الباب الأول ضوء على تفكيرنا الدينى
ص _006
بعض المرضى يحتاج إلى صدمات كهربائية لتصحيح وعيه، وإيقاظ ما تخدر من حسه.. والمسلمون يحتاجون إلى أمثال هذه الصدمات كى يحسنوا الخلاص مما حل بهم. والسير على نهج يشبه أو يقارب نهج الراشدين من أسلافهم!! إن أمتنا الآن جزء كبير من العالم النامى.. تخلفها الحضارى لا ريب فيه.. ومظاهر التقدم المجلوبة من هنا ومن هنا عارية قد تسترد. إنها ليست إفرازا لكيانها الخاص ، ولا أثرا لنشاطها الأصيل. ما الذى أوصلنا إلى هذا الدرك؟ إن التقدم والتأخر ليس حظوظا عمياء!! إن ما نزل بنا هو نتائج لمقدمات طال عليها الأمد.. وعلل هدت قوانا جيلا بعد جيل!.. وبعض الأجسام يصيبها فى سن مبكرة مرض شديد.. ولكن عافية الشباب تهزمه. فتكمن الجرثومة متربصة الفرص السوانح لتثب عندما تريد.. ملحقة بالجسم ما تشاء من عطب..! وأمتنا الكبيرة تعرضت لأدواء وبيلة خلال عصورها الخوالى.. وقد قاوم كيانها الصلب هذه الأدواء، وبدا للعين المجردة كأنه سليم معافى.. ولكن الجراثيم الخانسة برزت من مكانها خلال القرون الأخيرة.. فلما اصطدمت بنا القوى المعادية للإسلام فضحتنا المعارك فى كل ميدان، وسقط المسلمون بين المحيطين الأطلسى والهادى وبين أواسط أوروبا وآسيا شمالا، وجزائر إندونيسيا والفليبين والمحيط الهندى وأقطار ما تحت الصحراء الكبرى جنوبا... إن هذا الكيان الإسلامى تهاوى تحت ضربات المغيرين، وأصبح بين عشية وضحاها أسيرا تدميه القيود، ويرهقه الإذلال.. لقد حدث هذا.. وكان لابد أن يحدث.. لأن المسلمين فقدوا أسباب التمكين فى الأرض فعصفت بهم الرياح الهوج.. إن الرياح مهما اشتدت لا تنقل الجبال.. ولكنها تنقل كثبان الرمال.. ص _007(1/1)
وإذا كنا على أبواب نهضة حقة فلندرس بدقة وبصيرة أسرار ما أصابنا.. فإن العافية لا تتيسر بدواء مرتجل.. والنصر لا يجىء باقتراح مرتجل.. إن الأسلاف تصدروا قافلة العالم بجدارة.. والأخلاف ملئوا ذيل القافلة بجدارة أيضا. وقد تأملت فى أحوال ناس يعملون فى الحقل الإسلامى، ويتحمسون لنصرة دينهم.. ولكنهم يحملون فى دمائهم جراثيم الفوضى القديمة، والجهالة المدمرة.. فأدركت أن هؤلاء يتحركون فى مواضعهم، وأنهم يوم يستطيعون نقل أقدامهم فسيتجهون إلى الوراء لا إلى الأمام، وسيضيفون إلى هزائمنا الشائنة هزائم قد تكون أنكى وأخزى. من أجل ذلك رأيت استثارة الهمم لبدء نهضة واعية هادية، تعتصم بالوحى الأعلى. وتتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وتنتفع بتجارب القرون الأربعة عشر التى مرت بنا. قد تقول: وهل يخالف أحد فى هذا حتى تتناوله بالغمز واللمز؟! وأجيب: إن أحدا لن يجرؤ على هذه المخالفة بقوله.. ولكنه بفراغ فكره، أو فساد باطنه قد يجر الكوارث على الكتاب والسنة، ولا يزيد الطين إلا بلة.. *** الفساد السياسى مرض قديم فى تاريخنا، هناك حكام حفروا خنادق بينهم وبين جماهير الأمة.. لأن أهواءهم طافحة.. وشهواتهم جامحة.. لا يؤتمنون على دين الله، ولا دنيا الناس.. ومع ذلك فقد عاشوا آمادا طويلة. وقد عاصرت حكاما تدعو عليهم الشعوب، ولا نراهم إلا حجارة على صدرها توشك أن تهشمه.. انتفع بهم الاستعمار الشرقى والغربى على سواء، فى منع الجماهير من الأخذ بالإسلام والاحتكام إلى شرائعه.. بل انتفع بهم فى إفساد ص _00 ص(1/2)
البيئة حتى لا تنبت فيها كرامة فردية. ولا حرية اجتماعية.. أيا كان لونها. ومع هذا البلاء فقد رأيت منتسبين إلى الدعوة الإسلامية يصورون الحكم الإسلامى المنشود تصويرا يثير الاشمئزاز كله.. قالوا: إن للحاكم أن يأخذ برأى الكثرة، أو رأى القلة، أو يجنح إلى رأى عنده وحده...! أهذه هى الشورى التى قررها الإسلام؟ فما الاستبداد إذن؟!. معايب الدساتير الموضوعة: ووضع بعضهم دستورا إسلاميا أعطى فيه رأس الدولة سلطات خرافية لا يعرفها شرق ولا غرب.. وعندما تدبرت هذا الكلام وجدت أن معايب ثلاثا تلتقى فيه: الأول: سوء فهم لمعنى الشورى، وغباء مطلق فى إنشاء أجهزتها المشرفة على شئون الحكم. الثانى: عمى عن الأحداث التى أصابت المسلمين فى أثناء القرون الطوال. والتى نشأت عن استبداد الفرد.. وغياب مجالس الشورى. الثالث: جهل بالأصول الإنسانية التى نهضت عليها الحضارة الحديثة، والرقابة الصارمة التى وضعت على تصرفات الحاكمين. فإذا استقبل المسلمون القرن الخامس عشر وفهم عدد منهم لوظيفة الحكم لا يتجاوز هذا النطاق العقيم.. فكيف تسير الأمة. وأين تتجه؟؟! إن الفقه الدستورى فى أمتنا يجب أن تنحسر عنه ظلال الحجاج وعبيد الله بن زياد.. وملوك بنى العباس.. وسلاطين آل عثمان.. ويجب أن يمنع عن الخوض فيه شيوخ يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم افتات على الصحابة فى عمرة الحديبية.. فمن حق غيره أن يفتات على الناس ويتجاوز آراءهم. ص _009(1/3)
إن ذلك الضلال فى تصوير الإسلام يفقد الإسلام حق الحياة. والمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم احترم الشورى، ونزل على حكمها فيما لا وحى فيه، وأن قصة الحديبية تصرف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على النحو المروى لما حبس ناقته حابس الفيل.. وأحس أن الله تعالى يلزمه بمسلك يجنب الحرم ويلات حرب سيئة. فكيف يجىء من يعطى الرؤساء حق الحرب والسلام.. بعيدا عن الشورى.. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك يوما ما فى مكة التى يعلل القرآن منع الحرب فيها بقوله: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا * هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" . وظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتجه مع توجيه السماء له. وظاهر كذلك أن الشورى تكون حيث لا نص يوجه. وأن الأمة هى مصدر السلطة حيث لا نص بداهة. ويؤسفنى أن الكلام عن تكوين الدولة عندنا تعرض له أقوام على حظ كبير من الطفولة العقلية. أو على حظ من الزلفى يكسبون به الدنيا ويفقدون به الإيمان. وإصلاح أداة الحكم وأصله الأول يحتاج إلى فقهاء أتقياء أذكياء.. * * * والأوضاع الاقتصادية فى عالمنا الإسلامى تحتاج من أعصار طويلة إلى النظر الفاحص والقلب النقاد. ص _010(1/4)
وكثيرا ما تساءلت: إلى متى يظل التنفير من الحرام شغل واعظ ناصح. أو وصية مرب مخلص بصورة تدعو إلى اليأس أو الزهد فى الدنيا.. لتظل هذه الدنيا فقط فى أيدى أعداء المسلمين؟؟ ما أقل جدوى ذلك الكلام فى مواجهة الغرائز المريضة والأمانى السيئة!! لو أننا جئنا إلى كل ميل مربع من الأرض الممهدة للزراعة، أو المعدة للبناء، وتساءلنا: أمن الحلال تم تملكه أم من الحرام؟ لكان الجواب مفزعا. إن تاريخ التملك أو واقعه المعاصر يشهد بأن كفة الشر أرجح، وأن المسلمين من أفقر أهل الأرض إلى قوانين صارمة تحرس قيمهم الدينية.. ونصوصهم السماوية. وما يقال فى ملكية الأرض يطرد فى سائر الأموال..!! ثم لماذا تبقى محاربة البطالة.. والبأساء والضراء خاضعة لتطوع أفراد بأداء الزكاة وبذل المعونة؟ لقد كان من أول أعمال الدولة الإسلامية - بعد حراسة الإيمان - أخذ الزكاة.. وهذا ما عزم عليه الصديق.. وتابعه فيه بقية الصحابة. ومعنى الأخذ من الأغنياء أن الدولة هى التى تتولى الإنفاق فى المصارف المقررة.. وأنها مسئولة عن رعيتها أمام الله، وأمام جماعة المسلمين. وسؤال آخر له خطره . وتجاربنا نحن المسلمين مع الزمن توحى بتوجيهه إلى كل ذى لب.. هل راقبنا سير المال فى المجتمع وطرق تداوله بين شتى الطبقات، ومساوئ تكدسه فى ناحية وإقفار ناحية أخرى منه، أو نواح كثيرة؟ وهل أدركنا آثار الترف المادى فى انتهاء الوجود الإسلامى بالأندلس مثلا، وعملنا على تكرار المأساة.. ص _011(1/5)
إن المال قوام الحياة وسياج المروءة.. وعندما يكون دولة بين جماعة من الناس.. فإن نتائج ذلك مدمرة.. إذ الجوع كافر، وحقد المحرومين قاتل. وهل انتشرت الشيوعية إلا مع هذه الخلخلة التى أحدثها العصيان لأوامر الله، واعتداء حدوده؟! فحتى متى يسترسل المسلمون مع أخطاء قديمة؟! لقد رأيت فى أوروبا وأمريكا دولا شتى تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم.. وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان، وكما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم!! فإذا وجدنا مجتمعات بشرية حصنت نفسها من هذه المآسى.. فلماذا لا نقتدى بها، أو نقتبس منها. قال لى البعض: هذا ما نخافه منك.. إنك تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا.. ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك..! قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه فى موضعها! إننى معتز بدينى ولله الحمد.. ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة.. إن التفتح العقلى ضرورة ملحة لكل من يتحدث فى الفقه الإسلامى. إننا فى صمت نقلنا تسجيل كل مولود فى دفاتر خاصة، واستعنا بذلك على تحصينه من الأمراض، وإلحاقه بمراحل التعليم، واقتياده للجيش كى يتم تدريبه وإعداده للقتال.. وذاك إجراء نقلناه عن دول أخرى دون حرج.. فماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التى قررها دينه؟ إن النقل والاقتباس فى شئون الدنيا، وفى المصالح المرسلة، وفى الوسائل الحسنة ليس مباحا فقط،، بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب. ص _012(1/6)
ثم إن الدين فى باب المعاملات مصلح لا منشئ كما يقول ابن القيم، إنه لم يخترع البيع أو الزواج.. ! إنما جاء إلى هذه العقود فضبطها بتعاليمه! فالبيع مثلا بإيجاب وقبول ولا يجوز فيه الغش، أو الربا، أو الاحتكار... إلخ. والزواج مثلا بإيجاب ولا يجوز فيه الاتصال بالمحارم، ولا الافتيات على الولى، ولا ترك الإشهار... الخ. وفى شتى المعاملات إذا تحققت المصلحة فتم شرع الله! فما الذى يمنعنا نحن- الذين جمدنا فقهنا، وأغلقنا باب الاجتهاد ألف عام ـ أن ننظر فى الوسائل التى اتخذها غيرنا لمنع الفساد السياسى أو منع الاعوجاج الاقتصادى.. ونقتبس منها ما لم يصادم نصا.. ولا يند عن قاعدة؟ الحق أن التوقف فى هذا المجال ليس إلا امتدادا للكسل العقلى الذى سيطر على مسيرة الإسلام التاريخية أمدا ليس بالقصير..!! * * * ظلم المرأة باسم الإسلام؟! وهناك تقاليد اجتماعية لابد من إعادة النظر فيها لتستقيم مع ديننا وأحكامه الصحيحة.. وهى تقاليد تتصل بوضع المرأة، وتكوين الأسرة. إننى أحد الذين حاربوا تقاليد الغرب الجنسية، وجاهليته الذميمة فى إشباع الغرائز من الحرام.. وقد وقفت فى وجه الذين يحاولون نقل هذه التقاليد إلى بلادنا وقفة جرت علىّ المتاعب.. وإنى لراض كل الرضا عما أصابنى فى هذا الميدان.. لأنه فى سبيل الله. إلا أنه حدث ما جعلنى أطيل الفكرة فى العلاقة بين الجنسين. ومكانة المرأة فى ص _013(1/7)
بنائنا الاجتماعى، لقد رأيت البعض يؤكد أن المرأة قعيدة بيتها.. لا تخرج منه أبدا إلا إلى الزواج أو إلى القبر.. ! قلت: أهذا هو البديل الإسلامى عن حالة المرأة فى الغرب.. لا.. الإسلام غير ذلك.. إن قرون التخلف التى مرت بنا انتهت فى القرن الماضى بوضع للمرأة المسلمة لا يقول به فقيه مسلم! لقد رأيت المرأة فى بلادنا لا تدخل مسجدا أبدا.. بل فى قرانا.. وكثير من المدن كانت المرأة لا تصلى.. وهى إلى جانب هذا الحرمان الروحى، كان التعليم محرما عليها.. فلا تدخل مدرسة أبدا.. وقلما يؤخذ لها رأى فى الزواج، ويغلب أن يجتاح ميراثها. وإذا انحرف الشاب تسوهل معه.. أما إذا انحرفت المرأة فجزاؤها القتل!.. هل هذه المعالم المنكورة لحياة المرأة تنسب إلى الإسلام؟ الله يعلم أن الإسلام برئ من هذه التقاليد، كما هو برئ من المفاسد الجنسية فى أوروبا وأمريكا...! ومع ذلك فإن منتسبين إلى الإسلام وعلومه يرتضون هذه الأحوال، أو لا يتحمسون لتغييرها.. وأذكر أنى كنت ألقى محاضرة فى اليوم العالمى للمرأة، فلما قلت: إن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة.. حدثت ضدى مظاهرة صاخبة.. وسمعت طالبا يقول لزميله: كنا نحسن الظن بهذا الرجل فإذا هو شر من قاسم أمين! ولست ـ ولله المنة ـ مفرطا فى دينى، ولكنى مشفق على حاضره ومستقبله من الجهال والقاصرين.. لاسيما إذا واتتهم فرص فتحدثوا عنه وتكلموا باسمه. وأسوق للقراء قصة وقعت فى مؤتمر مسيحى إسلامى انعقد فى أستراليا فى عام 1399 هـ. ص _014(1/8)
روى هذه القصة الدكتور حسن باجودة رئيس قسم الدراسات العليا العربية ـ كلية الشريعة ـ قال: نظرت فوجدت المرأة فى سمت عفريت داخل قاعة المؤتمر.. كانت مغطاة من أعلاها إلى أدناها، مستخفية الوجه واليدين تطل على الحضور من وراء ثقبين فى نقاب الوجه عليهما غطاء من زجاج أو باغة.. قلت: ما هذا؟ قالوا: سيدة نصرانية جاءت تحتج على ظلم الإسلام للمرأة.. فارتدت هذا الزى الشرعى (!) عند المسلمين لترى النساء فى أستراليا ما يعده الإسلام لهن إذا انتشر فى هذه القارة الجديدة.. إن الحجاب الإسلامى يحفظ للمرأة شرفها، ويرد عنها عيون الذئاب.. وليس كما يتصور القاصرون أنهن فى سمت عفريت.. لماذا تحترم الراهبات ولا تحترم المحجبات وزيهما واحد؟! وقال لى أحد المبعوثين فى لندن: إن رجلا إنجليزيا أبدى إعجابه بالإسلام ثم قال: لكنى أذهب مع امرأتى إلى الكنيسة يوم الأحد.. فأين تذهب امرأتى إذا كنتم تمنعونها من المسجد فلا تدخله طوال الأسبوع؟!! قلت: ما حدث فى أستراليا وفى إنجلترا حجة على المسلمين لا على الإسلام.. فليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن وجه المرأة عورة يجب أن تستر.. ولا فى كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنها تمنع من دخول المساجد.. إن ناسا غلبهم الهوى الجنسى هم الذين شرعوا هذه التقاليد بعد ما تعسفوا فى شرح الآى بتفاسير مرفوضة، تفاسير لم يقل بها واحد من الأئمة الأربعة الذين انتشر فقههم فى طول البلاد وعرضها.. وقد دهشت لأن عالما من شنقيط ـ وهو قطر مالكى المذهب ـ وقف فى المسجد النبوى يقول أثناء إلقاء درس له: إن مالك بن أنس يقول: إن وجه المرأة ليس بعورة.. وأنا أخالف مالك بن أنس!! ص _015(1/9)
قلت: ليس مالك وحده الذى يقول ذلك.. بل سائر الأئمة الأربعة إلا رواية واهية عن أحمد بن حنبل تخالف المقرر من مذهبه كما حكى ذلك ابن قدامة الحنبلى. والشيخ الشنقيطى ـ غفر الله له ـ حين يخالف أو يوافق ما يقدم ولا يؤخر، وذكرت قول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز! ومن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ؟! إن التربية الراشدة الناضجة هى الضمان الأول لكل نهضة، والبيت هو المدرسة الأولى لتلك التربية.. وعندما تكون المرأة صفر العقل والقلب، لا ثقافة فى مدرسة.. ولا عبادة فى مسجد.. فمن أين تحقق التربية المنشودة. إنه لا مجتمع يصلح عندما تكون المرأة حيوانا يحسن تقديم الأكل والمتعة.. وحسب! * أسباب انهيار المجتمع: إن الانهيار الذى عرض لأمتنا فى العصور الأخيرة يرجع إلى أسباب علمية واقتصادية وسياسية كثيرة،. بيد أن فقدان التربية السديدة، والأخلاق الصلبة يرجع إلى العوج الهائل فى وسائل التربية وأول ذلك المرأة المخرفة الغافلة، والبيت الساذج المحدود.. لقد كانت النساء فى العصر الأول تصلى التراويح فى مساجد خاصة بهن حتى جاء أخيرا من يمنعهن أداء الفرائض فى بيوت الله.. وكن يبايعن الإمام على نصرة الإسلام، ومكارم الأخلاق.. حتى جاء من يقوم بتجهيلها عمدا فى قضايا الإسلام الكبرى، ومكافحة أعدائه المتربصين به.. وقال لى رجل ـ ممن يرون سجن المرأة ـ نحن نعلمهن كل شئ.. ولا يخرجن من ص _016(1/10)
بيوتهن! فقلت له: إننا نعرق فى محاولات مضنية لرفع مستواكم الفكري.. ولا نكاد ننجح! فكيف نأمنكم على وظائف التربية والتعليم؟ ثم هذا الذى تقوله.. أما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه يعرفونه عندما فتحوا المسجد للمرأة، وأذنوا لبعضهن بالمسير مع الجيش؟! إن الإسلام لا يؤخذ من أصحاب العقد النفسية.. سواء كانت غيرتهن عن ضعف جنسى أو شبق جنسى. إن الإسلام يؤخذ من كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمجتمع الذى يصنعه الكتاب والسنة يجعل المرأة تلد ذريات مشرفة، باهرة الأخلاق.. لا دابة تلد حيوانات.. * * * فى هذه السنة قرأت أسماء من نالوا جائزة نوبل العالمية، فإذا بين العمالقة المختارين اسم راهبة فى الهند تدعى "تريستا"! وتساءلت: ترى لماذا منحت هذه الجائزة؟ وكانت الإجابة: إنها نجحت نجاحا تاما فى أداء رسالتها التبشيرية! قالت صحيفة "الرائد" التى تصدر فى الهند: إنها من مركز عملها فى "كلكتا" منذ سنة 1947م كانت تقوم بخدمات عظيمة فى إغاثة المنكوبين ورعاية المرضى.. وتقدر قيمة الجائزة التى نالتها بمليون ونصف روبية.. وكان "السيناتور كيندى" قد رشح اسم الراهبة عندما زار الهند فى أثناء أزمة "بنجلاديش" واطلع على الجهود التى بذلتها لإسكان لاجئى باكستان الشرقية، وقد شاهد بنفسه نشاط الراهبة التى تعمل لنشر الدين المسيحى بين شتى الطبقات وبين البؤساء والمساكين والمضطهدين.. وذلك عن ص _017(1/11)
طريق فتح شبكات (كذا) المدارس والمستشفيات والملاجئ.. ودور رعاية اللقطاء، والأطفال المهجورين.. ويعرف مدى نشاط هذه الراهبة، واتساع الرقعة التى تعمل فيها إذا ذكرنا أن 250 راهبة يعملن تحت إشرافها فى دائرة "كلكتا" وحدها.. ويبلغ عدد الراهبات التابعات لمركزها 1 ص 00 راهبة فى عشرين بلدا منها بلاد عربية!! وتدير منظمتها الخيرية ص 7 دارا للأيتام فى الهند و40 دارا فى خارجها و213 مستشفى للعلاج بالمجان و 54 مستشفى للمجذومين ، و60 مدرسة للتعليم، ومستشفى من مائة سرير للمرضى اليائسين الذين ينتظرون الموت! قالت جريدة الرائد: واعترافا بخدماتها منحتها الخطوط الجوية الهندية، وكذلك السكك الحديدية رخصة للسفر بالمجان.. إننى أسوق هذا الخبر لنفر من المتكلمين باسم الإسلام يرون المرأة فى الجامع أو الجامعة قذى فى أعينهم، ويضعون العوائق من عند أنفسهم ـ لا من عند الله ـ كيلا يكون للنساء وجود فى ميادين الأمر والنهى، والنصح للعامة والخاصة.. وهم مهرة فى لى أعناق الآيات، وقلب الأحاديث النبوية رأسا على عقب، وتحريف الكلم عن مواضعه حتى يأخذ الناس دينهم من عقول بها مَسّ. وأعرف الآن نساء يقمن بعمل رحب فى خدمة بيوت الطالبات، وإنشاء المؤسسات الصحية والثقافية.. فى مقدمتهن السيدة الجليلة "زهيرة عابدين" الأستاذة بكلية الطب جامعة القاهرة.. وقد استعانت بى فى فتوى متواضعة لتمنع متخرجة فى كلية الصيدلة من القعود فى البيت والارتزاق من آلة خياطة.. لأن أحد المشايخ قال لها: "إن المرأة لا يجوز أن ترى أحدا أو يراها أحد". قلت لها: هذه فتوى مخبول لا يعرف الإسلام.. بل هو وأمثاله قرة عين لأعداء ص _01 ص(1/12)
الإسلام.. فلا يحرم الإسلام على المرأة أن تبيع وتشترى، وأن تتعامل مع الناس ما دامت مستترة فى زيها الإسلامى متأدبة بآداب الإسلام، غير متبرجة بزينة.. تحفظ نفسها وعرضها من الذئاب. * * * * تنقية الثقافة الإسلامية: وضرورة الانتفاع من عبر الزمان، ومر القرون، تقودنا إلى حديث عن الثقافة الإسلامية السائدة، وجرائم الاسترخاء والفناء التى تسرح فيها. إن هذه الثقافة اختلطت بها عناصر سامة من جهالات الدهماء، وأهواء الخاصة، وخرافات أهل الكتاب، وزيغ الجاهليات القديمة، وإيحاءات الحكام الطاغين.. وكم أذكر حاجة المسلمين بين الحين والحين إلى علماء نقدة من الصنف العبقري الذى قال فيه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). وكما اختلطت بالثقافة الدينية هذه المواد الضارة، فإنها نقصت أجزاء مهمة.. لتكون صورة صحيحة للقيم والغايات الإسلامية. وهذا النقصان هو السبب فى اضمحلال العلم الدينى داخل حدود العالم الإسلامى وخارجه.. ولا أريد الآن ضرب أمثلة كثيرة من علوم الكلام والتفسير والحديث والفقه.. فإن الأمر فى هذه الميادين يحتاج إلى مؤتمرات تنعقد باستمرار.. لمصادرة الزوائد المؤذية واستكمال العناصر المفقودة. وإنما أضرب المثل من علمين شعرت - وأنا أحدث الجماهير - بمدى عجزنا فيهما.. الأول علم التاريخ والثانى علم الدعوة. إن التاريخ يسجل الوقائع ويستخلص منها العبر.. ص _019(1/13)
وعلم التاريخ الإسلامى فى كلا المجالين مقصر. ونظرة عجلى إلى الأربعة عشر قرنا التى غبرت، وإلى الأقطار الفيحاء التى انداح فيها الإسلام خلال هذه المدة الطويلة، ونظرة أخرى إلى الهزائم والانتصارات، وظروف التقدم والتأخر التى عرضت لهذه الأمة.. تبرز بقوة أن علم التاريخ لم يتناول إلا مساحة محدودة من الزمان والمكان وأن حساب الأرباح والخسائر مضطرب حينا ومعدوم حينا آخر. وأن محاكمة الأشخاص والأشياء إلى المثل الإسلامية غامضة أو ضائعة.. بل إن الوحدة الجامعة للأمة كلها على اختلاف الأعصار والأمصار تائهة فى هذا التاريخ الطويل.. كأن الأمر قصة مؤسسة افتتحت لها فروعا فى عواصم عديدة ثم طال الأمد، ونسى الأصل ما تفرع عنه هنا وهناك..!! ولولا لقاء الحجيج فى مكة ما عرف مسلمو (داكار) و(لاجوس) على المحيط الأطلسى أن لهم إخوة فى (إندونيسيا) و(الفليبين) على المحيط الهادى..!! أين التاريخ الذى يعرض هذا الكيان الطويل العريض فى نسق واحد.. صفحات متقاربة؟ عندما كان تاريخ الإسلام سنين عددا كان الصحابة يروون لأولادهم مغازى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلاقة هذه الأمة بغيرها. * إعادة كتابة التاريخ: فلما طال التاريخ وجد نفر من الرجال قد يروون الجد والهزل، وقد يعقبون بعبر قليلة أو لا يعقبون. ص _020(1/14)
ثم عجز التاريخ عن ملاحقة التحرك الإسلامى، ثم عجز أقبح العجز عن لفت الأنظار إلى غارات العدو على هذه الأمة. فإذا (الفليبين) مثلا تضيع منا فى صمت.. وهذا العنوان جلبته الصليبية الغازية الشرق العالم الإسلامى ووضعته على مجموعة الجزر القريبة من إندونيسيا. وكانت هذه الجزر إسلامية مائة فى المائة ثم أخذ الغزو النصرانى يلح عليها، ويتغلغل فيها قرنا بعد قرن حتى وضع عليها اسم "فيليب الثانى" ملك أسبانيا.. فأصبحت "الفليبين". ومضى التنصير فى طريقه الدامى.. ومنذ قرن كان المسلمون نصف السكان.. وهم الآن خمس السكان. والمراد الإجهاز عليهم واستئصال بقيتهم. ماذا كان يصنع الترك والعرب خلال هذه الحقب المشئومة؟ أين كتاب التاريخ والمعلقون على أحداثه الكبرى؟ لقد سكتوا كما سكت إخوان لهم من قبل بعد كارثة الأندلس.. كأن ضياع الأندلس سقوط بضعة دريهمات من جيب ثرى متلاف!! عندما كنا طلابا درسنا للشيخ الخضرى محاضرات عن التاريخ العباسى.. وضعها رجل ذكى بصير.. ساق الأحداث بين يدى شرح ضاف للصعود والهبوط، والنصر والهزيمة قلت: ما أحوج أمتنا إلى مثل هذا المؤرخ يلقى الضوء على تاريخها كله طوال أربعة عشر قرنا، متناولا بقلمه الكشاف أبعاد هذا التاريخ على خطوط الطول والعرض، وأجناس الدول التى صنعته أو شاركت فيه. إن ذلك لزام علينا حتى نواجه الردة المجنونة التى وقفت بتاريخ الإسلام العام، وجعلت العرب يضعون لهم تاريخا، والترك تاريخا، والعجم تاريخا، والهنود تاريخا... الخ. ص _021(1/15)
إن التأريخ لرسالة واضحة الهدف، انتظمت أجناسا شتى، وعاشت أعصارا متطاولة.. رسالة مفروض أن تبقى إلى آخر الدهر.. إن هذا التاريخ يجب أن يكتب بأسلوب أجمع، وأفق أوسع مما هو الآن!! ذاك عن علم التاريخ.. أما الدعوة إلى الإسلام فشأنها عجيب.. * أين دور أجهزة الإعلام والدعوة؟ فى عصرنا الحاضر توجد أنواع من الإعلام تخدم بذكاء ودهاء ألوانا شتى من الإلحاد والانحراف. والأجهزة الخادمة للعلمانية والصهيونية والصليبية بلغت من النجاح حدا كاد يقلب الحق باطلا، ويجعل النهار ليلا. أما الإسلام.. فإن الجهود الفردية التى بلغت رسالته من قديم لا تزال تواصل عملها بكلال وقصور.. وأكاد أوقن بأنه لولا عناية عليا ما بقى للإسلام اسم ولا كتاب.. فإن أجهزة الدعاية الإسلامية وهم كبير.. حتى بعد قيام جامعات كبرى على الاهتمام بعلوم الدعوة وطرائق نشرها.. معروف أن الدعوة إلى الله تعالى عبادة يقوم بها المسلم القادر.. مرضاة لربه.. وابتغاء ما عنده.. وقد نشط أفراد كثيرون لتبليغ الإسلام فى أرجاء العالم، وشرح صدور به كانت مغلقة. والجهد الفردى مهما قارنه من إخلاص قليل الثمر.. إنه يشبه نشاط التجار الصغار أمام الشركات الكبرى. أين عمل الحكومات الإسلامية؟.. وأين ما وضعته من خطط لنشر رسالة عالمية؟! إن الفساد السياسى عندنا كان السرطان الذى أودى بحضارتنا ورسالتنا ص _022(1/16)
خلال قرون مضت.. إن حكامنا كانوا القشرة العفنة فى كياننا من زمن بعيد.! ولكى نعرف الفروق بين نشاط ونشاط.. نلفت النظر إلى أن الفاتيكان استطاع بأجهزته المنظمة أن يجعل عشرين دولة فى أمريكا الجنوبية تتبع مذهبا واحدا وتنطق لغة واحدة.. أما نحن ففى الشام وحده جمدنا نحلا داخل الكيان الإسلامى، أو وفرنا لها النماء المستغرب.. فبقيت النصيرية واليزيدية والدرزية إلى جانب اليهودية والنصرانية.. بقيت داخل قطر إسلامى واحد ألف عام!! أين أجهزة الدعوة.. بل أين أجهزة التعليم العادى؟؟!! وكان فى الهند عشرات الملايين من المنبوذين.. هل فكرت الحكومات الإسلامية فى اجتذاب هؤلاء إلى الإسلام، وحركت العلماء لدرس أحوالهم وكسب جانبهم؟ إن ما كان على الدولة أن تقوم به نهض به أفراد احتسابا.. ولا ننكر نجاحهم فى توسيع دائرة الإسلام شرقا وغربا. لكن الأفراد قد ينجحون فى نشر الإسلام لسهولة تعاليمه، ومواءمته للفطرة.. بيد أنهم يعجزون عن تعليم اللغة العربية، وتيسير قواعدها. والعرب الآن سُبع.. أو ثُمن مسلمى العالم الإسلامى. وقد نشأ عن توقف العربية ، وعجز اللهجات المحلية أن اهتبل أعداء الإسلام الفرصة فقاموا بعملين مهمين عميقى الآثار: الأول: نشر اللغات الأوروبية، خصوصا الإنجليزية والفرنسية.. الثانى: كتابة اللغات القومية بالحروف اللاتينية.. ومعنى ذلك أن ما كتب باللغات المحلية والحروف العربية عن الإسلام خلال ألف عام أمسى لا قيمة له. انقطعت صلة الأجيال الجديدة به.. وسهل الطريق أمام هؤلاء ليتصلوا بثقافات ص _023(1/17)
أخرى، وديانات أخرى عن طريق اللغات العالمية التى تساندها الدول الاستعمارية!! هذا جانب من عجزنا عن تبليغ دعوتنا.. أما علم الدعوة نفسه، وتكوين الدعاة الأكفاء لما يناط بهم.. فالكلام فيه مر المذاق.. وربما كان فى حديثنا المستأنف ما يشير إلى ما نقصد. * * * نظرت بعيدا عن دار الإسلام، وراقبت زحام الفلسفات والملل التى تتنافس على امتلاك زمام العالم. فوجدت الإعلاميين أو الدعاة يختارون من أوسع الناس فكرا، وأرقهم خلقا، وأكثرهم حيلة فى ملاقاة الخصوم، وتلقف الشبهات العارضة. حتى البوذية - وهى دين وثنى - رزقت رجالا على خط خطير من الإيمان والحركة.. لقد طالعت صور الرهبان البوذيين الذين يحرقون أنفسهم فى (فيتنام) ليلفتوا الأنظار إلى ما يصيبهم من اضطهاد.. وعرتنى رجفة لجلادة الرجال والنساء الذين يفعلون ذلك! فلما رجعت بصرى إلى ميدان الدعوة فى أرض الإسلام غاص قلبى من الكآبة! كأنما يختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام. وتطيح بحاضره ومستقبله.. وما أنكر أن هناك رجالا فى معادنهم نفاسة، وفى مسالكهم عقل ونبل.. بيد أن ندرتهم لا تحل أزمة الدعاة التى تشتد يوما بعد يوم. والغريب أن الجهود مبذولة لمطاردة الدعاة الصادقين، من العلماء الأصلاء، والفقهاء الحكماء.. للقضاء عليهم، وترك المجال للبوم والغربان من الأميين والجهلة والسطحيين يتصدون للدعوة ويتحدثون باسم الإسلام. ووراء ذلك مخطط استعمارى مدروس بدهاء، تنفذه الحكومات المدنية بدقة.. ص _024(1/18)
