الفتور
المظاهر، الأسباب، العلاج
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (1) [سورة آل عمران، الآية: 102] .
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (2) [سورة النساء، الآية: 1] .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (3) [سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71].
أما بعد:
فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل - (4).
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.
(4) - أخرجه أحمد في المسند (2/158، 165، 188، 210) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 2152).(1/1)
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه - (1).
وقد ورد مثل ذلك بروايات وطرق مختلفة، كلها تدل على أن الفتور مما يصاب به السائرون إلى الله من العباد، وطلاب العلم، والدعاة، وغيرهم.
وقد استعاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفتور في عدة أحاديث ورد فيها استعاذته من العجز والكسل، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ ويقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم - (2).
وقد ذكر أنس - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا يقول:
- اللهم إني أعوذ بك من الهرم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وغلبة الدين، وقهر الرجال - (3) .
__________
(1) - أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453) قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2151).
(2) - أخرجه البخاري (7/159) كتاب الدعوات، باب [39] ومسلم (4/2079) كتاب الذكر رقم (589).
(3) - أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد، باب [74].(1/2)
ولأهمية هذا الموضوع - كما سيأتي بيانه - ولحاجة طلاب العلم والدعاة والمربين إليه، ولضرورة المحافظة على هذه اليقظة المباركة، وتجنيبها المزالق والمنعطفات، ومن أخطرها داء الفتور، فقد شغل بالي هذا الموضوع منذ عدة سنوات، فطفقت أجمع شتاته، وأقرأ ما كتب فيه، وأتأمل في حقيقته ومآله، من حيث المظاهر والأسباب وسبل الوقاية، وكنت أكتب وأدوّن ما وقع تحت يدي مما يدخل في هذا الموضوع، ثم أعرضه على إخواني من المشايخ وطلاب العلم، وأستمع إلى ملحوظاتهم، وأدون إضافاتهم، واستمر هذا الأمر بضع سنوات حتى شعرت أنه قد تجمع لدي ما آمل به النفع، فأعددت ترتيبه وتصنيفه، ثم ألقيته في دروس عامة على فترات مختلفة.
وقد طلبت من طلابي المساهمة في إثراء هذا الموضوع فتجاوبوا معي، وجاءتني عشرات الرسائل، فأفدت منها فائدة عظيمة (1) وأخيرا اقترح علي بعض الأحبة أن أخرج هذا الموضوع مكتوبا، بعد أن خرج مسموعا، فاستعنت بالله، وشرعت في تحقيق هذه الرغبة، وها هو -أخي الكريم- بين يديك، ولذلك فإني أنبه إلى ما يلي:
1- أن هذا الموضوع موضوع علمي تربوي، يلامس الواقع ويعالجه.
2- أنني لم أكتب هذا الموضوع لمن أصيب بداء الفتور، بل كتبته لطلاب العلم والدعاة والمربين وشباب هذه اليقظة المباركة، وأخيرا هو للفاترين.
ذلك أنني أرى أن من لوازم التربية أن يكون المربون والمتربون على معرفة وبينة بهذا الداء؛ حتى يقوا أنفسهم من غوائله؛ ذلك أن الوقاية أسهل من التخلص منه بعد وقوعه.
__________
(1) - من أهمها بحث أعده الأخ فهد الحربي في الموضوع أفدت منه كثيرا، مع أنه لم يصلني إلا بعد إلقاء الموضوع وكتابته، فجزاه الله خيرا.(1/3)
3- لقد بذلت ما استطعت؛ من أجل أن يخرج هذا الموضوع بالصورة التي تفي بالغرض، ولذلك مكثت عدة سنوات في إعداده وجمع أطرافه، وساهم معي عدد كبير من المشايخ وطلاب العلم والدعاة -وهم بالعشرات- وقرأت ما كتب في الموضوع مما وقع تحت يدي (1) ومع ذلك فالموضوع متجدد، وقابل للزيادة والإضافة والملاحظة؛ والنقص من طبيعة البشر، فجزى الله خيرا من ساعدني، وبارك الله فيمن سيساعدني في معلومة أو ملحوظة؛ للتعديل أو الإضافة في طبعة قادمة بإذن الله، وغفر الله لمن تجاوز عن الزلات والهنات، والتمس لي العذر في النقص والتقصير.
جل من لا عيب فيه وعلا
إن تجد عيبا فسدّ الخللا
4- لم أراع -عند ذكر المظاهر والأسباب والعلاج- الترتيب حسب الأهمية، بل قصدت أن تخرج هكذا في تداخل بين الأهم والمهم؛ لأسباب فنية وتربوية.
5- قد يلحظ أن هناك بعض التكرار والتداخل بين المظاهر والأسباب، وكذلك بين الأسباب وسبل العلاج، وهذا أمر له أسبابه العلمية والدعوية؛ فإن التكرار ليس مذموما لذاته، فبعض القضايا كررت في القرآن عدة مرات لأسباب معتبرة.
وأخيرا:
فإنني أشكر الله -جل وعلا- وأثني عليه الخير كله، حيث وفق وأعان على إتمام هذا العمل، وأسأله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعله عونا لي في الدنيا، وذخرا في الآخرة (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2) [سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89].
وأسأله أن يغفر لي خطيئتي وزللي، وكل ذلك عندي.
وأكرر شكري لكل من ساهم في هذا الموضوع، ومن خرّج أحاديثه حتى خرج مطبوعا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب:
__________
(1) - مما اطلعت عليه وأفدت منه: "ظاهرة ضعف الإيمان" للمنجد، و "الفتور" لجاسم مهلهل، و "آفات على الطريق" لمحمد نوح، و "الفتور في حياة الدعاة".
(2) - سورة الشعراء آية: 88-89.(1/4)
ناصر بن سليمان العمر
الرياض، يوم الخميس 27/ 5/ 1414 هـ
أهمية الموضوع
تنبثق أهمية الكتابة في موضوع الفتور من خلال ما يلي:
أن الله ذم المنافقين؛ لتثاقلهم عن الصلاة، وكسلهم فيها، ولا يخرجون الزكاة إلا وهم كارهون، وهذه أسوأ أنواع الفتور وأقسامه، قال سبحانه:
(وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (1) [سورة التوبة، الآية: 54] وقال: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (2) [سورة النساء، الآية: 142] وقال: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)(3) [سورة التوبة، الآية: 81].
وعاتب المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) (4) [سورة التوبة، الآية: 38] والتثاقل هو الفتور بعينه.
2- أن الله دعا إلى نبذ الفتور والكسل؛ وذلك بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها، وأثنى على المؤمنين الذين يسارعون في الخيرات، قال سبحانه: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (5) [سورة آل عمران، الآية: 133] وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ) (6) [سورة المؤمنون، الآية: 61].
__________
(1) - سورة التوبة آية: 54.
(2) - سورة النساء آية: 142.
(3) - سورة التوبة آية: 81.
(4) - سورة التوبة آية: 38.
(5) - سورة آل عمران آية: 133.
(6) - سورة المؤمنون آية: 61.(1/5)
وأثنى على الأنبياء فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (1) [سورة الأنبياء، الآية: 90].
وقال في سورة الواقعة مبيناً أجر السابقين إلى الخيرات والإيمان: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (2) [سورة الواقعة، الآية: 10-11].
فالمسابقة والمسارعة من لوازمهما وآثارهما نبذ الفتور والكسل والتراخي.
3- استعاذة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه، كما ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ ويقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل - (3).
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الدعوات: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم - (4).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من الكسل إذا أصبح وإذا أمسى، كما في حديث ابن مسعود عند مسلم (5). وذكر أنس - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الهرم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وقهر الرجال - (6).
__________
(1) - سورة الأنبياء آية: 90.
(2) - سورة الواقعة آية: 10.
(3) - أخرجه البخاري (7/160) كتاب الدعوات باب [42] واللفظ له ومسلم (4/2079) كتاب الذكر، رقم (2706).
(4) - أخرجه البخاري (7/159) كتاب الدعوات، باب [39] ومسلم (4/2079) كتاب الذكر رقم (589).
(5) - صحيح مسلم (4/2089) كتاب الذكر، رقم (2723 [75]).
(6) - أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد، باب [24].(1/6)
وعند مسلم، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: - اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل - الحديث (1).
4-خطورة الفتور: حيث يؤدي بكثير من الناس إلى الانحراف، حيث إن الفتور مرحلة وسطية بين الالتزام وبين الانحراف. ولا أدل على خطورته من كثرة استعاذة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه في الصباح والمساء، وتعليمه لأصحابه أن يتعوذوا بالله منه، كما سبق.
5- أن الكسل والفتور لا يختص بطائفة معينة من الناس، بل إنه يسري في الناس على مختلف طبقاتهم وأعمارهم وأحوالهم، لا يكاد ينجو منه أحد إلا من سلم الله - وقليل ما هم - فهو يصيب العلماء والعباد والجهال، والشيوخ والشباب، والرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، والأصحاء والمرضى، والمتقين والفساق، ولكن تختلف الإصابة قوة وضعفا؛ لأسباب وعوامل يأتي ذكرها.
6- أن طلاب العلم والدعاة والمربين بأمس الحاجة إلى رسالة تبين هذا الموضوع، وتكشف عن جوانبه من حيث المظاهر والأسباب وطرق الوقاية؛ لتكون معينة لهم في تربية طلابهم، (2) وتجنيبهم هذه المزالق، مع تخليص من وقع منهم في هذا البلاء، وهي كذلك رسالة لجميع الناس، على اختلاف أحوالهم وأوضاعهم.
وحيث إنني لم أجد رسالة تفي بالغرض، وتسد النقص، وتتصف بالشمول، وإنما هي رسائل تناولت بعض جوانبه، مع اختصار شديد، وهي رسائل نافعة ولها فضل السبق، وأفدت منها في هذه الرسالة، ولكن -كما قلت- لم تكن على مستوى حجم القضية وضخامتها، ولم تُجب على كثير من الأسئلة التي تلح على العاملين في حقل الدعوة والتربية، فجزى الله هؤلاء خير الجزاء.
__________
(1) - أخرجه مسلم (4/2088) كتاب الذكر رقم (2722).
(2) - وبخاصة أن البعض قد بدأ الفتور يدب في أوصاله.(1/7)
ومع ذلك فلا أدعي أن هذه الرسالة ستغني عن غيرها - سواء مما سبق أو مما قد يأتي - وإنما هو جهد المقل، ومحاولة المجتهد، والكمال لله.
الفتور
تعريف الفتور
عرف علماء اللغة الفتور بعدة تعريفات متقاربة يكمل بعضها بعضا، ويوضح بعضها الآخر:
قال في مختار الصحاح: الفترة: الانكسار والضعف. و"طرف فاتر": إذا لم يكن حديدا (1).
وقال ابن الأثير: و"المفتِّر": الذي إذا شرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار.
يقال: "أفتر الرجل، فهو مفتر" إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه (2).
وقال الراغب: الفتور: سكن بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) (3) [سورة المائدة، الآية: 19] أي: سكون حال عن مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: (لَا يَفْتُرُونَ) (4) [سورة الأنبياء الآية: 20] أي: لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة (5).
وقال ابن منظور: وفتر الشيء والحر، وفلان يفتر فتورا، وفتارا: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة (6).
ونخلص من هذا إلى أن الفتور هو: الكسل والتراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط والحيوية (7).
قال ابن حجر: الملال: استثقال الشيء، ونفور الناس عنه بعد محبته (8).
وهو داء يصيب بعض العبّاد والدعاة وطلاب العلم، فيضعف المرء ويتراخى ويكسل، وقد ينقطع بعد جد وهمة ونشاط.
والمصابون بهذا الداء ثلاثة أقسام:
1- قسم يؤدي بهم الفتور إلى الانقطاع كلية، وهم كثير.
2- وقسم يستمر في حالة الضعف والتراخي دون انقطاع، وهم الأكثر.
__________
(1) - انظر مختار الصحاح مادة (فتر).
(2) - انظر النهاية لابن الأثير 3/408.
(3) - سورة المائدة آية: 19.
(4) - سورة الأنبياء آية: 20.
(5) - انظر المفردات في غريب القرآن ص 371.
(6) - انظر لسان العرب مادة (فتر).
(7) - انظر آفات على الطريق 1/9.
(8) - انظر فتح الباري 1/126.(1/8)
3- قسم يعود إلى قرب حالته الأولى، وهم قليل.
أقسام الفتور (1)
وينقسم الفتور إلى عدة أقسام، أهمها:
1- كسل وفتور عام في جميع الطاعات، مع كره لها وعدم رغبة فيها، وهذه حال المنافقين؛ فإنهم من أشد الناس كسلا وفتورا ونفورا.
قال الله -جل وعلا- فيهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (2) [سورة النساء، الآية: 142] وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (3) [سورة التوبة، الآية: 54] وقال: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (4) [سورة التوبة، الآية: 81].
وقال - صلى الله عليه وسلم - - أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبوا - (5).
ولفظ (أثقل) على صيغة (أفعل) يدل على أن غيرهما ثقيل، وليس الثقل مقتصرا عليهما.
2- كسل وفتور في بعض الطاعات، يصاحبه عدم رغبة فيها دون كره لها، أو ضعف في الرغبة مع وجودها، وهذه حال كثير من فساق المسلمين وأصحاب الشهوات.
__________
(1) - هذه الأقسام تختلف عما سبق، فتأمل.
(2) - سورة النساء آية: 142.
(3) - سورة التوبة آية: 54.
(4) - سورة التوبة آية: 81.
(5) - أخرجه البخاري (1/160) كتاب الأذان، باب [34] ومسلم (1/451) كتاب المساجد، رقم (651 [252]).(1/9)
وهذان القسمان سببهما مرض في القلب، ويقوى هذا المرض ويضعف بحسب حال صاحبه، فمرض المنافقين أشد من مرض الفساق وأصحاب الشهوات، فهم يتمتعون بصحة في أجسامهم وأبدانهم، قال سبحانه: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) (1) [سورة المنافقون، الآية: 4] ولكن قلوبهم مريضة. قال سبحانه: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) (2) [سورة البقرة، الآية: 10].
3- كسل وفتور عام سببه بدني لا قلبي؛ فتجد عنده الرغبة في العبادة، والمحبة للقيام بها، وقد يحزن إذا فاتته، ولكنه مستمر في كسله وفتوره، فقد تمر عليه الليالي وهو يريد قيام الليل، ولكنه لا يفعل -مع استيقاظه وانتباهه- ويقول: "سأختم القرآن في كل شهر" وتمضي عليه الأشهر ولم يتمه، ويحب الصوم، لكنه قليلا ما يفعل.
وهذه حال كثير من المسلمين الذين يصابون بهذا الداء، ومنهم أناس صالحون، وآخرون من أصحاب الشهوة والفسق.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)(3) [سورة التوبة، الآية: 38].
وقد يؤدي هذا النوع إلى أن يشترك بعض المصابين به مع النوع الثاني، وهو الثقل القلبي في بعض العبادات.
4- كسل وفتور عارض يشعر به الإنسان بين حين وآخر، ولكنه لا يستمر معه، ولا تطول مدته، ولا يوقع في معصية، ولا يخرج عن طاعة. وهذا لا يسلم منه أحد، إلا أن الناس يتفاوتون فيه أيضا، وسببه -غالبا- أمر عارض، كتعب أو انشغال أو مرض ونحوها.
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 4.
(2) - سورة البقرة آية: 10.
(3) - سورة التوبة آية: 38.(1/10)
وهذا النوع هو الذي يذكره الصحابة - رضي الله عنهم - ومنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حنظلة الأسيدي، وكان من كُتّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: - لقيني أبو بكر فقال: "كيف أنت يا حنظلة؟" قال: قلت: "نافق حنظلة"، قال: "سبحان الله! ما تقول؟" قال: قلت: "نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا".
قال أبو بكر: "فوالله إنا لنلقى مثل هذا" فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له مثلما قال لأبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة: ساعة وساعة - ثلاث مرات - - (1).
وروى أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت لعبد الله بن قيس: - لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل؛ صلى قاعدا - (2).
ولهذا فإنني في هذه الرسالة لن أتحدث عن هذا النوع؛ لأنه طبيعي، ولا عن النوع الأول؛ لاختصاصه بالمنافقين أو من به خصلة من النفاق، وإنما سيكون التركيز على القسمين الثالث والثاني.
أدلة الفتور في الكتاب والسنة
ورد لفظ الفتور ومعناه في عدة آيات وأحاديث في الكتاب والسنة، وسأذكر بعض هذه النصوص؛ لإلقاء مزيد من الضوء حول معنى الفتور، وسأذكرها باختصار؛ حيث إن أكثرها سيرد عند ذكر الأسباب مفصلا.
__________
(1) - أخرجه مسلم (4/2106) كتاب التوبة رقم (2750).
(2) - أخرجه أبو داود (2/32) كتاب الصلاة رقم (1307). وأحمد في المسند (6/249) وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود رقم (1180).(1/11)
1- قال الله -تعالى- مثنيا على الملائكة: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (1) [سورة الأنبياء، الآية: 20] أي: لا يضعفون ولا يسأمون.
2- وجاء في آية مشابهة: (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) (2) [سورة فصلت، الآية: 38].
3- وقال سبحانه: (وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه)ِ (3) [سورة البقرة، الآية: 282].
4- وقال تعالى: (لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ) (4) [سورة فصلت، الآية: 49].
5- وقال عن أهل النار من المجرمين: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (5) [سورة الزخرف، الآية: 75].
6- وقال جل وعلا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) (6) [سورة المائدة، الآية: 19] أي: انقطاع.
7- ومما يدخل في معناه قوله تعالى: (وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (7) [سورة آل عمران، الآية: 146].
أما الأحاديث؛ فهي كثيرة جدا، ومما ورد في ذلك ومعناه:
1- عن أنس - رضي الله عنه - قال: - دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال - صلى الله عليه وسلم - "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (8).
__________
(1) - سورة الأنبياء آية: 20.
(2) - سورة فصلت آية: 38.
(3) - سورة البقرة آية: 282.
(4) - سورة فصلت آية: 49.
(5) - سورة الزخرف آية: 75.
(6) - سورة المائدة آية: 19.
(7) - سورة آل عمران آية: 146.
(8) - أخرجه البخاري (2/48) كتاب التهجد باب [18] ومسلم (1/542) كتاب المسافرين رقم (784).(1/12)
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب؛ فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع؛ فلا تعدوه - (1).
وقد ورد بألفاظ وطرق أخرى، منها:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: - كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: "إنها تصوم النهار وتقوم الليل" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل - (2). وفي رواية: "فقد هلك".
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - لكل عالم شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي؛ فقد نجا، وإلا؛ فقد هلك - (3).
وعن عبد الله بن عمرو قال: - ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال: تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد؛ فنعم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي؛ فأولئك هم الهالكون - (4).
__________
(1) - أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453) قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني - انظر صحيح الجامع رقم (2151).
(2) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/261، 262) رواه البزار ورجال رجال الصحيح.
(3) - أخرجه أحمد في المسند (2/158).
(4) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/262) رواه الطبراني في الكبير، وأحمد بنحوه، ورجال أحمد ثقات. اهـ. انظر المسند (2/165) ولفظه: "تلك ضراوة الإسلام وشدته".(1/13)
3- وعن عائشة - رضي الله عنها - - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه؟ قالت: "هذه فلانة" تذكر من صلاتها.. قال: مه، عليكم بما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه - (1).
4- عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يا عبد الله، لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فتركه - (2).
5- عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان -رسول الله صلى الله عليه وسلم- يتعوذ يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل - (3).
6- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت أسمعه يكثر أن يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وقهر الرجال - (4).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة.
وقد ورد عن بعض العلماء أقوال مهمة، أوجز بعضها:
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - لما بكى في مرض موته: "إنما أبكي لأنه أصابني في حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد ". وعنه - رضي الله عنه - قال: " لا تغالبوا هذا الليل؛ فإنكم لن تطيقوه، فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه؛ فإنه أسلم له " (5).
__________
(1) - أخرجه البخاري (1/16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 [218]).
(2) - أخرجه البخاري (2/49) كتاب التهجد، باب [19] ومسلم (2/814) كتاب الصيام رقم (185).
(3) - أخرجه البخاري (7/160) كتاب الدعوات، باب ]42[ ومسلم (4/2079) كتاب الذكر رقم (2706) واللفظ للبخاري.
(4) - أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد، باب [24].
(5) - مجمع الزوائد 2/260.(1/14)
وقال الإمام النووي شارحا لحديث عائشة - رضي الله عنها -: فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور (1).
قال ابن القيم: تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعود خيرا مما كان.
مظاهر الفتور (2)
للفتور مظاهر نستطيع أن ندرك من خلالها أن الفتور قد دب في أوصال صاحبها، علما أن بعض هذه المظاهر يعرفها [الفاتر] نفسه؛ حيث قد لا يدركها غيره إلا بصعوبة وطول زمن.
وقد يجتمع في الفرد أكثر من مظهر من هذه المظاهر، علما أنها تتفاوت من حيث خطورتها وأثرها على صاحبها.
ومن أهم مظاهر الفتور ما يلي:
1- التكاسل عن العبادات والطاعات، مع ضعف وثقل أثناء أدائها، ومن أعظم ذلك الصلاة؛ قال -سبحانه- واصفا المنافقين: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى) (3) [سورة النساء، الآية: 142] وقال: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (4) [سورة التوبة، الآية: 5].
ويدخل في هذا الضعفُ عن قيام الليل وصلاة الوتر وأداء السنن والرواتب، وبخاصة إذا فاتته، فقلّ أن يقضيها.
ومن ذلك الغفلة عن قراءة القرآن وعن الذكر (5) ويجد ثقلا في ذلك، وانصرافا عنه.
__________
(1) - شرح مسلم للنووي 2/73.
(2) - هذه المظاهر هي في الحقيقة بعض آثار الفتور، وهي آثار لها ما بعدها.
(3) - سورة النساء آية: 142.
(4) - سورة التوبة آية: 54.
(5) - وهذا الأمر سبب ومظهر.(1/15)
2- الشعور بقسوة القلب وخشونته، فلم يعد يتأثر بالقرآن والمواعظ، ورانت عليه الذنوب والمعاصي، قال سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(1) [سورة المطففين، الآية: 14] ويكاد يصدق عليه وصف الله لقلوب اليهود: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(2) [سورة البقرة، الآية: 74].
ويصل من قسوة قلبه ألا يتأثر بموت ولا ميت، ويرى الأموات ويمشي في المقابر وكأن شيئا لم يكن، وكفى بالموت واعظا، وأعظم من ذلك عدم تأثره بآيات الله وهي تتلى عليه، ويسمع آيات الوعد والوعيد، فلا خشوع ولا إخبات، والله -جل وعلا- يقول: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)(3) [سورة ق، الآية: 45] ومدح المؤمنين فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (4) [سورة الأنفال، الآية: 2].
3- ويصل الفتور إلى درجة أبعد إذا ألف الوقوع في المعاصي والذنوب، وقد يصر على بعضها ولا يحس بخطورة ما يفعل، ويقول: "هذه صغيرة، وتلك أخرى" وهلم جرا.. وقد يصل به الأمر إلى المجاهرة، والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقول: - كل أمتي معافى إلا المجاهرين - (5). وأشير هنا إلى أن هناك فرقا بين الفتور والانحراف، ولكن الفتور قد يصل بصاحبه إلى الانحراف إن لم يتداركه الله بمنة منه وفضل.
__________
(1) - سورة المطففين آية: 14.
(2) - سورة البقرة آية: 74.
(3) - سورة ق آية: 45.
(4) - سورة الأنفال آية: 2.
(5) - أخرجه البخاري (7/89) كتاب الأدب باب [60] ومسلم (4/2291) كتاب الزهد، رقم (2990).(1/16)
4- ومن أبرز مظاهر الفتور: عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، والتساهل والتهاون بالأمانة التي حمّله الله إياها، فلا تجد لديه الإحساس بعظم هذه الأمانة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (1) [سورة الأحزاب، الآية: 72].
وقد تحدثه ساعة ويحدثك أخرى، فلا تجد أن همّ الدعوة يجري في عروقه، أو يؤرق جفونه ويقضّ مضجعه.
ومما يلحق بهذا الباب أنك تجد هذا [الفاتر] أصبح يعيش بلا هدف أو غاية سامية، فهبطت اهتماماته وسفلت غاياته، وذلت مطامحه ومآربه.
وتبعا لذلك فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد وتخمد ثم تزول.
5- ومن أسوأ المظاهر انفصام عرى الأخوة بين المتحابين، وضعف العلاقة بينهم، بل قد يصل الأمر إلى الوحشة بينهم، ومن ثم التهرب والصدود والبعد والجفاء.
وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - ما توادّ اثنان في الله - عز وجل - أو في الإسلام، فيفرق بينهما أول ذنب [وفي رواية: ففرق بينهما إلا بذنب] يحدثه أحدهما - (2).
فيميل الإنسان إلى العزلة، أو يستعيض بإخوانه السابقين آخرين يزجون وقته، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فإذا التقى بإخوانه الصالحين؛ كان لقاء مجاملة واضطرارا، تمر ساعاته عليه ثقيلة، ولو أمكنه الهروب لفعل، وما هو من ذلك ببعيد.
__________
(1) - سورة الأحزاب آية: 72.
(2) - أخرجه أحمد في المسند (2/68)، (5/71) قال الهيثمي في المجمع (10/278): إسناده حسن.(1/17)
ويا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك، واجعلنا من المتحابين في جلالك (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)(1) [سورة الزخرف، الآية: 67].
6- الاهتمام بالدنيا والانشغال بها عن العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله، والدنيا حلوة خضرة، فقل أن ينجو منها من يقع فيها، ولذلك كم رأينا من إنسان عرف بطلب العلم والنشاط في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم طلب الدنيا وولغ فيها، فتعلق قلبه بها، وأصبحت همه وشغله الشاغل، وآلت حاله إلى الحرص والشح والبخل (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(2) [سورة الحشر، الآية: 9].
7- كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة وينفع الأجيال، فتجد هذا النوع يتحدثون عما عملوا سابقا، وكنا وكنا، وكنت وكنت ويتسلون بهذا القول عن العمل الجاد المثمر، والله جل وعلا يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)(3) [سورة الصف، الآيتان:2،3] وتجد هذا الصنف يكثر من الجدل والمراء وطرح النظريات العقيمة، وهذا مصداق قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل - (4).
__________
(1) - سورة الزخرف آية: 67.
(2) - سورة الحشر آية: 9.
(3) - سورة الصف آية: 2-3.
(4) - أخرجه الترمذي (5/353) كتاب التفسير رقم (3253). وابن ماجه (1/19) في المقدمة رقم (48) وأحمد في المسند (5/252، 256). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.(1/18)
8- ومن المظاهر: الغلو في الاهتمام بالنفس مأكلا ومشربا وملبسا ومركبا، فبدل أن كان لا يلقي لهذه الأشياء بالا إلا في حدود ما شرع الله (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(1) [سورة الأعراف، الآية: 31] إذا هو ينفق الوقت والمال والاهتمام في هذه القضايا الجانبية، وهي أمور كمالية وتحسينية، ولكن هكذا يعمل الفراغ بأهله.
9- انطفاء الغيرة وضعف جذوة الإيمان، وعدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، فيرى المنكرات ولا تحرك فيه ساكنا، ويسمع عن الموبقات وكأن شيئا لم يكن، وقد يكتفي بالحوقلة والاسترجاع إن كان فيه بقية.
ما لجرح بميت إيلام
من يهن يسهل الهوان عليه
10- وأختم مظاهر الفتور بهذه المظاهر التي آمل أن يتأملها القارئ جيدا؛ لأهميتها وصدقها في الدلالة على الفاترين:
أ- ضياع الوقت وعدم الإفادة منه، وتزجيته بما لا يعود عليه بالنفع، وتقديم غير المهم على المهم، والشعور بالفراغ الروحي والوقتي وعدم البركة في الأوقات، وتمضي عليه الأيام لا ينجز فيها شيئا يذكر.
ب- عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي؛ خوفا من أن يعود إلى حياته الأولى. هكذا يسوّل له شيطانه زخرف القول غرورا.
جـ- الفوضوية في العمل: فلا هدف محدد، ولا عمل متقن، أعماله ارتجالا، يبدأ في هذا العمل ثم يتركه، ويشرع في هذا الأمر ولا يتمه، ويسير في هذا الطريق ثم يتحول عنه، وهكذا دواليك.
د- خداع النفس؛ بالانشغال وهو فارغ، وبالعمل وهو عاطل، ينشغل في جزئيات لا قيمة لها ولا أثر يذكر، ليس لها أصل في الكتاب أو السنة، وإنما هي أعمال يقنع نفسه بجدواها، ومشاريع وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 31.(1/19)
هـ- النقد لكل عمل إيجابي؛ تنصلا من المشاركة والعمل، وتضخيم الأخطاء والسلبيات؛ تبريرا لعجزه وفتوره، تراه يبحث عن المعاذير، ويصطنع الأسباب؛ للتخلص والفرار(وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)(1) [سورة التوبة، الآية: 81].
و- التسويف والتأجيل، وكثرة الأماني وأحلام اليقظة: يبني مشاريع من سراب، ويقيم أعمالا من خيال، عمل اليوم يؤخره أياما، وما يمكن أن يؤدى في أسبوع يمكث فيه أشهرا، وفي كل يوم يزداد إفلاسا وفتورا.
أسباب الفتور
للفتور أسباب كثيرة ومتنوعة، إذا سلم المسلم من بعضها؛ فقلّ أن يسلم من بعضها الآخر، وهذه الأسباب بعضها عامّ، وبعضها خاص، أي أن عددا من هذه الأسباب يؤدي إلى الفتور في العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله، وبعضها يكون خاصا في جانب دون آخر.
وسأركز في هذه الرسالة على الأسباب التي تؤدي إلى الفتور في الدعوة إلى الله، مع أن عددا من الأسباب التي سأذكرها توصل صاحبها إلى الفتور والكسل والتراخي في العبادة (2) وطلب العلم.
وسأشير عند بعض الأسباب إلى شيء من العلاج باختصار، مع أن العلاج سيأتي مفصلا في باب مستقل؛ وذلك لأن الإشارة للعلاج عند ذكر السبب لها وقع خاص، وتأثير لا ينكر.
1- عدم الإخلاص أو عدم مصاحبته
__________
(1) - سورة التوبة آية: 81.
(2) - أقصد العبادة في معناها الخاص، وإلا فكل هذه الأشياء عبادة، فطلب العلم والدعوة إلى الله من أعظم أنواع العبادة، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). [ سورة الذاريات، الآية: 56].(1/20)
الإخلاص أحد ركني قبول العمل؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا صوابا، قال سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)(1) [سورة البينة، الآية: 5] وقال: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(2) [سورة الزمر، الآية: 3] وقال: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ)(3) [سورة الزمر، الآية: 11] والآيات في هذا الباب كثيرة.
وفي الحديث القدسي: - أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه - (4) .
والإخلاص يدفع المسلم إلى الجد والاجتهاد، وعدم الملل والسآمة؛ حيث إنه يرجو ما عند الله، ويخاف عقابه، قال سبحانه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(5) [سورة الكهف، الآية: 110].
أما إذا ضعف الإخلاص أو دب الرياء في قلب المسلم؛ فسرعان ما يخبو حماسه، وتضعف عزيمته.
وهذا الباب يدور على عدة حالات، أهمها حالتان:
أ- إما أن يكون أساس العمل غير مقرون بالإخلاص، كما قال الأول:
لما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
صلى وصام لأمر كان يطلبه
ب- أو يكون أساس العمل خالصا ثم جاءت بعض الصوارف فأضعفت الإخلاص: من رياء، وسمعة، وحب جاه، وطلب دنيا؛ فبدل أن كان العمل لله خالصا، إذ صاحبته أغراض أخرى طارئة، فذهبت بريحه، أو قضت عليه.
ومن هنا فعلى المسلم أن يتعاهد إخلاصه، وأن يجدده عند كل عمل يرجو به وجه الله؛ فإن هذا أبقى له وأنقى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(6) [سورة غافر، الآية: 14].
__________
(1) - سورة البينة آية: 5.
(2) - سورة الزمر آية: 3.
(3) - سورة الزمر آية: 11.
(4) - أخرجه مسلم (4/2289) كتاب الزهد رقم (2985).
(5) - سورة الكهف آية: 110.
(6) - سورة غافر آية: 14.(1/21)
2- ضعف العلم الشرعي
الجهل داء قاتل، ومما يزيد في خطورته أن صاحبه لا يدرك الأثر الذي يخلفه هذا المرض؛ لأنه جاهل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
فكلما ضعف العلم الشرعي لدى المسلم، كان أكثر عرضة لأن يصاب بداء الفتور؛ وذلك أنه يجهل الأدلة الشرعية التي تحث على العبادة والعمل وطلب العلم، ولا يعلم الأثر المترتب على العمل؛ مما يضعف من عزيمته، كما أنه لم يحط بقيمة الصبر وأثره، وجزاء الصابرين؛ مما يقلل من احتماله، ويكثر من شكواه، ومن ثمّ ترك ما هو عليه.
وعند التأمل في قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(1) [سورة الزمر، الآية: 9] وفي قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(2) [سورة فاطر، الآية: 28] ندرك هذه الحقيقة، ومن ثم نعرف العلاج.
3- تعلق القلب بالدنيا، ونسيان الآخرة
من أعظم أسباب الفتور: أن يطغى حب الدنيا على حب الآخرة، ومن ثم يتعلق القلب بها، ويضعف إيمانه شيئا فشيئا، حتى تصبح العبادة ثقيلة مملة، ويجد لذته وسلواه في الدنيا وفي حطامها، حتى ينسى الآخرة أو يكاد، ويغفل عن هاذم اللذات، ويبدأ عنده طول الأمل، وما اجتمعت هذه البلايا في شخص إلا أهلكته.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: - تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم - (3) وفي لفظ: - تعس عبد الدينار والدرهم - (4).
وواقع الناس اليوم ينذر بخطر، حتى رأينا عددا من طلاب العلم ضعفوا عن الطلب، وانشغلوا عنه بغيره، بجمع الحطام، والبحث عن المناصب والجاه.
__________
(1) - سورة الزمر آية: 9.
(2) - سورة فاطر آية: 28.
(3) - أخرجه البخاري (3/223) كتاب الجهاد باب [70].
(4) - أخرجه البخاري (7/175) كتاب الرقاق، باب [10].(1/22)
وهنا مسألة يحسن التنبيه عليها، وهي: أن بعض الدعاة قد يبدأ في الاشتغال بالدنيا؛ من أجل الكفاف والاستغناء عن الآخرين، وحتى لا يصبح أسيرا للوظيفة طول حياته. وهذا أمر محمود وغاية جليلة، ولكن سرعان ما تنفتح عليه الدنيا، وتبدأ المطامع تتحرك بين جنبيه، ويسوّل له الشيطان هذا الأمر؛ باسم الدعوة والمشاريع الإسلامية، وشيئا فشيئا، حتى يتعلق قلبه، وينشغل بها عن علمه ودعوته، وكان يكفيه الكفاف، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب - (1).
والدنيا حلوة خضرة، كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - - إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء.. - الحديث (2).
ومما يدخل في هذا الباب: التعلق بالمناصب والترقيات والعلاوات، والإكثار من الحديث عنها، وانشغال القلب بها عما هو أعظم منها، وصدق الله العظيم: (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(3) [سورة النساء، الآية: 134].
4- فتنة الزوجة والأولاد
طلبت من طلابي أن يشاركوني في ذكر أهم أسباب الفتور، فلفت نظري عشرات الرسائل التي أشارت إلى أن الزواج من أهم هذه الأسباب، وهؤلاء الطلاب يحكون عن تجربة رأوها في عدد من زملائهم وإخوانهم، وقد يكون البعض وقع في هذا البلاء فأنقذه الله منه.
__________
(1) - أخرجه الترمذي (4/215) كتاب اللباس، رقم (1780) قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان قال: وسمعت محمدا يقول: صالح بن حسان منكر الحديث.
(2) - أخرجه مسلم (4/2098) كتاب الذكر، رقم (2742).
(3) - سورة النساء آية: 134.(1/23)
وهنا تذكرت قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)(1) [سورة الأنفال، الآية: 28] وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)(2) [سورة التغابن، الآية: 14].
وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة - (3) وقال: - إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء - (4) .
إن الزوجة قد تكون عونا على العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله (5) وقد تكون بلاء وفتنة، وأشدها هي التي لا يحس الإنسان بخطورتها، بل قد يعتبرها نعمة وهبه الله إياها؛ لجمالها أو مالها أو دلالها، وهي مصيبة قد حلت في بيته وهو لا يعلم، فأخبث الأمراض أخفاها، وشر الأعداء أحلاها (6).
أما الأولاد: فالخطورة تأتي من الانشغال بهم عن دينه، والحرص على تأمين مستقبلهم، وما أمّن مستقبله، والخوف عليهم بعد وفاته، ولم يخف على نفسه -وهي الأحق بذلك- فيضيع عمره بين زوجة وولد، وصدق الله العظيم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(7) [سورة آل عمران، الآية: 14].
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 28.
(2) - سورة التغابن آية: 14.
(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1990).
(4) - أخرجه مسلم (4/2098) كتاب الذكر رقم (2742).
(5) - كما كانت خديجة رضي الله عنها، وسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
(6) - لأن الحلاوة تذهل عن العداوة، وكم من الناس من فر بسبب زوجة أو مال أو ولد، فهم زينة وعدو وفتنة.
(7) - سورة آل عمران آية: 14.(1/24)
ومما يجدر التنبه له هنا: أن البعض قد تختلف حاله في العبادة وطلب العلم والدعوة بعد زواجه، فيحكم عليه الناس بالفتور والتراخي، وقد يهمزونه أو يلمزونه، وهذا الأمر فيه تفصيل، فإن كان اختلاف حاله بسبب قيامه بالحقوق الشرعية لأهله وأولاده، دون أن يصل إلى حد الإخلال والتفريط في عبادته وعلمه ودعوته، فهذا أمر طبيعي، ولا يمكن أن تكون حاله وقد التزم بمسئوليات جديدة كحاله عندما كان شابا حرا طليقا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صدّق سلمان عندما قال لأبي الدرداء - رضي الله عنهما - - إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه - (1).
أما إن كان الزواج ومن ثم الأولاد قد قعدوا به مع القاعدين فهنا الخطورة، وهذه حال المنافقين الذين قالوا: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا)(2) [سورة الفتح، الآية: 11]. والناس في هذا الباب بين إفراط وتفريط، والعدل هو الوسط، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شطط، وأن يكون المسلم على حذر فـ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(3) [سورة التغابن، الآية: 15]. و: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)(4) [سورة التغابن، الآية:14].
