الغزو الثقافي
مقدمة
هناك أفكار وتقاليد ومسالك خاصة وعامة تنتشر بين المسلمين ، وتتقيد جمهرتهم بها على أساس أنها تعاليم إسلامية، أو نضح هذه التعاليم ومقتضاها ، والحق أن الإسلام بعيد عنها، أو لعله ينكرها ويعترض مسارها... قال حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه. قلت: يا رسول الله ، كنا في جاهلية وشر حتى أتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟. كان متوجسا يتساءل فى نفسه: هل سيبقى هذا الخير أم ينهزم، ترى كم يطول أمده؟. وأجابه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم : " نعم، سيقع بعد هذا الخير شر". هكذا الدنيا، الحرب فيها سجال بين الحق والباطل والنور والظلام. وعاد حذيفة يسأل: هل بعد هذا الشر خير؟. وجاء الجواب الجدير بالتأمل: " نعم ، وفيه دخن "ـ غش ـ إنه خير مشروب.(1/1)
قال حذيفة ؛ ما دَخنُهُ ؟ قال : " أناس يهدون بغير سنتي ، تعرف منهم وتنكر". وهذه الإجابة تعني أمرين : أولهما أن خليطا من أهواء الناس وشرورهم سيلتصق بالحق ، وكأنه منه.. والآخر أن أولي الألباب ، أو أهل الذكر، أو فقهاء الأمة يستطيعون ميز هذا الغش والتحذير منه. والمحزن أنه في غيبة الفقه الذكي، انتشر الدخن المخوف، وامتد أذاه ، وأصاب الإسلام الصحيح منه شر مستطير.. وقد نظرت إلى حصائل بعض الناس من علوم الدين فوجدتها لا تتجاوز هذا الدخن. إنهم يلقون أحاديث، ويصدرون فتاوى ويخوضون باسم الإسلام معارك ، والإسلام بعيد عما يقولون وعما يفعلون ، وإن كان يصلى نارهم ويحمل عارهم.. وهو مظلوم ، مظلوم.. الإسلام الصحيح يقدم لأتباعه الخير، ويهب لهم النصر.. وهذا التدين المغشوش يقدم الهزيمة ويصنع التخلف، ويحس الناس معه بالحرج .. وكان يجب على المسلمين أن يغربلوا مواريثهم التي أثقلت كواهلهم ، وقذفت بهم في ذيل القافلة البشرية، وأن يحاكموا أعمالهم .(1/2)
وأحوالهم إلى الوحي الأعلى فيمحو ما يخالفه وهو كثير، بيد أنهم لم يفعلوا. فلما هجم الاستعمار العالمي على بلادهم أحرجهم إحراجاً شديداً، وأرغمهم على ترك كثير مما لديهم، قال بعض الجهلة : انهزمت التعاليم الإسلامية. فقلت: بل انهزم الدخن الذي حرصتم عليه وتشبثتم به وزعمتموه ديناً وما هو بدين. كيف يهزم الإسلام في معركة لم يدخلها ؟. إن الهزيمة لحقت بالبدع الذميمة والأفهام السقيمة والأوضاع الجامدة والعادات الفاسدة التي أتى الناس بها من عند أنفسهم، وأوهنوا بها الفرد والمجتمع والدولة، وشوهوا بها وجه الحق، وأضاعوا بها الكتاب والسنة.. وهذا الكتاب يصارح المسلمين بما لا بد منه. هناك تصاريح بالعودة إلى الإسلام ، فإذا ذهبت تبحث في هذا الإسلام الذي ، تعود إليه لم تجد أمراً ذا بال ، إنها عودة إلى منابع الدخل في ثقافتنا التقليدية، وتكرار لأخطاء سابقة.. وهل يتصور عاقل أن تقوم نهضة بعيداً عن الاكتمال الثقافي والخلقي، بعيداً عن الرشد الاجتماعي والسياسي لأن اهتمامها البالغ بأحكام فقهية فرعية، ومجادلات كلامية نظرية، وصور ساذجة عن الملابس والهيئات.. إن الغزو الثقافي ـ بشقيه الشيوعي والصليبي ـ لا يجد أفضل ص _008(1/3)
من هذا الجو لينطلق وينتصر. من أجل ذلك قلت : إن الغزو الثقافي يمتد في فراغنا ! هناك فراغ حقيقي في النفس الإسلامية المعاصرة لأن تصورها للإسلام طفولي ، وسطحي، يستقي من عهود الاضمحلال العقلي في تاريخنا وكأن بينه وبين عهود الازدهار ترة. إنني ـ من منطلق إسلامي ـ أرفض التبعية النفسية للآخرين، ولكنني من هذا المنطلق نفسه أرفض التصورات الإسلامية للحياة ، أعني التصورات التي ينسبها بعض الناس للإسلام، وهي عند التأمل خيالات مرضى وقاصرين. إن الإسلام يُظلم باسم الإسلام... يظلمه علماء يخدمون السلطة، وشبان عديمو الفقه، وغوغاء حيارى. إنني أنذر بأن أوضاعا إسلامية شتى تواجه مستقبلاً كالحاً، وقد تقع للمسلمين كوارث جديدة، ولن، تحمينا أبداً إلا عودة حقيقية إلى الإسلام الحقيقي.
محمد الغزالي
الإسلام دين المفكرين
راقبت أناساً يدخلون في الإسلام، ويتركون أديانهم الأولى، وتأملت في البواعث التي تدفعهم إلى ذلك، فرأيتها شتى! قد تكون الاستنارة العقلية، وقد تكون الاستراحة النفسية، وقد تكون أسباباً شخصية أو اجتماعية. ولم أر لمشاعر الرغبة والرهبة آثاراً تذكر في اعتناق الإسلام. ذلك أن الهزائم السياسية والاقتصادية التي تحيط بالعالم الإسلامي تجعل ذلك مستبعداً.. وقد لاحظت أمرين جديرين بالدراسة : أن المسلمين يزيدون ببطء ولكن بثبات. وأن الوافدين الجدد على عقيدة التوحيد لا ينقطع مددهم في قارات كثيرة. أما الأمر الآخر فهو أن الغزو الثقافي يلقى مقاومة شديدة ، وأن محاولات الفتنة ، وإخراج المسلمين عن دينهم تلقى مقاومة أشد .. وذلك برغم القصور والخلل اللذين يسودان ميادين الدعوة والتربية فى عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف.. وقد ينجح الاستعمار الشرقي أو الغربي في إفساد قلب ، وتخليته من اليقين ، بيد أن ذلك القلب .(1/4)
المصاب يبقى كالبيت الخرب تصفر فيه الريح ولا يحتله ساكن جديد.. وأحسب أن الدعاة الصادقين لو تمهد لهم الطريق فإنهم يقدرون على استعادة كل هذه القلوب الفارغة، وملئها بالحق مرة أخرى ، فإن الإسلام كان وما يزال أقرب الأديان إلى مواءمة العقل والقلب ، وإلى التجاوب مع أصالة التفكير وسلامة الضمير.. وأسوق هنا مثلين عرضا لي في قراءاتي الأخيرة ، اخترتهما عن تعمد ووعي : الأول : القائد الفرنسي نابليون بونابرت. الثاني : الفيلسوف الفرنسي فولتير. اقرأ معي هذه العبارات من كتاب "نظرات سياسية لنابليون" وصدق أو لا تصدق! واستنتج منها ما تشاء. فسأذكر رأي في القضية كلها بعد اقتباسها من مرجعها. مشروع نابليون الإسلامي وهذا المرجع منشور في فرنسا ، وافريقية ، وسائر أقطار العالم. يتحدث فيه نابليون عن نفسه فيقول : إنه كان مقتنعاً بأن الإسلام هو أصلح قاعدة لبناء أعظم دولة في التاريخ ، وأن هذا الاقتناع صاحبه لدى إعداد الحملة الفرنسية على مصر . كانت هذه الحملة.(1/5)
كما يقول ـ تمهيداً لإقامة دولة إسلامية يكون هو على رأسها. ويحكي أنه استقدم معه جيشاً من الخبراء والفنيين ليكونوا الجهاز العقلي المدبر لهذه الدولة، وزودهم بوسائل التحضر الحديث ليعينوه على هدفه البعيد .. وقال : إنه أجرى أحاديث مع علماء الأزهر أكدت له أن الإسلام عقيدة وجوهر وليس رسوماً وظواهر.. وأنه يستطيع التدرج في بناء الدولة التي يؤمن بها، وإظهار صورتها الإسلامية شيئاً فشيئاً. وقال : إنه كان يعد لاعتناقه الإسلام رسمياً عندما يصل إلى بغداد ، ويعلن انفصاله عن عقيدته الأولى . وأكد أنه قبل حضوره إلى مصر درس الإسلام ، واطمأن إلى صدق تعاليمه، واستقرت هذه الطمأنينة في نفسه ، غير أنه لما فاتح معاونيه بدخيلته وأمانيه اعترضه بعضهم وبين له وعورة الطريق فكان جوابه: إنه في سبيل المصالح العليا تحول هنري الرابع ملك فرنسا السابق من العقيدة البروتستانتية إلى العقيدة الكاثوليكية، ولا يوجد ما يمنعه بدوره من التحول إلى الإسلام.. ثم قال : إن القاهرة والإسكندرية أجدر من عواصم أوربا ؛ لتكونا على رأس العالم كله. ذلك حديث نابليون عن الإسلام ، ونابليون فى نظري رجل من عشاق المجد وطلاب العلى ومواهبه الذاتية تجعله قديراً على إثارة الميادين وتحريك الجيوش وقهر الأعداء وامتلاك الدول، وكأن المتنبي ص _012(1/6)
كان يصف طموحه وتوثبه عندما قال : ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر ونابليون كالإسكندر المقدوني ، كخالد. بن الوليد في جاهليته، قائد عبقري عارم المواهب. ويعلم الله طويته في جنوحه إلى الإسلام وإحساسه بعظمة عقائده وشرائعه وصلاحيته الفريدة في إنشاء دولة عظيمة ، وحضارة أعظم..! أكان بذلك يريد بناء نفسه ورفعة اسمه؟. أم كان يضيء فؤاده بين الحين والحين شعاع من معرفة الحق والتجرد لنشره؟. لكن الذي لا ريب فيه أن نابليون كان أسلم فطرة وأصدق قيلاً من بعض العسكر الذين ظهروا فى تاريخ أمتنا الحديث، فكرهوا الإسلام وهاجموا تعاليمه وأهانوا أهله.! هؤلاء القادة لا يرتفعون إلى مستوى نابليون من الناحية الحربية ، أو الإدارية ، وقد ورثوا الإسلام عن آبائهم لم يقدروه حق قدره ، فكانت عقباهم الحرمان من توفيق الله ، وإصابة أمتهم في مقاتلها.(1/7)
أما القائد الفرنسي الدارس البصير فقد أدرك عظمة الإسلام والقدرات الروحية والمادية التي يوفرها لمجتمعه فود لو يقيم باسمه دولة ، وأن ينصب هو على رأسها خليفة.. وجدير بالذكر أن المطبعة العربية التي جاء بها إلى مصر كانت أول مطبعة تدخل القاهرة ، فإن الأتراك لم يسمحوا للعرب بأن تكون لديهم هذه الآلة الخادمة للغة الوحي..!! وما كتبه " نابليون " عن عظمة الإسلام سجله وهو منفي بجزيرة " سانت هيلانة " التي قضى فيها نحبه ، أي أنها تجارب قائد معمر أثبتها بعد حياة عاصفة ديست فيها ممالك ونمت ثورات. فولتير وعقيدة التوحيد أما المثال الثاني فمن فكر الفيلسوف الفرنسي " فولتير " الذي تزعم الدعوة في عصره إلى عقيدة التوحيد بعد ما توفر أمداً طويلاً في دراسة العهدين القديم والجديد وبعد ما استبطن حصائل الفلسفة الإنسانية عن الخالق.. لقد انتهت به سياحته العقلية إلى الإعجاب بالإسلام ، وأودع إعجابه هذا في كثير من كتاباته ، وأختار هنا شاهدين من مدارستي الأخيرة له : الشاهد الأول : من كتابه " يقين أسانيد الإسلام " فقد لفت نظري في أثناء هذه المدارسة مع الصديق المترجم أن المؤلف وضع آية1_014(1/8)
منقولة عن السورة " 77 " تحت عنوان الكتاب معناها " بماذا يؤمنون بعد ذلك " ؟ يراها القارئ على غلاف الكتاب. قلت للصديق المترجم : انتظر، السورة السابعة والسبعون هي سورة المرسلات ، والآية التي يشير إليها هي قوله تعالى : (فبأي حديث بعده يؤمنون) . وهو معنى تكرر فى السورة الخامسة والأربعين، سورة الجاثية: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون). وفولتير فيلسوف ساخر ، وقد أدار محاوراته على ألسنة أبطال اخترعهم ، ومن الطريف أنه خلق شخصية وهمية لشيخ اسمه علي جير بر عميد كلية الإلهيات بأدرنة ـ وكانت يوم ذاك عاصمة إسلامية ـ وعضو أكاديمية العلوم بسمرقند ، ولم تكن يوم ذلك مستعمرة روسية. ويقول فولتير لقرائه المسيحيين : كيف تحقرون كتاباً يدعو إلى الفضيلة والزكاة والرحمة؟. كتاباً يجعل الرضوان الأعلى جزاء لمن يعملون الصالحات وتتوفر فيهم الكمالات الذاتية. إن الذين يهاجمون القرآن لم يقرؤوه قطعاً..! أما الشاهد الثاني فننقله من القاموس الفلسفي لفولتير طبعة سنة 1822 م الجزء السادس ص4 وهو يصف أتباع محمد ، ويرد التهم الموجهة إلى الإسلام بأنه دين مادي.(1/9)
إسمع إليه يقول لكارهي الإسلام ومهاجميه : " قوامها الشهوات المادية، في حين أنها أبعد ما تكون عن هذا الوصف. لقد خدعتم في هذه الناحية كما خدعتم في نواح أخرى عديدة. " أيها الأساقفة والرهبان والقسس، إذا فرض عليكم قانون يحرم تناول الطعام من الرابعة صباحاً حتى العاشرة مساء في شهر يوليو ـ أي في وقدة الصيف ـ عندما يحل الصيام في هذا الشهر.. إذا حرم عليكم لعب الميسر وإلا استهدفتم للعنة الله.. إذا حرم عليكم شرب الخمور والأنبذة تحت التهديد بالجزاء نفسه.. إذا فرض عليكم الحج في صحراء محرقة.. إذا فرض عليكم إعطاء 2.5% من مالكم للفقراء.. إذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثماني عشرة زوجة أحياناً فجاء من يحذف أربع عشرة من هذا العدد.. هل يمكنكم الادعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذات وجنس.؟ ". ثم يقول فولتير مشيراً إلى الهزائم التي وقعت بالمسلمين على عهده : " إن المسيحيين الآن يتفوقون على المسلمين فى ميادين شتى ، وقد انتصروا عليهم مؤخراً ما بين سنة 1769وسنة 1773 (مشيراً إلى الحروب التي نشبت بين الأتراك والأوربيين) لكن الأمر لا يدعو إلى الإسراف والتهور فى النقد الظالم للإسلام نفسه ، لكن الافتراء على المسلمين أسهل لديكم من استرداد البلاد التي فتحوها. ".
ويقول " فولتير": " إنني أمقت الافتراء ولا أقبل إلصاق التهم بالأتراك رغم كراهيتي لهم. إنني أكرههم لسوء معاملتهم للنساء ، ولأنهم يحاربون الفن.. ".
ولما كان الأوربيون يتندرون برحلة قام بها محمد في السماء ، ويتخذون من ذلك الخبر مجالاً للهزء والتكذيب فإن " فولتير " يقول : " إن هذه الرحلة لم يتحدث عنها القرآن ، ومن ثم فلا مجال للاستناد إليها في إنكار رسالته . وقد هدم محمد الضلال السائد في العالم على عهده ، وقام بالكفاح المفروض على الإنسان لبلوغ الحقيقة! ولكن يبدو أنه يوجد دائما من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ ! ".(1/10)
إنني أعرف أن قراراً بابوياً صدر بحرمان فولتير لهذه المواقف النزيهة ! وقد احتال ابن أخيه فوارى جثته التراب بعد موته ، وكان المفروض أن تترك نكالا لأمثاله !
حتى قامت الثورة الفرنسية فنقلت رفاته إلى مقبرة العظماء ، وقدرت عبقرية رجل عاش عشرات السنين يكتب ويؤلف ، وبلغت بحوثه المئات من الرسائل والكتب !1_017
فلأتجاوز هذا التاريخ المثير إلى شيء آخر. أريد أن أسأل ناساً من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا وينتمون إلى تراثنا ، شاء الله أن يعرفوا اللغات الأخرى ، ويقتبسوا منها ويترجموا.. أريد أن أسألهم ماذا أفدتم من هذه المقدرة ؟ وماذا أفادت أمتكم منكم ؟. هل استصحبتم دينكم وتاريخكم وأنتم تطالعون الثقافات الأجنبية ؟ هل استوقفكم صديق يحب العدالة أو استثاركم خصم يكره الشرق ، ويزدري العرب، وينال من الإسلام ؟.
إنكم لم تترجموا العلوم ، وكنا أفقر إليها من الروايات الغرامية والجنائية التي زحمتم بها لغتنا وشغلتم بها أولادنا.. ونقلتم أكاذيب المستشرقين ومفتريات الناقمين على الإسلام وحضارته وتاريخه المديد ، دون رد ذكي أو عادي ، بل أحياناً مع الرضا. فكيف ساغ لكم هذا ؟.
وفي الحضارة الغربية عباقرة كثيرون عرفوا للإسلام فضله وقدروا له ما أسدى للعلم وللعالم ، أما كان حقاً عليكم أن تعرفوهم وتشيدوا بصدقهم وتقدروا شجاعتهم بين قومهم ؟. أعتقد أن السكوت هنا لون من الغدر، بل هو خدمة لكل القوى المعادية للإسلام.
هل يتجهون نحو دين طبيعي؟(1/11)
وقد يظن البعض أن هذا كسب محدود، ونراه نحن كسباً كبيراً ، فإن البشر على ظهر هذه الأرض عانوا ألواناً من الغمط والحيف لا حصر لها ، بل تعرضت أجيال لعذاب الاستئصال دون سبب!. فإذا تعاونت الشعوب والدول على تأمين حاضرها ومستقبلها ، ووضعت برامج مادية وأدبية لإعلاء قدر الإنسان ودعم مكانته الاجتماعية والسياسية فذلك ارتقاء مقدور مشكور. ولم نلحظ خلافاً يذكر في الخطط المرسومة لتكريم الإنسان وصون حقوقه ؛ فالمتحدثون من الصين أومن أمريكا يتفقون على تجريم الاضطهاد ، وتحريم الإرهاق ، ويهفون إلى إيجاد عالم تسوده الأخوة والمساواة ، وتتوطد فيه الحريات والكرامات.. لاحظنا أن " للعقل " أحكاماً هي موضع التسليم التام ، وأن هناك علوماً تتجاوب معه ، وينمو فيها ويزدان ؛ هذه العلوم تتنافس الأمم على تحصيلها وتثميرها ، وقد يتفضل المتقدم على المتخلف ، والواعي على القاصر.
ولاحظنا أن لسلامة الأجسام قيمة كبيرة وأن الأمم ترعى أنواع الرياضة التي يصح بها البدن ويقوى ، كما تحرص على مستويات التغذية التي لابد منها.. ولاحظنا أن مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب لا خلاف عليها فما احترم أحد زوراً ولا ازدرى صدقا. وما أحسب أحداً من أهل الأرض يمج طعم المعروف أو ينكر وجهه الوسيم، الجميع يؤكدون قول الشاعر : ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل الإنسانية عملة مأنوسة لا تهبط قيمتها، ولا يستوحش منها أحد له قلب سليم وعقل سليم. والعالم الحاضر له ذكريات تاريخية كثيرة أقلها حلو وأكثرها مر، وقد استفاد منها خبرة وكون أحكاماً، وربما نشأت عنده عقد مبهمة كالفرد الذي لدغه حنش فصار يخشى الحبل.. وعلى أية حال فإن العالم محق في كراهيته للاستبداد السياسي والتعصب الديني، والنعرات الجنسية، والفوارق الطبقية، وهو محق في نشدانه للعدالة والسماحة والإخاء والتراحم.. وقد كان الناس يحسبون أن هيئة الأمم ومجلس الأمن سيكونان(1/12)
حكومة عالمية تطارد العدوان وتقيم الموازين القسط بين الناس كافة ثم استيقظوا من حلمهم على واقع كالح! فماذا يقول العرب ووطنهم يغتصب منهم جهرة ، وتعين على اغتصابه أكبر دول العالم ؟ وماذا يقول المسلمون فى أفغانستان، أو فى " مورو" أو فى غيرهما وهم يعانون ضيما يوشك على قتلهم ؟!. والغريب أن الولايات المتحدة قاطعت هيئة اليونسكو وتعمل على تقويضها لأن الهيئة لم ترض عن جور اليهود فى فرض طابعهم على أرض ليست لهم. ترى ما هي أغوار وأبعاد " الإنسانية " التي تراضينا عليها وقبلناها عنواناً وموضوعاً ؟ إنني ـ بتجرد كامل ـ أبحث هذه القضية، ذلك لأني أرى العالم عاد إلى أصله أو حن إلى فطرته عندما رفع شعار هذه الإنسانية. إن الدين الذي بلغه المصطفون الأخيار من فجر الخليقة إلى الآن هو هذه الإنسانية الراشدة لأنها تسمع صوت العقل، الصالحة لأنها تسمع صوت الضمير أي صوت القلب الطهور الذي يحسن الحسن ويقبح القبيح. وعندما يكون الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما الجديد الذي ينكره الإنسان، وينتصب لمقاومته ؟ نعم ساء عرض الدين فى أعصار طويلة ، وطولب البشر أحياناً بما يخالف الفطرة،(1/13)
وتأباه الطباع القويمة، ولست أقبل هذا الوضع، ومن حق أولي الألباب أن يرفضوا ما يكذبه العقل، وما تتأذى منه الفطرة، لأنه ليس ديناً نازلاً من السماء، وإنما هو نبت سام خرج من الأرض. إن سير اليهودية وقف لأن ما صحبها من صلف ودعوى يصد عنها، فالله لم يختر شعباً ليدلله ، ويمكنه من رقاب البشر، ذاك فضلاً عما ذكره العهد القديم والتلمود من صفات لله لا تليق به ولا تصدق فيه.. وقد نشب صراع ضار بين النصرانية والعلم زهقت فيه أرواح بريئة لأن آباء الكنيسة جافوا العقل وعطلوا وظائفه وأنكروا امتداده، وما كان عيسى إلا إنساناً نبيلاً يقول للناس : " إن الله ربّي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم ". ووقع المسلمون فيما وقع فيه من قبلهم كما جاء في الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟. قال: فمن إذن.؟. ". ومن المؤسف أن ناساً من المتكلمين في الإسلام أشبهوا كهنة الديانتين السابقتين في ضيق الأفق، ورداءة النظر، ومرض الذوق، وغش العرض، فكانوا بلاء على الإسلام وغطاء على نوره وصداً عن سبيله.(1/14)
بيد أن الله تأذن بحفظ كتابه وصون وحيه وتجديد دينه ونفي الترهات عنه، ما بقي الليل والنهار.. ألا فلنعلم أن ما حكم العقل ببطلانه يستحيل أن يكون ديناً، وقد كان إبراهيم الخليل يشير إلى طبيعة الحق في أصل الإيمان عندما قال لأبيه: " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا "؟! وكان يقيم الإيمان على مهاد اليقين العلمي عندما قال: " يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا". وفي هذا الاتجاه نفسه من إرساء العقيدة على الصواب المستيقن تقرأ الآية الكريمة ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين). الدين الحق، هو الإنسانية الصحيحة والإنسانية الصحيحة هي العقل الضابط للحقيقة المستنير بالعلم، الضائق بالخرافة، النافر من الأوهام. بيد أن الذكاء الحاد وهو جزء من هذه الإنسانية ما يكمل ويستقيم إلاّ بجزء آخر ينضم إليه ويتحد معه هو القلب النظيف من الكبر والأثرة، الشاكر لأنعُم الله والمعترف بأمجاده والماضي إلى غايته في هذه الحياة على ضوء من أسمائه الحُسْنَى،(1/15)
وهداه القويم.. وأعرف وأنا محزون أن هناك من هبط بمعنى الدين وكاد يجعله والإنسانية نقيضين !. وأن هناك من هبط بمفهوم الإنسانية، فعزلها عن ولي نعمتها، أعني عن ربها الكبير، وحبسها في نطاق الضروريات والمرفهات وحسب !. وأريد أن أمحو هذا التفاوت، وأستبعد أسباب الخصام بين المعنيين، فهما عند التأمل والإنصاف معنى واحد. وأساس الصلح في نظري تجريد الإيمان من كل وهم يدمغه البرهان ؛ وتجريد الإنسانية من كل غرور يقطعها عن الوحي. وقد رأيت من خبرتي بالإسلام أن الخطب سهل، وأنه مع احترام الفطرة البشرية ـ وهي قاسم مشترك بين الخلائق كافة ـ فإننا سنتفق على كلمة سواء.. فليس مما يليق بدعاة الإنسانية أن يذهبوا بأنفسهم ويستعلوا على هاديهم، ويستغلّوا أخطاء بعض المتدينين ليدّعوا الوحي الإلهيّ جملة، ويكتفوا بمرئياتهم وحدها، وما أكثر هناتها. ولم أرَ أقدر من القرآن الكريم على اقتياد الإنسان إلى الحق والرشد، وترشيحه لحسنات اليوم والغد. ولم أعرف أقدر من محمد عليه الصلاة والسلام في حل المشكلات وإنارة الظلمات.(1/16)
كنت أتابع التجارب الأخيرة لإطلاق الأقمار الصناعية من مكوك الفضاء الأمريكي، وتألمت لأن القمرين ـ وأحدهما اندونوس زاغا عن مدارهما، واتخذا طريقاً يجعل سعيهما في الفضاء سُدًى. قلت: لقد بذل العلماء جهودهم، وما يستطيعون أكثر من ذلك. إن الجهد البشري قدَّر وما هدى. أما قدرة الله فشأن آخر. إن الله أعطى كل شيء خَلْقَه ثم هَدَى. وما نوازن بين الخلق والخالق، فإن ما قد يبلغه العلماء من إبداع هو سنا من إلهام الكبير المتعال، بيد أن ما حدث يلفت النظر إلى عظمة من أطلق الكون في الفضاء فهو يسير في نظامه المرسوم مسخراً دءوباً، يعلو ويدنو، ويشرق ويغرب، وما يتزحزح عن مداره قيد أنملة، ولا يتقدم ولا يتأخر في مساره لحظة عين. يستحيل أن يخرج شيء على إرادة الله منذ " استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوْعاً أو كَرْها قالت أتينا طائعين ". في جَوّ التوحيد الذي جعلني القرآن أتنفس فيه تمرّ بي خواطر لعلها جديرة بالتسجيل.. ضمني يوماً مجلس نابض بالتفكير العميق والحوار المخلص، وبينما أنا مشغول به دارت عيني في المكان كله، ووعيت أرجاءه جيداً، وإذا هاتف نفسي يقول لي: إن الصورة التي تراها الآن هنا يراها ربك أوضح وأشمل (أبصر به وأسمع) .1_025(1/17)
وانتابني لون من الخشوع العابر، ثم رحلت عن هذا المكان، وكان سفري بالطائرة وحللت في فندق آخر، وضمني مع آخرين مجلس جديد، وتجدد الهاتف النفسي الأول مع زيادة : إن الله يراك الآن في هذا المجلس، ويرى الذين حَلّوا بعدك في المجلس السابق، إن رؤيته لم تنقص لا هنا ولا هناك (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) . وتتابعت الهواتف: لماذا استوقفك هذان المجلسان؟ إن الشهود الالهي يشرق على كل مكان قَلّ فيه الناس أو كثروا (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) . أولا تذكر قول العلماء إنه يستوي فى العلم الإلهي يونس وهو فى بطن الحوت ومحمد وهو فى سدرة المنتهى؟ وكذلك تستوي فيه هباءة ترتعش في شعاع الشمس، وحصاة تصهرها الحرارة على بعد ألف ميل في بطن الأرض..!. وتحرك عقلي مع هذه الخواطر المتداعية وتساءل : لماذا لفتك هذا العلم المحيط وحده ؟ القضية أكبر من استيعاب السمع والبصر والعلم لذلك كله ! القضية قضية إيجاد وإمداد ! فإن كل حي يتنفس فبقدرة الله وإرادته يعيش، إنه ـ تبارك اسمه ـ قيِّم السموات والأرض ومن فيهن يسوق الرزق لكل فم، ويدير الأجهزة الهاضمة في البشر والدواب والحشرات والزواحف والطيور كي تبقى إلى حين..!1_026(1/18)
واستطرد عقلي يتابع النظر: إن ذلك ما يقع الآن بيقين، فهل ذلك جديد في الكون الحافل بالحياة والأحياء؟ أم أنني وغيري من الخلائق قطرات فى بحر الوجود الذي انطلق من الأزل، واستمر هديره إلى يوم الناس هذا، وسوف يبقى ما شاء له القائم على كل نفس بما كسبت ، الذي جعل الأرض فراشاً والسماء بناء ، والذي أمات وأحيا ، وأضحك وأبكى ؟!. نعم فى اللحظة الواحدة قد يقهقه نشوان بالسرور، وقد يحشرج محتضر راحل عن الدنيا. والمشيئة العليا من وراء الأضداد كلها تعمل، لا يَحدّها زمان ولا مكان. ما أغرب هذا الوجود كله، وما أعظم من أبدعه، وأشرف على مسيرته، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. إننا ـ بما أودع فينا من عقول ـ نستطيع معرفة الله، ونستطيع دراسة عظمته في الكون الذي ذرأه ، لكننا لن نعرف الغيوب. وأول هذه الغيوب المعجزة أن نعرف كُنه الخالق، ذلك مستحيل، إن الكلمة لا تعرف كاتبها، إن القمر الصناعي ـ لو عقل ـ ما يعرف كنه الذي أطلقه.1_027(1/19)
الشمس تطلع كل صباح في عالمنا الصغير على خمسة مليارات من البشر، كل امرئ منهم يضبط جسمه وفكره ووجدانه، ومشاعره المهتاجة أو الراكدة، وحياته القاصدة أو الصاعدة، طفلا كان أو شيخاً، ذكراً كان أو أنثى.. هذا الرب الكبير، يضبطها جميعاً في آن واحد، مع عوالم أخرى لا ندريها، أفليس من الغرور والتطاول أن يحاول أحد منا معرفة سر هذه الذات؟ إن الإيمان ليس لغزاً، والدين ليس بدعاً ولغط الشكاكين ليس إلاّ سخفاً (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) . المشكلة الأولى ما يضمه الناس إلى الدين من هوى والدين منه بريء، وما نزال نؤكد أن كل حكم يرفضه العقل، وكل مسلك يأباه امرؤ سوي، وتقاومه الفطرة السليمة يستحيل أن يكون ديناً. وتدبر قوله سبحانه وتعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ، قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد .. ) . ولما كانت الإنسانية قد بلغت شأوا كبيراً من الارتقاء في عصرنا الحاضر، وكانت الحضارة الغربية ـ بشقيها الصليبي والشيوعي ـ هي سيدة الموقف، وقائدة العالم، فإن صلة هذه الحضارة بالإسلام1_028(1/20)
أهمتني، واستولت على مساحة رحبة من فكري.. وقد انتهيت بعد سياحة عقلية بعيدة المدى إلى أن العالم يحتاج إلى دين طبيعي لا تكلف فيه ولا تعسف! دين يوائم العقل لا يخاصمه أبداً، ويتجاوب مع الفطرة فهو منها وهي منه. وصلة الحضارة الحديثة بالعرب أيام صدارتهم لا يمكن إنكارها، فإن أحبار اليهود وآباء الكنيسة جميعاً حرصوا على الالتحاق بجامعات الأندلس، والارتواء من ثقافتها الخصبة. وقد ترجموا القرآن إلى العبرية واللاتينية، وبقيت هذه التراجم حكراً على الأحبار والحاخامات حتى تمكن رجال الإصلاح الديني في أوربا من الاطلاع على هذه النسخ المترجمة، وكان لها في مناهجهم الفكرية أثر كبير.. ومنذ ثورة " كرومويل " في إنجلترا سمح بنشر القرآن بالإنجليزية لأول مرة، ثم نشر بالألمانية، مع الإشارة هنا إلى أن قراءة القرآن المترجم في الأقطار الكاثوليكية كانت محرّمة، وتعرض صاحبها لقرار الحرمان. ومن ثم فإن الترجمات القرآنية لم تشع إلاّ حيث أعلنت الحرية الدينية، وهذا ما مَكَّنَ رجال الفكر الميالين إلى عقيدة التوحيد من تفهم الإسلام والمقارنة بين تعاليمه ومواريثهم، وإصدار أحكام تتسم بالشجاعة والتحرر. كان من حظي أن أقرأ عدة صفحات من كتاب لمفكر مسيحي1_029(1/21)
واسع الذكاء اسمه " أبادى " Abbadie ، طبع بأمستردام سنة 1719 للميلاد، والطبعة التي قرأت ترجمة لصفحاتها الأولى هي الطبعة السادسة. ومن السطور التي استوقفتني هذه الكلمات "... إن المسيح يعلن في إنجيله : الفقهاء يعرفون من إنتاجهم.. وهذا القول لا يبعد عن الحقيقة إذ الحقيقة نفسها هي التي نتعلم منها ! واستناداً إلى هذا المبدأ لا يسعنا إلاّ أن يكون لنا رأي رفيع في مكانة محمد وعدِّه نبياً عظيماً، فقد علّم البشر أن يفردوا ربهم بالسلطان المطلق، ولم يمنح هذا السلطان أحداً من الخلق ! ودفع الأجيال المتعاقبة إلى عبادة الله ذي الجلال والإكرام، فالله فوق عرشه رفيع الدرجات، والناس في إطار الخليقة الفقيرة إليه وحده. هل هناك شرع أكثر صحة من هذا الشرع ؟. إن القرآن كتاب نبيل (!) ومن المؤكد أن محمداً شتت به ضلالات كثيرة، ونحن نخطئ إذا أنكرنا الألقاب التي يضفيها المسلمون على محمد.. ". هذا كتاب طبع في أوائل القرن الثامن عشر ينصف الإسلام ويؤكد ما شرحناه هنا من أن أوربا بحاجة إلى دين طبيعي، إلى إيمان فطري إلى تعاليم يرتضيها العقل الحر والطبع النقي. ترى هل ينهض العرب بهذا العبء؟1_030(1/22)
حضارة باقية حتى يجد خصومها البديل
الحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والشيوعي تقود عالمنا المعاصر، وتنفرد بزمامه، وهي حضارة نجحت نجاحاً ملحوظاً في اكتشاف الكثير من قوى الكون، وجعله طوع بنان الإنسان، يرفه به نفسه إذا شاء، ويدافع به خصومه إذا شاء، وما أحسب الإنسان على طول تاريخه بلغ ما بلغه اليوم من سيادة وتمكين في البر والبحر والجو. إن يده الطولى في ميادين العلم والتطبيق أمكنته من ارتقاء صناعي باهر شمل المجال المدني والعسكري على سواء، وها هو ذا بعد أن قدر على الأرض يرنو إلى غيرها من الكواكب.. ولا أحب أن أغض من عظمة هذا التقدم الكبير، ولا أن أتذرع بسوء استخدامه إلى النيل منه، إن جحود النعمة رذيلة منكورة ، أما النعمة نفسها فشيء جميل.. في بعض الجراحات الدقيقة التي أجريت لي حمدت الله على تقدم الطب، وفي بعض الرحلات البعيدة حمدت الله على تقدم1_031(1/23)
الطيران، بل فيما أتناول من طعام، وأرتدي من كِسوة ، أقدر اليسر الذي كفلته المدنية لهذا الجسد، فلا أحطاب توقد للطهو، ولا مشقات توجد في الحياكة. كأن كل شيء مسوق لخدمتنا.. لكن بعض المفارقات تزعجني. أين يذهب الوقت الذي وفرته لي الآلات المسخرة ؟ إن ري الأرض بالطمبور قد يستغرق يوماً كاملاً ، ولكنه بالمضخة الصناعية يأخذ ساعة من نهار، ترى ماذا يصنع الفلاح عندنا ببقية يومه ؟ هل كسب كثيراً عندما يقضيه في الثرثرة واللغو. ؟. إن انقلابا حصل فى قريتنا بعد استخدام الآلات ؛ كان الفلاح يصلي الفجر ثم يغدو إلى الحقل يقضي فيه سحابة نهاره ، ثم يعود مع الغروب ليتناول عشاءه ، فإذا صلى العشاء لم يمكث غير قليل حتى يأوي إلى فراشه ، فإذا هو عند السحر يقظان يستغفر ربه ويتهيأ لليوم الجديد . أما الآن فهو يسهر مع التلفاز أو يتابع برامج الإذاعة ، وينام عند منتصف الليل ويصحو غالباً عند مطلع الشمس ثم يذهب إلى عمله غير متعجل ، وتسعفه آلات شتى على إنجاز ما يبغي. من الخطأ أن ألوم التقدم الصناعي لأن بعض الناس أساء استغلاله. إن المشرفين على مسيرة المجتمع، وبناء الأخلاق، وضبط العادات والعبادات كان يجب أن يواجهوا هذه التغيرات بما1_032(1/24)
يصون الأفراد والجماعات. ومن ثم فأنا أحتفي بالجوانب المادية من الحضارة الحديثة، ولا أشارك المتشائمين منها ولا الضائقين بها، لقد قلت، وما زلت أكرر القول : إن الإنسان ملك في هذا العالم، كرمه الله أكثر مما كرم غيره، وسخر له الأرض والسماء وما بينهما، وكل ما طلبه منه بإزاء هذا الخير الدافق أن يعرف ربه فلا ينكره، وأن يشكره فلا يكفره.. أذلك صعب ؟! . قال لي صديق : دعني من تفاؤلك الساذج وتصوراتك الخيالية عن هذه الحضارة. أتدري ما قدمه هذا الارتقاء المادي للناس ؟ لقد انشعب العقل البشري شعبتين، إحداهما تشتغل بالكون وأسراره ولا تكترث بربه. والأخرى تشتغل بالإنسان وقواه ولا تهتم بخالقه. ومن حصيلة الجهد العقلي هنا وهنا استبحرت ميادين المعرفة بالكون والإنسان، ومن حصيلة الجهل بالله هنا وهنا وجه البشر ثمرات العلم والتطبيق والاستكشاف والاختراع إلى تدليل الجانب الحيواني فيهم، وإتراف معايشهم على سطح الأرض وحسب. تقول : إن الإنسان ملك مكرم ؛ إن الجنس الأبيض الذي يقود هذه الحضارة حقر الإنسانية كلها يوم قطعها عن بارئها، وشغل نفسه بعبادة نفسه، وإشباع غروره، وتحقير غيره.. ألم تقرأ الإحصاءات عن موجة الجرائم التي ما تزال صاعدة، توشك أن تتحول إلى1_033(1/25)
طوفان مغرق ؟ إن جرائم الاغتصاب والسطو والضياع والدنس الشاذ تزيد ولا تتراجع. فإذا تركت الحياة الفردية إلى المجتمع الدولي فماذا ترى؟ الشعوب المستضعفة لا ترى بصيص أمل ! وطالب الغلب لا يبالي فى سبيله أن يهلك الحرث والنسل ، القنبلتان اللتان دمرتا هيروشيما وناجازاكي، وأبادتا مئات الألوف من البشر. أمسى منهما ألوف مهيأة للانطلاق فى مخازن الدمار الشامل. أتظن مهابة الله ومخافة الآخرة هما اللتان تمنعان استخدامهما ؟ إن خوف القصاص العاجل هو الذي يقيم توازن الرعب النووي!. قاطعت صديقي غير غاضب ، وقلت له : ما أخالفك فيما تصف ؛ من شاء الثناء على الحضارة الحديثة وجد بواعث المديح. ومن شاء هجاءها وجد بواعث الملام ، وأوثر أن أكون منصفاً في ذكر مالها وما عليها.. لقد قرأت ما كتبه الدكتور يحيى الرخاوي عن حضارة الغرب ، وعن المتدينين الذين يحلمون بوراثتها بعد زوالها ، أو بعد انتحارها ، وضحكت طويلاً من عباراته اللاذعة وهو يحصي محاولاتهم الطفولية لاحتواء هذه الحضارة. ومع أني لم أوافق الأستاذ الرخاوي في ثقته المطلقة بهذه الحضارة ومستقبلها المديد إلا أني احترمت صدقه القاسي وهو يلمز الورثة1_034(1/26)
المترقبين ويجتاح تكاسلهم وتناقضهم.. لقد اتصل بنا الأوروبيون من بضعة قرون، وجاسوا خلال ديارنا يعربدون كيف شاءوا ، كانوا للأسف يمتدون في الفراغ الذي نشأ لا لأننا تخلينا عن قيادة العلم ، بل لأننا عجزنا عن قيادة أنفسنا. كانت الأمة الإسلامية تهوى من أعلى السلم وكان يسمع لتدحرجها على درجه دوي رهيب. وفي الوهدة التي انتهينا إليها كنا نعاني من محن ثقافية وسياسية لا حصر لها.. كنا ـ مدنياً وعسكرياً ـ جديرين بالهزيمة ؛ بأن نقاد ولا نقود ، بأن نمشي خلف الآخرين لا أن نتصدر القافلة العالمية كما كان آباؤنا الكبار.. ذلك أن العقل الإسلامي الذي كان يألف الحرية ويأنف من التبعية ، والذي كان يحسن البحث والموازنة والاستنباط والرؤية عن بعد. هذا العقل انطفأ وهجه، وذهبت حدته، وكاد لا يرى. من أيام كنت أسمع في إحدى الإذاعات كلاماً فقهياً في ثبوت النسب ؛ قال المتحدث : إذا طلقت المرأة فإن الولد الذي تضعه خلال أربع سنين يلحق الزوج المطلق (!) فراجعت متخصصاً فى الموضوع فقال لي : هذا هو المذهب. قلت له : علمياً استحالة بقاء الحمل أكثر من عشرة شهور فكيف يبقى حملها من زوجها الأول هذه السنوات الأربع ؟ قال: هذا هو المذهب. قلت: الذي أعرفه1_035(1/27)
أنه لا إسناد لهذا الكلام من كتاب أو سنة أو قياس أو أدلة أخرى. وإذا كان الفقهاء اعتمدوا هذا الحكم من أقاويل شائعة على الأفواه، فما يجوز أن يبقى بعد ثبوت خطئه ! قال : هم يؤثرون تقليد شيوخهم عما تراه أنت أو غيرك. وعدت إلى نفسي أندب العقل الإسلامي الأول الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، والذي يتوعد بالنكال الجامدين على مواريث الخطأ لأنه وعى قوله تعالى : (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، فانتقمنا منهم ... ) . أجل ، فالعقل الإنساني عندما يصل إلى هذا الدرك يفقد احترامه ، ويعز عليه تقرير حقيقة ، أو ضمان مصلحة ، أو إقامة عدل . ونترك المجال الثقافي إلى المجال السياسي الذي كانت أمتنا تتحرك داخله من بضعة قرون ؛ كانت السياسة الداخلية للأمة الإسلامية شديدة الاضطراب ، بل لم يعرف لها محور شرعي تدور عليه . لقد تعود المسلمون أن يباغتوا بأسماء وصفات حاكميهم، وأن1_036(1/28)
يستقبلوهم استقبال الأقدار النازلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر : والناس يجيئهم الغيث فيفرحون به ويحمدون الله عليه ، ويصيبهم الجفاف فيعبسون ويحزنون ، ولا شيء لديهم إلا أن يقولوا: " إنا لله وإنا إليه راجعون ".. الجماهير لا شأن لها إن هبت الريح رخاء أو هبت عقيماً، وفي ذلك يقول الشيخ محمد عبده واصفاً حال مصر قبل مجيء جمال الدين الأفغاني : إن أهالي مصر قبل سنة 1293 هـ كانوا يرون شئونهم العامة والخاصة ملكاً لحاكمهم الأعلى يتصرف فيها حسب إرادته ويعتقدون أن سعادتهم وشقاوتهم موكولتان إلى أمانته وعدله أو خيانته وظلمه، وليس لأحد رأي يحق له أن يبديه فى إدارة البلاد أو اقتراح يتقدم به لصلاح الأمة، الناس منصرفون فيما تكلفهم به الحكومة أو تضربه عليهم. نقول : وعندما تقدم أحمد عرابي إلى الخديوي توفيق يطلب منه قدراً من الكرامة والحرية لشعب بائس، كانت إجابة الخديوي له ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا. وتدخل السفير الإنكليزي في الحوار المؤسف ناصحاً أحمد عرابي أن يكون مؤدباً مع سيده.1_037(1/29)
ذلك هو موقف الحضارة الحديثة في إرساء العلاقات بين الجماهير والرؤساء، أو ذلك هو مسلك الحضارة الإنسانية النبيلة في معاملة العرب خاصة والمسلمين عامة.. إنها حضارة ذكية بلا ريب، جميلة بلا ريب، لكن مذاقها مر، وكيدها سيء ، كأنها المرأة اللعوب " مي " التي وصفها الشاعر بقوله : على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزي ، لو كان بادياً ألم تر أن الماء يكدر طعمه وإن كان لون الماء أبيض صافياً وكلمة الخديوي توفيق للقائد المصري عرابي هي ترديد لكلمة فرعون قديماً عندما صاح بقومه : " ما علمت لكم من إله غيري " أو " أنا ربكم الأعلى ". وإلى هنا والصورة لا تعدو إبراز طاغية أمهله القدر أولاً ثم أهلكه أخيراً.. غير أننا من وجهة النظر الإسلامية نتناول الموضوع من ناحية أخرى ، ناحية لها أبعادها الرهيبة. فإن بعض " المتدينين " يعد عرابي خارجاً على السلطة ناقضاً للبيعة الشرعية (!) ويعد الخديوي أهل الولاء والطاعة.1_038
هذا الصنف من المتدينين يحارب " المثل العليا " في الحضارة الحديثة بتبني الأسلوب الخديوي وإضفاء الطابع الإسلامي عليه ، وهولا يدري شيئاً عن حقوق الشعوب أو حقوق الإنسان ، وعن أسس الشورى والبيعة والمساءلة التي عرفت منذ عهد الخلافة الراشدة .
