الفساد في عالمنا العربي الإسلامي !!
{ يا ليت قومي يعلمون}
إعداد
مؤسسة الرواد
لشؤون المجتمع المسلم القادم
6 جمادي الثانية 1426 هـ
12 يوليو 2005 م
-
AlRowaad@ommaty.net
الفهرس
…
تمهيد.............................................................................................................
4
مدخل تاريخي: أحوال الأمة في القرنين الأخيرين ............................................
5
الفساد والعولمة ................................................................................................
23
طبيعة الفساد في عالمنا العربي الإسلامي !! ......................................................
25
مظاهر الفساد في البنية الاجتماعية ................................................................
28
دراسة حالة الفساد في مصر .............................................................................
39
كلمة فريق العمل .............................................................................................
39
طبيعة الفساد في مصر .........................................................................................
42
الإحصائيات .......................................................................................................
45
الخلاصة .........................................................................................................
57
مما العمل: رؤية الإصلاح؟ ...............................................................................
58
تمهيد(1/1)
عقد مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، بالتعاون مع المعهد السويدي ندوة تحت اسم "الفساد والحكم الصالح" في الفترة من 20 إلى 23 أيلول/ سبتمبر 2004. وشارك في هذه الندوة 61 مشاركاً ما بين باحث ومعقب ومشارك ومراقب ومفكرين وباحثين وخبراء اقتصاديين ودوليين وسياسيين وعسكريين وقانونين ودبلوماسيين..
ولقد أطلعت "مؤسسة الرواد لشؤون المجتمع المسلم القادم" على هذه الندوة.. وقررت تلخيص الخطوط العريضة فيها، دون التعرض للمصطلحات الأكاديمية الكثيرة، والوقوف فقط على الحقائق الواقعة..
ووجدناها فرصة مناسبة لفتح ملف الفساد في عالمنا العربي الإسلامي، لا سيما مع الدعوات الكثيرة التي تدعو إلى الإصلاح.. مستغلة الوضع المنحط الذي تعيشه الأمة لطرح أفكارها..
ولقد بدأنا هذا الملف، بمدخل تاريخي عن "أحوال الأمة في القرنين الأخيرين" نقلاً عن كتاب "قضية التنوير في العالم الإسلامي، للأستاذ محمد قطب.
ولقد قام فريق العمل بمؤسسة الرواد، بفتح ملف الفساد في مصر، واعتبرته عَيّنة ونموذج للفساد في عالمنا العربي الإسلامي !!..
والهدف الرئيسي من هذا الملف هو الحديث عن الفساد ومدى توغله في كيان الأمة، طبقاً للإحصائيات والتقاير الواردة من جهات دولية ورسمية.. وليس الغرض من فتح هذا الملف، هو فضح أفراد أو هيئات أو طبقات اجتماعية أو أنظمة حاكمة.. فهذا الأمر غني عن التعريف "العام" لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
فالغرض الحقيقي من فتح هذا الملف وغيره هو: الدعوة إلى "المقاومة الشاملة".. المقاومة بكل أسباب القوة، وهذا سنفرد له بحثاً خاصاً إن شاء الله.
واعتبرت مؤسسة الرواد أن مركز دراسات الوحدة العربية، والمشاركين في هذه الندوة، ذات توجه علماني واضح، لا سيما في نهاية الندوة في الحديث عن "ما العمل؟"..(1/2)
وفي نهاية هذا الملف.. طرحت مؤسسة الرواد رؤيتها العامة للإصلاح والتغيير، مقارنة بالطرح العلماني الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية.
أحوال الأمة في القرنين الأخيرين
تمهيد:
نريد في هذا التمهيد أن نبين الأمراض التي أصابت الأمة في الفترة الأخيرة من تاريخها، والتي واجهتها حركات الإصلاح لتحاول علاجها، كلٌُّ منها بمنهجها الخاص.
وليس من الضروري أن تكون هذه الأمراض قد نبتت كلها في هذه الفترة الأخيرة من التاريخ، بل قد نجد بعضها قد نبت قبل ذلك بقرون عدة، ولكنها تجمعت في هذه الفترة الأخيرة بصورة لا مثيل لها من قبل، حتى كادت تعصف بالأمة عصفاً حين حولتها إلى غثاء كغثاء السيل، وحين تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها.
وقد نختلف في تصنيف الأمراض، وفي ترتيبها حسب خطورتها من وجهة نظر كل منا، ولكني أعتقد أننا لن نختلف على المجموع ! فسواء وضعنا مرضا معينا على رأس القائمة أو في ذيلها، وسواء جمعنا جمعا رأسيا أو جمعا أفقيا فالحصيلة النهائية لن تكون موضع اختلاف، أو ينبغي ألا تكون موضع خلاف، إذا حرصنا على التفتيش الدقيق في كل ركن من أركان الحياة، ودققنا النظر فيما قد يخفى لأول وهلة من العيوب..
* * *
من وجهة نظرنا سنضع أمراض العقيدة على رأس القائمة، ثم نضع أمراض السلوك، ثم نضع النتائج التي ترتبت على أمراض العقيدة وأمراض السلوك، ونستخرج الحصيلة النهائية في نهاية المطاف.. وقد يرى غيرنا غير ما رأينا، ويرتب الأمراض ترتيبا آخر، حسب تقديره لخطورتها من وجهة نظره.. وقد يؤدي هذا إلى خلاف في تقدير نوع العلاج المطلوب لهذه الأمراض، ولكنه كما قلنا في الفقرة السابقة لا يؤثر في المجموع النهائي، ما دام الكل داخلا في التعداد !
* * *
أمراض العقيدة:(1/3)
العقيدة هي لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ومعيار الصحة والمرض، الذي نقيس به حال الأمة في فترتها الأخيرة، هو صورة هذه العقيدة كما أنزلت من عند الله، وكما علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم، وكما طبقتها الأجيال الأولى من هذه الأمة، مقارنة بما صارت إليه عند الأجيال الأخيرة من المسلمين. وإذا عقدنا المقارنة على هذا النحو فسنجد مجموعة من الأمراض قد أصابت مفهوم لا إله إلا الله خلال المسيرة التاريخية للأمة، أفرغتها في النهاية من مضمونها الحقيقي، ومن شحنتها الدافعة، وحولتها إلى كلمة تقال باللسان، والقلب غافل عن دلالتها، والسلوك مناقض لمقتضياتها.
(1) أول هذه الأمراض هو الفكر الإرجائي الذي يخرج العمل من مقتضى الإيمان، والذي يقول: الإيمان هو التصديق، أو هو التصديق والإقرار، وليس العمل داخلا في مقتضى الإيمان.
وليس بنا هنا أن نناقش هذه القضايا، قد ناقشناها مناقشة تفصيلية في مجموعة من الكتب من قبل؛ إنما نحن هنا نعدها عدا فحسب (1) !
(2) ثاني هذه الأمراض - ولا يقل عنه خطورة - الفكر الصوفي، الذي يطمع العبد في رضا مولاه إذا أدى مجموعة من الأوراد والأذكار، وأطاع الشيخ واتبع هواه، دون القيام بالتكاليف التي فرضها الله، وخاصة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي إلى تقويم المجتمع. وهذا بالإضافة إلى تضخم الشيخ في حس المريد، حتى يصبح واسطة بين العبد ومولاه، وبالإضافة إلى توجيه ألوان من العبادة إلى بشر من الأموات والأحياء لا توجه إلا لله، من النذر والاستعانة والاستغاثة والذبح والطلب والرجاء..(1/4)
(3) الانحسار التدريجي في مفهوم العبادة من كونه شاملا لكل حياة الإنسان لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ..)(2) إلى انحصاره في الشعائر التعبدية وحدها (دون بقية الأعمال) إلى تحول الشعائر ذاتها إلى أعمال تقليدية تؤدَّى بحكم العادة دون وعي حقيقي بمقتضياتها، إلى إهمالٍ لبعض الشعائر.. وانتهاء بالخروج من أدائها جملة، حتى الصلاة!
(4) تحول عقيدة القضاء والقدر من عقيدة نافعة تدفع صاحبها إلى الإقدام والشجاعة في مواجهة المواقف، إيمانا بقوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(3) إلى عقيدة مخذلة، صارفة عن العمل، بدعوى أن ما لك سوف يأتيك، وأنك مهما عملت فلن تحصّل إلا ما هو مكتوب لك، فلا ضرورة للعمل ! وتحولها من عقيدة تحمل الإنسان مسئوليته عن عمله حين يخطئ أو يقصر، إلى مَحطٍّ يحط الإنسان عليه تقصيره وإهماله، بحجة أن كل شيء مقدر ! ومن عقيدة تحث الناس على العمل على تغيير الواقع أملاً في واقع أفضل إلى عقيدة تحث الناس على الرضا الخانع بالواقع السيء لأنه من قدر الله، ومحاولة تغييره تمرد على قدر الله !
(5) تحول التوكل على الله من شعور إيجابي، تصحبه العزيمة وإعداد العدة، لقوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(4) إلى شعور سلبي متواكل لا يأخذ بالعزيمة ولا يتخذ الأسباب.(1/5)
(6) تحول الدنيا والآخرة في حس الناس إلى معسكرين منفصلين، العمل لأحدهما يلغي العمل للآخر، بعد أن كان في حس المسلم أن عمله في الدنيا هو سبيله إلى الآخرة، وأنهما ليسا طريقين منفصلين ولا متضادين ولا متعارضين، إنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة، عملا بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(5) وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(6) وأن كل عمل المسلم هو للدنيا والآخرة في ذات الوقت بغير انفصال.
(7) تحول الخلاف المذهبي من كونه اختلافا في وجهات النظر، إلى عصبيات تشغل أصحابها وتفرقهم بعضهم عن بعض حتى في الصلاة.
(8) نشأة الفرق بتأويلاتها الفاسدة وخلافاتها الحادة في قضايا الصفات، وقضايا القضاء والقدر، وقضايا الجبر والاختيار.. وشغل الناس بهذه التأويلات الفاسدة عن صفاء العقيدة وسلاستها ووضوحها وبساطتها، إلى قضايا تستهلك الطاقة ولا تؤدي في النهاية إلى ثمرة في عالم الواقع.
(9) ضعف الإيمان باليوم الآخر، وانحسار فاعليته في مشاعر الناس وتصرفاتهم.
أمراض السلوك:(1/6)
في الإسلام يرتبط السلوك ارتباطا وثيقا بالعقيدة. ذلك أن مقتضى العقيدة هو الالتزام بما أنزل الله. وما أنزل الله يشمل الحياة كلها بجميع جوانبها، وكل شيء في حياة الإنسان داخل بالضرورة في أحد الأبواب الخمسة التي تشملها الشريعة، فهو إما حرام وإما حلال وإما مباح وإما مستحب وإما مكروه. ومن ثم ينطبق قوله تعالى الذي أشرنا إليه آنفا (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي)، ينطبق على واقع الحياة كله. وكل مخالفة لما أنزل الله هي نقص في الإيمان. فالإيمان يزيد وينقص. يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وقد ينتقض انتقاضا كاملا من أصوله إذا أتى الإنسان أعمالا معينة، يعرفها الفقهاء لا مجال هنا للخوض فيها، إنما نثبت فقط هذه الحقيقة وهي أن قول المرجئة: إن كفر العمل - على إطلاقه - لا يخرج من الملة. غير صحيح ! فالسجود إلى الصنم عمل وهو مخرج من الملة، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم عمل، وهو مخرج من الملة، وإهانة المصحف عمل، وهو مخرج من الملة، والتشريع بغير ما أنزل الله عمل، وهو مخرج من الملة، وموالاة الأعداء ومناصرتهم على المسلمين عمل، وهو مخرج من الملة.
ونعود إلى أصل القضية، وهي ارتباط السلوك بالعقيدة في الإسلام، بحيث لا يند عنها عمل واحد يأتيه الإنسان بوعيه وإرادته: "حتى اللقمة التي ترفعها إلى في زوجتك كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (7)، وحتى ما يبدو أحيانا أنه عمل أرضي بحت. يقول عليه الصلاة والسلام: " وإن في بضع أحدكم لأجرا. قالوا: إن إحدنا ليأتي زوجه شهوة منه ثم يكون له عليها أجر ؟ قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فإذ وضعها في حلال فله عليها أجر" (8).
ومن ثم يكون المؤمن الحق على ذكر دائم لربه في كل لحظة من لحظات وعيه:(1/7)
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)(9).
أي في جميع أحوالهم..
وليس معنى ذلك أن المؤمن الحق لا يسهو ولا ينسى ولا يخطئ.. فكل بني آدم خطاء كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المؤمن حين يسهو أو ينسى أو يخطئ لا يلج في الغواية، إنما يعود فيذكر ربه ويستغفر:
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)(10).
فالاستغفار سلوك متصل بالعقيدة يمحو الله به السيئات..
وهكذا يكون المؤمن - في جميع أحواله - في دائرة العقيدة، بفكره ومشاعره وسلوكه.
وخلاصة القول أن المعاصي نقص في الإيمان، وإن كان صاحبها لا يخرج من الملة إلا إذا استحلها، وإذا كانت معصيته من النوع الذي يخرج صاحبه من الملة.
وفي مسيرة الأمة الإسلامية تكاثرت - مع مضي الزمن - المعاصي الدالة على نقص الإيمان (والمزيلة للإيمان في بعض الأحيان) وإن كان خط السير كان دائم التذبذب بين الصعود والهبوط. ولكنه في القرنين الآخرين وصل إلى حضيض لم يصل إليه قط من قبل.
والهبوط وكثرة المعاصي ليس أمرا من لوازم الحياة البشرية التي لا فكاك منها..
فلئن كان التفلت من التكاليف والميل مع الشهوات نقطة ضعف في الكيان البشري، فقد وضع الله لها علاجا شافيا في منهجه الرباني، حيث قال سبحانه:
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(11).(1/8)
والتذكير ليس كله وعظا كما ظنت الأمة في فترتها الأخيرة ! إنما الوعظ - على ضرورته - دواء مكتوب عليه "لا تتجاوز المقدار" !!
يقول الصحابة رضوان الله عليهم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة (أي بين الحين والحين) مخافة السآمة !
إنما التذكير يكون بالقدوة الحسنة مع الموعظة.. وقبل الموعظة.. وبعد الموعظة !
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(12).
والذي حدث في تاريخ الأمة أن التذكير بالقدوة الحسنة قد قلت نسبته - وإن بقي الوعظ - فتكاثرت المعاصي وحدثت أمراض كثيرة في السلوك.
ومهمتنا هنا على أي حال هي تسجيل أمراض السلوك كما سجلنا من قبل أمراض العقيدة، ولكن كان لا بد من الإشارة التي أشرناها إلى ارتباط السلوك بالعقيدة في الإسلام، لأن الفصل بين الأمرين هو من الأمراض التي أصابت الأمة على يد الفكر الإرجائي، الذي سبقت الإشارة إليه في أمراض العقيدة !
وقائمة أمراض السلوك قد تطول ! ولكنا هنا نكتفي بذكر أبرزها:
(1) خلف المواعيد والاستهانة بالوعد كأنه غير ملزم لصاحبه، إنما هو مجرد كلمة يطلقها في الفضاء!
(2) الكذب.. وفي كثير من الأحيان بغير موجب للكذب !
(3) الغيبة والنميمة.
(4) الالتواء في التعامل مع الآخرين، وتجنب الاستقامة، واعتبار ذلك من البراعة !
(5) عدم الأمانة في العمل: في الصغير والكبير، الغني والفقير، "العظيم" والحقير.. إلا من رحم ربك.
(6) عدم احترام الوقت.. والتفنن في تضييعه و"قتله" بشتى الطرق، وأهونها الفراغ الطويل الذي لا يمل منه صاحبه، ولا يشعر فيه أنه قد أضاع شيئا ثمينا كان يجب أن يحرص عليه.
(7) ضعف الهمة للعمل وعدم الرغبة في بذل الجهد.. إلا كرها !(1/9)
(8) عدم الرغبة في الإتقان.. وقضاء الأمور في أقرب صورة "لسد الخانة".. وحتى هذه فلا يقوم بها صاحبها إلا مخافة اللوم أو التقريع أو العقاب !
(9) الغش، وعدم التحرج من إتيانه كأنه حق من الحقوق المشروعة !
(10) الاستهانة بمسئولية الإنسان عن عمله، وعدم الشعور بالتأثم من الخطأ أو الإهمال إو إضاعة حقوق الناس أو مصالحهم أو أموالهم أو راحتهم أو أمنهم.
(11) إهدار "المصلحة العامة"، وعدم الإحساس بالمسئولية تجاهها. ليس فقط بسبب انصراف كل إنسان إلى مصلحته الخاصة، دون نظر إلى ما يقع منه من تجاوزات في سبيل الحصول عليها، ولكن لانعدام الحس بوجود شيء مشترك يقوم كل إنسان من جانبه برعايته والحرص عليه، وتظهر نماذج من ذلك في إتلاف الصنابير العامة وترك الماء يسيل منها بلا حساب، وتقطيع الأشجار العامة، وإتلاف نباتات الحدائق، وإلقاء القمامة في الطرقات العامة، وتحويل أي مساحة خالية إلى مباءة لإلقاء القاذورات، أو ما هو أسوأ من ذلك مما يبعث الروائح الكريهة فيها !
(12) الملق لأصحاب السلطة، بمناسبة وبغير مناسبة !
(13) الرياء في أداء الأعمال، الذي يحولها إلى أعمال مظهرية لا يقصد بها مضمونها الحقيقي، سواء كان العمل مشروعا عاما يقصد به الدعاية المظهرية أو عملا خاصا لإرضاء الآخرين ونيل ثنائهم دون إيمان حقيقي به !
(14ـ16) الثلاثي الرهيب الذي يمثل طابعا عاما للأمة، ويفسد عليها كثيرا من شئونها: الفوضوية التي تكره النظام، والعفوية التي تكره التخطيط، وقصر النَفَس، الذي يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، والذي يتسبب في فشل كثير من المشروعات بعد التحمس لها في مبدأ الأمر، إما بسبب الفوضى في الأداء، أو الارتجال الذي يضيِّع الجهد بلا ثمرة، أو انطفاء الحماسة وفقدان الرغبة في المتابعة.. أو بسببها جميعا في وقت واحد !
الحصيلة النهائية لأمراض العقيدة وأمراض السلوك:(1/10)
لعله من الواضح أن هذه الأمراض لا تأتي بخير ! ولكن اجتماعها كلها في الأمة في وقت واحد قد أحدث من الشرور ما يفوق التصور. وما الواقع الذي تعانيه الأمة اليوم في كل اتجاه إلا حصيلة هذه الأمراض، التي كان اجتماعها بهذه الصورة كفيلا بالقضاء الأخير على الأمة، لولا فضل الله ورحمته، ومشيئته المسبقة أن تبقى هذه الأمة على وجه الأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها !
ومع وضوح الأمر فإنه يجدر بنا أن نحدد بدقة آثار هذه الأمراض المدمرة في واقعنا المعاصر، لتكون حاضرة في أذهاننا.
لقد كانت الحصيلة الطبيعية لمجموعة هذه الأمراض هي التخلف، في جميع الميادين، وإليك بيانا بأنواع التخلف التي أصابت الأمة - أو تجمعت عليها - في القرنين الأخيرين:
(1) التخلف العقدي:
لقد نزلت هذه العقيدة لتؤدي مهمة ضخمة في حياة الأمة التي تؤمن بها، بل في حياة البشرية عامة، لا لتكون مجرد كلمة تنطق باللسان، أو وجدان يُسْتَسَرّ في القلب. إنما لتكون شهادة منطوقة، ووجداناً حياً في القلوب، وواقعاً مشهوداً يراه الناس في سلوك واقعي.