5- الحياة في الأجواء الفاسدة
وذلك بكون المسلم يعيش في وسط يعج بالمعاصي، ويتفاخرون في الآثام، حديثهم عن اللذات المحرمة، وسماعهم للأصوات الفاجرة، ورؤيتهم للمشاهد والمسرحيات والتمثيليات الفاسدة، تحيتهم السباب، وثناؤهم اللعان، وهلم جرا.
__________
(1) - أخرجه البخاري (2/243) كتاب الصوم باب [51].
(2) - سورة الفتح آية: 11.
(3) - سورة التغابن آية: 15.
(4) - سورة التغابن آية: 14.(1/25)
إن هذا المجتمع الصغير الذي يحيط بالمسلم يضعفه، وقد لا يستطيع المقاومة، فيدب الفتور في أوصاله، ويسري التراخي إلى عبادته وأعماله، وقد يصل إلى ما وصلوا إليه، وكما أُمر المسلم بالهجرة من بلاد الكفار صيانة لدينه وبعدا عن الفتنة، فإن المؤمن مطالب بالتحول عن جلساء السوء ورفقاء الفساد، حفاظا على صلاحه وتقواه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة - (1).
6- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الذاتية
هذا السبب من أكثر الأسباب تأثيرا، وهو يختلف عن السبب السابق، وذلك أن هؤلاء قد يكونون من أهل الخير والصلاح، ولكن هممهم ضعيفة وعزائمهم واهنة، وأهدافهم شخصية، فلا يحس المرء بأثرهم عليه، ويضعف شيئا فشيئا، حتى يتلاشى نشاطه أو يكاد، وتفتر همته، وتخور عزيمته، ولذلك قال الشاعر:
كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة
والإنسان سريع التأثر بمن حوله، وبخاصة إذا كان هو فردا وهم عددا، أو كان ينظر إليهم نظرة إعجاب واحترام، ولذلك لا بد من حسن اختيار الصاحب والجليس، فإنه يؤثر على مر الزمن، كما يؤثر الحبل في الحجر، على ضعف الحبل وقوة الحجر، ولكن مرور الزمن كفيل بذلك، وبخاصة أن الحبل متحرك والحجر جامد، والمتحرك أقوى تأثيرا من الساكن والراكد.
ومن هنا وجهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الأمر فقال:
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/16) كتاب البيوع، باب [38] ومسلم (4/2026) كتاب البر والصلة رقم (2628).(1/26)
- الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل - (1).
ومن أسباب الفتور عدم الشعور بمسئولية هذه الأمة، وعدم حمل همها، بل همه ذاته، ومسئولياته حول شخصه، فلا يحس بآلامها، ولا يسعى لتحقيق آمالها، جراحاتها لا تؤرقه، وشجونها لا تحزنه.
ما لجرح بميت إيلام
من يهن يسهل الهوان عليه
فمن كانت هذه حاله، فأحسن الله العزاء فيه، ومخالطته تعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ، ولا عدوى ولا طيرة.
7- المعاصي والمنكرات وأكل الحرام
الذنوب والمعاصي أثقال معنوية في الدنيا، تثقل قلب صاحبها ونفسه، ثم هي يوم القيامة أثقال حسية، يقول سبحانه: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ)(2) [سورة العنكبوت، الآية: 13]. وقال: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ)(3) [سورة الأنعام، الآية: 31].
يقول ابن القيم - رحمه الله - مبينا أن المعاصي سبب للفتور: "ومن عقوباتها - أي المعاصي - أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيّره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه، والله المستعان" (4).
__________
(1) - أخرجه الترمذي (4/509) كتاب الزهد، رقم (2378) وأبو داود (4/259) كتاب الأدب، رقم (4833). قال الترمذي: حسن غريب. وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3545).
(2) - سورة العنكبوت آية: 13.
(3) - سورة الأنعام آية: 31.
(4) - انظر الجواب الكافي ص 48.(1/27)
فالمعاصي لا تؤدي إلى الفتور فحسب، بل تؤدي في غالب الأحيان إلى الانحراف، فإن المسلم قد يكون نشيطا في عبادته أو دعوته أو طلبه للعلم، ولكنه يتساهل في بعض المعاصي، وبخاصة إذا كانت من الصغائر، أو لا يتورع عن أكل المتشابه، بل قد يأكل الحرام، وهنا ينحدر انحدارا، كصخر حطه السيل من عل. ولذلك فإن على المسلم أن يكون حذرا متيقظا، بعيدا عن المتشابه فضلا عن الحرام، يحفظ جوفه، وسمعه، وبصره، ولسانه، وعقله، وفؤاده (1).
ومن البلاء الذي قل أن يسلم منه أحد، النظر إلى الحرام، وهو سهم من سهام إبليس، يورث في النفس حسرة وألما، ثم يسري إلى القلب قسوة ووحشة، والعلاج بقوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)(2) [سورة النور، الآية: 30 ].
وبقوله: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(3) [سورة الإسراء، الآية: 36]. وبقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(4) [سورة البقرة، الآية: 168].
ونجد العلاج الناجح والبلسم الشافي - أيضا - في هذا الحديث:
__________
(1) - ومما يدل على ذلك قوله تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) ]سورة المؤمنون، الآية: 45[ فجمع بين أكل الطيبات والعمل الصالح مما يفيد أثر الأول في الثاني.
(2) - سورة النور آية: 30.
(3) - سورة الإسراء آية: 36.
(4) - سورة البقرة آية: 168.(1/28)
روى النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: - إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه - وفي آخر الحديث - ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب - (1).
والقاعدة المنجية في ذلك قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - دع ما يريبك إلى ما لا يريبك - (2).
8- عدم وضوح الهدف
كثير من الناس يطلب العلم، وآخرون يدعون إلى الله، وتلحظ منهم الجد والنشاط، وقد تحقر نفسك عند هؤلاء، وبعد فترة من الزمن تفاجأ بأن هؤلاء لم يعودوا كما كانوا، ولو دققت النظر لوجدت أن من أهم الأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحالة أنهم كانوا يعملون دون أهداف واضحة أو محددة، ولكنهم رأوا الناس يعملون فعملوا، وقد تكون فترة طفرة أو حماس بعد سماع محاضرة، أو قراءة كتاب، أو تأثير صديق.
ويدخل في هذا الارتجالية والفوضى، فتجد الأعمال مع ضخامتها غير موجهة ولا مؤصلة، ناشئة عن تفكير آني، وردود أفعال، يبدأ في هذا العمل ولا يتمه، ويشرع في هذا الأمر ثم لا يستمر فيه و - أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل - (3). - وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه - (4).
__________
(1) - أخرجه البخاري (1/19) كتاب الإيمان باب [39]. ومسلم (3/1219) كتاب المساقاة رقم (1599).
(2) - أخرجه الترمذي (4/577) كتاب القيامة رقم (2518) قال الترمذي: حسن صحيح.
(3) - أخرجه البخاري (7/182) كتاب الرقاق، باب [18]. ومسلم (1/541) كتاب صلاة المسافرين رقم (782 [216، 218]).
(4) - أخرجه البخاري (1/16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين، رقم (785[221]).(1/29)
إن وضوح الهدف وتحديده مطلب ملح، من أجل أن يسير العاملون بخطى وئيدة متزنة، أما أن تكون الأهداف ضبابية عائمة، والأعمال ارتجالية، فإن ذلك مدعاة لقعود الأفراد، وتسللهم واحدا تلو الآخر، لأنهم لا يعلمون أين يسيرون، وفيم يركضون، ولذلك سرعان ما ينقطعون.
9- ضعف الإيمان بالهدف أو الوسيلة
وهذا يختلف عما قبله، فإن الهدف هنا محدد واضح، والوسيلة كذلك، ولكنك تجد من لا يؤمن بهذا الهدف الذي تسعى إليه، أو لا يقتنع بالوسيلة المستخدمة، وفرق بين الأمرين.
وقد يسير الإنسان فترة من الزمن في هذا الطريق، مجاملة أو تجربة أو لسبب آخر، ثم يبدأ في الضعف والفتور، حتى يتخلى عما كان عليه.
وأوضح هذا السبب بمثال:
فقد يتفق شخصان أو أكثر على تشخيص الواقع، ويرى الأكثرون أن العلاج يجب أن يكون علاجا شموليا، بالدعوة العامة، والتربية، وطلب العلم، وغيرها من وسائل العلاج المشروعة، دون أن يطغى جانب على آخر، ولكن يراعى في كل جانب ما يناسبه.
ويرى آخرون أن العلاج بطلب العلم فقط.
وقد يرى البعض أن العلاج يكون بالتربية الفردية فقط، أو بالدعوة العامة، فإن من سار معهم وهو ليس مقتنعا بما هم عليه سيضعف، ويتخلى عاجلا أو آجلا، لأنه غير مقتنع بالوسيلة المتبعة، ويرى أنها لن تحقق الأهداف المتفق عليها.
والمشكلة أن مثل هؤلاء يصابون - غالبا - بفتور عام، فلا يتحولون إلى الوسيلة التي اقتنعوا بها، ومن ثم ينشطون في هذا الجانب ويبدعون فيه، لو كان الأمر كذلك لهان الأمر، وقد يكون في ذلك خير، ولكنهم يتخذون ما لم يقتنعوا به مبررا لترك ما اقتنعوا به، والمهزوم لا يرده شيء.(1/30)
إذا كان الأمر كذلك في عدم القناعة بالوسيلة، فإن الأمر أشد فيما يتعلق بعدم القناعة بالأهداف، فإن الذي لا يقتنع بالأهداف لا يستطيع أن يسير طويلا، لأنه يسير إلى غاية لم يؤمن بها، وقد يكون قبل ذلك لم يكن يعرف هذه الأهداف، فإذا استبانت له سرعان ما يتخلى وينزوي، ولو لم يصرح بذلك.
10- عدم الواقعية
من خلال عنايتي بموضوع الفتور، ومن ثم سبري لأحوال كثير من الفاترين، وجدت أن ما يمكن أن أسميه بـ (عدم الواقعية) من أهم الأسباب التي أوصلت أولئك إلى الحالة التي آلوا إليها.
وعدم الواقعية قضية كلية، تتفرع عنها عدة صور وحالات، حيث لا يمكن حصرها في حالة أو حالتين.
وأقصد بعدم الواقعية عدم التناسب بين الإمكانات الذاتية، وبين مقدار العطاء من عبادة وعلم ودعوة.
وقد يكون عدم الواقعية ناشئا من الفرد، وقد يكون من المجموعة، أو المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.
ومثلما أن عدم الواقعية يكون في الوسائل - غالبا - فإنه قد يكون في الأهداف.
وكما أن عدم الواقعية يكون في الزيادة في العمل فوق طاقة المسلم، فقد يكون في النقص، بحيث لا يتناسب العطاء مع الإمكانات.
ولنأخذ بعض الأمثلة والصور التي تزيد هذه القضية وضوحا:
أ-الغلو والتشدد صورة من صور عدم الواقعية، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث زاجرة وناهية عنه:(1/31)
قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ)(1) [سورة النساء، الآية: 171] وقال سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(2) [سورة الحديد، الآية: 27] وقال: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(3) [سورة البقرة، الآية: 286] وقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(4) [سورة الحج، الآية: 78] وقال - صلى الله عليه وسلم - - إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين - (5). وقال - صلى الله عليه وسلم - - هلك المتنطعون ثلاثا - (6).
وقال: - إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه - (7).
- وعندما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وعندها امرأة سأل عنها فقالت عائشة- رضي الله عنها: هذه فلانة، تذكر من صلاتها وعبادتها، فقال - صلى الله عليه وسلم - مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا - " وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه" (8).
__________
(1) - سورة النساء آية: 171.
(2) - سورة الحديد آية: 27.
(3) - سورة البقرة آية: 286.
(4) - سورة الحج آية: 78.
(5) - أخرجه النسائي (5/268) كتاب مناسك الحج رقم (3057) وابن ماجة (2/1008) كتاب المناسك رقم (3029). وأحمد (1/215، 347) وصححه الحاكم (1/466) ووافقه الذهبي، ووافقها الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283).
(6) - أخرجه مسلم (4/2055) كتاب العلم رقم (2670).
(7) - أخرجه البخاري (1/15) كتاب الإيمان باب [29].
(8) - أخرجه البخاري (1/16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 [218]).(1/32)
- ولما دخل إلى المسجد ووجد حبلا بين ساريتين فسأل عنه، فقالوا: إنه حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال - صلى الله عليه وسلم - لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (1) .
ب- ومن صور عدم الواقعية أن يكون الشاب نشيطا متحمسا، في الدعوة إلى الله، أو في طلب العلم، يواصل الليل بالنهار، والصيف بالشتاء، ولكنه متساهل، بل مهمل لحق أهله، غير عابئ بشئون نفسه، مقصر مع أقاربه وذوي رحمه، وبعد سنوات يكتشف الخلل، فيبدأ تأنيب الضمير يعاتبه على تقصيره، ثم يسيطر هذا الأمر على تفكيره، بل قد يدخل الشيطان - وهو متحفز للدخول دائما - ويقول له: انظر إخوانك وزملاءك قد تزوجوا وبنوا البيوت، وامتلكوا من الدنيا ما لم تملك بسبب حالتك الأولى، وهنا تبدأ الوساوس والهواجس، والمشاريع الوهمية، ويدب الخلل إلى أوصاله، والفتور إلى أعماله، ورويدا رويدا حتى لم يعد في العير ولا في النفير.
وهكذا تكون النتائج إذا كانت البدايات، فما كان خاطئا أورث باطلا، وقليل هم أولئك الذين يصححون أوضاعهم وفق المنهج الشرعي، وإنما هي أفعال تتلوها ردود أفعال، هكذا الحال غالبا.
جـ- ومن الصور غير الواقعية أن يحدد الفرد أو المجموعة أهدافا غير واقعية، مع أن هذه الأهداف في ذاتها قد تكون مشروعة، ولكن بالنظر لظروف الزمان أو المكان فإنها غير عملية، وليس هذا أوانها أو مكانها، ويصدق عليهم قول الشاعر:
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ونحن أناس لا توسط عندنا
__________
(1) - أخرجه البخاري (2/48) كتاب التهجد باب [18] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين رقم (784).(1/33)
ويستمر العمل وتبذل الجهود - دون اكتشاف للخطأ - وتمر الأيام والسنون دون تحقيق شيء ذي بال من هذه الأهداف، فيدب السأم والملل، وتتبخر الأحلام، ويصدّق الواقع مثالية هذه الأهداف، فيبدأ الأفراد يتساقطون واحدا تلو الآخر، ومعلّموهم لا يملكون الجرأة في استدراك ما يمكن استدراكه، والمحافظة على البقية الباقية من الجهد والزمن والأفراد، بل قد يكون أولئك من زمرة القاعدين بل الهاربين.
د- ومن الصور التي تخالف الواقعية أن يتحمس الشاب لطلب العلم، وينظر فإذا هو قد فاته الشيء الكثير، فيبدأ في طلب العلم جادا نشيطا، ولكنه بدل أن يبدأ الطريق من أوله، ويعلو السلم من أسفله، إذا هو يبدأ بالأمهات، ويقرأ المطولات، دون أن يكون ملما بالأصول والقواعد والمختصرات، بل قد لا يعرف بعض الأبجديات والبدهيات، وتمضي الأيام فإذا هو قد بنى على غير أساس، وشيد بلا قواعد، فيدرك الخطأ بعد حين، ويرى أن ما بناه كان على شفا جرف هار، فيتأثر ويتحسر، وقد مضى من العمر ما مضى، فيدركه الضجر، ومن ثم الانقطاع ثم يندثر.
وقد فسر العلماء "الربانيون" في قوله تعالى: (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ)(1) [سورة المائدة، الآية: 44] بأنهم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره.
هـ- ومن صور عدم الواقعية التي تؤدي إلى الفتور كثيرا: عدم العناية بمتطلبات الجسد من الأكل والشرب والنوم، وكذلك تعاهد الجسد من الناحية الصحية، والناس في هذا بين إفراط وتفريط، وكلاهما يؤديان إلى الفتور والضعف. إن العناية بمأكل الإنسان ومشربه وصحته ونومه وما يتعلق بحق بدنه مما أوصى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث سلمان: - ولبدنك عليك حقا - (2). وإهمال ذلك أو المبالغة فيه يؤدي إلى نتائج سلبية عاجلا أو آجلا.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 44.
(2) - أخرجه البخاري (2/243) كتاب الصوم باب [51].(1/34)
ولنأخذ مثلا واحدا من حقوق البدن، وهو (النوم) ولندع ابن القيم يتحدث، حيث يقول (1) - رحمه الله -: "المفسد الخامس - يعني من مفسدات القلب - كثرة النوم، فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدا، ومنه الضار غير النافع للبدن". ثم ذكر أنواعا من النوم الضار والمكروه، ومما قال: "ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة". ثم قال:
"وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير، وهو مقادر ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
ثم قال: وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجرة مورث لآفات أخرى عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبة المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضا مختلفة، لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير، والله المستعان".
وخلاصة الأمر فإن الصور كثيرة، والمشكلة كبيرة، ولذلك فإن العلاج قد جاء في الكتاب والسنة في غير موضع، (2) والوسطية هي العلاج الحاسم والدواء الناجع، والتوازن مع قضايا هذا الدين مطلب ملح، ومراعاة ظروف الزمان والمكان منهج شرعي، والإفراط والتفريط بلاء وشطط، والغلو والجفاء مهلكة محققة.
__________
(1) - انظر مدارج السالكين 1/459.
(2) - انظر رسالة المؤلف (الوسطية في ضوء القرآن).(1/35)
وأنبه إلى خطورة السلبية باسم الواقعية، وهذا هو الداء الذي نخشاه، فتجده يردد دائما: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(1) [سورة البقرة، الآية: 286] و (لَا?يُكَلِّفُ?اللَّهُ?نَفْسًا إِلَّا?مَا?آتَاهَا) [سورة الطلاق، الآية: 7]. يضع هذه الآيات في غير موضعها، جهلا أو تجاهلا أو تخلصا، ولو صدق مع الله لفقه معنى الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، وكل ذلك في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
11- العقبات والمعوقات
طريق الدعوة إلى الله طريق مليء بالعقبات والأشواك، وليس طريقا مفروشا بالورود والرياحين، ولقد ركز القرآن الكريم على هذه القضية كثيرا تبصيرا للسائرين، وتثبيتا للعاملين، قال سبحانه: (الم أَحَسِب النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)(2) [سورة العنكبوت، الآيتان: 1، 2]. وقال جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(3) [سورة البقرة، الآية: 214]. وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 142].
والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، والأحاديث تؤكد هذه الحقيقة وتجليها، منها حديث خباب عندما " جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقال له: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا.. " الحديث (5).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 286.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-2.
(3) - سورة البقرة آية: 214.
(4) - سورة آل عمران آية: 142.
(5) - أخرجه البخاري (4/179) كتاب المناقب باب [25].(1/36)
وكذلك عندما مر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بآل ياسر وهم يعذبون قال لهم: - صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة - (1).
هذه هي طبيعة هذا الطريق، بل هذه علاماته، ولذلك قال أحد الدعاة عندما سئل عما لاقاه في سبيل دعوته - وقد عذب وسجن عدة سنوات - قال: "لولا هذه العقبات والمعوقات لشككنا في طريقنا".