من المضحك أن يتقدم هذا النفر من الناس بحضارة بديلة في ميدان العلاقات الإنسانية كما أنه من المضحك أن يتقدم المقلدون العميان بحضارة بديلة في ساحات الإبداع والكشف.
ومأساة الإسلام تكمن في أن ناساً يتقدمون بتقاليد الشعوب على أنها تعاليم الوحي ، بل إنهم يتقدمون بالأخطاء التاريخية على أنها توجيهات سماوية.
وستبقى الحضارة الحديثة حاكمة ما بقي هؤلاء يدعون ويكابرون ، ولن تصح مسيرة العالم إلاّ بعودة الإسلام ذاته على أيدي أولي الألباب ، ومن لهم قلوب..(1/30)
أظنني بعدما حاسبت نفسي بصرامة ، ونقدت الجبهة التي أنتمي إليها ـ أو أحسب عليها ـ غير ملوم إذا نقدت الحضارة الحديثة ، ونبهت إلى بعض مآسيها أو معاصيها.
فليست هذه الحضارة على مستوى الاحترام الذي تطلبه لنفسها أو يطلبه لها عشاقها. أبادت في صمت، ولا تزال تبيد1_039
أجناساً بشرية ضعيفة.. وسكان أستراليا القدماء يختفون الآن قبيلة بعد قبيلة أو فرداً بعد فرد أمام تفوق الرجل الأبيض الذي يشيع بينهم أردأ أنواع الخمور لتأتي عليهم . وما حدث لسكان أمريكا الأصليين يحدث الآن لهؤلاء السكان ، الرجل الأبيض يحسن أن يقول : أنا وحدي ، ومن لم يخدمني فالويل له ! وأعتقد أن حرب الأفيون في الصين أوائل القرن الماضي كانت بداية خطة لمثل هذا الإفناء، لولا أن الصينيين استيقظوا قبل أن يُقضي عليهم. هل لي أن ألفت النظر إلى أن الفاتحين العرب ذابوا في السكان الأصليين بعد أن قدموا الإسلام لهم ؟ وصلوا وراءهم مأمومين فى المساجد وجلسوا بين أيديهم متعلمين فى المدارس ؟ إن الإسلام ارتباط عالمي بالله وليس تفوق جنس يريد لذاته الاستعلاء.. وذلك فرق كبير بين حضارتين.. الجنس الأبيض الآن أحسن زراعة الأرض ، ولكنه يفضل حرق المحاصيل عن بيعها رخيص ، أو إهدائها للجياع.. وهو يكرع أنهاراً من الخمر، ويدع الشعوب المتخلفة تشرب الماء ممزوجاً بالطين ، ولتذهب إلى الجحيم !!. لا بأس أن تمرح تحت أقدامه شعوب من الخدم ، أما أن ترنو1_040(1/31)
إلى أبعد من ذلك فلا يجوز.. ومن سنن الله أن يدع هذه الحضارات تحصد ما تزرع ، وتلقى ما قدمت (……… ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ). إننا ما ننكر التفوق الغربي في النواحي السياسية والاجتماعية ، لكن فضائل الديمقراطية محظور تصديرها للخارج ، وإنني أغبط أسرة الدول الأوربية الغربية على اختفاء المستبد من ربوعها ، وعلى استقرار المجالس التشريعية، وتنفس كل إنسان في جو من الحريات الموطدة وتنافس الملكات الذكية في الخدمات العامة.. إن المظالم ـ فردية كانت أو اجتماعية ـ مرفوضة رفضاً قاطعاً. والرقابة على المال العام صارمة ، وإحساس كل امرئ بامتداده ليس أمامه عائق. الشيء المستغرب أن حملة هذه الحضارة يحتكرون الصنف لأنفسهم. وتنقلب موازينهم عندما يعاملون غيرهم ، ولذلك كان الاستعمار العالمي ولا يزال سبة في وجه هذه الحضارة. وسر هذا الارتكاس فراغ القلوب من الإيمان ، والتفرغ لانتهاء اليوم الحاضر ، فلا أمل فيما بعده ، وشرق أوربا وغربها سواء1_041(1/32)
في هذا السعار المادي الغالب. الفارق بين الجانب الشيوعي والجانب الصليبي. أن الماركسيين صرحاء في كفرهم بالله واليوم الآخر، أما الجانب الآخر فالتدين شكل لا موضوع له ، والناس يمشون وراء أهوائهم وحدها ، سوادهم الأعظم يعرف الأرض وينكر السماء ، ويريد جنة هنا ولا تعنيه جنة في عالم الغيب. إن أوربا للأسف تعرف الدين عملياً عندما يقع النزاع بين العرب واليهود ! أو عندما تريد توسعة أملاكها وراء البحار، وتشد عربات كثيرة في قاطرتها المنطلقة... إنها عندئذ تجتر ذكرياتها التاريخية ضد الإسلام ، وتنسى الصدق والعدل في كل قضية للعرب والمسلمين ، ولا تبالي بمستقبل الفلسطيني التائه ، أو الأفغاني المحروب ، أو أمثالهما من الجماهير التي وقعت في براثن الاستعمار ، وكانت تعتنق الإسلام.. وقد نبه المستشار الدكتور فتحي لاشين إلى الضغن المكنون في أفئدة المستعمرين ضد الاستعمار وأمته قائلاً :"أكتفي بمثالين ينضحان بهذا الغل ويكشفان عن آثاره. الأول لمسئول في وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1952 قال : العالم الإسلامي عملاق مفيد ، لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً ، وهو حائر قلق ، ضائق بتخلفه وانحطاطه ، وإن كان يعاني من الكسل والفوضى.1_042(1/33)
غير أنه راغب في مستقبل أحسن وحرية أوفر ! وعلينا أن نبذل كل جهودنا حتى لا ينهض ويحقق أمانيه ! ذلك أن فشلنا في تعويق نهضته يعرضنا لأخطار جسيمة ، ويجعل مستقبلنا في مهب الريح.. إن صحوة العالم العربي ، وما يتبعه من قوى إسلامية كبيرة نذير بكارثة للغرب ونهاية لوظيفته الحقيقية في قيادة العالم. والمثال الثاني ننقله عن " يوجين روستو" رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية ، ومستشار الرئيس جونسون في الستينات يقول : " لا تستطيع أمريكا إلا أن تقف في الصف المعادي للإسلام ، أي إلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية. لأنها إن فعلت غير ذلك تنكرت للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها. " إن هدف العالم الغربي في الشرق الأوسط ـ هكذا يقول مستشار الرئيس الأسبق ـ هو تدمير الحضارة الإسلامية ، وإن قيام إسرائيل جزء من هذا المخطط ، وليس إلا استمراراً للحرب الصليبية ". والغريب أننا نسمع في هذه الأيام وعوداً كثيرة لمرشحي الرياسة في الولايات المتحدة ، تمني اليهود بمزيد من المكاسب والغنائم ، على حساب العرب بداهة. فأين مواثيق حقوق الإنسان؟ وأين الضمانات التي يمثلها قيام هيئة الأمم المتحدة للمحافظة على جميع الشعوب ؟!. ذلك كله ما لم يكن العرب أو1_043(1/34)
المسلمون طرفاً في صراع ما.. أما إذا كان الحيف واقعاً على شعب مسلم أو شعب عربي فقد أمسى للقضية وجه آخر. هنا تتحول الحرية إلى عبودية ، والمدنية إلى همجية ، والويل للمغلوب..! فهل يلام المنكوب إذا تربص الدوائر بالمعتدين ؟ وهل يهزأ به إذا ساء بالحضارة ظنه ؟ إن عدداً من عقلاء الغربيين أخذ يرسل إشارات الخطر لقومه وينبههم إلى سوء المصير.. ومن الغباء أن نطوي حضارة ما لنأتي بشرّ منها، فعلام الهدم والبناء ؟ ولست أتخيل أحداً يبغي استبدال الدواب بالطائرات. الخلاف حول الأنظمة الخلقية والاجتماعية وما يساندها من عقائد ، والشعور السائد فى الحضارة الحديثة تسيء أكثر مما تحسن ، وتظلم أكثر مما تعدل ، ويعني ذلك الشك فى أهليتها للبقاء.. فهل يقدم الإسلاميون تصوراً أفضل من الناحية النظرية للبديل المطلوب ؟ لا أجيب بالنفي ولا بالإثبات، وإنما أقول : إن التبديل سوف يقع حتما عندما يوجد الأقدر على القيادة والأولى بالصدارة والأنفع للناس.. وكيف يوجد ؟ ذاك ما نحاول الإجابة عليه إن شاء الله.1_044(1/35)
التحدي الثقافي
الغزو الثقافي الذي يجتاح الأمة الإسلامية صنو للغزو العسكري الذي جاس خلال ديارها من بضعة قرون ، وأثر لابد منه للهزائم التي أصابتنا وألحقت بنا خسائر مادية ومعنوية فادحة. والأعداء إذا شنوا غارة على بلد ما ، فهم لا ينزلون به سائحين عابرين ، ولا زائرين متفرجين. وإنما ينزلون به مستبيحين بيضته، وكاسرين شوكته ؟ فإن كانوا طلاب مغانم استنزفوا خيره ولم يدعوا لأهله إلا الفتات ، وإن كانت لهم أغراض دينية أو اجتماعية وضعوا الخطط القريبة والبعيدة لمحو شخصية الأمة وتغيير ملامحها وكما ينقل النهر من مجرى إلى مجرى آخر، تنقل الأمة رويداً رويداً من مجراها العقلي الأول إلى مجرى آخر يرسمه خصومها ويدفعونها إليه دفعاً.. والاستعمار الغربي الذي هاجم العالم الإسلامي من بضعة قرون كان مزدوج الهدف فهو طامع في خيرات الشرق الكثيرة يراها ميراثاً لا صاحِبَ له ، وهو في الوقت نفسه مثقل بضغائن قديمة ؛ يكره الإسلام كراهية شديدة ، ويضيق بكل من ينتمي إليه، ويشتد1_045(1/36)
ضيقه بالعرب خاصة ، فهم قوم محمد وحملة رسالته ، وما تزال لغتهم مستودع كتابه وسنته.. فلما واتته الفرص ووضع يده على أقطارهم شرع يضرب الإسلام بقوة ومكر، ومضى دون هوَادَة يُجْهِز على فلوله الثقافية الخائرة بعد ما دَحَر جيوشه العسكرية في مواطن كثيرة.. وانطلقت طلائع الغزو الثقافي تطارد الدين المغلوب على أمره في ميادين التربية والتعليم والتشريع ، وتطوي تقاليده الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والسياسية ، وأفلحت في تكوين أجيال تنظر إلى ماضيها كله على أنه أنقاض أو مخلفات ينبغي أن تستخفي ليحل محلها البناء الجديد الذي وضع الغرب حقيقته وصورته. ولم تكن المعركة سهلة على أية حال ، فالمقاومة شديدة ، ورجالها مستبسلون ، وكلما ظن الغزاة أنهم انتصروا بدت لهم الغاية أبعد ، والعقبات أشد. ولكي يعرف أبناؤنا أبعاد الموقف نذكر لهم هذه الحقائق : أ - منذ بدأ الإسلام ، واليهود والنصارى حاقدون عليه ومعترضون طريقه ؟ تدبّر قوله تعالى : (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ..) .1_046(1/37)
وقوله : (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم … ). وعندما انشرحت به صدور، واستراحت إليه جماهير سعى هؤلاء. وأولئك لفض الأتباع عنه ، ولوبقوا على وثنيتهم القديمة. من أجل ذلك يقول القرآن الكريم مندّداً ومعاتباً : (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) . وقد كانت هذه الضغائن وراء الحروب الصليبية في العصور الوسطى ، وهي كذلك وراء الحروب الاستعمارية في العصر الحديث. ولعل السيد جمال الدين الأفغاني من أوائل الذين كشفوا هذه النيّات السوداء ، " يقول لوثروب ستودارد " : إن خلاصة تعاليم جمال الدين الأفغاني تنحصر في أن الغرب مناهض للشرق، وأن الروح الصليبية لم تَبْرَح كامنة في الصدور كما كانت متأجّجة في قلب بطرس الناسك، ولم يزل التعصّب كامناً في عناصرها. والغرب ما يزال يحاول بكل الوسائل القضاء على أية حركة يحاول بها المسلمون إصلاح أمورهم . نقول : وقد انضمت الشيوعية إلى الصليبية في اعتراض1_047(1/38)
الصحوة الإسلامية ومؤازرة الغزو الثقافي وسَدّ الطرق كلها في وجوه المؤمنين الأحرار؛ فالخصوم يكثرون ولا يقلون ، والساحة تتسع ولا تضيق. ب ـ ولعل الهدف الأول للغزو الثقافي إصابة العلوم الدينية في مقاتلها بعد إسقاطها عن مكانتها التقليدية . وترتبط بعلوم الدين علوم اللغة وفنون الأدب ، فيجب أن تتضعضع هي الأخرى !! ولما كان الإسلام عقيدة وشريعة وتربية وتقاليد ، وكانت الثقافة المصاحبة لهذا كله متشعبة متكاثرة ، فإن الاستعمار قدر لتدمير هذه الثقافة أمداً يتراوح بين نصف قرن، وقرن كامل. وهو يستطيع خلال هذا الأمد المتطاول خلق جيل زاهد في الانتماء لدينه ، غير متحمس له ولا حريص عليه ، يهاب الأديان الأخرى ولا يهاب عقيدته ، ويفضل الألسنة الأخرى ويستهين بلغته ، ويكرم زعماء العالم قديماً وحديثاً ، أما رجالات الإسلام فليسوا أهلاً لاكتراثه! وربما نال منهم وأزرى عليهم !! ولنعترف بأن أعداداً من المرتدّين سقطت في هذه الفخاخ؛ فقدت تَسْمع من يطلب تَرْك الصلاة أو الصيام حتى لا يضعف الإنتاج! وقد تَسْمَع مَن يشغب علانية على شرائع الحدود1_048(1/39)
والقصاص ! وقدت تَسْمَع من يرفض الولاء للدين ويقدم عليه الانتماء القومي أو الوطني ! وقد تسمع مَن يدعو إلى العلمانية ! أو مَن يرى المخادنة أحسن من الزواج !. وكان يستحيل أمس أن تقبل الجماهير معشار هذا الزيغ بَيْد أن الغُزاةَ الدهاة عرضوها للسنين العجاف والأزمات العضوض فجرت تلهث وراء لقمة الخبز ، وقد يشغلونها بالملاهي والتسالي فيكون سماع أخبار الكرة أهَمّ من أنباء المجاهدين في أفغانستان أو الفليبين.. إن الغزو الثقافي نجح في جعل قيمة مكان قيمة ، واهتمام بدل اهتمام.. ومع ضياع المعرفة الدينية وسقوط رتبتها دخل الدين كله يا محنة هائلة ، والحق يقال أن حماة الإسلام يقفون عند آخر خطوط الدفاع والمستقبل في كف القضاء.. جـ ـ ذاك بالنسبة إلى ثقافتنا التقليدية. أما بالنسبة إلى العلم العام الذي لا وطن له ، فمعروف أن حصيلتنا منه كانت فوق الصفر بقليل ، فلما احتل الغرب ديارنا أخذ يعطينا منه بقدر ما نعطي من أنفسنا ! العلم مدون بلغاته وبحوثه مزدهرة فى ربوعه، ومراحل التطبيق العملي والإنتاج الصناعي تتم فى معامله وتحت إشرافه ، وقد ملأ البر والبحر والجو بتفوقه ، فإذا رغبنا فلنذهب1_049(1/40)
إليه ولنتجاوب معه.. وإذا كان يضع فمنا على الصنبور فإن المحبس بين أصابعه إن شاء فتح وإن شاء أغلق ومَن أبَى فلا يلومَنّ إلا نفسَه... وهكذا استطاع المنتصر أن يجرَّ المسلمين وراءه ، وأن يفرض عليهم صبغته.. وعندما أتعمَّق هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي ، وأتساءل عما أصابنا ؟ أجد الجواب العدل : لقد كنا للهزيمة أهلاً ، وما كان يمكن أن يقع إلا ما وقع بعد الخيانات العقلية والخلقية التي لفت حياتنا فى الأعصار الأخيرة. لقد تكاثرت أوزار التخلّف المادي والأدبي على ظهر الأمة المسكينة حتى قصمته ولم يكن ثَمّ بصيص نور يُومِض بهداية أو نَصَفة أو مَرْحَمة ، كان الحاكم الجائر ينبت في منصبه فيقال في تسويغ وجوده : (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء …… ). أما أن المناصب أمانات ، وأن ملأها يتم بالاختيار النزيه فذاك حديث لا يخطر ببال !!. وكان من يقدر على انتهاب ثروة ضخمة يأخذها في صمت ، أو تتطلع الأنظار إليه بِوَجَل ، لو تجرّأ امرؤٌ فذكر حدود الحلال والحرام ، قيل له : صَه !! (…… إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) .. وصاح شاعر1_050(1/41)
" مؤمن " يقول : مَلِكُ الملوكِ إذا وهَبْ لا تسألنّ عن السّبَبْ اللّهُ يعطِي مَن يشاء فقِفَنْ على حَدّ الأدَبْ ونشأ عن استقرار هذا الفكر تسليم بالحظوظ العمياء والتفاوت الظالم ، وعدّ ذلك هو الوضع الطبيعي فما جاء على أصله لا يسأل عن علته ! أما التساؤل : مِن أين لك هذا ؟ سواء كان هذا مالاً أو حكما فإنه سؤال مردود على صاحبه ، وقد يكون سبباً فى اخترام أجله !. إن المعرفة الدينية في ميداني الحكم والمال لم تكن تنبع من كتاب الله وسًنّة رسوله وتقاليد الخلافة الراشدة ، بل كانت تنبع من طبائع الأثرة والهوى التي استفحلت في الشرق الإسلامي ، وكانت لها ظلال كئيبة خلال قرون طويلة.. وكانت هذه اللوثة موجودة كذلك يا الغرب الصليبي فقد حدث حوار بين قيصر روسيا وجمال الدين الأفغاني ، سأله أولا عن آرائه في الشرق ثم سأله عن سبب خلافه مع الشاه ؟ قال جمال الدين: إنها الحكومة الشورية أدعو إليها ولا يراها. قال القيصر: الحق مع الشاه إذ كيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاّحُو مملكته ؟1_051(1/42)
قال جمال الدين : أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون الألوف المؤلفة من رعاياه أصدقاء له بدل أن يكونوا أعداء يتربصون به الدوائر. فلم يعجب القيصر هذا الحديث ، وغادر المجلس علامَة الإذن لجمال الدين أن ينصرف.. ولكن أقطار الغرب لم يطل صبرها على هذا الغرور، فقامت في القرن السابع عشر ثورة في إنجلترا أطاحت بملك من طراز القيصر، وتبعتها فرنسا في القرن الثامن عشر، أما روسيا نفسها فإن القيصرية طاحت فيها أوائل القرن العشرين. وجمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا كانوا ينصرون الإسلام حين يذكِّرون بالشّورَى، وكانوا يستمدّون من تعاليمه لإصلاح ما ساد عصرهم من اعوجاج ، بل لقد كانوا يعالنون بسلفيتهم إذ أن السلفية فيما يعلم أولو الألباب شيء آخر فوق إحفاء الشوارب ! إن الإسلام يضيره أشَدّ الضير أن تختص أرضه وحدها بأجرأ الناس على اغتيال المال العام والخاص ، وأجرأ الناس على تدويخ الشعوب وإذلال من أعز الله وإعزاز من أذلّ الله. وسيقال : طبيعة نظمه أوحت بذلك أو سكتت عليه. وهذه في نظرى أقبح فِرْيَة بعد الشِّرْك بالله..1_052(1/43)
وهناك سبب آخر أعان الغزو الثقافي على النجاح هو مَدُّ خيمة الغيبيات لتشمل مساحات واسعة من عالم الشهادة حتى كأن الدين حارس طبيعي للطلسمات والخرافات أو كأنه خصم لدود للمنطق العلمي ! وقد شاع هذا المسلك في مقولات شتى.. كنت أقرأ كتاباً عن مطالع الأهِلّة وأوقات الصلوات لفقيه مالكي ، فمرَرْتُ بقضيّة أثارها المؤلف ؛ رجل صلى الظهرَ فى مكة ، وكان من أهل الخَطْوَة (!) أي يتنقل بين الأجواء بسرعة البرق. قال المؤلف : فوثب بعد صلاته إلى طرابلس ـ في ليبيا ـ والظهر لمّا يُؤَذَّن له بعد هناك ، هل يعيذ الصلاة ؟ أم تكفيه صلاتُه الأولى ؟ وليس يعنيني أن يكون هذا الكلام حقاً أم باطلاً ، إنما الذي يعنيني أنك إذا أنكرت هذه القضية. يقول لك شخص هائج : ماذا؟ أتنكر القُدْرَة الإلهيّة ؟ إن هذا كفر !! وهذا الخيال أو الخبال يرجع إلى مسألة كلامية ، هل العلاقة بين السبب والمسبب عقلية أم عادية ؟. ولمسائل علم الكلام انحرافات معقدة في مسالك أمتنا ومعارفها.. وينضم إلى ذلك ما يعتبر تلاعباً بالألفاظ وتبادلا للتهم ، فالمسلمون مجمعون على أن الإنسان مسئول عن أفعاله ، لكن هذا1_053(1/44)
المعنى البديه صِيغَ في عبارة نابية ، ابتدعها المعتزلة ابتداعاً هي: الإنسان خالق أفعاله ! والفلاح المسئول عن زرعه لا يقال فيه خالق زرعه ! والبناء الذي شَادَ قصراً لا يقال عنه خالق القصر. وكان يمكن أن تُهْجَر هذه الصيغة إلى صيغة أكْيَسَ وألطف. لكن سرعان ما احتدمت معركة رهيبة ظلت عدة قرون تَمَسّك فيها أهلُ السنّة بأن الله خالق الأفعال الجبرية والاختيارية.. وخرج العوائمّ من المعركة وهم يَروْن ألا قدرة لهم ولا إرادة ولا حول ولا قوة. وكان هذا التلاعب بالألفاظ من وراء تضليل أجيال غفيرة ، وتمويت أمة كبيرة. وقد بذلت مدرسة المنار جهوداً متصلة لتصحيح المعرفة الدينية ، فحاربت التقليد المذهبي الجامد كما حاربت الأحاديث الضعيفة وضبطت داخل الهداية القرآنية الأحاديث الصحاح ، وطاردت قضايا كلامية، وتضليلات سياسية.. واستطاع محمد رشيد رضا أن يسوق توجيهات محمد عبده وسط حشد مِن الآثار المحررة. بَيْدَ أن قوى شريرة من الداخل والخارج اعترضت هذا الخير الدافق. ومن هنا قدر الغزو الثقافي على بلبلة الجماعة الإسلامية وتبديد طاقاتها في غير طائل فإن كثيراً مِمّن أحبّ الإسلام وحَنّ إلى1_054(1/45)
العودة إليه قدم للإسلام أو قدم إليه الإسلام جملة معارف من عهود الاضمحلال ومن أيام الهزائم الفكرية والخلقية لأمتنا خلال مسارها الطويل ، فلم يستطع معالجة الانحراف في دنيا المال والحكم إلا بالعِظات.. وضمّ العالم الإسلامي في أرجائه الرحبة أبخل أغنياء وأخبث ساسة وسكت رجال العلم الديني التقليديون ! ترى ما أسكتهم ؟ ليس لديهم ما يقولون ليسدّوا الطريق أمام التحدّي الثقافي القادم من الخارج. وَدَعْكَ من ميادين الاقتصاد والسياسة ومن عالمَ الإنتاج والإدارة وتحريك الحياة والأحياء ! ولنذهب إلى المحاريب ، وتزكية النفوس وترقيق القلوب وبناء الأخلاق وتوفير الباقيات الصالحات.. إنني بعد تأمل طويل وجدت ثروتنا من هذه المعاني الغالية قليلة ، وزادنا غير كاف لمغالبة حضارة ساحرة الإغراء كثيرة الأحابيل فما العمل ؟ العمل إعادة النظر فى ثقافتنا كلها ، أعني ثقافتنا الذاتية لننبذ منها ما ليس له رصيد من هداية الله.. وإعادة النظر فى العلوم الكونية والإنسانية التي تموج بها الأرض لنقتبس منها ما نحتاج إليه على عجل. ولذلك تفصيل ومنهاج.. في الإنسان غرائز دنيا تشده إلى تحت، وفيه خصائص كريمة1_055(1/46)
ندفعه إلى فوق ، فإذا كانت هذه الخصائص أشد قوة ذهبت بالإنسان صعداً إلى آفاق الحق والخير والجمال.. وإن كانت مساوية لغريمتها ذهب السالب في الموجب وبقي المرء موضعه.. وإن كانت أضعف منها أخْلَد إلى الأرض واتّبع هواه ، فلم تره إلا مبطلاً شريراً دميم الروح. والذي أقصده أن تحصيل الكمال يحتاج إلى معاناة علمية وخلقية.. فالكريم لن يكون كريماً إلا إذا قهر الشُّحّ ، والشجاع لا يكون شجاعاً إلا إذا هَزَم بواعث الخوف.. والإسلام الذي ننتمي إليه سمع وطاعة لله تباركت أسماؤه ، ولابد أن يعتمد على معرفة شديدة الوضوح ، وخضوع لا يتخلف في موطن ، واستجابة عاجلة لكل نداء.. ولا يتم شيء من هذا إلا إذا كانت المشاعر جَيّاشة ، والبواعث حية، والنفس مكتملة القوى في إرضاء الله. وأيّ منصف يتدبر القرآن الكريم في طول السور وعرضها يشعر بأن الإيمان الذي يصنعه هو إيمان الرغبة والرهبة ، والتبتل والتوكل ، والصبر والشكر والاستناد إلى الله والاستمداد منه ، والحب والبغض فيه والسلام أو الحرب من أجله.. إيمان يغمر المحاريب بالخشية والميادين بالجرأة ويتحرك دون توقف لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وسَوْق الحياة وما فيها لإعلاء كلمة الله.1_056(1/47)
وكان المفروض في ثقافتنا الذاتية أن علمي الكلام والتصوّف يشرفان على هذا الجانب ويقومان بتصوير العقائد ، وتأسيس العناصر التي تجعل الإيمان يخالط القلوب ويوجّه النفوس. بَيْدَ أن ملابسات شتى أحاطت بهذين العلمين ، فإذا إثمهما أكبرُ من نَفْعِهِما. فماذا صنعنا لنصلح مسارهما ووجهتهما ؟ إن الإيمان النظري قليل الجدوى وإن صحت أدلته ، والعاطفة الحارة قليلة القيمة إذا جانَبَها الفكر الراشد والرأي الصحيح. ولكي نبني أجيالاً صالحة ، يجب أن نقدم من تراثنا الغني ما ينشئ يقيناً ناضجاً ، وسريرة ناضرة ، وربانية نتعامل مع الدنيا بذكاء وترفع ، لا بِنَهَم وضراعة. رأيت ناساً يَرْنُون، بخشوع إلى أحد الحكام الخَوَنة ، فقلت : أعوذ بالله من الخذلان ، إنهم يَرْنُون إلى حظوظ الدنيا عند هؤلاء ، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة ما عرفوا لهم باباً.. ورأيت ناساً أصدروا فتاوى سيئة ، ودافعوا عنها بقوة ؛ كان الدفاع عن المنصب وراء جدالهم الطويل عن هذه الفتاوى. ألا فلنعلم خبايا هذه المواقف، يوم تكون صلة امرئ ما بالمال والجاه كصلة الوثني القديم باللات والعْزّى ، فهو مُشْرِك ؛ لأن الله ليس فى قلبه ، إن فى قلبه شيئاً آخر ! أي إسلام هذا ؟. إن الجانب الإلهي في الإسلام والجانب العاطفي في الإسلام ينبغي أن1_057(1/48)
تعاد دراستها على ضوء من الكتاب والسّنّة، وأظن الذين حاربوا عِلْم الكلام والتصوّف ذكروا بدائل حسنة لما غذوه خطأ في هذين العِلْمَين ، فهل درسنا هذه البدائل ؟ إن جمهوراً كبيراً من المنتمين إلى السلفية لا يعرف ما كتبه ابن القيم فى : " مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين " ولا ما كتبه فى : "طريق الهجرتين " ولعله يحسب هذه الكتابات من هناته (!) وما هذا الحسبان إلا من فرط الجلافة وغلظ الحجاب.. والحق أن الإيمان المقبول عند الله هو إيمان المحبة والتفويض والركون إلى الله لا إلى الظالمين ، والأنس بالله لا بالمكانة الشعبية والْتِفاف الجماهير.. وقد نرى ثروة معجبة من هذه المعاني في تركة المتصوّفين يمكن انتقاؤها بعناية ، واطراح ماعداها من بدع.. ولنؤكد هنا أن التصوّف المقبول ـ إن صَحّ التعبيرـ تربية دقيقة قبل أن يكون سِعَة عِلم ، وإنما أُخِذ على القوم أمران ، أحدهما الغُلُوّ والجهل بأحكام كثيرة دينية وإنسانية ، والثاني اعتبارهم مراحل الطريق أو درجات الرقّي صفة لفرقة متميزة من المسلمين ، تنعزل بها عن العامة ، وتنفرد بأحوال خاصة ، وهذا باطل. فنحن المسلمين أساسنا الأول كتاب الله ، وللإيمان في كتاب الله خصائص تُعَدّ مثلاً عليا لكل من يقرؤه ، هذه الخصائص من شهود ومراقبة وتهيُّب تتكون في ساحات الحياة لا في أجواف الصوامع. وتدبُر هذه الآيات :1_058(1/49)
(لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله …). (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ……) (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) . (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده …) . (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا …) (……إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) (……ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ……).. .. الخ. إن المشاعر النابضة بالحياة المشاركة فى معاركها الهاجمة مع أمواج المد أو المتراجعة مع أمواج الجزر ! هذه المشاعر هي أجزاء الإيمان عندنا ، فليس الإيمان أنفاساً باردة وخيالات طائرة. وإذا لم نصنع العلوم التي تقيم هذا الإيمان وترفع قواعده فنحن نخون الإسلام.. إننا نصنع هذه الثقافة لا لنطبقها بين ظهرانينا وحسب ، بل لنصدّرها إلى العالمين كي يعرفوا : مَن نَحْن ؟ وبماذا نَدِين ؟ أليست هذه وظيفتنا ؟ إنها رسالة أمتنا التي ينبغي أن تعرف بها شرقاً وغرباً.. والصلوات وغيرها من فروض إنما تقدَّر وتقبل بقدر ما تحوى من هذه المعاني ، وبقدر ما ينشأ عنها من أخلاق زاكية ، وبُعْدٍ عن الدّنايا..1_059(1/50)
والأمم لا تنجح في أداء رسالتها إلا إذا كانت لها قدرات مادية مساندة ، وحكم الوسائل هنا هو حكم الغايات نفسها ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. أإذا اعتمد المؤمنون في تحصيل الرغيف على عون الملاحِدَة أمكنهم هذا العجز من تبليغ رسالتهم ؟ أإذا انتظر المسلمون إمداد السلاح من غيرهم أمكنهم ذلك من الجهاد فى سبيل ربهم ؟ إن دولة إسرائيل بَرَعت فى صناعة الأسلحة ولها فى هذا الميدان تجارة عالمية (!) فماذا عند العرب ؟ وأشعر ـ وأنا أكتب هذه السطور ـ بالقهر والشتات. لا لفراغ بلادنا من المصانع المخوفة ، بل لأن اليهود يستعدّون لانتخابات جديدة ، وتوجد بلاد إسلامية تستعدّ هي الأخرى لانتخابات مماثلة. قلت في نفسي : منذ نشأت دولة إسرائيل ما زورت فيها انتخابات قط..! أما نحن فأبناء بجدتها في صنع النتائج التي يعرفها العالم.. فلأدع هذا الاستطراد ، ولأعدْ إلى الوسائل التي لابد منها لأداء رسالتنا. إن الإسلام أنبأنا بأننا أعلم بشئون دنيانا ، وشئون الدنيا1_060(1/51)
العلمية والعملية تتنافس الآن في تجويدها خمسون ومائة دولة ، كل دولة تبذل وسعها لتتقدم وتسبق ، وتدعّم وجودها المادّيّ والأدبي.. والوَحي الإلهي لا صلة له بالمعادلات الجبرية ، ولا بالكشوف الكونية. هذا موكول إلى جهود البشر، ومدى ذكائهم ونشاطهم ، والسباق اليوم رهيب بين فرعي الحضارة الحديثة ، الشيوعي والصليبي للسيطرة على زمام الحياة الأرضية. كلاهما يريد دعم نفسه ومبادئه بما ملكت يده من علم وتطبيق. هل للمسلمين وجود في هذه الميادين ؟ أين اختفوا مع أن آباءهم قادوا الحياة البشرية دَهراً ؟ وبماذا يشتغلون ؟ الواقع أن هناك خطأ أساسياً في أسلوب تفكيرنا وعبادتنا لربّنا ، لأننا لم نُعْطِ القدرة المدنية والعسكرية وزنها الصحيح. وأغلب العابدين يرجحون نافلة في مجال العبادات المحضة، على درس علمي أو ابتكار صناعي ، وربما ظن تلاوة وِرْد أرضى لله من اختراع آلة ، أو صَوْن جهاز، أو إحكام إدارة، أو تدبير سياسة. إن التحدّي الثقافي الأجنبي يمتد حتما في هذا الفراغ العقلي والديني عندنا، وربما أعانه هذا على استئصال شأفتنا ، والقضاء على رسالتنا.1_061(1/52)