وإذا كان هذا ينطبق على كل رسالة جاءت من عند الله:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(13).
فإن هذه الرسالة الخاتمة لها وضع خاص عند منزلّها سبحانه، وفي واقع الأرض، وواقع التاريخ:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(14).
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(15).
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)(16).
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(17).(1/11)
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(18).
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)(19).
نعم.. لقد أنزل الله هذه الرسالة لشأن عظيم، يتعلق بالبشرية كلها، ليخرجها من الظلمات إلى النور. فلو أنها انحسرت لتصبح مجرد رسالة لأمة من الأمم، لكان هذا تخلفا عظيما عن الشأن العظيم الذي أنزلت من أجله، ولو كانت هذه الأمة تشمل مساحة واسعة من الأرض، وعددا كبيرا من البشر، فما بال إذا كان الانحسار قد كان أوسع مدى وأشد خطرا، بحيث لم تصبح الرسالة فاعلة حتى بالنسبة للأمة التي اعتنقتها وحملت أمانتها، بل أصبحت مجرد كلمات تنطق باللسان، ووجدانات مستسرَّة في الضمير، وبضع شعائر تؤدى من باب التقليد.. ؟!
أي تخلف عن حقيقة الرسالة وأي انحسار؟!
وأي جرم يرتكبه المسلمون في حق ربهم، وفي حق أنفسهم، وفي حق البشرية كلها، حين تتحول العقيدة على أيديهم من ذلك الكيان العملاق الذي أراده الله، إلى ذلك القزم الذي لا يكاد يتبين له قوام؟!
(2) التخلف الأخلاقي:
هذا الدين من أول لحظة دين أخلاق:
وكل رسالة جاءت من عند الله كانت رسالة أخلاقية، تدعو لمكارم الأخلاق، وترسخ وجودها في الأرض، ولكن هذه الرسالة الخاتمة كانت هي "التمام" الذي يتمم البناء، ويعطيه صورته النهائية الفائقة:
"مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" (20).(1/12)
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (21).
وكانت أخلاق الأمة الإسلامية في عهودها الأولى مضرب المثل في كل اتجاه.
فحين فتح أبو عبيدة بلاد الشام واشترط أهلها عليه أن يحميهم من الروم مقابل دفع الجزية، ثم جهز هرقل جيشا ضخما لاسترداد بلاد الشام من المسلمين، رد أبو عبيدة الجزية لأهل الشام وقال لهم: "لقد اشترطتم علينا أن نمنعكم وقد سمعتم بما يجهز لنا، وإنا لا نقدر على ذلك (أي على حمايتكم من الروم) ونحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم "كان هذا عملا أخلاقيا فريدا في التاريخ. وحين أدّب عمر بن الخطاب ابن عمرو بن العاص لأنه ضرب الشاب القبطي الذي فاز عليه في السباق، وقال لعمرو: "يا عمرو ! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" كان هذا عملا أخلاقياً فريداً في التاريخ. وحين حكم القاضي بإخراج الجيش الإسلامي من سمرقند لأنه خالف العهد الذي أبرم بينه وبين أهلها، كان هذا عملا أخلاقياً فريداً في التاريخ.. وانتشر الإسلام في جنوب شرقي آسيا على يد التجار المسلمين، لأن الأهالي وجدوا فيهم نموذجاً أخلاقياً فريدا حببهم في الإسلام، فدخلوا فيه بالملايين.. والنماذج أكثر من أن تحصى.
فلو انحسرت تلك الأخلاق حتى صارت محصورة فيما بين المسلمين بعضهم وبعض، كحال الأخلاق الغربية التي يتعامل بها الغربيون البيض مع بعضهم البعض، فإذا خرجوا مستعمرين انقلبت تلك الأخلاق أنانية بشعة ووحشية لا إنسانية فيها، لكانت تلك نكسة غير مقبولة من المسلمين، الذين أخرجهم الله ليكونوا نموذجا فذا للناس كافة، يعلمونهم مكارم الأخلاق، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(22).(1/13)
فكيف إذا كان الانحسار لم يكن في تغيير القاعدة، من قاعدة إنسانية شاملة إلى قاعدة قومية أنانية، بل كان أدهى وأخطر، إذ فقد المسلمون أخلاقياتهم في تعاملهم بعضهم مع بعض، فصاروا أسوأ حتى من الأمم الجاهلية التي لا تعرف مكارم الأخلاق إلا مصالح ومنافع وعصبيات ؟!
وكم قدر الجريمة حين يكون الذين فسدت أخلاقهم على هذا النحو يحملون أسماء إسلامية، ويحملون شعار الإسلام ؟! والله سبحانه وتعالى يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)(23).
وقد كان هذا التحذير الشديد بشأن تخلفٍ واحدٍ وقع من بعض المسلمين، فيما يتعلق بالقتال.. فكيف حين يكون التخلف في كل شأن، ومن الكثرة الكاثرة من الناس ؟! كم يكون المقت الرباني كبيرا ؟ وكم تكون النتائج خطيرة ؟
(3) التخلف الحضاري:
كيف تكون حضارة بغير جهد يبذل ؟ بغير عزيمة توجّه ؟ بغير قدرة على التنظيم والتخطيط والمتابعة والمثابرة ذات النفس الطويل ؟
لقد كانت الحضارة الإسلامية حدثا فذا في التاريخ.. فقد سبقتها في الوجود حضارات جاهلية كثيرة، برعت في جوانب من الحياة وغفلت عن جوانب أخرى:
(يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(24).
والحضارة الإسلامية كانت فذة في شمولها لكل الجوانب في آن واحد، وتوازنها بين شتى الجوانب في آن واحد.
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(25).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(26).(1/14)
هي الحضارة التي شملت جسد الإنسان وروحه، وعقله ووجدانه، عمله وعبادته، دنياه وآخرته، أفراده ومجتمعه، قيمه المادية وقيمه المعنوية، وكانت إنسانية النزعة تفتح أبوابها للبشرية كلها، من شاء منها أن ينهل من مناهلها، لا تحتجز خيرها عن الناس، وتتعامل مع أصحاب الديانات الأخرى بسماحة لم تعرف في غير الإسلام.
حضارة قيم إلى جانب النشاط المادي والحسي. ترتاد مجاهيل الأرض، وتستخرج كنوز الأرض، وتنشط كل مناشط الأرض، دون أن تفقد صلتها بربها، وذكرها لآخرتها، وحيثما تحركت نشرت الرقي، ونشرت العدل، وأخرجت الناس من الخرافة إلى الحق، ومن الظلمات إلى النور..
ولو أن هذه الحضارة انحسرت، فقبعت داخل حدودها، وانحصرت في ذاتها، ولم تفتح أبوابها للناس كافة، لكانت تلك نكسة بالنسبة للأمة التي أخرجها الله لا لذات نفسها فحسب، ولكن للناس.
فكيف إذا كان الانحسار لم يتناول الكم بل تناول النوع، فانحسرت تلك الحضارة عن قيمها الأخلاقية، وعن نشاطها الأرضي، وعن إبداعها في عمارة الأرض، وعن التجدد الحي الذي يزيد الحياة ثراء، وتقلصت حتى صارت جمودا خاملا ورتابة بليدة، واجترارا لا للأمجاد، بل لما خلفته النكسات تلو النكسات ؟
أي تقصير وقعت فيه الأمة الرائدة، التي أخرجها الله لتكون شاهدة على كل البشرية ؟
(4) التخلف العلمي:
كيف فقدت الأمة حاستها العلمية التي كانت بها ذات يوم معلمة البشرية ؟!(1/15)
أما أن الحركة العلمية الإسلامية كانت في وقت من الأوقات - ولقرون عدة - حركة رائدة، فأمر سجله التاريخ، وشهد به من أعدائها من شهد، و "الفضل ما شهدت به الأعداء" كما قال الشاعر القديم. وخذ من نماذج تلك الشهادات شهادة آدم متز في كتابه "حضارة الإسلام في القرن الرابع الهجري" وشهادة جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" وشهادة زيجريد هونكه في كتابها "شمس الله تشرق على الغرب" وغيرهم.. وكلهم أشادوا بالحركة العلمية التي كان المسلمون روادها، وأشادوا بصفة خاصة بأعظم ما كان في تلك الحركة العلمية، وهو اتخاذ المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي كان هو أساس كل التقدم الحالي في ميدان العلوم.
كيف فقدت الأمة حاستها العلمية، وصارت إلى جهل وتخلف في كل فرع من فروع العلم ؟
لا عجب ! حين تفقد الأمة إحساسها برسالتها. حين تفقد القوة الدافعة التي تدفعها للنشاط والحركة. حين ترى أن "العمل" لا ضرورة له. حين تتواكل وتكف عن الأخذ بالأسباب. بل حين تلقي الدنيا كلها من بالها تَوَهُّماً منها أنها بذلك تعمل لآخرتها، وتهتم بما هو جدير باهتمامها.. فكيف يكون للعلم مكان في حياتها ؟
بل الطامّة كانت حين توهمت الأمة - في تخلفها - أن الاشتغال بالعلوم الكونية نقص في الدين، وابتعاد عما أمر الله به ! بل وصل الأمر ذات يوم بمعاهد العلم الكبرى - كالأزهر - أن ترى أن الاشتغال بالعلوم الكونية كفر أو كالكفر، وأن العلم هو علم الشريعة وحده ولا علم سواه !!(1/16)
وفي القرن الخامس الهجري كان الغزالي يتحدث عن فروض العين وفروض الكفاية فيضع العلوم الكونية في فروض الكفاية التي تأثم الأمة كلها إذا لم يقم القادرون منها بالتمكن فيها، بينما وصلت الأمة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين إلى اعتبار الاشتغال بتلك العلوم كفرا أو كالكفر! ونسيت الأمة أن تنفيذ الأمر الإلهي "بإعداد القوة" لا يمكن أن يتم بغير التمكن في تلك العلوم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(27).
وحتى العلم الشرعي، الذي زعمت تلك المعاهد أنه هو العلم الحلال وحده، لم يكن ذلك العلم المتفتح الذي كان في قرون الأمة الأولى، وأنتج إنتاجا فكريا متميزا، وثروة باقية نافعة، إنما كان دراسة تلقينية تعتمد على استظهار ما خلف الأقدمون، ولا تمنح القدرة على الاجتهاد فيما جدّ من الأمور.. بل تعتبر الاجتهاد ذاته زيغا يعاقب عليه الإنسان بدلا من أن يثاب !
(5) التخلف الاقتصادي:
في الوقت الذي كانت أوربا تخوض الثورة الصناعية كان العالم الإسلامي ما زال يعتمد على الزراعة. والزراعة ذاتها تتم بالأدوات وبالأساليب البدائية التي ظلت مستخدمة آلاف السنين دون تغيير. وتقتصر الصناعة على الحرف اليدوية المحدودة الطاقة المحدودة الإنتاج المحدودة التوزيع.
وفي الظروف التي شرحنا جوانب منها من قبل، من أمراض عقدية وأمراض سلوكية، وتخلف علمي وتخلف حضاري، لم يكن التخلف الاقتصادي إلا نتيجة طبيعية لمجموع الظروف.
أما بالنسبة لما كان عليه حال الأمة في قرونها الأولى، وبالنسبة لما كان يجب أن يكون، فالانتكاسة مريعة في حجمها، وفي نتائجها.(1/17)
في وقت من الأوقات كانت ثروة العالم في يد المسلمين.
كانت التجارة العالمية من الصين شرقا إلى الجزر البريطانية غربا وشمالا في يد التجار المسلمين. وكان البحران الأحمر والأبيض بحيرتين إسلاميتين إن صح التعبير. وكان البحارة المسلمون هم سادة البحار، العالمين بشواطئها، وبمدها وجزرها، وخطوط الملاحة الصحيحة فيها، سواء في المحيط الهندي في آسيا أو المحيط الأطلسي في غرب إفريقيا وغرب أوربا، أو أنهار أفريقيا وآسيا..
وحين اكتشف فاسكوداجاما طريق رأس الرجاء الصالح، فقد اكتشفه على هدى الخرائط الإسلامية(28)! وحين أتم رحلته إلى جزر الهند الشرقية فقد كان قائد سفينته هو البحار العربي المسلم ابن ماجد !!
في ذلك الوقت كانت ثروة العالم في يد المسلمين !
وكان المفترض - لو سارت الأمور بالأمة سيرها الصحيح - أن تولد الثورة الصناعية على يد المسلمين في الأندلس، أو في غيرها من مراكز العلم والصناعة المنتشرة في العالم الإسلامي.
ولو وقع ذلك لتغير التاريخ !
ولكنه لم يقع.. لأن السنن الربانية لم تكن لتحابي الأمة الإسلامية وهي في انحرافها المتزايد عن طريق الله المستقيم، وإغفالها المتزايد لحقيقة دينها، وحقيقة رسالتها، وقعودها عن اتخاذ الأسباب التي أمرها الله باتخاذها.
ووقع التمكين لأوربا، بما تعلمته من علوم المسلمين.. ثم احتضن اليهود الثورة الصناعية وأداروها بالربا - في غيبة الأمة الإسلامية التي كانت قمينة أن تدير الحركة الصناعية بغير الربا لو أنها كانت في مكانها الصحيح - وأتاح الربا لليهود السيطرة على العالم كله.. والاستيلاء على فلسطين ! وكان هذا كله إحدى النتائج التي ترتبت على التخلفين العلمي والاقتصادي للمسلمين !
(6) التخلف الحربي:(1/18)
سواء كان التخلف الحربي ناشئا من العوامل التي أشرنا إليها آنفا: أي التخلف العلمي والتخلف الاقتصادي والتخلف العقدي، والتخلف الحضاري - وهو ما نرجحه - أو كان السبب كما يقول بعض المؤرخين هو تفكك فرقة الإنكشارية التي كانت تمثل العمود الفقري في القوة الحربية للدولة العثمانية، وعجز الدولة عن تعويضها، فقد حدث التخلف الحربي بالفعل، وحدث في أحرج الأوقات، التي كانت أوربا فيها تزداد قوة في جميع الميادين، ومن بينها الميدان الحربي، فنشأ من ذلك اختلال حاد في ميزان القوى، وصارت الدولة العثمانية هدفا للصليبية من كل جانب، ففرنسا وبريطانيا من جهة تؤلبان النصارى الداخلين في حكم الدولة العثمانية في أوربا وآسيا ليثوروا على الدولة ويستقلوا عنها، وروسيا من جهة أخرى تجتاح الممالك الإسلامية في آسيا، وتستولي عليها، وتفصلها عن دولة الإسلام، وتعمل فيها حقدها الصليبي. ثم لم تكتف الصليبية بذلك، بل سعت إلى احتلال بلاد العالم الإسلامي واحدا بعد الآخر، حتى إذا جاء القرن التاسع عشر الميلادي لم يكن قد بقي من العالم الإسلامي ما لم تدنسه أقدام الصليبيين إلا جسم الدولة العثمانية، وأجزاء من الجزيرة العربية.. وبقية الأرض تحتلها جيوش الأعداء، ولا تكتفي بإذلالها واستعبادها ونهب خيراتها، إنما تسعى - أول ما تسعى - إلى تنحية الإسلام عن الهيمنة على الحياة، وإيجاد بديل غير إسلامي، بل معادٍ للإسلام.(1/19)
وقد كانت مصر بالذات من أبرز أهداف الغزو الصليبي بالإضافة إلى تركيا، لمحاولة القضاء على الإسلام في صورتيه السياسية والحربية ممثلا في الدولة العثمانية، وفي صورتيه الروحية والثقافية ممثلا في الأزهر، ثم إذا تم إخضاع هاتين القلعتين بالذات، وإبعادهما عن الإسلام، فيمكن حينئذ تصدير الفساد منهما إلى بقية العالم الإسلامي، وبدلا من أن تكون الأفكار المطلوب بثها - والتي تمثل الغزو الفكري - عليها طابع لندن وباريس، فينفر منها المسلمون في كل الأرض، يكون الطابع مصنوعا في القاهرة وإسطنبول، فيسهل تقبل الناس له !
ومن أبرز الأمثلة على ذلك الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون ! فقد كان هدفها المعلن هو قطع الطريق الإمبراطوري بين بريطانيا والهند، ولكن أهدافها الخفية كانت غير ذلك تماما (ولا ينفي هذا وجود التنافس بين بريطانيا وفرنسا، ورغبة كل منهما أن تزيح الأخرى وتأخذ مكانها!)(29) وإلا فما علاقة قطع الطريق الإمبراطوري بين بريطانيا والهند بتنحية الشريعة الإسلامية في مصر وضرب الأزهر بالقنابل من القلعة، واستخدامه اصطبلا للخيل ؟! وما علاقة قطع الطريق الإمبراطوري بإثارة النعرة الفرعونية في مصر، ومحاولة اقتلاعها لا من الإسلام وحده ولكن من العروبة كذلك ؟!
وإذا كان حديثنا هنا عن التخلف الحربي - والآثار التي ترتبت عليه - فلا بد أن نذكر معركة إمبابة الشهيرة التي وقعت بين نابليون وبين المماليك الذين كانوا يحكمون مصر، ويقومون بحمايتها من الغزو الصليبي. فقد حارب المماليك بشجاعة - ولم تكن الشجاعة تنقصهم - وحاربوا بصلابة وحماسة وإصرار، دفاعا عن مصر، وعن الإسلام. ولكن ماذا تجدي الشجاعة والصلابة والحماسة أمام التفوق الحربي الكاسح ؟ لقد كانت مدافع نابليون المتفرقة تحتاج إلى فترة زمنية بين كل طلقة وطلقة، وإذا حميت من توالي الضرب صار مداها أقرب وإصابتها أضعف !(1/20)
لقد استغرقت المعركة عشرين دقيقة.. تغير بعدها وجه التاريخ !
(7) التخلف السياسي:
وقع الاستبداد السياسي مبكرا في حياة الأمة الإسلامية منذ الدولة الأموية التي اشتدت في ضرب أعدائها السياسيين بحجة القضاء على الفتنة التي نجمت عن مقتل عثمان رضي الله عنه، والنزاع بين علي ومعاوية.
وأيا كانت المبررات، فقد كانت الفرصة مواتية بعد استقرار الأحوال واستتباب الأمر للأمويين أن يعود الحكم الإسلامي إلى صفائه الرائع الذي كان عليه في فترة الخلفاء الراشدين حيث الشورى الإسلامية حقيقة واقعة، والعدل الإسلامي واقع مشهود. وقد كانت فترة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بالفعل عودة إلى ذلك الصفاء النموذجي، وكان يمكن أن تستمر حركة التصحيح حتى تعيد الأحوال إلى صورتها الإسلامية الأصيلة. ولكن الأمويين لم يطيقوا عمر بن عبد العزيز، وسياسته المثالية، وما لبثوا بعد وفاته أن عادوا إلى ما كان قد حجزهم عنه من سلب أموال الناس وحكمهم بالقبضة الحديدية.
