدعو به ( - صلى الله عليه وسلم - )
[اللهم حسّنت خَلقي فحسّن خُلقي(2)](3)
ولحديثه ( - صلى الله عليه وسلم - )
[عن جابر (رض) عنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون] (رواه الترمذي)(4)
وعلى المنهج ذاته سار الصحابة الأجلاء، وآل البيت الأطهار فهذا سيدنا علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) يقول: حسن الخلق في ثلاث خصال:
(اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال)(5)
ومن هذا التوجيه الإسلامي الذي عرضنا له ننطلق في دراستنا لنرى عمق المعالجة لقضية الأخلاق وحسنها وما يؤول له الأمر عند انعدامها وفسادها.
ولما له من صلة بالموضوع نتناول بالتفصيل حديث الخليفة الراشدي الرابع (رض) الذي أسلفناه تفصيلاً، حيث إن (اجتناب المحارم) تعني العفة والطهر عن سوء الأخلاق، و(طلب الحلال) يعني أن يكون المال حلالاً طيباً غير ناجم عن عمل فاسد.
__________
(1) الحديث عن ما أخرجه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث الصحابي الجليل/ أبي هريرة/ (رضي الله عنهم جميعاً) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(2) لرواية أبي مسعود البدري ورواية أحمد عن حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنهم جميعاً).
(3) نقلاً عن /أبي حامد الغزالي/ إحياء علوم الدين/ بيروت/ دار القلم/ بلا تاريخ/ الجزء الثالث ص48 وما بعدها.
(4) الشيخ منصور علي ناصف/ التاج/ الجامع للأصول في أحاديث الرسول/ ج5/ بيروت/ دار إحياء التراث العربي/ 1962/ ص64.
(5) نقلاً عن/ أبي حامد الغزالي/ إحياء علوم الدين/ م س ذ/ ص48 وما بعدها.(1/43)
على أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة واعتدال قوة الغضب والشهوة وإطاعتها للعقل والشرع والاعتدال في ذلك يحدث بوجهين:
الأول ... / أن يكون بكمال فطري أوجده الله تعالى في ذات ذلك المخلوق.
ثانيهما ... / اكتساب الأخلاق بالمجاهدة وحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. حيث إن الإصلاح للذات البشرية ممكن وإن كانت تنزع إلى العمل السيئ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
[اعبد الله في الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير] أخرجه الطبراني(1).
عليه فإن حسن الخلق يرجع كما أسلفنا إلى اعتدال قوة العقل والحكمة واعتدال قوة الغضب والشهوة وخضوعها لقوة العقل المعتدلة. ولقابلية النفس الإنسانية للإصلاح والترويض أي بما يعرف اصطلاحاً (بالتنشئة)(2)، والتنشئة الاجتماعية الصحيحة تأتي من طريقة التوجيه الصحيح والتعليم طالما إن الإنسان في داخله قابل للتعلم.
ولقد حدد فلاسفة السياسة منذ أزمنة سحيقة بأن هدف التعليم هو توجيه الشباب إلى معرفة القوانين الصحيحة كما جاء على لسان أفلاطون(3) أي بناء الشخصية الاجتماعية ذات القابلية على التصرف السوي (بالتنشئة السليمة) ولذلك نرى أن الإسلام حث على هذا المنحى أيضاً بالتنشئة على الوجه الأكمل وأن يكون العدل والقسط في المجتمع هو الأساس ولو على النفس لقوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون
__________
(1) المصدر نفسه/ ص48 وما بعدها.
(2) المقصود بالتنشئة هنا (التنشئة القويمة الصحيحة).
(3) نقلاً عن د. أحمد جمال الظاهر/ دراسات في الفلسفة السياسية/ إربد/ مكتبة الكندي/ 1988/ ص398 وما بعدها.(1/44)
خبيرا } صدق الله العظيم(1).
حيث نرى هنا التوجيه الإلهي يحث على البناء الأخلاقي، وعلى التنشئة بأفضل صورها بحيث تصل إلى قول الحق وإقامة العدل مع أقرب المقربين قربة لله تعالى.
على أن التنشئة الاجتماعية لعالم اليوم تناولتها البحوث والدراسات السيكولوجية لميادين مختلفة من حياة الإنسان في بدايتها (مرحلة الطفولة)، وخلال تطورها الاجتماعي (المراحل الأخرى)، حتى إن علماء تلك البحوث درسوا طرق الولادة وكميات الأدوية المعطاة للأم وانعكاسها على تصرفات الأطفال لإمكانية وضع الحلول لتنشئتهم بشكل سليم.
وتأخذ تلك الدراسات بعين الرعاية العلاقة بين الطفل والأم لما لها من تأثيرات على الأخلاقيات والتصرفات مستقبلاً ويرى علماء البحوث النفسية أن الآباء قد يشجعون أبناءهم على التصرف السيئ أو الحسن من خلال علاقتهم البعض مع البعض الآخر(2). على أن التنشئة الأخلاقية بين الآباء وأبنائهم تظهر من خلال هذه العلاقة بين الاثنين فالعلاقات الإيجابية (كالثناء والمديح وتقديم الهدايا) لها تأثير على سلوك الطفل مستقبلاً. وبالفعالية نفسها، للعلاقات السلبية تأثير أيضاً. حيث يؤدي العقاب إلى زرع روح العداء في شخصية الطفل أيضاً مستقبلاً.
إن الدراسات السيكلوجية تؤكد أن السلوك غير القويم يمكن تقويمه بالتعليم والاختلاط بالأقران الجيدين.
وتدل البحوث على أن تصرفات الطفل مستقبلاً يحددها نوع العلاقات الاجتماعية (فالأمانة، الإخلاص، الحرص، اختيار الهوية، الانتماء لحزب ما والسلوك الاجتماعي) كلها للمحيط الذي نشأ به الطفل أثر فيها(3).
__________
(1) القرآن الكريم/ سورة النساء/ الآية (135).
(2) د. أحمد جمال الظاهر/ دراسات في الفلسفة السياسية/ م س ذ/ ص398 وما بعدها.
(3) م. ن/ ص398 وما بعدها.(1/45)
ولهذا يلاحظ أن لظاهرة افتراق الأبوين أثراً على السلوك الاجتماعي للأطفال فيما بعد فقد كشفت دراسة بدأت عام (1971) على عينة من (100) طفل أميركي واستمرت لغاية بلوغهم سن الرشد أن (60%) من الشباب الناشئ الذي كان ضحية طلاق الأبوين يقعون ضحايا لأخطاء كبيرة أثناء حياتهم. وإن (25%) منهم يعانون الإدمان على المخدرات والكحول قبل سن الأربعة عشر عاماً وأكدت الدراسة على أنه كلما كان عمر الطفل عند الافتراق صغير كان لذلك أثر في حياته الاجتماعية عند نشوئه(1).
نستدل مما تقدم أن للتنشئة القويمة نسبة كبيرة لتحقيق أشكال مختلفة من السلوك الاجتماعي القويم أو المنحل بخلافها لدى الأفراد مستقبلاً.
ولكي نسبر غور الموضوع بشكل أوسع لإيضاح هذه المقدمة ومدى ارتباطها بموضوع بحثنا نشير:
إن موضوع الدراسة هذه محدد للفترة من (1990-2000) أي دراسة العشرية الأخيرة للقرن العشرين وضمن هذا المبحث علينا التطرق لحوادث الفساد الاجتماعي ضمن هذه العشرية ونحن إزاء هذا لسنا بصدد سرد قصص وإنما أمام بحث علمي يستدل بالوقائع لإثبات مدى تأثير ذلك على الحياة الإنسانية وخطورته على المجتمعات. لقد برزت في العشرية الأخيرة مفاهيم كان من أبرزها على صعيد السياسة والاقتصاد هو مفهوم العولمة
(Globalization) التي كان من إفرازاتها على الصعيد الاجتماعي ثلاثة محاور وجد أنها كانت على أشدها خلال العشرية المذكورة (على سبيل الحصر) وهذه المحاور هي:
1) فضائح كبار مسؤولي الدول الأخلاقية.
2) بروز شبكات تجارة الرقيق الأبيض.
3) استغلال الأطفال في الأعمال اللا أخلاقية و(تجارة الأطفال).
ولإعطاء كل محور حقه في البحث سنتناول كل واحد منها بشيء من التفصيل.
1) فضائح كبار مسؤولي الدول الأخلاقية.
__________
(1) أسماء عبد الخالق/ المجتمع الأمريكي علاقات أسرية مفككة ونسبة طلاق عالية/ صحيفة القادسية البغدادية/ العدد 7000 في 17/10/2000.(1/46)
سبق أن تحدثنا في موضوع من هذا الفصل عن أثر التنشئة على تصرفات الطفل مستقبلاً وسنوضح هنا ما بدأناه آنفاً، حيث يورد الأستاذ (محمد حسنين هيكل) أن صاحب أكبر فضيحة أخلاقية شدّت إليها أنظار العالم في العشرية الأخيرة هو رئيس الإدارة الأميركية (ويليام جيفرسون كيلنتون) الذي أثارت فضائحه الجنسية حفيظة الشعب الأمريكي ولفتت انتباه العالم بأسره.
فرئيس أكبر قوة في عالم اليوم جاءت نشأته بشكل عشوائي من أم سكيرة تجهل أباه مما تسبب لأن يحمل الطفل اسم زوج لاحق لوالدته الأمر الذي أثر بشخصيته لاحقاً. حتى أن زوجة الرئيس (هيلاري كلينتون) صرحت (بأن زوجها تكمن نقطة ضعفه في استعداده للجري وراء أي امرأة يطولها (كعامل رد فعل) في شخصيته ظاناً أنه بذلك ينتقم من والدته التي لم تستطع أن تحدد له شخص والده). وذلك حسب تحليلها لشخصية الرئيس(1).
ولقد استغل (بيل كلينتون) نقطة ضعفه هذا ليجعل من فضائحه الجنسية معبراً آمناً وغطاءً فضفاضاً لفضائح أخرى كتهريب المخدرات، وإذاعته لأسرار سياسية منها ما أثره من فضيحة أخلاقية مع عشيقته (جنيفر فلاورز)(2) على انكشاف أمر إباحته لها بأسرار سياسية، فطبقاً لرواية الأستاذ (هيكل) أن كلينتون ركّز على عنصر الجنس بعدما كشفت (فلاورز) علاقتها به وفاجأته بتسجيل صوتي له بعد إنكاره للعلاقة معها مما دعاه للاعتراف صراحة وأثر الفضيحة على ماباح به من أسرار السياسة والساسة بمن فيهم زوجته على (مخدة) فلاورز(3).
__________
(1) ـ محمد حسنين هيكل/ كلام في السياسة/القاهرة/ المصرية للنشر العربي/ الطبعة الأولى/ شباط/2000/. ص 45.
(2) ـ جنيفر فلاورز/مغنية في ناد ليلي في ليتل روك/ عشيقة كلينتون عندما كان حاكم لولاية أركنساس.
(3) ـ المصدر نفسه /ص 31، وقارن مع/ حسين عبد الواحد/ أمريكا حرية، جنس، بوليتيكا/ القاهرة/ مركز الحضارة العربية/ 1997/ ص107.(1/47)
ثم بعد ذلك وفي البيت الأبيض نلاحظ أن الرئيس يستخدم الرشوة لضمان سكوت (بولا جونز)(1) (التي اتهمته بالتحرش بها عندما كانت تعمل في إحدى المؤتمرات وكان هو حاكماً لولاية أركنساس)، ويعرض عليها مبلغ (850 ألف دولار) عن طريق محاميه بعد أن وصلت دعواها للمحقق (ستار) لضمان سكوتها ومن المفارقات أن رشوة (جونز) هذه دبر الرئيس نصف مبلغها ودبرت هيلاري النصف الآخر(2).
بقي أن نذكر أن شهرة كلينتون جاءت في فضيحة مع (مس/لوينسكي) التي أحيلت قضيتها إلى المدعي العام المستقل (كينيث ستار) الذي استطاع بحنكته اكتشاف علاقتها عن طريق تسجيل صوتي قامت به إحدى زميلات (مونيكا)/ (يعتقد لدوافع شخصية للمرأة) ويظهر فيه:
إن الرئيس طلب إلى مونيكا الكذب في اعترافاتها عن قضية (بولا جونز) وأنه بذاته دربها وحاول ذلك للكذب على هيئة المحلفين في قضية (بولا) ثم أنه قد أنكر نفسه علاقته بمونيكا (تحت القسم) أمام هيئة المحلفين.
لقد توافرت بعد ذلك كله الدلائل جميعها أمام (ستار) لإدانة (كلينتون) والدليل الدامغ في هذا كله ما فاجئ به (ستار) الرئيس عندما استطاع إثبات كذبه على الشعب الأميركي وأمام ممثلي القانون الذي أقسم أمامهم (رئيس الولايات المتحدة الأميركية) بأنه يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق. وأول مهام الدستور الأميركي هو مسؤولية حفظ القانون والالتزام به. أن (ستار) أماط اللثام عن الفضيحة اللأخلاقية بين الرئيس (ومونيكا) عندما قدم الثوب الذي التقت به مونيكا لآخر مرة مع كلينتون إذ ترك الأخير آثاره عليه التي تستطيع المعامل أن تثبت بأنها تعود لصاحب الأثر الرئيس الأميركي(3).
__________
(1) ـ بولا جونز / موظفة استقبال في أحد الفنادق/ عندما كان كلينتون حاكم لولاية أركنساس.
(2) ـ (انظر: حسين عبد الواحد /ص 108 وقارن مع محمد حسنين هيكل / ص29) م.ن.
(3) ـ محمد حسنين هيكل / كلام في السياسة/ م س ذ/ ص 40.(1/48)
إن لعنة مونيكا استمرت تلاحق كلينتون حيث بعد رفع أمر الرئيس إلى الكونغرس وتبرئته من قبل مجلس الشيوخ (شباط/1999) بعد اتهام مجلس النواب له بالخيانة لحنثه باليمين واضطراره للاعتذار من الشعب الأمريكي وإعاقة سير العدالة في (ك1 /1998) (والتي حاول تغطيتها بإثارة حرب مفتعلة ضد العراق معروفة قصتها في ذات التاريخ ثم ظهر ليحيي العرب والمسلمين برمضان) يسعى المستشار المستقل (روبرت راي) الذي خلف (ستار) (وطبقاً لقانون الاستشارات القضائي الأمريكي الذي استحدث عام
(1978) بعد فضيحة وترغيت الذي يمنح ممثلي الادعاء الحرية في التحرك بعيداً عن التغيرات السياسية في التحقيق في المزاعم والتهم الموجهة ضد الموظفين الإداريين رفيعي المستوى في حالة ارتكابهم أخطاء) لتوجيه الاتهام وإقامة دعوى جنائية ضد (كلينتون) بعد انتهاء رئاسته(1).
مما تقدم يتضح بأن الفساد الأخلاقي والفضائح اللا أخلاقية لرئيس أكبر دولة في العالم لم تأت بشكل واحد وإنما جاءت نتيجة لتفاعلات الطفولة وتغطية أعمال فساد أخرى منها تهريب الكوكائين عندما كان كلينتون حاكم لولاية أميركية وقضايا تتعلق برشاوى سابقة ارتبطت جميعها لكي تجعل الحادثة الأخلاقية تهيمن عليها جميعاً دون تفسير لمقتل (21 شخصا)(2) لهم علاقة بكلينتون منهم (ثمان) حالات قيدت على أنها حوادث انتحار(3).
__________
(1) ـ صحيفة بابل البغدادية / العدد 2804 في 19/8/2000.
(2) ـ ترددت شائعات عديدة للربط بين الرئيس والمخدرات ليس بالتعاطي حسب بل والاتجار بها أيضاً في ولاية أركنساس والدليل الوحيد المتاح على ذلك، هو أن أصدقاء ومساعدي كلينتون أغلبهم انتحر أو قتل في حوادث خلال (12 عاماً).
ـ حسين عبد الواحد/أمريكا حرية، جنس وبولتيكا/ م س ذ / ص 97.
(3) ـ محمد حسنين هيكل /كلام في السياسة / م س ذ / ص 31.(1/49)
لقد تحولت الفضائح الأخلاقية كما يقول الأستاذ (هيكل) (بعد سلسلة من جرائم الفساد بشتى أنواعه) إلى (مسرحية) تشد اهتمام الناس في أمريكا والعالم برغم أنها فضيحة معيبة لرئيس أمريكي جرت وقائعها في البيت البيضاوي وهو مصدر القرار الأهم في عالم اليوم (بفضل الهيمنة التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية فرضها على العالم)، إنها مسرحية حاولت الإدارة الأميركية والمراكز الأخرى في القرار الأميركي. تركها بدون خاتمة تاركة لكل شخص أن يختار الخاتمة وفق مزاجه، وهكذا انزلقت أحوال السياسة إلى أحوال فقد فيها القانون والأخلاق هيبتها لأن الغلبة أصبحت لما يسميه خبراء الزمن الجديد ومضة ضوء (Flash) ونبضة صوت (Sound Bite) وكيف تلمع الأولى في العيون وترن الثانية في الأذان(1)، مما شكل ذلك الفساد من مخاطر على الشعب.
نلاحظ هنا كيف أن للتنشئة أثر في سلوك شخص قد يصل إلى أهم مراكز القرار في العالم، وكيف يصرف هذا الشخص أفعاله مركزاً على الجانب الأهم في شد انتباه الناس وهو عنصر الفضائح الأخلاقية لتغطية أعمال فساد أخرى كما أسلفنا ثم ليوظف قوته التي يهيمن عليها ليتعرض إلى آمنين لكي يغطي على الفضيحة بجريمة.
وبعد هذا الأنموذج لأثر الفضائح في عالم الشمال نعرض لأشكال تلك الفضائح في عالم الجنوب وكيف يتم استغلال ذلك سياسياً.
__________
(1) ـ جريدة الزمن البغدادية الأسبوعية / العدد 40 في....(1/50)
ففي ماليزيا يتهم وزير المالية ونائب رئيس الوزراء والمرشح لاحتلال موقع (رئيس الحكومة) (أنور إبراهيم) الذي أقاله رئيس الحكومة (محاذير محمد) عام 1998 من منصبه ليتلو ذلك توجيه اتهامات إلى (أنور) بفضيحة أخلاقية(1) أعقبها حكم بالسجن عليه لمدة (6 سنوات)، أبعده عن الحياة السياسية في البلاد. ومابين اتهامات رئيس الحكومة ودفاعات المتهم تشير الدلائل إلى استغلال الفساد الاجتماعي كورقة سياسية تجعل من استغلالها ذلك صورة مهزوزة لكبار مسؤولي الدولة في ماليزيا. فالحالة إذا كان المتهم كاذباً صورة غير سوية لمسؤول سابق وإن كان اتهامه تسويغاً لفضيحة سياسية فهي صور غير سوية لمن يترأس الحكومة الماليزية (ضمن المجتمع الماليزي). وفي بلد قريب من ماليزيا نلاحظ أن الشرطة الأندونيسية استجوبت في جاكرتا امرأة تدعي إقامة علاقة عام 1995 مع الرئيس السابق لأندونيسيا (عبد الرحمن واحد) وهي على ذمة زوج ومهما كان شكل الفضيحة فإنها تمس رئيس الدولة المنتخب في بلد إسلامي(على أن القانون الأندونيسي يوجه عقوبة السجن إلى
(9 أشهر) لكل من يتهم بالزنى في أندونيسيا). يذكر أن الصحافة الأندونيسية نشرت صوراً فوتوغرافية تثبت دعوى الامرأة ضد واحد. (2)
__________
(1) ـ يشار إلى أنه صدرت في حق أنور وشقيقته بالتبني (سوكما) تهمة أخلاقية بحق السائق الشخصي لأنور الذي اعترف بذلك وغير أقواله لأكثر من مرة وعلى أثرها حكم على أنور إبراهيم بالسجن (6) سنوات مما أثار موجة شغب في ماليزيا أقامها مناصرو (أنور). ويصرح (أنور) إن القضية كلها ملفقة وأنها محاولة مفضوحة لإزالته من المسرح السياسي /انظر: جريدة بابل البغدادية/ العدد 2796/ 9/آب/2000. ـ جريدة بابل البغدادية / العدد 2793 في 5/آب/2000.
(2) ـ صحيفة بابل البغدادية / العدد 2819/ في 4/9/2000.(1/51)
من هنا نلاحظ أن الفضائح تخترق كثيراً من أركان ورؤوس الدولة في بلدان الشمال والجنوب مما يؤثر على آراء الرأي العام واستغلال ذلك إما لتمرير أغراض شخصية وإما تجاهلاً للرأي العام وفي كلتا الحالتين نرى فساداً اجتماعياً يلقي بظلاله على الواقع السياسي.
2) بروز شبكات الرقيق الأبيض:
الشكل الآخر من أشكال الفساد الاجتماعي هو الاتجار بالرقيق الأبيض الذي يقول فيه تقرير التنمية البشرية لعام 1999 إن العولمة (Globalization) تتيح فرصاً جديدة ومثيرة من بين أكثر الانتهازيين لهذه الفرص إبداعاً هم المجرمون الدوليون.
حيث أن شبكات الجريمة متعددة الأعراق سارعت لاستغلال ظروف انفتاح الحدود وضغوط الفقر وأحلام العيش (في مجتمع الرفاهية) التي ترسم ملامح صورها الدعاية الغربية لاستغلال الفقراء للسير وراء بهرجها. وتشير البيانات الدولية الدارسة للحالة إلى أن الاتجار بالبشر بدأ يأخذ أشكالاً متعددة في عالم اليوم لكنه ذو طابع أنثوي في أغلب الأحيان، إذ أن (خمسين مليون) نسمة على الأقل من المتاجر بهم هم من النساء اللواتي ينتهي بهن الأمر إلى السقوط في الرذيلة في شوارع مدن الغرب(1).
ولعل الاستشهاد بحادثة الأوكرانية (آيرما) خير دليل فقد وعدتها إحدى شركات شبكات الجريمة بفرصة عمل في تركيا بشكل وهمي وما إن وصلت إليها من أوكرانيا حتى بيعت من قبل عصابة لسماسرة الرذيلة (المنتشرة تحت غطاء وكالة توظيف وهمية) حيث تم مصادرة مستمسكات سفرها في تركيا وأجبرت على الخضوع لضغوطهم بكل وسائل الترهيب ليباع جسدها بأجور عالية ذهبت إلى جيوب رجال عصابات الرقيق الأبيض، لم يتبق منه عندما هربت عائدة إلى بلادها سوى ثلاثين دولاراً. مما أعادها فقيرة إلى أهلها كما ذهبت منهم.
__________
(1) ـ د.كريم محمد حمزة/ من ثمار العولمة الاتجار بالبشر/ صحيفة الثورة البغدادية/ العدد 10124/ في 9/ت1/ 2000.(1/52)
جدير بالإشارة إلى أن السلطات في أوكرانيا أعلنت أن (مئة ألف امرأة) أوقعها الفساد والفقر ضحية لتلك الشبكات الدولية للدعارة وصناعة الجنس، التي ترتكز مراكز عملها في كل من (اليونان)، (تركيا)، (ألمانيا)، (قبرص)، و(إسرائيل) (1)، طبقاً لما أعلنته منظمة (لاسترادا) غير الحكومية التي تكافح تجارة الرقيق الأبيض في أوكرانيا(2).
بالإضافة إلى ما ذكر فإن واحدة من منظمات حقوق الإنسان تذكر أن الشبكات ذاتها تنقل آلاف من التايلانديات إلى اليابان للاستغلال الرذيل بتأثير دعوة مغرية للعمل بأجر لامع، إلا أن الفتيات سرعان ما يقعن في شرك عبودية ممارسة الرذيلة بعد إكراههن على توقيع صكوك ووصولات تجعلهن أسيرات الديون حتى الموت. (3)
جدير بالذكر أن مدينة (باتايا) التي تقع جنوب بانكوك توصف بأنها أرخص وكر لتجارة وسياحة الجنس في العالم، وتشير الإحصائيات الدولية إلى أن حوالي ربع فتيات تايلاند يعملن في ممارسة الرذيلة وأن خمسين في المائة منهن مصابات بمرض الإيدز أو يحملن فيروس (H.I.V) على الأقل. إن عدد فتيات الهوى في تايلاند يصل إلى حوالي (2 مليون فتاة) من بين ثمانية ملايين فتاة في البلاد، أغلبهن في أوساط فقيرة يتعرضن لغسيل دماغ من قبل حكومة تايلاند( التي تبارك الفساد بالفساد) ومافيات بيع الأجساد الغضة لكي يحلمن بالثراء والرفاهية مهما كان الثمن(4).
__________
(1) ـ تشير التقارير الدولية أن هنالك خمسة عشر ألف فتاة تقل أعمار(57%) منهن عن إحدى وعشرين سنة، يعملن في الرذيلة في ألمانيا وهولندا وهن من جنسيات روسية وأوربية شرقية.
(2) ـ صحيفة بابل البغدادية/ العدد 2795 في 8/آب/2000.
(3) ـ يذكر أن الحكومة التايلندية تساعد شبكات المافيا هذه لعدم مصادقتها على الاتفاقية الدولية لمنع البغاء والاتجار بجسد الغير.
(4) ـ انظر: حسين عبد الواحد/ أمريكا حرية، جنس وبولتيكا/ م س ذ/ ص 151.(1/53)
إن عالم اليوم بانفتاح أسواقه واقتصاده الحر ومفاهيم التحول إلى ذلك الاقتصاد العصري نجم عنه اتساع دائرة الفساد، فتايلاند تريد أن تنضم إلى ما يسمى بنادي النمور الأسيوية برؤية مفادها أن اقتصاد الدعارة التي قامت عليه الحياة في بلادهم سوف يتحول إلى اقتصاد عصري(1).
إن بلدان الاتحاد السوفياتي المنهار أصبحت فيها، اتساقاً مع هذه المفاهيم (سالفة الذكر)، مافيا قوية (احتلت بنفوذها مواقع الحزب الشيوعي الذي كان) وظفت الفتيات في صناعة عريضة طويلة لبيع الجسد ساهمت في نشوئها عناصر ثلاثة (الفتيات الفقيرات)، و(النظام السياسي المهترئ)، و(مافيا صناعة الأجساد والرقيق الأبيض).
بعد هذا إلى أي مدى يمكن أن تسهم سياسات هذه البلدان في التربح من هذه التجارة (وخلق حالات سماسرة الأجساد المتربحين من السياسة)؟ (2)
تساؤل تجيب عليه عصابات الجريمة المنظمة ونمو أموالها القذرة وأعداد المستفيدين منها ساسة وعوام.
3) استغلال الأطفال في الأعمال اللا أخلاقية و(تجارة الأطفال):
من أفدح أشكال الفساد الذي شهده العالم مع بروز أفكار العولمة وتحرير التجارة، وهيكلة الاقتصادات، نمو مافيات الفساد لاستخدام الأطفال في عمليات شبيهة بما أسلفناه عن الاتجار بالرقيق الأبيض.
__________
(1) ـ المصدر نفسه ص 151.
(2) ـ انظر: عبد الله كمال / ظاهرة انحلال الصفوة (القوادون والسياسة) /القاهرة/ دار الخيال/ 1998/ ص 17. وص 84.(1/54)
حيث يشير أحد تقارير الأمم المتحدة إلى أن أعداد كبيرة من هؤلاء الأطفال يسخّرون (خاصة الفقراء منهم) في عمليات واسعة للبيع في دول جنوب شرق آسيا وكوريا إلى أسر أميركية وأوربية(1) السبب فيها هو عدم وجود الرعاية والعناية والافتقار لوجود القوانين الحامية للضعفاء من نذالة الأقوياء، الذي مرده إلى فساد الأنظمة السياسية في تلك البلدان مما جعل بلدانهم مزاراً غير مقدس للسياح الأثرياء الباحثين عن متع جسدية شاذة ورخيصة مع الأطفال. بحيث أدى إلى تدفق شواذ العالم الرأسمالي عليهم (بلدان تايلاند وكمبوديا وسريلانكا والفلبين) للحصول على رذائلهم بسعر رغيف الخبز الذي يسد رمق الجياع بائعي أجساد أطفالهم ذكوراً وإناثاً(2).
لهذا نلحظ أن منظمة العمل الدولية وكذلك منظمة اليونيسيف تشيران إلى كون آسيا وحدها فيها أكثر من مليون طفل يستخدمون لأغراض غير سوية(3) فضلاً عن مليوني طفل في أنحاء العالم يتعرضون لذات العمل.(4)
__________
(1) ـ د.كريم محمد حمزة/ م س ذ.
(2) ـ حسين عبد الواحد/ أمريكا حرية، جنس وبولتيكا/ م س ذ/ ص 127.
(3) ـ د.كريم محمد حمزة/ م س ذ.
(4) ـ حسين عبد الواحد / م س ذ/ أمريكا حرية جنس وبولتيكا/ ص 127.(1/55)
بهذا الصدد نشير إلى أن محكمة جنايات باريس استدعت أمامها المتهم (أمنون شموئيل) 48 عاماً، متهماً باغتصاب فتاة في الحادية عشرة من عمرها (أي قاصر) عام 1994 في مدينة باتايا/ بتايلاند (ضمن ما يعرف بأسلوب السياحة الجنسية)، وقد أقر المتهم بفعله الشائن مع تلك الطفلة البائسة التي استغلت من قبل مجموعة من أقاربها قبضوا ثمنها مقدماً. إن الحادثة لم تنته عند هذا الحد بل إن المتهم (الشاذ) لم يكتف بعمله السالب لعفة الفتاة فحسب، بل استغلها استغلالاً آخر للحصول من ورائها على المال لنفسه وشريكه السويسري حيث سمح له بتصوير أشرطة فاضحة لها ضبطتها الشرطة السويسرية فيما بعد وعدت دليلاً على القضية التي تسببت بمثوله أمام القضاء مع شريكه(1).
وللأغراض ذاتها نشرت الصحيفة الهندية (بينيكي فيراني) كتاباً بعنوان (الشوكولاته المرة) أظهرت فيه أن نسبة لا تقل عن (20%) من الأطفال الهنود الفقراء دون سن (ستة عشر) عاماً يتعرضون للاغتصاب بشكل منظم وإن هذه العمليات تحيط بها الأسر الفقيرة بقدر عال من التكتم مما يحرم الفتيات من رعاية جمعيات إنسانية تقدم الخدمات الاستشارية من الأعراض البدنية والنفسية التي يتعرض لها أولئك القاصرون(2).
__________
(1) ـ انظر: صحيفة بابل البغدادية/2866/ في 21/10/2000.
(2) ـ صحيفة بابل البغدادية/ العدد 2787 في 30/7/2000.(1/56)
يذكر أن منظمة العمل الدولية باتفاقيتها المرقمة (182) حظرت سوء أشكال عمل الأطفال ومنها جميع أشكال الرق أو الممارسات المشينة مثل بيع الأطفال والاتجار بهم، وعبودية الدَيْن، والقنانة، والعمل القسري، واستخدام الأطفال للدعارة، لقد كان أسوأ أشكال الاتجار بالأطفال هو قيام أسرهم الفقيرة ببيع أعضائهم أو بيع الطفل بالكامل لكي تستطيع العوائل من جعل هذا الطفل (سبيلاً) لمعيشة بقية أفراد أسرته وحماية المتبقي وهي عملية يندى لها جبين الإنسانية ويمقتها كل ضمير حي في البناء البشري(1).
إن لظاهرة الفساد الاجتماعي بجوانبه التي أشرنا إليها أو لجوانبه الأخرى التي لم نستطيع الإحاطة به كاملة، إنما يؤثر على استقرار البلدان ونموها بشكل واضح.
في هذا الصدد يشير أحد التقارير الإخبارية إلى أن أكثر من (44 مليون) طفل معرضون لليتم في العالم خلال السنوات القادمة نتيجة لمعاناة والديهم من مرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) الذي هو أحد أهم نتائج انتشار الرذيلة والفقر. وتظهر في القارة الأفريقية (الأكثر فقراً في العالم) أكثر الإصابات كما أشار إليها المؤتمر (الثالث عشر) لمكافحة الإيدز المنعقد في تموز/2000 بجنوب أفريقيا. ويشكل الفقر مع عدم إمكانية المصابين الفقراء الحصول على الدواء مرتفع الثمن الذي يخفف وطأة فيروس (HIV) على المرضى ازدياد نسبة الهلاكات البشرية وتعد هذه الهلاكات من العوامل التي تؤثر على نمو المجتمعات وتطورها وتلحق الموت بمن هم في سن الشباب الأكثر عرضة للمرض مما يشكل تهديداً لأنظمة هذه البلدان وزيادة في مشكلاتها(2).
__________
(1) ـ د.كريم محمد حمزة/ م س ذ.
(2) ـ إذاعة صوت أمريكا الناطقة باللغة العربية/تقرير حول الإيدز وآثاره الخطيرة/ الساعة 11.30 مساءً بتوقيت بغداد يوم 22/10/2000.(1/57)
ومن نافلة القول أن الفساد الاجتماعي يخلف وراءه جملة من الأسباب التي تعطي للفساد بكل أبعاده سبيلاً للنفاذ إلى المجتمعات التي يغزوها.
((
الفصل الثاني
الفساد الإداري
يعد الفساد الإداري واحداً من أهم أنماط ظاهرة الفساد مدى التاريخ، لما عرفته الأجيال التي خلت منذ الأزل عنه، إذ عرف (مثلاً) عند قدماء الصينيين والمصريين، فكانت جل نصائح حكماء هذه البلدان تتعلق بالصفات والسلوكيات التي يجب أن يتحلى بها شاغل الوظيفة العامة، تجنباً لما قد يظهر من بوادر تساعد على نمو هذا النمط من الفساد.
ومنذ ذلك العمق التاريخي وحتى يومنا الحاضر استمرت الدراسات تقدم النصيحة تلو النصيحة لاجتناب أسلوب الفساد هذا الذي يعد مرضاً خطيراً يهدد الكيان الإداري والاقتصادي والسياسي للدول(1).
فهو الآفة السلوكية التي ترمي بظلالها على جميع المجتمعات دون استثناء ولكن بدرجات متفاوتة على اختلاف نظمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهو يظهر في كلا العالمين الشمال والجنوب وإن كانت تلك المجتمعات تتباين في تحليل مفهوم ومكونات الفساد الإداري(2) كما تتفاوت وجهات نظر تلك المجتمعات حول أسباب ظهوره.
__________
(1) ـ انظر في ذلك: د.عطية حسين أفندي/ الممارسات غير الأخلاقية في الإدارة العامة/ في: د.مصطفى كامل السيد (محرر) /الفساد والتنمية/ جامعة القاهرة/ مركز دراسات وبحوث الدول النامية/1999/ ص 42.
(2) ـ ترى بعض المجتمعات أن بعض الممارسات تعد فساداً إدارياً مثل (البخشيش) بينما يعد أمراً طبيعياً في كثير من دول عالم الجنوب بالخصوص.(1/58)
لهذا يشير أحد الباحثين الغربيين في أحد مؤلفاته(1) (R.N.davidson) إلى أن البعض يؤكد على أن الفساد الإداري في بلدان الجنوب يختلف بنوعه وأسبابه عما هو عليه في بلدان الشمال، وذلك للتفاوت الاقتصادي واختلاف نظم القيم والأخلاق فيما بين العالمين(2). من هنا لكي نتعرف على نمط الفساد الإداري (ويأخذ الموضوع مداه) لابد أن نطرح التساؤل الآتي:
أين يكمن الفساد الإداري؟ وما تعريفه؟..
وللإجابة نقول إن الفساد الإداري يكمن في أداء الوظيفة العامة وممارسها (الموظف العام) الذي يعرف على أنه:
((كل من يعمل في خدمة إحدى المنظمات العامة بصفة مستمرة ودائمة ووفق ما تمليه أحكام تأسيسها ولوائحها مستهدفاً تحقيق مصالح هذه المنظمة وأهدافها. سعياً نحو الرضاء العام)) (3).
عليه، فإن تصرف الموظف العام داخل هذه المنظمة طبقاً للتعريف أعلاه يعد سلوكاً أخلاقياً (Ethical) طالما طابقَ التطبيقُ التعريفَ، أما إذا لم يطابق السلوكُ التعريفَ فإن ذلك التصرف يعد سلوكاً لا أخلاقياً (Unethical) للموظف العام(4).
وبصرف النظر عن السلوك الذي يعد غير أخلاقي عند ممارسة الوظيفة العامة (دون قصد) لسبب أو لآخر في تصرف الموظف العام، فإن السلوكية غير الأخلاقية ليس لها تفسير إلى مصطلح (الفساد الإداري) والذي يبرز من خلال تصرفات الموظف العام ويعرف على أنه:
(
__________
(1) ـ الجريمة والتنمية.
(2) ـ د.صلاح فهمي محمود / الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية/ الرياض/ المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب/1994/ ص 17.
(3) ـ د.عطية حسين أفندي/ الممارسات غير الأخلاقية في الإدارة العامة / م س ذ/ ص44.
(4) ـ م.ن.(1/59)
سلوك الموظف العام المخالف للواجب الرسمي بسبب المصلحة الشخصية(مثل العائلة، القرابة، الصداقة) أو الاستفادة المادية، أو استغلال المركز ومخالفة التعليمات لغرض ممارسة النفوذ والتأثير الشخصي والذي يدفع هذا السلوك إلى استعمال الرشوة لمنع عدالة أو موضوعية شخص معين في مركز محترم وكذلك يشمل سوء استخدام المال العام مثل التوزيع غير القانوني للموارد من أجل الاستفادة الخاصة)، وذلك طبقاً لتعريف جوزيف ناي
(Joseph Nye)(1).
أو هو المفهوم الذي يفسر الفساد الإداري على أنه: (تصرف الموظف العام الذي يستخدم المنصب العمومي لتقنين مكاسب خاصة ويشمل ذلك الرشوة والابتزاز وهما ينطويان بالضرورة على مشاركة طرفين في الأقل، كما يشمل أيضاً أنواعاً أخرى من ارتكاب الأعمال المحظورة الذي يستطيع المسؤول العمومي القيام بها بمفرده ومن بينها الاحتيال والاختلاس).(2)
ـ على أن ذلك السلوك يترافق مع ضعف (المساءلة) الحقيقية وضعف (شفافية) أعمال الدولة من حيث الإفصاح عنها ومنح صلاحيات كبرى للموظفين العموميين، مضافاً إليها انخفاض الكثير من دخولهم بما لا يتناسب وضمان حياة وعيش كريم لهم مما يؤدي إلى استخدامهم للصلاحيات (بسلوك غير أخلاقي) يجعلهم يستغلون تلك الصلاحيات لتحقيق المنافع الشخصية التي تفسر على أنها فساد إداري(3).
__________
(1) ـ نقلاً عن د.صلاح الدين فهمي محمود/الفساد ا لإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية /م س ذ / ص 26. ـ(*) أحد الأساتذة الغربيين المتخصصين في الدراسات السياسية.
(2) ـ د.عطية حسين أفندي/ الممارسات غير الأخلاقية في الإدارة العامة/ م س ذ/ ص 52.
(3) ـ أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ الاتجاهات الاقتصادية والاستراتيجية/ 2000/ (ملف سنوي)/ القاهرة/ مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام /2001/ ص 165.(1/60)
ومن خلال ما تقدم في مفهوم الفساد الإداري سنبدأ بتناول صوره المتمثلة بما يأتي:
أولاً ـ الرشوة:
وهي صورة يتلمسها كل ذي حس في تعامل وسلوك الموظف مع عامة المجتمع عندما يريد استغلال سلطته، وقد عرفت الرشوة عند صغار الموظفين وعند كبار المديرين وهي تختلف بشكلها وطبيعتها فقد تكون (ذات قيمة مادية) أو تكون (ذات طبيعة عينية) وقد تأخذ مفاهيم وتفسيرات عدة، فمنهم يسميها (هدية)، ومنهم من يسميها (مساعدة)، ومنهم من يسميها (إكرامية) والكل يعي أنها (رشوة) مهما اختلفت التسميات.
والرشوة طبقاً للمفهوم القانوني هي (جريمة) تفترض وجود طرفين عند اقترافهما هما:
أ ـ المرتشي: ـ وهو الذي طلب أو قبل لنفسه أو لغيره أو أخذ وعداً أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو للامتناع عنه أو للإخلال بواجبات الوظيفة وبعبارة أخرى هو الشخص الذي يستغل سلطة وظيفته(1).
ب ـ الراشي: وهو صاحب الحاجة الذي يسعى إلى شراء ذمة المرتشي وإفساده، كي يجعله يميل عن جادة الصواب وذلك بعرض أو تقديم وعداً أو عطية أو هدية بغية الوصول إلى هدفه، وهو حمل المرتشي إلى أن يؤدي له عملاً من أعمال وظيفته أو يمتنع عن أ دائه أو يخل بواجبات وظيفته(2).
جدير بالذكر أنه في دراسة لأحد الباحثين لحالة جنوب آسيا عند تحليله للفساد المنتشر فيها شخّص أن الرشوة صارت من الحقائق الثابتة في الأجهزة البيروقراطية هناك حيث تعاني معظم الإدارات العامة والشركات والوكالات الحكومية ومكاتب إصدار تصاريح التصدير والاستيراد وإدارات الضرائب من انتشار الرشوة على نطاق واسع فيها مما يمكن من القول:
((
__________
(1) ـ د.أحمد رفعت خفاجي/ جرائم الرشوة في التشريع المصري والقانون المقارن/ القاهرة/ دار قباء للنشر والتوزيع/ 1999/ ص 208.
(2) ـ المصدر نفسه/ ص 208.(1/61)
متى أعطيت السلطة لأي موظف، سيكون هناك مجال للرشوة والتي بدونها لا تسير عجلات الإدارة))(1).
لهذا نرى في تحليل آخر لأحد نماذج تلك الظاهرة في ذات القارة أن الرشاوى تدفع لإغواء الموظفين للتغاضي عن الظروف الخطرة أو للسماح للشركات بتوريد خدمات منخفضة الجودة. مثال ذلك أن المقاولين الذين يقومون بصيانة شبكات الري في الباكستان والهند يهملون تنفيذها بكامل مواصفاتها، الأمر الذي جعل المراقبين للتشغيل عن كثب في العديد من مناطق الري يؤمنون بأن انخفاض الجودة ناجم عن برطلة (رشوة) المسؤولين الإداريين الحكوميين عن المشرع للتغاضي عن الأشغال الرديئة النوعية(2).
مما يجعلنا نلاحظ كيف أن لآلية الفساد من خلال الرشوة تأثيراً كبيراً على قطاع مهم يخدم آلاف المواطنين البسطاء في تلك البلدان الذين يشكل لهم انتظام الري ديمومة العيش ضمن اقتصادهم الزراعي، ويشكل الانحراف عائقاً مهماً لهذه الخدمة.
__________
(1) ـ نبوية علي محمود الجندي/ الفساد السياسي في الدول النامية مع دراسة تطبيقية للنظام الإيراني حتى قيام الثورة الإسلامية (1941 ـ 1978) رسالة ماجستير/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة/ 1982 ـ 1983/ ص ص 28 ـ 29.
(2) ـ سوزان روز أكرمان/ الاقتصاد السياسي للفساد/ في/ كيمبرلي أن اليوت (محررة) /الفساد والاقتصاد العالمي/ ترجمة: محمد جمال إمام/ القاهرة/ مركز الأهرام للترجمة /2000/ ص 68.(1/62)
وبدراسة أنموذج آخر من نماذج استخدام آلية الرشوة نجد أنها قد تصل إلى أن تكون هذه الآلية موضوعاً معقداً له آثاره الجانبية الخطرة على حياة المجتمعات، ولعل تناول موضوع فساد جهاز الشرطة يشكل عنوانه بحد ذاته فكرة سوداء لدى المتلقي لهذا العنوان لما ينتج عنه من آثار خطيرة، إن فساد الشرطة يكون ناجماً عن عوامل متعددة ترتبط ليس فقط بأخلاقية العمل (كشرطة) والتدريب والإشراف على الجهاز ولكن ترتبط أيضاً بنوعية النظام الذي يجب أن تعمل الشرطة في إطاره(1).
ولعل من الواضح دوماً أن أنشطة الأعمال غير القانونية تحاول جهدها إفساد عناصر هذا الجهاز ليس لضمان عدم ملاحقتها قضائياً فحسب وإنما للحصول على نفوذ احتكاري) للأعمال غير القانونية تحت حماية الشرطة عن طريق استخدام آلية الإفساد من خلال الرشوة.
هذا الشكل من الفساد الإداري يظهر واضحاً بأنموذج تناوله أحد الباحثين عن علاقات مافيا المقامرات (الولايات المتحدة الأميركية) مع الشرطة، حيث يدفع أولئك المقامرون وتجار المخدرات لمسؤولي الشرطة الرشاوى مقابل إغارة الشرطة على منافسيهم أو لتقييد آخرين من الدخول إلى النشاط أو التغاضي عن جرائمهم تجاه المجتمع.(2)
والذي يدعو هذا لإعطاء غطاء كامل لمرتكبي الجرائم من قبل الجهاز المنفذ لحكم القانون والعدالة (جهاز الشرطة) حيث يلاحظ من خلال استخدام آلية الرشوة يتحول الأبرياء من مدعين إلى متهمين وقد يصل تأثير الرشاوى هذه إلى جعل هؤلاء الأبرياء يتحولون في باحات المحاكم إلى مجرمين تلفق ضدهم التهم.
__________
(1) ـ جامعة الدول العربية/ المجلة العربية للدفاع الاجتماعي/ العدد (6) / 1977/ ص 116.
(2) ـ سوزان روز أكرمان /الاقتصاد السياسي للفساد /م س ذ /ص 59.(1/63)
الأمر الذي يدع هذا الجانب من الفساد الإداري يترك الأثر على المجتمعات بجعل المواطنين مهزوزي الثقة بالعدالة ليس لهم ثالث سوى الاختيار بين التمرد أو الإذعان للحالة وهنا لا يمكن أن يتمتع المواطن بالحرية خصوصاً في بلدان تنادي بها في شعاراتها وتمسك بها في مشاعلها كما تدعي(1)، فتكون آلية الرشوى هذه سبيلاً لتبرير وتغطية السلوك الإجرامي كما لاحظنا.
جدير بالإشارة أن الرشوة قد تدفع من أسفل الجهاز الإداري إلى قمته لتحقيق سرية الأعمال اللا أخلاقية واللا قانونية التي يقوم بها الجهاز الإداري والتكتم عليه من قبل الرؤساء الإداريين الأعلى مرتبة. أو على سبيل المشاركة بين أسفل الجهاز الإداري وأعلاه (بريع الفساد). أو قد تدفع الرشاوى لما هو أدهى من ذلك حيث تستخدم للتكتم على سرقات كبرى وجرائم ضخمة مما يؤدي إلى تعريض المصلحة العامة للضرر البالغ(2).
وفي آخر المطاف وصف أحد السياسيين اللبنانيين ما تؤول إليه الرشوة بأنها عندما تكون سيدة في الدوائر، يعني أن تكون أسرة بلا بيت وقرية بلا طريق وضيعة بلا ماء ومريض بلا دواء وأن تتبوأ الأمية والجهل أعلى المراتب وتتبوأ اللا أخلاقية أخطر المناصب وأن يظل أقل من (1%) ينعم بالخيرات على ظهر بضع عشرات بالمئة من الأفراد الآخرين(3).
إن الرشوة تعني أن المواطن الذي يرى موظفاً يطالبه بها قبل أن يضع إمضاءه على ورقة سيصاب بالخيبة لأنه يرى أقدس مقدساته تطعن وتداس حيث عليه أن يدفع ثمناً للحصول على حق من حقوقه الشرعية كمواطن ليس من ماله فقط وإنما من ضميره(4).
__________
(1) ـ انظر: صحيفة الحياة/ 29/6/2001.
(2) ـ السيد علي شتا/ الفساد الإداري ومجتمع المستقبل/ القاهرة/ مكتبة ومطبعة الإشعاع/1999/
ص 56.
(3) ـ انظر: د.محمود عبد الفضيل/ محاور من ظاهرة الفساد والقضاء على تداعياتها السلبية، صحيفة السفير اللبنانية/ 30/3/2000.
(4) ـ صحيفة الحياة/م س ذ.(1/64)
وهنا تتضح الآثار السلبية للرشوة كآلية خطرة من آليات الفساد الإداري التي تنجم عن سوء تصرف الموظفين العموميين والتي بالنتيجة تفقد القانون سيادته في المجتمع.
ثانياً ـ المحاباة والمحسوبية (Nepotism & Favoritism):
وهي ثاني الصور التي نعرض إليها من خلال تحليلنا للفساد الإداري والناجمة عن محاباة الأقارب والأصدقاء، لذا نجد في دراسة للكاتب جيسن سكوت وهو يشخّص هذه الحالة ويطلق عليها مفهوم (الفساد الرعوي Parochial corruption) على أساس أن هذه الآلية تنطلق من روابط القربى والوضع الطبقي والولاءات التقليدية الضيقة التي تكون مخرجاتها تقريب طبقات وجماعات واستبعاد وربما اضطهاد جماعات وطبقات أخرى متأثرين بذلك بالأصول العرقية والاجتماعية. يذكر أن الآلية المذكورة مستشرية في عالم الجنوب بشكل واضح حيث نلاحظ أن (الفساد الرعوي) يظهر في تايلاند وكذلك في الهند(على سبيل المثال) لذا فالمتتبع لحالته في تلك البلاد يرى ازدياد السخط العام منه(1). نتيجة لتلك الفوارق الطبقية في التمييز.
__________
(1) ـ نبوية علي محمود الجندي/ الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير/ م س ذ/ ص 33 ـ 35.(1/65)
لهذا يكون (بيتر وارد Ward) من خلال تحليله للفساد الناجم عن المحاباة والمحسوبية ضمن سياق المشكلة الاجتماعية في المجتمع الهندي قد تنبه إلى قيام ذلك المجتمع على اللا مساواة بين الطبقات العليا والدنيا منه ويذكر أن الموارد تؤدي إلى توسيع الفجوة بين تلك الطبقات والعلاقة فيما بينها بحيث يصبح (الحراك الاجتماعي) (Social mobility) إلى أعلى أمراً صعباً لوجود علاقات تبعية واعتماد، وحتى مع الافتراض بأن مجتمع الهند يشهد تحولاً اقتصادياً وتحديثاً للقواعد والممارسات التقليدية التي يعمل بها (شأنه شأن مجتمعات عالم الجنوب الأخرى) فإن المرحلة الانتقالية قد تساعد على تسويغ الفساد خاصة وأنها تساعد على حصول الفقراء على الموارد بدلاً من اعتمادهم على الشريحة العليا(1).
إن الدارس لآلية المحاباة والمحسوبية يجد أنها واحدة من أكثر الآليات خطورة والأصعب علاجاً. حيث أن استغلال المنصب الحكومي للاستفادة الشخصية لمصلحة الفرد ومحاسيبه دون وجه حق أحد أسباب الفساد الإداري الناتج عن سوء نية وسوء قصد مع سبق الإصرار عليه(2). لإعطاء حق من يستحق إلى من لا يستحق وأساس التمييز هو الصلة (العصبوية ـ القرابية)، وبذلك تستغل الموارد وتشغل المناصب من قبل غير المؤهلين مما يؤدي إلى الآثار السلبية المنعكسة على حياة المجتمعات نتيجة هذه الممارسات.
__________
(1) ـ أ.غادة موسى/ الشفافية والمساءلة في ألمانيا بعد الوحدة/ في مصطفى كامل السيد (محرر)/ الفساد والتنمية /م س ذ/ ص 83.
(2) ـ أ.د.أحمد إبراهيم أبو سن/ استخدام أساليب الترغيب والترهيب في مكافحة الفساد الإداري/ المجلة العربية للدراسات الأمنية /الرياض/ المجلد (11) العدد (21)/محرم 1417هـ/ص91 وما بعدها.(1/66)
وبأنموذج يقرب الصورة إلى الأذهان بشكل واضح سنعرض لإحدى قضايا الفساد الإداري من خلال المحاباة لنرى كيف تم وضع أحد الأفراد أميناً عاماً على المال العام في مصر فغرف هو وأسرته بانتظام باستخدام آلية المحاباة بهدف الإثراء غير المشروع (الفساد).
حيث عرفت المحاكم المصرية واحدة من أشهر قضايا الفساد عندما قدمت لائحة الاتهام التي أعدتها النيابة المصرية العامة ضد (رئيس شركة ا لنصر للأجهزة الكهربائية والإلكترونية، الرئيس السابق للشركة القابضة للصناعات الهندسية)، طبقاً لما تضمنته القضية (1599) لسنة (1997) محكمة جنايات القاهرة وما نظرته محكمة النقض في 20/أيار/1998 حيث تبين أن الشخص المذكور حصل لنفسه وزوجته وأنجاله الثلاثة على كسب غير مشروع بسبب استغلاله لسلطات وظيفته ونفوذه(1)، واتضح أن الاستغلال هذا ولد لدى المذكور وأقاربه وأفراد أسرته ثروة طائلة وطارئة بلغت(أربعة وعشرين مليوناً وسبعمائة واثنين وسبعين ألفاً وخمسمائة) دولار أمريكي، مضافاً إليها (ستة ملايين ومئة وتسعة وثلاثين ألفاً ومئة وأحد عشر) جنيهاً مصرياً، مع مبلغ قدره (مائتان وتسعة وستون ألفاً ومائتان وسبعة وسبعون) فرنكاً فرنسياً(2)، هذا بالإضافة إلى أن الشخص المذكور عند إحالته على المعاش (التقاعد) لم يبلغ راتبه سوى (6 آلاف جنيهاً مصرياً) وهو مبلغ ضئيل تجاه هذه الثروة الطائلة(3).
__________
(1) ـ أ.أحمد حجاجي/ بعض قضايا الفساد في المحاكم المصرية/ في مصطفى كامل السيد/ (محرر) /الفساد والتنمية/ م.س.ذ/. ص 284.
(2) ـ أ.د.محمود عبد الفضيل/ اقتصاديات الفساد(2)/ محاور حصار الظاهرة والقضاء على تداعياته السلبية/ صحيفة السفير اللبنانية/ 30/3/2000.
(3) ـ أ.أحمد حجاجي/ م س ذ/ ص 284.(1/67)
جدير بالذكر أن المجتمع في مصر من المجتمعات ذات العلاقات المترابطة التي تمتلك منظومة اجتماعية قوية لا يملك فيها المرء سوى أن يقدم المساعدة لأهله ومعارفه مما يجعل تطبيق مبدأ المحافظة على الحدود بين المؤسسات غير واقعي. إن مثل هذا الإطار الاجتماعي يجعل الموظف العام يجني هو ومحاسيبه ثمناً خفياً من وراء استخدام آلية المحاباة والمحسوبية، تؤثر على حقوق بقية أفراد المجتمع.
ونتيجة لهذه الحالة الاجتماعية تكون المحسوبية والمحاباة واحدة من عدة أسباب (بل سبباً رئيسياً من بين أسباب عدة) في أن تتراكم ثروات هائلة لدى أفراد (تجعل الفرد مذهولا من الأرقام التي يمتلكونها) ويشخص المفكر العربي (الأستاذ محمد حسنين هيكل) هذه الحالة عندما يذكر أنه في غضون (عشرين سنة فقط) أصبح أشخاص في المجتمع من أولئك الذين يمتلكون تلك الثروات الضخمة (عند معالجته لنفس الأنموذج) (1) التي لم تتراكم لديهم نتيجة للمنطق الرأسمالي السليم القائم على الاستثمار ومخاطره واحترام القوانين وضوابطها ودفع الضرائب بشكلها المنتظم والرضا بتكاليفها ولكنه جاء (في تشخيص غير مباشر لفساد المشار إليهم في الحديث) جراء استغلال نفوذ، ودوران حول القانون واستهتار به، ومن ضرائب غير عادلة في تكاليفها وإنما ضرائب على أضعف الطبقات قدرة على أدائها وأقلها فرصة في الهرب والتهرب منها(2).
__________
(1) ـ يشخص الأستاذ هيكل إلى أن هنالك فقط (3740) فرد فقط من المجتمع المصري ذو الكثافة السكانية المعهودة يمتلكون مابين (200 مليون دولار فأكثر و10 ملايين دولار أمريكي).
(2) ـ محمد حسنين هيكل/ (1995)/ باب مصر إلى القرن الواحد والعشرين/القاهرة/ دار الشروق /1995/ ص 21.(1/68)
ولرؤية مدى خطورة آلية المحسوبية والمحاباة من خلال أنموذج دراستنا وتشخيص حالة الإثراء السريع من قبل (الأستاذ هيكل) لبعض أفراد المجتمع المصري نرى أن التأثير ينعكس بوصفه سبباً من ضمن أسباب عدة إلى أن حوالي (30%) من السكان يعيش تحت خط الفقر (أقل من 25 دولاراً أمريكياً للعائلة في الشهر) وأن معدل البطالة (20%) في المدن و(50%) في الريف طبقاً لدراسة أصدرها البنك السويسري (سويتز ـ لاند بنك) مما يجعل هذه الفئات تدفع ضريبة إصلاح وصفات المنظمات الدولية في حين تستفيد فئات أخرى من ذلك(1).
إن مشكلة المحاباة والمحسوبية (كآلية من آليات الفساد التي سبق وأن أشرنا إلى أنه يختلف في الحكم عليه باختلاف قيم المجتمعات) تستشري في عالم الجنوب بسبب قيم المجتمعات وكذلك يمكن استيضاحها في عالم الشمال أيضاً. ولهذا يشير الأستاذ (فيتو تانزي Tanzi)(2) لمدى خطورة هذه الظاهرة وما يكتنف هذه الآلية من تكاليف على المجتمع من خلال تناوله للأنموذج الإيطالي في ذلك، حيث يشير إلى أن الكثيرين في جنوب إيطاليا (موطنه الأصلي) يعتقد أن معظم المناصب الحكومية لا تخصص وفقاً (للجدارة) (3) وإنما من خلال التزكيات الشخصية والتوصيات (العلاقات القرابية).
__________
(1) ـ سعد الدين وهبة/ من الانفتاح إلى الخصخصة/ النهب الثالث لمصر/دراسة وثائقية/ القاهرة/ دار الخيال/ 1997/ ص ص 98 ـ 99.
(2) ـ فيتو تانزي، مدير إدارة الشؤون المالية في صندوق النقد الدولي (IMF) وله دراسات عدة في تشخيص ومعالجة موضوع الفساد./ إيطالي الجنسية.
(3) ـ يظهر من خلال الحديث مدى المحسوبية المنتشرة في المجتمع الإيطالي وأثرها السيء.(1/69)
ويذكر أن إحدى السيدات من معارفه اتصلت به طالبة وساطته ليقوم بالتوصية لقبول حفيدها في منصب شاغر (كعازف موسيقي) في فرقة أوركسترا إقليمية بإيطاليا ويتساءل الأستاذ (تانزي) بقوله فلنفكر في بيئة تحدد فيها التوصيات وليس الكفاية والمقدرة ما أن كان شخص ما يختار للعزف في أوركسترا أم لا! ويمضي قائلاً: لنفترض أن من الممكن أن يؤثر الاتجاه نفسه على تخصيص المناصب ليس فقط منصب (عازف الفلوت) وإنما منصب الأطباء الجراحين مثلاً، ففي هذه الحالة لن تقاس تكلفة الفساد من حيث النفخات الموسيقية وإنما من حيث العمليات الجراحية غير المتقنة أيضاً ومدى تأثيرها على المجتمع وأرواح الناس(1).
ولهذه الحالة يشير (روبرت تلمان Telman) (2) إلى أن الدوافع وراء الفساد الإداري هي وجود بيئة فاسدة تساند فيه السياسة العامة للحكومة نظاماً بيروقراطياً يوجد فيه (حسب تأكيد مفكر آخر هو (بريبانتي))(3) سوء التنظيم الإداري وبيروقراطية القيادات الإدارية المتمثلة في تعدد القادة الإداريين وتضارب اختصاصاتهم وتضخم الجهاز الوظيفي ونقص المهارات السلوكية والإنسانية لدى أولئك الإداريين فضلاً عن إشغال المناصب العليا بعناصر غير كفوءة أوصلتها السبل غير القانونية والشرعية فكانت مناصب متخلفة فاسدة إدارياً تمتاز بتناثر السلطة(4). كانت المحاباة والمحسوبية السبب الرئيس في إشغالها فأحدثت انعكاساً خطراً على المجتمع حال دون تولية الأصلح.
ثالثاً ـ الاحتيال (النصب) Fraud:
__________
(1) ـ فيتو تانزي/ تعليقات/ في: كيمبرلي آن أليوت (محرر)/ الفساد الاقتصادي العالمي/ م س ذ / ص 224.
(2) ـ باحث غربي في مجالات الفساد والإدارة.
(3) ـ باحث غربي في مجالات الفساد والإدارة.
(4) ـ نقلاً عن: د.صلاح الدين فهمي محمود/ الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية/ م س ذ/ ص ص 50 ـ 51.(1/70)
وهي آخر صور الفساد الإداري الذي سنتناوله بالدراسة. الذي يعد من الجرائم طبقاً للمفهوم القانوني (بإشارة للمادة (405) من قانون العقوبات الفرنسي) حيث أنه لكي يعد النصب جريمة يتعين فيه توافر الركن المادي لاستعماله الطرق الاحتيالية(1).
وتستخدم جريمة الاحتيال هنا للحصول على منافع شخصية تدر على مرتكبيها. فالمرتكب لهذه الجريمة يقوم بفعله الاحتيالي الفاسد بعد أن يتبين أنه يستطيع النفاذ من فعله بالحيلة وبعد أن يقارن بين مكاسب الفعل وخسارته قبل ارتكابه.
عليه سنعرض لأساليب الاحتيال التي ينفذ منها أصحاب النفوذ الإداري لتجاوز القوانين والعبور من خلالها بشكل خالٍ من المسؤولية باستعمال آلية الاحتيال.
__________
(1) ـ أ.د.أحمد رفعت خفاجي/ جرائم الرشوة/ م س ذ/ ص 203.(1/71)
وأنموذجنا الأول في ذلك يتضمن ما كشفته إحدى الصحف المحلية الصينية عام 1995 عن فضيحة ضخمة كان طرفها رؤساء (خمس شركات في مدينة داندونج) الصينية، حيث حاول هؤلاء تعويض خسائر شركاتهم التي منيت بها نتيجة لارتفاع الأعباء الضريبية وتضاؤل الأرباح، باستخدام طرق احتيال ملتوية على القانون لتهريب سيارات من خارج الصين إلى داخلها لتحقيق أرباح ضخمة يستطيعون من خلالها تعويض خسائرهم. وتأتي أرباحهم هذه نتيجة للاحتيال على قانون الضرائب أولاً وبدفع الرشاوى إلى مجلس المدينة لغض الطرف عن تلك الصفقة ثانياً، وقد حقق هذا السبيل من الاحتيال إدخال (ثلاثمئة شاحنة) مهربة إلى البلاد مع تحقيق المكاسب المادية في التهرب من دفع الضرائب بطرق الاحتيال بما يعادل (خمسمائة مليون يوان صيني)(1). وهكذا يتجلى أن للاحتيال على القانون آثاراً تثري فئة ضيقة وتؤثر على الدخل القومي للمجتمع ككل. ولعل المثال الآتي يعزز ذلك في تفسير أثر أساليب الاحتيال بشكل واضح. إذ ورد في تقرير لصندوق النقد الدولي أن إحدى الدول المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حصلت على قرض امتيازي لشراء القمح على أنها مساعدات إنسانية وفي عملية احتيال كأن أطرافها (تاجراً مرتبطاً بموظفين حكوميين) بيعت الصفقة إلى ذلك التاجر بسعر يقل عن سعر استيرادها المساوي، وقام الأخير مع مشاركيه من أعضاء الجهاز الحكومي بجني أرباح ضخمة أضرت بالمستهلك في تلك الدولة(2). الأمر الذي يظهر مدى الآثار السيئة للفساد الإداري.
__________
(1) ـ د.حنان قنديل/ التحول إلى السوق والفساد في الصين/ في مصطفى كمل السيد (محرر) /الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص 144.
(2) - Thomas wolf/ Improving Governance & fighting corruption in the baltic & (CIS) Countries/ washington /IMF/ 2000 p.6.(1/72)
المثالان سالفا الذكر لآلية الاحتيال كانا لتصوير آلية الاحتيال لأشكال تؤثر على الدخل القومي وعلى المستهلك من عموم المواطنين.
أما أن يكون الاحتيال مؤثراً بشكل يسلب الآخرين جهودهم الفكرية والعلمية فهذا يعد أسلوباً خطراً لأنه يهدد حقوق الباحثين وعناءهم العلمي. ولعل مثالنا الذي ستوضحه الأسطر القليلة الآتية يبين شكل وخطورة هذا الأسلوب.