وعندي أن مطاردة الفقهاء والدعاة الذين يصنعون هذا الفراغ أهَمّ مِن مطاردة تجار المخدرات ، وباعة الخمور، وإذا لم ننقذ مستقبلنا الحضاري من هؤلاء الناس قضوا علينا يقيناً. ولا ينبغي أن نستحي من أن نكون تلامذة لِمَن سبقونا ، وأن نتواضع لهم حتى نعرف ما لديهم ، ونحسن رَتْق فتوقنا.. لكن المأساة المثيرة للبكاء أننا نرسل طلاباً ليكملوا نقصنا فى هذه الناحية فإذا الذاهب إلى موسكو يعود بفكر ماركسي ، والذاهب إلى واشنطن يعود بفكر انحلالي تبشيري. والعلم النافع القليل الذي حصل عليه سرعان ما يتبخر ولا تجد له أثراً، أو أثراً ضُرّةُ أكثرُ مِن نفعه. والمرء إذا وَهَى دِينُه يقاد من بطنه وفرجه أكثر مما يُقادُ مِن عقله وضميره وتلك حال مبعوثين كثيرين.. إن فقرنا العِلمي والصناعي شديد ، ونحن أحْوَج أهل الأرض لنجدات تستبقي حياتَنا وإيمانَنا ، فهل يُسْعِفنا شبابُنا في هذه الميادين ؟. ومع استيراد العلم الذي لا وطن له ، نحتاج كذلك إلى استيراد الوسائل التي لا وطن لها.. إن الارتقاء البشري فى العالم جعل الإدارة فنًّا رفيع الأداء. ومَكّن الأخصائيين ـ بحسن النظام ـ1_062(1/53)
أن يختصروا أوقاتاً وأعمالاً كثيرة ، وأن ينجزوا في ساعات ما ننجزه نحن في أيام. وأن يضبطوا مفاهيم كانت رجراجة ، ويبتوا في قضايا كانت معلقة.. وَلأزد هذا الموضوع جلاءً حتى لا يكون نقل الوسائل ذريعة إلى نقل الأهداف. إنني أومن بالشورى ، وأزدَرِي الاستبداد السياسي من أعماق قلبي ، وأرد إليه أغلب هزائم أمتنا خلال تاريخها.. وأرمق الديمقراطية الغربية فأحسد أصحابها على مناقشة الآراء بحرية ، وعلى استكانة الحكام للحق ، وعلى اعتزاز الأفراد بكراماتهم ، وكنت أهمس إلى نفسي : أما يجيء يوم يظفر فيه المسلمون بمثل هذه النعمة ؟. بَيْدَ أنني مسلم ، لا يتقدم شيء أبداً على ولائي لله ، وقد تابَعْتُ مناقشات مجلس العموم البريطاني فى مسألة إلغاء عقوبة الإعدام ورأيت كيف حاولت رئيسة الوزراء الاقتصاص من القتلة ، وكيف خذلها أغلب أعضاء المجلس وأصرّوا على إلغاء عقوبة الإعدام. قلت : هذا هو الفرق بين الشورى عندنا وبين الشورى عندهم. نحن نرى أنه لا اجتهاد مع النص ، ولا شورى مع كلام الله ورسوله ، وهؤلاء ساء ظنهم بالدّين كله ، وقرروا البحث بعقولهم1_063(1/54)
عن مصالحهم.. وَكُفْر الغربيين بالدين يرجع إلى أسباب نابعة من البيئة لديهم لا نشرحها هنا.. وإنما أحَذّر من عصابة تجحد الشورى وترفض كل الضمانات التي استحدثها العالم الحر ـ كما يتسمى ! ـ وتجعل الاقتباس من الديمقراطيات الغربية كفراً وحجتها أنها تجعل السلطة للشعب ولا توقفها أحكام الله. وهذه المحاذير كلها تنتفي مع أي دستور ينص على أن الإسلام دين الدولة ، إذ يستحيل معه الخروج على شيء من كتاب الله وسنة رسوله. إن المهم هو تقليم أظافر الفرد الطاغية ، واختفاء الصورة السمجة المأخوذة للحكم الديني ، صورة إنسان " يجيئه شاعر مَلِقٌ فيقول : أعطوه مائة ألف درهم. مائة ألف من عَرَق الكادحين ثمن كذب مزخرف. فإذا تقدم أحد بنصح، أو ضُبِط متلبساً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيل : اضربوا عنقه. فإذا هو قصة تروى. بديه أن هذا ليس سيرة الخلافة الراشدة ، فأين هذه الخلافة؟ ولماذا لا تحتاط الأمم لنفسها ضد الطواغيت فى وثائق مفصَّلة مضبوطة ؟1_064(1/55)
ومراقبة المال الخاص والعام في دورته الاجتماعية أليست عملاً صالحاً تفرضه أحكام الحلال والحرام ؟ أيضيق الإسلام بهذه الرقابة ؟ يقول مصطفى صادق الرافعي ـ وهو كاتب مسلم معروف : ـ إن الله خلق الأرض وقَدّر فيها أقواتها ، ولكن غَنِيا واحداً يُنْفِق فى لَذّةِ يَوْم قُوتَ مَدِينة . وحمار واحد لا يأكل الأرض ليجيع بقية الحمير، ولكن بعض الأغنياء يفعل ذلك. هل الإسلام يحمي تلك الفوضى ؟ ويرى الضائقين بها خارجين عليه ؟ فإذا كانت مجتمعات الغرب قد وضعت قوانين وتقاليد تنظم مسيرة المال فى المجتمع فَلِمَ لا نقتبسها ؟ والاقتباس كما قلنا آنفاً لا يُقبَل بتاتاً إذا خالف نصًّا في كتاب أو سُنّة. ومن التحديات الثقافية الحملة على موقف الإسلام من المرأة ، واتهامه باحتقار الأنوثة وانتقاص حقوقها ! والواقع أننا أعنا على استمرار هذه الحملة ، بل على نجاحها في بعض الأحيان. فلدينا علماء يختارون في معاملة النساء أعسر الفتاوى وأردأ الأقوال ، وتتملكهم حُمّى إذا ذُكرت للمرأة حقوق ، أو مُحيت بعض التقاليد التي تحرجها..1_065(1/56)
ومعرفة هؤلاء بالإسلام ضَحْلة أو مُشَوّهة ، أو مكذوبة. ومع ذلك فقد استطاعوا من قرون ألا تذهب المرأة إلى مسجد أو مدرسة !، وحكموا ألا ترى أحداً ولا يراها أحد ورأوا أن تُورَث ولا ترِث ، وأن يختارها من يريد زوجة له ولا تختار هي أحداً.. وبعد الهزائم الشاملة التي أصابت العالم الإسلامي أجمع في كل ميدان ، شرع أولو الألباب يعودون بأمتهم رويداً رويداً إلى تعاليم الإسلام في عهده الأول وهي تعاليم عادلة وفاضلة ، غير أن الجهل المستشري يضع أمامها عوائق كثيرة. وكما وجد من يحارب الشورى ودساتيرها الدقيقة وجد من يرى النقاب الركن السادس في الإسلام ، ومع هذا النقاب المضروب تنكمش إنسانية المرأة وتذوي قدراتها الأدبية ونشاطها الذي قرره الإسلام من قديم.. وكأني أسمع من يقول : تريد انحلال الغرب ، وضياع شرفه؟. وهذا افتراء فإن الغرب مُوغِل فى الآثام التي يأباها كل عاقل.. والانحراف المأخوذ على الغرب ليس أسوأ من الانحراف الذي ينشدونه هم. إن الغرب يميل عن الصراط المستقيم ثلاثين درجة1_066
إلى اليسار، وهم يميلون عنه ثلاثين درجة إلى اليمين والعوج الواقع لا يخففه أن يكون هنا أوهنا ، إنه بعدٌ عن هدايات الله على أية حال . . ولكي ألقى كل تحدٍّ ثقافي وأنا راسخ القدم ، أحب أن أعرف ديني من مصادره السماوية لا من تقاليد الأجناس المختلفة ، وأن أفرق بين اليقينيات والظنيات ، وأن أدرس التاريخ الفقهي والسياسي دراسة اعتبار واستفادة تحميني من التورط فيما توَرَّطَ فيه قوم آخرون .1_(1/57)
تدين يكره الحضارة ، وتحضر يكره الدين..!
كان معاذ بن جبل وسيم الوجه حسن الطبع واسع المعرفة ، قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والله إني لأحبك ! ثم أوصاه ـ ليستديم هذه المحبة ـ فقال له : لا تدع دُبُر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.. وصلى معاذ بالناس فأطال بهم ، وترك بعضهم الصلاة خلفه لطول قراءته. وبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فغضب من معاذ ، وقال له : أفتان أنت يا معاذ ؟ من صلّى بالناس فليخفف. إن حُبّه لم يمنعه من نصحه وإفهامه أن تجميع المؤمنين وتكثير عددهم وتوسيع دائرتهم أهم من لذة المناجاة ، وإكثار القراءة. لمن شاء أن يتنفل فيطيل ما أحبّ ، أما تنفير الناس من الجماعة لعاطفة خاصة فلا ، هذه فتنة هذا صدّ عن سبيل الله. والغريب أن فتنة الناس عن دين الله قد تألفت لها مذاهب وجماعات ، وتكوّنت لها مدارس وهيئات ، ينظر الناس في آرائها ومسالكها فيعافون التديّن ، ويحسبونه لوناً من الجلافة والتزمّت ،1_068(1/58)
وبعداً عن الحصافة والكياسة ، وخصومة للآداب والفنون ، وعجزاً عن الابتكار والإنتاج ، وتوثيقاً لروابط الماضي وتوهيناً لآمال المستقبل ، وفشلاً عاماً في ميادين التخطيط والإدارة. والذين يعرضون الدين بهذه الدّمامة أقوام من المرضى لا يجوز السماع منهم ، بل الأجدى على الدين والدنيا أن يودَعوا في بعض المصحات حتى يبرؤوا من عللهم. ولكي نعرف الحقائق المهجورة نؤكد أن الدين قبل كل شيء إدارة للأجهزة المعطلة في الكيان البشري ، وإزالة لما قد يكون غراها من عطب ، أو أصابها من خلل. وكل تدين مع تبلد الفكر والحسّ ، فهو موضع نظر ، وللعلماء فيه كلام يجب أن يعرف ، فإن محاربة الغش المعني أهم من محاربة الغش التجارى ! هناك من يؤمن بالله عن تقليد ، ما أعمل فكراً ولا أدار بصراً ! ما قيمة هذا الإيمان ؟ البعض رفضه ، ولم يمنحه قيمة ، والبعض قبله على إغماض ولم يعدَّ صاحبه كافراً . وسواء أخذنا بهذا الرأي أو ذاك ، فإن المقلد في إيمانه امرؤ من الدهماء لا يقود ركباً ولا يصدر رأياً ، إنه تابع وحسب. وهناك من ينتظم في صفوف الصلاة ، وهولا يعني ما يقول ولا يفقه ما يقرأ ! جسمه في المسجد ودماغه سارح في طول الدنيا وعرضها. قد يتذكر1_069(1/59)
كل شيء إلا جلال من وقف في محرابه. تمثيلية صلاة في إطار من غيبوبة عقلية تامة ، هل له من صلاته شيء ؟ إننا لن نعُده مبارزاً بالعصيان وتاركاً للفريضة ، لكن هل هذه التمثيلية تزكي نفساً ، وترفع رأساً ؟ هذا المصلّى الذاهل صنو هذا المؤمن المقلد ، وكلاهما لا تنهض به حياة ، ولا يرشد به مجتمع ، لأن كليهما معطوب من داخله ، وأجهزته النفسية والفكرية فى حالة ركود على أن خطورة هذا النوع من التديّن تبدو فى ميادين الأعمال العادية ، فالرجل صاحب الفكرة أو صاحب الدعوة يتفاعل مع الحياة العامة وتتفاعل معه ، لأنه يستحيل أن يتحرك بمعزل عنها ، فإن كان صاحب عقل يقظان ويقين وثاب فرض نفسه عليها ، وطوع كل شيء حوله لما يريده . والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمة ، والبيئة المائعة أثر أناس أمرهم فرط وأخلاقهم سائبة. والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم، ويسخّرون ما يملكون لدعمه ، ويوجهون مواهبهم العلمية وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية لخدمة ما يعتنقون.. والمؤمنون المقلدون والمصلون الذاهلون ينفعلون ولا يفعلون ، ويقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يقال لهم لا ما توحيه ضمائرهم .1_070(1/60)
وعندما يعرض أولئك العلوم الدينية يحتبسون فى الماضي الذي لا يعرفون غيره ، ثم يتكلمون والحاضر لا يعنيهم لأنهم لا يحسونه. سمعت أحدهم يشرح آية (والجروح قصاص) فإذا هو يقول : إذا تعذرت العقوبة بالمثل ، بأن كان الجرح غير محدد فماذا نصنع ؟ نقوّم الجريح عبدا ثم ننظر كم قيمته وهو سليم ؟ وكم قيمته بعد الجراحة التي نزلت له ؟ والفرق بين الثمنين يدفع للمعتدى عليه. ثم مضى يشرح أحكاماً أخرى كأنه بَتّ في القضية. أحسست أن الرجل ما يزال يعيش في أيام النخاسة ، وأن دنياه لم تتغير كثيراً . وبهذه العقلية الراكدة يتناول مختلف الشئون الاجتماعية والسياسية ، فترى الظن أغلب عليه من اليقين والخرافة أسبق إليه من الحقيقة . ودين يتناوله أهله بهذا الأسلوب يموت ولا يحيا... لأن الظروف المادية والأدبية التي يعيشون فيها ستحكمهم ولا يحكمونها. استمعت إلى محاضرة للدكتور محمود سالم شحادة ـ الأستاذ بالجامعة الأردنية ـ ذكر فيها كيف أن الأقدار سرحت قادة العرب منذ خمسة قرون ، وأبعدتهم عن مناصب التوجيه والريادة ، فإذا هم يتركون الأندلس ، ويعودون من1_071(1/61)
حيث جاءوا... أكانوا يتبعون حضارتهم الآفلة بعين باكية ؟ أكانوا يتذكرون أخطاءهم بمشاعر الندم ؟ أكانوا ينظرون إلى عدوهم بتفرس ليعرفوا مصادر قوّته الجديدة ؟ ما أحسب شيئاً من ذلك كان يخامرهم ! لقد تحولوا ـ كما تحول المحاضرـ من قوة فاعلة إلى حال سائبة ، وكانت أوربا تفور وتمور بالثورة الصناعية التي استطاعت على امتداد الزمان أن تنقل العالم كله إلى درجة ما عرفها قط في تاريخه القديم. على حين كان العرب والترك مشغولين بأمور أخرى. ليت شعري ماذا كان يشغلهم ؟ إنهم ما فكروا فى شيء يعيد إليهم مجدهم السالف. ولا فكروا فى خطة يفيدون بها من عدوهم الغالب ، إن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية بعد الارتقاء العلمي الباهر قعدت بقوم ومضت بآخرين ، فإذا أراضي الإسلام تتحول إلى مستعمرات وإذا المسلمون أجراء أو فعلة للغزاة الجدد ، كنا ننتج لهم المطاط فى جاوة والملايو، ونزرع لهم القطن فى مصر والسودان ، ونعصر لهم الخمر فى أقطار المغرب ونستخرج لهم النفط فى أنحاء الجزيرة… يقول الأستاذ المحاضر : لم تكن للمسلم صفة موضوعية ـ والحالة هذه ـ كان يعمل ما يكلف به ويقوم بالدور الذي رسم له ، لم يكن منتجاً مرعيَّ الحقوق ، ولا مستهلكاً مقدور الحاجات لقد فقد1_072(1/62)
شخصيته وانتماءه واستقبل عالما لا خبرة له به. وهذه التبعية في عالم الأشياء اقترنت بها تبعية في عالم الأفكار فأمسى من تلقاء نفسه يعي ما يلقن من الخارج ، ويذهل عن مواريثه الغالية ! إن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي لأمة يعود بأفدح الخسارة على عقائدها وشرائعها ويفقدها احترام العدو والصديق أما كلمة الجهاد فتصبح والحالة هذه لغواً. فأي جهاد يرتقب من أعزل فارغ اليد ؟ فكيف إذا ضم إلى ذلك فراغ القلب والعقل ؟ إن الأمة التي تنحدر إلى هذا الدرك تتعرض يقيناً للاغتصاب والمهانة... والعجب لناس يدّعون التدين ولا يحسّون هذه الحقائق ، وبدل أن يطلبوا النجاة لدينهم وأمتهم من هذا الضياع يتحسّرون على طول الثياب وقصر اللحى !. بأي منطق ديني محترم يكلف طلاب بترك معاهدهم وهجر كلياتهم ؟ أو يكلفون بالانسحاب من المجتمع والاعتزال فى صوامع موحشة أو أقطار نائية ؟ أو تكلف النساء بالزهد في العلم والثقافة والوعي الشامل لشئون أمتهن ويختبئن وراء نقاب به ثقبان مكسوان بالزجاج أو الباغة. وتوضع أيديهن في قفازات سميكة لم هذا كله ؟ ولم النواح العالي على أمورٍ هامِشيّة والصمت المطبق على أمور لا يقوم الدين إلاّ بها. قالوا : إن الجندي في الجبهة لا يصمد إلا إذا كان وراءه عشرة موزعون على أعمال شتى . إن هذه الأعمال جهاد هي الأخرى وهي1_073(1/63)
بعض ما يحرس الإيمان والصلاة ، وإلا طاح الحق وانتصر البغي. فكيف يزهد في هذه الأعمال ، ولا تعد فريضة مع الفراض؟ إذا رأيت شخصاً يفقد ولده فيسكت ويفقد نعله فيبكي فلا تشكنّ فى أنه مجنون ، وبعض المتدينين يجترح هذه الغرائب ، فترى صوته يعلو بالحفاظ على الإسلام حيث لا خطر . ثم تراه يصمت كأن الأمر لا يعنيه حيث الإسلام موشك على الغرف… والآفة ما ذكرت صدر هذا البحث. القصور العقلى أو القصد المغشوش. مما أزال أذكر بالاحترام العميق نصح حسن البنا لطلاب الإخوان في كليات الحقوق والتجارة ! لقد أمرهم بالبقاء في كلياتهم والاستبحار في علومها حين نصح البعض لهم أن يتركوها لأنها تدرس القوانين الوضعية والأعمال الربوية . قال لهم : لمن تتركون هذه الدراسات ؟ إن تركها يضر بالإسلام وأمته ، اقصدوا بدراستها أن تخدموا الحكم بما أنزل الله ، وأن تقيموا صروحاً اقتصادية سليمة . وتخرج من هذه الكليات من مات شهيداً ، ومن تحمل في ذات الله البلاء ، ومن يقود اليوم الدعوة الإسلامية في ساحات وعرة ، ومن يناصر الشريعة ببأس شديد ، ومن يدير المصارف الإسلامية..1_074(1/64)
والمتدينون المعلولون يكرهون حسن البنا لهذه السياسة ، وقد تأملت سيرتهم فلم أر إلا قلة الفطنة ، وشدة القسوة وسرعة الاتهام ، ولدد الخصام... إنهم لم يعرفوا الله عن بصيرة تطالع آياته في الأنفس والآفاق ولم يدخلوا الصلاة عن عبودية تستنزل الرحمة من قيمّ السموات والأرض ، إنهم آمنوا وصلوا وقرؤا عن تقليد محض ، والتقليد لا يكشف حجاباً ولا يفتح باباً.. يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء : " فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل ، والمكتفى بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور ". ونقف طويلاً عند الجملة الأخيرة من كلام أبي حامد رضي الله عنه فبين المثقفين من العرب نفر من حملة الأقلام تعجب لمواقفهم وما يحفها من تناقض.. تسمعهم يدعون للديمقراطية فتقول : نزعة إنسانية مقدورة ؛ ما الديمقراطية ؟ أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. حسناً نحن نريد ذلك. تفاجأ بأنه إذا كان الشعب مسلماً ، ويريد أن يحتكم إلى شرائع الله اختفت الديمقراطية المنشودة ، وقيل للمسلمين أنتم رجعيون تستحقون المطاردة !1_075(1/65)
وهؤلاء محررون علمانيون يتغامزون على الدين وأهله. ولا بأس عندهم بهذا السلوك مادام يقوم على النيل من علماء الدين المسلمين ! أما إذا كانت القضية لكاهن من اليهود أو النصارى ، فإن الشيوعي يتأدب ، والهازل يجدّ ، والعلماني يصطنع الرقة والاحتشام . ويجيد عبارات الإطراء والزلفى ! وهناك محررون كانوا بين يدي السادات ورجليه في رحلته الشهيرة إلى القدس ، وفي سعيه الحثيث لإرضاء " إسرائيل "! هؤلاء إذا أريتهم الوجه الإسلامي لفلسطين هاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا واتهموك بالتخلف.. وقد استغربت من بين هؤلاء مسلك الصحافي الكبير توفيق الحكيم ، فقد حاول أن ينشر " حوار مع الله " ! فلما علت موجة سخط ومنعت المضيّ في هذه المهزلة أخذ الفنان الشيخ ينشر حديثاً آخر في مجلة الوطن العربي التي تصدر بباريس موضوعه " نساء في حياتي " !. ويفتتح الكاتب حديثه بأنه لا يذكر اسم الشخص ـ القواد ـ الذي رافقه إلى فتاة رومية دفع لها خمسة قروش ثمناً لدقائق معدودات ، وكذلك لا يذكر أفراد الزمرة التي شجعته على الذهاب إلى حي البغاء العلني " كلوت بك " لأول مرة في حياته..!! ولا أبيح لنفسي متابعة الكاتب الماجن وهو يصف سقوطه. وإنما أعلن دهشتي من البعد بين الموضوعين اللذين تناولهما الكاتب بقلمه ،1_076(1/66)
اللهم إلا إذا كان للشيخوخة دخل في هذا الخرف. وعدد كبير من حملة الأقلام صناعة أوربية رديئة ، قد تكون شرقية أو غربية ، ولكن موقفها الثابت الضيق بالإسلام ورجاله. وآماله وآلامه. ويلاحظ أن جراءتها على الله ورسوله فحشت في الأيام الأخيرة، يعينها على ذلك جبن الشيوخ المحترفين وهوس الشباب المندفعين. ونريد أن نبحث وضع الدين إجمالاً في أوربا التي يعيش هؤلاء الكتاب في تفكيرها وتوجيهها. إن تعصب اليهود لدينهم لا ريب فيه ، والقوم عقدوا صلحا بين جنسهم وإيمانهم ، فهم شعب الله المختار، وظيفتهم أن يسودوا العالم ، ويطووه تحت عَلَم إسرائيل. أما حقائق الوحي الأعلى ، والتمهيد على ظهر الأرض للعودة إلى السماء فقد نفضوا أيديهم من ذلك كله.. ونجاح اليهود في ميادين العلم والمال كان لابد أن يرجح كفتهم في نزاعهم مع العرب أبناء عمومتهم... الذين يعانون من الجهل والفقر والمرض واضمحلال العقيدة ! ! وأما النصرانية فوضعها يستحق الدراسة المتعمقة إن التاريخ الكنسي مشحون بالمآسي مضرج بالدم ، وقد تضافرت الشعوب الثائرة والحكومات المدنية ضد هذه الحال ، ولم تسترح حتى جردت الكنيسة من سلطاتها وانتزعت أنيابها..1_077(1/67)
ولنعترف بأن الكنائس المختلفة لم تستكن لما نزل بها واعتبرته هزيمة عارضة..واستأنفت سيرها بأساليب أخرى وقدرت على إحراز نجاح بعيد المدى.. وعن طريق التطوع والإخلاص بقيت الكنائس تؤدي شعائرها الموروثة ، وترسل بعوثها في أرجاء الأرض وساندت بحماس بالغ الحكومات الاستعمارية وهي تطارد فلول المسلمين المنسحبين هنا وهناك ، والمعروف أن الفاتيكان ، ومجلس الكنائس العالمي يمتلكان ثروات ضخمة مرصدة لأعمال التنصير ، ويبدو أن الموارد الموجهة لهذه الغايات فيض لا يدركه غيض وأن " الأتقياء " من الرجال والنساء يصلون الليل بالنهار لتحقيق أهدافهم المدروسة بعناية.. ولنذكر هنا ما نشرته جريدة الراية في 20/ 3/ 1984 تحت عنوان " عبرة لمن يتفكرون " بقلم الأستاذ درويش مصطفى الفار قال : أمامي قصاصة من جريدة " ستار " الصادرة في جوهانسبرج محور افريقيا بتاريخ 3/ 3 / 1984ـ أنقل منها للقارئ العزيز خبراً أذاعته وكالتا أنباء رويتر وسبأ للأنباء يقول : وتبرع المحسن الهولندي الكبير " بيت ديركسبن " بمبلغ مائة وثمانية وسبعين مليون دولار (178 مليون دولار) للمشاريع التبشيرية في العالم الثالث لخدمة المرضى والفقراء .1_078(1/68)
وكان ذلك إثر مقابلته مع " الأم تريزا " الراهبة الكاثوليكية الشهيرة التي وقفت حياتها للعناية بأطفال الهند ، والتي منحوها جائزة نوبل للسلام سنة 1979. ويبلغ المستر ديركسبن من العمر إحدى وسبعين سنة وهو أب لأربعة أولاد ، ويتمتع بصحة جيدة ، وهو صاحب شركة لبيع أدوات الألعاب الرياضية وإنشاء المعسكرات الترويحية في هولندا وبلجيكا. ويقول المستر ديركسبن إنه يؤمن ككاثوليكي ملتزم بأن الرب قد أنعم عليه بثروة طائلة جمعها بالكفاح الشاق، لا لكي يضيعها في ملذات الدنيا ، ولكن لكي يبذلها طائعاً مختاراً في سبيل نشر كلمة الرب عبر المؤسسات التبشيرية العاملة في الدول النامية ، وأنه حين اهتدى إلى فكرة التبرع شعر بأن طوقاً من الحجر الثقيل قد انزاح عن عنقه ، وأخذ يصيح فرحاً كالأطفال حينما قرر وقف تلك الملايين لخدمة كلمة الرب. ويمتلك المستر ديركسبن مجموعة نادرة من التحف الفنية سوف يطرحها في المزاد العلني ليضيف ثمنها أيضاً إلى تبرعه لنشر كلمة الرب . ولست أعتقد أن المستر ديركسبن هذا ، وحيد فريد في هذا الميدان ، وإلا فكيف يتسنى لجمعيات خدمة المرضى والفقراء في1_079(1/69)
العالم الثالث ، أن تطبع في العام الواحد أكثر من تسعين مليون نسخة من الكتاب المقدس ، فيما يزيد على مائة لغة ، منها جميع اللهجات العربية بين المحيط غرباً والخليج شرقاً والسودان جنوباً، والبحر المتوسط شمالاً ؟!. ولما تسنى لها أن تطبع ملايين النسخ من النشرات والكتيبات والكتب التي تدعو المسلمين على وجه التخصيص لدخول مملكة الرب وبالتالي الاعتقاد اليقين بأن قيام دولة إسرائيل بين الفرات والنيل قدر إلهي محتوم ؟!. إن هذا الخبر الذي لا تنقله أجهزة التيكرز إلى بلادنا ، فى حاجة إلى وقفة تأمل ، لعل فى ذلك عبرة لأولي الألباب.. قال لي أحد الثقات ، الذين لا يكذبون على الله ، إنك تستطيع في شرق أفريقيا أن تعثر على أي كتاب ، الإنجيل والتوراة ، ورأس المال لكارل ماركس ، وكفاحي لأدولف ، هتلر، وتعاليم ماوتسي تونج ، وفلسفات بوذا وكونفوشيوس واليوجا ، لكنك تحار في كيفية الحصول على نسخة من القرآن الكريم !!! الخبر مثير، والتعليق عليه مرير. وأعترف بأن قراءته أغرقتني في لجة من التأمل الطويل ، هذا المحسن الهولندي ذكرني بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين تعروا عن أموالهم كلها في سبيل الله... إن عطاءه ضخم ضخم ، ومن هذه الأعطية الدافقة يعمل1_080(1/70)
جيش كثيف من الرجال والنساء لتنصير أكبر عدد مستطاع من الناس عامة والمسلمين خاصة… لدينا أغنياء قادرون على مثل هذا العطاء ، بيد أنهم يضنون به في سبيل الله ، ولا يضنون به في سبيل اللهو والعبث ، ولدينا نساء يملكن الطاقة الروحية التي تملكها السيدة " تريزا " لكن الدعاة الجهال والفقهاء الأغبياء يمنعونها من العمل ويستنكرون عليها الجهاد الاجتماعي ، ويوم وجدت من يقدر مواهبها ويتيح لها الخدمة العامة وثب عليها الحاكم العسكري بحديده وناره ليستبيحها جسداً وروحاً...! إن الكنيسة قديماً حاربت الحضارة ، ونكلت بالعلماء الرواد وحرمت من يقول : إن الأرض تدور.. فلما أحست غلطها تخلت عنه بشجاعة ، وشرع رجالها يصلون في أيام الآحاد لغزاة القمر..! ومن المفارقات المضحكة أن متحدثين عن الإسلام في يومنا هذا يكررون الأخطاء القديمة التي وقعت فيها الكنيسة ثم تابت عنها بعد ! ومعروف أن أوربا وأمريكا وأستراليا تسودها حكومات علمانية ، وأن جمهرة المثقفين تأبى بشدة أي حكم كنسي ولم يحاول المتدينون تغيير الأوضاع بانقلابات عسكرية ، كل ما حدث أن الأفراد " الأتقياء "ـ إن صح التعبيرـ يصلون إلى الحكم بالطرق الدستورية المقررة ، وعن طريق المناصب التي يلونها ينصرون المبادئ والأخلاق التي يتمسكون هم بها...! هل المستر ريجان1_081(1/71)
رئيس الولايات المتحدة من أولئك الأفراد المؤيدين للمسيحية والمحيين لتعاليمها ؟ يبدو من تصريحاته أنه منهم ، فهو يدعو إلى جعل التعليم دينياً فى المراحل الأولى ، ويقول لأعضاء " الكونجرس " الذين لا يرحبون بدعوته : " إنني أذكر الأعضاء بتقليد يحافظون عليه منذ مائتي سنة ، لتأكيد أن أمريكا أمة واحدة تعيش فى حفظ الله ! نعم من حقي أن أتساءل : إذا كان " الكونجرس " يفتتح جلساته كل يوم برجل دين ، يؤمكم فى الصلاة : فلماذا لا نعطي أطفالنا فى المدارس الحق نفسه فى عبادة الله ؟ " ويظهر أن المجلس التشريعي في الولايات المتحدة وغيره من المؤسسات الكبيرة لهم تقليد لطيف يشبه التقليد الشائع عندنا من تلاوة " آيات عطرة من الذكر الحكيم " قبل افتتاح الجلسات وتنتهي الآيات وينتهي صداها بعد ذهاب القارئ الصييت !: وقد أراد مستر ريجان أن يتذرع بهذا التقليد لتقرير التعليم الديني بين أطفال أمريكا ، ويرى خصوم الرئيس أن مسلكه دعاية انتخابية كي يكسب أصوات المتدينين. وأرى أن الرجل صادق في عدائه للشيوعية ، وفي معاونته لإسرائيل ، وفي استهانته بالعرب ، وأنه يصدر في ذلك كله عن عاطفة دينية بغض النظر عن صوابها وخطئها... إن الرهبان البوذيين والراهبات البوذيات أحرقوا أنفسهم حتى الموت كيما يكترث الناس بقضايا الديانة البوذية.! وبوذا الذي جعله أتباعه إلهاً ما كان1_082(1/72)
يؤمن بإله !. ولكنها غرائب البشر... وإذا حدث أن اشتدت موجة التدين في الغرب فإن إسرائيل الكبرى ستولد في الشرق الأوسط ، وسيتحول أبناء الفرات وأبناء النيل إلى لاجئين ، كما حدث من قبل لإخوانهم في فلسطين ، لأنه هكذا قال الرب !. إن الاستعمار صهيونياً كان أم صليبياً يعتمد على رؤى دينية مشوّشة ، وهو يعجز في بلاده الأصلية عن إقامة مجتمعات نقية بارّة ، تحترم إنسانيتها وتطيع ربها ، على أنه مع هذا العجز قادر على استذلال واستغلال الشعوب المتخلفة ورفعها إلى حيث يريد.. فهل نستفيد من ذلك أن التخلف جريمة تستحق العقوبة وأن الأمم التي تستبقي أسباب التخلف لابد أن يغشاها ما غشيها وبخاصة المسلمين المفرطين في رسالتهم ؟!. إن الارتقاء الصناعي ضرورة لدعم المبادئ والاكتمال الحضاري لباب المجتمعات السليمة ، والمسلمون الذين يعتبرون الدين شارة فردية ، أو مسلكاً خاصاً هم أفراد مرضى، والذين لا يفرضون أنفسهم على بيئتهم ويملكون زمام توجيهها وتسخيرها لعقائدهم هم جماعات من الهمل لا وزن لهم فى الحياة وليس الأمر ادعاء ، أو مزاعم جريئة ، أو هتافاً عالياً ، إنه عقل ذكي يكشف ، وخلق صلب يسود ، وسلوك عارم يذلل الصعب ويقرب البعيد ،1_083