حتى لا يبقى للإسلام لسان صدق، وحتى تبقى العقول الختلة هى التى تحتكر الحديث عن هذا الدين المظلوم! ويوجد الآن شباب وشيوخ يعملون فى ميدان الدعوة، أبرز ما يمتازون به الجهل.. بالنسب التى تكون معالم الدين، وتضبط شعب الإيمان! تصور تلميذا يقال له: ارسم خريطة لجزيرة العرب، ووضح مكان الحرمين بها.. فإذا هو يرسم الخريطة وليس بها إلا الربع الخالى.. فإذا سألته: وأين مكان الحرمين؟ وضع نقاطا بين تبوك والأردن! أو تلميذا يقال له: ارسم خريطة لنهر النيل.. فإذا هو يجعل فرعى الدلتا يبدأان من الخرطوم لا من القاهرة. إن كلا التلميذين ساقط لا محالة فى هذا الاختبار.. فما الرأى إذا اختير كلاهما مدرسا للجغرافيا؟! أعداد غفيرة من المتحدثين فى الدعوة يشبهون هذا المدرس الجهول. قضايا صغيرة تتضخم فى رءوسهم، وقضايا تستخفى، وحماس فى موضع البرود، وبرود فى موضع الحماس، وأحاديث ضعيفة أو منكرة تصحح، وصحيحة تضعف و ترد. كنا ضيوفا عند أحد الناس.. فسكب فى يدى قطرات من ماء الكلونيا.. فإذا أحد الدعاة يصرخ: حرام! نجس! فقلت له! دعنى ورأيى، إن مالكا ـ رضى الله تعالى عنه ـ يرى ريق الكلب وعرقه طاهرين.. ويراهما غيره نجسين.. فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. فقال: اليد التى بها (كولونيا) نجسة، وتحرم مصافحتها! ص _025(1/19)
وعلمت أنى أحدث من لا يستحق المحادثة.. علمت أنى أمام امرئ مسعور! * * * ورأيت طالبا فى القاهرة يريد أن يدخل كلية الطب بجلباب وقلنسوة.. وسألته: لم هذا الشذوذ؟ قال: لا أتشبه بالكفار فى ارتداء البدلة الفرنجية.. قلت : التشبه الممنوع يكمن فى انحلال الشخصية، وإعلان التبعية النفسية والفكرية لغيرنا، ولقد لبس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبة رومية كانت ضيقة الأكمام.. فلما أراد الوضوء أخرج ذراعيه أسفل.. ولكن الطالب الأحمق أبى وترك الدراسة الجامعية. * * * * فهم خاطئ: وكنا يوما فى حفل جامع وكنت ألقى محاضرات "ذات بال " فى موضوع خطير.. ورأى أحد الصحافيين التقاط صورة للجمع الحاشد.. ولكن الداعية نهض يمنع التصوير.. فلما أصر الصحافى على المضى فى عمله اتجه الداعى إلى الآلة ليكسرها. وجاءنى الواعظ الغيور يسألنى: لماذا لم تمنع التصوير؟ قلت: لأنى أراه مباحا! قال: ألم يقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أشد الناس عذابا المصورون؟ " قلت: إنه يعنى صانعى التماثيل للعبادة.. ولا يتصور أن يكون هذا الصحافى أشد عذابا من الزناة والقتلة والمرابين والظلمة.. قال: الحديث عام فلماذا تخصصه؟ قلت: خصصه الواقع الذى لا يمكن تجاهله.. فالوثنيون كانوا يعبدون أصناما مجسمة ولم يعبدوا صورا شمسية.. وعندما تكون الصورة الشمسية لصنم أو لصليب أو لمعنى دينى مرفوض فسنحرمها. أما التقاط الصوت فى شريط مسجل، أو التقاط الظل والملامح على ورقة لأغراض ص _026(1/20)
علمية أو اجتماعية فلا علاقة له بالوثنية، ولا يحكم عليه بتحريم.. بل هو كما نبه مسلم فى صحيحه ليس (إلا رقما فى ثوب). قال: هذا الكلام مردود، ومحاضرتك عن الوحدة الإسلامية، وعن التناحر بين المسلمين لا تقبل.. ما دامت مقرونة بإقرار التصوير! وشعرت بالضيق.. ثم كظمت غيظى ورفضت مواصلة النقاش. وأحيا آخرون السنة النبوية بالأكل على الأرض، واستخدام الأيدى، رافضين الأكل على الموائد، واستعمال الشوك والملاعق. قلت: من قال: إن الأكل على المائدة، أو استخدام الملاعق مخالف للسنة؟ إن فهم هؤلاء الناس للدين غريب، وإثارة هذه القضايا دون غيرها من أساسيات الإسلام مرض عقلى.. إنه ضرب من الخبال. إن المؤامرات تستحكم يوما بعد يوم لاغتيال الإسلام أو الإجهاز عليه جهرة.. فكيف يشتغل قوم بهذه السنن فقط ثم يتساهلون فى الواجبات وعظائم الأمور؟!! ورأيت يوما رجلا حليق الشارب والرأس بالموسى، وله لحية مشوشة وغير مهذبة فساورنى خاطر أنه قادم من عمرة. واحترمت فى نفسى هذا الظاهر الموقوت. ولكنى أعدت النظر فى هيئته فوجدته مكحل العينين، وثوبه إلى نصف الساق أو أعلى. فقلت: هذا رجل من المنتسبين إلى الدين والحديث فيه، وهو بهذا السمت يرى أنه جمع المجد من أطرافه كلها. ورمقته ثم تشاغلت عنه.. ولكنه جاءنى يسألنى بأدب: أنت فلان؟ قلت: نعم! قال: قرأت رسالة وزعت علينا تصفك بأنك تهاجم السنة! وأنك مع الشيخ "أبى رية" فى تكذيب الأحاديث!! ص _027(1/21)
قلت فى سكون: وقعت هذه الرسالة فى يدى...! قال: ما رأيك فى هذه التهم؟ قلت: ما رأيك أنت؟ هل قرأت لى كتبا؟ قال: نعم، قرأت كتابك "خلق المسلم ": قلت: فى هذا الكتاب وحده أكثر من ألف حديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى فقه السيرة وكتابين آخرين نحو ألفى حديث. فإذا أثبت رجل فى عشر مؤلفاته نحو ثلاثة آلاف حديث فكيف يتهم بتكذيب السنة؟ ! قال: إنك رددت حديثا صحيحا رواه البخارى ومسلم.. وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أغار على بنى المصطلق وهم غارون! قلت على عجل: لقد رددت الفهم القذر الذى استقر فى ذهن بعض الناس لما قرأ هذا الحديث... لقد فهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ الناس على غرة، ويغير عليهم دون أن يدعوهم إلى الإسلام، كأنه قاطع طريق يطلب المغانم.. هذا الغباء فى فهم السنة هو الذى كذبته. ولم أكذب الحديث نفسه! وعلماء المسلمين قاطبة قرروا أنه لابد من الدعوة قبل القتال. وكاتب الرسالة التى هاجمتنى يرى أن الحرب الإسلامية لا يسبقها عرض دعوة، ولا تنوير ذهن.. يرى أن الدعوة كانت قديما ثم نسخت، وأمسى القتال هجوما مباغتا أو أخذا على غرة.. فهل إذا زيفنا هذا التفكير العطن، أسرع الجهال إلى اتهامنا بتكذيب السنة؟!! إننا نحمى السنة من أفهام الأراذل. قال: وحديث آخر من الصحاح رددته.. وهو حديث (أنه ما من يوم يجيء إلا والذى بعده شر منه) قلت: بل رده حديث آخر: (أمتى كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره) وحديث حذيفة الذى رواه مسلم وجاء فيه (أن بعد الخير شرا وبعد الشر خير). ص _02 ص(1/22)
ومن جملة الأحاديث الواردة فى القضية يفهم أن تاريخ الإسلام بين مد وجزر، وغربة وإيناس، ونصر وهزيمة .. أما القول بأن الإسلام يسير كل يوم إلى الهاوية، وأن مستقبله مشئوم.. فقول مكذوب. قال: هذا ظاهر الحديث. قلت: هذا ظاهر فهمكم أنتم لحديث لم تبلغ عقولكم غوره..! بم سينزل عيسى ابن مريم؟ وحديث نزوله صحيح؟ أليس نزوله لمقاتلة الصليبيين، ونصرة التوحيد، وذبح الخنزير، ووضع الجزية.. ألستم تقرءون هذا.. فأين الهاوية التى ينتهى إليها الإسلام حتما؟!! هل السلفية التى تزعمونها هى اتهام رجل بتكذيب السنة لأنه أول حديثا يشعر ظاهره بسوء مستقبل الإسلام. أى تدين هذا الذى تزعمونه، وأى دعوة هذه التى تنشرون.. الحق أن هناك أناسا يشتغلون بالدعوة الإسلامية.. وفى قلوبهم غل على العباد، ورغبة فى تكفيرهم أو إشاعة السوء عنهم.. غل لا يكون إلا فى قلوب الجبابرة والسفاحين.. وإن زعموا بألسنتهم أنهم أصحاب دين. إن فقههم معدوم، وتعلقهم إنما هو بالقشور والسطحيات. إن الاكتراث البالغ بالشكل يتم عادة على حساب الموضوع كما أن الاهتمام الشديد بالنوافل يكون على حساب الأركان.. وأذكر أنى دخلت المسجد النبوى عقب أذان المغرب وجلست فى انتظار الصلاة التى قدرت أنها ستقام توا.. فإذا شخص يقول لى ص _029(1/23)
بكبرياء: لماذا لم تصل النافلة؟ فقلت له: هما ركعتان لمن شاء! لا إلزام هنالك! قال: أعنى تحية المسجد.. قلت: لا إلزام كذلك.. وما هى إلا لحظات حتى أقيمت الصلاة وتهيأنا للفريضة.. وقال لى مراقب للحوار: أيمكن أن يكون قبل المغرب أربع ركعات؟ فقلت له: لا.. وهذا امرؤ يريد الاستطالة علىّ بغير علم ولو أنه صرف نشاطه فى تعليم اللغة العربية لرجل أعجمى لكان ذلك أرجى له عند الله من النوافل التى يريد توبيخنا على تركها. إن هناك مشتغلين بالعلم الدينى، قاربوا مرحلة الشيخوخة ألفوا كتبا فى الفروع، وأثاروا معارك طاحنة فى هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحدا منهم لم يخط حرفا ضد الصليبية أو الصهيونية، أو الشيوعية أو العلمانية. إن وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم. بأى فكر يحيا أولئك؟ تصور شخصا ذهب إلى خياط ليصنع له جلبابا! فهو يقول له: أريد الكم مضاعف الأساور، واصنع عروة فى كل طرف تكون مكشوفة لتظهر منها الأزرار.. لكن بلغنى أن الصيحة الأخيرة مضاعفة العرى وتغطيتها، اصنع لى عروتين فى كل كم وغطها بحيث تخفى من تحتها الأزرار!! وإذا كان لديك (كباسين) بدل الأزرار ربما كان ذلك أفضل، وقد رأيت البعض يصنع ثلاث عراوى لوضع ثلاثة أزرار.. ماذا ترى؟ أيكون ذلك خيرا أم.. الخ. هل الدماغ المشغول بهذه القضايا يصلح لشىء طائل فى الحياة.. أهذا رجل يتماسك فى تفكيره أمر ذو بال؟ ص _030(1/24)
أسباب الداء: إن أعدادا كبيرة من المتدينين تائهون فى هذه الموضوعات.. وقد استقلت الباكستان من ثلث قرن.. ولكن الخلاف بين الأحناف وأهل الحديث، وبين التبليغيين ورجال الجماعة الإسلامية، وبين فرق أخرى نسيت أسماءها.. هذا الخلاف جعل الهند الوثنية تطفر وتستقر وتفجر الذرة. أما الدولة المسلمة فهى منتكثة الشمل داخل فنون من النزاع الطائش قصم ظهرها وهدد وجودها! إن هذا الدوخان فى دوامة الرسوم والمظاهر، أو فى دائرة هيئات العبادة وأقدارها نشأ عنه أمران خطيران.. كلاهما يهوى بالأمم من حالق، ويذهب بريحها. الأول ضعف الخلق.. فقد نرى الرجل دقيقا فى التزام المندوبات الخفيفة.. فإذا كان تاجرا احتكر السلع دون مبالاة، وإذا كان موظفا تبلدت مشاعره فى قضاء مصالح الجمهور، وإذا كان رئيسا وجدته سيئ الملكة، قاسى القلب، مكشوف الهوى. وقد ترى العابد من هؤلاء يضع يديه على صدره وهو قائم للصلاة ثم يعيد وضعهما بعد الرفع من الركوع، ويثير زوبعة على ضرورة ذلك.. فإذا كلفته بعمل ترقى به الأمة اختفى من الساحة!! وكم تفتقر أمتنا داخل البيوت، وأوساط الشوارع، وفى الدكاكين والدواوين، وفى الأسواق والمعاهد، وفى كل مكان، إلى الأخلاق الضابطة الصارمة كى تؤدى رسالتها الجليلة على نحو جدير بالاحترام.. ولكن الاكتراث بالمراسم غض من هذه الأخلاق. أما الأمر الثانى فهو العجز العجيب عن فقه الدنيا.. والاقتدار على تسخيرها لخدمة الدين.. إن الدين الحق تقوى تعمر القلوب، من العبادات لا يستغرق تعلمها زمانا. ص _031(1/25)
ثم مهارة فى شئون الحياة تتحول مع صدق النية إلى وسائل لدعم الحق وسيادته. إن تعلم الصلاة ـ وهى الركن الأول فى الإسلام ـ لا يستغرق دقائق معدودات.. ولكن التدرب على اقتياد دبابة أو طائرة أو غواصة يحتاج إلى زمان طويل.. فبأى فكر يطلع علينا القرن الخامس عشر وجمهورنا جاهل فى فنون الجهاد، وبارع فى الحديث حول تحية المسجد، ووضع اليدين فى الصلاة؟ إن هناك علماء ـ هم فى حقيقتهم عوام ـ لا شغل لهم إلا هذه الثرثرات والتقعرات، وقد أضاعوا أمتهم، وخلفوا أجيالا من بعدهم لا هى فى دنيا ولا هى فى دين!! * نجحوا وفشلنا. وقد تأذنت الأقدار بقيام إسرائيل على أرض فلسطين الإسلامية.. فهل مددنا أبصارنا لنعرف كيف يحيا القوم وكيف ينصرون اليهودية؟! لقد بنوا وجودهم على إقامة مجتمع صناعى متمرس بالعلوم المادية، خبير بأسرار الكون.. يستغل الهواء والشعاع لدعم إسرائيل وتبويئها الذروة...! المراوح تستخدم لاستخراج المياه الجوفية، والشمس تستغل لتسخين المياه...!! وجن سليمان ينظرون إلى العرب الذين ينشدون اللذة، أو العرب المشغولين بقشور العبادة.. على أنهم قطعان تسرح فى أقطارها إلى حين..! لماذا جهلنا أسرار الحياة.. وعمينا عن قوى الكون.. ولدينا كتاب لا نظير له فى لفت الأبصار إلى هذه وتلك؟! بم شغلنا؟ وما هى البحوث والقضايا التى حبست أفكار العامة والخاصة؟! إذا كان الآباء قد شغلهم الترف العقلى.. فإن الأبناء قد شغلهم السخف العقلى. فى رسالة عن التقدم العلمى داخل إسرائيل قرأت هذه العبارات عن الدولة التى تبنى نفسها فوق أنقاضنا ص _032(1/26)
قال الكاتب: إن فشلها فى الحصول على طاقة كهربائية رخيصة من المصادر المائية قد جعل معظم الأبحاث العلمية التطبيقية تتجه نحو إيجاد بديل للطاقة الكهربائية.. مثل الطاقة الهوائية والشمسية والذرية. وقال: نجح الجيولوجيون فى إيجاد المياه اللازمة للمزارع القريبة من شاطئ المتوسط، ويعمل الخبراء فى حفر عدد كبير من الآبار الارتوازية فى منطقتى الجليل ويهودا.. وقد تعاون المهندسون المائيون ومعهم الفيزيائيون فى دراسة حركة المياه الجوفية، واستخدموا النظائر المشعة فى مثل هذه الدراسات.. حيث حقنوا مياه بعض الآبار بمحلول مشع ثم أخذوا عينات من مياه الآبار الأخرى القريبة من مركز الحقن، وحللوها وعينوا كمية تركيز الإشعاع فيها.. وبذلك استطاعوا أن يحسبوا كمية المياه الجوفية واتجاهها وسرعتها، وأن يعينوا عمقها وتركيبها.. كما أنهم استخدموا تطبيقات النظائر المشعة فى تعيين واختبار التبخر الكلى والجزئى.. كما أن خبراء الرى قد استخدموا أحدث الطرق الفنية فى شق القنوات لتحويل مياه الأردن إلى صحراء النقب. وقال: نجح الإسرائيليون سنة 1964 فى استغلال بعض الأراضى الصحراوية وتشجيرها، وأقاموا مزارع نموذجية فى أفداتAvdat وشيفا Shive. ولا تزال الأبحاث مستمرة فى مختبرات معهد أبحاث المناطق الجافة (فى بئر السبع) من أجل تحلية المياه الصحراوية. وقال: ويستخدم خبراء المائيات طريقة جديدة مشجعة تعرف باسم طريقة زاركين للتحلية (Zrakin desalination process) نسبة إلى اللاجئ الروسى الكسندر زاركين، الذى اكتشف هذه الطريقة.. وتقوم هذه الطريقة الجديدة على تجميد مياه البحر، وفصل الأملاح آليا.. فعندما ينخفض الضغط الجوى الواقع على الماء فى وعاء محكم ص _033(1/27)
الإغلاق.. يمكن عندئذ جعل درجة غليان المياه أدنى بكثير مما هى عليه فى الحالة العادية.. وهكذا فإن مياه البحر توضع فى غلاية مفرغة من الهواء فى درجة حرارة أقل من درجة الصفر المئوى.. وعندما يتبخر الماء فإن الحرارة الباقية فيه تنفذ منه فيتحول رأسا إلى جليد.. ولكن الملح لايتجمد بل ينفصل عن الماء آليا.. حيث يمكن جمع الجليد على حدة، والملح الذى كان ذائبا فى الماء يجمع على حدة أيضا.. وأقيم فى إيلات مصنع لفصل الملح عن الماء على هذا الأساس ينتج يوميا 24000 لتر من الماء العذب، وقامت تعاونية فيربنكس ويتنى (Fairbanks whitney) ببناء مصنع آخر عام 1962 ينتج يوميا مليون لتر من الماء العذب.. ويهدف المشروع إلى تأمين مياه عذبة رخيصة بحيث يكون سعر كل 100 لتر حوالى (3) قروش لبنانية.. وهذا السعر أرخص من سعر الماء العذب فى القدس مثلا. وعن جهود اليهود فى توليد الطاقة الكهربائية: قال: تتزود إسرائيل بالطاقة الكهربائية بواسطة التعاونية الفلسطينية المحدودة للكهرباء التى تحمل اسم ب. روتنبرغ P. Rutenberg الذى عمل مديرا لهذه المؤسسة حتى وفاته عام 1942 وتمون هذه التعاونية إسراثيل بالطاقة الكهربائية ما عدا مدينة القدس وضواحيها، وتشير الإحصائيات إلى أن استهلاك الطاقة الكهربائية خلال الثلاثين سنة الأخيرة قد ارتفع من مليونى وات عام 192 ص إلى 360 مليون وات عام 195 ص ، ويتراوح مجموع مبيعات الطاقة الكهربائية فى الفترة نفسها من 3 ملايين كيلو وات/ ساعة إلى 1 ص 00 مليون كيلو وات/ ساعة. وعن الطاقة الهوائية: Wind Energy قال: قام المهندس ج. فرنكيل (J. Erankial) من مهندسى التكنيون بإجراء دراسة شاملة للرياح فى إسرائيل.. واقترح على الدولة البدء باستغلال الطاقة الهوائية فى ص _034(1/28)
الأمور الصناعية.. ومما قاله فى تقريره: (إن استغلال الطاقة الهوائية مهم جدا فى تطوير الصناعة الإسرائيلية ما دمنا لا نزال نستورد الوقود اللازم، لتوليد الطاقة، من الخارج). ووضع فرنكيل برنامجا خاصا لاستغلال الطاقة الهوائية، وقام الخبراء بناء على هذا البرنامج بمسح مناخى للمناطق التى تتوفر فيها الطاقة الهوائية بكمية صالحة للاستغلال، وتبين أن مناطق الجليل ومرج ابن عامر وجبل الكرمل وعرافة (Arave) فى النقب هى المناطق الصالحة لإقامة منشآت استغلال الطاقة الهوائية، وأجريت تجارب ناجحة على محرك صغير طاقته 3 كيلو وات فى إيلات خلال 3 سنوات متوالية.. ونتيجة للأبحاث والدراسات المستفيضة وقع الاختيار على منطقتين لبناء المنشآت الخاصة باستغلال الطاقة الهوائية واستخدامها.. وأقيم فى كل محطة برج عال يبلغ ارتفاعه 40 مترا، ونصبت فى أعلى البرج الأجهزة العلمية الدقيقة مثل: جهاز قياس سرعة الرياح (Ane Mographe) وقياس اتجاه الرياح (Aue Montez) وقياس ضغط الهواء (Manoneter) وقياس طاقة الرياح (windenergy counter) واستخدم فى إحدى المحطات طوربين هوائى- لتوليد الكهرباء تبلغ طاقته200 كيلو وات. وتقوم محطة هامة للطاقة الهوائية فى جيفات هامور(Givat Hamore) فى مرج ابن عامر.. وتبين الأرصاد التى سجلتها هذه المحطة حول سرعة الرياح فى شتى الاتجاهات، أن سرعة الرياح تزيد عن عشرة أمتار فى كل ثانية كلما ارتفعنا فى الجو مقدار 100 متر.. وهناك محطة أخرى فى شمالى غرب النقب.. وبناء على الأرصاد التى سجلتها هاتان المحطتان خلال 5 سنوات قامت السلطات المختصة ببناء22 مركزا جديدا لتوليد الطاقة الكهربائية للأغراض الصناعية بواسطة الرياح. وبلغ مقدار الطاقة الهوائية المسجلة بين 1200 ـ 1300 كيلو وات/ ساعة فى المتر المرج سنويا، وتستغل الطاقة الهوائية حاليا فى إسرائيل لرفع المياه من الآبار ولتوليد الطاقة الكهربائية. ص _035(1/29)
الطاقة الشمسية : (Solar Energy) قال: تدل الأرصاد المناخية على أن إسرائيل تتمتع خلال السنة بمدة ص أشهر تكون فيها الشمس مشرقة إشراقا كاملا دون غيوم. وهذا ما يشجع الخبراء على دراسة إمكانات استغلال الطاقة الشمسية فى الأمور الصناعية، ونجح الخبراء الإسرائيليون حتى الآن فى استخدام الطاقة الشمسية فى كثير من التطبيقات الصناعية.. فالمنازل فى النقب تحتوى على سخانات شمسية لتسخين المياه والتدفئة المركزية. وتجمع الطاقة الشمسية بواسطة أجهزة خاصة تسمى لوحة التجميع المسطحة (Flar plate collector) حيث يمكن بواسطتها تسخين المياه باستمرار. وحقق العلماء فى معهد النقب عام 195 ص مشروعا ضخما لتوليد البخار بواسطة الطاقة الشمسية.. ولقد أقيمت منشآت كبيرة. تتضمن أجهزة للتجميع (الجوامع) (Collectors) ومركزات (Concentrators) ومحركات شمسية (Solar motors) واستخدمت فى أجهزة التجميع مرايا من الألمنيوم أسطوانية مخروطية (Cylindrical Parabolas) تعمل على جمع الأشعة فى نقطة اجتماع واحدة (بؤرة) وهذا المرايا ترتكز على محور شرق- غرب وتتجه نحو الجنوب، وتتحرك الأسطوانات الجامعة آليا باتجاه حركة الشمس.. وينتج هذا المصنع طنا من البخار يوميا.. وهناك إمكانية أخرى لاستغلال الطاقة الشمسية عن طريق بناء أحواض شمسية خاصة تكون قليلة العمق وقاعها مطلى بطلاء أسود اللون.. فعندما تسقط أشعة الشمس على ماء يسيل على سطح أسود قليل العمق.. فإن الماء يتبخر بسرعة.. وتعتبر محطة الطاقة الشمسية القائمة على شاطئ البحر الميت من أهم المحطات التجريبية فى هذا الصدد. وحدث تطور هام فى استخدام الطاقة الشمسية فى عام 1960.. إذ نجح الخبراء الإسرائيليون فى صنع برادات شمسية تقوم على استخدام تيار دائم من بخار الماء وبعض المركبات الغازية، وتمكنوا من الحصول على البخار بواسطة جهاز خاص من المرايا والعدسات المتحركة باتجاه حركة الشمس.. وفى نهاية عام 1961(1/30)
بنت ص _036
السلطات المختصة 45 محطة لقياس الطاقة الشمسية، وزُودت كل منها بجهاز لقياس مدة الانقشاع أو الإشعاع (Insoletioe) يعرف باسم هيليوغراف (Heliograph) وجهاز قياس الطاقة الشمسية المعروف باسم (Actmometer) الذى يقيسها بالشعرة فى كل سم مربع وفى كل دقيقة، وغير ذلك من الأجهزة الدقيقة التى تلقى ضوءا على العلاقات القائمة بين الطاقة الشمسية وأوضاع المنطقة الجغرافية من حيث الارتفاع عن سطح البحر وخطى الطول والعرض الجغرافيين.
***
هكذا يبنى اليهود دولتهم فى فلسطين تحت علم إسرائيل.. فماذا يصنع المسلمون فى أقطارهم الفيحاء؟!
عندما شكا رئيس وزراء مصر السابق الدكتور مصطفى خليل من أن الدولة تدفع أربعة جنيهات ثمنا لعبوة أنبوبة (البوتاجاز) تساءلت: أين الطاقة الشمسية؟ ولماذا استغلت فى فلسطين المسروقة، ولم تستغل فى أراضينا الواسعة؟ لقد قال حافظ إبراهيم من خمسين سنة:
شمسهم غادة عليها حجاب
شمسنا غادة جلاها السفور
هل نحن مهرة فى الغزل وحسب؟ وأين صراخ علماء الدين بإعداد ما نستطيع من قوة؟
لا صراخ ولا همس!.. لأن هناك شغلا بقضايا وخلافات فرعية.
والصغار دائما يهتمون بالصغائر فإذا رأيت من يهتم اهتماما هائلا بقبض اليدين فى الصلاة.. أهو فوق السرة أم أعلى الصدر.. ويستثير ذلك أعصابه أكثر مما يستثيره قتل عشرة آلاف مسلم فى (تشاد) فاعلم أنك أمام مسخ من الخلق لا يؤمن على دين الله ولا دنيا الناس.. وهذا النفر من المتدينين عبء على الأرض والسماء.
والأمة التى تسلم زمامها إلى هذا الإنسان المخبول إنما تسلمه لجزار.
ودين الله أشرف من أن يتحدث فيه هؤلاء الحمقى.
***
ص _037
الباب الثانى نظرة على واقعنا السياسى ص _03 ص(1/31)
مدخل شق الإسلام طريقه إلى آفاق العالم فى وجه مقاومات عديدة متصلة، كانت قوى الشر والجهل تتشبث بها فى كل مكان.. ولولا الصلاحية الذاتية للإسلام، ولولا تجاوبه مع نداء الفطرة واتجاهات العقل لانهزم فى أكثر من ميدان، وأصبح حديثا يروى لا حقيقة قائمة!! ولنضرب المثل من "مصر" التى نعيش فيها ويحتمى الإسلام بصدور بنيها. ولقد شرحنا فى موضع آخر كيف انتشر الإسلام بها، كانت مصر مستعمرة رومانية، وشاء الله أن تعتنق النصرانية على غير هوى من الرومان الذين كانوا وثنيين. وحاول المستعمرون بكل وسائل البطش فتنة المصريين عن دينهم، وسال الدم غزيرا فى المدائن والقرى، ومع ذلك كله تكسرت أمواج القوة أمام صلابة المعتقد، وبقى المصريون على دينهم الذى ارتضوه. ثم اعتنق الرومان النصرانية على مذهب فى الإيمان لم يعرفه المصريون، وحاول الرومان مرة أخرى أن يشدوا المصريين إلى وجهتهم، وبدأ عصر آخر من الاضطهاد، وفى تلك الأثناء دخل العرب مصر يحملون تعاليم الإسلام. فماذا حدث؟ إن الفاتح المشتبك مع الرومان عرض الإسلام على الناس عرضا نظريا عابرا، ولم يحاول إحراجهم ليسلموا، كل ما طلبه عون مالى تافه ليستطيع الاستمرار فى مقاتلة الرومان مع إراحة الجماهير النصرانية من أعباء هذا القتال! وهنا يقرر التاريخ حقائق ذات بال! إن الشعب الذى بذل دمه ضد الرومان دفاعا عن ديانته التقليدية أخذ يتحول رويدا إلى الإسلام! ص _039(1/32)
ويستحيل على عاقل أن يرد ذلك إلى التخفف من عبء مالى، إلا إذا كان الإنسان يستسهل بذل الروح ويستصعب دفع قروش! والغريب أن أحد الولاة السفهاء هاله أن أعدادا كثيفة من المصريين دخلت فى الإسلام وأن الضريبة المفروضة نقصت، واضطربت بذلك موارد الخزانة. فماذا صنع هذا الوالى الأحمق؟ استبقى الجزية على من يسلم من النصارى! ومع ذلك بقى المصريون يدخلون فى دين الله أفواجا، ويدفعون المال المطلوب. حتى جاء عمر بن عبد العزيز فكتب إلى حاكم مصر يقول له: ويحك إن محمدا بعث هاديا ولم يبعث جابيا، ضع الجزية عمن أسلم. فاستراح المسلمون الجدد من الظلم النازل بهم، أو الفتنة التى تصدهم عن سبيل الله. وظاهر من هذا السياق التاريخى الحاسم أن المصريين آثروا الإسلام عن حب، وأن إعجابهم به هو الذى دفعهم إليه، وأنهم قاوموا بعض العرب السفهاء الذين عرقلوا خطاهم وهم يحفون إلى اعتناق الإسلام!! إن هذا المنظر الغريب لم يكن حكرا على وادى النيل، فقد شرق الإسلام وغرب، وطوى السهول والجبال، والطاقة الفذة التى يندفع بها هى صلاحيته الذاتية أولا ثم أهل الفداء والعبادة من الفقهاء والدعاة والقراء والتجار، وقليل من الحكام الطيبين. لم تكن أجهزة الحكم مشغولة بنشر الدين أو مهتمة باستغلال سلطتها فى إكراه الناس عليه.. كان الحاكم المسلم أشبه بتاجر يفخر بنفاسة ما عنده من سلع فهو لا يحسن العرض ولا الإغراء ولا استجلاب "الزبائن". حاجة الناس إلى الأجود ستضطرهم إلى الزحام على بابه. ص _040(1/33)
على حين كانت هناك سلع مغشوشة قيض القدر لها سماسرة مهرة يسحرون بها الأعين ويستدرجون السذج. ومضت القرون والإسلام بما له وما عليه ينطلق هنا وهناك ويشتبك مع القوى المناوئة فى حرب سجال، ثم تكاثرت الفتوق والخيانات فى الجانب الإسلامى، وطلع القرن الرابع عشر على أمة أنهكتها العلل، ودين ليس له رجال، فانفرط العقد كله، وتفرق المسلمون شذر مذر، واستنسر بأرضهم البغاث، وحكمتهم شراذم دخيلة من الملحدين، واليهود، والنصارى، الذين لا تصح لهم صلة بالسماء. ما الوضع فى نهاية القرن الرابع عشر؟ استمكن أعداء الإسلام فى خناقه، فتم لهم تمزيق جماعته الكبرى أشلاء منثورة على صعيد القارات الخمس، وانشغل كل شلو بنفسه فما يدرى عن صنوه شيئا، ثم قامت كيانات مستقلة للمسلمين، افتقدت روح الإسلام الحقيقية، واجهت تركة ثقيلة من التخلف ومضاعفات النزف الاستعمارى لثرواتها، ولم تستطع هذه الكيانات أن تحفظ كرامة الإنسان المسلم فى داخلها، ولا أن تعترف له بأيسر حقوقه فى الشورى والمشاركة فى الحكم. يزيد تعداد المسلمين فى العالم أجمع على ألف مليون نفس. وقد ذكر الشيخ محمد المنتصر الكتانى فى محاضرة له بمكة المكرمة، تستقى معلوماتها من هيئة الأمم المتحدة أن المسلمين ص 27 مليونا من الأنفس، ثلثهم يعيشون (أقليات) فى سلطات حكومات شيوعية ووثنية ونصرانية والباقون يحيون فى دول مستقلة بلغت 40 دولة. وقبل أن نتحدث عن أحوال الثلث والثلثين فى إلماعات عاجلة نذكر أن هناك حرب إحصاءات مزورة يشنها أعداء الإسلام على أمته السكرى كى يزيدوها بلبلة وحيرة. إن السنغال يقطنها أكثر من 95% من المسلمين، وحكومتها نصرانية. ص _041
تنزانيا المكونة من زنجبار وتنجانيقا يقطنها أكثر من ص 5% من المسلمين وحكومتها نصرانية، تعمل بحرارة لضرب الإسلام فى وسط إفريقيا وشرقها.(1/34)
وهناك أعداد مكذوبة عن نصارى غانة وجنوب السودان توهم أنهم أغلب السكان وهم فى الحق بين 5ا%، و20% ولا يقل المسلمون عنهم عددا.