حيث بتاريخ 7/ت2/1983 حصل أحد الرعايا العرب في دولة عربية شقيقة على درجة الماجستير من إحدى الجامعات المعروفة في ذلك البلد. ومالبثت أن نشرت إحدى الصحف اليومية مقالة لأستاذه (المشرف المساعد على الرسالة) منقولة من رسالته، وجاء فيها أن الأستاذ ينوي إصدار ذلك في كتاب لإقراره على طلبة الكلية ذاتها التي أجازت رسالة الطالب، ثم صدر الكتاب من دار نشر معروفة وتداولته أيدي طلبة الكلية بمبلغ محدد على الغلاف ومدرجاً عليه اسم ذلك الأستاذ. على أنه أورد في مقدمة ذلك المؤلف (الذي هو نسخة طبق الأصل من رسالة الماجستير المذكورة) ما نصه: ـ ((إن هنالك أحد الطلبة قد اقتبس رسالة ماجستير بالكامل من هذا الكتاب)).
في محاولة منه بتلك العبارة التمويه ليصبح هو المؤلف الأصلي والطالب هو الشخص الذي اقتبس معلومات بالكامل ليست من جهده ليحصل بها على الماجستير، الأمر الذي يوضح (دليل إدانة أول لذلك الأستاذ) حيث إن كانت الرسالة كما يذكر من تأليفه، فكيف سمح لتلميذه بنسخها كاملة وهو المشرف المساعد عليها؟ ثم كيف أجاز الرسالة وهو أحد المناقشين لها والأمانة العلمية تحتم عليه عدم إجازتها في حالة علمه أنها ليست من جهد الطالب؟..(1/73)
أما (دليل الإدانة الثاني) فيكمن في الفرق بين تاريخ مناقشة الرسالة وتاريخ صدور الكتاب حيث أن الرسالة نوقشت في بداية شهر ت2/1983 وصدر الكتاب بعدها بحوالي(5 ـ 6 أشهر) أي في آذار/1984 بوصفه مؤلَّفاً للأستاذ المذكور(1).
بهذه الأدلة أصبح الأستاذ في موقف يؤكد أنه استحل لنفسه (أدبياً ومادياً) عائداً علمياً هو من حق الباحث المشار إليه. ولقد كشفت الدعاوى القضائية والملاحقات الصحفية التي قام بها الأخير لإثبات حقه أفكار ذلك الأستاذ الاحتيالية، حيث أجبر في محاولة لتبرير عمله الخالي من القيم العلمية، بأن يقوم باستبدال غلاف الكتاب بلون آخر وأصدره بذات العنوان الذي جاءت به رسالة الطالب المذكور (لأن الأستاذ نشر المؤلف باسمه وبعنوان آخر).
وتضمن الكتاب بإصداريته الجديدة ورقة في بدايته كتبها الأستاذ بخطه متضمنة اعترافه بأن هذا المؤلف هو رسالة ماجستير نوقشت في كلية (.........) تحت إشراف (وجاء ذكر أسماء الأساتذة المناقشين ومن بينهم (الأستاذ المستحوذ)) وأنها أجيزت بتقدير (جيد جداً) بتاريخ 7/11/1983 واعتمدتها جامعة (...........) بتاريخ 9/1/1984. ثم لتختم هذه الصيغة بدرج اسم الأستاذ بعبارة (أ.د.......) بحروف مطبعية (وليست بخطه الذي تضمنته الورقة) خالية من أي توقيع له مسوغاً بذلك فعله الاحتيالي(2).
مما تقدم يتجلى لنا مدى خطورة آليات وصور الفساد الإداري الذي يمتد أثره السيء إلى العديد من أركان وزوايا الهيكل الإداري للدولة فيجعل الخسائر الناجمة عنه تؤثر بشكل موجع على قيم المجتمعات وأساليب التعامل الإداري السليم.
((
الفصل الثالث
الفساد الاقتصادي
__________
(1) ـ انظر في ذلك: حازم هاشم/ صور من الفساد الجامعي/ القاهرة/ دار الشروق/ 1994/ ص 76 وما بعدها.
(2) ـ انظر في ذلك: حامد أحمد موسى هاشم/ نظرية المباريات ودورها في تحليل الصراعات الدولية/القاهرة/ مكتبة مدبولي/ بلا تاريخ/ ص1.(1/74)
عندما يتحدث أو يكتب في مجال الفساد الاقتصادي فلابد لمن طرح الفكرة للمناقشة أن يجعل صورة (الفقر) أمامه نتيجة رئيسة لتفاعل الفساد مع المال، لذلك فإن الكثير من الباحثين تناولوا مسألة الفساد الاقتصادي جنباً إلى جنب مع موضوع الفقر. حيث بانعدام المبادئ والأخلاق والعدالة وتفاقم الرشوة والعمولة تتدهور الاقتصاديات في ظل فسادها ويؤدي ذلك إلى انتشار آفة الفقر. لهذا شخص البرفسيور د.ديفيد جولد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بتسبرج، والدكتور خوزيه امارو ريسي الأستاذ المساعد للعلوم السياسية في جامعة سييتون هول (الخبيران لدى البنك الدولي) في دراسة عن أثر الفساد الاقتصادي على الدول النامية إلى أن بعض المجتمعات استطاعت التغلب على الفساد في الدول المتقدمة إلا أنه الظاهرة لا زالت متفاقمة في عالم الجنوب العالم الأكثر فقراً ومعاناة من ضنك العيش. مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات اقتصادية في تلك الدول مخالفة لمتطلبات الواقع الفعلي وبذلك تسود الفوضى كل مظاهر الحياة(1).
__________
(1) ـ نقلاً عن حمدي فؤاد/ الفساد في الدول النامية/مجلة الأهرام الاقتصادي/ العدد 840 في 18/2/1985.(1/75)
لقد عرفت العلاقة بقبول المفاوض فائدة عند إبرامه عقداً ما لقاء سعيه في إتمامه الصفقة بشروط مجحفة (بمعنى أنه يخون أمانته بعَدّهِ مؤتمناً على حق عام فينحاز إلى الآخر ولا يراعي مصلحة الطرف الذي يمثله )بأنها آلية (العمولة Commission) التي هي الصورة والمفهوم الذي يتجلى نمط الفساد الاقتصادي باستخدامه(1). حيث من خلال هذه الآلية ونمو التجارة الدولية والأعمال أصبح أسلوب الفساد الاقتصادي خير من يأتي بنفع كبير إلى العديد من الشركات (خصوصاً متعددة الجنسية) باستخدامها هذا الأسلوب للفوز بالعقود على حساب منافسيها (ذلك طبقاً لما تشير إليه تقارير صندوق النقد الدولي الصادرة عام 1998.)(2). لهذا نلاحظ بأن صحيفة اللوموند الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 17/3/1995 تشير إلى أن حجم الرشاوى (العمولات) المدفوعة للخارج من قبل شركات فرنسية للعام 1994 يقدر بـ(10 بليون ف.ف). وذلك نقلاً عن تقرير سري للحكومة(3).
__________
(1) ـ د.أحمد رفعت خفاجي/ جرائم الرشوة في التشريع المصري والقانون المقارن/ م س ذ/ ص 483.
(2) -Vio tanzi / corruption around the world/ Washington / IMF/ May . 1998. /p.7.
(3) -Ibid . p.7.(1/76)
ضمن هذا السياق لمفهوم الفساد الاقتصادي ومفهوم العمولة نجد أن من أوضح الأمثلة لإغناء الموضوع يكون من خلال الإشارة إلى أنموذج التسلح، ففي هذه الصورة من صور الفساد الاقتصادي تشير إحدى أوراق صندوق النقد الدولي إلى أن الفساد في العالم يرتبط بنوعية البيروقراطية في كل دولة ومستوى أجور القطاع العام وسلطة حكم القانون وتوفر المصادر الطبيعية ودرجة المنافسة الاقتصادية. ثم ينتقل بعد ذلك التقرير ليشير إلى أن منتجي الأسلحة في العالم يلجؤون إلى تقديم عمولات (غير قانونية) لأجل كسب العقود في كثير من البلدان وحتى في بلدانهم(1). ويقدر خبراء الصندوق أن هنالك أكثر من (15%) من عوائد صفقات التسلح تذهب لتغطية هذه العمولات(2) وأن لهذه العمولات الأثر السلبي على الدول المستوردة لزيادة النفقات وأثراً إيجابياً على الدول المصدرة لإمكانية التصدير. وبما أن الدول الأكثر استيراداً للسلاح في العالم هي دول العالم الثالث (الأكثر فقراً) (كما أشرنا سلفاً) والتي ينمو إنتاجها بمعدل (5%) سنوياً نلاحظ أن إنفاقها العسكري يزداد بمعدل (7%) ونسبة من هذه الإنفاقات تذهب كعمولة طبقاً للآراء الواردة أعلاه مما يمتص القدرات المتاحة لتلك البلدان في التطور(3).
__________
(1) -Sanjeev Gupta & others/ corruption & military spending/ Washington/ I MF/ Feb 2000 / pp 2-4.
(2) - Vito Tanzi / corruption around the world / po. Cit. p.7.
(3) ـ د.سامي منصور/ تجارة السلاح والأمن القومي العربي/ القاهرة/ مكتبة مدبولي/ 1991 /ص 232.(1/77)
إن لهذا الإنفاق العسكري لدول الجنوب الأثر على ميزانيات الدول المصدرة للسلاح الأمر الذي يحث الأخيرة إلى دفع العمولات لجني الفوائد، لذلك نرى أن تقريراً لمكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي أوضح بدراسة (لبيان ذلك الأثر) حول مبيعات السلاح إلى أن وقف هذه المبيعات يؤدي إلى فقدان (ثلاثمائة وخمسين ألف) فرصة عمل للعمالة الأميركية، فضلاً عن أن كل (مليار دولار أميركي) يأتي من صادرات السلاح يوفر (اثنتين وأربعين ألف فرصة عمل) على أساس أن متوسط برنامج المبيعات هو (8.2 مليار دولار) سنوياً. الذي بدوره (أي المتوسط المذكور) يحقق فائضاً في ميزان المدفوعات الأميركي يصل إلى (560 مليون دولار) وكذلك يحقق (160 مليون دولار) وفراً في تكاليف إنتاج الأسلحة(1).
مما تقدم يتضح لدينا مقدار مكاسب الدول المصدرة للسلاح سواء أكانت الولايات المتحدة أو غيرها ومقدار خسائر عالم الجنوب نتيجة الكثير من شركات التسلح بالعقود عن طريق دفع العمولات التي قدرها صندوق النقد الدولي بـ(15%) من عوائد كل صفقة كما أشرنا.
وفي نقطة الضوء ذاتها يشير تقرير لمنظمة الشفافية الدولية (Ti) إلى أنها تشخص عالم الجنوب. هو الأكثر إصابة بمرض الفساد الاقتصادي أو أشكال الفساد الأخرى نتيجة لسياسات الدول الكبرى وشركاتها(2). جدير بالذكر أن شركات صناعة وتسويق الأسلحة بغية تحقيق أعلى نسب في الأرباح لا تتوانى عن دفع الرشاوى والعمولات لكبار الموظفين في البلدان التي تجهزها، أو حتى لرؤوس النظم السياسية التي تتجنس بجنسيتها إذا تطلب الأمر. فشركة (نورثروب NORTHROP) الأميركية قامت في 1971 بدفع عمولة مقدارها
((
__________
(1) ـ المصدر نفسه / من ص 240 ـ 241.
(2) ـ عبد الله إمام/ الفساد ظاهرة قومية/ صحيفة الرأي الأردنية/ العدد 10634 في 21/10/1999.(1/78)
2.3) مليون دولار). لجنرال في سلاح الطيران البرازيلي لحث دولته على طلب شراء طائرات حديثة من الشركة المذكورة، في فترة كان قرار سابق لرئيس الإدارة الأميركية (طبق منتصف الستينيات من القرن المنصرم) يحظر تصدير الأسلحة إلى دول أميركا اللاتينية مما أفسح المجال للشركات الأوروبية بالدخول إلى ميدان تسليحها، الحالة التي جعلت الشركات الأميركية تخسر تلك الأسواق، وقد تعهدت تلك الشركة للجنرال المذكور بأنها ستعمل على تغيير قرار الرئيس الأميركي في ذلك، وفعلاً قامت الشركة بدفع مبلغ (خمسة وسبعين ألف دولار) كتمويل لحملة الرئيس الأسبق (ريتشارد نيكسون) الذي بدوره أصدر قراره في 5/حزيران/1973 بالسماح بإتمام الصفقة، التي أظهرت الأوساط المهتمة فيما بعد أن ذلك المال ذهب لتغطية نفقات الدفاع عن المتهمين في فضيحة وتر غيت(1). الأنموذج الذي يعطي الدليل الواضح على الفساد المتأصل في هذه الصفقات.
جدير بالذكر أن صندوق النقد الدولي يشير في إحدى تقاريره إلى أ ن العمولات المذكورة تتم جدولتها ضمن رسوم ضرائب تلك الشركات الدافعة لها، وأن طبيعتها الجرمية تنتفي في حال دفعها لموظفين في دول أخرى تقتضيها مصالح تلك الشركات.
__________
(1) ـ د.سامي منصور/ م س ذ / ص 266.(1/79)
يذكر أن كل هذا يعود إلى الكتمان الذي يحيط تلكم العقود مما يؤدي إلى فقدانها للشفافية المطلوبة ويجعل اللعبة محصورة بين المجهز وسلطات الاستيراد (الفاسدة) التي يساعد على زيادة فسادها حجب تلك الصفقات من الرقابة الكمركية والضرائبية(1). أن الآليات الفاسدة والسرية للعقود المشار إليها خلقت حالة من عدم الاستقرار في العالم أجمع نتيجة لتزايد أعداد الصفقات، الأمر الذي جعل مجلس الكنائس في ألمانيا (خامس أكبر دولة في العالم تصديراً للسلاح) ينتقد مثل تلكم الصادرات إلى الدول الأخرى خصوصاً الفقيرة، التي بلغت قيمتها أكثر من (مليار مارك) عام 1998 وتصاعدت لتبلغ (2 مليار مارك) عام 1999 حيث ترى الكنائس (انطلاقاً من رؤيتها الإنسانية) أن سرية هذه الصفحات يجب أن تحارب وتطالب الكنائس بشفافية أكثر في هذا المجال وترى أن استعار (تصعيد) عمليات التسلح في دول الجنوب بزيادة الصادرات إليها يمثل تبذيراً لموارد تلك البلدان(2). لهذا أيضاً يشير تقرير الشفافية الدولية
(
__________
(1) --Sanjeev Gupta /corruption and Military spending/ op. cit pp. 4-6.
(2) ـ إذاعة صوت ألمانيا العربية من كولونيا/ الساعة 10.30 مساءً بتوقيت بغداد/ يوم 18/12/2000.(1/80)
Ti) لسنة 1999 إلى أن سرية كسب العطاءات ورشوة الموظفين العموميين للحصول على العروض يؤدي إلى إشاعة الفساد في دول الجنوب من قبل الدول التي تتعامل بالفساد لتسويق عروضها ومنها الولايات المتحدة بشركاتها في المقام الأول ثم تليها الشركات الفرنسية فالصينية فالألمانية(1). وأن جيشاً من كبار الموظفين في (مائة وست وثلاثين) دولة يتقاضون بشكل منظم رشاوى من تلك الشركات حتى أن (وليم ويلي) وزير التجارة الأميركي أورد أنه خلال الفترة من أيار /97حتى نيسان/98/تم اكتشاف الرشاوى في أكثر من (ستين) عقداً أبرمتها الشركات الأميركية خارج الحدود وصلت قيمتها إلى ((ثلاثين) بليون دولار أميركي)(2). وفي صميم الموضوع يشار إلى أن القضاء الفرنسي نتيجة لشكوى مقدمة له استدعى في نهايات عام 2000 (نجل الرئيس ميتران)/ ومستشاره في الوقت ذاته (أبان فترة حكمه) للشؤون الأفريقية (جون كريستوف ميتران)، وقرر احتجازه بإصدار الأمر القضائي للشرطة لاستجوابه عن تعاونه مع تاجر الأسلحة/ (بيير فالكون) بعقد صفقات لبيع الأسلحة إلى أنغولا خلال فترة حكم والده وأن (جون كريستوف) متورط بكون هذه الصفقات غير مشروعة وقيامه بالتهرب الضريبي عنها وعمليات فساد مالي كبير(3) على أن القضاء قد أطلق سراحه بكفالة مما يشير إلى أن الاتهام قائم ضده(4) حتى بعد إطلاق سراحه.
__________
(1) - (Ti) News letter/April 2000.
(2) ـ فهمي هويدي / صحيفة اللواء الأردنية/ 28/6/2000.
(3) ـ إذاعة لندن B.B.C / العربية/ 22/12/2000 الساعة 12.10 بعد منتصف الليل/ بتوقيت بغداد.
(4) ـ إذاعة لندن B.B.C / العربية/ 27/12/2000 الساعة 9.10 مساءً/ بتوقيت بغداد.(1/81)
من هذا كله نجد أن المصروفات العسكرية في أقطار الجنوب منذ سنة 1980 بلغ متوسطها ما مقداره (25%) من المجموع العالمي للإنفاق مما دعا إلى تشجيع آلية الفساد في هذه الدول وتسهيله من خلال سوء الإدارات الحكومية فيها وبروز الدكتاتوريات والاستبدادية وضعف أنظمة الرقابة والمحاسبة، وذلك نتيجة النزعة التسليحية ونشوب الكثير من المنازعات في عالم الجنوب التي كانت تضحياته البشرية أفدح من خسائره الاقتصادية مما أضاف لعالم الجنوب معاناةً وأشكالاً مختلفة من الفقر والحرمان ما زال عالم اليوم يعاني منها(1).
__________
(1) ـ يوليوس ك.نيريري وآخرون / التحدي أمام الجنوب/ تقرير لجنة الجنوب/ بيروت/ مركز دراسات الوحدة العربية/ ديسمبر 1990 / من ص 105 ـ 107.(1/82)
ومن صورة الفساد الاقتصادي عبر التسلح، ننتقل إلى صورة أخرى يتوضح فيها الفساد الاقتصادي هي نشاطات وانتشار شبكات مافيا المخدرات كواحد من نشاطات (الجريمة المنظمة) التي أصبحت تشكل قوة اقتصادية هائلة يستطيع أطرافها بسطوتهم المالية إفساد حكومات بأكملها نتيجة لما ترتكز في أيديهم من أموال ضخمة (مئات البلايين من الدولارات). يذكر أن أطراف هذهِ المافيا يستخدمون آليات العمولة والرشوة والإفساد وسيلة لتمرير أعمالهم غير الشرعية، وإذا لم تنجح هذه الآلية وتضاربت مع نزاهة الموظفين الشرفاء، لجأت هذه الفئات إلى استخدام آلية القوة والقتل ا لعمد لتمرير أ عمالها تلك. لهذا بات معروفاً أن هنالك مقاطعات من أقاليم كثيرة في العالم يديرها بارونات المخدرات (Drug Barons) لا يجرؤ حتى رجال الشرطة على ولوجها، ساعدت سطوتهم على أن يصبح الإفساد الاقتصادي للمؤسسات المالية والهيئات الاقتصادية عملية ماكرة وخبيثة يقومون بالإعداد لها. لا بل أصبحت هنالك العديد من النظم المالية تعتمد على ذلك المال القذر الوارد من دولارات المخدرات ومشروعات إجرامية (كالقمار، والدعارة، وتجارة الرقيق الأبيض، والأسلحة غير المرخصة)(1) لتستخدم في أنشطة أخرى (كالسياحة والفنادق والمصارف) في عملية يطلق عليها اليوم (عملية غسل المال القذر)(2)
__________
(1) ـ نلاحظ أن الموضوع يتداخل فيما بين الفساد الاجتماعي والاقتصادي مما يدل على أن الفساد وإن تعددت تعاريفه يُشكل في أحيان كثيرة حالة واحدة هي عكس الحالة السوية لمناحي الحياة الإنسانية إن صح التعبير.
(2) ـ عملية غسل العملة: ـ هي تحويل أموال تم الحصول عليها بطرق غير قانونية من خلال طرف ثالث لإخفاء مصدرها. (انظر: د.كاظم نزار الركابي / أميركا أهم مركز لغسيل الأموال في العالم/ بغداد/ صحيفة العراق البغدادية/ العدد 6974/ في 21/1/2000)..(1/83)
أو (غسل العملة)، وذلك حتى تستطيع خلايا الإجرام أن تمارس أعمالاً لها تأثير مهم في قطاعات الاقتصاد الرئيسية. وبسبب هذا التداخل في العلاقات مع المصارف الدولية والشركات يصبح التحقيق في، ومقاضاة مسألة تهريب المخدرات أمراً بالغ الصعوبة. حيث يستطيع المجرمون الانتقال ونقل ملكياتهم إلى جهات قضائية صديقة أو إلى دول تحمي مصارفها السرية عمل أولئك المجرمين(1) جدير بالذكر أن هنالك أموالاً قدرت بـ(عشرة بلايين دولار أمريكي) طبقاً لتقرير صحيفة الأوبزرفر البريطانية، تورطت فيها بنوك نيويورك وشبكة مؤسسات مالية أميركية وبريطانية، جاءت من غسيل أموال عصابات الجريمة المنظمة التي تم تحويلها عبر إنشاء عدد من الشركات القانونية والحسابات المصرفية وأعمال أخرى مثل إدارة المراقص الليلية(2). إلى ذلك تشير بعض الدراسات الاقتصادية بأن تقديرات أعمال (غسيل الأموال) للعام 1998 فقط بلغت (10%) من الناتج المحلي لجمهورية التشيك و(7.3%) من الناتج المحلي لبريطانيا و(25%) من الناتج المحلي للعالم بأسره.
وتختلف قيمة الأموال المغسولة حسب الدول والمناطق حيث تقدر لذات الفترة المذكورة بحوالي (سبعة عشر مليار دولار أميركي في كندا) و(عشرين مليار دولار أمريكي في المكسيك) (وثمانية وأربعين مليار دولار أميركي في الولايات المتحدة الأميركية) و(خمسمائة مليار دولار أميركي في سويسرا) وما يقارب (واحداً وثلاثين تريليون دولار أميركي في العالم بأجمعه) وذلك طبقاً للتقرير الاقتصادي لبنك دبي الوطني المنشور في كانون الثاني للعام
(
__________
(1) ـ الأمم المتحدة / الفساد في الحكومة. د. نادر أحمد أبو شيخة(مترجم)/عمان/ المنظمة العربية للتنمية الإدارية 1994/ من ص 11 ـ 13.
(2) ـ ظافر إبراهيم/ فضائح بالجملة عن علاقة المافيا بالمسؤولين الأميركان والبريطانيين / صحيفة القادسية البغدادية/ 23/10/1999.(1/84)
2000).(1)
لقد تحولت مافيا الجريمة المنظمة إلى قوة تتحكم في اقتصادات وسياسات بلدان عدة بحكم آليات الفساد المتحكمة فيها، حتى أصبحت توصف بأنها حكومة الظل في تلك البلدان التي منها على سبيل المثال دول أوربا الشرقية (المنهارة بعد الحرب الباردة)، حيث وعدت هذه الدول شعوبها بنقلهم إلى مجتمع الرفاهية حال زوال نظمها السياسية الاشتراكية، وسرعان ما سادت في تلك المجتمعات مفاهيم الاقتصاد الحر للسوق، والخوصصة، ثم مالبثت أن ازدهرت فيها مافيات الجريمة المنظمة المتزامن معها تحكم الممولين، ليظهر التسول والبغاء (كناتج عرضي) في الشوارع إضافة للسرقة لتسهيل اللقمة(2) بدلاً من الرفاهية المزعومة.
لذلك نرى في دراسة للأنموذج الأمريكي ـ الروسي (كمثال عن الحالة المذكورة) أن وكالة رويترز للأنباء نقلت عن مكتب التحقيقات الفيدرالي
(F.B.I) في الولايات المتحدة الأميركية أنه تم استجواب (لوسي ادواروز) (المسؤولة السابقة في بنك نيويورك) وشريكها (بيتر برلين) صاحب شركة بنكس الدولية)، لتورطهم في عمليات غسيل للأموال غير المشروعة (ونقلها من روسيا إلى الولايات المتحدة الأميركية من خلال بنك نيويورك) قدرت ببلايين الدولارات الأميركية، ونتيجة الاستجواب المذكور كانت أن وافق المشتبه بهم تسليم مبلغ (تسعة ملايين دولار) (3) كانت بحوزتهم إلى السلطات الفيدرالية.
__________
(1) ـ انظر في ذلك/ د.كاظم نزار الركابي/ الولايات المتحدة أهم مركز في العالم لغسيل الأموال/ صحيفة العراق البغدادية/ العدد 6974/ 21/12/1999.
(2) ـ ممدوح علوان/ صحيفة الرأي الأردنية/ العدد 10693 في 19/12/1999.
(3) - Ruters. 15 . Fel. 2000.(1/85)
بعد ذلك صدرت أحكام بحق كليهما حسب ما أعلنه القاضي (لورينت كاسبر) في ندوة قانونية حول الفساد عقدت من نهايات عام 2000 ويفتح هذا التحقيق الطريق أمام احتمال قيام السلطات بالطلب من المصارف التدقيق في كيفية إجراء هذهِ التحويلات، ويعتقد أن الجزء الأكبر من هذهِ الأموال مصدره الشركات التجارية الروسية التي حاولت التهرب من دفع الضرائب والكمارك (يمتلكها أثرياء روس) هرب الكثيرون منهم من روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تجنباً لدفع الضرائب فيما يشكل الجزء الآخر من هذه النقود نشاطات إجرامية حسب تأكيد دوائر التحقيقات الأميركية. يذكر أن (لورينت كاسبر) القاضي الفيدرالي اعتزم تقديم طلب في تعقب أصول تلك الأموال وكان (كاسبر) قد أبدى شكواه علناً في السابق من هشاشة تعاون السلطات الروسية والأميركية في تعقب مصدر هذهِ الأموال(1).
لقد انتشرت جريمة غسل العملة بشكل واسع وأصبحت ظاهرة تؤخذ بالحسبان لما لها من أثر على اقتصاديات الدول واهتمت الكثير من المنظمات الحكومية وغير الحكومية بهذه الجريمة، وقد عد (غسيل العملة) من أهم صور الجريمة المنظمة(2). كما أن الجمعية العامة للشرطة الجنائية الدولية في دورتها (66) في نيودلهي /1997 أوصت بإعداد بيانات إحصائية لتعزيز التعاون الأولي الجنائي في (مواجهة غسل العملة) في كل مراحلها(3).
__________
(1) ـ اليزابيث أولسون/ عملية روسية لغسيل الأموال/ صحيفة الشرق الأوسط /17/11/2000.
(2) ـ طبقاً لمشروع الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة لمحاربة الجريمة المنظمة (م/1).
(3) ـ تتم مراحل عملية غسل العملة في عملية معقدة تتطلب استخدام العديد من الوجوه، حيث يقوم كل وجه بدور في مرحلة إخفاء الأموال داخل وخارج البلاد. ومراحل غسل العملة هي: الإيداع لدى البنوك، التوظيف، التمويه، الدمج.(1/86)
من هنا يتضح كيف أن للسلوك الفاسد لعصابات الجريمة المنظمة أثراً على اقتصاديات البلدان وكيف يتم نقل الأموال غير المشروعة مما يجعل الكثير من الشعوب تنوء تحت وطأة الفقر (الإمكانية خفض قيمة العملة واختلال البنية الاجتماعية للدولة وحدوث فجوة بين الأغنياء والفقراء) وما تروجه تلك العصابات من مخدرات وعمليات غير مشروعة تسلب الكثيرين حقوقهم في الحياة(1).
وبعد أن تناولنا صورتين من صور الفساد الاقتصادي، لابد وأن نركز الضوء على صورة ثالثة وأخيرة، نتناول فيها كيف يستهلك الفساد الاقتصادي، في أوجه أخرى، حق الإنسان في العيش ويهدد البناء البشري في أبسط مقومات استمراره في الحياة. ويجعل أولئك المدافعين عن هذا الحق في العيش سُرَّاقاً له. ولإيضاح الصورة بشكلها الناصع نورد بعض الأمثلة عن ذلك.
__________
(1) ـ انظر في ذلك: عبد الوهاب التحافي/ غسل الأموال جريمة إخفاء أشياء متحصلة من جريمة/ صحيفة الثورة البغدادية /12/6/2000.
... وكذلك : عصام الدين الأحمدي/ ظاهرة غسيل الأموال وآثارها الاقتصادية وأهم الجهود العالمية والمحلية المبذولة لمكافحتها/ مجلة اتحاد المصارف العربية/ العدد 237/ المجلد 20/أيلول 2000/ ص 109.(1/87)
فطبقاً لما أشار إليه مساعد سكرتير عام الأمم المتحدة للشؤون العلمية، المدير الأسبق لمنظمة (F.A.O) الأغذية والزراعة الدولية(1) (كمثال أول) في تحديده لمدى الفساد في بعض برامج المعونة الأميركية، نراه يروي أنموذجه في ذلك من خلال الحديث عن أحد تلك البرامج الخاصة بزراعة الرز في مصر، حيث يذكر أن إجمالي مبلغ المعونة وقدره (ستة عشر مليون دولار أميركي) المعد توظيفه لخدمة المشروع ذهب نصفها للرواتب وللزيارات إلى الولايات المتحدة الأميركية ولإنشاء بعض البنايات، دون أي زيادة تذكر في إنتاج محصول الرز (الذي أنشئ البرنامج أصلاً لزيادة غلته). الأمر الذي جعله يلفت الأنظار إلى أنه دائماً ما تنفق المبالغ كلها على وجوه يعلم الله حقيقتها ويترك حال المشاريع والبلدان أفقر مما كانت عليه قبل الشروع بتنفيذها(2). هذا المثال يمكن أن يوضح الأثر السيء للفساد إذا ما تم ربطه بشكل آخر من أشكال مافيات الأغذية يوضحه الواقع المصري أيضاً في معاناته من ذلك إبان نهايات عقد الثمانينيات في القرن المنصرم حيث أشارت بعض الجهات المعنية با لفساد إلى أن وزارة الصحة الألمانية (الاتحادية في حينه) اكتشفت شحنات من الألبان (المجففة) الملوثة بالإشعاع في موانئها تحاول بعض الجهات تصديرها إلى بعض بلدان عالم الجنوب من بينها مصر، وقد أعلنت في حينها وزيرة الصحة الألمانية أن ذلك العمل قد ضبطته السلطات هنالك وهو عمل غير أخلاقي ومؤذ للبيئة والصحة، إلا أن الموضوع يأخذ (الفساد) فيه صورته الكاملة بحقيقة ما ناقشه الكاتب المصري (عصام رفعت) في موضوعه الصحفي حول تلك الصفقة حيث أشار إلى عدة أركان في الموضوع منها: ـ
__________
(1) ـ أ.د.مصطفى الجبلي/ من مصر العربية.
(2) ـ جمال زيادة /مافيا الاستيراد ضد تطوير الزراعة/ القاهرة/ مجلة الأهرام الاقتصادية العدد 943 / شباط 1987.(1/88)
الركن الأول: أن المشكلة تكمن في فتح الجهات المسؤولة عن الاستيراد إمكانية استيراد البضائع بلا ضوابط للمستوردين، مما أدى إلى تواطؤ (الشخص) المستورد مع المصدر لتسويق شحنات غير صالحة للاستهلاك البشري الغاية من ورائه الربح السريع.
الركن الثاني: انعدام حقل التخصص للمستوردين مما فتح المجال أمام كل مغامر باحث عن الربح (مشروع أم غير مشروع) حتى وإن كان المتاجرة بسلامة وأرواح الأبرياء.
الركن الثالث: انتفاء وجود العقوبة القانونية الرادعة في القانون المصري حيث أن العقوبة لا تتجاوز (6 ـ 3) سنوات سجن، وغرامة من (100 ـ 1000) جنيه مصري وهي عقوبة ليست ذات معنى تجاه تهديد شعب بأكمله في صحته.
الركن الرابع: الكشف عن ما وراء المستورد من الموظفين العموميين الذين يسهلون له الحصول على شهادات سلامة الصفقات المزورة وإصدار الفواتير المزورة أيضاً. ماكان همهم من وراء ذلك إلاَّ الإثراء على حساب الغير(1).
إن المثالين سالفي الذكر يوضحان مدى تأثير الفساد الاقتصادي على واقع المجتمع المصري كأنموذج للدراسة يمكن القياس عليه بالنسبة لباقي الدول(خصوصاً في عالم الجنوب) ومدى أثرها السيء على المجتمعات.
والنتيجة أسوأ من التي أشرنا لها، نجد أن الكاتب (كراهام هانكوك Graham Hancock) يعرض لكيفية الفساد من خلال محاربة الجوع، ففي كتابه (لوردات الفقر) ـ (Lords of Poverty) يشير المؤلف لمشروع الجوع
(
__________
(1) ـ عصام رفعت/ مافيا المستوردين وعصابات الموظفين/ القاهرة/ مجلة الأهرام الاقتصادي/ العدد 843/ في 11/3/85 ص 9.(1/89)
Hunger Project) لإعانة البلدان المنكوبة وإزالة الجوع في العالم، حيث يذكر طبقاً لمعلومات (المكتب العالمي لمعلومات العون) أن منظمات الغوث الإنساني تسلمت خلال فترة عام واحد مبلغاً يزيد عن (سبعة ملايين دولار أميركي)، دفع منها فقط (واحد وعشرون ألف دولار) على شكل منح لمنظمات إغاثة وأنفق المبلغ الباقي في الولايات المتحدة الأميركية تحت بنود: ـ
(تسيير النجدة)، (التسجيل)، (الاتصالات)، (إدارة المعلومات). واللافت للنظر في الأمر أن قوائم الهواتف فقط كانت تزيد قرابة العشرين مرة عن ما دفع من منح للإغاثة (نصف مليون دولار قوائم هواتف).
كما يذكر المؤلف أيضاً أن منظمات العون المسيحي العالمية الأميركية لم ترسل لأثيوبيا التي جمعت لها (ثمانية عشر مليون دولار) كمساعدات (سنتاً واحداً)(1)، الأمر الذي يتضح معه عظم الهوة التي يوجدها الفساد في حياة الشعوب الفقيرة. لهذا ذهبت دراسة أجريت في المغرب حول (مشاكل الفقر) حددت (إشاعة الفساد) كأحد خمسة أسباب تجعل الفقر يستشري في المجتمعات ألا وهي بالإضافة للفساد، (النمو الديموغرافي، التحولات الاقتصادية العالمية، ضعف النمو الاقتصادي، وأسباب اجتماعية أخرى).
__________
(1) ـ نقلاً عن /صحيفة الجمهورية البغدادية /29/5/1994.(1/90)
ونجد ضمن الدراسة المذكورة بأن معطيات البحث الوطني الذي أعدته وزارة التوقعات الاقتصادية والتخطيط لعام 1999 في المغرب حول مستوى معيشة الأسر، يثبت أن عدد فقراء المغرب في حالة ارتفاع مستمر وصل إلى (ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة) خلال العشرية الأخيرة من القرن المنصرم. لهذا يذهب الكاتب والصحفي المغربي [محمد أديب السلاوي) الذي أورد تلك المعطيات في مؤلفه [(أطفال الفقر) أحد عدة مؤلفات للكاتب ناقش فيها (قضايا الفساد)] أن شريحة كبرى من مجتمع المغرب تعيش على عتبة الفقر ودخلها اليومي لا يتعدى (دولاراً أميركياً واحداً) حسب تصريحات الوزير الأول المغربي (عبد الرحمن اليوسفي)، ويذهب المؤلف إلى أن هذا المقدار من الدخل لا يؤمن قوت يومٍ واحد للفرد وبذلك يتجلى (تعريف الفقر)(1). ويربط الكاتب بين الفقر والفساد (الأخلاقي، السياسي، والإداري، والاقتصادي) وانعكاسات ذلك على المجتمع وخصوصاً على الطفولة وتهديده لحقوق الإنسان من أمن صحي وغذائي ومائي(2). وتأسيساً على ما ورد ترى الدراسة أن فيما سلف كله انتهاكاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمنصوص عليها في ديباجة العهد ومواده (7 ـ 1) و(10 ـ 3) و(11) و
(13) التي يهددها الفساد في صحة تطبيقها على أبناء البشرية(3).
من هذا كله يتضح ما للفساد الاقتصادي من خطر يستوجب الوقوف عليه وتعريض المسؤولين عنه للمساءلة دوماً لكي تظهر الصورة جلية خالية من كل شائبة للفساد التي باستشرائها تزداد معاناة الناس اقتصادياً.
((
الفصل الرابع
__________
(1) ـ الفقر: هو حالة الفقر الذي لا يتجاوز دخله دولاراً أميركياً في اليوم، أو ذلك الذي لا يستطيع تأمين قوته اليومي.
(2) ـ سعيدة شريف/ الفقر والطفولة المغربية/ (عرض لكتاب الصحفي محمد أديب السلأوي/ أطفال الفقر)/ صحيفة الشرق الأوسط العدد 8026 في 18/11/2000.
(3) ـ نشرة المنتدى /العدد 91/ إبريل 1993/ ص 4 ـ 7.(1/91)
الفساد السياسي
يشكل الفساد السياسي قمة الهرم مابين أنماط الفساد الأخرى التي تناولناها بالدراسة في بحثنا هذا، على أنه النمط الأخطر في موضوعة الفساد التي كما أسلفنا لا يمكن الفصل التام بين أنماطها لعملها بشكل متداخل في تأثيرها الضار على المجتمع والدولة، لذلك حاز الموضوع جانباً كبيراً من اهتمام الكثير من المفكرين. ولإعطاء المفهوم دقته المتناهية ولتحديد معنى المصطلح بشكل واضح سنتناول بعض المفاهيم التي ذكرت في هذا الصعيد.
حيث يرى (H.A.Brasz) في بحثه الموسوم (سوسيولوجيا الفساد): ـ
((إن الفساد السياسي هو المرادف للقوة التعسفية (أي بمعنى استعمال القوة لتحقيق غرض يختلف عن الغرض الذي على أساسه تم منح هذه القوة) التي يطلق عليها مصطلح (Abuse of Power) والصفة المميزة لهذا هي ممارسة السلطة الرسمية تحت ستار المشروعية القانونية، (أي التظاهر بالمشروعية والتطابق مع القانون) إلا أن الغرض من هذه الممارسة ليس هو تحقيق ما تنص عليه القوانين أي المصلحة العامة وإنما تحقيق المصلحة الخاصة للقائم بهذه الممارسة))(1).
فيما يرى صموئيل هنتغتون (Samuel Huntigtion): ـ
"إنه الوسيلة لقياس مدى غياب المؤسساتية السياسية الفاعلة".
أي أ نه عرف الفساد من خلال وجود المؤسسات السياسية أو عدمها أي أنه ربط بين التنمية السياسية والفساد.(2)
في حين يعرفه ا.د/ جلال عبد الله معوض: ـ
(
__________
(1) ـ نقلاً عن نبوية علي الجندي/ الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير/ م س ذ/ ص 4.
(2) ـ صموئيل هانتغتون/ النظام السياسي لمجتمعات متغيرة/ ترجمة: سمية فلو/ بيروت/ دار الساقي/ 1993/ ص 78.(1/92)
إنه السلوك القائم على الانحراف عن الواجبات الرسمية المرتبطة بالمنصب العام، سواء كان شغل هذا المنصب يتم بالانتخاب أو بالتعيين في سبيل تحقيق مصلحة خاصة، سواء أكانت هذه المصلحة شخصية مباشرة تتعلق بشاغل المنصب أو عائلية أو طائفية أو قبلية، وسواء أكانت هذه المصلحة تتعلق بمكاسب مادية أو غير مادية، وذلك من خلال استخدام إجراءات أو الالتجاء إلى تعاملات تخالف الشرعية القانونية)(1).
في حين أن الدراسة ترى أن الفساد السياسي يعني: ـ
((الخرق الواضح لقيم النزاهة في أداء الواجب الرسمي عن طريق استخدام اللاّحق على أنه حق. وتحقيق الإثراء على حساب الغير، وعلى حساب المال العام. إنه استغلال النفوذ للاعتداء على قدسية القانون من خلال العلاقات الشخصية وقيم التمييز العرقية، بحيث تكون المحسوبية والمحاباة دليلَ عملٍ لأصحابه)).
وبعد تعريفنا لمفهوم الفساد السياسي سوف ننتقل بالدراسة والتحليل لصور هذا النمط المتمثلة بما يأتي: ـ
1 ـ فساد القمة (Top - Corruption):
يعد هذا الفساد الأجدر بالدراسة بين صور الفساد السياسي، على حد توصيف (أستاذ العلوم السياسية/ د.جلال عبد الله معوض) الذي يرى فيه الصورة الواجب دراستها بعمق التي ينبغي التركيز عليها من بين صور الفساد السياسي الأخرى حيث تشكل المرتكز الأساس لفساد المستويات الدنيا منها، وتجعل آثاره أخطر أنواع الفساد.(2)
__________
(1) ـ جلال معوض/ الفساد السياسي في الدول النامية/ مجلة دراسات عربية/ العدد 4/ شباط 1987/ ص4.
(2) ـ لقاء شخصي للباحث/ مع أ.د.جلال معوض/ في جامعة القاهرة/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتاريخ 6/2/2001م.(1/93)
وترجع خطورته إلى ارتباطه بقمة الهرم السياسي في كثير من أشكال النظم السياسية لانتفاع من يتولى القمة بالخروج عن حكم القانون بالمكاسب الشخصية التي تجني الثروات الطائلة(1). لذلك يوصف استشراء هذا النمط بأنه (الفساد الكثيف للقمة) (Top Heavy Corruption) حيث يجري العمل على أساس آليةٍ تعرف بإطار (الرئيس ـ العملاء) (Patron-Client Ties) التي تتعامل القمة من خلاله لجني ريع الفساد.
إن الآلية المشار إليها ترتبط بنمط حكم هو الحكم (الأبوي ـ العصبوي) حيث تمثل القمة البؤرة التي ترتكز فيها السلطة السياسية ومنها تنبعث وتشع إلى العناصر (الأكثر ولاءً للقمة) التي تمثل بدورها نقاطاً فرعية بالنسبة إلى العناصر الأخرى الأقل تأثيراً ونفوذاً واقتراباً من القمة (أي نقاط وسيطة بين القمة وتلك العناصر الأخرى) وتتسم العلاقات الرأسية في هذا الأنموذج بالولاءات الشخصيانية، بينما تتسم العلاقات الأفقية بين النقاط الفرعية بالتنافس والصراع من أجل إظهار قوة الولاء للقمة السياسية ومحاولة الوجود على مقربة منها دائماً(2).
إن علاقة (الرئيس ـ العملاء) هو شكل من العلاقات المسماة العلاقات الـ(هيراركية)(3) التي فسرها الكاتب (جيمس سكوت) على شكل المخطط الآتي: ـ
القمة
A
(وسيط) ... عنصر أكثر ولاء والارتباط بالقمة ... C ... عنصر أكثر ولاء والارتباط بالقمة ... (وسيط)
I ... J ... G ... F
__________
(1) ـ د.شادية فتحي/ الآثار السياسية للتحول: حالة روسيا/ في مصطفى كامل السيد/ محرراً/ الفساد والتنمية / م س ذ/ ص 118.
(2) ـ د.جلال معوض/ الفساد السياسي في تركيا/ في ا.د.اكرام بدر الدين (محرر) /الفساد السياسي النظرية والتطبيق/ القاهرة/ دار الثقافة العربية/ 1992/ ص 60.
(3) ـ أساس العلاقات الـ(الهيراركية) يقوم على الاعتماد المتبادل بين القمة التي تسيطر على القوة وبين العملاء الذين يبحثون عن المكانة والهيبة والمنافع المادية.(1/94)
العناصر الأخرى الأقل تأثيراً ونفوذاً واقتراباً من القمة
العناصر الأخرى الأقل تأثيراً ونفوذاً واقتراباً من القمة
ثم وضع (سكوت) تفسيره الآتي عليها: ـ
إن الفساد يعبر عن علاقات وروابط شخصية في شبكة غير رسمية تقوم على العلاقات (الرأسية) وهو ما يتضح (بالشكل) حيث نجد أن (B) و(C) هما العميلان للقمة (A) وهما بدورهما يمثلان رئيسين بالنسبة إلى النقاد (E,F,G) ارتباطاً مع (B) و(H, I, J) ارتباطاً مع (c)(1).
ثم يضيف قائلاً: إن من سمات هذا المخطط:
1.أن الروابط فيه رأسية العلاقة، ومن غير المحتمل أن تكون هنالك روابط أفقية.
2.رأسية الرابطة تعكس اختلافات المكانة لكل قمة عن أتباعها فمكانة (A) أعلى من (B) والأخير أعلى من (F)
3.أن كل رابطة رأسية مباشرة أساسها المواجهة أو ما يطلق عليه (Face to face Relation) ويمكن لكل قمة رئيسة وسيطة توسيع نطاق أتباعها وبالتالي تزداد السيطرة التي يتمتع بها قمة الهرم.
4.أن النقاط الصغرى مثل (J) و(F) ترتبط من خلال القمم الوسيطة (B) و(C) بأعلى قمة الهرم (A) ويكون شكل النظام في العلاقات هو النظام الشبكي الذي يمثل نوعاً من الطابع المصلحي النفعي في العمل.
... ويمكن لصغار النقاط مثل (J) و(E) أن تتحول بولائها إلى قمة أخرى لمسك علوية الهرم تبعاً لتحول ولاء القمم الوسيطة إذا ما تحولت بولائها (باختفاء القمة العلوية) إلى (قمة علوية أخرى).
5.أن الرابطة الشخصية بين القمة والأتباع قد تنبع من علاقات (أسرية)، (شخصية)، (قيادات إدارية ومرؤوسيها)، (روابط صداقة)، أو (روابط منفعة بحتة) للحصول على منافع (ريع الفساد).
__________
(1) ـ نبوية الجندي/ الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير/ م س ذ/ ص 22ـ 25.(1/95)
6. تعمل هذه الشبكات بشكل ائتلافات أو تحالفات وتقود للمحاباة والكسب الشخصي(1) ولكي نضع طروحات (سكوت) قيد التطبيق سنتناوله بالدراسة (حالة أندونيسيا) أولاً، حيث تعد حالة أندونيسيا حالة صارخة في مجال ممارسة الفساد خاصة عندما أعلن الرئيس (سوهارتو) الترشيح لفترة سابعة في آذار/1998، بعد مدة حكم بلغت اثنتين وثلاثين سنة، أطلق فيها اليد لأولاده، وأقاربه، وأصدقائه (راجع مخطط الممتلكات نهاية الفصل لطفاً) في السيطرة على مقدرات الدولة مجسداً حالة (الرئيس ـ العملاء)(2). حيث أن التمادي في الفساد جعله يضع في وزارته بعد إعادة انتخابه في آذار/ 1998 شخصيات متهمة في ذممها وليست فوق الشبهات.
إذ ذكرت وسائل الإعلام أسماء أربعة من وزرائه ((ضمن التشكيلة للوزارة ا لمشار إليها)) على أنهم مرتشون أو مستولون على أموال عامة بملايين الدولارات الأميركية، وعلى رأسهم صديقه وزير السياحة والثقافة، الذي أجمعت كل الأطراف المتهمة على أنه حصل على مبالغ كبيرة من صندوق التأمين على العمال أثناء عمله وزيراٍ سابقاً للعمل.
حيث عمل (سوهارتو) في حينه جاهداً على حماية ذلك الوزير المتهم وتمرير الموضوع دون محاكمة مما يعكس شكل العلاقة بينهما(3).
جدير بالذكر أنه بعد استقالة الرئيس الأسبق (سوهارتو)، وتولي رئيس منتخب جديد (عبد الرحمن وحيد) السلطة في أندونيسيا(4) (في حينه) بدأت ملفات الفساد الخاصة بالرئيس الأسبق بالظهور، حيث قدرت اختلاساته بـ
(
__________
(1) ـ م.ن/ ص ص 23 ـ 25.
(2) ـ عدد الشركات التي تسيطر عليها الفئات المشار إليها في أندونيسيا هو (975) شركة.
(3) ـ أ.د.محمود عبد الفضيل/ من الفساد الأصغر إلى الفساد الأكبر/ مجلة الكتب وجهات نظر/ العدد/15/ إبريل 2000/ ص 13.
(4) ـ بين سوهارتو وعبد الرحمن وحيد فترة انتقالية تولى خلالها نائب سوهارتو رئاسة الدولة (حبيبي) لحين أجراء الانتخابات.(1/96)
571) مليون دولار من الأموال العامة(1). جراء ذلك وجهت إليه (سوهارتو) التهمة للمثول أمام القضاء الأندونيسي.لمحاكمته على قضايا فساد خلال حكمه بعد أن فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله، من جهة ثانية أصدر القضاء الأندونيسي حكمه على (تومي) أصغر أنجال (سوهارتو) بالسجن لمدة (ثمانية عشر شهراً) بتهمة الفساد أيضاً(2). يتضح لنا من خلال ما تقدم كيف أن لفساد القمة وعلاقاتها بأركان (متفرعة) مرتبطة بها من ابتزاز لموارد الدولة و المجتمع تتجلى في أنموذج (الرئيس ـ العملاء).
يضاف لمثالنا عن الحالة الأندونيسية حالات عدة تتجلى فيها صورة فساد القمة. منها مثلاً ما عرفته الأوساط في تركيا أثناء فترة حكم الرئيس (تورقوت أوزال) حيث تشير الدلائل إلى هيمنته على العملية السياسية داخل الحزب الحاكم والسلطة التنفيذية برمتها في حينه (الذي يجب عليه أن يكون حيادياً لأن شرط توليه الرئاسة تستوجب استقالته من الحزب) مما سمح له باستغلال نفوذه، لتكوينه هو وأفراد أسرته ثروات طائلة عن طريق ممارسة أنشطة متنوعة صناعية، وتجارية، ومالية كان الأصل فيها فساد القمة التي يتربع عليها (أوزال) (3).
__________
(1) ـ انظر صحيفة العراق البغدادية في 29/9/2000/ وكذلك إعداد صحيفة بابل البغدادية في 18/6 و5/8/2000.
(2) ـ انظر صحيفة العراق البغدادية في 3/11/2000.
(3) ـ لمزيد من التفصيل/ انظر د.جلال عبد الله معوض/ الفساد السياسي في تركيا/ م س ذ/ ص 57 وما بعدها.(1/97)
من ناحية أخرى نضع تحت دائرة الضوء أنموذجاً آخراً هو بالتحديد ((الأنموذج الزائيري) (الكونغو حالياً) في إبّان عهد (سيسيسيكو)) مثالاً لفساد القمة يطلق عليه نمط (الدولة ـ القرصان ) ـ (Pirate-State)، حيث أضحى جهاز الدولة عند الرئيس الأسبق (موبوتو سيسيسيكو) مؤسسة للفساد ونهب الفائض االاقتصادي لصالح حفنة من المنتفعين، يمثل سلوكهم الفاسد جوهر مفهوم (الدولة ـ القرصان) الذي يجسده (سيسيسيكو) ذاته، حيث كان يحصل طبقاً لما أوردته مصادر عدة ضمن سلطته المطلقة التي يستخدم فيها كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة على (17%) من إجمالي الميزانية القومية للدولة كمدفوعات نظير خدماته الرئاسية، فضلاً عن سيطرته على استثمارات الدولة في الغالب، واستخدامه أموال الدولة في رشوة العناصر المعارضة له بغية خلق جماعة من المنتفعين لتدعيم وتأييد سلطاته ونظام حكمه السلطوي.
يضاف إلى ذلك سيطرته على معظم الأسهم في أكبر شركة لسيارات الأجرة في البلاد وكذلك أسهم (بنك كينشاسا) وناطحات السحاب في (كوت ديفوار)، وكذلك حصوله على حصة الأسد في شركة (زائير ـ لوكس Zaier- Lux) المسوقة للسلعة الترفيه والكمالية، ناهيك عن الفلل الضخمة في أجمل بقاع الأرض ومنتجعاتها(1).
__________
(1) ـ انظر/ د.حمدي عبد الرحمن حسن/ الدولة ـ القرصان(دراسة لظاهرة الفساد السياسي في زائير)/في: د.إكرام بدر الدين (محرر)/ الفساد السياسي النظرية والتطبيق/ القاهرة/ دار الثقافة العربية/ 1992/ ص 90.(1/98)
إن (موبوتو) يمثل فساد القمة في زائير (كدولة جنوب) ويجسد فساد الشمال في الوقت نفسه لدعمه فاسداً مثله. حيث في تقرير مفصل نشرته صحيفة (فاينانشيال تايمز) أوضح أن صندوق النقد الدولي أقرض زائير (بضغط من الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى)، أكثر من مليار دولار في الثمانينات من القرن المنصرم برغم تلقي الصندوق تقريراً من أحد كبار موظفيه يحذر فيه من أن حكومة (موبوتو) فاسدة تماماً. وبرغم ذلك وصل مجموع الإقراض متعدد الأطراف لزائير مابين 1982 ـ 1994 إلى زهاء
(2 مليار دولار أميركي). مما يدل على أن للشمال ضلعاً في فساد الجنوب(1) إن كانت المصالح تقتضي ذلك.
بعد ذلك إذا ما انتقلنا إلى عالم الشمال نجد أن لفساد القمة أمثلة واضحة تسببت في مغادرة أصحابها لقممهم نتيجة لكشف النقاب عن فضائحهم تلك فالأنموذج الألماني يكشف أنه في بداية العام 1991، تم اكتشاف قيام رئيس الوزراء (لوثر سبايث) ـ (Lother Spaeth) لمقاطعة بادن (من الحزب الديمقراطي المسيحي CDU) مع أفراد أسرته برحلات لخارج ألمانيا، تحملت بعض الشركات الخاصة تكلفتها مقابل حصولها على تسهيلات مادية من الحكومة. مما أسفر عن تقديم استقالته مباشرة بعد اكتشاف قيامه بتقاضي رشاوى وقبول تلك الرحلات.
__________
(1) ـ انظر في ذلك: /د.حمدي عبد الرحمن/ م ن/ص ـ 9 ومابعدها.
... وكذلك: كيمبرلي ان اليوت/ الفساد كمشكلة من مشكلات السياسة الدولية/ في: كيمبرلي ان اليوت/ (محررة)/ الفساد والاقتصاد العالمي/ محمد جمال إمام (مترجم) /القاهرة/ مركز الأهرام للترجمة والنشر /2000/ ص 291.(1/99)
من ناحية أخرى وباستقراء لوضع بلد مجاور جغرافياً للأنموذج الألماني، وهو الأنموذج الروسي نلحظ أن فساد القمة ظهر متأصلاً في ذلك البلد، حيث يبرز تمتع القمة بسلطات واسعة في(عهد يلتسين) ووجود مجموعة من المنتفعين حوله يمثلون النقاط الفرعية والقمم الوسيطة ((بالعودة إلى نموذج سكوت وآلية فساد (الرئيس ـ العملاء) )) يوصفون باللصوص المستفيدين من صلاحيات القمة الواسعة حسب تعليق (يوري سكوارتوف)(1) ـ وذلك لنفوذ (يلتسين) وسيطرته على الكثير من مفاصل الدولة الروسية ووزاراتها(2). الأمر الذي حدد سلطات رئيس الحكومة بشكل واضح ليصبح وضعه لايعدو كونه موظفاً عمومياً محدوداً مقيداً بسلطات واسعة لرئيس الدولة الذي يعتمد على مستشارين كثر لم ينالوا ثقة البرلمان لحجب الثقة عن معظمهم كوزراء سابقين، ليأتي على رأسهم كمستشار أول قائم بأعمال الحكومة الروسية (جايدار)الذي أهدر مليارات من مدخرات الروس ببنوك توظيف الأموال التي أعلنت إفلاسها لاحقاً.
وفي ذات الإطار نجد أن مجلس (الدوما) الروسي اتهم ضمن جملة اتهامات الرئيس السابق (يلتسين) بأنه مارس حملة لإبادة الشعب الروسي وإفقاره من خلال اتباع تغييرات أدت إلى انهيار الاقتصاد ونهب ثروات الدولة.(3)
__________
(1) ـ المدعي العام لروسيا الاتحادية.
(2) ـ كان الرئيس السابق (يلتسين) يسيطر ويتحكم في : وزارة العدل/ الداخلية/ الدفاع/ الخارجية/ شؤون الدفاع المدني/ هيئة المخابرات الخارجية/ هيئة الأمن الداخلي/ هيئة شرطة تحصيل الضرائب/ هيئة الحماية الفيدرالية للاتصالات/ هيئة قوات الحدود/ إضافة إلى مهام كثيرة أخرى أهمها الاحتفاظ بحقيبة الشفرة لإطلاق الصواريخ النووية عابرة القارات/ ومنصب القائد العام للقوات المسلحة الروسية.
(3) ـ حول الحالة الألمانية والروسية انظر: ـ
أ.أ.غادة موسى/ الشفافية والمساءلة في ألمانيا بعد الوحدة/ في مصطفى كامل السيد (محرر)/ الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص 98.
ب. د.شادية فتحي/ الآثار السلبية للتحول/ في مصطفى كامل السيد (محرر) /الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص 119 ـ 120.(1/100)
مما تقدم نلخص مدى خطورة فساد القمة كصورة من صور الفساد السياسي لما تشكله القمة من لبنة أساسية ترتكز عليها لبنات أخرى في الهرم السياسي للدولة.
فإذا ما كانت هذه اللبنة الأساسية قد ضربها الفساد فإنها لا محالة قد تحولت من كتلتها الصلدة إلى كتلة هشة يمكن أن تنهار في أية لحظة والتي بانهيارها ينهار البناء كاملاً ويتداعى مخلفاً ركاماً من الصعوبة بمكان إصلاحه بجهد يسير.
ولنا في الركام الذي تعاني منه زائير (الكونغو) وروسيا خير دليل على ذلك.
بعد هذا سننتقل لتوضيح صور الفساد السياسي الأخرى التي هي تحصيل حاصل ناجمةعن فساد القمة في الغالب.
2.فساد الهيئات التشريعية والتنفيذية:
يكشف لنا عنوان الصورة الثانية من صور الفساد السياسي عن فساد المراتب التي تلي القمة من حيث الترتيب في هياكل سلطات الدول، للتنويه على ما يترك فعلها وممارساتها الفاسدة من بصمات على مجتمعاتها.
لذا ومن خلال هذه الدراسة سنتناول بعض الأنموذجات التي تعرض لفساد الهيئات المذكورة، ونبدأ بفساد الهيئات التشريعية. حيث تشهد كثير من دول العالم فضائح لجوء أعضاء هذه الهيئات إلى استغلال (النفوذ، ومميزات الحصانة البرلمانية) لمباشرة أنشطة غير مشروعة تحقق لهم بالتالي ثروات طائلة، أو استفادات معينة لهم ولذويهم أو لخاصتهم. لهذا قد تكون هذه الأنشطة إما (أعمال تقاضي رشاوى أو قبض عمولات من مستفيدين لتسهيل إصدار قرارات تشريعية تخدم مصالحهم، أو للحيلولة دون إصدار قرارات معينة تقييد أعمالهم، أو لتسريب معلومات سرية عن نشاطاتهم المشبوهة تناقشها تلك الهيئات إليهم).
أو (العمل على دعم مقترحات تشريعية تخدم (الحزب السياسي/ أو دائرة المنتخبين أو العائلة) التي ينتمي إليها العضو النيابي دون الاهتمام للمصلحة العامة ككل مما يظهر أن الفساد في هكذا تصرف يبدو جلياً واضحاً) (1).
__________
(1) ـ انظر/ د.جلال معوض/ الفساد السياسي في الدول النامية/ م س ذ/ ص 9.
... وقارن مع:
Gerard Carney/ conflict of Intrest/ (Ti) working papers/ Berlin 1998/p.3.(1/101)
ولعل ذلك يتجلى واضحاً من دراسة (الأنموذج الفلبيني) في إبّان عهد الرئيس الأسبق (فرديناند ماركوس)، حيث احتفظ أعضاء مجلس الشيوخ بمستويات معيشية واستهلاكية تتجاوز بكثير عوائدهم الرسمية، وقد كون معظمهم ثروات طائلة في أثناء عضويتهم بالمجلس المذكور نجمت عن ممارسات استغلال نفوذ لتعاطي أنشطة محظورة قانوناً مثل نوادي المقامرة، وإدارة عمليات تهريب، والتستر على شبكات البغاء(1).
بعد ذلك ننتقل لنوضح أن عالم الشمال قد شهد حالات فساد لأعضاء هيئاته التشريعية كشف عنها النقاب في الكثير من الأوساط الإعلامية والسياسية، حيث سنتناول أنموذج الهيئة التشريعية في الولايات المتحدة الأميركية كمثال لهذه الحالات في دول الشمال. حيث تم إعلان استقالة النائب (نيوت جنجريتش) رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، (في إبّان عهد الرئيس كلنتون)) بعد تسرب أنباء استغلاله لنفوذه وتهربه من الضرائب (نصف مليون دولار أميركي)، الأمر الذي اضطر (جنجريتش) إلى الإقرار بذلك والاعتذار عنه، ثم اضطراره أيضاً بعد ذلك إلى الانسحاب من رئاسة ما تبقى من مدة مجلس النواب.(2)
__________
(1) ـ نبوية علي الجندي/ الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير/ م س ذ/.
(2) ـ محمد حسنين هيكل/ كلام في السياسة/ م س ذ/ص 34.(1/102)
مما تقدم تظهر خطورة فساد الهيئات التشريعية التي تكون مهمتها دائماً المراقبة على ممارسات السلطة التنفيذية وكذلك صلاحياتها في إصدار التشريعات فضلاً عن ما تتمتع به من حصانات لذلك يرى الدكتور (إكرام بدر الدين)(1) "أن هذا الشكل من الفساد هو أخطر أنواع الفساد المعروفة حيث إذا ما تطرق الفساد إلى البرلمان يكون من السهل أن يوجد أيضاً على مستوى الوزارة وعلى مستوى الأحزاب السياسية، وبعبارة أخرى يمكن النظر إلى الفساد البرلماني باعتباره المتغير المستقل بالنسبة للفساد المؤسسي بصفة عامة، ويمكن الاستدلال على فساد أعضاء البرلمان من المستوى المعيشي والاستهلاكي لهم، فإذا كان يفوق ما يحصلون عليه من عوائد رسمية من وظائفهم فإن ذلك يعتبر مؤشراً على الفساد".
ثم يذهب (د.إكرام) في موضع آخر للقول: ـ
__________
(1) ـ أحد الباحثين في الفساد السياسي في مصر/ ومحرر كتاب الفساد السياسي النظرية والتطبيق/ المستخدم كأحد مصادر بحثنا هذا.(1/103)
"إن موضوع الفساد البرلماني يثير الكثير من التساؤلات وذلك نظراً لصعوبة تطبيق العقوبات بالنسبة لعضو البرلمان ومعاملته معاملة الموظف العادي، فالأصل أن يكون عضو البرلمان يتمتع بحصانة برلمانية وهو مسؤول فقط أمام دائرته الانتخابية فكيف يمكن إثارة تهمة الرشوة على سبيل المثال بالنسبة له؟ وماهي جهة الاختصاص وكيف يمكن أن يتوافق ذلك مع ما يتمتع به النائب من مكانة خاصة ووضع متميز يتيح له القدرة على أداء أعماله." (1) من ذلك يتضح لنا كيف أن لفساد الهيئات التشريعية من آثار على المستويات المؤسسية تجعل العضو البرلماني وهو متمتع بالحصانة أن يساهم في فساد وإفساد الكثير من العاملين في المفاصل المؤسسية الأخرى للدول. (2)
__________
(1) ـ آ د.أكرم بدر الدين/ ظاهرة الفساد السياسي/ في د.اكرام بدر الدين (محرر)/ الفساد السياسي/ م س ذ ص 38.