ويحسن عبادة ربه في المنجم والمرصد، وفي طبقات الجو وطبقات الأرض ، وفي أغوار النفس وأطوار المجتمع وأعباء الدولة. ومن لا ثقافة له تعين على ذلك كله فهو عبء على الدين، وليس صاحب دين ، مهما قصر ثوبه وطالت لحيته وكثرت همهمته... بل أعتقد أنهم يفتنون الناس عن الإسلام ويؤخرون صحوته المعاصرة .1_084(1/73)
تجاهل العارف أم تجاهل الماكر؟
من الإصرار على الذنب ، والإيغال فى المخادعة ، أن يتحدث "البعض " إلى شبابنا وطلابنا منكرين الغزو الثقافي ، ورافضين الاعتراف بآثاره المدمرة . فما هذا الذي يقع بين ظهرانينا فيغير الحقائق والعناوين ؟ ويفصل حاضرنا عن، ماضينا ؟ ويضع قلباً مكان قلب وعقلاً مكان عقل ؟. قالوا : هذا تلاقح أفكار ، وتلاقي حضارات ! والنتائج الواقعة والمتوقعة طبيعية... قلت : هذا تسترّ على جريمة تقترف ! أو هو " بنج " يعطل الإحساس بالمأساة التي تباشر ضد ديننا وأدبنا وتراثنا كله... إن التلاقح الفكري قد يتم بين عنصرين متكافئين أو طرفين ، متقاربين في القوة والمقاومة والاختيار ، وعندئذ تكون قصة "خذ وأعط " في نطاق محدّد. ويكون التبادل لحساب الفريقين معاً.. لكن الذي حدث ويحدث بيننا وبين المغيرين على أراضينا شيء آخر.. إن الغرب ـ بشقيه الشيوعي والصليبي ـ هزمنا عسكريا1_085(1/74)
وتوغل في أعماقنا ، وحين ظن أنه حسم المعركة لمصلحته شرع في إضعاف العقائد والأخلاق على مكث ، وأخذ يحرج اللغة العربية ويدحرجها من مكانتها التقليدية ، وقرر محو الشريعة في ميادين المال والعرض والدم ، وأنشأ تقاليد أخرى تغاير التقاليد القائمة على حقائق الإيمان وفضائله وثماره ، ولكي يضمن القضاء على معالم الإسلام ومحو شخصيته المادية والمعنوية جعل القومية مكان العقيدة وأقام بينهما فواصل ثابتة ، فالجنسية أولاً ، والدين ـ إذا كان لابد منه ثانياً ، وأمر بدراسة التاريخ على أساس هذا الفصل ، وبإقامة العلاقات الدولية على ذلك المهاد.. وقد استغل الخلل الرهيب في الخلافة الإسلامية الكبرى ، واستطاع الإجهاز عليها ، وقبل دولاً قوميّة متفاوتة الولاء للدين ، ثم أوعز إلى زبانيته أن تتم بقية الخطة في مطاردة الإسلام تحت أي عَلَم ، أو مع أية جنسية تحتضنه فذوى الفكر الديني واضمحلت أجهزته ، وقادته أشباح خفيفة الوزن ، وتهيأت الأمور للخلاص منه أبداً... أليس هذا الغزو الثقافي أنكى من الغزو العسكري ؟ إنه غزو بادي النجاح فهو بدل أن يقتل خصمه يغريه بالانتحار !! ثم يجيء نفر من الدكاترة المتحدثين في الفلسفة والأدب والتاريخ فيقولون : الغزو الثقافي شبح يتخيله الواهمون ! أو هو تلاقح فكري لا بأس به. أو هو حق الحضارة الغالبة في فرض نفسها.1_086(1/75)
إن هذا الكلام يرسل على عواهنه. وهو ليس عَفْوَ الخاطر فيما أرى ، بل هو جزء من خطة الغزو حتى تستسلم الضحيّة للذبح فلا تقاوم جزاريها... ولنلق نظرة على جزء من خسائرنا الإسلامية في أعقاب هذا الغزو: عنوان " الشغب الطائفي في الهند " تألفه الأعين في صحفنا العربية ، وإذا استثنينا ما وقع أخيراً من قتال بين السيخ والهندوك فإن كل المعارك التي تنشب يكون المسلمون وحدهم هم ضحاياها. وفي هذه الأيام اشتد الشغب (!) في بومباي وقتل كثيرون من المسلمين فيه ، وكنت أعرف السبب المباشر فإن قرى كبيرة من المنبوذين الهنادك آثرت الإسلام ودخلت فيه أفواجاً ، حتى بلغ المسلمون الجدد ألوفاً ، تبعتها ألوف ، ولم لا يؤثرون الإسلام وقد شعروا فيه بإنسانيتهم كاملة غير منقوصة ، وآنسهم شعور الإخاء الذي لم يذوقوا طعمه يوماً ، وشعروا بالدهشة والفرحة معاً لما وجدوا من يصافحهم ويعانقهم ويبتسم لهم ويزور مريضهم ويعني بشأنهم !! الخ. لقد كانوا قبل ذلك أنجاساً منبوذين ! فماذا يفعل الهنود الوثنيون لوقف هذا التيار ؟ هجموا بأسلحتهم المتوفرة على المسلمين حيث كانوا ، وكأنما بدأوا حرب إبادة وقاوم المؤمنون العزل جهد1_087(1/76)
الطاقة ، بيد أن الخسائر كانت جسيمة ! ذكرتني بما وقع من شغب آخر شرقي الهند (!) تحت هتاف مطاردة الغرباء كانت جثث الضحايا فيه ـ كما نقلتها الصور ـ كأوراق الشجر في فصل الخريف.. وما أحسب إلا جيلا من الأطفال قد هلك في هذه المحنة الجائحة إن ألوفاً كثيرة فقدت أرواحها ، وألوفاً أخرى فقدت أملاكها . ونظرت للقراء الذين يطالعون الصحف ، والجمهور الذي يسمع الإذاعة ، فما وجدت جبينا مقطباً ولا عينا دامعة ولا تعليقاً محزوناً ! إنهم يقرءون أخباراً لسكان كوكب آخر ! إن الغزو الثقافي نجح أتم نجاح في إماتة الأخوة الإسلامية ، وإهالة التراب عليه... فلنترك الهند ولنذهب إلى أفريقيا ، أخبار نيجيريا تهمني فنيجريا يسكنها ثمانون مليون مسلم ، والدسائس لتدويخها لا تنقطع.. من عدة شهور قرأت أنباء فتنة دينية حول " كانو" من معاقل الإسلام هناك قتل في هذه الفتنة بضعة ألوف من المسلمين : وخمدت نار الفتنة لتشتعل مرة أخرى تاركة وراءها آلاف القتلى كذلك. سبحان الله ما أرخص هذه الدماء المراقة سدى !1_088(1/77)
وسألت : ما سبب هذه المذابح ؟ ماذا يطلب المتمردون ؟ لماذا تسفك الدماء بهذه الغزارة ؟ أما من ضوء يكشف لنا أسرار هذه المحن ؟. ووجدت أن أحداً لا يعرف ، ولا يريد أن يعرف ماذا يعنيه؟ تقول : الأخوة الإسلامية ؟ يهزّ رأسه ويحملق فيك بغباء شديد ، ويمضى لشأنه . إن الغزو الثقافي نجح أتم نجاح في بلوغ غايته ، ومنذ قدر على إسقاط دولة الخلافة ، وإقامة سبعين جنسية على أنقاضها ، أخذ يصرف الناس رويداً رويداً عن رباط العقيدة وندائها ، ويشغلهم داخل حدودهم الوطنية بأزمات الرغيف أو برغبات " الجنس " وشهوات أخرى. وهناك سماسرة مكرة موظفون في ميادين إعلامية وسياسية لحراسة هذا التمزيق واستدامته.. فهل يكتفى بذلك ؟ لا يجب تجهيل الأمم في الإسلام وإسدال ستارات كثيفة على تعاليمه حتى لا تعرف ، بل يجب تشويهها على أسوأ صورة !!.. ولنثبت هنا نموذجين يشهدان لما نقول ، ذكرهما الأستاذ الدكتور محمد معروف الدواليبي في أحد بحوثه الجليلة..1_089(1/78)
أما النموذج الأول: فهو ما قد سجّله كبير أساتذة الحقوق الرومانية في جامعة باريس الأستاذ (جيفار) A.E. GIFFARD وفي الجزء الأول من كتابه: الوجيز في الحقوق الرومانية PRECISDEDROIG YOAMIN في طبعته الثالثة لعام 1940 وذلك حول حق الدائن على المدين العاجز عن الوفاء (بموجب أحكام الألواح الإثني عشر الرومانية) حيث جاء في الصفحة (106) منه والفقرة (172): إن للدائن على المدين العاجز عن الوفاء أن يسترق مدينه وأن يبيعه ، أو أن يقتله ، وإذا تعدد الدائنون فلهم الحق بتقطيع جثة المدين إربا إربا فيما بينهم .. وبعد أن عرض الأستاذ جيفار هذا الحكم الوحشي أضاف قائلا : " وأن مثل هذه الأحكام موجودة أيضا في الشريعة الإسلامية " فأنكرت نفسي ولاحقني زملائي الطلاب بنظراتهم المنكرة ، وكنا ثمانية فقط في دبلوم شهادة الدراسات العليا في الحقوق الرومانية ، وكنت الطالب المسلم الوحيد فيما بينهم، وكان أستاذنا فيها الأستاذ جيفار نفسه ، فاستنكرت عليه بلطف إسناد هذا الحكم إلى الشريعة الإسلامية وطالبته بالمصدر لهذا الحكم المكذوب فقال : إنه القرآن. فأحضرت القرآن المترجم وتلوت عليه الآية القرآنية رقم (280) من السورة الثانية من القرآن الكريم حول أحكام المدين حيث جاء فيها1_090(1/79)
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ) ، أي إنه إذا عجز المدين عن الوفاء وجب على الدائن انتظاره لحين المقدرة على الوفاء ، وإن الأفضل للدائن في هذه الحال هو التنازل عن دينه وتبرئة مدينه إن كان الدائن يريد أن يكون من أهل العلم بالقيم الإسلامية فدهش الأستاذ لسمو نظرة الإسلام وقيمه الإنسانية العظيمة كما استعظم خطيئته في اتهام الإسلام بما يكذبه صريح القرآن ، خاصة وأن الخطيئة جاءت في كتاب جامعي يدرس في جامعة باريس وفي معظم جامعات العالم ، وذلك مما لا تغتفر فيه الخطيئة ، ولذلك ألح في عندئذ أن أكتب له خطياً بتصحيح ما وقع فيه من اتهام كاذب لشريعة الإسلام. وأما النموذج الثاني: فهو ما قد سجّله أحد أساتذتنا في (الحقوق) في جامعة دمشق حول فضائل الحضارة الأوربية ، وخاصة في مفاهيمها الجديدة لما يجب أن تقوم عليه الدولة الحديثة من العناية بالمصالح الاجتماعية كلما كانت هناك مصلحة راجحة للمجتمع ، وذلك بالحد بصورة خاصة من الحريات الفردية. أولاً : في موضوع " الحجر الصحي " في الأمراض المعدية حماية لمصلحة الجماعة لأول مرة في تاريخ الدولة.1_091(1/80)
ثانياً : في موضوع " حماية الأحراج " كلما اقتضت مصلحة الجماعة. ثالثاً : في موضوع " حماية الصيد " في أماكن تفريخه ، وذلك للإبقاء على مصادر الصيد سليمة وقادرة على تزويد المجتمع بحاجاته منها. وقال في الثناء على هذه التدابير " إنها من فضائل الحضارة الحديثة " وإنها قد ظهرت في القرن السادس عشر فقط ، وإن العالم لم يكن قبل القرن السادس عشر أهلاً لإدراك هذه المصالح العامة ، كما أنه لم يكن أهلاً للقول بمثل هذه الواجبات العامة. وكانت محاضرة الأستاذ مترجمة عن مصادرها الفرنسية ، وكنت حينئذ إلى جانب زملائي الطلاب أستمع إليه ، فوقفت مستأذناً بالكلام وقلت للأستاذ بكل احترام : " إنه لم يدهشني ثناؤك على (الحضارة الأوربية الحديثة) بما تستحق ، كما لم يدهشني ثناؤك بالجملة على تقدم مفهوم الدولة في أوروبة ، ولكن الذي أدهشني أنك تلقي هذه المحاضرة في عاصمة الإسلام الثانية في التاريخ ، وهي دمشق بعد عاصمة الرسول الأولى في المدينة المنورة ، وها هي كتب الشريعة الإسلامية بين يديك تعلن أن محمداً رسول الإسلام وقبل تسعة قرون من الحضارة الحديثة الأوروبية :1_092(1/81)
أ ـ هو الذي ابتدأ العالم منذ مطالع القرن السابع الميلادي بفرض (الحجر الصحي) في الأمراض الخطيرة المعدية حماية للصحة العامة ، وقد طبق الخليفة عمر بن الخطاب لأول مرة في التاريخ هذا الحجر الصحي النبوي في زيارته دمشق بعد فتحها حين ظهر فيها الطاعون في أواخر القرن السابع . ب ـ وأن محمداً رسول الإسلام هو الذي حمى بعض أحراج الجزيرة العربية ـ في منطقة الطائف فور إسلام أهلها ـ حينما كانت هناك مصلحة للجماعة . جـ ـ وكذلك فإن محمداً رسول الإسلام هو الذي حمى الصيد فى أماكن تفريخه فى تلك الأحراش ولم يأذن بصيده إلا على بعد أربعة أميال ، وفرض العقوبة لأول مرة فى التاريخ على منتهك أماكن التفريخ . ثم عقبت على كل ذلك فقلت: " وكان الأولى بأستاذنا المسلم في جامعة دمشق أن يصحح أخطاء الدراسات الأوربية التاريخية في هذا الموضوع ، إسهاماً منه في خدمة الحقيقة والعلم ". ثم تلوت عليه بعض النصوص من الشريعة النبوية في ذلك ، وأرشدته إلى مصادرها ، فدهش الأستاذ لما سمع من نصوص ، وكان رجلاً مثقفاً ثقافة غربية فقط ، وبعيداً عن كل ثقافة إسلامية. غير أنه لم يكد يستمع إلى ما ألقيته من نصوص الحقائق1_093(1/82)
المعروفة حتى وقف معقباً على ذلك بكل إنصاف وقال : " إن اتخاذ محمد هذه الإجراءات الثلاثة منذ مطلع القرن السابع ، وفي قلب الجزيرة العربية ، حيث لا حضارة ولا دولة ، يكفي وحده للدلالة على عظمة مفهوم الدولة التقدمي في الإسلام ". ثم لم يلبث أستاذنا هذا أن انقلب تلميذاً للشريعة الإسلامية في آخر حياته ، وقد أخذ يستدرك ما فاته حتى أصدر كتابه الأخير في أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها العلمية العالمية. إن هذين النموذجين لأناس ثابوا إلى الحق ، وهدوا إلى الصواب ، فنفعوا كما انتفعوا. لكن هناك عشرات لنماذج من الدكاترة والباحثين لا يفتر نشاطهم في تضليل الأجيال الناشئة خدمة لهذا الغزو الثقافيّ الغاش الخائن للحقيقة. في ميدان الحكم رأيت حملة خسيسة على عمر بن عبد العزيز (!) الخليفة الراشد الخامس ، فعلمت أنها تقليد لمستشرق يتهم الرجل النزيه العدل بسوء الإدارة وضعف السياسة... في ميدان الأدب رأيت من يصف أبا الطيب المتنبي بأقبح الخصال ، وللدكتور طه كتاب في ذلك. تابع فيه مستشرقين يكرهون أبا الطيب ويصفون شعره بأنه مدائح مرتزق ، ومسلكُ متقلِّب ، والجدير بالذكر أن هؤلاء المستشرقين يسكتون عن أغلب أدبائهم المتهمين بمخازٍ خلقية ، وشذوذ منكور .1_094(1/83)
والمتنبي مدح كثيرا وهجا كثيراً ، وفي تضاعيف قصائده حِكَم لم ينطق بها شاعر مِن قبله ، ولم تؤثر عن شاعر في الغرب... وقد قارن العقاد في كتابه " مطالعات في الأدب والحياة " بين المتنبي وأعظم فلاسفة أوربا ، والرجل إن لم يفقهم فلن يقل عنهم... وفي ميدان الفقه ـ وهو مفخرة الفكر الإسلامي ـ وجدنا أناساً يقولون: إن فقهنا مأخوذ من الفقه الروماني بالضبط كما تقول: إن قارون سرق ثروته من مقيم في أحد ملاجئ العجزة بمصر... وفي العلوم الإنسانية ليس للعرب نتاج ! الفضل كله للإغريق..! المأساة التي نعانيها الآن أن عدداً من خريجي الجامعات الغربية عاد إلى بلاده فاقداً رشده ، لأنه قبل أن يذهب لم يكن لديه نصاب من الفكر الإسلامي يحصنه من الوقوع في براثن المبشرين والمستشرقين وبعد أن عاد كانت الثقافة الإسلامية في محنة ، لأن معاهدها الكبرى نضبت منها الحياة ، وفشت في أرجائها رائحة العفن. واستطاع الحكم الفردي أن يضع قيادها في أيدٍ لا تشرِّف الدين ولا تصون الحياة... يكفيه منها أنها تسبِّح بحمده... وسماسرة الغزو الثقافي يشنون الآن حملة مسعورة على الأقطار التي اتجهت إلى تطبيق شرائع الحدود والقصاص، وَيَتَنَدَّرون بأحكام " العين بالعين والأنف بالأنف " ويلمزون حكومة السودان لأنها جلدت قسيساً يحمل مقادير كبيرة من الخمر.1_095(1/84)
وقد بحثتُ موضوع القسيس المجلود ، وعناني أمره ، لأن الشريعة تترك النصارى يأكلون الخنزير ويشربون الخمر دون خطر، وتعتبرهما مالا له قيمة عند أصحابه ، وترفض العدوان عليه... فعلمت أن هذا القسيس كان يتحدى التشريع الإسلامي ، ويقاوم تحريم الخمر بين المسلمين ، وأنه لم يجلد حد السكر ، وإنما تم تعزيره ليتأدب مع الدولة التي أضافته فلا يهاجم شريعتها... وقد رفض السودان احتجاج الدول التي غضبت لهذا التعزير ، ولا ريب أنه محق في هذا الرفض. ونحن نستغرب الهياج الذي صحب تطبيق أجزاء من الشريعة تتصل بالحدود والقصاص ، ويزداد استغرابنا عندما يصدر ذلك عن "مسلمين " !! أليس معنى ذلك أن الاستعمار الثقافي قد بلغ قمة النجاح لأنه أغرى لفيفا من حملة الأقلام بالتمرد على دينهم واستنكار مقرراته ؟ ونحن نعلم أن التشريع الإسلامي أوسع من دائرة الحدود والقصاص ، نعلم أن الحدود والقصاص يأخذان صفحات معدودة من كتابه الضخم الحافل ، فهل يعني . ذلك أن نقول لمن اهتموا بهما : دعوهما أو نفذوا الكتاب كله ؟ الطبيعي أن نقول : لقد بدأتم خطوة في الطريق السليم فلا1_096(1/85)
تتوقفوا وامضوا في الطريق إلى نهايته ، وليوفقكم الله... على أننا لا نكتفي في خدمة الشريعة بهذا النصح السلبي ، بل نريد إخراس أجراء الغزو الثقافي ، ومنعهم من اتهام الشريعة بالقصور، أو مجافاة المصالح العامة. لقد ساءني أن قانونياً صالحاً وضع مواداً لحد السرقة تمثل الصرامة كلها ، وتعتمد على أقسى الأقوال حتى ليخيل لمن يقرأ مشروعه أن الإسلام مولع بقطع الأيدي وإلحاق عاهات مستديمة بأكبر عدد من الناس ، وهذا مسلك رديء . ففي قوانين الأسرة التي تعتمد على الفقه الحنفي في بلادنا رأت المحاكم الشرعية ـ عند وجودها ـ أن تقتبس أقوالاً أفضل وأجدى ، من مذاهب أخرى غير مذاهب الأئمة الأربعة . فلماذا لا يتبع المنهج نفسه في شرائع الحدود ، ويترك للقاضي وقف الحدّ إذا استبان توبة المتهم ؟ وما المانع أن يكون هذا الحكم من دائرة قضائية تتكون من ثلاثة مستشارين ، تستعرض الشبهات الدارئة للحدود ، وتدرس وضع المتهم جيداً ، حتى تصدر حكم الله على بصيرة ؟ إنه لا يدافع عن المجرم ـ بعد هذه الضمانات ـ إلا رجل مثله ، يريد إشاعة الفوضى وإعادة الجاهلية… ولنكرر هنا ما أثبتناه في مكان آخر عن أسبوع الفقه الإسلامي1_097(1/86)
الذي انعقد مؤتمره في لاهاي سنة 1951 والذي جاء فيه : " إن مبادئ الشريعة الإسلامية لها قيمة لا شك فيها... وإن اختلاف المذاهب في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات الحقوقية ، وعلى أصول وأساليب هي مناط الإعجاب ، وذلك ما يسمح لهذه الشريعة أن تلبي جميع الحاجات التي تقتضيها مطالب الحياة الحديثة... ". ويبدو أن المأساة من قلة الفقهاء لدينا. ولكن لماذا هم قليل؟ والجواب أسطره من أحوال الفقهاء الذين عرفتهم عن قرب ، الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ مصطفى الزرقا والشيخ علي حسب الله والشيخ علي الخفيف والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد المدني والشيخ فرج السنهوري والشيخ عبد الوهاب خلاف… الخ ، لقد كان أولئك وغيرهم من علماء أكابر وفقهاء مبرزين ، بيد أن علمهم أهمل لأنهم لم يحسنوا مصانعة الحكم الفردي فنبت بهم الديار ، وأسدل عليهم الستار، وكان يمكن أن يصنعوا الكثير. لو كان لهم حظ مغنية، أو قدر فنان ، أو مجد لاعب كرة ، لكان لمستقبلنا التشريعي شأن آخر ! ولا بأس أن نقبل من الفكر الأجنبي ما نحتاج إليه في شئون سبقتنا فيها الحضارة الحديثة . إن التجميد الذي عرض لقاعدة " الشورى " خلال أعصار1_098(1/87)
طويلة أذهل فقهاءنا أو أرهبهم فلم يتوسعوا في القضاء الدستوري ولا الفن الإداري ! على حين ازدهرت الشورى عند غيرنا ، واستطال الكلام في أساليبها التي تُقْدِرُ أهل الذكر على إبداء آرائهم ، وتلزم ذوي السلطة على الاستماع إليها ، وترك الحوار الحرّ المخلص يبتّ فيها... وظهرت قضية توازن السلطات الثلاث ، التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية ، كما ظهرت مسألة استبانة آراء الجماهير عن طريق الانتخابات ، وجواز تعدُّد الأحزاب ، وغير ذلك. إن هذا الفقه السياسي جيد ، وهو وسيلة مجدية في خدمة مبدأ ثابت عندنا في كتاب الله وسنة رسوله ، وليس في تراثنا بديل عنه ، وليس في سياقه العلمي أو العملي ما يخالف عقلاً أو نقلاً ، فما معنى اتهامه أو الصدود عنه ؟ إن هذا النظام الحديث لقي نجاحاً باهراً عند أصحابه ، لأنه صالح فى ذاته ! ، ولأن الأخلاق العامة الحارسة له متينة مكينة ، فلم يحدث خلال عشرات الانتخابات التي جرت فى أوربا وأمريكا وأستراليا أن وقع تزوير . وواضح أن الخلفية الأخلاقية الرفيعة التي ساندت هذا النظام لم تنتقل معه إلى أغلب الأقطار الشرقية التي اقتبسته (!) فلم تنتفع به قضية الشورى . ولم تسعد به جماهير المحروبين والمضطهدين . فهل1_099(1/88)
ذلك عيب النظام الدستوري ؟ أرى حُلَلاً تصان على أناس وأخلاقاً تهان ولا تصان يقولون : الزمان به فسادٌ وهم فسدوا وما فسد الزمان وقد جرت في إسرائيل انتخابات كثيرة ، ولم يقع قط غش فيها ، ولا سُمع اتهام بذلك ! فما دلالة هذا ؟ هل التخلف الأخلاقي صنو التخلّف الحضاري فى الشرق الإسلامي ؟ إذن ما أفدح كارثتنا ؟! . الواقع أن مُسْتَقْبِلي الغزو الثقافي بحفاوة يشعرون بهذا النقص ، ويحسبون التغلب عليه يكون بتقليد الحضارة الحديثة فى مثلها وتقاليدها وأحوالها كلها… ولا حرج لديهم أن يقلدوها في عقائدها ، وأن يكونوا هوداً أو نصارى !! ومن هنا فنحن بقدر ما نخاصم الغزو الثقافي نخاصم كل من يمهد الطريق له . ومن الذي يمهِّد الطريق له ؟ سدنة الاستبداد ، ومحتقرو الأنوثة ، وأعداء الفطرة السليمة ، ومروجو الأساطير والمرويات التافهة ، وجاعلوا الدين كهانة ومراسم ، والذاكرون لأنفسهم الناسون لمطالب الشعوب.. إن دائرة الغزو الثقافى تنداح ومطارق الغزاة تنهال على1_100(1/89)
مقدساتنا كلها بعنف ، ومن السخف أن يقاومها " البعض " بتقصير الجلابيب وإطالة اللحى ! إن هذه طفولة فكرية ، لا أقول : تزيد الطين بلة . بل تثير ضحك أولي الألباب... فالاستعمار العالمي ـ عسكريا كان أو ثقافياً ـ انحدر إلى دار الإسلام لأسباب طبيعية ! ولن ينحسر عنها إلا إذا انحسرت هذه الأسباب.. لن أتحدث عن عقيدة التوحيد وما شابها من رهبة الأحياء والأموات ! ولن أتحدث عن العبادات وما التصق بها من بدع وخرافات ! فقد كثر المتحدثون في هذه الموضوعات بين غال ومعتدل.. وإنما أتحدث عن التقاليد الاجتماعية والسياسية والحضارية والمدنية والعسكرية التي تردت في هاوية سحيقة ، وتحولت بها أرضنا إلى مواطن للبلى والركود العام.. وتحولت بها الجماهير إلى قطعان يموج بعضها في بعض لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً ، ولا تسر صديقاً ولا تضر عدواً ، ولا تجيد قولاً ولا عملاً. من عشرات السنين شرعنا نصحو ، ونحاول استئناف مسيرتنا . ولن يسعفنا إلا الفقه الصحيح والعلم الصافي ، وتجنّب الأفكار والأخطار التي أذلتنا وهوت بنا من حالق .1_101(1/90)
لكن ماذا أرى ؟ إن الثقافة الرديئة التي أسقطت بغداد في أيدي التتار وسحقت الخلافة العباسية والتي أسقطت الأندلس في براثن الكاثوليك وجعلت الإسلام ذكريات، والتي أسقطت الخلافة العثمانية، وأورثت عملاء الصليبية وجواسيسها حطاما مهشوما، هذه الثقافة هي التي لا يعرف غيرها بعض المتحدثين في الإسلام ، العارضين لمبادئه في زحام المذاهب المغرية . تأمل في هذا المثال: في حديث عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان". وهذا حديث جليل يتضمن آدابا رفيعة نوجزها في الجمل الآتية: السمع والطاعة حق الله على كل مسلم ، وهما مقتضى خضوعه لربه تباركت أسماؤه ، وقد وصف الله جمهور المؤمنين بالتزام هذا المبدأ (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) . وجاء الحديث الشريف فأوضح أن الخضوع المطلوب ينتظم جميع الأحوال النفسية والخارجية، فيجب على المرء أن يسمع ويطيع1_102(1/91)
في حالي نشاطه وكسله، وانبساطه وضيقه ورضاه وكرهه، وغناه وفقره . وقد يظلم الإنسان ويحرم حقوقه المادية والأدبية فماذا يصنع ؟ هل نقول لطبيب ترأس عليه من هو دونه خبرة وسنا : تراخ فى عملك ولا تهتم بالكشف على مرضاك ؟ أو نقول لمدرس نقص أجره ، وخدشت مكانته : لا تخلص في درسك ودع الطلاب جهلة ؟ لا ، فلنؤدّ ما علينا إيماناً واحتساباً ، وليكن عملنا كاملاً مثمراً ، ولنتدبر قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار: "إنكم ستجدون أثرة بعدي . قالوا : ما تأمرنا ؟ قال : أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم " . ومعنى ألاّ ننازع الأمر أهله ، ألاّ تغلبنا رغبات المنافسة والتصدر ، فندخل في مشاحنات تضر الأمة وتصدع الجماعة. فإذا رشح كفء لمنصب زكيناه ، ورضينا به ، وعاوناه ، وإذا وضع عمل في يد من هو له أهل لم نحسّ غضاضة أو تطلعاً إلى ما نال ! وإذا نال أحد الحكم بالأسلوب المشروع لم نرقبه لنتصيد له الأخطاء ، ونعلن عليه الحرب حتى يفقد سلطانه. اللهم إلا إذا اقترف مالا عذر فيه ، ولا وجه له ، وكان الدفاع عنه مستحيلاً .1_103(1/92)
وذلك معنى الحديث المنقول عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إلا أن عدداً من الشراح نقل الحديث إلى واد آخر، وجعله دفاعاً عن الحكم الفردي، وذريعة إلى الاستكانة له مهما كانت مغارمه ومظالمه.. ونحن نرفض الخروج المسلح على الدولة ، ونتشاءم من الثورات العمياء التي يثيرها أناس في موازينهم العلمية والخلقية عوج واضطراب... لكن هل يعني ذلك أن نفسر السمع والطاعة في جميع الأحوال بأنهما لفلان ؟ وأن مقتضى ذلك قبول غشمه ، والركون إلى شخصه ؟ إن الخلافة غير الراشدة تؤثر هذا التفسير، لأنه يهيئ لها الجو الذي تعمل فيه دون نكير ! وذاك ما أخذ مساحة واسعة من تاريخنا القديم. ولا نحب الوقوف على أطلال الماضي لنأسى ونتحسر، وإنما نريد علاج الحاضر بفقه إسلامي واع ، فإن بعض الشيوخ لا يفهم الحكم إلا سلطة لا تسأل عما تفعل، ورعية ينبغي أن تصبر على قدرها، وتقبل كل ما ينزل بها، وعليها أن تلتزم بمبدأ السمع والطاعة وإلا ماتت ميتة جاهلية. وحجتها هذا الحديث الذي سقناه ، وما ورد في موضوعه من آثار مشابهة .1_104(1/93)
إن هذا الفهم المنكر جعل الشورى تختفي من مجتمعات إسلامية كبيرة، وجعل أغيلمة من قريش ومن غير قريش تسيء إلى دين الله إساءات بالغة ، وجعل كلمة " وليِّت عليكم ولست بخيركم " غريبة على الآذان ، بل قصة ذهبت في خبر كان... وجعل فرعون وكسرى وقيصر يعودون إلى الحياة مرة أخرى وعلى رأسهم عمائم الإسلام . أيديهم وأقدامهم تقبَّل وأوامرهم ونواهيهم تنحني لها الهام . . !! وهناك " علماء " موضع احترام للسلطات القائمة يرضون هذا الزور، ولديهم الجرأة على وضعه بأنه الإسلام الحنيف ! فإذا قيل لهم : جدت نظم توفر للأمم الكرامة ، وترد للشورى الحياة وتشيع بين الناس العدالة . قالوا على عجل : هذه بدع مستوردة. والغريب أن هناك جماعات تنتسب إلى الإسلام ، وتريد الحكم باسمه تقيم كيانها على المعنى الذي ساد خلال عصور الاضمحلال الإسلامية ، فهناك أمير له سلطات واسعة وجمهور مربوط بمبدأ السمع والطاعة ، في العسر واليسر والمنشط والمكره ، من خرج عليه مات ميتة جاهلية . . !! وهذا المنهج مبتوت الصلة بالتطبيق الإسلامي أيام الخلافة الراشدة ، بل هو مزيج من الكهانة والاستعلاء ، وخلط تعاليم الإسلام بشهوات الأنفس.1_105(1/94)
ومن حق الأوربيين والأمريكيين وغيرهم أن يوجلوا من العقائد الإسلامية حين تقدم في هذا الإطار الردىء . لا أدري لماذا نريد تنفير الناس من الإسلام بتقاليد استحدثناها نحن ، ما أنزل الله بها من سلطان ؟ هل الاستبداد السياسي سنة؟ والديمقراطيات الحديثة بدعة ؟ هل الشعوب التي تقدر على إقصاء " تشرشل" و" ديجول" وهما مَنْ هما ـ غير أهل للإسلام والشعوب التي تلهث وراء مواكب حاكمها هي الجديرة بالوحي ؟ ألا ما أشد ظلمنا لدين الله !! إن الفكرة الشائعة عنا ـ نحن العرب والمسلمين ـ أننا نحب الوجاهة ، ونعشق السلطة ، ونموت في طلب الرياسة من أي سبيل . أما القدرة البارعة على إثارة الأرض ، وإحكام الأمور، وإبداع الأدوات والوسائل، وإدارة الأشياء والأشخاص، وسوق هذا كله لنصرة العقيدة ، فشأن آخر (!!) ، قد يجيء في المرتبة الثانية ، أولا يجيء أبداً . والحكم بما أنزل الله ليس هتافاً ولا أملاً . . . إنه خبرة وقدرة ، وتفوق وسبق . . . إنه عمل صالح لا يستطيعه الفارغون ، ولا القاعدون...1_106(1/95)
غزو مزدوج وأمة تائهة !