ومع ذلك فقد صنع الاستعمار العالمى عشرات الدول النصرانية فى قارة إفريقيا وغيرها ليكتم أنفاس المسلمين داخل سجونها المعتمة.
وقد أشاع موارنة لبنان أنهم كثرة السكان مع أنهم لا يبلغون 20% من تعداد البلد الذى يراد تنصيره بالخديعة طورا وبالسلاح طورا، ليكون بعد تهويد فلسطين قلعة أخرى لضرب الإسلام ورده إلى الصحراء كما يقولون..!!
إن المسلمين لا يقلون عن ألف مليون، وإن كانت حرب الإحصاءات تبرز غير ذلك.
ولست متحمسا لإثبات ما أقول، فلو كان المسلمون ضعف أعدادهم الصحيحة ما أغناهم ذلك شيئا بعدما أثبتت التجارب أن القلة العاملة خير من الكثرة العاطلة.
بيد أنى أريد فحسب لفت النظر إلى صنوف المؤامرات التى تبيت لهذا الدين ولأتباعه المقهورين فى كل قطر.
والجهود تبذل الآن بإصرار وقوة لصرف المسلمين عن دينهم، وتجهيلهم فى تراثه وقيمه ويومه وغده.
وبديه أنها أدنى إلى النجاح وسط الأقليات المرهقة المغلوبة على أمرها ويتم صرف المسلمين عن دينهم بوسائل لا عبقرية فيها..
ص _042(1/35)
قال لى مسلم إندونيسي: إن إحدى شركات المياه الغازية قبلت أن يعمل بها رجل مسلم بمرتب حسن، وبعد عام من استقرار أمره واجتماع شمله فوجئ برئيس الشركة يقول له: إن أمامك مهلة شهر لتدخل فى النصرانية وإلا فصلت، وقال الرئيس معتذرا أو مؤكدا: هذه هى الأوامر التى صدرت له من الجهات العليا.. وتنصر البائس.. وقرأت فى تقرير عن مسلمى أستراليا مقدم إلى جامعة الملك عبد العزيز أن "فلانا" قدم من استانبول لاجئا إلى القارة الجديدة يبتغى الرزق، وكان رب أسرة كبيرة، وطرق الأبواب الموصدة فلم يفتح منها باب، وعرض عليه التنصر هو وأسرته ليضمن العيش، وقبل التركى الهارب من بلده أن يرتد عن دينه. قال الدكتور حسن باجودة مقدم التقرير: إن هذه الأسرة بلغت الآن مائتى نفس، منها مائة وستون من الكاثوليك وأربعون من البروتستانت. لقد قلت: إن أعداء الإسلام لم يقوموا بحيل عبقرية لينالوا من أمته، إن وسائلهم عادية، والقانون - كما يؤكدون - لا يحمى المغفلين. وإذا عجز المسلمون عن خلق أوضاع اقتصادية تحمى عقائدهم وإذا عجزوا وهم فى داخل بلادهم عن أن يحترموا حقوق الإنسان للمسلم وكرامته وحرية رأيه وحقه فى حكم نفسه بنفسه- إذا عجز المسلمون عن ذلك فلا يجوز أن يلوموا المتربصين بهم، المتخطفين لأبنائهم. وإنه ليحز فى النفس أن يكون لدينا أغنياء يبذلون الألوف المؤلفة فى إشباع الشهوات، وتجف أصابعهم عن بذل شئ فى حماية الأرض والعرض والإيمان والشرف. إن الألف مليون مسلم أو يزيد الذين ينتشرون الآن على ظهر الأرض يواجهون ص _043(1/36)
مستقبلا غامضا، وتستوى القلة والكثرة أمام هذا المستقبل لأن الإسلام الذى يجمع بينها رباط منكور أو هو رباط ثانوى فى أحسن الظروف، والرباط الأول هو القوميات الضيقة أو الموسعة. نعم، إن القوميات كلها ـ وأولاها القومية العربية ـ تعد الإسلام ضيفا على الوطن، ربما كان ضيفا خفيفا أو ثقيلا حسب المزاج الوطنى.. فإذا حاول هذا الدين التذكير بحقه وألمح إلى أنه صاحب البيت كان الجواب العجل: خذ عصاك وارحل، ليس الولاء لك ولا الدفاع عنك. وعندما استفحلت الأزمات السياسية، وجاءت اليهودية هاجمة علينا من أطراف الأرض قررت القوى المعادية للإسلام أن تستبعده من المعركة، ورأينا عجبا... رأينا "بيجين" اليهودى البولندى يطرد عمد القدس والخليل ونابلس، ويصيح: هذه الأرض باسم التوراة لى وحدى. واستحيا العرب أن يلوذوا بالإسلام مدافعين، أو يذكروا اسمه فى أى مجال، أو أن يقيموا نظمهم السياسية والاقتصادية على أساسه. لا إسلام هنالك، لا تنادى باسمه، لا تجميع عليه.. ربما طلب عند الغرق لأن الضرورات تبيح المحظورات وعندئذ يطلب ليكون دوره ثانويا وحسب. إن العالم الإسلامى، والجماعة الإسلامية، والتضامن الإسلامى، والأخوة الإسلامية كلمات جوفاء الرنين قد يكون لها فى عالم الخطابة دوى، أما عالم الواقع فكلمات لا يجوز أن تذكر.. وخلال القرن الرابع عشر، وقبله تمكن أعداء الإسلام كما قلنا من تقطيع الكيان الكبير، وشغل كل كيان محتل أو مستقل بقضاياه الخاصة فهو يلهث وراءها لا يذكر غيره ولا يلوى على شئ.. ص _044(1/37)
وفى ذلك الجو النكد وقعت مذابح رهيبة بين جماهير المسلمين المبعثرة فى المشارق والمغارب أذكر ما علق بذهنى منها خلال العام الأخير: ا ـ فى الدورة الحادية عشرة للمؤتمر الإسلامى عرضت مأساة مسلمى (كمبوديا) الذين كان عددهم 700000 فأصبحوا بعد سيادة الشيوعية 200000. أين ذهب نصف مليون مسلم؟ تلاشوا فى صمت! فإن عصابات "الخمير روج " التى ملكت السلطة أبادت خصومها من الشيوعيين أنفسهم، حتى أن الأمير سيهانوك الشيوعى المعروف فر من وجهها فكيف تكون معاملة المسلمين؟. وقد يظن أنهم فروا مع جماهير اللاجئين إلى "تايلاند". ولكن تايلاند تضطهد رعاياها المسلمين وتضن عليهم بحقوق الإنسان، ويوجد بها أربعة ملايين مسلم يعانون الضياع والهوان. هل كان لمسلمى "كامبوديا" مهرب آخر؟ مثلما أتيح لنصارى "فيتنام"؟ كلا إن العالم المسيحى استقبل الفارين من الحكم الشيوعى فى "فيتنام" وأغلبهم من صنع الحركات التبشيرية الناجحة. أما المسلمون فى هذه البقاع النائية فمن يحس أزمتهم، ويفتح قلبه وأرضه لهم؟ لقد تركوا لكى يهلكوا فى صمت.. ولقد هلكوا والمسلمون سكوت فى كل مكان..! 2- جرب الروس فى أفغانستان بعد احتلالها غاز الأعصاب، وتمكنوا به من إبادة قرية إسلامية كاملة، وانطلقت إشاعة المحنة التى نزلت بقرية "خير الله" والتى تحولت بعد إلى مقبرة كبيرة.. قالت صحيفة الأخبار فى عدد ص / 6 / 1400 إن محطة التليفزيون الأمريكى ص _045(1/38)
"سى. بى. إس" أرادت استقصاء الحقيقة فأرسلت بعثة خفية إلى أفغانستان لترى هل حدثت حقا هذه الفظائع المريرة؟ وهل لوثت "موسكو" وجهها إلى هذا الحد! هل وقعت بالفعل مجزرة "خير الله" تلك القرية التى قتل فيها بطريقة جماعية ألف ومائة رجل وامرأة وطفل؟ وهل توجد أدلة قائمة على استخدام الروس لغاز الأعصاب؟ لم يزد أعضاء البعثة على خمسة من الصحفيين والفنيين وصاحبهم طالب من جامعة "هارفارد" يدرس علوم الشرق الأوسط، ويجيد اللغة الفارسية، ويستطيع القيام بأعباء الترجمة.. وعندما انطلقت البعثة لأداء عملها انضم إليها دليل من أحد زعماء المقاومة وقد استغرقت الرحلة ستة أيام حافلة بالأخطار، قطع الرجال المغامرون خلالها أكثر من مائتى ميل بحثا عن القرائن والشهود، أطلقوا خلالها لحاهم، وارتدوا زى الأفغان المحلى، إمعانا فى الاستخفاء. ومن أهم ما سجلته البعثة أن رجال المقاومة البواسل كانوا يعرضون عنهم ويشيحون بوجوههم عندما يعلمون أنهم أمريكيون لأن الموقف الأمريكى بإزاء الروس كان هزيلا، لم يزد عن مقاطعة الألعاب الرياضية فى "موسكو". وجاء فى التقرير أن المقاومة تلتحم بالشعور الدينى، وأن الإسلام من وراء هذه الحرب الدفاعية المستميتة وأن المجاهدين كانوا يقولون: حربنا مع السوفيت سوف تستمر مشتعلة ولو لمائة عام وسوف يخوضها الآباء ويرثها عنهم الأبناء، حتى آخر رجل.. وتتبعت البعثة الأمريكية أنباء القرية الذبيحة، وتحدثت مع شهود الحادث الذين أفلتوا من الموت، وتفقدت الأطلال الخاوية والآثار الموحشة، واستيقنت أن أمرا بالإفناء الجماعي قد صدر ونفذ بدون اكتراث! ص _046(1/39)
أصدرته إحدى القوتين العظميين فى العالم ضد ناس يحملون البنادق البدائية دفاعا عن دينهم وأرضهم. تقول الأستاذة مها عبد الفتاح بعد إثبات القصة الفاجعة: أين نصيب "خير الله"! من الدعاية (الميلودرامية) على امتداد العالم الكبير؟ ولماذا لا يحظى المقاومون الأفغان بمعشار البطولة التى ظفر بها الفيتناميون الشماليون وهم يقاومون الولايات المتحدة! وتتساءل كذلك: هل ذهب صحافى مصرى أو عربى ليعرف ما هناك، وليزود العرب والمسلمين بالوقائع من مصدرها الأول، لا نقلا عن وكالات الأنباء العالمية؟ والإجابة على هذه الأسئلة معروفة لدينا، إن التعتيم على الجهاد الإسلامى خطة دولية مقررة، وما نرتاب فى أن الدم الإسلامى أرخص دم فى القارات الخمس.. ونحن نعرف بواعث هذه الخطة، ولكننا لانزال نسائل العرب والمسلمين ما معنى تجاهلهم لآلام إخوانهم وتبلدهم بإزائها؟ واستغراقهم فى المجون وأهلوهم يبادون؟؟ أنا لا ألوم الولايات المتحدة على هزال موقفها من الروس، فإن هذا الموقف أشرف من مواقف عرب قرروا أن يلعبوا فى موسكو مع الجلادين الذين استباحونا!! إن المجاهدين الأفغانيين ـ مثل كثيرين غيرهم ـ يهلكون والمسلمون سكوت، لأن الجسد الواحد أمات الشلل أجزاء كثيرة فيه، فما تنتظمه دورة إحساس مشترك... 3- فى رجب سنة 1399 هـ طالعت عددا من صحف المملكة العربية ودول الخليج، قرأت وأنا كئيب مصرع 5000 مسلم فى تشاد، كانوا تجارا من شمال البلاد، أى من الكثرة المسلمة يعملون فى الجنوب أى بين الزنوج الذين نقلتهم بعثات التبشير إلى النصرانية... وفى فورة حقد أعمى وثبت العصابات الصليبية على التجار المتفرقين فى أعماق القرى، واغتالتهم واحدا واحدا، وغنمت رءوس أموالهم!! ص _047(1/40)
وشاع النبأ الدامى، فلم تعلق عليه دول الجامعة العربية، لأنه لا يعنيها! وقرأه عوام المسلمين ببلاهة رائعة، فقد دربهم الغزو الثقافى على استقبال هذه المصارع ببرود! وكنت مدعوا لزيارة الكويت لإلقاء محاضرات بها، وكان مهلك هذه الألوف من الموحدين المستضعفين يؤجج النار بين أضلاعى، وتحدثت إلى رواد "جماعة الإصلاح الاجتماعى" وذكرت أن مثل هذا الحادث وقع لحشود من التجار السودانيين المسلمين كانوا قد انتقلوا من الشمال للعمل فى الجنوب فوثب عليهم عملاء التبشير، وأذاقوهم الحتوف فما نجا منهم أحدا!! واقترحت أن نحدد يوما للشهداء، أو يوما نسميه يوم الدماء نبكى فيه قتلانا، وإن كانت الدموع شر الأسلحة. قلت: إن صعلوكا من اليهود يخدش ظفره يتحرك له مجلس الأمن، أما نحن فإن الألوف منا يقتلون فما يكترث لمصابهم أحد فى الهيئة الدولية.. وإذا لم نغضب نحن لمصائبنا، فلا نلوم الذين يستقبلونها وهم لاهون... واستمع الناس إلى الاقتراح وهم محزونون! 4- فى 11 من المحرم/1400هـ نشرت صحيفة الرائد التى تصدرها ندوة العلماء فى (لكهنو- الهند) هذا المقال تحت عنوان (سقوط ألف مسلم فى مذبحة بالكاميرون) قالت الصحيفة الهندية: أذيع تقرير إخبارى لمراسل صحيفة "صنداى تلغراف" البريطانية عن انتفاضة كبرى عمت المنطقة الشمالية من "الكاميرون " - وهى المنطقة الإسلامية - وقد قتل فيها 14 جنديا وجرح الحاكم الإقليمى مما أدى إلى استدعاء قوات الجيش لقمع الثائرين وتأديبه.. قال المراسل الإنجليزى: إن حوالى ألف شخص بين رجل وامرأة وطفل سقطوا فى ص _04 ص(1/41)
المذبحة الانتقامية، وإن مجمعات سكنية كاملة تمت إبادتها، ثم جرت محاولة لاغتيال (أحمدو اهيدجو) رئيس الجمهورية وهو مسلم من الشمال. قال المراسل: يبدو أن سبب ما حدث هو التوتر المتزايد بين الجنوب المسيحى والشمال المسلم. قال: ويدعى المسلمون أن النصارى الجنوبيين يحصلون على ميزات خاصة، وأن التفرقة فى المعاملة ملحوظة، وأن النصارى يفوزون بمعظم المناصب الحكومية وأن العنصر المسيحى هو الغالب فى تكوين الجيش..! هذه هى مزاعم المسلمين كما يرويها المراسل الإنجليزي. ثم قال المراسل المحايد بعدئذ: إن أعمال القتل بين المسلمين بدأت منذ 20/10/1979م عندما بدأ المسلمون فى "مكارى" وما حولها يحتجون على سوء استخدام موظفى الحكومة للأموال التى يحصلونها لغرض إنشاء المدارس هناك ـ وهؤلاء الموظفون جميعا جنوبيون ـ ويقول المسلمون: إنه لم يتم إنشاء المدارس المطلوبة، والقليل الذى أنشئ بنى بالطين لا بالأسمنت، وتقول المصادر الحكومية: إن المعارضين لقوا تشجيعا من أحد رجال الدين القادمين من "تشاد" فقد ظل عدة أيام يعظ المسلمين ويحرضهم على التمرد، ورفض تصرفات الحكومة. ولم تكن السلطة الحاكمة تقدر خطورة الموقف بادئ الأمر فاكتفت بإرسال "عثمان مى" حاكم الإقليم الشمالى ومعه أربعة عشر رجلا من رجال الشرطة للتفاوض مع المتمردين.. ولكن المتمردين قتلوا البعثة الحكومية، واستطاع رئيسها الهرب بعدما أصيب برصاصة فى قدمه.. ص _049(1/42)
وفى اليوم التالى تحرك الجيش، وأنزلت الطائرات المروحية جنودا كثيرين فى المنطقة الغاضبة، وبدأت للفور أعمال الحرق والقتل، وذكر أحد الفلاحين الهاربين أن الرصاص كان يطلق على كل شخص، وأن النار كانت تشعل فى كل كوخ.. ولم تقع مقاومة تذكر.. ويؤكد اللاجئون أن القتلى نحو ألف شخص، وذكرت السفارة الأمريكية فى "جامينا" أن التقارير التى جاءتها تشير إلى أن القتلى من المسلمين بلغوا ثمانمائة قتيل فقط. وبالرغم من أن المنطقة أمست كلها فى أيدى الجنود بعد سحق التمرد فإن الوسائل البشعة التى اتبعوها فى قتل المسلمين أثارت مرارة شديدة فى كل نفس، وظهر أن الحكومة تريد تلقين المسلمين درسا يمنعهم من محاكاة مسلمى "تشاد" اهـ ـ الصنداى تايم بتصرف قليل. إننى أجزم بأن هذه القصة لم تستلفت أجهزة الإعلام فى الشرق الأوسط كله، لا نقلا ولا نشرا، فليس فيها ما يثير! ما قيمة قتل ألف مسلم فى بلد اسمه الكاميرون؟ إن أجهزة الإعلام قد تهتم بإذاعة مباراة لكرة القدم، يحتشد مئات الألوف لرؤيتها، نعم فإن الناس عندنا تسحرهم فلسفة الأرجل المتحركة فى الميدان المائج. أما فلسفة القلوب المتوهجة باليقين. وأما فلسفة العقول الباحثة عن الحق. أما فلسفة العقائد المتطلعة للحياة- فهذه أمور ليست ذات بال..! وما ينقضى عجبى من إهمال العرب لمأساة الكاميرون هذه وإقامة جدار من الصمت دونها. ص _050(1/43)
أما مسلمو الهند فقد شعروا بالمصيبة ونشروها، ولولا يقظتهم الإسلامية ما عرفتها أنا.. وأتساءل أخيرا: هل التفرقة العنصرية التى شكا منها المسلمون كانت موضع تحقيق؟ هل سرقة حقوقهم المدنية والعسكرية أغضبت أحدا؟ أم المقصود أن الأرض الإسلامية المترامية الأطراف يسرح فيها الصليبيون ويحتازون لأنفسهم ما يريدون دون أن ينبس أحد ببنت شفة...؟ فى هذه العجالة لا أريد أن أسجل خسائر المسلمين وهزائمهم على مدى قرون من الزمان مثلا، كلا، إننى أريد تسجيل ما علق بذهنى من آلام هذه الأمة خلال عام. ولم أتعرض لما ذاع وشاع من مآسيهم فى الفلبين، حيث القتلى ألوف، ولا إلى ما استخفت أنباؤه من مذابح المجاهدين فى بعض البلاد العربية. لقد أردت فقط إبراز الانهيار السياسى للدولة الإسلامية الغاربة، والآثار المخزية لهذا الانهيار الذى يصحبنا ونحن نستقبل قرنا جديدا. كان المسلمون فى القرون الأولى عشر معشار عددهم الآن، بيد أنهم كانوا أعز جانبا وأحمى أنفا. وليس صعبا أن تقوم لهم دولة كبرى تلم شملهم وتأسو جراحهم، فإن المسلمين يقاربون "الصين" فى التعداد، وقد قامت للصين دولة كبرى، واعتبرت اللغة الصينية من اللغات الخمس التى كتبت بها مواثيق الأمم المتحدة. على أنى لا أرى ذلك الحل الأوحد أو الأمثل.. فإن نظام الخلافة يجب أن يدرس بدقة من خلال التعاليم الإسلامية والتطبيقات التاريخية على سواء. إن الخلفاء على مدى القرون الأربعة عشر كانوا من بنى أمية والعباس وعثمان. ص _051(1/44)
ولم يقل أحد إن الله سبحانه وتعالى خص هذه الأسر بالعبقرية والتقى، وجعل نفرا منها يحتكرون قيادة المسلمين أجمعين جيلا بعد جيل. إن من هؤلاء الخلفاء من اقترف فى جنب الله المناكر، ولو جرد من أردية السلطة وقدم إلى قضاء عادل لأمر بضرب عنقه.. وقد تنبأ صاحب الرسالة الخاتمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض.. ومن حق الأمة التى تأذت رسالتها وتردت سيادتها أن تعيد النظر مرة ومرة فى الأسلوب الذى تحكم به جماعتها وتبلغ به دعوتها..!! *** ص _052
الاستبداد السياسى إن الاستبداد السياسى داء دوى، وليس أسوأ منه إلا تجاهل أثره والتعامى عن خطره! وللشورى مفهوم غامض عند بعض المتحدثين الإسلاميين، ومفهوم مضاد لحقيقتها عند بعض آخر، ولو وقع زمام الأمور فى أيديهم لأعادوا حكم الملك الغورى فى القاهرة، أو السلطان مراد فى الآستانة. وأحدهم ذكاء من يعيد السلطة لصاحب الكلمة الفاجرة: ("أمير المؤمنين" هذا، فإن هلك فهذا، فمن أبى فهذا) ـ مشيرا إلى سيفه!! وهذه الميوعة فى مفهوم الشورى الإسلامية لا تزيد المسلمين إلا خبالا وفوضى.. وسببها قلة الفقهاء أو انعدامهم فى ميدان الدعوة، وازدحام هذا الميدان بذوى المعلومات الكاسدة أو التجارب القليلة أو الحماس الأجوف.. إن المفروض فى الشورى أن تقى الأمة سيئات شتى.. منها إعجاب الغبى برأيه، ورغبته فى فرضه على الناس وقديما قيل: من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره، وقد نفذ هذا فرعون عندما قال لقومه: "ما أريكم إلا ما أرى" . ومنها أن المستبدين يضعون أنفسهم فوق المسئولية، إنهم يخطئون الخطأ الرهيب، فإذا افتضحوا كان غيرهم غالبا كبش الفداء، والشورى إذا لم تق الأمة هذا البلاء فلا معنى لها. إن كل المصائب التى تحيق بالعرب الآن سببها هزيمتهم سنة 1967، والغريب أن صانع هذه الهزيمة أو بطلها الفذ لم يوجه إليه لوم، أو ينسب إليه عيب. ص _053(1/45)
والحكم الفردى عظيم المهارة فى التحريف والتزييف والنجاة من التبعات..! ومن ميزات الشورى أنها ترد الحاكم إلى حجمه الطبيعى كلما حاول الانتفاخ والتطاول، والجماعات البشرية السوية، فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم. أما البيئة المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد، إن ساغ التعبير!! ومقابح الاستبداد بعيدة الآماد، ومع ذلك فإن بعض المتدينين مصاب بالرمد المزمن فهو لا يراها، وإذا تلا نصوص الشورى فى دينه قال: ثم للحاكم أن يمضى على رأيه لا على الشورى! إن التقادم لا يسقط الإثم ولا يغير قبح الجريمة، والتقاليد الرديئة لن يخفف من رداءتها أنها ميراث العصور، وقد كان الاستبداد الفردى أخبث التركات التى آلت للاحقين من السابقين. ومع تطور نظام الحكم انداحت الدائرة التى يبسط الاستبداد فيها أذاه، ربما كان هذا الاستبداد لا يعدو قطعة أرض كالتى كان "كليب " يضع عليها يده، ويلقى فيها بجرو ينبح فيعلم الناس أن هذه البقعة أمست حكرا على "كليب "..!! حتى جاء هذا العصر فأصبح الاستبداد قدرة حاكم أو جهاز حكم على فرض الإلحاد قسرا وأخذ الأجيال الناشئة به طوعا أو كرها، كما يفعل الشيوعيون حيث يحكمون. أو قدرة حاكم على تزوير الانتخابات العامة، وجعل الكذب الوقاح عملة متداولة شائعة، ينظر إليها الكبار والصغار وقلوبهم منكرة وألسنتهم معقودة. وبذلك يستقر الإفك وينهار الخلق وتمتلئ الحياة العامة بالوصوليين من أهل الجراءة وبالبرادع من أهل الزلفى! ص _054(1/46)
وقد ملأ الحكم الفردى أغلب الأقطار قديما وكافحت شعوب عظيمة حتى نجت منه. وإن دفعت الثمن غاليا حتى استردت حريتها وكسرت قيودها.. وشهدت الإنسانية عصرا من الشورى على عهد الخلافة الراشدة، كان الحاكم فيه نموذجا رفيعا للإنسان الطيب المتواضع، اللين الجانب، الرحيم بالناس، السليم من علل التطلع والكبر، الذى يرى الكبير أبا والصغير ابنا والباقين إخوة. الملتزم بقوله تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا" . ولم تقم للشورى يومئذ أجهزة دقيقة لأن طبيعة الحياة كانت تقوم على البساطة.. ومع ذلك فإن أرقى ما وصل إليه "الغرب" فى حضارته الإنسانية، أو فى فن الحكم، لم يزد عما حققته الخلافة الراشدة من أربعة عشر قرنا.. قرأت حوارا بين الرئيس كيندى ـ الرئيس الأسبق للولايات المتحدة ـ وبين ممثلى بعض الصحف الأمريكية، قال فيه صحافى يتحرى الحقائق لأكبر زعيم فى العالم: مستر كيندى، هل رحلة زوجتك إلى أوروبا على نفقتك الخاصة أم من مال الدولة..؟ وأدلى "كيندى" بما عنده دون تأفف.. وذكرت للفور حوارا مماثلا دار بين عمر بن الخطاب وسلمان الفارسى: قال سلمان لعمر بن الخطاب: نرى ثوبك طويلا سابغا وكلنا كميش الإزار، ما حصل أحدنا إلا على ملبس قصير فمن أين لك هذا؟ وأحس عمر كأنه متهم باستغلال الحكم فقال: قم يا عبد الله بن عمر فحدث الناس… وقام عبد الله يقول: إن نصيب أبى من الثياب المفرقة لم يكن بغنية لأنه رجل طوال، فمنحته نصيبى ليكمل حلته..! واتضح الموقف، وقال سلمان: الآن قل نسمع..!! ص _055(1/47)
لقد وصل الغرب إلى ما وصل إليه من حرية على جسر من الدماء والأشلاء، أما العرب فإن الإسلام منحهم هذا الطراز من الحكم هدية من السماء، وليتهم قدروا ما نالوا وصانوه! على أية حال إن طريقة الإسلام فى إدارة دفة الحكم هى التى جعلت الشعوب تفتح ذراعيها له، لأن الحكم كان عبادة لله، ولم يكن شهوة منهوم إلى العظمة، أو مفتون بالسلطان.. وإدراك أن الحكم مسئولية مؤرقة هى التى جعلت الخليفة فى المدينة المنورة يعد نفسه مسئولا عن أطراف الدولة البعيدة حتى قال عمر: لو عثرت بغلة فى العراق لحسبت عمر مسئولا عنها لِمَ لَمْ يسوِّ لها الطريق... ثم جاء من رأى الحكم غنيمة تكثر فيها الأرزاق، كما حكوا عن هارون الرشيد، أنه رأى غيمة مارة فقال لها: أمطرى حيث شئت فسيأتينى خراجك! ثم جاء عبيد يرفلون فى النسيج الغالى ويتطلعون إلى ما هو أنعم كما قال أبو الطيب فى أحدهم: يستخشن الخز حين يلبسه وكان يبرى بظفره القلمُ!! والويل لأمة يكون الحكم فيها شهوة مريض بجنون العظمة، أو شهوة مسعور باقتناء المال..! وفى ديننا نصوص كثيرة ترفض الرياسة، والحرص على الإمارة، وتوصى بحرمان عشاق المناصب من المناصب التى يعشقون. وفيه ترهيب من استغلال النفوذ، وجعل الحكم مصيدة للثراء سواء كان ذلك للمرء أم لأقاربه.. ص _056(1/48)
وفيه تخويف من الظلم، والاستهانة بآلام العامة، وإيصاد الأبواب دون مطالبهم. وحسبك أن من ولى أمر عشرة من الناس جىء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فَكَّهُ عدلُه، أو أوْبَقَهُ جَورُهُ. ومع هذه الآثار الحاسمة فإن التقاتل على الإمارة كان سمة ملحوظة فى تاريخنا. ولم يكن ذلك بداهة تنافسا فى مرضاة الله وخدمة عباده، بل كان تنافسا على حطام الدنيا ومتاعها المدبر!! وعانت الرسالة الإسلامية والجماهير الإسلامية من سيطرة السفهاء. وما آل إليه أمرنا فى هذا القرن من سقوط الخلافة وعبودية الأمة فى القارات كلها هو النتيجة المحتومة لذلك العوج. إن الاستبداد السياسى ـ فيما رأينا من قريب ومن بعيد ـ ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام، وليس إماتة لشرائع فرعية فيه، بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته..! وإنى والله أشك فى إسلام عدد كبير من حكام المسلمين، بل فى إسلام عدد ممن حملوا ألقابا دينية لها رنين وبريق، وأعتقد أن بقاء الكفر فى الأرض، والزيغ فى شتى الأفئدة، يرجع إلى مسالك أولئك الذين شانوا تاريخنا ولوثوا دعوتنا، وأعزوا من أذل الله وأذلوا من أعز الله... ولكى يستبين وجه الحق فيما أقول يجب أن يعرف أن كلمة التوحيد كما تعنى إفراد الله بالعبودية تعنى أيضا ما يسمى فى عصرنا بحقوق الإنسان وكرامات الشعوب. منها فَهِمَ عمرُ أن الناس يولدون أحرارا فليس لأحد حق فى أن يستعبدهم وأن البشر ص _057(1/49)
عبيد أمام الله وحده، وسادة أمام غيره فما يسوغ أن يتلاشى وتذوب ذاته أمام إنسان مثله، فكيف يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله؟ ولماذا تنشأ أوضاع يكون الولاء فيها لشخص، يهاب أكثر مما يهاب الله، ويرجى أكثر مما يرجى..؟ إن الاستبداد السياسي صنع هذه الأوضاع وحماها.. قبر تحت ترابها الأخوة الإنسانية والدينية فليس ثم إلا فرد يرغب ويرهب وآخرون يزدلفون ويرتقبون، ومراسم غريبة لوثنيات سياسية أعقد من الوثنيات التى اختلقتها الجاهليات الأولى. أما وجه الله وحكمه، فشئ يجئ فى المرتبة الثانية إن جاء... إن عبادة القصور على امتداد العصور ديانة خسيسة خلقها الحكم الفردى، وزحم محاريبها بالأقزام والأفاكين.. وهى ديانة زاحمت الإسلام الحق وهزمته فى ميدان الحياة العملية وجعلت العبقريات تتوارى والإمعات تتكلم بصوت جهير!! *** ص _05 ص(1/50)
حدود السمع والطاعة بين الحاكم والمحكومين - 1 - من أمارات الإحكام فى شئون الجماعة والدولة، أن تنتقل الأوامر من الرؤساء إلى الأطراف، كما ينتقل التيار من المولد الكبير إلى الأسلاك الممتدة، فلا يقطع نوره خلل ولا يرد قوته قطع أو خبل. إن الجسم المعافى تستجيب أعضاؤه (للإرادة) التى تنقلها الأعصاب من الدماغ المفكر فيتحرك أو يسكن وفقها. ولن تعجز الإرادة عن بلوغ أهدافها إلا إذا اعتل الجسم، وأصيبت أجهزته بالعجز والشلل. والمجتمع الصحيح كالجسم الصحيح يشد كيانه جهاز دقيق ويضبط أموره نظام محكم، وتتعاون ملكاته العليا وقواه المنفذة تعاونا وثيقا يسير به فى أداء رسالته كما تسير الساعة فى حساب الزمن. وقد وضع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاعدة هذا النظام المتجاوب وجعل القيام عليه من معالم التقوى، فإنه لن يستقر حكم ولن تصان دولة إلا إذا سادتها الطاعة والنظام. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من أطاعنى فقد أطاع الله، ومن عصانى فقد عصى الله، ومن أطاع أميرى فقط أطاعنى، ومن عصى أميرى فقد عصانى". وقال الله عز وجل: "أطيعوا الله " أى: اتبعوا كتابه. " وأطيعوا الرسول " أى: خذوا بسنته. "وأولي الأمر منكم" أى: فيما كلفوكم به من أمور تخدم الكتاب والسنة. ص _059(1/51)
وطبيعة الحياة عندما فرضت خضوع الجسم للعقل إنما بنت هذا لمصلحة الجسم والعقل جميعا، على أساس أن العقل يصدر عنه ما يضر الجسم أو يؤدى به إلى التهلكة. فإذا استحمق امرؤ وشرع يخلط، حجرنا عليه فورا، إنقاذا له من شر نفسه وإنقاذا للجماعة منه. كذلك اطردت فطرة الله فى شئون الحياة كلها: فقوانين السمع والطاعة التى سنها الإسلام، بل التى وضعتها نظم أخرى وطبقتها بصرامة، لم يقصد بها إلا حفظ المصلحة العليا للجماعة، فكأنما أملت بها غريزة البقاء وضرورة الحياة. ولا مجال البتة لجعلها متنفس هوى جامح أو شهوة عارضة. وعندما شرع قانون السمع والطاعة لم يفترض فى الأطراف التى تمثله إلا قيادة راشدة تنطق بالحكمة وتصدع بالحق وتأمر بالخير، ثم جنود يلبون النداء ويمنعون العوائق ويتممون الخطة. وبذلك تنتظم دورة القانون فى الأمة كما تنتظم دورة الدم فى البدن فتستقيم الحياة وتستقر الأوضاع. أما الطاعة العمياء لا لشىء إلا لأن القائد أمر، وأمره واجب الإنفاذ، فذلك منكر كبير وجهالة فاحشة لا يقرها شرع ولا عقل. روى الإمام أحمد فى مسنده قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم الرجل فى شىء - تبرم بسيرته-م معه - فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعونى؟ فاجمعوا إلى حطبا.. ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. ص _060(1/52)
فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من النار، يعني: كيف تقادون باسمه إليها.؟ لا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه. فقال لهم: " لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا. إنما الطاعة فى المعروف ". لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا. هذا الترهيب الغليظ يستأصل جذور الطاعة العمياء من نفوس الأتباع جميعا، ويجعلهم يحملقون فيما يصدر إليهم من أوامر، فلا يكونون عبيدا إلا لله ولا جِثِيًّا إلا للحق. إنما استكبر من استكبر من الفراعنة والجبابرة لأنهم وجدوا من الرعاع من يسارع إلى إجابة أهوائهم وإطاعة نزواتهم دون بصر أو حذر فعتوا فى الأرض وعلوا علوا كبيرا... ولو أنهم عندما أصدروا أوامر يمليها الغرور وتنكرها الحكمة وجدوا من يردها عليهم ويناقشهم الحساب، لتريثوا طويلا قبل أن يأمروا بباطل. والثقة - خصوصا فى أهل الدين - تغرس حسن الظن فيما يأتون ويذرون، وتجعل المرء يتلقى توجيههم بالقبول الحسن فهو ينزل عنده مطمئنا إلى أنه يطيع فى المعروف. ونحن لا نلوم إنسانا على نقاوة صدره وليونة طبعه، ولكن المؤمن لا يأذن لأحد أن يستغل هذه الصفات النبيلة فيه ليجعل منه شخصا طائش القياد ضرير العين والقلب. وفساد الأديان الأولى جاء من طراوة الأتباع فى أيدى رؤسائهم وتحولهم مع مبدأ السمع والطاعة إلى أذناب مسيرة، لا فكر لها ولا رأى. روى أنه لما نزل قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" قال ص _061(1/53)
عدى بن حاتم معترضا: إنهم لم يعبدوهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم". فانظر كيف غدت الاستجابة العمياء شركا، وكيف استغلت الثقة لتغيير أحكام الله وإضلال عباده عن الصراط المستقيم. إن الفراعنة والأباطرة تألهوا لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعى. والأحبار والرهبان والبابوات تألهوا كذلك، لأنهم وجدوا رعايا تمنحهم الثقة المطلقة وتلغى وجودها الأدبى أمام ما يصدرون من أحكام. والشعوب التافهة فى كل زمان ومكان هى التى تصنع المستبدين وتغريهم بالأثرة والجبروت. وقد بلغ من حمق العامة فى بعض أدوار التاريخ المصرى أن قالوا: الحماية على يد فلان خير من الاستقلال على يد فلان!... لو رشح فلان حجرا لانتخبناه... إن الحب المكين شىء واحترام الحقيقة المجردة شىء آخر. ولشعب ما أن يعشق زعيمه وأن يصوغ فيه قصائد الغزل. بيد أنه لا يسوغ أن يتطور به هذا الحب حتى يحاكم الحقائق إلى شخصه بدل أن يحاكم شخصه إلى الحقائق. ومن قديم عرف المصلحون والأئمة أن السمع والطاعة وسائل لابد منها لسير الأمور وبلوغ الغايات. ونحن لا نمارى فى المبدأ بعد ما شرحنا أصله فى صدر حديثنا، وإنما نحذر من الزوائد الخطرة التى تنضاف إليه وتتوسع فيه وتقتل الحقيقة والحرية باسمه. إن الإسلام لم يشرع قانونا ينتقص من (الاستقلال الشخصى) لأى إنسان أو يغض من (حريته الفكرية). ص _062(1/54)
ألم تر إلى موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته فى أسرى بدر؟ لقد استشار أصحابه ما يصنع فيهم؟ فما حاول أحدهم أن يتعرف رأيه ليتملقه بتأييده، بل أدلى كل منهم بما يراه الحكم الصحيح فى القضية المعروضة وسار كل وفق طبيعته الخاصة. الحليم يعرض العفو، والحازم يعرض العقاب، ولا يعنينا أن نعرف هنا من أخطأ أو من أصاب. وفى السيرة شواهد شتى لما كان عليه السلف الأوائل من أصالة نظر، وحرية فكر، مع ما أثر عنهم من حب عميق لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما أخذ عليهم من مواثيق السمع والطاعة. ونحن نعرف أن بعض الناس لا يحسن التفكير العام، وقد تضم إلى ذلك أنه لو ترك لكل امرئ الحق فى مناقشة ما يكلف به لتسربت الفوضى إلى شئون الحكومات والشعوب. وهذا حق، ولكنه لا يصادم ما نحن بصدد تقريره، أن هناك فرائض لا يجوز خدشها ومحرمات لا تمكن استباحتها، وشئونا أخرى هى مجال للأخذ والرد وتفاوت التقدير. وهذه لا يملك البت فيها واحد برأسه، وإنما يرفع الخلاف فيها أصحاب الحل والعقد وأهل الشورى. فإذا مرت بمرتبة البحث والعرض، فلكل ذى رأى أن يظهره وأن يدافع عنه غير منكور ولا محقور. حتى إذا تمخض الدرس والنقد عن الرأى الذى استقر عليه الإجماع أو جنحت إليه الكثرة، لم يبق مكان لتردد أو ارتياب أو اعتراض. ص _063(1/55)
والحكومات المعاصرة ـ على اختلاف مذاهبها ـ تحترم هذه القاعدة. ولعل هذا سر الإفراد والجمع فى الآية: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " فالإله واحد والرسول واحد. أما "وأولي الأمر منكم " فهو كثير، وما يقرونه ـ جماعتهم أو أغلبهم ـ فهو محل احترام العامة. وليس ذلك الذى أقره الإسلام فى سياسة أمته بدعا تفرد به، فإن أمما أخرى أقرت مثله من قبل ومن بعد ذلك، وليس كل من غلب على حكم بلد ما يسمى ولى أمر فيه، تقرن طاعته بطاعة الله ورسوله. فكم أرمق قرونا من تاريخ الإسلام الرحب وبقاعا من وطنه الكبير فلا أجد ظلا لولاية صحيحة..! كما أن الشئون التى يعالجها الولاة الموثقون تتفاوت فى موضوعها تفاوتا كبيرا فشئون الدنيا غير شئون الدين. وشئون الدين نفسه ليست سواء، فالأصول غير الفروع، والنظرى غير العملى. فقد يختلف أولو الأمر فى بناء جسر أو تعلية خزان، وقد نختلف فى ذلك معهم لا صلة لهذا الخلاف بطاعة أو معصية. وقد يختلفون ونختلف معهم فى فقه الصلاة ويلتزم كل منا وجهة نظره... ولا وزن هنا لخطأ أو صواب. وقد تكلم العلماء فيمن يسمون أولى الأمر شرعا، والشئون التى ترى طاعتهم فيها دينا، ورفعوا الغموض عن كليهما. ولقد عجبت لخلاف وقع بين شباب من المسلمين أثاره بعضهم بتشاؤم هو: نحن جماعة المسلمين، أم نحن جماعة من المسلمين؟ ص _064(1/56)
والإجابة على هذا السؤال لها نتائج ذات بال. بل نتائج ترتبط بها صيانة دماء وأموال! فإن الذين يحسبون أنفسهم جماعة المسلمين يرون مخالفة قائدهم ضربا من مخالفة الله ورسوله، وطريقا ممهدة إلى النار وبئس القرار! إلا أننى عز على أن يلعب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة، وأن تتجدد سياسة الخوارج مرة أخرى، فيلعن أهل الإيمان ويترك أهل الطغيان. وبم؟ باسم أن القائد وبطانته هم وحدهم أولو الأمر! وأن لهم حق السمع والطاعة؟ وأن الخارج عليهم يصدق فيه قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية" وقوله: "من خلع يدا من طاعة لقى الله لا حجة له، ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". وهذه الأحاديث وأمثالها وردت فى منع الفتوق الجسيمة التى يحدثها الشاغبون على الدولة، الخارجون على الحكام. وقد عانى المسلمون وعانت خلافتهم الكبرى أقسى الآلام من ثورات الحانقين والناقمين، وربما كان سقوط الحكم الإسلامى فى الأرض بسبب هذه الانتفاضات الهائلة... بيد أن تعليم هذا الجنون كان أسلوب تربية وتجميع عند بعض الناس!! أن يقال: إن الولاء للقيادة يكفر السيئات، وإن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل، أى إسلام هذا؟ ومَن مِن علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تلبسون الدين هذا الزى المنكر؟ ص _065(1/57)
وهيهات، فقد تغلغل هذا الضلال فى نفوس الناشئة حتى سأل بعضهم: هل يظن المسلم نفسه مسلما بعدما خرج من صفوف الجماعة؟ ولنفرض أن رئيس الجماعة هو أمير المؤمنين وأن له حقوق الخليفة الأعظم (!) فهل هذا يؤتيه على أتباعه حق الطاعة العمياء؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤت هذا الحق! ففى بيعة النساء يقول الله له: "..ولا يعصينك في معروف"!. وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وروى مسلم عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس فى ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو فى جشرة ، إذ نادى رسول الله: "الصلاة جامعة" فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: "إنه لم يكن نبى من قبلى إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عافيتها فى أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتى، ثم تنكشف، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه، هذه!... فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذى يحب أن يؤتى إليه. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"...! ص _066(1/58)
قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله، أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبى. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما". قال: فسكت ساعة - لحظة - ثم قال: أطعه فى طاعة الله، واعصه فى معصية الله... سياق الحديث كما ترى فى توفير الأمن لحكم قائم، وخليفة مبايع، ومع ذلك فإن عبد الله رأى التمرد على الحاكم فريضة إذا أمر بمعصية، فكيف بالتمرد على رجل من سوقة الناس منح نفسه أو منحه أشياعه سلطانا موهوما! على أن من الإنصاف لتعاليم الإسلام - ونحن بصدد الكلام عن تغيير الحكام - أن نذكر القاعدة القائلة: إذا كان تغيير المنكر يؤدى إلى مفسدة أعظم، فالإبقاء عديه أولى، وذلك مصداق قوله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب" . والواقع أن الزلازل التى تتبع إسقاط الحكومات قسرا بعيدة المدى. ومن ثم لم يرض الإسلام أن يشهر السيف فى وجه حاكم إلا أمام ضرورات ملجئة. أبانها هو ولم يترك بيانها لتقدير أحد. بل إنه حبب إلى المؤمن التضحية ببعض حقوقه الخاصة إشاعة للاستقرار فى أنحاء البلاد، وإغلاقا لمنافذ الفتن. فعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع ص _067(1/59)
والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله - أى نطلب الحكم من ولاته - إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان. وإننى لأمقت أن أكون داعية لحاكم ما، وأستعيذ بالله من أن أعين بكلمة على بقاء والٍ جائر. غاية ما أبغى أن أشرح قانون السمع والطاعة وأن أمنع الكهان والدجالين من الاحتيال به على ناشئة قليلة الفقه فى الإسلام. إن تغيير حاكم شئ والانصراف عن واعظ غير موفق شئ آخر. لقد كان الراسخون فى العلم يدعون إلى الله ويتجردون للدعوة، فكان الناس يرون طاعتهم من طاعة الله لأنهم تلقوا دروس معرفته عنهم. ثم جاء الراسخون فى الجهل يطلبون حقوق القيادة، ويتحدثون عن قانون السمع والطاعة، ولست أعنف دعيا من هؤلاء على مزاعمه ومطالبه. فالأمر كما قيل: "بعض الناس طغاة لأننا نركع لهم". - 2 - القول بعصمة الأئمة غير معروف بين جمهور المسلمين من أهل السنة. فمذهبهم أن القائد أو الحاكم يجئ من أى طبقة، وأنه فى موضعه العالى من تصريف الأمور يجوز عليه أن يخطئ وأن يصيب. وأن نصحه - إذا أخطأ كمؤازرته إذا أصاب - واجب على الأمة. بل إن أهل السنة يرون أن النبى - صلى الله عليه وسلم، على جلالته - قد يخطئ فيما لم ينزل به وحى... ولكن الإرشاد الأعلى يستدرك عليه ويوجه اجتهاده إلى الصواب الذى فاته. ص _06 ص(1/60)
أما الشيعة فهم يحصرون الخلافة فى الأسرة النبوية، ويقولون بتقديس من يتولى منهم شئون المسلمين. ولست فقيها فى مذهب الشيعة.. ورأيى أن الخلاف فى سياسة الحكم ـ عندنا معشر المسلمين ـ سياسى لا عقدى، وأن أركان الإسلام تظلم عندما يقحم عليها هذا الخلاف الذى بدأ تافها ثم استفحل مذ خالطته شهوات الدنيا! وأريد أن أعرض هنا المسألة (عصمة أو تقديس القيادة).. فإن القول بعصمة واحد من هؤلاء هو عندى خرافة كبيرة. ومن السخف أن يطالب عاقل بتصديق هذا الزعم سواء تبجح به رئيس أو هرف به مرءوس. وربما كان الضغط الذى صادفه التشيع أول أمره سر انتشار هذه الكلمة، فقد استبد الأمويون والعباسيون بالحكم دهرا طويلا، وضيقوا الخناق على معارضيهم حتى جعلوهم يحيون فى جو من الوجل والتوجس. والأحزاب المناوئة للحاكم عندما تفقد نعمة العلانية فى التنفيس عن رغباتها، والإبانة عن مقاصدها وغاياتها، لا ترى بدا من جمع فلولها فى الظلام ونشر تعاليمها فى شكل رسائل أو منشورات مقتضبة حاسمة.. وقد كان طلاب الخلافة من ذرية على يعيشون فى هذا الخفاء المسحور، وينالون من الحب بقدر ما يناله الحاكم من سخط. وربما كان بعضهم أعف نفسا وأصدق قيلا من أمراء أمية والعباس فهو يرى فى مناوشته الحاكم وإسقاطه خدمة للإسلام قبل أن يكون خدمة لنفسه... والوسيلة الوحيدة هى المقاومة السرية، حيث يتلقى الأتباع الأوامر الصادرة من فوق ص _069(1/61)
على أنها نصوص واجبة الطاعة، لا مجال ألبتة لمناقشتها أو التملص منها. لا.. إن شيئا من هذا لا يجول بخاطر واحد من الأتباع! فإن تنفيذ هذه الأوامر دين تقبل عليه النفس بلذة وشغف، ولو كانت عقباه العطوب..! وفى هذه الدائرة المغلقة تتحول الثقة فى القيادة إلى قول بعصمة الأئمة... ذلك أن مرور الزمن على هذا الكبت يحور الصلة بين الأتباع المضطهدين وسادتهم المختفين حتى تنتهى إلى هذا المصير. وخطورة هذا الضرب من المعارضة المستخفية أنه البيئة الخصبة لنمو الأوهام والأساطير. وأظن أن الفرق الكثيرة التى نهشت جوهر الإسلام ـ من باطنية وقرامطة وغيرهم ـ لم تتولد إلا فى هذه البيئة. إن الأوامر التى يصدرها أشخاص فقدوا قوة العمل فى النور قلما تخضع لتمحيص المنطق وتحقيق الشورى. حتى بعد أن تواتيهم السلطة ويقيموا حكما يرعى أمور الناس فى وضح النهار.. وهكذا ينتقل مبدأ تقديس الزعامة من صفوف المعارضة إلى صفوف الحكم نفسه، والإسلام برىء من هذا كله. وقد رأيت جمعا غفيرا من شباب المسلمين ينظرون إلى قائدهم نظرة يجب أن تدرس وأن تحذر. قال أحدهم: إن القائد لا يخطئ. ومع أن كلمة "القائد لا يخطئ " وجدت امتعاضا من السامعين، إلا أنه امتعاض المذنب عندما يواجه بجريرة لا يجد منها فكاكا.. ويكره أن تلتصق به، لظهور معرتها. ص _070(1/62)
والقوم يخلطون بين توقير القائد وتوفير المهابة له.. وبين الخنوع لرأيه والمسارعة فى هواه. لقد قال قائل: "إن الإيمان بالقائد جزء من الإيمان بالدعوة". ثم أضاف: "ألا ترى أن الله ضم الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بذاته- جل شأنه؟ ذلك أن المظهر العملى للطاعة والأسوة هو فى اتباع القائد اتباعا مطلقا...!! ثم استدرك القائل: "لا أعنى بهذا أن أسوى بين القائد والرسول فى حقيقة الطاعة، إنما أقصد دعم مشاعر الولاء نحو القائد، فأنا أضرب مثلا فحسب"...!! إن نفرا من العباقرة ظهروا فى ألمانيا وإيطاليا ومصر والهند أوتوا من المواهب الخارقة ما جرفوا به جماهير العامة واستهووا به الخاصة. وكانت آراؤهم تعصف بما عداها وأشخاصهم تطوى الأصدقاء وتكسح الخصوم. وهؤلاء الزعماء الكبار لا تضبط صلاتهم بأتباعهم - على هذا النحو - تعاليم الإسلام، فلا هم عرفوها ولا هم تقيدوا بها. إن الأقدار قد تسلح بعض الناس بقوى أشبه بقوى القاطرة التى تجر وراءها ألف عربة، وإذا كانت شعوب بأسرها يطريها الإعجاب بقائد ما، فتنشق حناجرها بالهتاف له، وتملكها عقلية القطيع فى السير وراءه، فذاك أمر يصح أن تدرس علله ونتائجه على ضوء التاريخ القديم والحديث. أما الشىء الذى تحار البرية فيه فهو إطباق قبيل من الناس على تقديس شخص ليس لديه ذرة من الخصائص العبقرية. إن بركات الطاعة العمياء لا آخر لها، وأولها أنها تصدق فى أصحابها قول القائل: ص _071(1/63)
لا يبلغ الأعداء من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسِهِ وحين كان الوعى السياسى يتطلع إلى مزيد من الحريات كان بعض الناس ضعاف الإحساس بمعنى الشورى، وحق قيام الأحزاب، فلم يشعروا بقيمة الدساتير الضابطة إلا بعد فوات الأوان. وأستطيع أن أقول: إن الحاجة تكون ماسة إلى تربية أزكى وفقه أوسع وتخليص للدين من مسالك غبية كانت تقع باسمه، ومن أمراض نفسية تختفى وراء شعائره. ولو كان المفروض أن يقود أهل الجهاد والعلم والدراية والتوجيه لوجد من هؤلاء كثير.. لكن أصحاب هذه المؤهلات معروفون يتحدث الناس إليهم ويأخذون منهم ويردون عليهم. والقائد لا يكون كذلك - وما ينبغى له - (!) وإنما ينبغى أن يكون شيئا تشرئب إليه الأعناق، وتخشع عنده النفوس... أجل... ينبغى أن يكون صنما حتى يأمر فيطاع، ويأتى إليه الأشياع ليتمسحوا به ويطوفوا حوله. وعقدة الضعة تجعل صاحبها لا يكتفى بتخطى من هم أكفأ منه، بل إنه يسعد بتحطيمهم، ويسر إذ يقدر على إقصائهم وإطفائهم. وبنظرتنا إلى هذا الخلل الفظيع فى مقاييس الخير، سنجد أننا سوف نحرم من رعاية الله أبدا بتقريره.. وخاصة أن الشبان اضطربت أفكارهم وأحكامهم حتى خيل إلى بعضهم أن يزن الأمور بمدى رضاء القائد ومدى الولاء له!! أما الخطأ والصواب، أما العقم والإنتاج، أما النكوص والشجاعة، بل قل: أما العلم والجهل.. فتلك أمور لا يلتفت إليها فى تقديم وتأخير... وعفاء على أمة تستقر فيها تلك المهازل.. إن البقاء فيها مضيعة للوقت ومنقصة للدين! ص _072(1/64)
أأشقى به غرسا؟ وأجنيه ذلة؟ إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما!! ولكنى مرة أخرى ـ أرجع اللوم على القطيع المسير. إن حسن النية لا يشفع فى الاستجابة لأصحاب الأهواء. وقد نعى القرآن على قوم أغلقوا عقولهم على رأى فلم يفهموا سواه ولم يفكروا فيما عداه زاعمين أن الخير فيه وحده فقال فيهم: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" . يجب ألا نأخذ رأينا كقضية مسلمة، ولا أن نقبل كلام غيرنا دون مناقشة وتدبر، بل يجب أن نبحث عن الحق، ونجتهد فى الوصول إليه، فإذا عرفناه عرفنا الرجال على ضوئه وصادقناهم أو خاصمناهم على أساسه. إن المسلم الصادق هو الذى يعرف الرجال بالحق. أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون فى أى كلام يلقى إليهم لأنه صادر عن فلان أو فلان، فهم أبعد الناس من فهم الإسلام، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيرا أو يحرز له نصرا... وافقه أيها المسلم كلمة الإمام مالك بن أنس: " كل امرئ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام" (يعنى رسول الله، صلى الله عليه وسلم). فقضية الدعوة هى التى تعنينا. هل ستترك الأيدى الخفية تلعب بزمام الحركة الإسلامية الكبيرة وتشل نشاطها فى ميادين الحياة؟ هل من الضرورى أن يحمل الإسلام أوزار قيادات واهنة، تستر ضعفها بالاستبداد، ونكوصها بالمكر السيئ؟ ولحساب من هذا؟ إن شرف الدعوة العظيمة فى أنها صدى للإسلام، وصورة كاملة لتعاليمه الراشدة. ص _073(1/65)
* فاعلم أن الإسلام بنى على الوضوح والثقة والتعقل. * "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" * "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون". * فارفض الغموض فى رسالتك واحذر قبول الريبة باسم السمع والطاعة. فالطاعة فى المعروف، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". * ولا تتعصب إلا لما تعقل وتؤمن، فإن التسليم للأوهام بعض الطقوس الماسونية فى هذا العصر، وبعض طقوس الكنيسة فى العصور الوسطى المظلمة. * أما الإسلام فبريء من هذه المسالك المحدثة. إن القيادات مسئولة ـ من قبل ومن بعد ـ عن الخسائر التى أصابت الحركة الإسلامية فى هذا العصر، وعن التهم الشنيعة التى توجه للإسلام من خصومه المتربصين، فقد صورته على أنه نزوات فرد متحكم، كما صورت الهيئات الإسلامية وكأنها تسودها الدسائس وتسيرها الأهواء. وسوف نبقى ندفع عن الإسلام شرور أعدائه السافرين والدخلاء حتى تنجلى الغمة ويفرح المؤمنون بنصر الله. *** نعلم أن الإسلام أول أمره اشتبك مع اليهود فى حرب ضروس، لم تضع أوزارها حتى انكسرت شوكتهم وكتب عليهم الجلاء، فاختفت جماعتهم من جزيرة العرب واضمحلت قواهم أمام امتداد الإسلام فى المشارق والمغارب. لكن اليهود الذين منوا بالهزيمة التامة فى ميدان القتال.. وأعجزهم عن أن يصيبوه ص _074(1/66)
بأقل أذى فى ساحة مكشوفة واضحة.. انفلتوا يكيدون له فى ميدان آخر فاستطاعوا أن يلحقوا به متاعب جمة.. ما زال من أربعة عشر قرنا مضت يعالج جراحها إلى اليوم..! دسوا وسط الجماعة المسلمة من يؤرث نار الفتنة ويلبس على المسلمين أمر دينهم ودنياهم، فإذا الفكر الإسلامى تشوبه الخرافة، وإذا الإسرائيليات تمتزج بمنابع ثقافتنا وتغزو عقول العوام وتعوج بسير الإسلام وسط أهله أنفسهم! فكيف يستقيم سيره ـ بعد ـ بين الناس؟ ومعنى ذلك أن اليهود ثأروا لأنفسهم من الهزيمة التى أدركتهم، وإن كان علماء الدين ونفذة الشريعة لم يستكينوا لهذا البلاء، وبذلوا جهودا كبيرة فى فضح هذه الإسرائيليات وتخليص لباب الإسلام الحق من تلك المحدثات التى اعترته. وقريب من نضج اليهودية الماكرة على الإسلام ما رووه من أن الفرس لما دخلوا الإسلام نقلوا إليه تقاليدهم فى معاملة الأسر المالكة عندهم، فجعلوا الأسرة النبوية موطن قداسة وعصمة، وأحبوا أن تتبوأ فى مجتمعهم المكانة التى كانت قبلا لآل ساسان... وبذلك تعكر رواء الإسلام فى أذهانهم كما يتعكر كوب الماء إذا سقطت فيه قطرة مداد..! إن الحقيقة العليا فى هذا الدين يجب ألا يشوب صفاءها كدر، وسواء انتصرت أو انهزمت فلا يجوز أن يتطرق إليها زيادة أو نقصان أو تحريف. إن اجتياح (التتار) لبلاد الإسلام وطيها لراية الخلافة فى بغداد، وتقتيلها ما قتلت من السادة والرعاع، إن ذلك المصاب أهون فى وقعه وأثره من شيوع مذهب المرجئة بين عوام المسلمين وظنهم أن الأعمال ليست ضرورة لصحة الإيمان. وعندما أنهض الإسلام جماعة الإخوان فى مصر كيما ينصفوا مبادئه ويذودوا عن ص _075(1/67)
حماه تنضرت وجوه كثيرة، وسرت حرارة الأمل فى أوصال المؤمنين، وتمشت إلى جانبها رعدة الخوف فى قلوب الفساق والظالمين، وسارت الدعوة تطوى المراحل البعيدة وهى تمر مر السحاب. وشرفها الذى تباهى به الأولين والآخرين أنها تتأثر بصاحب الرسالة العظمى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وتقبس من سناه. ثم جاءت المحنة الكبرى فقتل حسن البنا جهرة لا اغتيالا، واقتيد خيرة إخوانه إلى المنافى والسجون، وظل الإرهاب المسلط يجرعهم الغصص! ويتوقع منهم الفتنة حتى جاء نصر الله، فانجابت الغمة وعادوا أحرارا. أرأيت؟ كان شرف الدعوة التى قادها المسلمون أنها خطر على الإقطاع الزراعى والافتيات الرأسمالى، والاستبداد السياسى، لأنها صدى الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح لا يبقى حيث تسود وتتوكل هذه المفاسد الشائنة. غير أن حفنة من الملتحقين بالركب الإسلامى شاءت أن تعكر هذا كله، وأن تجعل حصاد ربع قرن هشيما تذروه الرياح. مَن ذا ينكر أن معرفة الله أساس الدين؟ وأن صلاح القلب ملاك الأدب؟ ولكن إذا كنت متدينا وجاءك الغريم يتقاضاك حقه، فما معنى أن تلويه عن غرضه بمحاضرة طويلة عن التصوف والزهد؟ إذا كانت للباطل صورة سمجة، أفتظن للحق الذى يراد به باطل صورة مستحبة؟ فى بعض الأقطار التى تدين بالإسلام لا تزال نظم الحكم أسوأ ما عرف العالم، فالفرعونية الحاكمة والقارونية الكانزة كلتاهما تنشب مخالبها فى عنق الشعب العانى المهيض.. وفى أيام قريبة ذهب داعية كبير إلى هذه البلاد، واجتمع الناس حوله يستمعون منه الحكمة وفصل الخطاب. ص _076(1/68)
واجتمع الجياع الحفاة يسمعون صوت الإسلام من الرجل المرموق (!) فإذا بمحاضرة تستغرق الساعتين عن.. غزوة الحديبية. ووقف الخطيب فى المحراب ليتملق حكام البلد المحروب ويزجى لهم الثناء ويوزع عليهم البسمات. وفى هذه المحاريب خسر الإسلام معارك ميسورة النجاح لأن الذى يحارب الظلم الاجتماعى والاستبداد السياسى رجل متكبر طائش يعيش فى محراب نفسه!! أما الذين هادنوا الظلم وساروا فى ركب الملوك، وحملت أبدانهم وبطونهم من هدايا القصور السادرة، فهم أهل المحاريب الطاهرة... وحسبى أن أنصح المسلمين بكلمات موجزة. إنه لا قيمة لحياة أشخاص أو مماتهم، ولا لبقائهم أو ذهابهم إذا ظللتم أنتم أيها المسلمون أوفياء للدين الذى قمتم على دعوته واستمددتم وجاهتكم عند الله والناس من العمل به والجهاد له. ودينكم بإزاء الفرد علم وتربية، فاحذروا على أنفسكم الجهال بالإسلام والفساق عن أمر الله، وأيقنوا بأن الله لا ينزل نصره على متجر بدينه إذا خلا بحرمة لله سطا عليها. ودينكم بإزاء المجتمع أخوة ووحدة. وتلك معان مستغربة فى دنيا الإقطاع والاستبداد حيث تظالم الطبقات ودسائس السادة والعبيد، فاحذروا على صفوفكم أذناب العهد البائد. احذروا الرجال الذين أذعنوا للعبودية يوم نشرت ظلامها فى الآفاق، ونكصوا على أعقابهم ضائقين يوم بدت طلائع النور الخافت.. لأنهم خفافيش.. خفافيش للأسف تزعم أنها وحدها صاحبة الحق فى الكلام عن الإسلام. ص _077(1/69)