(2) ـ إذا ما تم تزوير نتائج الانتخابات من قبل الحكومة فسيسمح ذلك بوصول أعضاء برلمانيين لهم الميل للفساد واستغلال النفوذ متحصنين من المساءلة بالحصانة البرلمانية ومن المسؤولية أمام الناخبين لوصولهم بالتزوير وبذلك ونتيجة لعلائق المنفعة المتبادلة ستظهر شبكات الفساد البرلمانية والحكومية ويستشري في ذلك البلاد دون أي وسيلة للحد من ذلك.(1/104)
وبعد الإشارة لفساد الهيئات التشريعية سوف ننتقل لبيان حالة فساد الهيئات التنفيذية أو ما يطلق عليه (الفساد الحكومي). في الأنظمة السياسية، حيث تم رصد العديد من حالات تفشي الفساد في هذه الهيئات نتيجة لتقاضي بعض الوزراء وكبار الإداريين رشاوى وعمولات أو لاختلاسهم الأموال العامة ضمن آلية يطلق عليها (الفساد الذاتي ـ الداخلي) (Auto corruption) أي ما يعني استغلالهم لمناصبهم استغلالاً مباشراً لغرض تحقيق مصالحهم الخاصة. حتى لو كان هذا عن طريق تهريب السلع أو الاتجار بالعملات أو الاستيلاء على أراضي الدولة. أو ربما عن طريق تعيين الأفراد الذين لا تربطهم بأعضاء هذه الهيئة (التنفيذية) علاقات قرابية في الوظائف العامة نظير دفوعات مالية مستديمة طيلة استمرار ذلك الموظف بوظيفته وهي الحالة التي عرفت اصطلاحاً (بحالة بيع المناصب والوظائف العامة) والتي تأخذ أبعاداً خطيرة في الجنوب (1). يضاف إلى هذا كله من ضمن ما رصد في حالة الفساد الحكومي هو إفادة أصحاب المناصب الإدارية العليا أو الوزراء من عوائد احتكار السلع والخدمات المقدمة لعموم الأفراد التي يمنع الموظفون الذين هم أدنى وظيفية من أولئك الوزراء تقديمها للمواطنين الأبعد استيفاءَ ثمنٍ مضافٍ إلى ثمنها الأصلي يعرف في أدبيات الفساد بأنه (ريع الفساد) (2)، الذي غالباً ما يكون ريعاً قسرياً يضطر المستهلك الذي يستفيد من السلعة المقدمة دفعه بسعر أعلى مما هو محدد قانوناً من قبل الحكومة (مثل الحصول على هاتف أو موافقة أو إجازة...
__________
(1) -د. جلال عبد الله معوض /الفساد السياسي في الدول النامية /م س ذ/ ص 7 -9
(2) -غالباً ما يكون أولئك الموظفون الواطئون ذوي المناصب الصغيرة أدوات لتنفيذ سياسات الفساد لكبار أعضاء الهيئات التنفيذية وبالتالي تكون حصيلة ربع الفساد /للوزير أو الموظف الإداري التنفيذي ذو المنصب العالي (بنسبة حصة الأسد).(1/105)
الخ) مما يجعل هذا الريع ينتج عن مفاوضة بين الطرفين يستفيد منها أولئك الفاسدون على حساب الموارد المالية للدولة وعلى حساب المصلحة العمومية للمواطنين. ولعل الأدهى في هذه الحالة هو اتفاقات أعضاء الهيئات الرقابية الضرائبية في تسهيل التهرب الضريبي (1)، أو الحصول على قنينة دواء بسعر يتضاعف عن سعرها الأصلي أضعافاً مضاعفة يكون ضحيتها المستهلك وضحيتها الأخرى أموال الدولة المهدورة في دعم تلك السلع التي يستفيد منها أولئك الفاسدون مادياً. وليأخذ الموضوع شكله الواضح سنعرض فيما يأتي لبعض نماذج فساد الهيئات التنفيذية:
__________
(1) -د. رسلان خضور /محاضرة عن الآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد /دمشق/ جمعية العلوم الاقتصادية السورية /23/ 9/ 1999/ ص 31.(1/106)
فالأنموذج الأول سيكون دراسة حالة فساد حكومة السيد (محمود الزعبي) رئيس الوزراء السوري السابق. حيث في حركة تصحيحية وإصلاحية لمكافحة الفساد في سوريا قام بتوليها الدكتور (بشار الأسد) (1) (في إبّان حكم والده الرئيس (حافظ الأسد) قبل رحيله) قامت القيادات العليا في سورية بمناقشة ممارسات وسوء ائتمان اتهمت بها حكومة (الزعبي) خلال فترة توليه رئاسة مجلس الوزراء لمدة ثلاثة عشر عاماً (2) مما أسفر عن قبول استقالة حكومته في آذار /2000 من قبل الرئيس (حافظ الأسد)، فضلاً عن وضع عدد من المسؤولين في تلك الحكومة قيد الاتهام ومنع أكثر من ثلاثين شخصية من مغادرة البلاد لحين الفراغ من التحقيقات، والقيام بإجراءات الحجز الاحتياطي على أموال الكثير من المتهمين وأنجالهم، بناء على قرار وزير المالية الصادر في 13 /5/ 2000 (3) ومنهم نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، ووزير النقل السابق (4) الذين ما لبثوا أن اتهمتهم محكمة الأمن الاقتصادي السوري ومعهم الوسيط التجاري السوري الأصل (الأسباني الجنسية) (5)
__________
(1) -رئيس الجمهورية العربية السورية حالياً /الذي تولى منصب الرئاسة خلفاً لوالده الرئيس (حافظ الأسد) /حين كان يشغل منصب رئيس الجمعية السورية للمعلومات، فضلاً عن كونه طبيباً للعيون في الجيش السوري.
(2) -انظر صحيفة بابل البغدادية /في 13/ 5/ 20000.
(3) -بتاريخ 21/5/ 2000/ قام السيد (محمود الزعبي) بالانتحار حال وصول عناصر أمنية مكلفة بالحجز على أمواله تنفيذاً لقرار وزير المالية المشار إليه.
(4) -صحيفة الدستور الأردنية في 6 /6/ 2000.
(5) -صحيفة بابل البغدادية 25 /7/ 2000..(1/107)
بقضية تتعلق بعملية شراء (ست) طائرات أيرباص فرنسية الصنع إلى الخطوط الجوية السورية في نهاية عام 1996 بقيمة (مئتين وخمسين) مليون دولار أميركي) وأشارت السلطات السورية إلى أن اتفاق الشراء تضمن شروطاً مخالفة لكل القواعد والأنظمة وأدى إلى إيقاع أضرار مالية كبيرة قدرت بملايين الدولارات على الخطوط السورية ووزارة النقل، يضاف إلى هذا كله أن قرارات الحجر شملت أيضاً أموال المدير العام السابق للطيران السوري بتهمة إهدار ملايين من الدولارات في عملية صيانة طائرتي جامبو (1).
مما تقدم نلاحظ كيف أن الهيئة التنفيذية استغلت نفوذها ووضعت مصالحها الخاصة وإفادتها المالية قبل المصلحة العامة وكيف أهدرت الأموال في قضية تشغل حيزاً مهماً في قطاع خدمي وحيوي يعرض أرواح أبرياء من الناس إلى الخطر ومن الممكن أن يضر بسمعة شركة طيران عالمية عريقة تنم عنها كثير من الخسائر والتي ربما تؤدي إلى إفلاسها.
من ناحية أخرى وفي الإطار نفسه لفساد الهيئة التنفيذية نلاحظ أن هنالك حالات عدة يمكن التوقف عندها إذا ما انتقلنا لدراسة نماذج من عالم الشمال.
__________
(1) -آ. أحمد السيد النجار /الفساد ومكافحته في الدول العربية /نشرة الاتجاهات الاقتصادية الستراتيجية 2000 /القاهرة/ مركز الدراسات والاستراتيجية بالأهرام /2001/ ص 177.(1/108)
حيث نرى في (الأنموذج الروسي) (تخصيصاً في عهد الرئيس السابق (يلتسين) أن عملية اختيار الوزراء، وإسقاط الثقة عنهم من قبل رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة، مرتهن بالضغوط التي يتعرض لها هؤلاء المسؤولون من قبل كبار رجال الأعمال ذوّي النفوذ في روسيا الذين يرومون تعيين وزراء موالين لهم في الدولة. الأمر الذي جعل تأثير الفساد بادياً وبازدياد في ذلك البلد، مضافاً إليه حالات الإثراء الشخصي لأولئك الوزراء، التي نراها تتجسد في واحدة من تلك الحالات وهي قضية اتهام النائب الأول لرئيس الوزراء السابق (نيكولاي اكسيو نيتكو) في حكومة (ستيباشين) بتاريخ 2 /6/ 1999.
حيث تم التحقيق معه في تهم فساد عندما كان يشغل منصب وزير السكك لعقده العديد من الاتفاقات المشتبه فيها مع شركات أجنبية إثر اتهام مجلس الدوما له بذلك فضلاً عن توفر الكثير من الأدلة الأخرى التي تثبت ممارسته لأنشطة تجارية خاصة تتعارض مع منصبه الرسمي والتي تعطي الدليل دامغاً على فساده واستغلاله لنفوذه الوزاري بغية تحقيق الإثراء الشخصي على حساب المصلحة العامة. (1)
__________
(1) -د. شادية فتحي /الآثار السياسية للتحول في حالة روسيا /في مصطفى كامل السيد (محرر) /الفساد والتنمية /م س ذ/ ص 120(1/109)
ولنفس الغايات نلحظ أن (الأنموذج الألماني) غزير بنماذج فساد الوزراء فقد شهد العام 1993 استقالة العديد من الوزراء المتهمين بقضايا استغلال النفوذ واستغلال المال العام، حيث استقال وزير الاقتصاد (جيوجتي موليمار Moe llemanr) من الحزب الديمقراطي الحر ( F. D. P)، لاستغلاله منصبه لخدمة أحد أقاربه بفتح جريدة له. كذلك قيام وزيرة شؤون المرأة في مقاطعة هيس (هياد بفار Pfarr) باستغلالها المال العام لتجديد ديكورات منزلها مما أجبرها (افتضاح الأمر) على الاستقالة. ناهيك عن أعمال الوزراء في ألمانيا الشرقية قبل إعلان الوحدة وتطاولهم على المال العام. (1)
مما تقدم أشرنا لكيفية استغلال الهيئات التنفيذية والهيئات التشريعية من قبل بعض أعضائها لإثرائهم الشخصي ولتحقيق المنافع على حساب المصلحة العامة وقد تصل الحالة على حساب أرواح الأبرياء مما يوضح مدى قتامة الصورة التي يتركها الفساد على المجتمعات ومدى أخطار تلك الظاهرة.
بقي أن نذكر آلية فساد الهيئات التشريعية والتنفيذية بآثارها التي أسلفت تلقي بظلالها على جانب آخر هو فساد الأحزاب وتزوير الانتخابات وهو ما سنعرض له في الصورة الأخيرة من صور الفساد السياسي التالية.
3-الفساد السياسي من خلال شراء الأصوات وتزوير الانتخابات وفساد الأحزاب السياسية وقضايا التمويل:
__________
(1) -آ. غادة موسى /الشفافية والمساءلة في ألمانيا بعد الوحدة /في/ مصطفى كامل السيد (محرر) /الفساد والتنمية/ م س ذ /ص 99.(1/110)
تشير الدراسات التي تناولت ظاهرة فساد الأحزاب وتزوير الانتخابات إلى أنها عرفت في عالم الشمال كما عرفها عالم الجنوب، وعلى حد تعبير (جوزيف لا بالمبورا Joseph La Palombara) (1). إن الفساد السياسي يكثر في الدول التي تحدد فيها الانتخابات المستقبل السياسي للأحزاب والنخب السياسية المختلفة وإمكانات وصولها للسلطة، في العديد من دول العالم المتقدم أو النامي. وفي مثال (الهند أو الفليبين) عادة ما تستخدم ملايين الدولارات المخصصة لحملات الانتخابات في شراء أصوات الناخبين وفي أحيان كثيرة تقوم بعض الشركات الضخمة والهيئات الخاصة بتقديم مبالغ لتمويل الحملات للأحزاب المتنافسة وينجم عن ذلك التمويل في حالة وصول الحزب المدعوم للحكم الحصول على شيء مقابل تلك المساندة المادية يقدمها الواصلون للحكم إلى هذه الشركات. (2)
__________
(1) -جوزيف لا بالمبورا مؤلف كتاب السياسات داخل الأمم / والأحزاب السياسية في العالم الثالث.
(2) -نبوية على الجندي /الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير /م س ذ/ ص 19.(1/111)
وقد يكون حصيلة الدعم المالي لهذه القوى السياسية أن تتبدل المواقف نتيجة لفساد الذمم، فالحزب المعارض في بلد ما قد يتحول صراعه مع الحزب الحاكم إلى وئام (تقتضيه المصالح الشخصية) وبذلك تباع المعارضة مقابل ثمن هو عبارة عن صفقات ووساطات وتخليص أعمال. وقد يصل الأمر إلى أن تختفي من صحف الأحزاب المعارضة كل الآراء المسماة بالمعارضة من منافع ومكاسب شخصية ينعم بها زعماء الأحزاب وخاصتهم. وبهذا يتحول العمل السياسي المبني على الرأي والرأي الآخر إلى صفقة تجارية تربح كل الأطراف من ورائه ولم يتبق منها إلا رأي واحد سائد، حتى إذا ما صدر رأي ينتقد سياسة وبرنامج عمل ذلك الحزب الذي في السلطة من صحف أخرى تقوم صحافة المعارضة بممارسة السمسرة الفكرية والسياسية وتطالب بإغلاق الصحف الجديدة رغم أنها ينبغي أن تعتلي منبر الحرية. (1) كذلك يؤثر التمويل من قبل رؤوس الأموال التي تتطلب قرارات خاصة بها في إفساد النخبة الحاكمة من الحزب الذي تم تمويله وإلى إفساد الأحزاب المعارضة عن طريق شراء الذمم من خلال أموال التمويل من قبل الحزب الحاكم في آن واحد وبذلك تصبح العملية هدراً لثقة الشعب الذي صوِّت لإيصال تلك الأحزاب للحكم. تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن عمليات شراء الأصوات تؤثر أيضاً على آراء الشعوب وتطلعاتها حيث إن استخدام سياسية الماكينة ( Political Machine) الذي يسهم فيها الوسطاء والسماسرة. كأنهم في مزاد علني يضاربون في بالأصوات ويسوّقونها إلى الحزب أو الجماعة التي تدفع أكثر (2)
__________
(1) -للمزيد من التفصيل /انظر/ عبد الله كمال /ظاهرة انحلال الصفوة، القوادون والسياسة /القاهرة –لندن /دار الخيال /شباط 1998/ ص ص 10 –9.
(2) -نبوية على الجندي /الفساد في الدول النامية/ رسالة ماجستير / م س ذ/ ص 20..(1/112)
مما يسفر في النهاية بأن لا يصل إلى ناصية الحكم إلا الجماعات ذات القدرة المالية الواردة إليها من تمويل الجهات الراغبة في جعل القرار السياسي يصب في مصالحها، الأمر الذي يجعل تلك الجهة التي تم تمويلها تدافع عن مصالح الممول، وبهذا يتضح أن الآلية برمتها هي إفساد للذمم وتحول القرار السياسي إلى قرار يدعم أصحاب النفوذ المالي من دون الدفاع عن السواد الأعظم من أبناء الشعب، مما يؤدي إلى انتشار آليات الفساد في جميع المنافذ، لأن ما بني على الخطأ فهو خطأ لا محالة.(1/113)
إن ما تقدم يتوضح جلياً بدراسة (الأنموذج الكوري الجنوبي). حيث شهدت تلك الدولة العديد من التبرعات والمنح السياسية التي تمد بها الشركات الصناعية الكبرى الأحزاب السياسية، وتخصيصاً الحزب الحاكم إلى درجة أن هذه المنح أصبحت تقدم بشكل روتيني ودوري، حتى تم التعارف عليها على أنها شكل من أشكال الضرائب تدفع للأحزاب الحاكمة، انتظاراً لمزيد من المنافع وحماية لتلك الشركات في التعرض لغضب الحكومة. وتبرز الأهمية التي تعول عليها الأحزاب على هذه التمويلات، ما يؤكد عليه البعض من أن طبيعة العملية السياسية في كوريا تعتمد بشكل أساس على المال، بدلاً من كونها تعتمد بشكل أساس على الأيديولوجية أو العقيدة فاختيار المرشحين ارتبط بشكل مباشر بالمال. ويمكن القول إنه كلما زادت إمكانية حصول المرشح على مقعد في الجمعية الوطنية ارتفع ثمن الترشيح وكبر حجم المبالغ التي يكون على المرشح دفعها ثمناً لذلك. فعلى سبيل المثال في انتخابات عام 1992 للجمعية الوطنية قدر المبلغ الذي ينبغي لمرشح الجمعية أن ينفقه للحصول على مقعد بحوالي (خمسين مليون دولار أميركي) ويمكن المزايدة على هذا المبلغ (1) من هنا نرى كيف أن أموال التمويل تلعب دوراً في حصول المرشح على المقعد في الجمعية الوطنية الكورية التي سيكون فيها المقعد لمن ينفق أكثر بدلاً من الأقدر على تحقيق طموحات الشعب والأكثر إمكانية على تنفيذ البرامج التي تعلنها الأحزاب.
__________
(1) -لمزيد من التفضل /أنظر. آ. نجلاء الرفاعي /الفساد في كوريا الجنوبية وتايوان /في/ مصطفى كامل السيد (محرر) كتاب الفساد والتنمية / م س ذ/ ص ص 190 –199.(1/114)
إن آلية التمويل والإنفاق على الحملات الانتخابية تجعل العملية برمتها لا تعني شيئاً بالنسبة إلى سكان البلدان الفقيرة خصوصاً. حيث في دراسة مقارنة بين آسيا وأفريقيا للكاتب (جووي هنتر) ( Juy Hunter) (1) يذكر فيها أن العملية السياسية بالنسبة إلى السكان الفقراء في كلتا القارتين وخصوصاً الدول الفقيرة فيها لا تعني أي شيء خاصة في المناطق القروية وعلى المستويات المحلية سوى أنها وسيلة لتحقيق مكاسب ومصالح شخصية لبعض القلة من أفراد الشعب، وللتغلب على حالة الفقر المدقع يضطر أولئك الفقراء تحقيقاً لبعض الربع المادي لسد الرمق للتنازل عن حقوقهم السياسية المشروعة وذلك ببيع أصواتهم لأولئك الساسة المنتفعين من القلة أو في أحسن الأموال التنازل عن تلك الأصوات نظير وعد بالحصول على وظيفة حكومية تدر دخلاً ثابتاً. أو الحصول على وعد بشق طريق يربط قرى أولئك الفقراء النائية بمدينة مجاورة أو بعاصمة الدولة. (2)
بعد هذا كله وانطلاقاً من تحليل (جوزيف لا بالمبورا) الذي سبق وأن أوردناه نشير إلى أن ظاهرة الفساد السياسي عرفتها أيضاً بلدان الشمال من خلال فساد الأحزاب والتمويل ولعل دراسة (الأنموذج الألماني) يعطينا التصور عن الحالة كاملاً حيث نلاحظ أن قضايا التمويل ساعدت في تهربات ضريبية وتهريب أموال للخارج كان أبطالها رؤساء حكومات وزعماء سياسيين.
__________
(1) -جووي هنتر /كاتب سياسي/ صاحب كتاب تحديث المجتمعات الفردية /الصادر عن جامعة أوكسفورد.
(2) -نبوية علي الجندي /الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير /م س ذ/ ص 36.(1/115)
ولقد سجل الكثير من المراقبين حالات فساد كل من بين أهمها ما اكتشفت خلال نهايات العام 1990 حول تهمة قبول تبرعات للحزب المسيحي الديمقراطي الألماني مقدمة من تاجر أسلحة (معتقل في كندا). (1) (2) وقد وجهت الإدانة إلى المستشار الألماني السابق /الذي يعد رجل الوحدة الألمانية (هلموت كول) في هذه التهمة، الذي أقر بها خلال شهر تشرين الثاني من العام 1999 وبأنه خالف القوانين بإدارة شبكة من الأموال تستند إلى تبرعات غير معلنة، رفض كول تسمية أصحابها. ولقد أدى هذا الإقرار إلى كشف سلسلة من الحقائق اليومية التي تخص الممارسات المالية للحزب الديمقراطي المسيحي مما حقق رقماً قياسياً في فقدان الحزب لمؤيده في الانتخابات وتعالي الأصوات إلى استقالة خليفه (كول) (3) في رئاسة الحزب من بعده (فولف كانغ شوبل) لتورطه بالفضيحة أيضاً وذلك لإعلان (شوبل) بأن مبلغ (خمسين ألف دولار) حصل عليها الحزب من متعهد الأسلحة عام /1994 ولم يعلن عنها بسبب أخطاء في السجلات المالية للحزب. (4)
__________
(1) -هو تاجر الأسلحة /كارل هانز شرايبر.
(2) -صحيفة الجمهورية البغدادية في 1 /12/ 1999.
(3) -يذكر أن الرئيس (كول) يشغل رئيس شرف للحزب وأثرت تلك الفضيحة في استقالته.
(4) -صحيفة بابل البغدادية في 7 /2/ 2000.(1/116)
جدير بالذكر أن الفضيحة المالية المشار إليها ليست هي الفضيحة الوحيدة للحزب المذكور، ففي بدايات عقد الثمانينيات من القرن المنصرم كشفت مجلة (دير شبيغل Der Spiegel) الألمانية أن مجموعة الشركات الألمانية (فليك Flick) قامت من خلال رئيس مجلس إدارتها آنذاك بتيسير الحصول لجميع الأحزاب في (بون) على أموال ضخمة قدمتها تلك المجموعة على أنها تبرعات خيرية، وذلك لكي تتهرب المجموعة المشار إليها من دفع مستحقات ضريبية قدرت بحوالي (56%) من حصيلة قيام رئيس مجلس الإدارة المذكور ببيع حصته في شركة (دايملر –بنز – Diamler Benz). وقد أقرّ وزير الاقتصاد الألماني في حينه وهو من الحزب الاشتراكي الديمقراطي حصول رئيس الحزب ورئيس الحكومة آنذاك (فايلي براندت Willy Brandt) على مليون مارك ألماني كتسهيلات اتهم على إثرها بالفساد في حينه، كذلك فإن من جملة المتسلمين لمبالغ من رئيس المجموعة المذكورة أيضاً السيد (كول) (قبل توليه منصب المستشار الألماني) من الحزب الديمقراطي المسيحي حسب ما يؤكده المراقبون برغم إنكار السيد (كول) لذلك. (1)
من هنا يظهر أن الأموال كما تقدم في عالم الجنوب تقدم في عالم الشمال ولكن بدرجة أقل ولأغراض شخصية بحتة وتهربات من حكم القانون تصل إلى حد رؤساء أحزاب لهم باع في ممارسة السياسية في دول من دول الشمال التي تعد أنموذجاً لكثير من الدول الأخرى ويتضح كيف يؤدي فساد المسؤولين في تلك الأحزاب إلى زعزعة ثقة المواطنين بهم.
__________
(1) --آ. غادة موسى /الشفافية والمساءلة في ألمانيا بعد الوحدة /في مصطفى كامل السيد/ كتاب الفساد والتنمية / م س ذ ص ص 97 –98.(1/117)
وأخيراً فمن خلال أربعة مباحث خلت، تناولنا ملامح الفساد وطبيعته في أربعة أنماط (اجتماعياً –اقتصادياً –سياسياً) لنصل إلى حقيقة عن الفساد يمكن من خلالها أن تظهر صورة الظاهرة على أفضل ما نستطيع إظهاره لإثبات مدى بشاعتها وتغلغلها في جميع مفاصل حياة المجتمعات بشكل مترابط عانت منه دول البسيطة برمتها فكانت بذلك واحدة من أخطر الظواهر التي تهدد استقرار وسلامة المجتمعات.
(((
الباب الثالث
المتغيرات المؤثرة في ازدياد الفساد في عالم الشمال واستشرائه
في عالم الجنوب
الفصل الأول
متغير الثورة التقانية،
وثورة الاتصالات وعلاقته بالفساد
بادئ ذي بدء يعد نشوء ثورة التقانة وما لحق بها من تطورات في مجال المعلوماتية والاتصالات تغييراً في شكل الحياة البشرية. ولقد ساعد التطور المذهل والسريع إلى حد جعل العالم على حد تعبير أحد المفكرين الغربيين (مارشال ما كلوهان) عام 1964 (قرية كونية).
حيث أصبح الإنسان يشارك وهو في غرفة جلوسه في الأحداث العالمية بالصوت والصورة كأنه حاضر (1) ويكفي أن نلقي نظرة على ما حصل من تطور منذ العام 1964 إلى بداية الألفية الثالثة في تلك المجالات لنرى سرعة هذا التقدم بهذه الثورة.
__________
(1) -نقلاً عن /د. ماجد محمد شدود /العولمة مفهومها، مظاهرها، سبل التعامل معها /دمشق/ مطبعة اليازجي/ 1998 /ص 70.(1/118)
إن ثورة التقانة وتوابعها هي حصيلة ما توصل إليه العقل البشري من إنجازات، واكتشافات، واستخدام لأدوات، والطرق العلمية والمنهجية والمعرفة المنظمة، لابتكار أدوات ووسائل جديدة متطورة ومطورة تستهدف تمكين الإنسان من السيطرة المستمرة على الطبيعة والكون، والاستخدام الأمثل لكل القدرات والإمكانات الموجودة بسرعة أكبر وجودة أفضل وإنتاج أوفر، وكلفة أقل. إنها وسيلة لتطبيق الاكتشافات أو الأساليب العلمية أو المعرفة المنظمة لإنتاج أدوات معينة أو القيام بمهام محددة، من أجل إيجاد حلول علمية للمشكلات التي يواجهها الإنسان في البيئة والمجتمع إنها الثورة التي توجد وسائل إنتاج جديدة في المجالات كافة وخصوصاً المعلومات والاتصالات (1)
إلا أنه وبرغم كل ما تقدم فإن هذه الثورة تحمل بين ثناياها علاقات وظواهر خطرة من ضمنها نشاط الفساد والإفساد، ولهذا أصبحت ثورة التقانة كما يصفها المفكر (رجاء غارودي) (2) كالنبوءة الثقيلة للقديس أوجستان (على حد تعبيره) التي وصفت العبادة الوثنية بأنها: -
(
__________
(1) -م ن/ ص 49.
(2) -مفكر أوربي /اعتنق الإسلام/ وأصبح اسمه بالصيغة المذكورة بعد أن كان يعرف بـ (روجيه غارودي) / له مواقف ثابتة في نصرة قضايا التحرر وصراع الشمال والجنوب.(1/119)
اضطهدت البشرية في صيغة يديها!) وهو الحال ذاته مع ثورة التقانة فهي بكل ما تحمله من معاني التطور قد اضطهدت البشرية من خلالها. حيث يشير (غارودي) إلى أن العقل البشري من خلال الثورة التقانية اكتشف أسرار الطاقة النووية التي لها استخدامات مهمة لتطوير الحياة البشرية ثم سرعان ما أسفر الاكتشاف هذا عن قنبلة ألقيت على مدينة (هيروشيما) اليابانية في لحظة واحدة قتلت (سبعين ألف) ضحية (الأمر الذي عد تقدماً تقنياً لا يقبل الجدل أو النقاش) فما بذله (جنكيز خان) في أسبوع لإقامة هرم من (عشرة آلاف) جمجمة في أصفهان يمكن اليوم بفعل ثورة التقانة وبكبسة زر أن يبيد ما يعادل اثني عشر مرة عدد سكان البسيطة (1) وبهذا يتطابق واقع التقانة مع مثال القديس أوجستان. بعد هذا، ولربط الموضوع، لا بد من التساؤل: كيف استخدمت التقانة لخدمة الفساد؟ وما هوى الأثر السيئ لذلك؟.
ولغرض الإجابة، ولوضع النقاط على الحروف علينا أن نوضح قبل ذلك أن ثورة التقانة ارتبطت بتطور شهده القرن العشرون ومن ثم القرن الواحد والعشرون، وهو تقنية المعلومات والاتصالات التي تعد ثورة بحد ذاتها، بدأت بالصورة والكلمة المطبوعة، وأساسها الحبر والورق، مروراً بالإلكترونيات الدقيقة المرتبطة بالكمبيوتر والفاكس والروبوت (الإنسان الآلي) حسب رؤية العالم (ديكن) (2) الذي يرى إضافة إلى ذلك أن ثورة المعلومات والاتصالات شهدت مرحلتين: -
الأولى: مرحلة تقنية المعلومات التي هي ثورة مادتها الخام البيانات والمعلومات والمعارف وأداتها الأساسية هي الحاسوب (الكمبيوتر COMPUTER) وبرامجه التي تستهلك طاقته الحسابية في تحويل المادة الخام إلى سلع وخدمات معلوماتية.
__________
(1) -وجيه غارودي /حفار والقبور، الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها /القاهرة/ دار الشروق/ 2000/ ص ص 96 –98.
(2) -عالم غربي /يتناول طروحات في قضايا التقانة.(1/120)
الثانية: هي التي تعد عنصراً مكملاً لتقانة المعلومات التي يجسدها الحاسوب وهي ثورة الاتصالات. (1)
بعد هذا علينا العودة إلى جوهر السؤال الذي طرحناه في سطور سابقة وهو:
كيف استخدمت التقانة لخدمة الفساد؟.
للإجابة على ذلك يرى (أ. د مصطفى كامل السيد) (2) المختص في أبحاث الفساد أن هذه الثورة من خلال وسائلها الاتصالية السريعة والمرئية سوف تفتح عقول كثير من مواطني الدول الفقيرة على وسائل ومستويات معيشية عالية مما يشجع على زيادة التطلعات برغم ضعف الإمكانات، قد تؤدي بالتالي إلى حالات فساد ينبغي من ورائها العيش في مستوى الرفاهية المطلوبة من وراء تلك التطلعات (من زاوية رؤيته لهذا الشكل من أشكال الفساد). (3)
تجدر الإشارة إلى أن الشفافية الدولية (TI) قد شخّصت الكثير من حالات الفساد عبر استثمار التقنيات الحديثة في عالم الشمال مما يجعل الأمر جلياً في معاناة العالم أجمع من الفساد عبر التقانة (4) ولهذا كله سنتناول فيما يلي صوراً للفساد ساعدت على انتشاره ثورة التقانة والاتصالات. لنعطي للتساؤل كامل إجابته وأيضاً نعطي للمدى كل طوله لبيان الأثر السيئ للفساد وفق المحاور الآتية: -
أولاً /حالات الفساد والتزوير ضمن آليات عمل وسائل الاتصال:
__________
(1) -ماجد محمد شدود /العولمة/ م س ذ /ص 49.
(2) - رئيس مركز دراسات وبحوث الدول النامية /وأستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية /جامعة القاهرة/ أحد المتخصصين في موضوع الفساد.
(3) من لقاء شخصي للباحث مع أ. د. مصطفى كامل السيد /في مبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية /جامعة القاهرة/ 6 شباط 2001.
(4) -انظر الموقع WWW. Transparency. org(1/121)
لقد كشف النقاب من خلال الدراسات واللقاءات الدولية للمختصين عن مشكلات التزوير والفساد عبر وسائل الاتصال إلى أنه منذ بداية العام 2000 هنالك الكثير من المحققين والقانونيين والمسؤولين الحكوميين (المنتمين إلى الدول الصناعية الثماني الكبرى) يتدارسون الوسيلة المثلى للحد من ظاهرة الفساد المتجسدة في التزوير والاحتيال والجريمة المنظمة عبر وسائل اتصال الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنيت) (1)
__________
(1) -يذكر أن هنالك تنوعاً وتعدد في أشكال الفساد والجرائم عبر الانترنيت إلا أن جريمة الاحتيال والنصب والفساد في نطاق التجارة الإليكترونية تشغل قمة السلم بين تلكم الجرائم، خاصة مع شيوع استخدام هذا الأسلوب من أساليب التجارة على الصعيد الدولي.
... لقد قرر تقرير (نيلسون) الصادر عن واحدة من الجهات المهتمة بالشأن المصرفي بأن قيمة الخسارة من جراء عمليات النصب والاحتيال والفساد عبر الشبكة الدولية للمعلومات تبلغ (28 سنتاً أميركياً) لكل (مئة دولار أميركي) ينفق عبر الانترنيت، أي (4 مرات) أكثر من قيمة ما يجري من عمليات احتيال داخل المحلات والبيع والشراء بالطرق التقليدية.
... كما تفيد الإحصاءات بأن أكثر من ستة ملايين مستخدم للشبكة تضرروا جراء آليات الفساد والاحتيال في عمليات التجارة الدولية خلال العام 2000 /وذلك بخسائر تقدر بأكثر من تسعة ملايين مليارات دولار.(1/122)
التي قدرت خسائرها بملايين الدولارات الأمريكية (1) وخصوصاً العمليات الخاصة (ببطاقات الإئتمان وتزييفها) (2) (3) التي يسعى التنسيق الدولي إلى زيادة ضبط أولئك المتعاملين بها (طبقاً لآليات الفساد).
__________
(1) -انظر: عصام خيري /تقرير/ الإدمان الاستهلاكي العربي يعزز التجارة الإلكترونية /مجلة الوطن العربي /العدد 1279 /7/ 9/ 2001.
(2) - بطاقات الإئتمان /تعرف على أنها عبارة (عن عقد بمقتضاه مصدر البطاقة بفتح اعتماد بمبلغ معين لمصلحة شخص آخر هو حامل البطاقة الذي يستطيع بواسطتها الوفاء بمشترياته لدى المحلات التجارية التي ترتبط مع مصدر البطاقة بعقد تتعهد فيه بقبولها الوفاء بمشتريات حاملي البطاقات الصادرة عن الطرف الأول على أن تتم التسوية النهائية بعد كل مدة محددة). وأغلب بطاقات الإئتمان تكون عبارة عن كارت في أغلب الأحيان مصنوع من البلاستيك ومواد أخرى وتحوي قطع معدنية في الغالب يمكن للمتحسسات الإلكترونية في قارئات البطاقة لدى البنوك أو المحلات أو أجهزة الهاتف التعرف عليها لتمكن حاملها من شراء الخدمة المقدمة مقابل الدفع الجزئي نهاية الشهر أو تقسيط المبلغ مع احتساب الفوائد، وهي كذلك تمكن حاملها من إجراء الاتصالات الهاتفية، وإجراء سحوبات المبالغ بعد انتهاء دوام المصارف من مكائن الأتمتة الموجودة. ومن أشهر أنواع البطاقات ( master card) ( American Exprees) ( Visa card).
(3) - انظر /وائل إسماعيل عصفور /بطاقات الوفاء/ مجلة البنوك في الأردن /العدد الأول/ المجلد 18 /آذار/ 1999 /ص 340. وكذلك /د. فائز نعيم رضوان /بطاقات الوفاء/ القاهرة/ المطبعة العربية الحديثة /1990/ ص 8.(1/123)
حيث لوحظ استشراء شكل الفساد هذا في الأعوام الأخيرة من القرن المنصرم وبدايات الألفية الحالية لزيادة أعمال الاحتيال والتزوير والتصرف ببطاقة الإئتمان (قبل أن يعلم صاحب البطاقة أن بطاقته تم استعمالها) من خلال استخدام تقنيات ثورة المعلومات والاتصالات (1) ولكي نبين تلك الآلية الفاسدة سنوردها بشيء من التفصيل.
حيث من الملاحظ أن عملية صياغة البطاقات المزورة تتم طبقاً لمرحلتين:-
أولاهما /هي عملية الحصول على البطاقة البلاستيكية لطباعة المعلومات وتخزينها عليها.
وثانيهما: الحصول على هولو جرام لإتمام عملية تصنيع البطاقة من قبل الشبكات الفاسدة العاملة في هذا المجال الأسود (2) وذلك بأن تتم هذه المراحل عادة بسبب أعمال اختلاس البطاقات من البنوك الكبيرة التي ينفذها الموظفون الفاسدون والمرتبطون بعلاقات مشبوهة مع تلك الشبكات التي تقوم بدورها بنقل إرسال البطاقات بعد قيامها بتزويرها إلى دول أخرى الأمر الذي يرتب الأثر السيئ على سمعة الدولة الصادرة منها البطاقة، مما يستدعي للحد من هذه الظاهرة أن يتم تعظيم دائرة التدقيق على أولئك الموظفين وعلى الجهات المعنية بإصدار تلك البطاقات.(3)
__________
(1) - صحيفة بابل البغدادية 2 /5/ 2000.
(2) -لقد عرف على صعيد شبكات التزوير ثلاثة مجموعات اثنين منها تنتمي لدول الجنوب وهي المجموعة الصينية والمجموعة النايجرية (التي تتسم برداءة جودتها)، أما مجموعة دول الشمال فهي المجموعة الروسية.
(3) -د. جمعة أبا الرقوش /تزوير البطاقات الإنتمائية /عرض لأعمال الندوة الخاصة بتزوير بطاقات الائتمان /مجلة الأمن والحياة /الرياض/ العدد 217 /أكتوبر/ 2000 ص ص 10 –15.(1/124)
إن عمليات التزوير قد تكون بإصدار بطاقة مزورة بكاملها تتوفر فيها جميع العناصر الأساسية للبطاقة (وتشمل تزوير الوسائل الأمنية كافة التي تحويها ويكثر هذا لدى المجموعة الصينية)، أو قد يتم بإجراء تغيير بسيط على البطاقة المختلسة أو المسروقة، كأن يتم تغيير رقمها، أو اسم صاحبها بطريقة إلكترونية هي المسح الحراري ومن ثم يتم إعادة طباعتها حرارياً بشكل آخر يرام من خلاله الاحتيال في استخدام البطاقات، ويكون هذا الشكل من التزوير بغية تعقيد عملية متابعة البطاقة عند اكتشافها (1) أو ربما يكون التزوير يستخدم في تقنيات الثورة التقانية للاحتيال لتنفيذ (عمليات الشراء الإلكترونية) من خلال نقاط البيع المباشرة التي لا تحتاج إلى كل ما تحتويه البطاقة من بيانات ظاهرة (كالاسم والرقم وتاريخ نفاذ البطاقة) إنما تتعامل بهذه البيانات نتيجة قراءة الأجهزة الإلكترونية للشرائط الإلكترونية المثبتة على البطاقة التي بتحريفها (أي تلك لشرائح) وتزويرها دون المساس بمظهر البطاقة ينجم أمر يساعد على اكتمال عنصر الجريمة (حيث المعلومات الظاهرة صحيحة والمعلومات على الشريحة مغايرة غير متطابقة (مع الظاهرة منها) إلا أنها قابلة للاستخدام وتعود لبطاقة سليمة) (2).
إن أسلوب تزوير المعلومات يتطلب أسلوبَ كشفٍ يختلف نوعاً ما حيث يتطلب قراءة البطاقة آلياً (إلكترونياً) ومقارنة بياناتها مع ما يظهر عليها خارجياً، وذلك ما يرتب خسائر مالية كبيرة تتحملها الجهات المصدرة للبطاقة والجهات القابلة للتعامل معها بما فيها حامل البطاقة نفسه.
__________
(1) -حول قبول الدفع ببطاقة الإئتمان وآثار المسح الحراري انظر: -
... وائل إسماعيل عصفور /بطاقات الوفاء /مجلة البنوك الأردنية/ العد الثالث/ المجلد الثامن عشر/ نيسان /1999/ ص 21.
(2) -د. جمعان أبا الرقوش /تزوير الانتمائية/ م س ذ /ص ص 10 –15.(1/125)
جدير بالذكر أن البطاقة الإنتمائية المزورة تسبب خرقاً للنظام المصرفي من خلال استخدامها، مما يسهل بذلك عملية كشف الشبكة المصرفية الداخلية المتعلقة بتشغيل (البطاقات الإنتمائية) السليمة وهذا الاختراق يتسبب في الكثير من الهدر المالي الذي يذهب إلى تطوير الأنظمة وإصدار بطاقات جديدة مختلفة للعملاء المتضررين جراء أعمال التزوير المذكورة.
بعد ذلك علينا أن نوضح أساليب أخرى للفساد عرفت مع ثورة التقانة والاتصالات تضاف إلى ما تقدم منها كون فضاء شبكة الانترنيت يشهد حالات تحويل أموال، وفساداً كبيراً، يشير إليه كل من (باتريك جلين) و(مويزيس نعيم)(1) وذلك بأن ثمة عدداً من الشركات تعمل جاهدة على استحداث نقود إلكترونية من الممكن استخدامها في ذلك العدد المتنامي من المعاملات التجارية التي تجري على شبكة الانترنيت، وستجمع النقود الأمريكية مهما كان الشكل الذي ستتخذه بين صفات النقود الحالية (أي القبول العالمي وعدم الحاجة إلى مراجعة لاحقة واضحة) وبين سهولة التحويل الإلكتروني.
__________
(1) -الباحثان /أعضاء في مجموعة دافوس /التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي /والأخير هو أيضاً يرأس تحرير مجلة (السياسة الخارجية).(1/126)
وستكون النقود الإلكترونية قابلة للنقل الفوري بلمسةٍ على لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر ( KEY BOARD) أو بنقرة ( CLICK) على جهاز الفارة، مما يجعل من الصعوبة بمكان اقتفاء أثر هذه الأموال وتنظيمها (ومن الممكن تصورياً أن تجعل شراء مسؤول عمومي أو موظف وإفساده مجرد صفقة عبر الانترنيت) ولعل التصور للحجم المالي الكبير الذي يزيد عن التريليون دولار يجري كل يوم دائراً حول الكرة الأرضية. (بلمسة واحدة) وبسرعة الضوء بالمعنى الحرفي للكلمة كتدفقات مالية ضمن النظام المالي الدولي لعالم اليوم والمتكون من شاشات الألوف من أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) المرتبطة بواسطة الأقمار الصناعية (السواتل) في شبكة اتصال فوري وثيق (1)، يبين ما أن تدخل الأموال إلى النظام المالي هذا فإنه يمكن صرفها لأي عدد من المواقع المترامية الأطراف ولهذا تشير مجلة التايم إلى أن مسؤولي إنفاذ القوانين مضطرون اليوم إلى البحث عن الكثير من الأموال المتأتية من الرشاوى وأعمال الفساد الأخرى وغسيل العملة الطافية على سطح المحيطات من المدفوعات المشروعة وهي مهمة مضنية في أحسن أحوالها لأكفأ جهاز يراقبها.
إن هذه الأموال تشكل معضلة حتى بالنسبة لصندوق النقد الدولي ( IMF) الذي يشجع انفتاح الأسواق المالية الدولية أو قابلية العملة للتحويل مع إلغاء الرقابة على الصرف حيث أن الصندوق ذاته وفي الوقت نفسه يرى أن التحرر يكون محفوفاً بالمخاطر في ظل ثورة المعلومات والاتصالات لأنه يفتح قنوات إضافية لغسيل الأموال القذرة (2). (3)
__________
(1) -باتريك جلين وآخرون /تعولم الفساد/ في كيميرلي ان اليوت /الفساد والاقتصاد العالمي /محمد جمال إمام (مترجم) /القاهرة مركز الأهرام للترجمة والنشر /2000/ ص ص 28 –29.
(2) - حول أمثلة غسيل الأموال /انظر الفصل الثاني من هذا البحث.
(3) - صحيفة الثورة السورية 2/ 1/ 2000.(1/127)
مما تقدم يتضح لنا كيف أن للتزوير وحالات الفساد منافذ عبر ثورة المعلومات والاتصالات أصبحت اليوم واقع حال يترقب منه الكثير من المؤسسات الحكومية والهيئات الدولية نظراً لسرعة المعاملات وعدم إمكانية تتبعها بسهولة مما حدا بتلك الجهات للحد من ظاهرة التزوير والفساد أن يظهر لديها نظام للتشفير (1) يستخدم لتبادل المعلومات المهمة وخصوصاً ببانات وأرقام بطاقات الإئتمان (التي سبق الحديث عنها) إلا أنه وبرغم كل الجهد الحثيث ما يزال هنالك كم هائل من العمليات غير المشروعة يكون مجالها الأرحب في (فضاء شبكة الانترنيت).
ثانياً /الاختراق عبر وسائل الاتصال: -
إن الحديث عن الاختراق عبر وسائل الاتصال ما هو إلا تتمة للموضوع، لبيان كيف أن المعلومات والاتصالات لما شكلته اليوم من وسيلة حيوية يستخدمها بنو البشر يمكن لبعض الجهات الخارجة عن القوانين أن تستغلها في حالات فساد قد تصل إلى تهديد حياة الآمنين.
__________
(1) - التشفير /عملية معقدة وسرية تستهدف الترميز الإلكتروني باتباع معادلات معينة لطمس هوية البيانات ومنع كل من لا يمتلك المفتاح الإلكتروني من الدخول إلى ذلك النظام.(1/128)
لهذا نشير إلى ما تحدث عنه (انطوني ليك) في أحد كتبه (1) على أنه في العام 1994 تمكن أحد قراصنة الكومبيوتر من اختراق نظام قاعدة (روم) الجوية لأكثر من أسبوعين وكذلك تعرض نظام (البريد الإلكتروني E- MAIL) من قاعدة (لانغلي) الجوية في فيرجنيا إلى إمطار هائل برسائل إليكترونية حوالي أكثر من (ثلاثين ألف رسالة) أدت إلى إغلاق نظام الحاسوب في تلك القاعدة لعدة ساعات. إن مثل هذا العمل يشكل استغلالاً للوسائل الإليكترونية لإيقاف عمل منظومات حاسوبية الذي يعد العمل على إيقافها من أخطر الحالات التي تعرض حركة الطيران لكوارث، وكذلك استخدام الأسلحة بشكل غير صحيح وعشوائي نتيجة لاختلاف البيانات التي يقدمها نظام الحاسوب للمستخدمين، وبذلك يتضح مدى عظم الخطر الذي تسببه حالات استغلال تلك المواقع لمثل هذه القرصنة، خصوصاً و(الكاتب) يذكر أن السلطات القائمة على التحقيق في تلك الاختراقات لم تستطيع تحديد أماكن أولئك القراصنة. ويستطرد (ليك) ليتحدث عن اختراق النظام الإلكتروني لبدالة شرطة النجدة في ميامي من موقع مستخدم خاص على الشبكة الإليكترونية مما أدى إلى وقف خدمات جهاز الشرطة وإيقاف النظام الإليكتروني لها لمدة ليست بالقصيرة مما دفع إلى تحويل المكالمات الهاتفية إلى أماكن أخرى لا علاقة لها بشرطة النجدة. كما إن الشخص ذاته (الذي ألقي القبض عليه فيما بعد) قام باستغلال موقعه الإليكتروني بالدخول على نظام مؤسسة الهواتف في ميامي مما مكنه من إجراء (60 ألف مكالمة) غير مرخصة مما يؤدي إلى سلب الكثيرين أموالهم بعمليات التلصص الإلكترونية (2).
__________
(1) -انطوني ليك /هو مستشار الأمن القومي الأميركي السابق /ومؤلفه هو (كوابيس أميركا الستة).
(2) -صحيفة الزمن البغدادية /في 18 /1/ 2001.(1/129)
جدير بالذكر أن عدم توفر الحلول الأمنية لشبكات الكثير من نظم الحاسوب تجعل محاولات اختراق الأنظمة والشبكات ممكنة، وهنالك من يعتقد أن محاولات الاختراق مقتصرة على الأفراد فحسب أو منظمات ما يدعى بعالم انترنيت السفلي مثل المنظمة المسماة (الهاكر) التي تحاول توجيه الاختراق نحو أنظمة وشبكات ومواقع الجهات الرسمية في العالم أجمع بحيث تؤدي أعمالها الاختراقية إلى نتائج تخريبية في الأنظمة ذاتها يمكن إصلاحها إذا ما وجدت النسخ الأصلية. إلا أن الخطر الداهم ليس كما يعتقد من أن محاولات الاختراق مقتصرة على الأفراد، بل إنه محاولات إفساد الموظفين أو العاملين في نقاط مهمة لدولة ما من قبل دولة أخرى لكشف الشفرات أو بيان الممرات التي عبرها يمكن الوصول إلى البيانات الكامنة فيها الأسرار، التي يحاول العمل التجسسي الإليكتروني نقلها من مكان إلى آخر هي ذروة سنام الأمر في الخطر الذي ينتاب دول العالم من خلال شبكاتها المعلوماتية (1). يذكر أيضاً أن شركات الحواسيب العالمية ذاتها ومنها شركة مايكروسوفت (MICROSOFT) الأميركية قد أعلنت بعد افتضاح الأمر أنها ستصلح خطأ تجسسياً في نظام (WINDOW98) الذي تتمكن بموجبه تلك الشركة من جمع المعلومات والبيانات من أجهزة المستخدمين للنظام من دون علمهم بغية تحقيق النفع في شتى المجالات من خلال تلك البيانات. وكان قد كشف عن ذلك (ستيفن سينوفسكي) (2) الذي قال في معرض حديثه إننا مهتمون جداً بأمر الخصوصية و تفهم الدواعي الكامنة خلفها ولذلك لن توجد هذه الميزة في نظام
(WINDOWS 2000) (3).
__________
(1) - انظر /التجسس الإليكتروني /عالم الحاسبات الإلكترونيات / ملحق صحيفة الجمهورية البغدادية /العدد/ 22 في 16 /3/ 3/ 2001.
(2) - نائب رئيس مؤسسة مايكروسوفت للحاسبات.
(3) - P. C. Magazine /April/ 1999.(1/130)
من خلال ما تقدم يتضح أن عمليات الاختراق عبر وسائل الاتصال وخصوصاً شبكة (الإنترنت) يمكنها أن تحدث شرخاً في جدار أمنية المعلومات وسريتها وبذلك يستغل الكم الهائل من تلك المعلومات لمنفعة أطراف أخرى وهنا تبرز (فرضية الفساد)، التي تحقق نفعاً خاصاً قد يتحول إلى عمل تجسسي يقصد به إيذاء شعوب بأكملها والسيطرة عليها وتكمن خطورته في النقاط الآتية: -
أ/ إمكانية استغلال جماعات الجريمة المنظمة لتلك التقنيات وإمكانية اختراق نظم عدة قد تصل إلى حد الدخول على نظم يمكن الحصول منها على معلومات خطرة لتصنيع أسلحة ذات تقنيات عالية أو أسلحة دمار شامل، وخصوصاً بعد امتلاك الكثير من دول الجنوب للسلاح النووي، واستخدام تلك الأسرار في ابتزاز الأموال أو التهديد لحياة شعوب ودول كثيرة وهو أمر محتمل ووارد الوقوع.
ب/ إن حالات التمكن من استغلال الشبكات المعلوماتية تتسبب في زرع الاضطراب في شبكات الدفاع والمنظومات الكهربائية والخطوط الهاتفية المطارات وأنظمة أخرى، مما يؤدي بالنتيجة إلى اختلالات وخسائر مادية فادحة ولعل ذلك يجري من قبل حكومة مثل الحكومة الأميركية التي قامت من خلال عمليات يراد بها السيطرة وتحقيق النفع الأميركي إلى زرع فايروس كومبيوتري أو ( BOMB LOGIC ) في شبكات كومبيوتر دول مما أدى إلى التلاعب بالفضاء الإليكتروني للشبكات التي ذكرت آنفاً وسيطرة الجانب الأميركي على المواقع الإليكترونية لتلك الدول بالكامل (1).
مما تقدم نرى أن ما عرضنا له دعا دول متقدمة مثل فرنسا إلى المطالبة بالتنظيم الحكومي لشبكة الإنترنت بهدف محاربة جرائم الاحتيال والتخريب وغسل العملة والتجسس الإليكتروني حتى أننا نلاحظ أن رئيس الحكومة الفرنسية السيد (ليوينيل جوسبان) يدعو البلدان الصناعية الثماني الرئيسية قائلاً: "إن التنظيم للشبكة ليس كافياً وهناك حاجة لتنظيم حكومي منسق"
__________
(1) -انظر صحيفة الزمن البغدادية / م س ذ/ 18 /1/ 2001.(1/131)
وذلك خلال المؤتمر الأول للشرطة ورجال وممثلي الحكومات الهادف إلى مكافحة الجريمة عبر الانترنيت (1).
وللأمر نفسه يشير (كولن روز) (2) إلى أن هذا النوع من الجرائم يحتل الموقع التالي للتهديد النووي حيث أنه قادر على تدمير صناعات بأكملها وهدم بيانات مهمة بكبسه مفتاح ليس إلا، ولا يحتاج في هذا العصر (العصر المعلوماتي) إلى أسلحة أو قنابل لتدمير البلدان بل إن الاقتصاد وعالم المال والدفاع والاتصال كله مرتبط بالمجتمع المعلوماتي الذي يمكن اختراقه بواسطة هذا الشكل من الجرائم.
إن أعمال الفساد في مجتمع المعلوماتية قد تؤدي إلى كوارث إنسانية وبيئية من خلال اختراقات لنظم مطارات تؤثر على الحركة الجوية أو اختراق نظم محطات نووية يثير خللاً فيها أو حتى اختراق نظم مستشفيات تؤدي إلى اضطراب البيانات المسجلة على الحالة الصحية للمرضى وبالتالي يختلط الأمر ويودي بحياة الكثيرين، إن تلك الأعمال تؤدي بالتالي إلى خلل في نظام المجتمع للكثير من الدول وتتسبب في تراجعات لمعدلات التنمية والتطور (3).
ثالثاً /إشكالية اختراق نظم الانتخابات عبر ثورة المعلومات والاتصالات
__________
(1) -صحيفة بابل البغدادية /18/ 5/ 2000.
(2) -أحد المتخصصين في علم الإجرام المعلوماتي بشركة بوكانان انترناشيونال الاسكتلنديه.
(3) -انظر صحيفة بابل البغدادية 17/ 5/ 2000 و31/1/ 2000.(1/132)
لعل التطرق إلى الفساد السياسي عبر ثورة المعلومات والاتصالات موضوع قد يجعل علامة التعجب ترافق نظر المتلقي للوهلة الأولى، إلا أن عالم اليوم قد استخدم التقنية في كل المجالات فلماذا لا تستخدم في الصعيد السياسي. لقد تم ذلك فعلاً عند الإعلان عن استخدام شبكة (الإنترنت) في التصويت الانتخابي حيث أشار مدير الأبحاث في كلية العلوم السياسية /بجامعة أريزونا قبل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية نهاية عام 2000 إلى أن الناخبين الأميركيين سيكون بوسعهم التصويت عبر شبكة (الإنترنت) للمرة الأولى في الانتخابات الأميركية بولاية اريزونا وهذه الفكرة تعد مبتكرة من قبل الحزب الديمقراطي.
ولا يتوجب على الناخب إلا أن يدون اسمه في لوائح حزبه وأن يدخل رقماً للتعريف به يحصل عليه مسبقاً من منظمي الإنترنت بواسطة البريد الإلكتروني بالإضافة إلى مجموعة بيانات شخصية. وقد أكد مدير الأبحاث أن النظام آمن ولا مجال للتزوير فيه إلا أن ذلك لم يقنع الكثير من أخصائيي العلوم السياسية حيث أعلن أحدهم في صحيفة (الواشنطن بوست) أن الديمقراطية لا تتعزز بتشجيع ناخبين جالسين في بيوتهم وصفهم بالكسالى للمشاركة في الانتخابات (1). وطبقاً لما أشارت له الدراسة في هذا المبحث من ممارسات للاختراق الإليكتروني وحديث مستشار الأمن القومي الأميركي السابق (ليك) عن تلك الخروقات تظهر إمكانية اختراق النظام الانتخابي وكذلك احتمال عدم تصويت الناخب على بطاقته الانتخابية مما يسبب إرباكاً لصحة الانتخابات (2).
__________
(1) -لمزيد من التفصيل أنظر في ذلك: -باتريك جلين وأخرون /تعولم الفساد/ م س ذ/ ص ص 28 –29.
(2) -صحيفة بابل البغدادية /21/8/ 2000.(1/133)
وفي تطورات أخرى للخدمات الانتخابية المقدمة على شبكة (الإنترنت) طرح بعض الناخبين أصواتهم للبيع بالمزاد على الشبكة برغم المنع القانوني المشدد لبيع وشراء الأصوات ومع عدم تسجيل أي عملية بيع أو شراء إلا أن الحركة بحد ذاتها تشير إلى مدى إمكانية بيع الأصوات لمن يدفع أكثر وإمكانية تزييف النتائج أيضاً (1).
ولقد بين في معرض ذلك رئيس الوفد الياباني المشارك في مؤتمر مكافحة الجريمة في باريس بأن الاختراق عبر الشبكة يتجاوز حدود أمن المواقع مما يشكل مخاوف لا حدود لها من تطور ذلك الاختراق وأثره على أنظمة الدول واستقرار المجتمعات (2).
من هنا يتضح كيف أن لشبكة المعلومات آثاراً على تزوير الانتخابات ونتائجها مما يؤدي إلى خلل في النظم الانتخابية إذا ما أشيع استخدام ذلك.
ختاماً لهذا الفصل نود القول بأن ثورة المعلومات والاتصالات قد شكلت طفرات في الحياة الإنسانية ويسرت السبل للاتصالات بين الدول ونحن في بحثنا هذا لا نريد أن نقف موقف الضد منها أو النقد لها بل على العكس إنها تشكل مرحلة من مراحل الارتقاء الإنساني. ولكن حاولنا تسليط الضوء على الاستغلال غير السليم لهذه الثورة الهائلة مما يؤدي إلى إضرار بالمجتمعات والدول لا يمكن تجاهلها كما بيننا فيما سلف.
((
الفصل الثاني
الفساد والخوصصة
يرى منظرو الرأسمالية الجدد ومسؤولو الصناديق الدولية أن الخوصصة هي واحدة من عدة سبل تحث البلدان على اتباعها لتقليص حجم الفساد الناجم فيها وذلك طبقاً لوصفات المؤسسات الرأسمالية الدولية (كالبنك الدولي مثلاً)، إلا أننا في مبحثنا هذا سنخالف ما أوردته الوصفات المذكورة لتوضيح كيف أن الخوصصة تساعد في أحيان كثيرة الفساد أو تخلق البيئة المناسبة لنمو أو استشراء الفساد.
__________
(1) -صحيفة بابل البغدادية /17/5/ 2000.
(2) -صحيفة بابل البغدادية /18/5/ 2000.(1/134)
ففي عالم اليوم نجد أن الوصفات التي أشرنا إليها خصوصاً الوصفة المعروفة للبنك الدولي لهيكلة أو تثبيت الاقتصادات والسيطرة على التضخم واستئصال الفساد تؤكد على السير باتجاه (الخوصصة) وتقليص القطاع العام. وهي سياسة اقتصادية تنبه العالم لانتهاجها (برغم وجودها المسبق) منذ انتهاج المملكة المتحدة لها عام 1983 لتشمل نطاقاً واسعاً من القطاعات الاقتصادية العامة فيها، إلا أنه مع مرور الزمن أصبحت تلك السياسة الاقتصادية أسلوباً تستخدمه الكثير من دول العالم على أمل الإصلاح الاقتصادي مسترشدة بنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للتغلب على مشكلات ديونها وتشوه اقتصاداتها (1). وإخفاقاتها في ممارسة الوظيفة (الاقتصادية –الاجتماعية) من خلال الوظيفة التدخلية (2)، التي سرعان ما تحولت بعد سياسات التأميم وتملك الأصول في فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم إلى مزرعة لطبقة أو شبه طبقة متحلقة حول تشكيلات السلطة وأجهزة العنف. مما أدت أدوات التأثير التي اعتمدتها الدول في قطاعها العام (من تخطيط وتوجيه وإشراف إداري) إلى سوء تخصيص الموارد بما يعنيه في اقتصاد العقلانية والرشد وارتفاع مستوى الفاقد في الصناعات والهدر فكان ذلك علامة مركبة على إخفاق الدولة في ممارسة وظيفتها الاقتصادية –الاجتماعية (3).
__________
(1) -اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) تقييم برامج الخصخصة في منطقة الاسكوا /نيويورك/ منشورات الأمم المتحدة 1999 /ص 4.
(2) - في إشارة لقطاع العام.
(3) - المستشار. آد محمد عبد الشفيع عيسى /الأبعاد الاجتماعية للتكيف الهيكيلي والخوصصة في مصر /في: مصطفى محمد العبد الله وآخرون /كتاب الإصلاحات الاقتصادية وسياسات الخوصصة في البلدان العربية /بيروت/ مركز دراسات الوحدة العربية /شباط/ 1999/ ص 281.(1/135)
كذلك حالات الفساد (في عالم الجنوب) التي شهدها القطاع العام أثقلت ذلك القطاع بديون إلى البنوك وأدى إلى انهيار الكثير من شركاته كدليل على أفعال تلك الطبقة أو شبه الطبقة المتحلقة حول تشكيلات السلطة.
وأصبح القطاع العام في عالم اليوم منبوذاً بعد أن كان يؤدي وظيفة تحقق (العدالة الاجتماعية) (1) التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الفلسفة الاشتراكية نتيجة لسوء التصرف الذي قامت به النخب المسؤولة عن هذا القطاع.
__________
(1) -لقد كان القطاع العام المصري يوفر الدعم الحكومي لسلع أساسية لحياة الأسرة المصرية (على سبيل المثال) حيث ينكر أي عادل أن الدعم كان يذهب لمستحقين لولاه لكان أولئك قد هلكوا كما أن القطاع العام المصري هو الذي أوجد فلسفة (السعر الاجتماعي) وهو القطاع ذاته الذي قدم للعموم سلعاً "حددت أسعارها بصرف النظر عن تكاليفها فأصبحت عند ذلك في متناول الأغلبية، وهو القطاع نفسه الذي كان في صالح أصحاب الشهادات والمثقفين والخريجين حيث كان يوفر لجيش من (البطالة المقنعة) ما يكفيهم في آخر الشهر من رواتب وبذلك وفر الاحتضان لهم.
... كل ذلك أن أصبح في عالم اليوم أمراً يعاب عليه القطاع العام في ظل سياسة (الخوصصة) التي تنادي بتسريح العمالة الزائدة ورفع الدعم عن السلع وبذلك تنتهك العدالة الاجتماعية. (انظر في ذلك) /سعد الدين وهبة/ من الانفتاح إلى الخصخصة النهب الثالث لمصر /القاهرة/ دار الخيال/ 1997/ ص ص 10 –11.(1/136)
فكما يذكر الكاتب اليوغسلافي (مليوفان دوجلاس) في كتابيه (الطبقة الجديدة) و(محادثات مع ستالين) أن النخب من ثوار الأمس في يوغسلافيا تحولت إلى طبقة مخملية عبر تنمية الثروة الخاصة من خلال القطاع العام جراء آلية لتوحيد مصالح الدولة الاقتصادية والاجتماعية مع المصالح الشخصية للنخبة المسيطرة في كل جمهورية داخل بوغسلافيا، وبهذا تحولت هذه النخب إلى فئة بيروقراطية حالمة لاهم لها سوى السيطرة على تلك الجمهوريات لأطول مدة ممكنة عن طريق المزايدة اليسارية لفترة، ثم المزايدة القومية بعد أن أصبحت المزايدة اليسارية ممجوجة أو غير مقنعة بحكم فشل كل الطروحات الماركسية التقليدية ولذلك بدأ الاستمتاع ببهرج الحياة وجمع كل ما يمكن من مال وثروات (نهب القطاع العام) بشتى الطرق وإيداعه في الدول الغربية مستفيدين من التعتيم الكامل على نشاطات الدولة سلبية الطابع وانعدام الشفافية المطلق للدولة التوتاليتارية التي أقامتها النخب الغنية في إطار الحرب الباردة وانعدام المحاسبة المؤسساتية. (1) لقد أدت هذه الأعمال إلى التخلي عن الوظيفة الاجتماعية للقطاع العام التي كانت سنداً لشعوب بلدانٍ كثيرة وأصبحت الوصفة تسريح العمالة الفائضة مما يفقد العدالة الاجتماعية مفهومها لدى الجمهور ويسير بالبلدان نحو وصفة (الخوصصة) في العقود التاريخية التي تلت.
__________
(1) -د. محمد رياض الأبرش ود. نبيل مرزوق /الخصخضة آفاقها وأبعادها /دمشق/ دار الفكر/ الطبعة الأولى/ 1999/ ص ص 221 –222.(1/137)
إن سيادة فلسفة اقتصاد السوق وخوصصة القطاع العام في بلدان الجنوب يجب أن تسود معها تشريعات تضمن (العدالة الاجتماعية) حيث عندما يخوصص القطاع العام وتنعدم تشريعات ضامنة للعدالة الاجتماعية، تصبح تلك العدالة مسألة اختيارية، وهو ما يخشاه كل حريص على المجتمع لأن العطاء لا ينبع من مصدر قوى داخل كل إنسان فهنالك قلة تعطي عن اقتناع ورغبة، وكثيرة سوف تمسك وهنالك قلة تقدم حق الدولة من الضرائب وكثرة تتفنن في أسلوب إفساد الهيئات الضريبية والتهرب من الضرائب (1). وهنا سوف تحدث إشكالية العدالة الاجتماعية حيث تصل بالمجتمع إلى طريق مسدود عند فصل الوظيفة الاجتماعية عن الوظيفة الاقتصادية. لذلك يرى الاقتصادي السابق في البنك الدولي ورئيس المكتب السوري للتنمية والاستثمار ( SCB) حالياً في دراسة عن حالة القطاع العام (الأنموذج السوري) أن القطاع العام يؤدي وظيفة اقتصادية واجتماعية، وأن هيكلة هذا القطاع تكشف حقيقة مرة، لذلك ترى أن النهوض بهذا القطاع ومحاولة المواءمة بين القطاع العام والقطاع الخاص هو الذي يحقق العدالة الاجتماعية حيث يطرح حلولاً للمحافظة على الوظيفة الاجتماعية للقطاع العام وإلى جنبها يدعم عمل القطاع الخاص دون الاستعانة بفلسفة (الخوصصة) (2) التي تؤدي إلى تسريح آلاف العمال والضغط على الإنفاق وبرامج الدعم الحكومي. ومن هذه الحلول ما يتلخص بالآتي: -
1-تأهيل وتدريب العمالة الفائضة وفق برامج تؤهلها للانتقال إلى وظائف أخرى.