ثم جاء الحكم العباسي، فالمملوكي، فالعثماني، يرث بعضهم بعضا في طريقة الحكم الاستبدادي، إلا أن يقيض الله للمسلمين حاكما عادلاً بطبعه، فيأخذ الناس بالرفق، ويسوسهم بالعدل. ونماذج الحكام العادلين في الإسلام ليست قليلة كما يزعم المستشرقون وتلاميذهم، وليست الصفحة كلها سوداء كما يصورونها لأمر يراد ! ولكن الذي نريد أن نبرزه هنا أن الأمة لم تعد تهتم من جانبها بتصحيح مسار الحكم كما أمرها رسولها صلى الله عليه وسلم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه عليه قصرا"(30). وهذا هو الذي نقصده بالتخلف السياسي، لأنه تخلف عن الصورة التي أمر بها الإسلام، والتي عاشها المسلمون واقعا أيام الخلافة الراشدة، سواء من جانب الحكام أو من جانب المحكومين.(1/21)
لقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم الخروج المسلح على الحاكم الجائر "إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان" (31) لأن الضرر المترتب على الفتنة أكبر بكثير من الضرر المترتب على الجور. ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس أن يستنيموا للظلم الواقع عليهم ويتركوا مجاهدته بوسائل أخرى غير الخروج بالسلاح (كالوسيلة السياسية مثلا عن طريق أهل الحل والعقد وهم نواب الأمة الراعون لمصالحها) بل قال على العكس من ذلك: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب منه" (32)، ولكنا لا نعجب للتخلف السياسي إذا وضعناه إلى جانب إخوته من ألوان التخلف في شتى الميادين !
(8) التخلف الفكري:
كذلك لا نعجب للتخلف الفكري !
إن الجانب الفكري للأمة - الذي يتمثل في المفكرين وأصحاب الرأي - هو البلّورة التي تنشأ من تشبع السائل في الوعاء. وإذا كان الوعاء في المثل الذي ضربناه هو الأمة، والسائل هو مجموع الأنشطة الحية التي تقوم بها الأمة في مختلف الاتجاهات، وتفرزها الحركة الدائبة التي تمثل الكدح البشري، فإن البلّورة تتكون على مهل في وسط هذا الخضم، رائقة شفافة، فتكون هي الخلاصة الصافية، تعجب الناظر، وتدعو إلى التأمل والتفكير.
فإذا كان الوعاء كما وصفنا، فارغا أو شبه فارغ، والسائل كما وصفنا متميعا لا يتشبع، فمن أين تأتي البلّورة الرائقة التي تعجب الناظر وتدعوه إلى التأمل والتفكير ؟!(1/22)
لقد أبدع العقل الإسلامي فكرا رائعا على مساحة واسعة لعدة قرون، وكانت مزيته العظمى - فيما عدا الشاذ الشاطح منه - أنه نابع من الإسلام، مستمد من أصوله، منبثق من ينابيعه الصافية، غير متأثر بلوثات الجاهلية من حوله. وإذا أسقطنا من حسابنا من تأثروا بالفكر الإغريقي - الفلسفي والكلامي - فإن الفكر الإسلامي الأصيل يظهر جليا في العلوم الشرعية كلها: علوم القرآن وعلوم الحديث والفقه والأصول وعلوم اللغة، وكلها إنتاج فذ لا مثيل له في أي لغة أخرى غير العربية، ولا عند أي أمة أخرى غير الإسلامية، ولكن هذا - على غزارته وسعة آفاقه - لم يكن هو الإنتاج الفكري الوحيد للمسلمين، المستمد من أصول إسلامية خالصة، وإلا فأين نضع كلام ابن خلدون في فلسفة التاريخ، وكلام الغزالي في أغوار النفس البشرية، وكلام الماوردي والقابسي في التعليم، وجهود المؤرخين المسلمين والجغرافيين المسلمين، وهذا كله غير الدراسات الأدبية والنقدية التي تتكلم عن إعجاز القرآن أو عن أسرار البلاغة أو عن العلاقة بين المعنى واللفظ.
إنتاج ضخم، لفكر حيّ متحرك، لقوم يعيشون الإسلام واقعا، فيشكل الإسلام فكرهم ومشاعرهم كما يشكل سلوكهم، ويشكل ثقافتهم كما يشكل ممارساتهم.
وكان الفكر الحيّ المتفتح انعكاسا للواقع الحيّ المتحرك..
فلما خبا المنبع في داخل القلوب، ذهبت الأصالة المتجددة، وخَفَت النبض المتدفق.. ثم غفا صاحب الفكر.. ثم راح في سبات عميق !
* * *
تلك هي الحال التي واجهتها "النهضة".
ولا بد أن نذكر بادئ ذي بدء أن "النهضة" ذاتها كانت رد فعل للصدمة.. صدمة الانهزام أمام الغرب، والانبهار بالفارق الضخم بين واقع الغرب وواقع المسلمين.. في جميع الميادين !(1/23)
وقد قلنا من قبل في كتب سابقة إن الهزيمة العسكرية وحدها لم تكن لتؤدي إلى ذلك الانبهار، ولا الفارق الحضاري الذي كان قائما بين العالم الإسلامي وبين الغرب الظافر، ولا حتى اجتماع الهزيمة مع الإحساس بالفارق الحضاري.. إنما الذي يفسر ذلك الانبهار هو الخواء الذي كانت تعيشه الأمة الإسلامية في جميع الميادين، وعلى رأسها الخواء العقدي.. الخواء من حقيقة لا إله إلا الله، فهي - بالنسبة للمسلم - نقطة الاعتزاز وموطن الاستعلاء، كما قال تعالى مخاطبا الأمة من قبل:
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(33).
فحين تفقد العقيدة شحنتها الفاعلة، وتُفَرَّغ من مقتضاها الحقيقي، يمكن أن يحدث الانبهار بأتفه الأشياء، ويمكن أن تتضخم الأمور في حس المبهورين مرات فوق مرات.. فما بالك حين تكون الحقيقة بهذه الضخامة المفزعة بين واقع الغرب وواقع المسلمين ؟
هَوْلٌ لا يصمد له إلا أولو العزم من الناس، الذين لا يتزعزع يقينهم في الله، ولا في الحق الذي أنزله الله، وإن لفّهم الظلام الحالك في لحظة من اللحظات.. (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)(34).
الفساد والعولمة
تعتبر العولمة بتجالياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية أداة أساسية في إعادة تشكيل المجتمعات العربية في الحقب الماضية، على طريق إدماجها الكامل في السوق العالمي. ولسنا هنا بصدد تقويم العولمة وآثارها إيجاباً وسلباً، ولكننا بصدد إثارة التساؤلات عن العلاقة بين انتشار الفساد وتعدد صوره، وبين التغيرات المجتمعية المرتبطة بالعولمة في بعض المجالات على سبيل المثال لا الحصر:
المجال الاقتصادي:
- هل هناك علاقة بين سياسات الخصخصة وبين الفساد المتمثل في هدر ثروات المجتمع عن طريق بيع أصول القطاع العام بأثمان تقل كثيراً عن قيمتها الحقيقية والتربّح من وراء ذلك؟(1/24)
- هل هناك علاقة بين تحرير التجارة وتزايد الرشوة والتهريب والتهرب من دفع مستحقات الدولة بمساعدة العاملين في إدارات الدولة؟
- هل هناك علاقة بين تحرير الزراعة وبين الاتجاه إلى تجريف الأراضي الزراعية والمضاربة بها أو البناء عليها مخالفة للقانون وهدراً للثروة الزراعية للوطن؟
- وهل هناك علاقة بين تحرير الزراعة والتجارة وزيادة الفساد المتمثل في استيراد الأعذية الفسادة وغير الصالحة للاستعمال الآدمي، والنجاح في بيعها للمواطنين بما يترتب عليها من أضرار غير محدودة؟
- هل هناك علاقة بين نظام السوق والاعتماد على قطاع خاص لم يستكمل شروط نموه إنتاجياً وبين الفساد المتمثل في نهب رجال الأعمال لأموال المودعين في البنوك بمساعدة العاملين فيها، ثم تهريبها إلى الخارج بدلاً من استثمارها في القطاعات المنتجة؟
المجال السياسي:
على الرغم من أن الديقراطية الليبرالية تمثل بعداً أساسياً في خطاب العولمة، إلا أنه بالإضافة إلى السلطوية التاريخية التي يتميز بها النظام السياسي العربي، فإن اضطلاع الدولة بمسؤولية تطبيق سياسات العولمة، ذات الآثار السلبية على الغالبية الفقيرة، وفرضها من أعلى، مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة منع المعارضة الجماهيرية، فإن الحكومات تتجه إلى زيادة قبضتها الأمنية على المواطنين وتقييد حركتهم بما يؤدي إلى استبعادهم من المشاركة السياسية الحقيقية، إلا من بعض الهامش الذي قد يسمح فقط بالتعبير وليس بالحركة التي يمكن أن تؤدي إلى التغيير. وفي هذا الإطار يُعتبر هذا الهامش أشبه "بديمقراطية ركن المتحدثين في حديقة هايدبارك في لندن" بهدف التجمل دولياً، وامتصاص الغضب محلياً.(1/25)
وهنا يثور السؤال: هل هناك علاقة بين احتكار السلطة السياسية من قِبل قلة، تدور في فلك العولمة، ولا تتحمل المعارضة الجماهيرية، ولا تسمح بأي قدر من تداول السلطة، وبين الفساد السياسي الذي يتمثل في تزوير الانتخابات، وتعيين الأقارب في المجالس والمناصب ذات العائد السياسي والاقتصادي الكبير؟ وهل هناك علاقة بين احتكار السلطة السياسية واستبعاد المواطنين من المشاركة بالحرص على إقامة علاقات تساندية عن طريق مجاملة أعضاء النخبة الحاكمة لبعضهم في شكل توزيع الأراضي الزراعية، والمساكن الفاخرة بأسعار رمزية، حيث يتربحون من بيعها بقيمتها الحقيقية بعد ذلك، ليعودوا إلى نفس الدائرة من التربح؟ كما تمتد هذه المجاملات إلى الإعلاميين ثمناً لحمايتهم لهذه النخبة عن طريق تزيف الحقائق، وتزييف وعي المواطنين.
المجال الاجتماعي الثقافي:
أدت آليات العولمة إلى تغيير البنية الاجتماعية للمجتمعات العربية بحيث زادت من حدّة الاستقطاب الاجتماعي، واتسعت الفجوة بين قلة تملك السلطة والمال، وبين غالبية مستعَبدة ومهمّشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ومع زيادة معدلات الإفقار والبطالة توضحت المظاهر الاستهلاكية الصارخة للفجوة بين الأغنياء والفقراء، مما أثّر في منظومة القيم السائدة في المجتمع، والمرتبطة باقتصاد السوق الذي يسعى إلى الربح أساساً، ومما أدّى إلى سيادة قيمة رأس المال على أية قيمة أخرى في المجتمع، بصرف النظر عن وسيلة الحصول عليه. وهنا يثار السؤال: هل هناك علاقة بين العولمة وتزايد الإفقار والبطالة والتضخم في الأسعار وتغير منظومة القيم في المجتمع، وبين انتشار الرشوة كصورة من صور الفساد، وكوسيلة لتقليل حدّة الفقر والحاجة؟
كان الهدف من الأمثلة التي تّم ذكرها محاولة إثبات أن فهم ظاهرة الفساد وقوانين حركتها ومواجهتها لا يمكن إلا بوضعها في إطار تفاعلها مع حركة تطور بنى المجتمع وتغيرها.(1/26)
طبيعة الفساد في عالمنا العربي الإسلامي !!
الفساد في عالمنا العربي الإسلامي، ظاهرة كلية، أي أنها مرتبطة بالمنظومة العامة في المجتمع. فالفساد في مجتمعاتنا ليست مشكلة أخلاقية.. إنما أصبح من صلب ثقافة المجتمع. وجزءاً من التركيبة الاجتماعية.
وإن الفساد بهذا المعنى لا يتعلق فقط بالمال العام الذي يتحول إلى مال خاص، لكنه ظاهرة ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تصب كلها في محاولات احتكار السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية من جانب النخب المسيطِرة ومريديها. كما تعمل آليات الفساد والبنى المجتمعية التي تفرزه على ظهور وانتشار القيم التي تبرر وتساند كل أشكال الفساد ووسائله، وتصبح القيم السائدة من قبيل أن "الغاية تبرر الوسيلة"، و"معاك قرش تساوي قرشاً".
ولذلك يُلاحظ أن فاسدي هذه الأيام لا يشعرون بالخجل أو العار حين يتم كشفهم، خاصة في حالة نجاحهم في تهريب الأموال المنهوبة إلى الخارج، حيث يعتمدون عليها في إعادة الاحترام إليهم مرة أخرى في مجتمع أصبح الناس فيه يُقاسون بما يملكون وليس بما يفعلون. وهنا يصبح الفساد جزءاً من الثقافة السائدة.
إن الفساد بهذا المعنى الشامل يصبح ظاهرة كلية تتشابك مع كل قطاعات المجتمع وعلاقاته بدءاً من الدولة إلى علاقات الأفراد والجماعات، مروراً بالمؤسسات الرسمية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأيضاً مؤسسات الثقافة والإعلام والمجتمع المدني وانتهاءً بالأفراد في تعاملاتهم اليومية.(1/27)
ولا يختلف أحد على أن كافة المجمتعات في الشرق والغرب تحتوي على قدر معينّ من الفساد، إذ لا يوجد على وجه البسيطة ذلك "المجتمع الفاضل" الذي يخلو تماماً من الفساد والمفسدين. ولكن القضية التي تشغل بال المجتمع العربي هذه الأيام، ليست بالتحديد وجود قدر ما من الفساد في معاملاتنا اليومية، بل حجم الفساد واتساع دائرته وتشابك حلقاته وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها مثيل من قبل، مما يهدد مسيرة التنمية ومستقبل مجتمعنا العربي في الصميم.
ولعل ما أفصحت عنه بعض وقائع قضايا الفساد المالي والإداري خلال السنوات الأخيرة في العديد من الأقطار العربية، يدل على مدى تغلغل قيم الفساد وممارساته في كافة مناحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والإدارية.
فعندما يغدو لكل شيء ثمن يُقاس بالجنيهات والدولارات، وعندما يغدو للقيام بواجب وظيفي ثمن، ولإجراء معاملة مع إدارات الدولة ثمن، ولتصريف أعمال الحكم ثمن، ولتلزيم المشاريع العامة ثمن، وللنفوس في الانتخابات ثمن، وللكلمة في وسائل الإعلام ثمن، وللتشريع عند مفاصل معينة ثمن، ولحكم القضاء في بعض الحالات ثمن، وعندما يغدو لكل شيء ثمن، فإن الفساد قد أضحى في حياتنا العامة من صلب ثقافة المجتمع، وأن يكون المجتمع في تلك الحال قد ابتُلي بما نسميه "ثقافة الفساد".
فيصبح المال معياراً للنجاح، ومعياراً للإنجاز، ومعياراً للوجاهة والسطوة. بل وأضحى المال الوسيلة لإحقاق الحق أو بلوغ مأرب أو الفوز بمنصب، ولم يعد للشعور بالواجب مكان، ولا للمسؤولية العامة اعتبار، ولا للضمير الوظيفي أو المهني دور، ولا للالتزام الوطني وزن.(1/28)
وثقافة الوسطة هي من صلب ثقافة الفساد. فالمرء في عالمنا العربي الإسلامي ! لا يصل في أكثر الحالات بكفاءته أو جدارته أو مزاياه، بل بواسطة أصحاب الحل والرابط، أصحاب السطو والنفوذ اللذين يقبضون على أزِمّة السلطة. وحتى المسؤول عن إدارة معينة، حتى الأستاذ في المدرسة أو الجامعة، حتى الطبيب في المؤسسة الصحية، حتى صاحب الاختصاص في لجنة تقنية، فإنه لا يصل إلى موقعه في غالب الأحيان إلا بواسطة. وكذلك صاحب الحق لا يضمن حقه المشروع إلا بالواسطة. وغالباً ما تقترن الواسطة بثمن.
وعندما يبلغ الفساد هذا المبلغ من التفاقم تتعطل إلى حد بعيد آليات الرقابة في الدولة، ويخبو وازع المساءلة والمحاسبة. فالناخب لا يحاسب النائب بل يعاود انتخابه بصرف النظر عن أداته أو سمعته، والنائب لا يحجب الثقة عن حكومته، فهو ينتقدها بأقذع العبارات ثم يصوّت لها ولمشاريعها، والحكومة لا تحاسب الإدارة مع علمها بالفساد المستشري في أوصالها وهي أصلاً غير برئية من استشرائه، ويد القضاء لا تطال المسؤولين في الدولة مهما قيل أو عُرف أو شاع عنهم. حتى هيئات الرقابة الإدارية، بما فيها مجلس الخدمة الدينية وهيئة التفتيش المركزي وديوان المحاسبة، كلها شبة معطلة، إما بفعل الفساد الغامر الذي تجاوز في أبعاده قدرتها على الإحاطة أو المعالجة أو الضبط، أو لأن الدم الفساد أخذ يدب في عروق بعضها.
عندما يغدو الفساد من صلب ثقافة المجتمع يصعب علاجه. فالفساد لا يُنتج إلا مزيداً من الفساد. والفاسد لا يرى في فساده عيباً.. ومن هنا نقول إن الفساد يشكل طوقاً يحتاج إلى من يكسره بقوة خارقة. وإذا تركت الأنظمة العربية الحاكمة على غاربها، أو على فسادها، فقد لا تتولد القيادة السياسية الكفيلة بكسر الحلقة الجهنمية. ونصبح في دائرة مغلقة من الفساد، ويستمر الفساد إلى ما شاء الله.
الأمية في عالمنا العربي الإسلامي !!:(1/29)
بلغ عدد المتخرجين في الجامعات العربية، عشرة ملايين خريج عام 1997، وكانت نسبة المتخصصين في العلوم من مجمل هؤلاء لا تتجاوز 29 %، أما نسبة الإنفاق الإجمالي على التعليم في الأقطار العربية فهي لا تتجاوز 1 % من ميزانياتها، وفي عام 1996 كان هناك 60 مليون عربي لا يجدون سبيلاً للمعرفة، و9 ملايين طفل عربي خارج التعليم الابتدائي، و15 مليون شاب عربي خارج التعليم الثانوي، و60 % من النساء العربيات لا يُجدن القراءة والكتابة، و44 % من الرجال لا يجيدون القراءة والكتابة. وقدرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أن عدد الأميين في العالم العربي ضخم، ويصل إلى سعبين مليون شخص في هذا العام 2005، وقد ورد هذا الرقم في التقرير الذي قدم في اجتماع مجلسها التنفيذي الأخير. وأشار التقرير أيضاً إلى أن هذه النسبة تكاد تعادل ضعف المتوسط العالمي للأمية، كما ورد في التقرير أن عدد الإناث في الرقم المذكور، يقترب من ضعف عدد الذكور. وكانت منظمة "اليونيسيف" قد أعلنت، في تقرير مشترك، مع جامعة الدول العربية، صدر في 11 إيرايل 2005، أن "هناك أكثر من 10 ملايين طفل في العالم العربي خارج إطار النظام المدرسي"..
وهنا تجب الإشارة إلى أن الأطفال، يشكلون ما يقرب من نصف عدد السكان في بعض دول العالم العربي، ويتزايد تعداد السكان العرب بصورة سريعة، حيث ينتظر أن يصل عددهم إلى ما يقرب من 400 مليون نسمة بحلول العام 2015.