ودينكم بإزاء الدولة عدالة، سبيلها الحكم بما أنزل الله. والرجل الذى يأبى الحكم بما أنزل الله فى خاصة نفسه وفى حدود إخوانه الأقربين لا يتصور منه أن يحكم بما أنزل الله بين الناس، وسيكذبه العالم كله يوم يزعم ذلك. فاحذروا على كيانكم هذا التطاول الذى إذا كره طارد العلماء المجاهدين، وإذا رضى قرب المداهنين والقاعدين، ثم ادعى بعد ذلك أنه يحكم بما أنزل الله. انسوا الأشخاص واذكروا دعوتكم على ضوء الإسلام وحده. إن العابثين بحقائق الإسلام الكبرى لهم مطامع لم تنته بعد. ومرة أخرى أقول لكم: إن الإسلام يحتاج إلى الهمم البعيدة والمشاعر الحية النابضة، فاحذروا الرجال الذين سقطت همتهم وبردت عاطفتهم وفرضوا موات أنفسهم على دين قام من نشأته بحب المحقين وبغض المبطلين. فالمتأمل يرى أنه من الواجب قمع الغرور الذى يستولى على أغلب العاملين فى البيئات الدينية، فيشط بهم بعيدا عن مرضاة الله وعن إقناع العقلاء.. وانظر إلى ما روى من أن أتباع زعيم دينى فى السودان تهافتوا على تقبيل سلم عربة السكة الحديدية التى سافر فيها. وقال الشعراء فى تحيته: (أعداء ذاتك عصبة فى النار)!! إن صلف الرؤساء وهوس العوام على هذا النحو جاهلية عمياء، وليست إسلاما قط. إن كلمة (أغمض عينيك واتبعنى) لا يمكن أبدا أن يقرها دين يؤمر رسوله بهذا البيان الواضح: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين". ص _07 ص(1/70)
فلنخدم الإسلام بقوة، ولنخدمه بنظام. أما إشباع نزوات الاستعلاء فى هذا، وكبوات الاستخذاء فى ذاك، بالكبر هنا، وبالهوان هناك، فأبعد ساحة عنه، ساحة يهتف فيها باسم الله ويفرض فيها العمل للإسلام. * * * فى أعقاب الفتن المشئومة التى تنال من كيان الأمة، مر الإسلام بمحنة قاسية وعوت تيارات الغزو الثقافى تريد أن تعصف ببقايا الإيمان، وأن تفض كل مجامعه، شرعت أنافح عن بقايا نهضة كان الأمل فيها متألق السنا ولكنها عن غرو أو قصور تعرضت لما تعرضت له. ونظرت فإذا وجه الحياة دميم، وملامح المجتمع منكرة، وأزمة الإيمان طاحنة، وتذكرت قول أم المؤمنين عائشة: ذهب الذين يعاش فى أكنافهم وبقيت فى خلف كجلد الأجربِ قلت: إننى ما أحسن الحياة إلا بدينى ولدينى، فماذا أصنع بإقرار هذه الوحشة السائدة والفتنة العمياء؟؟ وتذكرت عويف بن معاوية الفزارى وكان قد زوج أخته من عيينة بن أسماء الفزارى صديقه الحميم، إلا أن عيينة - لغير ما سبب معروف - طلقها. فغضب عويف، وقال: الحرة لا تطلق لغير ما بأس!! وعاش بعد مراغما لعيينة. ومضت الأيام وأمر الحجاج باعتقال عيينة وحبسه ووضع القيود فى يده. فلما بلغ الخبر عويفا هاجت فى نفسه ذكريات الود القديم وقال: ذهب الرقاد فما يحس رقادُ مما شجاك، ونامت العوادُ ص _079(1/71)
خبر أتانى من عيينة موجع كادت عليه تصدع الأكباد بلغ النفود بلاؤه فكأننا موتى ، وفينا الروح والأجساد لما أتانى عن عيينة أنه أمسى عليه تظاهر الأقياد! نحلت له نفسى النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد * * * وذكرت: أى فتى يسد مكانه بالرفد حين تقاصر الأرفاد؟ أم من يهين لنا كرائم ماله ولنا - إذا عدنا إليه - معاد؟ ووقفت عند بيت فى هذه القصيدة أردده كثيرا، وأظن أن الراوى حذف من قبله ومن بعده أبياتا تتصل بموضوعه. فى هذا البيت يقول الشاعر: يرجون عثرة جدنا ولو أنهم لا يتقون بنا المكاره بادوا وهو يعنى خصومه وخصوم صهره المعتقل الذى تظاهرت عليه القيود. يقول: إنهم يتربصون بنا الدوائر، ونحن الذين ندفع عنهم السوء، ولولا بطولتنا لبادوا..! والواقع أن الأمم قديما وحديثا تعتمد على أصحاب العقائد فى رد الحوادث السنود، فإعلان حرب الاستئصال عليهم لون من الانتحار. والأخطاء لا تحارب بالخطايا. ولعن الله من يبنى مجده على أشلاء العباد!! ص _0 ص 0(1/72)
ومن حقى أن أغضب، ففى الفكر الدينى المتأخر آفة تزرى به، ويجب أن يبرأ منها على عجل، وإلا تعرض لغضب الناس ورب الناس. إنه لا حرج أبدا من اختلاف وجهات النظر، لكن لا يجوز لصاحب رأى ما أن يحسب نفسه المتحدث الرسمى باسم الله ورسوله، وأن من عداه خارجون على الإسلام بعيدون عن الحق. إن مدرسة جمال الدين الأفغانى - محمد عبده - رشيد رضا من أجلّ المدارس الفكرية فى تاريخ الإسلام! وهناك جهود مسعورة بين السلفيين (!) لتلويث سمعتهم واتهام عقائدهم وجعلهم جواسيس على الإسلام. فهل هذه سلفية؟ وهل يلام من يعرى أصحابها؟ من حقى أن أقسو على جهلة يتطاولون على غيرهم يبغون الإجهاز عليه! ماذا يبقى للإسلام من ضياع رجاله، أو تحقيرهم والحط من شأنهم؟ والمدهش أن هذا الداء لا يزال باقيا، فترى غلاما يتحمس لحكم فرعى فى فقه العبادات يريد تكفير أبى حنيفة لأنه يخالفه! والإسلام لا يقوم بهذه الفوضى، والذى أرجوه ألا تتكرر مأساة الغلو والتطرف بين العاملين للإسلام، فيفقد بعضهم بعضا، ثم يفقدهم الإسلام جميعا ويخلو الجو لأعداء الله. ص _0 ص 1(1/73)
كتابات خدام السلاطين من سنين قرأت أن الشعب الفرنسي فى انتخاب حر قال: "للجنرال ديجول" لا أريدك..! فجمع الجنرال أوراق مكتبه ومضى فى هدوء إلى بيته.. والجنرال ديجول هو محرر فرنسا من الاحتلال الألمانى.. قلت: لو كان الجنرال عربيا فى بلد عربى لقال للشعب: أنا أُنَحَّى؟ إنك أحقر من أن تكون شعبا لى". إننى سأبقى لأؤدبك حتى تتعلم احترام العظمة..! قال لى صديق: أنت مخطئ، إنه لو كان فى بلد عربى ما أجرى هذه الانتخابات أبدا، ولو أجراها لهيأ كل شىء قبل خوضها ليخرج بالأغلبية الساحقة.. قلت: يظهر أن رأيك هو الأصوب..! وتدبرت الأوضاع السياسية فى الأمة الإسلامية ثم شعرت بغصة، لأن الدين القائم فى ظل هذه الأوضاع مطلوب منه أن يحسن القبيح ويقبح الحسن، وفى الدنيا منافقون لا تحصيهم عددا يرحبون بأداء هذه الوظيفة.. أهذا إسلام وأولئك حكام؟ لقد كانت أرضنا ـ قديما ـ تصدر الحق والشرف والصدق والأمانة، فماذا تصدر الآن فى سياسة الحكم والمال؟ والغريب أن ناسا يتخذون ما كتب فى عصور الاضمحلال نبراسا، ويظنونه دين الله ، وبذلك يضللون الأجيال الراغبة فى فهم دينها. والكتابة فى السياسة الإسلامية لا تقبل إلا من المصادر المعصومة ولا تقبل من خدام السلاطين ومداهنيهم، ومؤلفات هؤلاء منتشرة فى الأسواق مع الأسف. قال لى طالب جامعى: إنه قرأ ـ فى تسويغ خروج الحاكم على الشورى ـ موقف أبى بكر فى حرب الردة، وكيف مضى على رأيه رافضا رأى عمر بن الخطاب وجمهور الصحابة! وكان الخير فيما فعل.. ص _0 ص 2(1/74)
قلت له: فى هذا الكلام جملة أخطاء فاحشة، أولها أن مقاتلة المرتدين ومانعى الزكاة وأدعياء النبوة ليست رأيا اقترحه أبو بكر، أو اجتهادا خاصا به! إنه النص الذى ورد فى الكتاب والسنة، فأبو بكر ينفذ ما ثبت، ولا اجتهاد مع النص ولا شورى كذلك مع النص.. ولو كان أبو بكر حاكما مدنيا ما وسعه إلا إطفاء الفتنة المسلحة بالسلاح، فكيف وهو يعرف الأحاديث التى توجب قتال المرتدين حتى الموت، والقضاء على أضرابهم من الهمج؟ ثم من قال: إن الصحابة كانوا ضد هذا الموقف؟ ذاك كذب محض؟ صحيح أن عمر ثارت فى نفسه شبهة ما كادت تولد حتى ماتت، فما تحولت إلى رأى معارض أو موقف مناقض، إنها تشبه الذى عرض له عندما أنكر وفاة الرسول بادى الرأى، ثم ثاب إلى الحق بعد كلام أبى بكر، وكان أول من جند نفسه للعمل معه فى ميادين الكفاح التى مهدها. والذين يسوقون هذه القصة ليضرب الحكم الفردى عرض الحائط برأى الجماعة، يفعلون شيئين: الأول: الزعم بأن رؤساء المسلمين وملوكهم على مر الزمان هم فى مستوى أبى بكر، بل فى مستوى النبى نفسه، ولهم ما لهم من حقوق. الثانى: أن الخليفة الأول رفض الشورى! وأن الرسول كذلك لم يلتزم بها فى الحديبية! فلأصحاب الفخامة أن يفعلوا ذلك... وعلى أساس هذا الفقه المغشوش تذهب الشورى فى مهب الريح! ولا يولد لها جهاز صحيح. وقد رأينا أن رفض الشورى فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم وخليفته الأول اختلاق لا أساس له.. ولو فرضنا كذبا أن ذلك حدث فمن الذى يعطى ولاة السوء، وعباد المناصب حقوق النبيين والصديقين؟؟ ص _0 ص 3(1/75)
وقال لى طالب آخر: إن الأستاذ المودودى يختلف معك فى هذا التصوير للشورى الإسلامية! قلت: رحم الله المودودى وأجزل مثوبته، ما أظننى أختلفت معه فى شىء طائل، ولكن الملابسات التى أحاطت بالرجل جعلت أحكامه ما تفهم إلا فى ضوء هذه الملابسات. لقد أيد ترشيح أخت محمد على جناح لتحكم الباكستان، وفى ذلك ما فيه. وعندى أنه أفضل أن تحكم الباكستان امرأة من نوع "أنديرا غاندى" عن أن تحكمها عساكر من طراز "يحيي خان" الذى ما كان يفيق من سكر.. إن المرأة التى رأست الهند استغلت خيبة الحكام العسكريين للباكستان واستطاعت أن تلحق هزيمة فاحشة "بالفيلد مارشال يحيى" قصمت ظهر الدولة الإسلامية الكبيرة وشطرتها نصفين. وقد فعلت "جولدا مائير" بالعرب ما فعلت زميلتها الهندية.. ولو أن امرأة حكمت العرب من هذا الطراز لكان ذلك أجدى على العرب من عسكر وضعوا على صدورهم أعلى الأوسمة، فلما جد الجدل تحول عمالقة الاستعراض إلى معز وضأن.. إن امرأة على رأس حكم شورى أفضل من مستبد على رأس سلطة مغتصبة. وبديهى أن ذلك ليس هو النظام الأمثل.. والذى أذكره ـ من قراءة مر عليها ربع قرن ـ أن المودودى يرفض أن تعترض الشورى حق السلطة التنفيذية فى اختيار الوسائل والأدوات... وهذا مقرر فى الأنظمة الحديثة حيث لا تعترض السلطة التشريعية أعمال أختها التنفيذية.. أما القول بأن الإسلام أقر الشورى فى الحكم، وأعفى الحاكم من نتائجها، وأن البناء السياسى للأمة الإسلامية يقوم على هذا الأساس فذاك كلام باطل، وهو قد يقع على ألسنة لم تحسن دراسة الإسلام ولا تدبر تاريخه، ولا سير القافلة البشرية فى الشرق والغرب، ولا وظيفة الأمة الإسلامية فى العالم. ولا ويل للمسلمين إذا وقعت أزمتهم فى هذه الأيدى القاصرة. ص _0 ص 4(1/76)
وعلى الشباب المسلم إذا شاء أن يحترم دينه، أن يحسن فقهه، وألا تستفزه حماسة جوفاء وفتاوى جاهلة.. ولابد من تحديد مواطن الشورى، فربما ذهب البعض إلى أنها تدخل فى كل شىء! إن الشورى لا علاقة لها بالعقائد والعبادات والحلال والحرام، فهى لاتنشئ طاعة ولا تحل حراما، إنها كالاجتهاد لا مكان لها مع النص. ومع أن ذلك معلوم لدارسى أصول الفقه، فإن من هواة الكلام فى الإسلام جماعة رفضت أن تكون الأمة مصدر السلطة! لماذا؟ لأن الحاكمية لله لا للشعب. وظاهر أن ذلك لعب بالألفاظ، أو جهل بمعنى التشريع، أو خدمة للاستبداد السياسى. ولو راجعنا حصيلة المناقشات التى دارت فى مؤسسات الشورى، بالعالم كله لوجدناها تتصل بالشئون المدنية، وربط الموازنة العامة، وإحكام هيمنة الأمة على شئون الحرب والسلام.. وقد وقع شىء يتصل بالحرام والحلال فى الولايات المتحدة وإنجلترا، فمن نصف قرن تقريبا حرم ممثلو الأمة تناول الخمور والاتجار فيها، ثم وقعت فى أثناء التطبيق اضطرابات وهزات جعلت الحكومة تلغى التحريم بعد عدة سنين من الحظر. أما فى إنجلترا فإن مجلسى العموم واللوردات تحت تأثيرات قذرة لم يريا مانعا من إباحة صور من اللواطة. ولم تتيسر لى دراسة دقيقة لموقف الكنيسة من هذا وذاك، والظاهر أنها وافقت على اقتراف هذه الآثام.. ونحن المسلمين نعرف أن الحكم الشرعى هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، وأن الناس لا يملكون تحليلا ولا تحريما: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ". ص _0 ص 5(1/77)
وعندما نتحدث عن الشورى فإنما نعنى جميع الشئون الدنيوية والحضارية العادية. ثم جميع الوسائل التى تتم بها الواجبات الدينية، والأهداف الشرعية.. وعندما ترى الأمة أنه لا تفرض ضريبة إلا بإذنها ولا ينفق قرش إلا بإشرافها، ولا تقر مصلحة مرسلة إلا برضاها ولا تعلن حرب إلا بموافقتها.. الخ، فذلك حقها بداهة. إن ترك ذلك لتقدير فرد عبقرى أو يدعى العبقرية ـ وأكثر الحكام من أولئك الأدعياء ـ هو ضرب من الانتحار! وفى ربع القرن الأخير خاضت مصر حربا مع اليمن أفلست فيها خزانتها، وتعطلت مرافقها، ولا تزال دائخة من مغارمها إلى اليوم ذلك فوق عشرات الألوف من القتلى والمصابين.. وقد فعل ذلك حاكم زعم لنفسه أو زعم له المنافقون حوله أنه فلتة الدهر بعد مينا وعمرو! أفلو كانت هناك مؤسسة محترمة للشورى كان يقع هذا الخراب؟.. ثم إنى أسأل: لمصلحة من يصور الحاكم فى الإسلام على أنه رجل ذو سلطات خيالية، الخضوع لها إيمان والانحراف عنها خسران؟؟ قال عمر بن الخطاب لرجل قتل أخاه فى إحدى الحروب: والله لا أحبك! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أيمنعنى ذلك حقا لى؟ قال عمر: لا... فقال الرجل لا شىء إذن، إنما يأسى على الحب النساء..!! ولست ممن يرتضون سيرة هذا الأعرابى الجلف.. ولكننى أحببت أن أومئ إلى أن الحكم الدينى ليس كهانة وزلفى.. وينبغى أن نفرق بين الولاء للدولة والولاء لشخص الحاكم. إن الولاء للدولة حق، والانحراف عنها مزلقة إلى الخيانة العظمى، وقد رأينا فى تاريخنا صحابة وتابعين يخدمون الدولة الإسلامية فى ظل الإدارة الأموية ـ بتعبير عصرنا ـ وهم يكرهون نوع الحكم وسلوك رجاله.. *** ص _0 ص 6(1/78)
الانتخابات بدعة!!!! كثيرا ما رمقت المعارك الداخلية فى تاريخنا الإسلامى ثم حدثت نفسى: ماذا لو أن النزاع بين على ومعاوية بت فيه استفتاء شعبى، بدلا من إراقة الدم.. ولو سلمنا بأن الأسرة الأموية تمثل حزبا سياسيا له مبادئ معينة، فماذا عليها لو تركت آل البيت يكونون حزبا آخر يصل إلى الحكم بانتخاب صحيح أو يحرم منه بانتخاب صحيح؟ قال لى متعالم كبير: إن الانتخاب بدعة! قلت له: وسفك الدم واستباحة الحرمة هو السنة؟ قال: إن الغوغاء لا رأى لهم.. قلت: ألم يكن هؤلاء الغوغاء هم سواد الجيوش المقاتلة مع هذا وذاك؟ قبلناهم مقاتلين ولم نقبلهم ناخبين؟! إننى ـ باسم الإسلام ـ أرفض الأخطاء التى وقع فيها حكامه القدامى والمحدثون.. ليس لأحد من أولئك جميعا حصانة تجعله فوق النقد.. الذى أعلمه من دينى أن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ رحمة للعالمين، وبركة نامية للمستقدمين والمستأخرين، وأن الأمويين والعباسيين والعثمانيين يقتربون منه أو يبتعدون بمقدار وفائهم لله أو غدرهم بوحيه الخالد. وتقاليد الحكم خلال هذه العصور هى كأى موروثات أخرى ينظر إليها على ضوء الإسلام ولا ينظر للإسلام على ضوئها. ومرة أخرى أؤكد أن أوضاعنا السياسية تؤخذ من المصادر المعصومة لا غير. ونظام الانتخاب كنظام الامتحان أجدر المقاييس بالإيثار والإبقاء وإن كان كلاهما يحيف. وقد سمعت كثيرين يزرون على رأى العامة، ونظرت إلى ما يطلبون من عوض فلم أر شيئا. إننى أحتقر الجاهل الذى يقال له: تعلم! فيقول: أخشى الترف العقلى، وأحتقر البائس الذى يقال له أقبل على المال! فيقول: أخشى طغيان الغنى. وأحتقر متحدثين عن الإسلام يستكينون فى ظل أحقر استبداد، فإذا حدثتهم عن ص _0 ص 7(1/79)
عمود الشورى فى الإسلام قالوا: ذلك رأى الرعاع!! والأمر لأهل الحل والعقد لا للرعاع.. وكيف يوجد هؤلاء المأمولون المنشودون المسلمون أهل الحل والعقد؟ إن كان اختيارهم للحاكم فالأمر كما قال أبو الطيب: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.. وإن كان لجمهور الأمة، فلابد من الانتخابات. وسوف يفهم من كلامى أنى أحبذ الأسلوب الغربى فى الحكم، وربما كان هذا بعض ما أرى، أما رأيى كله فإنه قبل الاقتباس من أى نظام عالمى للوسائل التى تحقق قيمنا الفريدة ـ يجب إحداث تغييرات جذرية فى الطريقة التى نحيا بها.. لقد كنا فيما مضى طليعة هادية.. ثم أطفأنا نحن ما بأيدينا من مصابيح.. ثم شاركنا الهمج حياتهم.. ثم تقدموا هم وبقينا فى السفوح.. ثم بدأنا نشعر بأوضاع الهزيمة وأشواق الرفعة، وبعد سبات عميق شرعت قافلة الإسلام تتحرك. بيد أن العالم الإسلامى الطويل العريض لا يزال يموج بجماهير وحكومات لما تبلغ سن الرشد.. والعمل الأول هو كيف ينضج ذلك الركام الكثيف من الخلائق..؟ والأمر لا يحتاج إلى فلسفة عويصة.. فلنشرح ما نريد ونحن نستقبل القرن الجديد.. نظرت إلى القلم الذى أكتب به فوجدته أمريكى الصناعة.. وإلى ساعة يدى فوجدتها سويسرية.. وإلى المنظار الذى يعيننى على الإبصار فوجدته من ألمانيا.. وإلى الحذاء الذى أسير فيه فوجدته إيطالى الصنع. ثم إلى الثوب الذى أرتديه فوجدت المصدر من الصين الوطنية ولكن الحياكة عربية.. أما الملابس الداخلية فهى من مصر ثم تذكرت أن الآلات التى نسجتها من أوروبا.. وأخيرا نظرت إلى السيارة التى تقلنى إلى عملى فكانت من اليابان..!! ماذا صنعنا نحن؟ لا شئ! هل العالم كله منتج ونحن مستهلكون؟ ذاك شئ يخزى.. وقلت: إنهم متقدمون فى مجال الصناعة ـ أعنى غيرنا ـ ولنا مجال آخر. ص _0 ص ص(1/80)
ووقعت عينى على صحيفة محلية بها إعلانات شتى، هذا عن الدجاج الفرنسى، وذاك عن التفاح الفرنسى، وهذا عن الكعك الفرنسى.. وأنا أعرف أن طائرات "الميراج" الفرنسية سلاح محذور، وأن مهارة الفرنسيين فى الآلات الكهربية والإلكترونية شىء يتحدث به الخبراء.. إن تقدم "غيرنا" ملحوظ فى كل مجال! فماذا نصنع نحن؟ وصدمنى الجواب المر، إن شعوبنا تعانى التخلف الذى يعانيه طفل يسير وراء أبيه، أو تلميذ وراء أستاذه!! إننا شعوب لما تبلغ سن الرشد، سن الإنتاج والاستقلال والاستغناء.. لماذا؟ لأنه ليس للعرب والمسلمين منهج عمل إسلامى، بل ليس لهم ولاء عارم للإسلام وتشبث ظاهر بعقائده وأخلاقه ومثله وشرائعه.. ومن ليس له من ذاته ما يحركه ويوجهه لا يستغرب منه أن ينجر وراء الآخرين.. وقد لاحت فرصة ليقظة أساسها الإسلام لما أقبل اليهود باسم التوراة يمحون الوجود العربى الإسلامى فى فلسطين.. ولكن الزعماء العرب استماتوا فى جعل قضية فلسطين جنسية لا إسلامية، وبلغوا هدفهم. والقضية الآن من وجهة نظر اليهود دينية توراتية أما من وجهة نظر العرب فهى... توفير الخبز والسلام والحرية لجماعات من المطرودين اللاجئين. وإذا ذكر أحد الإسلام كمم فمه وغلت يده وسمى رجعيا. أما إسرائيل فهم تقدميون! شرفاء! هل اتضح معنى ما قررته من أن الشعوب والحكومات العربية لما تبلغ سن الرشد؟ إنها فى وصاية غيرها ماديا وأدبيا، إنها عالة على غيرها فى طعامها وسلاحها جميعا. وقد هبطت إلى ذلك الدرك لخوائها الروحى والفكرى.. ومسئولية ذلك التخريب تقع على عواتق نفر من الفقهاء والدعاة والرؤساء والساسة.. وإذا كنا فى القرن الخامس عشر مستصحبين عوامل الهبوط فلن تزداد أمورنا إلا خبالا. يجب أن نراجع أنفسنا على عجل كى نضمن الحياة لديننا ولأنفسنا.. ص _0 ص 9(1/81)
حول تطبيق الشريعة إن خدمة الإسلام فى هذا العصر عمل صعب معقد يحتاج إلى تجرد تام وفقه رحب. فأمام ركام من المواريث الثقافية والاجتماعية لابد من جراحات جريئة لبتر البدع والأوهام والمراسم التى تغلغلت فى حياتنا الخاصة والعامة وأفسدت نظرتنا للدين والدنيا.. وأمام ركام من التقاليد التى رمتنا بها الحضارة الغالبة لابد من بصر دقيق بما ينفع وما يضر! دون تشاؤم قابض أو ترحيب غافل.. إننى أحيانا كنت أغلغل البصر فى النظام الشيوعى نفسه لأتعرف الجوانب التى تجتذب الجماهير، والتى قد تكون بها أثارة من حق، فقد تكون مأخوذة من تراثى أنا، فإنى أذكر من سيرة "كارل ماركس" أنه قرأ كتاب الخراج "لأبى يوسف". ويوم آخذ هذا الجانب فهى بضاعتنا ردت إلينا. ثم إننى محتاج إلى الاستفادة من نشاط العقل البشرى فى كل قارة وفى كل حضارة إذا كان هذا النشاط يدعم قيما مقررة عندى.. وأخيرا أجدنى مضطرا لذكر أمر مثير سوف يصطدم به خدام الإسلام الصادقون! هو الحقد المتنقل على مر القرون ضد محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته الخاتمة.. إن الصهيونيين والصليبيين والملحدين والعلمانيين من وراء المجازر الرهيبة التى تعرض لها الدعاة وجمهور المؤمنين فى أرجاء العالم الإسلامى الكبير. وقد استبنت أن مصطفى كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر كانا مخلبين قط فى مؤامرات محبوكة للإجهاز على الإسلام وبنيه، وقد تتكرر المؤامرة وتتعدد المآسى، وعلى المسلمين أن يصمدوا فإما الشهادة وإما النصر... على أن حركات الجماعات العاملة للإسلام هى السبب الأهم وراء انتصاراته وهزائمه، ولنقف وقفة متدبرة عند هذه القضية. إن الإسلام عقيدة وشريعة ما يشك فى ذلك عاقل، وتطلعه إلى أخذ مقاليد الحكم اتجاه طبيعى لتحقيق أهدافه. ص _090(1/82)
بيد أن الترتيب المستفاد من تعاليم الإسلام أن تكوين الدولة يتم بعد تكوين الفرد، وأن وضع النظام يجىء بعد إنضاج الإيمان، وقد تنزلت آيات الأحكام بعد مهاد عريض من اليقين والإخلاص وإرادة الآخرة.. إن التطلع إلى الحكم كما يكون لإعلاء كلمة الله قد يكون لرغبات خاصة كامنة أو مكشوفة..! والحكم الإسلامى قبل أن يكون لمعان أسماء أو تسنم مجد، هو تفانٍ فى الله ورغبة فيما عنده.. وإلا فالأمر كما قال الله : "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون". وقد كنت أعظ نفسى وإخوانى بهذه الحقائق من ديننا، وأقول: إنه قبل أن يكون المرء صاحب منصب رسمى يستطيع أن يؤدى للإسلام أجل الخدمات فى الميدان الثقافى والاجتماعى.. والذين يسوفون فى البلوغ بأمتهم سن الرشد ـ حتى يتسلموا أزمة الحكم ـ لن يفعلوا شيئا طائلا حين يحكمون. وقلت ـ لنفسى وإخوانى ـ: إن الحكام فى الشرق العربى والإسلامى يعدون المناصب حياتهم.. فالرئيس أو الوزير فى أوروبا مثلا قد يترك وظيفته ويسير آمنا فى أية مدينة أو قرية.. أما فى شرقنا العليل فإن عددا من الزعماء إذا ترك الحكم تابعته ترات قد تودى به، وتخترم أجله، ومن ثم فإن حرصه على الحكم لون من دفاعه عن حياته.. ورؤساء كثيرون يشعرون بالخطر على أشخاصهم إذا أحسوا أن الدعاة المسلمين ينشدون الحكم أول ما ينشدون.. ومن أجل ذلك فهم يشمون رائحة الموت من وراء المطالبة بالحكم الإسلامى. ونحن المسلمين لسنا قتلة، ولا تحركنا عداوات خاصة، ولا نطلب الحكم لنحيا ويفنى غيرنا.. ص _091(1/83)
ويسرنا أن نكون فى الصف الثانى إذا احتل الصف الأول من يحقق مراد الله .. وفى الصف الثانى مجالات هائلة لمن يريد أن يسدى للإسلام يدا، وإذا كان حجم ما يتم فى هذا الصف قليلا، فلا ضير علينا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. من أجل ذلك أطلب بإلحاح أن تنشغل الجماعات الإسلامية بترقية شئون الأمة فى نطاق ما تقدر، ويجب أن تعلن باستمرار أن الإسلام دين ودولة، ولكن هذا الإعلان لا يجوز أن يكون عملها الشاغل.. إن الأمراض النفسية بالغة الخفاء شديدة الخطر، وتحقق لى ذلك ـ فى صفوف المتدينين ـ كنت أرقب الحرب بين المجاهدين الأفغانيين والزحف الشيوعى المجتاح للبلاد..!! كانت هناك ست جبهات أو ست طوائف تقاوم غارة أولئك الكفار المجرمين، وقد حاول أولو الألباب جعلها جبهة واحدة وبذلوا جهودا موصولة لإزالة الفرقة، وكان نجاحهم جزئيا ولا تزال المحاولات تبذل..!! إن قلب الإسلام مهدد بالتوقف فى أفغانستان، والموت يأتى من كل جانب ومع ذلك فالرؤساء الكبار حراص على مناصبهم أو على زعامتهم..!! إن فى ذلك مؤشرا إلى مهاب الهلاك، ومصادر العطب.. وإذا كان نصر الله يتنزل فى هذه الميادين القصية فمن أجل الجنود المجهولين وذوى الكفايات الذين لا يُعرفون إذا حضروا ولا يسأل عنهم إذا غابوا..! لقد استيقنت من تجاربى أن قلة الفقه سوء كبير! لكن غش النية سوء أكبر.. هناك مسلم "سلفى" يموت ولا يضع يده فى يد مسلم "صوفى"، هل هذا يصلح للدفاع عن الأمة أو السير بتعاليم الإسلام فى الميدان الدولى؟؟ وهناك مسلم يرى أن العمامة لباس الإسلام الرسمى، ويجب أن يكون لها ذنب، ويرفض الصلاة وراء من لا يرتدى هذا الزى، أذلك امرؤ يصلح للدفاع عن الإسلام أو السير به فى الميدان الدولى؟؟ إن أمتنا مصابة من الناحية الفكرية والخلقية بعلل شتى، وكل جماعة تؤخر علاج ص _092(1/84)
هذه العلل، وتجعله فى المرتبة التالية، فهى هازلة فى جهادها، متهمة فى قصدها.. وقد أشرت إلى الخلل الهائل، الموروث أو الطارئ، فى كياننا الدينى، وبقى أن نتكاتف ضده.. ونعود إلى ما بدأنا به.. إذا كان هناك أقوام اختصموا فى ربهم فنحن المسلمين طرف فى هذه الخصومات الباقية إلى آخر الدهر... نقول لمن ينكر وجود الله : كذبت، الله حق! والكون كله خلقه الفقير إليه، القائم به! ونقول لمن يرى الآلهة ثلاثة أو أقل أو أكثر: ضللت فالله واحد، وما عداه عبده سواء كان ملكا أو إنسا أو جنا.. ونقول لأهل الأرض كلهم: إن محمدا رفيع الشأن، عرف الناس بالله أحسن تعريف، وأعدهم للقائه بعد الرحيل عن هذه الدنيا بأمرين، الإيمان والصلاح: "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور". ومن حق الإسلام أن يحيا، ويبقى وينمو، ويمتد! ما دام هناك مستمسك به، راغب فيه. ولكننا نشعر بأن أعداءه يضنون عليه بهذا الحق، ويحاولون بالختل والجهر القضاء عليه، أو تقليص وجوده فى أضيق نطاق.. وقد استطاع أعداؤنا ـ بتفريطنا وخبثهم ـ أن يحرجونا وينالوا منا ويذلوا جانبنا.. ولكننا صحونا من غفوتنا، أو قمنا من كبوتنا، وشرعنا نؤكد وجودنا، ونوصد أبواب الفتنة التى انفتحت علينا من شرق وغرب..! وأحب أن تربو مشاعر الثقة فى قلوب المسلمين الذين كتب عليهم أن يكونوا قلة فى أوروبا أو أمريكا أو آسيا أو إفريقيا، وأن يستمدوا هذه الثقة من أنهم وحدهم الذين يعرفون الحقيقة التى بلغها أنبياء الله، وأن مواريث السماء التى معهم لا تحريف فيها ولا غلو ولا إفك..!! ص _093(1/85)
إن الباطل لا يرفع خسيسته أن يكون صاحبه غنيا أو قويا. المهم أن يكون أهل الحق صورة مشرفة له مترجمة عنه.. فى إنجلترا وفرنسا ملايين من المسلمين، إن هذه الملايين بين مائة مليون من البشر التائهين عن الله يمكن أن يكونوا هداة مقدورين، وأساة مشكورين، يوم يكونون مسلمين حقا. وسيكونون سبة للإسلام، وسدا دونه يوم تكون عقائدهم زائغة وخلائقهم هابطة. إن حساب العدد يختفى، ويبرز حساب الكيف والأثر فى بيئات كثيرة.. والهزيمة أو النصر شعور داخلى قبل أن تكون ظروفا خارجية. كان أحد العسكريين ـ فى الخمسينات أو الستينات ـ يحدثنى عن قطاع غزة، وأنه خمسون ميلا على ساحل البحر فى عرض عدة أميال من فلسطين المحتلة، وإن الدفاع عنه عسر! قلت له: هذا الشعور أول أسباب الهزيمة، إن الجندى الجريء الجسور يشعر بأن القطاع ـ فى شكله الحالى ـ رأس حربة ينفذ منها إلى بقايا الوطن المغتصب، ويعده كسبا لا عبئا، أما الخور فيتحدث عن الوضع باللغة التى تقول. إن الأقليات الإسلامية فى العالم تبلغ ثلاثمائة مليون أو يزيدون كما ذكرنا أول هذه الرسالة، وهذا العدد إذا كان اتصاله بالإسلام عن طريق شهادات الميلاد، فإن عشر هذا العدد من الوثنيين المشركين سوف يغلبه، ويلحق به الخسار.. وعندى حديث آخر إلى المسلمين الذين يعيشون كثرة فى بعض أقطار إفريقية، كثرة تبلغ 70% فى تنزانيا و95% فى السنغال. إن هذا الوضع شاذ بالغ الشذوذ ويجب أن يتغير لا بالحماس الطائش ولكن بالإعداد الذكى، والخطى المدروسة. ص _094(1/86)