__________
(1) -سعد الدين وهبة /من الانفتاح إلى الخصخصة /م س ذ/ ص ص 10 –11.
(2) -إن للاقتصادي المذكور وهو الأستاذ الدكتور (نبيل سكر) رؤية في الخوصصة –فهو يرى فيها أنها
لا تؤدي أبداً إلى محاربة الفساد بل إلى زيادته وتركيزه وذلك لأنها ستركز الثروة بيد قلة قد
لا ترى إلا مصلحتها الذاتية فوق كل المصالح. (من لقاء للباحث مع د. نبيل سكر في
دمشق 25 /1/ 2002).(1/138)
2-برامج التعويض المالي للفئات المتضررة.
3-برامج منح المعونات الفنية والمالية للعمال الراغبين في الدخول للعمل الحر بدل الوظيفة.
4-تقوية القطاع الخاص لاستيعاب العمالة الفائضة.
وبذلك تتم المواءمة بين القطاعين العام والخاص دون المساس بفلسفة العدالة الاجتماعية (1).
بعد ما تقدم كله وما عرضنا له نحو آلية عمل القطاع العام وكيفية تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا يمكن لها أن تزدهر بنمو الفساد، لا بد لنا من العودة لنخوض في تفسير سياسة الخوصصة وكيف تساهم تلك السياسة في نمو الفساد في بعض الأحيان بعد أن قدمنا للقطاع العام الذي تعد عملية الخوصصة آلية لا تتم إلا بوجوده.
ولكي ندرس الحالة من جميع جوانبها ونلم بها فلا بد أولاً أن نعي مفهوم الخوصصة:
التي يعرفها الأستاذ يوسف صائغ على أنها: (النزوع العالمي المعاصر إلى التحول عن التركيز على القطاع العام صوب القطاع الخاص كجزء من التصحيح الهيكلي كظاهرة قوية ضاغطة) وقد تعدى هذا التحول نطاق الفكر واختيار الأنساق الاقتصادية –الاجتماعية ليشكل ضغطاً سياسياً مكشوفاً تمارسه الدول الغربية الصناعية الكبرى في تعاملها مع البلدان ومع الدول الاشتراكية العاملة على إعادة هيكلة اقتصادها ومجتمعها، كما يمارسه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. (2)
في حين يعرفها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد UNCTAD) على أنها:
(
__________
(1) -د. نبيل سكر الإصلاح الاقتصادي في الدول العربية (حالة سورية) مجلة دراسات استراتيجية /دمشق/ العدد /4/ ديسمبر 2000/ ص 172.
(2) - د. عبد العزيز صالح بن حبتور /إدارة عمليات الخصخصة وأثرها في اقتصادات الوطن العربي (دراسة مقارنة) عمان /دار صفاء للنشر والتوزيع /1997/ ص 6.(1/139)
جزء من عمليات الإصلاحات الهيكلية للقطاع العام في البنيان الاقتصادي وتتضمن إعادة تحديد دور الدولة والتخلي عن الأنشطة التي يمكن للقطاع الخاص القيام بها، مستهدفة بوجه عام رفع الكفاءة الاقتصادية) (1)
(والخوصصة) عند مناصريها برنامج للإصلاح الاقتصادي والتحول إلى اقتصاد السوق، وتتم على المراحل الآتية:
الأول: (نظم الصدمة Shock Therapy Approach): -أي الانتقال بالقطاع العام إلى اقتصاد السوق بخوصصة الأول بشكل تام وبوقت واحد مثل ما حدث في كل من بولونيا، ألبانيا، التشيك، سلوفاكيا، روسيا.
الثاني: (نظام التدرج Gradualist Approach): -أي الانتقال إلى الخوصصة على شكل دفعات مثل ما حدث في بلغاريا، سلوفينيا، مصر والمغرب. (2)
أما أساليب التخصيص فتكون على النحو الآتي: -
1-أسلوب طرح أسهم في اكتتاب عام (جزئي أو كلي).
( Public Offering Of Shares)
2-أسلوب بيع أسهم الشركة لمجموعة خاصة من المستثمرين
( Private Sale Of Shares)
... أي أسلوب البيع إلى مشترٍ واحد معروف مقدماً أو مجموعة من المستثمرين المعروفين مقدماً أيضاً.
3-أسلوب بيع أصول الشركة بالمزاد العلني
( Sale Of Company Assets by Competitive Bidding)
4-أسلوب ضخ استثمارات خاصة جديدة في الشركة
( New private Investment in slated owned companies)
... حيث لا تتصرف الحكومة في ملكيتها للشركة بل تزيد الملكية في ذات الشركة مما يؤدي إلى التخفيف ( Dilution) من مركز ملكيتها وتتولد تركيبة ملكية مشتركة بينها وبين القطاع الخاص وتسمى هذه الحالة شركة مشتركة ( joint Venture).
5-أسلوب شراء الإدارة (و /أو) العاملين للشركة
( Management / Employee Buy out)
أي شراء أعضاء إدارة الشركة والعاملين فيها للأصول..
6-أسلوب عقود التأجير والإدارة
( Leasess and Management Contracts)
__________
(1) -اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا /اسكوا/ م س ذ/ ص 5.
(2) -المصدر نفسه /ص 7.(1/140)
وهي ليست عملية بيع للأصول وإنما خوصصة الإدارة والعمليات التشغيلية في الشركة بعقد إيجار لرفع كفاءة العمل واستقدام الخبرة. (1)
يذكر أن هذه السياسة وبرغم تعدد أساليبها وكثرة التفسيرات التي تبرر جدواها في إصلاح الاقتصادات والتخلص من سلبيات كثيرة لمشاريع القطاع العام وخصوصاً التخلص من ظاهرة الفساد، إلا أنه من الملاحظ هنالك نزعة يطرحها الرأي العام العالمي ضد سياسة (الخوصصة) أجملها أحد تقارير التنمية بالآتي: -
1-إن (الخوصصة) هي سبيل لتبادل المنافع بين الساسة ورجال الأعمال الأقوياء للإثراء على حساب الجماهير
2-إن (الخوصصة) تؤدي إلى تسليم أصول وطنية قيمة إلى (قطط سمان) أجنبية أو محلية.
3-إن (الخوصصة) تؤدي إلى زيادة معدلات البطالة من خلال إلقاء عمال القطاع العام في عرض الطريق.
4-إن القطاع الخاص المحلي يتسم بالضعف البالغ، وبدون وجود منشآت حكومية سيسحق الاقتصاد ويتوقف تماماً.
5-إن كل ما تفعله (الخوصصة) هو إحلال احتكار خاص محل احتكار عام.
6-إنه لا داع للزج بالنفس في هذه المكابدة الضارة وتكفي إدارة المنشآت الحكومية بطريقة أفضل (2).
من خلال ما سلف وما وضحته الآراء والدراسات والتقارير الدولية إزاء سياسة (الخوصصة) يمكن لنا أن نوضح اختصار ذلك بمعادلة صغيرة هي: -
(الخوصصة = الفساد (في أحيان كثيرة)
__________
(1) -د. محمود صبح /الخوصصة لمواجهة متطلبات البقاء وتحديات النمو /القاهرة/ كلية التجارة/ جامعة عين شمس /1995/ ص ص 25 –30.
(2) -البنك الدولي /تقرير عن التنمية في العالم 1997 /(الدولة في عالم متغير) القاهرة /مؤسسة الأهرام/ حزيران 1997.(1/141)
على حد تعبير الآراء آنفة الذكر. ولإثراء الموضوع وبيان حالات ساعدت على استشراء الفساد كناتج لسياسة (الخوصصة) نشير إلى الحالة التي شهدتها روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتحولها من حالة الاقتصاد الاشتراكي إلى حالة اقتصاد السوق باستخدام أسلوب الصدمة في الخصوصة مما دعا إلى تخصيص الكثير من المشاريع وحدا بالدولة الروسية للسير نحو نمط الدولة الإدماجية ( Corparatist) (1) التي ينتشر فيها الفساد، وكذلك نلحظ سيطرة قلة فاسدة كانت معروفة في ظل الاتحاد السوفياتي المنهار وبعد التحول غيرت هذه القلة من شكلها لتصبح نمطاً رأسمالياً يدعى السادة اللصوص
(Robber Barons) ويشكل (أناتولي تشوباس) أحد أركان هذا النمط ومن الذين أشرفوا على عملية سياسية (الخوصصة) في روسيا.
__________
(1) -الدول الادماجية ( Corparratist) وهي التي تتسم بدرجات عالية من الجريمة وتسيطر فيا قلة هدفها الأسمى زيادة ثرواتها في إطار تجاهل القانون والاستهتار به وإضعافه.(1/142)
لقد قامت مجموعة هذا الشخص ببيع (خمسمائة مصنع ومجمع صناعي) لا يقل ثمنها الأصلي عن (مئتي مليار دولار) بمبلغ زهيد هو (سبعة مليارات دولار أميركي) أي ما يوازي (3.5%) من الحد الأدنى للثمن الحقيقي لتلك المصانع مما يكشف الستار عن آلية جلية للفساد والاحتيال جراء عملية سياسة (الخوصصة) (1). (2)
__________
(1) - د. شادية فتحي /حالة روسيا: أنماط الفساد وتكلفة الفساد /مجلة الأهرام الاقتصادي/ العدد 1600 /9/ 9/ 1999/ ص 3.
(2) - لقد نهب (تشوباس) مدخرات المواطنين الروس في عملية فساد كبرى ابتدعها عن طريق سندات من ابتكاره ادعى أن قيمة (السند –الشيك) عشرة آلاف روبل روسي على اعتبار أنه حق كل روسي في ثروة بلاده، ومع انخفاض معدلات أسعار العملة الروسية عام 1997 أصبح كل (ستة آلاف روبل) يوازي دولاراً أميركياً واحداً. فأصبح حق المواطن الروسي في بلاده لا يزيد عن دولارين أميركيين بينما تعد بلاده صاحبة أعلى مصادر إنسانية وطبيعية وللمقارنة في حالة مماثلة عن (لبنان) انظر كتاب الأيادي السوداء /للنائب نجاح واكيم /بيروت/ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر /1999.(1/143)
تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية التي تعد من أكبر مناصري ومروجي فكرة (الخوصصة) شهدت حالات فساد منها على سبيل المثال لا الحصر ما حدث في عملية (خوصصة) تحصيل تذاكر مخالفات وقوف السيارات في بلدية نيويورك، حيث علق مكتب مخالفات وقوف السيارات الآمال على مرونة وكفاية المنظمات الخاصة الساعية للربح للتعاقد معها للكشف عن المخالفين ومطاردتهم وتحصيل الأموال، التي كان العجز فيها دافعاً لمدينة نيويورك لزيادة الممارسات الخاصة في التحصيل، وبعد سنوات من (خوصصة) هذا العمل كان مقاولو المدينة يجلبون للبلدية المذكورة (ستة وأربعين مليون دولار سنوياً) مع احتفاظهم بثلث الحصيلة أجراً لهم وتسليم الباقي للبلدية. إلا أن موظفي المدينة بدؤوا بتقبل الرشاوى مقابل منح عقود سخية لتحصيل المخالفات من دون تقديم عطاءات منافسة كما استأجرت شركات التحصيل موظفين سابقين للضغط على مكتب مخالفات وقوف السيارات كانوا يعملون فيه أصلاً، وكانت تلك الشركات تقدم الأموال للموظفين الذين يستطيعون ممارسة التأثير للحصول على العقود وتطورت القضية إلى أن استدعى الأمر إجراء تحقيق فيها من قبل المدعي العام الأميركي كانت نتيجته كشف النقاب عن ظهور فضائح الرشاوي من قبل الشركات الخاصة لمدير مكتب مخالفة السيارات ونائبه التي أدت اعترافات الأخير للسلطات إلى انتحار المدير. (1)
__________
(1) - JOHN D. DONAHUE /PRIVATIZATION DECISION DECISION (PUBLIC ENDS /PRIVATE MEANS /N. Y. USA/ 1989/ P. 179 AND FOLLOWES.(1/144)
بعد هذا يتضح لنا، إذا ما انتقلنا إلى دول شرق آسيا، أثر (خوصصة البنوك) في استشراء الفساد ومعاناة الكثير من أبناء تلك المناطق، حيث أثبتت التجربة في تلك الدول أن الإدارة غير الحكيمة للبنوك التي (خوصصت)، وخصوصاً من خلال التداخل بعيد المدى بين رجال البنوك ورجال الحكم بكل تأكيد صورة من صور الفساد السياسي والمالي، وكان ذلك واحداً من أسباب الأزمة المالية الاقتصادية في كل من كوريا الجنوبية وتايلند وأندونيسيا، ولذا فإنه بمجرد ظهور العلامات الأولى للركود الاقتصادي وعجز بعض العملاء عن سداد قروضهم، انهار النظام المصرفي في هذه البلدان ودخلت مرحلة الانكماش بما صحبها من بطالة الملايين وتدهور مستويات المعيشة وهبوط تلك المستويات لأعداد كبيرة من المواطنين إلى مادون خط الفقر كما هو واضح للعيان في الحالة الأندونيسية (1).
جدير بالذكر أن آلية سياسية (الخوصصة) قد تعددت سبلها حيث شملت منافذ حكومية كثيرة خصوصاً قطاعات (المنافع العامة) في كثير من البلدان ومنها (خوصصة قطاع مياه الشرب والصرف الصحي)، و(خوصصة الطرق) و(الكهرباء) و(المطارات)، و(الاتصالات)، بل شملت (الخوصصة) حتى الضمان الاجتماعي وصرف المعاشات) (2)، مما استدعى تحذير الكثير من الكتاب والمفكرين من هذه الوسائل.
__________
(1) -د. مصطفى كامل السيد /خصخصة البنوك والتنمية في مصر /القاهرة/ كتاب الأهرام الاقتصادي /العدد/ 153/ أول نوفمبر 2000/ ص 6.
(2) -اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا /اسكوا/ م س ذ / ص 2.(1/145)
لذا نجد أن واحداً من هؤلاء الكتاب وهو الأستاذ (عصام رفعت) رئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي (القاهرية) يحذر من ذلك في أحد الأعمدة التي يكتبها أسبوعياً في المجلة المشار إليها من أن سياسة (خوصصة) قطاع الاتصالات (في مصر كأنموذج) خصوصاً خدمات الهاتف المحمول (الموبايل) قد شابه بعض القصور وذلك بسبب عدم وجود الرقابة من الدولة على المشروع وترك ذلك القطاع من دون (مساءلة) ومن دون حماية للمستهلك. ثم ينتقل (الأستاذ رفعت) بعد ذلك ليركز على نقطة جوهرية أخرى في قطاع الخدمات التي تم تخصيصها وهي (خوصصة قطاع الكهرباء) ذلك القطاع الحيوي الذي يمس المستهلك مباشرة.
حيث يحذر أن (الخوصصة) في هذا المجال تعطي للقطاع الخاص الحق في تحقيق أرباح من الممكن أن تتحول إلى عملية استغلال واحتكار على حساب المواطن المستهلك الذي له الحق في الحصول على الخدمة المذكورة بشكل منتظم ودائم وبأسعار تمكنه من تدبير ضروراته اليومية.
ثم بعد ذلك يشير إلى أن وضع رقاب المستهلكين تحت رحمة القطاع الخاص في قطاع الخدمات من دون (شفافية) وضوابط وشروط واتباع أساليب صحيحة في تلك الآلية يهيئ البيئة لفساد واسع في تلك الخدمات الضرورية. (1)
__________
(1) -عصام رفعت /حماية المستهلك قبل خصخصة الكهرباء /مجلة الأهرام الاقتصادي/ العدد 1600 /9/ 9/ 1999.(1/146)
وضمن الإطار نفسه يلاحظ أيضاً أن جزءاً كبيراً من القطاع العام في العديد من البلدان تمت (خوصصته) بشكل واسع وسريع وفي أحيان كثيرة بعيداً عن علم المهتمين بشراء هذا القطاع من الصناعيين والتجار وأصحاب الأعمال، وجرى عرض مصانع عامة كبيرة جداً (أنشأت بملايين العملات الصعبة) بالمزاد والبيع دون إعلان سابق عنها فكانت من حصة أولئك البعيدين جداً عن مجالات عمل تلك المؤسسات (المخوصصة) الصناعية والإنتاجية. وفي الغالب كان أعضاء الطبقة المخملية أو أولئك الصفوة المالكة لأرصدة مفتوحة هم من اشتروا تلك المؤسسات التي آلت ملكيتها إليهم فانتقلت من القطاع العام إلى الخاص البعيد عن فهم مساقات العمل الصناعي أو التجاري أو إدارة المؤسسات الإنتاجية، فضلاً عن كون البيع قد تم بالعملات المحلية وبأرخص الأسعار ولفئات لم تجد لها منافساً يجاريها (1). وبآلية بيع فاسدة خسرت تلك البلدان مشاريعها العامة واستبدلت موارد الدولة بموارد لا قيمة لها من العملات المحلية مما سبب تبديداً للثروات وضياعاً لموارد المجتمعات (2).
وهكذا نجد كيف أصبحت (الخوصصة) سياسة ينمو معها الفساد رغم أنها السياسة التي نادت بها الكثير من المؤسسات لمكافحة فساد القطاع العام وتثبيت الاقتصادات.
((
الفصل الثالث
ازدياد الفساد واستشراؤه
خلال منطق تحرير التجارة
وحرية انتقال الأشخاص والأموال والسلع عبر الحدود
__________
(1) -حول هذا الأسلوب من الخوصصة راجع بداية البحث (حالة الأنموذج الروسي).
(2) -عبد العزيز بن صالح بن حبتور / م س ذ/ ص ص 58 –59.(1/147)
إن معالجة موضوع الفساد من خلال تحرير التجارة يشكل نقطة ذات تفرعات عديدة ولكون الموضوع يرتبط بالاقتصاد والاقتصاديين أكثر من ارتباطه بالسياسة (إلا أنه في عالم اليوم وضمن طروحات (العولمة) يشغل اهتمام الكثيرين من المختصين في العلوم الاجتماعية)، لذا سنحاول التركيز على بعض النقاط التي نستقرئ من خلالها بروز آلية الفساد ضمن الموضوع ولكن قبلاً علينا توضيح معنى تحرير التجارة.
إنها تعني: (إنهاء القيود التي تحد من حركة التجارة بين الدول وتوسيع الإطار الجغرافي للأسواق، لتنتقل تلك الأسواق في حركتها من الإطار المحلي أو الإطار الإقليمي ثم الإطار العالمي، متخطية بذلك الحدود والموانع والقيود والأنظمة الحمائية الموضوعة، التي تقف في وجه تدفقات التجارة وحركة رؤوس الأموال مستفيدة من التطور التقاني الكبير الذي يسهل الحركة ويستهدف في النهاية تحويل العالم إلى سوق واحدة دولية).
ويذكر أن تحرير التجارة برز في خطين متوازيين ولكنهما متكاملان هما:-
الخط الأول: -هو التحرير الجماعي للتجارة الدولية في إطار الاتفاقيات العامة ومن أبرزها اتفاق (الجات GATT).
الخط الثاني: -تحرير التجارة الدولية في إطار ثنائي وإقليمي ويتمثل ذلك في اتفاقيات التكامل الاقتصادي بين الدول المتطورة والدول النامية (1) أو بين الدول النامية ذاتها ولعل ما يفيدنا في موضوع بحثنا هو تناول الخط الأول وخصوصاً اتفاق
(
__________
(1) -(الجات) شهدت سبع دورات متعاقبة للمفاوضات التجارية من أهمها (دورة كنيدي) في أوائل ستينيات القرن المنصرم التي خفضت الرسوم الكمركية بما يعادل (50%) مما كانت عليه عام 1960 ثم بعدها (دورة طوكيو) خلال أواخر السبعينيات من القرن ذاته التي خفضت الرسوم بمثل (30%) مما كانت عليه عام 1974، وكانت نتيجة الدورات المتعاقبة أن أصبح متوسط الرسوم الكمركية المطبقة حالياً في الدول المتقدمة أقل من (10%) قياساً على ما يزيد عن (40%) في بداية القرن.(1/148)
GATT) حيث يقوم ( الجات على مبادئ معلنة معروفة هي تفضيل التعددية على الثنائية في التبادل، وإلغاء الإجراءات التي تعطي أفضلية للمنتجين الوطنيين على الأجانب، وبالموازاة منع ممارسات إغراق الأسواق (DUMPING) ، وتخفيف الرسوم الجمركية وإلغاء وسائل الحماية غير المباشرة من خلال تحديد الكميات المسموح باستيرادها وكذلك فرض بعض الشروط (الإدارية) أو (الصحية) غير الصادقة في تبريرها. (1).
لقد أنشئت (الجات) عام 1947 وبعدة دورات أهمها دورة أو (جولة) الأورغواي ما بين الأعوام (1986 –1994) التي تضمنت تحرير الاستثمارات الأجنبية من القيود التجارية وكفالة المزيد من الحماية لحقوق الملكية الفكرية. إضافة إلى إنشاء منظمة التجارة العالمية ( WTO) لتحل محل (الجات)، التي أعلنت في المغرب عام 1994 وبدأت ممارسة نشاطها عام 1995 وتضمنت العديد من الاتفاقيات وهي ما يدعى بأخوات (الجات).
إن جولة الأورغواي كما بيّنا في الأسطر القليلة السالفة تضمنت تحرير الاستثمارات الأجنبية من القيود التجارية (أي بروز دور الشركات متعددة الجنسية بشكل أكبر). وكفالة المزيد من الحماية لحقوق الملكية الفكرية ومن هذين المنطلقين سنحاول تسليط الضوء على آلية الفساد التي صاحبت تحرير التجارة.
__________
(1) -د. سمير أمين /في مواجهة أزمة عصرنا /سينا للنشر/ القاهرة/ ط1/ 1997/ ص 62.(1/149)
إن تسهيل سيطرة الاستثمارات الخارجية على القطاعات الاقتصادية والخدمية الأساسية في الكثير من الدول وخصوصاً عالم الجنوب سيؤدي إلى حرمان الكثير من تلك الدول والشعوب من ملكيتها لثرواتها وتحويل الملكية إلى رأس المال الخارجي، بل إن التبادل التجاري مع الدول المصدرة للمواد الأولية لهذه الشركات، (فالأنموذج الآسيوي) يؤشر الانخفاض المستمر للمواد الأولية بالنسبة إلى البضائع المصنعة ويلاحظ في عام 1993 انخفاض مبادلة تلك المواد بنسبة (50%) للمواد المصنعة، ذلك أن الشركات تقوم بتصنيع البضائع في غير مصلحة الدول المصدرة للمواد الأولية (1). ولذلك يذكر أحد رؤساء مجالس إدارة تلك الشركات في وصفه للدور الذي تؤديه بأنها ليست كما تدعي (متعددة الجنسية) بل هي عابرة للقومية أو ما بعد القومية أو معادية للقومية، ذلك أنها تنكر فكرة الأمم أو أية إقليمية أخرى تفيدها زمانياً أو مكانياً (2). ولذلك يكون الهم الأول والأخير هو تحقيق المنفعة على حساب الشعوب. ولهذا كله تستخدم آلية الإفساد لتمرير صفقات تلك الشركات، حيث تورد إحدى الباحثات أن الشركات العابرة للقومية التي تمارس نفوذها ضمن منطق تحرير التجارة وخصوصاً في بلدان الجنوب تقوم باستئجار وكلاء محليين لها يكونون بمثابة ممثلين عنها لدى الحكومات المحلية وهذا الوكيل يحصل على نسبة معينة من قيمة العقود التي تكسبها الشركة بواسطته، نتيجة لأساليب ذلك الوكيل الملتوية ومن أبرزها قيامه بإغراء الموظفين العمومين في تلك البلدان تقديم الرشاوى لهم التي غالباً ما تكون قيمة سيارة (وهي تعني الشيء الكثير في البلدان الفقيرة).
__________
(1) -د. ماجد محمد شدود /العولمة/ م س ذ/ ص 87.
(2) - Benjamin R. Barber. /jehad vs Mcworld /Ny/ Times Books/ 1995/ p. 27.(1/150)
مما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع كلف إنشاء المشاريع بحوالي (10%) تدفع نسبة لآلية الفساد التي يقوم بها ذلك الوكيل المحلي (1).
وفي الإطار نفسه يلاحظ أن جريدة الصباح الفرنسية بعددها الصادر في 17/ 3/ 1995 ذكرت أن الرشاوى التي قدمتها الشركات الفرنسية لمثل هذه الأمور في العام 1994 تقدر بحوالي (عشرة بليون فرنك فرنسي). (2)
جدير بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية وفي السنوات التي أعقبت فضيحة (ووتر غيت) أصدر فيها الكونغرس عام 1977 قانوناً (يدعى قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة) (3)، الذي يُظهر أن القانون الأميركي لا يسمح للشركات بدفع مبالغ رشاوى وإظهارها في موازنتها السنوية وعدها كجزء من حسابات الكلفة التي ينبغي حسمها عند احتساب الضرائب المفروضة على الأرباح المتحققة لتلك الشركات.
لذا نرى أن (مايكل كانتور) وزير التجارة الأميركي الأسبق في حديثه يوم 25/7/ 1996 في النادي الاقتصادي بـ (ديتروْيت) استعرض تقريراً بخسائر قطاع التجارة والمقاولات الأميركي وإضاعة الفوز بعقود خارجية بلغت قرابة (خمسة وأربعين مليار دولار أميركي) ما بين العامين 1994 –1995. (4)
__________
(1) -رافع /عولمة الفساد/ مجلة العربي /العدد 481/ ديسمبر 1998 ص 140.
(2) - E. MAIL; Vtanzi @ inf. Org.
(3) -يتضمن قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة بعد تعديله عام 1988 حكمين:
أ) تجريم تقديم مدفوعات معينة إلى المسؤولين الحكوميين في الخارج.
ب) إجراء مراجعة حسابية دقيقة لجميع المعاملات وإنشاء نظام للمراقبة الداخلية مع القيام بتدقيق دوري للحساب (لكشف الفساد إذا ما وجد).
(4) -د. مظهر محمد صالح /الفساد الإداري في ظل نظام العولمة بين التزييف الأكاديمي والتطبيقات الدولية الضالة /مجلة الحكمة/ العدد العاشر/ السنة الثانية/ 1999/ ص 77.(1/151)
ونتيجة لهذا القانون شكت أكثر الشركات الأميركية من تطبيقيه لأنه يفسح المجال للشركات الأوربية أن تقدم الرشا مما حدا بالحكومة الأميركية إلى التظاهر بالسعي ضاغطة على شركائها الأوربيين لإصدار تشريعات على هذه الشاكلة تحظر تقديم مثل هذه الرشا.
لكن من المعروف أن الولايات المتحدة الأميركية لها الحصة الكبرى في التجارة الدولية لآلات ومعدات الطاقة الكهربائية (21%) وكذلك التجارة الدولية في قطاع الطائرات وقطع غيارها (40%) مما يدل على أن الشركات الأميركية متورطة برغم تأكيداتها على تمسكها بقانون (الممارسات الأجنبية الفاسدة) في تقديم الرشاوى الخارجية في القطاعات المذكورة.
الأمر الذي جعل الدعوة للدول الرأسمالية الصناعية وخصوصاً دول
( O. E. C. D.) (1) بتجريم الرشاوى المقدمة في التجارة الدولية أمراً لا يلقى اهتماماً في الدول الأوربية المنافسة للولايات المتحدة الأميركية. (2)
وبالنظر لانتشار ظاهرة الرشاوى ضمن التجارة الدولية طالبت منظمات عدة درست الظاهرة ووقفت على حجمها بالحد من الظاهرة ومنح أعمال الشركات شفافية أكبر ولذلك تضمنت الورقة الثالثة لمنظمة الشفافية الدولية
( TI) المقدمة إلى (الاتحاد الأوربي) نهاية عقد التسعينيات مقترحاً لإنشاء قائمة سوداء تدرج فيها الشركات التي انتهكت قوانين حظر الرشوة، واتباع آلية للكشف عن ذلك الانتهاك من دون اللجوء إلى القضاء لحرمان تلك الشركات من الحصول على العطاءات مستقبلاً مما يشكل عائقاً دائماً أو مؤقتاً تمنع بموجبه هذه الشركات عن ممارسة أعمالها. (3)
__________
(1) -منظمة التعاون والتنمية.
(2) -آ. أحمد السيد النجار /الفساد ومكافحته في الدول العربية /م س ذ/ ص 163.
(3) - WWW. Transparency. Org.(1/152)
وبعدما عرضنا لأحد المنطلقات التي برزت في جولة الأورغواي وهو تحرير الاستثمارات الخارجية فإننا سوف نعرض أيضاً لمنطلق آخر هو حماية حقوق الملكية الفكرية ( Intellectual Property Rights) (1).
__________
(1) - إن العبارة تسبغ على الملكية المراد حمايتها مكانة قد تزيد في كثير من الأحيان عما تستحق فهي تشمل حقوق المؤلف ( Copy Rights) وبراءات الاختراع ( Patents) ومختلف أنواع العلامات التجارية ( Trade Marks).(1/153)
التي زادت الجولة المذكورة من درجة الحماية الممنوحة لها فضلاً عن ما أضافته اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية ( W. T. O) من ضوابط لتلك الحماية، مؤادها توسيع نطاقها، وزيادة مدة سريانها وإلزام الدول الموقعة على الاتفاقية تضمين تشريعاتها الوطنية القواعد الجديدة للحماية، وفرض عقوبات على الخارجين عليها (1) طبقاً لأحد اتفاقيات (أخوات الجات) الداخلة في إطار المنظمة أعلاه ( W. T. O) وتدعى اتفاقية ( TRIPS) (2) التي بشكلها حسب وصف (الدكتور سمير أمين) لا تسعى إلا تكريس المنافسة بل العكس تماماً أي إلى اعتماد امتيازات الاحتكار التكنولوجي على حساب احتياجات التنمية (3). حيث تنص على امتداد حقوق المؤلف إلى (خمسين سنة)، وحق استغلال العلامات التجارية إلى (سبع سنوات)، وأن تزداد مدة حماية براءات الاختراع من (عشرة) إلى (عشرين) سنة. ولتشمل ليس فقط طريقة التصنيع كما كانت بل أضيف المنتج نفسه فضلاً عن طريقة التصنيع التي تضمنتها الاتفاقات السابقة(4). إن ذلك كله يلقي بالأعباء الثقيلة على الدول النامية التي لا تحقق من النفع إلا النزر اليسير حيث من الواضح أن أغلبية براءات الاختراع وحقوق التأليف والعلامات التجارية.
__________
(1) -د. جلال أمين /العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأوراغوي 1798 –1998 /بيروت/ مركز دراسات الوحدة العربية /أيلول/ 1999 ص 180.
(2) -د. ماجد محمد شدود /م س ذ/ ص 120.
(3) -د. سمير أمين /في مواجهة أزمة عصرنا / م س ذ/ ص 67.
(4) -د. جلال أمين /م س ذ/ ص 181.(1/154)
منشؤها العالم المتقدم بحكم تقدمه نفسه وإن أكثر من (80%) من إجمالي براءات الاختراع المطبقة في العالم الثالث مملوك للأجانب الذين هم الأساس شركات متعددة الجنسية دولتها الأم في أغلب الأحيان الولايات المتحدة الأميركية أو دول أوربا الغربية، مما يلزم الدفع مقابل استخدام تلك الحقوق طبقاً للاتفاقية وينعكس هذا على ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي تستخدم هذه الاختراعات أو الأسماء التجارية.
وفي ذلك عبء ثقيل على عالم الجنوب (يجسده الأنموذج المصري) فقطاع حيوي هو قطاع الأدوية يمكن أن يعاني من آلية هذه الاتفاقية المرهقة لكاهل ذلك البلد النامي.
حيث جذبت مصر انتباه الشركات متعددة الجنسية (لإنتاج الأدوية) لكونها تعد أكبر سوق للأدوية في المنطقة العربية (مليار دولار حسب تقديرات عام 1977)، بسبب ما أحرزته هذه الصناعة من نمو اعتماداً على إنتاج بدائل لمنتجات أجنبية، وعند الافتراض بأن تطبيق اتفاقية ( TRIPS) على ذلك سوف تكون الحصيلة ارتفاع أسعار الأدوية في مصر إلى مستوى أسعارها في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً. مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأدوية في المتوسط إلى نحو (خمسة أمثال) مستوياتها الحالية. (1) من هنا يمكننا تقدير الأثر السيئ والمنفعة الفاسدة التي تحققها تلك الشركات نتيجة لتلك الاتفاقية. على حساب الدول النامية التي كانت تحصل على منافع من دون مقابل قبلاً.
__________
(1) - م. ن /ص 181.(1/155)
إن (د. سمير أمين) يحدد أن أعضاء (الجات) أو ما تبعها من اتفاقيات أخذوا استخدام مصطلح (القرصنة) في تناول مشكلة نقل التكنولوجيا ولقد دافعت (الجات) عن مواقف احتكارية لصالح صناعة الأدوية في مواجهة العالم الثالث الذي طالب بتخفيض شروط هذه التجارة من أجل تسهيل حصوله على أدوية رخيصة، كما أنه يضيف أن (الجات) تتجرأ برغم كل محاولات التصدي (للفساد) على طرح مشروع يمنع دول عالم الجنوب حق اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الغش في فواتير التصدير والاستيراد علماً بأن هذا الغش المشهور هو وسيلة للفساد وللهروب من الضرائب (1). لذلك نرى هذه الشركات تلجأ إلى تزوير وثائقها بهدف تخفيض الضرائب المفروضة عليها التي بالتالي تؤدي إلى تخفيض المبالغ المقدمة للدولة مما يضعف دور الدولة في أداء المهام والوظائف المختلفة المطلوب منها تحقيقها (2). ففي مثال (الأنموذج الألماني) نلحظ أن خبراء شؤون الضريبة في مصرف (كوفر بنك) الألماني وهو من أبرز المؤسسات الاقتصادية قد خفضوا من خلال تلاعبهم بالوثائق الأرباح التي يتعين على المصرف أن يدفعها بمقدار (700 مليون مارك ألماني) (3). كذلك ما قامت به شركة ( BMW) التي دفعت عام 1988 (خمسمائة وخمسة وأربعين مليون مارك) كضريبة لتدفع عام 1992 (أربعة وثلاثين مليون مارك ألماني) فقط بأسلوب لا يتفق مع روح القوانين الضريبية مستفيدة من تشابكات العولمة ومنطق تحرير التجارة. (4)
__________
(1) -د. سمير أمين /في مواجهة أزمة عصرنا/ م س ذ/ ص 67.
(2) -د.ماجد محمد شدود /العولمة/ م س ذ /ص 124.
(3) -انظر هانس بيتر وآخرون /فخ العولمة/ الكويت/ المجلس الوطني للثقافة/ 1998/ ص 348.
(4) -د. ماجد محمد /العولمة/ م س ذ /ص 124.(1/156)
مما استدعى هذا الأسلوب خفض تلك الشركة مدفوعاتها الضريبية بما يزيد عن (مليار مارك) ألماني في خلال أربع سنوات وللأسلوب ذاته اضطرت شركات ومشاريع يربو عددها على الستين مشروعاً من ضمنها شركة (كوكاكولا) إلى الدفع الإجباري لوزارة المالية اليابانية عام (1994) مبلغ يربو على (الملياري مارك ألماني) بسبب اكتشاف استخدامها التحايل الضريبي الفاسد للإضرار بالمصالح العامة وتحقيقها فائدتها المادية. (1)
إن ما تقدم يعطي الدليل واضحاً على عمق الفساد في ثنايا منطق تحرير التجارة الذي يزيد من معاناة كثيرين بدلاً من التخفيف عنهم اقتصادياً.
((
الفصل الرابع
الثغرات القانونية وضعف دور الرقابة
على كبار المسؤولين العموميين
والموظفين في الدول
في بداية الحديث عن الثغرات القانونية وضعف دور الرقابة على كبار المسؤولين العمومين والموظفين في الدول نجد أنفسنا أمام شقين: -
الشق الأول ... : هو الثغرات القانونية.
أما الشق الثاني ... : فهو ضعف دور الرقابة.
إلاّ أن الشقين بطبيعتهما متلازمان ومتداخلان، لكن ضرورات البحث العلمي تملي الفصل بينهما وتدع التداخل يفصح عن نفسه في خلال الموضوع كله.
لذلك نقول إنّ
لغموض التفسيرات وعدم وضوح النصوص في قانون ما بالذات وكذلك الاختلاف في النص القانوني ما بين دولة وأخرى قد يوجد فرصة سانحة لانتشار آليات الفساد في بعض الأحيان وهو ما يفسر ويفصح عن مقصدنا (بالثغرات القانونية) الذي سنوضحه بالآتي: -
نذكّر أنه في موضع سبق من هذا البحث قد عرضنا لجرائم غسيل الأموال التي تعد ظاهرة تسبب مشكلات مستعصية للكثير من دول العالم مما دعا الكثير من تلك الدول إلى قوننة تشريعات تحارب الظاهرة وتحاول استئصال شأفة ذلك الشكل من أشكال الفساد منها.
__________
(1) -المصدر نفسه /ص 124.(1/157)
حتى أن دولاً صنفت ضمن أكثر الدول سماحاً للأموال المغسولة رواجا بها (مثال لبنان) سنت أخيراً تشريعات لمكافحة غسيل الأموال مما يدل على أن عظم الظاهرة أدى نتيجة للضغط الدولي إلى سن مثل هذه القوانين (1).
إلا أن (الثغرة القانونية) تتجلى عندما نقارن ذلك بحالة (جزر سيشل) حيث تم تشريع قانون في السنوات الأخيرة لعقد التسعينيات من القرن المنصرم من قبل حكومة جزر سيشل يبدو بريء المظهر ويدعى (قانون التنمية الاقتصادية)، ويقدم هذا القانون في أحد بنوده للأجانب الذين يستثمرون أكثر من (عشرة ملايين دولار) حصانة من الملاحقة القضائية المترتبة على جميع المخالفات الجنائية، بل إن لغة هذا القانون تكفل عدم إمكانية تغييره إلا من خلال استفتاء وطني وتعديل دستوري.
إن هذا القانون (برغم ما أثير حوله من استنكار عالمي وضغوط دولية على حكومة سيشل لإلغائه (يشكل ثغرة قانونية تمثل دعوة علنية من خلال قانون مسنون في دولة (أي دعوة رسمية) لجميع أولئك المشتغلين بغسيل الأموال القذرة من مهربين وتجار مخدرات ومرتشين.. الخ (أن أتوا إلى سيشل بذلك المال القذر). (2) مما يهيئ للمال المتأتي من أعمال الفساد أن يزدهر في تلك الجزيرة مستغلاً ثغرات القانون في قانونها عن قوانين دول أخرى. الأمر الذي يفسر أن اختلاف النصوص القانونية ما بين الدول يشكل بيئة مهيئة لانتشار الفساد.
__________
(1) -إذاعة لندن B. B. C. باللغة العربية /الساعة ( 15، 10) مساءً بتوقيت بغداد الصيفي /الجمعة 13/ 4/ 2001.
(2) -باتريك جلين /تعولم الفساد/ في كيمبرلي ان آليوت /الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص 44.(1/158)
ليس هذا فقط بل قد يكون اختلاف التشريعات في دولة واحدة (خصوصاً الدول الفيدرالية) سبباً لاستشراء الفساد. فاختلاف تشريعات (الولايات) عن تشريعات الحكومة الفيدرالية يعطي لتلك الأحكام المتباينة فرصة تجعل البراطيل (الرشوة) مسألة يصعب تجنبها. لذلك تروي دراسة البنك الدولي عن المنشآت الخاصة في (الولايات المتحدة البرازيلية) أن أحد أصحاب المشاريع تلقى زيارة من مفتشين تابعين لحكومة الولاية وللحكومة الاتحادية في الوقت عينه وكان هدف الزيارة المشتركة هو التوثيق من ضبط الشركة وهي تنتهك واحداً من قوانين الحكومتين في الأقل (المقصود الحكومية الفيدرالية وحكومة الولاية) المتباينة بشأن تركيب أجهزة إطفاء الحرائق.
إن مثل هذه الممارسات تمكن سلطات إنقاذ القوانين، من رجال شرطة إلى وكلاء النائب العام إلى القضاة، أن يطلبوا مدفوعات للتغاضي عن الانتهاكات، أو لإنقاص الجزاءات المترتبة، مما يجعل آلية الفساد منتشرة في مثل هكذا ممارسات. (1).
يتضح مما تقدم أن الثغرات القانونية تكون واضحة في البلد الواحد ولا سيما البلد الفيدرالي حيث يلحظ التباين بين القانون الاتحادي وقانون الولاية مما يهيئ قاعدة تساعد على نمو الفساد.
وبعدما أوضحنا كيف يمهد تباين القوانين للفساد سنوضح فيما يأتي كيف يؤثر غموض القوانين وعدم وضوحها وكذلك غموض التفسيرات على نمو الفساد. حيث نلاحظ ضمن تشريعات الدول قوانين تمنع الموظفين العمومين من ابتزاز الأفراد للحصول على مبالغ غير قانونية (نتيجة أعمال فساد) أو تشريعات تكافح كل شكل من أشكال الفساد، إلا أن نصوص هذه القوانين تحتفظ بها الحكومات في سجلاتها فحسب.
__________
(1) -سوزان روز –اكرمان /الاقتصاد السياسي للفساد /في كيمبرلي ان اليوت/ الفساد والاقتصاد العالمي / م س ذ/ ص ص 58 –59.(1/159)
أما على صعيد الواقع التطبيقي، الذي تكون فيه نسب الفساد عالية في مؤسسات إحدى تلك الدول تصبح هذه القوانين أسيرة تلك السجلات، وتصبح حقوق الاعتراض على ممارسات الفساد عالية في مؤسسات إحدى تلك الدول تصبح هذه القوانين أسيرة تلك السجلات، وتصبح حقوق الاعتراض على ممارسات الفساد وبالاً قد يجرم من ورائه المعترضون بسبب كون نصوص القوانين غير ذات أهمية تجاه استغلال السلطة وضعف التفسيرات القانونية. (1)
وقد أظهرت التجربة في (هونك كونك) أن التعليمات غير الدقيقة تعطي سلطة تقديرية أكبر للموظف وتوفر له مزيداً من فرص الفساد ولذلك يتضح أن السياسة والتشريع وحدهما لا يضمنان الالتزام بالإجراءات الرسمية للبيروقراطية وإنما لا بد من أن يتبع ذلك إصدار تعليمات تنظيم هذه الإجراءات تتسم بالوضوح لسد كل ثغرة يمكن أن يمر عبرها الفساد (2)
وبناء على ذلك لكي تأخذ التشريعات بعدها الصحيح يشترط أن يكون البناء القانوني لوسائل مواجهة الفساد متميزاً بالعبارات الدقيقة التي تحدد الأفعال محل التجريم تحديداً دقيقاً والابتعاد عن الغموض في التشريع الذي يصعب معه تحديد المعنى (3)
__________
(1) -الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة/ د. نادر أبو شيخة (مترجم) / م س ذ/ ص 15.
(2) -المصدر نفسه / ص 69.
(3) -د. فتحي سرور /العولمة والفساد والجريمة المنظمة/ مجلة الأهرام الاقتصادي /العدد (1600) 9/9/ 1999.(1/160)
ولتكون التشريعات فعالة فعليها أن تكون حديثة وخاضعة للمراجعة الدورية وتفسر وتنفذ بشكل واضح وحازم وعادل (1)، يمنع معها أن يحوز الموظف سلطة اتخاذ القرار الذي قد يقوم ببيعه (إذا ما انعدمت نزاهته) إلى مستفيد متواطئ معه بغية شراء المستفيد للقرار الإداري والسياسي لمصلحة خاصة تتحقق معها آلية الفساد (2) الذي يبلغ حداً لتجاهل القوانين وعدم إنقاذها مما يسبب هدراً للأموال وإفلاساً للخزينة وتدميراً للمجتمع وإحلال شريعة الغاب محل شريعة القانون والدستور .(3)
وهو ما يتجلى في أنموذج القانون البولندي حيث أن مصطلح (موظف عام Public Official) الذي يظهر في القانون المذكور مصطلح يحيطه الغموض، وأن معنى المصطلح في مواد القانون الجنائي لسنة 1970 بحماية المسؤولين من الفساد يعرفه: -
(بأنه القائم بالوظيفة العامة Public Factionary) ويكون ذلك الموظف مصاناً من الهجوم على شخصه أو تعرضه لأية إساءات أخرى). ولكن في المواد التي تتعلق بالرشوة ظهر المعنى (بأنه أي شخص يقوم بوظيفة عامة Whoever performs A Public Functions ) المادة (239). كما تُعرف الفقرة (11) من المادة (120) من القانون القائم بالوظيفة العامة على أنه الشخص الذي يعمل في الإدارة الحكومية: -
- القاضي وقاضي القضاة والنائب العام.
- الشخص الذي يشغل وظيفة عالية أو ينهض بمسؤولية محددة ومرتبطة بوحدة تنظيمية بالدولة، أو منظمة تعاونية أو أية جماعة اجتماعية أخرى.
- الشخص المسؤول بشكل خاص عن حماية النظام العام، الأمن العام، الممتلكات الاجتماعية.
- الشخص الذي يعمل في الخدمة العسكرية.
__________
(1) -الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة/ د. نادر شيخة (مترجم) م س ذ /ص 69.
(2) -جورج طرابيشي ثنائي الديمقراطية والفساد، صحيفة الحياة /11 تموز 99/ م س ذ.
(3) -د. محمود عبد الفضيل /من الفساد الأصغر إلى الفساد الأكبر/ مجلة السفير /29/ 3/ 2000.(1/161)
- الأشخاص الذين يتمتعون بحماية قانونية بسبب أدائهم لوظيفة عامة بوجود قوانين خاصة.
- يعرف القانون أيضاً ممثلي البرلمان وممثلي الشعب على أنهم يقومون بوظائف عامة.
إلا أنه وفيما يتعلق بالرشوة كما عرفتها المادة (239) فقد لوحظ أن مدى (الأشخاص الذين يقومون بوظائف عامة) قد تم تفسيره بحدود ضيقة من أجل استثناء هؤلاء الذين يشغلون مراكز عليا بوحدات الدولة التنظيمية الأخرى مثل مصنع أو شركة تجارية (1).
ولهذا نجد أن الاختلاف في التفسير ما بين مواد القانون الواحد يجعل الثغرة بادية من خلال ذلك الاختلاف ويهيئ أرضاً خصبة لنمو الفساد.
مما تقدم توضح لنا كيف يمكن النفاذ من ثغرات القوانين لإحلال الفساد محل التعامل النزيه. وإن لهذا الموضوع ارتباطاً وثيقاً بالشق الثاني لموضوع مبحثنا هذا (وهو ضعف دور الرقابة على كبار المسؤولين العموميين والموظفين في الدول)، حيث يتجلى ضعف دور الرقابة عندما يرتبط الفساد عادة بتفصيل قوانين انتخابات وتمويل حملات انتخابية وكذلك عدم الأخذ بالتشريعات (كما بينا في ما سلف)، التي تضمن عدم تضارب المصالح المالية لدى النواب والوزراء وكبار الموظفين. لذلك نلاحظ أن تداخل الحلقات المبينة في الشكل التالي تحول الوظائف البيروقراطية العليا إلى أدوات للإثراء الشخصي المتصاعد من خلال تلك القوانين والتشريعات التي تأتي ضعيفة من حيث دور الرقابة وإنفاذ المساءلة الحقيقة(2).
دوائر المال والأعمال
عضوية مجالس
إدارة الشركات
النخبة السياسية
وزراء، نواب،
... مستوزرون ... ... البيروقراطية
التعينات في وظائف
حكومية عليا
__________
(1) -الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة/ د. نادر أبو شيخة (مترجم) / م س ذ/ ص 134.
(2) د. محمد عبد الفضيل/ الفساد وتداعياته في الوطن العربي/ مجلة المستقبل العربي/ العدد 243/ مايس 1999.(1/162)
ونتيجة الوهن في دور المراقبة والتشريعات نجد أن الفساد ينمو ويكون مغرياً في المواقف والظروف التي يكون فيها عنصر المخاطرة معدوماً أو شبه معدوم وهو ما توفره حالة الضعف هذه وبزيادة عنصر المخاطرة يقل الإغراء بل يكاد يتلاشى كلما أحكم الطوق لذا يجب وضع ضوابط واضحة لمكافحة أنشطة الفساد وكذلك تطبيق التشريعات بشكل سليم وتعديل التشريعات المعمول بها والتي يشوبها اللبس. مضافاً إلى هذا كله استخدام عنصر الجزاء بشكل صارم وحازم بغض النظر عن الوضع الاجتماعي لمرتكبي أنشطة الفساد تلك، والعمل على تعديل أو إلغاء كل قانون يوفر الحماية ويضعف دور الرقابة على كبار المسؤولين العموميين والموظفين في الدول من خلال الحصانات التي يتمتعون بها في ظل تلك القوانين السائدة، التي تجعل إمكانية انتشار آليات وتداعيات الفساد ممكنة، الأمر الذي يشكل عائقاً أمام سلطات التحقيق والمساءلة(1)، مما يجعل الأمر على حقيقته مسألة يصعب التعامل معها عندما يتعلق الأمر بأولئك الأشخاص أصحاب المستويات الإدارية الرفيعة في المؤسسات والمنظمات الحكومية الذين يجعلون من التشريع أمراً فاسداً ومن القوانين أشكالاً محرفة تتيح المجال لخدمة فساد أقطاب النظم الفاسدة تلك(2).
ولمعالجة الحالة ضمن سياقات الأنموذجات التطبيقية نورد المثال الذي تناوله الرئيس الجزائري (عبد العزيز بو تفليقة) لبيان حالة ضعف الرقابة وفساد مسؤولي الجهاز الإداري في ذلك البلد.
__________
(1) الأمم المتحدة/ الفساد في الحكومة/ د. نادر أحمد أبو شيخة/ (مترجم)/ م س ذ) ص31.
(2) م. ن/ ص33.(1/163)
ففي خطابه في 27/ نيسان/ 1999 حدد الرئيس الجزائري أن البلاد (دولة مريضة بالفساد، دولة مريضة في إدارتها، مريضة بممارسات المحاباة والمحسوبية والتعسف والنفوذ والسلطة، وعدم جدوى الطعون والتظلمات، مريضة بالامتيازات التي لا رقيب عليها ولا حسيب، مريضة بتبذير الموارد العامة بنهبها بلا ناهٍ ولا رادع) ومن ثم يضع بعض الملاحظات إلى أن هذه الأمراض (أضعفت الروح المدنية، وأبعدت القدرات، وهجرت الكفاءات، ونفرت أصحاب الضمير، وشوهت مفهوم الدولة وغاية الخدمة العمومية)(1).
إن ما تطرق إليه الرئيس بوتفليقة يظهر جلياً واضحاً من خلال ما ذهب إليه الجنرال (محمد بتشين) الوزير المستشار لدى الرئاسة الجزائرية في إبّأن حكم الرئيس السابق (الأمين زروال) خلال إدلائه بشهادة أمام المحاكم الجزائرية (ذاكراً بأن لديه معلومات مثيرة عن مسؤولين كبار بينهم رئيسا حكومة سابقان ووزيران لهما سابقان قاموا بعمليات تحويل الأموال العمومية للخارج)(2) في إطار التحقيقات التي جرت في مؤسسة (سيدار) التي شهدت فساداً مالياً واسعاً يضاف إليه ما كشف النقاب عنه قبل تلك الأحداث رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق (عبد الحميد الإبراهيمي) عن تورط مسؤولين حكوميين كبار ووزراء سابقين في قضايا فساد ورشاوى بلغ حجمها (26 مليار دولار)(3).
بالإضافة إلى اتهامات أخرى وجهت إلى وزير البترول الأسبق بسرقة
(40 مليار دولار) من أموال الدولة الجزائرية(4).
__________
(1) راجع أ. د. محمود عبد الفضيل/ اقتصاديات الفساد/ من الفساد الأصغر إلى الفساد الأكبر/
صحيفة السفير /29/3/2000. وكذلك تتمة المقالة في ذات الصحيفة المنشورة بتاريخ 30/3/2000.
(2) م. ن.
(3) لمزيد من التفصيل أنظر جريدة الأهرام القاهرية /22/1/1992.
(4) لمزيد من التفصيل أنظر جريدة الأهرام القاهرية /14/1/1992.(1/164)
ومن خلال ما تقدم وبرغم الاتهامات الموجهة والأدلة على ممارسات الفساد والبيانات المذهلة التي جاءت نتيجة لأعمال وتصرفات كبار المسؤولين في السلطة الجزائرية إلا أننا نلاحظ أن ضعف دور الرقابة والمساءلة واضحاً جلياً من خلال عدم استتباع كل هذه الاتهامات بمحاكمات لقطع دابر واستئصال شأفة الفساد في ذلك البلد.
ولهذا كله يشير (الرئيس بوتفليقة) مرة أخرى في خطاب لاحق بتاريخ 8/يوليو/2000 ألقاه في جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا لهذه الظاهرة الخطرة الذي يستخلص من خلاله أن ضعف دور المراقبة والمساءلة قد عرض الجزائر إلى ظواهر كان يمكن تجاوزها لولا آلية الفساد المنتشرة في البلاد ولذا يقول:
(إن الفساد الذي فكك أواصر الدولة، وسفه قيم الحكم، وأربك مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصرف مفاهيم العمل والكد والنزاهة والتفاني، قد ولد في النهاية ظاهرة الإرهاب البشعة المدمرة)(1).
__________
(1) أ. أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ م س ذ/ ص176.(1/165)
بعد هذا العرض للحالة الجزائرية وما سببه الفساد في ذلك البلد من مشكلات سوف ننتقل لبيان مثال آخر يتجلى فيه ضعف دور الرقابة على كبار المسؤولين العمومين والموظفين الإداريين وهو (الأنموذج التركي) حيث يتجلى ذلك الضعف للرقابة عندما يتم إخلاء سبيل مجرمٍ في تهم ثابتة عليه نتيجة لتورط أولئك الكبار معه في جرائم فساد. ولعل إلقاء القبض على أحد رجال الأعمال الأتراك (الصادر بحقه حكم غيابي في محكمة أمن الدولة في (أزمير) لمحاكمته بتهمة الحصول على (أربعين مليون دولار) من الدولة التركية على شكل حوافز مقابل صادرات وهمية) في أثينا بتهمة أخرى (غير الصادرات الوهمية) وهي حمل سلاح غير مرخص وتهريب هيروين ثم ترحيله إلى تركيا من قبل سلطات اليونان بشرط محاكمته على تهمة الهيروين والسلاح فقط، خير دليل على حوادث الفساد التي أدت إلى إخلاء سبيله في شباط 1990. وذلك لتصريحه قبل ترحيله إلى تركيا أنه إذا ما حوكم عن قضايا الصادرات الوهمية فسيجد بعض الوزراء أنفسهم في مشكلة.
إن ذلك يدل على ضعف الرقابة الذي يتجلى عندما أعلنت المعارضة أن صفقة سرية أبرمت لصالح رجل الأعمال المتهم الذي سيسعد إطلاق سراحه دوائر معنية قريبة منه. وإن هذا كله يظهر أن ضعف المساءلة قد يسلب السلطة القضائية دورها الصحيح في إنفاذ القانون خدمة لأصحاب النفوذ(1).
__________
(1) انظر/ أ. د. جلال عبد الله معوض/ ظاهرة الفساد السياسي في تركيا/ في إكرام بدر الدين (محرر)/ الفساد السياسي النظرية والتطبيق/ م س ذ/ ص73.(1/166)
يضاف لما عرضنا له في كلتا الحالتين الجزائرية والتركية من عالم الجنوب إلى أنه في عالم الشمال هنالك أنموذجات تؤكد ضعف الرقابة في حالات رصدت. ولذا فإن دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تعد صياغته أنموذجاً لنظرية فصل السلطات وآلية الرقابة والموازنة لا تخلو الإدارات التي تولت تنفيذه من ضعف دور الرقابة عليها، وعلى سبيل المثال نجد ممارسات رئيس الإدارة الأمريكية السابق (بيل كلينتون) (سواء كان رئيساً للإدارة أم حاكماً لولاية من قبل) تزخر بآليات عمل واستغلال نفوذ نلاحظ فيها خلوها من عنصر الرقابة عليها.
فهو عندما كان (حاكم ولاية) في أركنساس ظهرت لديه الكثير من ظواهر الفساد ومن هذه ما قام به من إسباغ حمايته على مشروع عقاري ضخم في تلك الولاية (رأسماله سبعمائة مليون دولار) تقوم بتنفيذه شركة تدعى (A.D.F.A) (شركة أركنساس لتمويل التنمية). التي أحيط إنشائها بملابسات محفوفة بالشكوك وذلك لأن الإدارة القانونية لشؤون هذه الشركة قام بها مكتب محاماة يدعى مكتب (روز للمحاماة) تعود ملكيته إلى (هيلاري) عقيلة كلنتون، وشريك آخر هو (فنسنت فوستر) حيث لوحظ أن (هيلاري) تقاضت أتعاباً تقدر بمائة ألف دولار أمريكي لجهد لم يستغرق سوى بضع ساعات وهو أجر حسب تقدير الخبراء في القضايا القانونية وأتعابها يفوق أتعاب أي محامِ أكثر شهرة من ذلك المكتب بكثير.(1/167)
وعندما أثيرت تلك الحادثة أمام القاضي المستقل (كينيث ستار) في سلسلة الاتهامات التي وجهت إلى كلنتون ومن بينها الفضائح الجنسية (التي أشير إليها آنفاً) طلب ذلك القاضي بيان مفردات المبالغ المدفوعة إلى مكتب روز من شركة (A.D.F.A)، إلا أن الرد كان أن المستندات قد فقدت من ملفاتها ولم يعثر على أثر لها ومن خلال التحقيقات أثبتت الملفات المتبقية أن هنالك أصدقاء ومستشارين للرئيس (كلنتون) حصلوا على قروض من تلك الشركة لم يسددوها على ما يبدو، ثم شاع أن جزءاً من هذه القروض وجد طريقه إلى جيب (الرئيس) نفسه، وإلى تمويل حملاته الانتخابية من دون الإعلان عن ذلك مخالفة للقانون.
يذكر أن هذه القروض والمبالغ قد رتب لها المكتب ذاته (مكتب روز للمحاماة) الذي كانت مكافأته أن عيّن (فنسنت فوستر الآنف ذكره) المستشار القانوني لرئيس الإدارة الأمريكية عندما وصل كلنتون لمنصب الرئيس.
إن ضعف دور الرقابة والمساءلة يتجلى عندما وقف القاضي (ستار) ولم يجد طريقاً للنفاذ إلى خبايا هذه الوقائع نتيجة لجدار الصمت الذي يصد الذين يعرفون دخائل الوقائع عن الكلام والخنادق التي تحصنت فيها كتائب من المحامين تزودت بكل الذرائع وتحوطت لكل سؤال، مما جعل (ستار) يقتنع أن الصمت والإخفاء سياسة مقصودة مؤيدة لسلطة لا يرد لها أمر(1).
مما تقدم توضح لدينا كيف تسبب الثغرات القانونية واختلاف النظم والتشريعات في تغلغل الفساد في البلدان المختلفة أو داخل البلد الواحد إذا ما كانت هنالك تشريعات متعددة كما هو الحال في الدول الفدرالية.
__________
(1) محمد حسنين هيكل/ كلام في السياسة/ القاهرة/ المصرية للنشر/ 2000/ ص ص27ـ28.(1/168)
ونجد أن للثغرات القانونية أمثلة في دول عالم الجنوب كما لها تطبيقات في دول عالم الشمال قد يسهل منها ضعف التفسيرات وغموض التشريعات في زيادة نسبة الفساد. كما أن الأمر يتعلق أيضاً بضعف دور الرقابة على كبار المسؤولين العموميين والموظفين الإداريين الذين أوضحت الأمثلة أنهم في كلا العالمين الشمال والجنوب يستغلون نفوذهم لإضعاف القانون والتطاول عليه للوصول إلى منافعهم الشخصية التي تشكل أرضاً سمراء خصبة لنمو الفساد إلا أنه قد يحجّم في الشمال بسبب الطابع المؤسساتي وكثرة أجهزة الرقابة ويكثر في الجنوب بسبب السير عكس ذلك.
(((
الباب الرابع
النتائج السلبية للفساد
لعل دراسة النتائج السلبية للفساد، تعطي للباحث الفرصة لبيان مدى خطورة ظاهرة الفساد التي إذا ما ازدادت في بلدان أو استشرت في أخرى ألقت بثقلها على تطور تلك البلدان.
فالفساد يشكل أخطر معاكس لعملية التنمية حيث يؤدي إلى استنفاد الموارد، واختلالات في البنى الأساسية التي ترتكز عليها عملية التنمية.
كذلك فإنه يؤدي أيضاً إلى تهديد سيادة البلدان، ومعاناتها من مديونيات كبيرة لعدم قدرة البلدان على تحقيق النواتج الكافية لسد تلك الديون وتحقيق مستوى نمو مقبول بوجوده، كما أن الفساد يخرق النظام العام ويضرب المرتكزات الأساسية التي يرتكز عليها ذلك النظام، وباستشرائه يهدم عوامل الكفاية ويمكّن غير المستحق من أخذ حق من يستحق، وبذلك تضعف كفاية الأداء ويسود جيل من أنصاف المتعلمين في المرافق المهمة يعمل أداةَ كسحٍ لذوي الكفايات مما يشكل عامل طرد لهم.
وبعد ذلك كله ينجم عن الفساد نشوء طبقة تحاول تغيير كل ما هو سائد من قيم الفضيلة إلى قيم الفساد وسنلاحظ ضمن هذا الفصل تحليلاً كاملاً لما ورد أعلاه وهو يظهر مدى التأثير السيء للفساد.
الفصل الأول
أثر الفساد في التنمية(1/169)
لمناقشة الآثار السلبية للفساد نتولى بالتحليل أولاً، ذلك الأثر السلبي الذي يتركه الفساد على التنمية، لما للتنمية من أهمية في بناء وارتقاء المجتمعات والأمم، التي أصبح تناول موضوعها (أي التنمية) من قبل المهتمين موضوعاً واسعاً لا يمكن أن يغطى في بضع صفحات لتعدد المشارب فيه، وكثرة الرؤى حوله.
لذا سنعمل ضمن هذا الفصل على تحديد ذلك الأثر عبر رؤية مستقاة من آراء المتخصصين وبعض الحالات التي تم رصدها التي يتجلى فيها أثر الفساد السيء على التنمية، وبدءاً ننطلق من الفكرة القائلة:
((إنه بالأضداد تفهم الأشياء))
وهي فكرة معروفة إلا أن (أ. د. /عبد الحميد الغزالي)(1) يتبناها في دراسته للتنمية وتتلخص رؤيته في أن معرفة التنمية تتطلب قبلاً فهم المعاكس أو المضاد لها وهو مفهوم (التخلف)، الذي من دون معرفته تبقى التنمية ناقصة لا محالة.
__________
(1) أ. د. عبد الحميد الغزالي/ أستاذ مادة الاقتصاد وأحد الاقتصاديين المصريين المعروفين بدراساتهم في مجال التنمية.(1/170)
لذا نقول إن الدولة المتخلفة (Under developed) يشار فيها عادة إلى الأقطار المتخلفة ثقافياً أو اجتماعياً أو سياسياً (مع مراعاة الربط بين كل أشكال التخلف)(1)، والتخلف اقتصادياً يراد به اصطلاحاً انخفاض المستوى المعاشي (في الإقليم أو البلد) نتيجةً لانخفاض مستوى الدخل لأفراده وذلك نتيجة لعوامل عدة من أهمها ((الاعتماد على إنتاج غلة رئيسة واحدة كمحصول زراعي في البلدان المعتمدة على الاقتصاد الزراعي فحسب، كذلك ندرة رأس المال اللازم للاستثمار لإحداث نمو، أو ضعف الإنتاج بسبب نقل التقنية، أو ما تؤدي إليه زيادة عدد الأفراد أكثر من حصيلة التنمية الاقتصادية مع ضعف الطاقة الادخارية والميل للإسراف))(2)، يضاف لذلك آراء أخرى ترى أن التخلف يعني: ضعف القدرة على استثمار الموارد الطبيعية من قبل القوى البشرية المحلية بالشكل المعقول أو الأمثل. وتكون أشكاله على هيئة انخفاض مستوى الدخل الفردي الحقيقي، وانتشار الأمية، وضآلة نسبة التصنيع وتدهور الوضع الصحي الناجم غالباً عن سوء التغذية مع زيادة الولادات والوفيات بصورة غير طبيعية(3). مما يجعل الدول التي تعاني منه تنظر إلى التنمية على أنها الأمل المنقذ من تلك الأعباء.