لقد أضاف التقرير المشرتك، أن هناك أكثر من نصف النساء في العالم العربي يجهلن القراءة والكتابة، الأمر الذي يحول بينهن وبين الوصول إلى مصادر المعلومات والمعرفة التي يمكن أن تؤدي إلى تحسين حياتهن وحياة أطفالهن، ويحول دون الحصول على الخدمات الصحية الرئيسية، والخدمات الاجتماعية المختلفة.
إنتاج الدول العربية:(1/30)
تتألف منظمة المؤتمر الاسلامي من 57 دولة وتمتد ما بين إندونيسيا والمغرب ويبلغ عدد سكانها جميعا حوالي 1.3 مليار نسمة.
إلا أن إجمالي الناتج القومي لهذه الدول جميعها أقل من نصف الناتج القومي لألمانيا كما أن معدلات الأمية بها من أعلى النسب في العالم. ويمثل الانفاق على البحث العلمي 0.2 بالمئة فقط من اجمالي الناتج القومي.
إلا أن هذه الدول تحتضن ثلاثة أرباع احتياطي وقود العالم وربع الموارد الطبيعية الأخرى به.
مظاهر الفساد في البنية الاجتماعية للمجتمعات العربية الإسلامية !!
مظاهر الفساد السياسي:
لو تناولنا بداية التحليل أولي تلك المؤسسات وهي "المؤسسة التشريعية"، لوجدنا أن غالبية البرلمانات العربية أو المجالس التمثيلية لا تحقق الغاية التي أنشئت من أجلها، فهي في حقيقتها لا تعدو أن تكون مجالس استشارية، لم يصل أغلب أعضائها إلى المقعد النيابي عن طريق صندوق الاقتراع، وإن كانوا مرّوراً عليه صورياً، بل أوصلتهم محاباتهم لسدة الحكم، مما أسهم، وبشكل ملموس في العديد من البلدان العربية، أن يتولى شخص من أصحاب الولاء المطلق رئاسة تلك المجلس لفترة ليست بالقصيرة ولعدة دورات متتابعة، يكون على الأغلب إما أحد أعضاء حزب الرئيس الحاكم البارزين، أو قريبه، أو صهره، أو من أفراد عشيرته، إلى غير ذلك من وسائل الاتصال والاقتران والمحسوبية.(1/31)
فضلاً عن ذلك النموذج، ففي الأنموذج العربي للمجالس التمثيلية قد لا تجد أحزاباً متنافسة ولا تعددية حزبية، حيث يمنع النظام السياسي كل شكل من أشكال الحزبية والتنافسية السياسية القائمة بينهما، وهو ما تنص عليه الكثير من الدساتير العربية التي إما صدرت بمنحة من الحاكم، أو وردت برغبة أجنبية خارجية رسمت خارطة الطريق إلى تلك البرلمانات المدجّنة، مما يفقدها قدراتها وسلطاتها في مساءلة برلمانية جادة، وحث على تشفيف العمل الحكومي، ومراجعة وإقرار الميزانية العامة أو إبداء رأيها بشأن قرارات خطيرة كقرارات الحرب.
لذلك نجد أن الكثير من حوادث الفساد والنهب المنظّم اقترفها من يسمون أنفسهم بممثلي الشعب، الذين وجدوا أنفسهم في مقاعد نيابية صورية للمصادقة على نهب الحاكم المستبد، فآثروا استغلال مواقعهم للإسراع بقضم ما يستطيعون من كعكة المال العام، تحت ستار مصلحة الوطن والمواطن، والحفاظ على المصلحة العامة التي أصبحت في واقعنا العربي مجرد كلمة من التراث. من ناحية ثانية وبنظرة تحليلية لسلطة أخرى من السلطات الثلاث هي "السلطة التنفيذية"، نجد أنها في النظام السياسي العربي تشغل موقع السلطة المهيمنة على باقي السلطات، حيث يتمتع "الحاكم" فيها بصلاحيات تكاد تكون شبه مطلقة، تعطيه دوماً كلمة الفصل الأخير في جميع القرارات والتشريعات، بحكم ما خوله وأتاحه له الدستور "الذي أضفى عليه كل اللمسات الفنية الجميلة التي تجعل من منصبه مركزاً مطلقاً يسمك بزمتم جميع الأمور".(1/32)
إضافة إلى السلطات المطلقة للحاكم في النظام المذكور، أصبح ذلك النظام وفي الكثير من الدول العربية يعمل وفق آلية "الأسرة الحاكمة" و"توارث العروش"، مهما كان الشكل الذي وصل فيه الحاكم إلى السلطة: (ثورة شعبية، انقلاب عسكري، إقصاء حاكم، انقلاب الولد على أبيه، ولاية عهد.. الخ). الأمر الذي يستبعد الشعب ويصادر رأيه التام في اختيار حكامه، مما يتنافى مع قواعد الحكم الصالح التي ينبغي السير على نهجها. وفي الإطار ذاته "للسلطة التنفيذية"، نرى الحكومة في الوطن العربي شأنها شأن منصب الحاكم، يستمر من يتولى فيها منصب وزاري لفترات ليست بالقصيرة، بالإضافة إلى أنه يُعهَد الحقائب المهمة في الوزارة إلى افراد مضموني الولاء سلفاً، ويكونون في الأعم الأغلب من أفراد الأسرة الحاكمة. أم المناصب الأدنى مستوى من الحقيبة الوزارية في السلطة التنفذية، فيشغلها دوماً المؤهل من أصحاب العلاقات القرايبّة، أو من يشملهم مبدأ المحاباة، وهي امتيازات تجعل من يتولى المناصب الإدارية يتمتع بالحصانة من المساءلة بحكم صِيغ الارتباط السالفة.
لذلك تكون أبواب المال العام مفتوحة بلا رقيب أمامه، ويكون المنصب الحكومي تشريفاً له للإثراء على حساب غيره.(1/33)
إن نموذج الحكم في البلاد العربية هو نموذج "الرئيس ـ العملاء"، حيث الوزير خادم للحاكم، وللوزير مطلق الصلاحية في تعيين من يشاء وصرف من يشاء، والمناصب في وزارته أصبحت مخصّصة لأعضاء عصبته، تاركاً بقية الكادر مهما كانت درجة قدراته وكفاءته مهمشاً، إن لم يُطرد ليكون على قارعة الطريق، أم المفتش العام في الوزارة فهو من خاصة الوزير ومحل ثقته كيفما ينبغي الأخير. هذا بالإضافة إلى سيادة منطق "الوزير ابن ناس" من قِبل أصحاب الاختصاص وكذلك الذين يشغلون المناصب الرفيعة في النظام السياسي، الذين هم من اختاروا أولئك الوزراء. ولعل الأدهى من كل ذلك أن غالبية الوزراء من أصحاب الشركات خارج الوطن التي جاءت لتأخذ عقود الاستثمار في الوطن الجريح.
إن صيغ الانتهاكات وتراجع المؤسسات (التشريعية) و(التنفذية) يتزامن معها ويعزّزها ضعف النظام القضائي، وخضوعه للسلطة التنفيذية في أحيان كثيرة، بدلاً من وجوب تمتعه بالاستقلالية التامة عن عمل السلطتين أعلاه. مضافاً إليه شبه انعدام القوانين التي تحد من الفساد بشكل واضح وصريح.
ومن هذه الآثار:
- حظر الانتخابات تماماً أو السماح بها فقط على مستوى المحليات، كما هو الحال في السعودية والإمارات.
- إجراء الانتخابات إما لمجلس لا يتمتع بسلطات تشريعية كاملة، أو لمجلس يتقاسم هذه السلطة مع مجلس آخر معين، وتنطبق الحالة الأولى على البحرين وعُمان، وتنطبق الثانية على الأردن.
- إجراء الانتخابات فقط بين الأحزاب المقبولة لدى الحاكم، مع وضع سقف مصكنع لا تتجاوزه الأحزاب الأخرى، سواء أكانت أحزاباً معارضة أم أحزاباً تخضع للحزب الحاكم في إطار جبهة، وهذا هو حال كل من سوريا وتونس.
- قصر الانتخابات على الأحزاب المقبولة لدى المؤسسة العسكرية، مع وضوح مساندتها لحزب معين أو لمرشح رئاسي معين كما هو الحال في الجزائر.(1/34)
- الحدّ من وجود المعارضة في المجلس النيابي إما من خلال تخطيط الدوائر الانتخابية لتفتيت تأييد الناخبين لأحزاب المعارضة، أو بالأخذ بنظام انتخابي يقلل من فرص المعارضة في الفوز.
- ممارسة ضغوط إدارية وبوليسية على أنصار المعارضة للحيولة دون نحاجهم في الانتخابات تصل إلى حد اعتقال مرشحي المعارضة ووكلائهم الانتخابيين، والتضييق على فرص قيام المعارضة بحملات انتخابية، وهذا هو الحال في مصر وموريتانيا.
- استخدام سيطرة الحزب الحاكم على أجهزة الإدارة والإعلام في الدعوة لأنصاره وحجب فرص استخدام أحزاب المعارضة لأجهزة الإعلام التي تقع تحت سيطرة الدولة، مثلما هو الحال في مصر وتونس.
- الحيلولة دون نحاج مرشحي المعارضة في الانتخابات يمنع أنصارها من ممارسة حقهم المشروع في التصويت، أو التزوير الصريح للانتخابات، وهذا هو المألوف في مصر.
- قصْر الانتخابات الرئاسية على مرشح واحد يسميه الحزب الحاكم من خلال مجلس نيابي يسيطر عليه من خلال انتخابات تفتقد شروط النزاهة، وهذا هو الحال حتى الآن في مصر، والحال في تونس قريب عملياً من مصر.
- استخدام الثروة من أجل شراء تأييد الحزب المسيطر لمرشحين معينين، ولشراء الأصوات، دون وجود أي ضوابط لاستخدام الأموال في الحملات الانتخابية.
مظاهر الفساد الاقتصادي:(1/35)
من الخصوصيات اللافتة للنظر في اقتصاد المنطقة العربية اعتماده الزائد نسبياً على الدخل الريعي. وتتألف العناصر الرئيسية لهذا الدخل من الإيرادات النفطية والتحويلات الرسمية الخارجية (والتي ترتبط معظمها بعلاقات سياسية وأمنية مع الولايات المتحدة في الأساس) والفوائض المالية في مؤسسات القطاع وأخيراً الريع المستد من تشوهات السياسات الاقتصادية كاحتكارات الدولة وبعض أشكال الحماية التي تدرّ منافع استثنائية لحزينة الدول أو لمؤسسات القطاع العام. ومن خصائص الإيرادات الريعية أنها تنتج عن امتلاك الدولة لمورد أو ثروة استثنائية بحكم السيادة وأنها تؤول لخزينة الدولة تلقائياً وبدون الاعتماد على رضا أو تعاون أي طرف آخر في المجتمع، كما هو الحال مثلاً في الإيرادات الضريبية. وقد خضعت هذه الخصوصية للبحث والمناقشة كما تعرضت بعض الدراسات لعلاقة الدخل الريعي باحتمالات سوء الإدارة وتدني الأداء في المجال الاقتصادي. غير أن هذه الدراسات لم تتفحص بعمق علاقة هذا الوضع باحتمالات انتشار الفساد في الميدان الاقتصادي ولم تتبع أسلوباً علمياً بالقدر الكافي.(1/36)
ومن طبيعة الدخل الريعي أنه يؤول لخزينة الدولة مباشرة دون أن يمر بقنوات قد تعرّضه للمحاسبة والمساءلة، فمعظمه نتاج لاتفاقيات تعقدها الدولة مع جهات خارجية (النفط واتفاقيات الأمن التي تفرز المساعدات الرسمية الخارجية) بعيداً عن الشفافية والمراجعة من الكيانات السياسية النيابية. ومع تكاثر النظم العائلية والسلطوية في المنطقة العربية، تصبح ملكية العوائد الريعية والتصرف فيها مصدراً حاسماً لتعزيز قوة النظام وتمكينه من تخصيص الموارد الضخمة لحماية نفسه وإدامة حكمه. فليس من الغريب إذن أن يكون مستوى الإنفاق العسكري والأمني مرتفعاً نسبياً في المنطقة العربية. فلا يزال الإنفاق العسكري حوالي ضعف مثيله في مناطق العالم الأخرى بالرغم من انخفاضه النسبي في السنوات الأخيرة، علماً بأن المنطقة العربية لا تزال تعتبر من أضعف مناطق العالم قدرة على حماية نفسها من الاختراق الخارجي (في شكل غزو أو احتلال أو هيمنة). ونستنتج من ذلك بطبيعة الحال أن النظم في المنطقة العربية إنما تنفق هذه الأموال على الجانب الأمني ليس لحماية مواطنيها من الأخطار الخارجية وإنما لحماية أنفسها من مخاطر الاحتجاج والمعارضة من هؤلاء المواطنين.(1/37)
ولا شك في أن هذا الوضع يولد حالات وأوضاعاً سياسية واجتماعية واقتصادية تتميز بضعف الإطار المؤسسي وغياب الشفافية والمساءلة. ونتيجة لذلك، ينتشر الفساد ويزداد القمع والتضييق على الحريات الشخصية. وهناك عدد من الدراسات التي بيّنت العلاقة الإيجابية بين الإنفاق العسكري والفساد وكذلك العلاقة بين الإيرادات الريعية وسوء الحكم. والسبب في ذلك أن أجهزة الدولة في سعيها لحماية النظام تلجأ إلى أساليب مختلفة من الترهيب والترغيب. ويصبح شغلها الشاغل هو استخراج العوائد الريعية واستخدامها في تقوية شوكة النظام وإضعاف خصومه من خلال التهديد وربما العنف من ناحية أو من خلال الإغراءات التي قد تتخذ أشكالاً متعددة مثل عرض المناصب الحكومية على الأفراد أو إرساء العطاءات على رجال الأعمال المتعاونين أو تقديم الإعفاءات الضريبية أو الدعم المباشر لبعض القطاعات من ناحية أخرى. وإذا حصرنا اهتمامنا في المجال الاقتصادي على سبيل المثال، نجد أن اهتمامات رجال الأعمال والمستثمرين (المحليين والأجانب) تتجه نحو تعظيم استفادتهم من توزيع الريع عن طريق التعامل مع السلطة وكسب رضا الحاكم بدلاً من الاتجاه نحو الادخار والاستثمار في المشروعات الإنتاجية الإنمائية على المدى المتوسط أو البعيد والتي تكون مصحوبة بتحديات ومخاطر.(1/38)
في الوقت نفسه نجد أن المنطقة العربية قد عجزت عن تحقيق معدلات نمو مرضية نسبياً خلال العقدين الماضيين، بالرغم من إمكاناتها الهائلة، مما جعلها تتخلف عن منظومة الدول النامية كمجموعة. وتشير الدراسات إلى نمو نصيب المواطن العربي من إجمالي الدخل الفعلي بمعدل سنوي يعادل 0.5 % منذ مطلع الثمانينات وحتى عام 2002، بينما كان المعدل المقابل في بقية الدول النامية حوالي 1.7 %. ومن اللافت للنظر أن هناك شبه إجماع تبلور لدى الباحثين حول العوامل الرئيسية المرتبطة بتباطؤ النمو في المنطقة العربية. فمع تباين درجة الأهمية التي يوليها كل باحث لأي من هذه العوامل مقارنة بالباحثين الآخرين، وبالرغم من بعض الاختلافات حول مدى دلالة بعض العوامل الثانوية، فقد اتفق معظم الباحثين على أن تفسير الركود الإنمائي في المنطقة العربية مرتبط في الأساس بالعوامل الأربعة التالية:
- ضخامة الجهاز الحكومي.
- ضعف الإطار المؤسسي.
- تخلف الإصلاح في الجهاز المصرفي وضحالة السوق الملية بشكل عام.
- تدني معدلات الاستثمار وانخفاض كفاءته.
وتمثل هذه العوامل الأربعة في تأثيرها في تباطؤ النمو ما يترواح بين 65 - 75 % من الفارق في معدلات النمو بين المنطقة العربية ودول آسيا سريعة النمو على سبيل المثال.(1/39)
من هنا تتضح العلاقة بين الارتفاع النسبي للعائدات الريعية في المنطقة العربية من ناحية وتدني مستوى الأداء الاقتصادي لهذه المنطقة من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك أن الآليات التي تحكم هذه العلاقة يمكن استشفافها من العوامل الآنفة الذكر، إذ أن تضخم الجهاز الحكومي وهيمنة أجهزة الدولة على النشاط الاقتصادي نابعان من توفر الموارد الريعية ومن حرص أجهزة الدولة على حماية النظام والإبقاء عليه، الأمر الذي يرتبط، كما أشرنا من قبل، بضعف الإطار المؤسسي وغياب الشفافية والمساءلة. ويؤدي هذا الوضع بطبيعة الحال إلى انتشار الفساد وتشويه السياسات والقرارات الاقتصادية، سواء كان ذلك في عقد صفقات التسليح أو اتفاقيات النفط أو تخصيص الإنفاق الأمني الداخلي أو التوظيف الحكومي، إضافة إلى تدخل السلطة في توجيه الائتمان من المصارف لحلفائها من رجال الأعمال، الأمر الذي يرتبط أيضاً بتدني معدلات الاستثمار المجدي.
ومن الآثار السلبية للفاسد في معدلات النمو الاقتصادي، أنه:
- يساهم في تدنَّي كفاءة الاستثمار العام وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة: وذلك بسبب الرشاوي التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسئ توجيهها أو تزيد كلفتها، بالإضافة إلى تداخل الوسطات في اختيار المشروعات الإنشائية وانتشار الغش مما يسفر عن تدني نوعية المنشآت العامة.
- انخفاض حجم ونوعية موارد الاستثمار الأجنبي: ففي الوقت الذي تسعى فيه الدول النامية والناشئة إلى استقطاب موارد الاستثمار الأجنبي لما تنطوي عليه هذه الاستثمارات من إمكانات نقل المهارات والتكونولوجيا والمساهمة في عصرنة الطاقة الإنتاجية المحلية، أثبتت الدراسات أن الفساد يضعف هذه التدفقات الاستثمارية وقد يعطلها، إذ يعتبره المستثمرون المعنيون بمثابة ضريبة على أعمالهم وعنصر مهم في رفع مستوى المخاطرة التي تقترن باستثماراتهم.(1/40)
- ارتفاع مستويات الإنفاق العسكري: يوجد علاقة ثابتة بين مؤشرات الفساد وارتفاع مستوى الإنفاق العسكري، نظراً لما يتضمنه هذا الإنفاق من عناصر يصعب على هيئات الرقابة أو المجالس التشريعية الحكم عالى مصداقيتها وما يوفره من فرص كبيرة للرشوة من خلال إدعاء السلطات ضرورة السرية في شراء الأسلحة.
- تردي توزيع الثروة والدخل: وذلك من خلال استغلال أصحاب النفوذ لمواقعهم المميزة في المجتمع وفي النظام السياسي، مما يتيح لهم الاستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الاقتصادية التي يقدمها النظام، بالإضافة إلى قدرتهم على مراكمة الأصوال بصفة مستمرة مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين هذه النخبة وبقية أفراد المجتمع.
- التخالف بين قيادات الجهاز المصرفي والمتشغلين بالتجارة الخرجية: في القطاع الخاص مع كبار تجار العملات الأجنبية فيما يسمى خطأ بالسوق السوداء، وإن كان الأدق تسميتها بالسوق غير الرسمية بسبب "تسامح" أجهزة الدولة معها في الوقت الذي يحظر فيه القانون صراحةً الإتجار بالعملة.