لم يرسل الله أنبياءه ليعلموا الناس : كيف يحيون أرضا مواتا ؟ أو كيف يضاعفون إنتاج أرض صالحة ؟ أو كيف ينشئون صناعات خفيفة أو ثقيلة ؟ أو كيف يحسنون إدارة الأعمال في أقصر وقت ، وأقل تكلفة ؟ أو كيف يعرفون خصائص النباتات الطبية والعقاقير المشابهة ويقيمون مؤسسات كبرى لشتى الأدوية؟ إن ذلك كله وأمثاله ـ وهو كثيرـ موكول إلى عقول البشر وجهودهم ، يتنافسون فيه كيف شاءوا ، ويبتدعون فيه ما أعانهم الذكاء ، وواتاهم الحظ . . فإذا تخلف كسول فعلى نفسه جنى وهو وحده الملوم وإذا سبق نشيط فلنفسه بغى الخير، وهو يُغبط على نجاحه وأرباحه . وقد أدرت بصري في ميادين عديدة ، ووازنت بين عمل وعمل ، ونتائج ونتائج ، ورأيت أن أصارح قومي بما لهم وما عليهم ، فلا معنى للإدهان والمواربة . رأيت مطاراً في إحدى المدن نظيفاً رائقاً ، وآخر مترباً كدراً ،1_107(1/96)
فسألت : ما السبب ؟ فقيل : هذا تتولاه شركة وطنية والآخر تتولاه شركة أجنبية : فسرى الغيظ فى نفسي ، وقلت : لم هذا التفاوت ؟ إن عيونهم كعيوننا وأيديهم كأيدينا ، فلماذا يرون ولا نرى ، ويعملون ولا نعمل ؟ لعل هناك تلفاً فى الملكات النفسية ، أو لعل الملكات واحدة، والطاقة المحركة موجودة هنا مفقودة هناك ، وأياً ما كان الأمر فلابد من معالجة سريعة لهذا البلاء وإلا ضاعت أمتنا . . ورأيي أن التربية الفاسدة والثقافة المغشوشة لهما أثر عميق في هذا التبلد السائد ، وكل تربية تقاوم الفطرة، وتشوه الأجهزة الإنسانية الأصلية فهي خصم للإسلام . وكل ثقافة تحجب البصيرة وتقوم على التجهيل بالكون والحياة فهي خصم للإسلام. وقد وجد في أعصار شتى من ادعى العلم بالإسلام ، ومع ادعائه العريض أنشأ أجيالاً منسحبة من الحياة ، معصوبة العينين أمام آيات الله في ملكوته معطوبة الخواص الدافعة إلى الترقي والتوسع والاكتشاف... ما أبعد الإسلام عن هؤلاء الناس . وما أبعد هؤلاء الناس عن كتاب يقول عن خصومه : (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ……).. أقال الإسلام للعرب : ارعوا أغنامكم فوق مناجم النفط ولا1_108(1/97)
تفكروا فيما تحتها ، ولا تستخرجوا قطرة منها ؟ ! . أقال الإسلام للعرب ازرعوا القطن والكتان ولا تحسنوا إنشاء مصانع النسيج والغزل ؟ أقال لهم : قفوا على الشواطئ وارمقوا الجواري فى البحر كالأعلام يصنعها غيركم ، وتعجزون أنتم إلا عن ركوبها متى يشاء ؟! . إن الانهيار الحضاري فى الأمة الإسلامية جاء وليد تخفف عقلي اجتاح أرجاءها بعد خيانات علمية وتربوية واجتماعية وسياسية شملتها من القمة إلى القاع ، وجعلت الإسلام فيها أثراً بعد عين ! وكانت العودة الساذجة إلى الإسلام تمثل أطفالاً لا يحفظون المصحف لا يفقهون منه حرفاً ، ويكبرون على ذلك. ورؤساء تُباغَت بهم شعوبهم لا تدري من أين جاءوا ؟ ولا كيف ؟ والغريب أن ناساً من العاملين في الحقل الإسلامي هذه الأيام لا يذهبون أبعد من هذه الصورة ، وهنا الطامة على مستقبل الأمة... والذين يستقبلون الغزو الثقافي برضا أو بحماس ينظرون إليهم ثم يفتحون الباب على مصراعيه لهذا الغزو، فهو في تصورهم إنقاذ من التخلف والضياع...1_109(1/98)
ونحن ولله الحمد نكره هذا العوج وذاك الشرود ، وما نتعصب لخطإ تورط فيه من قبلنا ، وما نتجهَّم لصواب اهتدى إليه غيرنا، وما نحب أن نظلم أحداً ، كما نحبّ ألا يظلمنا أحد. ولو أن ما يجيئنا من الغرب هو العلم وحده لعددنا من يعترض طريقه خائناً أو كافراً ! إن التقدم العلمي ما يجيئنا منه إلا النزر اليسير . أما الطفح الحيواني والشتات الاجتماعي فسيل دافق ، وهنا مكمن الخطر. بل إنني أعرف من أبناء أمتنا مَنْ تفوق و بحوث الذرة ، فقتله اليهود قبل أن يجيء إلينا ، أومن استبقي حيث هو عن طريق شراء العقول مهما غلا السعر، ترى أكان يلقى هذا المصير لو كان فناناً خليعاً ؟ أو كان أديباً يحمل جراثيم التبشير والاستشراق؟!. المأساة التي نشكو منها أن القوى المعادية للإسلام استغلت التفوق الحضاري الحديث كي تنال منا ، أو تجهز علينا إن استطاعت . وهذا التفوق وإن لم يكن من صنع يدها فقد تمّ فى أرضها ، وتأثر بدعايتها ضدنا . ونحن لن نرتد عن ديننا ولو فنينا إلى آخر رجل . والعبرة السريعة من هذا الوضع أن التخلف الحضاري جريمة عانينا منها الكثير وما نزال. وأن هذا التخلف يشمل للأسف ميادين شتى مادية وأدبية. وأن المتدينين الذين لا يعون هذه الحقيقة1_110(1/99)
هم بقية من عصور الانحطاط ، أو من هزائم الماضي . وأن على قادة الصحوة الإسلامية أن يكونوا منهم على حذر، فليسوا أقل خطراً من قادة الغزو الثقافي المصمم على إهانتنا وإضاعتنا... من المفيد أن أنقل هنا بعض المعلومات التي استمعت إليها من الدكتور صبحي الطويل عن " الحرمان والتخلف في ديار المسلمين " قال : إن خبراء هيئة الأمم المتحدة صنفوا دول العالم إلى ثلاث فئات : غنية ، وفقيرة ، ومعدمة . وأن الفئة الأولى تشكل 25% من سكان العالم وباقي السكان يتوزعون على الفئتين الأخيرتين... وفي سنة 1978 كان ثمانمائة مليون يعيشون في فقر مدقع ، فيهم جماهير هائلة من المسلمين تعيش دون مستوى الكفاف منهم على سبيل المثال نصف سكان بنجلاديش " 92 مليوناً " ونصف سكان نيجريا " 80 مليوناً " 70% من سكان الصومال و 60% من سكان تنزانيا و 80% من سكان أندونسيا " 130 مليوناً " 000 الخ. إن جلد المرء يقشعر وهو يسمع أن تسعة أعشار المسلمين بين فقير قد يجد القوت وفقير يصرعه الحرمان. ونتيجة هذا الضياع أن الوفيات بين الأطفال في العالم المتقدم 2% أما في بقية العالم فهي 20% .1_111(1/100)
يقول المحاضر: ليس في قاموس الطب مرض لا تعرفه بلاد المسلمين . ويموت في الشرق المسلم ـ من تونس إلى باكستان ـ أحد عشر مليوناً منهم مليونان في سن الرضاعة . وعن الجوع في أرض الإسلام تحدث المحاضر عن الجفاف الذي اجتاح شرق إفريقية وغربها ، والذي أمات الزراعة ، وأمات معها الألوف من قطعان الماشية . وذكر أن النجدات التي جاءت لإنقاذ الهلكى أخذها الأحباش لجيشهم الذي يحارب مسلمي أرتيريا والصومال . وتقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة لهيئة الأمم : إن هناك ألف مليون شخص يشكون من نقص غذائي ، يموت منهم أحد عشر مليوناً كل عام بسوء التغذية. وذكر المحاضر أن مصر تشتري أطعمة لشعبها بثلاثة آلاف مليون دولار سنوياً (!) وأن نقص الحبوب في إندونيسيا والعراق والسودان وسواحل إفريقيا يضطر شعوب هذه البلاد إلى استيراد القمح والأرز بأثمان باهظة . قال : وعندما تتأخر الدول الإسلامية " الشقيقة " عن مدّ يد العون تتقدم الجمعيات التنصيرية المنتشرة كالجراد لسدّ الفراغ ، وقد وصل تعداد هذه الجمعيات من ثلاث سنين إلى خمسة آلاف جمعية تعودت شراء الجائعين من أطفال ويتامى المسلمين (!). ومما يدعو للدهشة أن وكالة الأنباء الكويتية نقلت خبر عن1_112(1/101)
نشاط اليونسكو في الحفاظ على المعبد البوذي الضخم " يورد بودر" في أندونسيا، وقد تكلف ترميم هذا المعبد (17.5) مليون دولار أسهمت عدة أقطار إسلامية في توفيره... والمعبد الذي شارك المال الإسلامي في تجديده يحتوي على 422 صنما لبوذا..! مع العلم بأن مسلمي أندونسيا لا يجدون الماء الصالح للشرب..!! قال المحاضر: في سنة 1912 بلغت الديون التي للشمال على الجنوب أي للدول المتقدمة على المتخلفة 469 ملياراً من الدولارات، وبلغت مقادير الربا المستحقة على هذه الديون 88 ملياراً . ويقول " جورج وردز " إذا استمرت الحال على هذا المنوال تكون رؤوس الأموال الخارجة من الدول النامية أكثر من المبالغ التي دخلتها خلال خمسة عشر عاماً ، وذلك بسبب ارتفاع الفوائد. ونفهم نحن من هذا الكلام أن الأمم المتخلفة تدفع ربا عن ديونها لو أنه خصم من أصل المبلغ المطلوب منها لانتهت ديونها خلال بضع سنين. فإن الذي يأخذ قرضاً بربح 20% يسدد القرض خلال خمس سنين فقط من الأرباح التي يدفعها. وأن ما يدفعه بعد ذلك من دمه هو سحت تأخذه الدول الغنية بحكم القوي على الضعيف، فهي تزداد فقراً على فقر، ويزداد المستعمرون غنى فوق غناهم .1_113(1/102)
قال المحاضر: لقد أفضى صافي هذه الحركة العظيمة من الأموال التي يستثمرها الشمال في الجنوب إلى تعزيز إفلاس البرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية، والهند وأندونسيا والجزائر ومصر وتركيا وباكستان، وفي الدول الست الأخيرة يعيش نصف مسلمي العالم. قال المحاضر: في برنامج التثبيت الاقتصادي الذي عقده صندوق النقد الدولي بمصر في الفترة بين سنة 1978 ـ سنة 1981 لإخراج مصر من أزمتها الاقتصادية وتقليل نسبة العجز في ميزانها التجاري ، وطبقاً للدراسة التي أجراها الخبير الأول الدكتور رمزي زكي فقد دخل الصندوق الدولي مصر وهي مدينة بـ 800 مليون دولار سنة 1978، وخرج منها عام 1981 وهي مدينة بـ 18000 مليون دولار!!! أقول : ومعنى هذه الأرقام أن حصيلة ما يكسبه المغتربون المصريون المشتتون فى أرجاء الأرض مضافة إلى حصيلة قناة السويس يمكن أن تسدّ الربا المقرر على هذا الدين الباهظ ، فإذا قصَّرتْ ازداد الدين الأصلي ، وازداد تبعاً لذلك الربا المطلوب سنوياً . ما أتعسنا وأتعس أمتنا وأتعس حاضرنا ومستقبلنا... وختم الدكتور صبحي الطويل محاضرته بهذه العبارة : يقولون : إن الإسلام من وراء هذا التخلف . " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً " ورحم الله مالك بن نبي حين1_114(1/103)
قال: التخلف الذي يعاني منه الشرق الإسلامي لا دخل لديننا فيه ولا يتحمل الإسلام وزره ، بل هو عقوبة إلهية أوقعها الإسلام بأتباعه جزاء تخليهم عنه. إن المسلمين تأخروا لأنهم تركوا الإسلام لا لأنهم تمسكوا به ، فحق عليهم قوله سبحانه (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) . وهذا كلام صادق جيد فالإسلام رفع المنتمين إليه في الأعصار الأولى حتى أضحوا الدولة الأولى في العالم ، وكان سبقهم الثقافي والسياسي والحضاري بعيد المدى في النواحي المدنية والعسكرية جميعاً . . أما ما يقع الآن فهو نتيجة ثقافات سامة وتربيات فاسدة وسياسات خائنة يلعن الإسلام أصحابها ويقصيهم عنه . . إن ركاماً من تقاليد القرون المنحرفة تجمَّع في هذه الأيام العجاف ، وأنزل بالمسلمين هزائم ساحقة ، وهي تقاليد ماجنة وغبية ، ما أنزل الله بها من سلطان ، ومع ذلك فيوجد من يتمسَّك بها ويدفع عنها . وقد بدأ إحساس بالجريمة والندم يخامر الجماهير التائهة، بيد أن هذا الإحساس لا يؤتي ثماره إلا إذا تخلصنا بصرامة من هذه التقاليد وإلا إذا حاكمنا سلوكنا العلمي والعملي إلى صميم ديننا.1_115(1/104)
ولنعترف بأن هذه الموروثات ملتصقة حتى بقيادات المقاومة الأفغانية للزحف الشيوعي، فهي تفرق القادة. وملتصقة حتى بالجماعات المهاجرة إلى أوربا وأميركا ابتغاء الرزق، فهي تفسد ذات بينهم، وقد تتدخل الشرطة الأجنبية لفض الاشتباكات التي تقع. وقد نظرت إليها ـ بعقل علمي مجرد ـ فرأيت بعضها عادات لا عبادات. والبعض الآخر وجهات نظر فقهية غير ملزمة ، أو طبائع شعوب لا تعاليم دين ، وقد تكون اعوجاجاً فكرياً أو أخلاقياً أطال عمره التهاون فتلقاه الرعاع بالقبول ونشأت عنه فوضى واسعة النطاق. ويعتمد الغزو الثقافي على هذه الأحوال في اجتذاب أنصاره وبذر أفكاره... ونحن لا نرى من الغزو الثقافي المخوف أن ينتشر فن العمارة الغربية ، ويضعف فن العمارة العربية . ولا أن يشيع نظام المائدة الأوربية ويختفي نظام المائدة البدوية . للناس أن يختاروا من العادات ما يعجبهم ، فلست متعصباً لقومية إفريقية أو آسيوية ، إن توجيهات الإسلام هي التي تعنيني ، أما شئون الدنيا فالناس أعلم بما يؤثرون . وما يكوِّن الشخصية الإسلامية لا يسوغ التنازل عنه ، فإهمال1_116(1/105)
التاريخ الهجري سخف ، ومن عقدة الوضاعة أن يُلغى العاشر من رمضان ويحل محله السادس من أكتوبر، إنه تصرف لا يرفع خسيسة ، وستبقى هذه الخسيسة ما بقي المسلمون غرباء على دينهم ، بعداء عن هداه... وليتنا نُنافس الغرب في قدراته الصناعية والإدارية، وندعم أنفسنا بما نحرزه من نجاح في هذه الميادين.. والحذر من مؤامرات القوم واجب ، فإن في أفئدتهم غلاً راسباً لا حيلة لنا فيه. وقد رأيت شرههم في امتصاص الدماء، وقسوتهم في اعتصار الشعوب والصعود على حطامها.. إن همجية المستعمرين الجدد فسَّرتْ لي ما حكاه القرآن الكريم عن آبائهم الأقدمين ، وكيف استنفدوا جهودهم في محاربة الإسلام ونبيه دون هوادة (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ، والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) . وعبارة يشترون الضلالة ، والعبارة التي تليها عن رغبتهم فى إضلالنا ، ناضحتان بما فى القلوب من غل . والغريب أن هذا الغل يتنقل خلال القرون ، يحمله الأخلاف عن الأسلاف وتتواصى به الأفراد والجماعات ، حتى لكأن مر الزمن يزيد الجراح فتوقا بدل أن يعين على اندمالها .1_117(1/106)
وقد اشتعلت الحروب الصليبية ولما يسلخ الإسلام خمسة قرون من تاريخه ، وظلت قرنين ونصفاً دائرة الرحى تهلك فيها أجيال وتدمر قرى ومدن . ولم يفقد الإسلام حياته خلالها ، بل ثابت إليه أسباب المقاومة ، ودواعي الثأر، فقاد الأتراك زحفاً إسلامياً مضاداً على أوربا ، شغلوها فيه بنفسها ، وأخروا غارتها الثانية على العالم الإسلامي نحو أربعة قرون ـ كما يقول المؤرخ الإنكليزي "توينبي" ـ لكن مشاعر الضغينة لا تزيدها الليالي إلا ضراما، وبعد اثني عشر قرناً من بدء الدعوة الإسلامية لم تزل الصليبية العالمية تحاول الإجهاز على الإسلام وأمته ، كما رأينا ، وإن تغيرت وسائلها في حروبها الأخيرة الخبيثة ، ولكنها منذ قرنين تعمل حثيثاً على بلوغ غايتها.. نعم ، منذ قرنين كانت أوربا تفرض سيادتها العسكرية والسياسية على العالم ، وتختطف من أطراف العالم الإسلامي وقلبه ما تيسر . وقد استغلت الفوضى الضاربة في أرجائه فكسبت من الحروب الباردة أضعاف ما تكسب من الحروب الساخنة ، ورسمت خططها كي تصرف المسلمين بالعنف أو بالحيلة عن عقائدهم وشرائعهم وأخلاقهم ولغتهم العربية وآدابها : ووكلت إلى الاستعمار الثقافي أن يحقق أضعاف ما يحققه التفوُّق العسكري والصناعي . .1_118(1/107)
وساسة الإسلام المخلصون يرون أن الحملة الصليبية الحالية التي تدعمها الحركات الحزبية المنتشرة والتي يحكم بعضها دولاً في العالم الإسلامي أنجح من زميلاتها في القرون الوسطى ، وأن حركة " مصطفى كمال " لا تقل عنها ضراوة بالإسلام وتمزيقاً لمقدساته وروابطه . وقس على ذلك حركات مشابهة أخرى تقسَّمتْ العالم الإسلامي مادياً وأدبياً لجعله رفاتا هامداً تلتحق فلوله المهشومة بأي جبهة من الجبهات الغالبة على شئون العالم ، وبذلك تنقضي رسالة محمد . ومع أن الاستعمار الثقافي يعتمد على تفوق الغرب الكبير، بشقيه الصليبي والشيوعي ، إلا أن العامل الأكبر في نجاحه هو الفوضى العلمية والاجتماعية التي ترجع إلى سنين خلت... وقد شعرت بأن هذا الاستعمار يعين الجماعات الدينية التي تنشر في رسائل أنيقة الطباعة أن الأرض ثابتة ، وأن النساء شياطين خلقن لنا ، وأن الجلابيب البيضاء القصيرة من شعائر الإسلام.. الخ. لأن هذا اللون من الفكر الديني يأتي على الإسلام من القواعد. والجاهل عدو نفسه ، وعدو دينه، وقد انتشر هؤلاء الجهال في ميادين الدعوة على نحو تقرُّ به عين الاستعمار، ويقلق منه الحماة الحقيقيون . وظهر عدوّ آخر من سبعين سنة هو الشيوعية التي تزدري1_119(1/108)
الأديان جملة وتفصيلاً . وقد قضت هذه الشيوعية على الوجود الإسلامي في آسيا، وأجزاء من أوربا ، وضمت الشعوب المهزومة إلى روسيا تحت عنوان الاتحاد السوفيتي . والواقع أن هذا الاتحاد يضم الروس ، والمستعمرات الإسلامية التي فشلت في الحفاظ على استقلالها . وهذه التسمية مهما طال عليها الزمن لا تغير الواقع . ومن بضع سنين اجتاح الروس أفغانستان وأقاموا حكما موالياً لهم ، وإذا انهزم المجاهدون المسلمون كما انهزم إخوانهم من سبعين سنة فإن أفغانستان ستكون جزءا من الاتحاد السوفيتي، أي مستعمرة لاحقة تنضم إلى المستعمرات السابقة.. وشرعت الشيوعية ـ بعدما انفتحت لها أبواب العالم الإسلامي ـ تشن غزوها الثقافي ، لعلها تظفر بأراض جديدة ، ولم لا ؟!. وأحوال المسلمين تغري كل طامع ؟؟.. وكنت بين من تصدَّوْا لهذا الغزو ، والكتب الأولى التي ألفتها في شبابي كانت دفاعاً عنيداً عن الإسلام ، وتقديما للبدائل التي تغني عن الشيوعية . وهناك نقد موجّه لهذه الكتب يتلخص في هذه النقاط : أن1_120(1/109)
حقائقها العلمية مبعثرة ينقصها التماسك الفني ، وأن العاطفة الحادة تسودها ، وأنني قبلت مصطلحات الديمقراطية والاشتراكية وذاك لا يجوز . وهذه التهم فيها قدر من الصواب . وفيها أيضاً بخس لجهد كبير. وعذري أني كنت أرتاد ميداناً لم أُسبَق إليه ، والرائد يستكشف ويدع لغيره التنظيم ، وهذا ما حدث . وجملة الحقائق التي أثبتها ليست قليلة ، بل إن الزيادات التي انضافت إليها بعد محدودة . ثم إني بطبيعتي أكره الشعور البارد وأحيا بعواطفي كلها ، ولا أستطيع تغيير نفسي . أما قبول المصطلحات الحديثة فمازلت متردداً في حكمه ، ولا ريب أني سأهجر هذه المصطلحات الدخيلة بعد ما يتحرك الفقه الإسلامي ، ويضع ما يغني عنها.. إن عدداً من علماء الدين، ما يزال يخدم الحكم الفردي ، ويتعامى عن مظالمه السياسية والاقتصادية ، ويمكن أن يؤلف سفرا في وصف الخفين اللذين يجوز المسح عليهما ، وسفرا آخر في قبول الطلاق البدعي أما حقوق الإنسان وحرياته ، أما حقوق الشعوب في ثرواتها ومنع السطو عليها فهذه قضايا لا يجوز النظر فيها ! ! وعندما يعترضني هؤلاء الكهان فقلما أكترث لهم . .1_121(1/110)
لماذا انسقتُ مع هذا الاستطراد ؟ الحق أن ما كتبته صدر حياتي كان يغني عن أي اتجاه شيوعي ، ويعلِّق الشباب بدينه وحده ، بيد أن العيب الأكبر فيه هو الارتباط الشديد بالإسلام ، ورفض ما عداه . وعندما حكم " اشتراكيون " أقطار العالم العربي لم يكن همهم تطبيق الاشتراكية بقدر ما كان همهم البعد عن الإسلام تمهيداً للخلاص منه . وذاك سر ما وقع بيني وبينهم من عداوة.. وفي سبيل طرح الإسلام وراء الظهور أخذت عناوين العمل هذا التدرج . الاشتراكية الإسلامية ثم الاشتراكية العربية ثم التطبيق العربي للاشتراكية ثم الاشتراكية فقط ثم الاشتراكية العلمية ، وبديهي أن تكون المرحلة الأخيرة الاشتراكية الماركسية . إن الدكتور مصطفى السباعي لما ألف كتابه "اشتراكية الإسلام " كان يريد بعقل وحماس أن يسدّ الطريق على الشيوعية ، والكتاب ناضح بالإخلاص لله ورسوله . وقد رفضه الشيوعيون لأنهم يكفرون بالله ورسله ، وتركوا المؤلف المسكين لعلماء الدين يسلقونه بألسنة حداد حتى قضوا عليه . فماذا قدّموا علمياً وعملياً أفضل منه هل الخلاف على العنوان يدعو لهذه البغضاء؟ أم أن المقصود خدمة أنظمة معينة ترفض ـ بإباء وشمم (!) ـ أن يوضع على سلطانها قيد ؟!.1_122(1/111)
على أية حال لم تنجح الشيوعية في اقتحام السدود الإسلامية أمامها ، ولكنها لم تيأس ، بل شرعت في وضع خطط أخرى دخل بها الغزو الثقافي الأحمر في طور جديد ، وكسب ميادين كان قديما أعجز من أن يدخلها وشاء الله أن تنشب الحرب بيننا وبينه ، فقد تبينت أهدافه بطريق الاستنتاج واشتبكت مع السماسرة المقنعين ، ثم وقعت بين يدي هذه الوثيقة أنشرها كلها أمام قرائنا. تقول الوثيقة: برغم مرور خمسين سنة تقريبا على الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وبرغم الضربات العنيفة التي وجهتها أضخم قوة اشتراكية في العالم إلى الإسلام فإن الرفاق الذين يراقبون حركة الدين في الاتحاد السوفيتي صرحوا كما تذكر مجلة " العلم والدين " الروسية في عددها الصادر في أول يناير " كانون الثاني " 1964 بما نصه: " إننا نواجه في الاتحاد السوفياتي تحديات داخلية في المناطق الإسلامية وكأن مبادئ " لينين " لم تتشربها دماء المسلمين ". " وبرغم القوى اليقظة التي تحارب الدين ، فإن الإسلام ما يزال يرسل إشعاعاً ، وما يزال يتفجر بالقوة بدليل أن الملايين من الجيل الجديد في المناطق الإسلامية يعتنقون الإسلام ويجاهرون بتعاليمه مع أن قادة الحزب ومفكري المذهب لا يغيب عنهم خطر يقظة الإسلام في المناطق الإسلامية بالاتحاد السوفياتي الذي أشار في1_123(1/112)
" دائرة معارف الثقافة الشيوعية " إلى أن الإسلام أخطر الأديان الرجعية ، ويبذل أقصى جهده ليكون في خدمة المستغلين ، والإقطاعيين ، والرأسماليين ، ويقدم كل العون للاستغلال ، وهو دين جامد حقود على الحضارة والتقدم ، وخصم عنيد للاشتراكية ويناهض الحركات التحررية ". وتقول الوثيقة : ومن هذا المخطط أن يُتَّخَذَ الإسلامُ نفسُه أداة لهدم الإسلام نفسه ، وقررنا ما يلي : ا ـ مهادنة الإسلام لتتم الغلبة عليه ، والمهادنة لأجل ، حتى نضمن أيضاً السيطرة ، ونجتذب الشعوب العربية للاشتراكية . 2ـ تشويه سمعة رجال الدين والحكام المتدينين ، واتهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية . 3ـ تعميم دراسة الاشتراكية في جميع المعاهد والكليات والمدارس في جميع المراحل... ومزاحمة الإسلام ومحاصرته حتى لا يصبح قوة تهدد الاشتراكية. وتقول الوثيقة : 4ـ الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد مهما كان شأنها ضعيفاً ، والعمل الدائم بيقظة لمحو أي انبعاث ديني ، والضرب بعنف لا رحمة فيه كل من يدعو إلى الدين ولو أدى إلى الموت.1_124(1/113)
5 ـ ومع هذا لا يغيب عنا أن للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات ، ولذا وجب أن نحاصره من كل الجهات وفي كل مكان ، وإلصاق التهم به ، وتنفير الناس منه بالأسلوب الذي لا ينم عن معاداة الإسلام. 6ـ تشجيع الكتاب الملحدين وإعطاؤهم الحرية كلها في مهاجمة الدين والشعور الديني ، والضمير الديني ، والعبقرية الدينية ، والتركيز في الأذهان أن الإسلام انتهى عصره ، وهذا هو الواقع ، ولم يبق منه اليوم إلا العبادات الشكلية التي هي الصوم ، والصلاة ، والحج ، وعقود الزواج ، والطلاق ، وستخضع هذه العقود للنظم الاشتراكية . 7ـ قطع الروابط الدينية بين الشعوب قطعاً تاماً ، وإحلال الرابطة الاشتراكية محل الرابطة الإسلامية التي هي أكبر خطر على اشتراكيتنا العلمية. 8 ـ إن فصم روابط الدين ، ومحو الدين لا يتمان بهدم المساجد والكنائس ، لأن الدين يكمن في الضمير ، والمعابد مظهر من مظاهر الدين الخارجية ، والمطلوب هو هدم الضمير الديني ، ولم يصبح صعباً هدم الدين في ضمير المؤمنين به بعد أن نجحنا في جعل السيطرة والحكم والسيادة للاشتراكية... ونجحنا في تعميم ما يهدم الدين من القصص والمسرحيات والمحاضرات والصحف والأخبار والمؤلفات التي تروج للإلحاد، وتدعو إليه1_125(1/114)
وتهزأ بالدين ورجاله وتدعو للعلم وحده ، وجعله الإله المسيطر. 9ـ مزاحمة الوعي الديني ، وطرد الوعي الديني بالوعي العلمي . 10ـ خداع الجماهير بأن نزعم لها أن المسيح اشتراكي ، وإمام الاشتراكية ، فهو فقير ، ومن أسرة فقيرة ، وأتباعه فقراء كادحون ، ودعا إلى محاربة الأغنياء . ونقول عن محمد : إنه إمام الاشتراكيين فهو فقير ، وتبعه فقراء ، وحارب الأغنياء المحتكرين ، والإقطاعيين ، والمرابين ، وثار عليهم ، وعلى هذا النحو يجب أن نصور الأنبياء والرسل ، ونبعد القداسات الروحية ، والوحي والمعجزات عنهم بقدر الإمكان لنجعلهم بشرا عاديين حتى يسهل علينا القضاء على الهالة التي أوجدوها لأنفسهم ، وأوجدها لهم أتباعهم المهوّسون . 11ـ في القرآن والتوراة والأناجيل قصص ، ولئلا نصطدم بشعور الجماهير الديني ونثيرهم على الاشتراكية يجب أن نفسر تلك القصص الدينية تفسيراً مادياً وتاريخياً ، فقصة يوسف ـ على سبيل المثال ـ يمكن تفسيرها تفسيراً مادياً تاريخياً ، وما فيها من جزئيات يمكن أن نفيد منها في تعبئة الشعور العام ضد الرأسماليين والإقطاعيين، والنساء الشريفات ، والحكام الرجعيين. 12ـ إخضاع جميع القوى الدينية للنظام الاشتراكي ، وتجريد هذه القوى تدريجياً من موجداتها .1_126(1/115)
13ـ إشغال الجماهير بالشعارات الاشتراكية ، وعدم ترك الفرصة لهم للتفكير، وإشغالهم بالأناشيد الحماسية والوطنية ، والأغاني الوطنية ، والشئون العسكرية ، والتنظيمات الحزبية ، والمحاضرات المذهبية ، والوعود المستمرة برفع الإنتاج ومستوى المعيشة ، وإلقاء مسئولية التأخر الاقتصادي والجوع والفقر والمرض... على الرجعية والاستعمار ، والإقطاع ، وعلماء الدين . 14ـ تحطيم القيم الدينية ، والروحية ، بإظهار ما فيها من خلل وعيوب وتحذير للقوى المناهضة. وتقول الوثيقة : 15ـ الهتاف الدائم ليل نهار وصباح مساء بالثورة ، وإن الثورة هي المنقذ الأول والأخير للشعوب من حكامها الرجعيين ، والهتاف للاشتراكية بأنها هي الجنة الموعود بها جماهير الشعوب الكادحة . 16ـ نشر الأفكار الإلحادية ، بل نشر كل فكرة تضعف الشعور الديني والعقيدة الدينية ، وزعزعة الثقة في الدين في كل قطر إسلامي . 17ـ لا بأس من استخدام الدين لهدم الدين ، ولا بأس من أداء الزعماء الاشتراكيين بعض الفرائض الدينية الجماعية للتضليل والخداع على ألا يطول زمن ذلك ، لأن القوى الثورية يجب ألا تظهر غير ما تبطن إلا بقدر ، ويجب أن تختصر الوقت والطريق1_127(1/116)
لتضرب ضربتها فالثورة قبل كل شيء هدم للقديم والمواريث الدينية جميعها. 18ـ الإعلان بأن الاشتراكيين يؤمنون بالدين الصحيح لا بالدين الزائف الذي يعتنقه الناس لجهلهم والدين الصحيح هو الاشتراكية ، والدين الزائف هو الأفيون الذي يخدر الشعوب لتنساق وتسخر لخدمة طبقة معينة ، وإلصاق كل عيوب الدراويش ، وخطايا علماء الدين بالدين نفسه ، وترويج الإلحاد، وإثبات أن الدين خرافة ، والخرافة تكمن في الدين الزائف لا الدين الصحيح الذي هو الاشتراكية . 19ـ تسمية الإسلام الذي تؤيده الاشتراكية لبلوغ مأربها ، وتحقيق غاياتها بالدين الصحيح ، والدين الثوري والدين المتطور، ودين المستقبل... حتى يتم تجريد الإسلام الذي جاء به محمد من خصائصه ومعالمه والاحتفاظ منه بالاسم فقط ، لأن العرب إلا القليل مسلمون بطبيعتهم فليكونوا الآن مسلمين اسما ، اشتراكيين فعلاً ، حتى يذوب الإسلام لفظاً كما ذاب معنى . وتقول الوثيقة : 20ـ أخذنا بتعاليم " لينين " ووصيته بأن يكون الحزب الاشتراكي خصما عنيداً للدين ، ويحارب فكرته ، في المنتظر ما بعد الموت بالفردوس ، التي تحقق الاشتراكية العلمية التي تحقق العدالة الاجتماعية التي هي الفردوس ، وإذا وجد من الضروري1_128(1/117)
مهادنة الدين وتأييده وجب أن تكون المهادنة لأجل ، والتأييد بحذر ، على أن يستخدم التأييد والمهادنة لمحو الدين . 21ـ الاهتمام بالإسلام مقصود منه: ـ أولاً ـ استخدام الإسلام في تحطيم الإسلام ـ ثانياً ـ استخدام الإسلام للدخول في شعوب العالم الإسلامي ، ومع أن القوى الرجعية في العالم العربي والإسلامي قوى يقظة إلا أن الخطة التي اتخذناها ستضعف هذه القوى حتى تجردها من عناصر احتفاظها بمقوماتها فتذوب على مر الأيام . 22ـ وباسم تصحيح المفاهيم الإسلامية ، وتنقيته من الشوائب ، وتحت ستار الإسلام يتم القضاء عليه بأن نستبدل به الاشتراكية . وتفصح الوثيقة عن أسرار رهيبة فتقول : " وفي المحيط العربي كله يعمل أنصارنا بجد ، وقد استطاعوا أن يثبوا إلى المناصب الرئيسية في الوزارات والإدارات الحكومية ، والشركات ، والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية ، ووفقوا حسب تعليماتنا للسيطرة التي وإن كانت فردية إلا أن توفيقهم للوصول إلى تلك المناصب يعد من الأعمال الناجحة ، كما أن لقاء الأفراد بعضهم مع بعض جعل اللقاءات في صورة اللقاء الجماعي... ويزداد على مر الأيام عدد أنصارنا الذين يتولون المناصب ذات الأثر الفعال في خلق الجو الصالح للتحرك الثوري ، وحسب تعليماتنا لهم جعلوا1_129(1/118)
من الوزراء والمسئولين الذين لا يشك في إخلاصهم للنظام الرجعي الحاكم المعادي للاشتراكية واجهة يقفون وراءها، ويعملون تحت ستارها ما يريدون في أمن وطمأنينة مع اليقظة والحذر دون أن تحوم حولهم الشكوك لأنهم يتسترون بأولئك المسئولين . أوعيت أيها القارئ : كيف يحارب الإسلام بالإسلام ؟ وكيف يحتال الغزو الثقافي على بلوغ أهدافه بكل السبل ؟ على أية حال لقد نشط الشيوعيون العرب إلى تنفيذ ما تقرر ، ويقول "طارق حجي " في كتابه تجربتي مع الماركسية الذي طبع ونشر في القاهرة وجدّة من بضع سنوات "… في تلك الجلسات سمع كاتب هذه السطور بنفسه الدعوة إلى الائتلاف مرحلياً مع الجماعات الدينية التي كان نجمها آخذاً في البزوغ ، لا سيما في الجامعات المصرية . وكيف يجب إنشاء أرضية مشتركة مع من تُلمسَ فيهم الروح اليسارية عن طريق ما عرف بعدئذ باليسار الإسلامي . وما يقتضيه ذلك من حديث عن الإمام علي (!) واشتراكية عمر وأبي ذر . وهذا ما نفذه (ع . أ) و (أ . ع. ص) بعد سنوات قلائل ، وسوَّدوا به مئات الصفحات.. " ص 78. ولا أستطيع حل هذه الرموز ، ولا تحديد الكُتَّاب الذين خدموا الشيوعية عن طريق عرض سيرة الصحابة من وجهة نظر حمراء . الذي يعنيني توكيد حقائق علمية تتصل بديننا ولا يقبل فيها1_130(1/119)
المراء والدسّ.. إن الإسلام عقيدة وشريعة ، والقول بأننا نسلِّم بنصوص العقيدة ثم نجعلها مهاداً للبرنامج الشيوعي سخف مرفوض فالكفر بالشريعة كفر بالعقيدة ، ومن رفض الخضوع لقوله تعالى في تنظيم المواريث (للذكر مثل حظ الأنثيين ) فهو كافر بقوله تعالى (قل هو الله أحد) وعلماء الإسلام مجمعون على أن إنكار معلوم من الدين بالضرورة هو انسلاخ عن الإسلام كله ! ومن ثم يستحيل تحقيق تزاوج بين الإيمان والشيوعية ، أو اختراع ما يسمَّى باليسار الإسلامي ، فالإسلام كل لا يتجزأ . وحقيقة ثانية.. التملك مادام عن طريق مشروع لا تجوز مصادرته ، والزعم بأن المسلم ممنوع من الادخار، ومن ترك إرثٍ لأولاده زعم باطل ، وقد قرأت لبعضهم كلاماً يحاول به الميل بالإسلام إلى فلسفة ماركس ، فماذا صنع ؟ الأمر سهل روى البيهقي عن مسعود بن عمرو عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أتى برجل يصلَّى عليه ـ صلاة الجنازة ـ فقال : " كم ترك ؟ قالوا : دينارين أو ثلاثة . قال : ترك كيَّتين أو ثلاث كيَّات ". قال الراوي فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر فذكرت ذلك له ، فقال : ذلك رجل كان يسأل الناس تكثراً . أي أنه متسوِّل محترف . ومع1_131(1/120)
هذا التفسير فالحديث نفسه ضعيف ، لا يُعمل به في مجال الأحكام المتصلة بالدماء والأعراض والأموال . ولكن الميل بالإسلام إلى الشيوعية قَوَّى حديثاً واهياً ، وتناسى عن عمد المعنى المقرون به . وبنى عليه حكما رهيباً هو أنه إذا كانت حاجة لأحد لم يسمح بتملّك دينار واحد ولا ميراثه . الإسلام بداهة يسدّ الثغرات في المجتمع ، ويعتبر أهل البلد قَتَلَةً إذا مات فيهم امرؤٌ جوعاً ، ولكن هل يعني ذلك وَأْدَ حق التملك والتوريث ، والزعم بأن عليّ بن أبي طالب قال : من ترك صفراء أو بيضاء ـ أي ذهباً أو فضة ـ كُوِيَ بها ؟ وأن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل : أي مال تدخر ؟ فقال اللسان الذاكر والقلب الشاكر والزوجة الصالحة ؟. أي لا شيء يُدَّخر . ونتساءل نحن ، هل شرائع الميراث التي استغرقت صفحة كاملة من القرآن الكريم نزلت لتنظيم ما تكوى به الوجوه والجنوب ؟ إذا حرم الدين إمساك ما يزيد عن الحاجة فماذا يرث الناس ؟ أليس من المضحك أن يقول الشيوعيون : المدخرات هي الذكر والشكر ؟! ذكر من ؟ وشكر من ؟ الإله الذي يقولون عنه: إنه خرافة ؟؟ !! . وفي حجة الوداع لما مرض سعد بن أبي وقاص ورغب فى التصدق بماله الكثير ، أو بثلثيه أو بنصفه قال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الثلث والثلث كثير . إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ".1_132(1/121)