__________
(1) عبد الوهاب الكيالي/ الموسوعة السياسية/ بيروت/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 1974/ الطبعة الأولى/ ص148.
(2) أحمد عطية الله/ القاموس السياسي/ القاهرة/ دار النهضة العربية/ 1968/ ص ص 276ـ277.
(3) د. عبد السلام بغدادي/ مجموعة محاضرات في التنمية والتخلف ألقيت على طلبة كلية الآداب للعام الدراسي 2000ـ 2001.(1/171)
على أن التخلف ينظر إليه أيضاً (كما أسلفنا) بوصفه تخلفاً ثقافياً، أو اجتماعياً أو معلوماتياً (بعد ازدهار ثورة المعلومات)، وأخيراً سياسياً الذي يكون العامل المعاكس لضعف أو انتفاء قيام التنمية السياسية(1).
وعلى حد تعبير (أ. د. عبد الحميد الغزالي) إذا ما وجد مجتمع مقهور سياسياً ومستغل اقتصادياً مهما أوتي من موارد فتلك دلالة على أنه مجتمع متخلف، أي بمعنى أن القهر السياسي والاستغلال الاقتصادي هما سببان مهمان من أسباب عدة للتخلف(2).
بعد ذلك ولإثراء الموضوع لابد لنا من الانتقال إلى الوسيلة المضادة. للتخلف(3) وهي التنمية التي تم التعارف عليها في مراحلها الأولى على أنها:
(الزيادة السريعة والمستمرة في مستوى الدخل الفردي عبر الزمن)
من خلال نظرة اقتصادية لمفهوم التنمية التي جاءت لتبرز أن العامل الوحيد لتحقيقها (أي التنمية) هو النمو الاقتصادي.
إلا أن نشوء نماذج للدول استطاعت تحقيق التقدم في مجال إشباع الحاجات الأساسية دون تحقيق نمو في الدخل من خلال سياسات التوزيع العادل له وتخفيف وطأة الفقر وتحسين مستوى معيشة المواطن، أفسح المجال لفهم التنمية على أنها:
(
__________
(1) يقصد بالتنمية السياسية: إقامة النظام الديمقراطي/ وتفضيل المشاركة الشعبية وعوامل مساعدة أخرى.
(2) يمكن اعتبار المراحل الأولى للتنمية في بلدان العالم الثالث هي سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
(3) أ. د. عبد الحميد الغزالي/ تعقيب/ في مصطفى كامل السيد/ الفساد والتنمية جامعة القاهرة/ مركز دراسات وبحوث الدول النامية /1999/ ص372.(1/172)
إلغاء الفقر وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتوسيع فرص العمل وإشباع الحاجات الأساسية إلى جانب العامل المهم وهو النمو الاقتصادي)(1).
أي بمعنى آخر: إن التنمية تعني (الارتقاء بمستوى الحياة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً)(2).
وهو ما أكده أيضاً إعلان ((الحق في التنمية)) الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1986 الذي فسر عملية التنمية (بأنها عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد التي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية)(3).
__________
(1) أ. د. إبراهيم العيسوي/ التنمية في عالم متغير، دراسة في مفهوم التنمية ومؤشراتها/ القاهرة: منتدى العالم الثالث مكتبة مصر 2020/ دار الشروق/ 2000/ ص13 وما بعدها.
(2) د. عبد السلام البغدادي/ مجموعة محاضرات في التنمية والتخلف ألقيت على طلبة كلية الآداب/ م
س ذ.
(3) محمد فائق/ حقوق الإنسان والتنمية/ بيروت/ مجلة المستقبل العربي/ العدد 251/ كانون2/ 2000/ ص101.(1/173)
عليه، وطبقاً لما ورد أصبحت الرؤية والتفسير الجديد للتنمية يختلف عما كان معروفاً في المراحل الأولى لنشوئها وبناء عليه أصبح فهم التخلف (السابق الإشارة إليه) ليس مرده إلى قلة الأموال المطلوبة للاستثمار في بلد ما، بل قد تكون هنالك أموال وفيرة إلا أن التنمية لم يذق لها طعم في ذلك البلد ومرجع ذلك إلى طبيعة الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة، وما تتسم به تلك الهياكل من توزيع للنفوذ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وطبيعة العلاقات الدولية التي تربط بين عالم الجنوب ـ وعالم الشمال المتقدم، وكذلك علاقات القوى الناشئة من وجود تفاعل هذه الهياكل والأطر المحلية والدولية بحيث تحدد توزيعاً معيناً للسلطة يؤدي إلى كون سلطة اتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تنحصر بيد فئة اجتماعية معينة دون الفئات الأخرى مما يسبب ضعف التخطيط وانعدام التوزيع العادل وعدم الاكتراث بتخفيف حدة الفقر، الذي مؤاده دوام حالة التخلف وفقدان التنمية، الناجم عن تحقيق تلك الفئات أكبر قدر ممكن من الثروة والتصرف بها بدون تفويض، والتمتع بها من دون قيود حقانية على وفق سياق تستقل به عن مجتمعاتها وتتعالى عليها مما يؤدي إلى شيوع حالة الفساد(1).
__________
(1) أ. د. إبراهيم العيسوي/ التنمية في عالم متغير/ م س ذ/ ص13 وما بعدها.
كذلك راجع: هادي حسن/ دولة الرفاه العربية/ أمن القمع إلى الدعاية/ مجلة المستقبل العربي/ العدد 268 حزيران/2001/ ص21.(1/174)
وبناء على كل ما تقدم واستناداً إلى الرؤية التحليلية لـ(أ. د. إبراهيم العيسوي)(1) التي يتحدث فيها بأن خبرة العالم الجنوبي في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، أظهرت تحجيماً في دور العنصر الاقتصادي (نمو الاقتصاد) في مفهوم التنمية (كما أسلفنا)، وأبرزت دور الجوانب المؤسسية، والهيكلية، والثقافية، والسياسية، وأصبح هنالك تمييز مألوف بين النمو (الاقتصادي) و(التنمية).
فالنمو الاقتصادي/ أصبح يشير إلى مجرد الزيادة الكمية في متوسط الدخل الفردي الحقيقي الذي لا يرتبط بحدوث تغييرات هيكلية اقتصادية أو اجتماعية وهذا ما يعاكسه بالمفهوم مصطلح (الركود الاقتصادي).
في حين أن
التنمية/ تتمثل بتغييرات عميقة في الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدول وفي العلاقات التي تربطها بالنظام الاقتصادي الدولي، التي يكون من شأنها تحقيق زيادات تراكمية قابلة للاستمرار في الدخل الفردي الحقيقي عبر فترة ممتدة من الزمن، إلى جانب عدد من النتائج الأخرى غير الاقتصادية وهذا ما يعاكسه بالمفهوم مصطلح (التخلف)(2).
وتأسيساً على ما عرضنا له بخصوص التنمية (كمفهوم عام) وتطور مفهومها نجد أن التنمية الاقتصادية تترابط مع الكثير من جوانب التنمية الأخرى إلا أن ما يعنينا هو الترابط الأكثر أهمية وهو الترابط بين (التنمية الاقتصادية) و(التنمية السياسية) التي إذا ما ظهرت بينهما ظاهرة الفساد انهارت كلتا العمليتين لما للظاهرة المذكورة من علاقة متجذرة بكلتا الحالتين (وكما أشرنا للترابط بين حالات الفساد وأشكاله في الفصل الثاني).
__________
(1) أ. د. إبراهيم العيسوي/ أحد المتخصصين العرب في مجال التنمية/ أستاذ جامعي عربي.
(2) أ. د. إبراهيم العيسوي/ م ن/ ص3 وما بعدها.(1/175)
ولبيان العلاقة بين التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية يمكن استعراض، بشكل مقتضب، عدد من الاتجاهات النظرية التي تفسر مدى هذه العلاقة(1):
الاتجاه الأول/ يفسر العلاقة على كونها عضوية ووثيقة بين كلتا الحالتين. وفي ذلك رأي لمدرستين رئيستين يفسر هذا الاتجاه:
أ ـ المدرسة الأولى ترى أن التنمية الاقتصادية ذات تأثير على الإطار السياسي وهي المتغير المستقل، وتنظر المدرسة إلى التنمية السياسية التي تشمل (الديمقراطية والمشاركة) على أنها المتغير التابع. ويرى أنصارها أن جوهر التنمية السياسية يرتبط بتحقيق مستوى معين من التنمية الاقتصادية يبلغ من خلالها المجتمع درجة من النمو الاقتصادي تسمح له بإشباع حاجاته وتحقق توازناً مقبولاً بين التطلعات الاقتصادية من ناحية ودرجة الرضاء الفعلي لهذه التطلعات من ناحية أخرى. ومن أنصار المدرسة المفكر (Hagen)(2) الذي وضع النمو الاقتصادي شرطاً للديمقراطية السياسية. فيما توصل أحد أنصار المدرسة الآخرين من خلال دراسته التاريخية للتجارب الثورية في (بريطانيا) و(فرنسا) و(الولايات المتحدة الأميركية) و(الاتحاد السوفيتي المنحل) إلى نتيجة مؤادها أن توقيت حدوث الثورات ارتبط بفترة اتسمت بمرحلة رخاء اقتصادي مستمر أعقبها تدهور اقتصادي مفاجئ(3).
__________
(1) أ. خالد زكريا أبو الدهب/ العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية في كوريا/ في أ. د. محمد السيد سليم (محرراً)/ (النموذج الكوري للتنمية) القاهرة/ مركز الدراسات الآسيوية/ جامعة القاهرة/ 1996/ ص467.
(2) Hagen: مفكر غربي له آراء في التنمية.
(3) للمزيد من التفاصيل أنظر أ. د. علي الدين هلال/ محاضرات في التنمية السياسية/ القاهرة/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة/ 1975 ـ1976/ ص69ـ 71.(1/176)
ب ـ المدرسة الثانية وتعد الأقل جماهيرية بين المتخصصين في مجالات التنمية ونظم الحكم وتجعل المتغير المستقل هو التطور السياسي والتنمية الاقتصادية هي المتغير التابع.
الاتجاه الثاني/ يرى أنصاره أن النمو الاقتصادي لم تحققه التنمية السياسية (أي بمعنى آخر لم تحققه ديمقراطيات) بل حققته دول استبدادية رأسمالية بشكل معين كما حدث في اليابان والرايخ الثاني في ألمانيا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأسبانيا (فرانكو) وكوريا بعد عام 1961 وتشيلي في عهد بينوشيه ويعلل الاتجاه هذا الأمر بأن الاستبداديات تضع النمو الاقتصادي في صدارة أولوياتها على العكس من الديمقراطيات التي تميل إلى نقل الثروة من الغني إلى الفقير لصالح المساواة الاجتماعية وحماية الصناعات المتعثرة ودعمها والإنفاق على الخدمات الاجتماعية أكثر من الإنفاق على الاستثمارات. على أن أصحاب هذا الاتجاه يرون ارتفاع معدلات التنمية الاقتصادية يخلق الحاجة لتحقيق قدر أكبر من الانفراج السياسي. لذلك يرى
(Rasmussen Jorgen )(1) إذا كانت التنمية الاقتصادية تتطلب دوراً قوياً للدولة مما لا يسمح بتعدد مراكز صنع القرار (بل أن دمقرطة النظام ربما تعطل عملية التنمية)، فإن تلك التنمية الاقتصادية تؤدي كتحصيل حاصل إلى توسيع نطاق الاقتصاد القومي وتعقيده بما يجعل من الصعب إدارته بدون قدر من اللامركزية والديمقراطية(2).
__________
(1) أحد أنصار الاتجاه المذكور/ صاحب كتاب (The process of politics: A comparative Approach/ 1969).
(2) Lucianpye/ Aspects of political Development/ Boston/ Little Brown & Company, 1965.(1/177)
الاتجاه الثالث/ يرى هذا أن التنمية الاقتصادية بتقدمها التكنولوجي لابد أن تقود إلى التغير الاجتماعي، ورغم تأكيد هذا الاتجاه على حدوث تغير فإنه لا يحدد وجهة هذا التغير حيث يرى (أستاذنا حامد ربيع) أن التقدم التكنولوجي قد يقود إلى تخفيف حدة الصراع الطبقي الأمر الذي يدعم التحول الديمقراطي (والتنمية السياسية) ولكنه قد يقود إلى زيادة مظاهر التناقض الطبقي ومن ثم عرقلة هذا التحول ولذا يرى (Hagen) أن الارتباط بين التغير (الاجتماعي ـ السياسي) لا يدلنا على حقيقة اتجاه تلك العلاقة إلا أنه ما من شك أن التغير الاقتصادي هو الذي ينمي التغير الاجتماعي والسياسي فالتصنيع والتمدن والحراك الجغرافي بخلق بيئة مؤاتية لإحداث تغيّر سياسي(1).
الاتجاه الرابع/ هذا الاتجاه يعد التنمية الاقتصادية ليست شرطاً ضرورياً أو كافياً حيث أن هناك بلداناً عديدة متخلفة نجحت بتبني نظم ديمقراطية فعالة على مدى طويل مثل كوستاريكا، الهند، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية في بداية نشوئها، وعلى العكس هنالك أمثلة لبلدان متقدمة لم تكن تعرف (التنمية السياسية) مثل ألمانيا الهتلرية أو اليابان قبل عام 1954 وعلى هذا الاعتبار يرى أنصار هذا الاتجاه أنه ليست هناك قوانين حتمية تربط بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية(2).
__________
(1) أ. خالد زكريا أبو الدهب/ العلاقة بين التنمية والاقتصادية والديمقراطية في كوريا/ م س ذ/ ص ص 468ـ 470، ولمزيد من التفصيل أنظر:
Everett Hagen/ A Framework for Analyzing Economic & Political change/ in R. Dohl & D. Neubaver (eds.)/ Prentice Hall/ 1980/ p191.
(2) للمزيد من التفصيل أنظر/
... فرانسيس فوكوياما/ الرأسمالية والديمقراطية: الحلقة المفقودة/ مجلة الديمقراطية العدد 4/آب/ 1992/ ص25.(1/178)
ويؤكد الاتجاه هذا على أن التحول إلى الديمقراطية عملية سياسية متنوعة منها القدرة على تصفية النظام السلطوي السابق، ومهارة الحكام لخلق نظام ديمقراطي، هذا إلى جانب التعامل مع عقبات أخرى تتعلق بالثقافة والعرق والدين وجميعها مستقلة نسبياً عن مستوى التنمية الاقتصادية(1).
وبعد هذه القراءة في العلاقة بين (التنمية الاقتصادية) و(التنمية السياسية) بدا جلياً أن بروز وتطور المفهوم (أي مفهوم التنمية) بشكل عام أصبح يشمل البنيان الاجتماعي وتطوره (اتساع حجم الطبقة المتوسطة وأعداد المهنيين) مضافاً إليه شمول المفهوم التطور في المجال الثقافي والعلمي كذلك، ناهيك عن ما قدمنا له من (المفهوم الاقتصادي)، إلا أن كل ذلك يترافق معه الاهتمام المتصاعد بالعملية السياسية (وتنميتها) ولقد أثبت واقع التجارب أنه ما لم يشمل التغيير كل الجوانب لا تكون هناك تنمية على الإطلاق أي بعبارة أخرى (لا تنمية إن لم تكن تنمية شاملة للحياة)(2).
جدير بالذكر أن الاهتمام المتصاعد المشار إليه بالعملية السياسية أي البعد السياسي للتنمية. بحثته بعض الكتابات في شقين:
الشق الأول/ هو زيادة فعالية الدولة وقدرتها على توجيه مجالات النشاط الإنساني داخل حدودها.
الشق الثاني/ هو إتاحة أكبر قدرة من الحريات للمواطنين للمشاركة في توجيه السياسة العامة.
__________
(1) أ. خالد زكريا أبو الدهب/ العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية في كوريا/ م س ذ/ ص471.
(2) أ. د. مصطفى كامل السيد/ الشروط السياسية للتنمية (الشفافية، والمساءلة، والحكم الرشيد)/ في مصطفى كامل السيد (محرر) الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص ص 7ـ 9.(1/179)
وبذلك نلاحظ أن إعمال هذين الشقين يؤدي إلى الحد من ظاهرة الفساد (التي نحن بصدد دراستها) لهذا جاءت كتابات كثيرة لتربط بين الشقين سالفي الذكر لتعزيز قوة الدولة والوصول إلى الغاية المرجوة وتعزيز قوة المجتمع التي تتحقق إذا ما اتسم عمل الدولة (بالشفافية) وإذا ما خضع القائمون على المؤسسات (للمساءلة) ثم إذا ما اتصفت الدولة في حد ذاتها (بالحكم الرشيد) وهي الشروط السياسية الثلاثة لإحداث التنمية في المجتمعات(1)، التي يتأتى دوماً الفساد فيها لأن الأغلبية محرومة من التعبير عن رأيها ومطالبها أو أنها بالأحرى مبعدة بصورة أو بأخرى عن مراكز اتخاذ القرار، وحتى مراكز التأثير في اتخاذ القرارات. ولهذا أظهرت تجارب وخبرات عالم الجنوب والدول الاشتراكية ونظم الحكم المعاكسة للديمقراطية أهمية البعد في تحرير الفرد وتحرير المجتمع والمشاركة الشعبية بوصفها مدخلاً لحشد جهود المجتمع من أجل التنمية(2).
__________
(1) م ن/ ص ص 7ـ 9.
(2) أ. د. إبراهيم العيسوي/ م س ذ/ ص13 وما بعدها.(1/180)
إن المشاركة الشعبية تتناسب بشكل عكسي مع الفساد ولذلك فالسلبية السياسية (ضعف المشاركة) غالباً ما ترتبط بضعف المؤسسات وانخفاض مستوى تنظيمها وبالتالي فهي دليل على فقدان الأفراد لشعورهم بالمسؤولية العامة وكذلك إمكانية تجميع جهودهم من أجل تحقيق عمل يؤدي إلى منفعة عامة مستقبلية. فضلاً عن كون السلبية السياسية تضعف من قدرة الأفراد على ممارسة الدور الوطني في الرقابة بفاعلية على الأجهزة الحكومية والمؤسسات السياسية، مما يعطي للفساد دوراً أكبر من الاستشراء ويجعله يرمي بثقله في إضعاف التنمية بكل أبعادها (أي بمعناها الشامل) مما يؤدي إلى اهتزاز الشرعية وانعدام الاستقرار السياسي وتهديد التكامل، ويجعل القرارات وصدورها تفتقر إلى التخطيط المسبق والعقلانية الأمر الذي يدعو إلى تغليب المصلحة الخاصة على العامة (وهذا هو مفهوم الفساد بالأساس) مما يقولب آليات عملية التنمية لتحقيق مصالح ضيقة تخدم شرائح معينة أو أفراد معينين من دون سائر المواطنين(1).
__________
(1) د. إكرام بدر الدين/ ظاهرة الفساد السياسي/ في د. إكرام بدر الدين وآخرون (محرراً)/ الفساد السياسي النظرية والتطبيق/ القاهرة/ دار الثقافة العربية/ 1992/ ص ص32ـ 33.(1/181)
ولابد من الإشارة إلى أنه على الحكومات السعي بجد لفرض الشفافية والمساءلة على جميع مفاصل عملها بدءاً بأعلى مستويات الهرم السياسي ونزولاً إلى قاعدته بغية إنجاح عملية التنمية(1) وبخلاف ذلك سينتشر الفساد الذي يؤدي للعزلة السياسية وعدم الاستقرار وزيادة التوجه إلى النفور العام واسع الانتشار إزاء النشاطات غير المشروعة لتعامل الموظفين العموميين مع أفراد المجتمع(2).
وفي دراسة عن الأنموذج الفلبيني نرى أن (جامعة الفلبين) أنجزت أثني عشر بحثاً عن الفساد في ذلك البلد بما في ذلك تحليلاً مفصلاً للمؤسسات القائمة وكانت خلاصة المشروعات "أن الفساد أثر بصورة سلبية على جهود التنمية في الفلبين مما أسهم في إعطاء الأفضلية للمنتجين غير الأكفاء، وتسرب الدخل من خزائن الدولة إلى الجيوب الخاصة فضلاً عن إسهام الفساد بطريقة مباشرة، في زعزعة الثقة بالحكومة(3). لذا نلاحظ أن الفلبين كانت من أكثر البلدان فساداً في إبان (عهد ماركوس) حيث حل شخصه محل المؤسسات السياسية لاستغلال المنصب من أجل المكسب الشخصي مضافاً إليه السلوك السياسي للمسؤولين(4) في ذلك النظام الذي يمثلون قمة الهرم (الذي يتوقف على ذلك السلوك درجة الفساد لأولئك المسؤولين). ويتضح مدى العلاقة الطردية بين ميلهم للفساد ودرجة انتشار الفساد في نظامهم.
__________
(1) د. حسن أبو حمود/ الفساد ومنعكساته الاقتصادية والاجتماعية/ (بحث غير منشور)/ دمشق/ المعهد العالي للعلوم السياسية/ 2000/ ص5.
(2) روبرت كليتجارد/ السيطرة على الفساد (Controlling Corruption) علي حسين عجاج (مترجمة)/ عمان/ دار البشر للنشر والتوزيع/ 1994/ ص70.
(3) م. ن/ ص63.
(4) تتوقف درجة الفساد على طبيعة هذا السلوك.(1/182)
لذلك كان (ماركوس) مثلاً واضحاً لمدى ارتباط الفساد بسلطته الشخصية واستخدام قوة تلك السلطة لتغطية انحرافاته وتكوينه للثروات الطائلة مما أثر على البلاد وجعلها تعاني من مشكلات عدة واضطرابات استمرت حتى بعد سقوط حكمه لا تستطيع الفلبين التغلب عليها(1).
من خلال ما سلف نستطيع أن نستشرف رؤية عن مدى تطوير مفهوم التنمية وعمق الارتباط بين أشكالها المختلفة خصوصاً السياسية منها والاقتصادية، واللتين تعدان (محور إشكال التنمية الأخرى). وعلى وفق نوعية طبيعة المنهج الذي اخترناه وهو المنهج المقارن لابد من تعزيز ما قدمناه له هو معهود عند المتخصصين والدارسين أن مفهوم التنمية ارتبط بعالم الجنوب النامي (تحديداً) مما يجعل من الصعوبة بمكان الإتيان بمثال من العالم المتقدم في هذا المجال، إلا أن ظاهرة الفساد ظاهرة عرفها العالم بأسره سواء أكانت في الجنوب أم في الشمال لذا ومن خلال مثال حي لشكل الفساد في عالم الجنوب والمؤثر على عملية التنمية نميط اللثام عن فساد العالم المتقدم وبذلك سنحاول إعطاء الوضوح لصور الفساد (من خلال التنمية) في كلا العالمين الشمال والجنوب.
فقد بات من الواضح أن معظم دول الجنوب تعتمد على المساعدات والإمكانات الفنية الخارجية التي في الأغلب تأتي من دول الشمال المتقدم وقد استعرضنا فيما سلف (من فصول هذا البحث) قانوناً في الولايات المتحدة الأمريكية صدر عام 1977 (بعد فضيحة وتر غيت) يمنع الشركات من دفع الرشى لمسؤولين في الدول النامية لأغراض الفوز بعقود المشاريع أو التوريدات إلى تلك البلدان، على أن الكثير من الدول المتقدمة قد رفضت تبني مثل هذا القانون الأمريكي ولو بالاسم وعلى سبيل المثال ألمانيا، كندا، الدانمارك وسويسرا لاستفادتها من آليات الإفساد والفساد لتمرير عقودها وتنفيذها للمشاريع في البلدان النامية.
__________
(1) د. أكرم بدر الدين/ ظاهرة الفساد السياسي/ م س ذ/ ص32.(1/183)
لهذا لاحظت الشفافية الدولية (Ti) أن نسبة (5%) تدفعها دول الشمال عمولة في تلك البلدان التابعة لعالم الجنوب للفوز بعقد تنموي في أحد هذه البلدان النامية، وأن النسبة المذكورة تحفز شهية المدراء، والوزراء، وكبار المسؤولين العموميين حتى قمم الهرم السياسي للحصول عليها، على أن هذه النسبة راحت تبدو قليلة في بعض بلدان الجنوب مما دعا المسؤولين فيها إلى مطالبة الشركات برفعها إلى نسبة تتراوح بين (10ـ 15%) من قيمة العقد أو المشروع التنموي لذلك شخصت هذه الحالة بشكل يبين مدى كون هذه المساعدات والإمكانات الفنية ضعيفة ومؤثرة على الوضع الاقتصادي، حيث يظهر الأنموذج الأندنوسي تحليلاً لها طبقاً لتصريح (سوميرتو جوكو دكو سمو) وزير المالية الأسبق أطلقه عام 1993 الذي جاء فيه:
((إنه لو أمكن وقف الهدر والفساد في المال فإننا لن نعود بحاجة إلى المساعدات الأجنبية)) لتعطي التفصيل الكامل لمدى تأثير المساعدات المالية والإمكانات الفنية على أوضاع تلك البلدان(1).
إن هذه العمولات المشار إليها التي يتقاضاها الموظفون العموميون أو كبار الساسة تحتسب كنسبة مئوية على كلف المشاريع من قبل المؤسسات التي تفوز بالعطاءات ولذلك تأخذ الدراسات المتخصصة في الفساد بنظر الاعتبار برؤية مفادها أن المرتشين في تلك المشاريع تكون فائدتهم من ريع الفساد أكبر كلما كان مدى أو حجم المشروع أكبر استناداً للنسب (العمولة) التي تردها من أعمال تلك الشركات في بلدانهم النامية، لذلك يرى أن عمولة مقدارها (2%) من كلفة إنشاء طريق ذي أربعة ممرات تبدو أكثر إغراء من مقدار العمولة نفسها عن كلفة إنشاء طريق ذي ممرين(2).
__________
(1) شوقي رافع/ عولمة الفساد/ مجلة العربي الكويتية/ العدد 481/ ديسمبر 1998/ ص143.
(2) Vitotanzi & Hamid Davoodi/ Roads to No where: How corruption in public investment hurts growth/ Washington, D.C/ IMF 1993. pp 4-5.(1/184)
وقد يقوم أولئك المرتشون أيضاً بتكييف العطاءات للمشاريع على وفق مصالحهم الذاتية ومصالح المؤسسات التي تنفذ تلك المشاريع (بالاتفاق) لكي تحظى بذلك العطاء الذي تم تفصيله جاهزاً لها، على أن هذه المؤسسات نادراً ما يصيبها أذى من دفع تلك المبالغ للفوز بالعطاءات المذكورة لسهولة استردادها من قبلها (تعويضاً لتلك الكلف) من خلال الآليات الآتية:
1 ـ إما بالاتفاق المسبق بين الفاسدين من الموظفين العموميين (المستفيدين من ذلك العطاء) وبين المؤسسات التي تبغي الحصول على العطاء المذكور، يجعل الأخيرة تدخل كلف الرشاوى والعمولات ضمن تكاليف العطاء ذاته.
2 ـ أو أن المؤسسة تستطيع التفاهم مع أولئك الموظفين العموميين الفاسدين على تكييف العطاء المقدم واطئ الكلفة الأولى إلى كلفة أعلى عن طريق ما يعرف بإدخال التعديلات على التصاميم الأولية للمشاريع والعطاء.
3 ـ كما يمكن أن تعيد الشركات كلف الرشاوى بأسلوب الكلف الإضافية ذات الأسعار العالية. ككلف مضافة فيما بعد.
كل ذلك ينتهي بمشروع أكثر تكلفة أو أكبر من حيث السعة ولكن بلا جدوى وفائدة تذكر، أو بمشروع ذي تعقيدات غير مطلوبة أصلاً ولا تدخل في صلب موضوع المشروع المذكور، وربما ينتهي المشروع إلى حالة رديئة تتطلب كلف إدامةٍ وتصليح عالية(1).
__________
(1) Ibid., pp 4-5.(1/185)
أي بمعنى آخر قد يفضي تخصيص عقود التوريدات العمومية عن طريق آلية فاسدة إلى تدني البنية الأساسية والخدمات العمومية. إن المسؤولين الحكوميين الفاسدين يسعون دائماً إلى تفضيل تلك الأنواع من المشروعات التنموية (إن صح القول فيها) ذات الإنفاق الذي يمكنهم من جمع ريع الفساد والرشاوى والمحافظة على سريتها، ويلمح بعض المهتمين بدراسة تلك الحالات إلى أن الإنفاق الكبير على بنود متخصصة مثل بناء الجسور والسدود التي يصعب تقدير قيمتها السوقية المضبوطة تفضي إلى مزيد من الفرص المربحة للمفسدين(1).
لقد أصبح جلياً أن تلك القطاعات المذكورة (الأشغال والإنشاءات الضخمة) ينظر إليها على أنها الأكثر تعرضاً للفساد يليها في ذلك قطاعات الدفاع(2)، طبقاً لمسح أجرته مؤسسة (غالوب) الدولية بتكليف من الشفافية الدولية (Ti) ـ ولعل المخطط الآتي يوضح ذلك بشكل واسع:
يلاحظ أن قطاع الأشغال يحتل الدرجة (1.5) في التدرج وهي أقرب الدرجات لأعلى مستوى للفساد في حين يحتل قطاع الدفاع الدرجة (2) وهي أبعد قليلاً عن مستوى قطاع الأشغال.
مستوى
التحرر من الفساد
قطاع ... قطاع ... ...
الدفاع ... الأشغال
والتسلح
نوع القطاع
المصدر: www. Imf.org/Fandd – شكل رقم (1)
__________
(1) باولو ماورو/ تأثير الفساد على النمو والاستثمار والإنفاق الحكومي/ في كيمبرلي أن اليوت (محرراً)/ الفساد والاقتصاد العالمي/ محمد جمال إمام (مترجم)/ القاهرة/ مركز الأهرام للترجمة والنشر/ 2000/ ص ص 127- 128.
(2) جيرمي بوب- وفرانك موجل/ لكي تصبح أجهزة مكافحة الفساد أكثر فاعلية/ مجلة التمويل والتنمية/ واشنطن/ عدد يونيه 2000/ص7.(1/186)
ولإثراء ذلك بأنموذج تطبيقي سنتناول مثالاً من الأرجنتين حالة للدراسة، إن (سد ـ ياسريتا)(1) المقام على النهر الفاصل بين الباراغواي والأرجنتين استحق لقب (نصب الفساد) حيث قاربت مدة إنشائه على الربع قرن من دون جدوى، ففي عام 1973 تم الاتفاق الأولي على إنشائه وتناوبت العديد من العهود والرؤساء وعشرات من الوزراء على ذلك السد من دون إكماله وكان الجميع إن صح التعبير يرضع من ضرع الفساد لذلك السد الذي أشرف على تمويله البنك الدولي، ويشار إلى أن الكلفة الأولية له كانت قد قدرت (بمليار ونصف دولار أميركي) وعلى إثر ذلك التقدير تسلمت حكومة الجنرالات قرضاً بقيمة (مئتين وعشرة ملايين دولاراً أميركياً) عام 1979. وعندما تسلم (راؤول الفونسين) عام 1983 زمام السلطة من الحكومة العسكرية ظهر أن قائمة الحساب للسد قد ناهزت (المليار من الدولارات الأميركية)، وبعد مناقشات طويلة حول الاستمرار في إكمال إنشاء السد جرى الحصول على قرض جديد بقيمة (مئتين واثنين وخمسين مليون دولار أميركي) من البنك المذكور لإتمام الإنشاء وذلك عام 1988 إلا أن الفاتورة أصبحت عام 1990 ضعف الكلفة الكلية المقدرة مع أن حجم الأعمال الإنشائية لا يزيد على (60%) فقط(2).
__________
(1) تجدر الإشارة أن سد ـ ياسريتا مقام على نهر منابعه في وسط القارة الأميركية الجنوبية ويمر مجراه على مقربة من عاصمة البرغواي (اسانسيون – Asuncion) الذي ينحدر ليصب في رأس الذراع البحري الذي تقع عليه (منتيفديو) و(بوينس أيرس)، وتأتي أهمية السد من كون الأرجنتين بلد يحتاج لتنمية موارده المائية الزراعية والسمكية كونه بلد زراعي يشتهر بزراعات المحاصيل النجيلية وإنتاج اللحوم.
(2) شوقي رافع/ عولمة الفساد/ م س ذ/ ص143.(1/187)
عندما تولى (كارلوس منعم) السلطة وجرى التفاوض مع البنك مرة ثالثة حصلت الأرجنتين بموجبه على قرض جديد بقيمة (ثلثمئة مليون دولار أميركي) لمتابعة البناء عام 1992، إلا أن بعثة البنك الدولي التقييمية التي زارت الموقع بعد (ثلاث سنوات) من منح آخر قرض اكتشفت أن (خمسة عشر ألفاً) من المزارعين الذين أفقدهم بناء السد أراضيهم لم يتم تعويضهم نهائياً ولم يمنحوا أي بدل مالي، أو أي جزء من أرض بديلاً لأراضيهم، فضلاً عن أخطاء وفضائح فنية ضمن الأعمال الإنشائية يمكن إطلاق تسمية (fish - get) عليها حيث إن إنشاء مصعد للأسماك بكلفة (خمسة وعشرين مليون دولار أمريكي) يصلح لصعود السمك عكس التيار فقط ولا يسمح له بالعودة بعد وضع البيوض وعدم تمكن السمك من الخروج من ذلك المصعد يشكل عبئاً وخطأ فنياً جسيماً وتبديداً لثروة طبيعية مهمة.
يذكر أن شكوك الفساد في هذا المشروع تحوم حول جميع العقود التي تم توقيعها مع الشركات الكبرى المنفذة التي يعود أغلبها إلى الدول الأكثر مساهمة في البنك الدولي مما يمكن من الحصول على أكبر عدد من المشاريع التي يمولها البنك المذكور، عند هذا سيتضح جلياً أن الدول الممولة عن طريق البنك هي التي تجني(1) أرباح التمويل وفوائد القروض مستفيدة بذلك من فساد الذمم.
__________
(1) المصدر نفسه/ ص143.(1/188)
إن حالة (سد ـ ياسريتا) تعطي المثال البيّن عن أثر الفساد في التنمية وكيف تتداخل آليات فساد الذمم ومشروعات التنمية غير النزيهة التي تضرب مفاصل مهمة في حياة الشعوب ليس هذا فحسب بل إن العديد من التجارب التنموية ومشاريعها مفعمة بالأمثلة التي جاءت بها أعمال الفساد، مثال ذلك طرق مليئة بالحفر مباشرة بعد انتهاء عقد إكمالها، أو مصانع للقدرة تتعرض لانطفاءات وتوقفات منتظمة، ونظم مياه وصرف صحي لا تعمل البتة، كذلك فإن الفساد يؤدي دوراً كبيراً في مشاريع تنجز ولكن لا تستخدم أبداً لأنها رديئة منذ البدء وتحتاج إلى إدامةٍ وإصلاح مستمرين ثم إن قدرتها الإنتاجية مخيبة للآمال، إذاً وفي حالة كهذه يفشل رأس المال في توليد النمو بسبب آلية الفساد المستمرة والمستشرية في كل المفاصل(1).
جدير بالملاحظة أن بعض المفسدين من ساسة وموظفين عموميين ممن باعوا أمانتهم يهملون إدامة البنى التحتية المادية الموجودة لانتزاع عمولات إضافية من مشروعات استثمار جديدة في حين أن تلك البلدان تستطيع أن تحصل على ناتج أكبر من البنى التحتية الموجودة أصلاً (عندما يتم إدامة تلك البنى وإبقاؤها في حالة عمل جيدة) حيث إن تدهور تلك البنى يؤخر النمو أكثر مما تفعله المشاريع الجديدة من إضافة للنمو(2).
وتأسيساً على ما تقدم نخلص إلى ما يأتي:
__________
(1) لمزيد من التفصيل انظر:
Vitotanzi & Hamid Davoodi. Opcit p-5.
(2) انظر كذلك:
Ibid, p.5(1/189)
إن التنمية مفهوم برز خلال أواسط القرن المنصرم بشكل واسع بالرغم من أنه مفهوم متعارف عليه قبل تلك الفترة بمدة قصيرة، وكان في البداية مفهوماً ينظر إليه نظرة (اقتصادية) بحتة إلا أن بروز تجارب للتنمية لم يكن العامل الاقتصادي هو محورها الرئيس جعل المفهوم يأخذ أبعاداً اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية لذلك ظهرت في ستينيات القرن المنصرم مفاهيم جديدة حول أنماط التنمية ذات الأبعاد المشار إليها، لقد تعددت الرؤى حول أي الأنماط هو المتغير المستقل وأيها التابع له إلا أن ذلك لم يتجاوز أنَّ من يتصدر الأنماط بكونه المتغير المستقل محصوراً ما بين (التنمية الاقتصادية) و(التنمية السياسية) وبينا ذلك بالتفصيل فيما سلف من خلال الاتجاهات التي قال فيها الفقهاء آراءهم في ذلك، على أننا نرى أن (الفساد) له أنماط وأشكال متعددة من الصعوبة بمكان العزل والفصل فيما بينها كذلك هي (التنمية) من الصعوبة بمكان الفصل على الأقل بين نمطيها (الاقتصادي) و(السياسي) حيث أن كلتا الحالتين مرتبطة بالأخرى ارتباط الجنين بأمه وقد أثبتت الاتجاهات المشار إليها ذلك (انظر الآراء فيما سلف من هذا البحث).
وبناء على ذلك وللربط ما بين موضوع (التنمية) و(الفساد) فقد بات من الواضح أن الفساد سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم إدارياً له الأثر الكبير على التنمية بكل أبعادها وما يشكله من عائق مهم عليها.(1/190)
ولنبني بيئة خالية من الفساد الاقتصادي المؤثر على التنمية الاقتصادية لابد من تفعيل دور المؤسسات السياسية القائمة أو استحداثها إن لم تكن موجودة ولا يتأتى ذلك إلا من خلال إفساح المجال أمام المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي، الذي قد يكون في محصلته يخطط لعملية اقتصادية أو تنمويه وليكون ذلك القرار وتلك العملية تتسم بشفافية السياسة وتسمح بمساءلة المسؤولين عن تنفيذها وتلك شروط لا يحققها إلا الحكم الصالح الذي يؤمن بأن التنمية هي عملية كل الأفراد وليس قراراً يوضع من وراء باب موصد وبذلك يضمن تقليل فرص الفساد الذي إذا ما استشرى فسوف تكون عواقبه وخيمة على الاقتصاد والسياسة وحياة المجتمع بأسره.
((
الفصل الثاني
أثر الفساد في السيادة وسداد الديون
الخارجية والنظام العام
الحديث عن السيادة والمديونية والنظام العام وأثر الفساد عليها يشكل أهمية ذات خصوصية.
فمحور السيادة من جهة ومحور النظام العام من جهة أخرى إذا ما أصيبا بالخلل فإنهما سوف ينعكسان على البيئة الداخلية للمجتمع والدولة، لإحداثهما اختلالات لا يمكن قياس مدى حجمها تؤثر على تلك البيئة وهي في الوقت عينه تؤثر على بيئة الدولة الخارجية وعلاقاتها في محيطها الدولي أيضاً.
ولكي نصيب كبد الحقيقة في مبحثنا هذا لبيان أثر الفساد على المحورين المشار إليهما نورد أن الفساد عرفته دول الشمال كما عرفته دول الجنوب على حد سواء طبقاً لفرضيتنا إلا أن استشراءه في الجنوب كان أكبر من دول الشمال يرافقه ما أكدته العديد من الآراء والدراسات المتعلقة بالمحاور المشار إليها التي تتطابق مع الفرضية ولكون عالم الشمال يمتاز بنسبة معقولة من استقرار المؤسسات، وثبات القوانين، وتنامي الفائض المالي فإن التركيز ضمن هذا الفصل سيكون على مناقشة حالة عالم الجنوب بشكل أوسع وأكبر لما يمتاز به من كثرة المديونية وعدم وضوح القوانين واتسام الكثير من مؤسساته بعدم الاستقرار.(1/191)
وللدخول في صلب المحاور سننطلق أولاً من محور السيادة وسداد الديون ثم نتناول الأثر على النظام العام طبقاً لما يأتي:
محور: أثر الفساد على السيادة وسداد الديون الخارجية
لكي نبيّن أثر الفساد على السيادة وعلاقة ذلك بسداد الديون لابد أن نعرض لمعنى السيادة بشكل بسيط أولاً.
((فالدولة ذات السيادة Sovereign state) تعني أن تلك الدولة هي سيدة أمرها ومطلقة التصرف في شؤونها الخاصة، وأنها الجهة العليا التي يخضع لها مواطنو البلد، وهي التي تصرف شؤونها خارجياً وداخلياً حيث تسن التشريعات وتفرض الضرائب وتعلن الحرب وتقيم السلام وتبرم الاتفاقات مع غيرها من الدول ذات السيادة أو الهيئات ذات الشخصية القانونية))(1).
لهذا فإن من الواضح أن السيادة هي شرط للاستقلال السياسي الذي تتمتع به الدولة عندما تعترف مثيلاتها من الدول بها بوصفها المصدر الوحيد للممارسة الشرعية للسلطة داخل أراضيها. وقد يواجه مفهوم السيادة الوطنية مشكلات عندما تكون الدولة ملزمة بمعاهدة على إطاعة قرارات من خارج نظامها السياسي الوطني (كما هي الحال في الاتحاد الأوروبي مثلاً)(2)، أو أن الدولة تطيع قرارات خارجية إزاء التزامات عليها تطبيقها جراء اقتراضها لاحتياجها للمعونة الخارجية (كما هو الحال في قروض صندوق النقد الدولي IMF).
__________
(1) حارث سليمان الفاروقي/ المعجم القانوني/ بيروت/ مكتبة لبنان/ 1982/ ص653.
(2) جيوفري روبرتز/ المعجم الحديث للتحليل السياسي/ سمير الجلبي (مترجم)/ بيروت/ الدار العربية للموسوعات/ 1999/ ص ص 427- 429.(1/192)
يذكر أن الاتفاق مع المؤسسات المالية النقدية الدولية يتطلب موافقة المقترض (أي الدولة) على القيام بتنفيذ شروط تلك المؤسسات سياسياً واقتصادياً مما يفسح المجال للتدخل في سيادة تلك الدولة (بتطبيق عنصر الجزاء) إذا ما أخلت بتقيد تلك الشروط التي تفرض عليها في حالة كون الالتزامات المحلية للدولة ضعيفة لا تمكنها من سداد القروض(1).
وبعد هذا التقديم لابد أن نضع تساؤلاً تكمن في إجابته حقيقة الوقوف على الإشكالية ما بين (الفساد، السيادة، المديونية) والتساؤل هو:
إذا كانت الدولة المقترضة تقيد نفسها بالتزامات تمكن المؤسسات المقرضة مما فرض شروط تخرق سيادة الدولة المحتاجة، فكيف يكون الأمر إذا ما تفشي الفساد في مفاصل تلك الدولة؟ وكيف هو الأمر إذا ما وجهت القروض لغير وظيفتها الأساسية؟ وما مآل الأمر إذا أخلت تلك الدولة بسداد القرض؟
أسئلة سنتناول إجابتها لبيان الإشكالية التي عرضنا لها فيما تقدم.
حيث من الملاحظ أن الكثير من دول عالم الجنوب (التي تكون في حاجة للقروض على الأغلب) تلجأ إلى المؤسسات المالية الدولية للاقتراض منها، وأن تلك المؤسسات قدمت العديد من القروض للدول في عالم الجنوب وحتى للدول في عالم الشمال (علماً أن قسماً من هذه الأخيرة تنتمي إلى هذه المؤسسات) خلال الأزمات التي اعترضت تطورها، إلا أن الملاحظ على حكومات عالم الجنوب أنها توجه تلك القروض تجاه مشاريع أو جهات أخرى لا تمت بصلة إلى التنمية والتطور حتى أن الإحصاءات تشير إلى توجيه نحو (25%) من تلك القروض للتسليح فقط، وهذا أمر لا يحدث تنمية مطلقاً(2)
__________
(1) البنك الدولي للإنشاء والتعمير/ الدولة في عالم متغير/ (تقرير التنمية البشرية 1997)/ ترجمة مركز الأهرام للترجمة والنشر/ القاهرة/ 1997/ ص108.
(2) راجع فقرة التسليح في الفصل الثاني.
... حنان البيلي/ الفساد المؤسسي/ سلبيات الأداء/ مجلة السياسة الدولية/ العدد 143/ يناير/ 2001/ ص229.(1/193)
فضلاً عن أن نسبة كبيرة من تلك القروض توجه إلى حسابات خاصة لأعضاء النخب السياسية. ولعل أنموذج أمريكا اللاتينية وخصوصاً (المكسيك) مثال صارخ على تحويل تلك القروض للحسابات الشخصية لكبار المسؤولين مع الأخذ بنظر الاعتبار (ما سبق وأن أشرنا إليه) إلى أن الكثير من تلك الأموال التي تقترضها الدول توجه لمشاريع رديئة النوعية ينجم عنها تسريب كثير من كلفها (رشاوى للموظفين العموميين تضاف على قيمة تلك المشاريع)(1) تدفع من قبل المنفذين لهذه المشاريع عديمة الجدوى(2).
كل هذه الأسباب تدفع المؤسسات الدولية المقرضة لإملاء شروط على الدولة المقترضة تحسباً لتسريب أموال القرض، التي تكون إمكانية سداده أشبه بالحالة المستحيلة في ظل الآليات الفاسدة التي قدمنا لها خصوصاً وأن الحالة تخص (دول عالم الجنوب) التي تتسم دوله بكونها فقيرة بالأساس.
إن القرن المنصرم (القرن العشرين) شهد مع نهاياته حالات أصبحت في ظلها الدول الفقيرة أكثر فقراً نتيجة لعوامل (طبيعية، اقتصادية، أو سياسية) مما جعل الكثير من دول عالم الجنوب تسير بخطاها نحو الهيئات المالية الدولية للحصول على قروض جديدة إضافة إلى القروض السابقة التي أتلفت طبقاً للآليات المشار إليها، مما دعا تلك الهيئات وعلى رأسها صندوق النقد الدولي للمطالبة بشروط قاسية لضمان سداد القروض.
__________
(1) راجع الفصل الأول من هذا الباب قضية سد ياسريتا الأرجنتيني.
(2) أنظر في ذلك:
... د. نبيل علي/ مقاربة سوسيولوجية ـ اقتصادية لظاهرة الفساد/ (بحث غير منشور)/ دمشق/ المعهد العالي للعلوم السياسية/ 2000/ ص.
... وكذلك د.دريد درغام /الآثار الاقتصادية للفساد/ جمعية العلوم الاقتصادية السوريه/ 23-4-1999/ ص50.(1/194)
ولهذا برزت الوصفات التي تنادي بالتعديلات الهيكلية والدعوة لخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات، ورفع أسعار الفائدة، وفتح الأسواق أمام المستثمرين الأجانب، التي يقع ثقلها الأساس على كاهل المواطنين الذين يعيشون في الكثير من دول عالم الجنوب إما على خط الفقر أو دونه بقليل أو أعلى منه بقدر ذلك، مما يجعل الحياة بالنسبة إلى هؤلاء شبه مستحيلة.
إن هذه المعاناة أدت في الكثير من الأحيان إلى حدوث قلاقل اجتماعية (في البلدان التي سارت على نهج الوصفة القاتلة للإقراض التي سبق التطرق إليها في مواضع سابقة) مما زعزع الاستقرار، وزاد من حجم المعاناة بكثرة(1).
كل هذا كان نتاجاً لآليات الفساد التي صاحبت هذه الأموال والتي جعلت دولة مثل (أندونيسيا) تسير على نهج الوصفة التي قدمها الصندوق لتعيش حالة تدهور اقتصادها وكثرة مشكلاتها.
__________
(1) انظر/ حنان البيلي/ الفساد المؤسسي/ م س ذ/ ص229.(1/195)
إن الصورة الفوتوغرافية التي عرضت على معظم أرجاء المعمورة التي تصور الرئيس الأسبق لأندونيسيا (سوهارتو) وهو يوقع تحت أنظار (ميشيل كامديسو) مدير صندوق النقد الدولي، الاتفاق مع الصندوق لإقراض أندونيسيا مبلغ (ثلاثة وأربعين مليار دولار) لإخراجها من أزمتها، تدل على كيفية الإجبار والخشونة غير المسبوقة التي تعاملت بها إدارة الصندوق مع (سوهارتو) وهو رئيس دولة ذات سيادة فرضت عليها شروط لتطبيق برنامج للإصلاح المالي، اضطرته وهو صاحب السيادة فيها إلى التنازل عن جزء من ماله الشخصي الخاص ما مقداره (خمسة مليارات دولار أميركي) مساهمة منه في ذلك الإصلاح، وكان الأمر بعد هذا الرضوخ لتطبيق تلك القرارات الخارجية (التي تفقد الدولة استقلاليتها السيادية في تشريعاتها واتباع سياسة خاصة بها) أن أطيح (بسوهارتو) وافتضح سر أخطائه المالية وفساده الذي جرَّ البلاد إلى أزمات اقتصادية، ونزعات انفصالية وحركات عصيان تنفجر بين الحين والآخر، وربط البلاد مالياً بقرار خارجي لا يمت للرأي الداخلي بأي صلة مما أضعف استقرار ذلك البلد(1).
إن مقارنة بسيطة بين الحالة الأندونيسية وحالة جارتها ماليزيا تبين الأثر السيء للتدخل الخارجي على سيادة الدولة حيث رفضت ماليزيا إقامة اتفاق مع صندوق النقد الدولي والانصياع لوصفته للتغلب على أزمتها المالية، فما كان من حكومتها إلا أن وضعت خطة للسير تجاه سياسات اقتصادية مبنية على أسس سليمة معتمدة على تنمية الصادرات بسرعة وكان نتيجته أن استطاعت دون غيرها الخروج من أزمتها من غير مشكلات ولا قلاقل اجتماعية مما دعا رئيس حكومتها للقول ((إننا لو اتبعنا خطط الصندوق لكان الانتكاس ملازماً لاقتصادنا))(2).
__________
(1) محمود المراغي/ عصر من الفساد (من فساد السفح إلى فساد السلطة)/ مجلة الكتب وجهات نظر/ العدد (21)/ أكتوبر 2000/ ص44.
(2) حنان البيلي/ م س ذ/ ص229.(1/196)
إن مالا يغيب عن مدى الرؤية بأن كثيراً من دول الجنوب تعاني من عوامل ضعف عديدة مشخصة، يشكل الفساد واحداً منها، يضاف إليه أن العوامل هذه تجعل الدول تلجأ إلى الاقتراض لتلبية حاجاتها الأساسية تحت شروط إقراض تعسفية وتدخلية، وفي ظل أوضاع كهذه تكون الدول بحاجة إلى القروض رغم أنها فاقدة القدرة على سدادها، مما يجعلها رهن وضع لا يسمح لها بتراكم رأس المال المحلي الذي تستطيع عبره (تلك الدول التي هي فقيرة في الغالب) أن تبني قاعدة إنتاجية معطاء تدر دخلاً حقيقياً يساعد على تلبية ضرورياتها وبالوقت نفسه يساعد على السداد التدريجي لتلك القروض وتبعاتها الذي يعد مطمحاً بعيد المنال عن إمكانيات تلك الدول(1)، مما يجرها إلى قبول الشروط القسرية للإقراض التي تفقدها في الغالب خصوصيتها السيادية على أراضيها وثرواتها الطبيعية، الأمر الذي يضطر البعض من تلك الدول إلى رفض القروض حفاظاً على المتبقي من شتاتها.
ولكي نعطي لما تقدم بعده التطبيقي سنتناول دراسة حالة (المكسيك) وكيف وصلت السياسات الإقراضية إلى حد تقييد سلطة الحكومة على ثرواتها مما جعلها ترفض المساعدات التي هي في أمس الحاجة إليها في النهاية.
__________
(1) د. أسامة عبد الرحمن/ تنمية التخلف وإدارة التنمية/ بيروت/ مركز دراسات الوحدة العربية/ حزيران 1997/ ص ص 177- 124.(1/197)
لقد سبقت الإشارة إلى معاناة (المكسيك) من حالات فساد النخبة السياسية التي تظهر تفاقم هذه المشكلة بالإضافة إلى مشكلات أخرى (مالية واقتصادية) جعلت البلاد وحكوماتها تنصاع إلى إرادات الهيئات المالية التي لجأت إليها المكسيك للإقتراض منها، وما التعليمات التي أصدرها صندوق النقد الدولي لتحقيق شروط إقراضه ذلك البلد بتخفيض عملته الرسمية (البيزو) إلا السبب الرئيس في انفجار الأزمة المكسيكية لما نجم عن ذلك التخفيض من تدهور قيمة عملة (البيزو) بشكل عنيف وفوري حتى وصل الانخفاض إلى أرقام خطيرة، جعلت الولايات المتحدة الأمريكية (الكثيرة الاستثمارات في المكسيك) خلال فترة إدارة الرئيس (بيل كلينتون) تقترح تقديم قرض للمكسيك بقيمة (أربعين مليار دولار) لإنقاذها من محنتها، مع تحسب تلك الإدارة من أن يلحق الأذى بالمستثمرين الأميركان وكذلك إمكانية التعرض للهجرة من المكسيك إلى أراضيها نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي في الأولى(1).
إن المقترح المذكور لم يحظ بموافقة الكونغرس إلا في حالة أن تقدم المكسيك ضمانات ضمن سياق ضمانات القروض التي كانت غاية في القسوة ومن أهمها:
أن تكون عائدات البترول المكسيكي ضماناً لسداد القروض التي ستقدم للمكسيك بضمانة الحكومة الأمريكية.
وعلى إثر ذلك صرح وزير الخزانة في الإدارة المذكورة أن عائدات البترول سوف تودع في حساب خاص في البنك المركزي الأميركي بنيويورك وتشرف عليه هيئة مالية ونقدية مستقلة يكون من حقها الإشراف على السياسة الاقتصادية للمكسيك، بالإضافة إلى مطالبات أمريكية أخرى مثل الحد من الهجرة المكسيكية إلى الولايات المتحدة وتعزيز إجراءات مكافحة المخدرات، والتوقف عن مساعدة كوبا.
__________
(1) سعد الدين وهبة/ من الانفتاح إلى الخصخصة (النهب الثالث لمصر)/ القاهرة/ دار الخيال/ 1997/ ص ص 176- 179.(1/198)
إن معظم هذه الشروط تعد انتهاكاً خطراً لسيادة المكسيك مما دفع وزير الخارجية المكسيكي للإعلان (بأن بلاده ترفض أي عدوان على سيادتها).
إن مثال المكسيك يكشف أن الهيئات المالية الدولية بالتعاون مع البعض من دول الشمال تستفيد من إفلاس بعض الدول ليتاح لها شراء استقلالها بقرض أو أكثر وبالتالي تسيطر على سيادة تلك الدول وتخرقها. إن دولة مثل المكسيك تتمتع بثروات طبيعية وإمكانات لا بأس بها ما كان لها أن تصبح في موقف كهذا تحت سيطرة القوى المهيمنة الرأسمالية لو كانت مؤسساتها ونخبها لا تعرف الفساد الذي نعود ونقول إنه أحد أبرز مشكلات المكسيك الذي أثر على سداد ديونها وسياستها النقدية وليس المشكلة الوحيدة(1).
بعد هذا العرض لإشكالية العلاقة بين الفساد، السيادة، أزمة الديون، وبيان ما يولده الفساد من مشكلات (تدخل خارجي في سياسات الحكومة الوطنية وإملاء شروط هي في غنى عنها لو كان أعضاء نخبها السياسية ومسؤولوها العموميون بعيدين عن آليات الفساد). لابد لنا من الإشارة إلى ما يؤثره الفساد على النظام العام في المحور الآخر من بحثنا هذا تتمة للموضوع.
محور: أثر الفساد على النظام العام
يظهر من خلال الدراسة لموضوع الفساد أنه موضوع يمد أذرعه إلى كثير من المفاصل في المجتمع والدولة، وله آثار سلبية خطيرة على الأنظمة والتشريعات على حياة الأفراد، عليه يكون بحث أثر الفساد على النظام العام واحداً من أهم تلك الآثار السلبية.
__________
(1) المصدر نفسه/ ص ص 176- 179.(1/199)
إن فكرة النظام العام ارتبطت بالمجتمع والمحافظة على حاجته للاستقرار والسلام، إلا أن تلك الفكرة هي في الأصل فكرة نسبية مرنة تختلف باختلاف الزمان والمكان فهي تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، وربما يصل الاختلاف إلى أن يحدث بين منطقة وأخرى في كيان الدولة الواحدة، طبقاً لفلسفة النظام السياسي السائدة فضلاً عن ما تسبب فيه اتساع دور الدولة وتزايد تدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من سعة في مرونة المفهوم(1).
ولنستطيع الوقوف على ذلك الأثر للفساد على النظام العام (هذا المفهوم المرن) لابد من الاستفادة من الآراء التي حددت وحاولت وضع فكرة النظام العام في إطار قانوني وإعطاء دلالة مفهومية له برغم صعوبة تحديد مفهوم جامع مانع للفكرة.
حيث يرى البعض ومنهم أستاذ القانون الفرنسي (Hauriou) في النظام العام "أنه حالة واقعية عكس الفوضى، وعندئذ يكون النظام العام معداً لا ليستخدم لوصف وضع سلمي هادئ".
أي أن يفسره على أساس حالة الفوضى فحسب، وليس لوصف حالة الاستقرار في الأوضاع السلمية الهادئة، والذي حدا بأستاذ فرنسي آخر هو (Blaevoeet) أن يعرفه "بأنَّ غاية الضبط هي حالة واقعية سلبية وكل أعماله تستهدف منع الإضراب".
ما ورد يدل أن التفسير يحصر النظام العام في حالة سلبية لا تدعو الضبط إلى التدخل إلا إذا أُحْدِثَ تهديد أو اضطراب(2).
ولتوسيع دور الدولة وتطوير المفاهيم برزت أفكار جديدة بخصوص النظام العام منها رأي (د. محمود عصفور) الذي يقول:
((
__________
(1) عاشور سليمان صالح/ مسؤولية الإدارة عن أعمال وقرارات الضبط الإداري (دراسة مقارنة/ بنغازي/ جامعة قاريونس/ 1997/ ص128 وما بعدها.
(2) المصدر نفسه.(1/200)
لا يمكن أن يُعَرَّفَ النظام العام التقليدي تعريفاً سلبياً وهو اختفاء الإخلال، وإنما يجب أن ينطوي على معنى إنشائي يتجاوز النتيجة المباشرة، ولهذا لم يعد الهدوء العام يعني القضاء على الضجة والاضطرابات الخارجية وإنما راحة السكان))(1).
لذا على أساس اتساع فكرة النظام العام من خلال ما قدمنا له ذهب البعض إلى تعريف النظام العام على أنه:
((ذلك التنظيم الذي يتسع ليشمل جميع أبعاد النشاط الاجتماعي))
بعد هذا لابد لنا من القول بأن الآراء استقرت بعد ذلك في الفقه القانوني على أن مدلول النظام العام يتضمن عناصر ثلاثة (الأمن العام)، (الصحة العامة)، و(السكينة) كعناصر تتضمن أغراض النظام العام وأهدافه(2).
إن العناصر الثلاثة المشار إليها كمدلولات للنظام العام ترتبط بها الأمثلة الآتية التي سنحاول من خلالها توضيح المراد من مبحثنا هذا.
__________
(1) للمزيد من التفصيل/ انظر/ د. محمود عصفور/ البوليس الدولي/ القاهرة/ 1971/ ص152.
(2) د. عاشور سليمان/ م س ذ/ ص128.(1/201)
إن المراقبين للفساد في كثير من الأحيان ينسبون إليه أنه يؤدي إلى آثار سلبية جمة منها العزلة السياسية وعدم الاستقرار التي ينجم عنها النفور العام، وأنموذج المكسيك الذي أشرنا إليه في موضع سبق خير مثال على ذلك ففي ظل قطاع عام يضم أكثر من مليون ونصف عامل، انتشر الفساد في ظل رقابة إدارية بشعة وعديمة الفائدة (على حد تعبير أحد المسؤولين الحكوميين في المكسيك) مما تسبب في انهيار الاقتصاد وجعل موجة النمو في المكسيك تتلاشى كما يتلاشى زبد البحر، وقد وصل أثر ذلك الهياج الشعبي إلى حد أن القرى المكسيكية، وتمرداً منها، بدأت ترفع إلى جانب شعارات (الأحزاب الشيوعية) المطرقة والمنجل شعارات مفادها (ضد الفساد نقف نحن المعارضون)(1)، لذلك يرى أحد علماء السياسة (مايكل نخت ـ NCHT) أن الفساد مؤشر مستقل مهم يدل على احتمال (تغيير نظام الحكم) في دول الجنوب حتماً بعد أخذ عدد من العوامل الأخرى الثابتة إحصائياً بعين الاعتبار(2).
ويستشهد للغرض ذاته أحد الخبراء المختصين (بالشؤون الإفريقية) في دراسة عن الحالة في غانا ما نصه:
((
__________
(1) روبرت كليتجارد/ السيطرة على الفساد Controlling corruption/ علي حسين عجاج (مترجم)/ م س ذ/ ص19 وما بعدها.
(2) لمزيد من التفصيل Michael Nacht, Internal change & Regime stability/ London/ International Institute for strategic studies/ 1981 p. 10 and follows.(1/202)
لما كان عدد كبير من محصلي الضرائب في المناطق الريفية قد نجح في امتلاك البيوت والمزارع في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكسب مجرد دريهمات قليلة، في الشهر، فإنه يصبح من المفهوم تماماً لماذا يتمرد عدد كبير من المزارعين عن دفع الجباية بسبب ما يراه في قريته... كيف يمكن للحكومة أن تتضرع للناس أن يشدوا الأحزمة... بينما يعمل أفراد الطبقة الأرستقراطية الغنية الجديدة وأذنابهم، الذين يطلبون منهم القيام بذلك، على ملء كروشهم وبطونهم، وتعمل زوجاتهم وعشيقاتهم على تكبير غببهن، في تناسب طردي مع نسبة شد الحزام على البطون عند الناس العاديين؟)). والذي يفسر حالات الهيجان عند أولئك المزارعين(1). مما يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام.
وبشكل آخر فإن الإخلال بالنظام العام في (حالة هونك كونغ) قبيل انبثاق لجنة (كيتر) المستقلة للفساد في هونك كونغ (التي ساعدت البلاد على التخلص من الفساد) يمثل دليلاً مادياً آخر على الأثر السلبي للفساد على ذلك، حيث كان الإيراد اليومي لرجال شرطة هونك كونغ ما يوازي عشرة آلاف دولار (هونك كونغ) يومياً، نتيجة للرشاوي التي تقدمها مافيات المخدرات لهم مقابل سكوتهم أو تقديم الإنذار المبكر عن الغارات (على أوكار المخدرات) التي يخطط لها في الدوائر العليا للحكومة، حتى وصلت أمور الرشاوى إلى حد أن كان للشرطة مؤسستهم الخاصة في المقاطعة الغربية من كاولون التي كانت تجمع المال من أوكار القمار والمخدرات عن طريق ضباط الشرطة ذوي الرتب الوسطى. أما أصحاب الرتب العليا فقد كانوا يتلقون مبالغ كبيرة نظير إبقاء عيونهم مغلقة. وقد أقام الطرفان الشرطة ومافيات القمار والمخدرات خطة محكمة لتوزيع المال (الأسود) بما في ذلك استئجار المحاسبين ودفع الأنصبة في ستة بنوك والتحويل إلى العملات الأجنبية حتى أن روائح الفساد العفنة قد سيطرت على
(
__________
(1) روبرت كليتجارد/ السيطرة عل الفساد/ م س ذ/ ص ص 69- 70.(1/203)
70%) من الأخبار عن هونك كونغ في الصحافة البريطانية طبقاً للإحصائيات حول ذلك(1).
إن الأمثلة الواردة تدل على كيفية إخلال الفساد بالنظام العام بدلالة التأثير على عنصر (الأمن العام) أحد مدلولات النظام العام أما ما يختص بدلالة التأثير على عنصر (الصحة العامة) فحسبنا بالمثال المذكور عن أفريقيا وآلية الفساد من خلال بيع المساعدات الطبية خير مثال يدل على ذلك الجانب من الفساد.