- التحالف بين قيادات القطاع العام والشركات الدولية: والذي لا يظهر علانية، ولكن يكشف عنه تولي هؤلاء المسؤولين إدارة الشركات المختلطة، ثم تحولهم فيما بعد إلى أصحاب مشروعات خاصة بفضل استغلال نفوذهم السابق في الإثراء غير المشروع. (قيادات القطاع العام التي أصبحت من قيادات القطاع الخاص).
- التحالف بين قيادات الشركات الصناعية المملوكة للقطاع العام ورجال الأعمال في القطاع الخاص: وغالباً من أقارب المسؤولين للحصول على منتجات القطاع العام بأسعار رخيصة ثم بيعها للمواطنين بأسعار مرتفعة.
- اشتغال أبناء كبار السمؤولين في القطاع الخاص:اعتماداً على نفوذ أبائهم في أجهزة الدولة، وربما في نفس المجالات التي يشرف عليها آباؤهم، أو في مجالات قريبة منها، أو مشاركتهم في كبرى مشروعات القطاع الخاص دون أن يساهموا في رؤوس أموالها.(1/41)
- اشتراط دفع الشركات الأجنبية رشاوي إلى كبار المسؤولين: تُوَدع في بنوك أجنبية إما لمجرد السماح لها بمزاولة نشاطها، أو للتغاضي عن اشتراطات صحية وبيئية أساسية.
- قيام أجهزة الدولة ببيع بعض الشركات الكبرى المملوكة لها: بأسعار زهيدة لصالح بعض أعضاء الأسر الملكية الحاكمة.
مظاهر الفساد الإداري:
يتلخص الفساد الإداري في عدة نقاط:
- غياب المخطط الهيكلي العام، وعدم وضوح السياسات العامة للإدارة، مما أنتج إزدواجية وتضارباً بين المسؤوليات أدّيا إلى تكبيل الجهاز الإداري.
- تضخم الجهاز الإداري حيث يُلاحظ أن حجم القطاع العام في كثير من الدول العربية يفوق احتياجاته، ومن شأن هذا أن يعقّد من الإجراءات الإدارية، ويضعف التواصل مع المواطنين، بالإضافة إلى كونه هدراً لموارد الدولة.
- عدم المساواة وتكافؤ الفرص الناتج عن المحسوبية والواسطة.
- عدم وجود الشفافية والمساءلة.
- عدم وضع المواطن في صلب اهتمام الإدارة.
- ضعف التدريب الإداري وعدم انتظامه.
إن وجود هذا الكم الهائل من المشاكل سيمنع الأجهزة الإدارية من أن تكون أداة فعّالة لتنفيذ سياسات الدولة، وتقديم الخدمات التي يحتاج إليها المواطنون؛ وهذا ما يدركه المواطنون من خلال تعاطيهم اليومي مع هذه الأجهزة، وبالتالي يعمق من اقتناعهم بتفشي الفساد في أجهزة الدولة التي يجعل منها ضعفها الهيكلي من جهة، وكثرة العمليات البيروقراطية، وتعقيد الإجراءات من جهة اخرى، بيئة مواتية لانتشار الفساد.
مظاهر الفساد الاجتماعي:
تساهم الشرائح المنهمكة بممارسة الفساد، وإن بتفاوت تبعاً لحجم الاقتطاعات التي تستولي عليها، في إعادة تشكيل المشهد الاجتماعي ككل في المجمتعات العربية المختلفة، وذلك بطرق مختلفة ومتناقضة أحياناً من خلال:(1/42)
- تعظيم الطلب الاستهلاكي الترفي والتظاهري البذخي، بحيث تشكل نموذجاً للاحتذاء مسلكياً وقيمياً. ولا سيما من خلال الصورة التي ترسمها عن نفسها، أي صورة النجاح الاجتماعي بدون كِلفة فعلية. وهي بذلك تدفع بالعديد إلى محاولة سلوك الطريق الذي عبّدته. وبهذا المعنى ندرك كيف ترتسم عملية تتفيه العمل المنتج، جزئياً، في أفق هذا التحول المسلكي ـ القيمي الذي تنتجه ممارسة الفساد.
- التأكيد من خلال استدامة مظهر النجاح الاجتماعي والمالي الذي توّلده ممارسة الفساد، أن لا محاسبة فعلية على الأفعال الناشئة عن استخدام الموقع المشغول في المسؤولية العامة أو في الوظيفة العمومية لمنافع الثراء الشخصي. ويعني ذلك أن الهوة بين أكثرية الناس والدولة، مرتع الفساد المميز بدون محاسبة، تتعمق ويتعمق معها الاغتراب بين عالم أكثريةٍ فقيرةٍ أو بائسةٍ لا تجد لها سنداً في تنظيم الفساد الشبكي وعائداته، ودولة تملك ناباً للقمع وناباً لحماية الفساد والفاسدين.
- السماح بمراكمة الثراء غير المشروع على نطاق موسع نسبياً ببناء مكانة اجتماعية مصطنعة تفرض اعتماد ممارسات اجتماعية محددة. ففي بلدان الخليج العربي والسعودية، فإن أقنية توزيع هامش من الثروة النفطية، في إطار ما يمكن اعتباره رشوة معمّمة للسكان الأصليين، وهذا يعمل على إعادة التشكيل الاجتماعي في بعض البلدان العربية على الأقل. وهي إعادة تشكل تضع الفئات الطفيلية في موقع بارز من جهة المكانة كما من جهة تشكيل الرأي ولا سيما تعميم القيم الاستهلاكية الترفية من جهة، ونشر الاتجاهات المعادية للأجانب، الذي تقوم باستغلالهم في غياب أي تشريع فعّال يحدد شروط عملهم ويحفظ لهم الحد الأدنى من جهة أخرى.(1/43)
- وإلى ذلك، يتحول الفساد إلى عامل طرد من حضن الجماعة المحلية إلى رحاب عالمية يُفترض أنها تؤمن فرض مساواة وشفافية أكبر. وبهذا المعنى فإن ممارسة الفساد الشبكية الموسعة في النطاق المحلي العربي تؤول في البلدان التي لا تتوفر فيها إمكانية تعميم الرشوة النفطية بالأخص، إلى تقليص الفرص المتاحة أمام الشباب للعمل وبناء مستقبل من صنع طموحاتهم وأحلامهم، فيتحولون إلى طالبي لجوء أو هجرة.
ولقد أدى استدامة النجاح الناتج عن ممارسة الفساد وعدم مكافحته، وانتشار مظاهره الاستهلاكية البذخية، إلى نتيجة مرجّحة تتمثل في تحول ممارسة الفساد مكوناً مقبولاً، وبالتالي مستدخلاً في ثقافة الأعمال كما في الوظيفة العامة. ويعني ذلك أن ممارسة الفساد في مناخ كهذا، يبطل النظر إليها باعتبارها خرقاً للقانون والحقوق العمومية.
كما ساهمت ممارسة الفساد الموسعة، والقبول الضمني أو الصريح الذي يحظى به اجتماعياً، في خلق ما يمكن تسميته التفاوت الرمزي. فالصورة المعمّمة عن النجاح، والقيم الاستهلاكية، وعدم احترام القانونين والمؤسسات، تشكل كلها أقنية التدوال الرمزي لعلاقات السلطة والسيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي نظام العلاقات الرمزية هذا لا يحتل من يمارس الفساد وينتج مثل هذه الصورة والقيم والسلوكات الموقع نفسه الذي يشغله من يتلقاها ويتفاعل معها حسا استعداداته. فالثراء المتحصل عن ممارسة الفساد لا يتم من دون احتلال موقع ما في شبكة العلاقات المسيطرة.(1/44)
وممارسة الفساد ونتائجه الاجتماعية ـ المالية، تساهم في تسريع عملية الانتقال من قيم الجماعة المتماسكة إلى قيم الأفراد الباحثين عن نجاح فردي (وإن استظلوا خيمة الجماعة). وبهذا نرى كيف تتم إعادة تشكيل الحقول الاجتماعية وقيمها انطلاقاً من هيمنة الحقل الاجتماعي المسيطر. مما يعني أن قيمة الثراء، وبالأخص السريع وغير المشروع، تصبح أولوية سلم القيم حتى عند شرائح اجتماعية كانت حتى أمد قريب تضع الشرف والنزاهة في المقدمة. ويُبرر ذلك، في سياق التحولات الطارئة في البنية والمجال والثقافة.
مظاهر الفساد الإعلامي:
أدى التحالف بين المال والإعلام إلى إعادة تدوير الإنتاج الكمّي والنوعيّ لوسائل التأثير في السياسة، وإلى إنشاء امبراطوريات إعلامية ـ ثقافية معبّرة عن مصالح سياسية. وأدت سيطرة المال على قطاع الإنتاج الثقافي إلى سيادة قوانين وشروط متطلبات الترويج السلعي الرأسمالي، وجعلت من بعض المثقفين والفنانين أدوات مؤجّرة في سوق الثقافة، فانتشرت الوكلات التجارية لتسويق الإنتاج، وأدخلت إلى السوق قيماً ومعايير جديدة كان من نتائجها تزييف الإنتاج الثقافي ونسف وتعطيل روح الإبداع والتجديد، وخضوع المثقفين تحت ضغط العوز المادي إلى إنتاج ثقافي هزيل وسطحي، إنتاج فاسد أهدر الثقافة كقيمة إنسانية وحوّلها إلى سلعة رخصية..
وأصبحت المؤسسات الإعلامية في العالم العربي الإسلامي !! تقوم بـ:
- تنزيه الحاكم وتبرئته من المعاصي التي أصبحت عنوان الصفحة الأولى في كل رسالة إعلامية.
- تضليل المواطن العربي ـ وإشغاله، والتغطية على فساد أكبر، فساد الحاكمين سياسياً واقتصادياً، وعمليات إفساد المجتمع والحاضر والمستقبل معاً ـ عن طريق قنوات الفديو كليب واللهو الغير برئ.. إلخ، والداخل في تموليها جهات دولية ماسونية.(1/45)
- تفريع الشحنة العاطفية والثقافية، عن طريق القنوات المضادة، التي تثير بعض الفضائح السياسية، حتى يشعر معها المواطن بأنها مختلفة ونزيهة، لكنها في الحقيقة تؤدي نفس الدور.. وهو السيطرة على العقول.
وفي إطار إغراق سوق الثقافة بالقيم والمفاهيم الأمريكية تستورد القنوات الفضائية العربية 17% من برامجها من السوق الأمريكية. وفي المقابل أضحت بعض شركات الإنتاج التلفزيوني العربي، وقنوات البث الفضائية والمحلية تستعير أفكاراً وبرامج ترفيهية أمريكية، وتحولت شاشاتها إلى (نواد ليلية) لعرض فقرات استعراضية ـ ترفيهية مماثلة لما تعرضه أكثر القنوات تطرفاً في عرض مشاهد الإغراء والجنس في أمريكا وأوروبا، هذا إلى جانب صناعة وعرض برامج ألعاب ومسابقات، القصد منها تسويق الثقافة الرخصية، وتحقيق عوائد مالية، سواء من حصيلة إجراء المكالمات الهاتفية المحلية والدولية، أم عرض الإعلانات التجارية تحت عناوين الدعاية وغيرها.
ولا تخفى حقيقة العلاقة بين النهّابين والفساد، فالممارسة الطويلة للفساد من قِبل الأنظمة وحواشيها، وضمان استمرار مصالح القائمين على نهب المال العام، والدفاع عن أوضاع الفاسدين، تستدعي بناء الأسيجَة المانعة والحاجزة للتطفل، ولم يعد مناسباً الاكتفاء برشوة أجهزة الإعلام للسكوت والتغاضي عن النهب، بل نظّمت مراكز الفساد مؤسسات إعلامها الخاص بها، وأصبحت تلك الموسسات، ميليشيا مسلحة بقوة الوسائل السمع ـ بصرية. ولم يعد النهّابون يخشون تعرضهم للمساءلة والنقد، أو المتابعة وافتضاح أمرهم، بل عادوا يستخدمون إمكانيات إعلامية كبيرة للجْم معارضيهم وابتزازهم وتخويفهم، كذلك في تبييض صفحات سلوكهم وسمعتهم عند الرأي العام والدفاع عن مصالحهم. وإلى جانب احتكارات الأموال، والشركات المتعددة الجنسيات، تكاثرت احتكارات المؤسسات الإعلامية القابضة على أنشطة العمل الثقافي والدعائي والإعلاني.(1/46)
إن خطورة الفساد لا تتوقف عند أشكال الرشوة السرقة وأدوار النّهابين الكبار والصغار والعوالق التي تعيش على امتصاص اقتصاديات الدول الفقيرة وسرقة عوائدها، بل تمتد إلى إفساد العقول، وخراب القيم، وهدم الأخلاق والمُثل، وتحويل مبادئ العلم والمنافسة والإبداع إلى صفقات وخداع وابتزاز وإلى أشكال مختلفة من الاحتيال والنهب والنفاق. وتحول الفساد إلى نهج في الحياة، يلازم الأنظمة الفاسدة، ويعيش في ثنايا البيروقراطية والمحسوبية والانتهازية ويؤسس لتنمية شكلية فوقية تُحسب تفاصيلها لأغراض تحقيق المنافع لهذه الفئة أو الجماعة أو تلك. ويهدف ذلك، ليس إلى تأسيس منهج فاسد فحسب، بل وإلى ضمان استمراره أيضاً. فالفاسد يحمي الفاسد، والفساد يفرّخ الفساد، وتُلغى في مسار ذلك مؤسسات الرقابة والمتابعة والتدقيق، ويكمّم الإعلام، وتُعزَل وسائل الرقابة الشعبية والمنظمات والأحزاب والبرلمانات عن ممارسة دورها في التصدي والمقاومة، حتى أضحى الفساد جزءاً من لْحمة الدولة ومؤسساتها، واستند الفساد إلى فلسفة تُبرّره، وقوة تحميه، وأدوات تُنمّيه وتعظم موارده.
دراسة حالة الفساد في مصر
كلمة فريق العمل:
احترقت قلوبنا، ونحن نتابع رصد الأخبار والتقارير عن كوراث الفساد في مصر، وأصبتنا حيرة شديدة، في أي شيئ نرصد..
كلما فتحنا ملف، وجدناه ملئ بالفساد على كل أنواعه وأشكاله، ووجدنا طبقات اجتماعية كاملة، تقوم مصالحها وحياتها على هذا الفساد..
لم نعرف ماذا نرصد؟.. كل جزئية من أي مجال تحتاج إلى ملف خاص بها، إنه أشبه ببحر مظلم من الفساد، لكن مياهه راكدة، تُفرخ وتنج الكثير من الجراثيم والطفيليات يوماً بعد يوم..(1/47)
صفقات مشبوهة.. رشوة في كل عمل وعلى مستوى الوزراء والهيئات.. علاقات قذرة مع أهل الدعارة "الفن".. قوانين لصالح جهات وأشخاص.. علاقة دولية مع شركات تقتسم ثروات الأوطان، وتفرض هيمنتها وتقافتها على الشعوب.. تزوير في الحقائق والمعلومات.. سيطرة على العقول والقلوب..
لم نعد نعرف.. من المسؤول؟!
الشركات متعددة الجنسيات، ذات الاحتكار العالمي؟
أم رجال الحكام "اللصوص" الذي يعتبرون المال العام صفقة مستباحة، ينهش فيها كل منهم حسب منصبه؟
أم الموظف البسيط، الذي يمد يديه إلى الفتات الساقط من المائدة؟
أين نوجه اللوم، أو النقد، أو المحاسبة؟!!
إننا كنا نعرف صورة سوداء عن واقع الحياة في مصر، وعالمنا العربي الإسلامي !! لكننا لم نكن نعرف أنها بهذا السواد وهذا الانهيار..
إن كل الأيدي ملوثة..!!
ولكننا وحسب طبيعة هذا الملف، اقتصرنا على بعض الإحصائيات والتقارير، وراعينا قدر الإمكان تحري الدقة بها.. ونود أن نقول أن الأرقام الواردة، صادرة عن جهات رسمية ودولية، لا نستطيع التيقن منها، لأن القائمون عليها قد يخفون الكثير منها، حافظاً على مراكز بعض الأشخاص.. لكن نحسب أن ما جمعناه من إحصائيات قد توافق مع إحصائيات دولية، كنا قد تابعناها منذ سنوات..
وقد اكتفينا بمصر كنموذج من عالمنا العربي الإسلامي !! ولا تختلف بقية الدول عنها إلا في بعض الأشكال الظاهرة.. مثل طبيعة النظام السياسي، ومدى عمالته ودوره الاستعماري في بلاد الإسلام..
ونحب أن نذكر أن دولة مثل السعودية، على قلة عدد سكانها البالغ عددهم 20.481.523، ومساحتها البالغة 1,960,582 م2، وثورة النفط بها، إلا أن مستوى الدين العام بلغ نحو 600 مليار ريال في العام 2002، ونسبة العنوسة مليون ونصف المليون فتاة عانس.. !!
والملفات كلها ما زالت مفتوحة، وكثير من الحقائق غائب عنا، وفي كل وقت تصلنا أخبار جديدة، عن كوراث تهدم البقية الباقية من ثروات الأمة كلها..!!(1/48)
وهنا يجدر الإشارة هنا إلى نقطة في منتهى الأهمية، وهو توقيت هذا الملف.. نعلم جميعاً مشروع أمريكا في الشرق الأوسط نحو تغيير النظام السياسي، بعد أحداث 11 سبتمبر، والرؤية الجديدة للسياسة العالمية.. الأمر الذي سمح ببروز بعض الحركات وبعض أشباه الحريات.. كتجاوز الخطوط الحمراء، وسب أنظمة الحكم، واستغلال أي حادثة "للتشهير" بتلك الأنظمة "لصالح" حسابها الشخصي..!!
ونحب أن نؤكد بشدة أن هذا الملف، ليس من قبيل التشهير، ولسنا مستغلين فترة شبة الحرية هذه، ولا نعتقد مطلقاً في هؤلاء الذين يسمون أنفسهم "حركات إصلاح أو تغيير" إنما نعتبرهم مجرد بحاثين عن الفتات الساقط من موائد الغرب..
إن الدافع الحقيقي من هذا الملف، هو رؤية حقيقية لواقع أمتنا، ودعوة إلى التغيير إنطلاقاً من السنن الربانية، وكذلك الشريعة الربانية..
إن كل الأيدي ملوثة بالفساد.. هذه حقيقة..
والمكافحون الأحرار.. المكافحون من أجل إنسانيتهم.. من أجل دينهم.. من أجل حريتهم.. هم وحدهم القادرون على التغيير.. هذه أيضاً حقيقة..
إننا أمام كارثة أضخم من أي تحديات وعبقات، تستلزم وعي وبصيرة..
وعي.. بمسؤوليتنا تجاه أنفسنا وتجاه البشرية..
وبصيرة.. بمعرفة الطريق الصحيح، دون شعارات أو أماني..
اللهم ألهمنا السداد.