أكان النبي الكريم يوصيه بما يكوى به في نار جهنم ؟ ولا نذهب بعيداً ، هذا كتاب الله يقول للمتقين واصفاً لهم ذروة الخير: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ولم يقل لهم حتى تنفقوا ما تحبون . ويقول : (الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ، أولئك هم المؤمنون حقا …) . ولم يقل : وما رزقناهم ينفقون إنه ما كلفهم قط بإنفاق أموالهم كلها . وفي مكان آخر يقول (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) أي أن الله لا يطلب من عباده أموالهم كلها أوجلها. ولو طلب فأحفى أي بالغ في الأخذ لأثاركم هذا واستفزكم إلى الخصام والمغاضبة ، إنه سبحانه يعطي الكثير ويطلب القليل . ومع ذلك فقد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم عندما يجب الجهاد ويتعين بذلُ النفس والنفيس . ولكن الميل بالإسلام إلى اليسار له في القرآن والسنة رأي آخر . من ترك ديناراً كواه الله به ، فلا يجوز ادخار شيء . قائل هذا الكلام يخدم الشيوعية ، وينفذ خطة من خططها للالتفاف حول الإسلام. إن الغزو الثقافي ـ بشقيه الشيوعي والصليبي ـ يتحرك بقوة ، وسط أمة نائمة أو تائهة . . فهل نصحو . . ؟1_
133(1/122)
ميراث الأرض لمن ؟
جاء فى القرآن الكريم هذا الحكم الحاسم : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) . ما معنى وراثة الأرض ؟ ومن هم العباد الصالحون ؟ من تتبُّع الآيات المشابهة فى القرآن الكريم نجد أن هناك معنيين لوراثة الأرض : الأول ـ وهو الشائع بين العابدين ـ يتصل بالدار الآخرة ، أي أن العراك الرهيب فى هذه الدنيا ، والميدان المليء بالانتصارات والانكسارات والصاعدين والهابطين والمكثرين والمقلين والظالمين والمظلومين سينتهي حتما لمصلحة الأخيار من الناس فهم الذين يضعون أيديهم على مصيرها ، وتقر أعينهم بما أسلفوا فيها . وفي هذا يقول الله تبارك اسمه ، واصفاً ما يدور على ألسنة المؤمنين بعد هذه النهاية (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) . الرواية إذن ليست هزلية كما يقول أحد الكتاب الأوربيين لجلسائه وهو يُحتضر ويرسل آخر أنفاسه في هذه الدنيا : أسدلوا الستارة فقد انتهت المهزلة .1_134(1/123)
إن الستار يسدل على فصل ليزاح عن فصل آخر أخطر وأبقى! وقصة الحياة ليست تمثيلية مضحكة أو مبكية . (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، فتعالى الله الملك الحق...). الأمر جدٌّ لا هزل ، والظالم الضاحك هنا سوف يبكي طويلاً ، والمضطهد المرميّ وراء الأسوار سوف يتقدم كثيراً ، والمستقبل البعيد للخير لا للشر... وهناك معنى آخر لوراثة الأرض نريد أن نتريث عنده طويلاً .. نجده في قوله سبحانه عن بني إسرائيل في صراعهم مع الفراعنة ، وبعد محنتهم باستئصال الذكور، واستبقاء النساء (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ..). وظاهر أن هذا الصراع بين الحق والباطل طال أمده ، لقد بقي عشرات السنين التي لاقى المستضعفون خلالها عنتاً هائلاً ، وتحملوا تضحيات ثقيلة ، ولكنهم صبروا. وكأن هذا الصبر كان النار التي اشتعلت في كيانهم لينضجوا ويصلحوا لميراث الأرض. ومع أن عقيدة التوحيد أجدر بالنصر أول يوم عندما تشتبك بالاستبداد الفردي وادعاء بشر للألوهية ـ إلا أن حملة العقيدة لا يكتب لهم الفوز حتى يبلغوا مستوى معيناً من الكمال الشخصي1_135(1/124)
والرقي الاجتماعي والقدرة على إسداء الخير العام . قد تسأل : من أين أتيت هذه الشروط التي ذكرتها ؟ والجواب : من وصف الله للحق وأهله والباطل وأهله فى آيات أخرى تفسِّر المجمل هنا ، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً.. إن القرآن الكريم يجعل الخاصة الأولى للحق أنه ينفع الناس مادياً وأدبياً ، وتسعد به الجماهير في عاجل أمرها وآجله . وقد يعلو الباطل ولا قيمة لعلوه فالغثاء الرخيص قد يكسو سطح الماء ، والجيف الميتة قد تطفو فوق التيار، ولا قيمة لهذا ولا لذاك ، تدبر قوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) . والأنفع للناس هو العدل سياسياً كان أو اجتماعياً ، والشورى ولو بين أفراد الأسرة الواحدة ، والنظام الشامل لا الفوضى السائدة ، والحرية التي تكتمل في جوها العقول ، وتنضج الملكات ، وتمحص الآراء ، والتعارف لا التناكر، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وإتاحة الفرص للفطر السليمة والمواهب الرفيعة أن تتفتح وتبدع... إن حملة العقائد الجديرين بالنصر ليسوا قطاع طريق ورجال1_136(1/125)
عصابات ، إنهم طلائع المعرفة وأشعة اليقين وأصحاب الأخلاق الزاكية والأنفاس الطاهرة ، إنهم ـ بإيجازـ صانعو النهضات الحقيقية ، وأخلاق النبيين التقاة وقادة الفكر الواعي والسلوك المجدي.. هؤلاء هم الصالحون الجديرون بالسيادة في الدنيا... إن الله لم ينصر العرب قديما لأنه حابى جنساً على جنس ولكن لأن عدل عمر أنفع للإنسانية من جبروت كسرى ، وضوابط الوحي عند الصحابة الأولين أفضل للناس من تحريف أهل الكتاب... والصدق أثقل في الميزان من الكذب ، عندما يكون الصدق سمة جيل يتحرك به ويموت في سبيله ، لا عندما يكون خطباً رنانة وصحائف مزوّقة...!! إن انتصار العرب على الفرس والرومان يعني انتصار حضارة متفوقة على حضارات تعفنت ووجب دفنها . لا محاباة هنالك ، وإنما هو اطراد السنن الكونية التي وضعها الله للمجتمع البشري قديما وحديثاً... وطبقت بصرامة في الأنبياء والصديقين كما طبقت على العتاة والمفسدين ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) .1_137(1/126)
ونسأل مرة أخرى : هل الصلاح الذي تعنيه الآية (..أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) هل هو قدرة على الصلاة والصيام وعجز عن الجهاد وعن صنع آلاته التي يحيا الإيمان في ظلها ؟ هل هو رغبة فى الطعام وعجز عن إحياء الموات وتكثير النبات؟ لننظر هذه المرة إلى العبد الصالح الذي أنزل عليه الزبور كما أنزل الذكر على نبينا ، لننظر إلى داود ، ولنر عناصر صلاحيته! يقول الله فى داود : (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير .. ) كان الرجل العابد يتغنى بأمجاد الله ويسبح بحمده ، وكانت العاطفة الحارة تشيع فى غنائه فيهبط لها الطير، وتتردد أصداؤها فى الجبال . فهل اكتفى بهذه الروحانية ؟ كلا لقد ضمَّ إليها مهارة صناعية عظيمة ، ووجّهَةُ الوحي إلى إجادة الصناعة التي لانت له ، وإحكام نسج الدروع التي كانت قديماً من أدوات القتال . . فماذا بعد الغناء بعظمة الله، وصنع الأسلحة للدفاع عن دينه؟. وصفه القرآن بأنه كان صاحب توبة ، وصاحب دولة ، وأرشده إلى أن يحكم بين الناس بالحق ، وألا يتبع الهوى كما بشره بحسن المآب لسرعة استغفاره ، وحسن سجوده.. عناصر الصلاح هنا تجمع اكتمالاً نفسياً وصناعياً وسياسياً أي عناصر حضارة مؤمنة لا يجوز .1_138(1/127)
أن تنساها الأمم ، ذكرت في الزبور الذي استمع له بنو إسرائيل قديما كما ذكرت في القرآن الكريم الذي نهض به العرب وساروا... والمعروف من بدء الخليقة أن الإنسان أوتي علما عجزت عن مثله الملائكة ، وأن هذه النشأة العلمية هي المهاد الأول لحركته الذكية في البر والبحر ـ والجو ـ وكل ما كُلِّف الإنسان به ـ بعد هذا التمكين ـ أن يعرف : من سواه ؟ ومن فضله ؟ من صاحب هذا الكون الكبير ؟ وما حقوقه ؟ . فلا يجوز له بعد هذه المقدمات البيّنة أن يزعم للكون رباً آخر يتوجه إليه ، ولا يجوز له أن يحيا متمرداً على المنهج الذي خطه له ! وإنها لخسَّة محقورة أن يجحد المرء أصل وجوده وولي نعمته ، وأن يعيش وفق منهج آخر يخطه هو لنفسه أو يخطه شيء آخر ! هذا هو الشرك المرفوض (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) . والمطلوب من الإنسان ألا يدع عقله مطية لهواه ، وألا يجعل خصائصه الأدبية الرفيعة طيعة لغرائزه الدنيا ، ولأثرته الخاصة، فإنه إن فعل ذلك أهلك نفسه ومن معه على سواء.. فالإنسان الصالح ليس صاحب العقل الكبير فقط ، بل ينبغي أن يكون كذلك صاحب قلب سليم وضمير يقظان وقدرة على كبح1_139(1/128)
نفسه وامتلاك رغبته . ولباب الدين هذه الحقائق وما يضبطها وينميها من عبادات.. بيد أن هناك ناساً مَرِضُوا كما تمرض النباتات والحيوانات ، ونسوا كلاُّ أو جزءاً مما ذكرنا ! وليتهم لما مرضوا نشدوا العافية كي يحيوا أصحاءَ ، لقد حسبوا أمراضهم هي الأصل ، أوهي طبائع الأشياء ، وأرادوا فرض ذلك على الدين والدنيا . الأرض ذلول للإنسان منذ نشأته الأولى ، فإذا البعض يعجز عن امتطاء هذه الوسيلة الذلول لأنه كسيح معلول ، فإذا هو يريد جعل كساحه الفكري فلسفة تُعتنق أو ديناً يتبع ! وإذا هو يستحلي الجهل بالدنيا وتجهيل غيره فيها . ومن ثم أمست الفرية على المادة وقوانينها وأسرارها شريعة الأمم المتخلّفة ، والظاهرة المنتشرة فيما يسمَّى اليوم العالم الثالث . من قال : إن هذا الجهل صلاح ؟ وإنه طبيعة الدين ؟ أي دين ؟ الدين الذي يقول لأتباعه : (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش …… ) . الدين الذي يقول لأتباعه : (…وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب …) إن أولئك المتخلفين عقلياً وحضارياً فقدوا أهمّ معالم الصلاح وهم أعجز من أن يقيموا مجتمعاً تقيًّا ، أو1_140(1/129)
يقاوموا مجتمعاً كفوراً . والمتخلفون عقلياً وحضارياً يستحيل أن يصنعوا صحوة إسلامية لأن الصلاح في الإسلام ليس خيمة من الغيبيَّات يهرع إليها العجزة . إنه اقتدار في عالم الشهادة يتمكن المرء به أن يحمي إيمانه المعقول بكل الوسائل الممكنة في الأرض والسماء. قال لي شاب طيب ينشد المعرفة ، وقد بوغت بما أقرر : هل الأوضاع في الحضارة الحديثة أتقى لله وأجدر بالبقاء من الأوضاع بيننا معشر المؤمنين المتخلفين ؟ . قلت له : ما أحسن هذا السؤال ، وأريد أن أجيب عنه بتؤدة حتى نعرف مالنا وما علينا . إن الحضارة الحديثة بشقيها الغربي والشرقي أحرزت تقدماً هائلاً خدمت به أغراضها الرديئة . ولكي نكون أحق منها بالقيادة والسيادة يجب علينا أن نحرز تقدماً علمياً مثل أو أوسع من تقدمها ، ولا يكفي هذا . بل يجب أن نضم إلى هذا التقدم العلمي تقدماً خلقياً يجعل تفوقنا الحضاري في خدمة مبادئنا ومثلنا العليا... تقول : كيف ؟ فلأشرح ما أعني إن الأوربيين أثاروا الأرض وعصروها أكثر مما أثرناها نحن وعمرناها ، وقدروا على استخراج معادنها الجامدة والسائلة على حين عجزنا نحن كل العجز .1_141(1/130)
أفلا يزيِّن لهم هذا السبق أنهم أولى بالأرض منا ؟ وأن مبادئهم أحق بالبقاء من مبادئنا ؟ وأن أرباح هذا السبق حلٌّ لهم وحرام علينا ؟ . فإذا حدث ـ بعد زمان طويل أو قصير ـ أن تلاشى ذلك التفوق العلميّ بقي أمر آخر ذو بال. أين تفوقنا الإداري فى ميدان الحكم والمال ! إن الحقب الأخيرة فى دولة الخلافة الغاربة لا تشرف الإسلام فى ذلك المجال ـ إن الشورى وحقوق الإنسان وكرامة الجمهور وحصانة المال! العام سمات بارزة فى الدولة العصرية ! فهل هي سمات بارزة فى تصورنا نحن لفن السياسة؟. إن السلطان سليم الأول وجّه جيشه ـ بغباء فذ ـ لاحتلال مصر، والقضاء على دورها الرئيسي فى الصفّ الإسلامي فهل هذا المسلك نموذج للتصرف الراشد ؟ وهل احتج عليه أحد؟ المؤسف أن عدداً من المتحدثين في الإسلام لا يدري عن الإدارة الإسلامية رأساً من ذنب ، ولا يعي الضوابط الدقيقة لحماية الدماء والآراء والأفراد والجماعات . فهل نصف هذه الجهالة بأنها صلاح يرث أصحابه أرض الله ، ويطبقون فيها شرائع الله؟ كلمة الصلاح تعني الصحة النفسية والفكرية والاجتماعية ، وأبعد الناس عنها هم المعلولون في تلك النواحي جميعاً وإني أعجب ، من عجز إنسان عن حماية المسجد وهو يعلم أن هناك خصوماً1_142(1/131)
يتربصون به ، ويريدون تخريبه مصداق قوله تعالى : (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها). ما سرّ عجزه ؟ إنه لا يستطيع صنع الأسلحة التي يدفع بها عنه. وها هم أولاد إخواننا فى أفغانستان يعانون الأمرين فى الذود عن بلادهم ومساجدهم وعقائدهم ، لأن الجبهات التي تبيع السلاح لا تمدُّهم بما يغني . هل التخلّف الكيماوي والهندسي والفيزيائي من معالم التقوى ؟ إذا نبه الله عباده إلى أن الأرض يرثها عباده الصالحون، فمعنى ذلك الصلاح أوسع من ركعات تؤذى أو أيام تصام ، إنه علم رحب الآفاق بكل شيء فى مقدور البشر، وعدل ممدود الرواق لا يشقى معه ضعيف . ولا يزيد فيه نصيب مؤيد على نصيب معارض ! وتنظيم نظافة الوجوه والثياب والبيوت والشوارع والقرى والمدن ، وأمان ضد الجوع والقلق وطوارق اليوم والغد ، وكفالة لحرية العقل والضمير تنمو فيها المواهب وتنضج الملكات وتكتمل الشخصية وتصان المرافق العامة والخاصة… قال لي الشاب الطيب : إنك أسهبت في وصف الأوضاع الرديئة التي طرأت على المسلمين في هذا العصر، بيد أن هذه الأوضاع مهما ساءت لا تحرمهم حق القيادة لأنهم حَمَلَةُ رسالة الحق ،1_143(1/132)
ولا تجعل أعداءهم أولى بالله منهم . ولا تنسى أن حضارة الغرب مدمرة لا معمّرة ، وأنها توجه ذكاءها إلى إشقاء البشر، ولابد أن يلحقها عقاب القدر.. واستتلى يقول : هل تعلم أن إنتاج قنبلة زنة عشرين كيلو يساوي شراء ثلاثين طناً من الفحم الكافي لتدفئة 23 أسرة طول فصل الشتاء ؟ وأنه يمكن بثمن مدمرة واحدة بناء مستشفى حديث يتسع لمائة مريض ؟ وبثمن دبابة واحدة يمكن صنع 48 جراراً زراعياً تنشيء الحياة لا الهلاك ؟ وبثمن طائرة مقاتلة يمكن إنارة 15 مدرسة تتكون كل مدرسة من ستة فصول ؟ وأن بعض قاذفات القنابل يبلغ ثمن الواحدة منها 55 ألف طن من القمح... إلخ. قلت للشاب الطيب : إن ما تذكر لا يواري سوأة التخلّف الذي تعيش فيه أمم العالم الثالث ، ولا يشفع للمسلمين أمام الله عندما يحاسبهم على قصورهم الحضاري وتقهقرهم الصناعي.. لقد انهزم المسلمون في أحد لأنهم لم يستجمعوا المقدمات التي تنتج النصر. ولم يكن المشركون أولى بالله منهم ! إن الله وضع للنصر أسباباً كثيرة وأوجب على عباده كلهم رعايتها ، فمن أبى فلا يلومن إلاً نفسه . وهل تلاشى الوجود الإسلامي في الأندلس ، وفي غيره إلا لهذا الغرور الذي زيّن للمسلمين الاسترخاء الفكري والكسل1_144(1/133)
العقلي ، وأطمعهم ـ مع ذلك ـ في النصر ؟ كيف وهم يقرؤون فى كتابهم ( . . إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون). أما الإحصاءات التي ذكرتها عن تكاليف أدوات الدمار فهو شيء مخز حقاً ، ولكنه يمسنا قبل أن يمسَّ غيرنا . قال : كيف : قلت : إن القوم لم يدعوا شبر أرض عندهم إلا زرعوه ، ولا مدارس أو مستشفيات تحتاج إليها شعوبهم إلا بنوها. وتكليفهم أن يصنعوا مثل ذلك في أرجاء العالم الثالث موضع نظر، إن أثرتهم عمياء، واستعلاءهم خبيث، وسيقولون: لماذا نخدم قوما لا يخدمون أنفسهم ؟ قوما ينفقون على شهواتهم أضعاف ما ينفقون على وسائل الرقي والازدهار! !.. والواقع أن مصيبة العالم الثالث في ملكاته وأخلاقه أفدح من مصيبته في ثرواته وأرزاقه... والعرب اليوم يشتبكون في حرب مع المغيرين على الأرض المقدسة ، ترى كيف نصف الأوضاع العامة داخل الأرض المحتلة ؟ وكيف يطرد العرب أسرة أسرة من مدنهم وقراهم ؟ إننا نلحظ بين اليهود ما يلي : أ ـ اليهودية سلاح فعال فى الهجوم. ومواريث التوراة والعهد القديم كله والتلمود وكل الأساطير الشائعة بين القوم تستخدم1_145(1/134)
لإلهاب الحماس بين العامة والخاصة. ب ـ الأنوثة قسيمة للذكورة في بناء الدولة والمجتمع، والمرأة هي التي تحدد جنسية اليهودي إذا اختلف دين الزوجين، وهناك فرق نسائية جيدة التدريب على الحرب والسلم ورئيسة الوزراء "جولدامائير " هي التي كشفت قماءة بعض الزعماء العرب وأنزلت بهم أنكى الهزائم . جـ ـ وجهت تهمة السرقة إلى وزير الأديان " هارون أبو حصيرة " وعوقب بالسجن (!) وأعفي كذلك رئيس الوزراء "إسحاق رابين " من منصبه لمخالفات مالية لا تشين ذمته ، نُسبت إلى امرأته . د ـ في تحقيق رأت الإدارة اليهودية إجراءه لتحديد الدور اليهودي في مذبحة بيروت " صبرة وشاتيلا " أمر القاضي "كاهان " بإخراج الوزير شارون من الوزارة، ونفذ الحكم ، وإن أعاده " بيجن " إلى الحكومة بلا وزارة يشغلها. هـ ـ رأى " بيجن " أن يترك العمل الحكومي بعدما حقق لقومه أطماعاً رهيبة ، فخرج دون إحراج أو إزراء وقعد في بيته محفوظ المكانة بين بني جنسه... الخ. واليهود يصنعون أنواع السلاح ، ويبيعون ما يفيض عن1_146(1/135)
حاجتهم، ويرى المراقبون أنهم أتموا صنع القنبلة الذرية وسواء صح هذا أم لم يصحّ فهم يتقدمون صناعياً إلى حد بعيد أو إلى حدٍّ مخوف . ولا أريد أن أبحث المقابل لهذه الأوصاف بين العرب . وإنما أذكر باستغراب أن العرب في فلسطين أو في الجامعة يستبعدون الإسلام سلاحاً في المعركة ، ولو كان دفاعياً مع أنهم يترنحون تحت وطأة العقيدة المهاجمة . قلت وأنا غاضب : إذا لم يكن هذا ارتداداً عن الإسلام فهو خيانة للأوطان ! فقال لي أحد الناس إن بعض المتدينين هم السبب في هذه الطامة. المستمع إلى أقوالهم والناظر في أحوالهم يرى العجب ، لا شيء هنالك أهم من الجلباب القصير واللحية الطويلة والنقاب السميك ، والترويج لبعض النظرات في فروع الفقه وجعل بعض العادات المحلية ديناً عالمياً... أما التفوّق العلمي والصناعي فشيء لا يعنيهم. وكذلك اعتناق فهم ناضج في سياسة الحكم والمال ، لكأنهم يؤثرون الاستبداد على الشورى، والرأسمالية على العدالة الاجتماعية .. قلت له: صه. دعك من هذا المجون. إن الأشخاص الذين تعنيهم ما كان لهم وجود حقيقي يوم كان الدعاة الراشدون يتكلمون ويوجهون ، إن أولئك القاصرين دفعتهم إلى الأمام قوى محلية وعالمية تكيد للإسلام وتؤخر صحوته وتود له العنت1_147(1/136)
والبوار . . . وعدت إلى نفسي كي أستعرض الأمور كلّها، إنني خائف من انهزام الفقه أن يتقدم الأغبياء وينفردوا بالقيادة وتلك هي الفرصة المتاحة للاستعمار الثقافي كي يجهز على ديننا ويقضي على مستقبلنا. وتذكرت رسالة جاءتني من أحد طلابي الذين يستزيدون من المعرفة في الولايات المتحدة يقول فيها: "... كنت في مكتبة عامة لجامعة (...) فإذا طالب عربي يلبس جلباباً أقرب إلى أن يكون قميصاً ، وفي فمه سواك يديره أحياناً ويثبته أحياناً ، ووددت لو كانت لحيته مهذبة ! لقد كان منظره العام رسماً كاريكاتيرياً للإسلام يثير السخرية.. " إن هذه المناظر المؤذية كثيرة ، وما أرتاب في أن وراءها أصابع خفية تعمل ضد الإسلام . لقد آن الأوان ليعلم المسلمون معنى قوله تعالى : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) .1_148
أمة وارثة أم موروثة . . . ؟
مع الخلل الكبير الذي أصاب سياسة الحكم والمال عندنا. ومع غلبة التقاليد القبلية والبدوية على رقعة رحبة من المجتمع الإسلامي.. ومع الفجوة التي حدثت بين علوم الكلام والفقه من ناحية وعلوم التربية والسلوك من ناحية أخرى وظهور الطرق الصوفية الجاهلة.. ومع استخفاء قضايا حيوية مهمة وبروز قضايا هامشية تافهة.. ومع ضعف المستوى الفكري والاجتماعي لدى أعداد من المتحدثين الإسلاميين.. مع هذا، وغيره من الأسباب أخذت أمتنا تتراجع أمام خصومها وتترنح تحت ضربات موجعة ، وظهر عجزها عن تبليغ رسالتها بعد عجزها عن العمل بها بداهة.. وتبع ذلك عجز آخر أنكى وأخزى. عجزها عن صنع رغيفها الذي تأكله !! وقد قرأت أنباء ندوة الغذاء العربي التي انعقدت أخيراً في1_149(1/137)
دمشق، واستوقف بصري عنوان كبير " 77% من قمح رغيف الخبز في الأقطار العربية مستورد ! ، سنة 2000 يستورد العرب غذاء قيمته 120 مليار دولار ".. يقول المحرر : لندخل في التفاصيل. لقد وصلت تكلفة المستوردات العربية للمنتجات الغذائية سنة 1981 إلى 22.5مليار ، أي أنها تضاعفت أكثر من اثنتي عشرة مرة خلال اثني عشر عاماً . أما الصادرات في العام نفسه فلم تتجاوز 3.5 مليار دولار أي أن العجز في الميدان الغذائي وحده بلغ 19 مليار دولار.. ثم قال المحرر: إننا ننحدر عاماً بعد عام (!) فإن نسبة الاكتفاء الذاتي من الحبوب في أوائل السبعينات كانت 84% ثم هبطت في نهاية هذا العقد إلى 60% وكانت نسبة الاكتفاء الذاتي في السكر 40% وفي المنتجات الحيوانية انخفضت النسبة من 81% إلى 65%، حتى القطن الذي كان لدينا من أهم المحاصيل الزراعية انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي فيه من 240% إلى 190%.. ثم قال: "... والوطن العربي يستورد 17% من صادرات القمح العالمية، و 15% من صادرات الأرز العالمية، و 40% من صادرات الأغنام في العالم، و 53% من الصادرات العالمية لزيت بذرة القطن، و 12% من زيت عباد الشمس، و 13% من الألبان1_150(1/138)
المجففة . . " . لم هذا الاستيراد كله؟ ولماذا لا ينتج العرب ما يستهلكون؟ وما نتيجة اعتمادهم على غيرهم فيما يأكلون ؟ النتيجة نفهمها من قول وزير الزراعة الأمريكي سنة 1975 لمجلة " دير شبيغل " الألمانية : " السلطة في العالم تتركز في موردين لا ثالث لهما ، هما النفط والغذاء ، وسلطة الغذاء أشد قوة ! ولهذا يصبح الغذاء أخطر مكانة وأعظم أثراً في تعاملنا مع ثلثي سكان الأرض.. ". ونضيف نحن أن الذين يملكون موارد الغذاء هم الذين يحمون موارد النفط لضمان مصالحهم . وقد أكد أكثر من مسئول أمريكي أن الولايات المتحدة حريصة عند تقديم مساعداتها للدول النامية على أن تكون مصحوبة بشروط تحقق المصالح الأمريكية الثقافية والسياسية.. نقول ، وكذلك المصالح الصهيونية والصليبية ، فإن خصوم "إسرائيل " لا يجوز أن يحصلوا على دولار واحد ! وكذلك خصوم التبشير الاستعماري والغزو الفكري . ليس من حق صاحب اليد السفلى أن يعترض على السادة في قليل أو كثير، إلا أن يكون الاعتراض من باب التمثيل أو من قبيل الاستهلاك المحلي . إن المتخلفين صناعياً وحضارياً ليس لهم أن يغالوا بعقائدهم1_151(1/139)
وشرائعهم ، ليس لهم أن يحتفظوا بمعالم شخصيتهم ، يجب أن يفتحوا أبوابهم لكل ما هو أجنبي ، وأن يتواروا خجلاً بكل ما هو قومي أو وطني . ومما يعين على هذا الاستخذاء وجود تدين يرى إيقاع الطلاق الثالث ثلاثاً أهم من ضبط قواعد الشورى ، وأن قبول المسح على الجورب أهم من حماية المال العام والتديُّن الأبْلَه ينتشر الآن بقوة . والمطلوب منه أن يفسد الصحوة الإسلامية ، وأن يجعل من ارتداء النقاب والجلباب قضايا مصير! وأن يشعل معارك طاحنة في بحوث لاهوتية بائدة أو أحكام فقهية فرعية.. أما دعم الأركان بجهاد علمي ذكيّ وإنتاج مدني واسع ، وبناء أجيال محترمة تخدم الإيمان في ميدان التربية والارتقاء والمجتمع المتكافل والحكم المضبوط العدل.. فذاك مالا يعنيه !! إن النَّيْل من أبي الحسن الأشعري و أبي حنيفة يرضيه أكثر مما يرضيه النيل من قادة الصهيونية والصليبية !! ولا شك أن اليقظة الإسلامية مسَّها ضر شديد من هؤلاء الناس ، وأن الغزو الثقافي زحف إلى الأمام وتضاعف ربحه. ذلك أن العقل العادي يفضل المذاهب الاجتماعية والسياسية1_152(1/140)
الحديثة على الصورة القائمة التي يقدمها هؤلاء الجهال لدين الله، والتي لا تلمح فيها ظلا لحرية مصونة أو عدالة مضمونة أو قياماً على مال الله أو انفساحاً أمام حركة الفكر والإبداع أو حتى ساعات للاسترواح والاستجمام . وتقديراً للواقع نقول : إن هذا العوج بدأ من قديم ، فالأمة الإسلامية في الأحقاب الأخيرة ما أحسنت الدعوة إلى الإسلام ، ولا قدمت من نفسها نموذجاً يغري بالدخول فيه . بل لعلها نسيت رسالتها علماً وتطبيقاً ! ونسيانها لرسالتها لم يأت من انشغالها ببحوث وهوايات لها بريق، كلا، لقد عراها خلل أو عطب في بعض أجهزتها الرئيسية . وأحسب أن تلك الحال هي التي أنجحت الغزو الثقافي ومهدت أمامه الطريق ، إنه جاء بعد غزو عسكري ناجح ، سيطر على أمة كانت مخدَّرة تغشاها غيبوبة ثقيلة.. وللمنتصر كفَّته الراجحة، وأمره النافذ، فكيف إذا كان منتصراً يحمل في دمه أحقاد قرون ورغبات مجنونة في الإجهاز على دين محمد ؟ ثم كيف إذا كان مزوداً بألوان من المعرفة ، وألوان من الأسلحة على حين كان خصمه يرسف فى أغلال الجهل ، ويقوده حكام لا يعرفون من أمانات الحكم شيئاً ؟ لقد كانت هزيمتنا العلمية والحضارية بالغة الشدة..1_153(1/141)
ألقى الأستاذ خلدون حمادة محاضرة في " رابطة العالم بباريس " جاء في مقدمتها . " إن نظرة سريعة حولنا ترينا كم تأَثّرت حياتنا المعاصرة بالحضارة الغربية ، لقد استطاعت بتفوقها العلمي والصناعي أن تحتوى أغلب أنشطتنا، وأن تفرض علينا أدواتها ومنتجاتها. إننا نستعمل الهاتف ونركب السيارة والطائرة، وقد أصبحت الكهرباء والمحركات الانفجارية جزءاً أساسياً من حياتنا، ونحن نسكن في بيوت مبنية بالأسمنت على الطراز الغربي، ونأكل ونلبس بالطريقة الغربية، ونستورد أنواع الأدوية من الغرب، ونخضع في حياتنا الخاصة والاجتماعية والسياسية بل في نظم التعلم ووسائل الاتصال وقواعد العلاقات العامة للنهج الغربي، ونحن نجلب مواد الاستهلاك، وأدوات الإنتاج من الخارج، ومصانعنا المحلية تقام وفق أنماط غربية، ولا يستطيع أحد إنكار التغلغل الحضاري الغربي في كل شيء لدينا. ". وهذا الكلام صحيح كله، وإن كان يخلط بين الشئون المدنية العادية والشئون التربوية والاجتماعية، وبين الجانبين فرق كبير، هو الفرق بين مالا خير فيه، وما فيه خير. وقد مضى المحاضر في سرد تاريخي حاول فيه اكتشاف1_154(1/142)
البدايات الأولى لحركة التغريب التي صبغت العالم الإسلاميّ فيما بعد، وطبيعي أن يتحدث عن القيادة التركية للأمة الإسلامية، وكيف أن هذه القيادة أحرزت انتصارات كبيرة في عهدها الأول، ثم توقفت هذه الانتصارات مع طول المقاومة الأوروبية وعمقها ويقظتها... ومع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي أخذت الدولة العثمانية تهتز للضربات المتتابعة التي تنزل بها، وتنقص من أطرافها بل لقد اتجه الهجوم إلى قلب دولة الخلافة فانتزع الفرنسيون مصر، وكسب الأعداء معارك كبيرة... ومازالت القيادة التركية للإسلام تتهادى حتى سقطت آخر الأمر في الربع الأول من القرن العشرين، واتفق القائد العلماني التركي مع الأوربيين على إزالتها.. وأريد أن أصف الوضع الحقيقي للأمة الإسلامية ثقافياً وسياسياً ، وأن أسأل : أكنا ـ نحن المسلمين ـ أهلاً للنصر والبقاء في الساحة العالمية ؟ أكنا أصحاب رسالة سليمة ؟ أكنا على المستوى المادي والأدبي لخدمة الحق ؟ أكنا نموذجاً صالحاً للإسلام تهفو إليه الأفئدة ، وتتطلع إليه الأبصار ؟. الجواب : لا لم تكن سياسة الحكم فى الإسلام أشرف من . مثيلاتها في سائر الدنيا. بل ربما كانت أسوأ وأقل رعاية لحقوق1_155(1/143)
الإنسان، والمصالح العامة.. ولم تكن سياسة المال كذلك أعلى أو أعدل من مثيلاتها فى البلاد الأخرى، كان المال العام أشبه بالكلإِ المباح ترتع فيه الشهوات دون حرج ! وأغلب الثروات الكبرى لا يعتمد على أصول شرعية ولا يتقيد بضوابط الحلال والحرام.. وكانت العلاقات الاجتماعية تعاني من علل شتى . فشعب أشرف من شعب وقبيلة أرقى من قبيلة، وكانت المرأة متردِّية الوضع محظوراً عليها العلم وممنوعة بتة من الذهاب إلى مسجد.. أما الثقافة الإسلامية فكانت ضامرة قاصرة ويستحيل أن يتعرض الفقه الإسلامي لسياسة الحكم، والمال، أو يخوض فيما يغضب الحكام.. حسبه بعض أبواب العبادة الفردية.. ثم هو في شئون الأسرة والمعاملات العامة سجين أقوال لم يحالفها الصواب باستمرار، ومع انغلاق باب الاجتهاد، والتعصب المذهبي كاد الفقه الإسلامي يعجز عن قيادة المسلمين.. وشاعت بين المسلمين خرافات وأوهام نالت من عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم، وترك هذا كله أثراً محزناً على العقل الإسلامي كاد يصيبه بالعمى في الشئون الدنيوية، وفي العلوم1_156(1/144)
الكونية والإنسانية... وكانت نتائج هذا التخلف ما لحق بنا من كوارث، وما أنزل الاستعمار العالمي بنا من ويلات. إن طرد المسلمين من أماكن القيادة العالمية لم يكن ظلما نزل بهم، بل كان العدل الإلهي مع قوم نسوا رسالتهم وحطُّوا مكانتها وشابوا معدنها بركام هائل من الأهواء والأوهام في مجالَيْ العلم والعمل على سواء (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم …) . ولم يكن أعداء الإسلام نياماً ! لقد انتهزوا الفرصة ، وبلغوا ما بلغوا...!! وأحب أن أحدد الأوضاع السليمة لعلاقاتنا بديننا ، كما أحب أن أحدد الأوضاع السليمة لعلاقتنا بدنيا الناس.. إن أولي الألباب يرفضون أن تكون العودة إلى الإسلام عودة إلى الأيام العجاف من تاريخه، ويرفضون أن تكون هذه العودة امتداداً لتعصب في فقه الفروع ينصر مذهباً على مذهب أو قولاً على قول مع تجاهل الآثار الاجتماعية لهذا التجميد. إن الإسلام دين مضبوط الأصول محكم الشرائع، ولا نقبل أن يعبث به المعلولون ووعاظ السلاطين، هواة الاستبداد السياسي، دين مضبوط الأصول محكم الشرائع . أما صلتنا بالدنيا فيجب أن تتسع دائرتها إلى أبعد الحدود ،1_157(1/145)
وأن نهجر أخطاءنا إلى صواب غيرنا، وألا نستحي من التعلّم والاقتباس، وأن نحث الخطى إلى الأحسن حيث كان في شرق أو غرب.. إنني شخصياً أستحسن نظام المائدة الغربي على نظامنا الشرقي ، وأرى كثرة الأطباق والأكواب والملاعق أفضل من طبق واحد وكوب واحد، وأستغرب إقحام الإسلام في هذا الشأن التافه.. وفي ميدان الوسائل المرنة للأهداف الثابتة أرى أن خدمة مبدأ الشورى بالوسائل الغربية أفضل من خدمته بالوسائل العربية... أما في ميادين الزراعة والصناعة فإن تخلفنا البادي يفرض علينا أن نكون تلامذة ، وأن نطلب هذه العلوم من الغرب أو الشرق على سواء... ومحمد علي باشا ـ رأس الأسرة المالكة السابقة ـ لم يخطئ حين أرسل البعوث إلى أوربا لنقل تفوقها الصناعي والعلمي، وإنما أخطأ أفحش الخطأ حين جعل ذلك لخدمة أطماعه في إقامة دولة علوية، يملك فيها مصر هو وأسرته من بعده. كما أخطأ حين تجاهل الإسلام، ورنا ببصره إلى فرنسا ينقل منها التشريع والتقاليد.. وخطيئة محمد علي باشا تبعه فيها زعماء معاصرون يدَّعون التقدمية ، وأدباء صحافيون من أمثال طه حسين، ورؤساء ثورات1_158(1/146)
عسكرية ظاهرها التحرر، وباطنها التبعية الكافرة للغرب الصليبي أو الشرق الشيوعي.. من قال: إن تصحيح أخطائنا المدنية يتطلب ترك الإسلام؟ إن هذا منطق العاملين لمصلحة إحدى الجبهتين الكبيرتين، وليس منطق العاملين لأمتهم بأية حال… نحن نرفض استيراد الإلحاد والتحلل باسم استيراد العلم والمدنية! ما علاقة هذا بذاك ؟ جهدنا يتوزع على جبهتين متوازيتين، إحداهما تقوم على تصحيح الوعي الديني والأخرى تنعشنا من الإغماءة الطويلة التي غبنا فيها عن الدنيا ، فبقينا فى موضعنا وغزا غيرنا الكواكب.. وأعرف أن الغزو الثقافي سوف يحاول مخادعتنا عن عقائدنا وشرائعنا ، وربما ظن أنه يبيعنا تقدمه الصناعي باستلاب تراثنا كله ، وتحويل المسلمين إلى شعوب باحثة عن الطعام والجنس ، زاهدة في الوحي الذي شرفها الله به... ودون هذا الموت. وقد وضع الأستاذ خلدون حمادة أربعة شروط للاستفادة من الحضارة الغربية ، ختم بها محاضرته التي أشرنا إليها، ونرى إثباتها هنا : 1ـ يجب أن يتم الاقتباس بشكل إرادىٍّ واع ، وعن طريق الانتقاء1_159(1/147)
لما يلائمنا، فنأخذ ما نراه أوفق لنا وندع غيره ، ونضع ما نقتبسه في مكانه الصحيح من حياتنا . 2 ـ ولنعلم أن الاقتباس يتم لمصلحة المقتبس لا لترسيخ قدم المقتبس عنه ، وتمكينه من أعناقنا، كما يأمل الاستعمار الثقافي. 3ـ أن يقع ذلك على جرعات متراخية ، ونظام رتيب ييسر النفع ويمنع الأزمات الحضارية ، والاختناقات الاجتماعية ، وعقد النقص التي قد تعتري المقتبسين. 4ـ ولا بأس بين الحين والحين أن نراجع ما قلنا وما أفدنا، وأن نحسب مدى الربح والخسارة في هذا التلاقي الحضاري ، وذلك على ضوء ما نقدس من كتاب ربنا وسنة نبينا. لقد سبقتنا اليابان إلى هذا اللون من الاقتباس ونجحت. واستطاع الشيوعيون أن يستفيدوا من العلم الغربي ، مع بقائهم أعداء للرأسمالية الغربية ، واستطاع الأوربيون في العصور الوسطى أن يأخذوا العلم عن آبائنا ، فأخذوا كل شيء ، ونقلوا إلى بلادهم مكتبات ملأى بنفائسنا ، وأحسنوا الانتقال إلى عصر الإحياء... ثم استداروا إلينا ليستعبدونا... ونحن يجب أن ندفع ضريبة تكاسلنا ، وما يفكر في الانتحار الأدبي إلا أحمق.. والناس تقسم طلاب الإصلاح في عصرنا إلى قسمين :1_160(1/148)