لقد اتضحت سياسة القوى المعادية للإسلام، فقد قسمت الكيان الكبير أكثر من سبعين قطعة، ثم وفرت لكل قطعة من العوامل المادية والأدبية ما يجعل الإسلام فيها يذبل ويتلاشى على مر الأيام.. والخطة واحدة فى الأجزاء التى سميت دولا مستقلة، والأجزاء التى يحيا فيها الموحدون قلة منقوصة منكورة. ولعل من إخواننا المتفرغين من يشرح فى رسائل صريحة كيف تم صنع خمسين دولة فى إفريقيا وآسيا يتيه فيها المسلمون، ويحيون دون رباط روحى أو فكرى ودون كيان اجتماعى أو اقتصادى.. وكيف شغلوا الجماعات الإسلامية فى الدول المستقلة بقضايا سخيفة، ومعارك خاسرة.. وكلمة أخيرة إلى المسلمين فى دولهم المستقلة: إن الفرق بين العالم الأول والعالم الثالث لا يرجع إلى أن المتفوقين قادرون على غزو الفضاء وصنع الطائرات العملاقة، إن هذا مظهر التفوق لا سببه. الواقع أن الفرق هو النشاط الذهنى عند هؤلاء والكسل الذهنى عند أولئك، هو غزارة العلم هنا وضآلة العلم هنالك، هو توفير الفرص لنمو الأقوياء فى الشسعوب المتقدمة، وتوفيرها لنمو التافهين والسفلة فى الأمم المتخلفة.. أى أنها أسباب خلقية ونفسية قبل أى شىء آخر.. ويستطيع المسلمون المخلصون أن يقهروا العقبات التى تعترضهم فى هذه الميادين مهما كانت جسيمة.. ونحن لا نكلفهم بصنع المعجزات، فلينظروا إلى خصومهم اليهود وكيف تحملوا التحريق والتمزيق وصنعوا من آلامهم جسرا عبروا عليه إلى أرضنا وعرضنا.. ص _095(1/87)
إننا نمثل أصدق وأقدس رسالة لعبادة الله ، وترشيد الحياة وتكريم البشر.. وعلى العرب أن يعرفوا فضل الإسلام عليهم، وأنه إكسير وجودهم وبقائهم، لقد دخلوا به التاريخ فلما خانوه خرجوا من التاريخ أذلة مطرودين. نعم، هل العروبة هى التى هزمت فارس والروم؟ لو أن العرب خرجوا من جزيرتهم يحدوهم عمرو بن كلثوم ببيته المشهور: ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا! لضربوا بالنعال على حدود الدولتين العتيقتين، ولكنهم خرجوا وراء عمر الخاشع لربه المتساوى مع خادمه الذى خاض بقدميه بركة ماء دون تأفف وهو يقول: كنا أذل الناس حتى أعزنا الله بهذا الدين فمهما ابتغينا العز فى غيره فلن نفلح.. على هذه الهيئة التقية الخبتة لله تسلم مفاتيح بيت المقدس.. ونقولها لعرب اليوم بصوت عال: إن فلسطين لن يحررها إلا جيش مسلم، أما تجمع العرب بلا دين فلن يحرر جحر نملة.!! ويجب أن يكون ولاؤنا للإسلام جادا، متقدما على كل ولاء آخر للتراب أو للدم. ومقتضى هذا ألا ينقطع لنا جؤار بضرورة إلغاء القوانين الاستعمارية وجعل الشريعة الإسلامية المصدر الأوحد للقوانين كلها، وإنعاش المعاهد الإسلامية المتخصصة حتى تستطيع سد كل ثغرة وإجابة كل مطلب. إن محو الإسلام فى ميدان التقنين كان العمل الأول للاستعمار يوم عسكرت جيوشه فى بلادنا، ومشت تختال على أنقاضنا، ومقدساتنا المهشومة. من أجل ذلك لا ينبغى التسويف فى إعادة الحياة للشريعة التى أماتوها، ورد مكانتها الرسمية المقصاة.. ص _096(1/88)
وسوف يقاوم ذلك الأعداء التقليديون للإسلام الراغبون فى محو معالمه وفض أتباعه. وبديه أن ينضم إليهم سماسرة جدد، هم الشيوعيون الحانقون على كل ما له صلة بالسماء.. لقد تضافر هؤلاء وأولئك على محاربة الشريعة المبعدة، وافتراء الأكاذيب عليها وعلى رجالها، ولا دافع لكل هذا الغل إلا الكفر بالله ورسله.. دهشت لأستاذ جامعى كبير كان مربوط اللسان مكسور القلم أيام الاحتلال الإنجليزى، وما عرف له فى المقاومة العامة تاريخ ولا شبه تاريخ.. وبغتة أخذت الصحف تنشر مقالات ملتهبة للرجل الذى سكت نصف قرن عن الإسهام بكلمة فى الحياة العامة، كلمة لها قيمة وبعد.. ماذا يريد هذا المتحرك المفاجئ؟ شتم المطالبين بتحكيم الشريعة والزعم بأن قطع الأيدى يتم فى "الشفاخانات"..!! إن الرجل الذى لم يعرف بالدفاع عن وطنه أصبح مدافعا عن اللصوص وسنجد فى الطريق كثيرا من هؤلاء "الأذكياء" ولن يعوقوا القافلة السائرة.. وعلى جماهير العرب أن يرفضوا تهويد أى بلد من بلادهم أو علمنته أو تنصيره، إن ذلك معناه سقوط ما يسمى بالشرق الأوسط فى براثن الاستعمار العالمى، وعندما يضرب القلب فلا قيمة للأجنحة. إن هزائم القرن الرابع عشر الهجرى أغرت بنا من لا يدفع عن نفسه، ولقد تناوبتنا اللطمات على الخد الأيمن والأيسر، وشعرنا بمعاناة هائلة من كثرة ما نالنا.. لا بأس، نحن الذين مكنا أعداءنا بنومنا الطويل، واسترسالنا مع الأوهام، ولم نع قول ربنا: "ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة". ص _097(1/89)
واليوم، ومع مطالع القرن الجديد تدق طبول اليقظة. إننا سنحيا برسالتنا وسنحيا لها: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".. أظننا لن نحرز نجاحا يذكر خلال القرن الجديد إذا بقينا على فقهنا الضيق المحدود الذى عشنا به خلال القرون الأخيرة، فإن هذا الفقه لم يعالج الخلل المتوارث فى علاقة الحكومات بالشعوب، ولم يساند الحريات الصحيحة، ولم ينم القدرات على علاج الأخطاء السياسية والاقتصادية الشائعة فى بلادنا.. وفى بلادنا تقاليد ربما كرهت الحرام ـ أو الرذيلة ـ لأن فى الضمير الدينى بقية حياة.. ولكن هذه التقاليد لا توسع دائرة الحلال، ولا تزيح العوائق المبعثرة فى طريقه، فكانت النتيجة أن حرمة الزنى مثلا بقيت! ويجب أن تبقى ـ ولكن الزواج تكاثرت حوله الصعاب، حتى يئس البعض من مناله.. وهذه السلبية فى الفكر الدينى ترشحه للموت، ولا تؤهله للحياة.. ومثل ذلك إجماع أهل الدين على أن الظلم حرام، والكذب حرام ومع ذلك فهم يسكتون سكوت المقابر إذا وقع تزوير عام فى انتخابات لخدمة فرد، كأن الكذب يستنكر إذا كان بسيطا، ويسلم له إذا كان مركبا.! ومن المستحيل أن تصلح الأوضاع السياسية للمسلمين إذا كان الدين فى وعيهم يهتم بفقه الحيض والنفاس، ولا يكترث لفقه المال والحكم، بل إن مستقبل المسلمين كله سيخضع للحديث الصحيح "لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوى غير متعتع". ص _09 ص(1/90)
الاجتهاد الجماعى فى العصر الحاضر إن الكلام عن الاجتهاد فى الدين أصبح الشغل الشاغل عند كثير من الناس علمائهم ومثقفيهم وغيرهم فى القرن العشرين. وأخذ كل واحد منهم يبدى رأيه فيه ويفسر الفكرة من وجهة نظره الخاصة، وبقدر ما ازداد الخوض فى الحديث عنه تعقد الأمر وبعد عن التجلى والوضوح، فقد اشترى بعضهم لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، واعتبر الاجتهاد رخصة مفتوحة للناس ليتقولوا فى دين الله الأقاويل ويتخذوا من الآراء فى أمور الشريعة حسبما اشتهت نفوسهم ويدخلوا فى الدين ما ليس منه، ويخرجوا منه ما جاء به الشارع وتعاملت عليه الأمة، وكل ذلك باسم الاجتهاد والتجدد والتمشى مع متطلبات الزمن، أو حجة عيشنا فى القرن العشرين ظانين أن الإنسان لم يعد إنسانا فى هذا القرن وصار مخلوقا غير الذى كان، ولذلك أصبح فى غنى عن الهداية السماوية بعد تطويره العلوم التجريبية وبعد حيازته على القنابل المدمرة والصواريخ المهلكة ووسائل المواصلات السريعة، وأمثال هؤلاء كثيرون فى جميع البلاد الإسلامية، وكأنهم اتخذوا الغرب إلها لهم إما شعوريا أم غير شعورى، ثم عكفوا على ترميم بنيان الإسلام وتصميم مبناه على طراز الفكر الغربى.. ويمثل هذا الاتجاه سيد أحمد خان، وطه حسين وعلى عبد الرازق، وتأثر بهم أناس كثيرون. ولا أنكر أن هؤلاء وصلوا إلى نتائجهم بإخلاص نياتهم للإسلام والمسلمين. ولكن لاشك أن إخلاصهم لا يمنحهم أى شهادة بكونهم على حق فى آرائهم التى أثرت تأثيرا عميقا فى أذهان طائفة من الناس.. وقد ساعدت الظروف الاستعمارية السياسية والفكرية والاقتصادية، على تعميق هذا التأثير، وتكونت لديهم عقلية منهزمة ص _099(1/91)
مستعبدة طغت عن رب موسى وهارون وآمنت برب ماركس وقارون، ألا وهو المادة التى هى أكبر صنم صنعته البشرية واتخذته إلها. ونرى على جانب آخر طائفة أخرى اتخذت موقفا فى النهاية الأخرى لا تفهم الشريعة إلا فى لغة القرن العاشر، وتقدم صورة جامدة وراكدة للشريعة لا مجال فيها للاجتهاد والتفتح البتة، ولا يتجاوز فهمهم ودرايتهم بعض كتب الفتاوى والنصوص الفقهية.. فصار معنى التفقه عندهم فقه الفقه ومعرفة آراء المتأخرين وليس فقه الشريعة من مصادرها، وكل من الاتجاهين نتيجة لرد فعل أحدهما على الآخر، وربما كان ظهور الاتجاه التحررى السابق سببا فى توطد هذا الموقف وتصلب أصحابه على آرائهم الجامدة. وقد استمر هذا البعد فى زاويتى نظر هاتين الطائفتين المتطرفتين منذ وقت طويل، ولا زال قائما بينهما وأصبح العلماء فيها طرائق قددا. فمن قائل يقول: إن باب الاجتهاد مغلق لا يدخله أحد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يدخله أحد بعد القرن الرابع الهجرى.. وهناك من يقول: إن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه ويرحب بكل من هب ودب ويدعوه أن يدخل فيه ويشوش الأذهان ويحدث بلبلة فى الأفكار. وهناك من يتقول أقاويل لا فائدة بذكرها هنا، فإن ذلك يطول به الكلام. وإذا رأينا إلى هذه البلبلة الفكرية والفوضى العلمية لا ندرى أشر أريد بمن فى الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا. * كلمة عن الاجتهاد وأنواعه: اتفق العلماء على تعريف معنى الاجتهاد، بيد أن عباراتهم فى وضع تعريف هذا الاصطلاح تختلف من فقيه إلى فقيه. ولكننا ننقل هنا عبارة الإمام الغزالى. فالاجتهاد عنده عبارة عن: بذل المجهود واستفراغ الوسع فى فعل من الأفعال ولا ص _100(1/92)
يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد... (وفى عرف الفقه): بذل المجتهد وسعه فى طلب العلم بأحكام الشريعة . والاجتهاد له عدة أنواع فله نوعان من حيث المجتهد فيه: الأول: هو الاجتهاد فى دائرة النص، وهو يتضمن الاجتهاد فى معرفة القواعد الكلية التى هى الدليل الإجمالى كاجتهاد الحنفية فى دلالة العام والمطلق أنها قطعية فى مدلولها فلا يخصصها ولا يقيدها خبر الآحاد إلا إذا صارت ظنية بالتخصيص والتقييد، أو كاجتهاد الشافعية فى أن دلالة العام والمطلق ظنية فتخصص بخبر الواحد. الثانى: الاجتهاد بطريق النظر، يتضمن قياس المجتهد فى أمر لا نص فيه ولا إجماع على ما ورد فيه نص أو حكم مجمع عليه، كما يتضمن استنباط الحكم من قواعد الشريعة الإسلامية العامة مما أطلق عليه بعض الفقهاء اصطلاح الاجتهاد بالرأى. حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم : إن حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم أكبر بكثير من حاجتنا إليه بالأمس فهناك كثير من القضايا والمشاكل التى تتجدد كل يوم، وكل شمس تطلع على الأمة المسلمة تأتى بمجموعة جديدة من القضايا والمسائل التى تتطلب الحل فى ضوء الشريعة الإسلامية، ونذكر على سبيل المثال بعض المشاكل المعاصرة التى تدعو إلى ممارسة الاجتهاد لإيجاد حلول إسلامية لها: 1 ـ دور الإسلام والمسلمين فى البيئات التى يشكل فيها المسلمون أقلية، وخاصة فى البلاد الديموقراطية العلمانية التى لا تعترف بوجود أى دين على نطاق رسمى، ص _101(1/93)
فيواجه المسلمون فيها عددا من القضايا التى تنتج من هذا الوضع الذى لم يعالجه فقهاؤنا الكبار، وذلك لأن المسلمين فى عصور أجلاء الفقهاء لم يواجهوا هذا الوضع. 2 ـ علاقاتهم مع غير المسلمين فى دول علمانية (هل نعتبرها دار الحرب أو نعتبرها دار العهد، أو نضع قسما خاصا فى ضوء أوضاعنا الحالية؟). 3 ـ دورهم فى دول ملحدة ولا دينية، لا تسمح بوجود أى نشاط دينى بين المواطنين. 4ـ هل يكون دورهم فى بلاد غير مسلمة دورا سلبيا انفعاليا أو دورا إيجابيا فعالا؟! 5- كيف تنظم العلاقات الإيجابية البناءة بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين النظم الحديثة، فالانتخابات والتصويت، والمجالس النيابية وكيفية تنظيم الشورى وما إليها من النظم الحديثة تحتاج إلى استقرار الرأى الإسلامى المجمع عليه. 6 ـ ميكانيكية لبناء هيكل اقتصادى حديث مستمد من أحكام الشريعة ومستهدف لتحقيق مقاصدها. ولكن قبل أن نتكلم عن دور الاجتهاد فى حل هذه القضايا يجدر بنا أن نقول: إن الاجتهاد نوعان عند من يقول بإمكان تجزؤ الاجتهاد: 1ـ اجتهاد مطلق فى جميع الأحكام الشرعية من أولها إلى آخرها. 2ـ واجتهاد مقيد، وهو اجتهاد فى حكم دون حكم، وهو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام والمسائل التى تتجدد من حين لآخر، وهى ما سماه الفقهاء الأحناف بالنوازل، وذلك لأن كل حكم شرعى ليس فيه دليل قطعى هو محل الاجتهاد فلا يجوز الاجتهاد فيما ثبت بدليل قطعى كوجوب الصلوات الخمس والزكوات وباقى أركان الإسلام، ولا شك أن الحوادث والقضايا التي تتولد من ص _102(1/94)
التصرفات الإنسانية لا يمكن تحديدها، ومن المعلوم أننا لا نجد فى الشريعة حكما صريحا لكل قضية جديدة، ولا يمكن أن يكون ذلك، فإذا كانت الحوادث والقضايا غير متناهية وأحكام الكتاب والسنة الصريحة متناهية محدودة، والمحدود لا يسع اللامحدود، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس شئ له قيمته فى كل زمان ما دامت الحوادث متجددة، والأحوال متغيرة والقضايا مستحدثة لأن كل حادث يدعو إلى الاجتهاد". قضية تجزؤ الاجتهاد: وهنا تأتى قضية تجزؤ الاجتهاد التى كانت موضع خلاف بين فقهاء الإسلام ولكن الذى ذهب إليه المحققون هو أن الاجتهاد ليس منصبا لا يتجزأ، بل يجوز أن يقال للعالم: إنه حائز على منصب الاجتهاد فى بعض الأحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسى فله أن يجتهد ويفتى فى مسألة قياسية، وإن لم يكن ماهرا فى علم الحديث، فمن ينظر فى مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التى وردت فى مسألة تحريم المسكرات أو فى مسألة النكاح بلا ولى، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها. فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا. ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمى وطريق التصرف فيه فلا يضره قصوره عن علم النحو الذى يعرف به قوله تعالى: "وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين". وقس عليه ما فى معناه. وليس من شروط المفتى أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن أربعين مسألة، فقال فى ستة وثلاثين منها: لا أدرى، وكم توقف الشافعى - رحمه الله - بل الصحابة فى المسائل . ص _103(1/95)
من يقوم بالاجتهاد؟ وقد بسط فقهاء الإسلام القول فى ما لابد من معرفته لمن يقوم بالاجتهاد، ولعل أحسن ما كتب فى هذا الصدد هو ما جاء فى كتاب المستصفى للإمام الغزالى. والعلوم التى لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد عند الإمام الغزالى هى كالآتى: 1- الكتاب 2- السنة 3- الإجماع 4- العقل 5- نصب الأدلة وشروطها طريق 6- اللغة والنحو وهذان علمان مقدمان الاستثمار 7- الناسخ والمنسوخ ص - علم الرواية وهما علمان متممان (المستصفى، مجلد ثان، ص 1 10-102) وإليكم تفصيل هذا الإجمال فى ضوء كتاب "المستصفى": كتاب الله: ا- لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية. 2- لا يشترط حفظها عن ظهر قلب، بل يكفى أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها فى وقت الحاجة. ص _104(1/96)
السنة: 1- لا بد من معرفة الأحاديث التى تتعلق بالأحكام، وهى وإن كانت زائدة على ألوف فهى محصورة. 2- لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها. 3- لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل يكفى أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام كسنن أبى داود ومعرفة السنن لأحمد والبيهقى أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل. الإجماع: ا- ينبغى أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتى بخلاف الإجماع. 2- كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتى بخلافها. والتخفيف فى هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتى فيها فينبغى أن يعلم أن فتواه ليس مخالفا للإجماع، أما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة فى العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية. العقل: نعنى به مستند النفى الأصلى للأحكام فإن العقل قد دل على نفى الحرج فى الأقوال والأفعال وعلى نفى الأحكام عنها من صور لا نهاية لها. أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة، وإن كانت كثيرة، فينبغى أن يرجع فى كل واقعة إلى النفى الأصلى والبراءة الأصلية. ص _105(1/97)
العلمان المقدمان: 1- معرفة نصب الأدلة وشروطها التى بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الأربعة، (من الكتاب والسنة والإجماع والعقل). 2- معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له فهم خطاب العرب هذا يخص فائدة الكتاب والسنة. ... والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد، وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق فى النحو، بل يكفيه القدر الذى يتعلق بالكتاب والسنة ويستولى به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه . ولابد إلى جانب هذا كله معرفة حاجات الناس وعاداتهم وطبائعهم فإن شريعة الله لا تنفذ إلا على الناس ولا تطبق إلا فى بيئة من الناس. وبدون معرفة ما يتعلق بعاداتهم وطبائعهم لا يمكن للمجتهد أن يصل إلى نتيجة إيجابية. وأشار الإمام ابن القيم إلى أهمية هذه المعرفة، فيقول: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول فى الكتاب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما فى كتاب من كتب الطب، على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتى الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم". دعواتنا إلى الاجتهاد الجماعى: إن الاجتهاد يمكن أن نقسمه إلى قسمين: ص _106(1/98)
ا- اجتهاد فردى. 2- واجتهاد جماعى. لاشك أن الشريعة الإسلامية تسمح لممارسة كل من هذين القسمين. وقام كبار الفقهاء المجتهدين أمثال الإمام الأوزاعى والإمام الشافعى والإمام مالك - رحمهم الله تعالى أجمعين - وغيرهم بالقسم الأول من هذين القسمين، وكتب الله لجهودهم القبول والشيوع. ولكن نرى منذ البداية أن القسم الثانى للاجتهاد - وهو الاجتهاد الجماعى - كان سائدا بين طبقة من كبار الفقهاء. فكان الخلفاء الراشدون وخاصة الشيخان - رضى الله عنهما - لا يقدمان على الاجتهاد الفردى بل كانا يطرحان القضية أو النازلة عند مجمع من أهل العلم والفقه، ليجتمع كل منهم فى دراسة القضية وإخراج ما عنده من الرأى والعلم بالكتاب والسنة، ثم يجتهدون ويصلون إلى نتيجة نهائية. فروى الإمام البخارى والدارمى والبيهقى أن سيدنا أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - إذا رفعت إليه قضية نظر فى كتاب الله، فإن وجد فيه شيئا نفذه، فإن أعياه ذلك رجع إلى السنة، فإن وجد فيها شيئا عمل به، وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به! . ويقول الإمام الباقلانى: وكان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - لا ينفذ الأحكام إلا بمجمع من أصحابه وحضورهم ومشاورتهم مع فضله وفقهه وحسن بصيرته بأخذ الأحكام وطرق القياس ومعرفة الآثار. وربما كان الخلفاء الراشدون يدرسون القضية مع أصحاب العلم شهرا، فيروى الإمام عامر الشعبى أن القضية كانت ترفع إلى عمر وربما يتأصل فى ذلك شهرا ويستشير أصحابه . ص _107(1/99)
ومن أهم أمثلة ما قضاه الخلفاء الراشدون والصحابة باجتهادهم الجماعي: ا- مسألة تدوين القرآن. 2- الاجتهاد ضد مانعي الزكاة!. 3- ميراث الجدة. 4- عدم تقسيم أراضى السواد وغيرها من المسائل. ثم نرى الإمام أبا حنيفة النعمان - رحمه الله - الذى أنشأ مجمعا كبيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين وأصحاب الجرح والتعديل والمفسرين وعلماء اللغة والكلام، قام معهم بتدوين المذهب الحنفى الذى يمثل أحسن مثال للاجتهاد الجماعى فى عهد التابعين وأتباع التابعين. ولكن هذا الأسلوب الجماعى للاجتهاد الذى وضعه الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- لم يستمر بعده. ولو استمر على منواله السابق لكان فيه خير كثير للإسلام والمسلمين. ولكن فضل إحياء هذه السنة فى القرون الأخيرة يرجع إلى السلاطين العثمانيين الذين شكلوا لجنة من أهل العلم لهذا الغرض، ولاشك أن تدوين مجلة الأحكام العدلية على أيدى جماعة من العلماء من أهم الخطوات التى اتخذت فى سبيل الاجتهاد الجماعى فى عصرنا الحاضر. الأسباب التى تقتضي ممارسة الاجتهاد الجماعى: ا- لم يبق بين المسلمين أناس بالمستوى الرفيع من العلم والمعرفة والأخلاق والورع بحيث يقبل عامة المسلمين على فتاواهم كما كان الحال فى الماضى مع علمائنا السلف. 2- المسلمون متفرقون مشتتون منقسمون إلى 47 دولة مستقلة منفصلة بعضها عن البعض، والاجتهاد الفردى إذا استمر على وتيرته السابقة فلا يؤدى إلا إلى مزيد ص _10 ص(1/100)
من التفرق والتشتت، فاجتهاد الباكستانيين يكون مختلفا حينئذ عن اجتهاد المصريين، وما سيصل إليه السعوديون قد يختلف عما يصل إليه الجزائريون، وهذا الاختلاف قد يتجاوز حدوده المعقولة المسموحة بها فى شريعة الله، وهذا أمر سوف يجعل أعداء الإسلام يسخرون منا ومن ديننا. 3- أن تدخل الحكومات فى كافة شئون المجتمع يحول دون ممارسة الاجتهاد الفردى، وإبداء الآراء فى المشاكل القائمة بكل حرية وموضوعية، ولكن اتحاد الآراء واجتماع الأفكار بين علماء المسلمين المنتمين إلى البلاد الإسلامية كلها يعطيهم وزنا ومكانة لا ينتزعهما حاكم مستبد ولا سلطان جائر. ومما ترتاح إليه النفوس وتقربه الأعين أن الأمة الإسلامية بدأت الآن تتجه إلى هذا الاتجاه اتجاها حسنا. فإنها أدركت أن الاجتهاد الجماعى أقرب إلى الاحتياط والصواب والاطمئنان من الاجتهاد الفردى، وخاصة فى عهد قيد فيه الزمان، وندر فيه العالم المتعمق، وقل فيه الصلاح والتقوى، وانتشر فيه التعليم، وتشعبت فيه العلوم والفنون وأصبح العصر عصر الاختصاص، فلا نجد فيه أناسا يجمعون بين أصناف العلوم، ويتعمقون فى علوم الشريعة كلها كما تعمق فيها السلف الصالحون وأن أغلبية من يدعون بالعلم فى عالمنا الإسلامى لا يتمتعون بثقة الناس بصلاحهم وتقواهم وخشيتهم لله وحبهم لرسوله. فبدأت والحمد لله مظاهر سير الأمة الإسلامية على هذا الاتجاه المبارك المنشود. فعقد ندوات ومؤتمرات عديدة للبحث والدراسة فى قضايا الفقه الإسلامى المختلفة، ونشر موسوعات فقهية فى بلاد مختلفة، وتأسيس المجامع الفقهية المتعددة، وإنشاء منظمة قانونية دولية تحت إشراف المؤتمر الإسلامى، وما إلى ذلك من الخطوات كلها، إن دلت على شىء فإنما تدل على أن الفقهاء المسلمين المعاصرين بدءوا يدركون أهمية ص _109(1/101)
هذا العمل فى العصر الحديث، ولا يسعنى أن أنسى هنا ما قام به الإمامان الجليلان العلامة مصطفى أحمد الزرقاء والعلامة محمد حميد الله من جهود علمية وتقديم برامج عملية للوصول إلى هذه الغاية المنشودة. والذى يراه كاتب هذه السطور فى مجال تحقيق هذا الهدف هو كما يلى: 1- من المعلوم أن الفقه الإسلامى والثروة الحقوقية الهائلة التى قام بإنتاجه آلاف الفقهاء عبر القرون لم تظهر إلى حيز الوجود بجهود حكومية أو شبه حكومية، بل قام بإنتاجه العالم فى مكتبته، والمدرس فى مدرسته، والمفتى فى دار إفتائه، والقاضى فى محكمته، كل ذلك دون أدنى تدخل من الحكام وولاة الأمر، وكل ما نراه من التطور القانونى الذى لا مثيل له ولا نظير عند أمة من الأمم حدث كله على نطاق غير رسمى بحت. فالإمام أبو حنيفة وزملاؤه من الفقهاء الأجلاء لم يكونوا أعضاء فى مجلس شكله ولى الأمر، ولم يكن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عضوا فى أى برلمان أو هيئة تشريعية، وكذلك الأئمة والفقهاء الآخرون لم يعينهم خليفة من الخلفاء أو ملك من الملوك ولم يطلب منهم أن يقوموا بهذا العمل التشريعى، بل كان بعضهم موضع حقد وعرضة اضطهاد من قبل ولاة الأمر، كما لا يخفى على المطلع الخبير، وكفاك مثالا ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ من مصائب وشدائد. وقصارى القول أن طبيعة الفقه الإسلامى هى الحرية التامة والاستقلال الكامل عن تدخل الحكومات والهيئات الرسمية. فيجب أن يكون هذا العمل الضخم ـ وهو الاجتهاد الجماعى ـ حرا ومستقلا عن الحكومات والإدارات الرسمية ويقوم على نطاق غير رسمى بحت. 2- نحن نعيش الآن فى عصر أصبحت فيه البشرية أسرة واحدة، ولكن العالم ص _110(1/102)
الإسلامى الذى كان، ويجب أن يكون، أسرة واحدة لم يعد مع الأسف أسرة متحدة. بل أصبح على أيدى الاستعمار الغربى متفرقا ومشتتا. ولكن زعماءنا، والحمد لله، يقومون بجهود مشكورة لتوحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم فى جميع مجالات الحياة. وإذا كان المسلمون فيما مضى قرروا أن يقلدوا مذهبا فقهيا معينا فى منطقة معينة نظرا إلى أسباب عديدة من صعوبة السفر وقلة وسائل النقل وبطئها وعدم وجود كتب وعلماء من مذهب فقهى آخر فهذه الأسباب قد زالت الآن بسهولة السفر وكثرة وسائل النقل وسرعتها وتوفر المصادر الفقهية من جميع المذاهب الإسلامية فى جميع بقاع العالم. فإذا زال السبب يجب بطبيعة الحال أن يزول المسبب، فيجب علينا الآن أن نخرج من ضيق المذاهب إلى سعة الشريعة الإسلامية السمحة السهلة، ونختار من جميع المذاهب وآراء الفقهاء ما هو الأصلح والأنسب لعصرنا هذا وما هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية وأوفق بالعدل والقسط بين الناس. وهذا الفقه المقارن لم يكن سهلا أخذه والعمل به فيما مضى لما ذكرنا. فأفتى بعض العلماء بوجوب اتخاذ مذهب معين. ولكن كلما تيسرت الظروف لمثل هذا الموقف لم يتردد فقهاؤنا الكبار فى الأخذ من جميع المذاهب. فيقول الإمام ولى الله الدهلوى فى كتابه الإنصاف فى بيان سبب الاختلاف: فإذا كان إنسان جاهل فى بلاد الهند وبلاد ما وراء النهر وليس هناك عالم شافعى ولا مالكى ولا حنبلى ولا كتاب من كتب هذه المذاهب وجب عليه أن يقلد مذهب أبى حنيفة، ويحرم عليه أن يخرج من مذهبه، لأنه حينئذ يخلع من عنقه ربقة الشريعة ويبقى سدى مهملا، بخلاف ما إذا كان فى الحرمين لأته يتيسمر له هناك معرفة جميع المذاهب، ولا ص _111(1/103)