طبيعة الفساد في مصر في العصر الحالي 1981- 2005:
تميز عصر الرئيس مبارك بتنوع هائل في تراكم كل أنواع الفساد. وكان أبرزها الأزمة الاقتصادية الخطيرة، التي أتت على البقية الباقية من ثروات الوطن.. ويجدر بنا هنا الإشارة إلى مسألة تاريخية..(1/49)
في عصر الرئيس جمال عبد الناصر.. كانت ديون مصر 1.7 مليار دولار عام 1968.. وكان وقتها تقارب تعسفي بين الطبقات؛ تطبيقاً لدين الشيوعية، إلا أنه لم تكن هناك أزمة اقتصادية مثل التي نعيشها الآن.. وكان هناك في المقابل نزعة إلحادية حظيرة، تفشت في كل المجتمع المصري، وكان هذا واضحاً في زي المرأة وقتها، وطبيعة الأفلام المعروضة، لدرجة أن وصل الإلحاد إلى سب الله ـ تعالى الله عما يقولون ـ في أشعار الطلبة في الجامعة.. وفي الوقت الذي قُيض فيه عمل الإخوان وقتها وسجنت دعوتهم داخل السجون، ولم يعد هناك أي صوت للإسلام.. وأصبح المجتمع ماخور كبير..
بعد هلاك عبد الناصر.. جاء السادات، وألغى نظام عبد الناصر الاقتصادي، وبدأ في سياسة انفتاح اقتصادي لصالح الأسرة الحاكمة والمقربين من النظام..
ثم أرد السادات التخلص من خصومه الشيوعيين.. فأمر بإخراج الإخوان من السجون، حتى يحاربوا خصومه.. هكذا كان الأمر.. محاربة عدو بعدو، وانتشر في المجتمع المصري فجأة ظواهر إسلامية فانتشر الحجاب والنقاب واللحية والثياب البيضاء.. وكان ذلك من أثر خروج الإخوان من السجون وبدأ نشاطهم، وبدأت الفتنة الفكرية بين الإسلاميين، واعتبروا الإسلام ميراث آبائهم، وظهرت الكثير من الجماعات الإسلامية، أحدثت ـ بالرغم من بعض الإيجابيات ـ كوارث في فهم الإسلام وتطبيقه، ونظروا إلى الإسلام نظرة النصارى إلى دينهم، فلم يستوعبوا حقيقة هذا الدين، وحقيقة هذا الواقع..
ومرت هذه الفترة بمرحلة إزدهار للحركات الإسلامية، انتهت بمقتل السادات في العرض العسكري عام 1981..
هَلَك السادات مصر وديون مصر 44 مليار جنيه.. وبدأ لمصر عهد جديد منذ تلك الفترة 1981..
الجهد الذي صنعه عبد الناصر في تفشي الإلحاد في مصر، قد ضاع الكثير منه بما صنعه السادات حين استغل الإسلاميين في محاربة أعداءه الشيوعيين..(1/50)
وأصبحت مصر تحتوي على الكثير من المظاهر الدينية، وعودة الشعور الديني من جديد.. إلا أن إصرار الحركات الإسلامية على غبائها وتخلفها، وعدم وعيها بحقيقة المسؤولية التي تدعيها.. حال دون الاستفادة من هذا الشعور الديني وفترة السماح في عصر السادات..
ثم قامت العديد من الدراسات، لبحث طبيعة الحركات الإسلامية.. فقامت باحثة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بإعداد دراسة عن "حركة الجهاد في مصر" وانتهت الدراسة أن الحركات الإسلامية أصبحت جزء من التركيبة الاجتماعية للمجتمع المصري، ولا يمكن استئصالها.. ولكن يمكن تحويرها!!.
وهذا ما حدث بالفعل.. تم تحويرها.
ولم يكن أن يعود الإلحاد من جديد إلى مصر كمظهر اجتماعي.. وكان الخطة هكذا.. إذا جاع الناس، وأصبحت قضيتهم هي لقمة العيش والحصول على سكن والمواصلات والتعليم والثانوية العامة، ثم يضعون أمامها العقبات والأهوال.. والطبقة المترفة قضيتها كيف تنفق الأموال..
فسيدخل الشعب في مرحلة عُبودية للأنظمة الحاكمة، لم يسبق لها مثيل في التاريخ..
وكانت الخطة اقتصادية، وتم تنفذيها ببيع القطاع العام، وسرقة كافة موارد الدولة على يد النظام وأعوانه.. وارتفع الدين العام المحلي ليبلغ وفقاً لآخر تقرير للبنك المركزي حوالي 455.3 مليار جنيه في نهاية ديسمبر 2004 وبما يعادل 91.4 % من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.. بينما الدين العام الخارجي 27.1 مليار دولار أي 124.2 مليار جنيه، وهو ما يعادل 27.8% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.
ولم يعد هناك وقت للحديث عن دين أو عقيدة أو حياة.. إذ لم يعد هناك حياة في ظل الجوع والخوف..
وصار الناس يستمعون إلى الأفكار الكبيرة لمجرد الاستمتاع، لا التطبيق..
إن اللمحة التاريخية السابقة، لم نقصد بها التتبع التاريخي للحوداث، والاستفادة من عِبر التاريخ، إنما هي مجرد لقطة سريعة لتوضيح سير الأحداث التاريخي.. للوقوف على حقيقة المؤامرة..(1/51)
ولنعرف ماذا فعل الشعب المصري، في فترة الإلحاد (فترة حكم عبد الناصر)، وفترة التقلبات (فترة حكم السادات)، وفترة الجوع والخوف (فترة حكم حسني مبارك)..
المجتمع المصري لم يبدي أي مقاومة أو اعتراض.. انغمس في مستنقع الإلحاد حتى النخاع، ثم ظهرت المظاهر الدينية في فترة السادات دون وعي، ثم استسلم للجوع والقهر..
وكان هذا نتيجة سُنَنية لمن لا يستجيب لنداء الله: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}..
فلم يستجب أحد؛ فأصابهم الذل، والسلبية، والتبعية، وقال الله لهم: إذ لم يغيروا ما أصاب نفوسهم من هذه الأمراض التي تتوارثها الأجيال، فلن يُغير الله ما بواقعهم وحياتهم..
وحين حدثنا الناس بأخطر ما يمكن أن تحدثهم به.. نُحدثهم عن دينهم.. عن حياتهم.. عن إنسانيتهم.. عن كرامتهم.. عن حريتهم.. فتراهم كأن الأمر لا يعنيهم، والحديث لا يُثير انتباههم والقضية ليست قضيتهم.. فلم يكن الحديث عن الدين والحرية والإنسانية والكرامة، على سُلم الأولويات.. فهناك أشياء كثيرة أخرى تافهة تحتل مكان الصدارة في حياة الناس..
لقد وجدنا أمراً غريب حقاً.. إننا أمام "منتج بشري "ماركة مسجلة".. Trademark" هذا ما شعرنا به فعلاً.. وي كأننا أمام منتج من أحد المصانع، فنتحدث إلى المنتج ونقول له: إنك رديء وسيئ ويجب تغيرك، فيجيب بلسان حاله ويقول.. ليس لي ذنب، راجع القائمين على المصنع..!!
وبهذا لم يَعد هناك أملاً في تغيير أي شيء.. فالناس يولدون من نفس مصنع الآباء.. عبيد خاضعون.. يحملون في أعناقهم (الذل، والسلبية، والتبعية).. والأنظمة خائنة للوطن والمواطنين.
وحين يأذن الله ويشاء بانبعاث جنوده الأحرار من جديد، فهذا هو الفجر الجديد الذي تنتظره كل البشرية..
{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
الإحصائيات
الوضع الاقتصادي:(1/52)
بدأ عصر حسني مبارك، بالتلاعب المصرفي والنقدي والمالي، فضلاً عن التلاعب بقيم الأصول المادية وتوزيعاتها وعلى رأسها الأرض. وخلال عقدي الثمانينات والتسعينيات تكررت قضايا النصب على البنوك بصورة مثيرة، وتنوع المتهمون بين رجال البنوك أنفسهم.
فبعد قضية بنكي الأهرام وجمال ترست ثارت عدة فضائح بخصوص الشركات التي ساهمت فيها مصر، وقامت بدور في فضيحة سوق المناخ بالكويت عام 1988 مثل الشركة العربية للتمويل. عاد بنك الأهرام ليصبح بؤرة تحقيقات جديدة في تسليفات فاسدة عام 1989. ثم انفجرت قضية بنكي الدقهلية والنيل عام 1995 فيما عُرف باسم قضية نواب القروض لتصبح أشهر عمليات النصب على البنوك، وسرقة أموال المدخرين الصغار، حيث بلغت جملة التسليفات المضروبة والتي تلقاها أعضاء بمجلس الشعب ووزراء سابقون 3 مليار جنيه. ثم تكشّفت قضية منى الشافعي عام 1996 والتي استولت على 90 مليون جنيه بدون ضمانات، ثم قضية الهواري الذي حصل على مليار ونصف مليار جنيه من القروض المصرفية بدون ضمانات في العام نفسه، وتفجّرت كذلك قضية التسليفات المضمونة من شركة النصر للتصدير والاستيراد بمبلغ 222 مليون جنيه في العام نفسه.
ثم صارت الفضائح البنكية بعد ذلك شأناً يومياً تقريباً. ومن أكبر الأرقام التي شملتها قضايا الفساد المصرفي في قضية بنك القاهرة عام 2000 والتي تشتمل على منح تسليفات تصل إلى 12 مليار جنيه بدون ضمانات.(1/53)
غير أن التسليفات المضروبة ليست الأسلوب الوحيد وإن كانت من أهم الأساليب إن لم يكن أهمها على الأطلاق. فالاستيلاء على الأراضي العامة والمضاربة فيها، شكّل أسلوباً بالغ الأهمية في السياق المصري. ويظهر هنا بصورة خاصة دور مؤسسات هامة في تسهيل الاستيلاء على أراضي الدولة مثل وزارة الزراعة والمحليات. فتم الكشف عن قضية اتهم فيها وكيل وزارة الزراعة فضلاً عن 3 وزراء عام 1983. ثم توالت تلك القضايا.. فبلغ حجم التعديات غير القانونية على أراضي الدولة في محافظة الإسكندرية وحدها بلغت قبل العام 1996 مبلغ 25 مليار جنيه.
والواقع أن التعديات غير القانونية على أراضي الدولة ليست أسوأ صور الفساد في هذا المجال لأن منح الأراضي التي تقدمها الدولة بصورة غير قانونية إلى رجال الأعمال مرتبطين بها تُعتبر أضخم من حيث المساحات، وإن ليس من الممكن تقديرها من حيث القيمة.
أما الرشاوي والاختلاسات وتسهيل الاستيلاء على المال العام، والتي يتلقاها بعض المتنفذين في الحكومة والقطاع العام. ووفقاً لإحصاءات النيابة الإدارية عام 1995 ضُبطت 5.000 قضية قيمتها تتجاوز 13 مليار جنيه. وتشمل قضايا الرشوة وتسهيل الاستيلاء على المال العام اتهامات وُجهت إلى نائب رئيس وزراء سابق في شراء طائرات، وأخرى إلى نائب آخر تلقى رشاوي من شركة وستنغهاوس، وصفقة للحديد والصلب، وصفقة أتوبيس من إيران، وقضية غبور ورفلة، وقضية مصنع الورق بقيمة 200 مليون دولار وكلها حتى العام 1985. وحتى ذلك العام وصل 96.820 بلاغ إلى جهاز المدعي العام الاشتراكي يحمل اتهامات بالفساد: تلقي رشاوي وتسهيل الاستيلاء على المال العام.(1/54)
وقد كشف آخر تقرير لهئية الرقابة الإدارية بمصر عام 2003 أن إجمالي قضايا الفساد بالحكومة بلغ 73 ألف قضية بواقع قضية فساد كل دقيقة، كما كشف التقرير أن عام 2003 شهد زيادة في معدل قضايا الفساد بأجهزة الحكومة، بلغت 14 ألف قضية عن عام 2002 بما يعكس التردي الذي وصلت إليه المصالح والوزارات والشركات الحكومية.
وتتصدر قائمة المخالفات المالية قضايا الفساد الحكومي بواقع 43 ألفاً و822 قضية، وأغلبها في قطاع البترول والبنوك والثقافة والمحليات، أم المخالفات الإدارية فقد بلغت 33 ألفاً و551 قضية تمثلت في الامتناع عن أداء العمل، والانقطاع عنه، والجمع بين وظيفتين، ومزاولة أعمال تجارية.
هذا غير قضايا الفساد في قطاع البترول والزراعة والجمارك، والتي تمس الوزراء مباشرة، والفساد في المحليات والتي تجسدها قضية تسمى صحفياً "بإمبراطور فودة" وقضايا مقاولات إسكان غير آمن، وتشمل اغتصاب أراضي ومخالفات البناء ومن أشهرها قضية فوزي السيد المقاول، وحدوث مخالفات جسيمة بمدينة نصر بفضل الفساد في الإدارة الهندسية المختصة، والتلاعب بأسعار مواد استراتيجية مثل الأسمنت بما يؤدي إلى جني أرباح طائلة، وتمثلها حالة تسمى صحفياً بـ "إمبراطور الأسمنت"، وقضية الغزل، وقضية "ملك التونة" هذا فضلاً عن قضايا الاختلاس والسرقة من صناديق المحليات ومن أملاك الدولة فيها، والتي قُدرت في أربع محافظات فقط، وخلال فترة زمنية محدودة بنحو 200 مليون جنيه، وقضية مصنع المسبوكات التي وصلت قيمة المسروقات فيها إلى 1.4 مليار جنيه، وقضية حديد أسوان ووصلت قيمة الفساد فيها إلى 82 مليون جنيه، وشركة مصر للتجارة الحرة ووصلت القيمة إلى 130 مليون جنيه، فضلاً عن آلاف من القضايا الفردية التي أثارت الرأي العام.
التراكم الرأسمالي لعصابات رجال الدولة:(1/55)
في العقود الثلاثة الماضية شهدت موجات مختلفة من عملية بناء وهدم طبقة رجال الأعمال. وارتبطت كل موجة بشكل ما من أشكال التراكم الأولى لرأس المال الذي شاع بينهم أو شارك فيه عدد منهم. فالجيل الأول تكوّن في ظل الرئيس السادات من رجال الطبقات المالكة القديمة اللذين غالباً ما عملوا وكلاء للشركات الأجنبية، ولا سيما اللذين ظلوا على علاقة طيبة بالنظام الناصري. أما العناصر الجديدة منهم فارتبطت ثرواتهم بصورة رئيسية بالزراعة واستيراد وتصدير المواد الزراعية وأحياناً التلاعب بأسعارها، أو حتى بسلامتها الصحية.
إن النموذج الشائع لهذا النمط هو رشاد عثمان وعصمت السادات. وحقق الأول ثروته الكبيرة التي قُدرت عام 1976 بنصف مليون جنيه، ثم قفزت إلى 300 مليون جنيه عام 1981، عبر التلاعب بأسعار السجائر والخشب في وقت اتسم بالنمو الكبير في أنشطة البناء والاستيراد. أما عصمت السادات وأسرته، أخذوا يعيثون في الأرض فساداً هادفين من ذلك إلى الأثراء غير المشروع، وتكورين ثروة طفيلية. وذكرت المحكمة أن أموالهم تضخمت بسبب استغلال النفوذ واستخدام الغش والتواطؤ في تنفيذ عقود التوريدات مع الحكومة والهيئات العامة.(1/56)
أما الجيل الثاني فدخلت فيه عناصر جديدة تكونت ثروتها في سياق الانتعاش الهائل للبنوك الصغيرة التي عملت في مدخرات المصريين العالمين في الخارج، ولسوق المقاولات وأنشطة المضاربة بالأراضي بفضل ازدهار البناء السكني بصورة هائلة في نهاية السبعينيات. وارتبط هذا النشاط الأخير بالتحول من نظام العلاقات الإيجارية إلى نظام تمليك المساكن والشقق السكنية، ومن ثم التجارة في العقارات بالبيع والتملك، وظل هؤلاء يشكلون الجانب الأكبر من رجال الأعمال الكبار، وأثرى كثير من هؤلاء نتيجة منح الأراضي التي توسعت فيها الدولة. وانشغلت المؤسسة الرئاسية والرئيس شخصياً بتوزيع الأراضي الصالحة للبناء، وتكوين ثروة عقارية من خلال المضاربة في أسعار الأراضي. وظل الصراع على الاستيلاء على أراضي الدولة يشكل أحد أبرز أشكال الفساد في مصر حتى الآن.
أما الجيل الثالث فارتبط أساساً بازدهار أشكال مختلفة من المضاربة على العملة والتجارة في السوق السوداء للعملات الأجنبية، والأعمال المالية المصرفية والتجارة في العملات الحرة في السوق السوداء.(1/57)
ولذلك ارتبط الجيل الرابع بالاهتمام ببعث البورصة. حيث أدت أشكال مختلفة من التلاعب بالمعلومات وعقود الدولة وبالسياسة المصرفية وقروض البنوك إلى إثراء هائل لرجال أعمال بعينهم، وإفقار حقيقي للمستثمرين الصغار الذين ائتمنوا صناديق استثمار مختلفة أكثرها تابع للبنوك الرسمية الكبرى أموالهم التي جُمعت من سنوات من العمل في الخارج. وهناك جيل أخير ارتبط اسمه ببعض المشروعات الأكثر صلابة من الناحية الاقتصادية، وإن كان قد استفاد بشدة من مختلف أشكال التراكم الأولى بما فيه مخصصات الأراضي والتسليفات المصرفية غير المضمونة، والتلاعب بالأوراق المالية، وأحياناً من المركز الاحتكاري الذي تم ضمانه نتيجة العلاقات الخاصة برجال الدولة الكبار. ومن الواضح أن من بقوا من الأجيال المختلفة، ويتصدرون طبقة من رجال الأعمال في مصر هم من يحتفظون بعلاقات قوية مع رجال الدولة الكبار أو هيئاتها السيادية والسياسية حتى على المستوى الشخصي. ويفضل هؤلاء العمل في صورة شركات مختلطة تعمل في عديد من الفروع والأنشطة وذلك في إطار استراتيجية للبقاء في وجه عمليات الإدارة الفوضوية للاقتصاد والتحيزات السياسية المتحولة.(1/58)
وعندما تتعدّد مراكز النفوذ في الدولة تلجأ كل عصبة من عُصب الأعمال إلى الارتباط بشخصية أو حلقة أو مركز قوة سياسي سواء أكان حزباً أم شلة أم رجالاً ونساء متنّفذين من أجل الحصول على مواقع ممتازة في السوق، وفي أعمال الدولة، أو في الأعمال التي تسيطر عليها الدولة. وقد تتولى الشخصيات المتنفّذة في الدولة نقل تأييدها أو اهتمامها من مجموعة رجال الأعمال إلى آخرين. وتُعتبر قرارات التمييز هذه أجندة يومية للوزراء وكبار رجال الدولة الآخرين المسيطرين على المؤسسات والأجهزة التي تعمل في البزنس أو تُعتبر مفاتيح لـ "بزنس" كبير. ويُعتَبر الفساد وسيطاً مهماً في بناء تلك العلاقة. وفي هذا الإطار لعبت العلاقات العائلية دوراً كبيراً في التراكم الأولي الفاسد على نحو مستمر..
والأمر المثير للعجب، هو اعتبار رجال الدولة وشلة المنتفعين، أن ثروات الوطن "أكلة مستباحة" ليس لها صاحب ولا أهل، وي كأن أهل الوطن بلا وطن، وليس لهم حقوق.. والعبرة بمن يستطيع أن يسرق، أما العامة والبسطاء فلا مصير لهم إلا الجوع.. وأن المواطنين مجرد "ديكور اجتماعي" للنظام الحاكم..!!