أما ما يتعلق بعنصر (السكينة)، فمن الواضح أن الفساد يضرب قاعدة المساواة بين المواطنين لأن من يمتلك نفوذاً سياسياً يستغله لتحقيق منافع خاصة لا يستحقها حارماً منها من يستحقونها وفقاً للمعايير الموضوعية، مما يجعل أولئك المستحقين يشعرون كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية(2). مما يحدث خللاً في (السلم الاجتماعي) (على حد وصف الأستاذ محمد حسنين هيكل) الذي يعرفه بأنه مطلب مركب، مشروط بشرعية السلطة، مشروط بمشروعية الثروة، مشروط بحقوق المواطنة، مشروط بإحساس المساواة بين الناس وإن تفاوتت الكفايات أو حتى الحظوظ، ومشروط بغير ذلك(3).
__________
(1) لمزيد من التفصيل انظر: International Herald Tribune, 18-19 July 1986 -
(2) أ. السيد أحمد النجار/ الفساد مكافحته في الدول العربية/ الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية 2000- القاهرة / مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام/ 2001/ ص170.
(3) أ. محمد حسنين هيكل/ (1995) باب مصر إلى القرن 21/ القاهرة/ دار الشروق: 1995/
ص25.(1/204)
إن ذلك كله يرتبط بتحليل الأستاذ هيكل أيضاً المتعلق بالقضية الجزائرية التي من خلالها نستشف الأثر السيء للفساد على سكينة المجتمع وبالتالي الخلل في النظام العام، حيث أورد بتاريخ 12/أيار (مايو) 1997 مقالة تحت عنوان (ذبح الوطن والمستقبل في الجزائر) يعرض فيها إلى أنه منذ تاريخ كتابة مقالة سابقة عن الجزائر من قبله تحت عنوان (سحق الديمقراطية بهدف إنقاذها) بتاريخ 27/ (إبريل) نيسان/ 1992 والجزائر شهدت حوادث قتل مائة وثمانين ألف رجل أي بواقع 250 شخصاً مقتولاً كل يوم إذا ما قسم العدد الكلي على فترة خمس سنوات (هي الفترة بين المقالتين) في بلد كانت لديه كل طاقات وإمكانات التقدم عند استقلاله (بنية أساسية لابأس بها تركتها فرنسا، موارد بترول وغاز، حجم سكاني معقول، زراعة متطورة، وإمكانات صناعية قابلة للنمو).
لكن البلد هذا برغم كل الخريطة المهيأة للتقدم تعثر في الطريق بسبب مواريث التخلف (حالة عانت منها الكثير من دول عالم الجنوب) إلى جانب هشاشة في التركيب الاجتماعي والطبقي، التي أعطت فرصة لبيروقراطية عسكرية للاستيلاء على السلطة في ظل الحرب الباردة وصراع العقائد، وتضارب نماذج التنمية، في وطن حديث العهد بالاستقلال مما أنتج حالة من الاختناق شد وثاقها ثنائي (العجز) و(الفساد)(1).
ويضيف (هيكل) إلى أن كل الأطراف الجزائرية في أعقاب نهاية الحرب الباردة أحست أن المأزق أمام الجزائر هو الحل الديمقراطي.
__________
(1) ا. محمد حسنين هيكل/ المقالات اليابانية/ القاهرة/ دار الشروق/ 1998/ ص221 وما بعدها.(1/205)
وقد رأى بعض الأطراف أن الديمقراطية في الجزائر بدت مهرباً كما هي حل، فكمية الأخطاء و(حجم الفساد) جعلا عدداً من الأقوياء في مراحل سابقة على استعداد لتحويل المسؤولية والتبعات إلى غيرهم شريطة أن تغلق دفاتر الماضي وتنسى الحسابات, وبدا ذلك بالإمكان عندما تم الاتفاق على نوع من الميثاق الوطني تجري على أساسه انتخابات تشريعية عامة تضع للجزائر دستوراً جديداً، لكن الخروج من المأزق سواء بالحل أو بالهرب أثبت صعوبته وذلك لتخوف البيروقراطية العسكرية التي استولت على الجزائر وآموالها من الحساب على ما جرى من نتائج الاختناق بالعجز والفساد(1).
وازدادت تلك المخاوف عندما أسفرت نتائج أول انتخابات جزائرية عام 1992 عن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تشككت البيروقراطية العسكرية من أن الجبهة لديها حلول ناجعة للمشكلات وربما كان جزء منها صحيحاً، ثم تصورت تلك البيروقراطية أن الجبهة عندما تتولى وترى الطريق للمستقبل صعباً، فإنه أسهل المخارج لها قد يكون العودة إلى فتح الملفات القديمة.
لذلك ألغت البيروقراطية العسكرية نتيجة الانتخابات التشريعية، وأعلنت حالة الطوارئ وقررت تصفية التيار الإسلامي من الجزائر، منذ ذلك الوقت أصبح القتل صناعة ثقيلة، فالبيروقراطية بدأت بالضربة الأولى، ثم ردت عليها الجماعات الإسلامية، واندلعت نار الهيجان(2). إن ذلك تسبب في الإخلال بالسكينة في الجزائر وبالتالي الإخلال بالنظام العام الذي كان واحداً من أهم أسبابه إن لم يكن السبب الرئيس هو الفساد الذي استشرى في ذلك البلد.
__________
(1) انظر تصريحات الرئيس بوتفليقة وشهادة الجنرال محمد يتشين في موضع سابق من هذا البحث في الصفحة (143)
(2) م ن/ ص222.(1/206)
إذاً من خلال ما تقدم نلحظ أن للفساد آثاراً سلبية على إمكانية سداد الديون وما يؤدي ذلك إلى تدخل في سيادة البلدان (الذي ينمو فيها الفساد)، ثم ما يحدثه الفساد من آثار على (الأمن العام) و(الصحة العامة) و(السكينة) التي تشكل مرتكزات النظام العام وهو تنظيم يشمل جميع أبعاد النشاط الاجتماعي. ولكن علينا أن نذكر أن البلدان التي تحتاج للمساعدات الخارجية خصوصاً بلدان عالم الجنوب يصبح الفساد معوقاً لها أيضاً حيث أن الخلل في النظام العام وضعف سداد الديون يؤدي بالرساميل المستثمرة إلى الهرب عن الأماكن التي فيها اضطراب وضعف في أداء الديون والإيفاء بها، لذلك في تحليل لسياسي أفريقي بارز يوصّف حالة الفساد وإعاقته للاستثمارات والمساعدات ما مفاده، أن البلدان التي يستوطن فيها الفساد تكون فيه المؤسسات بفعل ذلك غير مؤثرة، الأمر الذي يجعلها تجتذب المغامرين أو المنبوذين أو الفاشلين في مجتمعاتهم فحسب للاستثمار فيها وليس المستثمرين الأكثر احتراماً والأصدق وعداً.
ثم يذكر أيضاً أن جميع المشتغلين بالأعمال يريدون جمع الأموال، إلا أنهم يبحثون عن البلدان التي تكون الظروف مستقرة فيها ويمكن التنبؤ بها. وحيثما ينشغل كل فرد بالخطف والاغتصاب، ويصبح من المستعصي إحصاء الفساد، وحتى أكثر الناس تلهفاً على جمع الأموال سيجد أن الحالة لا تطاق ويغادر. وبالمثل، فإن المعونة الخارجية ستُقَلَّلُ إلى أن تختفي، حيث أن الدولة المانحة لن تستمر في إلقاء أموال دافعي الضرائب فيها في حفرة لا قاع لها(1).
__________
(1) أوغسطين روزيندانا/ أهمية دور القيادة في محاربة الفساد في أوغندا/ في كيمبرلي ان اليوت/ الفساد والاقتصادي العالمي: م س ذ/ ص189.(1/207)
من ذلك نخلص إلى أن السيادة هو أن تكون الدولة هي ذاتها (السيد الوحيد الذي يتصرف بأمرها)، أي بعبارة أخرى تكون الدولة ولية أمر نفسها بنفسها، إلا أنه في بعض الأحيان تلزم الدولة نفسها بالتزامات تجاه أطراف أخرى تسمح في التنازل عن شيء من سيادتها تجاه هذه الالتزامات، وأخطر ما يكون حسب ما توضح لدينا من تلك الالتزامات هي الالتزامات تجاه سداد الديون، حيث تسبب هذه الحالة في أحيان كثيرة إمكانية التدخل الخارجي في الشأن الداخلي، وبالتالي تتسبب في فرض سياسات معينة، على الدولة تنفيذها، من قبل الجهات الخارجية التي تقدم القروض (كما لاحظنا حالة صندوق النقد الدولي وتصرفه مع أندونيسيا) تخرق سيادة الدولة.
وتوضح أن واحداً من أهم أسباب فرض تلك السياسات (إن لم يكن السبب الأكثر أهمية) هو استشراء الفساد في تلك البلدان المقترضة (والتي تكون معظمها في الغالب من دول الجنوب)، والخلل بالتصرف في أموال تلك القروض.
كذلك ومن ناحية ثانية لاحظنا كيف أن الفساد يخرق النظام العام من خلال تغلغل الفساد في العناصر التي يرتكز عليها هذا النظام وهي (الأمن العام)، (الصحة العامة)، (السكينة).
وقد توضح جلياً أن الإغراق في المديونية يسبب خرقاً للسيادة ويتسبب في إحداث خلل بالنظام العام، كلها نتيجة الفساد الذي أوصل بلداناً إلى حافة الحرب الأهلية ما كانت لتقع لو كانت هنالك أساليب للمساءلة الصحيحة، وأيدٍ نزيهة تعمل على حفظ المال العام، وشفافية في التعاملات المالية وخطط تنموية يتحجم بها الفساد.
((
الفصل الثالث
أثر الفساد في الكفاية وقيم المجتمع
هنالك مفهوم عرفته الأجيال منذ الأزل له من الأهمية ما يمكن قياس تقدم الأمم على أثره، هو ما يسبغ على الفرد دقيق الصنعة، الحريص على إتمام عمله على الوجه الأتم، ذلك ما يصطلح عليه بـ: (الكفاية Efficiency).
الذي يعرف بدقة على أنه:
(((1/208)
العمل الجيد والسريع الخالي من الفواقد))(1)
ومن دلالة هذا التعريف نلحظ أن حركة آليات الفساد تكون الأمر المعاكس لهذا المفهوم. لذا فمن منطلقنا هذا سنبين الأثر السلبي للأمر المعاكس للكفاية بكل أبعادها سواء أكانت (كفاية فرد، أم كفاية برامج تنموية... أم أشكال أخرى للكفاية).
كذلك وفي الوقت عينه وبمدى التأثير السلبي للفساد نفسه على الكفاية سوف نلحظ (من خلال دراستنا هذه) ذلك الطيف. (المؤثر بشكل سلبي للفساد) على قيم المجتمع أيضاً وكيف يؤدي ذلك التأثير إلى بروز قيم تتولد مع تكوينه في المجتمعات، تتشكل معها فئات تدافع عنها كونها هي التي أسهمت من خلال أفعالها الفاسدة في بروزها كي يخدمها تبدل القيم الأصيلة والسديدة إلى قيم تبرر حالات الفساد وتحاول إيجاد الذرائع لاستثمارها على أنها قيم صحيحة.
كما تجدر الإشارة إلى أن منظومة القيم في شعب ما، أو مجتمع ما، تختلف عن منظومة أخرى في مجتمع آخر أو شعب آخر، ويفسر ذلك أن بعض المجتمعات قد اعتادت على استخدام بعض الآليات الفاسدة في عملها اليومي دون أن تجد في ذلك تمييزاً بينها وبين الفعل الجيد، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ظاهرة (البخشيش) أو (الإكرامية) التي يدفعها الشخص في أحيان كثيرة مكرهاً لا راغباً اتساقاً مع منظومة قيم مجتمعه التي إذا ما انتقلنا إلى مجتمعات أخرى نراها تفسرها على أنها ظاهرة إفساد ليس إلا.
__________
(1) Longman Dictionary of American English/ NY/ USA/ Longman Inc., 1983, p. 217.(1/209)
وللدخول إلى صلب الموضوع وتحليله بشكله العلمي سنتناول مفهوماً سبق التطرق إليه في فصل سابق (كنقطة استناد نبدأ منها للتوغل في حيثيات هذا الفصل) هذا المفهوم هو (المحسوبية أو المحاباة) (التي أضحى مفهومها واضحاً في أثناء تناولنا فيما سلف). حيث أن استغلال العلاقات القرابية وصلات المعرفة وفق منطق المحاباة تفعّل من نمو آليات الفساد حينما يتفاقم ذلك الاستغلال في المجتمعات.
لذلك نجد على سبيل المثال أن الآلية الفاسدة للمحاباة (Favoritism) تضرب مفاصل مهمة كثيرة في الجهاز الحكومي، ومنها (المفاصل الإدارية) حيث نجد أن المناصب الإدارية العليا طبقاً للآلية الفاسدة تشغل بعناصر كفايتهم إليها (كارت الوساطة) أو (علاقة القرابة). حيث لا مجال للنظر في التأهل وإمكانية الآخرين على إشغال تلك المواقع بموجب كفايتهم أو مؤهلاتهم الشخصية(1).
__________
(1) أ. السيد أحمد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ م س ذ/ ص171.(1/210)
مما يؤثر بشكل سلبي على كفاية الأداء، وضعف الجهاز الحكومي بتراكم العناصر غير المؤهلة فيه وإدارتها له. (هذا على الصعيد الإداري فحسب). فكيف إذا ما انتشر الأمر لمفاصل أخرى؟ إن تلك الظاهرة تبدو واضحة في الأنموذج الزائيري (الكونغو كينشاسا) في عهد موبوتو حيث وصل الأمر حتى إلى إشغال المقاعد الدراسية الجامعية على الصعد الأولية والعليا عن طريق تلك الآليات وكذلك إتمام الترقيات العلمية، والترقيات الوظيفية أيضاً بحيث أصبحت معايير الاستحقاق وفق المؤهل والتخصص لا تشكل أي أهمية أمام آلية المحاباة. مما جعل معيار الفساد والرشوة يضرب كفاية الإدارة والجهاز الإداري فالبيئة السياسية والإدارية في زائير كانت تتسم بغلبة الشك وعدم الثقة المتبادلة لسهولة تزوير الوثائق المهمة والمستندات الحكومية وسجلات الجامعات وهذا طبعاً لا يتم إلا بعلاقة محسوبية أو بدفع رشوة بسيطة للموظف المسؤول وبهذا يكون معيار الكفاية هو آخر شيء يتم التفكير فيه عند القيام بهذه الأعمال الفاسدة.
إن ذلك جعل الأمر في (زائير موبوتو)، دون ضابط حيث ليس هنالك أدنى اهتمام بكفاية الأداء الوظيفي، أو في إسناد الأعمال لمستحقيها وخصوصاً المشاريع التي كان ضعف الكفاية سبباً في تعثرها. كل هذا الأمر أشاع في زائير (الكونغو) ما يعرف (بثقافة الفساد)، التي أصبحت عملاً اعتاد عليه الشعب هناك(1).
__________
(1) لمزيد من التفصيل انظر/ د. حمدي عبد الرحمن/ الدولة القرصان دراسة لظاهرة الفساد السياسي في زائير/ في د. إكرام بدر الدين (محرر) الفساد السياسي النظرية والتطبيق/ القاهرة/ دار الثقافة العربية/ 1992/ ص ص 109- 110.(1/211)
إن شيوع (ثقافة الفساد) المشار إليها لوحظت أيضاً عند دراسة الحالة الأفريقية لعموم القارة وليس لبلد معين هو (زائير)، واتضح من الدراسة أن واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه القارة السوداء هي الفساد، التي تتمثل بشكل رئيس في سوء استخدام السلطة لتحقيق المصالح الشخصية. الأمر الذي يؤثر في الكفاية.
ويتبين بشكل صريح هذا التأثير من خلال تحليل الواقع لبرنامج المساعدات المقدمة لأفريقيا، فكما هو معروف فإن القارة تعاني من العديد من الأوبئة والأمراض الفتاكة التي منها (مرض الإيدز، فيروس إيبولا، حمى الوادي المتصدع... الخ) مما أدى إلى قيام مؤتمرات دولية للحد من آثارها وكانت مسألة توفير الأمصال أو العلاجات اللازمة لهذه الأمراض بكلف رخيصة هو الشغل الشاغل لهذه المحافل الدولية، كيما يستطيع الفرد الأفريقي، الذي هو في الأعم الأغلب غير قادر على توفيرها بمدخوله البسيط لأنه يعيش وأسرته تحت خط الفقر(1)، اقتناءها.
(
__________
(1) انظر/ أوغسطين روزيندانا/ في كيمبرلي ان اليوت (محررة)/ الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص187.(1/212)
وفي هذا الخضم يبدو جلياً أن الفساد يحيّد برامج المساعدات والبرامج الوطنية للقضاء على تلك الأوبئة التي تفتك بالجنس البشري). حيث يقوم أفراد الهيئات الطبية متعاونين مع أفراد النخب السياسية والإدارات الحكومية في تلك المناطق المنكوبة على كفالة تسريب الأدوية الحكومية وأدوية المساعدات المدعومة وبيعها لحسابهم الشخصي والإثراء بواسطة هذه الآلية الفاسدة على حساب أولئك الهزيلين الذين يصارعون الموت. إن هذا العمل يدع المرضى يحصلون على جرعات مبخوسة من الأدوية (غير كافية لإبادة المرض في أبدانهم) وبالتالي فإن هذه التبرعات سوف تعطي لبعض الجراثيم القدرة على مقاومة تلك الأدوية مما ينتج عنه في النهاية خلق أعداد كبيرة من الحالات المزمنة التي لا يرجى لها الشفاء ولهذا يُفقد الفعل الفاسد تلك البرامج الإنسانية فاعليتها أو يؤثر على الكفاية المرجوة من ورائها(1).
بعد ذلك ننتقل لبيان أثر الفساد على كفاية الأفراد وكفاية العملية السياسية، حيث تبين من خلال ملاحظات المتتبعين لظاهرة الفساد السياسي أنها تؤدي إلى تبعية القوة السياسية للقوة الاقتصادية لتصبح أداة بيد أصحاب الأموال والطبقات الغنية القادرة على الدفع لتحقيق منافعها الشخصية(2).
__________
(1) المصدر نفسه/ ص187.
(2) انظر/ نبوية علي الجندي/ الفساد السياسي في الدول النامية/ رسالة ماجستير/ جامعة القاهرة/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ 1982/ ص192.(1/213)
وبدراسة للأنموذج الإيطالي اتضح أن الفئات من أصحاب المصالح والطبقات الغنية تسعى لإيجاد منفذ لتمويل الأحزاب السياسية في إيطاليا. التي تسعى بدورها من خلال الأموال المقدمة ومن خلال الوعود بامتيازات إذا ما فاز الحزب بالانتخابات إلى تجنيد عشرات الألوف من الأفراد للقيام بتأييد الحزب والتصويت له، وتنطوي عملية الاستقطاب والتجنيد على تقديم الحزب المجاملات لأولئك الأفراد المجندين (من خلال وعوده التي أشرنا إليها) على شكل/ مناصب حكومية، معاشات، منح دراسية، إسكان عام، نقل إلى درجات وظيفية أعلى، الأمر الذي يساعد في التأييد الكامل لذلك الحزب(1) مما ينظر إليه في المحصلة النهائية إذا ما فاز ذلك الحزب تحقيقاً لأهداف أصحاب القوة الاقتصادية (الذين أشرنا إليهم) والمسيطرة على القوة السياسية بأن آلية انتخاب الحزب ليست كفوءة لاستخدامه آليات الفساد في تقديم مناصب ومنح دراسية إلى مؤيدين في الانتخاب قد لا يتوافر لديهم عنصر الكفاية وبالتالي يظهر التأثير السيء على كفاية الإدارات وكفاية المناصب الحكومية وكفاية الأعمال بدرجة تجعل من العملية الديمقراطية غير كفوءة أصلاً لكونها تسهم في وصول وتولي أشخاص من غير ذوي الخبرة والاختصاص لمناصب حكومية أو التمتع بامتيازات لا يستحقونها، الغاية من ورائها خدمة فئة ضئيلة تفضل مصالحها الشخصية على المصلحة العامة وهي فئة أصحاب القوة الاقتصادية المذكورين آنفاً(2).
__________
(1) راجع/ فيتوتانزي/ تعليقات: في كيمبرلي ان اليوت (محرر)/ الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص226.
(2) -د.رسلان خضور/ الآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد/ محاضرة في جمعية العلوم الاقتصادية السورية /دمشق/ 23/2/1999.(1/214)
مما تقدم نجد كيف يعوق الفساد الديمقراطية ويفقدها كفايتها (إذا ما استخدمت الآليات المشار إليها في الأنموذج الإيطالي سالف الذكر) ويؤدي إلى تخريب إدارة الحكومة والدولة وشل القوانين ويضعف عمل السلطة القضائية وبالمحصلة سوف تقوض شرعية السلطة السياسية، وتفقد الثقة التي هي أساس التعامل بين الأفراد ونظامهم السياسي، وسوف تكون النتيجة هي التخريب لأخلاقيات العمل وقيم المجتمع.
إن انتشار الآليات الفاسدة تجعل العمل الكفء والمخلص عبئاً على صاحبه ويصبح العمل الفاسد ميزة اجتماعية يتمتع بها أولئك الفاسدون(1) الذين يكون تأثيرهم أكثر خطورة عندما يشغلون مناصب قيادية في بعض الأحيان حيث أنه في الأعم الأغلب قد يكون الفرد وصل إلى ذلك المنصب الإداري عن طريق معايير غير موضوعية، مما يجعل خبرته العملية والعلمية لا تؤهله لشغل تلك المناصب.
الأمر الذي يجعل هذه العناصر تمنع أولئك الأكفاء من الوصول إلى سلطة اتخاذ القرار، أو إبداء المشورة لصناع القرار، وذلك لتعارض أفكار المختصين ذوي الكفاية مع مصالح أولئك المتبوئين للمناصب الحكومية بشكل غير نظامي، بحيث يصبح السلم الهرمي للنظام الوظيفي مشغولاً بكوادر عاجزة غير ذات كفاية اختيرت بشكل عشوائي (تفوح منه رائحة الفساد) بعيداً عن مصلحة الدولة، الذي مؤداه شلل المؤسسات وعدم أدائها لدورها بشكل صحيح(2).
__________
(1) -المصدر نفسه.
(2) -د.دريد درغام /الآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد الإداري/ تعقيب /على محاضرة د.رسلان خضور/ الآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد/ في جمعية العلوم الاقتصادية السورية/ دمشق 23/2/1999.(1/215)
وبدراسة متخصصة لأحد الباحثين عن كفاية أجهزة التنمية الإدارية والإصلاح أشار إلى أن المعاهد والمراكز المتخصصة بهذا النوع من التنمية أسندت طبقاً للآليات المشار إليها آنفاً إلى عناصر غير كفئة. (خصوصاً في الدول الأفريقية) ومن غير المؤهلين لإدارة تلك المرافق ثم اتبعت هذه العملية بأنه تم القضاء على استقلالية الكثير من المعاهد والمراكز المتخصصة في ذلك الجانب بضمها إلى إدارات أو وزارات جعلت المهمة الرئيسة لهذه المرافق النظر في شكاوى المواطنين بخصوص الترقيات والعلاوات دون المهمة الأصلية وهي تحقيق التنمية الإدارية، مما أفقد هذه المرافق خصوصيتها العلمية، وكفايتها، فضلاً عن ما سبق الإشارة إليه من إسناد غير موفق لإدارة هذه المرافق مما حدا بالكثيرين من كوادر هذه المراكز من أصحاب الكفايات البحثية إلى ترك وظائفهم لعدم إمكانية الاستمرار بالعمل(1).
إن تبوّء غير الأكفاء للمناصب العليا في مراكز بحثية هم غير مؤهلين أصلاً لها، جعل العديد من دول عالم الجنوب تشكل عامل طرد لتلك الكفايات التي نحيت أو تركت عملها، ونتيجة لذلك شكلت دول الشمال عامل جذب لهم من خلال السماح بنزوح تلك القدرات من دون الأفراد الآخرين إليها مما جعل العالم المتطور يستفيد من خبرات وطاقات كفئة يفترض الاستفادة منها على صعدها الوطنية.
__________
(1) -أنظر /جلال معوض/ علاقة القيادة بالظاهرة الإنمائية دراسة في المنطقة العربية /رسالة دكتوراه/ جامعة القاهرة/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ 1985/ ص233.(1/216)
لقد أدى تفاقم هذه الحالة إلى أنها شكلت هدراً لطاقات لا يمكن تعويضها فكان ذلك عامل ضعف جديد يضاف لعوامل ضعف القدرات في عالم الجنوب(1) إن الآليات الفاسدة جعلت الأوضاع في غير أعنتها وضيعت الفرص على بلدنها وأدت إلى نشوء أجيال من الكوادر غير المؤهلة والضعيفة علمياً لفقدانها التوجيه الصحيح أولاً والاحتكاك بالمؤهلين ثانياً.
مما انعكس سلباً على كفاية الأجهزة الإدارية والمؤسسات في الكثير من دول عالم الجنوب موضوع البحث.
إن الآليات الفاسدة أدت إلى سيادة قيم جديدة هجينة في المجتمعات التي انتشرت فيها، فأصاب الخلل منظومة القيم السائدة وأخلاقيات العمل وبدأت (الرشوة) ومقارباتها تأخذ شكلاً أصبح بالتدريج عبارة عن نظام جديد للحوافز في الإدارة بديلاً عن الرواتب ولذلك برزت مسميات جديدة تسوغ الحالة الفاسدة وخرج من يروّج لها ويدافع عنها، بحيث أصبحت النظرة للفساد على أنه أحد مقومات تنمية المجتمعات، وظهرت لدينا مفردة مثل (الفساد المنتج)(2) لتجميل الصورة المعتمة للفساد في الأرض، ولهذا تبلورت من خلال بروز هذه الأفكار نظريتان تفسران ظاهرة الفساد:
أولاهما: النظرية الأخلاقية (Moral Theory)
... وهي التي مؤداها أن الفساد رذيلة ويلحق الضرر بالاقتصاد والسياسية والتنمية وكل المفاصل المتعلقة بالشكل الصحيح لمسيرة المجتمعات وتطوير الدولة.
وثانيهما: النظرية البنيوية (Structralist Theory)
__________
(1) -انظر /د.أسامة عبد الرحمن/ تنمية التخلف وإدارة التنمية /بيروت/ مركز دراسات الوحدة العربية /1997/ ص122.
(2) -أ.د. محمود عبد الفضيل /الفساد وتداعياته في الوطن العربي /المستقبل العربي/ العدد 243/ مايس 1999/ص7.(1/217)
... التي تسوق لفكرة (الفساد المنتج) حيث يرى أنصارها أن الفساد (خصوصاً في دولة الجنوب) له أثر إيجابي لمساهمته في اندماج فئات المجتمع وشرائحه، وتحقيقه للاستقرار وتعجيله للنمو الاقتصادي والتطور(1).
ومن خلال النقطتين أعلاه نجد أن النظرية الأولى هي الرؤية التي تحد من الفساد بينما الثانية هي الرؤية التي تبرر الفساد وتجعله فضيلة بدلاً من كونه رذيلة الرذائل، بحيث أن واحداً من أبرز أنصارها وهو (صموئيل هنتينغتون Samouel Huntington) يرى في الفساد الناجم عن توسيع المشاركة السياسية أنه يساعد على دمج فئات جديدة في النظام السياسي(2)، وفي الفساد الناجم عن توسيع التنظيم الحكومي عاملاً في تحفيز التطور الاقتصادي، وأن للفساد وظيفة بأن يكون وسيلة لتجاوز القوانين التقليدية والتنظيم البيروقراطي الذي يعوق التقدم الاقتصادي.
ويبرر أفكاره بأن في الولايات المتحدة الأميركية وخلال نهايات القرن التاسع عشر كان أعضاء الهيئات التشريعية في الولاية وأعضاء المجالس المحلية في المدينة يقبضون أموال الرشوة من شركات السكك الحديد والإنتاج الغذائي والصناعي، وذلك (حسب تعبيره) مما أسهم بلا شك بالتسريع في عجلة النمو الاقتصادي الأميركي(3).
__________
(1) -حسني عايش /الفساد وعوامله وعلاته وسبل التصدي له/ مجلة دراسات عربية/ العدد (11) (12) (أيلول/ت1) /1997/ص102
... يطلق على "الفساد المنتج" مصطلح FUET عند أصار هذه النظرية.
(2) -يشير د. جلال عبد الله معوض إلى أن أنصار هذا الشكل يرون أن له الإيجابية في حل مشكلة الأقليات والتأثير السياسي حيث بواسطته تقام العلاقات مع النخبة الفاسدة يمكن تحقيق مصالح معينة.
(3) -صموئيل هانتغتون /النظام السياسي لمجتمعات متغيرة/ ترجمة سمية فلو/ بيروت/ دار الساقي/ 1993/ ص ص 89-91.(1/218)
ويذهب هنتينغتون في توصيفه المناصر للفساد إلى أن أحد الكتاب المطلعين على الحالة الهندية يرى أن العديد من النشاطات الاقتصادية في الهند كانت ستصاب بالشلل لولا المرونة التي يضيفها (البخشيش) على النظام الإداري المعقد والجامد.
ثم يضيف هنتينغتون لما مؤداه أن القليل من الفساد يسهم في إدخال بعض التحسينات على مجتمع تقليدي متطور، أو أنه قد يتعصرن في الأقل.
لكنه برغم كل نظرته المناصرة للفساد يعود (هنتينغتون) ليقول: إن المجتمع الذي تفشى فيه الفساد يكون غير قابل لأن يتحسن بتفاقمه(1). (مما يدل على أن الفساد أينما يحل يوجد معه الخراب حتى عند المناصرين له الذين يعتقدون أن القليل منه يصلح الأمر).
إن أنصار النظرية البنيوية للفساد وتأسيساً على طروحات (هنتينغتون) يرون أن استقرار دول عالم الجنوب يعود في بعض جوانبه بالفضل إلى آلية الفساد، حيث أن فكرتهم تنطلق من أن الفساد يجنب النظام السياسي ويلات الانقلابات والأزمات، وذلك لكونه يوجد (مجموعة) أو (طبقة) من المستفيدين يعملون على حماية النظام مما ينجم عنه حدوث الاستقرار اللازم الذي هو في حقيقته لازم للمفسدين فحسب(2).
فضلاً عن هذا كله فالآراء القائلة بأن الفساد منتج، تصف الفساد كذلك بأنه بمثابة الشحمة أو قطرة الزيت التي لا بد منها لتزييت المفاصل الجامدة في الإدارة وتحريكها على حد وصف مجلة (Far Eastern Economic Review).
__________
(1) -المصدر نفسه /ص ص 89-91.
(2) -د.عطية حسين أفندي /الممارسات غير الأخلاقية في الإدارة العامة/ في: مصطفى كامل السيد (محرر) /الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص 60.(1/219)
التي تبرر بأن هنالك آثاراً إيجابية تنظيمية وإدارية ناجمة عن آلية الفساد التي هي مجرد عمولة مقابل جهد مشروع (على حد وصفها)(1)، لا بل إن التسويغ بإيجابية آثار الفساد يصل إلى حد اعتباره بديلاً لرأس المال من خلال استغلال الموظفين العموميين وأعضاء النخب السياسية عبر مناصبهم رأس المال العام المتاح لتأسيس أعمال خاصة بهم يرى أنها ستوفر فرصاً للعمل، (على حد رؤيتهم)، وتؤدي بالتالي إلى زيادة الاستثمار الذي من خلاله ستنشأ طبقة مستثمرة جديدة(2). كما أنهم يبررون أيضاً بأن الفساد يشجع السلوك الاقتصادي الريادي باختيار الموظفين العموميين المتقبلين لآليات الفساد لرجال أعمال لديهم القدرة على دفع أكبر المبالغ كرشوة للحصول على العقود أو لكي تحال عليهم عطاءات تنفيذ المشاريع(3).
وبذلك (على حد تفسيرهم) سوف يوفرون الكفايات ذات المقدرة المالية على إنجاز الأعمال.
__________
(1) -حسني عايش /الفساد وعوامله وعلاته وسبل التصدي له/ م س ذ/ ص 102.
(2) -مي فريد /الفساد رؤية نظرية/ مجلة السياسة الدولية/ العدد 143/ يناير 2001/ ص 227.
(3) -حسني عاش /م س ذ/ ص 102.(1/220)
وبعد بيان آراء النظرية البنيوية التي عرضنا لبعضها من خلال ما تقدم ترى الدراسة أن الفساد من ألد أعداء الإنتاج بل إنه لا يمكن أن يكون منتجاً إطلاقاً وإن النظرية الأخلاقية هي النظرية الوحيدة التي تحمل دلائل صحة نظرتها بين ظهرانيها، حيث أن الفساد يضرب منظومة الكفاية والقيم في الصميم ويؤثر بشكل سلبي عليهما، إنه ينتهك الثقة العامة، ويتسبب في تآكل الثروة الوطنية عن طريق آليات ومشاريع عديمة الجدوى مما يؤثر على مصداقية الدول والحكومات، كما إنه يبدد الوقت الذي يحقق الإنجاز في المدة المقررة لإتمام المشاريع(1)-(2). ويؤثر بشكل كبير على قيم المجتمع حيث تصبح الدخول الخفية (التي تبررها النظرية البنيوية سابقة الإشارة) الناجمة عنه هي الدخول الأساسية التي تفوق في قيمتها (الدخول الاسمية الرسمية) التي تنتج عن العمل الوظيفي مما يجر لفقد الثقة بعمله وقيمة ذلك العمل.
__________
(1) -لوحظ في عملية مسحية في أوكرانيا جرت عام 1996 أن ثلث مدة إنجاز المشاريع تستنفذ في المفاوضات مع الموظفين العموميين لإقناعهم بإتمام الصفقات، وفي مثال تبين أن عملاً ينجز في (22 أسبوع) في ظروف خالية من الفساد يتطلب إنجازه (75 أسبوع) في ظروف فاسدة، وذلك هو الوقت الذي بدده الفساد لإتمام صفقاته.
(2) -انظر /مي فريد/ الفساد رؤية نظرية /م س ذ/ ص 227.(1/221)
وبالتالي يصبح لدى الفرد تقبل نفسي للتفريط تدرجاً في معايير أداء الواجب الوظيفي، والمهني، والرقابي عند ذاك تسود القيم الجديدة (قيم الفساد) وتنعدم الكفاية، حيث يتم تعلية العمارات بدون ضوابط ودون مطابقة للمواصفات الإنشائية، وكذلك يتم غش الأغذية وتطفيف الكيل وتهريب السلع إلى السوق السوداء، وتنشأ آليات التهرب الضريبي، ويتم التعدي على الملكية العامة بالاغتصاب والاشغال(1)-(2).
__________
(1) -إن النائب اللبناني نجاح واكيم يشير في إحدى دراساته إلى قضية التعدي على الملكية العامة من خلال مناقشته لموضوع قطعة أرض مساحتها (5334م2) تعود ملكيتها بالأصل إلى عائلتين معروفتين في لبنان تملك الأولى (75%) منها والعائلة الثانية (25%) منها، وقد استملكت الدولة اللبنانية الأرض في عام (1954) بموجب مرسوم صادر عن بلدية العاصمة بيروت من الملاك المذكورين. وفي عام (1996) تم وضع إشارة تخطيط على القطعة لتحويلها إلى ساحة عامة (ووضع الإشارة تعني في القانون اللبناني منع إجراء التعديل أو إضافة على القطعة)، إلا أنه سرعان ما حرر للأرض عقد إيجار إلى مستثمر (من إحدى الأسرتين أعلاه) من قبل بلدية بيروت وحسب موافقة المجلس البلدي ومحافظ العاصمة دون إحالته (كطلب استثمار على لجنة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل اللبنانية) وتبين أن المستثمر خرج عن نطاق إشارة التخطيط وبنى مطعماً من الإسمنت مما يشكل سابقة لاستغلال أرض عليها إشارة تخطيط وتابعة للدولة ودون تحقق الضوابط مما يفسر آلية التعدي على أملاك الدولة.
(2) -أنظر /أ. د. محمود عبد الفضيل/ الفساد وتداعياته في الوطن العربي/ م س ذ/ ص 7.
... كذلك /نجاح واكيم/ الأيادي السود /بيروت/ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/ الطبعة 24/1999/ ص 196.(1/222)
كل هذا يوضح أن هنالك خللاً في الكفاية سوف يحدث وشيوعاً لثقافة جديدة هي ثقافة الفساد (المشار إليها سابقاً) تخرق القيم المتعارف عليها لتنشئ قيماً بديلة هي (قيم الفساد).
من كل ما تقدم ولثلاثة فصول بينا من خلالها الأثر والنتائج السلبية للفساد نخلص إلى أن:
للفساد آليات نافذة في عالم الشمال والجنوب إلا أن استقرار المؤسسات، والوفر المالي، وآليات الرقابة جعلت سبل الفساد في عالم الشمال أكثر إمكانية في الزيادة عنها في عالم الجنوب، التي استشرى فيه الفساد خصوصاً ضمن برامج عملية التنمية، التي تسعى تلك الدول من خلال تضييق الفجوة بينها وبين عالم الشمال.
يذكر أن الفساد إذا ما تغلغل في آليات التنمية ترك جديد المشاريع قاصراً، وأخرى تشكل البنى الرئيسة بلا إدامة الأمر الذي شكل نهباً للأموال وخصوصاً المال العام، وجعل تلك البلاد ترزح تحت وطأة الديون من خلال تسريب تلك الأموال للانتفاع الشخصي للنخبة السياسية، الذي لا يمكن أن يحدث ذلك البتة، إلا بأن تشغل المناصب من قبل غير المؤهلين ويكون الفساد هو من أتى بهم لمناصبهم وهم الذي جعل ديمومة حياتهم عليه، مما سمح بشيوع ثقافة الفساد التي تبدد كل القيم الجميلة والسليمة السائدة لتحل محلها قيم الفساد واستغلال النفوذ والمحاباة مما يلاحظ على أنه تهديد للمجتمعات بأن تسود فيها الطبقية وقيم النفوذ والجهرية والشللية حيث تستأثر فئة بالمنافع وفئات تدفع ثمن فساد أولئك المنتفعين.
مما يجعل تلك المجتمعات تعاني من الفساد الذي يؤدي إلى رزوحها تحت مشكلات المديونية التي تسلَّطَ الآخرين على موارد مسببة خرقاً لسيادتها.
وكذلك تواجه مشكلاتها الداخلية فيحدث أن يكون الفساد العاملَ الأولَ في الإخلال بالنظام العام في تلك المجتمعات مما يؤدي إلى إِحداث حالة من الإرباك في استقرارها. إذا ما توفرت المتلازمتان الناجمتان عن الفساد: (المديونية وخرق النظام العام).(1/223)
حيث أن ذلك سيؤدي إلى إعاقة الاستثمار وضعف في مصداقية الدولة وبذلك تكون تلك البلاد عامل طرد لتلك الأموال التي تحاول أن تطورها وذلك لكثرة مشكلاتها الداخلية ومديونيتها حيث أن رأس المال يبحث عن الاستقرار دائماً.
إن مشكلات تنجم عن الفساد لا يمكن أن تصحح إلا بأن يكون للمؤهلين أدوارهم وللمؤسسات الرقابية فاعليتها، ومساءلة القانون لكل أصحاب العلاقة سواء كبر تأثيرهم أم صغر هذا مضافاً إليه آلية شفافية المعاملات، واطلاع الجمهور على عقود التنمية وجعل ضوء الشمس يملأ المكان.
(((
الباب الخامس
سبل مواجهة الفساد
لكي تطرح تساؤلاً يتكون من ثلاث كلمات هي:
كيف نواجه الفساد؟
لا بد أن نكون على دراية بأن الإجابة ستكون طويلة ومليئة بالشروحات.
فالفساد هذا الموضوع الشائك والمعقد كثرت فيه سبل الإصلاح التي من الممكن أن نجد فيها العديد من المؤلفات والدراسات والتطبيقات.
ولكي ندلي بدلونا في هذا البئر المظلم لا بد أن نعلق سراجاً فوق ذلك الدلو لنرى إلى أين يصل وذلك لأن في طريق الدلو نقاطاً عدة مليئة بالوصايا إذا ما استثمرها محب الإصلاح جاءت له بزيت يزداد به وهج السراج، أما إذا ما أراد تركها أو التغاضي عنها فإنها ستخلط بالزيت ماءً يخفف به وهج السراج. وعندما نصل إلى النهاية سيكون سراجنا قد امتلأ زيتاً إذا ما أخذ محب الإصلاح بكل الوصايا أو قد يكون ماءً على حاله إذا ما أراد خلاف ذلك، مع العلم أن جهدنا هو جزء ضئيل من جهود كبيرة ننحني لها بإجلال لأن هذه الجهود جعلت السراج والزيت يتوهجان في دنيا أظلمها الفساد ولكي نفسر ما الإصلاح لا بد من اتباع ما سنورده الآن:
الفصل الأول
سبل المواجهة في الصعيد الداخلي
إن سبل المواجهة من خلال دور رقابي فاعل لا يمكن أن تتم إلا عبر أشكال متعددة لذلك الدور وتوجز فيما يلي:
1-الرقابة البرلمانية.
2-الرقابة القضائية.
3-نظام المفوض العام.
4-رقابة الإعلام.
1-تفعيل الدور الرقابي(1/224)
الفرع الأول
الرقابة البرلمانية:
أصبح من الواضح أن آليات السياسة لاستئصال الفساد هي ثلاث (الشفافية)، (المساءلة)، (حسن الحكم).
ولعل الرقابة البرلمانية في ظل شفافية عالية ومساءلة جادة وحكم حسن. تجعل الفساد في أوطأ نسب قياسه، وبغياب تلك الشروط يصبح الحال متردياً لا محالة.
إن البرلمان غالباً وفي الكثير من النظم السياسية الديمقراطية التي تتبع الأسلوب النيابي الكلاسيكي (على حد تعبير د.منذر الشاوي)(1) يؤدي دور المقيد كمحرك للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، ليست حرة بل هي تخضع لتقييد البرلمان. والبرلمان يقيد الوزارة بصورة مسبقة، وذلك عندما يحدد الإطار القانوني لنشاط الحكومة بما يضعه من قوانين، فضلاً عن ما يقوم به من آليات أخرى تجاهها. في مقدمتها آلية (المساءلة Accountability) لأعضاء الوزارة فرادى أو مجتمعين، للحصول على تفسيرات أو بيانات عن أعمالها بوصفها جهازاً تنفيذياً، وذلك بتوجيه الأسئلة إلى رئيس الحكومة أو أحد مساعديه، أو إلى الوزراء أو مساعديهم، في موضوع يدخل في اختصاصاتهم من قبل أحد نواب البرلمان أو الأعضاء البرلمانيين مجتمعين.
إن الهدف الكامن وراء هذا الحق البرلماني هو الحصول على البيانات عن أعمال الجهاز التنفيذي، ويتولى الوزراء بحث ما وجه إليهم من استفسارات ودراستها وإعداد الرد عليها، لمناقشتها ثانية في البرلمان.
__________
(1) -أنظر: د.منذر الشاوي /القانون الدستوري (نظرية الدولة) /بغداد/ مركز البحوث القانونية وزارة العدل /1981/ ص 199.(1/225)
إن لهذه الآلية أثراً مباشراً في الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية بفضل ما تؤدي إليه من لفت النظر إلى الأخطاء واستدعاء الانتباه إلى التصور الموجود في الجهاز الحكومي. وبالتالي كشف حالات الفساد أو بوادرها في ذلك الجهاز(1) على أن الشكل الكلاسيكي (النظري) إذا ما أصابه الانحراف عن صورته المثالية (كهيمنة رئيس الدولة) على البرلمان كما في شكل البرلمانية ((الأورليانية)) أو ((الفايمارية)) أو ((الديغولية)) أو حتى ((الناصرية))(2)،
__________
(1) -د.أحمد فارس عبد المنعم /الديمقراطية ومكافحة الفساد/ في مصطفى كامل السيد (محرراً) /الفساد والتنمية/ جامعة القاهرة/ مركز دراسات وبحوث الدول النامية /1999/ ص341.
(2) -الأورليانية/ نوع من النظام البرلماني تحت حكم لوي فيليب (1830-1848)، وأطلق الاسم نسبة إلى عائلة لوي فليب وهو نظام يسهم الملك بصورة فعالة مع البرلمان فيه.
الفايمارية/ نوع من النظام البرلماني يعود إلى دستور 1919 الذي أقام جمهورية فايمار في ألمانيا التي تأخذ بأسلوب تقوية دور رئيس الدولة.
الديغولية/ هو شكل النظام البرلماني الذي أقامه دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية عام 1958.(1/226)
أو (بهيمنة مجلس الوزراء) على البرلمان(1) سوف يؤدي إلى انعدام فاعلية آلية المساءلة، أما إذا ما ترافق ذلك مع تغيب كامل للشفافية في أعمال الحكومة وندرة المعلومات فضلاً عن احتكار تلك الحكومة للقوة، يجعلنا أمام أنموذج للحكومة يحصن أفرادها ضد المساءلة وينجم عنه تهيئة كل الأجواء في بيئة يمكن للفساد الإنبات والنمو فيها إذا ما توافرت عناصر أخرى مساعدة له(2).
إن الكثير من الدراسات والبحوث والمراكز المختصة في مجال استئصال الفساد تؤكد على تعزيز نطاق المساءلة، ومن هذه المراكز ما سنستعرض آراءها كمثال على ذلك وهي: اللجنة الملكية للإدارة المالية والمساءلة في كندا “The Royal Commission of Financial Management and Accountability”
حيث في الكثير من آرائها تؤكد على ضرورة تفعيل المساءلة لرؤساء الأجهزة التنفيذية بشكل مباشر أمام اللجان البرلمانية المسؤولة، وأن يقوم كل جهاز بإنشاء وحدات مستقلة للإدارة ذات أهداف محدودة وواضحة تساءل عنها.
ولقد عدت اللجنة آلية المساءلة مطلباً رئيساً لمناهضة استغلال السلطة والنفوذ والتأكيد على أن تلك السلطة موجهة نحو تحقيق أهداف وطنية عامة ومقبولة، تنفذ بدرجة عالية من الكفاية والفعالية والأمانة والفطنة. مما يجعل مطلب المسؤولية العامة ومساءلة الوزراء وموظفيهم أمراً ذات ضرورة.
__________
(1) -لمزيد من التفاصيل أنظر /د.منذر الشاوي/ القانون الدستوري (نظرية الدولة) /بغداد/ مركز البحوث القانونية وزارة العدل /1981/ ص182 وما بعدها.
(2) -أنظر في ذلك /د. حسن أبو حمود/ الفساد ومنعكساته الاقتصادية والاجتماعية /دمشق/ المعهد العالي للعلوم السياسية/ 2000.(1/227)
حيث أن أي تقصير يحدث في تأكيد هذا المطلب من شأنه أن يؤدي إلى إيجاد قوانين وأنظمة غير فعالة بالإضافة إلى احتمال كونها استبدادية وغير مسؤولة(1).
إن الهيئة البرلمانية بالإضافة إلى حق المساءلة المخول لها الذي تستعمله ضد الحكومة تملك إجراءات وحقوقاً أخرى تقوم بها لاستكمال الوقوف على الحقائق وهي:
أ-حق إجراء التحقيق: وهو الذي بموجبه تقوم الهيئة البرلمانية بالتحقيق في القضايا التي تنم عن وجود الخطأ أو الفساد في الجهاز الحكومي (عن طريق لجنة مخولة من البرلمان) وليتخذ البرلمان بعد استكمال ذلك التحقيق قراراً بحسم الموضوع وفق النتائج التي وصل التحقيق إليها(2).
ب-حق الاستجواب: وهو أحد الحقوق المخولة للسلطة التشريعية، الذي يعد وسيلة فعالة من وسائل الرقابة الأكيدة لها في مواجهة السلطة التنفيذية، ويتضمن هذا الحق اتهام رئيس الحكومة أو أحد أعضاء حكومته في شأن من الشؤون العامة التي تدخل ضمن اختصاصهم. إن الاستجواب يبدأ بنقد تصرفات الحكومات وقد ينتهي بسحب الثقة منها أو ببعض أعضائها ولكنه يتضمن أيضاً أن تعطى مدة معينة (لمن يوجه له الاتهام) لمناقشة الأمر ودراسته وإعداد بيان بشأنه.
ج-حق سحب الثقة: إن المسؤولية السياسية مظهر مهم من مظاهر رقابة التشريع على التنفيذ، وهذه المسؤولية تعني أن الوزارة أو الوزير مسؤول عن العمل الذي يتصل بالسياسة العامة وقد تكون تضامنية أو فردية. إن هذه المسؤولية تتعلق بالسياسة التي ينتجها رئيس الحكومة أو وزراؤه وإذا لم يوافق البرلمان عليها مكنه الحق الدستوري سحب الثقة من تلك الحكومة مما يوجب عليها الاستقالة.
__________
(1) -الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة/ د.نادر أحمد أبو شيخة (مترجم) /عمان/ المنظمة العربية للتنمية الإدارية /1993/ ص83.
(2) -د.أحمد فارس عبد المنعم /الديمقراطية ومكافحة الفساد/ م س ذ/ ص 342-343.(1/228)
على أن للبرلمان وضمن صفته الرقابية مناقشة بعض الموضوعات مع جهاز التنفيذ للوصول إلى حلول جذرية لمشكلات مستعصية وهذا يشكل جزءاً من الوظيفة الرقابية ولكن بشكلها المتعاون.
إن الحقوق السالفة الذكر والمخولة للبرلمان دستورياً للحد من النشاط غير الصحيح للجهاز الحكومي تستوجب آليات أخرى لتكون فعالة في المواجهة والقضاء على الفساد آليات أخرى، تعزز من نطاق الرقابة البرلمانية، من أهمها:
1-فتح القنوات المباشرة لاتصال الجمهور بالسلطة التشريعية عن طريق مكاتب الشكاوى، ومن الأفضل اتصال كل مواطن بمن يمثله في البرلمان أي ممثل دائرته الانتخابية وينبغي أن تؤخذ شكاوى المواطنين على محمل من الجد فالعبرة ليس بتمريرها إلى السلطة التنفيذية عبر البرلمان ولكن بتدقيق الإجراء بخصوصها، والتزام الأمر وكأنه أمر ذو جانب عالٍ من الأهمية. حيث أن مصداقية البرلمان لا تعزز إلا بفتح القنوات مع الجمهور. أما أن يكون النائب البرلماني (رجل العدالة) و(رجل الخير والإنصاف) وما إلى ذلك أثناء حملته الانتخابية ليسلك كل السبل لمنحه الصوت وبعدها يقول (من بعدي الطوفان)، لا يمثل إلا أشد أنواع الفساد في داخل السلطة التشريعية ذاتها التي من خلالها يمتد الفساد إلى سائر مفاصل الدولة الأخرى فالرقابة البرلمانية تحتاج نواباً يقدرون عظم المسؤولية، وعلى البرلمان نفسه فرض الرقابة على أعضائه وإقصاءهم في حال التخلي عن واجباتهم تجاه الجمهور قبل استخدام الحق تجاه السلطة التنفيذية.
2-المراجعة الدورية للأنظمة والقوانين ومدى ملائمتها لحالة المجتمع، والاستئناس بآراء المتخصصين التي تقال بحق ذلك، بالإضافة إلى الاستفادة من استطلاعات الرأي للحد من قوانين غير ذات فائدة للعموم وتمكن البيروقراطية الإدارية من فرض سطوتها على الجمهور.(1/229)
3-تأكيد البرلمان على إشهار الذمة المالية لأعضائه قبل توليهم المنصب النيابي وبعده، وكذلك مساءلة أعضاء الحكومة والتدقيق بذمتهم وممتلكاتهم الخاصة ومن يعولونهم، بالإضافة إلى مساءلة أقاربهم عمن يلاحظ عليهم الثراء خلال فترة تولي أعضاء الحكومة المنصب أو بعد خروجه منه. وذلك بالتنسيق مع الهيئة القضائية.
4-لا يكتفي البرلمان بمناقشة الميزانية للدولة وإقرارها وإنما قيام اللجان البرلمانية بتدقيق فعّال وفجائي لحسابات المؤسسات الحكومية، والشركات المسؤولة عن توفير السلع والخدمات لضمان أفضل استخدام للأموال العامة(1).
الفرع الثاني:
الرقابة القضائية:
بادئ ذي بدء يمكن القول: إن السلطة القضائية (Judicial Power) هي السلطة التي تسند إلى القضاة والمحاكم، وتقابل في هيكل الدولة السلطتين التشريعية (Legislative Power)، والتنفيذية (Administrative Power)(2) وتمتاز عنهما باستقلاليتها، وسلطة تنفيذ الأحكام التي تصدرها والتنظيم الفعال لها.
__________
(1) -حول المزيد من الإيضاح انظر:
أ-الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة /م س ذ/ ص 77 وما بعدها.
ب-السفير /في-جي راجان/ الشفافية والمساءلة/ في مصطفى كامل السيد /الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص79.
ج-د.عطية حسين أفندي /الممارسة غير الأخلاقية في الإدارة العامة/ في مصطفى كامل السيد /الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص67.
(2) -حارث سليمان الفاروقي /المعجم القانوني/ بيروت/ مكتبة لبنان/ 1982/ ص392.(1/230)
إنها السلطة التي تمتلك بمفردها (طبقاً للمفهوم القانوني) سلطة الإرغام في تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة عنها (كما أشرنا سلفاً)، كما إنها السلطة الفيصل في الحكم على إجراءات السلطات الأخرى في الدولة مما يمكنها من استخدام آلية المساءلة (Judicial Accountability) للكشف عن طبيعة أداء تلك السلطات أمامها(1).
لهذا اقتضى زيادة فعالية وتأثير مبدأ (حسن الحكم Good governance) زيادة تأثير وفاعلية وقدرة القضاء وسلطته ومن أهم صفاتها النزاهة والاستقلالية، وذلك لأن الخلل إذا أصاب جهاز هذه السلطة سمح للفساد أن يشق طريقه سهلاً ميسراً وتسبب في إعاقة جهود التطهير، فضلاً عن تضييق الفرصة للمخبرين عن الفساد في وجود الأذن الصاغية والحماية الكافية لهم من قبل القضاء. وسينعكس أيضاً بالمدى نفسه على الموظفين والمسؤولين الحكوميين الميالين للإصلاح والراصدين لظواهر الفساد في الأجهزة العاملين بها وما يتعرضون له من مضايقة من الموظفين الإداريين والحكوميين الفاسدين الذين أمنوا سطوة القضاء بالخلل الذي أصابه. مضافاً إلى ذلك أيضاً ما سوف تعانيه بيوت الأعمال الخاصة النزيهة والعاملة بموجب القانون من تمييز في الانتصاف لها(2)، مما يمكن مروجي الفساد (الفاسدين والمفسدين) من الاستمرار في أنشطتهم الخارجة عن القانون دون الخشية من العقاب.
__________
(1) -انظر /الأمم المتحدة/ تقرير التنمية البشرية 1997/ القاهرة/ دار الأهرام (مترجماً) /1997/ ص109.
(2) -كيمبرلي ان اليوت /الفساد مشكلة من مشكلات السياسة الدولية /في كيمبرلي ان اليوت/ الفساد والاقتصاد العالمي/ محمد جمال إمام (مترجم) /القاهرة مركز الأهرام للترجمة والنشر /2000/ ص ص 284-290.(1/231)
إن فعالية القضاء تهدف حماية المجتمع من أي تعد غير قانوني على حقوق الأفراد فيه، لذا فإنه يتوجب عليها التأكد من دقة الصلاحيات الممنوحة للموظفين العموميين، ومراقبة سوء استخدام السلطة وانتهاك القانون واستغلال النفوذ وتزوير الانتخابات والتهرب من الضرائب، بالإضافة إلى قانونية الممارسات الحكومية، على أنه يكون الدور الرقابي والقضائي للسلطة القضائية متسماً بالحياد والموضوعية(1).
لقد تجلت فاعلية الرقابة القضائية في استئصال الفساد، بمثال حي وهو واحد من أمثلة عدة إلا أن فاعلية هذا المثال في بيئة تعج بالفساد جعلته أنموذجاً يستذكره العديد من الدارسين والمهتمين بقضايا الفساد، بحيث أصبح رائده وهو القاضي بلانا (Plana) واحداً من رموز مكافحة الفساد في الفلبين، وأنموذجاً يحتذى به في الكثير من ممارسات استئصال الفساد في العالم.
ففي إبان عهد (ماركوس) (وكما قدمنا في مواضيع سابقة) كانت الفلبين تعاني من استشراء الفساد فيها. وأحد من المفاصل التي حصلت على استهجان الجمهور هو (مكتب ضريبة الدخل) لكثرة أساليب الفساد فيه، حتى أن الرائحة غير المقبولة للفساد في هذا المفصل، استدعت من (ماركوس) نفسه وهو أحد رموز الفساد في العالم، لأن يبدأ بحركة إصلاح له، وقد أوكل مهمتها إلى القاضي المذكور أحد القضاة في محاكم العدل في الفلبين.
إن مكتب الضريبة المذكور كان انتشار الرشوة فيه وحالات الإثراء غير المباح لموظفيه، والتحايل والتزوير في القوانين وعليها يعد من الأمور الطبيعية في ممارساته اليومية. لذا استدعى لمكافحة ذلك من قبل (بلانا) استخدام الأسلوب القضائي لتطهير الإدارة المذكورة(2).
__________
(1) -الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة/ م س ذ/ ص 84.
(2) -للمزيد من التفصيل انظر:
روبرت كليتجارد /السيطرة على الفساد Controlling corruption /علي حسين عجاج (مترجم)/ عمان/ دار البشر للنشر والتوزيع /1994/ ص 83 وما بعدها.(1/232)
حيث تمثلت استراتيجية (بلانا) لاستئصال شأفة الفساد بالعناصر التالية:
أ-استحداث نظم جديدة لتقييم الأداء.
ب-جمع المعلومات عن الفساد.
ج-معاقبة كبار المسؤولين بشكل صارم وسريع.
على أنه أضاف إلى العناصر أعلاه الآتي:
أ-المهنية Profession alization.
ب-تحديد دافعي الضرائب الفاسدين المحتملين.
ج-تشديد أنظمة الرقابة.
د-تغيير قوانين الضرائب.
هـ-تقوية وإحكام الإشراف المركزي على الأقاليم.
و-تناوب ممثلي السلطة Rotating Agents.
ز-إشراك المدققين الخارجيين.
ح-تغيير الاتجاهات السائدة نحو الفساد(1).
فضلاً عن قيام (بلانا) بتقصي المعلومات من خلال فرق تحقيق معظم أعضائها من ضباط الاستخبارات، حيث تمكن من متابعة موظفي ومحصلي الضرائب من خلال مراقبة مستوياتهم المعيشية ومدى البذخ في الاستهلاك، وكذلك بعدد مرات ترددهم إلى صالات القمار وعلب الليل، وإجراء إحصاءات بممتلكاتهم وكذلك عضويتهم في النوادي الخاصة.
كل هذه الإجراءات الرقابية لا يمكن أن يقوم بها إلا شخص مخول بالقانون، و(بلانا) هو القاضي الذي خوله القانون متابعة ذلك، فأقسام الرقابة المالية ودوائر تدقيق الحسابات لا يمكنها القيام بالإجراءات كلها عن طريق أعضائها(2).
هذا فضلاً عن إجراءات الإرغام التي استخدمها (بلانا) التي هي جزء من آلية عمل القضاء حيث عمد للإرغام في مساءلة (Accountability) كبار المسؤولين والحد من أنشطتهم المصابة بالفساد، واستخدم الإرغام كذلك لعزل الكثير من أولئك المسؤولين، وهو أيضاً من قام خلال مدة وجيزة نسبياً بعد اكتمال المعلومات لديه بطرد (34) موظفاً والطلب إلى (15) آخرين بتقديم استقالتهم.
__________
(1) -لمزيد من التفصيل انظر: الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة/ م س ذ/ ص ص 66-67.
(2) -روبرت كليتجارد /السيطرة على الفساد Controlling corruption /م س ذ/ ص 83 وما بعدها.(1/233)
إن (بلانا) أفصح عن شكل الرقابة القضائية وفاعليتها في تطهير جهاز كان مضرب الأمثال في فساده، ولذلك أوصلته خبرته القضائية إلى حد أن تقويمه كان على حد تعبير أحد الخبيرات بشؤون الفساد/ البروفسورة (اليونور ماغنوليس برايونس) بالآتي:
((إن (بلانا) يستحق أن يقال عن جهوده أنها حققت أثرها على الجميع من العاملين في مكاتب ضريبة الدخل))(1).
وبعد استعراض تجربة القاضي (بلانا) كأنموذج ناجح للرقابة القضائية لمناهضة الفساد، سنوجز بعض النقاط التي ترى دراستنا هذه أنها تعزز من دور الرقابة القضائية حسبما أفرزته الدراسات القائلة بهذا الشكل من الرقابة لمكافحة الفساد وهي:
1-احترام الدستور بعدِّهِ قانوناً أسمى، ومراقبة صحة التشريعات الأخرى، والحد من التطبيقات الحكومية غير المتوافقة مع أحكام الدستور والتشريعات المذكورة التي قد تمكن أعضاء الحكومة أو السلطة التشريعية من السير باتجاه الفساد، وتعزيز نطاق المساءلة القضائية لهؤلاء بشكل صارم ودون تمييز بإجراءات سريعة وفعالة تدل على قدرة السلطة القضائية في ذلك.
2-المراقبة والحد من جرائم استغلال النفوذ الهادفة إلى تهديد الحياة العامة، وانتشار المظالم والمفاسد، وبالتالي شيوع الاضطراب. ومعاقبة كل شخص طلب لنفسه أو قبل وعداً أو عطية للحصول على مزية أية سلطة عامة وذلك باستعمال نفوذه الحقيقي أو المزعوم مثال ما جاءت به المادة (178) في قانون العقوبات الفرنسي وفقاً لقانون 1945.
__________
(1) -م ن/ ص 83 وما بعدها.(1/234)
3-اتخاذ الإجراءات القضائية لحجز الأموال ومصادرة الممتلكات التي تم الحصول عليها بطرق فاسدة وغير مشروعة أو بطرق احتيالية بعد التحقيق قضائياً من عدم شرعيتها، والاستفادة من تعيينها في إقرارات إشهار الذمة المالية لأعضاء الحكومة والبرلمان (التي سبق التطرق إليها في الرقابة البرلمانية)، وعمن يعيلونهم أيضاً، ومثال ذلك ما أوجبه القانون رقم 11 لسنة 1968 الصادر في الجمهورية العربية المتحدة من أحقية للقضاء في تدقيق الذمم المالية لأعضاء الحكومة، والمقترن بالقرار الرئاسي رقم 1118 لسنة 1968 في شأن إجراءات تنفيذه المنشورة في الجريدة الرسمية للجمهورية العربية المتحدة العدد 18 لسنة 1968.
4-فسح المجال للمبلغين عن حالات الفساد والأخطاء بإيصال شكواهم وتمتع القضاة بالحلم والأناة في سماع ذلك وعدم إشعارهم باللامبالاة التي تؤخذ على رجال القضاء من منطق الحياد في القضايا بحيث يدفع ذلك التظاهر إلى إمكانية تراجع ذلك المبلغ عن دعواه. والعمل بشكل جاد وذي متابعة منتظمة من القاضي على حماية ذلك المبلغ عن الفساد، وإلزام الجهات الأمنية كالشرطة أو ما شابهها من أجهزة قائمة على حماية الأمن بتوفير الحماية الشخصية له ولعائلته. وكذلك العمل على تعزيز النصوص التي تقر الحماية لأولئك الأشخاص. حيث أن المرونة والدعم سوف تشيعان حالة إيجابية من الاطمئنان لاهتمام القضاء في الرأي العام مما يجعل الرقابة الشعبية ظهيراً سانداً للرقابة القضائية.
5-مراقبة نظم التوريدات الحكومية وإلزام القضاء الجهات الرسمية بالإفصاح عنها والتحلي بشفافية تعاملاتها.(1/235)
6-الرقابة الدائمة والمستمرة والتحري عن البيانات الخاصة بأعمال القطاع الخاص، والتزامه بالسداد الكامل للضرائب (لأنها جزء من الدخل القومي)، والرسوم الكمركية للبضائع المستوردة ومطابقتها للمواصفات المسموح بها، وتنفيذ أفراد القطاع الخاص للقوانين بشأن العمالة وحقوقها في ذلك القطاع. والحد من استغلاله لإمكاناته المالية لتسهيل أعماله عن طريق الرشوة، وإلزام أصحاب بيوت الأعمال في القطاع الخاص بإشهار الذمة المالية تحسباً لورود الأموال بطرق غير شرعية التي غالباً ما ترصد في عمل ذلك القطاع. بغية تحفيزه على العمل القانوني المنظم والنهوض بدوره كقطاع داعم لمسيرة البلدان ونموها وتطورها. وفي الوقت ذاته الحد من آليات غسل العملة.