يكفيه أن يأخذ بالظن من غير ثقة، ولا أن يأخذ من ألسنة العوام ولا أن يأخذ من كتاب غير مشهور . ولابد هنا أن أشير إلى قضية هامة وهى أننا قبل أن نخوض فى بحر الفقه المقارن أو "الفقه الإسلامى العالمى" إذا جاز التعبير، يجب علينا أن نتفق أولا على قواعد ومبادئ أصولية نبنى عليها هذا البناء الرفيع، ولابد أن تكون هذه القواعد والمبادئ الأصولية مستخرجة من جميع المذاهب الإسلامية والآراء الفقهية. 3- وأما الجهاز الإدارى والطريق العملى للقيام بهذه المهمة فهو فى رأيى المتواضع كما يلى: أ- يؤسس مركز عالمى لهذا الغرض فى مدينة إسلامية كبيرة، مثل كراتشى وبيروت والقاهرة، ويضم هذا المركز على الأقل عشرة فقهاء كبار بتخصصات مختلفة. فإن هذا العصر هو عصر الاختصاص والتخصص والتعمق فى فرع من فروع العلوم، لأن العلوم تشعبت والمكتبات كثرت، والتآليف تدفقت، ولم يعد بإمكان أحد أن يستوعب جميع ما كتب ويكتب فى العلوم الإسلامية وفيما يحتاج إليه فى الاجتهاد الجماعى، ولا يستطيع أحد أن يحوى فرعا من الفروع أو علما من العلوم كلها. والمسائل أصبحت معقدة، فما من قضية إلا ولها صلة بعديد من العلوم والاختصاصات، فلما لم يكن للمجتهد معرفة بجميع تلك العلوم والاختصاصات التى لها صلة بحل تلك القضية الواحدة لا يمكن له أن يبدى رأيه فى قضية واحدة، فما ظنك فى القضايا المستحدثة كلها. فلا يمكن استفراغ الوسع إلا بمعرفة جميع هذه العلوم واستخدامها فى الاجتهاد الجماعى. ولنأخذ مثلا قضية تطبيق نظم الزكاة والعشر فى دولة إسلامية حديثة، فإذا أردنا أن نضع لهذا الغرض لائحة فى ضوء الشريعة الإسلامية فسوف نحتاج ص _112(1/104)
فيها إلى معرفة الآيات المتعلقة بالزكاة مع جميع ما ذكره الفقهاء والمفسرون من التفاصيل حول العام والخاص والمطلق والمقيد والمفسر والمجمل والمحكم والمتشابه ودلالة المنطوق ودلالة الفحوى ودلالة النص وإشارته واقتضاءه وعبارته وغير ذلك، ثم نحتاج إلى معرفة كل ذلك من الأحاديث المتعلقة بالموضوع بالإضافة إلى سندها ورواتها وجرحهم وتعديلهم وتأويل المختلف من هذه الأحاديث، ثم إلى معرفة الأحكام الفقهية المجمع عليها واختلاف الفقهاء واجتهاداتهم وأدلتهم فيها، ثم إلى معرفة علم الأصول وما إليه من علم القواعد الكلية والفروق والأشباه والنظائر، ثم إلى معرفة الاقتصاد الوضعى، ونظام البنوك، والمؤسسات المالية، ونظام الضرائب، والنظم الحكومية، ونظام الزراعة، وعلم الحساب والرياضيات، وعلم الكمبيوتر وغير ذلك مما يطول ذكره، فلابد أن يكون فى المركز إخصائيون مختلفون متعمقون فى هذه الفروع المختلفة. ب ـ تؤسس مراكز فرعية لهذا المركز الرئيسى فى جميع المدن الإسلامية الرئيسية، ويضم كل فرع على الأقل عشرة أشخاص، منهم أعضاء وأعضاء منتسبون. ونعنى بالأعضاء المنتسبين جماعة من العلماء الذين يستفاد من علمهم وخبرتهم فى مجالات مختلفة ولا يكونون أعضاء كاملين لعدم بلوغهم إلى الدرجة المطلوبة من العلم بالشريعة الإسلامية، ويضم كل مركز فرعى جماعة من المترجمين الأكفاء الذين يقدرون أن يترجموا البحوث الفقهية من اللغة العربية إلى لغتهم المحلية وبالعكس ليتمكن الأعضاء المنتسبون من إبداء آرائهم فى الموضوع المطروح. ج ـ تنشر جريدة رسمية شهرية لهذا المركز باللغة العربية، وترسل إلى جميع المراكز الفرعية، وتنشر فيها آراء الفقهاء المعاصرين مع أدلتهم ومناقشتها من قبل الأعضاء. د ـ ولا تمنح العضوية الكاملة لأحد إلا إذا شهد بكفاءته على الأقل عشرة أعضاء ص _113(1/105)
كاملون من خمس جنسيات مختلفة، والجدير بالذكر أننا لا نريد أن تكون للهيئات الرسمية أى دور فى تعيين الأعضاء أو الأعضاء المنتسبين. هـ ـ ينبغى أن لا تنتهى المناقشة على قضية واحدة فى أقل من ثلاث سنوات لتتجلى جميع النواحى المتعلقة بالموضوع ويأتي كل فقيه بما عنده من الآراء والأدلة. و- لابد أن يكون كل واحد من الأعضاء حائزا على الصفات الآتية: ا ـ أن يكون مسلما عدلا بالغا من العمر أربعين سنة فما فوقها، على أن يسمح لمن دون هذا السن أن يكون عضوا منتسبا. 2 ـ أن تكون خبرته فى مجال تدريس الشريعة أو التأليف فيها أو الإفتاء فيها أو القضاء لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة. 3 ـ أن تكون له بحوث مطبوعة فى مختلف مجالات الشريعة بحيث تمتاز بالأصالة والعمق وسداد الفكر. 4 ـ أن يكون معروفا فى بلده بصلاحه وتقواه وأمانته العلمية ورفعه لواء الشريعة. 5 ـ أن تكون لديه معرفة ما سبقت الإشارة إليه من العلوم الثمانية كما ذكره الإمام الغزالى رحمه الله فى المستصفى. ز ـ لابد أن يكون فى كل مركز فرعى جماعة من الأعضاء المنتسبين من أهل العلم والثقافة العصرية وعلماء الشريعة المشهود لهم بالصلاح والتقوى، ليستفيد الأعضاء الكاملون من عملهم وتجاربهم وخبراتهم، وينبغى ألا يعين أحد عضوا منتسبا إلا إذا شهد بكفاءته ثلاثة أعضاء كاملين على الأقل. ص _114(1/106)
لماذا لا نقتبس من الديموقراطيات الغربية؟ إن الديموقراطيات الغربية إجمالا وضعت ضوابط محترمة للحياة السياسية الصحيحة، وينبغى أن ننقل الكثير من هذه الأقطار لتسد النقص الناشئ عن جمودنا الفقهى قرونا طويلة.. وقد قلت ومازلت أقول: إننا أغلقنا باب الاجتهاد قرابة ألف عام، فإذا سبقنا غيرنا فى شئون إنسانية مطلقة، فلا معنى لاستكبارنا عن الإفادة منه، ولا معنى لابتداء السعى من حيث وقفنا متجاهلين كدح غيرنا نحو الكمال! والنقل والاقتباس هو فى خدمة مبادئ مقررة عندنا ابتداء، أى أننا ما خرجنا عن خطنا العتيد، ولا ارتضينا أهدافا أخرى.. إذا حصنت الشورى هناك بضمانات شتى لمنع الطغيان، وإقدار المحقين على النصح والنقد والمعارضة فى أمان، فلحساب من ترفض هذه الضمانات؟ لله ولرسوله أم للفساد السياسى المتوطن فى أكثر من قطر؟ إذا حصنت الأموال العامة والخاصة بضمانات مضاعفات لتنقية المكاسب، ومنع السلب والنهب، أو إذا بحثت أحوال المرهقين والعجزة لسوق عون شريف لهم، فما الذى يصدنا عن نقل هذه الحصانات والاستقصاءات لحراسة مجتمعنا؟ الحق أن التقاعس فى هذا المجال لا يقع إلا لخدمة ولاة السوء وحواشيهم، وإبقاء الجماهير حبيسة تقاليد وضعها لصوص كبار... فى الربع الأول من القرن العشرين حصلت مصر على دستور من أحدث الدساتير وأقواها على حماية الأفراد والجماعات، لم يعبه إلا أنه اعتبر منحة من "الملك"، بيد أن بنوده أمكنت النواب من اعتراض نفقات الملك لما أراد أن يصلح باخرته الخاصة من الموازنة العامة! ص _115(1/107)
وانتصرت إرادة الشعب، وسد باب من أبواب السطو الملكى الكريم!! وبقى هذا الدستور ثلاثين عاما، عطل فى أثنائها مرة، وزورت الانتخابات فى وجوده مرارا، ومع كل الأزمات التى أصابته فإن الحريات العامة تغلبت على العلل المصنوعة، فنمت الرجولة، ونضجت الكرامة، وانتعش العلم والأدب، وتكونت جماعات دينية قوية، واستطاع الإخوان المسلمون أن ينسجوا شبكة من الشعب الفتية فى أرجاء البلاد كلها. لكن الأمر الذى يقبض الصدر ويحدث الأسى أن موقف المتدينين من هذا الدستور كان قلة الاكتراث. فالأزهر الرسمى كان إلى جانب القصر الملكى، والهيئات الإسلامية الشعبية تقدر النعمة المتاحة لها فى ظل هذه الحريات المبذولة.. ولكن شيئا من هذا لم يكن يجيز لجمهور المتدينين أن يقف متفرجا فى ميدان الصراع بين القصر والوفد على احترام هذا الدستور أو إسقاطه.. فإن ضياع الحرية واستبداد الفرد هما مهلكة الأمم والقيم وذهاب اليوم والغد.. ذلك، والرجال الذين لا يكسبون نصرا للدين فى مجال الحرية ليسوا أهلا لقيادة، ولا أحقاء بالبقاء فى أى ميدان.. وأذكر أنى قابلت أستاذى الكبير الإمام حسن البنا، لأشكو إليه موقف المتدينين عامة من قضية الحريات الدستورية، وكان يصحبنى الأستاذ خالد محمد خالد، وبوصفى عضوا مؤسسا فى جماعة الإخوان فقد تحدثت يومها كثيرا، وكان حوارا عاصفا قلت فيه: إن المركز العام لا يدفع عن الدستور كما ينبغى، وتمادى بى الغضب فقلت: كأنى أسمع جرس الملكية يدق هنا!! ص _116(1/108)
وكان الإمام الشهيد أحلم منى وأرزن، فرد اتهامى بلطف، وأصدر أمره إلى مجلة الإخوان أن تنشر لى ما أكتب ولو كان ضد سياسة الجماعة!! ويرحم الله الرجل الكبير! إن الملكية الخائنة أهدرت دمه، واستباحت جماعته. ومضى الاستبداد فى طريقه، فإذا حريق هائل يلتهم بقايا الإيمان والرجولة فى البلد الحروب، ولم يعرف المتدينون ـ إلا بعد تجارب طاحنة ـ أن الحرية مهاد الآباء والخلق واليقين والإخلاص. إننى بوحى دينى وتجربتى أرفض الاستبداد السياسي جملة وتفصيلا، وأقرر أن المذاهب الإلحادية ما تبلغ هدفها إلا فى غياب الدساتير الصحيحة وتزييف إرادات الأمم، وتمكين نفر من الفراعنة ليعبثوا بالحياة العامة كما يشتهون!! وأقرر كذلك أن المنتسبين إلى الدين حين يجهلون هذه الحقائق، فهم أعداء أنفسهم وأعداء دينهم على سواء، وأن مقاليد الأمور فى أيديهم لن تكون إلا ظلمات بعضها فوق بعض. إن رجل الشارع فى القاهرة أو بغداد أو دمشق لا يجوز أن يكون أقل استمتاعا بالحرية أو مناقشة للحكم من أخيه فى لندن أو باريس أو واشنطن. ويوم يكون المسلم أدنى من غيره فلا كرامة للدين الذى يعتنقه. وهنا يرد سؤال مهم: قد قررت نوع الحكم الذى يجب أن يسود كل بلد إسلامى، والمعروف أن المسلمين اليوم بين ربع العالم وخمسه، فما الرباط السياسى الذى يجمع بينهم، ويضم شتاتهم؟ إن هذا السؤال يقفنا حتما أمام طبيعة الرسالة الإسلامية، والأخوة التى تجمع بين أبنائها على اختلاف العروق والألوان، وهو سؤال يقفنا أمام تاريخ طويل للخلافة الإسلامية فى صورها الوسيمة والدميمة على سواء! ص _117(1/109)
ظاهر من طبيعة الإسلام أنه دعوة متحركة تعرض نفسها على أى إنسان حيث كان، والقرآن الكريم إنسانى النزعة والوجهة يتعامل مع الفكر المجرد، ويتخطى العصبيات والجنسيات ليستقر فى القلوب وحدها. ومن ثم فإن جهاز الحكم فيه، أو منصب الخلافة باسمه يقوم على هذه الأسس: ( أ ) نشر الدعوة الإسلامية فى كل مكان. (ب) رد الشبهات التى قد تثيرها الدعوات المضادة. (جـ) تحشيد قوى المؤمنين ضد أى عدوان يجىء من هنا أوهناك. ( د ) الإسهام مع قوى الخير فى العالم على رفع مكانة الإنسان عامة. ودعامة ذلك كله أن تكون الأمة الإسلامية نفسها صورة صادقة لدينها فى الداخل والخارج. ولا نستطيع الزعم بأن الخلافة الإسلامية فى القرون الغابرة نهضت على هذه الأسس.. والمسلمون مجمعون على وصف دولة الخلافة الأولى بأنها خلافة راشدة! هل يعني ذلك أن وصف الرشد حكر على الأربعة الأوائل، وأن الخلفاء بعد ذلك ليسوا - على الإجمال - أهلا له؟ الواقع أن جمهور المسلمين كاره، أو ضائق، أو منكر، أو منحرف عن أغلب الخلفاء الذين ولوا أمره! وقد سمى عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس وهو من الأمويين وقد تجد سادسا أو سابعا من العباسيين أو العثمانيين. أى أن الراشدين يعدون على الأصابع خلال أربعة عشر قرنا، أما جمهور الخلفاء ص _11 ص(1/110)
بعد ذلك فهم حكام حظ الدين منهم قليل، وأنصبتهم من العلم والدعوة تافهة، ومع ذلك فقد حكموا باسم الإسلام، وحاولوا تكميل نقصهم بطرق شتى من الولاء له وتبنى شعائره وشرائعه ودعم سلطانهم به... والخلافة نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رعاية مصالح الأمة الدينية والمدنية، أى أنها أبوة روحية وثقافية وسياسية للمسلمين كافة تعبد الله بتعهد خلقه والسهر على شئونهم، ومن هنا كان الإمام العادل أول السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله.. وقد تقلصت هذه الحقيقة على مر العصور بنسب متفاوتة، وتحول الخلفاء إلى أناس يختلون الدنيا بالدين.. ولعل السبب الأول هو نظام الوراثة الذى جعل الأهواء البشرية تهزم القيم الدينية.. فالمفروض أن يختار الناس ـ بطريقة ما ـ أفضل رجل فيهم ليكون قائدهم وإمامهم، بيد أن هذا الفرض استبعد، لتقذف الوراثة برجل من بنى أمية، أو بنى العباس! فيفرض نفسه على الألوف المؤلفة فى أقطار الأرض الواسعة، سيدا مطاعا، وإماما مهيبا! والمواهب الإنسانية لم تأخذ هذا الحظ فى البروز والتألق، فقد كان أبو الطيب شاعرا مفلقا، ولم يرث ذلك عن أبيه أو أمه ولم يورث فنه الأدبي ابنا له، ولكن قانون الخلافة ألزم الجماهير بتحية الإعجاب تقدم لابن المتنبى العاجز، أو لابن أبى العلاء الذى لم يولد! ولولا التاريخ العلمى للإسلام، ولولا جهود الأتقياء من فقهائه ودعاته ومريديه ومجاهديه المشهورين والمغمورين لغربت شمسه من زمن بعيد.. ص _119(1/111)
وكان آخر الخلفاء ـ أو السلاطين ـ من آل عثمان شبحا محقورا لهذا النظام الجائر، فلا عجب إذا رمى بالخلافة فى البحر قائد متفاهم مع الصليبية العالمية التى طال تربصها وبلغت آخر الأمر مرادها.. إن المحنة التى أصابت الإسلام بفساد أوضاعه السياسية طويلة الذيول، مستطيرة الشر! ولا يفكر مؤمن عاقل فى إعادة الخلافة الإسلامية بصورتها المستقبحة التى ظهرت بها.. ولكن التفكير يشغل ألوف المؤمنين فى ضرورة عودة الخلافة على نهجها الراشد الأول، وكلما مر يوم شعر المسلمون بفقرهم إلى قيادة عامة تلم شملهم فى المشارق والمغارب، ذلك أن للقوى المعادية قيادات عامة ترسم خططها بخبث، وتضرب بعضهم ببعض دون هوادة، فما يجوز بقاؤهم على هذه الفرقة القاتلة.. لنبحث إذن كيف تكون للمسلمين وحدة شاملة وخلافة عظمى؟ تساءلت: ألا يمكن تحوير ودعم المؤتمر الإسلامى لتحقيق هذه الغاية؟ إن المؤتمر يتكون الآن من أربعين دولة مسلمة، بيد أن المسلمين أوسع دائرة من هذه الدول الأربعين، إن القلة المسلمة فى الهند أربى من عشر دول عربية. ومعنى هذا أنه لابد من تمثيل طوائف المسلمين فى العالم كله وهم موزعون على نحو أربعين دولة أخرى كما بينا سابقا.. فإذا أعيد تشكيل المؤتمر ليكون لكل تجمع إسلامى صوت، وإذا كان رأى الكثرة ملزما ـ من النصف أو بالثلثين ـ وإذا اختير أمين عام تتجسد فيه آمال المسلمين وآلامهم فإنه يمكن أن يأخذ هذا الأمين وضع الخليفة.. ولابد من مواجهة قضايا عالمية ومحلية تعترض مقررات هذا المؤتمر ولن يكون الطريق أمامه معبدا، ولابد من الإقدام والتصدى للكارهين!! ص _120(1/112)
وثمة اقتراح ثان.. ألا يمكن تحويل الدول والدويلات الإسلامية إلى "ولايات متحدة إسلامية" على غرار النظام الأمريكى، ويكون الرئيس المنتخب من جماعة المسلمين فى إفريقيا وآسيا هو الإمام المنشود، أو أمير المؤمنين. وهنا لابد من مصارحة الأمة الإسلامية التى توطن فيها الفساد السياسى دهرا.. إن تزوير الانتخابات خيانة عظمى، وإذا كنا قد رفضنا توارث الخلافة لأنه يأتى بأدمغة تافهة، فإن التزوير الذى أتقنه بعض الحكام لن يأتى إلا ببعض الفتاك والشطار وهواة الفرعنة، ووجود هؤلاء طاعون يغتال الكفايات والأمانات.. إن انتخاب خليفة يجب أن توفر له جميع أسباب الحيطة الدينية والخلقية، وأن يكون آية فى الشرف والتجرد.. واقتراح آخر! هل يمكن أن يجمع بين أسرة الدول الإسلامية والأقليات الإسلامية نظام يشبه "الاتحاد الكونفدرالى" تبقى فيه المعالم المحلية، ويجمع المسلمين هدف واحد فى الميدان الدولى؟ الأمر يتطلب على أية حال تعاون العلماء بالفقه الإسلامى والخبراء بالقانون الدولى حتى يمكن علاج قضايا كثيرة سوف تتطلب الحلول.. على أن تغيير الأوضاع السياسية للعالم الإسلامى لا يتم أبدا قبل أن تسبقه تغييرات فكرية ونفسية عميقة. فالحاكم الفرد إذا اطمأن إلى أن أظافره لن تقلم مضى فى بطشه لايخشى أحدا.. والمستبد غالبا من أجبن الناس، وما يغريه بالظلم إلا أمن العقاب، ولو كان فى بيئة يقول قائلها: إذا الملك الجبار صعر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبُهْ! ص _121(1/113)
لفكر سبعين مرة قبل أن يضيم أحدا.. وقد استوردنا شكل النظام الديموقراطي فى بعض بلادنا فإذا هوى الأنفس وخراب الأخلاق يحول أجهزة الشورى إلى أبواب ملق ودعاية لفرد طائش. وفى أيام يفاعتى كنت أرى الجماهير أحمى أنفا، وأبين شرفا فى بقاع كثيرة، ولكن يظهر أن الخطة التى وضعت لتدويخ المسلمين آتت ثمارها المرة..!! وهذا ارتكاس لا يدعو إلى يأس، بل يدعو إلى مضاعفة الجهود لإنقاذ أمة تحمل أمجد رسالة عرفها العالم، إنقاذها محليا وعالميا. إن هناك يقظة إسلامية حسنة، غير أن أمراضنا الموروثة لا تزال تهبط بنا، والأمراض الوافدة لا تزال تهاجمنا، والأمر يحتاج إلى دعاة علماء، وساسة أتقياء، وحصيلتنا من هذه الفئات شحيحة بالغة الشح.. قد يكون العزاء، أو يكون الرجاء فى أننا أصبنا فى تشخيص عللنا، والتشخيص الصحيح خطوة جيدة فى طريق العافية! لعل القرن المقبل يكون خطوة فسيحة إلى ما نصبو، والأمل فى جانب الله يحلو.. لكن لا أمل بدون عمل! * * * ص _122(1/114)
السوأة الكبرى الطبيعة البشرية واحدة فى القارات المزدحمة بسكانها، وعلى امتداد الأمس واليوم والغد.. والناس يذوقون آثار هذه الطبيعة حلوها ومرها وقلما تختلف أحكامهم عليها، فالظلم مستقبح والعدل مستحسن والدناءة عيب والشرف محمدة.. ومع ذلك فإن الذين يحبون العوج ويكرهون الاستقامة كثيرون وبلغ من كثرتهم أن ذلك كاد يعد طبعا للناس، فإن طغيان الظلمة سود تاريخ العالم: وفى ذلك يقول المتنبى: صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من أمره ما عنانا ثم يقول: كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء للقناة سنانا والواقع أنه وجد كثيرون لا يرون حرجا من السطو على كدح العاملين واقتناصه سحتا، وكثيرون يرون راحتهم فى الخلاص من خصومهم، والإجهاز على حياتهم، وكثيرون يرون لذة المخالسة فى الاستيلاء على عرض حرام أولى من الارتباط به عن طريق الحلال الحلو والبارد العذب.. والغريب أن الصور الجزئية لهذه الجرائم يمكن أن تضبط وتحاسب، أما الصور الكبرى فإن الإفلات فيها بالغنائم الحرام ميسور وشائع.. وقد قرأت لأحد الصحافيين هذه الكلمات: "اللصوص يسرقون ويهربون، بعضهم يدركه العقاب والآخرون يفرون بما سرقوا ونهبوا دون أن يمسهم أذى! فالذى يسرق الرغيف يدخل السجن، والذى يسرق الفرن لا يدخل السجن! لأن سارق الرغيف لص ص _123(1/115)
ضعيف، أما سارق الفرن فهو لص قادر يتعاون مع عصابات قادرة، ويجد من الأموال التى سرقها ما يقدره على تدويخ العدالة، فهو يوكل أحسن المحامين عنه، وبين براعة الدفاع وعناء القضاء تذهب الحقيقة". وإفلات مجرمين من يد العدالة غير مستغرب، ولكن المستغرب وجود لصوص من طراز آخر، لصوص شرفاء جدا، لا يتهمون، ولا يقدمون للعدالة أبدا، لصوص لهم مناصب مهيبة وألقاب طنانة وكلمات نافذة..!! سرقوا شعوبهم جهرة ونمت لهم ثروات طائلة، واحتبست الألسن فى الحلوق فما تقدر أن توجه لهم لفظا!! والسرقات من هذا النوع تجىء عرضا، أو تجىء تابعة للاستيلاء على السلطة، والاستمكان من مقاليد الأمور.. واغتصاب الحكم لشهوة عارمة شىء غير تولى الحكم باسم الله ورضا الأمة، الأول فجور والثانى تقوى. ويظهر أن الأتقياء فى التاريخ السياسى للأمم كانوا أندر من الماء فى الصحراء.. وإن الذين غلبوا على مصاير الأعم كانوا قطاع طريق مهرة فى سرقة الأمجاد والكفايات، وبناء الجاه والسطوة والأبهة على أنقاض المستذلين والضائعين! وقد حكى القرآن أن واحدا من أولئك الفراعنة جادل إبراهيم فى ربه، وزعم أنه له سلطانا يضارع سلطان الله فى أرضه؛ أليس قادرا أن يعدم من يشاء ويستبقى من يشاء؟؟ كان المألوف فى سلطات هؤلاء الحكام أن يعلن أحدهم الحرب، ويسوق إلى ميدانها الألوف المؤلفة من الناس كى يحققوا له مجدا ويكتبوا بدمائهم سجل عظمته.. وكان المألوف أن تجبى ثمرات الأرض لشخصه الكريم ضرائب مباشرة وغير مباشرة لتلبى أولا حاجاته وحاجات أتباعه، ثم يرمى الفتات الباقى للمصالح العامة.. ص _124(1/116)
وقد سبقتنا أوروبا إلى تقليم أظافر حكامها، فقتلت بعضهم فى ثورات حانقة، ووضعت دساتير دقيقة لضبط مسالك الباقين، حتى صار الحكم هناك خدمة عامة يختار لها الأكفأ، ويراقب من خلال أجهزة يقظة، ويطرد ولا كرامة إن بدا منه ما يريب. أما الشرق الإسلامى فإن الفساد السياسي بقى فى أغلب ربوعه حتى القرن الرابع عشر للهجرة.. إنه متأخر بضعة قرون فى طريق التقدم العالمى، ولا يزال اكتساب الحكم فيه سهلا، ولا يزال الحكم وتملق الحاكمين أخصر طريق للمال والجاه.. وما يثير الدهشة هو الفرق الكبير بين تعاليم الإسلام وأحوال المسلمين.. وما يثير الدهشة أكثر وأكثر هو موقف المشتغلين بالعلوم الدينية وفقه الشريعة.. كأن هؤلاء كونوا بطريقة خاصة ليكونوا حواشى للحاكمين! لقد فزعت وأنا أرى كبيرا منهم يصفق بيديه ـ مثل صبى طائش ـ تكريما أو إرضاء لأحد الحكام! إننى أعلم أنه من أجل ذلك اختير! لكن الهبوط ما ينبغى أن يبلغ هذا الدرك ولو لحماية المظاهر. والسقوط الخلقى آفة بعض رجال الدين، ولكنى أظن ذلك سببا ثانيا لفساد الحكم فى العالم الإسلامى. إن السبب الأول هو خلل التفكير الفقهى عند الجم الغفير من المتكلمين فى الفقه! سمعت جدالا بين أناس يتحدثون عن حكم لمس المرأة ولمس إحدى السوءتين، والأقوال المتضاربة فى هذه القضية! فقلت لهم: هذه أحكام تقرر فى خفوت، ويذكر الخلاف فيها بكثير من التجاوز، وأمرها لا يستحق هذا الحماس ولا ذلك العناد! ص _125(1/117)
فنظروا إلىّ مستنكرين! فقلت لكبيرهم: أتعرف شيئا عن السوءة الكبرى فى الإسلام؟ وجاء الرد بسرعة، أى سوءة؟ قلت: ضياع الإسلام فى الأندلس وذهاب ريحه وانتهاء دولته ومحو حضارته! هل درستم أسباب ذلك، وأخذتم الحيطة حتى لا تتكرر المأساة؟ إننى أدهش عندما يجيئنى متقعر يسألنى: هل يقضى المأموم الركعة إذا لم يقرأ الفاتحة ولكنه أدرك الإمام راكعا؟ لقد قلت لهذا السائل: الجمهور على أنه لا يقضى! فقال بسماجة: لا، يجب أن يقضى والسنة الصحيحة توجب ذلك! قلت له: ما دام يؤثر الرأى الآخر فليقض الركعة! فأراد أن ينشئ معركة علمية فى هذه القضية فقلت له بصبر نافد: إن تعلقكم بهذه الخلافات لا مساغ له! أريد أن أسألك: التناصر بين المسلمين واجب، فكيف ينصر المسلم فى إفريقية أخاه فى آسيا، هل فكرتم فى ذلك، واكتشفتم وسيلة مادية أو أدبية؟ إن الحكومات تعالج شئونا عادية وعبادية خطيرة، فهل فكرتم فى طريقة لنصحها، وعرض وجوه الرأى عليها، وإلزامها بالحق إن هى رفضته، وتأمين معارضيها إذا فكر مستبد فى إيذائهم. إن تخلف المسلمين شائن فى دنيا الناس فهل فكرتم فى أسلوب يكشف عنهم هذا العار؟ حتى إذا تقدموا صناعيا وحضاريا أمكنهم أن يدفعوا عن عقائدهم، ويحموا مساجدهم من نظم تريد إغلاقها، ومنع اسم الله أن يذكر فيها...؟ فقال لى المتفقه المغفل: هذه سياسة وأنا أكلمك فى الفقه!. قلت: أنا أكلمك فى الفقه، وأنت وأمثالك صرعى سياسات محقورة شغلت الجماهير بالخلافات الصغيرة حتى يمضى الفجار فى طريقهم دون عقبات.. ص _126(1/118)
إن الاستبداد السياسى استطاع على تراخى الأيام أن يحذف أبوابا مهمة من قسم "المعاملات" فى فقهنا الضخم! أو أن يجعل حقائقها ضامرة مهزولة لأن الكلام فيها مرهوب النتائج.. ومن ثم طال الحديث فى أمور هينة وكثرت فيها التفريعات والأخيلة البعيدة، على حين صمت الفقه فى الأمور الجلل. وتم البت فى قضايا المسلمين العظمى بين جماعات من الفتاك يذكرون أنفسهم وأتباعهم كثيرا ولا يذكرون الله إلا قليلا.. وقد وقعت فواجع فى بيئات الحكم يندى لها الجبين، وأهيل عليها التراب دون تعليق، ففى اليمن قتل أمير ـ أو تآمر على قتل ـ تسعة من إخوته حتى تخلص إمامة المسلمين للأخ القاتل وحده!! ومطلوب من الفقه الإسلامى أن يشغل بمكان وضع اليدين فى الصلاة! أو برفعهما قبل الركوع! وهى أحكام تتساوى فيها وجهات النظر، ولا يأثم مسلم يجنح فيها إلى السلب أو الإيجاب.. نعم مطلوب منه إفاضة الكلام فى هذه القضايا وتكوين عصابات من الرعاع تشغل المصلين بهذه الأحكام، وتثير بينهم الفتن!! أما سياسة الحكم والمال فعلاقة الفقه بها مقطوعة، وحسب نفر من العلماء المعاصرين أن يرددوا فيها أقوالا سقيمة، قررها الجبناء الهاربون أو المفكرون القاصرون.. كانت النتيجة المريرة أن حكم المسلمين رجال لا يؤمَنون على شىء، ولا تحركهم إلا غرائز طفولية من جنون العظمة والاستئثار بالسلطة.. ولم تكن القوة المعادية للإسلام غافلة! ومتى غفلت؟ إنها بين الحين والحين تنفذ ص _127(1/119)
من هذه الثغرة فى مجتمعنا لتهلك الحرث والنسل، وهى تفعل ذلك بأيدينا نحن لا بيد زيد أو عمرو! ومن أعصار طويلة وهذه الفوضى الفكرية تسود العالم الإسلامى وتعوج بخطاه عن بر هدف شريف فإذا قضايا كبيرة تموت مكانها لا يكترث بها أحد، وإذا أمور توافه يهيج لها الخاصة والعامة...! ومضت سنة الله فى أمتنا كما مضت فى كل مجتمع مختل، فتدحرجنا من مكان الصدارة إلى ذنب القافلة الإنسانية، وأسأنا إلى ديننا بقدر ما أسأنا إلى أنفسنا.. وجاءت ساعات الصحو والمحاسبة وتأنيب الضمير! وبدأنا نغضب لما أصابنا ونأسف لما ضاع منا، فكيف العمل؟ البعض يريد السير فى ذات الطريق الذى انتهى به إلى الذل.. البعض يرفض بكبر غريب أن يعرف لماذا تقدم غيرنا.. البعض يعجز عن فهم الفطرة الإنسانية ويظن الدين حربا عليها! * * * ص _12 ص(1/120)