لكن ليس هذا بمستغرب في معادلة "الحاكم ـ اللصوص ـ العملاء" = "الذل ـ السلبية ـ التبعية"
الاحصائيات الاقتصادية:
ارتفع حجم الدين العام المحلي ليبلغ وفقاً لآخر تقرير للبنك المركزي حوالي 455.3 مليار جنيه في نهاية ديسمبر 2004 وبما يعادل 91.4% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.
وقالت بعض المصادر: أن الدين المحلي خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية 2005 سجل ارتفاعاً ضخماً بلغ مقداره نحو 21 ملياراً و961 مليون جنيه فيما سجل ارتفاعاً رهيباً خلال العام الماضي بلغ مقداره نحو 48 ملياراً و348 مليون جنيه..(1/59)
ويوضح التقرير أن نصيب الحكومة من هذا الدين 314.7 مليار جنيه بزيادة 22 مليار جنيه خلال الفترة من يوليو إلى ديسمبر من السنة المالية الحالية 2004/2005 في حين بلغ رصيد مديونية الهيئات العامة الاقتصادية نحو 43 مليار جنيه بزيادة 3 مليار جنيه. أما مديونية بنك الاستثمار القومي فقد بلغت 97.6 مليار جنيه بانخفاض بلغ 4.5 مليار جنيه.
وأشار التقرير إلى أن ارتفاع مستوى الدين العام يرجع إلى الاختلال المتزايد بين النمو في الإنفاق العام والنمو في الإيرادات العامة للدولة، وأن الدين العام ارتفع من 96.7 مليار جنيه عام 90/91 إلى 307.6 مليار جنيه عام 2003/2004 وبمعدلات نمو قياسية خلال تلك الفترة بلغت 283% بمتوسط سنوي 21.7%، وهو ما يعني ارتفاع هذه المعدلات بشكل يفوق قدرة الحكومة والاقتصاد المحلي على سداد أعباء الدين من أقساط وفوائد.
وبهذا..
الدين العام المحلي = 455.3 مليار جنيه = 91.4% من إجمالي الناتج المحلي.
الدين العام الخارجي = 27.1 مليار دولار أي 124.2 مليار جنيه = 27.8% من إجمالي الناتج المحلي.
أي إجمالي الدين الكلي = 119.2% من إجمالي الناتج المحلي
- ووصل عجز الميزان التجاري ـ رغم بيع القطاع العام ـ إلى 8.3 مليار دولار أي أكثر من 40 مليار جنيه.
- تشير التقديرات الأخيرة من البنك الدولي أن 23% من السكان في مصر يعيشون تحت خط الفقر، بينما تقول إحصائيات أخرى أن النسبة وصلت إلى 52%، و 12% من الأطفال يعانون من سوء التغذية.
- ديون كل مواطن مصري 3.5 مليون جنيه تقريباً.
- تباطؤ معدلات النمو في السنوات الماضية بلغ 3%.
- انفقت مصر في العام 2004، 4 ملايين جنيه على البحث العلمي، في حين أنفقت على الأمن الداخلي من شرطة ومباحث وغيرهما 4 مليارات جنيه.
- زيادة حجم الأموال التي تم تهريبها للخارج إلى 80 مليار جنيه، باعتراف وزير الاستثمار، رغم أن تقارير رسمية قدرتها بنحو 200 مليار جنيه..(1/60)
وقال بعض الخبراء أنه يستحيل تهريب هذه الأموال إلى الخارج دون أن تُسهل السلطات ويكون لها يد فيها، مما يؤكد بقوة خطة تجويع وإفقار الشعب المصري، والحط من إنسانيته وكرامته.. لحساب حفنة من اللصوص والخونة.
- بلغ حجم التضخم إلى 70%.
أي أن مصر تعيش على المعونات الخارجية لا سيما من أمريكا، ويليها غرف الإنعاش الأوربية، وقد أقرت أمريكا لمصر 1.3 مليار دولار كمساعدات عسكرية و 535 مليون دولار كمساعدات اقتصادية في ميزانية العام المقبل !! أما ثرواتها ومواردها وخيراتها، فليست لأهلها، إنما لِلصوصها وخائنِيها.
وهذا نقلاً عن:
- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمصر.
- قواعد بيانات تقارير التنمية البشرية بمصر.
- الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) في مصر.
- مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار الرسمي.
الوضع الاجتماعي:
وضع الأسرة المصرية:
قامت لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس الشورى برئاسة د. أحمد رشاد موسى بإعداد تقرير أخر حول توزيعات الدخل والإنفاق للأسر المصرية نشرته مجلة الأهرام الاقتصادي عدد 22 أيلول (سبتمبر) 2003، كشف أن الإنفاق العائلي علي الدروس الخصوصية يقدر بنحو 15 مليار جنيه، وأن الدروس الخصوصية ساهمت في تخفيض معدل النمو المتوقع وانكماش الدخل المتاح للتصرف لدي المواطنين واضطرارهم إلي تخفيض الكميات المطلوبة من السلع والخدمات وهي عناصر ساهمت في تخفيض معدل النمو المتوقع خلال العام المالي 2002/2003 إلى 2.5 في المائة بالمقارنة بمعدل النمو الذي قدرته الخطة الخمسية الثانية بنحو 6.2 في المائة كمتوسط سنوي.
إنفاق الأسر المصرية 127.3 مليار جنيه سنويا:(1/61)
وبلغ إجمالي إنفاق الأسر المصرية وفق تقرير للجهاز المركزي للإحصاء 127.3 مليار جنيه سنويا، وفق أرقام عام 2003، ينفق المصريون منها 56.1 مليار جنيه على الطعام والشراب، و18.7 مليار على السكن، و12.8 مليارا على الملابس و7.2 مليارا على الانتقالات والاتصالات الهاتفية، و6 مليارات على التعليم و5.6 مليار على الرياضة والثقافة والترفيه، 5.3 مليار على الخدمات والرعاية الصحية و3.1 مليار جنيه على الأثاث والأدوات المنزلية وتستحوذ الدروس الخصوصية على 2.1 مليار جنيه من دخل الأسر المصرية، بيد أن توقعات باحثين تشير لارتفاع كبير في هذه النسبة.
وقد كشف البحث عن نتائج أخري خطيرة منتشرة في العالم الثالث منها الإنفاق علي أمور غير ضرورية، حيث تبين أن إنفاق المصريين على السجائر والتدخين يبلغ 4 مليارات جنيه سنويًا يضاف لها مبلغ 2.6 مليار جنيه يجري إنفاقها على المقاهي والفنادق خصوصا في ظل حالة البطالة العالية التي تدفع الشباب للجلوس علي المقاهي لتضييع الوقت.
أيضا كشف البحث عن وجود 4.3 ألف أسرة يقل دخلها عن 3 آلاف جنيه سنويا (250 جنية شهريا بما يعادل حوالي 60 دولار) كما تبين وجود 2 مليون و768 ألف أسرة يقل دخلها عن 6 آلف جنيه سنويا، وتبين وجود 6 ملايين و833 ألف أسرة يتراوح دخلها بين 6 آلاف جنيه و12 ألف جنيه سنويا، كما كشف البحث عن وجود 4 ملايين و95 ألف أسرة يزيد دخلها السنوي على 12 ألف جنيه سنويا.
العنوسة:
أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن ارتفاع نسبة العنوسة حيث وصلت إلى 9 ملايين شاب وفتاة تجاوزوا سن 35، من دون زواج. بينما بلغت نسبة عدد المطلقات 2 مليون و459 ألف مطلقة من بينها 34.5% حالة طلاق في السنة الأولى من الزواج ، و12.5% ينفصلن في السنة الثانية، و40% منهن يطلقن في سن الثلاين.(1/62)
وكشف التقرير عن وقوع 42% من حالات الطلاق بسبب الحالة الاقتصادية للزوجين وعدم قدرة الزوج على الوفاء بالتزامات واحتياجات الأسرة.
القضايا:
صرح وزير العدل عام 2004 أن عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم سنوياً بلغ 12 مليون قضية.
المشاركة السياسية:
92% من شباب مصر يرفضون المشاركة في الحياة السياسية، و 75 من عموم المصريين لا يشاركون فيها.
الأمية:
بلغ نسبة الأمية في مصر 45%، ومعدل الإناث هو الأعلى في الأمية (60% من الإناث البالغات و 36% من الذكور البالغين أميين). [برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP].
وأشارت دراسة مصرية إلى أن أكثر من 75% من أفراد الشعب المصري يعانون من الأمية الدينية. في حين وصل عدد أساتذة الأزهر إلى قرابة 150 ألف معلم.
البطالة:
تشير تقديرات المؤسسات الدولية والاقتصاديين المصريين إلى نسبة البطالة ما بين 20 ـ 30% من مجموع القوى العاملة في مصر، وترفع النسبة في محافظات الصعيد، وتحددها بعض المصادر بأكثر من 5.3 مليون عاطل عن العمل من خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة. بينما تقدرها جهات أخرى بـ 6 ملايين عاطل..
ويتزايد طالبي العمل سنوياً، إذ أن الجامعات المصرية تخرج نحو 160 ألف خريج. وتصل أعداد خريجي الشهادات فوق المتوسطة إلى 600 ألف، غير أن 350 ألفاً يتسربون من التعليم، يتوقع دخلوهم إلى سوق العمل سنوياً، و150 ألف عاطل بدرجة دكتواره.
المخدرات:(1/63)
تشير الاحصاءات الرسمية من التقارير السنوية للإدارة العامة لمكافحة المخدرات بوزارة الداخلية. أن الإنفاق علي المخدرات المتداولة من جميع الأنواع قد شهد تذبذباً منذ عام 1992 حتي عام 2003 ففي حين كانت قيمة تكلفة المواد المتداولة في سوق الاتجار غير المشروع عام 1993 (24 مليارا و292 مليون جنيه) نجدها بلغت أعلي ذروة لها عام 1999 حيث وصل حجم الانفاق الي (22 مليار جنيه) وانخفضت الي أقل رقم عام 1998 (وهو 8 مليارات جنيه) وهو رقم ارتفع الي الضعف تقريباً في عام 2000 حين وصل إلي (16.4 مليار جنيه) ثم انخفض الي ما يقرب من (13 مليار جنيه) في عام 2001. وارتفع الي (14.5 مليار جنيه) في عام 2002 وتصاعد هذا الارتفاع في عام 2003 الي (16.3) مليار جنيه. وتوقعت د.نادرة وهدان في دراستها أن يتزايد الإنفاق علي المخدرات بمعدل مليار جنيه سنوياً حتي عام 2013، وهو ما يمثل كارثة مفزعة بكل المقاييس لاسيما أن هذا الرقم لم يتجاوز (100 أو 200 مليون جنيه) في فترة السبعينيات وحتي عام 1980 (254 مليون جنيه) وفقاً لدراسة قام بها د. محمود عبد الفضيل في عام 1985، تناولت اقتصاديات وتهريب وتداول واستهلاك المخدرات في مصر. علي أية حال. فإن هناك ظواهر اقتصادية أكثر خطورة ارتبطت بتلك التجارة، أهمها كما أشارت الدراسة هو أن الإنفاق علي المخدرات في سوق الاتجار غير المشروع بلغ (15.4%) من الناتج المحلي الإجمالي عام 1993، و(21%) عام 1994، و(19.4%) عام 1996، و(8.3%) خلال باقي السنوات كما أن الانفاق علي المخدرات تعدي مرة ونصف قيمة الادخار المحلي الإجمالي في معظم السنوات التي غطتها الدراسة أي من عام 1992 وحتي عام 2003.(1/64)
وتزايدت الكميات التي يتم تداولها من الحشيش خلال الفترة من عام 1997 الي عام 2002 من "4.4" طن الي "10.8" طن، وتزايدت كمية المتداول من الكوكايين من 9 كيلو جرامات عام 1970 الي 40 كيلو جراماً. كما لوحظ زيادة كبيرة بالنسبة الي الأفيون حيث بلغت تقديرات المتداول منه 750 كيلو جراماً. كذلك عادت الكميات المتداولة من الهيرويين الي الزيادة عام 2003 بعد أن كانت قد انخفضت تقديرات الكميات المتداولة منه خلال الفترة ما بين 1997 و2002 من جهة أخري ترصد الدراسة التزايد المطرد في ارتفاع أسعار المواد المخدرة في مصر. وهو ما يشير أيضاً إلي تزايد نسبة ما يتم انفاقه علي المخدرات سواء علي مستوي الأفراد أو علي مستوي المجتمع. وعلي سبيل المثال فقد تضاعف سعر مخدر الحشيش من 6.5 ألف جنيه للكيلو عام 1991 الي 45 ألف جنيه للكيلو عام 2002، أما الهيروين فقد ارتفع سعره في تلك الفترة من 150 ألف جنيه للكيلو الي 500 ألف جنيه عام 2003 بينما نجد أن سعر كيلو البانجو تراوح بين 800 جنيه عام 1991 و1100 و1200 و1500 جنيه عام 2003 وهو أعلي سعر حققه خلال تلك الفترة.
وما أكدته الدراسة التي أشارت أنه من بين كل خمسة أفراد في مصر يوجد فرد يتعاطي المخدرات ولو بصفة مؤقتة.
وتشير إحصائيات أخرى أن استهلاك مصر من السجائر حوالي 80 مليار سيجارة.
المحمول:
بلغ عدد المشتركين فى شبكتى المحمول 8.8 مليون مشترك، وبلغت الأرباح الصافية لموبينيل على سبيل المثال، خلال 2001 و 2002، بلغت 340 مليون جنيه، زادت إلى 420، ثم انطلقت إلى 915 مليون جنيه في 2003.
شعار مصر:
شعار وزارة السياحة المصرية ـ المصدر الأول لموارد مصر ـ (الأهرامات ـ أبو الهول ـ راقصة)..(1/65)
وبلغ عدد الراقصات المصريات ـ رسميًّا ـ 382 راقصة مسجلة في سجل إدارة المصنفات الفنية، و5000 في إحصاءات مصلحة الفنون، وأكثر من 10.000 في تقديرات أخرى غير رسمية بحساب كل الراقصات في الأفراح والملاهي الليلية. هذا غير راقصات الدرجة الثانية، والثالثة.
وفي تقرير مصلحة الضرائب المصرية عام 1999 أكد أن الراقصة المصرية "دينا" التي تُعدّ من أشهر الراقصات المصريات الآن وصلت ثروتها إلى 58 مليون دولار، وأن رصيدها في البنوك فقط 17 مليون جنيه، بالإضافة إلى مقتنيات من الماس والذهب تقدر بـ 20 مليون جنيه.
بدون عنوان:
هذه إيرادات 3 أفلام لممثل واحد عرضت في السينما المصرية، هذا غير بقية الأفلام العربية والأجنبية:
في صيف 2002، بلغت إيرادات فيلم "اللمبي": 21.341.046 جنيه مصري.
في صيف 2003، بلغت إيرادات فيلم "اللي بالي بالك": 17.963.309 جنيه مصري.
في صيف 2004، بلغ إيرادات فيلم "عوكل": 17.556.806 جنيه مصري.
ووصل عدد المتصلين على برنامج "استار أكاديمي" في مصر وحدها 23 مليوناً ومائة وخمسة وسبعون ألف اتصال.
احتفالات رأس السنة:
نشرت جريدة نهضة مصر في 31/12/2003 موضوع عن إنفاق المصريين على سهرات رأس السنة وجاء فيه "رغم حالة الكساد التي يعيشها الشارع المصري والتي زادت التهابا في ظل ارتفاع سعر الدولار، فشلت الحكومة المصرية في التعامل مع هذه الأزمة، إلا أن الموقف يبدو متناقضاً خاصة عندما نطالع تكلفة الاحتفال برأس السنة. فقد أكدت دراسة جديدة أن ليلة رأس السنة هذا العام قد تكلف الاقتصاد المصري ما يقرب من 5.5 مليار جنيه سنويا ينفقها رجال الأعمال علي إقامة الحفلات الصاخبة وتصل في بعض الحالات إلي إنفاق الفرد ما بين 20 إلي 30 ألف جنيه في هذا اليوم.(1/66)
وأكدت الدراسة التي أجراها الدكتور حمدي عبد العظيم رئيس أكاديمية السادات أن احتفالات المصريين بليلة رأس السنة تكلف الاقتصاد المصري ما يقرب من 6.3 مليار جنيه سنوياً. مشيراً إلي تزايد هذه النفقات بمعدل 60% بعد تحرير سعر الصرف وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري.
ويقول الدكتور حمدي عبد العظيم في دراسته إن مظاهر الإنفاق في احتفالات رأس السنة تتمثل في الإنفاق علي الهدايا والفسح والسهرات في المطاعم والفنادق العائمة وكذا الفنادق العادية بما تتضمنه من صالات الديسكو والملاهي الليلية، وذلك بجانب المأكولات التي غالباً ما يتم استيرادها من الخارج وبالتالي تكون أسعارها مُبالغا فيها للغاية.
وتضيف الدراسة التي أجراها حول نفقات المصريين علي احتفالات رأس السنة أن مظاهر الإنفاق والبذخ علي هذه الاحتفالات تتضمن الهدايا التي يقدمها رجال الأعمال سواء لبعضهم البعض أو لأقاربهم وأصدقائهم وعادة ما تكون هدايا ذهبية ومجوهرات أو تحفا نادرة وتكون غالية الثمن. ونفقات الرحلات، مشيراً إلي أن البعض يفضل أن يقضي ليلة رأس السنة خارج القاهرة سواء في الغردقة أو شرم الشيخ أو أسوان والبعض قد يسافر إلي خارج مصر إلي لبنان أو أوروبا.
هذه بعض من مظاهر الفساد في مصر، والتي أصبحت مظاهر طبيعية بطول الأمد، وقسوة القلوب..
أما التوغل الاستعماري لأمريكا، والتواطؤ مع إسرائيل على أمن المنطقة العربية، وبيع قضايا الوطن، والاستهتار بحياة الإنسان في أوطاننا، وتحول الأوطان إلى سوق إستهلاكي خادم للغرب، وهجرة خيرة أبنائها، والغربة الشديدة لهم، والعبث بدين الله على أيدي رجال الكهنوت "رجال الدين".. فلم يسعنا الحديث عنه، ولنا ـ إن شاء الله ـ معه جولة نفضح فيها المجرمين.
بعض أثار هذا الفساد على المجتمع المصري:(1/67)
هذا التنوع الرهيب في أشكال الفساد، ما بين استعمار، ونهب ثروات الأوطان، والبطالة، والعنوسة، والمخدرات، والانهيار الخلقي.. وطول الأمد.. توالت الأجيال، وخرج الجيل الجديد، في براثن هذا المستنقع..
كل أولئك من شأنه أن يدمر إنسانية الإنسان، ويسحق كرامته، ويسلبه حريته، ويفقده غايته، ويضيع هويته، فيصبح بقايا إنسان من خامة بشرية مستهلكة..
وكانت النتيجة:
- انهيار المجتمع، وتفسخ شبكة علاقاته الاجتماعية، وتحول المجتمع إلى أكوام من الأفراد.
- ضياع الهوية، التي يحملها المواطن، الذي يعيش بلا وطن.
- انهيار القيم الأخلاقية، في ظل حياة الجوع، والخوف، والفردية الشديدة.
- ضياع طاقات الأمة، لا سيما شبابها، وأصبح حلم الجميع هو هجرة الوطن.