ومن هنا فإن بعض الناس يبدأ دعوته، ثم ينشط في ذلك، ولكنه لم يكن يتصور حقيقة الابتلاء والفتنة، وإن كان يعلم هذا من الناحية النظرية، بل قد يلقي دروسا في ذلك، وعندما يقطع مرحلة في مسيرته المباركة تبدأ بنيات الطريق، ثم تتبعها أمور لم يكن قد هيأ نفسه لها، ثم يبدأ في التفكير والتوقعات، وقد يرى بعض الدعاة يفتنون، ومن ثم يأتيه الشيطان فيوسوس له، وتبدأ هذه القضايا تعمل في تفكيره، وتؤثر على عمله، وسرعان ما يتحول من ذلك الرجل الذي عرفناه بالنشاط والدأب والحركة إلى رجل يتسلى بماضيه عن حاضره، ويصبح جزءا من التاريخ بعد أن كان تاريخا، بل بعد أن كان يكتب التاريخ، ويجيد صناعة الحياة.
إن الفقه في سنن الله، ومعرفة سنة الابتلاء والامتحان، وكثرة مدارسة القرآن ودراسة السنة، ومعايشة سير الأنبياء والمرسلين، والدعاة والمصلحين، سبيل للنجاة من داء الفتور بسبب ما يلقاه الداعية في طريقه إلى الله، وتأمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 200].
12- الفردية
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك (3/388، 389). وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/296): رواه الطبراني ورجاله ثقات. وفي لفظ: "أبشروا آل ياسر، موعدكم الجنة". قال الهيثمي في المجمع (9/296): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة.
(2) - سورة آل عمران آية: 200.(1/37)
دين الإسلام دين جماعي، لا مكان للفردية فيه، (1) ومظاهر الجماعية فيه لا تعد ولا تحصى، فالصلاة جماعية، والزكاة تعبير عن تضامن جماعي بين الأغنياء والفقراء، والصيام، والحج - صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون - الحديث (2).
بل يصل الأمر إلى الأمور المألوفة عند الناس كالنسل، فهو نتاج تزاوج بين رجل وامرأة، مع أن الله قادر على أن يخرج النسل من أحدهما دون الآخر، كما خلق حواء من آدم، وأخرج عيسى من مريم، بل من دونهما كما خلق آدم من تراب، بل إن أمور العادات حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أدائها جماعية، كالأكل، قال - صلى الله عليه وسلم - - اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه - (3) والسفر حيث قال - صلى الله عليه وسلم - - والثلاثة ركب - ، (4) والنوم فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الوحدة، أن يبيت وحده، أو يسافر وحده (5).
فإذا كان هذا أثر الاجتماع في أمور حياتنا ودنيانا، فكيف يكون أثره في حماية ديننا؟
ولقد جاءت الآيات والأحاديث تطرق هذا الباب وتؤصله:
__________
(1) - هناك بعض العبادات كقيام الليل والنوافل ونحوها قد تكون فردية، ولكن المراد أن الأعمال الجماعية أكثر وأعم.
(2) - أخرجه الترمذي (3/ 80) كتاب الصيام رقم (697). قال الترمذي: حسن غريب وحسنه الألباني كما في الإرواء رقم (905).
(3) - أخرجه أبو داود (2/346) كتاب الأطعمة رقم (3764) وابن ماجه (2/1093) كتاب الأطعمة، رقم (3286) وأحمد في المسند (3/501) والحاكم في المستدرك (2/103) قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (2/5) إسناده حسن.
(4) - أخرجه أبو داود (3/36) كتاب الجهاد، رقم (2607) وأحمد في المسند (2/186). وصححه الألباني انظر صحيح الجامع رقم (3524).
(5) - أخرجه أحمد في المسند (2/91) قال الهيثمي في المجمع (8/107): رجاله رجال الصحيح.(1/38)
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (1) [سورة آل عمران الآية: 103] (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(2) [سورة المائدة، الآية: 2].
ونهى عن الفرقة والتفرق والاختلاف:
(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ)(3) [سورة آل عمران، الآية:105] (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ)(4) [سورة الأنعام، الآية: 159] (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(5) [سورة الروم، الآية: 31، 32 ].
والأحاديث كثيرة جدا منها:
- عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة - (6).
وقال: - وآمركم بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد والجماعة، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا كانت ميتته ميتة جاهلية - (7).
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كدر الجماعة خير من صفو الفرد.
وقال المبارك ابن المبارك:
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 103.
(2) - سورة المائدة آية: 2.
(3) - سورة آل عمران آية: 105.
(4) - سورة الأنعام آية: 159.
(5) - سورة الروم آية: 31-32.
(6) - أخرجه الترمذي (4/404) كتاب الفتن، رقم (2165) وأحمد في المسند (1/18) والحاكم في المستدرك (1/114) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في تخريجه للسنة لابن أبي عاصم رقم (88).
(7) - أخرجه أحمد في المسند (5/344) قال الهيثمي في المجمع (5/220): رواه أحمد ورجاله ثقات رجال الصحيح خلا علي بن إسحاق السلمي وهو ثقة. وأخرجه أحمد أيضا انظر المسند (4/130، 202).(1/39)
ولكان أضعفنا نهبا لأقوانا
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل
وبهذا يتضح لنا أن الجماعة هي الأصل، والمراد بذلك لزوم جماعة المسلمين، جماعة أهل السنة والجماعة، وهي الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية (1). وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
ومن هنا فإن من شذ عن هذا الأصل العظيم، وآثر الفردية، أو حياة العزلة والتفرد، فإنه منقطع أثناء الطريق، وستخور قواه وتضعف عزيمته، ويدركه الملل والسأم، وستكون حاله كالمنبت الذي لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وصدق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية - (2).
13- الجمود في أساليب العمل ومراحل الدعوة
المتتبع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراحل دعوته يجد فيها التجديد، والانتقال من مرحلة إلى أخرى، مراعاة للزمان والمكان والأفراد.
ومما يلحظ على بعض الأفراد والجماعات الجمود على بعض الأساليب الاجتهادية، مع تغير الأحوال وتبدل الأزمان، وكذلك التقوقع على مرحلة دون التحول والانتقال عنها إلى غيرها، مع أن طبيعة المرحلة وظروف العمل تقتضي النقلة إلى مرحلة أخرى، وهذا مما يصيب الدعاة بالرتابة والملل، ومن ثم يبدأ التفلت والكسل.
__________
(1) - من الأخطاء المعاصرة أن بعض الجماعات اعتبرت نفسها هي جماعة المسلمين، واستدلت بهذه الآيات والأحاديث على نفسها فحجرت واسعا، وضيقت رحبا.
(2) - أخرجه أبو داود (1/150) كتاب الصلاة رقم (5047) والنسائي (2/107) كتاب الإمامة رقم (847). وأحمد في المسند (5/196) (6/446) قال الألباني في تعليقه على المشكاة رقم (1067): إسناده حسن وأشار إلى أن النووي قد صححه.(1/40)
ولذلك فإن على الدعاة أن يولوا هذا الجانب أهمية قصوى، وأن يدرسوا منهج القرآن والسنة في ذلك، ويروا الفرق بين العهد المكي والعهد المدني، بل يروا التجديد في العهد المكي نفسه، وقل مثل ذلك في العهد المدني، فتجد التجديد في المراحل، والتنوع في الأساليب، وتلحظ البعد عن الرتابة والجمود.
إن النفس البشرية كالماء إذا وقف أسن، وكالشجرة إذا لم يجدد لها الهواء ذبلت.
والداعية نفسه يحتاج إلى التجديد والابتكار، مع المحافظة على الأصل والمنهج، ولنأخذ هذا المثال: لو أن رجلا سافر من بلده لأداء العمرة والمسافة طويلة، فلما عاد إلى بلده طلبت المجموعة نفسها العودة مرة أخرى لأداء العمرة ثانية، هل سيكون هذا الرجل بالنشاط والحماس نفسه كالمرة الأولى؟
الجواب طبعا: لا، ولكنه لو وجد مجموعة أخرى وغيرت الوسيلة، فبدل السفر في السيارة يكون السفر بالطائرة أو العكس، سيجد نشاطا وحماسا قد يفوق الرحلة الأولى، وبخاصة إذا كان هؤلاء أفضل من أولئك.
وأيضا، مما تجب مراعاته أن الإنسان في مراحل عمره يناسبه في كل مرحلة ما لا يناسبه في المرحلة الأخرى، وذلك تبعا لتغير السن والظروف الاجتماعية، والمستوى العلمي وغيرها، ولهذا فإنه يجب أن يمارس من الأعمال ما يناسب واقعه وظروفه وسنه، وتحسن المبادرة في تحوله من عمل إلى آخر قبل أن يملّ ويفتر، لأن الانتظار حتى يتعب ويكل، ثم ينتقل إلى مجال آخر، سيترك أثره على عمله الجديد.
إن مجالات الدعوة ليست محصورة في جانب واحد، وأصحاب الهمم الضعيفة هم أولئك الذين يحجرون واسعا، ويجمدون كالماء في برد الشتاء. ومن المعلوم أن من سمات هذه الأمة (التجديد) وهم أولئك الذين يبعثهم الله على رأس كل قرن يجددون لهذه الأمة أمر دينها على منهاج النبوة، وفرق كبير بين التجديد والتجميد، فتأمل.(1/41)
وهنا قضية لا بد من الإشارة إليها، وهي أنه مع أهمية التجديد والتنويع في الأساليب، يجب أن يكون هذا في حدود مقتضيات طبيعة الدعوة والحاجة التي تدعو إلى ذلك، أما إذا أصبح التجديد مرادا لذاته، والتغيير والتبديل سمة من سمات العمل، فقدت الدعوة استقرارها، ففي كل فترة خطة، ينتقلون عن هذه، ثم يعودون إلى تلك، وكأن الدعوة ميدان للتجارب ومركز للأبحاث، في هذه الحالة ستكون النتائج سلبية، وسيكون التفلت وعدم الثقة والفتور أشد وأنكى.
والمنهج الصحيح هو التوسط، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا إفراط ولا تفريط، وما يعقلها إلا العالمون.
وقل مثل ذلك في حالة الفرد الذي لا يستقر على منهج، ولا يثبت على عمل من الزمن، كثير التجوال والترحال حسا ومعنى، وهذا هو المنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
14- الانحراف عن مسار الهدف الصحيح
قد تنشأ جماعة إسلامية في بلد من البلدان، وتكون نشأتها على هدي النبوة ومنهج السلف الصالح، وتنطلق قوية نشيطة مؤثرة في المجتمع، ومن ثم تستقطب آلاف الناس، وبخاصة الشباب منهم، وتبدأ في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، وتواجه ظروفا جديدة في الحياة تتطلب قدرا من الشجاعة في اتخاذ القرار الصحيح، المستمد من الكتاب والسنة، وقد تزاحمها جماعات أخرى، مما يدخلها في مرحلة من الابتلاء والامتحان.
وتبعا لهذه الظروف والأوضاع قد تجد هذه الجماعة نفسها عاجزة عن المضي في طريقها الذي رسمته، وعلى أصولها التي قامت عليها، فيبدأ الخلل، ويتوسع في قاعدة المصلحة المرسلة أو (مصلحة الدعوة)، وتأخذ الاجتهادات (غير المؤصلة) طريقها إلى التنفيذ، وتستسلم للضغوط الداخلية والخارجية.
ومن هنا يتلفت الأتباع، وبخاصة المخلصون منهم والبعيدون عن التعصب والحزبية، فلا يجدون الأمر كما عهدوا، ولا الشأن كما عرفوا، وقد تكون الصورة غير واضحة بالنسبة لهم، فيحدث في نفوسهم نوع من القلق والتوتر، وتحسر على ما مضى من عمر هذه نهايته.(1/42)
وتعمل هذه الأفكار والهواجس عملها في النفوس، فيؤثرون حياة العزلة والانطواء، ويستسلمون للدعة والراحة، حيث إنهم لا يملكون الشجاعة على استئناف حياة جديدة، تحافظ على العهد وتبقي على الأصل، فإن الدعوة ليست ملكا لزيد أو عمرو، وإنما هذا دين الله، لا توقفه أهواء البشر، ولا قعود القاعدين (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(1) [سورة محمد، الآية: 38].
15- عدم استشعار التحدي
من الأسباب المؤثرة في حياة الدعاة وطلاب العلم عدم إدراكهم لواقعهم، ومن ثم عدم إدراكهم للتحدي الكبير الذي تواجهه هذه الأمة، من أعدائها من خارجها ومن داخلها.
وحقيقة التحدي عبر عنها القرآن في أكثر من موضع، قال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(2) [سورة البقرة، الآية: 120] (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ)(3) [سورة النساء، الآية: 89] وقال: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)(4) [سورة التوبة، الآية: 32] وقال: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)(5) [سورة المنافقون، الآية: 4] (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً)(6) [سورة النساء، الآية: 102].
إن شعور المسلم بالتحدي من قبل أعدائه يجعله متيقظا، جادا في مواجهة هذا التحدي، وغفلته عنه تؤدي به إلى حياة الدعة والراحة والسكون، بل إلى حياة التهلكة كما عبر القرآن: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(7) [سورة البقرة، الآية: 195].
__________
(1) - سورة محمد آية: 38.
(2) - سورة البقرة آية: 120.
(3) - سورة النساء آية: 89.
(4) - سورة التوبة آية: 32.
(5) - سورة المنافقون آية: 4.
(6) - سورة النساء آية: 102.
(7) - سورة البقرة آية: 195.(1/43)
وانظر إلى ما قاله أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - حولها تعرف الحقيقة، قال: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنما لما أعز الله دينه وكثر ناصريه، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سرا من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يرد علينا ما هممنا به (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(1) [سورة البقرة، الآية: 195]. بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله. (الطبري 2/204).
إن أي دولة تحس بالخطر على حدودها تستنفر جيشها وشعبها لمواجهة الخطر الجديد، بل إن الحيوانات إذا أحست بالخطر استنفرت قواها، وتحفزت للدفاع عن نفسها، فإذا زال الخطر عادت إلى حالتها الأولى، ومن الأمثال العربية المعروفة "لو ترك القطا ليلا نام" فإحساس القطا بالخطر أذهب عنه النوم.
وهكذا المسلم، فإن شعوره بالتحدي يجعله بعيدا عن حياة الكسل والخمول والخور، وفقدانه لهذا الشعور يؤدي به إلى التثاقل والفتور، أرأيت لو أحس أحدنا باللصوص حول بيته هل ينام ساعة من الليل، أم يظل متيقظا مستعدا متحفزا، فكيف إذا كان اللصوص لصوص دين لا دنيا؟
ولكن:
ما لجرح بميت إيلام
من يهن يسهل الهوان عليه
16- ضعف التربية
يحتاج المسلم إلى تربية طويلة، مؤصلة، شاملة، وبخاصة في الجانب العبادي والعلمي.
ولقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته خير تربية عرفتها البشرية، ولم يكن هذا بالأمر السهل والهين، بل مكث سنوات طويلة في مكة، وبعد ذلك في المدينة، يتعاهد صحابته، ويربيهم على عينيه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 195.(1/44)
وتطلب هذا الأمر جهودا مضاعفة وسنوات متوالية، حتى تخرج على يديه الكريمتين تلك الصفوة المباركة، التي ما عرف التاريخ ولن يعرف مثلها، سجلوا أمجادهم بمداد من نور، واجهوا المشكلات والعقبات، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ذلوا، وما استكانوا، وما ضعفوا.
وشباب الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى التربية الشاملة المتوازنة، المستمدة من الكتاب والسنة، وعلى هدي سلف الأمة.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن هناك ضعفا ظاهرا في تربية رجال الأمة وشبابها، بل ونسائها، وأصبح الالتزام مظهرا عاما في داخله دخن عند كثير من الملتزمين، قد لا يثبت عند مواجهة الشدائد والمحن.
فالصلة بالله ضعيفة، والعلم قليل، والتجربة محدودة، بينما المشاعر فياضة، والحماس طاغ، وقد يسر الناظرين، كالسراب " يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " إلا من عصم الله ووفق وثبت.
وقد كثرت الشكوى هذه الأيام من أولئك الذين ضعفوا بعد استقامة، وأصبحت تكوّن ظاهرة تحتاج إلى علاج، ووجدت أن من أبرز أسبابها ضعف التربية، مع كثرة الشهوات والشبهات، فعلى العلماء وطلاب العلم والمربين المبادرة قبل فوات الأوان، وتمني أن الذي كان ما كان.
ومما تجب الإشارة إليه في باب ضعف التربية ما يلي:
1-ضعف البدايات، وعدم بناء الشخصية المسلمة على أسس قوية مؤصلة، مما يجعلها هزيلة غير متمكنة، تميل إلى ما قامت عليه وتحن إليه، مما يجعل صاحبها يعاني أيما معاناة.
ب- عدم التدريب على المبادرة، بل أحيانا تربية الفرد على السلبية وانتظار التكاليف، فهو إمعة ومقلد.
ج-ضعف الثقة بالنفس، والخوف من الإحباط والفشل، والتهيب من كل جديد.
د- الغفلة عن مبدأ الثواب والعقاب، أو إساءة استخدامه.
هـ-التعنيف في المحاسبة، وتضخيم الأخطاء، وكثرة العتاب، وعدم مراعاة الفروق الفردية، والظروف الاجتماعية، مما يسبب للشاب نفورا ووحشة وإحباطا.(1/45)
و- إبراز الشخص وتحميله مسئوليات كبيرة قبل نضجه وإعداده وتربيته، وهذا بلاء عواقبه وخيمة في العاجل أو الآجل.
17- عدم التجانس بين الموهبة والعمل
من الأخطاء التي يقع فيها بعض الدعاة أن يقوم بمزاولة عمل لا يناسبه، ويختلف مع طبيعته ومواهبه، كأن يزاول الكتابة وهو لا يجيدها، أو الخطابة وهو ليس من أهلها، وهلم جرا.
ويستمر الصراع في داخله بين قدراته وإمكاناته، وبين ما كلف نفسه به، وتزداد معاناته شيئا فشيئا، وبخاصة عندما يهم القيام بهذا الأمر، حتى يصبح هذا العمل عبئا ثقيلا على نفسه، يفرح بالأسباب الظاهرة التي يتخلص فيها من أداء هذه المهمة- مؤقتا- كتوقف الدروس والمحاضرات بسبب الإجازة أو الامتحان، ونحو ذلك.
وفي النهاية تنتصر النفس، وتظهر على حقيقتها، ويتغلب الأصل على الفرع، ومن ثم يمل ويفتر، ويضعف ويتوقف.
وقد كان في سعة من أمره، ومجالات الدعوة ليست محصورة في مجال أو مجالين، فإذا اكتشف أن مواهبه لا تساعده للقيام في هذه المهمة انتقل إلى مهمة أخرى، دون أن يضيع الجهود والعمر، بل والنية أحيانا، والشاعر يقول:
وجاوزه إلى ما تستطيع
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وفرق بين أن يزاول المرء عملا مؤقتا ولو لم يجد نفسه فيه، حيث لكل حالة ما يناسبها، وبين أن يستمر في هذا العمل ويعرف من خلاله، وهو لا ناقة له فيه ولا جمل، وإنما كلف نفسه شططا، وأمر الله واسع (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(1) [سورة البقرة، الآية: 286]، ويقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: - عليكم بما تطيقون - (2).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 286.