ملزمة أو معلمة لقد أخطأنا خلال القرون الأخيرة أخطاء جسيمة دفعنا ثمنها تهويد وتنصير وتمجيس أقطار واسعة من عالمنا العريض، ومطلوب منا الآن أن ندفع أكثر، ومع هذا كله فإن ناسا يصطنعون التدين يشغلون أنفسهم بحكايا من الفقه الظاهرى والخارجى والمعتزلى والسلفى والخلفى تتصل بشئون ما وراء المادة أو بشئون تعبدية خفيفة الوزن.. أما ما يمس الإنسان ومصاير الجماهير ومستوى الحياة العامة ففكرهم فيه طفولى عليل! وماذا تنتظر من متحدث عن الإسلام يقول: أجمع السلف والخلف على أن الشورى لا تقيد الحاكم!! لحساب من يقال هذا اللغو السخيف؟ أهذا هو التفسير المجمع عليه لقوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" ونشأ عن ذلك وجود حكام قهروا الأمم وأوردوها الحتوف لأن الفكر الديني لم يستطع إنشاء الكوابح التى تشدهم إلى الوراء، ما استطاع إيجادها ولا استيرادها.. وقد تقاتل المسلمون فى إيران والعراق فانظر ماذا يقول الأستاذ مصطفى أمين فى ذلك القتال: "لا أستبعد أن يحصل الغرب وروسيا واليابان على بترول إيران والعراق مجانا لمدة عشر سنوات أو تزيد! فالتدمير والخراب والدمار الذى حدث فى هذه البلاد يحتاج إلى مئات البلايين من الدولارات لإعادة معامل البترول التى دمرت وأنابيب البترول التى خربت وعشرات المدن التى تحولت إلى أنقاض والمصانع التى تحطمت والعمارات التى تحولت إلى أكواخ، وسوف تستعين إيران والعراق بالدول الكبرى وخبرائها وآلاتها، وسوف تشترى منها أسلحة جديدة وطائرات جديدة وبوارج حربية جديدة بدل ما ضاع فى المعارك الطاحنة! فلم تكسب الدولتان الشقيقتان إلا الخسارة، وإلا قتل آلاف ص _129(1/121)
الأبرياء من النساء والأطفال، وإلا كراهية وحقدا وبغضا ستعيش مائة سنة قادمة على الأقل، وإلا ضياع البلايين والإفلاس التام"! "كل هذا لأن مصير هذه الشعوب فى يد بضعة أفراد مغامرين يعلنون الحرب وقتما يشاءون ويسوقون بلادهم إلى الخراب كما خطر ببالهم أن يحصلوا على مجد مزيف، أو أن يبدوا للعالم فى صورة الغزاة الفاتحين. ولو كانت فى هذه البلاد برلمانات حقيقية منتخبة انتخابا حرا ومناقشات ديموقراطية يتبادل فيها المختلفون الرأى بدل تبادل إطلاق الرصاص، ولو كانت المنابر فيها قامت مقام المشانق، لما سمحت الشعوب بمثل هذه المغامرات المجنونة التى تدفع الشعوب ثمنها من قوتها وحريتها وحياتها فى غياب الحرية والديموقراطية والرأى الآخر، إننا فى هذه المنطقة يجب أن نتعلم كيف نختلف. فنحترم من يخالفنا أو يعارضنا كما نحترم أنفسنا، لا أن نبادر بإلقاء تهم الخيانة على كل من لا يتفق معنا فى رأى أو يختلف معنا فى طريق". الإسلام يمنحنا حرية الرأى، ولكنه لا يسمح لفريق منا أن يفرض إرادته على فريق، يفرض زعامته على أمة على الرغم منها، أو يحول المسلمين إلى أغنام يسوقهم أمامه، وكأنه الراعى الوحيد، شرط الإسلام الأكبر أن يكون المسلمون أحرارا ولا مكان فيهم للطغاة ولا للعبيد، فلا تزجوا بالإسلام فى خلافاتكم.. وحاولوا أن ترتفعوا إليه، بدل أن تنزلوه إليكم! ويل للذين ينتزعون الرايات العظيمة ويحاولون أن يمسحوا فيها أحذيتهم. الحكم الفردى بطبيعته يبغض أولى الكفايات الكبيرة، ويتجهم لمرآهم، ويغلق الأبواب فى وجوههم! وأى فرعون من هؤلاء الذين تصدروا وحكموا تملكه غيرة المرأة إذا لمح ذكاء يتوهج أو همة تتقدم.. إنه على عجل يحاول إطفاء البريق وعرقلة المسير.. ص _130(1/122)
وليس يعنيه أبدا أن تحرم الأمة الانتفاع من مواهب بنيها أو مسابقة غيرها فى أى مجال مادى أو أدبى فإن همه الأوحد أن ينفرد بالمجد، وليذهب ما عداه إلى الجحيم.. أمام ذوى الامتياز والمقدرة فرصة واحدة ليعيشوا، هى أن يجثوا فى محراب الوثنية السياسية، ويحرقوا البخور للحاكم بأمره، وعندئذ يؤذن بهم بالتحرك فى حدود ما يشاء.. وقد رأيت فى تجاربى وخلال دراستى لتاريخ أمتى أن عبقريات كثيرة ولدت فى ظلام هذه الأوضاع فليس كل ذى موهبة يصلح ذنبا لصنم كبير، بل إن أكثر المواهب تحتاج للتشجيع أو للتدليل كى تنتعش وتنمو. ورب عبقرى كبا أول عمره ثم أسعفته الأيدى الحانية فنهض ومضى فى طريقه ليتحول مع الأيام إلى قمة مرموقة.. إن العبقريات - فى أغلب الأحيان - تبدأ نبتا رقيقا يمكن أن تدوسه قدم غليظة فتأتى عليه، ولكنه إذا وجد السقيا والرعاية نما وأزهر وأثمر. وليت شعرى ما قيمة الأمم إذا قتلت أنفس معادنها، وتولى الرعاع وحدهم قيادها؟؟ فى أى ميدان علمى أو اقتصادى أو عسكرى وسياسى يمكن أن تنجح..؟ وإذا كان الحاسدون والحاقدون يستمكنون من اقتراف هذه الجرائم فماذا ننتظر؟ سمعت رجلا يقول: إن الله قسم الحسد اثنى عشر جزءا، خص العرب بأحد عشر وقسم الجزء الباقى على أهل الأرض فهو يسرح بينهم سحابة النهار، ثم يعود لينام فى أرض العرب بقية الليل!! الحق أنى فزعت من هذا المثل الرهيب! ولما نظرت فيه وجدت أن العيب ليس فى جماهير العرب ولكنه فى رؤسائهم وحكامهم من عهد مبكر، أى أن الاستبداد السياسى هو الذى يتحمل وزر القتل العمد لعشرات ومئات من المفكرين والعظماء الذين أهيل عليهم التراب ليستمتع بالشهرة فرعون صغير هنا وهناك.. ص _131(1/123)
ولا يزال الأولاد يدرسون أسماء الأشخاص الذين أبرزهم التاريخ السياسى، ومن استطاع لسبب أو لآخر أن يحيا فى حواشيهم!! أما كبار العلماء فقد رأيت فى عصرنا هذا عددا منهم يموت فى صمت أو فى غربة ووحشة فكم عدد من هلكوا خلال القرون الماضية؟ ألا يفكر فى ذلك من يبحثون عن سر تخلف المسلمين؟ وعن سبب تفوق غيرهم؟ إن الأمجاد المعنوية تنتقل بين الأكواخ والقصور، وبين السود والصفر والبيض، بين الناس على اختلاف أعراقهم وأحوالهم، وليست حكرا على سلالة معينة! وقد اختار الله إبراهيم لإمامة الناس بعد ما نجح فى امتحانات صعبة، فلما فكر أن ترث ذريته الإمامة من بعده، رفض فكره، لأنهم قد يسقطون فى الامتحانات التى نجح هو فيها.. والنظام الصالح هو الذى يعطى حق الحياة والنماء للجديرين بذلك، والذى يشد إلى أسفل كل من يريدون الصعود بالتزوير والأثرة، والذى يدمغ بالدناءة معترضى الكفايات من أى طبقة!! يقول الأستاذ مصطفى أمين: "فى بلاد الدنيا كلها عندما ينجح إنسان تنهال عليه الورود والرياحين أما فى منطقة الشرق الأوسط فإن فيها وباء عربيا اسمه وباء محاربة الناجحين والقضاء على النابغين وتحطيم المتفوقين. لا نكاد نسمع عن رجل نجح حتى ننهال عليه بالطوب، وهذه طريقتنا فى إطلاق المدافع لتحية الأبطال الفاتحين. فإذا لم يكن الرجل الناجح عند حسن ظننا وانهار تحت وابل الطوب، أسرعنا نهدمه بالمعاول فإذا رأينا رأسا مرفوعا طالبنا بقطعه، وإذا شاهدنا شركة ناجحة أبلغنا ضدها الرقابة الإدارية، إذا ألغيت الرقابة الإدارية استنجدنا بالنيابة الإدارية! ص _132(1/124)
البعض منا يعتبر النجاح خيانة عظمى يجب شنق مرتكبها المجرم الأثيم. أما الإنسان الفاشل فهو وحده الذى يستحق احترامنا ـ لولا أنه سرق لما نجح! لولا أنه اختلس لما اغتنى! لولا أنه خالف كل مبادئ الأخلاق لما تقدم كل الصفوف. عقلية العبيد هذه يجب أن نقاومها فى أنفسنا. ويجب أن نعتبر كل كفاءة فى بلادنا قلعة لا بد أن نحميها من الاقتحام بالبلاغات الكاذبة ومن الشكاوى الوهمية ومن الاتهامات المزيفة. أسمع عن كفايات فى بلادى تحارب، وتقام العقبات فى طريقها، كأن حزب الفاشلين يريد كل كفاية والقضاء على كل عبقرية، وتحطيم كل نجاح. والفاشلون عادة جماعة من الفارغين الذين يستطيعون أن يتفرغوا 24 ساعة كل 24 ساعة لتدبير المكائد، ولإعداد الخناجر التى يطعنون بها ظهور الناجحين المتفرغين لعملهم، والذين لا وقت عندهم للدسائس والمؤامرات، ووضع الخطط للخلاص من الكفايات! أذكر يوما أنه صدر قرار بنقل المهندس طه زكى من شركة كيما إلى شركة أخرى بلا ذنب ولا جريرة سوى أن موظفا كبيرا لم يستلطفه! وحرمت كيما من رئيس كفء، ولم تلبث الأمم المتحدة أن اختارته خبيرا بها ثم أصبح بعد ذلك وزيرا للصناعة! وقد كان من الممكن أن يقضى القرار الخاطئ نتيجة الدسائس والمؤامرات على موظف كفء، وأعرف أن طبيبا أنشأ مركزا كبيرا من أكبر مراكز العلاج فى الشرق الأوسط، وأنعمت عليه الحكومة الفرنسية بوسام اللجيون دونير، وأقام له الوزير المختص حفلة تكريم، وما كاد ينتهى الخطباء من إلقاء خطبهم فى تكريم الطبيب المحتفل به حتى تقدمت ضده البلاغات، وبدأت التحقيقات! ولولا أن المسكين نجح فى عمله وتفوق فيه ونال وساما من دولة أجنبية وأقيمت له حفلة تكريم لما انهالت ضده البلاغات. واجبنا أن نحمى كل كفاية فى بلادنا، وأن نحافظ عليها، وأن نعلم أن الكفاية.. ص _133(1/125)
لا تحتاج إلى المنصب إنما المنصب هو الذى يحتاج إلى الكفاية.. وأن كل الذين حاربهم الفاشلون واضطروا أن يخرجوا من مناصبهم قرفا، أو زهدا، أو ضيقا وجدوا خارج هذه المناصب مناصب أخرى تدر عليهم أضعاف مرتباتهم، إننا نحتاج إلى كل كفء فى بلادنا أكثر مما يحتاج هو إلينا.. والذى يحارب الأكفاء فى بلادنا إنما يحارب الوطن". إن الذى يحدث ـ عندما يتآمر العجزة ـ أحد أمرين: أن ينزوى الأكفاء ويعتزلوا المجتمع، وتغلب عليهم فلسفة التشاؤم وفكرة التصوف، وذلك ما غلب على تاريخنا القديم.! أو يهاجروا إلى بلد آخر يلتمسون فيه العدل والنصفة فإذا وجدوا فيه ما نشدوا، جعلوا ولاءهم له، وقصروا نشاطهم عليه، وعلى ألسنتهم قول أبى الطيب: وكل امرئ يولى الجميل محببٌ وكل مكان ينبت العز طيبُ وفى عصرنا الحاضر استطاعت الولايات المتحدة أن تظفر بأكبر قسط من العقول المهاجرة فدعمت تفوقها الحضارى بعبقريات هائلة من كل قطر بعدما وفرت لها التقدير المادى والأدبى على سواء.. وقد حضرت من بضع سنين مؤتمرا للطلاب المسلمين فى الولايات المتحدة، وسمعت وأنا محزون حوارا بين اثنين من الشباب المسلم، استنبط منه أن أعدادا كبيرة من الأطباء العرب تخدم فى أمريكا، وأن حصيلة ذكائها ومخترعاتها فى عالم الطب والدواء تذهب إلى شركات صهيونية متخصصة تضع عليها طابعها، وتربح الألوف المؤلفة من ورائها.. وفى إحصاء نشرته صحيفة الأهرام قرأت أن 66% من العقول المهاجرة هى من العالم العربى، فأدركت أن العالم العربى أخصب بقعة لرواج العملات المزيفة وصدارة النفوس المريضة وانتشار الكفايات المهيضة!! ص _134(1/126)
والغريب أن الفكر الدينى سادته هذه اللوثة، فعندما كنت فى مكة وقعت مهزلة احتلال الحرم.. وكنت بادى الغضب على ما حدث فإن الأولاد الذين تحركوا تحت شعار السلفية لا قدم لهم فى الفقه ولا فى السياسة ولا فى شئون الحياة، كل ما لديهم بضعة أحاديث فى قضايا ثانوية مع تصور طائش لحاضر المسلمين ومستقبلهم.. وسمعنى أحد الناس وأنا أتناولهم بسوء الظن والقول، فاقترب منى ناصحا، وقال لى- ولست أشك فى صدق عاطفته-: الأفضل أن تسكت! قلت: لماذا؟ قال: إن أصحاب القلوب المؤمنة اتفقت رؤاهم على أن المهدى ـ عليه السلام ـ آن ظهوره، ويوشك أن يخرج ليملأها عدلا كما ملئت جورا..! قلت: وأين هذا المهدى؟ قال: معهم! قلت وأنا أضحك من أعماق النفس: هذا الطالب الذى ترك الدراسة فى إحدى الكليات لأمر ما؟ قال: ليكن!! قلت: عجبا لأمر أمتنا، اليهود يقودهم حكماء صهيون المختارون من أعلى المواهب. والنصارى يقودهم كرادلة مجربون لهم فى خدمة الكنيسة تواريخ ناطقة.. والشيوعيون كانت تقودهم أنياب مفترسة قضت أعمارا متطاولة فى الدرس والتطبيق.. وأمة محمد وحدها هى التى يتولى قيادها طالب فاشل! أهذا تفكيركم؟؟ إن المسلمين ـ لطول رئاسة الأغبياء فى مجتمعاتهم ـ فقدوا الحس بموازين الأمور، ومعاقد المسئولية، فهم يحسبون المناصب حظوظا عمياء لا أمانات بصيرة.. وسوف يظلون دون العالم كله ما شاع بينهم هذا المنطق المشئوم.. *** ص _135(1/127)
موازين العدالة فى ظل الاستبداد السياسى مع الاستبداد السياسى تضطرب موازين العدالة، وتختل أعمال القضاء! خصوص عندما يتصل الأمر بشخص الحاكم أو أسرته أو أتباعه أو أسلوبه فى الحكم. إن المعارضين يجتاحون اجتياحا، وقد تكتفى الحكومة بإبعادهم عن الوظائف الإدارية والتوجيهية إذا كانت معارضتهم فى حدود الانحراف السلبى، أو عدم الموالاة والتأييد. أما إذا مست المعارضة هيبة السلطة وبقاءها فإن التنكيل بالخصوم لابد منه وعندئذ يقع الاعتقال القصير أو الطويل، والسجن الخفيف أو الشاق، والضرب أو التعذيب، والقتل البطىء أو السريع..!! لا قضاء هنا ولا قضاة، ربما ألفت لجان خاصة يطلق عليها اسم المحاكم العسكرية، وهذه تنفذ الأوامر الصادرة إليها بعد إجراءات صورية ومخزية.. فى إحدى المحاكم طلب الرئيس من المتهم أن يقرأ الفاتحة "مقلوبة"..!! وفى إحدى المحاكم هذه غضب الرئيس لأن المتهم "سيد قطب" خاطبه بسيادة الفريق ونسي أنه فريق أول..! وقبل أن نذكر طرفا من المأساة نسجل طرفة للطريقة الساخرة التى تعلق بها العامة على منهج القضاء فى ظل الاستبداد السياسى..! قالوا: إن جحا جاء إلى أحد الولاة يعرض عليه قضية تخصه، فساق شكواه على هذا النحو: إن لمولاى فيما أعلم ثورا أحمر. فأجابه الوالى: صدقت يا أبا الغصن فما باله؟ قال: نطح بقرتى البيضاء فشق بطنها، وأخرج أمعاءها وقتلها على الفور!! ص _136(1/128)
فقال له الوالى: وما شأن الوالى بذلك وأى سلطان لى على الحيوان؟ أتريد أن أعاقب الثور على فعلته؟ ألا فلتعلم أن دم الحيوان هدر! فقال جحا: صبرا يا سيدى وعفوا، لقد دفعتنى العجلة إلى رواية القضية معكوسة، فإن بقرتى هى التى نطحت ثور مولاى فقتلته! فقال الوالى: ويلك، لقد تغير وجه المسألة، أعد على القصة لأرى فيها رأيى من جديد. والغريب أن العدوان على ذيل بغلة القاضى كان مثار لغط سياسى فى بعض المؤتمرات، أهو ذيل كسائر الذيول؟ أم له مكانة خاصة؟ إننا نذكر هذه الدعابات بين يدى أحزان وآلام أطاحت بحياة الألوف وطمأنينتهم، على طريقتنا نحن المصريين فى الضحك من كل شىء، حتى من هزائمنا ومتاعبنا..! كان المجاهدون يكافحون حيفا مضاعفا من هنا ومن هنا... وأرسل أحدهم إلى الأستاذ مصطفى أمين يستصرخه كى يتكلم، والحق أن الرجل كان عند حسن الظن فنشر ما بلغه، وصدق فى تعليقه عليه عندما قال: "وصلنى فى البريد منشور من دمشق، فى شكل ديوان شعر! ما أروع الشعر الهارب من قبضة الجلاد. قافيته فيها رنين سجين هارب، تخطى الأسلاك الشائكة، وغافل الحراس، وقفز فوق الأسوار! اسم الديوان "انتحار أيوب" للشاعر محيى الدين اللاذقانى. وهو يروى قصة الشاعر الذى هرب من قلعة الطغيان والجبروت. وهو يعاتب كل الذين صمتوا ولم يلعنوا الطغاة، فلا يصنع الطغاة إلا العبيد.. ص _137(1/129)
وهو يلعن الذين سكتوا عندما كانت تداس الزهور بالأقدام، وعندما تحول الرجال إلى مطايا يركبها المستبدون. وهو يتحدث عن جلده الذى ألفت السكاكين دمه، وهو يروى قصة الذين جاءوا بالليل وتسلقوا مقعد الحكم، وتركوا الشعب ينام بغير وسادة، لا تغطيه حرية ولا ديموقراطية ولا عدالة، وإنما ريح من الحقد والضغينة وسفك الدماء.. وهو يصور بلدا لا يعيش فيه إلا الغربان، ولا ترى فيها إلا الجنازات، ولا تسمع فيه إلا صوت العويل على الذين يقتلون لأنهم أبوا أن يمشوا فى موكب العبيد! فى زمان التشفى تنبح الكلاب ارتياحا، ويصبح الجبن حكمة والشجاعة جنونا والحماقة رجولة.. وأقرأ شعر هذا الشاعر الذى لا أعرفه، فأجدنى أعرفه، أعرف كلماته، أحس بالسياط التى ألهبت ظهره، أشعر باللكمات التى استباحت ضلوعه. أسمع صرخاته فى نفسى، وفى نفس كل مواطن فى منطقة الشرق الأوسط عاش فى زمان حرم فيه من الحرية والديموقراطية والعدالة ومن حقوق الإنسان. كلمات هذا الشاعر يعرفها كل إنسان حرم من حقوق الإنسان.. كل مواطن عاش فى ظلام الحكم، كل من عرف الدنيا بلا محكمة وبلا قاض وبلا ضمير. عندما يتحول، "أعوان الخليفة" إلى ذئاب تأكل جثث الأحياء، وعندما يصبح الأبرياء مصلوبين على الجدران وعندما يصبح صراخ المعذبين وعويل المضروبين غناء عذبا يشجى آذان الجلادين. عصر الرجال وهى تموت من جوع الحرية. والشاعر يشكو من المدينة أنها لم تقم لتقتلع الطغاة من مقاعدهم، وهو يتهمها بأنها تطيع الغزاة وتلبس أحلى الثياب لتغرى الحواة، وتسكر فى يومها مرتين، فى الصبح تشرب نخب الطغاة، وفى الليل تغفو لتسلو وتنسى ـ ويقول: "هذه المدينة ليست ص _13 ص(1/130)
دمشق، فإنى أراها تدوس بنيها، وإن الدراويش يموتون فيها، وحتى العصافير تهاجر منها"!! لا أيها الشاعر المقيد بالأغلال! أنا أفهم سخطك على مدينتك. ولكن لا تظلمها. إنها ليست مستسلمة. إنها مقيدة بالسلاسل والأغلال حتى لا تتحرك، ومكممة حتى لا تنطق، مغمضة بالعصابات السوداء حتى لا ترى الجرائم! ولكنى أعرف الحرية! سيجىء يوم تحطم فيه دمشق قيودها وسلاسلها وستنتزع الكمامة من فوق فمها، وسترفع العصابة من عينيها، وسوف تعود كما كانت دائما مدينة الحرية والأحرار ولن تنتحر يا أيوب.. وسيبقى كل أيوب فى سوريا على قيد الحياة.! وكلكم أيوب.!!". يظن البعض أن العدالة تختفى فى القضايا السياسية وحدها عندما يشعر الحكم الفردى بأن خصومه يتحركون، فهو يضربهم بضراوة شديدة، ويجعل النكال بهم رادعا لغيرهم، وربما بقيت للعدالة ظلال فى ميادين أخرى.. وهذا ظن بعيد عن الواقع فإن الحكم الفردى يشيع فى أرجاء المجتمع كله أخلاقا هابطة.. إنه مثلا يقوم على تزوير الانتخاب، ويعنى ذلك إشاعة الزور والرضا بنتائجه، وإطباق الأفواه دون قول الحق أو نصرته! وهو مثلا يحابي الأقارب وذوى الملق ويمنحهم من المكانة المادية والأدبية فوق ما يستحقون. ويعنى ذلك بخس القيم وتأخير الأتقياء وتقديم الفجرة وجعل النفعية والارتزاق وحب النفس هى الفلسفة السائدة. أى أن العطب يتغلغل من ظاهر الجماعة إلى باطنها ومن ظاهر النفس الإنسانية إلى باطنها فلا يبقى شرف ولا دين إلا بضعة مظاهر لا تسمن ولا تغنى من جوع.. وقد رأيت صحافيين نبلاء أفزعتهم أنباء التعذيب فى القضايا السياسية، وضياع ص _139(1/131)
العدالة فى أثناء محاكمة المتهمين التعساء، فأورد الأسئلة الآتية وقال: هل يجاب عليها بنعم؟؟ هل يقبض على الإنسان "المتهم" ويسجن بناء على أمر رسمى من مرجع قضائى؟ وإذا سيق مواطن بتهمة ما إلى المحكمة، فما سناد هذه التهمة؟ أهو نص قانونى صريح؟ وهل تجرى محاكمة هذا المتهم جهرة وعلانية بحيث يسمح لمن شاء أن يشاهدها، بدل أن تعرض من التسجيلات المعروفة؟ وهل يسمح لهذا المتهم بالدفاع عن نفسه أو توكيل المحامين الذين يختارهم للدفاع عنه؟ ثم إذا حكم القضاء ببراءته هل يطلق سراحه؟ وإذا حكم عليه بالسجن هل يعرف مكان سجنه؟ ويمكن أهله وأحباؤه من زيارته. وإذا حكم عليه بالموت هل يسمح له بكتابة وصيته ووداع أسرته والسير فى جنازته؟ الحق أن فى هذه الأسئلة إيماءات خفيفة إلى ما يقع، وهى توجه الباحثين إلى تعرف مراحل الفساد فى القضايا السياسية، وطرق الإجهاز على المعارضين. وأحسن إجابة على تلك الأسئلة ما ذكره الأستاذ مصطفى أمين فى هذه القصة: دق الباب فى منزل تاجر فى دمشق، وفتح التاجر الباب، وقال له ضابط كبير فى الشرطة: أريد أن أحدثك فى أمر هام، قال التاجر: تفضل. وبعد التحية المعتادة قال الضابط الكبير: إن وزارة الداخلية السورية عثرت فى أرشيفها على ملف التاجر السورى، واكتشفت أنه كان عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين فى عام 1930 وتوقع الضابط الكبير أن يغمى على التاجر، أو أن يركع على قدميه طالبا العفو ص _140(1/132)
والمغفرة، فعضوية الإخوان المسلمين فى سورية جريمة فظيعة يستحق مرتكبها الإعدام بغير محاكمة، ولكن التاجر ابتسم ومد يده إلى درج بجواره، وأخرج ورقة وقدمها للضابط الكبير وهو يقول: هذه شهادة ميلادى وفيها أننى ولدت سنة 1924 فكيف أكون عضوا فى الإخوان المسلمين سنة 1930 وعمرى ست سنوات؟؟ بل كيف أكون فى الثلاثينات عضوا فى جمعية الإخوان المسلمين التى لم تتألف فى سوريا إلا فى الأربعينيات؟ ولم يهتز الضابط الكبير وقال: إن ملف وزارة الداخلية ورقة رسمية لا يأتيها الشك من خلف ولا من قدام ولا يجوز الطعن فيها أمام المحاكم. وهى أصدق من شهادة الميلاد! وقبض على التاجر السورى ووضعه فى السجن! هذا التلفيق هو سمة عهود الظلام. فعند إطفاء الأنوار يظهر الملفقون والمزورون والنصابون.. ويصبح التلفيق أساس الملك، فإذا أراد أحد الطغاة أن يتخلص من منافس له فى حب فتاة أو أن يقتنص زوجة من زوجها، أو أن يحتل شقة تعجبه أو أن ينتقم من جار يكرهه أو أن يتقرب إلى صاحب جاه أو سلطان، فليس أسهل عليه من أن يلفق اتهاما، ويزور أدلة، ويختلق مستندات، وما أكثر شهود الزور فى عصور الطغيان يقسمون على دفتر التليفون ويدعون أنهم يقسمون على القرآن، ويحلفون بالله وهم يحلفون بحياة الشيطان. وكم من أبرياء ظلموا بلا ذنب، وحكم عليهم بلا قضاة، وسجنوا بلا جريمة بل كم من شهداء قتلوا ودفنوا سرا لأنهم أبوا أن يعترفوا اعترافات كاذبة على أبرياء. وليست سورية وحدها التى حرمت حقوق الإنسان، بل إن بعض البلاد توهمت أن الثورة هى أن تثور على العدالة وتثور على القانون، وتثور على مبادئ الأخلاق، وتثور على كل حق من حقوق الإنسان. وفى كل يوم تصل إلينا من وراء الحدود قصص ص _141(1/133)
مرعبة عن جرائم ترتكب، ونساء تغتصب ومذابح تقع، وأموال تنهب وحقوق تداس بالأقدام وليس من حق المظلوم أن يحتج. وليس من حق البريء أن يستأنف فالحاكم الفرد هو الشرطة وهو النيابة وهو القاضى وهو الاستئناف، وهو النقض وهو الإبرام وهو المفتى الذى تحال إليه الأوراق قبل تنفيذ حكم الإعدام. التلفيق هو العلم الذى يرفعه الطغيان لتعلم الدنيا أن العدالة فى إجازة!! قالت الضفدع قولا رددته الحكماء! فى فمى ماء وهل ينطق من فى فيه ماء عندما تحظر حرية القول فسيموت حق نافع ويحيا باطل مؤذ ضار! ستختفى القدرة على النصح وتظهر الرغبة فى الملق! سيذبل الولاء للمبادئ وينمو الولاء للأشخاص! إذا كان سنا البرق يبدو من التقاء سحب شتى فإن سنا الحق يبدو من التقاء آراء شتى. لقد انتهى زمن المعصومين الذين يساندهم الوحى، ولا يقولون إلا الحق، أدرك العالم كله أن من جاء بعدهم مهما شمخت عبقريته فهو يخطئ ويصيب، ويكبو ويمضى. ولقد سجلت التجارب التاريخية أن أخطاء العباقرة قاتلة، وأن الشعوب تدفع ثمنها من دمها ومالها وكرامتها.. فلا يجوز أن يحكموا بلا معقب وأن يتصرفوا دون حسيب. وإذا وجب على الأمم أن تعتبر بماضيها، فالأمة الإسلامية أولى أمم الأرض بأن تحتاط ضد الاستبداد السياسى، وأن تمنعه من قتل مستقبلها بعد ما أسقم ماضيها وعرقل خطوها وشل رسالتها. وكل دعوة دينية لا تحسن الاعتبار بما كان فهى وبال على نفسها ودينها. ويجب أن ينصرف عنها المسلمون..!! ص _142(1/134)
خاتمة إنى أطلب من المسلمين أن يطرحوا الأسمال العقلية والاجتماعية التى أزرت بهم وحطت مكانتهم، وأن ينصفوا الإسلام من أنفسهم حتى يستطيع هذا الدين الانطلاق فى الأرض، وإسعاد البشرية، وتحقيق الرحمة العامة للعالمين... أما الاستمرار بحكم فردى يخنق الحرية، ويستبيح الحرمات. أو إيجاد قوارين تملك المال ولا تملك العدالة والرحمة. أو الاستمرار ببطالة عقلية تهمل العمل والفكر وتحقر نتائجها، وتؤخر العباقرة وتقدم التافهين.. أو استمرارنا بعوائل همها فى الحياة المتعة لا التربية، والفوضى الاجتماعية لا الأخلاق الدقيقة والتقاليد الزكية. أو استمرار القصور العلمى فى المادة وما وراء المادة.. أى فى شئون الدين والدنيا جميعا. أو الاستمرار بدعاة يتساءلون عن الصلاة مع دم البعوض فى قمصانهم.. ولا يتساءلون عن مستقبل أمة أرخص دمها، حتى أصبح سفكه لا يثير جزعا ولا فزعا. إن الاستمرار بهذه الذاكرة المفقودة.. لا تستفيد من التجربة ولا تنتفع من عبر التاريخ. إن استمرارنا فى هذه الحياة على هذا النحو هو خزى الأبد.. فإما عشنا مسلمين حقا. وإما ممات لا قيامة بعده ممات لعمرى لم يقس بممات! محمد الغزالى
ص _003(1/135)
مقدمة بقلم المؤلف مازلت أعتقد أن ثروتنا من المواهب الثمينة والكفاءات المثمرة كبيرة، وأن حظوظنا من تلك المعادن النفيسة لا تقل عن مثيلاتها لدى الدول العظمى..! كل ما هنالك من فروق أن غيرنا انتفع بما يملك، وأتاح الفرص لبقائه ونمائه، وعملت الحريات الموفورة عمل الأشعة فى إنضاج الزرع، وعمل المياه فى إمداده بالنضارة والحياة... أما فى أرجاء العالم الإسلامى فإن الحكم الفردى ـ من قديم ـ أهلك الحرث والنسل، وفرض ألونا من الجدب العقلى والشلل الأدبى أذوت الآمال، وأقنطت الرجال... والغريب أن هذا التخريب يناقض مناقضة ظاهرة توجيهات الإسلام فى كل ناحية! هل فى دين الله أهم من العقيدة؟ لا! إن الاعتقاد فى المنطق القرآنى نبت وسط حرية البحث والتأمل وطلب البرهان! ولننظر إلى حديث القرآن عن المشركين، ونتأمل فى مساره، يقول الله سبحانه: "أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي" . ليس هناك مجال لإلغاء العقل ورفض الرأى الآخر، لا بد من تبادل الحجج ونشدان الحقيقة وحدها... لا مكان لتكميم الأفواه وفرض وجهة نظر واحدة. صاحب الصواب لا يهاب النقاش، صاحب الحق يغشى به المجالس، ويقرع به الآذان. المأساة تحدث من مبطل يريد بالعصا أن يخرس الآخرين، ومع تفاهة ما عنده يقول مقالة فرعون قديما: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" .
ص _004(1/136)
فإلى أين قادهم؟ إلى الغرق فى الدنيا والحرق فى الآخرة؟!. إن الاستبداد السياسى يبيد كل أسباب الارتقاء والتقدم، ولا تصلح الحياة برجل يزعم العلم بكل شئ، ويتهم الناس كلهم بأنهم دونه وعيا وفهما. لقد نهضت دولة الخلافة على دعائم الشورى، وكان المبدأ المقرر عند كل خليفة "إن رأيتم خيرا فأعينونى، وإن رأيتم شرا فقوموني". ومن هنا أرست دعائم الحق إلى قيام الساعة. والدول الكبرى الآن ليس فيها مكان للتفرعن والادعاء الأعمى، إن هذه الآفات للأسف تكثر فى الدويلات التى تعيش فى غيبوبة التخلف والاستسلام لجلاديها.. وهذا الكتاب صيحة تحذير من غياب الشورى، واستخفاء الحريات العامة، وإهدار كرامات الشعوب. محمد الغزالي(1/137)