- وفي ظل هذه الظروف، لا ينشأ الإسلام كمنهج حياة، مهما أدى الناس من شعائر.
الخلاصة
* الفساد في عالمنا العربي الإسلامي !! ليس مكشلة أخلاقية.. إنما أصبح من صلب ثقافة المجتمع. وجزءاً من التركيبة الاجتماعية.
* لا أمل في أي تغيير إذا كان الإنسان في مجتمعاتنا يعاني.. القابلية للذل ـ السلبية ـ التبعية، وللأسف أصبح هذا الثلاثي جِين أخلاقي ترثه الأجيال تلو الأجيال.
* الحُكام في عالمنا العربي الإسلامي !! مجموعة من "اللصوص ـ العملاء" لا يَرقبون في إنسان إّلاً ولا ذمة، وهم امتداد تاريخي وواقعي للاستعمار.
* طبيعة الفساد في عالمنا العربي الإسلامي !! يدل على خيانة مُتعمدة من الأنظمة الحاكمة، وليست مجرد فساد يتمثل في اختلاس بعض الأموال والمناصب.
* والشعوب لم تقاوم فساد حكامها، فأصبحت جزءاً رئيسياً في هذا الفساد.
* لم يحدث في تاريخ أمتنا، أن وصلت إلى مثل هذا الانهيار الذي نحن فيه الآن.
* قام على هذا الفساد والمنتفعين منه.. طبقات اجتماعية، أصبحت جزءاً من الحياة الاجتماعية لا تخجل من فسادها وانحرافها، واعتبرته حياة طبيعية بالنسبة لها.(1/68)
* شمل الفساد كل مظاهر الحياة، حتى الشعورية منها، ولم يعد مقتصراً على السرقة فقط.
* بداية الحياة.. وبداية الطريق: وجود الإنسان [الحر ـ الإيجابي ـ الواعي]، الذي ينبعث من وسط هذا الركام والظلام والتيه، ويرتفع شعورياً وواقعياً إلى مستوى الأزمة التي تعيشها نفسه وأمته على حد سواء.
ما العمل؟
اعتبر "مركز دراسات الوحدة العربية" وباحثيه والقائمين على ندوة الفساد، أن الحل يتمثل في "الديمقراطية" واعتبروها هي "الإطار المرجعي للحكم الصالح".
والحكم الصالح ـ كما ذكرت دراسات البنك الدولي ـ يتمثل في 6 متغيرات رئيسية كبرى هي:
* العلنية والشفافية Voice and Accountability
* الاستقرار السياسي Political Stability
* فاعلية الأداء الحكومي Government Effectiveness
* نوعية الأداء التنظيمية Regulatory Quality
* سيادة القانون Rule of Law
* وأخيراً ضبط الفساد Control of Corruption
وأن نظام الحكم لا بد أن يقوم على:
* نظام سياسي: يستمد شرعيته من شعبه.
* نظام اقتصادي: متطور ومتنوع.
* نظام إعلامي: واعٍ وحر.
* قضاء مستقل.
* مجتمع مدني فعّال.
* جبهة داخلية متراصة لا تخضع الحكومة فيها لابتزاز الدول الصناعية.
* بعد إقليمي يقوم على تقليل التوتر مع دول الجوار.
وأخيراً: اقترح المركز والقائمين على الندوة، بإنشاء "المنظمة العربية لمكافحة الفساد" أسوة ببعض المنظمات الدولية مثل "منظمة الشفافية الدولية"، ذات دور رقابي وليس محاسبي.
والآن نبدأ في مناقشة "ما العمل؟" الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية، والذي يطرحه العلمانيون كذلك..
أولاً: الديمقراطية هي الإطار المرجعي للحكم الصالح
فما هي الديمقراطية؟
حسب التعريف القاموسي: "الديمقراطية حكم الشعب، تكون السلطة العليا فيه منوطة بالمواطنين، يمارسونها مباشرة، أو بواسطة وكلائهم المنتخبين من خلال نظام انتخابي حر".(1/69)
بهذا التعريف للديقمراطية، فإن الإسلام (يرفضها) لأنها تصطدم مباشرة مع أصل الإسلام وأصل الدين..
لأن في الديمقراطية، السلطة العليا للمواطنين، وفي الإسلام السلطة العليا لله.. فالحلال ما أحله الله، ولو رفضه الشعب، والحرام ما حرّمه الله، ولو اتفقت عليه كل الدنيا.
ولا يعني هذا ـ كما يسميه العلمانيون ـ حكم "ثيوقراطي" أي حكم الفرد المقدس، ولا يعني كذلك الاستبداد في الحكم بحجة القيام على دين الله، كما حدث في العصر الأموي وما تبعه من العصور حتى انهيار الدولة العثمانية.
فالديمقراطية ليست نظام سياسي فحسب، إنما هي منهج حياة.. سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية.. الخ.. وهذا النظام يستمد أصوله من تصورات البشر..
أما الإسلام، فهو أيضاً نظم حياة، بكل تفصيلاتها وجزئياتها وجوانبها.. سياسية، واقصادية، واجتماعية، وثقافية.. الخ.. يستمد أصوله وقواعده من الوحي الرباني، ويترك للبشر كيفية التطبيق وفق مستجدات الحياة.
ولا تعني الديمقراطية ـ كما يتوهم البعض ـ أنها المصطلح العصري لكلمة "الشورى" في الإسلام.. الشورى: مبدأ سياسي لنظام حكم إسلامي، بينما الديمقراطية "نظام حياة" يقوم في أساسه على رفض شريعة الله، والالتفات إلى غيرها من تصورات البشر.
ثانياً: معايير الحكم الصالح
لا يختلف أحد على هذه المعايير "من حيث الأداء والتنفيذ"، والتي تمثلت في [العلنية والشفافية ـ الاستقرار السياسي ـ فاعلية الأداء الحكومي ـ نوعية الأداء التنظيمية ـ سيادة القانون ـ ضبط الفساد]..
ولكن قبل البحث عن "آلية الأداء والتنفيذ".. لا بد أن نعرف الأصل الذي يقوم عليه هذا النظام..
بالنسبة للإسلام ـ وبالتالي لمن ينتسبون لهذا الدين ـ لا بد للنظام أن يقوم على "شريعة الله ومنهجه" وشريعة الله ليست مجرد الحدود.. كحد السرقة والزنا... الخ، إنما هي "نظام كامل للحياة" لا يسع المسلم أن يرفضه.. وإلا فقد رفض الإسلام مهما كانت إدعاءته.(1/70)
ولا بد لنا أن نفرق بين الخلط الذي يحدث في الحديث عن "الديمقراطية" كنظام حياة، وبين "علم السياسة" الذي يحدد طريقة تنفيذ، وتحديد معايير، ورصد فاعلية..
إن الإسلام يرفض الديمقراطية لأنها نظام حياة ـ وليست مبدأ سياسي ـ يخضع لتصورات بشر.. بينما "علم السياسة" الباحث في كيفيات التطبيق، فإن الإسلام يدفع إلى مزيد من العلوم والتطبيقات الباحثة في آلية الحكم، وكيف تقوم الشورى؟ وكيف تتحقق العدالة؟ وكيف يتحقق أقصى فاعلية للنظام الحاكم؟.. بمعنى كيف تحقق الأصل الذي تؤمن به.
فإذا كان الإسلام هو الأصل عند المسلمين.. فإن علم السياسة يبحث في كيف يكون هذا الأصل نظام حياة.. في اللحظة التي نعيشها الآن.
وإذا كانت الديمقراطية هي الأصل عند العلمانيين.. فإن علم السياسة يبحث لهم كيف يكون هذا الأصل نظام حياة بالنسبة لهم.
إذاً السياسة علم وآداة، والمعايير الجميلة والممتازة التي ذكرها البنك الدولي، لا يرفضها الإسلام، لكنه يرفض الأصل القائم عليها.
الشريعة والإصلاح:
وهذه كلمة لا بد منها ونحن نتحدث عن الإسلام كنظام حياة، والدعوة إلى انبعاثه من جديد. إن الدعوة إلى "تطبيق الشريعة" بحجة إصلاح مشكلات الفساد وغيرها من المشكلات (دعوة باطلة) لا يرددها إلا جاهل بحقيقة هذا الدين، وذلك:
أولاً: تطبيق الشريعة في حقيقته هو دين الإسلام، والدعوة إلى تطبيق الشريعة دعوة إلى الدخول في الإسلام قبل أي شيئ.
ثانياً: أن التشريعات السماوية الواردة في القرآن والسنة، لا تَصلح ولا تُصلح كذلك المجتمعات العربية الجاهلة بحقيقة الإسلام كـ [تصور واعتقاد ـ وعبادة وشعيرة ـ ونظام وحكم]؛ لأن هذه التشريعات نزلت في مجتمع مسلم.. مسلم في أصل نشأته وتكوينه العضوي وخضوعه ابتدأ لأحكام الإسلام..(1/71)
ونزلت بعد أن قَبِل الناس الإسلام ديناً يحكم نظام حياتهم، فقامت حياتهم وفق هذا المبدأ، وتكون المجمتع على هذه الأسس، فأصلحته التشريعات الربانية وقوّمته، وجعلته نموذجاً فريداً لكل البشرية، وستظل التشريعات هكذا، لا تُقْوّم إلا المجتمع المسلم، فكان هذا المجتمع حامياً للنفس الإنسانية ومحافظاً على حريتها وكرامتها، وعاش الناس فيه ـ كما هو الحال في كل مجتمع مسلم ـ في تعاون وتكافل وتكامل، تجمعهم هوية واحدة، وأهداف واحدة، وآلام واحدة، فصاروا كالبينان المرصوص الوضئ الجميل يشد بعضه بعضاً..
فقام نظامهم السياسي: على مبدأ الشورى ومشاركة الأمة، وتحقيق رسالة الأمة إلى البشرية.
وقام نظامهم الاقتصادي: على إلغاء الربا، والاحتكار، والدعوة إلى الكسب الحلال، واستغلال كل الثروات لصالح المجتمع، واحترام إنسانية الإنسان في كل عمل.
وقام نظامهم الاجتماعي: على الهوية الواحدة، والمحبة والإخاء والتعاون والتكافل ورعاية الضعفاء والأيتام.
وقام نظامهم التربوي: على الشمولية في فهم الحياة ومركز الإنسان في هذا الكون، وحقيقة التصور عن الله، والإنسان، والكون، والحياة.. كما أوضحها الوحي الرباني.
وقام نظامهم العلمي: على تحقيق الرسالة الإنسانية على الأرض، بالاستخلاف فيها، واكتشاف ثرواتها عن طريق الجهد البشري.
وقامت حياتهم كلها: على الترتيب الصحيح للأهداف.. فكانت العقيدة هي الأولى، هي كل شيئ في نفوسهم.. وباقي أمور حياتهم تابعة لهذا الهدف، فاستقامت لهم الحياة..(1/72)
وهنا بعد أن قطع الوحي الرباني متمثلاً في الكتاب والسنة، شوطاً كبيراً ضخماً في ترتيب ذرات النفس الإنسانية مع أخواتها في بناء واحد، ونّظم لهم الحياة.. نزل التشريع السماوي، نزل في تلك اللحظة فقط بعد أن كان هذا المجتمع موجود في دنيا الواقع.. نزل ليقول: إن النفس الإنسانية التي ترتكس إلى مستوى الخروج من ملة الإسلام، وتحب أن تخرج من النور إلى الظلمات، بعد أن عرفت النور تستحق القتل.. وهذا هو حكم الردة.
كذلك النفس الإنسانية التي ترتكس إلى مستوى سرقة مجتمع مسلم، وهي مكفولة من هذا المجتمع، لا بد أن يطبق عليها حد قطع اليد؛ حفاظاً على أمن المجتمع.
وكذلك كل التشريعات والحدود، نزلت لتُصلح مجتمع مسلم..
لذا فعند تطبيق تشريع إسلامي لمجتمع غير مسلم، فإن هذا التشريع لا يَصلح له ولا يُصلحه كذلك.
فالإسلام يريد أولاً الاستسلام لله، والإنقياد له، ثم تطبيق نظامه وشريعته..
{وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}
وإذا كان الأمر كذلك..
فكيف ينظر الإسلام إلى مشكلات الفساد والحكم؟ وكيف يضع آلية للحل؟
إن الإسلام لا ينظر إلى مشكلات الفساد وغيرها كمشكلة مستقلة بذاتها.. إنما ينظر إليها كجزء من كل، ثم ينظر إلى هذا "الكل" ثم ينظر إلى الأصل القائم عليه..
إن الإسلام يعتبر أن المشكلة الرئيسية الأولى، ليس فقط في عالمنا العربي الإسلامي بل في العالم كله، هي غياب الإسلام عن الوجود والشهود قرون طويلة.. ويعتبر هذا هو أصل الفساد.. الفساد في الحكم.. في السياسة.. في الاجتماع.. في الأخلاق.. في التصورات .. في المشاعر..
والإسلام يعتبر الخطوة الأولى ونقطة البدء الرئيسية هي عودة الإسلام كنظام حياة كما كان أول مرة متمثل في [تصور واعتقاد، وعبادة وشعيرة، ونظم وحكم].
وكيف يضع آلية للحل؟(1/73)
كذلك ينظر الإسلام إلى حل المشكلات من ناحية الأصل لا الظاهرة، فيعتبر عودة الإسلام هي حل لكل المشكلات، ولا يلتفت إلى الحلول التجميلية أو المؤقتة لأعراض المرض الرئيسي..
ولنأخذ "مشكلة الفساد" كمثال، وننظر في كيفية الحل..
اقترح أحد المفكرين في "ندوة الفساد" آليات التغيير وقال:
في الوقت الذي نُجمع فيه جميعاً على أن أوضاعنا شديدة الفساد، يبدو لي أننا إزاء 3 إمكانيات:
الأولى: ثورة شعبية، وهذه لم تعد متاحة عربياً، وربما كانت الثورة الإيرانية آخر الثورات الشعبية، بينما لم يكن ممكناً انتصار الثورة في إندونيسيا لولا التدخل الخارجي، ومن هنا ليس مجدياً الاسترسال في شبح: لماذا لا يمكن قيام ثورة شعبية في أحد البلدان العربية؟.
الثانية: لم يعد الانقلاب العسكري مرغوباً كوسيلة للتغيير بحكم محصّلات تجريبنا لها، كما أنه لم تعد له من إمكانيات، بحكم أن الأنظمة العربية تعلمت كيف تحتوي الجيوش.
الثالثة: طريق الضغط الشعبي بكل الوسائل المدنية والسلمية وفي عدادها منظمات المجتمع المدني، وأعتقد أنه لم يبقَ أمامنا من طريق آخر سواه. أ.هـ
وإذا كان هذا هو الطريق الوحيد:
* فمن هم الأشخاص الذين يمكن لهم أن يواجهوا هذا الكم الهائل من الفساد؟ وعلى أي مقابل؟
* وكيف نضمن أن الأشخاص والهيئات بعدين عن مجال الفساد؟ ومنظمات المجتمع المدني نفسها ـ على حد تعبير مفكري الندوة ـ لا تخلو من الفساد، والقائم عليها نساء وأبناء الطبقة الحاكمة!.
* وكيف سنواجه لا أقول أفراد ولا منظمات، وإنما طبقات اجتماعية بأكملها، تقوم حياتها على الفساد؟
أظن أنه لو كان ثمة علاج لانتفع به الناس.. والذي يحدث أن المشكلات تأخذ شمولاً واتساعاً وعمقاً، لم يسبق له مثيلاً في التاريخ.(1/74)
إن الإسلام ينظر إلى آلية الحل، وآلية التغيير.. بوجود أفراد يعتنقون هذا الدين كما أنزله الله [تصور وعقيدة، وعبادة وشعيرة، ونظم وحكم]، ثم يقيمون هم نظام حياتهم على أسس الإسلام وقواعده، وفي ذات الوقت بأساليب واقعية حضارية..
ذلك أنه لا يوجد نظام ـ سماوي أو أرضي ـ يعمل من تلقاء نفسه، دون أن يقوم البشر من جانبهم بما يتطلبه تحقيق النظام في عالم الواقع من أعمال وتكاليف.
فلا بد لأي نظام كي يكون فاعلاً في عالم الواقع أن:
* يتربى الناس على مقتضياته.
* استعدادهم للنهوض بمهامه.
* تحمل تكاليفه.
وحين يوجد المجتمع المسلم الذي يتمثل في النظام القائم على الوحي الرباني، فإن هذا يعني موتاً للمجتمع الفساد، وميلاداً للمجتمع جديد.. المجتمع الذي يحمل هوية واحدة، وهدفاً واحداً، يستطيع المقاومة الشاملة في نفسه وواقعه.. ويضع أهداف الحياة وأولوياتها في ترتيبها الصحيح ومكانها الفعال.
هذا تصور الإسلام في إجمال.. أما التفاصيل فسيكون الحديث عنها في بحث ـ بإذن الله ـ كامل مستقل، يشمل [الإنسان والفطرة ـ الدين والإسلام ـ الواقع والحياة ـ المجتمع والناس ـ الانبعاث والإحياء ـ الرواد والمكافحون الأحرار].
مؤسسة الرواد
لشؤون المجتمع المسلم القادم
6 جمادي الثانية 1426 هـ
12 يوليو 2005 م
(1) راجع إن شئت : " واقعنا المعاصر " - " مفاهيم ينبغي أن تصحح " - " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة " - " كيف ندعو الناس " - " حول تطبيق الشريعة " .
(2) سورة الأنعام [ 162 - 163 ] .
(3) سورة التوبة [ 51 ] .
(4) سورة آل عمران [ 159 ] .
(5) سورة القصص [ 77 ] .
(6) سورة الملك [ 15 ] .
(7) أخرجه البخاري.
(8) أخرجه مسلم.
(9) سورة آل عمران [ 190 - 191 ].
(10) سورة آل عمران [ 135 - 136 ].
(11) سورة الذاريات [ 55 ] .
(12) سورة الأحزاب [ 21 ] .
(13) سورة النساء [ 64 ] .
(14) سورة آل عمران [ 110 ] .
(15) سورة البقرة [ 143 ] .(1/75)
(16) سورة المائدة [ 3 ] .
(17) سورة الأنبياء [ 107 ] .
(18) سورة المائدة [ 15 - 16 ] .
(19) سورة الأعراف [ 158 ] .
(20) أخرجه مسلم .
(21) أخرجه أحمد .
(22) سورة آل عمران [ 110 ] .
(23) سورة الصف [ 2 - 3 ] .
(24) سورة الروم [ 7 ] .
(25) سورة القصص [ 77 ] .
(26) سورة الملك [ 15 ] .
(27) سورة الأنفال [ 60 ] .
(28) اكتشف فاسكوداجاما طريق رأس الرجاء الصالح لأوربا التي كانت تجهله ، أما المسلمون فقد كان الطريق معروفا لهم ومستخدما قبل ذلك بعدة قرون !
(29) ظل الصراع دائرا بين فرنسا وبريطانيا حتى اتفقتا في معاهدة سايكس - بيكو على اقتسام النفوذ بينهما ، أي اقتسام العالم الإسلامي ، وقيام كل منهما - في منطقة نفوذها - بالقضاء على الإسلام هناك !
(30) أخرجه أبو داود .
(31) أخرجه البخاري .
(32) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة .
(33) سورة آل عمران [ 139 ] .
(34) سورة ص [ 24 ] .
??
??
??
??
12(1/76)