(2) - أخرجه البخاري (1/ 16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/ 542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 ]218[).(1/46)
ومن هذا المنطلق فإن على العلماء والمربين أن يكتشفوا مواهب طلابهم- مبكرا- حتى يربوهم على القيام بما يحسنون، وما ترتاح له نفوسهم، ويجدون القدرة على الإبداع والتفوق فيه، وبخاصة أن بعض الطلاب قد يجامل شيخه، ولا يصرح له بثقل هذا الأمر عليه، وعدم ارتياحه له، لضعف مواهبه فيه.
وهنا أنبه إلى أمرين:
أ- أن بعض الأعمال يمكن التعويض عن نقص الموهبة بالتدريب والتعليم والمران، حتى تصبح أمرا عاديا، ويلجأ إلى هذا الأمر، مع ما يتطلبه من جهد ووقت في حالة عدم وجود من يقوم بهذا الأمر رغبة وموهبة، مع الحاجة الماسة إليه.
ب- كل ما سبق في الأمور الاختيارية من فروض الكفاية والمستحبات، أما الواجب العيني فلا خيار، ما لم يكن هناك عذر شرعي معتبر.
18- اختلاف البيئة
بعض الدعاة وهبهم الله قدرة فائقة للقيام بالدعوة في مختلف البيئات والمجتمعات، يتكيفون حسب الحال والزمان، علمهم واسع، ونفسياتهم رحبة، وقدراتهم متعددة، هؤلاء غير معنيين بحديثنا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وإنما هناك آخرون ينشطون في مكان دون آخر، ويبدعون في بيئة دون سواها، ويتفوقون في مجتمع معين، فإذا تحولوا عنه تغيروا. وبعض الطلاب إذا كان مع مجموعة من زملائه يرتاح لهم ويرتاحون له تجد فيه الحيوية والنشاط، فإذا انتقل أو نقل إلى آخرين سرعان ما تخبو مواهبه، وتضعف عزيمته، وتلحقه السآمة والملل، ولو أعدته إلى بيئته الأولى لعاد كما عهدناه يتدفق حيوية ونشاطا، وهذا مصداق حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف - (1).
ومما يلحق في هذا الباب الانقطاع عن العمل فترة طويلة، مما يصعب عليه العودة إليه، وإذا عاد فإذا هو ليس كما كان، لاختلاف الأحوال والأزمان، مما يرهقه ومن ثم يفتره.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/ 104) كتاب الأنبياء، باب [2] ومسلم (4/ 2031) كتاب البر والصلة رقم (2638).(1/47)
ولذلك يحسن التنبيه على أن من اضطر إلى التوقف عن العمل لسبب عارض، ألا ينقطع عنه كلية، بل عليه أن يجاهد نفسه، لتسهل عليه العودة، وحتى لا تكون بينه وبين العمل أو إخوانه وحشة.
19- طول الأمد وقلة المعين والناصر
وقد ورد في هذا نص في كتاب الله، فتأمل معي هذه الآية في سورة الحديد: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)(1) [سورة الحديد، الآية: 16].
فإذا أضيف إلى طول الأمد طول الأمل لدى الإنسان، ازداد حجم المشكلة، وضعفت إرادة المرء وقوته، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الإنسان مجبول على طول الأمل، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لا يزال قلب الكبير شابا في اثنين في حب المال وطول الأمل - (2).
إن طول الطريق مع ما فيه من عقبات ومشاق يصيب الكثيرين بالضعف والوهن، فإذا أضيف إليه قلة المعين والناصر، وتخلي الأحباب والأصحاب، مما يجعل الإنسان يعيش في غربة مزدوجة، كل ذلك مدعاة للتراجع والفتور، والتماس الأعذار، والبحث عن مبررات القعود.
__________
(1) - سورة الحديد آية: 16.
(2) - أخرجه البخاري (7/ 171) كتاب الرقاق، باب [5] ومسلم (2/ 724) كتاب الزكاة، رقم (1046، 1047).(1/48)
إن تذكر الآخرة، وزيارة القبور، وقوة الصلة بالله، وكثرة الطاعات، وتوقع زيارة ملك الموت بدون سابق موعد، والبحث عن الرفقة الصالحة التي تعينه على الطاعات، كل هذا ينجيه من هذا الداء، مع التخلص من الآمال العريضة الكاذبة، التي أودت بمن قبلنا: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(1) [سورة الحجر، الآية: 3]. وما أحسن قول الشاعر:
إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
تزود من التقوى فإنك لا تدري
فكم من سليم مات من غير علة
وكم من فتى يمسي ويصبح آمنا
إن تجديد الإيمان وتعاهده، ومحاسبة النفس، والتأمل في سير من خلا، من العوامل المساعدة في التغلب على طول الطريق ومنعطفاته. وثقته بالله واعتماده عليه يغنيه عن تخلي رفاق الطريق، وقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند قول لوط - عليه السلام - لقومه: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(2) [سورة هود، الآية: 80 ]. قال - صلى الله عليه وسلم - - رحمة الله على لوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [سورة هود الآية: 80]. ما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه - والثروة: الكثرة والمنعة (3).
20- الأوهام
مما يفسد العمل ويضعفه، بل ويقضي عليه: كثرة الأوهام والوساوس.
والشيطان له قصب السبق في هذا المجال، بل إن هذا مجاله، كما قال - صلى الله عليه وسلم - - الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة - (4).
__________
(1) - سورة الحجر آية: 3.
(2) - سورة هود آية: 80.
(3) - انظر تفسير الطبري 13/87: وانظر الدر المنثور (3/ 621) فقد عزاه السيوطي لابن جرير.
(4) - أخرجه أبو داود (4/329) كتاب الأدب رقم (5112) وأحمد في المسند (1/ 340).(1/49)
فكم من الدعاة من كان نشيطا ومؤثرا، وبدأت الأوهام تخترق تفكيره، فمرة يتذكر أولاده، ومن لهم بعده ؟ ومرة يتصور السجن وما يجري فيه، وثالثة حب الوظيفة وما قد يعتريها، وأخرى مراقبة البشر وملاحقتهم له، وتستمر الأوهام والتخيلات والوساوس، حتى لا يقف عند حد، بل قد يصل الأمر إلى عقيدته، حيث يخشى من الناس والله أحق أن يخشاه.
ولنقف مع هذه الآيات متدبرين متفكرين: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)(1) [سورة الزمر، الآية: 36]. (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 175]. (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 173]. (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(4) [سورة المائدة، الآية: 44 ]. (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ)(5) [سورة الناس، الآيات: 1- 6].
وهذه السورة خير علاج لقطع الوساوس والأوهام، مع العمل الجاد المثمر، وعدم إطلاق العنان للأوهام والهواجس التي لا تستند إلى حقيقة، بل هي ضرب من الخيال، ومدعاة للإرجاف والخذلان، ورحم الله الصديق حيث قال: " اطلبوا الموت توهب لكم الحياة ".
__________
(1) - سورة الزمر آية: 36.
(2) - سورة آل عمران آية: 175.
(3) - سورة آل عمران آية: 173.
(4) - سورة المائدة آية: 44.
(5) - سورة الناس آية: 1-6.(1/50)
والمنهج الصحيح يبينه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)(1) [سورة الأعراف، الآية: 201]. وقوله: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(2) [سورة فصلت، الآية: 36].
21- أسباب أخرى
وهنا جملة أخرى من الأسباب التي توصل إلى الفتور، وتؤدي إلى الكسل والتراخي، وهي تختلف في التأثير قوة وضعفا، وسأذكرها مختصرة، ليكون طلاب العلم والدعاة على حذر من الوقوع فيها، والحر تكفيه الإشارة.
أ- أمراض القلوب، كالحسد وسوء الظن والغل، ومن أسوأ أمراض القلوب الحزبية، فهي مجمع الأمراض، ومواطن الأدواء، وصاحبها يحسب أنه يحسن صنعا (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)(3) سورة فاطر، الآية: 8].
إن القلب إذا أصيب بهذه الأمراض وأمثالها انشغل بالخلق عن الخالق، وزادت همومه، وخارت قواه، يحزن لفرح أخيه المسلم، ويسر لما يحزنه:
فإن صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
اصبر على مضض الحسود
النار تأكل بعضها
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 201.
(2) - سورة فصلت آية: 36.
(3) - سورة فاطر آية: 8.(1/51)
ب- الشهوة الخفية (1) وهذه قل أن يسلم منها أحد، إلا من عصم الله ورحم، فيبدأ الداعية وطالب العلم بإخلاص وتجرد، ثم يزداد العلم، ويتجمع الناس، ويعطى فصاحة وقوة تأثير، فتبدأ المطامع تتحرك بين جنبيه، فيحب أن يجلس الناس إليه، وأن يقوموا- أيضا- ويتطلع إلى الدنيا وزينتها، والرفعة والمكانة، لا يرضى إلا أن يتصدر في المجالس، ويحزنه ألا ينادى بأحسن الألقاب - وإن لم يظهر ذلك -، ولذلك كانت شهوة خفية، وقد تتأصل حتى تصبح معلنة، وعندما سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الشهوة الخفية قال: - هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يُجلس إليه - (2) نعوذ بالله من الخذلان.
ومن كانت هذه حاله فمآله إلى التحول عما هو عليه، لأنه تعلق بالمخلوقين دون الخالق، والله جل وعلا يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)(3) [سورة القصص، الآية: 83].
__________
(1) - مع أن هذا السبب يرجع إلى الإخلاص، ولكن لأهميته وعموم البلوى به أفردته.
(2) - أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 233) بسند مرسل وفيه ابن لهيعة سيء الحفظ.
(3) - سورة القصص آية: 83.(1/52)
ج- التقصير في العبادة، (1) وبخاصة في عمل اليوم والليلة، فالأوراد لا يتعاهدها، والنوافل لا يشهدها، وتصل به الحال إلى عدم المواظبة على السنن الرواتب، بل قد يمر عليه عدة أيام لم يقرأ ورده من القرآن - إن كان له ورد - - والذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب - ، (2) وقد كان لشيخ الإسلام جلسة بعد صلاة الفجر حتى الضحى يذكر الله فيها، يقول عنها: هذه غدوتي لو لم أفعلها لخارت قواي.
إذا جمعتنا يا (نضير المجالس)
أولئك (أسلافي) فجئني بمثلهم
د- الحزبية والتعصب: وذلك أن بعض الأشخاص يتحزبون لبعض الجماعات، أو يتعصبون لبعض الأفراد من العلماء والدعاة، ويصل هذا الأمر، إلى حد الغلو- المنهي عنه- وتمر الأيام والسنون وهذا المسكين على حاله غاليا متعصبا متحزبا، فيكتشف الخلل، ويتضح له موطن الزلل، فإذا هو بسبب الحزبية قد وقع في مصائب كان يحسبها عبادة وقربة، وبسبب غلوه بهؤلاء الأشخاص وتعصبه لهم عادى أمما، وحارب أخيارا، ونابز أصحابا ورفاقا، فتزداد آلامه وأحزانه على ما مضى من عمره، وما سلف من عمله، فتعمل هذه الآلام والأحزان عملها فيه، حتى تخور قواه، ويدركه الوهن والضعف، ويستسلم للهموم واجترار الماضي، فيضيف إلى المصيبة بلية، وإلى المرض سقما.
__________
(1) - هذا السبب من أعظم الأسباب أثرا، وكثير من الناس يعلل ضعفه في العبادة لانشغاله بالدعوة إلى الله، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداعية الأول، وعبادته لربه وصلته به مما تتقاصر دونه الهمم، فكن على حذر قبل استفحال الداء ومن ثم تعسر الدواء (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب). ]سورة الشرح، الآيتان: 7، 8[.
(2) - أخرجه الترمذي (5/162) كتاب فضائل القرآن رقم (2913) وأحمد في المسند (1/223). قال الترمذي: حسن صحيح.(1/53)
وكان الأحرى به أن يعوض ما فات بالتوبة والعمل، والجد والاجتهاد، فإن التوبة تجب ما قبلها، - وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن - (1).
هـ - المجاملة وعدم المناصحة والمصارحة، وهذه قريبة من تلك، ولكنها قد لا تكون ناشئة من تعصب أو حزبية، وإنما من ضعف ومحاباة، فتكثر الأخطاء، وتتسع الهوة، والمجاملة لها حدود، والسكوت عن مواطن الزلل له مدى، فتصل الأمور إلى نهايتها بعد حين، ويؤثر السلامة والعافية، وما سلم وما تعافى، وهو كمن هرب من القوم ووقع في السرية.
ويدخل في هذا الباب عدم الاستجابة للناصحين، وعدم سماع نداء المخلصين، فتكون العزلة هي الطريق، وما هي بطريق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
و- عدم تحقق الأهداف، (2) وتأخر النصر، والشعور بعدم الإنتاج، وضعف الثمرة، كل هذه أمور تفت في عضد الرجال، ولا يتحملها إلا أولو العزم- وقليل ما هم-، والإنسان ضعيف، فإذا رأى الأيام تمضي، والسنين تتعاقب، والناس معرضين، والشرور تزداد، والثمرة محدودة، داخله اليأس والقنوط، وبدأ في الشك وعدم الثقة في النفس، ثم يصاب بالإحباط، ويؤثر حياة العزلة والقعود.
ولو علم (حقيقة الانتصار) ودرس سير الأنبياء والمرسلين، وأنه ليس إلا مبلّغا، لما وقع في اليأس والفتور.
__________
(1) - أخرجه الترمذي (3/313) كتاب البر والصلة رقم (1987) وقال: حسن صحيح. وأحمد في المسند (5/153، 158).
(2) - انظر رسالة (حقيقة الانتصار) للمؤلف تجد الكلام مفصلا.(1/54)
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1) [سورة النحل، الآية: 35]. (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة يس، الآية: 17]. (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(3) سورة البقرة، الآية: 272]. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة يوسف، الآية:103]. (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)(5) [سورة يونس، الآية: 99]. وليتأمل الحديث الصحيح: - يأتي النبي وليس معه أحد - الحديث (6).
ز- عدم الاستقرار على برنامج أو عمل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، ولكن لأهميته وغفلة الناس عنه أفردته، فبعض الناس يبدأ في العمل ثم يتحول عنه، ويتعرف على مجموعة من طلاب العلم ثم يهجرهم إلى غيرهم، ويقرأ على شيخ ثم ينقطع عنه بعد حين، يشرع في الكتاب ولا يتمه، وتستمر حاله هكذا، منبتا، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، لا هو مع العير ولا مع النفير. وهذا سرعان ما يخبوا حماسه، وتقف أنفاسه، ويعود كما كان، ضعفا بعد قوة.
إن من أسباب هذا السبب سرعة تغير القَناعات، وعدم بناء قناعاته على أصول وثوابت يركن إليها، ودون دراسة علمية جادة ينطلق منها، بل هي عواطف غير مؤصلة، ومواقف حماسية لا تستند إلى برهان، فتقذفه يمنة ويسرة، فهو كما قال الأول:
وإن لاقيت معدا فعدنان
يمانيا إن لاقيت ذا يمن
ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنافق بقوله: - مثل المنافق مثل الشاة العاثرة بين الغنمين، تصير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع - رواه مسلم (7).
__________
(1) - سورة النحل آية: 35.
(2) - سورة يس آية: 17.
(3) - سورة البقرة آية: 272.
(4) - سورة يوسف آية: 103.
(5) - سورة يونس آية: 99.
(6) - أخرجه مسلم (1/ 199) كتاب الإيمان، رقم (220).
(7) - صحيح مسلم (4/2146) كتاب صفات المنافقين، رقم (2784).(1/55)
ح - الخلاف بين طلاب العلم، والخصام بين الدعاة، يقطع الظهور، ويدمي القلوب، ويورث فيها حسرة وألما، ثم تبدأ مرحلة الشك والريبة، ويتدخل الهوى ليؤدي دوره، فيقع المحبون في حيرة، لا يدركون سر الخلاف، ولا يقدرون على الوفاق، فيقول له القائل: انج بنفسك، وما نجا، وما هكذا يا سعد تورد الأبل.
وأصدق مثال على ذلك عصرنا الحاضر، والخلاف بين طلاب العلم على أشده، والنزاع بين الدعاة قد علا سهمه، وراج سوقه، ونفقت بضاعته، فأصبح المخلصون حيارى، والمحبون ثكالى، حتى بدءوا في التواري، وشرعوا في الانزواء والانطواء، بعد أن فقدوا الثقة، وتعطلت ملكة التفكير، ولم يملكوا القدرة على الإصلاح أو التغيير.
ط - التشكيك وإرجاف المنافقين، بلية من البلايا، ورزية من الرزايا، لا ينكر أثره، ولا تتجاهل عواقبه.
فترى الحديث في النيات والأهداف، وتصيد الأخطاء، وتتبع العثرات، وكيل التهم والافتراءات، حتى يصبح الحليم حيرانا، والعاقل أحمقا، ويتكلم الرويبضة، ولا يقف الأمر عند حد، بل هو كل يوم بين جزر ومد، وهم آخذون بالقاعدة النازية: اكذب اكذب حتى تُصدَّق، فيرتاب بعض الأتباع والمحبين، وقد يصل الأمر إلى ذات المعنيين، فيؤثرون العافية، ويتراجعون طلبا للسلامة، وما علموا أنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولو صدقوا لقالوا: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 173].
ي- الغفلة عن السنن الإلهية في الأمم والأفراد، مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يفسر بعض الظواهر والأحداث، ولذلك قد يصاب نتيجة لذلك بالإحباط والقنوط.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 173.(1/56)
ولو درس سنن الله في الأمم والمجتمعات والأفراد، من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية، لعلم الحكمة مما يرى ويسمع: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(1) [سورة الفتح، الآية:23]. (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)(2) [سورة فاطر، الآية:43]. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(3) [سورة الأحزاب، الآية: 62].
كـ- النظر إلى من هو دونه في الطاعة والعبادة والدعوة، وبخاصة إذا كان هذا المرأي له مكانة، ووصل إلى درجة من العلم، فيوسوس له الشيطان: هل أنت أفضل من هذا ؟ إنه يفعل كذا وكذا، بل قد يرتكب بعض المعاصي الظاهرة، أو يدخل بيته شيئا من آلات اللهو، فيكون فتنة عظيمة، وهذا يستمر في الهبوط، بحجة أن فلانا عمل كذا، أو لم يعمل كذا، فإذا انتهى من فلان انتقل إلى غيره ممن هو دونه، حتى يصل إلى درجة لا تسر الناظرين، والمهزوم لا يرده شيء.
يعش أبد الدهر بين الحفر
ومن يتهيب صعود الجبال
ل- وقوع الشخص في معصية تحرجه أمام أقرانه، وذلك أن هذا الأمر يحدث أثرا عظيما في نفس العاصي، مما يسبب له النفور من زملائه وإخوانه، وبخاصة إذا كانت هذه المعصية كبيرة في حقه، وتستغرب من مثله، فيستوحش منهم، ويتحاشى مجالسهم، وقد يصل به الأمر إلى الانحراف، والعيش في مجتمع يألف المعصية ولا ينكرها.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 23.
(2) - سورة فاطر آية: 43.
(3) - سورة الأحزاب آية: 62.(1/57)
ولذلك فإن على من وقع في معصية أن يتقي الله، وأن يتوب إليه، وعلى إخوانه أن يترفقوا به، وأن يدعوه إلى التوبة وعمل الصالحات (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(1) [سورة هود، الآية: 114]. وأن يكون لهم في معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاطب- رضي الله عنه- أسوة حسنة، وأن لا يعينوا الشيطان على أخيهم.