المحافظين على القديم والمتطلعين إلى الجديد ـ وهذه قسمة ساذجة ـ وقبل أن نعترف بها نريد أن نسأل المحافظين: ما الذي تحتفظون به؟ ما كل قديم يستحق البقاء! ونسأل المتطلعين إلى الجديد: ما الذي تريدون اقتباسه أو نقله ؟ فما كل جديد يستحق الاحترام ! إن ولاء المسلم لشيء واحد ، هو الوحي الأعلى ! أما ما ألقاه الشيطان فى هذا الوحي فهو دبر آذاننا وتحت أقدامنا ، وسيتحقق فيه الوعد الإلهي (……فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) . وكذلك ما استحدثه فلاسفة المذاهب الحديثة وزاحموا به الإسلام فى دياره ، منتهزين غفلة أهله وجمود فقهائه وزيغ ساسته إن هذا كله لا قيمة له ، ولا يصرفنا عن كتاب ربنا وسنة نبينا…!! والفزع الذي أشعر به هو من الصور المنكرة التي يعرض بها الإسلام في أحيان شتى... قال لي صديق: إن امرأة متدينة دخلت مستشفى كبيراً لجراحة تحتاج إليها ، واقتضى الأمر أن تكشف عليها طبيبة مختصة ، وأبت المرأة أن تضع النقاب عن وجهها ، لأن الفتوى التي صدرت لها أن المرأة الأجنبية لا يجوز أن تطلع على وجه مسلمة !! وعلمت أن مفتي الغبراء يرى أن الوجه عورة ، وأن الكافرة لا1_161(1/149)
يجوز أن ترى عورة مسلمة فهي كالرجل الأجنبي في التحريم قلت في نفسي: ما يكون رأي الطبيعة في ديننا ـ والحالة هذه ؟ إنه دين فرض على النساء الأمِّية ، فلما انكسر هذا الحاجز بضغط الحضارة ، حرم كشف الوجه ، ثم حرم دراسة الطب فلابد فى هذه الدراسة من مخالطة متخصصين . وها هي ذى المريضة المسلمة ترفض أن ترى وجهها امرأة على غير دينها . أليس هذا الغرض هو الذي يفتح الباب على مصراعيه للغزو الثقافي الذي يجتاح الدين من أصوله ، ولا يحترم له تشريعاً..؟ هناك محافظون كثيرون من هذا النوع المدمّر حوَّلوا الإسلام كله إلى قضايا من ذلك النوع العجيب.. ونسوا كل ما يحيط بالأمة الإسلامية من عجز مادي وأدبي ، ومن سلبيات أغرقتها فى الديون وأحوجتها إلى الرغيف ، يصنعه لها أو يمُدُّها بقمحه أتباع الأديان الأخرى . ومتى يقع ذلك ؟ فى يقظة من الدعاية النصرانية العارية لإحلال التثليث محل التوحيد ، وعقيدة الفداء مكان المسئولية الشخصية ، والكنيسة بدل المسجد.. وقد كتب الدكتور نجيب الكيلانى مقالاً في مجلة الأمة جاء فيه : ولم يقع الأدب التنصيرى في السذاجة والسطحية ، فقد1_162(1/150)
استخدم الإمكانات الفنية المتاحة له ، والمجربة في بلاده ، بدهاء وحنكة بالغين ، فمزجت فنونه السم بالدسم كما يقال ولجأت إلى التلميح بدلاً من التصريح ، واستخدمت الرمز وألوان الإثارة والتشويق، ونأت بجانبها عن السرد الأجوف، والتعبير المباشر الممل، ووظفت الإيحاءات توظيفاً ماكراً ، ورسمت حركة الحياة والأفراد وأنماط السلوك، رسما يتفق ومعتقداتها، ويبعد بها عن النماذج الإسلامية العريقة، وأغرقت في إبراز المنعطفات الإنسانية، ورقة المشاعر والأحاسيس، وتبنت تبرير ضعف الإنسان، والعطف على آلامه وأحزانه، وأكدت تأكيداً شديداً ونهائياً على ضرورة الالتزام بالرضوخ والاستسلام واتباع الأساليب السلمية وحدها، مع البشر كافة، خاصة مع القوى الغاصبة المستعمرة، ومازلت أذكر رواية " إبك يا بلدي الحبيب " التي كتبها أحد القساوسة الأفريقيين ونال عليها جائزة كبرى من الجوائز العالمية، وترجمت إلى العربية منذ سنوات طويلة، ولم تخرج الرواية في مجملها عما أبديناه من مواصفات للأدب التنصيري في السطور السابقة، وهي بلا شك رواية مؤثرة إلى أبعد حد. والواقع أن القصة كانت المجال الخصب للدعوات التنصيرية في كل مكان، حتى في روايات " دراكولا " ـ مصاص الدماء ـ نجد في أحدها الضحية في آخر الفيلم، وهو يدفن في حفرته، نراه بعد ذلك أهيل عليه التراب ، يرفع يده بالصليب..1_163(1/151)
وهذه الروايات التنصيرية في عمومها تتخذ منهجاً خاصاً ، يمكن أن نوجزه في الآتي : * أولاً : مكان الحادثة ، يبدو لأول وهلة مكاناً متميزاً غريباً ، يشد الانتباه ، ويقبل عليه الصغار والكبار، والنساء والرجال على حد سواء، وقد يكون هذا المكان في غابات أفريقيا حيث الوحوش المختلفة، والطيور ذات الألوان الغريبة، والقبائل ذات التقاليد والأعراف التي تلزمك بالإصغاء والانتباه، والأحداث المنتقاة المميزة ، والحركة الموارة الدائبة . * ثانياً: تصور القساوسة والرهبان ورجال الدين بصورة ملائكية فريدة، فهم يخوضون الأخطار دون خوف، ويقتحمون المشكلات في حلم وروية، ويتسمون بجمال الملامح، ورقة المشاعر، وجلال المظهر، وتألق الثياب، وانتقاء الكلمات الحلوة المؤثرة، والتعاطف البالغ، دون أن يأنف أحدهم من القيام بعمل من الأعمال مهما كانت طبيعته. * ثالثاً: كما يتصف " رجل الله " بالصبر والحلم وتقديم التضحيات دون مقابل كما يقال ـ ولا تُيَئّسه الهزائم ، أو تنال من عزمه النكبات.1_164(1/152)
* رابعاً: يحرص أبطال القصة الدينيون على تلمس مشكلات المجتمع، والاحتياجات الملحة للناس، ويقومون بسد النقص، وتقديم الخدمات، فنرى في العمل الأدبي، كيف ينشئون المدارس الصغيرة، ويقيمون المستوصفات المبسطة للرعاية الصحية، ويعقدون الاجتماعات الدينية للدروس والعبادة، ويلتقطون الأطفال أومن يثبت إخلاصه من المواطنين ليفسحوا لهم طريق النجاح والأمل والحياة السعيدة، ويساهمون في التخلص من الآفات والحشرات، ويشرحون لهم الوسائل الحديثة في الزراعة والتجارة والحرفة اليدوية وما إلى ذلك . * خامساً: تقديم المنح والمساعدات الدراسية لمن يلتحق بركبهم، وإبرازه في صورة الإنسان المتحضر الواعي، والذي تغيرت حياته تغيراً جذرياً لسبب رئيسي واحد ألا وهو اعتناقه للنصرانية. * سادساً: التنفير من الانحرافات بأسلوب فني ناجح، وتجنب الصدام في البداية مع العادات والتقاليد العتيقة، ومعالجتها بأسلوب رقيق ماهر . * سابعاً: تسليط الضوء على نماذج من الرجال والنساء يضحون1_165(1/153)
بحياتهم، ويبذلون دماءهم من أجل سعادة الإنسان ورقيه، وجعل تلك النماذج مثلاً يحتذى في التضحية والفداء ؟ ودفع المتلقي للتشبه بهم ، والسير على منوالهم ، بل تسمية أبنائهم بأسمائهم . * ثامناً: يعمد الكتاب التنصيريون أساساً إلى البساطة في الأسلوب ، مهما كان المعنى عميقاً ، وتجنب التعقيد والغموض ، ولا يلجأون إلى غرس بذور البلبلة إلاً في المجتمعات التي يجدون صعوبة في النفاذ إليها ، كمرحلة أولى . * تاسعاً: النيل بطريق غير مباشر، من مختلف العقائد والديانات المنافسة ، وإظهارها بمظهر الانحراف والجمود والدجل ، وتقديم نماذج قصصية أو مسرحية تبلور هذا التصور بطريقة حية مؤثرة. * عاشراً: التغني بالقيم العليا التي يحلم بها المستعبدون ، والذين أنهكهم الخوف والفقر والجهل والإهمال ونقصد بها قيم العدالة والحب والخير والإخاء .. الخ قرأت هذه الكلمات عن أدب التنصير ثم غصت في لُجَّة من الأفكار والذكريات والموازنات ..1_166(1/154)
إن الفكر الاشتراكي بنى له دولة مرهوبة ، ومهد له الطريق دعاة حاذقون مهرة ، فمدُّوا رواقه إلى القارات الخمس، واستهووا به الألوف المؤلفة من الناس . . وقد استطاع رجال الكنيسة أن ينسوا أقطار الغرب مأساة العلم معهم ، كما استطاعوا أن يواروا الثغرات الواسعة في تعاليمهم . وباللباقة وحسن التأني إلى الأمور قادوا حملات صليبية جديدة أنكى وأسوأ من حملات العصور الوسطى . . . أما دعاتنا . . . فأغلبهم نكبة على الإسلام وقذى في عينه . إنهم لا يقرءون ، ولا يعانون ، والقليل من الحقائق لديهم لا يضعونه موضعه الصحيح ، وعلل الأمة لا تلقى منهم أساة ولا بكاة لأنهم مشدودون إلى جدليات الماضي السحيق . . . ولا يدركون ماجدَّ حولنا ولا الطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة على أرضنا .. وإذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أول مراحل الطريق ، فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد ، أو يلبِّي حاجات الحق . . . العالم الإسلامي اليوم منهوب منكوب ، برّحت به علل الداخل وفتن الخارج ، وهو فقير إلى دعاة من طراز جديد ذوي علاقة ذكية قوية بكتابهم ونبيهم ، وبالعالم الذي نعيش فيه وما يمور به من قضايا . .1_167
فإذا لم نعِ هذا فلنعِ قوله تعالى : (……والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) .1_168(1/155)
قصة قديمة جديدة . . ..
العلماءالدعاة حين يعترضون الأمراض الاجتماعية المتوطنة يتعرضون لبلاء شديد، وكذلك الحال حين يتعرضون للغزو الثقافي، ويوقفون امتداده ثم يستأصلون جرثومته. وسبب الضّر مختلف هنا وهنا.. فالعلل المتوارثة لها سَدَنَة أشدّاء يتعصبون لها ويقاتلون دونها، ويتعامَوْن عن البديل الأفضل، وينطبق عليهم القول الكريم : (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) . والحق أني وجدت سلطان العرف باطشاً ، ووجدت علماء يصرفون النصوص عن ظاهرها لتبقى التقاليد السائدة ، وقد يخاصمون ببأس شديد لاستبقاء وضع موروث ، لا دليل له إلا أنه موروث . أما ما استحدثه الغزو الثقافي من أباطيل ، فهو ينطلق في مهرجان من التقدم العلمي والتفوق الحضاري ، وتنهض لأخطائه أعذار ولعوجه حجج.1_169(1/156)
قصة قديمة جديدة . . والخطر الكبير على الدعاة حين يكشفون الأصل الشيوعي أو الصليبي لما يرفضونه من مناهج ومسالك ، إن البلاء ينصبّ عليهم من سماسرة الضلال الوافد ، ومن القوى المساندة لهم أعني من الشيوعيين أو من الصليبيين . . عندئذ تهدر حقوق الإنسان ولا يجأر أحد من المتحدثين عن هذه الحقوق. وتدفن عشرات الألوف من الجثث تحت الأنقاض ، ولا تسمع شكاة لأيم أو يتيم أو ثاكل . وقد رأيت نكبة " حماة " ومصارع الألوف والألوف في صمت خسيس ، ورأيت مقتل حسن البنا ، وبعض الأهل والنسوة يحمل جثمانه لأن الشرطة تطارد المشيعين. إن حُماة الإسلام في تلك الظروف العصيبة يجب أن يكونوا من طراز غير عاديّ لأن الضرّ النازل بهم غير عاديّ . وقد قرأت هذه القصة ، ورأيت نقلها. والذي أذكره أن قلم مصطفى صادق الرافعي هو الذي صاغها وعرض حقائقها التاريخية الثابتة بأسلوبه المتميز، وإن كان الكتاب الذي بين يديّ أغفل ذلك ، وسأترك عبرتها تأخذ طريقها إلى القلوب ثم أعقب بما أرى. كان الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن محمد بن علي بن دقيق العيد لا يخاطب السلطان إلا بقوله : " يا إنسان " ما يخشاه ولا1_170
(1/157)
يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء . وكان هذا عجيباً ، غير أن تمام العجب أن الشيخ لم يكن يخاطب أحداً قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه: " يا إنسان " فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين ولا يرى أحسن ما في هؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية . ثم كان لا يعظِّم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء ، فإذا خاطب منهم أحداً قال له: (يا فقيه) على أنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين بن الرفعة ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله: (يا إمام) إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة، لا يكاد يقاطعه أحد في المناظرة والمباحثة . فهو كالبرهان إجلالُه إجلال الحق لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.. وقلت له يوماً : يا سيدي ، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة ؟ فإن عَلَوْتَ قلت (يا إنسان) وإن نزلت قلت له يوماً : يا سيدي ، أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع ، وخصّه أهل النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها . ثم جعله المُلك إنساناً بذاته لا يشعر بالوجود إلا فى وجود ذاته . حتى أصبح فى غيره كالجبل والحصاة، يستويان في العنصر ويتباينان في القدر وأقله مهما قل هو أكثرها مهما1_171(1/158)
عظمت ، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر!. فتبسم الشيخ وقال : يا ولدي. أيش هذا؟ إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها فى نفسه لا بمعناها فى نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه . ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً ، ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه . فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود ، والمنافق رجل مغطّى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطى، فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة. وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل ، فإذا نافق فقد كذب . والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغش وخان. وما حقيقة العلماء بالشرع إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهراً بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها فهي أداة لإظهار جماله معاً. أتدري يا ولدى ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف ؟ إن أولئك فى أخلاقهم كاللوح من البلور يُظهر النور نفسه فيه ويُظهر حقيقته البلورية ، وهؤلاء1_172(1/159)
بأخلاقهم كاللوح من الخشب لا غير . وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها ، فيسهل عليه أن يتأوّل ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي ، ولكن العالم الحق يفكر في كتب الشريعة وفي صاحب الشريعة ، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل ؟. وماذا تقول ؟ . والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم بخلق جديد يناسب حوادث اليوم ، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه : هم يعطونني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك. إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه فهو زائف كله ، وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم فينزلون بذلك منزلة البهائم : تقدم أعمالها لتأخذ لبطونها. والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله . فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة ، أو رقة فسمِّها الضعف ، أو محاسنة فقل إنها النفاق أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها .1_173(1/160)
قال الإمام : وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة ، فلا يبالي هلك فيه أو عاش، إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره، ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام الحياة القوة التي لا تغلب، وانتزع خوف الدنيا من قلبه فعمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف، وكان بهذه الروح كأنه أداة تحويل وتبديل في طباع الناس حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلق في جنازته حين مرت تحت القلعة : الآن استقر أمري في الملك ، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لانتزع مني المملكة . وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجراً ، فأتبعه الصالحُ بعضَ خواصه يتلطف به ويقول له : ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا أن تخشع للسلطان وتقبّل يده ، فقال له الشيخ : يا مسكين. أنا لا أرضى أن يقبّل السلطان يَدِي. أنت في وادٍ وأنا في وادٍ . ثم قدم إلى مصر في سنة 639 ، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتحفّى به وولاه خطابة مصر وقضاءها ، وكان أيوب ملكاً شديد البأس ، لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيباً ، ولا يتكلم أحد1_174(1/161)
بحضرته ابتداء، وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم، وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر، فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويُظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه : فناداه الشيخ بأعلى صوته ليسمع هذا الملأ العظيم : يا أيوب ! ثم أمره بإبطال منكر انتهى إلى عمله في حانة تباع فيها الخمر ، فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة واعتذر إليه فحدثني الباجي قال : سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر فقلت : يا سيدي ، كيف كانت الحال ؟ قال يا بني ، رأيته فى تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره فكان ما باديته به ، قلت : أما خفته ؟ قال : يا بني ، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط ولو أن حاجة من الدنيا فى نفسي لرأيته الدنيا كلها، بيد أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس ، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا ، بل هو لاشيء فى صورة شيء . نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكان الكلمة الصحيحة أو طمْسها أو تحريفها ، فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها، فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى ، فلا خوف ولا مبالاة ، ولا شأن للحياة والموت .1_175(1/162)
وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم بحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلا مزوراً في صورة الحق، وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى وترجو الحياة لنفسها وتخشى، فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف . كلا يا ولدي. إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفككت أو احتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخزه ؟ ففكر شيخنا فى هؤلاء الأمراء وقال : إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن، وإن كان قبيحاً فى ذاته ولا أقبح منه ، ويرون كل قبيح عندها هو القبيح وإن كان حسناً ولا أحسن منه . وقال : ما معنى الإمارة والأُمراء ؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله، وكان ينبغي أن تكون هذه الأمارة أعمالاً نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها فى الضعفاء1_176(1/163)
بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس . وفكر الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، ويجب شرعاً بيعهم كما يباع الرقيق . بلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم، ثم احتدم الأمر وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع لا بإزاء القاضي ابن عبد السلام. وأفتى الشيخ أن لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة ، وأنه لا يصح لهم شيء من هذا حتى يباعوا ويحصل عتقهم بطريق شرعي. ثم جعلوا يتسببون إلى رضاه ، ويتحملون عليه بالشفاعات، وهو مُصِر لا يعبأ بجلالة أخطارهم ، ولا يخشى اتسامه بعداوتهم ، فرفعوا الأمر إلى السلطان ، فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه . واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه ، وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه ،وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه ، وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي . وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبال بالسلطان ولا كبر1_177(1/164)
عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر، فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي . وصار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به ، واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك . فارتاع السلطان فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع من غضب الأمة وأطلق له أن يأمر بما شاء وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه أو أنه لبس طيلسان العلماء كما يُلصق الريش على حجر في صورة الطائر . ورجع الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل امرئ في القاهرة ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي . وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه فلم يعبأ الشيخ به فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس1_178(1/165)
ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه ؟. إنه طالب آخره، إنه يفقد ما لا يملك إلا الله ، فلا جرم ولا يبالي ولا يرجع عن رأيه مادام هذا الرأي لا يمر في منافعه، ولا في شهواته ولا في أطماعه كالذين نراهم من علماء الدنيا، أما والله لأضربنه بسيفي هذا حتى ننتهي منه فما يموت رأيه وهو حي على ظهر الأرض. ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه وقال له: انج بنفسك. إنه الموت، وإنه السيف وإنه وإنه . فما اكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير بل قال له: يا ولدي ، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله . وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت فليس فيه الرجل الإنساني بل الرجل الإلهي ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب اليد فيبست ووقع السيف منها . وتناوله بروح قوية فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسرَّ من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ . وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له ، ثم قال : يا سيدي ما تصنع بنا ؟ قال الشيخ : أنادي عليكم وأبيعكم ـ وفيما1_179(1/166)
تصرف ثمننا ـ في مصالح المسلمين ـ ومن يقبضه ؟ـ أنا. وكان الشرع هو الذي يقول " أنا " فتم للشيخ ما أراد ونادى على الأفراد واحداً واحداً واشتط فى ثمنهم لا يبيع الواحد منه حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه ليشتروه . ودفع الظلم والنفاق والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع : أمراء للبيع... أمراء للبيع... حسناً فعل العز بن عبد السلام، وإن كان لي رأي آخر في شأن المماليك كله. إن تصرفه جميل لأنه قَمَع الغرور ومحا المظالم وأدّب المتطاولين وأعز المنكسرين وأبرز حقيقة الدين، وانتقل بالدعوة الإسلامية من تدريس نواقض الوضوء في المساجد إلى تدريس نواقض العمران والأخلاق والإيمان في دنيا السياسة ، وأرجاء المجتمع . وعز الدين بن عبد السلام الذي لقِّب بسلطان العلماء أهل لهذا المسلك العالي لأنه رجل أصيل في فقهه ودعوته أمين في اقتدائه بسيد الدعاة الهداة ، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه . ولنعد إلى شأن المماليك. الذي أراه في قضية الرقيق على الإجمال ، أن جمهرتهم أحرار . وأن العصابات التي اختطفتهم1_180(1/167)
وباعتهم كانت تتاجر في أحرار . . وهؤلاء الرجال المختطفون قامت لهم دول في مصر، ذات تاريخ أشرف في جملته من تاريخ " بعضهم " من الأشراف أهل النسب. إن " قطز " المملوك المؤمن الشجاع الغيور أعظم رجولة وأضخم بطولة من الخليفة العباسي المنتسب لبني هاشم الذي انهزم وقتل في بغداد ذليلاً . و " جلّنار " امرأة قطز وشهيدة عين جالوت ، التي قُتِلَتْ مدافعة عن زوجها ـ بطل الإسلام في ذلك اليوم العصيب ـ أشرف وأعزّ من عقيلات قرشيات اختبأن في فرشهن لا يصنعن للإسلام شيئاً . إن الحساب الإلهي يجتاز الصفات والمراسم والمظاهر، وينظر إلى النفس البشرية مجردة عن كل هذه الملصقات المجلوبة! وعندما ذكر اليهود أنهم أبناء الأنبياء، قال القرآن الكريم مستنكراً: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) . النفس الإنسانية وحدها ، مجردة من كل شيء عارية إلا من حقيقتها . هي التي تحاسب ، فإما رسبت ، وإما علت .1_181(1/168)
إلا أن العبيد ـ أو بتعبير دقيق المستعبدين ـ كثيراً ما ينسون الماضي ، ويحلو لهم أن يتحولوا فراعنة ، وأن يمارسوا البطش الذي طالما شكوا منه . . وما أغرب رعونات البشر ! في ثورات " التحرر " التي اندلعت في الشرق العربي أخيراً ، وصل أبناء العمال والفلاحين إلى قمة السلطة ، ووقع بأيديهم صولجان الملك ! فماذا حدث ؟ لو كان فرعون فى قبره يستطيع الضحك لضحك من أفعال خلفائه أبناء الفلاحين والعمال ؟ كان بطشهم أفتك ، وأنفهم أشمخ، وسيفهم أقطع، ونارهم أحمى وأضرى. ولم يكن هناك نموذج آخر للعز بن عبد السلام يذكر الطغاة بماضيهم ويردهم إلى أصولهم ويعظهم بما يقصم غرورهم. إن العز بن عبد السلام كوى المتفرعنين بأن عرضهم على الشعب المظلوم في صورتهم الأولى ، فرأى الناس أمراء اليوم وعبيد الأمس يباعون في الأسواق ، وتطير عنهم مراسم الاستبداد. ترى : أتشهد الجماهير المهيضة مزاداً آخر من هذا النوع الفريد ، يعرض فيه رؤساء للبيع ؟. لا لقد انتهى بيع الرقيق نريد ساحة أخرى يتعرى فيها الطغاة من أسباب البأس ، ويعاملون فيها بما قدموا سِنًّا بِسِنٍّ ، وعيناً بعين ، ونفساً بنفس .1_
182
نباتات سامة في حقول الإصلاح(1/169)
راقبت النشاط العقلي المجرد في ميادين لا علاقة لها بعالم الغيب ولا بمصادر المعرفة فيه فأعجبني هذا الجهد المتصل في دراسة المادة وقواها وأسرارها، واحتفيت بالثمار اليانعة التي عاد بها، وقدمها للناس.. وراقبت ـ في الوقت نفسه ـ هذا النشاط وهو يدرس الإلهيات والإنسانيات فأنكرت بعضاً وأقررت بعضاً ، وذلك وفق ما بلغني أنباء الوحي . فأنا امرؤ مسلم أعرف رسالات ربي وأستيقن من صدقها ، وأعرف كذلك ما لدى غيري وأحتفظ برأي فيه، وليس فيما أقوله جديد، بل شأني هذا شأن كل مسلم . بيد أني ـ وأنا أتابع مسالك الناس ـ لم أحترم قط أشخاصاً أحبوا أن يفرضوا أنفسهم على الدين، وليسوا من الله في كثير ولا قليل. قديماً رأى " مُسَيْلمة " أن يكون شيئاً (!) فما وضع فلسفة كأرسطو ، ولا اخترع جهازاً كأديسون ، بل زعم أنه نبي يوحى إليه ، وظن المغفل أنه يدرك المجد بهذا الدّجَل ، فلم يدرك إلا1_183(1/170)
القاع ، وبقى اسمه إلى الأبد رمزاً للكذب . وتتابع الكذابون في عصور مضت ، فإذا أناس لا أثر لهم في ميادين الفلسفة ولا أثر لهم في مجالات العلم ، ولا ثقة بعقولهم في شيء طائل يقتحمون ميدان الدين، ثم يزعم هذا أنه نبي بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويزعم ذاك أن الله قد حلّ فيه ، وأنه مجلى لبهائه!! وظاهر أن الاستعمار العالمي أراد الكيد للإسلام ، والنيل من تعاليمه ، فاستغل هذه " المانيخوليا " عند أصحابها ، وروّج لها واعتبر أصحابها مؤسِّسي أديان ومحدثين عن الله ، وساندهم بدهاء وإلحاح ، فكان له ما أراد أو بعض ما أراد . . وأعان الاستعمار على ما اشتهى هبوط المستوى العلمي في أقطار كثيرة ، وتحوّل الدين إلى قشور وأوهام بين الدهماء وقلة الفقهاء الواعين، وكثرة الحكام الجائرين.. وعندما شرع المسلمون يفيقون من غفلتهم، ويثوبون إلى رشدهم ، ويدمغون الكهان الجدد لاحقهم الاستعمار بنفر آخرين، هم امتداد للنبوات الكاذبة في العصور السابقة. يفرض هؤلاء أنفسهم على الإسلام ، بغية الإجهاز عليه من داخله ، لا شيء لديهم من علم أو فلسفة إلا ما ورثوه عن مسيلمة وغلام أحمد وبهاء الله ، مزيج من الماليخوليا، والجراءة والكهانة والادعاء.. هذا دجال ظهر في السودان يأخذ القرآن المكي ويرفض القرآن1_184(1/171)
المدني ، ويوفر له الأمن سنين عددا !! وهذا دجال ظهر في مصر يقبل الكتاب ولا يقبل السنة.. وبديه إن كلا الشخصين لا يعتمد في مزاعمه على إسناد علمي ، ولا ينجح في مقارعة حجة بحجة. ماذا تقول لمسيلمة أو لسجاح أو لطواغيت القاديانية والبهائية ، أو لطلائع الغزو الثقافي الذين يقسمون الوحي قسمين فيمسكون قسما ، ويطرحون قسما؟؟ هناك منطق عقلي أو تجريبي يحكم المقولات الفلسفية والقضايا المادية ، أما هؤلاء فمنزع آخر تسيره أمراض نفسية ، واضطرابات ذهنية ، ونوع من الجنون المقدس أو عبادة الذات، وعلى الدهماء أن تسمع وتطبع . . وتعاليم الإسلام في هذه الأيام تهبّ عليها رياح صفراء من مصادر جديرة بالتفرُّس والحذر.. وغايتها لا تخفى علينا، إنها الإطاحة برسالة محمد كلها تحت عناوين مفتعلة، الاعتماد على القرآن واطراح السنة! الاعتماد على القرآن المكي وترك القرآن المدني! تعطيل نصوص قائمة قد تكون عبادية كشريعة الصيام فيقال: الصيام يضرّ الإنتاج فلنلغ رمضان! وقد تكون معاملات اجتماعية كأنواع الحدود والقصاص ، فيقال : إقامة هذه العقوبات تكثر العاهات وتشيع البطالة فلنتجاوزها إلى ما هو أعدل منها وأرعى للصحة العامة!!1_185(1/172)
وقبل أن نتحدث عن هذا البلاء، ونكشف مَنْ يستخفي وراءه ، ويضاعف طنينه ، ويحمي أصحابه ، نريد إلقاء نظرة عجلى على أحوال أمتنا قبل أن تتعرض للغزو الثقافي والعسكري بشقَّيْه الشيوعي والصليبي . . إن المسلمين من بضعة قرون ـ كما أكدنا مراراً ـ ينحدرون ثقافياً وسياسياً ، وقد طلع عليهم العصر الأخير وهم جمهور العالم المتخلف حضارياً واقتصادياً . . ولو أن أي غيور قال للمسلمين : إن جهلكم بشئون الدنيا شديد وإنكم بهذا الجهل خذلتم كتاب ربكم وسنة نبيكم، وعصيتم تعاليم الإسلام التي تنتمون إليه.. لقلنا له: صدقت. ولو أنه قال للمسلمين : إن التقاليد الاجتماعية السائدة بينكم تنبو عن تعاليم الإسلام وتجافي الحلال والحرام في المال لم تصل إلى مستوى مثيلاتها عند غيرنا لقلنا له: صدقت. ولو قال : إن الإسلام الحق وهب للعرب حياة بدل الموت، ونوراً بدل الظلمة ، وإنهم لما تنكروا له فقدوا أسباب مجدهم ، وتكسَّرت الأجنحة التي بها يصعدون لقلنا له: صدقت. لكننا نسمع اليوم صياحاً مستغرباً منكوراً لأناس يتحدثون فى تراثنا الديني فتعجب لما يتصفون به من جراءة وجهالة..1_186(1/173)
تصور إنساناً تقول له : إن علماء البيان أحصوا القرائن التي يكون بها المجاز لغوياً أو مرسلاً فيقول لك : لا تصدق، فهؤلاء جهال ، ولا مجاز في اللغة العربية . أو تقول له: إن علماء النحو قرروا أن " كان " ترفع الإسم وتنصب الخبر، أما " إن " فعلى العكس، فيقول لك: اسم " إن " مسند، وحقه الرفع ، وكلام النحاة جهل .. أو تقول له : صيغة الأمر عند علماء الأصول تدل على الوجوب، وقد تكون للندب، وقد تحيط بها ملابسات تجعلها لمجرد الإباحة ، فيقول لك : هذه اصطلاحات وهمية . ولسنا ملزمين بهذه التفاسير ، ومن حقنا أن نفهم النصوص وفق ما نرى . ولقيني دَعِيٌّ من أدعياء المعرفة وقال لي: لست ألقي بالاً للأحاديث التي تروونها عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي دون استثناء من وضع الرواة . فقلت له : إن سنة محمد جزء من التاريخ العام للبشر كلهم، فلماذا تدرس التاريخ وتصدق أخباره ، ثم تستثني هذا الجزء وحده منه، مع أنه أقوى إسناداً وآكد خبراً ؟!. إذا نقلت " برافداً " خبراً عن حكام موسكو صدقته ، وإذا نقلت " التيمس" خبراً عن حكام لندن صدقته وقد تكون هذه النقول أوهى سنداً مما يرويه أصحاب محمد عن محمد! فما الفرق "1_187(1/174)
الذي جعلك تقبل هنا ما تأبى هنا..؟ إن نقد المرويات كلها، ووضع الرجال كلهم فى مختبرات الجرح والتعديل ، بلغ فى ثقافتنا مداه ، فكيف يجيء امرؤ خالي البال ، خالي الوفاض ليقول فى نزق : أنا أرفض السنة. وكيف يجيء آخر فينظر فى القرآن نظرة الفلاح فى كتاب " فَلَك " ثم يقول : هذا نص مُعطل !! أكتب هذه العبارات وبين يديّ قصة مؤسفة بدأت أحداثها من شهور.. فقد جاءني صديق يسألني : متى نزلت سورة المسد؟ قلت: فى الأيام الأولى من بدء الدعوة ! قال: إن كاتباً يرفض ما تقرَّرَ من ذلك فى أقوال المفسرين وثقات المحدثين ويزعم أن السورة نزلت بعد معركة بدر . فعجبت لهذا الزعم ثم قلت : إن تجهيل المفسرين وتخطئة المحدثين على هذا النحو منهج صعب ! بيد أنه ليس في الأمر ما يستفزُّني ، فسواء هلك أبو لهب أول البعثة أو بعد بدر فقد هلك على كل حال وذهب إلى الجحيم . وبعد أيام جاءني الصديق نفسه يقول : أتعرف أن حَدّ السرقة شريعة بدوية انتهى أمدها ولا تجوز إقامته من عصور طوال قلت له : ما هذا السخف ؟ قال : الكاتب الذي حدثتك عنه يقول: إن الحد شُرِع يوم كانت الصورة الغالبة للملكية هي الجمل،1_188(1/175)