7-العمل على مراقبة استخدامات الأموال العامة، والأداء الرقابي القضائي لأعمال تدقيق الحسابات وعدم الاكتفاء بترك الرقابة المالية لأقسام المحاسبات الحكومية فحسب.
8-تفعيل دور الادعاء العام كجزء مهم من أجزاء السلطة القضائية(1).
الفرع الثالث:
نظام الأمبودسمان أو المفوض العام (Ombudsman System)
يعد نظام الأمبودسمان واحداً من مظاهر الرقابة لاستئصال شأفة الفساد ويمكن توصيفه على أنه: "نظام المحقق في الشكاوى ضد موظفي الدولة"(2).
وكلمة (Ombudsman) مفردة ذات أصل أسكندنافي وذلك لأنه أول تطبيق، للمفوض بالتزام ما (الأمبودسمان) ظهر في السويد عام 1809، ومنه انتشر إلى الكثير من دول العالم.
__________
(1) -للمزيد من التفصيل أنظر:
-الأمم المتحدة /تقرير التنمية البشرية 1997 /م س ذ/ ص 109 وما بعدها.
-الأمم المتحدة /الفساد في الحكومة /م س ذ/ ص 84 وما بعدها.
-كيمبرلي ان إليوت /الفساد كمشكلة من مشكلات السياسة الدولية /م س ذ/ ص ص 284-290.
-د.رفعت أحمد خفاجي /جرائم الرشوة/ القاهرة/ دار قباء للطباعة والنشر /1999/ ص 185.
(2) -منير بعلبكي /قاموس المورد 86/ بيروت /دار العلم للملايين/1986/ ص631.(1/236)
نظام (Ombudsman) عادة ما ينشأ بموجب الدستور، أو بتفويض يصدره البرلمان في البلاد. ويترأسه موظف عام (مفوض) (أو هيئة من المفوضين) ذو مستوى عالٍ ويتمتع بالاستقلالية، وتتحدد مسئووليته أمام البرلمان. أن (الأمبودسمان) يتولى النظر في الشكاوى المقدمة من قبل المتظلمين من الهيئات الحكومية والمسؤولين والموظفين، كما أنه له المبادأة بإجراء التحقيقات، والتوصية بالخطوات التصحيحية، ويعد هو أيضاً المكلف بإعداد التقارير اللازمة بشأن ذلك كله.
إنها إحدى وسائل الرقابة التي تجعل الإدارة دوماً موضعاً للمساءلة (Accountability) أمام لجنة مخولة من السلطة التشريعية(1). ولكن التوسع الدولي باللجوء لنظام (الأمبودسمان) في الرقابة جعل هذا النظام في بعض الدول يتشكل بتكليف من السلطة التنفيذية كما هو الحال في العديد من دول جنوب شرق أسيا وأفريقيا.
لقد تعرض نظام (الأمبودسمان) إلى مجابهات وردود أفعال كثيرة فالمملكة المتحدة على سبيل المثال رفضت فيها حكومة المحافظين عام (1962) إنشاء مثل هذا النظام، لدواعي عدم التطابق بين مسؤوليات (الأمبودسمان) والمسؤولية الوزارية، وذلك لأن الوزير مسؤول بموجب المسؤولية الوزارية أمام البرلمان، ومن غير الممكن أن يقوم مكتب (الأمبودسمان) بمراقبة الوزير في الخفاء، أو تعقبه عند أدائه مهامه الوزارية. إلا أن ذلك لم يمنع فيما بعد من قيام مكتب المفوض البرلماني للإدارة بمباشرة أعماله في المملكة المتحدة (The Parliamentary commissioner for administration).
كذلك وضمن نطاق معارضة رقابة (الأمبودسمان) فإن سنغافورة كذلك لم تصادق على مثل هذا النظام الرقابي عام (1966) بحجة عدم تحقق الخبرات والمهارات الكافية لإقامته(2).
__________
(1) -أنظر /الأمم المتحدة/ الفساد في الحكومة/ م س ذ/ ص ص 95-97.
(2) -المصدر نفسه/ ص ص 95-97.(1/237)
إلا أن الجدير بالذكر كون جهود البروفيسور (ستيفان هوروتيز Hurwitz) الذي شغل منصب (الأمبودسمان) في الدنمارك في الخمسينيات وحماسته أثمرت في جعل الكثير من دول الشمال والجنوب تؤمن بإنجازه على غرار ما قام به (هورويتز) وكان حصيلة ذلك أن عرفت النظام دول مثل نيوزيلندة، النمسا، فيجي وغوايانا.
وعلى سبيل المثال فقد أسهم الوطن العربي في مثل هذا النظام حيث نلحظ أن الجمهورية العربية المتحدة شكلت عام (1964) هيئة، ترى الدراسة أنها تشبه في نظامها نظام (الأمبودسمان) إلى حد بعيد، فكان أن شرع القانون رقم 54 لسنة 1964 لتباشر تلك الهيئة الرقابة ضمن اختصاصها في الجهاز الحكومي، والجمعيات العامة والخاصة، ومؤسسات القطاع الخاص التي تباشر أعمالاً عامة وجميع الجهات التي تسهم الدولة فيها بوجه من الوجوه.
لقد كانت تلك الهيئة تعمل تحت عنوان (هيئة الرقابة الإدارية) وتنظر في:
1-شكاوى المواطنين.
2-ما تنشره الصحف من مشكلات عامة وخاصة للمواطنين ورصد الظواهر غير الإيجابية.
3-حالات خرق القوانين وحالات الإهمال.
4-سوء الإدارة واستغلال النفوذ.
وكان عليها دور آخر هو تلبية تكليفات رئيس الوزراء والوزراء والمحافظين ومطالب جهات التحقيق المختلفة ومدهم بالمعلومات التي يطلبونها. فالهيئة تبحث فضلاً عن كل ما تقدم في قصور الإنتاج، وعيوب النظم الإدارية والمالية، والكشف عن الجرائم التي ترتكب للمساس بالمال العام، وحالات الكسب غير المشروع مما يوفر لها كماً هائلاً، من المعلومات(1).
__________
(1) -اللواء /هتلر طنطاوي/ دور هيئة الرقابة الإدارية في مكافحة الفساد في مصر/ في مصطفى كامل السيد (محرر) الفساد والتنمية/م س ذ/ ص 312.(1/238)
إن تشريع قانون إنشاء هيئة الرقابة الإدارية لم يجئ في الجمهورية العربية المتحدة إلا تعزيزاً لنطاق (المساءلة) وإلزاماً للقطاعات الحكومية العاملة بتحقيق (شفافية) الأعمال (منذ وقت متقدم) بصورة أكثر بحيث تحقق الهيئة وظائفها بصورة مثلى والشواهد على ذلك كثيرة في هذا الجهاز الأنموذج في الوطن العربي.
إذاً ومن خلال ما عرضنا له نرى من الواجب القيام بتوثيق أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في شكل الرقابة بنظام (الأمبودسمان) للحد من الفساد وهي:
1-الاستقلالية Independency
وهي صفة مهمة من الصفات الواجب أن يتمتع بها نظام (الأمبودسمان) وتعني استقلاليته عن التدخلات الإدارية والتنفيذية التي يشويها الكثير من الحد من سلطات (الأمبودسمان).
إلا أن استقلالية هذا النظام تتوقف على الأسلوب الذي تم به إسناد المهمة (للمفوض) فجمهورية تنزانيا مثلاً في نظامها يخول رئيس الجمهورية هيئة مفوضين (Commission) للبدء بالتحقيق كخطوة أولى، بعد ذلك ليس من حق أي شخص حتى رئيس الجمهورية ذاته الحق في إيقاف آليات التحقيق التي بدأها (الأمبودسمان). بينما في جارتها الأفريقية (زامبيا) يتمتع رئيس الجمهورية بكامل الصلاحية التي تمكنه من التدخل والنظر في تحقيق ما(1).
في حين أن السويد لا تسمح بفرض أي تحقيق على المفوض العام أو إصدار أمر له بوقف أي تحقيق.
ويبدو أن الاستقلالية للنظام مكفولة بشكل أكبر في الدول التي يتم إسناد المهمة (للمفوض) فيها عن طريق السلطات التشريعية. حيث أن الإسناد من قبل التنفيذ غالباً ما يشوبه التدخل في سلطات (المفوض) وهذا ما هو شائع في عالم الجنوب كما سبق وأشرنا له فيما سلف.
__________
(1) -لمزيد من التفصيل أنظر /الأمم المتحدة/ الفساد في الحكومة/م س ذ/ ص ص 98-100.(1/239)
إن الاستقلالية تعزز ثقة الجمهور بمن توكل إليه مهمة محاربة الفساد، ولقد ذكر حاكم هونغ كونغ عام 1973 (ماكليهوز) الذي أنشأ أنظف وأكفأ لجنة لمحاربة الفساد في آسيا وهي:
اللجنة المستقلة لمحاربة الفساد “Independent Commission Against Corruption (I C A C)”
أمام المجلس التشريعي لهونغ كونغ مؤكداً على الاستقلالية ما نصه: "إن الجمهور ستكون لديه ثقة أعظم في وحدة مستقلة كل الاستقلال ومنفصلة عن أية أجهزة أخرى بما في ذلك الشرطة".
وأسند تلك المهمة إلى شخص هو (جاك كيتر) الذي كان له باع طويل في الخدمة الحكومية، بوصفه وزيراً سابقاً، وحاصلاً على ثقة الجمهور، وله مطامح قيادية حيث كان يطمح أن يتولى منصب حاكم هونغ كونغ. وقد أثبتت التجربة أن اللجنة ورئيسها الذي كان شكلاً من أشكال الرقابة وفق نظام (الأمبودسمان) قادرة على جعل هونغ كونغ من أنظف مناطق آسيا من حيث الفساد بعد أن كان مستشرياً فيها(1).
2-سلطة التحقيق Investigatory power
حيث يتعذر أن يكون النظام فعالاً في حال عدم حصوله على المعلومات الضرورية والأدلة والوثائق المطلوبة، أي بعبارة أوضح لا يعد نظام (الأمبودسمان) فعالاً في حالة انعدام الشفافية (Transparency) في سياسة الحكومة التي غالباً ما تكون هي الساحة التي يحقق فيها (الأمبودسمان).
كما يجب أن تكون لسلطة التحقيق إمكانية جمع المعلومات عن كل شخص يشتبه به(2).
__________
(1) -راجع /روبرت كليتجارد/ السيطرة على الفساد Controlling Corrupting /م س ذ/
ص153.
(2) -انظر /الأمم المتحدة/ الفساد في الحكومة /م س ذ/ ص 100.(1/240)
ونلاحظ أن اللجنة المستقلة لمحكافحة الفساد في هونغ كونغ (I C A C) استخدمت هذا الأسلوب حيث أن سلطة التحقيق تطول كل شخص يشتبه به ويفتح على أثر ذلك له ملف في اللجنة، وتقوم اللجنة (باستدعائه ومقابلته وتقابل أصدقاءه وأقاربه) وجمع المعلومات في الأماكن التي عمل بها أو يتردد عليها، ولها التدقيق في كل شؤونه حفاظاً على أهمية الموضوع(1).
3-الشخصية Personality والمرونة Flexibility وإمكانية الاتصال Accessibility:
يجب في شخص يشغل منصب (الأمبودسمان) أو في (الهيئة المفوضة) التمتع بشخصية تمتاز بالسرية والكتمان والحذر والصرامة والصبر، كما يمتاز باهتمامه الكبير بالجمهور ورغبته في تحقيق العدل والإنصاف. لذا يجب أن يكون هذا الشخص يتحلى بالمرونة للتعامل مع المظالم الفردية مثل (التحيز، الإهمال، التأخير، عدم الكفاية، الفوضى، الاستبداد، التسلط.. إلخ).
فضلاً عن ذلك يكون شخصاً سلساً يمكن الاتصال به بسهولة ويسر. وغالباً ما تكون القضايا التي يدقق فيها (الأمبودسمان) بشكل عرض حال مكتوب (Simple written Expose) تتبعه لقاء أو لقاءات للوقوف على الحالة، من أجل دراستها وتقييمها ووضع السبل الناجحة لمكافحة الفساد الذي تتناوله تلك الطلبات والشكاوى(2).
لذا وبعودة إلى مثالنا نجد أن (جاك كيتر) يتمتع بشخصية محبوبة جداً لدى الشعب الصيني المحلي في هونغ كونغ وهي صفة عدت مهمة جداً لترأسه للجنة المستقلة (I C A C) علاوة على أنه يتمتع بالمرونة الكافية من حيث التعامل مع المواطنين أو من حيث جمعه للبيانات.
__________
(1) -روبرت كليتجارد /السيطرة على الفساد Controlling corruption /م س ذ/ ص 157.
(2) -انظر /الأمم المتحدة/ الفساد في الحكومة/م س ذ/ ص 101 وما بعدها.(1/241)
أما اتصال الأفراد بـ(كيتر) فقد يسر الرجل السبل كافة للاتصال به، تعزيزاً لذلك قام بإنشاء لجان استشارية من المواطنين ضمت بين صفوفها منتقدي الحكومة، وكذلك قرر متابعة شكاوى الجمهور عن طريق الهواتف الساخنة (Hot line) ومراكز تقديم الشكاوى التي افتتحها فعزز بذلك إمكانية الوصول إليه(1).
4-السرعة والصلاحيات Jurisdiction & Speed
إن نظام المفوض (الأمبودسمان) بلا صلاحيات، كساع إلى الهيجا بغير سلاح، فلكي يحد من الفساد يقتضي منحه الكثير من الصلاحيات، ولكي يحصل على المزيد من التعامل الموثوق معه وكذلك تعزيزاً لمصداقيته عليه أن يتم إنجاز القضايا الموكلة إليه بالسرعة اللازمة وبدون أي تأخير.
وبانتقاله إلى ما قامت به لجنة (كيتر) في هونغ كونغ (I C A C) نلاحظ أنها استخدمت صلاحيات واسعة منحت لها خولتها:
أ) إلقاء القبض على كل من يشتبه به بالتورط في الفساد وتخويل ضباط اللجنة إلقاء القبض بدون تفويض إذا اقتضت الحالة.
ب) استدعاء اللجنة لأي شخص كان، وطلب إفادته لأي سبب يراه رئيس اللجنة ضرورياً.
ج) إمكانية التصرف بالأموال وتجميدها والناجمة عن أعمال الفساد بعد التأكد من ذلك.
د) مصادرة وثائق السفر لأي مشتبه به لمنع هروب ما يطلق عليهم محلياً في هونغ كونغ (الأسماك الكبيرة) خارج البلاد.
هـ) الاستعانة بالخبراء المشهود لهم بالنزاهة من خارج البلاد.
و) إصدار الأوامر للمصارف بكشف حسابات العملاء وتفتيش صناديق ودائعهم.
__________
(1) -انظر روبرت كليتجارد /السيطرة على الفساد Controlling Corruption /م س ذ/ ص 155-158.(1/242)
أما من حيث السرعة في إنجاز المهمام فقد استخدمت اللجنة أساليب صيغت على نمط تحقيقات (Federal Bearu of Investigations) (FBI) مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي و(M 15) البريطاني، وكانت التحقيقات والمتابعات تجري على مدى (24) ساعة لضمان السرعة في الإنجاز إلا أن بعض القضايا لتعقيدها تستغرق أشهراً بل وسنيناً(1).
الفرع الرابع
رقابة الأعلام
عام 1948 أقرت مجموعة الدول المنضمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلاناً عرف ((بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان)) وجاء في نص المادة(19) منه الآتي:
((لكل شخص الحق في حرية التفكير والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستيفاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقييد بالحدود الجغرافية))(2).
وبناء على هذا الإعلان، وما جرى عليه العمل الحر من احترام للحريات المدنية والسياسية للمواطنين، التي من أهم مقوماتها السياسية حرية التعبير عن الرأي، تبزغ ظاهرة للعيان أهمية كون ((الإعلام حراً)) حيث جرى العمل في البدء على مبدأ (حرية الصحافة) إلا أن ما شمل وسائل الإعلام كافة من تطور هائل جعل هذا المفصل المهم يشكل ثورة هي ثورة الصورة، بعد ثورة الصوت، المتمثلة بالتلفزة التي قدر لها فيما تلا من تطور أن تركب الأقمار الصناعية وأن تمر عبر كل القارات وعبر كل الحدود، وعبر كل الأسوار والجدران في ثوان. وبذلك أصبحت الوسيلة الجديدة أوسع من وسيلة (حرية الصحافة) لتعبر عن ما للرأي العام من آراء ليس الوطني حسب ولكن العالمي أيضاً(3).
__________
(1) -انظر /نفس المصدر السابق ص 158.
(2) -انظر /الأمم المتحدة/ الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان /القاهرة/ دار الشعب/ 1981/ ص ص 9-16.
(3) -انظر لمزيد من التفصيل /محمد حسنين هيكل/ كلام في السياسة/ القاهرة/ الشركة المصرية للنشر العربي والدولي/ فبراير 2000/ ص 23.(1/243)
لهذا كله عدت الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وسائل للرقابة الشعبية على السلطات، يماط اللثام عن طريقها عن الكثير من الظواهر السلبية وآليات الفساد.
لقد عدت رقابة الإعلام (السلطة الرابعة) في بناء الهيكل السلطوي للدولة والمتكون أساساً من السلطات الثلاث (التشريع، والتنفيذ، والقضاء).
إنها السلطة التي أصبحت المنبر الذي من خلاله يعبر الرأي العام عن تطلعاته، ونظرته الفاحصة للأمور، وتقييمه لوضع الجهاز الحكومي ومواطن الخلل وسلبية التصرفات فيه(1).
ولهذا فقد استفادت الكثير من بلدان عالم الشمال التي استوطن فيها الفساد لبضع حقب من (السلطة الرابعة) ورقابتها وخصوصاً الصحافة في تقييم مؤسساتها، والاستفادة من نقد الرأي العام عن طريقها وكذلك توجيه الرأي العام للحد من الفساد عن طريقها أيضاً المثال الذي نراه جلياً (في حالة بريطانيا خير دليل على أهمية هذا الجهاز الرقابي).
كذلك أيضاً استفادت العديد من دول الجنوب من رقابة الإعلام حيث نجحت مساعي سنغافورة للحد من الفساد بتجنيد وسائل الإعلام لتؤهلها لتصبح ممن يحتمل المواقع المتقدمة في الطهر من الفساد واتسام أعمال الحكومة بالشفافية فيها(2).
وبعد هذا علينا أن نترك الضفة التي تمارس دور الرقابة لننتقل إلى الضفة الأخرى التي تمارس دور التوجيه والتوعية، حيث إن للإعلام فضلاً عن الوظيفة الرقابية وظيفة ثابتة وهي إقامة حملات التوعية بمضمار الفساد التي تحفز العامة على رصد تلك الحالات وبالتالي سوف يصب الفعل في الجدول نفسه الذي يحوي الماء الطهور لغسل درن الفساد.
__________
(1) -د.أحمد فارس عبد المنعم /الديمقراطية ومكافحة الفساد /في/ مصطفى كامل السيد (محرراً) الفساد والتنمية /م س ذ/ ص 349.
(2) -د.نبيل علي وآخرون /مقاربة سيوسيولوجية – اقتصادية لظاهرة الفساد /دمشق/ المعهد العالي لعلوم السياسية /2000-2001/ ص 13.(1/244)
فحملة واضحة وجلية الأهداف، وبتصرف ذي مصداقية يُبغى من ورائه التعريف بأن لمكافحة الفساد آثار إيجابية على تحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية يقوم بيانها أكاديميون ومتخصصون ورجال دين من الثقاة الذين يعدون قادة رأي لهم تأثير في نفوس الجمهور. وباستخدام أمثل لوسائل الإعلام (بكل مفاصلها) من التلفزة إلى الصحيفة المحلية إلى إقامة الندوات الإعلامية بدون مبالغة وبتوازن في شرح الموضوع بين مبادئ الثواب والعقاب على ممارسة، أو عدم ممارسة، آليات الفساد سوف نصل إلى إمكانية إيصال رسالة إعلامية نظيفة تساهم في الحد من الفساد، لآثاره السلبية التي يمكن أن تثمر كما تثمر حملات الحد من التدخين، والحد من تعاطي المخدرات والحد من تعاطي الأدوية،.. إلخ.
حيث أن للإعلام، وباستخدام العديد من المؤثرات، الإمكانية في النجاح بحملة تحارب الفساد(1).
2-تنشيط فرص الإصلاح
بعد أن بينا ما للأدوار الرقابية للبرلمان والقضاء ونظام المفوض العام والإعلام من أثر واسع في إصلاح الفساد، لا بد أن نذكر محاور أخرى ترى الدراسة أنها مكملة لما أسلفناه، التي تعزز من الإحاطة بالفساد واستئصاله، وهذه المحاور توضحها الفروع الآتية:
الفرع الأول: الحل الديمقراطي لمشكلة الفساد
اعتاد الناس تداول عبارة، اتخذتها الأوساط التي تعنى بصحة الإنسان دليل عمل في الكثير من وسائل عملها لمكافحة الأمراض وهي عبارة:
((الوقاية خير من العلاج))
ونحن نرى أن الفساد وباء يصيب المجتمعات، ويتطلب استخدام العبارة السالفة أيضاً، قبل فتكه بالمجتمعات، والأكلاف العالية لمكافحته إذا ما استفحل.
__________
(1) -لمزيد من التفصيل /انظر/ أ.د. عبد الرحمن أحمد هيجان/ مكافحة الفساد الإداري: الاستراتيجيات والإمكانيات/ مجلة الأمن والحياة/ العدد 217/ أكتوبر 2000/ ص 54.(1/245)
ومن منظور الوقاية حصراً، فإن الدول الديمقراطية تظهر إمكانيات للحد من الفساد والوقاية منه أكثر من الدول غير الديمقراطية، فاحتكار السلطة في الأخيرة يكون العامل الأول والأهم للفساد وخصوصاً، على حد تعبير /أ. د. مصطفى كامل السيد/ في هذا الجانب، ما اكتشفته قضية التعاقب على السلطة التي تغيب فيها الديمقراطية بشكل كامل وهو ما نراه في الكثير من دول عالم الجنوب(1).
إن الإقرار بالمبدأ الديمقراطي السلمي للسلطة وتداولها الذي تعرفه الكثير من دول عالم الشمال وعالم الجنوب، يضع القيود على وجود حكومة دائمة وكذلك استمرار معارضة دائمة، حيث يتم في ظل هذا المبدأ تبادل المواقع من فترة لأخرى انسجاماً مع ما تأتي به نتائج الانتخابات الديمقراطية. التي تجعل السلطة موزعة ومتوازنة بدلاً من الأحادية في مراكز اتخاذ القرار، والذي يؤدي بالنتيجة إلى مكافحة الفساد في أكثر من زاوية. فالقائمون على الحكم في ظل الديمقراطية يخشون السير في منحى الفساد خوفاً من افتضاح الأمر بعد نهاية ولا يتهم للسلطة، فضلاً عن أن أسلوب التداول يمنع تكوين شبكات الفساد بصورة كبرى ومعقدة وذلك لأن تدوير الدماء في النخب السياسية وتجديدها في ظل هذا الأسلوب شيء وارد.
يضاف إلى هذا أيضاً أن من يتولون السلطة بالأسلوب المشار إليه يمتازون بكثرة عددهم، ورشوة الكثرة أصعب بكثير من رشوة الواحد (في ظل احتكار السلطة)، بل يكاد يكون من الاستحالة، مع الكثرة، أن يبقى فعل التواطؤ مكتوماً.
__________
(1) -من لقاء: للباحث مع أ. د. مصطفى كامل السيد /مدير مركز دراسات وبحوث الدول النامية/ جامعة القاهرة/ 6/شباط/2001.(1/246)
كما أن مبدأ تداول السلطة السلمي لا يتم إلا في ظل تصويت الشعب لصالح نخبة معينة لكي تصل إلى السلطة، وفي حالة استفحال الفساد في نخبة سبق فوزها بالانتخابات، يفوت عليها الفرصة في الحصول على أصوات الشعب مرة ثانية للوصول إلى السلطة (في حالة الانتخابات الديمقراطية الحرة النزيهة البعيدة عن أساليب التزوير والقسر والقمع)(1).
ولقد تمت الملاحظة بصورة دقيقة في دراسة أنموذج (فلبين) ماركوس، و(أندونيسيا) سوهارتو، و(زائير) موبوتو، أن عالم الجنوب فيه الكثير من أشكال احتكار السلطة وعدم الأخذ بمبدأ التداول السلمي لها الذي بمقتضاه استمرت هذه النظم لمدد طويلة بأشخاصها دون إمكانية التغيير أو الاستبدال بنخب بديلة مما دعاها إلى عدم الخشية عند ممارسة الفساد لأنها واثقة أن إمكانية كشف هذا الفساد معدومة، لاستثمارها وتحكمها بالسلطة(2).
كل ذلك جعل الإقرار بأن الضمان الحقيقي لحل (مشكلة الفساد) بشكل أساس يكمن في تداول السلطة حتى لا يعشعش هذا المرض لمدة طويلة ويتم توارثه والتستر عليه(3).
وتأسيساً على ما جاء فقد أكدت طروحات المهتمين والنخب المثقفة في الكثير من المحافل على أهمية الحل الديمقراطي.
من ذلك ما أكد عليه البيان الختامي للمؤتمر القومي العربي الحادي عشر المنعقد في بغداد من 10-13 أيار 2001 عند مناقشته (لموقف الديمقراطية وحقوق الإنسان) حيث جاء فيه:
((
__________
(1) -انظر في ذلك: -جورج طرابيشي /ثنائي الديمقراطية والفساد/ صحيفة الحياة/ العدد 13273/11 تموز 1999.
وكذلك: -د. أحمد فارس/ الديمقراطية ومكافحة الفساد/ في مصطفى كامل السيد/ الفساد والتنمية/ م س ذ/ ص ص 337-338.
(2) -انظر د. أحمد فارس/ الديمقراطية ومكافحة الفساد/ م س ذ/ ص 337-ص338.
(3) -د.محمود عبد الفضيل /اقتصاديات الفساد/2/ محاور حصار الظاهر والقضاء على تداعياتها السلبية/ صحيفة السفير 30/3/2000.(1/247)
إن الديمقراطية داخل الأقطار العربية هي الطريق الأفضل والأجدى لتنمية العمل القومي الوحدوي الحق، إذ بمقدار ما تتوسع رقعة الحريات تزداد مساهمة الشعب العربي في بناء أسس تقدمه ووحدته)) يضاف أيضاً تأكيد المؤتمر على ((وقف العدوان على إرادة الشعب الحرة، من خلال وضع حد لتزوير الانتخابات وطبخ المؤسسات الصورية، كما من خلال إحاطة الاقتراع والحياة التمثيلية بالضمانات القانونية والدستورية التي تكفل لها الشرعية والصدقية، وتأكيد مبدأ التداول السلمي لسلطة عبر انتخابات نزيهة يتعدد فيها المرشحون ويشرف عليها القضاء إشرافاً كاملاً))(1).
حيث نرى أن المؤتمر قد شخص، من خلال استعراض العبارات السالفة، العلة، ووصف لها العلاج وإن كان لم يشر بعبارة صريحة لمفردة الفساد في النصوص المذكورة.
والحل الديمقراطي يعزز الشكل السلمي لتداول السلطة ويعزز دور مؤسسات المجتمع المدني، حيث تعارف واتفق الكثير من دول العالم منذ أواسط القرن المنصرم على أهمية تلك المؤسسات حيث نصت المادة(20) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948 على أن: "لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في المجتمعات والجماعات السلمية، ولا يجوز إرغام أحد على الانضمام إلى جمعية ما".
وكذلك ما أكدت عليه الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الثاني 1966 في النص الآتي للمادة(22) منها إن:
((
__________
(1) -انظر مجلة المستقبل العربي/ العدد/268/ حزيران /2001/ ص ص 210-225.(1/248)
لكل فرد الحق في حرية المشاركة مع الآخرين بما في ذلك تشكيل النقابات أو الانضمام إليها لحماية مصالحه، ولا يجوز وضع القيود على ممارسة هذا الحق غير تلك المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها، في مجتمع ديمقراطي، مصالح الأمن الوطني أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الاختراق أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم.
ولا تحول هذه المادة دون فرض القيود القانونية على أعضاء القوات المسلحة والشرطة من ممارسة هذا الحق))(1).
وللشأن نفسه أكد المؤتمر القومي الحادي عشر في بيانه الختامي (الذي سبقت الإشارة إليه) أيضاً في مواضع عدة أهمية هذه المؤسسات حيث نصت البنود (هـ، و، ز) من الموقف (5) (الديمقراطية وحقوق الإنسان) الآتي:
((البند هـ ... :-تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني الوطنية والمستقلة، وأجهزة الرقابة الشعبية، في مراقبة السلطة والمؤسسات والاحتساب عليها قانوناً.
البند و ... :-تفعيل دور منظمات حقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان في مضمار مراقبة سلوك السلطة والدفاع عن دولة الحق والقانون. ودعوتها لتشكيل لجان وطنية لمراقبة عمليات الاقتراع في البلدان العربية كافة.
البند ز ... :-تدريس مادة حقوق الإنسان في المقررات المدرسية وفي المعاهد والجامعات وكليات الجيش والشرطة))(2).
هذا بالإضافة لما أشار إليه المؤتمر ضمن الموقف نفسه في بيانه الختامي في نقده لغياب الحياة الدستورية، وتزوير إرادة الشعب في الاقتراع الانتخابي ومنع التعددية السياسية، وإفراغ المؤسسات التمثيلية المحلية والنيابية من مضمونها، بالإضافة إلى تردي الممارسة الديمقراطية على مستوى العديد من الأحزاب(3).
__________
(1) - انظر/ الأمم المتحدة/ الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان /القاهرة/ مطابع دار الشعب 1981/ص 9 ـ 16.
(2) -انظر مجلة المستقبل العربي /العدد268/ حزيران /2001/م س ذ/ ص 221.
(3) -م. ن نفسه/ ص ص 220-221.(1/249)
إذ أن تداول السلطة في الدولة الديمقراطية بين أحزاب متنافسة وتعددية سياسية يجعل دفاتر المحاسبة مفتوحة دائماً أو قابلة للفتح ولإعادة الفتح باستمرار، فضلاً عن أن تداول السلطة سلمياً لا يتيح الوقت الكافي للفساد كي يتجذر ولضمائر أصحاب القرار أن تتخشن ويقسو جلدها من طول ممارسة السلطة(1).
لذلك على الأحزاب عند توليها السلطة أن تفصل بين وظيفة الحزب الحاكم ومؤسسات وأجهزة الدولة، حيث أن الدولة لها هيكلها العام، الذي من المفترض أن يستوعب كل شرائح المجتمع دون الأخذ بنظر الاعتبار ارتباطهم السياسي وبصورة تخلق وضعاً طبيعياً يسهل منع الفساد، أما في حالة سيطرة الحزب الحاكم على الإدارات الحكومية والقطاع العام وأجهزة الدولة فإن ذلك يزيد من إمكانية استفحال واستشراء الفساد بصورة أوسع ليصبح معها من العسير بمكان استئصاله والحد منه (كما يدل عليه الأنموذج التنزاني إبان عهد الثمانينيات).
يضاف لهذا أيضاً أن الحزب الذي يتولى السلطة قد يستخدم أساليب هدفها المعلن عمليات لمكافحة الفساد، أما جوهرها فهو الحد من قدرات الأحزاب الأخرى، وكذلك الحد من المعارضين السياسيين والخارجين عن النظام (والشكوك في قضية أنور إبراهيم وخلافه مع رئيس الحكومة الماليزية مهاتير محمد، تعد أنموذجاً لهذا الشكل من أشكال الفساد السياسي طبقاً لوجهة نظر الطرفين المتنازعين)(2) التي يفترض أن تتنحى عنها الأحزاب تعزيزاً لدورها في محاربة الفساد.
إن الوظيفة والواجب للأحزاب تجاه المجتمع، تحتم عليها أن تؤدي دوراً فاعلاً في محاربة الفساد من خلال ما يمارسه الحزب من نشاط في المجتمع ويمكن تحديدها بالملاحظات الآتية:
__________
(1) -جورج طرابيشي /ثنائي الفساد الديمقراطي/ م س ذ/.
(2) -انظر /أ. أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية/ 2000 القاهرة/ مركز الدراسات السياسية الاستراتيجية بالأهرام/ 2001/ ص 194.(1/250)
1- يعمل الحزب بوصفه منظمة تعليمية يقدم بموجبها للشعب مختلف المعلومات عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالطرق الواضحة التي توقظ فيها الوعي السياسي (شفافية عمل الأحزاب).
2- يعمل الحزب على تمكين الجماعات المختلفة من التعبير عن رغبتها ومعتقداتها بشكل منظم وفعال.
3- يقوم الحزب وهو خارج نطاق الحكم بمهمة المراقبة على أعمال الحزب الحاكم.
4- يهيء الحزب للشعب فرصة لاختيار ممثليه وحكومته بين مرشحين متنافسين وكذلك فرصة الاختيار بين السياسات المتباينة.
5- وجود التعددية السياسية والأحزاب المتنافسة يمنح الشعب قدرة على الحد من الفساد المستشري في المؤسسات السياسية(1).
إن ما نستوضحه من كل ما تقدم أن الديمقراطية هي الحل الأمثل للحد من الفساد، وذلك لا يعني أن النظم الديمقراطية خالية تماماً من الفساد فهناك العديد من الظواهر الفاسدة شكت منها المجتمعات الديمقراطية كما هو الحال في ألمانيا (كول) وفي فرنسا وكذلك في إيطاليا..إلخ.
إلا أن الديمقراطية لها من المرونة ما تستطيع به كشف ذلك الفساد وتجاوزه ولو بعد حين. وليكافح الفساد –في دول الجنوب- ينبغي تعميق الديمقراطية بما يسمح بإعداد الشعب على أساس الوعي بمصالحه وحقوقه وواجباته، فالفساد يتفشى في المجتمعات التي تغيب فيها الديمقراطية بشكل عام. ختاماً يجب أن نذكر أهمية كون التوعية السياسية هي الطريق الواجب سلوكه مع الخيار الديمقراطي لمجابهة عدوى الفساد(2).
الفرع الثاني:-تحسين الدخول والامتيازات وبرامج إعادة التأهيل
__________
(1) -انظر /د. بطرس غالي ود.خيري عيسى /المدخل في علم السياسة/ القاهرة/ مكتبة الأنجلو مصرية/ 1974/ ص ص 340-341.
وكذلك د. أحمد فارس/الديمقراطية ومكافحة الفساد/ م س ذ/ ص 347.
(2) -انظر د.أحمد رفعت خفاجي /جرائم الرشوة/ القاهرة/ دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع/1999/ ص 565.(1/251)
مما لا شك فيه أن الدخول (الرواتب) تشكل عصب حياة الموظف العام.
فكلما كانت الكفاية في الدخول متوافرة كان أداة الموظف أكفأ وأدق. وبوفرتها تحقق مستوى يكفي لضمان حياة كريمة لذلك الموظف ولمن يعيلهم أيضاً. على أن ارتفاع تكاليف المعيشة بالقياس إلى رواتب الموظفين يقود إلى نشوء الفساد بهدف زيادة تلك الدخول لتحقيق مستوى معاشي معتدل، وغالباً ما يكون العامل الأساس لفساد الموظف العام، ووقوعه ضحية في براثن هذا الوباء، هو حاجته الماسة للنقود وفاقة حاله، فهو دافعه في أغلب الأحيان إلى ارتكاب العمل الفاسد، رغبة في إشباع حاجاته التي لا يقدر على أدائها بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وغلاء الأسعار نظراً لضعف القوة الشرائية لمدخوله، الذي لا يكفي لسد هذه الحاجات. هكذا هي البداية دائماً التي تقود إلى الإثراء الفاحش فيما بعد نتيجة استمرارية ضعف الدخول واتجاه الموظف إلى الآليات الفاسدة التي تجعله في نهاية المطاف لا يعير بالاً إلى قيمة المدخول الرسمي نتيجة لتعويضه بأموال الفساد.. وهكذا تصبح الوظيفة العامة مصدراً لاكتساب الأموال، وليس ثقة عامة توكل إلى هذا الموظف، يحافظ عليها ويديمها(1).
لذلك ترى بعض الدراسات المتخصصة في هذا الشأن، أن زيادة مدخول الموظف العام (أي زيادة راتبه) بحيث تكفي لضمان حياة كريمة له ولمن يعيلهم تقضي في إطار عملية شاملة لتحسين توزيع الدخل في المجتمع إلى مكافحة الفساد وهذا رأي سليم في شكله النظري(2).
__________
(1) -انظر /أ. أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول النامية /م س ذ/ ص 193.
وكذلك /د. أحمد رفعت خفاجي/ جرائم الرشوة/ م س ذ/ ص 560.
(2) -انظر /أ. أحمد السيد النجار/ م ن/ ص 193.(1/252)
إلا أن حقيقة التطبيق تكشف أن زيادة المدخول تؤدي (خصوصاً في دول الجنوب التي يكون فيها القطاع العام ضخم الحجم) إلى أعباء إضافية على موازنات الدولة، التي في الغالب تعاني من ضعف الإنتاجية ومن عجوزات مستديمة، فضلاً عن ما تسببه زيادة الدخول في مثل هذه الظروف من الولوج في حلقة التضخم(1). والذي يعرّفه كتاب الاقتصاد بأنه ازدياد وسائل الدفع بنسبة أكبر من حاجة المعاملات. مما يؤدي إلى المغالاة في إصدار النقود الورقية وبالتالي تدهور قيمتها تطبيقاً لنظرية كمية النقود(2).
لذلك كله ترى الدراسة أن زيادة مدخول الموظف، أي زيادة قيمة راتبه فقط، ليس بالحل الأمثل. بل من المفروض أن تتبع وسائل أخرى تمكن الموظف العام توفير حاجاته وعيشه في ظل مستوى يضمن له الحياة الكريمة. ولهذا وكأساس وقاعدة للانطلاق في بيان هذه الوسائل سوف نشير أولاً إلى المعالجة التي جاء بها التشريع الإسلامي الحنيف وسياسة الرسول الأعظم (محمد - صلى الله عليه وسلم - ) وخلفائه الراشدين المهديين (رضوان الله عليهم جميعاً). حيث كانت تلك السياسة الحنيفة تراعي في تقدير أجر العامل والأعباء العائلية له وصعوبة العمل وطبيعة مستوى غلاء المعيشة في المناطق المختلفة من الدولة الإسلامية آنذاك، وكانت حكمة من
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى } (3)
صدق الله العظيم
درساً بليغاً في واحدة من مفردات الإصلاح الإسلامي للدنيا وما فيها حيث يقول - صلى الله عليه وسلم - في علاج هذه الحالة:
[من وُلَّي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابةَ فليتخذ دابة].
__________
(1) -د.دريد درغام /الآثار السلبية لظاهرة الفساد الإداري/ م س ذ/ ص 57.
(2) -د.أحمد رفعت خفاجي /جرائم الرشوة/ ص 561.
(3) -القرآن الكريم /سورة النجم/ الآيات 3-4-5.(1/253)
إن هذا القنديل الوضّاء المستمد من الوهج الخالد للمنهج الإصلاحي للإسلام.
يقودنا للقول:
"إن على الدولة التي تكافح الفساد أو تتبع أساليب للوقاية منه النظر في قيمة مدخولات موظفها العام المتدنية، التي يمكن أن تنهض بها دون زيادة في راتبه ولكن بوسائل أخرى هي:
- توفير الإسكان المناسب الذي يضمن مستقبله ويؤوي عائلته.
- توفير وسيلة النقل له السهلة والميسرة.
- ضمان علاجه وأفراد أسرته على أيدي المهرة من الأطباء بشكل يوازي ما يمكن أن ينفقه أصحاب الثروات وأصحاب بيوت الأعمال الخاصة على أنفسهم.
- توفير السلع الكمالية وضروريات الحياة بشكل مدعوم واستخدام آلية التقسيط المريح في ذلك.
- دعمه في كل فرصة بالامتيازات والمكافآت والقروض الطويلة الأجل بدون فوائد.
- ضمان تطويره الفكري بالتدريب والاحتكاك مع الخبرات داخل بلده وخارجه.
- موضوعية الاختيار في تولي المناصب وترقية الموظفين بشكل عادل.
- أن يعامل جميع الموظفين بشكل متوازن من حيث الرواتب والأجور والامتيازات والحوافز وأن تكون حالة التوازن هذه بين الرئيس والمرؤوس بشكل أساس (على المستوى الرأسي) فمن غير المرغوب فيه أن تختلف المدخولات بين هؤلاء بشكل يعزز الطبقية، حيث إذا كان الرئيس الإداري مكتفياً من حيث الدخل والسكن والنقل والصحة، والتدريب والاحتكاك، وتوفير متطلباته بشكل ميسر، وكان المرؤوس يعاني من كل تلك المشاكل فستجد حالة من الإحباط تجعل ذلك المرؤوس يسير في طريق الفساد لخلق حالة من التوازن بينه وبين ذلك الرئيس الإداري على الأقل. وفي الاتجاه نفسه يجب أن يراعى ما أشرنا إليه أيضاً (على المستوى الأفقي) بحيث تتوازن مدخولات الموظفين من حملة الشهادة نفسها والاختصاص ذاته في دوائر الدولة المختلفة من دون تمييز مما يخلق حالة من الإرباك تهيئ تربة خصبة لنمو الفساد.(1/254)
- نشر ميثاق للأخلاق الوظيفية لتعزيز ارتباط الموظف بها والعمل على إيجاد نوع من التدوير الوظيفي (Job Rotation) بحيث لا يستمر الموظف في المنصب نفسه لمدة طويلة مما يخلق حالة من الأمل لتولي المنصب من قبل باقي الموظفين، ويمنع من تولى المنصب من الفساد(1).
إن تحسين الدخل وخلق وسائل داعمة له سوف يبعث على تحقيق نتائج في حقل نزاهة الموظف وأدائه لعمله بكفاية، على أن ذلك يتعزز ببرامج تأهيل تشترك فيها الأطراف الدينية في المجتمع والنقابات المهنية ومنظمات حقوق الإنسان بالإضافة إلى الدعم الحكومي لذلك لإشعار الموظف العام بقيمته وإمكانية إيصال صوته لكي تتعمق الثقة لديه، ويبدأ زرعٌ جديدٌ صالحٌ في المجتمع محافظٌ على كرامته الاجتماعية، وكرامة بلده، ومراعاة النزاهة والأمانة.
الفرع الثالث: الحد من البيروقراطية
عرفت البيروقراطية على أنها نظام المركزية في الأعمال الرسمية (وهو يقر التدرج الطويل في المسؤولية وتسلسل الدوائر وتعددها في المصلحة الواحدة وارتباطها برئيس واحد)(2).
الذي بالمحصلة يؤدي إلى تمكين الموظف من استغلال سلطة وظيفته إذا ما انعدمت نزاهته، وبالتالي سوف يسمح ذلك للجهاز البيروقراطي بممارسة وظيفة النهب والفساد بدلاً من السير بخدمة المواطن(3).
__________
(1) انظر في ذلك /د. عطية حسين أفندي/ الممارسات غير الأخلاقية في الإدارة/ م س ذ/ ص 67.
(2) حارث سليمان الفاروقي/ المعجم القانوني/ بيروت/ مكتبة لبنان/ 1982/ ص 97.
(3) انظر /د. أحمد رفعت جفاجي/ جرائم الرشوة/ م س ذ/ ص563.(1/255)
ولذلك فإن الجهود المبذولة لاستئصال الفساد تؤكد على التخفيف والحد من الإجراءات البيروقراطية لأقصى حد ممكن خصوصاً في منح تراخيص العمل، والوثائق، وجباية الضرائب وجعل الإجراءات الإدارية معلنة وواضحة وسهلة، هذا بالإضافة إلى الحد من صلاحيات موظفي الدولة التي تسمح بالمنح والمنع لصالح أهمية استيفاء شروط منح تلك التراخيص والوثائق على أن تكون شروطاً ميسرة ومبسطة إلى أقصى حد ممكن(1). فضلاً عن أن إصلاح الجهاز الإداري للدولة وتحقيق الانضباط في الجهاز الحكومي، والقضاء على الروتين في المصالح الحكومية التي لها صلة مباشرة بالجماهير والاهتمام بفحص شكاواهم وبتيسير حصولهم على مطالبهم المشروعة في أوقات محددة ومعلنة في كل مصلحة سوف يحقق الطريق المعبد للنجاة من الفساد(2).
الفرع الرابع:- رقابة الخوصصة واختلاط المال العام بالخاص
على الجهات التي تبغي مكافحة الفساد وضع ضوابط رقابية صارمة على آليات الخوصصة التي تشكل واحداً من المداخل الرئيسة للفساد، خصوصاً في البلدان المتحولة من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق (حالة روسيا مثلاً)(3).
كما يجب وضع القواعد والضوابط اللازمة لمنع (التداخل) بين الوظيفة العامة وممارسة النشاط التجاري والمالي (بالأصالة أو الوكالة) لمنع اختلاط المال العام والمال الخاص وهذا يقتضي إعادة النظر في اللوائح المالية والإدارية، وتشديد القيود والضوابط، والقضاء التدريجي على مفهوم (الدولة- المزرعة)(4).
__________
(1) انظر /أ. أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ م س ذ/ ص 193.
(2) انظر /د. أحمد رفعت جفاجي/ م س ذ/ ص 564.
(3) انظر /أ. أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ م س ذ/ ص 194.
... وكذلك راجع الفصل الثالث من بحثنا هذا.
(4) راجع /أ. د. محمود عبد الفضيل/ اقتصاديات الفساد /2/ محاور حصار الظاهرة والقضاء على تداعياتها السلبية/ صحيفة السفير 30/3/2000/ م س ذ.(1/256)
الفرع الخامس:- النظام الضريبي والعمل الجمركي
لقد أصبح من الواضح بعد كل ما تطرقنا إليه ضرورة تطوير النظام الضريبي وجعله يتسم بالشفافية وتحديد الأعباء الضريبية بمستويات مقبولة تتناسب مع المقدرة التكليفية للممولين لتقليل أسباب التهرب الضريبي، وينبغي في العمل الضريبي إشراك أكثر من جهة لإجراء أعمال التخمين، كما أن الدراسة ترى أن استخدام الوسائل المتاحة في الوقت الحاضر وتفعيل الركون إلى برامج الحاسوب المتطورة والمعدة وفق النسب والتعليمات والإعفاءات المنصوص عليها قانوناً، تمنع موظف الضريبة من السير في اتجاه الفساد بشكل أوسع، وتفوت الفرصة على من تجب عليه الضريبة في التهرب.
كذلك فإن العمل الكمركي يتطلب إشراك الكثير من الاختصاصيين ومراكز الفحص والبحوث فيه لتعزيز آلية عمله.
على أن ذروة سنام الأمر في كلتا الحالتين، الضريبية والكمارك، هو اختيار الأشخاص المشهود لهم بالنزاهة والكفاية ليتبوؤوا المراكز القيادية الإدارية في تلك الجهات على أن تشترك الكثير من الجهات الرسمية والمنظمات الفاعلة في أعمال الرقابة تعزيزاً لشفافية العمل(1).
النوع السادس: -الرقابة المالية
إن تعزيز الدور الرقابي للبنوك المركزية ومنحه استقلالية عالية وسلطات لمساءلة مسؤولي إدارات البنوك وللعملاء حتى لو كانوا من ذوي النفوذ السياسي أو الاقتصادي يساهم في اجتثاث الفساد(2).
كما أن العمل على تحقيق شفافية المالية العامة يعطي جرعة جيدة من مضادات الفساد.
حيث يتحقق العمل من خلال التأكيد على وضوح الأدوار والمسؤوليات وذلك بالتمييز بوضوح بين القطاع الحكومي وباقي قطاعات الاقتصاد بوضوح، وتحديد الأدوار السياسية والإدارية بدقة داخل الحكومة.
__________
(1) انظر في ذلك /أ. أحمد السيد النجار/ م س ذ/ ص 194.
(2) المصدر نفسه ص 194.(1/257)
فضلاً عن العمل على إخضاع إدارة المالية العامة لقوانين وقواعد إدارية شاملة تنطبق على أنشطة الميزانية والأنشطة الخارجة عن الميزانية، ويجب أن يكون أي التزام أو إنفاق لأموال حكومية مرتكزاً على صلاحية قانونية، مع التقيد الكامل بإتاحة المعلومات الكاملة للجمهور عن النشاط الحكومي في المالية العامة (ماضياً وحاضراً، ومستقبلاً)، متزامناً مع وجوب كون تقديرات الميزانية مصنفة ومعروضة بشكل يسهل تحليل السياسة العامة ويشجع المساءلة (Accountability)، وكذلك الإعلان عن الأهداف المحدودة للبرامج الرئيسة في الميزانية ومقارنة نتائج البرامج الحكومية معها ونشر تقارير عنها لإحاطة الجمهور علماً. على أن تخضع كل تلك الإجراءات لتأكيدات مستقلة عن صحة معلومات المالية العامة تقوم بها هيئات تدقيق عامة مستقلة. حيث ينبغي على السلطة التشريعية تسمية مراجعين للحسابات الحكومية مسؤوليتهم تقديم تقارير تتسم بالتحديث المستمر للمعلومات تبين صحة الحسابات الحكومية من الناحية المالية أو أي تحفظات لدى المراجع على تلك الحسابات (مثال ذلك ما تقوم به لجنة الحسابات العامة في المملكة المتحدة حيث تبلغ نتائجها البرلمان ووزارة الخزانة التي يتعين على الأخيرة أن تقوم لاحقاً بتقديم تقرير إجابة عن الإجراءات التي تم اتخاذها أو لم يتم اتخاذها بشأن النتائج الواردة في تقرير لجنة الحسابات العامة(1).
__________
(1) لمزيد من التفصيل، انظر ذلك /صندوق النقد الدولي/ مشروع دليل شفافية المالية العامة/ ت1/ 1998/ ص ص 78-85.(1/258)
إن مسؤولية مراجعي الحسابات تتحدد في عنصر مهم هو انتظام عملية التدقيق وهو ما يشمل (تأكيد المساءلة المالية لمختلف المصالح الحكومية، والتعبير عن الرأي بشأن البيانات المالية، والتأكيد على المساءلة المالية للحكومة ككل، والتدقيق في الأنظمة والمعاملات المالية وفي مهام المراقبة الداخلية ومراجعة الحسابات بما في ذلك تقييم التقييد بالأنظمة والقوانين). وهذا مؤداه أن عملية التدقيق تعني النظر في كيفية تحقيق الهيئات الحكومية لأهدافها المعلنة من حيث الاقتصاد والفعالية والكفاية التي إذا ما انتظمت تجعل الفساد في درجاته الدنيا(1).
الفرع السابع:-رقابة البورصات وأسواق الأوراق المالية
إن مكافحة الفساد في أسواق الأوراق المالية والبورصات تتطلب على حد تعبير أحد الباحثين تطوير الضوابط المانعة للفساد في البورصات عبر استكمال مؤسساتها وإعلاء مبدأ الشفافية والعلم المتزامن بظروف السوق لكل الموجودين فيها، وتغليظ العقوبات على عمليات الفساد في البورصة بصورة تشكل رادعاً لكل من تسول له نفسه التلاعب والإثراء غير المشروع على حساب صغار ومتوسطي المستثمرين في البورصة(2).
الفرع الثامن:-محاربة الجريمة المنظمة وغسيل الأموال
__________
(1) المصدر نفسه/ ص73.
(2) أ. أحمد السيد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ م س ذ/ ص 194.(1/259)
من الملاحظ أن الكثير في بلدان الشمال والجنوب ظهرت فيها فضائح الجريمة المنظمة وغسيل الأموال حتى نهاية عقد التسعينيات، ولقد أظهر انهيار (بنك الاعتماد والتجارة) الذي يقع مقره في عقر عاصمة الضباب (لندن) وتحت نظر وإشراف (بنك إنكلترا) (والبنك المركزي البريطاني)، الدور الذي كان يلعبه في مجال غسيل الأموال من خلال الشركات التابعة له في الدول الأوربية مما يدل على أن الظاهرة موجودة حتى في الدول المتقدمة وبشكل ملفت للنظر(1). فضلاً عن ما هو موجود في دول الجنوب ومثال ذلك ما أسلفنا ذكره عن جزر سيشل والمؤسسات المالية في لبنان(2).
مما دعا إلى تشريع قوانين تجرم هذه الظاهرة وتحد منها، (منها ما أصدرته) في دول الجنوب سلطنة عمان، والجمهورية اللبنانية (على سبيل المثال) لما لها من آثار سلبية.
إن تجريم غسيل الأموال لا يهدف فقط إلى حماية النظام الاقتصادي الوطني فحسب وإنما يهدف كذلك إلى محاربة كافة أشكال الجريمة المنظمة سواء أكانت (جرائم فساد، تهريب مخدرات، أم التجارة بالرقيق الأبيض... الخ) من خلال عدم تمكين مرتكبيها من الحصول على مآربهم بطرق غير مشروعة.
فالجهود الرامية إلى كبح جماح غسيل الأموال تساعد على الحد من الفساد (باعتبار أن مرتكبي جرائم الفساد وأعضاء الجريمة المنظمة الذين يحصلون على المال غير المشروع يبحثون عن قنوات مالية آمنة لإخفاء المصدر الأساس لذلك المال).
وبالتالي تؤدي إلى خلق بيئة نظيفة ومصارف خالية من الأموال القذرة. إلا أن تلك الجهود لا تتطلب تشريعاً قانونياً داخلياً فحسب بل تقضي الحالة أن يكون هناك تنسيق في الجهود بين الدول إقليمياً ودولياً للحد من هذه الجرائم الخطرة.
__________
(1) نزيرة الأفندي/ الفساد والإفساد ظاهرة عالمية/ مجلة الأهرام الاقتصادي/ العدد/ 1600/ في 6/ سبتمبر/ 1999.
(2) راجع الفصل الثاني من بحثنا هذا لطفاً.(1/260)
خصوصاً أن بروزها جاء متزامناً أو بالأحرى جاء كأحد عوارض ظاهرة (العولمة) (Globliazation) من خلال خصيصتين لهذه الظاهرة هما:-
-الحصول على الربح.
-كسر الحواجز بين الدول
التي تلتقي مع أهداف الجريمة المنظمة بشكل منطبق تمام الانطباق مما جعل الجريمة المنظمة أحد المظاهر السلبية لهذه الظاهرة تقتضي حشداً وطنياً وإقليمياً ودولياً لمكافحتها والحد منها باعتبارها شكلاً من أشكال الفساد توجب الحالة اجتثاثه من جذوره(1).
الفرع التاسع:- ميثاق سلوك الشركات
إن العمل على وضع قائمة سوداء بالشركات الدولية النشاط (متعددة الجنسية)، والشركات محلية النشاط، التي يتم ضبطها باستخدام آليات الفساد في أعمالها لمنع قيامها بمزاولة نشاطها والدخول في تعاقدات للأعمال أو مناقصات أو مزايدات، سوق يقلص أو ينهي أحد المداخل المهمة للفساد في أحد أشكاله المدمرة التي تؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الوطني. إذ يؤدي ذلك بالتأكيد إلى الخسارة المعنوية لتلك الشركات نتيجة للسلوك الفاسد (مما يجعل الشركات النزيهة تشق طريقها بصعوبة بالحصول على العقود أو القيام بأعمالها بشكل أمين).
مما يعيق فرص حصولها على العقود في البلد الذي درجها بالقائمة أو البلدان الأخرى. وبالتالي تخلق آلية التهديد بمثل هذه الوسائل إمكانية الوصول إلى ميثاق للسلوك الحسن للشركات تتفق عليه منذ البدء في تنفيذ أعمالها وتتضمنه صفحات العقد، حتى إذا ما أخلت به تلك الشركات فسوف يرتب عليها الجزاءات القانونية بالإضافة إلى السمعة غير الطيبة.
__________
(1) انظر د. فتحي سرور/ العولمة والفساد والجريمة المنظمة/ مجلة الأهرام الاقتصادي/ العدد 1600/ 6 سبتمبر 1999.(1/261)
إن عملاً كهذا يجعل الأمور تسير في أعنتها وينهي الاتفاقات الفاسدة خلف الكواليس للفوز بالعقود أو لاستمراريتها بشكل قاطع مما يضيق الخناق على الفساد ويجعل استئصاله في متناول اليد(1).
الفرع العاشر:-جمع المعلومة وأساليب الفضح
للقضاء على الفساد، وقتل جذوره بشكل تام، استخدمت العديد من الجهات العامة لمناهضة الفساد أساليب صممت على أنها تدابير مضادة كجمع المعلومة ومن ثم إطلاقها لزعزعة كرسي الفساد، أو العمل على دفع الفاسدين لحالة عدم الثقة فيما بينهم.
لهذا أثبتت التجارب في كل من إيطاليا ومدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية أن لزرع كامرات المراقبة، واستخدام اللاقطات الصوتية اللا سلكية، بالإضافة إلى إغراء أفراد مهمين داخل التنظيمات الفاسدة ليكونوا مصادر للمعلومات لها تأثير حاسم في جمع المعلومة عن الأنشطة الفاسدة، التي يكفي استخدامها (أي المعلومة) في حوارات عامة مع أقطاب الفساد لخلق حالة من التوتر لديهم تجعلهم ينهارون إذا ما قدمت بوصفها وثائق دامغة على أنشطتهم اللاشرعية.
إن استخدام الوكلاء السريين والمتسللين والمرتدين بالإضافة إلى استخدام أسلوب (الحيل القذرة) التي تجعل من عملها أسلوباً يغذي ويستفيد من أسلوب جمع المعلومات لخلق حالة من الشعور بالإحباط وعدم الثقة بين أفراد شبكات الفساد (في حالة الصفقات الكبرى أي شكل الفساد الكبير) عن طريق إطلاق الإشاعات غير الحقيقية بأن أحد أعضاء الشبكة ارتد عليها، أو إذكاء العداء بين التجمعات المختلفة في تلك الشبكات، يخلق حالة مهيئة لانهيار تلك الأشكال الفاسدة ولكشف أوراقها.
__________
(1) انظر في ذلك: -السيد أحمد النجار/ الفساد ومكافحته في الدول العربية/ م س ذ ص 194.
... وكذلك روبرت كلتجارد /استئصال شأفة الفساد/ مجلة التمويل والتنمية/ المجلد 37/ العدد 2/ حزيران 2000/ص2.(1/262)
يضاف إلى ذلك كله أن استخدام الأساليب التقنية الحديثة كعرض بعض المعلومات التي جمعت على شبكة الإنترنت، أو القيام بالتعاون مع دولة مجاورة أو صديقة ببثها، على أنها تقارير إخبارية، فضائياً، أو إنشاء مواقع على الشبكة المذكورة تظهر كيفية مكافحة جرائم الفساد سوف تعزز من الإجراءات لمكافحة هذه الظاهرة، مما يجعل استخدامها تأثير عامل الصورة والمؤثرات والبث المعلن، عاملاً قوياً على بعض الأشخاص الذين يشتركون في أعمال الفساد من الممكن أن ينهاروا بالاستفادة من نقاط الضعف في شخصيتهم والخوف من الفضيحة في الكشف عن كل حبائل الفساد والقضاء عليه(1).
(((
الفصل الثاني
سبل المواجهة على الصعيد الخارجي
1-تنسيق الجهود بين الجنوب –الجنوب لكبح الفساد
في عالم اليوم ومستجداته، من الإنصاف القول بأن المجتمع المثالي الفاضل الشديد النظافة المتميز بوجود الشروط السياسية الثلاثة (المساءلة)، (الشفافية)/ (حسن الحكم)، بشكل كامل، ليس له وجود إلا في أفكار الفلاسفة المنادين بالمدن الفاضلة فحسب. خاصة وأن الفساد أصبح ظاهرة عالمية تعرفها كل المجتمعات على حد سواء في عالم الشمال وعالم الجنوب، إلا أن آثاره في هذا الأخير كانت أشد وطأة على مجتمعات فقيره بائسة تسعى نحو التنمية من دون طائل بسبب هذه الآثار المقيتة. التي أسهمت في تعظيمها طروحات فتح الحدود، وانتقال رؤوس الأموال، وازدياد نشاط المؤسسات والشركات عابرة القومية التي تتمركز أكثر إداراتها في دول الشمال، وكذلك الأثر السلبي لجماعات الجريمة المنظمة.
__________
(1) انظر في ذلك /روبرت كليتجارد/ استئصال شأفة الفساد/ مجلة التمويل والتنمية/ م س ذ/ ص 2.(1/263)
لهذا نسلط الضوء هنا على أهمية التعاون بين (الجنوب- الجنوب) في مكافحة الفساد لأن الدراسة ترى من خلال ما توضح لديها من رؤية عن هذه الظاهرة. أن السبيل الأمثل لاستئصال الفساد في دول الجنوب هو بالتعاون البيني لتلك الدول، بدلاً من الاعتماد على الوصفات والرؤى الخارجية التي يكمن في ظاهرها الإحاطة بالفساد وفي باطنها التشجيع على استمراره تنفيذاً لمصالحها (مع الأخذ بنظر الاعتبار الآراء الخارجية والعالمية البناءة التي من الممكن الاستفادة منها بشكل واسع في هذا المجال).
ولإعطاء شكل التعاون هذا كل مدى طيفه سنعرض لنماذج منه لتكون دليلاً يتم الاستناد إليه في تحقيق أفق أوسع وأكثر متانة للحد من الفساد في ممارسات دول عالم الجنوب.
لهذا سنبدأ أولاً بالجهود العربية أنموذجاً لاستئصال الفساد بتعاون إقليمي، ثم ننتقل بعده إلى جهود دول الجنوب- الجنوب الأخرى في هذا المجال.
إن أنموذجنا العربي يتركز في الجهود المبذولة في إطار الجامعة العربية/ وتحديداً في (مجلس وزراء الداخلية العرب) لنرى أن هذا المجلس سعى منذ أكثر من ثلاثين عاماً إلى مكافحة هذه الظاهرة التي تشكل في وجودها خطراً على المجتمعات ككل.
فنراه في جهده هذا يحث منذ سبعينيات القرن المنصرم الدول العربية "على إنشاء جهاز محلي للشرطة في كل بلد تكون مسؤوليته تجاه القانون فقط، وأن يبتعد عن تأثير كل أنواع الجماعات بأي شكل من الأشكال"(1).
وذلك لتحصين أهم جهاز يقي من ظاهرة الفساد الوقوع في حبائل الظاهرة نفسها، تقديراً من المجلس لمدى عظم المصاب إذا ما استشرى في جهاز الشرطة.
__________
(1) راجع في ذلك /جامعة الدول العربية، المجلة العربية للدفاع الاجتماعي، العدد/ 6، 1977، ص 117.(1/264)
يضاف إلى ذلك الجهد ما يقوم المجلس به من جهد مضاف في إطار مشكلات الفساد التي تفاقمت في عالم اليوم وكثرت صورها، وكان سابقاً في التنبه لها، حيث نلاحظ اهتمام المجلس بدراسة واقع الحال تجاه جرائم غسيل العملة أو الجريمة المنظمة، ومكافحة المخدرات التي يكون الفساد هو العامل الأول في إثارتها (بسبب كونها عوامل متفرعة منه). لذلك ركز المجلس في دورات انعقاده للسنوات الأخيرة على أهمية تعزيز التعاون بين الأقطار العربية، لتحصينها ضد هذه الأوبئة الجديدة للمحافظة على نظمها القانونية والمالية سليمة من الخرق، لقد جاء ذلك الجهد بشكل مثمر لما برز في الآونة الأخيرة من إصدار قوانين في دول الوطن العربي لمكافحة هذه الجرائم المضرة بالمجتمعات(1).
وبانتقالٍ من شكل التعاون (للجنوب- الجنوب) في الإطار العربي إلى كيفية الأخذ به على الصعيد الأفريقي تتناول الأنموذجات الآتية (التي تم أخذها بنظر الاعتبار كجهود تشكل لبناء الأساس لبناء جهود أوسع في مجال الحد من الفساد في تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات (I N C B) لعام 1999)(2).
__________
(1) مزيد من التفصيل انظر/ عبد الله إمام/ الفساد ظاهرة قومية/ عمان/ صحيفة الرأي/ العدد 10634/ 21-10-1999.
... كذلك: الأمم المتحدة/ تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات (I N C B) لعام 1999 /النمسا/ منشورات الأمم المتحدة/ 2000/ص51.