م - الدخول على أهل الدنيا (2) ومخالطتهم، وهذا باب يغفل عنه الكثيرون، وبخاصة أن البدايات تكون بنية صالحة، كالنصح، وإبعاد البطانة السيئة، ونحو ذلك، ثم يسمع منهم ما يضعف حماسه، وقد يفتن فيما يرى ويسمع، بل قد تتغير قناعاته ويدخله الشك، وشيئا فشيئا حتى نراه غير ما كنا نعرفه.
ومنهج السلف في هذا الأمر معروف، ولهذا تحاشى بعض السلف الدخول عليهم خوفا على دينهم، وهم من هم في الورع والتقوى، ولذلك فإن الدخول على هؤلاء له ضوابط ليس هذا مكان بيانها، حيث إن الأمر ليس متاحا لكل فرد، ولا في كل حين، وعلى من ذهب لغرض شرعي أن يكون حذرا متيقظا، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
ن- الجهل بفقه الأولويات:
__________
(1) - سورة هود آية: 114.
(2) - هناك من العلماء وطلاب العلم من يدخل عليهم لأغراض شرعية، وبخاصة فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ثبتهم الله، ومنهم من يزداد إيمانا، ولكن هؤلاء قلة بالنسبة لغيرهم، والعبرة بالأعم الأغلب.(1/58)
إن عدم إدراك فقه الأولويات يجعل طالب العلم والداعية في حيرة من أمره، فتتزاحم أمامه مجموعة من المصالح والأهداف، حتى تبدو متعارضة يصعب القيام بها جميعا (1) فيقدم هذه ويؤخر تلك دون ضابط أو قيد، ومن ثم تنشأ عن هذه مجموعة من المشكلات ينوء بحملها، سببها تقديم المهم على الأهم، والتكميلي على الضروري، والمندوب على الواجب. والإنسان له طاقة، ولقدراته حدود، فيصاب بالتعب والإرهاق والملل، وقد يستوحش ثم ينقطع.
س- أحاديث النفس ووساوس الشيطان:
من الأسباب الخفية أن يعمل الإنسان فترة طويلة، فيأتيه الشيطان ويقول له: إنك قد قمت بما يجب عليك، وقدمت الكثير، وغيرك لم يقدم نصف ما قدمت، فلو تفرغت لنفسك ولأهلك، وأنت أفضل من غيرك، فيحدث نفسه في هذا الأمر كثيرا.
فتعمل فيه هذه الوساوس، ويفتر شيئا فشيئا، ثم ينصرف عن العلم والدعوة، وهذا يُخشى عليه من حبوط العمل؛ لأن مبعث هذا الأمر قد يكون إعجابا بما قدم، أو منّة على الله بما عمل (قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(2) [سورة الحجرات، الآية: 17]. وقل مثل ذلك في كثير من أحاديث النفس ووسائس الشيطان، وخطورتها عندما يتكلم أو يعمل.
ع- الفتور في علاج الفتور، وذلك أن الفتور مرض من الأمراض تكون بداياته -غالبا- يسيرة، فإذا تساهل فيه المسلم، ولم يبادر إلى علاجه، والبحث عن أسبابه، سرعان ما يزداد ويتأصل، وهنا يصبح علاجه أشد وأقسى، ويحتاج إلى جهد مضاعف ووقت أطول.
وقل أن يسلم أحد من فتور عارض، ولكن يختلف الناس في مواجهة هذا الفتور، فمنهم الحازم اليقظ، الذي يبادر إلى تلافي هذا المرض واستدراكه، وآخرون يماطلون ويسوفون حتى يقع ما كنا منه نحاذر.
__________
(1) - من أدلة ذلك كثرة الأسئلة عن التوفيق بين العلم والدعوة، مع أنه لا تعارض بينهما، بل هما متلازمان.
(2) - سورة الحجرات آية: 17.(1/59)
ومع ذلك فعلى المسلم ألا يستسلم للنهاية حتى ولو كان فرط في البداية، فبعض الشر أهون من بعض، وليتذكر قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - ألا إن لكل شيء شرّة ولكل شرّة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدّوه - (1).
علاج الفتور
" ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله".
والفتور من أشد الأمراض المعنوية، وتتأكد خطورته حينما لا يحس الإنسان به، فيقضي عليه، كما تقضي بعض الأعراض على أصحابها حينما لا يدركون خطورتها، فيتساهلون في علاجها أول الأمر، فيصعب بعد ذلك تلافيها والقضاء عليها.
والفتور طريق الانحراف والضلال - غالبا- ذلك أن كثيرا من المنحرفين بعد استقامة والتزام مروا بمرحلة الفتور قبل انحرافهم وضلالهم.
ومن هنا تتأكد أهمية المبادرة إلى علاج الفتور، وعلاجه إما باتخاذ سبل الوقاية منه ابتداء، وإما بعمل الأسباب التي تذهبه بعد وقوعه. وأهم سبل العلاج تلافي أسبابه، ذلك أننا إذا تلافينا أسباب الفتور استطعنا بإذن الله أن نسلك المنهج الصحيح للنجاة منه.
وقد أشرت عند ذكر كثير من الأسباب إلى طرق العلاج باختصار، ولذلك فسأحاول عدم التكرار هنا، إلا لما أعتبره أصلا في العلاج وركنا من أركانه.
ولأنني أعتبر تلافي أسباب الفتور أهم وسيلة للنجاة منه، فسأذكر وسائل وطرق العلاج بما يناسب المقام، ذلك أن هذه الوسائل والعوامل واضحة لا لبس فيها ولا غموض، مما يكفينا مؤونة الشرح والتطويل، مما قد يصيب القارئ بالملل والفتور.
وبادئ ذي بدء أقول: إن القناعة بخطورة الفتور، ووجوب التخلص منه وقاية وعلاجا، ضمانه معتبرة للإفادة من سبل العلاج وطرق الخلاص.
__________
(1) - أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2151).(1/60)
وقد يرى البعض فيما ذكرته وما سأذكره أن هناك شيئا من التكرار، أو إغفال بعض الأسباب والوسائل، فأقول: إنني لا أدعي الكمال أو السلامة من النقص والتقصير، ولكن قد أكرر سببا أو وسيلة، وذلك لأهميته واشتماله على زيادة لم يتضمنها في الموضع الذي ورد فيه أولا.
أما إغفال ذكر بعض الأسباب والعوامل، فذلك إما لوروده ضمنا فيما ذكر، أو لأنني لا أرى أهميته وقوة تأثيره، وقد يكون ذهولا وتقصيرا، والكمال لله وحده.
والآن حان وقت الشروع في ذكر سبل وعوامل السلامة والنجاة من الفتور، ومن الله نستمد العون، ونسأله التوفيق والسداد.
1- تعاهد الإيمان وتجديده
روى الحاكم والطبراني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم - (1).
وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم - - ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء - (2).
إن تعاهد الإيمان وتجديده وقاية بإذن الله من كثير من الأمراض ومنها الفتور، ولذلك ذكر شيخ الإسلام أنه دائما يتعاهد إيمانه ويجدده.
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 4) وقال الهيثمي في المجمع (1/57) رواه الطبراني وإسناده حسن.
(2) - أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/196) وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (2268).(1/61)
وعلى هذا الباب يحمل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(1)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)(2) [سورة الأعراف، الآية: 201]. ومن هذا المنطلق زيادة الإيمان وصيانته: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ)(3) [سورة الفتح، الآية:4 ]. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)(4) [سورة التوبة، الآية: 124].
ومما يزيد الإيمان كثرة العبادة، والمحافظة على السنن والرواتب، وتعاهد قيام الليل وصلاة التهجد، وعدم ترك الوتر لا في حضر ولا سفر. وكذلك صيام النوافل وظمأ الهواجر، وتحري الأيام الفاضلة للمبادرة إلى صيامها.
ومما يزيد في الإيمان صدقة السر، وصلة الرحم والبر بالوالدين، والعطف على الفقراء والمساكين والأيتام، والإحسان إليهم، وتفقد أحوالهم. وقل مثل ذلك في العمرة، والحج، والتبكير إلى المساجد، والاعتكاف.
إن هذه العبادات تعطي المؤمن دفعة إيمانية، وزادا في الطريق، وتخفف عنه ما يجده من مصائب ومصاعب، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: - أرحنا يا بلال بالصلاة - (5).
2- مراقبة الله والإكثار من ذكره
حقيقة المراقبة: - أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك - (6). ومراقبة الله تستلزم عدة أمور:
1- خوفه وخشيته.
2- تعظيمه جل وعلا.
3- الإيمان المطلق بعلمه وإحاطته وقدرته.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 104.
(2) - سورة الأعراف آية: 201.
(3) - سورة الفتح آية: 4.
(4) - سورة التوبة آية: 124.
(5) - أخرجه أبو داود (4/296) كتاب الأدب رقم (4985، 4986) وأحمد في المسند (5/364، 371) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).
(6) - جزء من حديث جبريل الطويل. أخرجه مسلم (1/36) كتاب الإيمان رقم (8) والبخاري مختصرا (6/ 20، 21) كتاب التفسير سورة لقمان.(1/62)
4- محبته ورجاؤه.
إن الذي يستصحب هذه الأركان الإيمانية لا يمكن أن يفتر لحظة عن مراقبة الله وعبادته، وما يعين المسلم على ذلك كثرة ذكر الله، وتحميده وتمجيده سبحانه وتعالى، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث آمرة بذكر الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)(1) [سورة الأحزاب، الآية: 41]. (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)(2) [سورة العنكبوت، الآية: 45]. (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)(3) [سورة الكهف، الآية: 24]. (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(4) [سورة الرعد، الآية:28]. ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأذان بـ " الدعوة التامة"، (5) وكان لا يفتر لسانه عن ذكر الله، ولذلك قال: - لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله - (6).
وقراءة القرآن من أفضل الذكر، ولذلك فعلى المسلم أن يكون له ورد يومي من كتاب الله، وليحذر أن يكون ممن يهجر القرآن، فيدخل فيمن يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)(7) [سورة الفرقان، الآية:30]. والهجر يكون في العمل والتلاوة. ويجب أن يتدبر القرآن ويتفكر فيه، ليكون له الأثر في علمه وعمله، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(8) [سورة محمد، الآية: 24].
__________
(1) - سورة الأحزاب آية: 41.
(2) - سورة العنكبوت آية: 45.
(3) - سورة الكهف آية: 24.
(4) - سورة الرعد آية: 28.
(5) - أخرجه البخاري (1/153) كتاب الأذان، باب [8].
(6) - أخرجه الترمذي (4/427) كتاب الدعوات رقم (3375) وابن ماجة (2/1246) كتاب الأدب رقم (3793) قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7700).
(7) - سورة الفرقان آية: 30.
(8) - سورة محمد آية: 24.(1/63)
ومما يلحظ على بعض الدعاة وطلاب العلم في هذا العصر التساهل في هذا الباب والغفلة عنه، حتى إن بعضهم قد لا يتم أذكار ما بعد الصلوات، وأوراد الصباح والمساء، بحجة الانشغال بالدعوة والعلم، وهذا من الشيطان، وكان السلف يواظبون على ذكر الله كما وصفهم الله بقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 191]. وتأمل هذه الآية: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(2) [سورة البقرة، الآية: 152]. وهل يضعف أو يهن من كان الله له ذاكرا ؟.
يقول ابن القيم- رحمه الله-: (3) إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطق فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما.
وقال في موضع آخر عن فوائد الذكر: إنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي فقال: هذه غدوتي، ولم لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي (4).
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: - يا عبد الله بن قيس، قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة، قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله - (5).
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 191.
(2) - سورة البقرة آية: 152.
(3) - انظر الوابل الصيب ص155.
(4) - انظر الوابل الصيب ص85.
(5) - أخرجه البخاري (5/ 75) كتاب المغازي، باب [38] ومسلم (4/2076) كتاب الذكر رقم (2704).(1/64)
وفي رواية: - يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة - (1).
قال ابن القيم:
وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف ركوب الأهوال (2).
3- الإخلاص والتقوى
كما أن ضعف الإخلاص سبب من أسباب الفتور، فإن الإخلاص وتعاهده وتجديده من أعظم أسباب الوقاية من الفتور، ذلك أن المخلص المتقي يجعل الله في قلبه نورا وفرقانا، (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)(3) [سورة الأنفال، الآية: 29]. (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا)(4) [سورة الأنعام، الآية: 122]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(5) [سورة الحديد، الآية: 28].
والمزالق في طريق الداعية وطلب العلم كثيرة جدا، كالشهوة الخفية، والعجب، والتعلق بالدنيا، وهذه مهلكات علاجها الإخلاص والتقوى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(6) [سورة العنكبوت، الآية:69]. ولقد رأينا وعاصرنا علماء بلغوا فوق الثمانين وهم في قمة نشاطهم، وكأنهم في سن الثلاثين، وسر ذلك تقواهم وإخلاصهم - هكذا نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا -، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
4- تصفية القلوب
__________
(1) - انظر صحيح مسلم (4/2076، 2067) كتاب الذكر، رقم (2704).
(2) - انظر الوابل الصيب ص 157.
(3) - سورة الأنفال آية: 29.
(4) - سورة الأنعام آية: 122.
(5) - سورة الحديد آية: 28.
(6) - سورة العنكبوت آية: 69.(1/65)
امتن الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن شرح(1) له صدره (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(2) [سورة الشرح، الآية: 1]. ووصف أهل الجنة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ)(3) [ سورة الأعراف، الآية:43]. وأثنى على المؤمنين الذين يقولون في دعائهم: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)(4) [سورة الحشر، الآية: 10]. ووصف المؤمن والكافر في آية واحدة فقال: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)(5) [سورة الأنعام، الآية: 125].
إن تصفية القلوب من الأحقاد والحسد وسوء الظن من أعظم أسباب شرح الصدر، بل إن شرح الصدر وسلامة القلب مقترنان، وليس أقسى على المرء ولا أثقل من قلب مليء بالغل والهوى وسائر الأدناس، يقعده عن العمل ولا يهنأ بعيش، أما صاحب القلب السليم، والصدر المنشرح الحليم، فإنه يتجدد ويزداد نشاطا وإشراقا، وهكذا كان أبونا إبراهيم - عليه السلام – (إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(6) [سورة الصافات الآية: 84].
ومما يساهم في تصفية القلوب، وتنقيتها من الضغائن ما يلي:
أ- استمرار الصلة بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله، وفتح باب المناقشة وتقريب وجهات النظر، لأن البعد جفاء، والخلاف شر.
__________
(1) - وشرح الصدر حسا ومعنى حيث إن الشرح المعنوي أثر من الحسن.
(2) - سورة الشرح آية: 1.
(3) - سورة الأعراف آية: 43.
(4) - سورة الحشر آية: 10.
(5) - سورة الأنعام آية: 125.
(6) - سورة الصافات آية: 84.(1/66)
ب- التماس الأعذار، وحمل الناس على أحسن المحامل، ودفع السيئة بالحسنة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(1) [سورة فصلت، الآية: 34]. والعفو زينة الرجال (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(2) [سورة الشورى، الآية: 40].
جـ- المصارحة بين المسلم وإخوانه، وعدم الاستماع إلى الأقاويل والوشايات، والمبادرة إلى إزالة ما يقع، والتحقق مما تسمع، لأن التأخر والتسويف يزيد الأمر سوءا وفتورا.
د- تذكر دائما قصة الصحابي الذي شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وكان من صفاته: أنه ما بات ليلة وفي قلبه غل على مسلم.
ومن صفات المؤمنين أنهم يقولون: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)(3) [ سورة الحشر، الآية: 10]. فكن منهم وفقك الله.
5- طلب العلم والمواظبة على الدروس وحلق الذكر والمحاضرات
العلم نور يرفع صاحبه إلى الدرجات العلى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(4) [سورة المجادلة، الآية: 11]. والعلماء هم الذين يخشون الله لأنهم يعرفونه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(5) [سورة فاطر، الآية: 28]. وشتان بين عالم وجاهل: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(6) [سورة الزمر، الآية: 9].
إن العالم الرباني يزداد عطاؤه يوما بعد يوم، فعلى قدر زيادة علمه يزيد عمله، لأنه يزداد معرفة بالله وبحقه وما أعده للعاملين، ولذلك كان " فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ".
__________
(1) - سورة فصلت آية: 34.
(2) - سورة الشورى آية: 40.
(3) - سورة الحشر آية: 10.
(4) - سورة المجادلة آية: 11.
(5) - سورة فاطر آية: 28.
(6) - سورة الزمر آية: 9.(1/67)
والمواظبة على الدروس والمحاضرات تزيد العلم، وتنميه وتدفعه إلى الأمام، وحلق الذكر تجلوا ما يلحق المؤمن من صدأ وضعف وفتور، وتبث فيه نشاطا وحيوية وحماسا.
ومما يدخل في باب العلم:
العلم بفضل ومكانة العمل:
مما يزيد في إيمان المسلم، ويدفعه إلى العمل والإنتاج، ويبعد عنه الكسل والفتور، معرفة فضل العمل الذي يقوم به ومكانته الشرعية.
ولذلك قال الخضر لموسى - عليه السلام -: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)(1) [سورة الكهف، الآية 68].
إنه لا يستوي رجلان: رجل يؤدي العبادة وهو يعلم أنها عبادة، لكنه لا يعلم فضلها وما أعده الله للعاملين، وآخر قد فقه ما ورد فيها من نصوص تبين منزلتها، وما أعده الله من أجر عظيم لمن قام بها.
ولذلك لما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقل الصلاة على المنافقين قال: - ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا - (2) فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معرفة الأجر سببا لنبذ الفتور والكسل، حتى لو كان من أسوأ أنواع الفتور، وهو فتور المنافقين. فإذا كانت معرفة الأجر والمثوبة ستؤثر في المنافقين، فلا شك أن تأثيرها في المؤمنين أقوى وأرجى.
وكذلك فضل الصبر على الطاعة وعن المعصية، العلم به يعطي المسلم قوة وقدرة على التحمل، ولو تأمل قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(3) [سورة الزمر، الآية: 10] لكان حصنا عن الضعف والتراجع.
__________
(1) - سورة الكهف آية: 68.
(2) - أخرجه البخاري (1/ 160) كتاب الأذان باب [34] ومسلم (1/ 451) كتاب المساجد رقم (651 [252]).
(3) - سورة الزمر آية: 10.(1/68)
وكذلك التذكير بفضل الأعمال، والتحذير من عواقب الإهمال والتقصير والتفريط، مما يسهم في علاج هذا المرض والوقاية منه، فكم من إنسان سمع موعظة فزادته إيمانا (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(1) [سورة الأنفال، الآية: 2].
وكم من إنسان سمع موعظة فأقلع عما هو فيه، وجدد إيمانه ونشاطه، ونبذ الفتور خلفه ظهريا، وصدق الله العظيم: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(2) [سورة الذاريات، الآية: 55].
6- فقه الواقع
وهو من فروع العلم، ولكن لأهميته وعلاقته المباشرة بهذا الموضوع أفردته تنويها بأثره في علاج الفتور.
ذلك أن إدراك المسلم لواقعه وما يجري فيه، وفقهه لهذا الواقع، بما فيه من مآس، وما يتطلبه من جهود وعمل متواصل، يبعد عنه أي فتور أو تراخٍ إن كان في القلب إيمان وإسلام. فكيف يركن المسلم للدعة وهو يرى أمته يحيط بها الأعداء، ويتنادون من كل حدب وصوب للإجهاز عليها، والعبث في أرضها وخيراتها؟
كيف يتراخى وهو يشاهد بلاد المسلمين مستباحة من قبل اليهود والنصارى، فمن أفغانستان، إلى البوسنة والهرسك، إلى الصومال، وقبل ذلك فلسطين، والفلبين، وأرتيريا، وزنجبار.