وما حمل !! أما بعد الفتوح والتحضر وبناء الدور والقصور وظهور الأموال السائلة والجامدة ، فقد تغيرت الأوضاع وانتهى العمل بهذا الحد . قلت : إن الحد شرع في المدينة المنورة لا في البادية. وطبّق على المقيمين في المدينة وغيرهم ! وقد جاء في السنن أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بتطبيق هذا الحد على المخزومية التي سَرَقت ، كما طبِّق على اللص الذي سرق رداء صفوان... فقاطعني الصديق: إنك بهذا الكلام تعتمد على السنة ، والكاتب يرفضها . قلت: الآية القرآنية واضحة، ولفظها عام، وأئمة التفسير وأصول الفقه يقولون... فقاطعني الصديق مرة أخرى قائلاً : الأئمة عند هذا الكاتب خَوَنة. فصِحْتُ : خَوَنة ! إن الفقهاء أجمعوا على... فإذا الصديق يضحك مكرراً مقاطعته لي : والفقهاء عنده يعلمون أن الحد انتهى أمره ، ولذلك سلكوا عشرات الحيل للخلاص منه قلت : أرني هذا المقال ، وتناولت مجلة " المصور " وأخذت أقرأ بعجلة ، ثم بالتأني هذه العبارة : " كان الشكل الغالب1_189(1/176)
للملكية في شبه الجزيرة العربية في الجاهلية وفي زمن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الملكية المنقولة دون العقارية وكان يمكن للبدوي أن يحمل علي راحلته كل ما يملك وينتقل به من موطن إلى موطن... وبالتالي كان الاعتداء على الساري في الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة وسلاح في مصاف قتله . كان لابد لعلاج هذا الشر المستطير من عقوبة حازمة رادعة في مثل حجمه وخطورته... فكان أن فرض القرآن حد القطع ليد السارق " . قال: " فما مات النبي حتى شرعت جيوش الإسلام تمدّ سلطانه شرقاً وغرباً . . ونجم عن هذه الفتوح ثراء لم يعرفه العرب من قبل . . . ودخلت في الإسلام مجتمعات تعرف للملكية شكلاً أهم من الملكية المنقولة وتملّك الفاتحون العرب الضياع والدور ، وأصبح سلب الرجل ناقة أو قربة ماء لا يعني أمراً هاماً ، ونظر الفقهاء والمجتهدون فإذا الآية القرآنية لا تزال قائمة، والحكم بقطع يد السارق والسارقة لا يزال قائما... وكان المنطقي والمفروض أن يعلنوا صراحة أن بعض أحكام القرآن والسنة قد قصد التصدِّي لعلاج شرور وثيقة الصلة بالمجتمع الجاهلي في شبه الجزيرة العربية وفي زمان النبي عليه الصلاة والسلام.. ". ثم قال الكاتب : " ومن حق المجتمعات الأخرى والأجيال التالية أن تطوّر هذه الأحكام . . . كان بوسعهم أن يقولوا : من1_190(1/177)
واجب المجتمع الإسلامي في صورته الجديدة أن يجد عقوبة لجريمة السرقة غير العقوبة التي قصد بها المجتمع البدوي أو الجاهلي... ". ثم قال ! الكاتب : " غير أن الأئمة والفقهاء والمجتهدين لم يشاءوا أن يكونوا أمناء مع أنفسهم . . " !!! ومضى الكاتب ينقل صوراً شتى هي ـ في نظره ـ مظهر لهذه الخيانة النفسية والاجتماعية ، ولا نرى معنى لذكرها هنا ؛ فقد حكم بأن الفقهاء المسلمين توارثوا الاحتيال على تعطيل النص، ووقف تنفيذه مستعيضين بعقوبات أخرى ثم يقول : " قد يحمد البعض لهؤلاء المجتهدين اجتهادهم فى سبيل التحايل على حكم القرآن ، والحيلولة دون تطبيق عقوبة قطع يد السارق ، غير أني لا أصدقهم ولا أشكر لهم سعياً ، ولا أقر لهم بفضل . . " . لماذا ؟ إنه يريد من منطلق " إسلامي " أن توضع عقوبة أخرى ، يعمل فيها الاجتهاد الحر عمله الجريء.. أي يريد باسم روح القرآن تعطيل نص حاسم فيه ! لماذا ؟ لأن حد القطع إنما شرع لمنع سرقة الجمال فى المجتمع العربي القديم الذي لم يعرف الدور والقصور وصور الملكيات الأخرى إلا بعد الفتوح !! إن عادا فى الأحقاف ، وثمود فى الحجر، وإخوانهم فى اليمن والحجاز لم يشيدوا الربوع الزاهرة ولم يقل لهم القرآن الكريم1_191(1/178)
(... وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا …) . فالسرقة شريعة بدوية ، لا مساغ لبقائها في المدن (!) ومن قال غير ذلك فهو بليد العقل !!. ومن هنا وجب رفع الثقة بتاريخنا الثقافي كله ، فالمفسرون جهال، والمحدثون كذبة ، والفقهاء محتالون والأئمة خونة ، وكل من يرى أن حد السرقة يتعدى حدود البادية إلى غيرها حشر مع هؤلاء الضالين الجامدين ، لأن الذي اكتشف الحق رجل واحد هو حسين ابن أحمد أمين !!. إذا كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فسر القرآن بسنته ، فهؤلاء يريدون قرآناً لم يفسره محمد ، ولم يشرحه خير القرون ، ومن ثم رفضوا السنة . . وإذا كان أئمة اللغة والفقه والأصول قد ضبطوا مفاهيم الألفاظ ، ومعاني التراكيب فهؤلاء يريدون قرآناً لا يتقيدون في تفسيره بشيء . بل من حقهم أن يقولوا فيه ما يشاءون ! إن مدارسنا الفكرية ـ نحن المسلمين ـ تركت تراثاً يسحر أولي الألباب بروعته وغناه وذكائه وسنائه.. ولكن هؤلاء مربوطون بالغزو الثقافي الذي اتّسَخَتْ به أذهان كثيرة ، وتخدمه الآن أقلام جريئة ، فهل تبقى هذي الفوضى طويلاً ؟ أعتقد أن الأمر يحتاج إلى علاج سريع . . أليس عجيباً أن يقول كاتب : إن قطع يد السارق كقتل1_192(1/179)
الطفلة الموءودة ، جريمة تثار يوم الحساب . وإذا المبتورة سئلت بأي شرع قُطِعَتْ ؟ هكذا يتساءل مفكر القرن العشرين وهو يزعم أن القطع لا يراه الإسلام . هذا هو الاجتهاد الإسلامي في أحدث صوره ! فما يكون الاجتهاد غير الإسلامي ؟ وهل تطلب القوى المعادية للإسلام أفضل من هذا فى خلع المسلمين من دينهم ، باسم دينهم نفسه ؟؟ ترى أتبقى هذه الفوضى العلمية تعصف حول الإسلام وحده ؟ ولحساب من ؟ قبيل الانتخابات التي تمت فى مصر أخيراً ، وخاضتها جماعة الإخوان المسلمين مع حزب الوفد الجديد أحسسنا حملة شعواء على الشريعة الإسلامية تتسم بالحقد والإفك ، وتشارك فيها أقلام وألسنة وأجهزة جنّدها الغزو الثقافي المنتمي إلى الغرب والشرق على سواء . . . كان تحقير شرائع الحدود والقصاص شيئاً بارزاً في هذه الحملة. وانتهى ما كان يصحب ذلك قديماً من وجل أو مواربة أو حياء ! لا شيء هنالك يخاف أو يحسب حسابه . . كان هناك كتاب يريدون إفراغ الإسلام من محتواه ، وجعله عنواناً بلا حقائق . ومهمة هؤلاء إثبات أن الدين لا علاقة له بأنواع التشريع . ويوصف هؤلاء بأنهم مفكرون !!1_193(1/180)
وكان هناك كتاب يريدون القول بأن مصر نفضت يديها من الشريعة الإسلامية من عشرات السنين ، ومضت في نهضتها على أساس علماني بحت ، فكيف يفكر" البعض " في إعادتها إلى الإسلام أو إعادة الإسلام إليها ؟ ونشرت مجلة " المصور" صورة شخص طاعن فى السن سمَّته شيخ المحامين يؤكد هذه الفرية ، ويشن غارة مسعورة على الشريعة الإسلامية . . ولقد لفت نظري في الهجوم الجديد على الشريعة اتساع نطاقه وقلة حيائه وإسهام شيوعيين وصليبيين فيه على نحوٍ فاجر. هذا كاتب غاظه أن الطائرات المصرية امتنعت عن تقديم الخمر لبعض الركاب الذين يشربون الخمر فكتب يقول : " هل نعلمهم الفضيلة ؟ هل نلقنهم مبادئ الشرف ونجرعهم مكارم الأخلاق ؟ وكيف نقنع الركاب الخواجات وهم لم يقتنعوا بعد بفوائد العرقسوس والتمر هندي ؟ ليس من المعقول ولا من المقبول أن نقع فريسة لبعض تجار الوعظ . . . " إلخ وهكذا يطلب شخص قليل الأدب ضائع الدين أن تقدم الخمر للناس ، وعفاء على الإسلام وتعاليمه !! لقد أحسست خلال شهرين من اشتداد هذه الحملة ، أن1_194(1/181)
السكر شيء لا نكر فيه ، وأن الفسوق أمر عادي ، وأن اللصوصية لا توضع داخل قفص الاتهام ، وإنما الذي يوضع داخل القفص هو النص الذي يقطعها ، وأن . . . وأن . . . ونظرت إلى أمتنا التعيسة وهي مثقلة بأزماتها وإلى هؤلاء المرتزقة من جملة أقلام السوء ، وتذكرت قوله تعالى : (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) . وعدت إلى مقال الكاتب " السعدني " الناقم على تحريم الخمر فإذا هو يقول : " وعاظ المناسبات يسكتون على ما يغضب الله ، ويدعون إلى جلد شاب في عمر الربيع يحب فتاة رقيقة كالعصفور ، شاحبة كضوء الفجر " ! والجلد عقوبة الزناة كما يعرف أولو الألباب ، وظاهر أن الكاتب المخمور يريد اسم الحب إشاعة الزنا ، وتحويل المجتمعات إلى حدائق حيوانات . لقد عاصرتُ حملات كثيرة على الإسلام ، بيد أن الحملة التي وقعت أخيراً تميزت بمقدار أكبر من الصفاقة والجراءة على الله ورسوله.. إن شرائع الحدود والقصاص جزء من الشريعة الإسلامية الرحبة، أو هي سطور قليلة من كتابها الطويل ، ولم يقل أحد: إن1_195(1/182)
تنفيذ الحدود والقصاص إقامة للشريعة كلها . ولم يقل أحد : إن هذا التنفيذ يغني عن الإصلاح الواجب لسائر أجهزة الدولة العليا والدنيا. ولم يقل أحد : إن طلاب هذا التنفيذ سيغلقون أفواههم بعد ذلك ، ويشعرون بأن دولة الإسلام قامت !! ولقد قلت في مؤتمر مشهود : إن هذا التنفيذ سيمنع عدة آلاف من جرائم القتل والشروع فيه ، ومن جرائم العدوان على الأموال والأعراض والدماء.. بيد أن صيحتي ذهبت في وادٍ. لأن المراد تعطيل الإسلام وصرف الناس عنه وإبطال حنينهم إليه . والغريب أن ذلك يتم باسم الحرية... أية حرية ؟؟ ونتيجة انتخابات... أية انتخابات... ؟؟ إن المسلمين يقهرون بالعنف على ترك دينهم . وقلت لمسئول كبير : أندمتم على الاستفتاء الذي تم على عهد السادات وقررت فيه الأمة أن يكون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع ؟ قال : لا . . قلت : فما يعوق إصدار الأحكام المتعلقة بالحدود والقصاص؟ قال مستنكراً : أهذا هو الإصلاح ؟ نعم هذا إصلاح عميم الفائدة عميق الأثر حاسم في ثمراته1_196
ودلالاته . وشعرت : لماذا توضع مشروعات القوانين الإسلامية في بعض الأدراج ، لعلها لا تخرج منها أبداً ! إن الإيمان بهذه القوانين مفقود، بل إن الكره لها شديد . إن منع تعدد الزوجات تم بين عشية وضحاها ، أما المحكم الصريح من أوامر الله فشأن آخر .1_
197
متناقضات قاتلة(1/183)
هناك هجوم يساق الدين من ورائه سوقاً ! ودفاع يطرد الدين من خلفه طرداً . الخط المرسوم للمسلين أن تعطل شرائعهم وتبطل شعائرهم أما الخط المرسوم لليهود فهو إقامة الدولة باسم الدين ، ورفع علم التوراة عالياً . العاملون في المجتمع الإسلامي ينبغي أن يكونوا صنفاً لا لون ولا طعم ولا ريح ، صنفاً لا يعرف بصبغة ثابتة من ناحيتي العقائد والفضائل أما في المجتمع المقابل فلابد أن يكون رجال السياسة والثقافة والاقتصاد من النوع الملتزم . وهناك جملة من الحقائق نثبتها ليعرف المسلمون الذاهلون أين يقادون : عند قيام " دولة إسرائيل " صدر سنة 1951 بيان ثلاثي من أمريكا وفرنسا وإنجلترا ، يضمن بقاء إسرائيل ، ويتعهد بجعل قدراتها العسكرية أعلى من قدرات كل الدول العربية مجتمعة .1_198
ومع توالى الأحداث أخذت علاقة إسرائيل بالدول الغربية تنمو وتشتد حتى يمكن اعتبار إسرائيل نقطة ارتكاز الغرب في هذا الجزء من العالم . . ومن ثم أمست الدولة اليهودية الحليف الأول للغرب الصليبي ، بل إن الولايات المتحدة تعدّ إسرائيل جزءاً من أراضيها ، وولاية أخرى من ولاياتها . . وقد استطاع بنو إسرائيل إقناع أتباع المسيح (!) أنهم الشطر الأول من الكتاب المقدس وأن النصارى هم الشطر الثاني منه ، وأن الوحي قسمة مشتركة بينهم ، أما المسلمون عامة ، والعرب خاصة ، فلا مكان لهم ، ويجب أن ينتهي وجودهم . . فهل نَعِي نحن ذلك ، أم نظل مسترسلين في أوهامنا وأهوائنا ؟ وبديةٌ أن الساسة العرب الذين يتجهون إلى الشيوعية ، وينسون الإسلام يزيدون السياسة الغربية جماحاً وعناداً . . وسيرى الغربيون أن حضارتهم مهددة بالإلحاد الروسي والإلحاد العربي على سواء ، وأن اليهود هم حلفاؤهم الطبيعيون ولا أدري ماذا يكسبه العرب ببعدهم عن الإسلام ، وإرتمائهم في أحضان الروس ؟1_199(1/184)
المسلك الوحيد أن يتشبث المسلمون بدينهم ، وأن يدأبوا على تقوية أنفسهم ، والوسائل طيّعة لمن شاء ، وأن يرفضوا بقوة التفوّق العسكري الإسرائيلي عليهم ، وهذا الرفض سهل لمن شاء ، ولكن العرب لا يشاءون . إن العرب البعيدين عن دينهم قدموا لليهود أرخص نصر عُرف في تاريخ الحروب ! وما أشهد في سير الأولين والآخرين أمة هزمت نفسها كالعرب المعاصرين ، لقد هزمتهم بلادة الفكر والشعور وسوءات التخطيط والتنفيذ وفوضى الفرقة والعصيان والتسيُّب.. وهيهات أن تتبدل حالهم إلا وفق سنن الله ! (… إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم … ) . وقد انتهى فصل خطير ، وبدأ الفصل الأخطر . يقول بن غريون : إنه لا إسرائيل بدون القدس ، ولا قدس بدون الهيكل . والهيكل المنشود يتم بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى وقبة الصخرة . وقصة الهيكل أن الله لابد أن ينزل وسط شعبه المختار ليحكم العالم بهم ، ويبسط سلطانه من خلالهم ! وعندما يبنى الهيكل فسيكون قدس الأقداس فوق القبة ـ قبة الصخرة ـ وهو المكان الذي يشغله الجلال الإلهي ، ويعمل منه رب إسرائيل .1_200(1/185)
واليهود توالي الفرص سانحة لتحقيق حلمهم ، بل يرون أنه آن الأوان لهدم المسجد وبناء الهيكل فالعرب أثر بعد عين ، والدين بينهم فريسة مذبوحة ، والكنائس المختلفة تؤازرهم ، والروس أنفسهم يؤثرونهم على العرب ، فلم التريث ؟ وقد أشعل اليهود حماساً عالمياً لمطالبهم ، وصنعوا الغرائب لتعليق الأفئدة بالقدس التي ستكون مكان الرب وهو يحكم الدنيا . اسمع ما كتبه الأستاذ درويش مصطفى الفار تحت عنوان "من أعجب ما قرأت " : تقوم شركة يهودية في فلسطين المحتلة بعمل عجيب جداً . إنهم يعبئون [ هواء ] القدس الشريف في أوعية من البلاستيك جميلة مزخرفة ، ثم يصدرون تلك العبوات إلى الناس في أوربا وأمريكا ، حيث يشتريها المتدينون والمتدينات بثمن غير بخس . يصنع المتدين أو المتدينة في ذلك الوعاء شقاً ، ثم يدس فيه أنفه ، ويعبئ بشهيق عميق ، ثم يحمله خياله إلى بيت المقدس ، حيث عذب اليهود رسول الله ونبيه عيسى عليه السلام. ولو أن أحداً حدثته نفسه بأن يصنع ذات الصنيع العجيب بتعبئة [ هواء ] مكة المكرمة ، ليصدره تجارة إلى الناس في مشارف الأرض ومغاربها ، لقامت الدنيا وقعدت ، وحوقلت واسترجعت.1_201(1/186)
ولكتبت صحف الغرب [ والشرق ] ولتناقلت وكالات الأنباء الخبر العجاب ، وتحدثت عن صنوف الدجل وضروب الشعوذة وسيطرة الخرافة والخزعبلات واللاعقلانية في دنيا المسلمين !!! ولانبرى العلماء والمفكرون والباحثون ، ومسلسلو التلفازات والإذاعات يشرحون للناس تركيب الغلاف الجوي المحيط بكرة الأرض ، إلى ارتفاع قد يصل إلى ألف كيلو متر... وأنه حيثما فحصنا الغلاف الغازي للأرض فوق القدس الشريف أو مكة المكرمة فسوف تجده 99% من النتروجين (الأزوت) والأوكسجين و1% من بخار الماء وثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز والهيدروجين والغازات الخاملة التي اكتشفها تباعاً السير وليام رامزى واستحق باكتشافها جائزة نوبل سنة 1954 في الكيمياء . وَلَتحدَّث الخبراء عن غاز الأوزون الذي يتواجد حول الأرض كلها بلا تفريق على ارتفاع حوالي ستين كيلو متراً ، ليجعل الله الحياة على الأرض ممكنة ؟ إذ أن الأوزون الذي يتكون جزيئه من ثلاث ذرات أوكسجين ، يحول دون نفاذ الأشعة فوق البنفسجية القاتلة إلى سطح الأرض . كل هذا وغيره من المعلومات ، كان سيتدفق سيلا جارفاً داحضاً لو كان [ المعلب ] للتصدير ، هو هواء مكة المكرمة . أما أن يقوم اليهود بتعليب هواء القدس وبيعه للناس فذلك أمر1_202(1/187)
مشروع عقلاً ونقلاً وعلماً وعاطفة لا خرافة فيه ولا خزعبلات!! وأعجب ما في الأمر. أن مثل هذه الهنات ، التي قد لا يأبه لها الإنسان ، لا تستغل ومثيلاتها في وسائل إعلامنا العربي... يستطيع الإعلام العربي ، بالفكر!العلمي الهادئ ، أن يتخذ من مسألة [ تعليب هواء القدس ] وما يشابهها ، فرصة ذهبية ليبين للناس والرأي العام العالمي ، كيف يسخر اليهود من بقية البشر ويضحكون على عقولهم ويبتزون أموالهم بالدجل والكذب والبهتان. وأن يبين لأولئك السذج الغافلين في أوربا وأمريكا ، أن تجارة [هواء القدس ] ما هي إلا واحدة من الدلائل التي تؤكد أن اليهود يحتقرون عقول هؤلاء الناس ، ويحملونهم على تصديق دجلهم وخرافاتهم وتطلعاتهم المسعورة للتسلط على سكان هذه الأرض كلها . . وتعليق الأستاذ الكاتب ـ وإن كان صادقاً ـ لا جدوى منه. فالناس يصدقون الخرافة من اليهود ، ويرفضون الحقيقة من العرب. لماذا ؟ لأن الخرافة اليهودية حولها مؤمنون يمدونها بحرارة العاطفة ، وحولها ساسة أذكياء ورجال دهاة يوسعون مساحتها بما أوتوا من علم ومال .1_203(1/188)
أما نحن فلنا شأن آخر ، إن الحقيقة التي نقدمها مجفوَّة موحشة . لماذا ؟ لأننا نحن أول من يخرج عليها ويتنكر لها . إننا بأنفسنا نصنع الهزائم لأنفسنا فكيف ينصرنا الآخرون…؟ أليس من غرائب الأقدار وتعاجيب الليل والنهار ، أن يتنكر العرب للإسلام ، ويقرروا عدم " الانتماء " إليه سياسياً وثقافياً ويزعموا أن لهم دماً أنقى ، وجنساً أرقى ، ومن ثم فقضيتهم عربية لا إسلامية وبعثهم عربي لا إسلامي ، ورسالتهم عربية لا إسلامية ؟؟؟ العرب الذين أوتوا القرآن ، يصف ربَّ العالمين بأنه وسع كل شيء رحمة وعلماً ، وأنه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وأن له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ... هؤلاء العرب يستحيون من هذا القرآن ، ويتخذونه مهجوراً ويتركون الطريق مفتوحاً لليهود يقولون للناس إن الله سوف يحتل مسكناً له فوق قبة الصخرة ، وأن بناء مسكن الرب أو قدس الأقداس يتم مع بناء الهيكل ، وأن إسرائيل ماضية في خطتها لتسلّم أرض الميعاد وتوطين الشعب المختار كي يساعد الرب في حكم العالم ! ! ! إن الخرافة اليهودية تجد لها رجالاً متحمسين ، أما الحقيقة الإسلامية فهي تمرغ في التراب ويتعرض حملتها للنكال ، ويمهد الطريق للبعثيين العرب والقوميين العرب كي يفرضوا سلطتهم على أمة تائهة أو أمة مكرهة على الارتداد ! ! !1_204(1/189)
ويتضافر قادة الصليبية العالمية مع نَفَر من الساسة المحليين على بلوغ هاتيك الغايات . إن هذه خيانة رهيبة ، وإذا كان النصارى العرب يخدمون عقائدهم بهذا السلوك فما هو كسب المسلمين العرب من إنفاذ هذا المخطط الكفور ؟ . ومن إعلان "علمانية " القضية الفلسطينية؟؟ الكسب المرتقب مزيد من الهزائم ، وسيل آخر من اللاجئين ، وعدد آخر من الفضائح ، ظلمات بعضها فوق بعض. إن الزمان لا يقف ، واليهود ماضون في طريقهم ، وقرارهم المتخذ هو هدم المسجد الأقصى ، وبناء هيكل الرب فوق أنقاضه، وليس أمام المسلمين خيار ، فقد مرح الشر وبان السرار. لقد بات إبعاد الإسلام عن قضية فلسطين جريمة بشعة ، وظهر ألا نتيجة لذلك إلا القضاء على الأمة العربية كلها... أفما آن الأوان لإيقاظ الجهاد الإسلامي ، وترك المسلمين يعودون إلى قواعده وتعاليمه . . ؟؟ عرف هذه الحقيقة سياسيٌّ عربي كبير هو الملك فيصل بن عبد العزيز ، فقرر أن إنقاذ فلسطين مسئولية العالم الإسلامي أجمع ، وأن هذه المسئولية قضائية شاملة تعني الولاء للإسلام وإقرار أخوته ورفع رايته ، وتعني قبل ذلك وبعده تصحيح الانتماء إليه والعمل به . .1_205
وقد ناط بالمؤتمر الإسلامي هذه الأعباء الجسام ، وقبل أن تكون الجامعة العربية ـ المحترمة للإسلام ـ شريكاً ينهض بواجبه وليست المالك المحتكر لقضية فلسطين . . وخير لنا أن نعود لسياسة فيصل ، وأن نعترف بالطابع الديني للمعركة ، فليس معقولاً أن يهاجم اليهود بدين ، وأن يدافع العرب مُلحدين منحلِّين . وعندما نعلن إسلامنا فيجب سد أبواب الغزو الثقافي كلها ، وفسح الطريق أمام حقائق الإسلام وحدها لتزهر وتثمر .1_
206(1/190)
مع إمام الدعاة
كثيراً ما تكون للخير طبيعة الزهرة الفواحة عندما تنفح العطر ، وتثير المحبة ، إن الإنسان الصالح المستقيم له إشعاع ينم عنه ويعلّق الآخرين به ! بيد أن أحوال الدنيا وخلائق الناس لا تنظمها هذه الأحكام السريعة ، ولا تتمشى مع سنن الفطرة على هذا النحو اليسير . من السهل أن تمتد يد لقطف الزهرة ورميها تحت الأقدام . من السهل أن يصنع البعض حولها دخاناً يزكم الأنوف أو يحجب الرؤية . إن ذنب ابن آدم القتيل أنه كان رجلاً صالحاً . والفاسدون يرون الصلاح تحدياً لهم ، ويرون التقوى مُشعلة لغضبهم . وفي صدر التاريخ البشري قُتل أنبياء دون جريرة، وعجزت رسالات سماوية عن المضيّ في طريقها لأن الخاطئين اعترضوها ،1_207
وسُرِقت شعوب متنامية الأعداد ، فاختفت وراء الشمس لأن الأقوياء شاءوا ذلك ! ألم تبق مصر والشام وغيرهما في حوزة الرومان قروناً عدداً ، لأن السلاح الأقوى فرض نفسه وأملى إرادته ؟ إن الحق كي يستديم وجوده ويحمي ذاته لا بدّ له من قوتين: إحداهما عقلية تبسط حجته وتنفي عنه تهمة الشراسة والعدوان . والأخرى مادية ترد الهجوم وتؤدب الذين . يعيشون على القضم والهضم . لا يكفي أن يكون الحق وسيما يستحق الإعجاب ، ينبغي أن يكون كذلك دارعاً يتحمل العراك وينجو من غوائل الخاطفين والقاطعين .. ويشاء الله أن تكون القوة العقلية للحق أسبق وأبرز لتثبت جدارته بالحياة . ولا بأس في هذه المرحلة أن يتحمل ضربات الجهال، وأن يقع تحت وطأتهم ، وقد تختنق أنفاسه فترات يتعرض فيها للموت . ليكن ، عليه أن يصابر ويقاوم حتى يتأذن الله بالفرج.. كنت أشعر بهذه المعاني وأنا أتلو الآيات المقارنة لنزول الوحي واستقبال متاعب الدعوة . كان النبيّ عليه الصلاة والسلام يحسُّ أنه أمام عبء فادح،1_208(1/191)
وعمل مرهق وكان الوحي النازل يؤكد هذه الحقيقة ، إن تغيرُّاً كونياً يوشك أن يقع ، إن تحوُّلاً في تاريخ الإنسانية يوشك أن يبدأ، فليستعدّ الإنسان المختار لاستقبال قَدَرِهِ ، لا راحة ولا دعة بعد اليوم ( . . . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) . أهو ثقيل لما يتضمنه من حقائق يقاومها الملحدون والمجرمون ، وعبيد الهوى والغيّ ؟ إن الآيات الأخرى النازلة مع أول الوحي تشير إلى ذلك، تدبر قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ، فاصبر لحكم ربك …) تجلَّد ، وقاوم ، وشُقَّ للحق طريقه الوعر (..ولا تطع منهم آثما أو كفورا) . إن عدم الطاعة هنا ليس له إلا معنى واحد ، ألا اعتراف بالباطل بوجه من الوجوه ، لابد من تعريته وكشف زيفه ، ولما كان الكلام في بدء الدعوة ، وبدء تنزّل الحق ، فالمراد دمغ الباطل عقلياً ودحض كل الشبهات التي رَاحَ بها يوماً . ونكمل بقية السياق التي يتم بها المنهج المرسوم لصاحب الرسالة (...واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ، إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. . . ) .1_209(1/192)
إن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ داعية التوحيد الأول فى تاريخ العالم ، وهو أطول الأنبياء أنفاساً في الحديث عن الله وإسقاط الشركاء المزعومين، وتجريد العقيدة حتى لا تكون نظرية مجردة ، أو خيالا عابراً . . من أين له هذه القدرة ؟ من ديمومة الذكر فى حياته ، اذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ليلاً ونهاراً ، إنه ذكر لا ينتهي ، إن ضياءه لا يخبو، إن الطاقة التي تمده بالصحو النفسي والفكري دوَّارة بلا توقُّف . . وربما ظن الناس أن إقبال الليل يمنحها فرصة استجمام ؟ لا : (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) هنا مكمن العظمة المحمدية وسِرّ إشراقها الدائم ، إنها موصولة بالله نور السموات والأرض ، على نحو لا تَقَطُّع فيه ولا فتور . وفي تدبُّري للآيات التي صاحبت نزول الوحي في مراحله الأولى استيقنت من هذه الحقيقة . اقرأ ما جاء في سورة المزمل موضحاً هذا المعنى : (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا . . ) . ماذا ترى هنا؟ الإنسان المكلف بهداية العالم بدءاً من عصره إلى آخر الدهر يحتاج إلى قدرة غير عادية كي ينهض بهذا العبء ، فمِمَّنْ يستمدّ1_210(1/193)
هذه القدرة ؟ لقد قيل له : انقطع إلى ربك انقطاعاً ، ثم تحدث باسمه ، وخذ عنه . وعندما تضيء المشارق والمغارب بدينه فاهتف له وحده ، وتوكل عليه وحده فما عداه وهم . إنني من أفق الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أنظر إلى أعدائه فأعجب لغبائهم أو لافترائهم ، وأسأل هؤلاء السكارى : أتدرون ما يقول ؟ ألا تسمعون نغمة العبودية فى حديثه . ألا تحسُّون تشبُّثه الشديد بربه وخشيته البالغة منه ؟ مَنْ مِن الفلاسفة والمصلحين البشريين يجري على لسانه هذا الكلام ((قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه … ) أهذا جؤار دعيٍّ يمثل دور النبوة !. فَمَنْ بعدَه يحمل أمانات البلاغ ؟ ومن غيره يخرج الناس من الظلمات إلى النور !. وماذا يقول الرسل الحقيقيون إذا كان هذا الكلام النقيّ الطهور تكلّفاً وافتعالاً ؟ ! . لقد طالعنا حياة محمد ، وتابعنا سيرته منذ دعا إلى أن قضى ، فوجدنا إنساناً وثيق اليقين بربه ، قوي الاعتماد عليه ، صادق الوصف له ، بلغ فى تنزيهه المدى ، وكان سخطه هائلاً على المفترين والمشركين ، يمحو ضلالهم بقوة ثم يسوق الصواب في حشد1_211(1/194)
من الأدلة المورثة لليقين ، والباعثة على حب الله والإنابة إليه. ونريد أن نتأمل ـ لحظات ـ في الحياة الباطنية للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، أعني في سريرته وخليقته وتيار الشعور الدافق في فكره وعمله : لقد ذكرنا في مكان آخر أن القرآن الكريم كان لباب هذا الشعور المنطلق ، وأنه أساس الحياة الداخلية التي تصحبه نائما ويقظان . وقضايا القرآن منوَّعة فقد تكون وصفاً للكون أو مشهداً من مشاهد الحساب الأخير أو فصلاً من تاريخ الماضين أو حديثاً عن العظمة الإلهية ، أو بياناً لأحكام شرعية ، أيٍّا ما كان الأمر فإن فؤاد النبيّ عليه الصلاة والسلام كان معموراً بهذه القضايا ، أو كانت شغله الشاغل ، فما يظفر غيرها إلا بالقليل من انتباهه . قد يراه الناس بينهم يوجِّه ويعلم وينصح ويقود ، وهذا وذاك مظهر تدبره للقرآن وعيشه في جوِّه وسبحه في آفاقه ، ولنضرب مثلاً لما نعنيه بهذا الكلام (... كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ) ولا نستطيع إجمال المقدمات التي سبقت السرد التاريخي لقصص الأولين ، ولا المعاناة التي كان يلقاها صاحب الرسالة من جمهور المنكرين ، ونشير فقط إلى ما جاء في هذه السورة من أخبار الأوائل والغاية منه ، سواء لمتلقِّي الوحي أو لسامعه . في هذه السورة قصة نوح مع قومه ، وهود مع عاد ، وصالح1_212(1/195)
مع ثمود ، ولوط مع قومه ، وشعيب مع مدين ، وموسى مع الفراعنة . . . إن هذه المرويات القديمة كان تحلّ مشكلات جديدة ، وتفرج أزمات حادثة . . ذلك أن سنن الله الكونية واحدة وصارمة في المجتمع البشري كما هي واحدة وصارمة في العلوم المادية والهندسية . نعم إذا كانت هناك قوانين مقررة في علوم الرياضة والفيزياء فهناك قوانين تساويها كل المساواة في الحياة الإنسانية مثل (…إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم …). (…وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض …) . (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا …) . (… من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) الخ... ونشرح الآن بإيجاز شديد كيف كان السرد القديم يحل مشكلات جديدة ، ويبصِّر الخلوف الزائغين بمصير أسلافهم لعلهم يتعظون ويرعوون . بعد قصة نوح يقول الله لنبيه (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) . وفي أثناء القصة يفجؤك هذا التساؤل الرائع (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ).1_213(1/196)
يكاد الماضي والحاضر جميعاً يكونان قصة واحدة ، فلا غرابة إذا كانت النتيجة واحدة . وفي هلاك ثمود يقول الله لنبيه محمد: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ) . الخطاب لمحمد كما ترى وفي طياته تهديد لعرب مكة فالقضية واحدة . ووحدة القضية هي التي جعلت نبينا يستدرك على لوط لما قال لقومه (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، إن النبي العميق الحسِّ بربه ، الشديد التوكل عليه يقول في أدب جم : " رحم الله لوطاً ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد " . وبعد تمام هذا السرد يقول الله لنبيه : (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم … ) . ثم يتجه الخطاب مرة أخرى إلى الرسول بهذا الإنذار المقلق (فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص). إن توفية هذا النصيب تعني هلاك العرب كما طاح آباؤهم من قبل . هذا نذير مزعج . ألا تلمح وراء ذلك تفسيراً لما جاء في الصحاح " شيبّتني هود وأخواتها " .1_214(1/197)
إن الخوف على مستقبل قومه جعل الشيب يتسلل إلى رأسه. ما يرضى لهم هذه المصاير المشئومة . ومن ثم فهو يستنفذ الجهود لنصحهم وإنقاذهم ، بل إن الأمر في معرض الجلال الإلهي ، وافتقار العباد طرًّا إلى عفو الله يجعله يصيخ في خشوع إلى هذا التأديب ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار .. ) . قلت آنفاً : إن القرآن الكريم هو سريرة النبيّ وسيرته ، فهل ألقيتُ شعاعاً على هذا القول ؟ إن الناس قد يرون النبيَّ الإنسان يمشي على الأرض ، ويمر بالأسواق ، لكن الوحي الذي نزل عليه ، لكن القرآن الذي خُصَّ به جعل فكره يتنقل فى ومضات خاطفة بين الأزل والأبد ، بين المعاش والمعاد بين الدنيا والآخرة ، بين العالمين ورب العالمين .. (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) . إنه مع الناس بجانب واحد من نفسه ، ومع الله بجوانب كثيرة ، أي أن مقام الإحسان أدنى منازله . من هذا المنطلق بنى صاحب الرسالة الخاتمة خير أمة أخرجت1_215(1/198)
للناس ، أمة شارتها الأولى الربانية ، فهي تصحو من منامها لتصلي ولا تأوي لفراشها إلا بعد صلاة ، ومن انفلاق الصبح إلى جنح الليل تكدح لربِّها ، وتتحرك وتتوقف بأمره ونهيه . . وهي تعرف الغاية من وجودها ، فإذا كانت الحضارة الحديثة تستحث الذكاء الإنسانيّ لمزيد من الرفاهية ، أو لمزيد من الدمار ، وإذا كانت هذه الحضارة تجعل الإنسان عابد نفسه ، وخادم هواه ، فإن الحضارة التي أنشأها الإسلام شديدة التعلق بالله حثيثة السعي لمرضاته ، ولأمر ما كان شعارها العالي الله أكبر وما عداه هباء . وكان النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربيِّ الجيل الذي يستمع إليه تربية خاصة . كيف ؟ إنه مرسَلٌ للناس كافة ، ومرسل لبني آدم ما بقي على ظهر الأرض منهم واحد ، ولا نبوة بعد بعثته . وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدرك أنه لن يعمَّر حتى يطوف القارات ويهدي العصور المتطاولة ، فسبيله إلى إبلاغ رسالته أن يربي قادة يرثون الكتاب ويضيئون به المكان والزمان، ويؤذون عنه متطلبات العموم والخلود في رسالته . والمعلّم الذي يهدي جماعة من الحيارى محدود الجهد دون غمط لفضله ، ولكنه دون المعلِّم الذي يصنع أساتذة ، وينشئ نجوماً حيه .1_216(1/199)
والمنصفون يقولون : حسب محمد شرفا أن ينشئ من الأميين شعباً راقياً واعياً . فكيف وقد أنشأ منهم أمة حركت الرواسي وأتت بالعجائب . من كان يخرج الرومان من مستعمراتهم التي احتلّوها قروناً عديدة ؟ من كان يحاكم مواريثهم الفكرية والروحية التي فرضوها بالحديد والنار ؟ من كان يقدر على تقليص ظلالهم وكسر كبريائهم بعد ما هزموا الفرس ، واحتكروا السيادة في الأرض ذات الطول والعرض ؟ لقد قدر على ذلك الرجال الذي صلّوا وراء محمد فى سجدة التواضع بالمدينة ، وسمعوا منه القرآن فحفظوه لم يسقطوا منه حرفاً ، ونقلوه إلى من حولهم إلى من بعدهم فى دقة لم تعرفها صحائف الوحي منذ نزل وحي. من روح محمد القائد العابد الداعي إلى الله على بصيرة ، انطلق قادة عُباد صوب المشارق والمغارب ، وما أُثر عنهم اعتداد بجنس ولا اشتهاء لغرض ولا إخلاد لأرض ، ولا تكاسل عن آخرة ! فإذا حضارة جديدة تقوم ، هتافها الدائم . أذانٌ يتكرر من الفجر إلى العشاء يدعو العباد لأداء واجبهم نحو رب العباد . إن محمداً صناعة إلهية لم تتكرر، فسبحان من أبدع محمداً. وإذا كان السلف الأول ! قد أحدث خوارق تاريخية لأنه أحسن التأسى والتعلّم والوفاء ، فرجال محمد في عصرنا يقدرون على مثل1_217
ذلك ، إذ الوسائل بين أيديهم لا تزال قائمة ، لا الكتاب انتهى ، ولا السنة اختفت . المهم أن يكون الاتصال بالروح لا بالشكل ، ففساد الأديان يجيء من تحوِّلها إلى رسوم وجسوم ، وكم من رسم خلا من المعنى ! وكم من جسم حلَّت به حقيقة مارد ،وإن بدا للناس في صورة عابد .(1/200)