(2) تجدر الإشارة إلى أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الأتجار غير المشروع بالمخدرات وتكوين ثروات فاسدة الصادرة عام 1988 كانت من أولى الاتفاقات التي أثارت الاهتمام العالمي بظاهرة الفساد وعواملها المتفرعة وخصوصاً غسيل العملة/ انظر الأمم المتحدة/ تقرير (I N C B) لعام 1999/ م س ذ.(1/265)
حيث نرى أن التحركات التعاونية للحد من الفساد أخذت بالاهتمام على صعيد منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي UAO)، وكذلك الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الأكواس ECOWAS) وبشكل يتضمن التعاون مع هيئة (INCB) المذكورة لمكافحة غسيل العملة والجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات والذي يأتي في إطاره أيضاً شكل من التعاون الأفقي لمكافحة الجرائم المذكورة المتفرعة عن الفساد وكما هو الحال بين الرأس الأخضر والسنغال ضمن الاتفاق الموقع بينهما بتاريخ 9/12/1999 وكذلك الجهود النايجيرية مع جنوب إفريقيا في الموضوع ذاته، على أنه وبشكل التعاون نفسه مع لجنة (INCB)، نرى في الجهة الأخرى من المحيط شكلاً مكثفاً من الجهود للحد من الجرائم المذكورة في دول (أمريكا الوسطى وحوض الكاريبي ودول الميركوسور) التي تعاني من الظواهر الفاسدة المشار إليها بشكل صارخ وذلك لاحتواء إقليمها على مركزين رئيسين لمزاولة النشاطات غير المشروعة في (جزر الباهاما وجزر كايمن) التي تعد نقاط تمركز لجماعات المخدرات والجريمة المنظمة والتهرب من الضرائب وغسيل العملة، لهذا تضافرت جهود حكومات هذه الدول للعمل بجهد حثيث لمكافحة هذه النشاطات ومنها ما عرف (بخطة عمل بربادوس) لاستحداث قوانين ضد العائدات الفاسدة وغسيل العملة كما أقرتها حكومة (بربادوس، جامايكا والسلفادور).
من ناحية أخرى أجرت دول السوق المشتركة للمخروط الجنوبي للقارة الأميركية (ميركوسور MERCOSUR) مفاوضات بهدف تبسيط الإجراءات الراهنة للتعاون القضائي فيما بينها لتطويق واستئصال الأعمال الفاسدة وغير القانونية(1).
__________
(1) انظر /الأمم المتحدة/ تقرير الهيئة الدولية لرقابة المخدرات INCB لعام 1999/م س ذ/ص ص 28-50.(1/266)
إن آليات التعاون كما هي في الوطن العربي، وأفريقيا، ووسط وجنوب القارة الأميركية، لم تغفل عنها القارة الآسيوية التي عانت الكثير من جرائم الفساد ومقترباته. فالجهود المبذولة من قبل دول بلدان منظمة الميكونغ وبدعم من حكومة اليابان للتعاون في مجال مكافحة الجريمة المنظمة للاتجار غير المشروع بالمخدرات. أفضت إلى اتفاق الدول الستة(1)، في طوكيو ضمن مؤتمر آسيوي أقيم في شهر شباط /1999 على ذلك.
كذلك يجب علينا وفي إطار التعاون الآسيوي أن نشير إلى أن منظمة التعاون الاقتصادي (الأيكو ECO)(2)، التي تتخذ طهران مقراً لها قامت باجتماعها في (كويتا) الباكستانية عام 1992 على توقيع اتفاق يتضمن من بين بنوده السير ضد التهريب، والسعي لإصلاح مؤسسات دول المنظمة في وسط آسيا والقوقاز(3) كما أنها نظمت حلقة عمل قانونية في آذار /1999 بطهران بشأن التعاون القضائي في قضايا المخدرات وغسيل الأموال أسهمت فيها الدول الأعضاء جميعها، فضلاً عن عقدها حلقة مماثلة في تشرين الثاني/ 1999 لتدريب القضاة والمدعين العامين على الغرض نفسه(4).
__________
(1) دول الميكونغ الستة هي: - (تايلند، جمهورية لاو، الصين، فيتنام، كمبوديا، مايمنهار).
(2) منظمة التعاون الاقتصادي (ECO): تضم كل من باكستان، إيران، تركيا (كدولة مؤسسة) وانضمت إليها أفغانستان ودول وسط آسيا الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي المنهار فيما بعد.
(3) لمزيد من التفصيل عن (ECO) انظر/ أ. د. هاني الياس خضر/ التعاون الإقليمي بين وسط وغرب آسيا/ مجلة دراسات استراتيجية /العدد الثاني/ بغداد /2000/ ص 39.
(4) الأمم المتحدة /تقرير INCB/ م س ذ/ ص ص 28-50.(1/267)
مما تقدم برز لدينا جملة من التعاون (الجنوب-الجنوب) للحد من الفساد الذي يمثل استعراضاً سريعاً لأنموذجات من هذا التعاون الذي كما ترى الدراسة يمثل السير بخطى سليمة في منحى التعاون وتقوية الروابط بين دول الجنوب إلا أن من الملاحظ كون التعاون لا يزال هشاً قضيضاً لم يرتق إلى مستوى الطموح فيه وما زالت أغلب دول الجنوب تفضل الانتظام في خطط التعاون الدولي بين الشمال والجنوب في إطار المنظمات الدولية وهو تعاون سليم وحسن من حيث تبادل الخبرات والإطلاع على الإجراءات المتخذة لمكافحة هذا الوباء، إلا أنه لا يسلم من فرض آراء الشمال على الجنوب مما يستدعي أن نكرر ضرورة تعاون (الجنوب- جنوب) انطلاقاً من العبارة القائلة (أهل مكة أدرى بشعابها).
لقد تناولت الدراسة فيما تقدم الحديث عن التعاون في النطاق الحكومي إلا أن الدراسة تود الإشارة إلى ما تقوم به المؤسسات الأكاديمية من دور في تعزيز تعاون (الجنوب-الجنوب) للحد من الفساد ولذلك سوف نشير إلى:
أ- جهود الحكومة التركية التي تسعى لتعزيز الجانب الأكاديمي للحد من الفساد انتباهاً منها ومن منظمة (ECO) لفائدة الأكاديميين للحد من هذه الظاهرة الخطرة. حيث تجرى الجهود حثيثاً لإنشاء (أكاديمية دولية لإنفاذ القوانين) في تركيا وذلك لتدريب موظفي إنفاذ القوانين والمدعين العامين وغيرهم في جهاز القضاء (من مواطني الدول الأعضاء في (ECO) أو بلدان المحيط الإقليمي) على آليات وسبل مكافحة الفساد بشكل علمي يستخدم البحث الأكاديمي نهجاً في ذلك. وهو يعبر عن شكل من التعاون بين (الجنوب-الجنوب) على الصعيد العلمي.
ب- الجهود البحثية المشتركة بين دول الجنوب لاستقراء وتحليل وعلاج الظاهرة المستشرية فيها، نذكر منها التعاون البحثي الذي أقامه مركز دراسات وبحوث الدول النامية/ جامعة القاهرة في نهاية عام 1999.(1/268)
حيث تم عقد مؤتمر علمي جمع العديد من الأكاديميين وكذلك العاملين المتخصصين في مجال مكافحة الفساد في حشد واسع برعاية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التام تحت عنوان (الفساد والتنمية) الذي كرس جل اهتمامه على معوقات التنمية في عالم الجنوب. وخرج بنتائج تعزز سبل الإحاطة بهذا الأخطبوط لو أخذت بنظر الاعتبار وعلى محمل من الشعور بالمسؤولية والجد التام من قبل حكومات دول الجنوب على أنه جزء من التعاون بين (الجنوب-الجنوب).
لذا نستخلص أن الجنوب لا يمكنه السير في الحد من الفساد إلا باللجوء للتعاون مع الجنوب في إطار يستلزم دراسة الفساد بشكل دقيق وعلمي يفيد من الخبرة الأكاديمية للمتخصصين في هذا المجال لتكون نبراس عمل لاستئصال هذا الجزء غير السليم في جسم الدول والذي يعيق تطورها ونموها.
2-تنسيق الجهود بين الشمال- الجنوب لكبح الفساد (الشفافية الدولية Ti أنموذجاً)
1-الجهود في نطاق الأمم المتحدة
منظمة الأمم المتحدة هذا الجهاز الدولي الذي يرتبط به الكثير من المنظمات التابعة المعنية بشؤون التجارة والمالية والزراعة والصحة والتعليم.. الخ كان لها قصب السبق في التنبيه لظاهرة الفساد لاستقرائها الوضع الدولي من خلال مكاتبها ومنظماتها التابعة المذكورة المنتشرة في أنحاء العالم، الأمر الذي أسفر عن العديد من الدراسات والندوات والاتفاقيات والمعاهدات التي جرت بجهود هذه المنظمة آخذة الظاهرة بالتحليل ثم وصف العلاج لها وكذلك كيفية التحصين منها، ومن هذه الجهود ما يلي: -(1/269)
أ- الاتفاقية الدولية للأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1988، التي نبهت لخطورة ظاهرة الفساد في طياتها وكذلك مدى التأثير السيء لآليات غسيل العملة التي تستخدمها عصابات الجريمة المنظمة لإخفاء الأموال المستخلصة من تجارة السموم البيضاء(1).
ب- تقرير الندوة الإقليمية التي عقدتها دائرة التعاون الفني للتنمية (DTCD) (Department of Technical cooperation for development) ومركز التنمية الاجتماعية والشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة (CSD HA) (الفساد في الحكومة – (Corruption in Government) كندوة متخصصة درست الظاهرة وبينت أسبابها وطرحت آراءً في الحلول لها(2).
جـ- القرارات الصادرة كذلك لمواجهة الظاهرة ومنها القرار 121/45 في 14/ك1/ 1990، القرار 152/46 في ك1/ 1991، وقرارات المجلس الاقتصادي والاجتماعي 22/1992 في 30/تموز/
1992، 32/1993 في 27/ تموز/ 1993 ثم قرار المجلس ذاته 14/1995 في 24/تموز/ 1995 بشأن إجراءات مقاومة الفساد و 16/1998 في تموز 1998(3).
إن جهود الدول الأعضاء التي أسفرت عن الحصيلة التي أشرنا إليها في مجال مكافحة الفساد تظهر بشكل واضح جهود المنظمة لتحقيق التعاون الدولي للحد من هذا الوباء وهي صورة من صور تعاون الشمال والجنوب ضمن إطار التنظيم الدولي، الذي عرضنا له بشكل موجز فيما أسلفنا لننتقل إلى بيان الجهود الدولية المكملة على صعد أخرى بعد ذلك.
2-الجهود بين المنظمات والمؤسسات الحكومية الدولية
__________
(1) انظر الأمم المتحدة/ تقرير اللجنة الدولية لمكافحة المخدرات (INCB) 1999/ م س ذ/ ص III
(2) للإطلاع راجع /الأمم المتحدة/ الفساد في الحكومة/ م س ذ/ ص 1.
(3) راجع /أ. أماني غانم/ الجهود الدولية لمكافحة الفساد/ في مصطفى كامل السيد/ محمد/ الفساد والتنمية / م س ذ/ ص 359 وكذلك The Economic & Social/ Resolution 1998/16/ Action against Corruption.(1/270)
لقد تعددت الجهود في المنظمات الإقليمية والمنظمات القارية والاتحادات التي تمثل حكومات العديد من بلدان المعمورة لمكافحة الفساد ومن أبرز هذه الجهود ما سنعرض له في محورنا هذا وهي:-
أ.الجهد الذي اعتمدته منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD) في شهر مايس/ 1997 حول اتفاقية تجرم الرشوة عبر الوطنية وكذلك المطالبة بإنهاء إمكانية خصم الرشاوى من الضرائب التي تعد محاور مهمة في إطار تعاون الشمال مع الجنوب للحد من هذه الظواهر(1) . على أن المنظمة المذكورة أوعزت إلى أمانتها بإجراء المشاورات مع المنظمات الدولية والمؤسسات المالية لإتباع نهج مشترك للحد من الفساد، هذا فضلاً عن الإيعاز للأمانة المذكورة أيضاً بإمكانية ضم أعضاء إلى آلية مكافحة الفساد التي اعتمدتها من غير الدول الأعضاء فيها مما دعا الكثير من دول الجنوب للانضمام لتلك الجهود ومنها المكسيك، كوريا الجنوبية والأرجنتين في إطار تعاون (الشمال- الجنوب) لمكافحة هذا الوباء(2).
ب.الجهد الذي اعتمدته منظمة الدول الأميركية، بتوقيعها اتفاقية البلدان الأميركية لمكافحة الفساد في آذار/ 1996 والتي وقعت عليها أكثر من 23 دولة عضواًَ في المنظمة. بوصفها جهداً للتعاون بين الشمال والجنوب ضد الفساد على صعيد القارة المذكورة(3).
ج.التعاون في إطار الاتحاد البرلماني الدولي في مؤتمره المنعقد في بوخارست بتاريخ 13 تشرين أول 1995 الذي أقر فيه تجريم رشوة المسؤولين الأجانب علاوة على التعاون في منع غسيل حصائل أموال الفساد غير المشروعة(4).
__________
(1) كيمبرلي ان اليوت/الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص 13.
(2) مارك بيث/ التعاون الدولي لمكافحة الفساد/ في كيمبرلي ان اليوت (محرراً) /الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص 166 وما بعدها.
(3) راجع كيمبرلي ان إليوت /الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ ص 13.
(4) مارك بيث / م س ذ/ ص 166 وما بعدها.(1/271)
مما سلف يتضح لنا بعض من أشكال التعاون الدولي للحد من الفساد والذي يظهر صورة التعاون ما بين (الشمال- الجنوب) في إطار التنظيمات الدولية الحكومية التي تسفر من خلال تحركاتها عن مدى توجه حكوماتها في سبيل محاربة الفساد من عدمه وهذا ما يكشف لنا نقطة ارتكاز أساسية سنتناولها في المحور الثاني لبيان أهمية المنظمات غير الحكومية.
3-الجهود في نطاق المنظمات غير الحكومية/ الشفافية الدولية (Ti) (نموذجاً)
من منطلق (الاستقلالية) عن آراء وتوجيهات الحكومات (في العمل على مناهضة الفساد) تنبع أهمية المنظمات غير الحكومية، التي تكون فعالياتها ومراصدها على الصعيدين الداخلي والدولي في هذا المجال بعيداً عن ما تتأثر به المنظمات الحكومية للسير في المنحى نفسه وذلك لكون المنظمات الحكومية الدولية (أو الداخلية) تكون قراراتها تعبر عن آراء رجال السلطة في تلك الحكومات الذين ربما يكونون استخدموا آليات الفساد في إشغالهم لمناصبهم الحكومية مما يجعلهم مدافعين عن هذا الأخطبوط أكثر مما هم مناوئين له. الأمر الذي يؤدي إلى صدور قرارات مجتزأة أو تصدر بشكل كامل ولم تلق جهوداً فعالة لتطبيقها بفعل أولئك المستفيدين من آليات الفساد الذين أوكلت إليهم مهمة تنفيذ تلك القرارات.
مما يجعل الهدف المنشود غير قابل للتحقيق من جهود تلك المنظمات.(1/272)
وإذا ما أمعنا النظر في جهود المنظمات غير الحكومية فسنرى أن فاعليتها تتأتى من كون هذه المنظمات عمل على تكوينها مهتمون بقضايا الفساد، من أكاديميين ورجال أعمال وأعضاء مجتمع مدني بهدف مناهضة الظاهرة نتيجة لاستقرائهم واقعاً غير مرض دون أن تدفعهم ضغوط أو احتجاجات للسير في هذا السبيل، وإنما الغاية التي جمعتهم هي حب النزاهة والرغبة في مجتمع نظيف تتمتع به المؤسسات العاملة (بالشفافية) التامة في عملها وتخضع فيه (لمساءلة) الدورية تقوّم تلك الأعمال وترشدها للطريق القويم الذي يتيح في المحصلة (حكماً حسناً) مرضياً للجميع.
من هنا تتبع أهمية هذه المنظمات التي لا تتأثر بقرارات حكومية أو رؤى أصحاب المناصب وبذلك تكون فاعليتها أكبر وأوسع. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تتمتع المنظمات المذكورة بالمصداقية الكاملة بعيداً عن سبل التربح السياسي أو العمل بشكل يكون قريباً من السمسرة التجارية وذلك لأن (الاستقلالية) لا تتفق مع هكذا سلوك مطلقاً(1) يبغي القضاء على الفساد.
__________
(1) للإطلاع عن بعض السلوكيات للمنظمات غير الحكومية التي تبتعد كثيراً عن ضحى الاستقلالية
راجع: -عبد الله كمال/ ظاهرة انحلال الصفوة (القوادون والسياسة) /القاهرة/ دار الخيال/ شباط/ 1998/ ص ص 1/18 كذلك(- صحيفة العرب/ الجمعة/ 9/12/2000/ ص6.(1/273)
وكأنموذج برز في صعد مناهضة الفساد ستتناول دراسة منظمة غير حكومية (دولية) أسهمت في الكثير من إنجازات الحد من الفساد ألا وهي (الشفافية الدولية (Ti) (Transparency International. إن الشفافية الدولية (Ti) منظمة غير حكومية تأسست عام 1993 في ألمانيا وبالتحديد في (جامعة غوتنغن الألمانية) هدفها المعلن أنها منظمة أكاديمية، تعمل على تقوية المجتمع المدني، وتصوغ تحالفاً يقود المجتمع إلى الحد من الفساد، متخذاً من ضم دوائر الأعمال والحكومات والهيئات الأكاديمية سبيلاً لتحقيق هذا الهدف(1). ففي خلال أربع سنوات من عملها المتواصل في مجال مكافحة الفساد الدولي استطاعت المنظمة أن تقيم شبكة من الفروع تضم ما يقرب من خمسة وسبعين فرعاً في كافة أنحاء العالم(2). غايتها المعلنة النصح لتطهير المجتمعات.
أما أسباب اهتمام الشفافية الدولية بمناهضة الفساد فتعود إلى(3):
أ- أسباب إنسانية (وذلك لإعاقة الفساد الكثير من عمليات التنمية والتي تؤثر على المواطن وتنتهك حقوقه الإنسانية)
ب- أسباب إصلاحية (حيث يعوق الفساد أسلوب الحكم الصالح والخيار الديمقراطي الصحيح ونجاح إصلاح المؤسسات خاصة في بلدان عالم الجنوب التي تعاني من مشكلات التحول إلى اقتصاد السوق).
ج- أسباب أخلاقية (لإعاقة الفساد تكامل المجتمع)
د- أسباب اقتصادية (لتشويه الفساد للاقتصاديات الدولية وبالتالي يؤثر على منافع الاقتصاد الفعال).
إن الشفافية الدولية ومن خلال أسباب اهتمامها بظاهرة الفساد ترى أن مقاومة ذلك لن يتسنى إلاَّ مِنْ خلال مرتكزين هما:
__________
(1) انظر مجلة التمويل والتنمية/ المجلد 37/ العدد /2/ حزيران 2000/ص7.
(2) انظر كيمبرلي ان إليوت /الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص13.
(3) أماني غانم/ الجهود الدولية لمكافحة الفساد/ في مصطفى كامل السيد (محرر) /الفساد والتنمية/ ص 365.(1/274)
أ- الحاجة إلى التحالف/ حيث تعمل الشفافية الدولية من خلال أفرعها القومية (National Chapters) على وضع تحالف من الحكومة ومن أطراف أخرى تضم المجتمع المدني ورجال الأعمال والقطاع الخاص لمناهضة الفساد. لكون رسالة الشفافية الدولية ليست مهاجمة الأفراد الفاسدين وإنما بناء نظم تقاوم الفساد، فهي تقدم المساعدة والمعلومة للإعلام الحر وأجهزة القضاء لما تراه من أهمية لهما في آلية مقاومة الفساد من خلال التحالف.
... وما يجب إيضاحه أن المنظمة ضمن آليات التحالف هذه لا تسمي مطلقاً الحاصلين على الرشاوى لتجنبها الدخول في أي حوار سياسي لكنها تستخدم برامج معينة وبطرق خاصة ومن خلال تحالفاتها وأفرعها القومية تنبه للظواهر السلبية وبالتالي تخلق حالة هدفها ضرورة مقاومتها والحد منها.
ب- زيادة الوعي العام العالمي من خلال الفروع القومية لها في الدول المختلفة(1).
لقد سجل تاريخ الشفافية الدولية العديد من الإنجازات نتيجة لجهودها وجهود الفروع القومية في الحد من الفساد، وهي بذلك تفسر أهمية التعاون الدولي من خلال الاستفادة من خبرات المتعاونين معها لتوظفها في خدمة الدول الموبوءة بالفساد. فعلى صعيد التعاون مع دول الجنوب (مثالاً وأنموذجاً للدراسة) نذكر هنا الجهد الذي أنجزته الشفافية الدولية في إحدى البلدان الإفريقية التي عانت كثيراً من مشاكل الفساد وهذا البلد هو (تنزانيا).
__________
(1) م ن/ ص 365.(1/275)
فتنزانيا بلد عانى من تفشي ظاهرة الفساد، وتغليب المصالح الفردية داخل أجهزة الحزب الحاكم فيه. إذاً يلاحظ نمو التمايز الطبقي الحاد داخل الحزب نفسه مما جعل القيادات المحلية طرفاً في مقاومة التنمية وتجريتها في ذلك البلد، حيث أن بعض القيادات كانت تستفيد من البطالة المقنعة في الريف لخدمة مزارعها الخاصة وأخرى تشتغل بالتسويق وثالثة تعتمد ثرواتها على عمليات تهريب المحاصيل الحقلية للدول المجاورة ورابعة تنسق مع مشروعات الشركات الأجنبية في المنطقة. الأمر الذي يميط اللثام عن مدى اتساع الظاهرة في تنزانيا(1). مما استدعى الاستعانة بالجهود الدولية لتحقيق الإصلاح في ذلك البلد ولقد كانت (الشفافية الدولية) من الداعمين لإنشاء (نظم نزاهة وطنية) فيه. لذلك قامت المنظمة بتزويد تنزانيا (بالمرجع الأساس للمنظمة (The Ti Source Book الذي تضع فيه العصارة البحثية لها بإعدادها برامج لمكافحة الفساد بالتعاون مع فروعها القومية (National Chapters) بحيث تتلائم تلك البرامج مع ظروف وعادات كل دولة وأطرها المحلية(2) وذلك لأغراض مناقشة الدور الذي تقوم به الصحافة والمجتمع المدني لمناهضة الفساد، إضافة إلى أهمية الإصلاحيات القضائية والتشريعية والإدارية التي من شأنها أن تحسن رصد الفساد وتحمي المبلغين عن الأخطاء، وتعزز نظم التوريدات العلنية الشفافة، وكذلك رقابة القطاع الخاص الذاتية لأعماله وأخطائه(3) في ذلك البلد.
__________
(1) انظر عبد السلام إبراهيم بغدادي/ التجربة التنموية في تنزانيا/ في (طه ياسين رمضان وآخرون) مشكلات وتجارب التنمية في العالم الثالث/ بغداد/ كلية العلوم السياسية/ 1990/ ص316.
(2) آ. أماني غانم/ الجهود الدولية لمكافحة الفساد/ م س ذ/ ص 367.
(3) كمبرلي ان إليوت/ الفساد كمشكلة من مشكلات السياسة الدولية/ في كيمبرلي ان إليوت محرر/ الفساد والاقتصاد العالمي/ م س ذ/ ص290.(1/276)
كذلك وفي الإطار نفسه أصدرت الشفافية الدولية بحثاً توصي فيه جميع الدول ومنها تنزانيا بضرورة إنشاء وكالة مكافحة فساد مستقلة على أن تحظى بـ:-
1- دعم سياسي ليس فقط من رئيس الحكومة أو الدولة ولكن أيضاً من القيادة السياسية الوطنية على نطاق واسع.
2- تمتع الوكالة نتيجة للدعم السياسي المشار إليه بالاستقلال السياسي والتنفيذي الضروري للتحري عن أعلى المستويات الحكومية. (حيث فشلت التجربة في تنزانيا من قبل وذلك لأن الوكالة كانت تقيم داخل مكتب رئيس الجمهورية ومن ثم لم تكن لديها سوى فرصة ضئيلة لمعالجة الفساد الذي يمس القيادات المحلية التي أشرنا لها في بداية الموضوع)(1). جدير بالذكر أن الشفافية الدولية وتعزيزاً منها لأهمية تعاون الشمال مع الجنوب لمناهضة الفساد عملت بجهد حثيث خلال السنوات الأخيرة للعقد الأخير من القرن المنصرم على زيادة فاعليتها لدفع هذا المجال وقد أسفر عن:-
- مشاركتها بنشاط في بناء الدعم الدولي لعقد ميثاق منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي لمحاربة الفساد الذي أصبح سارياً في شباط/ 1999(2).
- تعاونها مع المنظمات في دول الجنوب وعقدها للمؤتمرات التي تنادي بمكافحة الفساد ومنها المؤتمر الذي عقدته المنظمة في القاهرة نهاية عام 1999 بالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الإدارية الذي جاء يؤكد على أهمية (الشفافية) و (المساءلة) بوصفها عوامل لوقف نشاط الفساد وكذلك ما يشكله الوعي الجماهيري من عمق لتعزيز هذه العوامل ومقارعة الفساد.
__________
(1) جيريمى بوب وفرانك فوجل/ لكي تصبح أجهزة مكافحة الفساد أكثر فعالية/ مجلة التمويل والتنمية/ م س ذ/ ص 8.
(2) م ن/ ص7.(1/277)
بقي أن نقول إن (الشفافية الدولية) منظمة دولية غير حكومية للحد من الفساد تستعين في آليات عملها بنظم الصحافة والإعلام الحر، وبالحكومات (لأن آلية الفساد لا يمكن حصارها بدون توافر المعلومة عنها التي يكون دور الحكومة مهماً في الحصول عليها) وكذلك بأداء الأفرع القومية عن طريق إثارة الوعي بالفساد بطرق خلاقة ذات تأثير غير سيء حيث تقوم هذه الأفرع بعمل المسوحات ووضع مؤشر لقياس إدراك الفساد وتطبيقه على الكثير من دول العالم. مستعينة بمعلومة الصحافة والحكومة إضافة إلى مستوى إدراك الفساد كما يراه المراقبون للشؤون العامة ورجال الأعمال. ومن ثم وضع ذلك في جدول متكون من عشرة مواقع بالأحرى (عشر درجات) تأخذ فيه الدول الأقل فساداً موقع الصدارة وهو الرقم (عشرة) ويبدأ بعد ذلك درج الدول حسب الترتيب تنازلياً بحيث تحصل الدول الأكثر فساداً على درجات قريبة من درجة الصفر.
وتقوم (الشفافية الدولية) بنشر هذا المؤشر في إصداراتها وعلى (Web Site) وبلغات متعددة. حتى تجعل الشفافية الدولية الفساد في شريحة شفافة (سلايد) تحت مجهر الفاحص وهي شعوب العالم. لتتيح بذلك الفرصة للجهد التعاوني من أن يثمر لمحاربة الفساد والانتصار عليه(1).
وأخيراً
وبعد كل الذي عرضنا له من سبل لمواجهة الفساد لا بد من نخلص لحقيقة واحدة هي أن كل هذه السبل التي هي آليات لمجابهة الفساد، والتي قد تزداد الحاجة لبعضها في مجتمعات وتقل في مجتمعات أخرى طبقاً لضرورات الحالة، إنما هي أجزاء من عصا واحدة تضرب على عنق الفساد ورأسه للخلاص منه، وأن هذه السبل تعمل كوصلة واحدة لمجابهة هذه الآفة. ولا يمكن هنا أن تستخدم صفة الإطلاق في أن هذه السبل هي الوصفة الوحيدة بل إنها تأتي ضمن الكثير من الوصفات ووسائل العلاج للحد من الفساد.
__________
(1) أ. أماني غانم/ الجهود الدولية لمكافحة الفساد/ م س ذ/ ص 368.(1/278)
إلا أنه مهما تعددت المشارب لا بد لها أن تعمل بشكل واحد وكجزء واحد لأن الفساد لا يمكن القضاء عليه بآلية واحدة لاتساعه وقابليته لمد ثآليله الخبيثة للكثير من المفاصل في المجتمعات.
((
الخاتمة
أما وقد فرغنا من خمسة أبواب تناولت بالدراسة موضوع الفساد كأساس لها وموضوع الإصلاح السياسي كعامل مرتبط وتابع للموضوع الأساس. فإنها (أي الدراسة) أخذت بعين الاعتبار تناول كلا الموضوعين من أوجه عدة في البحث حيث تم العرض لهما بداية تاريخاً ومفهوماً لإعطاء سند نرتكز عليه في إنشاء الباقي الذي عرض لأنماط الفساد اجتماعياً، إدارياً، اقتصادياً وسياسياً في باب ثم ليتبعه إفراد ثالث لإيضاح المتغيرات التي استجدت في عقد التسعينات، وساهمت في ارتفاع نسب الفساد في العالم أجمع، ثم لننتقل بعد ذلك لتسليط الضوء على أهم المفاصل التي يضربها الفساد فتعرض البلدان لمشكلات كثيرة في مفصل التنمية والسيادة والكفاية وأخيراً كيف يهدد الفساد النظام العام.
لنصل بعد ذلك إلى خامس مراحل الدراسة، الذي كانت فيه العديد من النقاط للمواجهة والإصلاح ليشكل آخر المطاف في البحث. الذي اعتمد في ذلك البناء على أن مفهوم الفساد هو تحقيق نفع خاص من استغلال المنصب العام، مراعياً في الحسبان أن الدراسة المقارنة تظهر الحال جلياً بين الشمال والجنوب من خلال أمثلتها على أن الفساد عرف في كل أنحاء البسيطة إلا أنه في الشمال أقل نسبة من الجنوب الذي يعاني من مشكلات عدة منها تغييب الديمقراطية، واستغلال النفوذ، وعدم استقرارية المؤسسات وضعف الهياكل الاقتصادية، ومشكلات أخرى كثيرة ساهمت في استمرارية الفساد والإفساد فيه.
لذلك كله وما احتوته صفحات الدراسة من تشخيص نخلص للملاحظات الآتية:(1/279)
1-إن مفهوم (الفساد Corruption) يغطي معنى واسعاً تمتد أوصاله ليخرق البناء الاجتماعي والإداري والاقتصادي وكذلك السياسي للمجتمعات، ليشكل مفهوماً عاماً لا يمكن عزله أو تناوله بشكل مجزأ، بما يعطي للمتلقي الانطباع بأن الفساد حالة واحدة مهما تعددت أنماطها. ساعد على ترابطها في عالم اليوم ما أفرز من مستجدات جعلت الفساد يمتاز بالترابط البنيوي بين أوصاله بصورة أوسع مما هو معهود عنه ليمنح المفهوم مداه الذي شمل كل جوانب الحياة إن صح التعبير.
2-توصلت الدراسة إلى أن الكثير من وصفات المؤسسات المالية الدولية وكذلك طروحات بعض الساسة كانت تؤكد دوماً في المرحلة التاريخية التي تناولها البحث على أهمية إتباع سياسات الخوصصة وتحرير التجارة وحرية انتقال البضائع لمكافحة الفساد في القطاع العام وقطاعات الكمارك والضرائب. في حين أن العمل البحثي ضمن الدراسة ركز على أنّه عبر هذه المتغيرات التي تعتمدها تلك المؤسسات للحد من الظاهرة يمكن أن يمر الفساد نفسه مما يعطي الدليل قاطعاً على أنها ليست بالوصفات الناجعة لاستئصال شأفته.
... الأمر الذي يتطلب السعي وراء أفكار ودراسات تعمل على تفعيل دور القطاع العام وتأهيله مجدداً بشكل يجعله يتفاعل مع القطاع الخاص الذي لا بد من مراقبته وضبطه هو الآخر في ممارسته لنشاطه وبصورة فيها الكثير من (شفافية) التعامل لكلا القطاعين والحزم في (المساءلة) الحكومية والشعبية لهما والتي لا يمكن أن تتم إلا في إطار من النزاهة المتجسدة في (حسن الحكم) حتى لا ينشب الفساد مخالبه الفتاكة في أبدان الشعوب والمجتمعات.
3-توصي الدراسة بضرورة العمل على الاستفادة من آراء الثقافة والمثقفين في رصد الفساد وإصلاح المجتمع. فالتاريخ أبرز الكثير من الشخصيات التي ترجمت نقدها للظاهرة بتعبير ثقافي ينم عن تشخيص فاعل لمشكلات المجتمع، لذا يجب النظر بعين التفحص والاهتمام لآثار عباقرةٍ أفرزهم الوجود الإنساني منها آثار:(1/280)
ابن خلدون ومكيافللي على صعيد السياسة وشكسبير وأرويل في الأدب القصصي وتعبيراً فنياً مثل تعبير شابلن والريحاني ودريد لحام، وشعراً مثل ما قاله الرصافي، وأدباً مسرحياً مثل ما كتبه محمد الماغوط، وتشخيصاً دقيقاً مثل تحليل (هيكل) للواقع العربي، ورأياً أكاديمياً مثل رأي (الطيب تيزيني). لفهم رأي المجتمع المنعكس في الأثر الأدبي والثقافي لمثل هؤلاء المفكرين والمثقفين للحد من ظاهرة الفساد.
4-توصي الدراسة وانطلاقاً من مبدأ أصيل (أن التخطيط للمجتمعات لا يمكن أن يأتي مستورداً جاهزاً) بضرورة العمل على إنشاء منظمات إقليمية في دول الجنوب تعنى بدراسة ظواهر الفساد في تلك البلدان يقوم عليها لإدارتها منظمات حكومية وغير حكومية تعنى بحقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطن. لتحلل الواقع بشكل بناء دون تجريح وتعطي الوصفات الناجعة لذلك الخلل. على أن ذلك لا يمنع من الاستئناس بآراء المنظمات الدولية العالمية والاستفادة من خبراتها إذا ما باتت زمام المبادرة بيد تلك المنظمات إقليمية.
5-ترى الدراسة بضرورة وجوب تقبل من المؤسسات العامة خصوصاً في عالم الجنوب لكل الآراء حول الظاهرة في بلدانها تعزيزاً للوصول بمجتمعاتها إلى البناء القويم الذي إذا ما استفحل فيه الفساد عمل فيه كما تعمل الأرضة في سيقان الأشجار.
... وختاماً نقول كما قال المعري
فسادٌ وكونٌ حادثان كلاهُما
1@شهيدٌ بأنَّ الخلق صُنعُ حكيم
(((
المراجع
1-المراجع باللغة العربية
1)القرآن الكريم.
2)الكتاب المقدس، بيروت، اتحاد جمعيات الكتاب المقدس، 1978.
أولاً: الكتب
أ
1.إبراهيم العيسوي، التنمية في عالم متغير (دراسة في مفهوم التنمية ومؤشراتها)، القاهرة، (منتدى العالم الثالث مكتبة مصر 2020) دار الشروق، 2000.
2.إبراهيم عبد الكريم الغازي، تاريخ القانون في وادي الرافدين والدولة الرومانية /بغداد/ مطبعة الأزهر، 1973.(1/281)
3.أبو حامد الغزالي، أحياء علوم الدين، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1962.
4.أبي الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير (ج/3)، بيروت، دار المفيد، ط/1، 1987.
5.د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، اربد، مكتبة الكندي، 1988.
6.د. أحمد رفعت خفاجي، جرائم الرشوة في التشريع المصري والقانون المقارن، القاهرة، دار قباء للنشر والتوزيع، 1999.
7.أحمد عطية الله، القاموس السياسي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1968.
8.د. أسامة عبد الرحمن، تنمية التخلف وإدارة التنمية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، حزيران، 1997.
9.آ. د. إكرام بدر الدين (محرر)، الفساد السياسي النظرية والتطبيق، القاهرة، دار الثقافة العربية، 1992.
10.السيد علي شتا، الفساد الإداري ومجتمع المستقبل، القاهرة، مكتبة ومطبعة الإشعاع، 1999.
ب
11.د. بطرس غالي ود. خيري عيسى، المدخل في علم السياسة، القاهرة، مكتبة الأنجلو –مصرية، 1974.
ت
12.د. تقي الدباغ، العراق في التاريخ، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1983.
ج
13.د. جلال أمين، العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأورغواي 1798-1998، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أيلول 1999.
ح
14.حارث سليمان الفاروقي، المعجم القانوني، بيروت، مكتبة لبنان، 1982.
15.حازم هاشم، صور من الفساد الجامعي، القاهرة، دار الشروق، 1994.
16.حامد أحمد موسى هاشم، نظرية المباريات ودورها في تحليل الصراعات الدولية، القاهرة، مكتبة مدبولي، بلا تاريخ.
17.حسين عبد الواحد (أمريكا، حرية، جنس، بولتيكا)، القاهرة، مركز الحضارة العربية، 1997.
خ
18.د. خليل الجر، المعجم العربي الحديث، باريس، مكتبة لاروس، 1973.
ر
19.آ.د. رياض عزيز هادي، المشكلات السياسية في العالم الثالث، بغداد، جامعة بغداد، 1989.
س
20.د. سامي منصور، تجارة السلاح والأمن القومي العربي، القاهرة، مكتبة مدبولي،
1991.(1/282)
21.سعد الدين وهبة، من الانفتاح إلى الخصخصة (النهب الثالث لمصر)، دراسة وثائقية، القاهرة، دار الخيال، 1997.
22.د. سمير أمين، في مواجهة أزمة عصرنا، القاهرة، سينا للنشر، 1997.
23.د. صلاح فهمي محمود، الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية، الرياض، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب 1994.
ط
24.د. طه حسين، نظام الاثنين، القاهرة دار المعارف، 1921.
25.طه ياسين رمضان وآخرون، مشكلات وتجارب التنمية في العالم الثالث، بغداد، كلية العلوم السياسية (جامعة بغداد)، 1990.
ع
26.عاشور سليمان صالح شوايل، مسؤولية الإدارة عن أعمال وقرارات الضبط الإداري (دراسة مقارنة)، بنغازي، جامعة قار يونس، 1997.
27.عبد الجبار عبد مصطفى، الفكر السياسي الوسيط والحديث، الموصل، دار الكتب للطباعة 1982.
28.عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ.
29.آ.د. عبد العزيز الدوري، النظم الإسلامية، بغداد، سلسلة بيت الحكمة، جامعة بغداد، 1988.
30.د. عبد العزيز بن صالح بن حبتور، إدارة عمليات الخصخصة وأثرها في اقتصاديات الوطن العربي (دراسة مقارنة)، عمان، دار صفاء للنشر والتوزيع، 1997.
31.الشيخ عبد الكريم المدرس، مواهب الرحمن في تفسير القرآن (المجلد الثالث)، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1992.
32.عبد الله كمال، ظاهرة انحلال الصفوة (القوادون والسياسية)، القاهرة- لندن، دار الخيال، 1998.
33.د. عبد الوهاب الكيالي وكامل زهيري، الموسوعة السياسية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974.
34.د. عصام سليمان، مدخل إلى علم السياسة، بيروت، دار النضال، 1989.
35.عفيف عبد الفتاح طبارة، الخطايا في نظر الإسلام، لبنان، مطبعة العلوم، 1985.
ف
36.فاروق سعد (المحامي)، تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده، بغداد، مطبعة الانتصار، 1988.(1/283)
37.د. فايز نعيم رضوان، بطاقات الوفاء، القاهرة، المطبعة العربية الحديثة، 1990.
ق
38.د. قصي الحسين، الفساد والسلطة، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،
1997.
م
39.آ.د. ماجد محمد شدود، (العولمة. مفهومها. مظاهرها. سبل التعامل معها)، دمشق، مطبعة اليازجي، 1998.
40.آ.د. محمد السيد سليم (محرراً)، النموذج الكوري للتنمية، القاهرة، مركز الدراسات الآسيوية (جامعة القاهرة)، 1996.
41.محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، الكويت، دار الرسالة، 1983.
42.محمد حسنين هيكل، (1995) باب مصر إلى القرن (21)، القاهرة دار الشروق،
1995.
43.محمد حسنين هيكل، المقالات اليابانية، القاهرة، دار الشروق، 1998.
44.محمد حسنين هيكل، كلام في السياسية (قضايا ورجال: وجهات نظر) (مع بدايات القرن الواحد والعشرين)، القاهرة، المصرية للنشر العربي والدولي، شباط، 2000.
45.د. محمد رياض الأبرش و د. نبيل مرزوق، الخصخصة آفاقها وأبعادها، دمشق، دار الفكر، 1999.
46.د. محمود صبح، الخصخصة لمواجهة متطلبات البقاء وتحديات النمو، القاهرة، كلية التجارة (جامعة عين شمس)، 1995.
47.د. محمود عصفور، البوليس والدولة، القاهرة، 1971.
48.أ.د. مصطفى كامل السيد ود. صلاح سالم زرنوقة، الفساد والتنمية (الشروط السياسية للتنمية الاقتصادية)، القاهرة، مركز دراسات وبحوث الدول النامية (جامعة القاهرة)، 1999.
49.أ.د. مصطفى كامل السيد، خصخصة البنوك والتنمية في مصر، القاهرة، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 153/أول نوفمبر (ت2)، 2000.
50.مصطفى محمد العبد الله وآخرون، الإصلاحات الاقتصادية وسياسات الخوصصة في البلدان العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، شباط، 1999.
51.أ.د. منذر الشاوي، القانون الدستوري (نظرية الدولة)، بغداد، مركز البحوث القانونية (وزارة العدل العراقية)، 1981.(1/284)
52.الشيخ منصور علي ناصف، التاج. الجامع للأصول في أحاديث الرسول (ص)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1962.
53.منير بعلبكي، مصابيح التجربة، بيروت، دار العلم للملايين (قاموس المورد 86)، 1986.
54.منير بعلبكي، قاموس المورد (86)، بيروت، دار العلم للملايين، 1986.
ن
55.نجاح واكيم، الأيادي السود، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1999.
ثانياً-الكتب المترجمة إلى اللغة العربية
ج
1.جان توشار، تاريخ الفكر السياسي
(Histoire Des Ide’es politiques)
... ،د. علي مقلد (مترجم)، بيروت، العالمية للطباعة، 1981.
2.جيوفري روبرتز، المعجم الحديث للتحليل السياسي
(A Modern Dictionary of political Analysis)
... ،سمير عبد الرحيم الجلبي (مترجم)، بيروت، الدار العربية للموسوعات، 1999.
ر
3.روبرت كليتجارد، السيطرة على الفساد
(Controlling Corruption)
علي حسين عجاج (مترجم) عمان، دار البشر للنشر والتوزيع 1994.
4.روجيه جارودي، حفارو القبور (الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها)، عزة صبحي (مترجمة)، القاهرة، دار الشروق، 1999.
ص
5.صموئيل كريمر، من ألواح سومر، د. طه باقر (مترجم)، بغداد، مكتبة المثنى، 1957.
6.صموئيل هنتينغتون، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة
(Political Order In Changing Societies)
... سمية فلو (مترجمة) بيروت، دار الساقي، 1993.
ك
7.كيمبرلي ان اليوت (محررة)، الفساد والاقتصاد العالمي
(Corruption And The Global Economy)
... محمد جمال أمام (مترجم)، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 2000.
م
8.موريس دو فرجية، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري، جورج سعد (مترجم)، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992.
هـ
9.هانس بيتر وآخرون، فخ العولمة، الكويت المجلس الوطني للثقافة، 1998.
10.د.عدنان عباس علي (مترجم)، أ.د.رمزي زكي (مراجع)، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 295، ط2.
ثالثاً: البحوث والمقالات(1/285)
1.آ.د أحمد إبراهيم أبو سن ، استخدام أساليب الترغيب والترهيب في مكافحة الفساد الإداري، الرياض، المجلة العربية للدراسات الأمنية، المجلد (11)، العدد (31)، (محرم
1417هـ).
2.أسماء عبد الخالق، المجتمع الأميركي علاقة أسرية مفككة ونسبة طلاق عالية، بغداد، صحيفة القادسية، العدد (7000)، (17/10/2000).
ج
3.د. جلال عبد الله معوض، الفساد السياسي في الدول النامية، بيروت، مجلة دراسات عربية، العدد (4)، (شباط 1987).
4.جمال زيادة، مافيا الاستيراد ضد تطوير الزراعة، القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (943)، (شباط 1987).
5.د. جمعان أبا الرقوش، تزوير البطاقات الائتمانية (عرض لأعمال الندوة الخاصة بتزوير البطاقات الائتمانية)، الرياض، مجلة الأمن والحياة، العدد (217)، (اكتوبر (ت2)/ 2000).
6.جورج طرابيشي، ثنائي الديمقراطية والفساد، لندن، صحيفة الحياة، العدد (13273)، (11/تموز/1999).
7.جيرمي بوب وفرانك فوجل، لكي تصبح أجهزة مكافحة الفساد أكثر فعالية، واشنطن، مجلة التمويل والتنمية، المجلد (37)، العدد (2)، (يونية (حزيران) 2000).
ح
8.حسني عايش، الفساد وعوامله وعلاته وسبل التصدي له، بيروت، مجلة دراسات عربية، العدد (11/12)، (أيلول/ ت1/ 1997).
9.حنان البيلي، الفساد المؤسسي (سلبيات الأداء)، القاهرة، مجلة السياسة الدولية، العدد
(143)، (يناير/ ك2/ 2001).
10.حمدي فؤاد، الفساد في الدول النامية، القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (840)،
(18/2/1985).
ر
11.روبرت كليتجارد، استئصال شأفة الفساد، واشنطن، مجلة التمويل والتنمية، المجلد (37)، العدد (2)، (يونية (حزيران) 2000).
س
12.سعيدة شريف، الفقر والطفولة المغربية، صحيفة الشرق الأوسط، العدد (8026)، (18/11/2000).
ش
13.شادية فتحي، حالة روسيا (أنماط الفساد وتكلفة الفساد) القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (1600)، (9/9/1999).(1/286)
14.شوقي رافع، عولمة الفساد، الكويت، مجلة العربي، العدد (481)، (ديسمبر (ك1)/ 1998).
ظ
15.ظافر إبراهيم، فضائح بالجملة عن علاقة المافيا بالمسؤولين الأميركان والبريطانيين، بغداد، صحيفة القادسية، (23/10/99).
ع
16.عبد الله إمام، الفساد ظاهرة قومية، عمان، صحيفة الرأي الأردنية، العدد (10634)، (21/10/99).
17.د. عبد الرحمن أحمد هيجان، مكافحة الفساد الإداري الاستراتيجيات والإمكانات، الرياض، مجلة الأمن والحياة، العدد (217)، (أكتوبر (ت1) 2000).
18.ل. شرطة عبد الوهاب عبد الرزاق التحافي (المحامي)، غسل الأموال جريمة أشياء متحصلة من جريمة، بغداد، صحيفة الثورة، (12/6/2000).
19.عصام الدين الأحمدي، ظاهرة غسيل الأموال وآثارها الاقتصادية، مجلة اتحاد المصارف العربية، المجلد (20)، العدد (237)، أيلول 2000.
20.عصام خيري، الإدمان الاستهلاكي العربي يعزز التجارة الالكترونية، باريس، مجلة الوطن العربي، العدد (1279)، (7/9/2001).
21. عصام رفعت، حماية المستهلك قبل خصخصة الكهرباء، القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (1600)، (9/9/1999).
22. عصام رفعت، مافيا المستوردين وعصابات الموظفين، القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (843)، (11/3/1985).
ف
23.د.فتحي سرور، العولمة والفساد والجريمة المنظمة، القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (1600)، (9/9/1999).
24.فرانسيس فوكوياما، الرأسمالية والديمقراطية: الحلقة المفقود، القاهرة، مجلة الديمقراطية، العدد (4)، (1 ب/ 1992).
ك
25.د. كاظم نزار الركابي، الولايات المتحدة أهم مركز في العالم لغسيل الأموال، بغداد، صحيفة العراق، العدد (6974)، (21/1/2000).
26.د. كريم محمد حمزة، من ثمار العولمة الاتجار بالبشر، بغداد، صحيفة الثورة، العدد (10124)، (9/10/2000).
م
27.د. محمد علي الفرا، الفساد.. نظرة عامة في المفاهيم والدلالات، صحيفة الدستور الأردنية، 1 تموز/ 2000.(1/287)
28.محمد فائق، حقوق الإنسان والتنمية، بيروت، مجلة المستقبل العربي، العدد (251)، (ك2/ 2000).
29.محمود المراغي، عصر من الفساد (من فساد السفح إلى فساد السلطة)، مجلة الكتب وجهات نظر، القاهرة، العدد (21)، (أكتوبر (ت1)/ 2000).
30.آ.د. محمود عبد الفضيل، الفساد وتداعياته في الوطن العربي، بيروت، مجلة المستقبل العربي، العدد (243)، (مايس/ 1999).
31.آ.د محمود عبد الفضيل، من الفساد الأصغر إلى الفساد الأكبر، بيروت، صحيفة السفير اللبنانية، 29/3/2000.
32.آ. د محمود عبد الفضيل، محاور حصار ظاهرة الفساد والقضاء على تداعياتها السلبية، بيروت/ صحيفة السفير، (30/3/2000).
33.آ.د محمود عبد الفضيل، من الفساد الأصغر إلى الفساد الأكبر، القاهرة، مجلة الكتب وجهات نظر، العدد (15)، (أبريل/ 2000).
34.د.مظهر محمد صالح، الفساد في ظل نظام العولمة بين التزييف الأكاديمي والتطبيقات الدولية الضالة، بغداد، مجلة الحكمة، العدد (10)، السنة (2)، (1999).
35.مي فريد، الفساد رؤية نظرية، القاهرة، مجلة السياسة الدولية، العدد (143)، (يناير
(ك2)/ 2001).
ن
36.د. نبيل سكر، الإصلاح الاقتصادي في الدول العربية (حالة سورية)، دمشق، مجلة دراسات استراتيجية، العدد (4)، (ديسمبر (ك1)/ 2000).
37.نزيرة الأفندي، الفساد والإفساد ظاهرة عالمية، القاهرة، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد (1600)، (9/9/1999).
هـ
38.هادي حسن، دولة الرفاه العربية (من القمع إلى الدعاية)، بيروت، مجلة المستقبل العربي، العدد (268)، (حزيران/ 2001).
39.د. هاني الياس خضر، التعاون الإقليمي بين وسط وغرب آسيا، بغداد، مجلة دراسات استراتيجية، العدد (8)، (2000).
و
40.وائل إسماعيل عصفور، بطاقات الوفاء، عمان، مجلة البنوك الأردنية، المجلد (18)، العدد (1)، (آذار/ 1999).
رابعاً: الأطاريح والرسائل الجامعية
ج(1/288)
1.جلال عبد الله معوض، علاقة القيادة بالظاهرة الإنمائية في المنطقة العربية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، مقدمة إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة)، 1985.
ن
2.نبوية علي محمود الجندي، الفساد السياسي في الدول النامية مع دراسة تطبيقية للنظام الإيراني حتى قيام الثورة الإسلامية (1941-1978)، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة)، 1982-1983.
خامساً: الوثائق والتقارير
أ
1.أحمد السيد النجار، تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية/ 2000، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 2001.
2.الأمم المتحدة، الفساد في الحكومة (corruption in government) ، (تقرير الندوة الإقليمية التي عقدتها دائرة التعاون الفني للتنمية ومركز التنمية الاجتماعية والشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة في لاهاي-هولندا، 1989)، د. نادر أحمد البوشيخة (مترجم) عمان، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 1994.
3.الأمم المتحدة، الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان، القاهرة، دار الشعب، 1981.
4.الأمم المتحدة، تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات (INCB) لعام (1999)، النمسا، منشورات الأمم المتحدة، 2000.
5.البنك الدولي للإنشاء والتعمير، تقرير عن التنمية في العالم 1997 (الدولة في عام متغير)، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1997.
6.اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا)، تقرير تقيم برامج الخصخصة في منطقة الاسكوا، منشورات الأمم المتحدة، 1999.
ص
7.صندوق النقد الدولي (فيتو تانزي)، تقرير مشروع شفافية المالية العامة، واشنطن (D-C)، منشورات الصندوق، 1998.
ي
8.يوليوس ك نايريري وآخرون، التحدي أمام الجنوب (تقرير لجنة الجنوب)، عطا عبد الوهاب (مترجم)، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، ديسمبر 1990.
سادساً: المحاضرات
د(1/289)
1.د. دريد درغام، الآثار الاقتصادية للفساد، محاضرة ألقيت في دمشق، جمعية العلوم الاقتصادية السورية، بتاريخ 23/9/1999.
ر
2.د. رسلان خضور، الآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد، محاضرة ألقيت في دمشق، جمعية العلوم الاقتصادية السورية، بتاريخ 23/9/1999.
ع
3.عبد السلام إبراهيم بغدادي، محاضرات في التنمية والتخلف، ألقيت على طلبة كلية الآداب/ قسم التاريخ/ جامعة بغداد، 2000-2001.
4.د. علي الدين هلال، محاضرات في التنمية السياسية، ألقيت على طلبة قسم العلوم السياسية/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1975-1976.
سابعاً: البحوث غير المنشورة
ح
1.حافظ علوان حمادي الدليمي، النظم السياسية في أوربا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، بغداد، مجموعة مذكرات في النظم السياسية، 1991.
2.د. حسن أبو حمود، الفساد ومنعكساته الاقتصادية والاجتماعية، دمشق، المعهد العالي للعلوم السياسية، 2000.
ن
3.د. نبيل سكر وآخرون، مقارنة سوسيولوجية- اقتصادية لظاهرة الفساد، دمشق، المعهد العالي للعلوم السياسية، 2000.
ثامناً: الصحف
أ
1.الأهرام (القاهرة)، 14/1/1992.
2.الأهرام (القاهرة)، 22/1/1992.
3.الثورة (السورية)،2/1/2000.
4.الجمهورية (البغدادية)،29/5/1994.
5.الجمهورية (البغدادية)، 1/12/1999.
6.الجمهورية (البغدادية)، ملحق عالم الحاسبات والإلكترونيات، العدد (22) في 16/3/2001.
7.الحياة (اللندنية)، 26/6/2000.
8.الدستور (الأردنية)، 6/6/2000.
9.الرأي (الأردنية)،، العدد (10693) في 19/12/1999.
10.الزمن (البغدادية الأسبوعية)، 21/1/2000.
11.الزمن (البغدادية الأسبوعية)، 18/1/2001.
12.الشرق الأوسط، 17/11/2000.
13.العراق (البغدادية)، 29/9/2000.
14.العراق (البغدادية)، 3/11/2000.
15.العرب (اللندنية)، 9/12/2000.
16.اللواء (الأردنية)، 28/6/2000.
ب
17.بابل (البغدادية)، 31/1/2000.(1/290)
18. بابل (البغدادية)، 7/2/2000.
19. بابل (البغدادية)، 17/2/2000.
20. بابل (البغدادية)، 2/5/2000.
21. بابل (البغدادية)، 13/5/2000.
22. بابل (البغدادية)، 17/5/2000.
23. بابل (البغدادية)، 18/5/2000.
24. بابل (البغدادية)، 18/6/2000.
25 بابل (البغدادية)، 25/7/2000.
26. بابل (البغدادية)، 30/7/2000.
27. بابل (البغدادية)، 5/8/2000.
28. بابل (البغدادية)، 8/8/2000.
29. بابل (البغدادية)، 19/8/2000.
30. بابل (البغدادية)،21/8/2000.
31. بابل (البغدادية)، 4/9/2000.
32. بابل (البغدادية)، 14/9/2000.
33. بابل (البغدادية)، 21/10/2000.
تاسعاً: المجلات
1.المجلة العربية للدفاع الاجتماعي، العدد (6)، 1997.
2.المستقبل العربي، العدد (268)، حزيران 2001.
3.مجلة التمويل والتنمية، المجلة (37)، العدد (2)، حزيران 2000.
عاشراً: النشرات
1.الرشوة، عمان، دار الوطن، بلا تاريخ.
2.المنتدى، العدد (91)، أبريل (نيسان)/ 1993.
حادي عشر: برامج حاسوب
1.صخر (العالمية للحاسبات)، برنامج القرآن الكريم (شرح غريب)، قرص ليزري مدمج (C. D)، المملكة العربية السعودية، بلا تاريخ.
ثاني عشر: متفرقة (إذاعات)
1.إذاعة صوت أميركا الناطقة بالعربية، تقرير حول الإيدز وآثاره، الساعة (11.30) مساء بتوقيت بغداد، بتاريخ 22/10/2000.
2.إذاعة صوت ألمانيا العربية من كولونيا، الساعة (10.30) مساء بتوقيت بغداد، بتاريخ 18/12/2000.
3.إذاعة لندن (B. B. C) العربية، الساعة (12.10) بعد منتصف الليل بتوقيت بغداد، بتاريخ 22/12/2000.
4.إذاعة لندن (B. B.C) العربية، الساعة (9.10) مساء بتوقيت بغداد، بتاريخ 27/12/2000.
5.إذاعة لندن (B. B.C) العربية، الساعة (10.15) مساءاً بتوقيت بغداد الصيفي، بتاريخ 13/4/2000.
6.تلفزيون العراق، (برامج شريعة حمورابي)، الساعة (6.00) مساء بتوقيت بغداد الصيفي، بتاريخ 20/6/2000.
7.وكالة
Ruters, 15. Feb. 2000.(1/291)
ثالث عشر: لقاءات شخصية للباحث
1.مع (آ.د جلال عبد الله معوض)، في القاهرة، مبنى جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بتاريخ 6/2/2001.
2.مع (آ. د محمود عبد الفضيل)، في القاهرة، بمبنى جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتاريخ 6/2/2001.
3. مع (آ. د مصطفى كامل السيد)، في القاهرة، بمبنى جامعة القاهرة، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بتاريخ 6/2/2001.
4.مع (آ. د نبيل سكر)، مدير المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار والاقتصادي السابق لدى البنك الدولي في دمشق، مبنى المكتب، بتاريخ 24/1/2001.
2-المراجع الأجنبية
References
B
1.Benjamin R. Barber, Jehad Vs Mc World, N. Y, Times Books, 1995.
J
2.John D. Donahue, “Privatization Decision, Public ends, Private mens.”, N.Y. 1989.
K
3.Kopits & Caring, Transparency in government operation, Washington (D. C), IMF, 1998.
L
4.Lucian Pye, Aspects of Political Development, Bostn, Little Brown and Company, 1965.
M
5.Michael Nacht, Internal change and Regime Stability London, International Institute for strategic studies, 1981.
R
6.R Dohl, Readings in modern political analysis, Engle wood cliffs, prentice Hall, 1980.
S
7.Sanjeev Gupta and others, Corruption and Military Spending, Washington D.C, IMF(1), Feb 2000.
T
8.Thomas Wolf, Improving Governance and Fighting Corruption in the Baltic and (CIS) Countries, Washington D. C, IMF, 2000.
9.Virginia French Allen and Others, Long man Dictionary of American English, N. Y, Long man INC, 1983.
10.Vito Tanzi, Corruption Around The World, Washington D. C, IMF, 1998.
__________
(1) International Monetary Fund.(1/292)
11.Vito Tanzi and Hamid Davoodi, Roads To No Where: How Corruption in public Investment Hurts Growth, Washington D. C, IMF, 1998.
*Articles
D
1.David M. Chalmers, Corruption, Encyclopedia Americana Corporation, Volume 23, 1980.
G
2.Gerard Carney, conflict of intrest, Ti Working paper, Berling 1998.
J
3.J.Jeam Hecht, Corruption, Encyclopedia International, Philippines, 1979.
*Documents
The Economic and Social Council, Resolution 1998/16, Action against corruption.
*News paper
I
1.international Herald Tribune, 18-19 July 1989.
P
2.P. C Magazine, April 1999.
T
3.Ti New Letter, April 2000.
*Electronic Locations
V
1.Vitanzi @ imf. Org.
W
2.WWW. transparency. Org.
3.WWW. imf. Org/Fandd.
*Dictionary
W
Webster’s II New Riverside Dictionary, N.Y, Houghton Mifflin company, 1984.
Oxford, English Readers Dictionary, London, Oxford press, 1959.
(((
فهرس المحتوى
المقدمة ... ... 2
الباب الأول دراسة في الأبعاد التاريخية وأبعاد المفهوم ... 2
الفصل الأول الفساد CORRUPTION ... 2
1ـ البعد التاريخي للفساد ... 2
2ـ بُعْدُ المفهوم ... 2
الفصل الثاني الإصلاح REFORM ... 2
1ـ البعد التاريخي للإصلاح ... 2
2ـ بعد المفهوم ... 2
الباب الثاني: أنماط الفساد ملامح الفساد وطبيعته ... 2
الفصل الأول الفساد الاجتماعي ... 2
1) فضائح كبار مسؤولي الدول الأخلاقية. ... 2
2) بروز شبكات الرقيق الأبيض: ... 2
3) استغلال الأطفال في الأعمال اللاأخلاقية و(تجارة الأطفال): ... 2
الفصل الثاني الفساد الإداري ... 2
أولاً ـ الرشوة: ... 2
ثانياً ـ المحاباة والمحسوبية (Nepotism & Favoritism): ... 2
ثالثاً ـ الاحتيال (النصب) Fraud: ... 2
الفصل الثالث الفساد الاقتصادي ... 2
الفصل الرابع الفساد السياسي ... 2
1 ـ فساد القمة (Top - Corruption): ... 2
2.فساد الهيئات التشريعية والتنفيذية: ... 2(1/293)
3-الفساد السياسي من خلال شراء الأصوات وتزوير الانتخابات وفساد الأحزاب السياسية وقضايا التمويل: ... 2
الباب الثالث : المتغيرات المؤثرة في ازدياد الفساد في عالم الشمال واستشرائه في عالم الجنوب ... 2
الفصل الأول متغير الثورة التقانية، وثورة الاتصالات وعلاقته بالفساد ... 2
أولاً/حالات الفساد والتزوير ضمن آليات عمل وسائل الاتصال ... 2
ثانياً /الاختراق عبر وسائل الاتصال ... 2
ثالثاً /إشكالية اختراق نظم الانتخابات عبر ثورة المعلومات والاتصالات ... 2
الفصل الثاني الفساد والخوصصة ... 2
الفصل الثالث ازدياد الفساد واستشراؤه خلال منطق تحرير التجارة وحرية انتقال الأشخاص والأموال والسلع عبر الحدود ... 2
الفصل الرابع الثغرات القانونية وضعف دور الرقابة على كبار المسؤولين العموميين والموظفين في الدول ... 2
الباب الرابع: النتائج السلبية للفساد ... 2
الفصل الأول أثر الفساد في التنمية ... 2
الفصل الثاني أثر الفساد في السيادة وسداد الديون الخارجية والنظام العام ... 2
محور: أثر الفساد على السيادة وسداد الديون الخارجية ... 2
محور: أثر الفساد على النظام العام ... 2
الفصل الثالث أثر الفساد في الكفاية وقيم المجتمع ... 2
الباب الخامس: سبل مواجهة الفساد ... 2
الفصل الأول سبل المواجهة في الصعيد الداخلي ... 2
الفرع الأول ... 2
الفرع الثاني: ... 2
الفرع الثالث: ... 2
نظام الأمبودسمان أو المفوض العام(Ombudsman System) ... 2
1-الاستقلالية Independency ... 2
2-سلطة التحقيق Investigatory power ... 2
3-الشخصية Personality والمرونة Flexibility وإمكانية الاتصال Accessibility: ... 2
4-السرعة والصلاحيات Jurisdiction & Speed ... 2
الفرع الرابع ... 2
2-تنشيط فرص الإصلاح ... 2
الفصل الثاني سبل المواجهة على الصعيد الخارجي ... 2
1-تنسيق الجهود بين الجنوب –الجنوب لكبح الفساد ... 2
2-تنسيق الجهود بين الشمال- الجنوب لكبح الفساد (الشفافية الدولية Ti أنموذجاً) ... 2
3-الجهود في نطاق المنظمات غير الحكومية/ الشفافية الدولية
(Ti) (نموذجاً) ... 2(1/294)
الخاتمة ... ... 2
المراجع ... ... 2
فهرس المحتوى ... 2
السيرة الذاتية للباحث ... 2
(((
السيرة الذاتية للباحث
الاسم عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ داود
التولد/ بغداد-1963.
المهنة/ مدرس مساعد في وزارة التعليم العالي/ العراق
الشهادة/
-حاصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية/ جامعة بغداد (1997-1998)
-حاصل على ماجستير العلوم السياسية /النظم السياسية/ (1-2). من جامعة بغداد.
العضوية في الجمعيات
-عضو نقابة المعلمين/ العراق.
-عضو الجمعية العراقية للعلوم السياسية.
(((1/295)