هل يمكن لطبيب محترم أن ينام ملء جفونه وهو يرى رجلا مضرجا بدمائه، يحتاج إلى نجدة وإسعاف؟
هل يمكن لجيش جاد يرى العدو على حدود بلده ثم يلهو ويعبث، دون أن يعلن حالة استنفار ومرابطة؟
هل يمكن لعالم رباني أن ينزل بلدا يعيش أهله بين أمية وجهل فينزوي وينطوي، دون أن ينصب نفسه معلما هاديا؟
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2.
(2) - سورة الذاريات آية: 55.(1/69)
كل ذلك لا يكون، فكذلك من يفقه واقع أمته وحالها، كيف يجد الفتور إلى قلبه طريقا، وإلى عمله سبيلا؟ هذا بعيد كبعد عاد وثمود، إلا من عاش الهوان، ورضع الذل والعبودية، وفقد الإحساس (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ)(1) [سورة الحج، الآية: 18].
ما لجرح بميت إيلام
من يهن يسهل الهوان عليه
أما إذا جهل واقعه، فأبشر بطول سلامة يا مربع.
7- سلامة المنهج وتأصيل المنطلقات والعناية بمنهج التلقي
مما يجب أن يعنى به طالب العلم والداعية سلامة المنهج الذي يسلكه في طلب العلم والدعوة إلى الله، ذلك أننا في زمن كثرت فيه المدارس الدعوية، والمناهج العلمية، واختلط الحابل فيها بالنابل، وكل يدعي وصلا بليلى.
إن سلامة المنهج يقي الداعية التذبذب والحيرة والارتياب، ويعطيه الطمأنينة والثقة والثبات، ذلك أنه إذا اتبع منهجا فيه خلل فلن يحقق الأهداف الشرعية التي يسعى إليها، ثم إنه- غالبا- سيكتشف الخلل في منهجه بعد أن يكون بذل جهودا حسية ومعنوية في هذا الطريق المعوج، مما يورث حسرة وألما على ما مضى من زمن، وما بذلت من جهود، ثم قد يصاب بنوع من الإحباط واليأس، وقد يصل إلى مرحلة الشك، ويقول له شيطانه: وما يدريك أن هذا المنهج صحيح.
إن الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، والسير على هدي السلف الصالح عامل مؤثر في الاستقرار والاستمرار، ويشيع في النفس راحة وهدوءا، وكلما مرت الأيام ازداد رسوخا ويقينا.
__________
(1) - سورة الحج آية: 18.(1/70)
وسلامة الأسلوب- أيضا- له أثره الفعال في تحقيق الأهداف وجني الثمار، وهذا الأمر دافع لمزيد من العطاء والتفاؤل الذين يساهمان في الثبات والبقاء. وعلى طلاب العلم والدعاة التأكد من سلامة المنهج والأسلوب، ديانة أولا، ونتيجة ثانيا، والحذر من المناهج المنحرفة والبدعية، و - من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد - (1) و:
أن يجتني السكر من غرسته
من غرس الحنظل لا يرتجي
إن تأصيل المنطلقات والأعمال، وربطها بالكتاب والسنة، وقاية بإذن الله من الحيرة والتذبذب، وعامل من أهم عوامل الثبات والاستقرار والاستمرار. وكل ما مضى يدور على أصل عظيم وهو العناية بمنهج التلقي، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(2) [سورة الحشر، الآية: 7].
8 -الوسطية
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(3) [سورة البقرة، الآية:143]. والوسطية من سمات هذه الأمة، كالخيرية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 110]. والوسطية كما تكون في العقيدة تكون في الأعمال، والذين يجانبون هذا المنهج كالغلاة والمتشددين سرعان ما يفترون، وبخاصة الغلو والتشدد في الأعمال من العبادة، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وقد سبق تفصيل ذلك في الأسباب.
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/167) كتاب الصلح، باب [5]. ومسلم (3/1343) كتاب الأقضية، رقم (1718).
(2) - سورة الحشر آية: 7.
(3) - سورة البقرة آية: 143.
(4) - سورة آل عمران آية: 110.(1/71)
وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة بلزوم منهج الوسطية، والبعد عن التكلف والتشدد والتنطع فمن ذلك قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(1) [سورة البقرة، الآية: 286]. (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(2) [سورة الحج، الآية:78]. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)(3) [سورة الشرح، الآيتان: 5، 6]. (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)(4) [سورة الإسراء، الآية: 29]. (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(5) [ سورة الأعراف، الآية: 32]. (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ)(6) [سورة النساء، الآية: 171]. (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(7) [سورة الأعراف، الآية: 31].
__________
(1) - سورة البقرة آية: 286.
(2) - سورة الحج آية: 78.
(3) - سورة الشرح آية: 5-6.
(4) - سورة الإسراء آية: 29.
(5) - سورة الأعراف آية: 32.
(6) - سورة النساء آية: 171.
(7) - سورة الأعراف آية: 31.(1/72)
ومن السنة والأثر - هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون - (1) - عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا - (2) - وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو - (3) - إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه - (4). - يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا - (5). - أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل - (6) - وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه - (7) .
إن الوسطية منهج حياة، وهي من فقه هذا الدين، ذلك أن الالتزام بها ضمانة لتجاوز المحن والابتلاءات، فيصبح لدى المسلم قدرة عجيبة لتجاوز المحن والشدائد، وذلك بإعماله النصوص الشرعية في مواضعها، ومراعاة تغير الأمكنة والأزمان والأحوال، دون إخلال بأصول هذا الدين، اضطرابا أو جمودا، و - من يرد الله به خيرا، يفقهه في الدين - (8).
__________
(1) - أخرجه مسلم (4/2055) كتاب العلم رقم (2670).
(2) - أخرجه البخاري (1/ 16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/ 542) كتاب صلاة المسافرين رقم(785 [218]).
(3) - أخرجه النسائي (5/268) كتاب مناسك الحج، رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) كتاب المناسك، رقم (3029). وأحمد (1/ 215، 347) وصححه الحاكم (1/ 466) ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283).
(4) - أخرجه البخاري (1/ 15) كتاب الإيمان، باب [29].
(5) - أخرجه البخاري (5/108) كتاب المغازي ومسلم (3/ 1359) كتاب الجهاد، رقم (1733).
(6) - أخرجه البخاري (7/ 182) كتاب الرقاق، باب [18] ومسلم (1/541) كتاب صلاة المسافرين رقم (782 [216، 218]).
(7) - أخرجه البخاري (1/ 16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/ 542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 [218]).
(8) - أخرجه البخاري (1/25) كتاب العلم، باب]10] ومسلم (3/ 1524) كتاب الإمارة، رقم (1037 [175]).(1/73)
وإن أردت مزيد بيان لتربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته على منهج الوسطية، فاقرأ ما يلي وتأمل:
1- روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو أنه - تزوج امرأة من قريش فكان لا يأتيها، كان يشغله الصوم والصلاة، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فما زال به حتى قال له: صم يوما وأفطر يوما، قال له: اقرأ القرآن في كل شهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأ في كل خمس عشرة، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال اقرأه في كل سبع، حتى قال: اقرأ في كل ثلاث - (1).
2- قصة الثلاثة نفر الذين سألوا أزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم.. " الحديث (2) - وهو مشهور ومعروف، وفيه من الدروس والعبر والتربية على المنهج ما يحتاج إليه كل مسلم (3).
9- تنظيم الوقت ومحاسبة النفس (4) .
__________
(1) - أخرجه البخاري (2/ 245، 246) كتاب الصيام، باب ]56، 58[. ومسلم (2/812، 813) كتاب الصيام، رقم (1159).
(2) - أخرجه البخاري (6/ 116) كتاب النكاح، باب [1] ومسلم (2/ 1020) كتاب النكاح رقم (1401).
(3) - انظر كتاب الغلو لعبد الرحمن اللويحق فقد أجاد وأفاد.
(4) - ويدخل في ذلك نقد النفس، وتقبل نقد الآخرين، فالمسلم مرآة أخيه المسلم، دون مبالغة أو غلو: ومن دعا الناس إلى ذمة ذموه بالحق وبالباطل.(1/74)
مما يساعد في إنجاز الأعمال وأدائها الدقة في تنظيم الوقت، أرأيت الصلوات الخمس لو لم تكن محددة بوقت معلوم، وترك للناس اختيار الوقت المناسب لأدائها، كم من الناس سيصلي في كل يوم خمس صلوات دون تأجيل أو تسويف؟ بينما تحديد وقتها يجعل المسلم يمضي عمره وهو يؤديها بيسر وسهولة وراحة، حتى إنه يألفها ويجد سلوته فيها، وذلك على قدر إيمانه وتقواه { } - قرآن كريم ( - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - ( - - - ( - ( - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (1) [سورة البقرة، الآية: 45]. - يا بلال أرحنا بالصلاة - (2).
وكذلك الصيام، لو طلب من المسلمين صيام ثلاثين يوما دون تحديد شهر معين، يا ترى كيف تكون حال الناس في ذلك؟
بينما تحديده في شهر معين في السنة جعل له ميزة وخاصية، والمسلمون ينتظرون قدومه بشوق ولهفة، ويتطلعون إليه بمحبة ورغبة. وقل مثل ذلك في جميع الأمور التي حددها الإسلام ووقتها.
فإذا نظم المسلم وقته، وحاسب نفسه على ذلك بورك له فيه، وكلما مضت الأيام إذا هو يزداد عملا ونشاطا، حتى يصبح هذا الأمر إلفة وسجية، لو ضاعت عليه ساعة من حياته لوجد لها أثرا وحسرة، فمثل هذا كيف يضيع يوما أو شهرا، أو يتراخى عن عمل ذي بال، هذا لا يكون.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 45.
(2) - أخرجه أبو داود (4/296) كتاب الأدب، رقم (4985، 4986) وأحمد في المسند (5/364، 371) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).(1/75)
واسأل التاريخ عن سلفنا الصالح كيف كانوا يعيشون، وانظر إلى ما قدموا لهذه الأمة من أعمال عظيمة في سنين قليلة، وذلك لتقواهم ودقتهم في أوقاتهم، ومحافظتهم عليها، ومن ثم محاسبة النفس على ذلك (1) فسجلوا صفحات بيضاء في جبين التاريخ، فهم رهبان بالليل أسود بالنهار، لا يعرفون خمولا أو تسويفا أو فتورا.
10- لزوم الجماعة
مما أوصى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذيفة - رضي الله عنه - وهو يسأله عن المخرج عند حدوث الفتن، أن قال له- عندما قال حذيفة فما تأمرني- قال: - تلزم جماعة المسلمين وإمامهم - (2).
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر يوصي أمته: - عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة - (3).
قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: - وآمركم بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد والجماعة، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا كانت ميتته ميتة جاهلية - (4).
إن الجماعة هنا، هي جماعة أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، وهي أعم من الجماعة الخاصة، حيث إن بعض الناس ينزلون هذه الأحاديث على جماعاتهم الخاصة، وإن كانت هذه الجماعات داخلة في جماعة المسلمين الواردة في النصوص، إذا كانت ملتزمة بالمنهج الصحيح، بعيدة عن الابتداع والانحراف والضلال.
__________
(1) - فقد ورد عن الفاروق قوله: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
(2) - أخرجه البخاري (8/93) كتاب الفتن، باب [11] ومسلم (3/1475) كتاب الإمارة رقم (1847).
(3) - أخرجه الترمذي (4/ 404) كتاب الفتن، رقم (2165) وأحمد في المسند (1/18) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الألباني في تخريجه لأحاديث السنة لابن أبي عاصم.
(4) - أخرجه البخاري (8/87) كتاب الفتن، باب [2] ومسلم (3/1477) كتاب الإمارة رقم (1849).(1/76)
إن التزام المسلم بجماعة المسلمين، واختياره الرفقة الصالحة والوسط الطيب سبب للنجاة من كثير من الشرور، ومن ذلك التراخي والفتور، حيث إن إخوانه يشدون من عضده، ويعينونه على تجاوز بنيات الطريق، ويحملونه على الجد والنشاط، ويبثون فيه روح التنافس والمسابقة: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ)(1) [سورة الحديد، الآية: 21].
ولا يتصورنَّ أحد منا أنه يمكن أن يعيش وحده، فذلك هو الهلاك بعينه، إلا وقت أوان العزلة الشرعية، وتلك لم يحن وقتها بعد، " وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"
11- تعاهد الفاترين
مما يلحظ على كثير من طلاب العلم والدعاة أنه إذا فتر أحد إخوانهم تخلوا عنه وأهملوه، ومن ثم يزداد تقصيرا وفتورا، وقد يهلك وهم لا يشعرون. وقد شكى كثير ممن مر بهذه الحالة من هذا الواقع.
والواجب أن يتفقد الدعاة وطلاب العلم إخوانهم، ويتعاهدوهم، فإذا علموا أن أحدهم قد دب الفتور في أوصاله كثفوا زياراتهم له، واستنهضوا همته، وشدوا من أزره، وخوفوه بالله، وبحثوا عن سبب فتوره ونفوره، فإن كانت مشكلة حلوها، أو قضية عالجوها، أو رفقه سيئة أبعدوها، ويستمروا على ذلك حتى تعود المياه إلى مجاريها، أو يعذروا أمام الله (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)(2) [سورة البقرة، الآية: 96].
وعليهم بالرفق وحسن الصحبة، "فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه"، مع عدم تضخيم الأخطاء والسلبيات، مما يسبب الوحشة والفتور.
12- التربية الشاملة المتكاملة
__________
(1) - سورة الحديد آية: 21.
(2) - سورة البقرة آية: 96.(1/77)
لا يخفى ما للتربية من أثر في حياة الإنسان، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - - كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه - (1).
وقد اختلفت المدارس التربوية المعاصرة، ونتيجة لذلك رأينا الاختلاف والتباين في سلوك الناس وتفكيرهم.
وقد غلب على كثير من المدارس التربوية الدعوية تغليب جانب على جانب، والعناية به دون سواه.
والمنهج السليم المستقى من الكتاب والسنة هو المنهج الشامل المتكامل، الذي يوازن بين جميع الحقوق والمتطلبات الشرعية، ويربي المسلم على حسن أدائها وإتقانها.
إن تربية الشخصية المتوازنة يعطيها قوة في الانطلاقة، وقدرة على الاستمرار، وبعدا عن التراجع والاضطراب، ذلك أنه يسير والأمور واضحة لديه، يعطي كل جانب ما يستحقه من رعاية واهتمام، دون إهمال أو تجاوز.
ثم إن تربية النشء على العبادة والعلم والدعوة منذ الصغر يجعل هذه الأمور جزءا من حياته، يألفها وتألفه، يستوحش حال فقدها، ويحزن إن حرم منها، حتى إنه إذا مرض فحال المرض بينه وبينها كان أشد ألما لمفارقتها منه لمرضه، بخلاف غيره ممن يسر بالمرض والسفر وسائر الأعذار التي تبرر له التراخي والانقطاع، وكلما كانت التربية أشمل وأكمل كانت أبقى وأنقى وأدوم، وعلى قدر الخلل يكون التقصير.
ومن جوانب التربية التي تقي من الفتور بإذن الله:
أ-التربية على المبادرة الذاتية ونبذ الاتكالية والاعتماد على الآخرين، على أن يلحظ أهمية التوازن في هذا الأمر.
ب- التربية على الشعور بالمسئولية، والقيام بما أوجبه الله عليه، والتخلص مما يحول دون ذلك.
__________
(1) - أخرجه البخاري (2/ 104) كتاب الجنائز، باب [93] ومسلم (4/2047) كتاب القدر، رقم (2658).(1/78)
ومن تربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته أن رباهم على الاعتماد على أنفسهم، دون الاتكال على الآخرين، حتى إنه بايع بعضهم على ذلك، كما روى الإمام مسلم في حديث أبي مسلم الخولاني عن عوف بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بايعهم - أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا- وأسر كلمة خفيفة-: ولا تسألوا الناس شيئا - (1).
وروى النسائي عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - من يضمن لي واحدة وله الجنة؛ ألا يسأل الناس شيئا - (2).
وهذه الأحاديث وإن كانت في سؤال الناس أموالهم ونحو ذلك، إلا أن الصحابة فهموا أنها في كل شيء، أو تركوا ذلك تورعا حماية للعهد والبيعة، فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل من دابته ويأخذه ولا يسأل الناس أن يعطوه إياه، فلله درّهم.
13- تنويع العبادة والعمل
النفس ملولة تكره الرتابة والجمود، وتحب التجديد والتنويع، ومراعاة النفس أمر مطلوب شرعا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخول صحابته بالموعظة مخافة السآمة عليهم، وابن مسعود - رضي الله عنه - كان يمنعه من أن يحدث أصحابه كل يوم لئلا يملهم، وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- يقول: "إن للنفس إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فحزها بالعزيمة وإذا أدبرت فاقصرها على الفرائض".
ولذلك فإن التجديد والتنويع في حدود ما شرع الله، يعطي النفس دفعة وحيوية ونشاطا، فكم مارس الإنسان من عمل حتى إذا أدركه الفتور فيه وثقل عليه انتقل إلى غيره، فيتجدد نشاطه، وتقوى عزيمته، ويجد فيه لذة ومتعة، ولو استمر في العمل الأول لخارت قواه ووهنت عزيمته، وربما أدى به إلى كرهه والنفور منه.
__________
(1) - أخرجه مسلم (2/ 721) كتاب الزكاة، رقم (108).
(2) - أخرجه أبو داود (2/ 121) كتاب الزكاة رقم (1643) وابن ماجة (1/588) كتاب الزكاة، رقم (1837) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6603).(1/79)
وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا عجزوا عن عمل أن ينتقلوا إلى غيره من الأعمال التي يستطيعونها، فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: - قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل، قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا. قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعا أو تصنع لأخرق. قال: قلت يا رسول الله: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك - (1).
وكذلك نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يذكر عددا من الأعمال الفاضلة كما في حديث: - ذهب أهل الدثور بالأجور - (2) وذلك ليكون أمام المسلم فرصة للتنويع حسب الحال والزمان، دون ملل أو فتور.
ولكن يجب التنبه إلى أن التنويع في العمل لا يعني الفوضى وعدم الاستقرار، فإن هذا من أسباب الفتور كما أشرت سابقا، والذي يبدأ العمل ولا يتمه، ويقيم المشروع ثم يتخلى عنه، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.
ولذلك يكون التنويع في الأعمال والعبادات التي يقتصر نفعها على صاحبها، والتنويع فيها لا يعني ترك العمل بالكلية، وإنما يعمل العمل فإذا تعب تحول عنه إلى غيره، ثم يعود إليه مرة أخرى، كمن يكون في الحرم مثلا: يصلي من الليل ما شاء، ثم يقرأ في كتاب الله، أو يذهب ليطوف بالبيت، أو يذكر الله قائما أو قاعدا أو على جنب. وهكذا في بقية الأعمال والعبادات.
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/117) كتاب العتق، باب [2] ومسلم (1/ 89) كتاب الإيمان، رقم (136).
(2) - أخرجه البخاري (1/ 205) كتاب الأذان، باب [155] ومسلم (1/ 416) كتاب المساجد، رقم (595).(1/80)
ويكون التنويع أيضا في الأعمال التي لا يكون ترك العمل والتحول عنه سببا لفشله وذهابه، كأن يجد من يحل محله دون أي خلل أو تقصير، مما هو من فروض الكفايات، أما ما سوى ذلك فعليه أن يجاهد نفسه ويتقي ربه، فسيجعل الله له من أمره يسرا (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)(1) [سورة الطلاق، الآية: 4]. (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)(2) [سورة الطلاق، الآية: 2]. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(3) [سورة العنكبوت، الآية: 69].
14- القدوة الصالحة
للقدوة الصالحة تأثير عجيب في استنهاض الهمم والأخذ بالعزيمة.
وكثير من النفوس أو أكثرها لا تؤثر فيها المواعظ والترغيب والترهيب، كما يؤثر فيها أن تذكر قصة رجل عصامي أو علم من الأعلام، ولنأخذ هذا المثال:
تحدثت في أكثر من مناسبة عن أهمية الوقت، ووجوب المحافظة عليه، واستدللت لذلك من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح وأقوالهم، ثم كنت أختم الحديث بذكر حياة علم من أعلامنا وشيخ من مشايخنا المعاصرين، وكيف يفيد من وقته، وأنه لا يعرف عنه أنه أضاع بضع دقائق في يومه، أو أنه أخذ إجازة في عامه أو أسبوعه، فكل حياته عمل وجد ونشاط، عبادة وعلم ودعوة، وقيام بحقوق الخلق والخالق. فكنت أجد أن تأثير هذه القدوة أعظم من تأثير بقية الكلام على أهميته وموضوعيته.
ولذلك فإنني أنبه الدعاة وطلاب العلم والمربين إلى أهمية المكانة التي يتبوؤنها، وأن طلابهم ومحبيهم بل وعامة الناس يتأثرون بأفعالهم، أكثر مما يتأثرون بأقوالهم.
ولما ذكر الله جل وعلا أنبياءه ورسله في سورة الأنعام ختم ذلك بقوله:
__________
(1) - سورة الطلاق آية: 4.
(2) - سورة الطلاق آية: 2.
(3) - سورة العنكبوت آية: 69.(1/81)
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(1) [سورة الأنعام، الآية: 90]. وقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2) [سورة الأحزاب، الآية: 21]. ولذلك فإن ذكر حياة العلماء القدوات - وبخاصة المعاصرين منهم - يشد من أزر العاملين، ويوقظ الكسالى والنائمين، ويكون حجة على المتخاذلين التبريريين، الذين يحتجون بتغير الزمان، وفساد الأحوال.
وما لزماننا عيب سوانا
ولو نطق الزمان بنا هجانا
نعيب زماننا والعيب فينا
ونهجو ذا الزمان بغير حق
ولنقرأ هذه الكلمات لنعرف أثر القدوة في استنهاض الهمم وشد العزائم
قال ابن الجوزي: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت عبدالوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرا على سماع الحديث. ولقيت أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري لما يقول، متقننا محققا، وربما سئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض علمائه، فيتوقف فيها حتى يتيقن.
فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول (3).
ومما يلحق في باب القدوة وتأثيرها:
دراسة سير الأنبياء والمصلحين:
إن دراسة سير الأنبياء والمرسلين- عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وذلك من خلال القرآن الكريم وما ورد في السنة النبوية، وأخذ العبر من حياتهم ومواقفهم مع قومهم، وما واجهوه من مشكلات وعقبات.
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 90.
(2) - سورة الأحزاب آية: 21.
(3) - انظر صيد الخاطر 443.(1/82)
إن ذلك كله يجعل المسلم يسعى جادا للحاق بهم واقتفاء آثارهم، ويزيد من صبره وثباته، فكلما واجهته مشكلة ثم قارنها بما لاقاه أولئك احتقرها وسهل عليه تجاوزها، فإن آذاه الناس قال: لقد أوذي من هو خير مني، وإن كذبه الناس قال: لقد كذب من هو أفضل مني، وهكذا: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(1) [سورة الأنعام، الآية: 90 ]. ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 34]. (وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(3) [سورة الأنعام، الآية: 34].
وقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في سورة الأعراف: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(4) [سورة الأعراف، الآية: 176]. وقال في سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)(5) [سورة يوسف، الآية: 111].
ومما يزيد من حماس المسلم ويشد من عضده معرفة تاريخ المصلحين، وسيرهم مع مجتمعاتهم، وما لاقوه من عنت ومشقة، وكيف صبروا وثبتوا، إن هذا الأمر له تأثير عجيب في حياة الداعية وطالب العلم، كم يصاب الإنسان بحالة من الكسل أو الملل من طلب العلم فيتذكر أولئك الأعلام، وكيف جدوا واجتهدوا فسرعان ما يعود نشيطا قويا.
سئل الشعبي من أين لك هذا العلم كله؟ فقال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وبكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الجماد".
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 90.
(2) - سورة الأنعام آية: 34.
(3) - سورة الأنعام آية: 34.
(4) - سورة الأعراف آية: 176.
(5) - سورة يوسف آية: 111.(1/83)
وقل مثل ذلك في الداعية إذا واجهته مشكلة أو مصيبة، ثم تذكر أسلافه وما لاقوه كالإمام أحمد، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وغيرهم، فيعلم أنهم أخذوا بقوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 139 ].
15- علو الهمة ونبل المقصد والأخذ بالعزيمة
وذلك بأن يكون هم الإنسان الدار الآخرة، والفوز بالجنة، ومقصده رضا الله جل وعلا، فمن كانت هذه حاله فلن يستقر له قرار حتى ينال مراده، وسيجد في الطلب حتى يحصل على بغيته (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(2) [سورة الحجر، الآية: 99]. ولما قال أحد الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - إني أحب مرافقتك في الجنة، قال له المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - أعني على نفسك بكثرة السجود - (3).
وإذا علا مقصد الإنسان وشرفت غايته، زهد في الدنيا وشهواتها، ولو كانت بين يديه، فضلا عن أن يسعى لتحصيلها، ويقضي عمره جامعا لحطامها، على حساب دينه وعقيدته. ولذلك لما علت همة عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- وجعل لقاء الله غايته وأشرف مقاصده، كان أزهد الناس في الدنيا، وهو خليفة المسلمين، لا يملك إلا ثوبا واحدا، ولا يأكل من الطعام إلا الكفاف دون تقتير أو إسراف، والمال بين يديه، والثمرات من كل مكان تجبى إليه.
إن دنو الهمة وتواضع المقصد يؤدي بالإنسان إلى الدعة والاسترخاء، أما علوها، وبعد مرادها ومرامها، فدونه الجد والاجتهاد والسهر والعنا:
تعبت في مرادها الأجسام
وإذا كانت النفوس كبارا
وصدق من قال:
نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي?!
أأبيت سهران الدجى وتبيته
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 139.
(2) - سورة الحجر آية: 99.
(3) - أخرجه مسلم (1/353) كتاب الصلاة، رقم (489).(1/84)
ومن علامات علو الهمة أخذ النفس بالعزيمة والجد، وحملها على التضحية، وشغلها بالحق، فإن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وعمر- رضي الله عنه- استعاذ من جلد الفاجر وضعف المؤمن.
يعش أبد الدهر بين الحفر
ومن يتهيب صعود الجبال
16- الإكثار من ذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - - أكثروا ذكر هاذم اللذات - (1) يعني الموت.
وقال - صلى الله عليه وسلم - - كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا" - (2).
إن تذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة يبعثان في النفس نشاطا وجدا، وخوفا ووجلا، والخائف لا يفتر.
(ومن أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:
تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة) (3).
وسوء الخاتمة أمر غفل عنه الكثيرون، مع أنه ورد في الحديث الصحيح: قوله - صلى الله عليه وسلم - - فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها - (4).
__________
(1) - أخرجه النسائي (3/4) كتاب الجنائز، رقم (1824) وابن ماجة (2/ 1422) كتاب الزهد، رقم (4258)، والترمذي (4/ 479) كتاب الزهد رقم (2307) قال الترمذي: حسن غريب وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع، رقم (1210).
(2) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/376) وانظر صحيح الجامع رقم (4584).
(3) - ظاهرة ضعف الإيمان للمنجد ص 59.
(4) - أخرجه البخاري (7/210) كتاب القدر، باب [1]، ومسلم (4/2036) كتاب القدر، رقم (2643).(1/85)
وقد ذكر ابن القيم في كتابيه الداء والدواء وطريق الهجرتين قصص عدد من الذين ختم لهم بخاتمة سيئة، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يقولوا: (لا إله إلا الله) وهم يلقنونها، وقالوا غيرها مما تعلقت به قلوبهم في الحياة الدنيا.
ومما يدفع إلى العمل والنشاط رؤية المحتضرين حال النزع، فقد يبقى أثره على الفرد حتى يموت. دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، والله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه (1).
17- الصبر والمصابرة
طريق العلم والعبادة والدعوة إلى الله طريق شاق، تحفّه المصاعب والمشاق، (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)(2) [سورة العنكبوت، الآية:1، 2 ] (أَمْ حَسِبْتُمْ?أَن?تَدْخُلُواْ?الْجَنَّةَ?وَلَمَّا ?يَعْلَمِ? اللّهُ? الَّذِينَ ?جَاهَدُواْ مِنكُمْ ?وَيَعْلَمَ ?الصَّابِرِينَ) (3) [سورة آل عمران، الآية: 142]. ولما للصبر من عظيم الأثر في الثبات على الطريق، والعصمة من الزلل والانحراف والاستعجال والفتور، جاءت الآيات الكثيرة تبين أهميته، وتوصي به، وتحث عليه، ويصعب حصرها في هذا المختصر، ولكن أذكر بعضا منها:
(وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(4) [سورة الشورى، الآية: 43].
__________
(1) - التذكرة ص 17 وظاهرة ضعف الإيمان ص 59.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-2.
(3) - سورة آل عمران آية: 142.
(4) - سورة الشورى آية: 43.(1/86)
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)(1) [سورة الأحقاف، الآية: 35]. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(2) [ سورة البقرة، الآية: 155]. (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(3) [سورة الرعد، الآية: 24]. (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)(4) [سورة القصص، الآية: 54]. (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(5) [ سورة السجدة، الآية: 24].
(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(6) [ سورة آل عمران، الآية: 186]. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(7) [سورة لقمان، الآية: 17]. (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(8) [ سورة الأنفال، الآية: 46]. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)(9) [سورة مريم، الآية: 65]. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)(10) [سورة طه، الآية: 132]. (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)(11) [سورة البقرة، الآية: 45]. (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)(12) [ سورة البقرة، الآية: 250]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(13) [سورة آل عمران، الآية: 200].
__________
(1) - سورة الأحقاف آية: 35.
(2) - سورة البقرة آية: 155.
(3) - سورة الرعد آية: 24.
(4) - سورة القصص آية: 54.
(5) - سورة السجدة آية: 24.
(6) - سورة آل عمران آية: 186.
(7) - سورة لقمان آية: 17.
(8) - سورة الأنفال آية: 46.
(9) - سورة مريم آية: 65.
(10) - سورة طه آية: 132.
(11) - سورة البقرة آية: 45.
(12) - سورة البقرة آية: 250.
(13) - سورة آل عمران آية: 200.(1/87)
إن هذه الآيات وأمثالها تدل على منزلة الصبر والمصابرة وأثرهما في حمل الدعوة، وأداء العبادة وبذل العلم.
ومما يعين المسلم على الصبر ويشد أزره، قراءة سير الأنبياء والمرسلين مع أممهم، وما واجهو من مصاعب ومشاق، وكذلك أتباعهم، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا وصبروا: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 146].
ولو لم يكن في الصبر إلا منزلة المحبة لكفى بها شرفا وعز بها مطلبا، (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)(2) [سورة المعارج، الآية: 5]. وأكثروا من هذا الدعاء: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)(3) [سورة الأعراف، الآية: 126]. ولا تتمنوا لقاء العدو، ولكن وطنوا أنفسكم على إذا لقيتموهم أن تصبروا.
18- الدعاء والاستعانة
ونختم الوسائل المعينة على التخلص من الفتور والنجاة منه بوسيلة من أعظم الوسائل وأقواها تأثيرا، ألا وهي "الدعاء" سهام الليل، وقذائف النهار.
إن الدعاء هو العبادة، وهو صلة بين العبد وربه، يظهر فيه ضعف المخلوق، وقدرة الخالق، وربوبيته، وعظمته.
ولذلك جاءت الآيات آمرة بالدعاء والتضرع إلى الله، وقد وعد سبحانه بالإجابة: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(4) [سورة غافر، الآية: 60]. وقال سبحانه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(5) [سورة النمل، الآية: 62]. وأيهما أعظم اضطرارا: المصاب ببدنه أم المصاب بدينه؟ وأيهما أشد سوءا: بلاء الدنيا أم بلاء الدين ؟ والفتور بلاء في الدين تهون عنده مصائب الدنيا.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 146.
(2) - سورة المعارج آية: 5.
(3) - سورة الأعراف آية: 126.
(4) - سورة غافر آية: 60.
(5) - سورة النمل آية: 62.(1/88)
وقال جل وعلا: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)(1) [سورة الأعراف، الآية: 55]. وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(2) [سورة البقرة، الآية: 186].
وقد أرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء في حال الفتور فقال: - إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم - (3) .
وهل الفتور إلا وجه من أوجه ضعف الإيمان؟
وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الفتور، والاستعاذة نوع من الدعاء، فقد روى أنس- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل - (4).
وعنه قال: كنت كثيرا أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الهرم والحزن والعجز والكسل - الحديث (5).
وعن زيد بن أرقم- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: - اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل - الحديث (6).
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 55.
(2) - سورة البقرة آية: 186.
(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 4) وقال الهيثمي في المجمع (1/57) رواه الطبراني بإسناد حسن.
(4) - أخرجه البخاري (7/ 160) كتاب الدعوات، باب [42] ومسلم (4/ 2079) كتاب الذكر رقم (2706) واللفظ للبخاري.
(5) - أخرجه البخاري (3/ 224) كتاب الجهاد، باب [24].
(6) - سنن النسائي (8/ 260) كتاب الاستعاذة، رقم (5458).(1/89)
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه هذه الدعوات، فقد روى النسائي بعد أن ذكر الحديث عن زيد بن أرقم قوله: - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمناهن ونحن نعلمكموهن - يريد بذلك هذه الدعوات ونحوها.
فعلى المسلم: أن يلح على الله في حال نشاطه وفتوره، وأن يكون صادقا مخلصا موقنا بالإجابة، فإن عمر- رضي الله عنه- يقول: " والله إنني لا أحمل هم الإجابة، ولكنني أحمل هم الدعاء".
ومما يدخل في باب الدعاء الاستعانة بالله تعالى، وهي مطلوبة في كل أمر وفي كل حين، ولأهميتها فإننا نكررها في كل ركعة من صلاتنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(1) [سورة الفاتحة، الآية: 5]. ولا يمكن للعبد أن يفعل شيئا إلا بعونه تعالى، فإن حرم من ذلك خاب وخسر:
فأول ما يجني عليه اجتهاده
إذا لم يكن عون من الله للفتى
ولهذا قال الله سبحانه في سورة النور: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(2) [ سورة النور، الآية 21].
وقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة أن تسأل الله إذا أصبحت وإذا أمست ألا يكلها إلى نفسها طرفة عين، وهذه حقيقة الاستعانة، فقد روى الحاكم والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة- رضي الله عنها-: - ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به ؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفس طرفة عين أبدا - (3).
__________
(1) - سورة الفاتحة آية: 5.
(2) - سورة النور آية: 21.
(3) - أخرجه النسائي في اليوم والليلة رقم (570) وابن السني رقم (48) وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب رقم (654).(1/90)
وأودعك أخي الكريم بهذا الدعاء (1) .
وخيرك ممدود وليلك عامر
ويقفو نداك البحر والبحر غامر
كما تتوالى في العقود الجواهر
بقيت مدى الدهر وعلمك راسخ
يود سناك البدر والبدر زاهر
وهنئت أياما توالي نشاطها
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
وبعد:
فقد عرفنا من خلال الصفحات التي مضت خطورة الفتور، وآثاره على الفرد والمجتمع، وهذا يتجلى من معرفة المظاهر والأسباب، ثم اتضحت لنا وسائل الوقاية والعلاج.
وفي هذه الخاتمة أوضح مسألة قد تغيب عن كثير من الناس ألا وهي أهمية المبادرة إلى العلاج، بل وجوب ذلك تبعا لوجوب الدعوة، ووجوب حماية النفس من سبل الانحراف.
إن الكثير منا قد يكتشف أنه وقع في داء الفتور، ومن ثم عرف السبب والعلاج، ولكنه لا يسارع إلى طريق النجاة وسبل الخلاص.
__________
(1) - انظر جواهر الأدب 2/ مع تغيير الكلمات لتناسب المقام.(1/91)
والله سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(1) [سورة التحريم، الآية: 6]. ومما هو مقرر في قواعد الشريعة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أمرنا بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، فقال سبحانه: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 133]. وقال جل وعلا: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (3) [ سورة الحديد، الآية: 21]. وأثنى على المؤمنين فقال: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)(4) [سورة المؤمنون، الآية: 61].
والذي يتأمل في كثير من مظاهر الفتور وأسبابه يجد أن كل واحد منها يمثل ذنبا، ومعصية تجب التوبة منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)(5) [سورة التحريم، الآية: 8]. وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور، الآية:31]، وقال: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة الحجرات، الآية:11]. والنجاة من الفتور والسلامة منه لا يعدو إما أن يكون إقلاعا من ذنب أو مسارعة إلى خير، وكلاهما أمران مشروعان يدوران بين الوجوب والندب.
__________
(1) - سورة التحريم آية: 6.
(2) - سورة آل عمران آية: 133.
(3) - سورة الحديد آية: 21.
(4) - سورة المؤمنون آية: 61.
(5) - سورة التحريم آية: 8.(1/92)
ومن هنا فإني أوجه عناية طلاب العلم والدعاة للعناية بموضوع الفتور بيانا وتشخيصا وتحذيرا من آثاره وعواقبه، وكذلك عليهم أن يحثوا الناس للمبادرة إلى تلافيه والخلاص منه.
وأخص المربين بأن يوجهوا اهتمامهم لدراسة مظاهر الفتور وأسبابه، ومن ثم سبل الوقاية منه، وذلك حماية لتلاميذهم من الوقوع فيه؛ حتى لا تذهب الجهود هدرا.
وأخيرا فإن على الشباب بصفة خاصة أن يولوا هذا الموضوع حقه صيانة لأنفسهم، ومعرفة للشر قبل وقوعه، ويتأكد هذا وهم في فترة النشاط والحماس، فإن لكل عمل شرّة ولكل شرّة فترة، كما أخبرنا الصادق المصدوق - - صلى الله عليه وسلم - (1).
إن هذه اليقظة المباركة والصحوة الرائدة تحتاج إلى حماية من داخلها وخارجها، ومن أعظم ما يهددها من الداخل أن يسري الفتور إلى جسدها، ويدب في أوصالها ومفاصلها، هنالك يهون على الأعداء تحقيق مآربهم، والوصول إلى غاياتهم، وعندئذ ستجد من يلقي باللائمة عليهم، وكأنه لم يفقه قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) [سورة آل عمران، الآية:165].
ومن هذا المنطلق جاءت هذه الرسالة؛ تبليغا وتنبيها وتذكيرا وتعليما وتحذيرا.
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - تقدم تخريجه مرارا.(1/93)